بلاغ الرسالة القرآنية

فريد الأنصاري

سلسلة: من القرآن إلى العمران (2) بلاغ الرسالة القرآنية من أجل إبصار لآيات الطريق تأليف فريد الأنصاري دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة

كافة حقوق الطبع والنشر والترجمة محفوظة للناشر دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة لصاحبها عبد القادر محمود البكار الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م

بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح الكتاب تَدَبَّرْ .. ثم أَبْصِرْ! {هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [إبراهيم:52] {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105،106]. {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104] ***

الإهداء

الإهداء إلى القلوب الضارعة إلى الله؛ المكابدة ظلماتِ الحيرة وتباريحَ الأحزان، بحثاً عن نافذة للإبصار - أهدي هذه البلاغات. محبكم: فريد الأنصاري

مقدمة

مقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد؛ فإني أحمد الله مرة أخرى أن أرشدني اليوم إلى تقديم هذه الرسالة الصغيرة: (بلاغ الرسالة القرآنية؛ من أجل إبصار لآيات الطريق)؛ لكل باحث عن معرفة الطريق السالكة إلى الله أولاً، ثم لكل المهتمين بالمشروع الإصلاحي.

وقد كانت هذه الرسالة -أول الأمر- عبارة عن دروس، ألقيتها بمجالس بعض أصحابنا المحبين، وإخواننا الصالحين -نحسبهم كذلك إن شاء الله، ولا نزكي على الله أحداً- مجالس قرآنية مباركة إن شاء الله، شهدتها مدينة مكناسة الزيتون حرسها الله، وأصلح أحوالها، تدارسنا خلالها ما تيسر من بلاغات القرآن العظيم، وهي ثمرة لما استقر عليه النظر -بفضل الله وتوفيقه- من خلال بحث سابق في: (البيان الدعوي)، بعد تجربة متواضعة، عملية ووجدانية، في مجال الدعوة إلى الله، إذ صار بعدها لهذا الموضوع في قلبي حضور خاص، جعلني أقلب النظر فيما بين يدي من أعمال، باحثاً فيما أرى وأسمع، من تجارب ومبادرات، جاهداً في تلمس طريق تقربني إلى الله، على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سيرته ودعوته، عسى أن أهتدي في الشأن التعبدي والإصلاحي إلى التي هي أقوم. هذا، وقد كانت رحلتي لأداء فريضة الحج لعام: (1420 هـ/2000 م)، فرصة لأعيد النظر والمراجعة، فيما تحصل لدي من رؤى وفهوم، في المجال الدعوي والإصلاحي، فشرعت -منذ ذلك التاريخ- في ترتيب النظر، وأنا أرقب واقع العمل الإسلامي، في ظل ما يجتاح العالم الإسلامي اليوم من فتن كقطع الليل المظلم، لا يكاد قطر من أقطاره ينجو منها، ومن فجور سياسي داهم، يحرق

الأخضر واليابس، تهب به عواصف ما سمي بـ (العولمة)، أو (حركة تهويد العالم)، هذه الريح الاستعمارية الغازية الشديدة، الجديدة في أساليبها؛ القديمة في غاياتها ومقاصدها. ثم إني رأيت الساحة الإسلامية تعج بالأفكار، من نظريات شتى، وتنظيمات شتى، وسياسات شتى، منها ما يتناقض ويتآكل، ومنها ما يتكامل، وكل يتخذ موقعه فيها حسب استعداداته الفطرية، ومؤهلاته الكسبية، وهي -على رغم ما تزخر به من خير كثير- لا تخلو من ثغرات وثلمات، لم تجد بعد من يسدها، ويقف مرابطاً على حراستها، بل إن بعض الأصول والمنطلقات بقيت مكشوفة الظهر، عارية الثغر، رغم تدبيجها في الورقات، لا تجد من يقف على فجها؛ لانصراف الناس إلى اقتطاف بعض الثمرات، مما نحسبه خدعة واستدراجاً. وقصة نزول الرماة عن جبل الرماة، في غزوة أحد، لم يزل نذيرها يملأ آذان التاريخ! ولكن {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]! ولقد تبين -لمن يتبين- في غبار أحداث العالم الكبرى، التي تندلع عن تواتر الانهيارات الكبرى، منذ مطلع الألفية الميلادية الثالثة؛ أن مواقع المسلمين عامة، ومواقع أهل الشأن الدعوي منهم خاصة؛ قد تراجعت إلى خط الدفاع الأخير! ولعل في ذلك خيراً للإسلام والمسلمين، عَلِمه من

علمه، وجهِله من جهله، فذلك -إن أُحسِنَ استيعابه وتوظيفه- مما سيقدح انطلاق دورة جديدة؛ لحركة تجديد الدين في العالم بحول الله، بمستوى أعلى، وبأداء أرفع. ثم تبين أيضاً أن المضي بالدعوة في مسارها المشاهد اليوم في كثير من البلاد؛ مضيّاً لا يراعي الظروف الجديدة؛ إنما هو مقامرة بمصير الأمة! ذلك أن هذا المسار يغلب فيه الاستعراض على الاستنهاض، ويطغى فيه النداء على البناء! والحاجة اليوم اختلفت عما كانت عليه قبل سنوات، ولقد نطق شرق الغرب -من قبل- بحكمة مشهورة، تنص على أن النهوض قد يقع بإنجاز (خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام)، وتلك مقولة لها أصل أصيل في صناعة القتال عند المسلمين، مفادها أن: (من لا يحسن الفر لا يحسن الكر)! ولهذا نظرت بعد ذلك في كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو أصل الدين كله، منه ينطلق وإليه يعود؛ فتبين لي أولاً أنه لا ينفع الإنسان في هذا كله؛ إلا ما بقي له مدخراً في قبره، عسى أن ينفعه يوم لقاء ربه، فكان أن فتح الله بصيرتي على تولية الوجهة إلى النظر في القرآن؛ تعلماً وتعليماً، ومدارسة وتدبراً؛ عسى أن أهتدي في المسألة الدعوية إلى التي هي أقوم؛ فكان أن اكتشفت أنني كنت أمر على كثير من الآيات دون أن

أبصرها! وذلك كان سبباً في كثير من البلاء والارتباك الحاصل في السير، هنالك كانت الثغرات التي دخل منها المرض إلى الجسم، ويُجْمِعُ الأطباء على أن أخطر مراحل التطبيب هو تشخيص الداء، قبل وصف الدواء. ثم إنه لابد -بين يدي هذه الورقات- أن أعلن ما سبق لي إعلانه في كتاب: (البيان الدعوي) من أنني أنطلق في عملي هذا من (مبدأ تأميم الدعوة إلى الله)، كما سلف بيانه مفصلاً في محله، بأدلته وشواهده، والمقصود بـ (تأميم الدعوة): تحريرها من كل انتماء (حركي) ضيق، بالمعنى السياسي للكلمة. لقد كان مما ضيق الاستيعاب الدعوي بالمغرب وغيره؛ أن الكلمة الطيبة عرضت على الناس باسم التنظيمات والحركات! حتى قاس كثير من الشباب الدخول إلى (الجماعة) على وزان الدخول إلى الإسلام، والخروج عنها كالخروج عنه! لقد آن الأوان لتختص الحركات الإسلامية الحزبية بالاشتغال المؤسسي، والتدافع السياسي، كما هو حالها في الواقع اليوم، وهو أمر لا نقلل من شأنه وأهميته، ولكن على أساس أن يتحرر الشأن الدعوي العام من قبضتها، فالتجربة أثبتت أنها ما زادته -في المرحلة الأخيرة- إلا ضعفاً وتقويضاً! إن (الحركة) مشروع اجتهادي قد تتباين وجهات النظر فيه من التوافق إلى الاختلاف، حتى التناقض والتنافي أحياناً!

بينما الدعوة أو (الصحوة)؛ هي في الأغلب الأعم اشتغال بالمعلوم من الدين بالضرورة، فقلما يميل الشأن فيها حتى إلى مجرد الاختلاف، بلْهَ التنافي والتناقض! فقل لي بربك لو أنك استدعيت محاضراً، أو عالماً من كل حركة، ممن يُعلم اختلافهم الحاد في مواقفهم السياسية، وبرامجهم التغييرية، ثم أوكلت لكل منهم أن يتحدث للناس في موضوع: (الإنسان في القرآن) مثلاً، أو موضوع: (المقاصد التعبدية في الإسلام)، أو: (خطر الفساد الأخلاقي)، بشرط التجرد عن الهوى التنظيمي؛ أفلا يكون الكلام منهم جميعاً واحداً في الجوهر؟ لا تنافي فيه ولا اختلاف؛ إلا كما تختلف العبارات والأساليب في عرض الأفكار؟ فلِمَ إذن نرهن الدعوة بما لم يرهنها الله به؟ ألا نكون قد حجرنا واسعاً؟ بلى والله! وتلك هي آفة الدعوة والدعاة في زماننا هذا، وذلك ما قصدنا التخلص منه بـ (مبدأ تأميم الدعوة). نقدم رسالتنا هذه إذن؛ ورقةَ عمل لنموذج تطبيقي -تتلوه نماذج أخرى بحول الله، على خطوات ومراحل- من بعد أن أصّلنا النظر في كتابنا: (البيان الدعوي)، فما بقي بعد القول إلا العمل، والقاعدة أن (كل علم ليس تحته عمل فهو باطل). ولقد ظن بنا بعض إخواننا (من هنا وهناك) -وبعض الظن إثم- أننا بدَّلنا وغيَّرنا، وركنَّا إلى الذين ظلموا! فإلى

هؤلاء وأولئك نقول لهم كلمة واحدة: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15]. لقد اكتشفنا أن المنهج المعتمد لدى بعض إخواننا، في الدعوة والحركة؛ منهج مقلوب، ينطلقون فيه (من العمران إلى القرآن)، على طريقة قياس الشبه -وهو أضعف أنواع الأقيسة في علم الأصول- ينظرون إلى ما عند (الآخر) من بناء، فيقيسون عليه -تشبيهاً وتخييلاً- ما يرون أنه يجب أن يكون عندنا، وينطلقون في البناء؛ بل في التقليد! مع مراعاة (إسلامية) الشكل الخارجي! ويبقى الجوهر بعد ذلك يرشح بجاهليته! {أَفَمَنْ اُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ اُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109]. بينما هذا القرآن العظيم يقدم نموذجه العمراني كاملاً. إننا قررنا أن ننطلق (من القرآن إلى العمران) على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته ودعوته، هذا هو الطريق إن شاء الله! فلن نصدر كتبنا الدعوية بعد اليوم، ولا تجاربنا العملية -إن شاء الله- إلا بهذا المنهج وعلى أساسه، تصوراً وتطبيقاً.

لا نبني بناءً، ولا نعمر تعميراً؛ إلا على أساس من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن القرآن العظيم تصميم رباني راقٍ؛ لبناء فخم، ما كُلِّف الإنسان إلا بإنجازه، على شموليته وامتداده، بدءاً بعمران الإنسان، حتى عمران السلطان. فأما عمران الإنسان: فهو البناء الكفيل بإخراج (الإنسان القرآني)، المشار إليه في قوله جل وعلا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]. وحينما نقول: (الإنسان) فهو الفرد والمؤسسة، وهو الوجدان الذاتي والجماعي، وهو الأسرة الواحدة والنسيج الاجتماعي، وهو العامة والخاصة، وهو المجتمع والدولة .. إلى غير ذلك من الثنائيات التي يستوعبها مصطلح (الإنسان). ورسالتنا هذه (بلاغ الرسالة القرآنية) هي من هذا المعنى الأول. وأما عمران السلطان: فهو البناء الكفيل بإخراج السلطان القرآني، وليس المقصود بالسلطان عنصره البشري، ومرجعه الإنساني، كلا! فذلك هو المعنى الأول وقد سبق، وإنما

المقصود به طبيعته العمرانية، وعمقه النظامي، وهو المشار إليه في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]، وليس هذا إلا نتيجة للأول، ومَن عَكَسهما فقد قلب المنهج، ولقد بينَّا في كتاب (البيان الدعوي) من ذلك؛ احتجاجاً واستدلالاً؛ ما يكفي إن شاء الله، فلا داعي للإطالة. والذي يجمع الأول والثاني؛ ليتم كمال (العمران)، هو: (عمران الاستخلاف)، الذي يشمل كل النشاط البشري، ويستوعب كل أبعاده الكونية، وهو المعبر عنه في القرآن الكريم بقوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود:61]. وقوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. وقوله سبحانه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة ص:26]. فقوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [سورة ص:26] هو جزء من كلي خلافته، وليس هو إياها، وقد سبق لنا في هذه المسألة تدليل وتأصيل، في كتابنا المذكور، لمن شاء التفصيل.

العمل إذن هو: (من القرآن إلى العمران)، إن معنى ذلك أننا ننخرط في حركة (البعثة الجديدة) التي نراها تنطلق اليوم؛ تصديقاً لوعد القرآن العظيم؛ ولبشارة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وقولنا (حركة): ليس بالمعنى السياسي للكلمة، حيث يضيق اللفظ ويتقزم؛ لينحصر في الدلالة على دائرة تنظيمية محدودة، كلَّا!. وإنما (الحركة) هنا بمعناها العمراني الكبير، حركة يديرها رب الكون، الحي القيوم سبحانه، مجالها في الأرض، وتقديرها في السماء، تصميمها القرآن، ومنفِّذها الإنسان، ولنا في هذا الموضوع تأصيل آخر، في خطوة تأليفية تتلو هذه بحول الله. فما عليك يا صاح الآن إلا أن تتناول التصميم القرآني لهندسة العمران، فتنشره بين يديك نشراً، تتبين معالمه، وتتبصر موازينه، وتشرع في التنفيذ؛ بناءً وتعميراً، وكل كلام دون ذلك مضيعة للأعمار في غير طائل، ويكفي الأمة ما أهدرت -ولا تزال- من الطاقة في الجدل والكلام. ومن الحِكَم المأثورة، أنه (إذا أراد الله بقوم سوءاً سلط عليهم الجدل ومنعهم العمل!) ***

وقبل الخلوص من هذا التقديم أعلن لكل من يرغب في السير إلى الله أن هذه الورقة المتواضعة؛ هدية له مني، هدية من قلب أخلص المحبة للمحبين، فمن وجد فيها ما ينفع فهي له، ومن لم يجد من ذلك شيئاً فليدفع عنه ما يكره، والله الهادي إلى الخير والمعين عليه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتبه عبد ربه راجي عفوه وغفرانه، الفقير إلى رحمته ورضوانه: فريد بن الحسن الأنصاري الخزرجي السجلماسي، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين. وقد وافق تمام تبييضه وتصحيحه -بمكناسة الزيتون، من حواضر المغرب الأقصى فجر يوم الأربعاء 9 ربيع الثاني: 1423 هـ - 19/ 6 /2002 م ***

تبصرة: في المنهج

تبصرة في المنهج إن عودتي إلى القرآن؛ مدارسة وتدبراً؛ كشفت لي أنني كنت أمر على كثير من الآيات دون أن أبصرها! نعم! لقد قادني التدبر للقرآن العظيم إلى أن أكتشف أن النظر لا يغني عن الإبصار! (¬1). ¬

_ (¬1) لابد من الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم؛ فقد كان لأستاذي العالم المربي، الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله وسلمه الأثر الأول في إثارة انتباهي إلى الأسرار الدعوية للقرآن العظيم، وما ينطوي عليه من كنوز، ومفاتيح لكثير مما يختلف فيه الناس اليوم من قضايا تجديد الدين، وذلك من خلال ما تلقيناه عنه من دروس علمية وتربوية، في وقت كان الالتفات إلى هذا نادراً، فله من الله الجزاء الأوفى على ما علّم وربى. ثم لابد بعد ذلك من ذكر ما كان لرسائل بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله من أثر كبير في تجلية هذا المعنى في قلبي، ذلك أنه رحمه الله إنما كان يتعامل مع القرآن بمنهج إبصاري. فقد كان مبدؤه في ذلك قوله: (كن من شئت وأبصر! وافتح عينيك فحسب؛ وشاهد الحقيقة! وأنقذ إيمانك الذي هو مفتاح السعادة الأبدية!) (الملاحق:105) فمثلاً في سياق تفسير قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ =

فالمرض إذن؛ نظر بلا إبصار! قال عز وجل: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، وقال سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105]، والقرآن العظيم مجموع كلي من الآيات الدالة على الطريق، آيات هي في حاجة فقط إلى من يبصرها؛ ومن هنا وصف الله القرآن كله بأنه (بصائر)، قال سبحانه: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20]. والبصائر: جمع بصيرة، وهي الآية التي تُبَصِّرُ الناس حقائق الوجود، وتدلهم على الطريق السالكة إلى الله، عند ¬

_ = إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ. فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 33 - 35]؛ قال رحمه الله: (أبصر! (...) وشاهد معنى الآية الكريمة في نور إعجازها الواضح وضوح النهار، وخذ نجم حقيقة واحدة من سماء تلك الآية الكريمة، واقذف بها الشيطان القابع في ذهنك وارجمه بها! ونحن كذلك نفعل هذا) (الكلمات:210) وقال رحمه الله: (لما زالت الغفلة، أبصرت نور الحق عياناً) (الكلمات:240)، وطالما كان يقول في رسائله: (هكذا شاهدت!) (المثنوي العربي:158)، ن. ذلك كله في كليات رسائل النور تأليف الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، نشر دار (سوزلر) للنشر، فرع القاهرة ط 2 بمصر (1412 هـ/ الموافق 1992 م). كما أنه لا بد من التنويه بما كان لأخينا الدكتور أحمد العبادي -حفظه الله وسلمه- من أثر في تحقيق مناط هذا المفهوم في نفسي، وذلك من خلال مذاكرات ثنائية لا تنسى، فجزاه الله الجزاء الأوفى.

تعدد الطرق السالكة إلى غيره، وتسمى (بصيرة) من حيث هي مشعة بالنور، الذي يكون سبباً في تبصير الأعين الواقعة عليها، ولذلك وصف الله الآيات في سياق آخر بأنها (مُبْصِرَة) على صيغة اسم الفاعل، فنسب الإبصار إليها من حيث هي سبب فيه، كما في قوله تعالى: {وجَعَلْنَا آيةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12]، أي: مضيئة للأشياء، ومسببة بذلك للأعين في الإبصار. إلا أن الموضوع المقصود عندنا هاهنا هو: الإبصار النفسي، أو الإبصار القلبي، لا إبصار الجوارح، فالنفس الإنسانية (جسم) روحاني سوي، له جوارحه النفسانية، المفارقة للبدن. وإنما البدن لباسها الخارجي، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7]، فإبصار النفس، أو إبصار القلب هو الذي يصاب بالعمى عن الغفلة، ويعالج بالتذكر، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، وقال سبحانه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. وعليه يحمل معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [النمل:13]، وقوله عز وجل: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59]، فالآيات مُبْصِرَةٌ بمعنى مُبَصِّرَة، فهي لذلك بصيرة، والبصيرة: هي الثقب الذي يجعل في

باب الدار من أجل معرفة الطارق، وهي اليوم العدسات المجهرية التي تُثبت على أبواب المنازل، فمن خلالها يطلع الإنسان على الحقيقة ويكتشف طبيعتها. ومن هنا كانت آيات القرآن مُبْصِرَةً، أو بصائر. فإذ نصب المولى الكريم الآيات بصائر للناس، فإنهم إن لم يبصروا؛ لا لوم آنئذ إلا على أنفسهم، وهو قوله تعالى الوارد على أشد ما تكون النذارة: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104]، إن هذه الآية أُمٌّ من أمهات الكتاب. فأعد قراءتها وتدبر ثم أبصر! تدبر ثم أبصر! لأن الإبصار نتيجة طبيعية للتدبر، ولذا كانت الآيات صارمة في وجوب التدبر على ما سيأتي تفصيله وبيانه بحول الله. - ومن أجل هذا كله خاطب الله جل جلاله الناس ذوي الأبصار، كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} [النور:44]، وقوله أيضاً: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2]. إن القرآن العظيم نسق كلي من الآيات، والآيات والآي جمع آية: وهي العلامة المنصوبة للدلالة على معلومة يُسْتَرْشَدُ بها في أمر ما، ومن هنا كانت الآية بمعنى: الحجة والبرهان.

والحياة الدنيا -بلا دين- ظلمات متضاربة كأمواج البحر البهيم. والناس راحلون إلى ربهم من خلال ما حد لهم من أعمار، إنها رحلة شاقة مضنية. قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الإنشقاق:6]، وهو لذلك في حاجة ماسة إلى الآيات؛ عسى أن يسهل عليه أمر العبور، وتتضح له معالم الطريق، ويسلك له سبيلها، تماماً كما لا تسلك الطريق لسائق السيارة؛ إلا بنصب علامات على كل مراحلها، وإنما العلامات: الآيات، كما في كل معاجم اللغة، هذا شيء مهم جدّاً، لكن ما فائدة الآيات بدون إبصار؟ ودعني أقصص عليك ها هنا قصة التاجر والأجير: تبصرة: خرج يوماً أحد التجار الأغنياء، ممن يحسبون من أهل الدين والصلاح، يقصد عالمِ المدينة، فسأله في ضائقة نزلت به، يريد من خلالها التوسل إلى الاقتراض الربوي من الأبناك؛ بناء على ما ظهر له فيها من الضرورة، مما لم يره العالم له، على ما يعرفه منه، ومن حاله، إذ كان يمكنه بيع شيء من ممتلكاته -وعنده منها ما يزيد على حاجته الحقيقية- لكن العالم لاحظ من خلال إلحاحه، وإعادة عرض مشكلته؛ أن عينيه تتشوقان إلى الحصول على رخصة!

ثم حدث أن جاء إلى العالم نفسه -بعد ذلك- رجل فقير، يشتغل أجيراً، مقابل ما لا يسد حاجته، فشكا -فوق ذلك- ضائقة شديدة ألمت به، فأنزلت به وبأهله ضرراً في الأموال والأبدان! فكان نظر العالم -على ما يعرفه منه ومن حاله، بعد استنفاد كل أبواب الحلال- أن رأى له رخصة المضطر حقيقة، بجواز ارتكاب أخف الضررين اتقاءً لأشدهما؛ وذلك بالاقتراض الربوي، في حدوده المقدرة بقدرها، من بعدما انسدت السبل كلها في وجهه. ثم غاب عنه أياماً؛ حتى ظن أنه قد أتم أمره، ثم لقيه بعد ذلك، فوجده ما يزال يعاني من مشكلته تلك، والخناق لا يزداد إلا اشتداداً عليه، فسأله عما فعل في مسألة الاقتراض، فزفر زفرة كادت تمزق قلبه! فقال: إني ما تجرأت على الاقتراب منه! إني لم أستطع! إني أسأل الله أن يجعل لي مخرجاً غيره! وعجب العالم من الفرق بين صاحبيه: الأول وهو التاجر، الذي كان يعيش حياة أقرب إلى الترف منها إلى الاعتدال، يمنعه من الربا لكنه يطمع، والثاني: الأجير الذي كان يعيش وأسرته -في كثير من أحواله- على ما لا يسد الحاجة، يفتيه بالرخصة فيمتنع! قلت: إن الفرق بينهما -لو تدبرت- هو الفرق بين الأعمى والبصير! وبيان ذلك كما يلي:

فأما الأجير فقد أبصر الآيات: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا. وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 275 - 279]. لقد رأى الأجير المال الحرام، فأبصره جمراً مشتعلاً! وأبصر أكلته صرعى يتخبطون في نار جهنم! الآخذين والمعطين فيه سواء، أبصرهم يتداولون نقوداً مشتعلة، كأن معدنها قد سك من مارج نار! وأبصر لهيبها يتطاول إلى دار الدنيا؛ فيحرق عشه، ويخرب بيته، ويهلك بدنه وماله، ويلتهم من حياته ما ظن أنه يعمره، لقد أبصر حقّاً! أبصر ذلك كله فانكمشت يده خوفاً مما رأى! وأما التاجر فإنما سمع، وليس من رأى كمن سمع! وكذلك كان رسول الله يُبَصِّرُ أصحابَه صورةَ المال الحرام، ففي الصحيحين من حديث أم سلمة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو ما

أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار! فليأخذها أو ليتركها!» (¬1) - وروي الحديث بطرق أخرى فيها زيادة، قال: «فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة!» [والإسطام: الحديدة التي تسعر بها النار] فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إذا قلتما، فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» (¬2) وعلى هذا المنهج التربوي يفهم حديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه، لما أبصر الآيات فقال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة؛ حتى كأنا رأي عين! فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات؛ فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا! فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ¬

_ (¬1) متفق عليه (¬2) رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقي، والدارقطني، وابن أبي شيبة في مصنفه، وابن الجارود في منتقاه.

