بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة

عبد المتعال الصعيدي

المجلد الأول

المجلد الأول باب المقدمات تقديم: للشارح بسم الله الرحمن الرحيم تقديم للشارح المغفور له الشيخ عبد المتعال الصعيدي: "1313هـ-1383هـ = 1894م-1966م": أردت -قبل الشروع في شرح كتاب "الإيضاح لتلخيص المفتاح" لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بالخطيب القزويني "المتوفى 739هـ"، بكتابي "بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح"- أن أضع هذا التقديم؛ لأبين فيه منزلة كتاب الإيضاح بين كتب البلاغة، ولماذا آثرته من بينها بشرحي له؟ والكلام في هذا يرجع بي إلى المدرسة التي ينتمي إليها كتاب الإيضاح من بين مدارس علوم البلاغة، وهي مدرسة الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني "المتوفى 471هـ" الذي ذهب بالشهرة في هذه العلوم، حتى عدّوه بحق شيخ البلاغة؛ لأنه هو الذي وضع أساسها الصحيح بكتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، وكان يسمي مسائل البلاغة علم البيان، وقد ذكر أن هذا العلم لقي من الضيم ما لقي, ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل، فأراد أن يوفيه حقه ويقرر قواعده تقريرا يليق به، فوضع فيه هذين الكتابين. وهو يسميه علم البيان بالمعنى الذي يشمل علوم البلاغة الثلاثة الآتية: المعاني، والبيان، والبديع؛ لأن البيان هو المنطق الفصيح المُعْرِب عما في الضمير، والعلوم الثلاثة لها تعلّق بالكلام الفصيح تصحيحا وتحسينا، على ما سيأتي من الفرق بينهما في ذلك، وإذا كان عبد القاهر لم يفصح عن هذا الفرق بين مباحثها، فقد أشار إليها بتخصيص كتابه "دلائل الإعجاز" لمباحث نظم الكلام؛ من ذكر وحذف وتقديم وتأخير ونحوها؛ فإنه لا يتعرض لغيرها فيه إلا نادرا، وهذه المباحث هي مباحث

علم المعاني، وبتخصيص كتابه "أسرار البلاغة" لمباحث الدلالة من الحقيقة والمجاز والتشبيه والاستعارة ونحوها، وهذه المباحث هي مباحث علم البيان بمعناه الذي صار إليه أخيرا، ثم ذكر المحسِّنات التي اختص بها أخيرا علم البديع، وأشار إلى منزلتها من البلاغة من رجوعها إلى التحسين لا غير، فلا تُطلَب فيها على سبيل الوجوب كما يُطلَب ما يتعلق منها بالنظم والدلالة, وقد ذهب إلى أن الحسن لا يمكن أن يكون للّفظ في ذاته من غير نظر إلى المعنى، حتى ما يُتوهم في بدء الفكرة أن الحسن فيه لا يتعدى اللفظ والجرس كالتجنيس؛ لأنك لا تستحسن تجانس اللفظين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعا حميدا؛ ولهذا استُقبح قول أبي تمام "من الكامل": ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت ... فيه الظنون أمَذْهب أم مُذْهَب! لأنه لم يزد على أن أسمعك حروفا مكررة؛ تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة. وكان أسلوب عبد القاهر في كتابيه أسلوبا بليغا ممتازا، يساعد على تربية مَلَكة البلاغة ولا يفسدها، ولا عيب فيه إلا أن يسرف في العبارات المترادفة؛ حتى تطغى على تقرير القواعد وعلى ما عُني به من استخلاص أسرارها من الشواهد النثرية والشعرية، وهو فيما عُني به من الأمرين الناقد الأديب، والبليغ الممتاز، وقد طفر بهذا في علم البلاغة طفرة لم يُسبَق إليها، ولم يأت بعده مَنْ سار على هديها حتى لا تقف عند هذا الحد؛ لأن شمس العلم في عصره كانت آخذة في الأفول، كما يقول في ذلك "مخلع البسيط": كبر على العلم يا خليلي ... ومل إلى الجهل ميل هائم وعش حمارا تعش سعيدا ... فالسعد في طالع البهائم وإذا كان هذا حال عصره, فإن حال ما بعده من العصور كان أسوأ؛ فتقهقر علم البلاغة بعده ولم يتقدم. ثم جاء أبو يعقوب السكاكي "ت 626هـ" بعد عبد القاهر، فلمح ما أشار

إليه الجرجاني فيما سبق من الفروق الثلاثة بين مباحث علم البلاغة؛ فميز بعضها عن بعض تمييزا تاما، وجعل لكل مبحث منها علما خاصا؛ فكان من هذه علوم البلاغة الثلاثة السابقة، ثم جاراه في تقرير قواعدها، وزاد عليه زيادات كثيرة في تقريرها، وهذا في قسم البيان من كتابه "مفتاح العلوم"، وقد جرى على ترتيبه لهذه المباحث من أتى بعده من المتأخرين، فكان عمدتهم في هذا الترتيب، ولم يستفيدوا إلا قليلا ممن كتب قبله أو بعده في علم البلاغة، ممن لم يَجْر فيها على منواله، ولم يَنْحُ فيها نحوه. ولا شك أن السكاكي بهذا يعد إلى حد ما من تلاميذ مدرسة عبد القاهر، ولكنه كان ناقدا ولم يكن أديبا؛ لأن أسلوبه في كتابه لم يكن أسلوب البليغ الممتاز مثل عبد القاهر؛ لأن العجمة كانت غالبة على أسلوبه، وكان الأسلوب التقريري الذي لا يُعنَى إلا بتقرير القواعد غالبا عليه، فكان في أسلوبه كثير من الغموض والتعقيد وضعف التأليف، ومثل هذا قد يفيد الناظر فيه علما، ولا يفيده أسلوبا بليغا، بل يفسد فيه مَلَكة البلاغة، وبهذا يكون ضرره أكبر من نفعه. وقد جاء بعد السكاكي عالمان كبيران أرادا أن يحذُوَا في علم البلاغة حذوه؛ أولهما ابن الناظم: بدر الدين بن مالك "المتوفى 686هـ" ابن النحوي المشهور، في كتابه "المصباح لتلخيص المفتاح" وثانيهما: الخطيب القزويني "المتوفى 739هـ" في كتابيه "تلخيص المفتاح" و"الإيضاح لتلخيص المفتاح"؛ وثانيهما كالشرح للأول. فأما مصباح ابن الناظم فإنه لم يهذِّب كثيرا من مفتاح السكاكي في علم البلاغة؛ لأن ملكة النحو كانت غالبة عليه، وكان هذا سببا في إعراض المتأخرين عن كتابه. وأما تلخيص الخطيب القزويني فإنه هذب كثيرا من مفتاح السكاكي؛ فقدم في مباحثه وأخر، وزاد عليه ما تجب زيادته من كتب البلاغة، وكان أسلوبه فيه أوضح من أسلوب السكاكي، ولكنه جعله أسلوبا تقريريا لا يُعْنَى إلا بجمع القواعد في أوجز لفظ؛ حتى أسرف في الإيجاز إسراف عبد القاهر في الإطناب، وجعل من تلخيصه متنا يحتاج إلى شروح وحواشٍ وتقارير، ولكن عيبه هذا كان موضع تقدير

المتأخرين وإعجابهم. فلما فرغ من تلخيصه شعر هو أيضا بحاجته إلى شرح، فوضع كتابه "الإيضاح" كشرح له، يجري على ترتيبه في إطناب يختصره أحيانا من كتابَيْ عبد القاهر، وأحيانا من كتاب السكاكي مع شيء من التهذيب فيه، ومع كثير من النقد الذي يفصِّله أحيانا، ويرمز إليه أحيانا بقوله: "وفيه نظر". وبهذا جاء "الإيضاح" وسطا بين إيجاز التلخيص، وإسهاب عبد القاهر. وكان بهذا هو الكتاب الممتاز على غيره من كتب البلاغة القديمة. ولكنه على هذا لم يُرزَق من الحظوة عند المتأخرين ما رُزِق التلخيص؛ لأنهم شُغِفوا بالمتون حفظا وشرحا. وقد نظروا إلى التلخيص على أنه متن من المتون، فشغفوا بحفظه وشرحه. وكان من السابقين إلى شرحه سعد الدين التفتازاني "ت 792هـ"، من علماء العَجَم؛ فوضع له شرحا مطوّلا سماه "المطول"، وشرحا مختصرا سماه "المختصر". وكان سعد الدين من علماء العجم الذين تأثروا بالسكاكي في طريقته التقريرية، وفي ضعف أسلوبه؛ لضعف سليقته العربية، بل كان هو وأمثاله ممن أتى بعد السكاكي من علماء العجم أضعف منه ذوقا أدبيا، وسليقة عربية؛ فمضوا في الطريقة التقريرية إلى أن وصلوا إلى نهايتها في البعد عن الذوق الأدبي، ثم أخذوا ينشرونها هنا وهناك إلى أن غزت علماء العرب، وغزت جميع العلوم من عربية, إلى دينية، إلى غيرها من العلوم. وصارت عنايتها بتقرير عبارات المتون أكثر من عنايتها بتقرير مسائل العلوم. ثم تَهَافتَ المتأخرون من علماء البلاغة على شرحَيْ سعد الدين علي التلخيص، يضعون عليهما الحاشية بعد الحاشية، ويضعون على الحاشية التقرير بعد التقرير، وشُغف المدرسون بتلك الكتب في الجامع الأزهر وغيره من الجامعات الإسلامية في الأقطار المختلفة، يتعمقون في درسها إلى أقصى حدود التعمق، وينتقلون في درسها من المتن إلى الحاشية إلى التقرير، في استقصاء غريب، وتفنُّن في الفهم والبحث. ولو أن كل هذا في صميم مسائل البلاغة لهان الخَطْب، ولكن أكثره