ذاك؟» قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة؛ حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم! ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة! ثلاث مرات» () وكذلك كان منهج الصحابة -من بعده صلى الله عليه وسلم في التبصير بالآيات، كلما ادلهمت المشكلات، ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها من قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم، حيث فزع عمر رضي الله عنه للخبر، وكأنه لم يصدقه، فقام يقول: والله ما مات رسول الله! صلى الله عليه وسلم قال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك- وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم! فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبله، قال: بأبي أنت وأمي، طبت حيّاً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله موتتين أبداً! ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك! فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فإن محمداً قد مات! ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت! وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ

مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، فنشج الناس يبكون (...)، قالت عائشة رضي الله عنها: لقد بصَّر أبو بكر الناس الهدى، وعرفهم الحق الذي عليهم، وخرجوا به، يتلون: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى {الشَّاكِرِينَ} (رواه البخاري). وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها؛ حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه؛ فتلقاها منه الناس. فما يسمع بشر إلا يتلوها!» (¬1) إن هذه النصوص تدل بشكل واضح على المنهج التبصيري، الذي كان يعتمده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، كما تدل على مدى الإبصار الذي كانوا يتمتعون به في تلقي الآيات عن رسول الله، ولهذا سماها الله جل جلاله (بصائر)، كما في الآية التي اتخذناها شعاراً لهذا المعنى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104]. تبصرة: إن نجاح المشروع الدعوي ليس رهيناً بعدد المتَّبِعين؛ بقدر ما هو رهين بعدد المُبْصِرين، والمُبَصِّرين! ¬

_ (¬1) رواه البخاري

إن هذه الورقات محاولة لوضع أسس، لمشروع إصلاحي، يخاطب الوجدان الديني، الفردي والجماعي، التفت فيه إلى البدهيات الدينية، الاعتقادية والعملية، التي تبين لي أن كثيرا من البلاء المتسلط على البلاد والعباد؛ إنما مصدره ما وقع -من حيث ندري أو لا ندري- بسبب إهمال تلك البدهيات ونسيانها. وإني لأعتقد جازماً أن ظهر الحركة الإسلامية اليوم، عار تماما من كل حماية، فهي تقف كذلك على خط المواجهة، غير محمية الظهر؛ فتصاب من خلفها كما تصاب من أمامها. وأحسب أن الرجوع إلى الأصول البدهيات في الدين؛ إنما هو رجوع إلى اعتلاء جبل الرماة، الذي كان إخلاؤه سبب هزيمة المسلمين في معركة أحد. وإني لأرجو أن تكون هذه الورقات فاتحة خير إن شاء الله، لنفسي أولاً، ولمن شرح الله صدره لبلاغات القرآن؛ عسى أن نعود إلى التَّمْسِيكِ بالأصول، التي بها نكون صالحين لميراث محمد صلى الله عليه وسلم؛ أو لا نكون! ذلك هو المنهج الرباني الذي عليه وقع البلاغ بصريح نص القرآن العظيم؛ فاقرأ قول الله جل جلاله وتدبر: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ

عَابِدِينَ} [الأنبياء:105،106]؛ {عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، وصف وشرط فيمن تجرد لطلب الإرث الرباني، فعبثا تحاول نفسك الثقيلة الوصول المشروط؛ دون تحقيق الشرط، ذلك حق يقين يعلنه الله على العالمين جزماً قاطعاً: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]! فيا أيها الحليم الحيران، السالك مسالك الحياة الدنيا، تبحث -مثلي- عبر ليلها المظلم عن باب للخروج من الفتن .. هذا باب النور، فاقرأ وتدبر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]. اقرأ وتدبر .. ثم أبصر! ***

تبصرة: في قصة بلاغ الرسالة القرآنية

تبصرة في قصة بلاغ الرسالة القرآنية سألني أحد المحبين يوماً، قال: كيف نجدد ديننا؟ قلت: سؤالان كبيران، يرتبطان بوجود الإنسان في الكون، ويحددان مصيره فيه، لكن قلما نضعهما -نحن المسلمين- اليوم على أنفسنا؛ لأنا نزعم أننا نعرف الجواب بداهة. فهل حصل لك -يا صاح- أن جردت نفسك من نفسك وسألتها يوماً كأنها شخص آخر: السؤال الأول: هل تعرفين الله؟ السؤال الثاني: هل تعرفين القرآن؟ المشكلة هي أننا عندما نكتفي بـ (نعم) نكف عن البحث، وننقطع عن السير في طريق المعرفة الربانية، واستكشاف هذا القرآن العظيم!

افرض إذن أنك -مثلي- لا تملك الحقيقة كاملة، ولنتابع البحث معاً: ألسنا مسلمين؟ ألسنا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ بلى طبعاً، هذا شيء حسن، فدين الإسلام الذي هو باب النجاة يوم القيامة إنما ينبني بعد الإيمان بالله على شهادة أن محمداً رسول الله، هذا بدهي، ومعلوم من الدين بالضرورة، نعم، ولكن تأمل: عبارة (رسول الله) هذا الوصف للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، هو مناط الدين، الذي قال عنه الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فكل الإسلام قائم على شهادة أن محمداً رسول الله، فنتج عن هذا الوصف (رسول) أن الدين كل الدين -أعني الإسلام- هو عبارة عن (رسالة)، وهذا شيء عظيم جدّاً، ندرك رسمه، وقلما نبصر حقيقته. وإليك البيان: عندما نقول: (محمد رسول الله) فإن الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية كلتيهما تقتضيان أن محمدا بن عبد الله قد جاء برسالة معينة، أي أنيطت به مهمة، يقوم بتبليغها، فكان بذلك (رسولاً)، ولولا ذلك لما كان له شأن في الكون ولا في التاريخ.

آه، ما زلتَ تحدثني عن البدهيات، والمعلومات البسيطة .. عفواً، عفواً، اصبر علي قليلاً .. فلعل عدم تأملنا لهذا الذي نسميه (بدهيات)، أو معلومات من الدين بالضرورة، هو سبب شرودنا بعيداً عن حقائق الإسلام. قلت لك يا صاح: الرسالة -أي رسالة، مهما كانت- لها أربعة أركان هي: الأول: المرسِل؛ وهو من قام بإرسال الرسالة. والثاني: المرسل إليه، وهو الطرف المعني بها والمخاطب بفحواها. والثالث: الرسول، وهو حامل الرسالة المبلِّغ لها، بتكليف من المرسل. ثم الرابع: وهو الخطاب المرسَل وهو مضمونها؛ أي متن الرسالة، ونصها اللغوي الحامل لمقاصد مرسلها. وهذا كله لو تدبرت منطبق على الإسلام من حيث هو رسالة. فالخلاصة إذن؛ هي أن الإسلام: رسالة، مضمنة في متنها؛ أي في خطابها الحامل لمضمونها الرسالي، وهو القرآن الكريم، الذي هو متن الرسالة، ثم السنة النبوية التي هي ملحقها الشارح؛ تلك هي أول مراتب {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، لو تدبرت قليلاً.

إنك لو قرأت القرآن بهذا المنطق لوجدت عجبّاً! فسؤالك يا صاحبي يقوم على استيعاب هذا المعنى أولاً، أعني أن تجديد الدين يقوم أساساً على تبين ما {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}؟ ثم كيف الاستقامة عليه؟ وبغير ضبط (الحقيقة الرسالية) للقرآن فلا ضمان أن تكون محاولات التصحيح خارج {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. وليس عبثاً أن يكون ذلك هو دعاء المسلم في كل صلاة، سبع عشرة مرة في اليوم والليلة على الأقل، اصبر عليّ يا صاح، واقرأها الآن مرة أخرى، اقرأها فأنت مأجور على كل حال إن شاء الله، اقرأها وتدبرها قليلاً؛ كلمةً كلمةً، ثم استأنف بعد ذلك قراءة هذا الكتيب: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6،7]. مهم جدّاً أن تستحضر في ذهنك ووجدانك؛ أن القرآن يخبرنا عن نفسه؛ أنه رسالة، جاءت تحمل (الهداية) للناس الحيارى -وكل الناس لولا الدين حيارى- ويرسم لهم معالم الصراط المستقيم، فتدبر قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى:52،53].

وهنا فقط ندخل إلى صلب الموضوع: إن الشعور بالمعنى الرسالي للقرآن، إنما يتحقق لك على المستوى النفسي؛ إذا تصورت طبيعة الوجود البشري، ذلك أن الإنسان إذ جاء من عالم الغيب، قد أحاطت به حجب عالم الشهادة ففقد الاتصال بأصله الغيبي؛ إلا ما كان من نداء الفطرة الخفي في قلبه. إن ميلاد كل شخص من بطن أمه، ونزوله إلى الدنيا؛ هو كنزول آدم عليه السلام، من الجنة في عالم الغيب؛ إلى الأرض في عالم الشهادة، حيث تبدأ حجب الحياة الدنيا تنسج على الإنسان غلائل النسيان وتغرقه في جزئياتها اليومية، فيضرب بعيداً عن استشراف السماء مرة أخرى. ومن هنا اقتضت رحمة الرب العظيم -وهو الرحمن الرحيم- أن يرسل الرسل إلى الناس: أنْ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُم الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21،22]. جاءت الرسالة من عالم الغيب لتربط الإنسان بأصله الحقيقي، ولتشعره بسعة الكون، وربوبية الخالق عز وجل، المحيطة بكل شيء، ثم لتعلمه بقصته كاملة من النشأة حتى المصير، وما له في ذلك كله وما عليه، فجاء القرآن لذلك في

صورة (بلاغ) رباني، هذا مصطلح مهم؛ للتعرف على طبيعة القرآن: إنه (بلاغ) فيه دلالة عميقة على (قصد التبليغ) لمضمون الرسالة؛ حتى يتم العلم بها على التمام عند من قُصِدوا بالتبليغ والإعلام. ذلك أن (البلاغ) في العربية يرد بمعنى (التبليغ والإبلاغ)، جاء في لسان العرب: (والبَلاغُ: الإِبْلاغُ. وفي التنزيل: {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} [الجن:23]؛ أَي لا أَجِدُ مَنْجى إِلا أَن أُبَلِّغَ عن اللهِ ما أُرْسِلْتُ به، والإِبلاغُ: الإِيصالُ، وكذلك التبْلِيغُ، والاسم منه البَلاغُ) (¬1)، ومن هنا كان (البلاغ القرآني) جامعاً للمعنيين معاً: البيان والتبيين، فهو (بلاغ)؛ أي بيان إعلاني في نفسه، يوصل إلى الناس بنصه مجموعة من العقائد والمبادئ، وهو (بلاغ) أيضاً: أي تبيين رسالي من حيث هو حركة في المجتمع، يقوم بها الرسول ومن ينوب عنه من الدعاة، والعلماء المصلحين؛ لتبليغ مضامينه وإيصال نصه إلى الناس أجمعين؛ حتى تشمل الرسالة كل العالمين؛ ومن هنا قوله عز وجل: {هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [(إبراهيم:52]. - إنه بلاغ قادم من عالم الغيب، من فوق سبع سماوات، إلى عالم الشهادة، إلى الإنسان المتحرك فوق هذه الأرض، ¬

_ (¬1) لسان العرب: مادة (بلغ). طبعة دار صادر، بيروت.

وبين العالمين مسافة رهيبة، لا يستطيع العقل استيعابها، مهما أوتي من قدرة على الخيال. فجاء القرآن رسالة تعبر تلك المسافات كلها لتلقي على الإنسان خطابا ربانيا عظيما، يحمل قضايا محددة، قصد (إبلاغها) للإنسان، قضايا أو إن شئت فقل: (بلاغات) هي مناط مسؤوليته، ووظيفته في الأرض. يمكن أن نلخصها في سبعة بلاغات، أرجو أنها أصول لما سواها من مقاصد الإرسال الرباني. ولقد كان أول هذه البلاغات هو القرآن نفسه، أعني أن أول ما جاء القرآن ليبلغه إلى الناس هو هذا المعنى الرسالي للقرآن؛ حتى لا يقرأه أحد أو يستمع إليه، بعيداً عن هذه الحقيقة الكونية الكبرى؛ فلا يستفيد من بلاغاته الربانية شيئاً. إن أول ما يجب أن يعرفه الإنسان من القرآن هو طبيعة هذا القرآن، من حيث هو رسالة رب الكون، مرسلة إلى واحد من أهم سكان الكون: الإنسان أنت يا صاح، وأنا، وكل إنسان .. فكان ذلك هو البلاغ الأول للقرآن .. فتدبر! ثم أبصر! ***

البلاغ الأول: في اكتشاف القرآن تدبرا وتفكرا

البلاغ الأول في اكتشاف القرآن تدبراً وتفكراً لا سبيل إلى معرفة الحقيقة إلا عبر هذا القرآن أولاً، ولا يكون ما دونه من طرق المعرفة إلا توابع له وملاحق، فهو متن الرسالة، التي أرسلها رب العالمين إلى الخلق، وما سواه شروح وتفاسير؛ ويا لتعاسة من ضل عن هذا الأصل العلمي العظيم، إذن يضرب في التيه على غير هدى .. قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء:9،10]، وقال مستدركاً بقوة على الذين حرفوا وبدلوا وغيروا: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. ذلك سبيل الربانية الأوحد، لا سبيل سواه؛ فتدبر .. ثم أبصر!

تبصرة: القرآن روح

تبصرة: القرآن روح: من أعجب الأوصاف وألطفها، ومن أغرب الأسماء وأروعها؛ التي سمَّى الله بها كتابه الحكيم، هي: أنه روح! وذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى:52،53]. والروح له في القرآن خصائص. نذكر منها اثنتين. الأولى: أن جوهره ممتنع الإدراك، وإنما الشأن فيه أن نقول: (إنه من أمر الله)، قال جل جلاله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85]. وسمَّى القرآنَ هنا أيضاً: {رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى:85]. والثانية: أنه سبب الحياة، وباعثها -بإذن الله- في سائر الأحياء، فبملابسته تحيا الأجساد، وبمفارقته تموت. كما هو منطوق كثير من الأحاديث النبوية. وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ... الحديث» (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) متفق عليه.

في وصف الموت: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» (¬1) وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يتخذ شيء فيه الروح غرضاً) (¬2)، فقوله: (شيء فيه الروح) يعنى من الطير وسائر الدواب، فلا يجوز اتخاذه غرضاً للرمي بالنبل، أو الرصاص، قصد الاستمتاع واللهو لا لمنفعة الصيد؛ لما فيه من الاعتداء على الروح، وتخريب خلق الله بلا هدف مشروع. والشاهد عندنا أن الروح هو سبب الحياة، فهي توجد بوجوده، وتنعدم بانعدامه. وإنما كان القرآن روحاً؛ لأنه سبب حياة هذه الأمة، من حيث هي (أمة)، وسبب حياة القلوب، فلا يموت قلب خالطت نبضَه آياتُ القرآن الكريم، ولا حياة لقلب خلي منها. فاقرأ الآية مرة أخرى، وتدبر، ثم حاول الإبصار: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى:52،53]. ذلك محمد بن عبد الله، عليه صلاة الله وسلامه، كان يحاول أن يخرج من ظلمات الجاهلية، إذ لم ¬

_ (¬1) رواه مسلم (¬2) رواه أحمد والترمذي والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6817) نشر المكتب الإسلامي بيروت/ دمشق. ط. الثالثة: (1408 هـ/1988 م).

يقتنع بأفكارها، وضلالاتها؛ فاعتزلها، لكنه لم يجد تفسيراً للغز الذي يغلف هذا الوجود؛ حتى نزل عليه الروح بالروح، أي حتى نزل عليه جبريل بالقرآن من أمر الله؛ فأحياه الله به بعد موات، وأنار بصيرته به؛ فصار من المبصرين، يهدي إلى صراط مستقيم، بمعالم فصلها هذا الكتاب، الذي يصف ما بين السماوات والأرض، ويخبر عن أسرارهما، من بدء الخلق إلى يوم البعث، ويرسم الطريق للإنسان خلال ذلك كله؛ كي يسلك إلى ربه ويتعرف عليه، فأنى لك يا صاح أن تجد مثله؟ ومن هنا وجب أن تكون خطوتك الأولى، في طريق المعرفة الربانية؛ أن تتعرف على القرآن، بل أن تكتشفه؛ ولذلك جاء الخطاب القرآني يحمل أمر القراءة للقرآن؛ تلاوةً وترتيلاً، وأمر التعلم للقرآن مدارسةً وتدبراً. والتدبر هو غاية كل ذلك ونتيجته؛ ولذلك قال عز وجل: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [سورة ص:29]، فجعل غاية الإنزال للقرآن التدبر والتذكر، ولولا التدبر لما حصل التذكر الذي هو يقظة القلب، وعمران الوجدان بالإيمان، فالتدبر هو المنهج القرآني المأمور به لقراءة القرآن العظيم؛ ومن هنا زجره تعالى للناس الذين لا يتدبرونه. قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82].

تبصرة: فما التدبر إذن؟ تَدَبَّرَ الشيء -في اللغة- يَتَدبَّرُه: تتبع دبره، أي نظر إلى أواخره وعواقبه ومآلاته، كيف هو إذا صار إليها؟ وكيف يكون؟ جاء في لسان العرب: (ودَبَّرَ الأَمْرَ وتَدَبَّره: نظر في عاقبته، واسْتَدْبَرَه: رأَى في عاقبته ما لم ير في صدره؛ وعَرَفَ الأَمْرَ تَدَبُّراً؛ أَي بأَخَرَةٍ (...) والتَّدْبِيرُ في الأَمر: أَن تنظر إِلى ما تَؤُول إِليه عاقبته. والتَّدَبُّر: التفكر فيه) (¬1). فتدبر القرآن وآيات القرآن: هو النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي المجتمع. وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله، فتنظر -إن كانت متعلقة بالنفس- إلى موقعها من نفسك، وآثارها على قلبك وعملك، تنظر ما مرتبتك منها؟ وما موقعك من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك كله على نفسك، وما تعانيه من قلق واضطراب في الحياة الخاصة والعامة؟ تحاول بذلك كله أن تقرأ سيرتك في ضوئها، باعتبارها مقياساً لوزن نفسك وتقويمها، وتعالج أدواءك بدوائها، وتستشفي بوصفاتها. وأما إن كانت تتعلق بالمجتمع؛ فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف تراها اليوم تقع؟ وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها؟ عند المخالفة وعند الموافقة .. ثم تنظر ما علاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير؟ ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة: (دبر).

وهنا تلج إلى باب آخر من أبواب القرآن رديف للتدبر، بل هو منه، ذلك هو: التفكر، إن التفكر غالباً ما يرد مذكوراً في القرآن في سياق النظر في خلق الله، والتأمل في بديع صنعه، كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ. رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:190،194]، فكل هذه الأدعية العابدة، الحارة، الخاشعة، الباكية؛ إنما هي نابعة عن الإحساس الحاصل للعبد بُعَيد التفكر في خلق الله، فاقرأ الآيات وتدبر .. تجد أن المؤمن لما يسيح في جنبات الكون الفسيح، يشعر بعظمة الله الواحد القهار، وتأخذه الرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه؛ فيسرع هارباً إلى مساكن رحمته، وجمال غفرانه. وبما أن القرآن كتاب يحيل المتدبر له على امتدادات الكون، ويرجع به إلى كشف كثير من أسرار الوجود، وغرائب الخلق؛ فإن (التدبر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة القرآن؛ يحيل الإنسان على (التفكر) الذي هو المنهج الرباني لقراءة

تبصرة: ما القرآن؟

الكون. فيكون كل متدبر للقرآن متفكراً في الكون. فتقرأ -بقراءة القرآن- كلَّ آيات الله المنظورة والمقروءة سواء. وبذلك كله يتم لك شيء آخر، هو: الإبصار. إن التدبر والتفكر كليهما، يعتبران بمثابة الضوء، أو الشعاع المسلط على الأشياء، تماماً كما تسلط الشمس أشعتها المشرقة -في اليوم الصحو- على الموجودات، فتبصرها الأعين الناظرة، فكذلك التدبر يكشف حقائق الآيات القرآنية، والتفكر يكشف حقائق الآيات الكونية، حتى إذا استنارت هذه وتلك؛ أبصرها المتدبرون والمتفكرون، وكانت لهم فيها مشاهدات، لا تكون لغيرهم، ولذلك قال عز وجل: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104]، وقال سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2]. هكذا وجب أن تقرأ القرآن آيةً آيةً؛ اقرأ وتدبر ثم أبصر! عسى أن ترى ما لم تر، وتدرك من حقائقه ما لم تدرك من قبل؛ فتكون له متدبراً .. فتدبر! تبصرة: ما القرآن؟ ولنسأل الآن: ما القرآن؟ ما هذا الكتاب الذي هز العالم كله؛ بل الكون كله؟ أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه (كلام الله)،

واختلفوا بعد ذلك في خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف الصالح، وإنما المهم عندنا الآن هاهنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين: (القرآن كلام الله)، هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلاً .. الله جل جلاله خالق الكون كله .. هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا الكون في الآفاق؟ طبعاً لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى، فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل البشري المحدود، هذه الأرض وأسرارها، وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع وأطباقها ... إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية، أين أنت الآن؟ اسأل نفسك .. أنت هنا في ذرة صغيرة جدّاً، تائهة في فضاء السماء الدنيا –الأرض- وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء؛ هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً .. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان؛ فكلمك بالقرآن .. كلام الله رب العالمين، أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب الكون يكلمك {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] أي وجدان، وأي قلب؛ يتدبر هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجداً لله الواحد القهار رغباً ورهباً؟

اللهم إلا إذا كان صخراً أو حجراً، كيف؛ وها الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟ {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]، وهي أمثال حقيقة لا مجاز، ألم تقرأ قول الله تعالى في حق داود عليه السلام: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص:18،19]، وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]. كلام الله هو كلام رب الكون، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عَلُ: أي من فوق؛ لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى، فوق كل شيء، محيط بكل شيء؛ علماً وقدرة، إنه رب الكون .. فتدبر: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [فصلت:54]، ومن هنا جاء القرآن محيطاً بالكون كله، متحدثاً عن كثير من عجائبه، قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ. لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:75 - 82]، سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك نكذب. ذلك هو القرآن .. كلام من أحاط بمواقع النجوم؛ خلقاً

وأمراً، وعلماً، وقدرة، وإبداعاً، فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، من بعد ما هيأه لذلك، وصنعه على عينه سبحانه جل وعلا، فقال له: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [الجن:5]. ومن هنا لما كذب الكفار بالقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم، وقصور إدراكهم، وضعف بصرهم، عن أن يستوعبوا بعده الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:5،6]. وإنه لرد عميق جدّاً، ومن هنا جاء متحدثاً عن كثير من السر في السماوات والأرض، قال عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]، وقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} [فصلت:53،54]. فليس عجباً أن يكون تالي القرآن متصلاً ببحر الغيب، ومأجوراً بميزان الغيب، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والحرف إنما هو وحدة صوتية لا معنى لها في اللغة، نعم في اللغة، أما في القرآن فالحرف له معنى، ليس بالمعنى الباطني المنحرف، ولكن بالمعنى الرباني المستقيم، أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به الله؟ إذن؛ يكفيه ذلك دلالة

وأي دلالة، ويكفيه ذلك عظمة وأي عظمة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) (¬1). ولذلك كان لقارئ القرآن ما وعده الله إياه، من رفيع المنازل في الجنان العالية، وما أسبغ عليه من حلل الجمال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها» (¬2). وقال أيضاً: «يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلِّه؛ فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده؛ فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه؛ فيرضى عنه. فيقول: اقرأ وارقَ ويزاد بكل آية حسنة» (¬3). {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4]. إنه تعالى تكلم، وهو سبحانه وتعالى متكلم، سميع، بصير، عليم، خبير، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبتها كما أثبتها السلف، بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، لقد تكلم عز وجل، ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. انظر سنن الترمذي، (كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر). كما رواه الحاكم أيضاً في المستدرك. (¬2) رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (8122). (¬3) رواه الترمذي والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (8030).

وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه الأمة المشرفة، أمة محمد عليه الصلاة والسلام. فكان صلة بين العباد وربهم، صلة متينة، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، طرفه الأعلى بيد الله، وطرفه الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين. قال عليه الصلاة والسلام في خصوص هذا المعنى، من حديث لطيف، تشد إليه الرحال: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» (¬1)، وقال في مثل ذلك أيضاً: «أبشروا .. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبداً» (¬2). وروي بصيغة أخرى صحيحة أيضاً فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عليه وسلم: «أبشروا .. أبشروا .. أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً» (¬3) ¬

_ (¬1) رواه الطبري في تفسيره: (4/ 31)، نشر دار الفكر بيروت لبنان: (1405 هـ). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (4473). (¬2) رواه الطبراني بإسناد صحيح. وهو في صحيح الجامع الصغير: (34). (¬3) رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعبه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني في الكبير، وعبد بن حميد في المنتخب من المسند، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (713). نشر مكتبة المعارف بالرياض، لصاحبها سعد بن عبد الرحمن الراشد، طبعة جديدة بتاريخ: (1415 هـ/1995 م).

ذلك أن القرآن جاء -وهو من رب العالمين- بلاغاً إلى الناس أجمعين، يحمل رسالة ذات مضامين من النبأ الرباني العظيم، نبأ الخلق، ونبأ الكون، ونبأ الغيب، ونبأ الشهادة، ونبأ الحياة، ونبأ الموت، ونبأ البعث القريب .. ونبأ الأمر الإلهي الحكيم في ذلك كله. وكلف رسوله ببلاغه جميعاً إلى الناس، فقال له عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]، وقال أيضاً: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا. إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:22،23]، وقال سبحانه: {هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} [إبراهيم:52]، وقال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، ومن أشد المعارض القرآنية لهذا المعنى وقعاً على النفس؛ قوله تعالى للمؤمنين من هذه الأمة -بعد آية تحريم الخمر مباشرة-: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، ونحو ذلك كثير في القرآن الكريم؛ مما ينطق عن طبيعته (البلاغية) بالمعنى الرسالي للكلمة، وما ينتج عن ذلك من إعذار وإنذار، ومن ثقل الأمانة الملقاة على عاتق كل مسلم، بل كل إنسان بلغته الرسالة. ومن هنا فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله إلا بهذا القرآن، استجابة لقوله تعالى: {فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ

جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] وكذلك كان صحابته الكرام على هديه عليه الصلاة والسلام، فما أسلم أغلب من أسلم من الصحابة إلا بعد سماع القرآن، وهذا أمر متواتر في كتب السنن، وكتب السير والمغازي، لمن استقرأه وتتبعه. ومن أشهر الأمثلة على ذلك قصة مفاوضة قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ بعثت إليه ممثلها الوليد بن عتبة، فكلمه في أن يكف عن تسفيه أحلامهم، حتى إذا فرغ من مقالته قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أفرغت؟ قال: نعم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ... حتى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:1 - 12] (¬1). وكذلك كانت سفارة النبي صلى الله عليه وسلم في البلاد، إذ يرسل صحابته إلى الأقاليم والأمصار، فإنما كانوا يدعون الناس بالقرآن، كما هو الشأن في بعث أصحابه إلى المدينة، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن) (¬2). هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى في مسنده، وابن هشام في السيرة، والبيهقي في الدلائل، وأبو نعيم في دلائل النبوة، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، والحاكم في المستدرك، ووافقه الذهبي، وحسنه الأستاذ إبراهيم العلي في صحيح السيرة النبوية: (64). دار النفائس الأردن، ط. الثانية: (1416 هـ/1996 م). (¬2) رواه البخاري.

فاحذر أن تظنك غير معني بها في خاصة نفسك، أو أنك واحد من ملايير البشر، لا يُدْرَى لك موقع من بينهم، كلا! كلا! إنه خطاب رب الكون، فيه كل خصائص الكلام الرباني، من كمال وجلال، أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء في وقت واحد، ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد، {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:29]. سبحانه جل جلاله، لا يشغله هذا عن ذاك، وإلا فما معنى الربوبية وكمالها؟ تماماً كما أنه قدير على إجابة كل داع، وكل مستغيث، من جميع أصناف الخلق، فوق الأرض وتحت الأرض، وفي لجج البحر، وتحت طبقاته، وفي مدارات السماء ... إلخ، كل ذلك في وقت واحد -وهو تعالى فوق الزمان والمكان- لا يشغله شيء عن شيء، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات، وكأنه لا يخاطب أحداً سواك، احذر أن تخطئ هذا المعنى .. تذكر أنه كلام الله، وتدبر .. ثم أبصر! قال جل جلاله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82] .. فتدبر! ذلك هو القرآن: الكتاب الكوني العظيم، اقرأه وتدبر،

فوراء كل كلمة منه حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرها نحو نهايتها. فتدبر .. إن فيه كل ما تريد، ألست تريد أن تكون من أهل الله؟ إذن؛ عليك بالقرآن، اجعله صاحبك ورفيقك طول حياتك؛ تكن من (أهل الله) كما في التعبير النبوي الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (إن لله تعالى أهلين من الناس: أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته) (¬1). وأخيراً؛ فإن في كتاب الله آية عجيبة، تدلك على الطريق: كيف يبدأ، وكيف ينتهي؛ تدبر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]. تمسيك بالكتاب أولاً: وهو الأخذ ببلاغاته بقوة، وإقامة للصلاة ثانيا: وهو إحسان أدائها والسير إلى الله عبر مواقيتها، ثم انطلاق إلى الإصلاح والدعوة إلى الخير. {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]، تلك إذن المدارج الأولى للسالكين، كما سترى بحول الله عز وجل. هذا غاية ما عندي يا صاح عن القرآن، فلا تغتر بما عندي؛ إنه لا يحدثك عن القرآن إلا القرآن؛ فتدبر .. اقرأه آية فآية، وتدبر .. ثم أبصر! ¬

_ (¬1) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2165).

أبصر لنفسك! فإن الإبصار لا نيابة فيه لأحد عن أحد، وإنما الذي يمكن أن أساعدك به هو التبصير بمنهج الإبصار لآيات الطريق، حتى إذا أبصرت؛ ربما رأيت فيها ما لم أر، وأبصرت منها ما لم أبصر! تبصرة: القرآن إذن؛ هو متن رسالة الله .. يمنحك أول مقاصده الإرسالية: معرفة الله، مرسل الرسالة إلى الخلق، تلك حقيقته الأولى، وهي أول ما يرفع بصيرتك إليه؛ عسى أن تبصر جمال الخالق جل جلاله؛ فتكون من العابدين. فاسأل نفسك: هذه هي الرسالة: القرآن، ولكن؛ هذا المرسِل .. من يكون؟ ومن هو؟ هذا أول المعرفة الربانية. وهو في مقاصد الخطاب القرآني، البلاغ الأول، ذلك من حيث الرتبة لمقاصد الإرسال، وهو هاهنا من حيث ترتيب السير المنهجي في التعرف على معالم الطريق، ومنازل السير يحتل الرتبة الثانية منهجيّاً لا مقاصديّاً؛ إذ لا يعرف الله إلا بمعرفة القرآن، كما أنه لا يمكن أن يعبد الله -عمليّاً- إلا باتباع رسول الله، وإن شئت فقل: معرفة الله وتوحيده هو غاية الغايات، ومنتهى الخطوات، ولكن أولاها قطعاً وإنجازاً هي معرفة القرآن، فإذا أنت عرفت ما القرآن؟ وبدأت تغرف من مأدبة الله؛ وجدت الله جل وعلا أول المقاصد التي يدعوك القرآن لتعرفها.

فلا ضير إذن أن يكون هذا البلاغ: (التعرف على الله) من حيث هو مرسل الرسالة قد جاء (ثانياً) بهذا الترتيب التعليمي، بعد (الأول) الذي هو معرفة الرسالة نفسها، وتحقيق التوصل بها، وإلا فلا صراط ولا سير ولا هدى، وقد بينت لك أن معرفة الله تعالى -من حيث الترتيب المقاصدي- هي أصل الأصول ومنتهى الوصول، فليكن إذن. ***

البلاغ الثاني: في التعرف إلى الله والتعريف به

البلاغ الثاني في التعرف إلى الله والتعريف به اسأل نفسك: هل تعرف المرسِل؟ أو بعبارة أخرى: هل تعرف الله؟ هذه خطوة أولى، لا بد منها لقراءة الرسالة الربانية؛ ذلك أن أول مقاصد القرآن هو تعريف الناس بالله، المتكلم بالقرآن؛ ولذلك جاء تعريف الله لذاته سبحانه؛ بأسمائه الحسنى؛ مباشرة بعد التنبيه على عظمة هذا القرآن، كأنه قال لك: اعرف القرآن أولاً لتعرف الله، أوَ ليس هو تعالى المتكلم بالقرآن؟ قال جل جلاله يصف ذاته: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ

اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:21 - 24]، اقرأ وتدبر .. ثم أبصر! من أنت؟ .. نعم أنت هذا الإنسان الذي وجد نفسه -فجأة- في هذا الكون الفسيح، الممتد عرضه إلى حدود الغيب المجهول .. كون عجيب وغريب. لم يستطع الإنسان المعاصر رغم ما اكتسب في مجال العلوم الكونية والفلكية والطبيعية، من معارف؛ أن يسبر أغواره الرهيبة، بل ها هو ذا ما يزال واقفاً على شاطئ الكون ينظر في حيرة: أين ترسو حدود الضفة الأخرى؟ فما المجرات والنجوم والكواكب وأفلاكها وفضاءاتها جميعاً -مما نرى وما لا نرى- إلا بطن السماء السفلى، الممتدة من تحت سبع سماوات! كما قال الله عز وجل في القرآن: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، وما الأرض من ذلك إلا كحلقة في فلاة! وأما باقي السماوات فذلك ما لا سبيل إلى إدراكه إلا بالإيمان! وتنبعث الحياة في الإنسان .. ليسعى في الأرض وينظر إلى السماء، يتأمل ويتفكر، ليدرك في نهاية المطاف ألا حل لهذا اللغز الذي يطوق وجوده إلا برسالة تجئ من عالم الغيب،

تخبره بسر وجوده، وسر الوجود كله من حوله، أرأيت أن لو لم تأت أي رسالة؟ كيف يكون مخرجه من هذه الظلمات؟ سل نفسك هذا السؤال، وتأمل! ثم تأتي الرسالة من رب الكون إلى هذا الإنسان .. وكان أولى به أن ينظر -أول ما ينظر- إلى مرسلها، ويسأل -أول ما يسأل- عن مصدرها؛ حتى يتحقق منه يقيناً. ذلك أن الإنسان عندما يتوصل عادة بأي رسالة أرضية بشرية، فإنه ينظر بادئ النظر إلى اسم المرسِل من هو؟ حتى إذا استقر في ذهنه اسمه قرأ الرسالة حينئذ؛ لأنه على قدر المرسِل عند المرسَل إليه تكون قيمة الرسالة، ولقد علمنا أن الإنسان إذ تصله رسالة من محبوب أو مرهوب، يقرأ خطابه بروية وإمعان، حتى إن الأم الأمية التي تتلقى رسالة من ولدها، المسافر في أرض الغربة النائية بعيداً، تكلف من يقرأ لها الكلمات، فتستمع لها استماعاً وتنصت إنصاتاً، وتراها -وهي المرأة الأمية- تصيخ السمع للكلمات الفصيحة، تتلقاها تخيلاً بالوجدان، وإن لم تفهم معناها الدقيق على التحقيق، فتحرك رأسها بالقبول لكل ما قال الحبيب! وتأتي الرسالة من رب الكون، ولكن قلما نوليها ما تستحق من اهتمام، مع أنها تجيبنا عن لغز الحياة من حولنا، ولغز وجودنا فيها، فلا نحتفي بالقرآن رسالة الله إلى العالمين. عجباً، عجباً!

وإذن؛ دعني أبدأ لك بالدعوى فأقول: إننا -مع الأسف- لا نعرف الله! نعم، إن وضع المسلمين اليوم يؤكد هذه الحقيقة المؤسفة، تقول كيف؟ إليك البيان: أما المعرفة بالله فدرجات ومراتب، وما أحسب هذا الشرود الرهيب عن باب الله في هذا الزمان؛ إلا دليلاً قاطعاً على الجهل العظيم، الذي يكبل الناس أن يبحثوا عن ربهم الذي خلقهم؛ مما يصنفنا دون أدنى مراتب المعرفة بالله، تَرَاخَيْنَا عن سلوك طريق المعرفة به في الرخاء، فبقينا هملاً، أو لقى في مزبلة التاريخ! وبقيت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا دون وفاء، فكان لها مفهومها المخالف في واقعنا: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) (¬1). لو كان الناس يعرفون الله حقّاً؛ لرأيت الحال غير الحال؛ ولرأيتهم يسابقون في أداء حق الخالقية، وبيان ذلك بالمثال التالي، ولا مشاحة في الأمثال: إذا قدر الله أن يكون إنسان ما جاهلاً بوالديه -لسبب من الأسباب- كليهما أو أحدهما، لكنه نشأ محتضناً بحضن بعض المحسنين، حتى شب وكبر ثم اكتشف الحقيقة: وهي ¬

_ (¬1) رواه الحاكم، والطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي، وعبد بن حميد، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم: (2961).

أن هذا الذي رباه ليس أباه، وأن هذه التي أرضعته ليست أمه التي ولدته؛ فإنه حينئذ يدخل في غربة شديدة، قد تذهب بعقله كله، أو بعضه، إلا أن يعتصم بالله، والسبب في ذلك أنه فقد المعرفة بمن كان له سبباً في الخروج من عالم العدم إلى عالم الوجود، ودخل في جهل عظيم بنسبه وأصله، وانقطعت بين يديه سلسلة سنده التي تربطه إلى شجرة المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه، وهنا -صورة تلقائية لا إرادية- يدخل في سلسلة من البحث والأسئلة في كل مكان، وحيثما اتفق، يسأل سؤالاً واحداً: من أبي؟ أو من أمي؟ سؤالان يؤولان إلى معنى واحد: هو من أنا؟ إن البحث عن الذات فطرة في الإنسان، ولن تعرف الذات إلا بمعرفة سبب وجودها، إذ المعلولات مرتبطة بالعلل وجوداً وعدماً، ومن ثم جهلاً ومعرفة. وهنا يذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة غضبه من كثرة أسئلتهم المعنتة. أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، في حديث طويل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم خطيباً، فكان مما قال: «من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه! فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا! قال أنس: فأكثر الناس البكاء، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني! فقال أنس: فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: النار! فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي يا رسول الله؟

قال أبوك حذافة! قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني! سلوني! فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربّاً، ‍‍‍‍ وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى والذي نفس محمد بيده! لقد عرضت علي الجنة والنار آنفاً، في عُرْض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر!» (¬1). فتأمل هذا المشهد: كيف لم يجرؤ أحد من الصحابة أن يسأل شيئاً؛ إذ رأوا أمارة الغضب عليه صلى الله عليه وسلم، إلا رجلين: أحدهما سأل عن مدخله، فأجابه: النار، والعياذ بالله! والآخر انتهز الفرصة -رغم هول الموقف- فقال: (من أبي؟) فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: «أبوك حذافة»، إن الإحساس بانقطاع النسب عقدة اجتماعية، سببها الإحساس بالجهل بالذات اجتماعيّاً، لا وجوديّاً؛ ولذلك فقد جاء في رواية مسلم لهذا الحديث: (فأنشأ رجل من المسجد كان يُلاحَى فيدعى لغير أبيه فقال: يا نبي الله من أبي؟)؛ أي أنه كان إذا خاصمه أحد من الناس؛ سبه وعيره بنسبته إلى غير أبيه! فكان ذلك يحزنه ويعقده، فلم يستطع أن يكتم رغبته الجامحة في معرفة حقيقة نسبه، رغم ما شهد من رهبة اللحظة، وخوف الصحابة من غضب النبي صلى الله عليه وسلم! وكم شهدنا من الناس من أنفق ما أنفق من الأموال والأعمار؛ من أجل ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (4/ 1832).

اكتشاف والده، أو أي أحد من عشيرته، أو أي خيط -مهما بعد، أو ضعف- من خيوط نسبه، أو من له صلة بذلك من الناس، عساه أن يصله بحقيقة نفسه، ولو توهمّا! تبصرة: غريب أمر هذا الإنسان: كيف يجهد لمعرفة حقيقته الاجتماعية، ولا يجهد ذلك الجهد وأقصى؛ لمعرفة حقيقته الوجودية! إن الذي ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداء عميقاً، يترجم الرغبة في معرفة من أسدى إليه نعمة الوجود، ألا ترى أن الإنسان مفطور على شكر من وصله بمعروف؟ بلى، إذن لم لا تسأل عمن خلقك؟ لا تسرع في الإجابة! لا تقل لي: إنني أعرف الله فأنا مسلم، فما هذا الذي نريد! أنت مخلوق، هذه حقيقة وجودية، فلا أحد منا جاء إلى الوجود بإرادته وقراره، من هنا كان الواجب الأول عليك أن تبحث عن الله الخالق، بهذه الصفة، أعني صفة الخالقية؛ لأنها سبب مجيئك إلى الكون، وإلا كنت عدماً، ولذلك كان أول حق لله رب الناس على الناس، وجب عليهم أداؤه ابتداء: هو حق الخالقية، أليسوا مخلوقين؟ بلى، إذن تعلق بذمة كل مخلوق أن يشكر الخالق، من حيث هو عز وجل خلقه.

و (الخلق) مفهوم من أغرب مفاهيم القرآن العظيم، ومن أكثرها استعصاء على الفهم والإدراك، فهو دال عموماً على: التكوين والإنشاء؛ إبداعاً واختراعاً؛ أي أنه خلق الخلق على غير مثال سابق، فتأمل هذه الحقيقة أولاً: (على غير مثال سابق) إنه تعالى فَطَرَ خلقه، وأنشأهم ولم يسبق له في ذلك نموذج يحتذى، فسبحانه وتعالى من خالق عظيم! فلقد كان تعالى ولم يكن قبله شيء، هو الأول بلا بداية، وهو الآخر بلا نهاية، جل شأنه وتعالى جده، ولا إله غيره. تأمل كيف كان خلق الكون؟ كيف كان العدم -وما العدم؟ - ثم كان الوجود بأمر {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]. ثم تأمل كيف كان خلق آدم عليه السلام؟ كيف صنع الله من الطين المتعفن بشراً سويّاً؟ يفيض جمالاً وحيوية، عجباً، عجباً! كيف كانت كتل الطين في جسم آدم تتحول إلى شرايين، وشعيرات دموية، وعظاماً ولحماً طريّاً؟ عجباً، عجباً! كيف تحول الصلصال في محاجره عليه السلام بصراً يبرق، ويشع بنور الحياة، ويرى الألوان والأشياء، ويسيل بالدموع فرحاً وحزناً؟ عجباً، عجباً! كيف تَخَلَّقَ الترابُ في جمجمته دماغاً مائعاً مارجاً؟ متكوناً من ملايين الخلايا اللطيفة الحساسة، تجري شعيراتها بالدم الدفاق، وتختزن ملايين المعلومات والذكريات، وتتأهب للتفكير في أدق الخطرات والنظرات؟ عجباً، عجباً! ثم تأمل: كيف جعل من الطين والماء نباتاً جميلاً، فصارت

له أزهار تملأ الأنوف عبيراً أخاذاً، وثماراً تملأ القلوب بهجة وجمالاً؟ كيف خرج عنقود العنب الطري الندي، من عود خشن وماء وطين؟ ثم كيف خرج الوليد من بطن أمه، من بعد ما تَخَلَّقَ بأمر الله من ماء مهين، ماء نكرهه فطرةً، ونغتسل منه، ماء وسِخ، وما حوله وسِخ، وطرائقه وسِخة، فخرج منه طفلاً أو طفلة تشع بالجمال وتتدفق بالحياة؟ عجباً، عجباً! تماماً كما أخرج الله اللبن من بين فرث ودم؛ شراباً صافي البياض لذيذاً. تدبر قوله عز وجل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ. وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:66،67] عجباً، عجباً! يا صاح، فتدبر ثم أبصر! ذلك هو (الخلق) الذي تحدى به ربُّ العالمين كلَّ العالمين، فقال: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73،74]. وهذه حقيقة قرآنية كبرى، تترتب عليها أمور كبيرة في حياة الإنسان، وجوداً وعدماً: ذلك أنه كلما نادى الله الناس في القرآن بالاستجابة لأمره التعبدي، ناداهم من حيث هو (خالقهم)، هكذا بهذه الصفة دائماً، وهو أمر مهم فيما نحن

فيه من طريق المعرفة بالله، أي أنه تعالى يسألهم أداء حق الخالقية، هذه الصفة العظيمة لذاته تعالى، التي بها كنا نحن الناس هنا في الأرض نتنفس الحياة. تدبر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُم الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21،22]. وتدبر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} [النساء:1]. هاتان آيتان كلِّيتان من القرآن العظيم، تعلق الأمر فيهما بالعبادة والتقوى، وما في معناهما من الانتظام في سلك العابدين، وفلك السائرين إلى الله رب العالمين، إثباتاً لحق الله من حيث هو خالق لشجرة البشر، ولا يفتأ القرآن يُذَكِّر بهذه الحقيقة، باعتبارها مبدأ كليّاً من مبادئ الدين والتدين، وأنها العلة الأولى منه، وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. فكثيراً ما يردد الناس هذه الآية، ولكن قليلاً جدّاً ما يتدبرونها. إنها آية كونية عظمى .. إنها مفتاح من مفاتيح فهم القرآن العظيم، وباب من أبواب معرفة الربوبية العليا، تأمل قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14]، انظر كيف ربط حقه تعالى على عباده بمبدأ خلقهم أطواراً ..

فكلما ازداد الكفار تعنتاً ازداد القرآن إفحاماً، في بيان تفاصيل الخلق، فتلك حجة الله البالغة إجمالاً وتفصيلاً. تدبر معي هذه الآيات واحدةً واحدةً .. قال عز وجل في حق الكافر الذي أنكر البعث على محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء بطحين عظام ميتة نخرة، ونفخ فيها فتطاير غبارها من يده، فاستهزأ متسائلاً بما حكاه عنه القرآن الكريم، قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 78 - 81]. وتأمل كيف أن تلك كانت هي حجة موسى الذي صنعه الله على عينه، في رده على فرعون؛ إذ تعنت في إنكاره، قال عز وجل: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50]، إنه تعريف للربوبية ولحقوقها في عبارة من أوجز العبارات الربانية المسطورة في القرآن الكريم .. فتدبر .. {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] .. وجاءت الحجة الربانية في بيان الأطوار الوجودية للإنسان أيضاً في قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ. كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:17 - 23].

وقال في سياق التمهيد لقصص بعض الأنبياء، ودحض حجج المنكرين للبعث: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَانَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12،16]، تأمل: ما بال هذا البيان والتفصيل لقضية الخلق؛ لولا أنها قضية كونية كبرى، ينبني عليها ما ينبني من مصير وجودي في حياة الإنسان، هذا المخاطب بها ابتداء؟ وانظر إلى هذا السؤال الإنكاري الرهيب، عن الوظيفة الوجودية للإنسان إذ تمتع بمنة الخلق، ثم غفل عنها وتناساها .. اقرأ، وتدبر جيداً، واقرأ وأعد القراءة مرة وأخرى؛ لعلك تبصر .. قال جل جلاله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]. وكما كانت تلك هي حجة القرآن في الدعوة إلى العبادة، وإثبات حق الخالقية لله الواحد القهار؛ كانت هي عينها حجته في الدعوة إلى التوحيد ونفي الحق الوهمي للشركاء، وذلك كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40]، وقال: {أَيُشْرِكُونَ مَا

لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، وقال: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17] .. إنه قول ثقيل جدّاً، فتدبر .. ثم أبصر! ومن أثقل الآيات القرآنية، وأعمقها دلالة على الموقع الوجودي للإنسان من الخلق؛ قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا. إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا. إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَاسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الانسان:1 - 5]، ولنا مع هذه الآية وقفة تدبر آتية بحول الله .. إلا أن المهم الآن أن نثبت لك أولاً؛ أن (قضية الخلق) تمثل مفتاح فهم الربوبية، والمعنى الوجودي والوظيفي للإنسان، ولولا خشية الإطالة لبينت لك من خلال كل سور القرآن بدون استثناء؛ أنها المبدأ الكلي الذي على أساسه خاطب الله الإنسان بكل أمر ونهي، بل إنها تمثل البنية الأساس لخطابه، الذي عليه يتفرع كل شيء، مما قرره في العقيدة والشريعة على السواء. - ولتبسيط الأمور؛ ننطلق عمليّاً من آيتين مما أوردنا من كتاب الله نجعلهما محور قضيتنا، ونفسر في ضوئهما كل الآيات الأخرى؛ نظراً لشمولية البيان فيهما، أو لغوصه إلى أعمق ما في مسألة الخلق من أبعاد كونية. فأما الآية الأولى فقوله تعالى -مما سبق إيراده- من سورة

البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُم الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21،22]، أنت ترى أن الله جل جلاله يأمر الناس بعبادته بصفته خالقاً لهم: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:22]، ثم مكن لهم العيش في عالم هيئ أصالة لاستقبالهم: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ} [البقرة:22]، فإنشاء كل هذا إنما هو (لكم) لا لغيركم. فالمستفيد منه بالقصد الأول إنما هم الخلق، والإنسان خاصة، وهناك تعبير صريح في القرآن عن هذا، وذلك قوله تعالى بُعَيد آيات في السورة نفسها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]، ثم قال بعد مباشرة: {وَإذْ قَالَ ربُّكَ للمَلائِكَةِ إني جَاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. فخَلْقُ ما في الأرض جميعاً كان من أجل الإنسان بصريح عبارة القرآن، ثم كان خلق السماوات بناء فوق الأرض سقفاً لها، {سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32]، وكان بعد ذلك خَلْقُ الإنسان، ثم سخر كل ما بينهما لخدمته: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، وقد مهدت له كل أسباب الحياة والعمران، إنه تدبير رحيم، وتكريم عظيم، لهذا الإنسان، من حيث هو إنسان، كما قال

سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]، فالأمر الوارد إذن في سورة البقرة: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] جاء في سياق قصة الخلق الأول والاستخلاف الرباني للإنسان في الأرض. وهذا منطلق مهم لفهم حقيقة الإنسان، وطبيعة العبادة المطلوبة منه لله رب العالمين. فالغلاف الكوني كله في خدمة الإنسان خلقاً وتسخيراً. ومن هنا كان الشرك ظلماً عظيماً؛ لأن الله هو وحده الذي خلق، وبهذا المنطق وجب أن يكون هو وحده الذي يعبد، وأي إخلال بهذا الميزان يكون ظلماً كبيراً، وهو قول الله عز وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وبهذا المنطق أيضاً نقم الله على المشركين، كما سبق من آيات من مثل قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، وقوله سبحانه: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]. تبصرة: إن جماع الأمر في هذه النصوص كلها أنه تعالى: خَلَقَنا وخَلَقَ لنا، هذا مبدأ قرآني كوني عظيم وجب تدبره .. وهو ما سميناه بـ: (حق الخالقية)؛ فتأمل! وأما الآية الثانية فهي قوله تعالى -مما سبق ذكره أيضا- من سورة الإنسان: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن

شَيْئًا مَّذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:1،2]. وإنها لمن أعظم الآيات القرآنية الباهرة! آية تملأ القلب هلعاً ووجلاً، تدبر معي كيف أن الإنسان دأب على التذكر والتفكير في الزمان، من عمره الفردي والاجتماعي، سواء تعلق ذلك بالماضي أو الحاضر أو المستقبل، ولا شيء بعد ذلك. والمقصود بالعمر الفردي، وحدة العمر المعروفة بالنسبة لكل فرد من الناس في نفسه، فالإنسان في هذه الحال يفكر بطبعه في الماضي، وهو التذكر والذكريات، ويفكر في الحاضر وهو هم المعاش والحياة اليومية والأعمال الحالية، ويفكر في المستقبل وهو التخطيط والتدبير لمقبل الأيام، وهو ما يحدوه من حياته طول الأمل والطموح، وهو على هذا حتى يموت، هذا هو الإنسان من الناحية الزمانية. وأما العمر الاجتماعي فالمقصود به التفكير الجماعي في الماضي، وهو علم التاريخ الذي قد يدرس فيه الإنسان مرحلة ما قبل ماضيه الشخصي، لكنه ماضي الإنسان الاجتماعي على كل حال، كما أنه قد يفكر في زمانه الحاضر والمستقبل، وهو شأن مؤسسات الدولة والمجتمع في التخطيط والتدبير السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام. والإنسان في جميع الأحوال المذكورة إنما يفكر في شيء واحد هو (أنا)، بمعناها الفردي والاجتماعي. والعجيب

في الآية المذكورة أنها أرشدته، بل أيقظته بأسلوب التنبيه إلى التفكير في مرحلة ما قبل العمر .. وهو مجال يندر جدّاً أن يطرق بال الفكر البشري، على المستويين الفردي والجماعي على السواء. هل سألت نفسك مرة: أين كنت أنت بالذات: (فلان بن فلان، أو فلانة)، قبل أن يتزوج أبوك بأمك؟ سل نفسك إذن؟ أو أين كان الإنسان -بالمعنى الجماعي- قبل أن يخلق الله آدم عليه السلام؟ وللتبسيط ابق في السؤال مع نفسك فقط، وتفكر! تذكر تاريخ ميلادك؟ قبل ذلك بسنة، أين كنت؟ وماذا كنت؟ تلك مرحلة ما قبل العمر .. فكيف تفسرها؟ وكيف تتصورها؟ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]؟ إنك لن تستطيع تصور شيء ولا تخيله؛ لأنه عدم، والعدم لا يمكن تخيله، إذ لو أمكن تصوره -حتى ولو بمجرد الخيال- لكان من الممكنات. وعلم ذلك غير ممكن إلا لله العليم الخبير، سبحانه وتعالى، فهو وحده {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]. - المهم هاهنا عندنا أن تدرك أنك لم تكن ثم كنت. وهذا فضل عليك من الله الذي قال لك: كن! فكنت! أي خلقك

ولم تكن شيئاً مذكوراً .. لا شيء أنت حينئذ، لا ذكر لك. واللاشيء لا اسم له ولا مفهوم ليذكر، لا في الممكنات الشيئية، ولا في المدركات الذهنية. ألم يكن ممكناً ألا تكون؟ بلى، لأن الله خلقك بإرادته، وبمشيئته تعالى، وكما يشاء للشيء أن يكون فقد يشاء للشيء ألا يكون، فهو سبحانه يتصرف في أمره وكونه كما يشاء ويختار. وما ينقص من كون الله العظيم لو أنك أنت -يا فلان بن فلان- لم تكن فيه؟ طبعاً لا شيء، لا شيء. هذا البشر ممتد نسله، طولاً وعرضاً، يملأ الآفاق الأرضية في كل مكان. ثم كنتَ يا صاح برحمة الله وفضله، كنت بعد ذلك شيئاً مذكوراً، فتفكر، وتدبر: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، إن هذه الآية العظيمة لهي من أثقل الآي القرآني حملاً على الإنسان! والقرآن العظيم -لو تدبرت- ثقيل كله، قال عز وجل: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]، وقال سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، وثقل آية الإنسان الذي لم يكن فكان، راجع -فيما هو راجع إليه- إلى ما يترتب على الوعي بهذه الحقيقة من أعباء الحق الإلهي العظيم، حق الخالقية، أليس لم تكن ثم كنت؟ بلى، إذن تعلق بذمتك حق الذي كان له الفضل

تبصرة: حق الخالقية إذن هو مفتاح المعرفة بالله

وحده في ذلك، الذي خلقك، ومن هنالك جاء قوله بعد في السورة مباشرة: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، وعلى هذا الوزان من الاعتراف بهذا الحق، والشكر له أو عدمه، كانت الجنة والنار، وتفرقت أصناف الخلق بينهما أبراراً وكفاراً، كما هو في تتمة الآيات من سورة الإنسان، وغيرها من آي القرآن كثير. تبصرة: حق الخالقية إذن هو مفتاح المعرفة بالله: إن هذا الحق بقدر ما هو متعلق بذمة الإنسان، لربه الذي خلقه، فإنه يستفيد منه معنى عظيماً لوجوده، إن إحساسه بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه الوجودي، الذي ضاعت فيه أفكار الكفار من العالمين، أو بعبارة قرآنية: يخرجه {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]. وأي ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! أو كما قالوا: (إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع!) فبأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة، وهو يرى أنما غايتها إلى العدم المطلق والفناء الرهيب، الذي ما بعده من حياة؟ فأي لذة يجدها في متعها وهو يعتقد أنها إلى زوال قريب؟ ذلك ما يقوده غالباً إلى الشره المتوحش في تناولها، أو إلى العزوف القَلِق ثم الانتحار! ألا ما أشد وحشة الكفر والضلال! فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به آخرين. إن معرفة الله من هاهنا تبدأ: الشعور بالفرح به تعالى ربّاً خالقاً، والأنس بجماله عز وجل إلهاً رحيماً؛ فيمتلئ القلب شوقاً

إليه تعالى، ثم تنشط الجوارح للسير إلى بابه الكريم، والعروج إلى رضاه، عبر مدارج السالكين، ومنازل السائرين، فيجد الإنسان الأنس كل الأنس كلما ازداد معرفة بالله جل جلاله. وإنما مدارج المعرفة به تعالى أن ينطلق المسلم من توحيد الربوبية، الذي ينفتح بابه على العبد أول ما ينفتح من الشعور بحق الخالقية كما قررناه، ذلك أن الرب إنما هو رب من حيث هو مالك للمربوب، ذلك معناه العام في اللغة وفي الشرع، قال ابن منظور: (الرَّبُّ: هو الله عزّ وجل، هو رَبُّ كلِّ شيءٍ: أَي مالكُه، وله الرُّبوبيَّة على جميع الخَلْق، لا شريك له، وهو رَبُّ الأَرْبابِ، ومالِكُ المُلوكِ والأَمْلاكِ. ولا يقال الربُّ في غَير الله، إِلا بالإِضافة (...) ورَبَّهُ يَرُبُّهُ رَبّاً: مَلَكَه) (¬1). فرب الدار: مالكها، وربة البيت: سيدته، ورب السيارة: صاحب السيادة عليها. إلا أن (المالكية) الحقة، إنما تقع في الواقع على من يملك أصل الاختراع والإبداع، إنشاءً وتطويراً. ذلك هو المالك الحقيقي للشيء، وذلك هو الله سبحانه وتعالى في ربوبيته للكون والخلق أجمعين. إنه مالك كل شيء خلقاً وإبداعاً، وزيادة ونقصاً، وإحياءً وإماتةً، وبدءاً وإعادةً، وبعثاً ونشوراً. وما كان ذلك كله ليكون لولا أنه هو عز وجل الذي خلق. ومن هنا كان أول وصف لذاته تعالى، نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة: (ربب).

في بدء تعريفه بالله ربّاً: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فهو الرب إذن، وأول ما وصف به نفسه تعالى أنه {الَّذِي خَلَقَ}؛ لأن الربوبية إنما ترجع في حقيقتها إلى هذا المعنى كما بيناه آنفاً. ومن هنا اطراد هذا المبدأ في القرآن الكريم، حتى لا تكاد تخلو سورة منه، بدءاً بالفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ حتى سورة الناس: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. فالقرآن كله إذن قائم على ترسيخ مفهوم الرب في قلوب المربوبين، عسى أن تستجيب فطرهم لأداء حق الربوبية، بتوحيد الألوهية عبادةً لله رب العالمين. وخلاصة الأمر أن الخالق مالك، وأن المالك رب، ذلك أنه تعالى خلق فملك، وملك فرَبَّ. فهذه معان بعضها يحيل على بعض، حتى كان لفظ (الرب) جماعها؛ فجمع بذلك كل أوصاف الكمال والجمال والجلال، من الأسماء الحسنى والصفات العلى. - ولننصت الآن في ذلك إلى القرآن العظيم، حيث يقول الله عز وجل معرفاً بذاته سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الحشر:24]، فقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ} جملة اسمية من مبتدأ وخبر، فيها معنى الجواب عن سؤال تقديره: سؤال السائل عن الرب (من هو؟)، فقال: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]؛ أي (الرب هو الله)؛ لأن الضمير (هو) لابد أن يعود على معاد سابق، كما قال الله حكاية لحوار فرعون مع موسى وهارون: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا

يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49،50]. وكما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. ثم كانت الإحالة -في نهاية الأمر- في تعريف الرب على (الأسماء الحسنى)، بعدما ذكر عز وجل بعضها، فقد جاءت الآية المذكورة من سورة الحشر في سياق التعريف بالله عز وجل من خلال بعض أسمائه، وذلك قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُو الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لحشر:22 - 24]. تبصرة: فالأسماء الحسنى هي مدخل التعريف بالله ربّاً، وهو توحيد الربوبية، كما في هذه الآيات، وهي كذلك مدخل التعريف به إلهاً، وهو توحيد الألوهية، كما في قوله عز وجل من سورة الأعراف: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائه سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]. ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله الحسنى: «إن لله تسعة وتسعين اسماً -أعطى مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة. إنه وتر يحب الوتر» (¬1). وفي رواية: «من حفظها دخل ¬

_ (¬1) متفق عليه.

الجنة»؛ يعني: إن لله تسعة وتسعين اسماً. وفي الحديث دلالة على عدم حصر أسمائه في هذا العدد، لقوله: (أعطى)، فهذا لفظ ظاهره دال على أن له تعالى غيرها مما لم يعط واستأثر به في علم الغيب عنده، كما هو معروف في السنة. فقد أعطى ما أعطى ومنع ما منع؛ لحكمة هو جل وعلا يعلمها. وزاد الترمذي والحاكم وغيرهما في الحديث تفصيلاً في عد هذه الأسماء، نذكرها جميعاً لبركتها ولحاجتنا إليها، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحَكَم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المغيث، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدِّم، المؤخِّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار،

النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» (¬1). قلت: إن جماع توحيد الربوبية يؤول إلى إثبات الأسماء والصفات لله رب العالمين، إثبات إيمان وتسليم، لا ينحرف به تأويل، ولا يزيغ به تعطيل، ولا يخرمه تشبيه أو تجسيم. فهو تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فلا ينسب شيء من الخلق والتدبير في الكون إلا له سبحانه، وحده دون سواه، ولا يعتقد شيء من النفع والضر والعطاء والمنع والحياة والموت؛ يصل الكائنات من غيره تعالى، فكل الأسماء الحسنى والصفات العلى دلت على تفرده سبحانه بمقتضياتها من الفعل والأمر، لا دخل لأحد من خلقه في ذلك إلا بإذنه تعالى، تدبر -ثم تدبر- قوله عز وجل: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]. ذلك هو توحيد الله في ربوبيته أي في مالكيته للكون وخالقيته له، وذلك هو المنطلق السليم، والأساس القويم لتوحيد الألوهية، كما ذكرنا، وبقدر تصفية ذلك يكون السير في طريق المعرفة الربانية، والرقي في مدارج الإيمان، ¬

_ (¬1) رواه الترمذي والحاكم في المستدرك.

لأداء حق الخالقية، حيث إن توحيد العبودية، أو الألوهية كله لا يخرج عن معنى السير إلى الله رغباً ورهباً، من حيث إنه تعالى موصوف بصفات الكمال وأسماء الجمال، وبهذا السير تتحقق للعبد رتب المعرفة به تعالى، ويكتسب الجديد من منازل الإيمان، ومقامات الإحسان، سيراً في طريق عبادته تعالى على نهج السنة النبوية؛ استجابة لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. وهنا نعود إلى حديث الأسماء الحسنى، حيث يتبين أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحصاها -أو من حفظها- دخل الجنة) إنما المقصود بالإحصاء (الحفظ) عينه، كما هو في صحيح البخاري في (باب إن لله مائة اسم إلا واحداً)، وقد ذهب أغلب العلماء -كما سترى بحول الله- إلى أن (الحفظ) هنا هو بمعنى حفظ المقتضيات من الأفعال والتصرفات، لا حفظ العبارات، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده اتجاهك» (¬1). والمقصود بحفظ المقتضيات: توقيع كل أعمالك وتصرفاتك بما تقتضيه دلالاتها من حدود والتزامات. فمثلاً إذا انطلق العبد في طلب رزقه، واكتساب قوته فإنما يفعل ذلك باسمه تعالى: (الرزاق)، ومعناه أن يعتقد ألا رزق يصل إليه إلا ما كتب الله له، ثم ألا مانع له منه وقد ¬

_ (¬1) رواه أحمد والترمذي والحاكم بسند صحيح. ن. صحيح الجامع الصغير: (7957).

كتبه الله له، ويكون لهذا -إن صح اعتقاده فيه- أثره الإيماني، يجتهد كل يوم في تحصيله، فلا يساوم في دينه مقابل مال، عطاءً أو حرماناً، إذ وجد في معرفته باسم (الرزاق) أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. وهو قصد من مقاصد حفظ (الاسم) من أسمائه الحسنى: الثبات على ذلك أمام الفتن، لا تزحزحه المضايقات ولا المناوشات، ولا التهديدات، ولا تذهب به الوساوس كل مذهب، بل يسكن إلى عقيدته مطمئناً، آمناً من كل مكروه، إلا ما كان من قدر الله، موقناً أن الله لا يريد به إلا خيراً. فذلك أمر المؤمن الذي ليس إلا لمؤمن، والمؤمن أمره كله له خير كما في الحديث الصحيح؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له» (¬1). إنها عقيدة السلام والأنس الجميل بالله، وبقدر ما تسكن النفس إلى اسمه تعالى (الرزاق) يذوق العبد من معنى (الحفظ) جمالاً حميداً، وأنساً جديداً، فتعلو القدم بذلك في مراتب العبودية، وتوحيد الألوهية مقامات أخرى. والربانيون ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

في (حفظ) كل اسم من أسمائه الحسنى - بهذا المعنى - مراتب ومنازل. وبذلك يمتلئ القلب حبّاً لجمال أنواره وجلال إفضاله تعالى، فيزداد شوقاً إلى السير في طريق المعرفة الربانية، التي كلما ذاق منها العبد جديداً ازداد أنساً وشوقاً، فلا تكون العبادة -بالنسبة إليه حينئذ- إلا أنساً، وراحة، ولذة في طريق الله، إذ تنشط الجوارح للتقرب إليه تعالى بالأوقات والصلوات، والصيام والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، والدخول في سائر أعمال البر الصالحات. ولك في أسماء الله الحسنى -من كل ذلك- مسالك تقربك إلى الله سبحانه وتوصلك إليه. هذا هو الفهم الأليق بحديث الأسماء الحسنى، وهو ما ذهب إليه أغلب شراح الحديث عند تعرضهم لذلك؛ ومن هنا قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: (وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط؛ لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها، وقال أبو نعيم الأصبهاني: الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد، وإنما هو العمل، والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها) (¬1). وقال أيضاً: (وهو أن يعلم معنى كلٍّ في الصيغة، ويستدل عليه بأثره الساري في الوجود، فلا تمر على موجود ¬

_ (¬1) فتح الباري:11/ 226. نشر دار المعرفة بيروت: (1379 هـ) ـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب.

إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني الأسماء، وتعرف خواص بعضها (...) قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء. قال: وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن؛ بما يقتضيه كل اسم من الأسماء) (¬1). ذلك هو الشأن بالنسبة لسائر أسمائه الحسنى: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن المهيمن ... إلخ. فكلها (حسنى) بصيغة التفضيل المطلقة هذه؛ أي لا شيء أحسن منها، فهي تبث النور والسلام والجمال، في طريق السالكين إليه تعالى؛ بحفظها، وتملأ قلوبهم إيماناً وإحساناً. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها» (¬2). تبصرة: وهاهنا لنا لطيفة من لطائف الأسماء الحسنى، نذكرها بحول الله؛ رفعاً للغبش الذي قد يدور بخلد بعضهم، أو مما قد يلقيه الشيطان في خاطر العبد الذي لم يذق بعد جمال بعض الأسماء، من مثل أسمائه تعالى: (الجبار، والمتكبر، والقهار، والمنتقم)، إن أول شيء يجب التذكير به أن هذه الأسماء -كسائر أسمائه تعالى- قد وصفها الله عز وجل في ¬

_ (¬1) فتح الباري:11/ 226 ـ 227. (¬2) رواه الطبراني، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2163).

القرآن بأنها (الحسنى)، على التفضيل، وفي هذا لطائف كثيرة. فبالنسبة إلى خصوص معاني التكبر والكبرياء والقهر والجبروت من أسمائه تعالى، فهي مما يشين الإنسان، ويلقي به في دركات الذم والنقص؛ لو اتصف بها، وتخلق بأحوالها، لكنها في ذات الله تعالى جلال وجمال، ونور وكمال، فهي (الحسنى)، نعم قد ورد الوعيد في حق من اتصف بها من الناس، كما في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار» (¬1). وبيانه أن الله عز وجل قصر ذلك الوصف عليه تعالى، ولم يأذن لأحد من خلقه في اكتسابه، وهو عز وجل وحده يليق به ذلك؛ لجلال قدره، وعظمة ملكه وسلطانه، فهو الملك الحق العدل، لا ينافي شيء من ذلك عدله ورحمته، بل إن وصف القهر والجبر والكبرياء في ذاته مصدر رحمة لعباده المؤمنين -وهذا من لطائف المسألة- حيث إن المؤمن حينما ينتسب إلى الله عبداً، فإنه يكتسب من نسبة العبودية عزة ومنعة؛ إذ هو محمي من الظلمة والفجار؛ باسم الله الجبار القهار. وأنت حينما ترى في الأرض عبداً جاهلاً متكبراً؛ تدرك بسرعة أنه ينتحل ما ليس له، كيف يصدق تجبره وكبرياؤه؟ ¬

_ (¬1) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (4311).

وقد قال الله فيه: {وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، فكبرياؤه ذاك إنما هو صورة من ورق! إنه مرض نفسي، فهو تعبير عن الشعور بالنقص إزاء كمال حاوله فلم يصله، من الناحية الاجتماعية، أو المالية، أو السلطانية، أو أي جهة أخرى، فقد يكون الإنسان غنيّاً ذا ثروة طائلة، فإذا تكبر دل ذلك على نقص من جهة أخرى، ربما ظن أن ماله يغنيه من كل وجه، فلما أدرك أنه لا يسد له حقيقة الكمال؛ استكبر فطغى وتجبر وظلم! إنك أيها العبد المنتسب -بخضوعك وعبوديتك- إلى كبرياء الله الحق، تشعر أن الكبرياء الذي ينتحله الخلق كذب وافتراء، بل مرض يستحق صاحبه الحسرة والإشفاق! تماما كما تشفق على من ألقى بيده إلى التهلكة بالكفر والضلال، على غرار قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30]، فأما الجاهل فقد يرى الجبار من الناس أسداً يزأر في وجوه الخلق، وأما عبد الله فإنما يراه أسداً من ورق، أو دمية (كرتونية) تحكي لعبة الأسد، والمتكبر من الخلق هو أول من يشعر -في نفسه- بضعفه، وعجزه، وفشله في أن يندمج في المجتمع، ويتواضع أمام الخلق، وما أصدق قول الشاعر في هذا: ملأى السنابل تنحني بتواضع ... والفارغات رؤوسهن شوامخ

وأنت إذ ترى ما لا يرى الجهلة تستريح .. فقد عرفت أنما الكبرياء والجبروت لله الواحد القهار؛ فكانت بذلك أسماؤه الحسنى: الجبار والمتكبر والقهار، ونحوها من أسماء الجلال، برداً وسلاماً على قلوب عباده الصالحين، تبعث النور والجمال .. ولا عجب، فهي من (الأسماء الحسنى) حقّاً وصدقاً. و {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] والله خير الصادقين. وإنك حينما تذوق من معرفة الله لمعات وأنواراً؛ يتعلق قلبك بحبه؛ لأنك إنما تجد الجمال الحق في تلك المعرفة. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال» (¬1)، فمن ذاق؛ عرف، ومن عرف اشتاق. وليس عبثاً أن يكون ضمن السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله تعالى: (رجل قلبه معلق في المساجد) (¬2). ولا يتعلق القلب إلا إذا أحب، ولا يحب إلا من شهد الجمال. وإنما ترى جمال الله جل جلاله في شعورك القوي بجمال خالقيته تعالى، وكمال قيوميته، وحسن إجابته، وكرم رعايته، وقرب رحمته وأنسه، فاقرأ الجمال في كلمات الله إذ يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. إن العبد الذي أيقن بمعرفة الله، يفيض قلبه بالمحبة، محبة ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) متفق عليه.

كل شيء، إذ يجد أخوة إيمانية في وجدانه مع كل شيء من الكائنات -عدا شياطين الجن والإنس- فالكل مستغرق في عبادة الله، سائر إليه عبر مسالك المحبة: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، ولقد جعل الله لنبيه داود معجزة كَشْف لبعض ذلك، فكانت الجبال والطير تسبح بتسبيحه وتدعو بدعائه، في مجالس تفيض بالنور والجمال، تلتقي على موعد بالغدو والآصال، كما في قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص:18،19]. إن الكون كله في وجدان المسلم مثل طيور داود عليه السلام، مجالس أنس وذكر، تشعره بالأخوة الكبرى، في السير إلى الله عبر أفلاك العبودية: {كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]، وأنت أيضاً يا صاح تسبح عبر فلك العمر سيراً إلى الله ذي الجلال والجمال، تتعرف إليه من خلال هذا كله، إذ تجده سبحانه تجاهك، كلما ذكرت أو دعوت، منتسباً إليه تعالى بعبوديتك، وذلك أعظم معنى لوجودك في الحياة .. فتأمل! وتلك غاية الغايات من الخلق كما ذكرنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. والمعرفة طريق لا تنفد تجلياتها، ولا تنتهي إشراقاتها إلا بلقاء الله، حيث ينكشف سر السير إلى الله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ

حَتَّى يَاتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99]، وترى هنالك بعين اليقين حقيقة الوجود الدنيوي، من خلال وجودك الأخروي: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]. إن المعرفة بالله تملأ قلبك أنساً بالله، ثم أنساً بالحياة، وأنساً بالكون والكائنات، وأنساً بالموت، الذي لن ترى فيه -إذ تقف عليه- إلا موعداً جميلاً، للقاء جميل، مع رب جميل. فذلك ذوق الإحسان في قمة المشاهدات الإيمانية. وإنما (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (¬1). ألا يا حسرة على الناس إذ جهلوا بالله! حتى إذا وجدت ما وجدت، وعرفت من ربك ما عرفت، أبت عليك معرفتك، وما فاضت به عليك من جمال الأخوة الكونية؛ إلا أن تسعى بهذا الخير إلى الناس كل الناس .. داعياً إلى الله ومعرفاً به، لا يمكن لعارف بالله حقّاً إلا أن يكون داعية إليه، وهل يستطيع المحب أن يكتم من محبته شيئاً؟ إن الوجدان ليضيق عن كتمان جمال، تشرق أنواره على الكون كله! ولا يمكن للنور إلا أن ينير! ¬

_ (¬1) متفق عليه.

تبصرة: إن الدعوة إلى الله إنما هي تعريف بالله .. فتأمل! هؤلاء الناس الذين شغلتهم أموالهم الفانية، وأشغالهم الصبيانية، وأحزانهم الطفولية، وألهتهم عن التفكير في حقيقة أنفسهم وحقيقة الوجود من حولهم، إنما هم في هذا المقام كالأطفال، لا يدرون ما يضرهم مما ينفعهم، فهم أحوج ما يكونون إلى من يذيقهم لحظة من لحظات المحبة الربانية؛ عسى أن يجدوا شيئاً -ولو قليلاً- مما وجدت؛ فيتعلقوا بجمال الله كما تعلقت: (ورجل قلبه معلق في المساجد)، ويدركوا حينئذ أن للوجود معنى أعظم بملايين المرات مما عرفوا في وعيهم البهمي الساذج. وبالتعريف بالله تزداد -أنت أيضاً- معرفة جديدة به. فكأنك إذ تسعى إلى تعريف غيرك به؛ تكتشف أنك إنما تعرف نفسك به! فعملك ذاك خير الأعمال، وسعيك ذاك أحسن ما في منازل الإيمان من جمال! {ومَن أَحْسَنُ قولاً مِمَّن دَعَا إِلَى الله} [فصلت:33]. التعرف إلى الله والتعريف به كلمة لا تشرحها العبارات، ولا تكشفها الإشارات، ومهما سودت لك من ورقات، أو صنفت من مصنفات؛ فإني سأبقى دون مداركها الشاملة على شاطئ الابتداء! وإنما الذي عليَّ أن أبلغك أنها الحلاوة

التي لا تدانيها حلاوة، وليس لي أبداً أن أصف لك المذاق؛ لأن الحلاوة لا تدرك إلا أن تذاق، فلتعرف ما هنالك ذق! وعذري في هذا كله أن أصف لك الطريق، فاسلك عسى أن تكون من الراشدين! التعرف إلى الله والتعريف به: ذلك هو رأس العلم، وتلك هي زبدة المعرفة، وعليها ينبني ما بعدها من كلمات، في بلاغ الرسالة القرآنية، فلا مبدأ من مبادئها، ولا ركن من أركانها؛ إلا وهو مضمن في المعرفة بالله. يمكن لك يا صاح -بالتدبر والإبصار- أن تجد كل ذلك عنده؛ لأن من وجد الله -كما في الحكمة المأثورة- وجد كل شيء، ومن فاته الله فاته كل شيء، كيف لا وقد قال الله في بلاغه الحكيم: {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}] يونس:32]، ولذلك نوجز ما بقي من بلاغات الرسالة، مختصرين الكلام في المعاني المفتاحية، ولك في كتبنا المفصلة في هذا ما يغني إن شاء الله (¬1)، وإنما العبرة عندنا هاهنا إبلاغ البلاغ بأخف ما تدركه الأسماع. ... ¬

_ (¬1) ن. ذلك في كتابنا: جمالية الدين.