في بحوث خارجة عن المسائل، وفي أسلوب ركيك يُفْسِد ملكة البلاغة؛ فإذا كانت فيه فائدة قليلة؛ فإنها تضيع في هذا الخِضَمّ الذي لا فائدة فيه. وقد تأبَّى كتاب "الإيضاح" وطريقته السابقة على المتأخرين من علماء البلاغة؛ فلم يضعوا عليه من الشروح والحواشي والتقارير مثل ما وضعوا على كتاب التلخيص اللهم إلا شرحا ضعيفا للأقسرائي لا يزال مخطوطا بدار الكتب المصرية، ومن الخير أن يبقى مخطوطا فيها؛ لأنه يذهب مذهب غيره في الطريقة التقريرية، وينأى عن طريقة كتاب الإيضاح السابقة؛ فيكون ضرره فيها أكثر من نفعه. ولما كان كتاب "التلخيص" كالأصل لكتاب "الإيضاح"؛ كان هذا مما يدعو قارئه إلى أن يرجع في كثير من مسائله إلى ما وُضع على كتاب التلخيص من شروح وحواشٍ وتقارير؛ فإذا رجع إليها غرق في ذلك الخضم من البحوث التي لا طائل تحتها، وضاع به ما يكتسبه من كتاب الإيضاح من ذوق أدبي؛ لأن تلك الشروح والحواشي والتقارير تغطي عليه. فرأيت أن أنأى بقارئ كتاب الإيضاح عن تلك الشروح والحواشي والتقارير؛ بوضع تعليقات عليه تشتمل على ما يأتي: 1- اختيار ما تلزم إضافته إليه مما هو من صميم مسائل البلاغة من تلك الشروح والحواشي والتقارير. واختيار هذا من ذلك الخضم من المماحكات اللفظية ليس بالأمر السهل؛ لأنه يحتاج إلى فهم صحيح لها، وإلى ذوق أدبي يميز الصالح للاختيار من غيره. 2- شرح الشواهد النظمية شرحا موجزا ينسبها إلى قائليها، ويفسر غريبها, ويبين ما فيها من فوائد بلاغية، وموضع الشاهد فيها. ويعلم الله كم تعبت في ذلك كله، ولا سيما في نسبتها إلى قائليها. 3- وضع عناوين في كل باب من أبوابه لموضوعاته المختلفة؛ ليسهل الرجوع

إليها، ووضع تمرينات آخر كل موضوع منها للاختبار فيها، ولفت طالب علوم البلاغة إلى أهم ناحية فيها. 4- نقد ما يجب نقده من مسائله, ولا سيما المسائل التي ينقلها الخطيب عن السكاكي. وفيها من التكلفات والتعقيدات ما ينأى عن ذوق الأدب والبلاغة. 5- صياغة التعليقات في أسلوب لا يكون فيه تعقيد ولا تطويل ممل، ولا إيجاز مخل؛ حتى تكون ملائمة لذوق موضوعها من علوم البلاغة. وقد سميت ما وضعته من هذه التعليقات: "بُغْيَة الإيضاح لتلخيص المفتاح". والله أسأل النفع بها، وأن تكون خطوة في هذه العلوم لما بعدها. عبد المتعال الصعيدي

خطبة الإيضاح "مقدمة الخطيب القزويني":

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة: الجزء الأول: من أول الإيضاح حتى القصر في علم المعاني خطبة الإيضاح "مقدمة الخطيب القزويني": قال الشيخ الإمام العالم العلامة, خطيب الخطباء مفتي المسلمين, جلال الدين أبو عبد الله محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني، الشافعي، متّع الله المسلمين بمُحَيَّاه، وأحسن عُقْبَاه: الحمد لله رب العالمين, وصلاته على محمد وعلى آل محمد أجمعين. أما بعد: فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها، ترجمته بـ "الإيضاح"، وجعلته على ترتيب مختصري الذي سميته "تلخيص المفتاح"، وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له، فأوضحت مواضعه المشكلة، وفصلت معانيه المجملة، وعمدت إلى ما خلا عنه المختصر مما تضمنه "مفتاح العلوم"، وإلى ما خلا عنه "المفتاح" من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- في كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما؛ فاستخرجت زبدة ذلك كله، وهذبتها ورتبتها، حتى استقر كل شيء منها في محله، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكري، ولم أجده لغيري؛ فجاء بحمد الله جامعا لأشتات هذا العلم، وإليه أرغب في أن يجعله نافعا لمن نظر فيه من أولي الفهم, وهو حسبي ونعم الوكيل.

مقدمة: في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة، وانحصار علم البلاغة في علمي المعاني والبيان

مقدمة: في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة، وانحصار علم البلاغة في علمي المعاني والبيان 1 الخلاف في تفسير الفصاحة والبلاغة: للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة2، لم أجد -فيما بلغني منها-

_ 1 إنما حصر علم البلاغة في علمي المعاني والبيان؛ لأن علم البديع يبحث في المحسنات التي تكون بعد رعاية وجوه البلاغة والفصاحة في الكلام. وقدم الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة على بيان انحصار علم البلاغة في هذه العلوم؛ لأن معرفة انحصاره فيها تتوقف على الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة، وبهذا كان صنيعه أحسن من السكاكي؛ لأنه ذكر الكلام على الفصاحة والبلاغة في آخر علم البيان. 2 منها قول أكثم بن صيفي: "البلاغة: الإيجاز", وقول أرسطو: "البلاغة: حسن الاستعارة", وقول ابن المقفَّع: "البلاغة: قلة الحصَر، والجراءة على البشَر", وقول بعضهم: "البلاغة: تصوير الحق في صورة الباطل، وتصوير الباطل في صورة الحق". فالأول كقول محمد بن عبد الملك الزيات: "الرحمة: خَوَر في الطبيعة، وضعف في المُنَّة". والثاني كقول الحارث بن حلزة "مجزوء الكامل": عيشي بجد لا يضر ... ك النوك ما لاقيت جدا والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا وأقوال المتقدمين كثيرة في البلاغة, والظاهر أن جمهورهم لم يكن يفرق بينها وبين الفصاحة، وقد نُقل عن أفلاطون أن: "الفصاحة لا تكون إلا لموجود، والبلاغة تكون لموجود ومفروض". ولعله يعني بالموجود اللفظ، وبالمفروض المعنى. وقال العاصي بن عدي: "الشجاعة قلب ركين، والفصاحة لسان رزين". وهو يعني باللسان اللفظ، وبالرزين ما فيه فخامة وجزالة. وقال بعضهم: الفصاحة تمام آلة البيان، وهي عنده مقصورة على اللفظ أيضا؛ لأن الآلة -وهي اللسان- تتعلق باللفظ دون المعنى.

ما يصلح لتعريفهما به1، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلِّم؛ فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين؛ فنقول: كل واحدة منهما تقع صفة لمعنيين: أحدهما: الكلام، كما في قولك: "قصيدة فصيحة أو بليغة، ورسالة فصيحة أو بليغة"، والثاني: المتكلم2كما في قولك: "شاعر بليغ أو فصيح، وكاتب فصيح أو بليغ". والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد؛ فيقال: "كلمة فصيحة"، ولا يقال: "كلمة بليغة". فصاحة المفرد: أما فصاحة المفرد: فهي خلوصه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس اللغوي.

_ 1 لأن هذه الأقوال يقصد منها ذكر أوصاف البلاغة والفصاحة، ولا يقصد منها حقيقة الحد والرسم، وقد قصد بعض العلماء بعد هذه الأقوال إلى حقيقة الحد والرسم، فقاربوا ولم يصلوا إليهما، ومنهم أبو هلال العسكري في "الصناعتين"؛ فعرّف البلاغة بأنها: "كل ما تُبْلِغ به المعنى قلب السامع لتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة, ومعرض حَسَن". وذكر أنه اختُلف في الفصاحة؛ فقيل: إنها مأخوذة من قولهم: أفصح عما في لسانه إذا أظهره؛ وعلى هذا ترادف البلاغة. وقيل: إنها تمام آلة البيان؛ فلا يكونان مترادفين؛ لأن الفصاحة تكون حينئذ مقصورة على اللفظ، وكذلك كان السكاكي في "المفتاح" كما سيأتي في كلامه عليهما. 2 يرى أبو هلال العسكري أن البلاغة من صفة الكلام لا المتكلم؛ ولهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى بليغا؛ إذ لا يجوز أن يوصف بصفة كان موضوعها الكلام، وأما تسمية المتكلم بليغا فتوسع، وحقيقته أن كلامه بليغ، ثم كثر استعمال ذلك حتى صار كالحقيقة, ويرى أيضا أنه لا يجوز أن يسمى فصيحا؛ لأن الفصاحة تتضمن معنى الآلة وهي اللسان. هذا، وقد اعتمد الخطيب في ذلك التقسيم على ما جاء في "حسن التوسل" لأبي الثناء الحلبي، وكذلك اعتمد عليه في كثير من الموضوعات الآتية في العلوم الثلاثة.

فالتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقَل على اللسان وعسر النطق بها1؛ كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته فقال: "تركتها ترعى الهُعْخُع"2، ومنه ما هو دون ذلك؛ كلفظ "مستشزر" في قول امرئ القيس: غدائره مُسْتَشْزِراتٌ إلى العلا3

_ 1 ذكر ابن الأثير أن المعول في ذلك على الذوق الصحيح، فما يعده ثقيلا عسر النطق فهو متنافر، سواء أكان ذلك من قرب مخارج الحروف أم من بعدها أم من غيرهما، وذكر ابن سنان الخفاجي أن قرب المخارج يكون سببا في قبح اللفظ، وبعدها يكون سببا في حسنه، وذلك غير صحيح؛ لأن الكلمتين قد تتركبان من حروف واحدة وتكون إحداهما ثقيلة دون الأخرى، وذلك مثل "عَلَم ومَلَع"؛ فالأولى خفيفة على اللسان ولا ينبو عنها الذوق، بخلاف الثانية، مع اتحاد حروفهما. وقد تتألف الكلمة من حروف متقاربة ولا ثقل فيها مثل: "ذقته بفمي" فالباء والفاء والميم أحرف شفوية متقاربة ولا ثقل فيها، ولكن مع هذا لا يمكن إنكار ما لمخارج الحروف وصفاتها وهيئة تأليفها من الأثر في خفة الكلمة وثقلها، وإنما عُوِّل على الذوق دونه؛ لأنه لا يجري على قاعدة معروفة، وقد زعم الزوزني أن في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس: 60] ثقلا قريبا من التناهي؛ لقرب مخرج الهمزة والعين والهاء, مع أن الكلمة خفيفة في الذوق، وهي سقطة من الزوزني. 2 قيل: إنه اسم شجر، وقيل: إنه معاياة لا أصل لها. ومثله كل كلمة يُجمع فيها بين العين والحاء أو بين العين والخاء أو بين الجيم والصاد أو بين الجيم والقاف أو بين الدال والزاي ونحو ذلك، مثل: عِقْجُق والظش والشصاصاء ونحوها. 3 هو من قول حُندج بن حجر الكندي, المعروف بامرئ القيس في معلقته "من الطويل": وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل المداري في مثنى ومرسل وفرع المرأة: شعرها، والمتن: الظهر، والأثيث: الكثير الشعر، والقنو: العنقود، والمتعثكل: المتراكم, والغدائر: الذوائب، والمستشزرات: المرتفعات، والمداري: الأمشاط جمع: مِدْرَى، والمثنى: المفتول، والمرسل: غير المفتول. وسبب ثقل "مستشزر" توسط الشين المهموسة الرخوة بين التاء المهموسة الشديدة والزاي المجهورة. ومثل مستشزرات "اطْلَخَمّ" في قول أبي تمام "من البسيط": قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت ... عشواء تالية غبسا دهاريسا وكذلك "سُوَيْدَواتها" في قول المتنبي "من الكامل": إن الكريم بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويدواتها وقد نشأ ثقلها من طولها، وهي مفردة أيضا؛ لأنها مركب إضافي.

والغرابة: أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها1؛ فيُحتاج في معرفته إلى أن يُنَقَّب عنها في كتب اللغة المبسوطة؛ كما روي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار، فاجتمع عليه الناس، فقال: "ما لكم تكأكَأْتُم علي تَكَأْكُؤكم على ذي جنة؟! افْرَنْقِعوا عني" أي: اجتمعتم، تنحوا. أو يُخَرَّج لها وجه بعيد2 كما في قول العجاج:

_ 1 عدم ظهور المعنى ينشأ عن وحشية الكلمة. ومعنى وحشيتها: كونها غير مأنوسة الاستعمال عند العرب الخلص؛ فلا يعول في ذلك على غيرهم من المحدَثين الذين ظهروا بعد فساد اللغة، ولا يرد على هذا متشابه القرآن ومجمله؛ لأن المراد عدم ظهور المعنى الموضوع له، والمعنى الوضعي في المتشابه والمجمل ظاهر لا خفاء فيه، وإنما الخفاء في مراد الله تعالى منهما. ومن المتشابه في القرآن قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ، ومنه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا". ومنه في الشعر قول أبي تمام "من الكامل": ولهت فأظلم كل شيء دونها ... وأضاء منها كل شيء مظلم فالوَله والظلمة والإضاءة ألفاظ ظاهرة المعنى، ولكن البيت بجملته يحتاج فهمه إلى استنباط، ومراده: أنها ولهت فأظلم ما بينه وبينها من جزعه لولهها، وظهر له ما خفي عنه من حبها له. وإني أرى أن الغرابة وحدها لا تخل بفصاحة الكلمة، وقد بينت هذا في كتابي "البلاغة العالية"، وكذلك أرى أن ابتذالها لا يعيبها ما دامت معاني الكلام جيدة، وهو اما اختاره ابن شرف القيرواني، وعليه بعض نقاد الإنجليز الذين يرون أن الابتذال يكون في الفكرة لا في الكلمة. 2 إنما يُلجَأ عندهم إلى تخريجها على وجه بعيد إذا وقعت من عربي عارف باللغة؛ لأنه لا يصح حمل كلامه على الخطأ، والحق أن العربي قد يخطئ في لغته، وأن الحمل على الخطأ خير من تكلف ذلك التخريج البعيد.

وفاحما ومَرْسِنا مُسَرَّجا1 فإنه لم يعرف ما أراد بقوله: "مسرجا"؛ حتى اختُلف في تخريجه2؛ فقيل: هو من قولهم للسيوف سُرَيجية: منسوبة إلى قَيْن يقال له: سريج, يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السريجي. وقيل: من السراج، يريد أنه في البريق كالسراج. وهذا يقرب3

_ 1 هو لعبد الله بن رؤبة التميمي السعدي, المعروف بالعجاج من قوله "من الرجز": أيام أبدت واضحا مفلجا ... أغر براقا وطرفا أبرجا ومقلة وحاجبا مزججا ... وفاحما ومرسنا مسرجا والفاحم: الشعر الشديد السواد، والمرسن: اسم لمحل الرسن وهو أنف البعير، ثم أُطلق وأريد به الأنف مطلقا على سبيل المجاز المرسل. وقيل: إن الشاهد لرؤبة بن العجاج. 2 سبب اختلافهم أن "مسرجا" اسم مفعول من سرّج, وصيغة فعّل تأتي للنسبة إلى مصدرها، كما تقول: "كرّمته" بمعنى نسبته إلى الكرم، ولما كان هذا غير ممكن في "سرّج" تكلفوا له أصلا ينسب إليه؛ وهو السيوف السريجية أو السراج. وهذا إلى أن "مسرجا" في قول العجاج بمعنى شبيه بالسراج أو السيوف السريجية، وهو في أصل وضعه يدل على النسبة إلى أصله، ولا يستفاد منه التشبيه إلا بتكلف. والحق أن أخذه من السراج لا غرابة فيه من جهة الاشتقاق والتشبيه؛ لأن الاشتقاق من الاسم الجامد قد جاء في كلام العرب, كما في قول ابن المفرع "من الخفيف": وبرود مدنرات وقز ... وملاء من أعتق الكتان فالمعنى في ذلك التشبيه, أي: برود وشيها. 3 إنما كان قول العجاج قريبا من هذا الاستعمال ولم يكن منه؛ لأنه كما جاء في "التاج" استعمال غريب أو مولَّد، والعجاج شاعر إسلامي، فلا يقال في كلمته: إنها مولَّدة. والحق أن هذا الاستعمال من الغريب لا المولَّد؛ لأن العجاج شاعر إسلامي، ولكن غرابته لا تكون من غرابة التخريج على وجه بعيد، وإنما هي من القسم الأول. ومن الكلمات الغريبة "الحلقَّدُ" بمعنى السيئ الخُلُق, و"الابتِشَاك" بمعنى الكذب, كما في قول الشاعر "من الوافر": وما أرضى لمقلته بحلم ... إذا انتبهت توهمه ابتشاكا

من قولهم: "سَرِج وجهه" بكسر الراء, أي: حَسُنَ، وسَرَّج الله وجهه, أي: بهّجه وحسّنه. ومخالفة القياس1 كما في قول الشاعر "من الرجز": الحمد لله العلي الأجْلَلِ2 فإن القياس: "الأجَلّ" بالإدغام. وقيل: هي خلوصه مما ذُكر، ومن الكراهة في السمع: بأن تُمَجّ الكلمة ويُتبرأ من

_ 1 المراد به القياس اللغوي كما سبق، ومخالفته بأن تكون الكلمة على خلاف ما ثبت عن الواضع، وقد حمله بعضهم على القياس الصرفي، وهو خطأ؛ لأن مخالفة القياس الصرفي لا تخل دائما بالفصاحة؛ إذ توجد كلمات كثيرة فصيحة على خلافه, وذلك مثل: آل وماء ويأبى وعَوِرَ يَعْوَرُ. هذا, ويدخل في مخالفة القياس اللغوي ككل ما تنكره اللغة لمأخذ لغوي أو صرفي أو غيرهما. وذلك كالمقراض في قول أبي الشيص "الكامل": وجناح مقصوص تحيف ريشه ... ريب الزمان تحيف المِقْراض لأنه لم يسمع في كلامهم إلا مثنى، خلافا لسيبويه. وكالأيِّم في قول أبي عبادة "من الطويل": يشق عليه الريح كل عشية ... جيوب الغمام بين بكر وأيم لأنه وضعها مكان الثيب، مع أن الأيم هي التي لا زوج لها ولو كانت بكرا. وكحذف النون من "لكنْ" في قول النجاشي "من الطويل": فلست بآتيه ولا أستطيعه ... وَلَاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضل أراد: "ولكن اسقني". 2 هو لأبي النجم الفضل بن قدامة من قوله في مطلع أرجوزته "من الرجز": الحمد لله العلي الأجلل ... الواهب الفضل الكريم المجزل والذي ألجأه إلى فك الإدغام ضرورة الشعر، ولكن ذلك لا يمنع الإخلال بالفصاحة؛ لأن من الضرورات الشعرية ما هو مستقبح، وقد روي مطلعها: الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يَبخل ولم يُبَخَّل فلا يكون فيه شاهد لمخالفة القياس، ومنه قول الشاعر "البسيط": مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضَنِنُوا

سماعها كما يُتبرأ من سماع الأصوات المنكرة؛ فإن اللفظ من قبيل الأصوات، والأصوات منها ما تستلذّ النفس سماعه، ومنها ما تكره سماعه. كلفظ "الجِرِشَّى" في قول أبي الطيب "المتقارب": كريم الجرشى شريف النسب1 ... أي: كريم النفس, وفيه نظر2. ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا3، أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها4. فصاحة الكلام: وأما فصاحة الكلام: فهي خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد، مع فصاحتها5.