البلاغ الثالث: في اكتشاف الحياة الآخرة

البلاغ الثالث في اكتشاف الحياة الآخرة هل تعرف: ما الحياة؟ .. هذا المعنى اللطيف الغريب العجيب، الذي يوصف به كل كائن حي في هذا الوجود، ما دامت نسمتها الغريبة تسري بجسده، حتى إذا فارقته تلك النسمة؛ فارق الحياة، أو بالأحرى فارقته الحياة؛ فصار ميتاً، ولم يعد معدوداً من أحياء هذا الكون. مهم جدّاً أن تستحضر أن (الحياة) بكل ألوانها وتجلياتها مصدرها واحد: هو (الحي) سبحانه، فليس عبثاً أن يعلمنا الله بأن من أسمائه الحسنى هذين الاسمين العظيمين: (الحي) و (المحيي)، فهو الحي بذاته سبحانه، المحيي لغيره، ولا حياة لأحد سواه إلا بأمره. فسبحانه وتعالى من رب عظيم، وله الحمد في الأولى والآخرة. وقد وصف الله جل جلاله (الحياة) في القرآن الكريم بصفتين

متقابلتين: الأولى: هي (الدنيا)، والثانية: هي (الآخرة)؛ وذلك نحو قوله تعالى: {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة:38]، وقوله سبحانه: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد:26]. فالحياة إذن طبقتان: الأولى: تنتمي إلى عالم الشهادة، وهي حياتنا هذه التي نحيى بها، والثانية: تنتمي إلى عالم الغيب، وهي الحياة الآخرة. وقد علمت أن الإيمان بالآخرة في الإسلام -من حيث هي (حياة) - ركن من أركان الإيمان الستة، التي وجب على كل مسلم أن يعلمها، ويؤمن بها. ولنبدأ الآن رحلة التدبر لهذا المعنى في الرسالة القرآنية. ذلك أنه ما قُرِن بالإيمان بالله شيء -في الكتاب والسنة- مثل الإيمان باليوم الآخر، فهو أصل من أصول الرسالة القرآنية، ومقصد من مقاصد البلاغ الإلهي، وما كان ذلك ليكون لولا أن فيه حكمة ما، وهو ما نحاول اكتشاف بعض أسراره في هذه الإشارات بحول الله. وأما الآيات فلنذكر منها أمثلة، تدل على ما سواها، فذلك في القرآن أكثر من أن يحصى لفظاً ومعنى، ونحوه قول الله تعالى في حق المؤمنين الصالحين من سائر الملل: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، وقوله عز وجل في حق المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]، وقال في حق أهل الكتاب الذين عرفوا الحق فأسلموا: {لَيْسُوا سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [آل عمران:113،114)، وقال في سياق التشريع: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} [البقرة:232]، وقال سبحانه في حق العابدين من عمار المساجد: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، وقال سبحانه في التنبيه على التأسي بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، ومعلوم أن مثل هذا في القرآن كثير. وأما السُّنة فقد تواتر فيها هذا المعنى بهذه الضميمة: (الإيمان بالله واليوم الآخر)، تواتراً معنويّاً كليّاً، فمن ذلك قوله عليه السلام: «فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة؛ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر» (¬1)، وقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت» (¬1)، وقوله أيضاً: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريراً ولا ذهباً» (¬2). ونحوه في السنة الصحيحة كثير جدّاً. والغاية عندنا إنما هي بيان طبيعة هذه العقيدة في الإسلام، واكتشاف بعض أسرارها، إذ رغم أن المسلمين اليوم يؤمنون باليوم الآخر، إلا أن آثار ذلك في حياتهم قليل جدّاً؛ بسبب عدم الإحساس بحقيقته في وجدانهم، وضعف السير إليه، خلال آياته؛ لاكتشاف مشاهده الإيمانية، من خلال مشاهده القرآنية، فهو إذن عدم الإبصار، وهذا عمل إيماني وجب على كل مسلم أن يسعى لاكتسابه؛ حتى يجد ما وجد الصحابة من هذه الحقيقة القرآنية العظمى، ويلتقط واحداً من أعظم مضامين رسالة الله رب العالمين إلى الناس أجمعين. إن الله جل جلاله يخبرك بخبر، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]! وافقه عن الله ما يقول، فإن الأمر يهم وجودك، ومصيرك أنت بالذات! اقرأ، وأنصت، وتدبر قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِه نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَاكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (6509).

إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس:24،25]. هاهنا لمفهوم (الحياة) حقيقتان: حقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الحياة الأخرى. فأما الحياة الدنيا فأهم خصائصها الجوهرية أنها فانية، فهي محكوم عليها بـ (الفناء)، وقد ضرب الله لها في الآية السالفة مثلاً: وهو دورة الحياة والموت في الطبيعة، إذ ينزل ماء الحياة في فصل الخريف وفصل الشتاء، غيثاً يبعث النبات من أعشاب وزروع، فتبتهج الأرض بالربيع الزاهر، وتحتفل بموسم الجمال، أشجاراً وأطياراً وأنهاراً، وزخرفة تعلو الروابي والبساتين والسهول؛ فتكون أشبه ما تكون بالحسناء، المتزينة بشتى التلاوين وفنون التقيين؛ حتى تكون في أسحر أحوال الإغواء والإغراء! ذلك أن الزخرفة الصارخة تلقي على قلب الإنسان شباكاً سحرية، فتستوعب كل وجدانه وتفكيره، فلا يرى شيئاً بعد ذلك إلا من خلالها! حتى إذا جاء المصيف، وأنضجت الزروع حبوبها؛ كان الحصاد مآلها، فلا ترى لها في الأرض أثراً إلا هشيماً من حصيد! تماماً كما تتناثر أوراق الأشجار عند الخريف، لقىً ذابلاً، تذروه الرياح بكل البطاح!

فتعوي ريح الفناء بالوديان والقيعان، لتكنس كل أثر للحياة، وكأن الأشجار المتحطمة الأغصان، ما أورقت قط ولا أزهرت، وكأن الأطيار الراحلة في الأفق البعيد ما عششت هاهنا ولا غردت! {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}! تبصرة: ولنا في هذا المثال الرباني الحق عبرتان كلتاهما ترجع إلى حقيقة كونية عظمى، الأولى: تتعلق بمفهوم المكان، أي طبيعة بناء الكون، والثانية: تتعلق بمفهوم الزمان؛ أي طبيعة حركة العمر. فأما الحقيقة الأولى: أي مفهوم المكان؛ فهو راجع إلى أن هذا البناء الكوني الممتد ما بين السماء والأرض؛ ليست له طبيعة خالدة؛ لأن تكوينه الابتدائي كان كذلك؛ أي أنه بني على هذا الوزان، وهو أن يحيا إلى حين، لا إلى الأبد، فكل المكان من حيث هو مكان قائم على مبدأ الفناء، فحركة أجرامه ومدارات فضاءاته، كلها سائرة إلى نهايتها، ومن هنا كانت حياة هذا الكون الحالي إنما هي (الحياة الدنيا)، فهي حياة، نعم، لكنها إلى حين، إنها (دنيا): أي قريبة الأجل، لا خالدة، ولا حتى ممتدة امتداداً طوليّاً حقيقيّاً، بالنسبة إلى امتداد (الحياة الأخرى).

وكم أخطأ الناس في هذا الزمان في فهم معنى (الدنيا)، إذ ظنوا أنها دالة على الجمال، والغنى والرفاه؛ حتى جعلوا من أسماء بناتهم (دنيا)، وما هذا التعبير بدال على المدح، بل له دلالة قدحية ناقصة، فالدنيا -بهذا السياق خاصة- من الدنو والدناءة، وهي معنى نازل لا علو له؛ ولذلك قيل لسيء الأخلاق: دنيء؛ أي له أخلاق منحطة قريبة من الأرض، فالدنيا: حياة قريبة من الفناء، لا لذة حقيقية فيها ولا متعة، ما دام كل شيء فيها إلى فناء. فهي دنيا. ومن هنا سمت العرب أبناءها -قبل الإسلام وبعده- (خالداً) و (خالدة)، إذ رغبوا قبله في الخلود الدنيوي، وهو محال؛ لأن الضدين لا يجتمعان، ثم رغبوا بعده في الخلود الأخروي السعيد، وهو ممكن بإذن الله. إن بناء الكون الدنيوي له ساعة ينهار فيها، ثم يفنى بإرادة الله، فلا يبقى شيء إلا الله الواحد الأحد، وهذه الساعة هي (الساعة) بتعبير القرآن، ذلك الحدث الكوني العظيم، سألتك بالله أن تتدبر قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَاتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]، ذلك هو السؤال الأزلي: الساعة؟ فلم يزل الإنسان مذ كان يتوجس وقوعها، ويتحسس وقتها وحقيقتها، لكن الله جل جلاله أنبأه أنها سر من أسرار قضائه الكوني:

{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف:187]، وقد ورد في التفاسير أن العرب واليهود كانوا كثيري السؤال لمحمد صلى الله عليه وسلم عن الساعة، كانوا يسألونه ظانين أنه حفي عنها، أي كثير السؤال -مثلهم- لربه عنها، إذ لا يتصور في المرء إلا السؤال عن الغوامض الكونية. ولذلك قال قبل: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:187]، إنها حدث كوني عظيم، يمتد من السماء إلى الأرض. ليحدث ذلك التحول الرهيب في طبيعة الكون، تدميراً ثم تكويناً وإفناءً ثم خلقاً؛ لاستقبال الحياة الأخرى، وإن أمرها في ميزان الله لقريب. ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1،2]. والساعة: هي القيامة، والواقعة، والقارعة، والصاخة ... إلخ من الأسماء، التي عبر فيها الرب العظيم عن لحظة نهاية الكون الدنيوي، فالكون الدنيوي إذن تكوين ابتدائي، والكون الأخروي تكوين استئنافي، قال جل جلاله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ

يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:19،20]، ولذلك قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:187] كما أوردناه قبل. إن الساعة إذن؛ هدم وبناء: هدم لكون الدنيا، وبناء لكون الآخرة، إنها تحول كوني عجيب من طبيعة إلى أخرى، يحدث في لحظة واحدة، كاللمحة من البصر! كما في قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل:77]. وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]. إن الكون الدنيوي خلق فان، ومعمار إلى زوال، هذه هي الحقيقة الأولى. أما الحقيقة الثانية: أي مفهوم الزمان؛ فهو مرتبط في دلالته بالمكان، بل إنما الزمان وليد حركة المكان، فالمكان الفاني لا ينتج عنه إلا زمان فان. كما أن المكان الخالد لا ينتج عنه إلا زمان خالد. ومن هنا كان العمر البشري -مهما توهمنا أنه طال- قصيراً جدّاً. ويكفينا في ذلك حقيقة واحدة: هي أن الشهوات الدنيوية كلها، لذتها تنتهي ببدايتها! كل شوق إلى المزينات الدنيوية يموت بمجرد الحصول عليها، فلذة الطعام الشهي الجميل إنما تشعر بها

قبل أن تأكله، وعند بداية الأكل، ثم يبدأ بعد ذلك خط التلذذ في الهبوط حتى درجة الشبع، فالتخمة، حتى يصير اللذيذ بعد ذلك ممجوجاً قبيحاً، وقد كان قبل قليل في غاية اللذة. وقس على ذلك كل المتع الدنيوية، مما زين للناس، من مثل الوارد في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]. إن طبيعة الشهوات الدنيا أنها فانية، لا تكاد تبتدئ حتى تنتهي! وإنما جمال المتعة هو الخلود فيها. هذا هو الجمال الحق، وتلك هي الحياة الحق؛ ولذلك قال بعد مباشرة، ناسخاً قبح الزوال بجمال الخلود: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15]. قضية العمر أو الزمان راجعة إلى هذا المعنى، فالفرق فيه ما بين الوهم والحقيقة؛ هو بالضبط فرق ما بين الفناء والبقاء. وما أجمل قول الله الملك السلام، في آيتي (يونس) مما أوردنا قبل؛ للتدبر: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا

فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس:24،25]. تدبر قوله في آخر الكلام: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس:25]. - إنه معنى جميل جدّاً، فقد جاء مقابلاً لما ذكر من أمر الحياة الدنيا وزخرفها الفاني، ومآلها الحصيد. إذ كل ذلك موحٍ بالخوف والخراب؛ لأن دار الدنيا هي دار الخراب، فكل نفس تعلقت بها إنما تعلقت بالوهم، وهذه حقيقة رهيبة، تملأ القلب هولاً وفزعاً، إذا كان لهذا الإنسان القارئ، أو المستمع للخطاب الرباني قلب فعلاً، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، فمقابل ذلك الشعور بما صوره القرآن لك من مآل مأساوي للحياة الدنيا، مكاناً وزماناً؛ ينفح الله روحك بالبشرى: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} [يونس:25] .. السلام الحق الجميل، الممتد بلا نهاية، يملأ عرض السماوات والأرض، ولكن -فقط- لمن آمن واهتدى؛ ولذلك قال: {وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس:25]. فلا جنة بلا هداية. عمر ممتد بلا نهاية، وزمان بلا حساب، يغرف من جمال الله خلوداً إلى الأبد، ذلك هو السلام، قال عز من قائل: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ

وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. إن الإنسان عندما يتدبر هذه الحقائق القرآنية العظيمة؛ يرى بأم عينيه أن العمر الدنيوي مجرد حلم، وأن مفهوم (الحياة) إنما يتجلى بصورة حقيقية في الآخرة، حتى لكأن ما دون الآخرة ليس بحياة! وتلك آيات القرآن العظيم ناطقة بهذا، قال عز وجل: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]؛ فلفظ (الحيوان) صيغة دالة في العربية على الامتلاء، كقولك (فيضان) بدل (فيض)؛ إذا كان قد بلغ السيل الزبى، والتقى الماء على أمر قد قدر، فجرف كل شيء، فيقال حينئذ: (فيضان). فلفظ (حيوان) هو بمعنى الامتلاء حياة، بل هو فيضان الحياة. تلك هي طبيعة الحياة الآخرة تفيض بالحيوية والحياة، وتمتد نعمها التي لا تنفد على عرض الكون، فلا يعرف لها نهاية، خلوداً مؤبداً، إلى ما شاء الله. ويبقى ما دون ذلك من (حياة) أشبه ما يكون بطعم الصياد، الذي يغري الفريسة، لتقع على المتعة الوهمية؛ فتكون من الهالكين. فهي {مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] حقّاً، كما قال عز وجل في سياق آخر: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].

والكافر لا يرى ذلك إلا بعد هلاكه، فما أعجب تعبير القرآن في هذا! إذ يقول الله تبارك وتعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى. يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23،24]، فحسرة الكافر وندمه إنما هو لكونه لم يقدم لحياته، ويقصد الحياة الآخرة، ولكنه لم يصفها بـ (الآخرة)؛ للدلالة على أنها هي وحدها حياته، إذ أدرك الآن عياناً أن ما سبق من حياته الدنيا ليس بحياة، فندم على تفريطه في حياته الحقيقية: الآخرة، ونتيجة الأمر أنه ما حيي إلا من حيي في الآخرة وللآخرة. وأما الدنيا فهي -بالنظر إلى هذا المعنى- ليست بحياة؛ إلا مجازاً. فإذن لا طول للحياة الدنيا ولا بقاء لها مكاناً وزماناً، بل هي مجرد خدعة للإنسان إن لم يستثمرها للحياة الحقيقية: الآخرة، إنها -لو تدبرت- عمر في أيام .. فلا طول، وإنما الطول مفهوم يدل على الحصر؛ إذ ما سمي طولاً إلا لقابليته للعد والقياس، وكل معدود محدود. ومن هنا وصف الله الجنة بالعرض دون الطول، وذلك بعدما قرر عز وجل طبيعة الحياة الدنيا، فقال على سبيل الجزم والتحذير: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ

وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:20،21]. لقد ابتدأ الخطاب في الآية بهذا الأمر الجازم: (اعلموا ... !) والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع قطعاً ويقيناً، أي بلا تردد ولا شك، ولا ظن. (اعلموا ..) هكذا قطعاً، وجاء المثال القرآني العجيب مرة أخرى بصيغة أخرى: مثال الزرع إذ ينبهر الفلاح بخضرته وجماله وسنبله، فلا يلبث أن يصير حقله الجميل حطاماً، أو حصيداً كأن لم يغن بالأمس! فكذلك الدنيا كلها بزينتها وأموالها وأولادها، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. وهنا جاء المقابل الأخروي هذه المرة في القرآن الكريم بصيغة فريدة .. لا مثيل لها، جاء طلب المسابقة إلى المغفرة والجنة، ووصف الجنة بما قال عز وجل: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:21]، فوصفها بالعرض دون الطول، ذلك هو الزمان الأخروي السعيد، والعمر الجميل المديد، تلك هي الحياة .. {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57]، إن (الطول) -كما ذكرنا- مفهوم محدود معدود، والجنة لا حد لها، ولا عد. إنها (الحيوان)، فلا يليق بوصفها من ألفاظ الامتدادات إلا (العرض)، إذ بالعرض تعيش اللحظة الواحدة أكثر من مرة، أما الطول فلا يتيح لك من اللحظة

الواحدة إلا خطوة واحدة، تخطوها إلى أمام؛ لتصبح بعد ذلك من (الماضي)، فلا يمكنك أن تسبح في النهر مرتين، كما قال الحكماء، وأما العرض فهو امتداد أفقي في الزمان الفسيح، إذ تتمتع بالمتعة الواحدة أبداً، وتعيش الشعور الواحد أبداً، وتغرف من اللحظة الواحدة معنى الخلود، صورته في الدنيا هي (بركة العمر)، حيث يبارك الله العمر القصير -ولا يكون العمر إلا قصيراً- ويزكيه؛ فينجز المؤمن فيه من الصالحات؛ ما يمكنه بإذن الله من الخلود في الجنة، وصورته في الآخرة: حياة سعيدة مطلقة في الزمان، سابحة في الجمال، تنعم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. - فما أبلد من يستنزف طول عمره على حساب عرضه! ولا يسابق إلى هذا إلا من عرف الله ابتداء، ثم اكتشف هذا المعنى اللطيف (للحياة)، وذاق جماله، فسابق إليه، وإنما {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فكيف السبيل إلى ذلك، وكيف المسير؟ ذلك هو البلاغ الرابع من بلاغات الرسالة القرآنية، فيه بيان طريق العمل، ورسم معالم السلوك. ***

البلاغ الرابع: في اكتشاف الصلوات وحفظ الأوقات

البلاغ الرابع في اكتشاف الصلوات وحفظ الأوقات لو أدرك المسلمون اليوم ما معنى (الصلاة)؟ ما تركها واحد منهم، إلا من أصر على ضلاله وعماه، أو كزّ على كفره وزندقته! تبصرة: أما أنت يا صاح فاعلم أن السير إلى الله من غير مسلك الصلاة ضرب في التيه! كل أعمالك في الجهاد، والدعوة إلى الله، وما تستكثره من حركات وسياسات؛ راجعة إلى مدى سلامة هذا الأصل عندك؛ قصداً، ووقتاً، وأداء، وإلا فعلى دينك السلام! {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].

إنك لن تذوق ما الإيمان وما الإسلام؛ حتى ترحل إلى الصلاة: تكتشف أسرارها، الممتدة إلى بحر الغيب المطلق؛ فترى عجباً .. ذلك هو البلاغ الرابع من بلاغات الرسالة القرآنية، فهي نتيجة فعلية لكل من تلا القرآن حق تلاوته، إنها أول ما يبادر إليه المحب أول ما يتذوق معنى المحبة؛ إذ يتعرف على جمال الله من خلال القرآن الكريم؛ ومن هنا أمره عز وجل بالصلاة؛ مباشرة بعد أمره تعالى بالتلاوة، على سبيل العطف المباشر، المشعر بالتساوي بين الفعلين، مما يوحي بانعدام الفرق الزمني بينهما؛ لما بين الاستجابتين من ارتباط وثيق، إن من تعرف على القرآن الكريم حقّاً لا يملك إلا أن يصلي، قال تعالى: {اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]. ومن هنا كان أول عمل من العبادات قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بالله وتوحيده- هو الصلاة، وهي أول عمل تعلمه من تطبيقات القرآن، وهذا أمر مهم جدّاً في معرفة ما يبتدأ به من أمر البلاغ. قال عليه الصلاة والسلام: «أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي فعلمني الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه» (¬1). ذلك أول العمل، كما هو ظاهر هذا الخطاب: (في أول ما أوحي إلي)، ¬

_ (¬1) رواه أحمد والدارقطني والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (76).

الوضوء والصلاة، ولهذا دلالة كبرى في معرفة البدايات والأصول العمليات، ولم يزل ذلك مرافقاً لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يزداد مع الأيام إلا ترسخاً في الدين، وما تنزل القرآن بعده إلا بما يؤكد أنه أساس الغايات، ومنتهى العبادات. وتأمل كيف أن الله جل جلاله أفرد (إقام الصلاة) بالذكر -في بناء المنهج الإصلاحي- بعد ذكر التمسيك بالكتاب، مع أن الصلاة فرع عن التمسيك بالكتاب، وداخلة في معناه، فلولا أنها أساس، وأم من أمهات البلاغ القرآني، ومنطلق من منطلقات الصلاح والإصلاح؛ لما كان لها ذلك التفريد الفريد، قال عز من قائل: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170]. إن العلماء يجمعون على أن الوظيفة الوحيدة للإنسان في الكون هي عبادة الله، فكل حظوظه الدنيوية إنما هي منجرة بالتبع مع أصل العبادة، وإنما أتيح له أن ينال من حظه ما يعينه على وظيفته الأساس، وأصل ذلك ومستنده قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. إن خلاصة دين الإسلام عقيدةً وشريعةً: هي إخلاص العبادة لله الواحد القهار، والصلاة منه هي مفتاح كل شعيرة من شعائره، وروحها، وغايتها؛ زكاةً، وصياماً، وحجاً، وجهاداً ... إلى آخر ما تفرع عن هذه وتلك من سائر أعمال

البر، ولذلك كانت الصلوات الخمس -بعد الشهادتين- هي العنوان الجامع المانع لكل أعمال الإسلام. إذ كل ما سواها داخل في معناها. وليس عبثاً أن يعتبرها الرسول خير أعمال المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا» وفي رواية: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» (¬1). ولقد فصلنا هذا في غير هذا المكان من كتبنا (¬2)، لكنا نقتصر هاهنا على ما يفيد السياق. لقد جعل الله الصلاة هي آية المسلم، والعلامة الجميلة التي تميزه في مسيرة التاريخ النبوي، فهي الفصل الذي لا يعرف إلا به، والنور الذي لا يمشي إلا به، قال عز وجل: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، وإنما اكتسبوا صِفَتَيْهم الأوليين: الجهادية: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}، والخلقية: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}؛ من كونهم رهباناً بالليل، أي قوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا ¬

_ (¬1) رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم، والدارمي والبزار، والبيهقي والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم: (952). (¬2) ن. كتابنا: قناديل الصلاة. دار السلام، القاهرة.

سُجَّدًا} [الفتح:29] الآية؛ لأن ذلك هو المعين الصافي الذي يتزود منه المسلم الصادق المجاهد الداعية إلى الله؛ بصدق التوجه والسير، من حيث إن قوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29]، فيه إشارة إلى أن ذلك هو دأبهم وحالهم المستمر في حركتهم التعبدية؛ إذ التعبير باسم الفاعل جمعاً: {رُكَّعًا سُجَّدًا}، في سياق الفعل المضارع: {تَرَاهُمْ}؛ يوحي بصورة حية لقافلة المؤمنين، وهم منخرطون في حركة الصلاة المتواترة، من غير فتور أو انقطاع، سيراً مستمراً حتى كان ذلك صفة ثابتة لهم، حيثما تراهم، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}. ولذلك كان تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاةَ في حياة المسلم التعبدية بالنهر الجاري، قال: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا» (¬1). إن الإسلام في نهاية المطاف هو الصلاة، بالمعنى الذي سبق بيانه؛ وعلى هذا الوزان تُقَوّم أعماله كلها يوم القيامة، وعلى ذلك يتحدد مصيره الأخير .. ! قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحاكم الحاسم: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة! فإن صلحت فقد أفلح ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر! وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك» (¬1). وأوضح من هذا دلالة على ما نحن فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» (¬2)، فليس عبثاً إذن أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في مراتب أعمال ابن آدم، على سبيل ترتيب الأولويات: (أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله) (¬3)، إن الأمر جد، فتدبر! ثم أبصر! وما بقي لمسلم تَرَك الصلاةَ من إيمانه إلا ما لا يخلده في النار، لا ما ينقذه منها بإطلاق، قال صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (¬4)، وقال أيضاً: «بين الكفر والإيمان ترك الصلاة» (¬5)، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك» (¬6)، وهذه ¬

_ (¬1) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2020). (¬2) رواه الطبراني في الأوسط، والضياء عن أنس. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2573). (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه مسلم. (¬5) رواه الترمذي بسند صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير: (2849). (¬6) رواه ابن ماجه بسند صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير: (5388).