_ 1 هو لأحمد بن الحسين الجعفي الكندي, المعروف بأبي الطيب المتنبي، من قوله في مدح سيف الدولة "من المتقارب": مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشى شريف النسب وقد أخذ الدسوقي في "حاشيته على المختصر" من قوله: "شريف النسب" أن سيف الدولة من بني العباس، وهو خطأ ظاهر؛ لأن سيف الدولة من تَغْلِب. 2 وجه النظر أن الكراهة في السمع لا تكون إلا من تنافر حروف الكلمة أو غرابتها، فليست شيئا آخر غيرهما، و"الجرشى" في بيت المتنبي تدخل في الغرابة. 3 هذا إذا لم يكن لها مرادف. 4 هذا إذا كان لها مرادف، ولكن هذا يقتضي نفي الفصاحة عن مرادفها، مع أن مراتب الفصاحة متفاوتة، فلا مانع من أن يكون كل منهما فصيحا ولو كان أحدهما أكثر استعمالا، فالأولى الاقتصار على الشق الأول من هذه العلامة. 5 أي: مع فصاحة الكلمات؛ لأن فصاحة الكلمة شرط من فصاحة الكلام، فلو خلا من الثلاثة واشتمل على كلمة غير فصيحة لم يكن فصيحا، وذلك كقول أبي الطيب "المتقارب": مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشى شريف النسب

فالضعف1: كما في قولنا: "ضرب غلامُه زيدًا"؛ فإن رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظا ممتنع عند الجمهور؛ لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة، وقيل: يجوز2؛ كقول الشاعر "من الطويل": جزى ربُّهُ عني عديَّ بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات، وقد فعل3 وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر "جزى" أي: رب الجزاء؛ كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 4 [المائدة: 8] أي: العدل. والتنافر: منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان، وعسر النطق بها متتابعة؛ كما في البيت الذي أنشده الجاحظ "من الرجز":

_ 1 ضعف التأليف: هو أن يكون تأليف الكلام على خلاف المشهور من قواعد النحو، وإنما قيد الخلاف بالمشهور من القواعد؛ لأن خلاف المجمع عليها خطأ لا ضعف تأليف. 2 هذا مقابل قوله: "ممتنع عند الجمهور" فهو قول بعض النحاة أيضا، وليس قولا لبعض علماء البلاغة؛ لأنهم متفقون على أن ذلك ضعف تأليف. 3 نسبوه لزياد بن معاوية "المعروف بالنابغة الذبياني"، وقيل: إنه لأبي الأسود الدؤلي, وقيل: إنه مولد مصنوع. وجزاء الكلاب: الضرب بالحجارة، وجملة "جزى ربه" دعائية، يعني: أنه يدعو عليه بذلك، وقد حقق الله دعاءه، ولا يخفى ما في هذا من عدم التلاؤم، والأولى أن يعود ضمير "فعل" إلى "عدي"، والمراد ما فعله معه من الإساءة إليه، والحق أن هذا البيت ليس للنابغة، وإنما هو اشتباه بقوله: جزى الله عبسا عبس آل بغيض ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل 4 وهذا قياس مع الفارق؛ لأن الضمير في الآية ظاهر العود إلى "العدل"، أما البيت فضميره ظاهر العود إلى "عدي"، ولا داعي إلى تكلف عوده إلى الجزاء. ومن ضعف التأليف وقوع ضمير الوصل بعد "إلا" في قول الشاعر "البسيط": وما علينا إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديار ومنه حذف "أن" مع بقاء عملها، كقول طرفة "الطويل": ألا أيهذا الزاجري أَحْضَرَ الوغى ... وأَنْ أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي؟!

وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر1 ومنه ما دون ذلك، كما في قول أبي تمام "من الطويل": كريم، متى أمدحْه أمدحْه والوَرَى ... معي وإذا ما لُمته لُمته وحدي2 فإن في قوله: "أمدحه" ثقلا ما؛ لما بين الحاء والهاء من التنافر3. والتعقيد: أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به4, وله سببان: أحدهما ما يرجع إلى اللفظ؛ وهو أن يختلّ نظم الكلام5، ولا يدري السامع

_ 1 هو فيما زعموا لبعض الجن، وكان قد صاح على حرب بن أمية في فلاة، فمات بها، والقفر: الخالي، وهو مرفوع صفة لمكان على القطع، أو خبر المبتدأ وهو قبر، والمعنى: أنه مع مكانه قفر، وفي هذا الوجه تكلف. 2 هو لحبيب بن أوس الطائي المعروف بـ "أبي تمام", يمدح به موسى بن إبراهيم الرافقي، والورى: الخلق، ولا يخفى نبوّ الشطر الثاني عن المدح ولا سيما مع "إذا" المفيدة للتحقق، وأُخذ عليه أيضا مقابلة المدح باللوم لا الهجاء، ولعله أراد أن ينزهه عنه. 3 الحق أنه لا تنافر في ذلك؛ لأنه ثقل محتمل، وقد جاء في قوله تعالى: {فَسَبِّحْهُ} [ق: 40] . وقيل: إن الذي أوجب التنافر في البيت هو التكرير في قوله: "أمدحه" مع الجمع بين الحاء والهاء، ومع هذا لا يقال: إن هذا التعليل يُقبَل لو كان يتحدث عن تنافر الحروف، ولكنه يُقبَل بصدد الحديث عن تنافر الكلمات. ومن تنافر الكلمات قول الشاعر "من السريع": وازوَرّ من كان له زائرا ... وعافَ عافي العرف عرفانه 4 أي: لا الموضوع له كما في الغرابة، ولا يدخل في التعقيد المتشابه والمجمل؛ لأن عدم ظهور المراد فيهما ليس لاختلال النظم أو نحوه مما يأتي. وقد اختُلف في دخول اللغز والمعمَّى في التعقيد، فقيل: إنهما منه، وقيل: إنهما من المحسِّنات البديعية إن كانت الدلالة فيهما ظاهرة للفَطِن، وكل منهما قول يدل ظاهره على خلاف المراد، ولكن اللغز يكون على طريق السؤال؛ كقول الحريري في المِيل "ما يُجعل به الكحل في العين" "من الطويل": وما ناكح أختين سرا وجهرة ... وليس عليه في النكاح سبيل؟ 5 قد يكون اختلاله باجتماع أمور فيه توجب صعوبة الوصول إلى معناه، وإن كانت جائزة يريد أنه لم يكن كثاني اثنين، وقيل: إن "ثانيه" خبر ثانٍ لصار، و"ثان" اسم "يكن"، و"كاثنين" خبره، والأولى جعل "ثانيه" خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو.

كيف يتوصل منه إلى معناه؛ كقول الفرزدق "من الطويل": وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه1 كان حقه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه؛ فإنه مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان فقال: "وما مثله" يعني: إبراهيم الممدوح، "في الناس حي يقاربه"2 أي: أحد يشبهه في الفضائل، إلا "مملكا" يعني هشاما، "أبو أمه" أي: أبو أم هشام، "أبوه" أي: أبو الممدوح، فالضمير في "أمه" للمملك، وفي "أبوه" للممدوح؛ ففصل بين "أبو أمه" وهو مبتدأ و"أبوه" وهو خبره بـ "حي" وهو أجنبي، وكذا فصل بين "حي" و"يقاربه" وهو نعت "حي" بـ "أبوه" وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه، فهو كما تراه في غاية التعقيد3.

_ = في النحو, وهذه الأمور كالتقديم والتأخير والحذف والإضمار ونحو ذلك، وبهذا يكون التعقيد اللفظي غير ضعف التأليف، ولكنهما قد يجتمعان في مثال واحد، كما في بيت الفرزدق، وينفرد ضعف التأليف في مثل: "ضرب غلامه زيدا"، وينفرد التعقيد في مثل: "إلا عمرًا الناسَ ضاربُ زيد" بتقديم المفعول والمستثنى وتأخير المبتدأ، وهذا جائز في النحو، والأصل: "زيد ضارب الناس إلا عمرًا". 1 هو لهمّام بن غالب التميمي المعروف بالفرزدق، وقيل: إن البيت ليس له. 2 فـ "يقاربه" في البيت بمعنى: يضاهيه ويشبهه، ويجوز أن يكون من قُرب النسب. 3 حمله بعضهم على وجه لا تعقيد فيه، فجعل الاستثناء من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور قبله، وجعل قوله: "حي" خبرا لقوله: "أبو أمه"، وكذلك قوله: "أبوه" فهو خبر بعد خبر، وجملة ذلك صفة لقوله: "مملكا"، وكذلك جملة "يقاربه" فهي صفة بعد صفة، ويكون المعنى: "إلا مملكا يقاربه أبو أمه حي"، وهو أبو الممدوح، ولا يخفى ما في الإخبار بحي من التهافت. ومن التعقيد اللفظي قول أبي تمام "من الكامل": ولقد ثنى الأحشاء من برحائها ... أن صار بابك جار ما زيار ثانيه في كبد السماء ولم يكن ... كاثنين ثان إذ هما في الغار =

فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي: ما سلم نظمه من الخلل؛ فلم يكن فيه ما يخالف الأصل -من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك- إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة -لفظية أو معنوية- كما سيأتي تفصيل ذلك كله, وأمثلته اللائقة به. والثاني ما يرجع إلى المعنى, وهو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهرا1؛ كقول العباس بن الأحنف "من الطويل": سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عينايَ الدموع لتجمدا2 كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن3، وأصاب؛ لأن من شأن البكاء أن يكون كناية عنه؛ كقولهم: "أبكاني وأضحكني" أي: ساءني وسرني، وكما قال الحماسي "من السريع": أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي4 ثم طرد ذلك في نقيضه، فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود؛ لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر، وأخطأ5؛ لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها؛ فلا يكون

_ 1 المعنى الأول: هو المعنى الأصلي، والمعنى الذي هو لازمه: هو المعنى المجازي أو الكنائي. 2 قوله: "وتسكب" بالرفع، ونصبه بالعطف على "بعد" أو على "تقربوا" وهم، والحق أنه لا شيء في عطفه على "تقربوا"، والسين في قوله: "سأطلب" لمجرد التأكيد، ومعنى الشطر الأول: أنه يفارقه رجاء أن يغنم في سفره, فيعود إليه فيطول اجتماعه به. 3 قيل: إنه لا حاجة إلى الكناية بسكب الدموع عن هذا؛ لأنه يجوز أن يراد به حقيقة. 4 هو لحطان بن المعلى من شعراء الحماسة، وقد كنى فيه بإبكاء الدهر له عن إساءته، وبإضحاكه له عن سروره. 5 أي: في نظر علماء البيان، وإن كان لكلامه وجه من الصحة بأن يكون استعمل جمود العين -وهو يبسها- في خلوها من الدموع وقت الحزن, مجازا مرسلا علاقته الملزومية، ثم استعمله في خلوها من الدموع مطلقا مجازا مرسلا من استعمال المقيد في المطلق، ثم كنى به عن دوام السرور، وفي ذلك من البعد والتعقيد بكثرة الوسائط ما يجعله خطأ في نظر علماء البيان.

كناية عن المسرة؛ وإنما يكون كناية عن البخل، كما قال الشاعر "من الطويل": ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود1 ولو كان الجمود يصلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعى به للرجل؛ فيقال: "لا زالت عينك جامدة"، كما يقال: "لا أبكى الله عينك" وذلك مما لا يُشك في بطلانه. ومن ذلك قول أهل اللغة: "سنة جماد لا مطر فيها، وناقة جماد لا لبن لها"؛ فكما لا تجعل السنة والناقة جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر والناقة لا تسخو بالدر، لا تجعل العين جَمُودا إلا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأنها قد جادت، وإذا لم تبك مسيئة موصوفة بأنها قد ضنّت. فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي: ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني -الذي هو المراد به- ظاهرا، حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه من حاقّ

_ 1 هو لأفلح بن يسار، وقيل: مرزوق بن يسار المعروف بأبي عطاء الخراساني في رثاء ابن هبيرة، وبعده: عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود وواسط: مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف، وقد قُتل ابن هبيرة في معركة وقعت فيها، وقد كنى فيه بجمود العين عن بخلها الدمع في الوقت الذي يجب فيه أن تدمع. ومن التعقيد المعنوي قول أبي تمام "من الطويل": من الهيف لو أن الخلاخل صُيِّرت ... لها وُشُحا جالت عليها الخلاخل أراد وصفها بدقة الخصر، فكنى عنه بأن الخلاخل لو جُعلت لها وشحا لجالت عليها، وهذا لا يدل على مراده، بل يدل على بلوغها غاية القِصَر؛ لأنه أمكن أن تكون الخلاخل وشحا لها، والوشاح يضرب لها من العاتق إلى الكشح.

اللفظ1 كما سيأتي من الأمثلة المختارة للاستعارة والكناية. "تعريف آخر للفصاحة": وقيل: فصاحة الكلام هي خلوصه مما ذُكِر، ومن كثرة التكرار وتتابع الإضافات؛ كما في قول أبي الطيب: سَبُوح لها منها عليها شواهد2 وفي قول ابن بابَكَ: حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي3 وفيه نظر؛ لأن ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثقل على اللسان، فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم4, وإلا فلا تخل5 بالفصاحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: $"الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"6.

_ 1 حاق الشيء: وسطه. 2 هو لأحمد بن الحسين, المعروف بأبي الطيب المتنبي في وصف فرسه "من الكامل": وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد والغمرة: الشدة، والسبوح: السريعة، والشواهد: العلامات، وهو فاعل قوله: "لها"؛ لاعتماده على الموصوف قبله أو مبتدأ مؤخر، والشاهد في كثرة الضمائر وتكرارها. 3 هو لعبد الصمد بن منصور البغدادي, المعروف بابن بابك من قوله "من الطويل": حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي ... فأنت بمرأى من سعاد ومسمع الجرعاء: مؤنث الأجرع, وهو المكان ذو الرمل لا يُنبت شيئا، وحومة الشيء: معظمه، والجندل: الحجارة، ومرأى ومسمع: اسما مكان أي: بمكان تراك منه سعاد وتسمعك. والشاهد في إضافة حمامة إلى جرعا، وجرعا إلى حومة، وحومة إلى الجندل. 4 يعني: بالتنافر. 5 أي: كثرة التكرار, وتتابع الإضافات. 6 في الحديث كثرة تكرار وهي ظاهرة، وفيه تتابع إضافات؛ لأن الإضافات تشمل المتداخلة كما في قول ابن بابك، وغير المتداخلة كما في الحديث، والمتداخلة هي التي يضاف فيها الأول للثاني، والثاني للثالث. وكثرة التكرار وتتابع الإضافات فيه لم تخلّ بالفصاحة.

قال الشيخ عبد القاهر1: "قال الصاحب2: إياك والإضافات المتداخلة؛ فإنها لا تحسن". وذكر أنها تستعمل في الهجاء، كقول القائل "من الخفيف": يا علي بن حمزة بن عمارهْ ... أنت -والله- ثلجة في خياره3 ثم قال الشيخ: ولا شك في ثقل ذلك في الأكثر، ولكنه إذا سلم من الاستكراه ملُح ولطُف. ومما حسُن فيه قول ابن المعتز أيضا4 "من الطويل": وظلت تدير الراح أيدي جآذر ... عتاق دنانير الوجوه ملاح5 ومما جاء فيه حسنا جميلا, قول الخالدي يصف غلاما له "من المنسرح": ويعرف الشعر مثل معرفتي ... وهو على أن يزيد مجتهد وصيرفي القريض وزّان ديـ ... ـنار المعاني الدقاق منتقد6 فصاحة المتكلم: وأما فصاحة المتكلم فهي ملكة يُقتَدَر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح؛

_ 1 دلائل الإعجاز, ص70, المطبعة العربية. 2 هو إسماعيل بن عبّاد المعروف بالصاحب؛ لصحبته ابن العميد. 3 لا يعرف قائله، وفي قوله: "ثلجة في خياره" قلب، والأصل: خياره في ثلجة، واعتُرض على الخطيب بأنه سيذكر هذا البيت في الاطراد من أنواع البديع فكيف يعيبه هنا؟! والحق أنه ليس فيه تتابع إضافات، وإنما هذا اشتباه نظر من عبد القاهر، وقد ترجم ياقوت لعلي بن حمزة في الجزء الخامس من معجم الأدباء. 4 أي: كما حسن فيما ذكره له قبل ذلك، وهو قوله "من المجتث": يا مسكة العطار ... وخال وجه النهار 5 هو لعبد الله بن المعتز. والراح: الخمر، والجآذر: جمع جؤذر, وهو ولد البقرة الوحشية، والعتاق: جمع عتيق بمعنى كريم، وإضافة دنانير إلى الوجوه من إضافة المشبه به إلى المشبه، والشاهد في قوله: "عتاق دنانير الوجوه". 6 هما لأبي عثمان سعيد بن هاشم, المعروف بالخالدي. والصيرفي: المحتال في الأمور، والقريض: الشعر، والمنتقد في الأصل: الخبير بتمييز الدراهم، ثم أُطلق على تمييز الدراهم وغيرها، والشاهد في قوله: "وزّان دينار المعاني".

فالملكة قسم من مقولة الكيف التي هي هيئة قارّة لا تقتضي قسمة ولا نسبة1، وهو مختص بذوات الأنفس، راسخ في موضوعه. وقيل: "ملكة" ولم يُقَل: "صفة"؛ ليشعر بأن الفصاحة من الهيئات الراسخة؛ حتى لا يكون المعبر عن مقصوده بلفظ فصيح فصيحا إلا إذا كانت الصفة التي اقتُدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح راسخة فيه، وقيل: "يقتدر بها" ولم يقل: يعبر بها؛ ليشمل حالتي النطق وعدمه، وقيل: "بلفظ فصيح" ليعم المفرد والمركب. بلاغة الكلام: وأما بلاغة الكلام فهي: مطابقته لمقتضى الحال2 مع فصاحته3. ومقتضى الحال مختلف؛ فإن مقامات4 الكلام متفاوتة؛ فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير،

_ 1 خرج بهذا القيد مقولة الكم؛ كالعدد، وكذلك مقولة بالإضافة، كالأبوة، وهذا تعريف فلسفي للكيفية، وهي صفة وجودية إن اختصت بالنفس الناطقة فهي نفسانية، فإن رسخت بتوالي أمثالها فهي ملكة، وهذا التعريف أليق بعلوم البلاغة. 2 الحال: هو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المراد خصوصية ما، ومقتضى الحال: هو تلك الخصوصية، ومطابقة الكلام له: بمعنى اشتماله عليه، فإذا كان المخاطب ينكر قيام زيد مثلا، فإنكاره حالٌ يدعو المتكلم إلى أن يخبره بقيامه مؤكدا: "إن زيدا قائم"، وتأكيد الخبر هو "مقتضى الحال". 3 فصاحته تكون بخلوّه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، على ما سبق في بيان فصاحة الكلام، وهذا قيد يخرج به كل كلام غير فصيح، فلا يكون بليغا وإن كان مطابقا لمقتضى الحال. ويجب عندي أن يزاد فيها قيد آخر, أي: مع فصاحته وأصالته؛ لأن المعنى إذا لم يكن أصيلا لم يكن بليغا، على نحو ما يأتي في السرقات الشعرية آخر الكتاب، وبهذا يكون الكلام فيها عندي من علم المعاني. 4 المقامات: جمع مقام, وهو اسم مكان من "قام"، والمراد به الحال السابق؛ وذلك أن البلغاء كانوا يلقون خطبهم وأشعارهم وهم قيام، فأُطلق المقام على الحال الداعي إليها؛ لأنه سبب فيه.

ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام1، إلى غير ذلك، كما سيأتي تفصيل الجميع. وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول2: بمطابقته للاعتبار المناسب، وانحطاطه: بعدم مطابقته له، فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب3. وهذا -أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحال- هو الذي يسميه الشيخ عبد القاهر بالنظم4؛ حيث يقول: "النظم تأخِّي5 معاني النحو6 فيما بين الكَلِم على

_ 1 هذا كالفعل الذي يقترن بالشرط، فله مع "إِنْ" مقام ليس له مع "إذا" وهكذا ... ومن ذلك ما روي أن رجلا أنشد ابن هرمة قوله "من الكامل": بالله ربك إن دخلت فقل لها ... هذا ابن هرمة قائما بالباب فقال له: "ما هكذا قلت، أكنت أتصدق؟! قال: فقاعدا. قال: أكنت أبول؟! قال: فماذا؟ قال: واقفا، ليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى". ولعل ابن هرمة يعني من ذلك أن القيام يقتضي الدوام والثبوت بخلاف الوقوف، تقول: وقف الحاج بعرفة، ولا تقول: قام. وتحقيق هذا أن الألفاظ المركبة فيها جمال وقبح كالألفاظ المفردة؛ حتى إنه قد يحدث أن يتألف الكلام من ألفاظ جميلة في ذاتها، قبيحة في تركيبها؛ لفقدها ما يسمى جمال الانسجام، وهذا هو ما يعنون بقولهم: "ولكل كلمة مع صاحبتها مقام". 2 عطف القَبُول على الحسن؛ ليدل على أن المراد الحسن الذاتي الداخل في البلاغة، لا الحسن العَرَضي الحاصل بالمحسنات البديعية. 3 أي: الأمر الذي اعتبره المتكلم مناسبا بحسب السليقة, أو بحسب ما عرفه من أساليب البلغاء. 4 دلائل الإعجاز ص55. 5 تأخيت الشيء: تحرّيته وتتبّعته. 6 يريد بمعاني النحو الخصوصيات التي هي مقتضى الحال من التقديم والتأخير وغيرهما، والأغراض في قوله: "على حسب الأغراض" هي الأحوال الداعية إليها، أو المعاني الثانوية التي يقصد من الخصوصيات إفادتها، وقيل: إن عبد القاهر لا يقف في هذا بالنحو عند وظيفته التي قصر أخيرا عليها، وهي الحكم بالصحة والخطأ في المعاني الأصلية، بل يجعل له حكما أيضا في المعاني الثانوية، ولهذا عرفه ابن جني بأنه "انتحاء كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره؛ ليلتحق من ليس من أهل العربية بأهلها من الفصاحة".