الأحاديث وما في معناها تقتضي أن المسلم التارك لصلاته قد شابه الكفار في صفاتهم، فكفر عملاً وإن سلم عقيدة؛ لأن المسلم إنما يتميز بصفة الصلاة التي هي عنوان إسلامه -كما بيناه قبل- فمن فَقَدَ عنوانه فَقَدَ هويته. ولنعد إلى جمال القرآن الكريم، ذلك أن الله تعالى إذ يصف فلاح المؤمنين؛ يذكر الصلاة باعتبارها أول وسام نوري -بعد الإيمان- يشع من قلوبهم، وهو أمر يكاد يكون مطرداً في كل آي القرآن العظيم، يقول المولى الكريم في أول سورة البقرة: {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:1 - 3]، ومن أجمل ما ورد في ذلك فاتحة سورة (المؤمنون)، إذ جعل الله أول صفاتهم الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة على الصلاة، وكل أعمال الصلاح من فعل الخيرات وترك المنكرات؛ جعلها فيما بينهما، فاقرأ وتدبر .. واحفظها واحدة واحدة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].

فالخير كله فاتحته الصلاة، والخير كله خاتمته الصلاة، والخير كله غايته الصلاة، والخير كله وسيلته الصلاة. تبصرة: والصلاة تَرْكٌ كما هي فِعْلٌ: إن كنت تصلي حقّاً؛ فأنت تارك لكل منكر من الكبائر والموبقات! من مثل الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، وكذا تناول المحرمات من المطعومات والمشروبات، كأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، وشرب الخمر أم الفواحش، وسائر المسكرات والمخدرات، والسقوط في المحرمات من المعاملات والملبوسات، كالكبر، والظلم، والغصب، وشهادة الزور، وأكل أموال الناس بالباطل، والقمار، وسائر المنكرات! فتدبر كيف أن الله جل جلاله ذكر في سياق صفات الفلاح -مما أوردناه قبل من فواتح سورة (المؤمنون) - عدداً من الأفعال والتروك، كان جانب الترك فيها أكثر حضوراً، باللفظ أو بالمعنى، كما في (الإعراض عن اللغو)، و (حفظ الفروج) الذي هو في معنى النهي عن الزنى، والنهي عن كل مسالكه وأسبابه، و (رعي الأمانات والعهود)، الذي هو في معنى النهي عن الخيانات بشتى أنواعها، وهذا شيء مهم جدّاً، ذلك أن الصلاة كما ذكرنا ترك من التروك.

وجامع ذلك كله قول الله ذي الأسرار والأنوار: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]. هل أبصرت هذه الآية؟ أبصر إذن كيف أن الله تعالى أسند فعل النهي للصلاة نفسها! كأنها هي ذاتها شخص معنوي، في هيأة نبي مرسل يؤدي مهمته التبليغية، أو عبدٍ مصلح يقوم بوظيفته الإصلاحية! أعد التلاوة وتدبر: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45] عجيب! لأن معنى (أن تصلي): هو أن ترحل عن خطاياك إلى الله .. تخرج من دركات العادة إلى درجات العبادة، وهذا كلام يعبر عن حقائق لا يعلم مدى عمقها في النفس إلا الله! إذ تتحول الأذواق وتتبدل، يتغير طعم المنكر في قلبك فلا تستحليه. ويتبدل ذوق شهوات الحرام من الرغبة إلى الغضبة! وتصبح خلقاً آخر! أبصر ثم أبصر! فإن الصلاة تصنعك! نعم، إنها {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45]. هل غلبتك الفاحشة ولم تستطع التخلص منها؟ هل أنت مدمن على خطيئة ما؟ دواؤك واحد: صَلِّ! تقول لي: إنني أصلي .. لا، لا! صلِّ! فإنك لا تصلي! {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، صلِّ؛ تجد أن ما كان يأسرك من المحرمات بالأمس، ويملأ عليك قلبك نزوةً ورغبةً،

فلا تستطيع التخلص منه؛ هو من أبغض الأشياء إليك اليوم! إن القرآن سيف قاطع، إذا قطع القول في حقيقةٍ فلا مراء بعدُ إلى يوم القيامة! ولقد قال الحقُّ كلمتَه، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32]. إن الصلاة سفر من الأرض إلى السماء؛ فأنى لمنازل السلام أن تصطدم بنوازل الحرام؟ أبداً، لا شهود للدرجات في نتانة الدَّرَكات! تبصرة: ومن أعجب العجب أن ألزم الله جل جلاله المسلمين بالصلاة إلزاماً؛ حتى في أحرج الظروف وأخطرها: الحرب .. قال جل جلاله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ. فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:238،239]. فقوله سبحانه: {فَإنْ خِفْتُمْ} يعني في حال الحرب وانعدام السلم والأمن، سواء لحظة الاشتباك أو لحظة الترقب، وقوله: {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا}؛ أي فصلوا (صلاة الخوف) باصطلاح الفقهاء. وهي عندهم: الصلوات الخمس إذ تؤدى في ظروف الحرب. فتؤدى {رِجَالاً}، أي: على أرجلكم، واقفين أو سائرين، أو {رُكْبَانًا}، أي: راكبين خيولكم، أو دباباتكم، ومصفحاتكم.

وقد فصل الفقهاء، والمفسرون، وشراح الحديث؛ صور صلاة الخوف وأشكالها؛ بناء على قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَاتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا. فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَانَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء:102،103]. فماذا بقي لك بعد هذا يا صاح من الأعمال الحادية إلى باب الله؟ وها أنت ترى الصلاة أساس السير على كل حال، منشطاً ومكرهاً؟ فأبصر! ولصلاة الخوف صور كثيرة معروفة في كتب السنن وكتب الفقه، وإنما الغاية عندنا هاهنا العبرة من الأحكام لا أنفس الأحكام. وذلك أن الله عز وجل طلب من المسلم الصلاة على كل حال ما دام عقله سليماً، لا ينقصه جنون أو إغماء أو ما في معناهما. وأحب هاهنا يا صاح -وأرجو أن تصبر علي قليلاً- لتعرف حجم هذه الفريضة التي ضيعها كثير من الناس اليوم، ولتعرف

حجم الخسارة الواقعة بما ضيعوا؛ أن أعرض لبعض الفقه في صلاة الخوف، ليس لذات الفقه، ولكن لبيان خطورة هذه العبادة في الدين، ومقامها عند رب العالمين. جاء في حاشية السندي على النسائي: (قال النووي: روى أبو داود وغيره وجوهاً في صلاة الخوف يبلغ مجموعها ستة عشر وجهاً. وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع، صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة، وأشكال متباينة، يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. قال الإمام أحمد: أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها، ويجوز أن تكون كلها في مرات مختلفة، على حسب شدة الخوف، ومن صلى بصفة منها فلا حرج عليه) (¬1). قلت: ومن أحرج الوجوه في صلاة الخوف ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤوا ¬

_ (¬1) حاشية السندي على النسائي: (3/ 168)، لأبي الحسن نور الدين بن عبد الهادي السندي، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب. ط. الثانية: (1406 هـ/1986 م) تحقيق: الشيخ عبد الفتاح أبي غدة.

فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين) (¬1). ومن ذلك ما رواه البخاري أيضاً؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً) (¬2). ولعل أحرج صورها على الإطلاق أن يصليها كل واحد لنفسه ركعة واحدة بالإيماء، وذلك أنه إذا اشتد الخوف، كما هو الحال عند المسايفة، ونحوها من الاشتباك في القتال، يصلي كل واحد لنفسه ركعة واحدة، راكباً أو راجلاً، مقبلاً ومدبراً. قال القرطبي في تفسيره: (واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب، وشدة القتال، وخيف خروج الوقت، فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن؛ لقول ابن عمر: «فإن كان خوف أكثر ¬

_ (¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه البخاري.

من ذلك فيصلي راكباً أو قائماً يومئ إيماء» قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها) (¬1)، وهذه من عجيب صورها. فانظر رحمك الله، هل يبلغ شيء من أعذار الناس اليوم ما ذكره العلماء من الشدة والحرج في القتال، ولم يروا مع ذلك رخصة في تركها، أو تأخيرها عن وقتها؟ فعجيب أمر هذه العبادة العظمى .. لا تبرأ ذمة المسلم منها حتى يؤديها، وقد جاء تأكيد ربطها بالوقت في ظروف الحرب كما قرأت؛ حتى لا يؤخرها مسلم عن وقتها الذي فرضها الله فيه، فالحرب، بل الاشتباك في المعركة، أي ما يسمى قديماً بـ (المسايفة)؛ ليس عذراً لتأخير الصلاة عن وقتها، بله أن يكون عذراً لتركها. وإنما هو يؤثر فقط في شكل أدائها لا في إسقاطها، أو إخراجها عن وقتها، صلّ على أي حال كنت، وخذ حذرك! {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، في السلم وفي الحرب سواء! تبصرة: فإلى الذين يرابطون في أسواق التجارات، أو يرابطون في أسواق السياسات والنقابات، ويفرطون -أو يتكاسلون- ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي، المسمى بالجامع لأحكام القرآن: (5/ 369)، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، نشر دار الشعب، القاهرة. ط. الثانية: (1372)، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني.

في أداء الصلوات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ إليكم المفهوم النبوي للرباط! .. قال صلى الله عليه وسلم في سياق التنبيه والترشيد: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة .. فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» (¬1). إنه تفسير نبوي لقول الله تعالى في محكم البلاغ القرآني: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38]. يا حسرةً على العباد! لو يدركون ما هذه الصلوات؟ ويا حسرة ثم يا حسرة! على نابتة من أبناء الحركات الإسلامية، تعددت بهم السبل من هنا وهناك، وتفرقت بهم الأهواء، وانغمسوا في التيه من كل صوب، وأضاعوا هذه الصلوات، خشوعَها ومواقيتَها وجمالَها؛ فصدق عليهم قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

تبصرة: وإن للسياسة والرياسة لشهوة لو كنتم تعقلون، وإن لأشعة الإعلام، وزينة الكاميرات لشهوة لو كنتم تتفكرون. تلك آية فاصلة بين نوعين من الأجيال، بينهما ما بين النور والنار من دلالة، فللآية رهبة عظيمة لو تدبرتها، اقرأها ها هي ذي كاملة، فتدبر: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا. فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:58 - 60]. فتدبر .. ثم تدبر عسى أن تدرك بذوقك ما هذه الصلوات في الإسلام؛ فتبصرها، وتركب أوقاتها؛ لتدور بفلك العابدين سيراً إلى الله العلي الكبير، فالصلاة هي العبادة التي تدخل من خلالها إلى نسق الكون، في صحبة الكائنات السائرات من النباتات إلى المجرات، لا فوضى ولا عصيان ولا تمرد، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، فأين أنت من المدار؟ ذلك نص البلاغ النبوي المستمد من وحي الله رب العالمين، فاختر لنفسك ما ينجيها إن كنت من العاقلين! {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104]. ***

البلاغ الخامس: في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

البلاغ الخامس في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألم تعلم بأن الإسلام رسالة؟ ألست أنت مسلماً؟ إن كنت كذلك حقّاً؛ فقد تعلقت بك أهم صفات ما انتسبت إليه من الإسلام: الرسالية، قال صلى الله عليه وسلم في أمر مطلق لكل الأمة: (بلغوا عني ولو آية) (¬1). ومن هنا كان المجتمع الإسلامي حركة دعوية بطبيعته، وجماعة إصلاحية بفطرته. إنه مذ أعلن أن محمداً رسول الله، تقلد -بمقتضى عقيدة الاتباع- مهمة الدعوة إلى الله. فليس عبثاً أن يحض النبي صلى الله عليه وسلم بكل وسائل التحريض والتشجيع - على الدعوة إلى الخير والهدى، كما في قوله: ¬

_ (¬1) رواه البخاري.

(فَوَ اللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) (¬1). ومن هنا شهادة الله بالخيرية لهذه الأمة، في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110]. إنها صفة عامة في كل من أسلم لله الواحد القهار؛ ولذلك كان حديث تغيير المنكر دالّاً على العموم، وليس له ما يقيده -في المأمورين به- إلا شرط الاستطاعة ورتبتها. وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذلكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬2)، وقد بيَّنا في كتيب (الفجور السياسي) مراتب التغيير، وطبيعة كل رتبة منها بما يغني عن تفصيله هنا، فكان أن بيَّنا إلزامية ذلك لكل مسلم على قدر مرتبته من الاستطاعة (¬3). بل قد عزم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عزمة شديدة على المسلم؛ أن يتجرد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما حضره؛ قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى ليسأل العبد يوم القيامة ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه مسلم. (¬3) الفجور السياسي: ن. ذلك مفصلا في المقدمة الرابعة من الكتاب: 27 إلى 36. منشورات الفرقان الدار البيضاء: (2000 م).

حتى يسأله: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله العبد حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس» (¬1). فالمسلم المستقيم لا يمكن إلا أن يكون داعية إلى الخير. تلك صفته فرداً، وجماعة؛ إذ الرابط الاجتماعي القائم على الشهادتين في الإسلام يقتضي ذلك بداهة. قال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]، فجاءت صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المؤمنين، مقرونة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله، وكل ذلك جاء نتيجة الموالاة في الله. تلك صفتهم قبل التمكين في الأرض، وتلك صفتهم بعد التمكين، إذ الدعوة إلى الخير هي غاية ووسيلة في الوقت نفسه، تماماً كما تحدثنا عن الصلاة. فالمجتمع المسلم لا يقوم حقيقة إلا بالدعوة إلى الله وسيلةً. قال عز وجل: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]. وإذا قام كان من أهم خصائصه الدعوة إلى الله غايةً، إلى جانب ¬

_ (¬1) رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم: (1818).

الصلاة والزكاة على سبيل التلازم. فتدبر قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]. ومن هنا رسم الله سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم صراطاً مستقيماً، يتبعه عليه كل المسلمين، قوامه الدعوة إلى الله على بصيرة، وهي سبيل ثابتة، لا تتغبر ولا تتبدل، مستقرة كذلك أبداً. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. فقوله تعالى: {هَذِهِ سَبِيلِي} جملة اسمية دالة كما هي عند النحاة والبلاغيين على الثبات. وثباتها هو على ما جاء بعد لتفسير السياق: {أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] الآية، وجاء تفسيرها جملة فعلية للدلالة على الحركة، وفي ذلك إشارة إلى ما ذكرناه من خصيصة الدعوة اللازمة للجماعة الإسلامية، قبل التمكين وبعده، وأنها صفة تابعة لإسلام المسلم، متى تفاعل مع إسلامه، واستقام عليه. ومن هنا أيضاً جاء أمر الدعوة والإصلاح مقروناً بالأمر بالصلاة، في غير ما آية من القرآن الكريم. وذلك على نحو ما في وصية لقمان الحكيم لابنه، في حكاية الله عنه من قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].

وقال جل جلاله في وصفٍ جميلٍ لمؤمني أهل الكتاب، تناسق فيه جمال تلاوة القرآن قياماً بالليل؛ مع جمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران:113 - 115]. وجعل من سننه تعالى في الخلق أن كان أمنهم الوجودي، والنفسي والاجتماعي؛ مرتبطاً باستقامة أحوالهم: وذلك الثبات على الصلاة، والصبر عليها، وحفظ البيئة الدينية الموفرة لظروفها؛ بالإصلاح والنهي عن الفساد. فإذا اختلت تلك الشروط اختل الأمن الوجودي للأمة. قال تعالى يعرض صورة شاملة لإحسان التدين: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:114 - 117].

تبصرة: إلا أن لنا هاهنا قاعدة مشهورة عند العلماء، وهي: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة إلى (الخير) أولاً. والخير كل الخير هو معرفة الله، فكل معروف إنما كان كذلك من حيث هو يؤدي إلى معرفة الله، أو هو عين معرفة الله، وكل منكر إنما كان كذلك من حيث هو جهل بالله. فإذا اتفق أن كان أمر بمعروف ما؛ ينتج عنه منكر أكبر منه؛ توجه حينئذ وجوب ترك الأمر بذلك المعروف. وكذلك إذا كان نهي عن منكر ما يؤدي إلى ما هو أفظع منه؛ توجه وجوب ترك ذلك النهي؛ إلى حين، كما قرره الإمام ابن تيمية رحمه الله في قوله: (وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها (...) فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته) (¬1). وربما كانت الوسائل المستعملة في ذلك سيئة، أو اختيار العبارات غير موفق، أو نحو ذلك من وسائل تحقيق المناط الفاشلة ابتداء، مما لم يراع فيه الزمان وأهله، فيؤدي إلى عكس النتائج المرجوة. ¬

_ (¬1) كتاب الاستقامة: (2/ 218)، ومجموع الفتاوى: (28/ 129).

ولذلك كانت الآية المشهورة على ألسنة الدعاة: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، من ألطف الإشارات إلى هذا المعنى العجيب، الذي يجعل المرء يضع نصب عينيه تحقيق مفهوم (الخير) أولاً، فلا عبرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن تحقق الداعي من أنه يخطئ به الوصول إلى الخير. وإنما الخير -كما قلنا- هو التعريف بالله. هذا معنى عظيم من أسرار كتاب الله .. فتدبر! وعليه، فقد جاءت الآية في سياق امتنان الله على المؤمنين بنعمة الإسلام، والتأليف بين قلوبهم، وإنقاذهم من النار، وإرجاع الفضل في كل ذلك إلى الله. فاقرأ السياق كله وتدبر، ثم أنصت إلى قلبك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:102 - 105]. إنها آيات تُشَدُّ إليها رحال المصلحين الربانيين .. فأبصر! ألا ما أبعد واقعنا المنحط عن سمائها العالي الرفيع! فالدعوة

إن لم تراع أصل الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق عنه، ولم تنضبط بقصد النجاة من النار، للداعي والمدعو سواء؛ كانت منحرفة عن (الخير)، وإن كانت في ظاهرها (أمراً بمعروف ونهياً عن منكر)، فلا قيمة لهذا إلا إذا صار إلى خير. فتدبر! ثم أبصر! ولنجعل خاتمة كلامنا في هذا البلاغ الخامس، آيات الدعوة إلى الله من سورة (فصلت)، ذات (القواعد العشر)، إنها خلاصة القول فيه، وجماعه. فقد فصلت المنطلقات تفصيلاً، وحددت الغايات تحديداً، وضبطت الوسائل ضبطاً. إنها منهج متكامل بذاتها في الدعوة إلى الله. وإن الناس اليوم لو أخذوا بها وحدها في هذا الشأن لكفتهم. اقرأها أولاً، ثم لنتعاون معاً على تدبرها ثم إبصارها آية آية إن شاء الله؛ عسى أن نصل إلى رسم منهاج قرآني للدعوة إلى الله. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ. وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.

تبصرة: القواعد العشر في الدعوة إلى الله

وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:30 - 36]. هذه هي القواعد العشر في الدعوة، فاعقد أناملك يا صاح كما تفعل عند إحصاء الأشياء، وأحص معي أصولها من خلال هذه الآيات واحدةً واحدةً، وتدبر! تبصرة: القواعد العشر في الدعوة إلى الله: 1 - {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}. 2 - {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}. 3 - {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} عدها واحدة إلى قوله تعالى: {نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}. 4 - {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}. 5 - {وَعَمِلَ صَالِحًا}. 6 - {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. 7 - {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}. 8 - {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. 9 - {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

10 - {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. هذا هو الظاهر الجلي، ولكن يجوز أن تجد أكثر، فالقرآن بحر زاخر بالكنوز، لا يحصي معانيه إلا الله جل جلاله. * تبصرة: أما القاعدة الأولى: فهي أن (قول: ربنا الله) إعلان للتوحيد. تدبر .. إنه (قول). وهذا شيء مهم في حد ذاته، (فقوله) ذلك إعلان له، ودعوة إليه، وترسيخ له في المجتمع. ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله: أن يقول له في الإسلام شيئاً، لا يسأل عنه أحداً بعده؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله فاستقم» (¬1)، وفي رواية أخرى: «ثم استقم». هكذا (قل) تصريحاً لا تلميحاً، إعلاناً وإشهاراً لا تورية وتقية، {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106]. فإنما أصل الدين إعلان توحيد الله، ورفع راية (لا إله إلا الله). فارفعها يا صاح عالياً عالياً، ارفعها فوق كل راية؛ حتى لا تظهر فوقها راية، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال:39]. قل: (آمنت بالله) حيثما حللت وارتحلت! قلها في كل مكان .. أعلن تدينك ولا تخفيه، أشهر سلوكك الإسلامي، وانتماءك الحضاري، وصبغتك الربانية، وكونك من أمة ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

محمد صلى الله عليه وسلم! عش بهذا المنطق، وبهذا الشعور واعتز به، ولا تخجل! {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، إنه مبعث الفخر إذا افتخرت الأمم بتفاهاتها المادية، وخزعبلاتها الفكرية، هذا دين رب الكون كله فاعتز به، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، تلك هي القاعدة الأولى، فاحفظها بوجدانك، فقد جعلها الله أول شرط الفلاح، فاعرف ربك وعرف به، على ما فصلنا في البلاغ الثاني من هذا الكتاب، تكن قد قلت: ربنا الله. * تبصرة: وأما القاعدة الثانية: فهي الاستقامة على قولك ربنا الله .. {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}؛ أي الالتزام بما أقررت، والوفاء بما شهدت به على نفسك، وشهد به عليك الله، والملائكة، والناس أجمعون. ذلك صراط مستقيم أقررت به، فاستقم عليه عقيدةً وسلوكاً، ظاهراً وباطناً، خوفاً ورجاء؛ تكن من الصادقين. ذلك أن الاستقامة على توحيد الله -معرفةً وتعريفاً- في ربوبيته وألوهيته، وما تفرع عن هذه وتلك، من معان رفيعة سامية، كعبادته تعالى بما له من أسماء حسنى وصفات عُلَى، إثباتاً لها، ودعاءً بها، وسيراً إليه في أنوارها .. كل ذلك وما في معناه من مقتضياته يجعلك مسلماً حقّاً، ويحقق وعد الله فيك من الأمن في الدنيا والآخرة. وبيانه كما يلي:

* تبصرة: القاعدة الثالثة: التبشير وعدم التنفير، وذلك ببناء الكلام في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ على قصد تحبيب العباد في رب العباد. إذ على ذلك ينبني مفهوم الخوف والرجاء. انظر كيف بشر الله من استقام على ذلك بالجنة وبالولاية الربانية الحقة، والنجاة من غضبه وعذابه. إنه شعور جميل جدّاً. شعور بالأمن الروحي، والسلام الوجداني، يفيض بالقلب المؤمن الصادق. إن العبد ليجد جمال الكرم الإلهي في نفسه، ونور رحمته ينبعث من صدقه، في توجهه وسيره إلى الله، مع خوفه من زوال ذلك؛ مما ينشط حركة سيره، وسرعة إقباله على ربه رغباً ورهباً. فـ (البشرى) هي أعظم ما يحب الإنسان أن يسمع في حياته. وهي أرفع منازل الدعوة إلى الله، وأرقاها غاية ووسيلة. إلا أنه معلوم شرعاً وعقلاً؛ أن البشرى لا تتحقق؛ إلا إذا لابسها خوف عدم حصول المرتجى. فالتخويف أساس لتحقيق التبشير؛ ولذلك قلما ذكر الترغيب في القرآن إلا وذكر معه الترهيب. فهما حقيقتان متلازمتان. إلا أن ضابط ذلك وجماعهما هو التحبيب. أي لا يجوز أن يُفَرِّط المرء في أحدهما، أو يُفْرِط؛ بما يؤدي إلى تنفير النفس عن المقصود، وتيئيسها من الله والعياذ بالله. بل يجب أن يكون التخويف على قدر ما يحبب العباد في رب

العباد، فهاهنا ميزان من الحكمة قل من يحسنه من الناس؛ ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في عبارة جامعة: (ويندرج الخوف والرجاء في الحب) (¬1). فاجعل التبشير بالخير في الدنيا والآخرة جوهر خطابك للناس، واجعل النذارة له مصدقة؛ حتى لا تتواكل الأنفس، وتتراخى عن أداء حق الله. واقصد إلى تعريف الخلق بالله فإنهم إن عرفوه حقّاً أحبوه؛ فتعلقوا بعبادته آنئذ خوفاً وطمعاً. ففي الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن؛ قال: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» (¬2)، وفي صحيح مسلم: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بَعَثَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذاً إِلَى الْيَمَنِ. فَقَالَ «ادْعُوَا النّاسَ، وَبَشّرَا وَلاَ تُنَفّرَا، وَيَسّرَا وَلاَ تُعَسّرَا» (¬3). ومن ألطف النصوص في هذا المعنى ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي» (¬4). فهذا رب العالمين يعلمنا أن نجعل خطاب الرحمة سابقاً في دعوتنا، ونجعل لذلك النذارة خادمة للبشارة؛ ¬

_ (¬1) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم: (1/ 124). نشر دار الكتب العلمية بيروت، تحقيق: زكريا علي يوسف. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم. (¬4) رواه البخاري.