بحسب الأغراض التي يُصاغ لها الكلام". فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب1، وكثيرا ما يسمى ذلك2 فصاحة أيضا، وهو مراد الشيخ عبد القاهر3 بما يكرره في "دلائل الإعجاز" من أن "الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ" كقوله في أثناء فصل منه: "علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، وإلى ما يدل عليه بالألفاظ دون الألفاظ أنفسها"4. وإنما قلنا مراده ذلك؛ لأنه صرح في مواضع من "دلائل الإعجاز" بأن فضيلة الكلام للفظ لا لمعناه، منها أنه حكى قول من ذهب إلى عكس ذلك5, فقال: "فأنت تراه لا يقدم شعرا حتى يكون قد أُودع حكمة أو أدبا، أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر"6 ثم قال:

_ 1 أي: لا باعتبار أنه لفظ وصوت، ولا باعتبار الألفاظ المفردة والكلم المجردة، والمراد بالمعنى الذي تعتبر به البلاغة: المعنى الثانوي، وهو مدلول الخصوصيات السابقة في علم المعاني، والمعاني المجازية والكنائية في علم البيان. أما المعنى الأصلي وهو مجرد ثبوت المسند للمسند إليه فلا تعتبر به البلاغة أصلا، وقد تطلق المعاني الثانوية على نفس الخصوصيات. 2 أي: الوصف المذكور، وهو البلاغة، وعلى هذا تكون مرادفة للفصاحة. 3 فهو يريد بالفصاحة في كلامه البلاغة؛ لأن الفصاحة بمعناها السابق ترجع في التنافر والغرابة ومخالفة القياس والتعقيد اللفظي إلى اللفظ وحده، ولا ترجع إلى المعنى إلا في التعقيد المعنوي، وكذلك يريد من رجوع الفصاحة بمعنى البلاغة إلى المعنى أنها صفة اللفظ باعتبار المعنى، ولا يريد أنها لا ترجع إلى اللفظ أصلا. 4 دلائل الإعجاز ص169. 5 عكسه هو أن فضيلة الكلام للمعنى لا للفظ. 6 دلائل الإعجاز ص164.

"والأمر بالضد إذا جئنا إلى الحقائق وما عليه المحصلون؛ لأنا لا نرى متقدما في علم البلاغة مبرزا في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي". ثم نقل عن الجاحظ في ذلك كلاما منه قوله: "والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك". ثم قال1: "ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أنه محال -إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجودة العمل ورداءته- أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل؛ كذلك محال -إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام- أن تنظر في مجرد معناه، وكما "أننا" لو فضلنا خاتما على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود، أو فصه أنفس؛ لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه ألا يكون ذلك تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام". هذا لفظه، وهو صريح في أن الكلام -من حيث هو كلام- لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه، ولا شك أن الفصاحة2 من صفاته الفاضلة؛ فلا تكون راجعة إلى المعنى، وقد صرح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى دون اللفظ، فالجمع بينهما بما قدمناه بحمل كلامه؛ حيث نفى أنها من صفات اللفظ، على نفي أنها من صفات المفردات من غير اعتبار التركيب3، وحيث أثبت أنها من صفاته على أنها من صفاته باعتبار إفادته المعنى عند التركيب4.

_ 1 دلائل الإعجاز ص166. 2 يريد من الفصاحة ما يرادف البلاغة, جريا على مذهب عبد القاهر. 3 أي: من غير اعتبار ما يفيده التركيب من المعاني الثانوية. 4 فالمعنى الذي أرجع الفصاحة إليه هو المعنى الثانوي باعتبار استفادته من اللفظ عند التركيب. والمعنى الذي نفى البلاغة عنه هو المعنى الأصلي للفظ المفرد والكلام المجرد عن الخصوصيات.

وللبلاغة طرفان: أعلى، إليه تنتهي، وهو حد الإعجاز وما يقرب منه1. وأسفل، منه تبتدئ2، وهو ما إذا غُيِّر الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات؛ وإن كان صحيح الإعراب. وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة. "المحسنات البديعية": وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام وأقسامها ومراتبها؛ فاعلم أنه يتبعها وجوه كثيرة3 غير راجعة إلى مطابقة مقتضى الحال ولا إلى الفصاحة، تورث الكلام حسنا وقبولا4. بلاغة المتكلم: وأما بلاغة المتكلم فهي ملكة يُقتدر بها على تأليف كلام بليغ. حصر علوم البلاغة: وقد عُلم بما ذكرنا أمران: أحدهما: أن كل بليغ -كلاما كان أو متكلما- فصيح، وليس كل فصيح

_ 1 حد الإعجاز: منتهاه؛ لأن الحد في اللغة: منتهى الشيء، وما يقرب من الإعجاز هو ما دونه من مراتب الإعجاز؛ لأن الحق أن القرآن متفاوت الإعجاز، وليس كل آياته في درجة واحدة من البلاغة، وبهذا يكون قوله: "وما يقرب منه" معطوفا على "حد الإعجاز"، وقيل: إنه معطوف على قوله: "وهو", على معنى أن حد الإعجاز هو الطرف الأعلى وما يقرب منه كما قال السكاكي، ولكن حمل ما هنا عليه لا يخلو من تكلف. 2 من العلماء -كالفخر الرازي- من يرى أن هذا ليس من البلاغة، فيُلحق بأصوات الحيوانات أيضا، والحق أنه منها؛ لأنه لا بد من اشتماله على خصوصية ما، فيدخل في تعريف البلاغة. 3 هي المحسنات البديعية الآتية في علم البديع. 4 المراد بالقبول هنا ما يرادف الحسن، لا القبول بمعنى الصحة؛ لعدم توقف صحة الكلام عليها.

بليغا1. الثاني: أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد2، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره3. والثاني -أعني التمييز- منه ما يُتبين في علم متن اللغة أو التصريف أو النحو، أو يدرك بالحسن، وهو ما عدا التعقيد المعنوي4. وما يحترز به عن الأول -أعني الخطأ في تأدية المعنى المراد- هو علم المعاني. وما يحترز به عن الثاني -أعني التعقيد المعنوي- هو علم البيان. وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته هو علم البديع5.

_ 1 مما هو فصيح, وليس ببليغ قول نصيب "من الوافر": فإن تصلي أصلك وإن تعودي ... لهجر بعد وصلك لا أبالي لأنه نسيب رديء، ومنه أيضا قول جميل "من الطويل": فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابها لما فات من عقلي رغم أنه يهواها لذهاب عقله، وأنه لو كان عاقلا ما طلبها، وأين هذا من قول بعضهم: وما سرني أني خلي من الهوى ... ولو أن لي من بين شرق إلى غرب فإن كان هذا الحب ذنبي إليكم ... فلا غفر الرحمن ذلك من ذنب 2 هو المعنى الثانوي، والاحتراز عن الخطأ فيه بمراعاة مقتضى الحال. 3 لأن الفصاحة شرط في البلاغة كما سبق، وتمييز ذلك يكون بمعرفة الأمور المخلة بالفصاحة من: التنافر، والغرابة، ومخالفة القياس، وضعف التأليف, وغير هذا مما سبق. 4 ما عدا التعقيد المعنوي: هو الغرابة، ومخالفة القياس، وضعف التأليف، والتعقيد اللفظي، والتنافر، والأول يُعرف بعلم متن اللغة، والثاني بالتصريف وغيره؛ لأنه لا يختص به، والثالث والرابع بالنحو، والخامس يدرك بالحس والذوق، وبهذا تتوقف علوم البلاغة على هذه العلوم، وعلى تربية الحس والذوق بمطالعة كلام العرب. 5 بهذا تنحصر علوم البلاغة في العلوم الثلاثة، وإنما لم تجعل علوم اللغة والتصريف والنحو من علوم البلاغة مع توقف الفصاحة عليها أيضا؛ لأنها تقصد لأغراض غير الفصاحة، ومعرفة بعض نواحي الفصاحة منها تأتي بطريق العَرَض.

وكثير من الناس يسمي الجميع علم البيان1، وبعضهم يسمي الأول علم المعاني, والثاني والثالث علم البيان، وبعضهم يسمي الثلاثة علم البديع2.

_ 1 لأن البيان هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير، وهذه العلوم لها تعلق بالكلام الفصيح تصحيحا وتحسينا. 2 إما لبداعة مباحثها، أو لأنها يُعرف بها أمور مبتدعة بالنسبة إلى تأدية أصل المراد الذي يعرفه الخاصة والعامة، والظاهر أن الذي يسمي الثلاثة علم البديع بعض آخر غير من ذهب إلى ما قبله.

تمرينات على الفصاحة والبلاغة:

تمرينات على الفصاحة والبلاغة: تمرين1: 1- وازن بين هذين البيتين من جهة الفصاحة: لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم 2- بين ما في هذا البيت مما يخل بالفصاحة: وشوه ترقيش المرقش رقشه ... فأشياعه يشكونه ومعاشره تمري 2: 1- قال بعض الشعراء: خلت البلاد من الغزالة ليلها ... فأعاضهاك الله كي لا تحزنا وقال آخر: فكلكم أتى مأتى أبيه ... فكل فعال كلكم عجاب فبين ما فيهما مما يخل بالفصاحة. 2- لماذا كان عود الضمير على متأخر لفظا غير مخل بالفصاحة في قول الشاعر: جاء الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى رَبَّه موسى على قدر وكان مخلا بها في قول الآخر: ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا من الناس أبقى مجده الدهر مطعما؟ تمرين3: قال الأخطل في مدح عبد الملك بن مروان: وقد جعل الله الخلافة منهم ... لأبلج لا عاري الخوان ولا جدب

فأُخذ هذا عليه، فبَيِّن ما ترجع إليه هذه المؤاخذة من البلاغة أو الفصاحة. تمرين4: 1- من أي التعقيدين قول الشاعر: أنى يكون أبا البرايا آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد؟! 2- قال قاضٍ لرجل خاصمته امرأة: "أئن سألتك ثمن شكرها وشبرك, أخذتَ تُطلها وتضهلها" فبين ما فيه مما يخل بالفصاحة والبلاغة. تمرين 5: 1- لماذا لم تعد علوم اللغة والتصريف والنحو من علوم البلاغة, مع توقف الفصاحة عليها؟ 2- ما الفرق بين القياس اللغوي والصرفي؟ وأيهما تخل مخالفته بالفصاحة؟ 3- ما الذي يرجع إلى اللفظ من الفصاحة؟ وما الذي يرجع منها إلى المعنى؟ تمرين6: 1- وازن بين لفظ "شيء" من جهة البلاغة, في هذه الأبيات: ومن مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران 2- أي الأمرين أنفع: جمع علوم البلاغة تحت اسم واحد، أم توزيع مسائلها على علومها الثلاثة؟

الفن الأول: علم المعاني

الفن الأول: علم المعاني تعريف علم المعاني: هو علم يُعرَف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال1. وقيل: "يعرف" دون "يعلم" رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء من تخصيص العلم بالكليات، والمعرفة بالجزئيات، كما قال صاحب "القانون"2 في تعريف الطب:

_ 1 المراد بأحوال اللفظ ما يشمل أحوال الجملة وأجزائها؛ فأحوال الجملة: كالفصل, والوصل، والإيجاز، والإطناب، والمساواة. وأحوال أجزائها: كأحوال المسند إليه، وأحوال المسند، وأحوال متعلقات الفعل، وهذه الأحوال هي التي يقتضيها الحال في اللفظ، فهي بعينها مقتضى الحال، وبهذا يكون في التعريف تهافت ظاهر، ويمكن أن يجاب عنه بأنه نظر إليها أولا من حيث ذاتها, لا من حيث إنها مقتضى حال، وإنما قيد أحوال اللفظ بما يطابق بها مقتضى الحال لتخرج الأحوال التي ليست بهذه الصفة؛ كالإعلال والإدغام والرفع والنصب وغير ذلك مما لا بد منه في تأدية المعنى الأصلي، وكذلك المحسنات البديعية؛ لأنها تكون بعد رعاية المطابقة، ويخرج أيضا علم البيان؛ لأنه لا يُبحث فيه عن أحوال اللفظ من هذه الجهة، وقد تبحث أبوابه من هذه الجهة؛ فيكون ذلك من علم المعاني؛ كما قال الأخطل في مدح عبد الملك بن مروان "من الطويل": وقد جعل الله الخلافة منهم ... لأبلج لا عاري الخوان ولا جدب فكنى بهذا عن كرمه، ولا يليق في مدح الملوك، وإنما تمدح الملوك بمثل قول الشاعر "من الطويل": له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر هذا, وبعض الأحوال التي يُبحث عنها في علم المعاني قد يُبحث عنها في علم النحو؛ كالذكر والحذف، ولكن علم النحو يبحث عنها من جهة صحتها وفسادها، أما علم المعاني فيبحث عنها لبيان الأحوال التي يرجع بعضها على بعض، فلا تظهر المزية فيها إلا إذا احتمل الكلام وجها غير الوجه الذي جاء عليه، فيكون الحال مرجحا له. 2 "القانون" كتاب في الطب للحسين بن عبد الله, المعروف بابن سينا.

"الطب: علم يعرف به أحوال بدن الإنسان". وكما قال الشيخ أبو عمرو1 رحمه الله: "التصريف: علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم". وقال السكاكي2: "علم المعاني هو تتبع خواص3 تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره4؛ ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره". وفيه نظر؛ إذ التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه؛ فلا يصح تعريف شيء من العلوم به. ثم قال: "وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء". ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة على معرفة البلاغة، وقد عرفها في كتابه5 بقوله: "البلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها6 وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها"7. فإن أراد بالتراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء -وهو الظاهر- فقد جاء الدور8، وإن أراد غيرها فلم يبينه, على أن قوله: "وغيره" مبهم لم يبين مراده به9.

_ 1 هو عثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب, صاحب "الكافية" في النحو، و"الشافية" في التصريف. 2 المفتاح ص86, المطبعة الأدبية. 3 المراد بها أحوال اللفظ في تعريف الخطيب. 4 غير الاستحسان هو الاستهجان، ويريد بذلك: أن تراكيب الكلام لها خواص مستحسنة وخواص مستهجنة، وكل منهما يبحث في علم المعاني. 5 المفتاح ص208. 6 هذا يكون بإيرادها مطابقة لمقتضى الحال. 7 بأن تكون خالية من التعقيد المعنوي، وبهذا يرجع عنده علم البيان إلى البلاغة لا إلى الفصاحة كما ذكر الخطيب في المقدمة، وإنما لم يقيد تعريف البلاغة بفصاحة الكلام ليحترز به عن غير التعقيد أيضا كما سبق في تعريفها؛ لأنه يرى أنها غير لازمة لها، وسيأتي زيادة بيان لهذا في آخر علم البيان. 8 لأن معرفة البلاغة على هذا تتوقف على معرفة البلغاء، مع أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة على معرفة البلاغة. 9 يجاب عنه بأنه سبق بيان مراده به؛ فلا شيء عليه فيه. ومع هذا, أرى أن تعريف السكاكي ركيك العبارة، وأنه كان الأجدر بالخطيب إهماله.

أبواب علم المعاني: ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب: أولها: أحوال الإسناد الخبري. وثانيها: أحوال المسند إليه. وثالثها: أحوال المسند. ورابعها: أحوال متعلقات الفعل. وخامسها: القصر. وسادسها: الإنشاء. وسابعها: الفصل والوصل. وثامنها: الإيجاز والإطناب والمساواة. ووجه الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء؛ لأنه إما أن يكون لنسبته خارج1تطابقه أو لا تطابقه، أو لا يكون لها خارج؛ الأول: الخبر، والثاني: الإنشاء، ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند، وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى. ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا، أو متصلا به، أو في معناه2 كاسم الفاعل ونحوه، وهذا هو الباب الرابع. ثم الإسناد والتعلق، كل واحد منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر، وهذا هو الباب الخامس. والإنشاء هو الباب السادس. ثم الجملة إذا قرنت بأخرى؛ فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى أو غير معطوفة، وهذا هو الباب السابع.

_ 1المراد بالخارج الواقع ونفس الأمر, ولو لم يكن له وجود خارجي. 2يريد بالمتصل بالفعل: اسم الفاعل واسم المفعول ونحوهما، ويريد بما في معنى الفعل: المصدر؛ لأنه يدل على الحدث كالفعل.

ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة، أو غير زائد عليه، وهذا هو الباب الثامن. تنبيه: انحصار الخبر في الصادق والكاذب: اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب1؛ فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما، ثم اختلفوا؛ فقال الأكثر منهم: صدقه مطابقة حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقة حكمه له، هذا هو المشهور، وعليه التعويل. وقال بعض الناس2: صدقه: مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر, صوابا كان أو خطأ، وكذبه: عدم مطابقة حكمه له3، واحتج بوجهين: أحدهما: أن من اعتقد أمرا فأخبر به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال: "ما كذب، ولكنه أخطأ"، كما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت فيمن شأنه كذلك: "ما كذب، ولكنه وهم". ورُدَّ بأن المنفي تعمد الكذب، لا الكذب؛ بدليل تكذيب الكافر؛ كاليهودي إذا قال: "الإسلام باطل"، وتصديقه إذا قال: "الإسلام حق"؛ فقولها: "ما كذب" متأول بـ "ما كذب عمدا". الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] . كذّبهم في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وإن كان مطابقا للواقع؛ لأنهم لم يعتقدوه.

_ 1 مثل هذا لا يصح الاشتغال به في علوم البلاغة؛ لأنه لا فائدة فيه. 2 هو إبراهيم بن سيّار, المعروف بالنظّام. 3 أي: لاعتقاده، وهذا بأن يكون له اعتقاد يخالفه، أو لا يكون له اعتقاد أصلا، فيدخل خبر الشاك عند النظام في الكذب، ويكون من يقول: "محمد رسول" وهو شاك فيه، كاذبا عنده، وهو صادق عند الجمهور. وقيل: إن خبر الشاك ليس خبرا، فهو خارج عن المقسم، ولكن هذا لا يأتي مع ما سيأتي عن الجاحظ.

وأجيب عنه بوجوه: أحدها: أن المعنى1: نشهد شهادة واطأت فيها قلوبنا ألسنتنا كما يترجم عنه: إن واللام وكون الجملة اسمية2 في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ؛ فالتكذيب في قولهم: {نَشْهَدُ} وادعائهم فيه المواطأة، لا في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} . ولدفع هذا التوهم وسط بينهما قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} . وثانيها: أن التكذيب في تسميتهم إخبارهم شهادة؛ لأن الإخبار إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة. وثالثها: أن المعنى: لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} عند أنفسهم؛ لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه3. وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين، وزعم أنه ثلاثة أقسام: صادق، وكاذب، وغير صادق ولا كاذب؛ لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر له أو عدمه4، وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه5. فالأول أي: المطابق مع الاعتقاد6 هو الصادق. والثالث أي: غير المطابق مع الاعتقاد7 هو الكاذب، والثاني والرابع -أي: المطابق مع عدم الاعتقاد8، وغير المطابق مع عدم الاعتقاد9-

_ 1 يريد معنى قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} . 2 لأن كل واحد من الثلاثة يفيد تأكيد الخبر كما سيأتي. 3 فيكون الكذب راجعا إلى الواقع في زعمهم كما عليه الجمهور لا إلى الاعتقاد, وعلى هذا يكون التكذيب في المشهود به لا في الشهادة كما في الوجه الثاني. 4 أي: مع اعتقاد المخبِر بأنه مطابِق، أو عدم اعتقاده بأنه مطابق. 5 أي: مع الاعتقاد بأنه غير مطابق، أو عدم الاعتقاد بأنه غير مطابق. 6 بأنه مطابق. 7 بأنه غير مطابق. 8 بأنه مطابق. وعدم الاعتقاد بهذا تحته صورتان: ألا يكون عنده اعتقاد أصلا، وأن يكون عنده اعتقاد بأنه غير مطابق، والصورة الأولى تأتي في خبر الشاك، والثانية كقول المنافق: "محمد رسول الله". 9 بأنه غير مطابق، وعدم الاعتقاد بهذا تحته صورتان أيضا: عدم الاعتقاد أصلا، والاعتقاد بأنه مطابق؛ كقول الكافر: محمد غير رسول.