لأن الكل مشمول بقصد المحبة. وما أجمل وصف الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، في ذلك، وهو سيد الدعاة إليه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]، فأشد الناس خوفاً من الله هو أشدهم محبة له. بهذا المنطق وجب أن تبني خطابك الدعوي يا صاح، فما تفرد النذير في موطن من الكتاب والسنة إلا لحكمة خاصة. * تبصرة: القاعدة الرابعة: الدعوة إلى الله لا إلى ذات الهيآت والمنظمات. تدبر قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]، فهو أولاً متفرع عن (القول) الأول: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وفي سياقه. فإعلان التوحيد بالتعرف على الله والتعريف به، أمر متضمن لما نحن فيه: (قول الدعوة إلى الله) فليس الداعي الحق إلى الله إلا معرفاً به؛ ولذلك كان هذا أحسن ما يعلنه العبد في طريق عبادة الله في الأرض: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا ...} [فصلت:33]، ثم هو (دعوة إلى الله) على غرار قوله في سياق آخر مما سبق بيانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فهي دعوة إلى (الله) جل جلاله وجماله، توحيداً وتفريداً وتجريداً؛ رغبة ورهبة .. فتدبر .. ! لا ضير أن تنظم عملك ضمن أي تنظيم دعوي،

ما دامت أصوله العقدية سليمة، وما دام منهجه الدعوي مستقيماً على الكتاب والسنة، ولكن احذر أن يختلط عليك الأمر، فتدعو الناس إلى التنظيم بدل دعوتهم إلى الله، فتكون قد اتخذت التنظيم آنئذ وثناً يعبد من دون الله الواحد القهار. اجعل الله غايتك على كل حال. واتخذه هدفاً لدعوتك: تتعرف عليه وتعرف به؛ تكن أحسن القائلين في الدين. اجعل تنظيمك أو جماعتك خادمة لله، ولا تجعل الله خادماً لتنظيمك أو جماعتك، واحذر! فهذا منزلق قلما يسلم منه أحد من المتحزبين. فتدبر .. ! تلك لطيفة من لطائف قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]، وقد فصلنا الكلام في هذا المعنى بكتابنا (البيان الدعوي)، معززاً بأدلته الوافية هناك، فارجع إليه إن شئت، والله الهادي إلى الحق، ولا حق سواه. * تبصرة: القاعدة الخامسة: في أن العمل الصالح أساس الدعوة إلى الله، وعلى رأسه الصلاة. ولذلك قال: {وَعَمِلَ صَالِحًا} عطفاً على إحسان القول. فلا قول حسن إلا إذا انبنى على عمل صالح، ثم انبثق عنه عمل صالح. فويل لمن ناقضت أفعاله ما أظهر للناس من أقواله. إن الاستقامة التي اشترطت على الذين قالوا ربنا الله هي هنا قد سيقت مساقاً

دعويّاً ظاهراً، بمعنى أنه يجب أن تنتبه إلى أن الداعي إلى الله يدعو بقوله وبفعله، كما أن المفتي يفتي الناس بقوله وبفعله شاء أم أبى. فسلوكه الفعلي مناط اتباع، تلك سنة الله في الخلق. فاجعل عملك صالحاً حتى تكون به مصلحاً؛ ويأجرك الله مرتين. * تبصرة: القاعدة السادسة: إعلان الانتماء لكل المسلمين، والحرص على عدم تفريق وحدتهم العامة. {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فـ (من) هذه تفيد التبعيض كما هو معلوم عند اللغويين. والمعنى أنك واحد من المسلمين، جزء من كل. فالدعوة إلى الله هي دعوة إلى الله، وانتماء عام لكل المسلمين. وفي ذلك راحة من مضايق الهيئات والجماعات، فما أجمل أن تجيب أيها الداعي إلى الله إذا سئلت: (من أي جماعة أنت؟) فتقول: (من المسلمين)! ذلك الحق من رب العالمين، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32]. * تبصرة: القاعدة السابعة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}، هذا مبدأ ثابت من مبادئ القرآن، فاثبت عليه، لا يستوي الخير والشر، لا يستوي الحق والباطل، لا يستوي المعروف والمنكر، لا يستوي الكلام الطيب والكلام الخبيث. ونتيجة

ذلك دعويّاً: لا تستوي الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، والدعوة إليه بالتي هي أخشن. لا يستوي في ميزان الله من يقرب الناس من الله ويعرفهم بجماله وجلاله، ومن ينفرهم عنه ويجهلهم بقدره، وإن ظن أنه بذلك يحسن صنعاً، فلا تغتر به! هذا كتاب ربنا واضح في المسألة وضوح الشمس في رابعة النهار. وتلك سنة نبينا قاطعة بأن المنهج الدعوي الإسلامي إنما هو ما اتسم بالحلم والأناة، والتيسير على الناس في طريق تعريفهم بحقوق ربهم. ذلك هو الحق الثابت أبداً: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}. * تبصرة: القاعدة الثامنة: دفع الشر بالخير. وهي تفسير للقاعدة السابقة، وبيان لها، وتحقيق خاص لمناطها العام: £ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، فالعلاقة بين القاعدتين، هي العلاقة بين المبدأ الكلي والتطبيق الجزئي، كما العلاقة بين المطلق والمقيد، وذلك مثلاً حيث يواجهك الخصوم في الدعوة إلى الله من أهلك وعشيرتك، أو حكومتك، أو يحاصرونك؛ فاقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تلتفت إلى غيره، إياك أن تغلبك الرغبة الجامحة في الانتقام؛ لا يستفزنك تحرشهم، ولا يثيرنك جهلهم وعنتهم، خاصة وأن مناط الأحكام في الدعوة في هذا الزمان غالب أمره أنه يتنزل في بلاد المسلمين، ويخاطب من يشهد أن لا إله إلا الله

وأن محمداً رسول الله. فكيف تنزع إلى العنف الجاهلي؟ حاشا الجهاد في سبيل الله فهو ذروة سنام الإسلام، إنك إن تفقد منهج القرآن، وتخطئ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله؛ تفقد صفة الداعي إلى الخير. والله أمرك أن تدعو إلى الخير، كما بينت لنا الآية قبل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104]، وتفقد صفة الداعي إلى الله، فلا تكون داعية إلا إلى نفسك. حذار من التشنج، حذار من الغضب لنفسك. ما دمت قد جعلت نفسك لله فاجعل الكل لله، ولا تتحرك في الدعوة إليه تعالى إلا بما تقدر أنه لله. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. تلك مقدمة مسلمة في منهج الله، نتيجتها واضحة حاسمة، هي: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. تلك هي الحكمة المذكورة بوضوح في قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]. عجيب كم ضل كثير من الدعاة -مع الأسف- عن منهج الله؛ لما هجروا القرآن إلى غيره من الأهواء، مستجيبين لردود الأفعال. ألا ما أوضح القرآن، لو يبصرون .. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر:17]، ولكن الضلال عمى. اقرأ مرة أخرى .. وتدبر: {اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي

بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ذلك هو الأصل في المنهج الدعوي، وما سواه جزئي حادث، ولكل حادث حديث. وإنما الغاية عندنا في هذا الكتاب تقعيد الأصول. * تبصرة: القاعدة التاسعة: في الصبر على الأخذ بالمنهج القرآني. ذلك أنه يحمل النفس في معاشرة الناس على ما تكره، من تحمل الأذى في الله، ودفع الشر بالخير، ودفع الجَهَلَةِ بالحكمة والموعظة الحسنة، ودفع العداء بالتي هي أحسن. كل ذلك شديد على النفس؛ لأنها جبلت على محبة ذاتها، والانتقام لها؛ ولذلك قال في القاعدة التالية: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، فدرب نفسك على الصبر حيث يجب الصبر، وعلمها كيف تكبح جماحها؛ حتى لا ترد الجهل بالجهل، والشر بالشر؛ فتزيغ عن الصراط المستقيم. * تبصرة: القاعدة العاشرة: الحذر من الشيطان. وهاهنا لطيفة من اللطائف، ذلك أن بعض المسلمين قد يغيب عنه في فتنة الانغماس الاجتماعي؛ أن الشر من الشيطان. حقيقة كبرى قد تنسى .. اذكر هذا جيداً وجدد إيمانك به. إن الشيطان

الملعون خلق من خلق الله، بل هو شر خلق الله، خلقه لحكمة الابتلاء، إنه ليس وهماً ولا خيالاً، إنه حقيقة، إنه يسعى لتضليل عباد الله، وأنت واحد ممن يستهدفه الشيطان بغوايته، وكل الناس معرض له. فتدبر .. يجب أن تعرف الشيطان وحيله الخبيثة، فالمؤمن الكيس الفطن هو من يسأل عن الشر مخافة أن يلحقه، فاسأل عنه حتى تعرفه. فإنك إن تجهل به تقع في أحابيله. والله عز وجل عرفنا به في غير ما آية من القرآن، فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]. وقال عز وجل في وجوب اتخاذ الشيطان عدوّاً: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وقال: {لَّعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا. وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا. يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا. أُوْلَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:118 - 121]. اعرف عدوك تنتصر عليه! اعرف الشيطان؛ حتى تعرف طبيعة العلاقة بينه وبين

المسلم عموماً، وبينه وبين الداعية إلى الله خصوصاً. إنك إذ تدعو إلى الله تقوم بهدم ما بناه إبليس اللعين؛ فتزداد عداوته لك أضعافاً مضاعفة، ولكنك إن اعتصمت بالله واستعذت به لن يصل إليك، فلا سلطان له على عباد الله الصالحين. إن أسهل ما يمكن أن يزرعه في قلبك هو أن يشغلك بالحسن دون الأحسن، فإذا استجبت له نزل بك دركة، فدركة؛ حتى يجعلك من الغاوين، ومن هنا قال عز وجل من بعد ما أرسى قواعد المنهج الدعوي: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]، لقد كان السياق في الحض على الصبر، والثبات على منهج الدفع بالتي هي أحسن، وعدم الاستجابة لاستفزاز خصوم الدعوة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، فقال بعد ذلك مباشرة: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فجاءت القاعدة العاشرة في الاستعاذة من نزغ إبليس اللعين؛ خاتمة للقواعد العشر، في المنهج القرآني للدعوة؛ حتى يستشعر الإنسان استقامة ما هو عليه من صراط، وصواب ما سار عليه من سبيل، وأنه ماض في ذلك على بصيرة يدعو إلى الله. فمهما حصل من اختلال طارئ، أو ابتلاء سابق؛ فاثبت على منهجك لا تغير ولا تبدل، ما دمت تنهل من القرآن، كتاب

الله رب العالمين. وكلما ألقى الشيطان في روعك من الوساوس ما ألقى؛ {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. تلك بلاغات القرآن العملية التي رسمها الله لعباده صراطاً مستقيماً، فما بقي الآن إلا ضابطها العام، وقانونها الكلي؛ لضمان توقيعها في واقع الحياة بصورة نموذجية؛ سيراً إلى الله وسلوكاً إليه تعالى، وهو البلاغ السادس. ***

البلاغ السادس: في اتباع السنة؛ تزكية وتعلما وتحلما

البلاغ السادس في اتباع السنة؛ تزكيةً وتعلُّماً وتحلُّماً لا سبيل إلى كل ما ذكر من بلاغات قرآنية؛ إلا عن طريق اتباع المبلِّغ: محمد بن عبد الله، رسول الله إلى العالمين، هذه عقيدة، بل أصل من أصولها الكبرى، وكلي من كلياتها العظمى، لا استقامة لشيء من ذلك كله إلا به، وإن شئت فقل: هذا هو البلاغ القرآني الجامع، والضابط الكلي المانع. قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، وقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31،32}. والنصوص القطعية في هذا المعنى كثيرة. فها أمر لا يماري فيه إلا جاهل بحقيقة الإسلام، أو من لا إيمان له به أصلاً.

فإذن؛ كل حديثنا مما كان قبلُ؛ لا يمكن تحقيق مناطه، وتصور تطبيقه إلا من خلال السنة النبوية. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا واضح وضوح الآيات: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1). لا نقاش في هذا، وما هو بحاجة منا إلى تقرير أو تحرير. وإنما الحاجة في بيان طبيعة الاتباع للرسول عليه الصلاة والسلام: كيف؟ هذا الذي تخبط فيه كثير من الناس. وهذا هو مربط الفرس، وبيت القصيد. كيف نتبع السنة؟ وكيف نتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ ذلك أن كثيراً من المتدينين اليوم يسيء للسنة من حيث هو يزعم أنه متبع للسنة، ويحارب السنة من حيث هو يظن أنه ينافح عن السنة. وتلك أم المصائب؛ إذ يصنع الإنسان عكس ما يعتقد أنه يصنعه، لقد اقتصر كثير منهم في السنة على منهج التعلم دون التزكية والتحلم، فضلوا وأضلوا .. تدبر قول الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164] وقوله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

تبصرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته القرآن على المؤمنين، ومدارسته معهم؛ يقوم بعمليتين اثنتين لا واحدة: (التزكية والتعليم)، فاقرأ الآيتين وتدبر .. فعجباً، كيف فهم بعضهم من اتباع السنة والتأسي بها مجرد استظهار بعض الأحاديث، دون الرحيل إلى أخلاقها والتزكي بمقاصدها، والانتقال إلى منازلها؟ أما التعليم: فهو للحلال والحرام وسائر أحكام القرآن وفقه السنة، وأما تعلم ما تحصل به الكفاية من ذلك لعبادة الله، والالتزام بحدوده؛ فهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، في كل ما يهمه من شؤون العبادات والمعاملات. وأما التزكية: فهي التطهير للنفس والتربية لها، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9،10]، فالرسول الكريم كان حريصاً على تطهير صحابته من الأهواء، والارتقاء بهم عبر مدارج الإيمان، إلى ما هو (أحسن عملاً)، من مثل قوله لعبد الله بن عمر: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) (¬1). وانظر -رحمك الله- كيف ذكر (التزكية) قبل (التعليم) في الآيتين، مع أنه لا تزكية بغير تعليم ابتداء، على ما ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم من ¬

_ (¬1) متفق عليه.

صحيحه قال: (باب العلم قبل القول والعمل)، وقد تقدم ذكر التعليم على التزكية -بناء على الأصل- في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:129]. صحيح أن العطف بالواو -في الآيات كما هو في العربية- لا يفيد الترتيب، لكن التقديم والتأخير في البلاغة يفيد الأهمية؛ ومن هنا جاءت التزكية في الآيتين الأوليين مقدمة على التعليم؛ من باب ذكر المقاصد قبل الوسائل؛ لشرف الغاية وعلوها؛ وحتى لا يفتتن السائر بالوسيلة عن الغاية؛ فيضل عنها، ويكون من الخاسرين. تقول لي: وما بال التحلم؟ أقول: ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما عَلَّم ولا زَكَّى إلا بحِلْم، فهو الخاصية العظمى لمنهج التعليم والتزكية لديه صلى الله عليه وسلم، كما سترى بحول الله. والحِلْمُ: الرزانة والكياسة والرحمة والأناة، وهو ضد الجهالة والسفه، والتَّحَلُّمُ: تخلق الحلم، وتكلفه؛ حتى يصير لك خلقاً. ومعنى (اتباع السنة تحلماً): التخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ أي في حلمه، وصبره على جهالة الناس، وسفههم. قال عليه الصلاة والسلام: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم. ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه» (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في الأفراد عن أبي هريرة، ورواه الخطيب البغدادي عنه، وعن أبي الدر داء، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2328).

تبصرة: إن الاتباع العام للرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، إنما مفتاحه التحلم بحلمه. وهذا -من حيث المعنى- في كتاب الله، ألم تقل عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن)؟ (¬1)، فالعود إذن للقرآن، نبحث فيه عن معنى الاتباع ومفهوم التأسي، الآية واضحة ظاهرة لكل ذي قلب شهيد، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وإنها لآية عظيمة، وحكمة بالغة، وصراط مستقيم. تدبر هذه العبارة الربانية: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فأما الأسوة: فهي التَّخَلُّقٌ. فالتأسي: اتباع السيرة، والتخلق بما كان عليه المتأسَّى به من خلق عام، والخلق هنا هو كل الأوصاف التي كان يوصف بها في سلوكه وعمله، عدا الأوصاف الجبلية، التي لا يمكن اكتسابها بالتأسي ولا بغيره، ووصف الأسوة بـ (الحسنة) دليل على علو شأن الخلق النبوي، وكمال سيرته وسلوكه العام والخاص، فهو لذلك كان أرقى نموذج بشري للتأسي والتخلق، أليس هو (رسول الله) المصنوع على عين الله، والمتأدب بأدب الله؟ بلى والله، فإذن من هاهنا يبدأ التأسي والاتباع، ومن أخطأه هذا المدخل للسنة النبوية فقد أخطأها كلها؛ إذ أتى البيوت من غير أبوابها. ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

وتلك شهادة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، تلك هي الأسوة الحسنة؛ ولذلك قال بعد: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]؛ إذ الخلق الحسن هو باب العمل الصالح، وسبب قبوله، فليس عبثاً أن يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله العجيب: (ليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن) (¬1)، وقوله في نحو هذا أيضاً: (إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة) (¬2). ولذلك فإنه: (لا يكون المؤمن لعاناً) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬3)، وقال لعائشة أم المؤمنين؛ إذ استغربَتْ منه أنه دارى أحد الناس ممن يكره: (يا عائشة! متى عهدتني فحاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) (¬4). والقصة كما في صحيح البخاري أنه (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة! أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. قلت: يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟) فقال لها صلى الله عليه وسلم ما قال. قلت: هذا حديث تشد إليه رحال القلوب، {لِمَنْ كَانَ لَهُ ¬

_ (¬1) رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5390 و 5721. (¬2) رواه البزار بسند صحيح: صحيح الجامع الصغير: (1578). (¬3) رواه الترمذي، وصححه صاحب صحيح الجامع الصغير: (7774). (¬4) متفق عليه.

قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، وإنه والله سر حُسْنِ الأسوة، وجمالها في رسول الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة» (¬1). ذلك خلق رسول الله، ذلك خلق القرآن، وهو قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]، ألا ما أحوج الناس اليوم عامة، والدعاة منهم خاصة إلى استيعاب هذا البلاغ القرآني العظيم، ألا وإن من أجهل الجهالات وأقبحها ما بدر من بعضهم -في زماننا هذا- من دفاع وتأصيل للخشونة في الدعوة، والتعنت في الدين! فتعلم من السنة أخي الداعية أخلاق النبوة؛ تكن بإذن الله من الراشدين! ذلك خلقه صلى الله عليه وسلم الجامع المانع؛ قاطع لكل عبث؛ ومن هنا جعلنا عنوان هذا البلاغ الضابط لكل ما قبله: (في اتباع السنة تزكية وتعلُّماً وتحلُّماً)؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث معلماً ومزكياً، وكان كل ذلك منه على منهج الحلم والرأفة والرحمة والأناة، فصلى الله عليه وسلم من نبي حليم، ورسول كريم! ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

تلك أصول البلاغ القرآني كتاباً وسنة، فما بقي لي ولك إلا تحقيق المناط، والدخول في الرباط، وذلك هو فقه الدين منزلاً على وفق الزمان والمكان، وهو بيان كيف العمل؟ وكيف الانطلاق؟ وكيف السير إلى الله؟ سلوكاً ودعوة، فرادى وجماعات، تلك أسئلة جمعنا جوابها في مفاتيح ثلاثة، هي خلاصة البلاغ السابع والأخير من هذه الرسالة. ***

البلاغ السابع: في المفاتيح الثلاثة

البلاغ السابع في المفاتيح الثلاثة لا فائدة لحكم ليس يتحقق له مناط مطلقاً في حياة الإنسان، وإنما جاء الدين ليكون حركة إنسانية في الزمان والمكان، لا نصوصاً تتلى فقط، ولا قصصاً تحكى فحسب، وإنما الأمانة التي حملها الإنسان عَمَلٌ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105]. والإسلام لما بيَّن بلاغاته للناس بين لهم -فيما بين لهم- وسائل الوصول إليها، وطرائق اكتساب صفاتها، فجعل لكل أصل عملاً، ولكل عمل باباً، ولكل باب مفتاحاً. تبصرة: ومدار باب الخروج إلى العمل على ثلاثة مفاتيح، هي أصول لما سواها، نَسُكُّها في العبارات التالية:

المفتاح الأول: اغتنام المجالسات

- اغتنام المجالسات. - والتزام الرباطات. - وتبليغ الرسالات. وبيان ذلك هو كما يلي: * تبصرة: فأما المفتاح الأول فهو اغتنام المجالسات: وهو أن تحرص على (مجالس القرآن) وهي خير أنواع (مجالس الذكر)، التي تضافرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها محبوبة عند الله، مذكورة في ملئه الأعلى، تشهدها الملائكة، وتنزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، ويذكرها الله في من عنده، وليس شيء أفيد منها في تربية الإنسان المسلم على الصلاح والفلاح، وهي من أهم الوسائل التربوية التي لا غبش فيها ولا غبار، من حيث استنادها إلى الأدلة المتواترة بالمعنى، عبر الأحاديث الوفيرة المستفيضة، نذكر منها الحديث المشهور، الذي رواه أبو هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والذي فيه: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

وكذلك الحديث المتفق عليه، الذي رواه أبو هريرة أيضاً، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض، «فضلا عن كتاب الناس»، يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجاتكم! فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك. فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة. فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها. فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها. فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة. فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم! فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة! فيقول: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم!» (¬1) والأحاديث في هذا المعنى كثير. تبصرة: وتوسلاً إلى تحقيق مناط ذلك نسمي «مجالس ¬

_ (¬1) متفق عليه.

القرآن» مساهمة في تصحيح ما انحرفت إليه بعض الحركات الإسلامية، حيث تحولت مجالسهم التربوية، إلى اعتماد كتاب فلان، أو علان، من التآليف الفكرية البشرية؛ منهاجاً للدين والتدين. وهذا خطر كبير قد بيناه من قبل (¬1)، إذ بسببه يصيب الدعوات ما يصيبها من أنانية، وذاتية، وشركية نفسية في كثير من الأحيان. إن التربية الدعوية لا يمكن أن تستقيم على التوحيد الاعتقادي والعملي والوجداني؛ إلا بالتعلق المصدري بكتاب الله وسنة رسول الله في المجال التربوي، بالنسبة للمربي والمتربي سواء. فتدبر .. ثم أبصر! وقد تبين مما سبق أن عملنا يقوم على منهج واضح وبسيط: الاعتصام بالقرآن آية آية؛ مصدراً أول للتدين، والدعوة إليه، والاعتصام بالشمائل المحمدية نموذجاً أعلى للتطبيق. فهو قسمان، وكلاهما يجب أن تترجمه (مجالس القرآن)، وبيان ذلك كما يلي: تبصرة: القسم الأول: اُسْلُكْ نفسَكَ وصاحبك في مجلس من (مجالس القرآن)، وسِرْ من خلالها إلى الله. لا تهتم كثيراً -في هذا الشأن خاصة- بالتنظيمات والجماعات، فما نحن فيه أعم -من وجه- بكثير مما هي فيه، وهما أمران لا يتعارضان. ¬

_ (¬1) انظر التوحيد والوساطة في التربية الدعوية للكاتب، الجزء الأول، نشر وزارة الأوقاف القطرية ضمن سلسلة كتاب الأمة. العدد: (47).

ولكن لا تنس (مجالس القرآن)، فذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين صحابته صفات الصلاح، ومقومات الإصلاح. تعلم من القرآن مباشرة دعوة الخير: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104]. تتبع منهج القرآن كما عرضه القرآن: التلاوة، والتعلم والتعليم، والدراسة والتدارس، ثم التدبر؛ عسى أن تكون من المبصرين. فاجعل مجلسك القرآني على هذه الفقرات الأربع، المؤصلة في كتاب الله وسنة رسول الله. وبيانها كما يلي: 1 - فأما التلاوة: فبركة وزكاة في نفسها، فقد ثبت الأجر -كما بيناه قبل- على كل حرف تتلوه من القرآن، فلا تنس هذا، والله عز وجل أمر بالتلاوة للقرآن في غير ما آية. قال سبحانه: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر:29]، وقال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113]. وقال تعالى: {وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4]، ثم قال: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنَ} [المزمل:20]. وفي الحديث الصحيح: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران» (¬1). ¬

_ (¬1) متفق عليه.

فاقرأ كما استطعت وتعلم؛ كي تتزكى، فقد رأيت أن التلاوة بدء فعله صلى الله عليه وسلم من التزكية والتعليم، كما مر في قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]، فالتلاوة نور في نفسها. إنها -لو أبصرتها حقّاً- صلة مباشرة برب العالمين؛ ذكراً ومناجاة، إن العبد التالي لكتاب الله متكلم بكلام الله، وهذا وحده معنى عظيم في نفسه، فتدبر! وهو يمهد القلب ويهيئه للخطوات التربوية التالية. 2 - وأما التعلم والتعليم: فهو لأحكامه كما ذكرنا، وهو يكون بتحصيل العلم للنفس وتلقينه للغير؛ وذلك لقول الله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. فقد قُرِئَتْ (تَعْلَمُونَ) و (تُعَلِّمُونَ) فهي عملية مزدوجة، الجمع بين شقيها أولى: التعلم والتعليم، وأقل ذلك يا صاح أن تكون أحَدَهما: معلماً أو متعلماً. بيد أن العلم هاهنا إنما هو ما أفاد العمل. على قاعدة علماء مقاصد الشريعة: أن (كل علم ليس تحته عمل فهو باطل)، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً» (¬1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله لم يبعثني ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن كما في صحيح الجامع الصغير: (1609).

معنتاً ولا متعنتاً؛ ولكن بعثني معلماً ميسراً» (¬1). أي: معلماً أعمال الخير والصلاح للعالمين. 3 - وأما الدراسة والتدارس: فهو تتبع وجوه المعاني والدلالات للمقاصد والغايات، من كل آية وسورة، ويجمع الثانية والثالثة -أعني: (التعلم والتدارس) - ما ذكرنا من قوله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، ويجمع المراحل الثلاث كلها: (التلاوة والتعلم والتدارس) ما جاء عَنْ أنسِ بنِ مالك قال: جاء ناس إلى النبِي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رِجالاً يعلمونا القرآن والسنة. فبعث إليهِم سبعين رجلاً من الأنصارِ، يقال لهم القراء. فيهِم خالِي حرام. يقرؤون القرآن، ويتدارسون بِالليلِ يتعلمونَ) .. الحديث (¬2). فالتدارس هو أساس التعلم كما في هذا الحديث، إذ لا علم إلا به، فأنت تبحث عن وجوه المعاني وتتدارسها؛ لتتعلم أحكامها ومقاصدها، وذكر التدارس أيضاً في الحديث السالف الذكر، من قوله عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه مسلم.

إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (¬1). 4 - وأما التدبر: فهو -كما سبق بيانه- أنك إذ تقرأ الآيات، وتدرس، وتتعلم؛ تنظر إلى مآلاتها، وعواقبها في النفس وفي المجتمع؛ فتبصر حقائقها الإيمانية إبصاراً؛ فتكتسب بذلك من الصفات، ما يعمر قلبك بالإيمان، ويثبت قدمك في طريق المعرفة الربانية، ونحو ذلك من المعاني، مما فصلناه قبل في محله، فلا حاجة لتكراره. ذلك كله هو أساس التزكية، ومقياس التصفية، ومنهاج التربية، وسلم العروج إلى رضى الرحمن، فاقرأ القرآن، وتدارس، وتعلم، وتدبر ثم أبصر! حتى يأتيك اليقين. فاصبر على هذا المنهج؛ فإن كل آية تسلمك إلى الأخرى، وتفتح لك باب أسرارها وأنوارها، فتتبع مسالك النور حتى تصل، إن شاء الله. ذلك هو الاعتصام بكتاب الله، وأما الاعتصام بالشمائل المحمدية نموذجاً أعلى للتطبيق؛ فهو: تبصرة: القسم الثاني: وهو أن تتبع معالم سَيْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ذلك، وهي مبثوثة في كل كتب السنة وعلومها، إلا أن أجمع علوم السنة الموضوعة لبيان هذا المنهج؛ هو ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

المفتاح الثاني: التزام الرباطات

(علم الشمائل المحمدية): وهو علم يبحث في صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخِلْقية والخُلُقِية، وكيفية سيرته مع ربه، وسيرته في نفسه، وفي أهله، وفي أصحابه والناس أجمعين. وإن ذلك لهو القرآن كله مطبقاً، والإسلام كله حيّاً متحركاً. فادرس من الكتب في ذلك ما شئت ولا حرج، أو اجمع نصوصه من حيثما شئت ولا حرج، وإنما الشرط أن تتحرى الصحة في الخبر، ويكمل بذلك ما أردناه من معنى: (مجالس القرآن)، التي كانت هي مجالس الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك هو المفتاح الأول. تبصرة: وأما المفتاح الثاني فهو التزام الرباطات: وإنما القصد بالرباطات بيوت الله حيثما كانت. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38]. ذلك ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرباط)، في الحديث الذي رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بَلَى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة،

فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» (¬1) فتدبر .. ثم أبصر! وإنما (الرباط) له دلالة جهادية في القرآن والسنة، وذلك هو المفهوم من فعل (رابط) المأمور به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]؛ فقوله تعالى: (رابطوا) معناه -كما في سائر التفاسير- صابروا على ملازمة ثغور الجهاد؛ لمراقبة العدو، والتصدي لغاراته، وحراسة المسلمين. ولذلك فقد أورد الإمام البخاري هذه الآية في كتاب الجهاد والسير من صحيحه، في ترجمة (باب: فضل رباط يوم في سبيل الله، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} الآية). وأورد فيه الحديث الذي أخرجه مسلم أيضاً؛ عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها» (¬2). في هذا السياق الجهادي إذن استعمل النبي صلى الله عليه وسلم لفظ (الرباط)؛ للدلالة على التزام المساجد، والارتباط بندائها؛ فقال: «فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» ¬

_ (¬1) رواه مالك في موطئه، ومسلم في صحيحه. (¬2) متفق عليه.

هكذا ثلاث مرات، كما خرجناه قبل، وفي ذلك ما فيه من الدلالة العظيمة على امتداد (التربية الجهادية) من المسجد إلى الثغر، وفيه دلالة واضحة على أن ربط القلب بثغور العدو؛ قبل ربطه بثغور المساجد؛ إنما هو قلب لميزان الجهاد ومفهومه في الإسلام، وتفريغ له من محتواه، فمن انهزم عن حصون الجوامع لا يمكنه أن ينتصر بحصون المدافع، تلك سنة الله التي سنها في عباده (المبعوثين) لتجديد الدين عبر الزمان: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43] فتدبر .. ثم أبصر! وإنما يقاس مدى نجاح تربيتك في المجالسات بمدى التزامك برباط الصلوات، ومن أخطأ هذا الميزان في التقويم التربوي الدعوي فقد أخطأ الحق كله! ونصوص القرآن والسنة في ذلك واضحة جدّاً. بل هي بمجموعها دالة على القطع مبنىً ومعنىً، وقد سبقت في ذلك آية سورة النور، وحديث الرباط، لكنا مع ذلك نورد بعض النصوص الأخرى، الدالة على تهافت من شرد عن المساجد وجماعاتها، وإن كان من المصلين، وفي جهنم واد لبعض المصلين أيضاً! نعوذ بالله منها. فعَنْ عَبْدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بِهِن، فإِن الله شرع لنبِيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإِنهن من سننِ الهدى، ولو أنكم صليتم فِي بيوتكم

كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبِيكم لضللتم، وما من رجلٍ يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد؛ إلا كتب الله له بِكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بِها درجة، ويحط عنه بِها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق، معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.) (¬1). فتدبر .. ثم أبصر! فيا عجباً لنابتة من الإسلاميين -زعموا- برعوا في تنميق العبارات، والخطب السيارات؛ وحظهم من الصلاة ضئيل! وخطوهم إلى مساجدها قليل! فإن اضطروا إلى ذلك فهو خطو ثقيل! قد كاد ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً. مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء:142 - 143]. فأنى يرجى للأمة صلاح على أيديهم؟ كيف وقد سبق السابقون، المشاؤون بنور الله في الظلم، إلى المرابطة كل فجر بالصف الأول؟ وبقيت فلول المثقلين بتلبيس إبليس تغط في دفء الأحلام، وخيالات (التغيير الحضاري)! وحادي الدعوة إلى الله ينادي حزيناً: ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

مَا لِلْجِمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدَا ... أَجَنْدَلاً يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدا؟ فانظر ما أشد قول النبي صلى الله عليه وسلم في المتخلفين عن جماعات الجوامع، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر! ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً! ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة؛ فأحرق عليهم بيوتهم بالنار!» (¬1). وروي عنه أيضاً بصيغة أخرى صحيحة: قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة ليؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال؛ فأحرق عليهم بيوتهم! والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين؛ لشهد العشاء!» (¬2). رباط المسجد هو المدرسة الأساس للدعوة الإسلامية، منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلى عهد كل من سار على سنته في تجديد الدين، ذلك المنهج الذي إن فاتك -يا عبدُ- فاتك الخير كله! وتلك دولة (المرابطين) في تاريخ المغرب الأقصى (430 هـ إلى 541 هـ)، إنما قامت يوم قامت على منهج ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) رواه البخاري ومالك في موطئه.

تكوين الرباطات؛ انطلاقاً من أول رباط أنشؤوه بإحدى جزر المحيط الأطلسي بالجنوب المغربي، قرب شنقيط. فمن هنالك شرع داعيتهم الأول عبد الله بن ياسين -وكان من المبصرين- في تربية الناس على شيء واحد لا ثاني له: الصلاة! وكانت له عقوبة تعزيرية عجيبة لمن تأخر عن الجماعة بالرباط، إذ كان يجلد المتأخر بكل ركعة عشر جلدات! وهم راضون بذلك مقبلون عليه باختيارهم! فما كان له أن يلزم الناس بالمرابطة معه في رباطه التربوي قبل التمكين، حتى إذا بدا له من صلاحهم ما جعلهم -في نظره- أهلاً لبناء الإسلام، ونشره بين الناس؛ خرج من رباطه؛ يفتح بهم المدن والقرى، وينشئ لكل بلدة فتحها مسجداً؛ يجعله لأهلها رباطا للتربية والتعليم! استصحاباً للمنهج التربوي النبوي، الذي به ضمان الاستمرار على النصر والتمكين. وبذلك مكن الله للإسلام في المغرب إلى الأبد، ذلك أنه رغم ما كان من دولة الأدارسة قبل المرابطين؛ فإن الإسلام لم يتجذر حقيقة في كل القبائل الأمازيغية، إذ يتحدث المؤرخون عن بقاء الوثنية، ديناً مستمراً في كثير من الجبال والصحاري! ومن كانوا على الإسلام كانوا على انحراف شديد، وقد وجد عبد الله بن ياسين مسلمي قبائل الصحراء يتزوجون أكثر من أربع نسوة، فجعل الله من دولة المرابطين

التمكين الحقيقي للإسلام في البلاد المغربية مطلقاً، حتى إذا زالت دولتهم -كما تزول الدول- بقي الإسلام ممتداً، متجذراً بالمغرب، أصله ثابت وفرعه في السماء، إلى يوم القيامة إن شاء الله. فتدبر .. ثم أبصر! تبصرة: (التزام الرباط) إذن؛ هو تمام صلاح العبد وتصديقه، وإن (جلوساً) للذكر والتدارس، دون التزام الأوقات بالرباطات؛ لهو أشبه ما يكون بعملية ملء الإناء المثقوب؛ لا يكاد يمتلئ حتى يكون من الفارغين! فانظر لك أصحاباً من حيك وناديك؛ ثم اجعل لك -معهم- من مسجدكم الجامع رباطاً؛ تكن من الصالحين، ومن أهل البعثة المجددين، ذلك هو المفتاح الثاني، فجرب ترَ! وتدبر .. ثم أبصر! تبصرة: وأما أنتِ أيتها الأخت المؤمنة، فلا نلزمك بما لم يلزمك الله به، وقد كفاك رسول الله صلى الله عليه وسلم رباط المساجد. وإنما فلكك السيار هو هذه الصلوات بمنازل الأوقات، بيد أنَّا محدثوك عن رباطك الخاص، ألا وهو جلبابك الشرعي. ذلك هو رباطك الذي فرضه الله عليك فرضاً، إذ أنزل فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:59].

فجلبابك الضافي، الساتر الوافي، هو عنوان تقواك وورعك، وراية انتمائك لأمتك، به تعرفين من دون العاريات، فلا يصل إليك الأذى بإذن الله. ذلك منطوق الآية العظيمة، فتدبري .. ! {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]؛ أي أنه تمييز لك، ورفع وتكريم، وتنزيه أن تشتبهي على الساقطين بالساقطات! خاصة في زماننا هذا، حيث صار جسد المرأة سلعة معروضة في سوق العولمة الدولي، وإنما (العولمة): هي حركة تهويد العالم، حركة صارت المرأة فيها جسداً بلا روح، جسداً للاستهلاك الجنسي الساقط، ملء شوارع العالم، وتلفزيوناته. أيتها المسلمة! إنك مسلمة، فتستري! ادخلي رباط الصلاح والفلاح، واجعلي عفافك عنوان هويتك! كذلك يقول دينك العظيم، فقولي ملء العالم كله: (أنا محجبة إذن أنا موجودة!) وإلا فعلى دينك السلام! قال جل وعلا في تفصيل أحكام ذلك: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ

بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. هذا حكم الله، وهو حكم من الرتبة التشريعية الأولى، قوته الإلزامية تأبى التأويلات الفاسدة، والتحريفات المغرضة؛ ولذلك أنذر النبي صلى الله عليه وسلم العاريات إنذاراً رهيباً، فقال صلى الله عليه وسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النّارِ لَمْ أَرَهُمَا؛ قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلاَتٌ مَائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإنّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) (¬1). ذلك الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [يونس:32]. قلت: ذلك حكم الله، لمن رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً ورسولاً، فتدبري -بنيتي- هذه الآية العظيمة ثم أبصري! قال الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. اقرئيها ثم اقرئيها ... ! وتدبري ثم أبصري! اليوم تدور حرب حضارية كبرى، هذا قدر زماننا، فإما أن نكون فيه -كما يجب أن نكون- أو لا نكون! العري هزيمة! والعفاف خطوة كبرى في طريق الانتصار، ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

ومن هنا جاء فرض الحجاب في القرآن، وفي القرآن نفسه قبل سواه، وما نزل القرآن بحكم إلا كان أمراً جليلاً، وعزماً مبيناً، وكان هتكه جرماً عظيماً. فالستر يا بنيتي -لو تبصرين- جمال وجلال. لباسك الشرعي أيتها الأخت المؤمنة هو -مع كل ما ذكر بهذه الرسالة مما سوى المسجد- ميزان وفائكِ العهدَ مع الله، ومدى التزامك بميثاقه. فتكاليف الدين ليست خاصة بالرجال، بل هي عامة في النساء والرجال على السواء، كل ما عليهم عليك، وكل ما لهم لك، إلا ما استثناه الدليل، قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض} [آل عمران:195]، إن الدين عهد، وإن الإسلام بيعة، تعلقت بأعناق المسلمين من الرجال والنساء جميعاً، فإما وفاءً، وإما نقضاً والعياذ بالله! ويوم الحساب الكوني قريب! ومن هنا كان لباسك الشرعي -بنيتي- يشكل جزءاً جوهريّاً من (بيعة النساء)، كما جاء مفصلاً في حديث عبد الله بن عمرو قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم: «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى!» (¬1)، ذلك ¬

_ (¬1) رواه أحمد والطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات.

المفتاح الثالث: تبليغ الرسالات

عهد الله، فهل وفَّيْتِ؟ وذلك ميثاقه الذي واثَقَكِ به فهل صدقتِ؟ لباسك رباطك بنيتي، فنجاح بلاغات القرآن على يديك التزاماً ودعوةً؛ إنما هو به ومن خلاله، فانطلقي سيراً إلى الله طوعاً! واعتصمي ببصيرة الصبر العظيمة، وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. فلباسك الشرعي، أي: جلبابك الفضفاض، الذي لا يصف ولا يشف، إنما هو راية دعوة وجهاد لو تعلمين! إنه ناطق بكثير من المعاني، إنه يعلن للعالمين أن المرأة المسلمة ليست مجرد جسد للتجارة، في أسواق السياسة والإعلام! إنها نفس إنسانية تَسْبَح في فلك الأمانة الكونية التي حملها الإنسان، تؤدي وظيفتها الحقيقية، عمارة في الأرض على المنهج الرباني، والتكليف الرسالي، تحمل بلاغات القرآن، في طريقها إلى الله، سائرة على أثر الأنبياء والصديقين والشهداء، من القرآن إلى العمران. تبصرة: وأما المفتاح الثالث فهو تبليغ الرسالات: وتبصرة هذا المفتاح هو: جواب (كيف البلاغ؟) أما تأصيله فقد سبق تقريره بقواعده، في تبصرة البلاغ الخامس، من بلاغات الرسالة القرآنية، وذلك ما جعلناه (في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

تبصرة: كيف البلاغ؟ ليس البلاغ اليوم في المسلمين بلاغ (خبر) هذا الدين، فذلك أمر قام به الأولون، وما بقي اليوم صقع في الأرض لم تبلغه قصة الرسالة الإسلامية، على الجملة، ثم إنما المقصود بمشروعنا هذا هو دار الإسلام، هذا العالم الإسلامي الذي لان فيه التدين، وضعف فيه التمسك بالكتاب، مع أنه يتلوه -أو يتلى عليه- كل حين. إنما المسلمون اليوم في حاجة إلى (إبصار)، إبصار الحقائق القرآنية التي تتلى عليهم صباح مساء، وهم عنها عمون، على نحو ما وصف الله سبحانه في قوله: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، وقوله سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105]. فالبلاغ الذي نحن في حاجة إليه إنما هو بلاغ (التبصير)، لا بلاغ التخبير. وأما مادته فما ذكرناه من أصول الرسالة القرآنية، وبلاغات القرآن: من اكتشاف القرآن العظيم، والتعرف إلى الله والتعريف به، واكتشاف الحياة الآخرة، واكتشاف الصلوات وحفظ الأوقات، وحقيقة الدعوة إلى الخير، وحكمة اتباع السنة؛ تزكيةً وتعلُّماً وتحلُّماً، ومفاتيح ذلك كله في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما وسيلته فأصول وفروع، أما الفروع فلا تنحصر،

وإنما الشرط فيها عدم نقض أصولها، ومعلوم في قواعد الأصول أن (كل فرع عاد على أصله بالإبطال فهو باطل). وأما الأصول فأحسب أن مدارها على أمرين: سقي وتجذير. وقد سبق لنا بيانهما في ورقتنا الدعوية: (نظرية السقي المِرْوَحي والتجذير المتعدد الإنبات) (¬1)؛ والمقصود بالسقي المروحي: استعارة حركة آلة السقي المروحية في المجال الزراعي، التي ترش الماء على المزروعات بصورة شمولية، ترش على كل ما حولها من جميع جهاتها، في حركة دائرية دائمة، وذلك هو حال المؤمن في حركته الدعوية، يدور مع كلمة الخير حيث دارت، يسقي بها كل من لقيه في طريقه، وكل من اتصل به، في أي ظرف من الظروف، (يبَصِّر) الناس بحقائقها؛ واعظاً، وخطيباً، ومتحدثاً، ومحاوراً، ومناقشاً، ومناظراً، وكاتباً، وقائماً، وقاعداً، وراجلاً، وراكباً، وفي المسجد، وفي السوق، وفي المكتب، وفي الجامعة، وفي المدرسة، وفي المستشفى، وفي الشارع ... إلخ. فلا يزال مستنيراً بقاعدة القرآن: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، ذلك سقي مروحي. ¬

_ (¬1) تلك كانت ورقة دعوية سبق لنا إعدادها بعنوان: (نظرية السقي المِرْوَحي والتجذير العشري)، طلباً للعدد: «عشرة» في تنظيم جلسات التربية لمقاصد حركية، ثم عدلنا عنه لما تبين لنا من ضرورة تأميم الدعوة من جهة، ومن أن حصر العدد في عشرة فيه نوع من التحكم غير المشروع؛ فعبرنا بـ (التجذير المتعدد الإنبات) بإطلاق، وإنما الموفق من وفقه الله.

وأما التجذير فهو غرس جذور المقبلين على الخطاب القرآني وبصائره، المستزيدين من حقائقه. وإنما التجذير المفيد هاهنا هو (التجذير المتعدد الإنبات)، ذلك أن جذور النبات والشجر على نوعين: نوع مقتصر في وظيفته على نبتة واحدة، أو شجرة واحدة؛ إمداداً عموديّاً بالماء والغذاء، ونوع ثان له طبيعة متكاثرة متناسلة، بحيث تتعدى وظيفته إمداد شجرته أو نبتته؛ إلى إنبات شجرة أخرى جديدة، أو إخراج نبتة أخرى جديدة، بصورة أفقية، تتكاثر شجراً، أو نباتاً متناثراً هنا وهناك، فمثال ذلك في الشجر: القصب والصفصاف ونحوهما، ومثاله في النبات: النجم البري، وكذلك النجم الرومي الذي تزين به اليوم الحدائق العامة. فمثل هذه الأشجار والنباتات بمجرد ما تضع لها في التربة جذراً واحداً وتسقيه بماء حتى يقوم بوظيفتين: الأولى أنه ينبت نبتته الخضراء، والثانية: أنه يسرح تحت الأرض ليفتق التربة في مكان آخر، بنبتة أخرى جديدة. ويتكاثر ذلك بصورة متوالية؛ حتى يخضر المكان كله، ويفيض بالنبات، أو الشجر، كذلك المؤمنون المستجيبون لبلاغ الرسالة القرآنية، فإنهم تمد لهم جذور التربية في تربة الرباطات، ويسقون بعد ذلك بماء المجالسات. ويمكن أن يربطوا بهذه قبل تلك، لا حرج عليك بأيهما بدأت، حسبما تيسر لك، لكن بشرط أن يؤول الغرس في

النهاية إلى تربة المسجد، إذ يجب أن تعلم أن رباط المسجد هو غاية الوسائل ووسيلة الغايات، وأن المجالس إنما هي سِقاؤه. ولطالما تباهت التنظيمات والحركات بكثرة خلاياها وأعدادها، وليس لها من رباط المسجد نصيب، فلا يمضي من الزمن إلا قليل حتى ترتد تلك الجموع على أدبارها، وتتساقط لقىً مهملاً بين المقاهي والملاهي! المسجد هو أساس عَدِّكَ وإعدادك، فاغرس برياضه (رُبُطاً)، واجعل منها نسل دعوتك، ثم اجعل جلسة القرآن لها مدرسة، تغذيها وتنميها، وابن على ذلك في منهج التبصير بحقائق هذا الدين؛ بعثاً وتجديداً! فبذلك -وبذلك فقط- تبنى الصفوف، لمن رام الدعوة إلى الله على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم. السقي والتجذير مصطلحان زراعيان استعرناهما للتمثيل والتقريب، وإنما ذلك ما عبرنا عنه من قبل في كتابنا (التوحيد والوساطة في التربية الدعوية) (¬1) بـ (الأرقمية) و (المنبرية)؛ فـ (الأرقمية): نسبة إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، بدار الأرقم بن أبي الأرقم، قبل الهجرة، (والمنبرية): نسبة إلى منهجه صلى الله عليه وسلم الخطابي، الذي عرف من على منبر المدينة، والحقيقة أن المنبرية والأرقمية منهج متكامل، لا يستغني أحدهما عن الآخر؛ فالمنبرية هو ما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم أول الأمر، لما صعد ¬

_ (¬1) انظر التوحيد والوساطة في التربية الدعوية للكاتب، الجزء الأول، نشر وزارة الأوقاف القطرية ضمن سلسلة كتاب الأمة. العدد: (47).

الصفا وخطب منذراً. فمن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحا! فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: «أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟» قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد!» قال أبو لهب: تبّاً لك. ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]» (¬1)، ثم استمر هذا المنهج في المسلمين بعد الهجرة، إذ صار منبره صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة رمزاً لمنهج السقي المروحي، داخل المسجد وخارجه. وأما الأرقمية فقد كانت في المرحلة المكية تحتضن كل من أجاب الخطاب المنبري، فتجذره بتربة المجالس بدار الأرقم، أو بشعاب مكة وجبالها، فتلك المجالس هي التي آلت بعد الهجرة إلى المسجد؛ مجالسَ للذكر وصلوات، ذلك المنهاج النبوي الحق إن شاء الله. وإنما الموفق من وفقه الله. ... ¬

_ (¬1) متفق عليه.

خاتمة

خاتمة وخاتمتنا فاتحة خير لي ولك إن شاء الله، نفتح بها سبيل الخروج بهذه البلاغات -عبر باب العمل- إلى حيز التطبيق؛ لبناء النفس والمجتمع؛ في المفاتيح الثلاثة: (اغتنام المجالسات، والتزام الرباطات، وتبليغ الرسالات)، فمن جمعها جمع الخير كله، فتلك هي خلاصة البلاغات القرآنية، وذلك هو المنهج التطبيقي البسيط، والفعال؛ للوصول إلى مقاصد البلاغ الرباني، وإيصالها إلى كل إنسان؛ معرفةً وذوقاً، وإبصاراً وتبصيراً، فاهتم بالقرآن والسنة، بالمنهج الذي ذكرنا مؤصلاً بأصوله وقواعده، اهتم بتنزيل أحكامهما على نفسك وعلى أهلك، ثم على من حواليك من الناس، واسع من أقصى المدينة إلى أقصاها؛ لتذكير المسلمين وغيرهم ببلاغات القرآن، أعني الأصول الكبرى للدين، اعتقاداً وعملاً، كما بيَّنا وشرحنا، اُطْرُقْ أبواب القلوب! وخاطب فطرتها؛ تجد الأسماع مصغية، والأفئدة واعية؛ عسى أن يجعل الله لك

القبول في الأرض، والقبول في السماء؛ فتكون إن شاء الله من الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. وكتبه راجي عفو ربه وغفرانه، الفقير إلى رحمته ورضوانه: فريد بن الحسن الأنصاري الخزرجي السجلماسي، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكان الفراغ من تبييضه وتصحيحه -بمكناسة الزيتون، من حواضر المغرب الأقصى- فجر يوم الأربعاء (9 ربيع الثاني: 1423 هـ/ - 19/ 06 /2002 م). ***

§1/1