كل منهما ليس بصادق ولا كاذب1. فالصدق عنده: مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده، والكذب: عدم مطابقته مع اعتقاده، وغيرهما ضربان: مطابقته مع عدم اعتقاده، وعدم مطابقته مع عدم اعتقاده، واحتج بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] فإنهم حصروا دعوى النبي -صلى الله علية وسلم- الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون، بمعنى امتناع الخلو2، وليس إخباره حال الجنون كذبا؛ لجعلهم الافتراء في مقابلته، ولا صدقا؛ لأنهم لم يعتقدوا صدقه؛ فثبت أن من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب. وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد؛ فهو نوع من الكذب؛ فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبا أيضا؛ لجواز أن يكون نوعا آخر من الكذب؛ وهو الكذب لا عن عمد، فيكون التقسيم للخبر الكاذب، لا للخبر مطلقا، والمعنى: أفترى أم لم يفتر؟ وعبر عن الثاني بقوله: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ؛ لأن المجنون لا افتراء له3. تنبيه آخر: وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم؛ قال السكاكي4: "ليس من الواجب في صناعة -وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل- أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق منها، فكيف إذا كانت

_ 1 بهذا يكون بين الصدق والكذب واسطة عند الجاحظ، بخلاف الجمهور والنظام. 2 أي: والجمع؛ لأن قوله: "وليس إخباره حال الجنون كذبا" يدل على أنها مانعة جمع أيضا، ولو كانت مانعة خلو فقط لجاز أن يكون إخباره حال الجنون كذبا؛ لأن مانعة الخلو تجوز الجمع، فلا تثبت الواسطة بين الصدق والكذب. 3 رأيي في هذه الخلافات بعد الانتهاء منها, أنها خلافات لا طائل تحتها. 4 المفتاح ص90.

الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية، واعتبارات إلفية؟ فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد1 صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك، إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق". وكثيرا ما يشير الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" إلى هذا؛ كما ذكر في موضع2 ما تلخيصه هذا: "اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع، ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، وممن تحدثه نفسه بأن لما تومئ إليه من الحسن أصلا، فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها أخرى، وإذا عجبته تعجب، وإذا نبهته لموضع المزية انتبه. فأما من كان الحالان3 عنده على سواء، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة، وإلا إعرابا ظاهرا، فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع الذي يدرك به وزن الشعر, ويميز به مزاحفه من سالمه، في أنك لا تتصدى لتعريفه؛ لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف"4. واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب, فإن من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء ما لم تعرف المزية فيه، ولا يعلم إلا أن له موقعا من النفس، وحظا من القبول5، فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول6. واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل، ولأن تعرف العلة في بعض الصور فتجعله شاهدا في غيره، أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك، وتعودها الكسل والهوينى. قال الجاحظ: "وكلام كثير جرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة، وثمرة مرة، فمن أضر ذلك قولهم: "لم يدع الأول للآخر شيئا". فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم، لرأيت العلم مختلا".

_ 1 خير له عندي ألا يقلد في ذلك إلى أن يتربى له الذوق فيذوق بنفسه؛ لأن التقليد مذموم في كل علم، على أن دعواه أن هذه الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية لا تصح في علم المعاني، وإنما تصح في علم النحو، كما ذكره ابن الأثير في المثل السائر. 2 دلائل الإعجاز ص190, 191. 3 يعني الحال التي توجب الأريحية، والحال التي تعرى منها. 4 عبد القاهر في هذا يخالف السكاكي في تجويزه التقليد عند تعذر المعرفة. 5 فلا يعرف لذلك علة وسببا؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك عنده، وإنما هو ذوق لا غير. 6 هو من كانت الحالان عنده على سواء.

الباب الأول: القول في أحوال الإسناد الخبري

الباب الأول: القول في أحوال الإسناد الخبري أغراض الخبر: من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم؛ كقولك: "زيد قائم" لمن لا يعلم أنه قائم، ويسمى هذا1 فائدة الخبر، وإما كون المخبر عالما بالحكم؛ كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك: "زيد عندك"، ويسمى هذا2 لازم فائدة الخبر.

_ 1 اسم الإشارة يعود إلى إفادة المخاطب نفس الحكم؛ لأن هذا هو الذي يسمى فائدة الخبر، وقيل: إنه يعود إلى نفس الحكم، ورد بأن الحكم ركن من أركان الخبر، وفائدة الشيء لا تكون جزءا منه، وهذه الفائدة هي المقصد الأول من مقاصد الإسناد الخبري. 2 أي: كون المخبر عالما بالحكم، وإنما سمي هذا "لازم فائدة الخبر"؛ لأنه يلزم من إفادة المخاطب الحكم، إفادته أن عنده علما أو ظنا به، ولازم فائدة الخبر هو المقصد الثاني من الإسناد الخبري. وللإسناد الخبري مقاصد وأغراض أخرى: منها إظهار التحسر، كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] . ومنها إظهار الفرح، كما في قول الشاعر "من الطويل": هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما ومنها إظهار الضعف والخشوع, كقول الآخر "من الوافر": إلهي عبدك العاصي أتاكا ... مقرا بالذنوب وقد دعاكا ومنها توبيخ السامع، كقول الحماسية "من الطويل": وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم والغرض الأول -وهو فائدة الخبر- يستفاد من ذات الخبر، وما عداه من الأغراض يدل عليها الخبر دلالة تبعية؛ فهي من مستتبعات الكلام، ولا توصف بأنها حقيقة ولا مجاز ولا كناية.

قال السكاكي1: "والأولى2 بدون هذه3 تمتنع، وهذه بدون الأولى لا تمتنع، كما هو حكم اللازم المجهول المساواة"4 أي: يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه؛ لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول، مع أن سماع الخبر من المخبر كافٍ في حصول الثاني منه5. ولا يمتنع أن لا يحصل الأول من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه؛ لجواز حصول الأول قبل حصول الثاني6 وامتناع حصول الحاصل. وقد ينزل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل؛ لعدم جريه على موجب العلم؛ فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل بأحدهما7.

_ 1 المفتاح ص88. 2 هي فائدة الخبر. 3 اسم الإشارة يعود إلى لازم فائدة الخبر، وقد أنّثه باعتبار كونه فائدة أيضا. 4 كلزوم الحيوانية للإنسانية؛ لأن الحيوانية أعم، فيلزم من العلم بالإنسانية العلم بالحيوانية، ولا يلزم من العلم بالحيوانية العلم بالإنسانية. 5 لأن من يخبر بشيء لا بد أن يكون عنده علم أو ظن به؛ فالمراد بالعلم الثاني علم المخاطب بأن المخبر عالم بالحكم، والمراد بالعلم الأول علمه بذلك الحكم. 6 بأن يكون المخاطب عالما بالحكم قبل الإخبار به، فيحصل بالخبر في هذه الحالة لازم فائدته دونها؛ لامتناع تحصيل الحاصل. 7 من تنزيل العالم بالفائدة منزلة الجاهل بها, قول الفرزدق لهشام بن عبد الملك حين تجاهل معرفة علي بن الحسين, رضي الله عنهما "من البسيط": هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا ومن تنزيل العالم بلازم الفائدة منزلة الجاهل به, قولك لمن يؤذيك وهو يعلم أنك مسلم: "الله ربنا ومحمد نبينا". وقد جعل السكاكي هذا من باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر؛ فهو عنده مثل تنزيل غير السائل منزلة السائل ونحوه مما يأتي، وقيل: إن الخطيب لم يجعل ما هنا من ذلك الباب؛ لأن الخبر لا يختلف في التأكيد وتركه في مخاطبة الجاهل بفائدة الخبر ولازمها، ومخاطبة العالم بهما المنزل منزلة الجاهل. أما تنزيل غير السائل منزلة السائل ونحوه فيختلف في ذلك كما سيأتي، والخطب في هذا سهل.

قال السكاكي1: "وإن شئت فعليك بكلام رب العزة: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] . كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي، وآخره ينفيه عنهم؛ حيث لم يعملوا بعلمهم. ونظيره في النفي والإثبات: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] وقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] . هذا لفظه، وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما، وليست منها، بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به؛ لعدم جريه على موجب العلم، والفرق بينهما ظاهر2. أضرب الخبر: وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين, فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة. أ- فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه، استُغني3 عن مؤكدات الحكم؛ كقولك: "جاء زيد, وعمرو ذاهب" فيتمكن في ذهنه؛ لمصادفته إياه خاليا. ب- وإن كان متصورا لطرفيه، مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبا له،

_ 1 المفتاح ص92. 2 أجيب عن السكاكي بأن غرضه التنظير لتنزيل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بهما، وليس غرضه التمثيل له؛ ولهذا ذكر أيضا قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] وهو من تنزيل الموجود منزلة المعدوم، وليس من تنزيل العالم منزلة الجاهل. 3 مثله إذا كان المخاطب عالما بالحكم وأراد المخبر إفادته لازم فائدة الخبر، أو إظهار التحسر، ونحوه، أو تنزيله منزلة الجاهل، فيستغنى في ذلك أيضا عن المؤكدات.

حسن تقويته بمؤكد1؛ كقولك: "لزيد عارف"، أو "إن زيدا عارف". ج- وإن كان حاكما بخلافه, وجب توكيده بحسب الإنكار2؛ فتقول: "إني صادق" لمن ينكر صدقك ولا يبالغ في إنكاره، و: "إني لصادق" لمن يبالغ في إنكاره، وعليه قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 13-16] . حيث قال3 في المرة الأولى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} ، وفي الثانية:

_ 1 أي: مؤكد واحد؛ ليزيل تردده في الإسناد بالتوكيد، ومثل التردد في الإسناد التردد في لازم فائدة الخبر, وحسن التأكيد في ذلك إنما هو بالنظر إلى حال الإنكار، وإلا فهو واجب أيضا، ولا يراد إلا التمييز باللفظ بين الحالين، وأن درجة الوجوب في التردد ليست كدرجة الوجوب في الإنكار، والمراد بالمتردد ما يشمل الظان والمتوهم، وقد ذهب عبد القاهر إلى أنه لا يحسن التأكيد إلا إذا كان للمخاطب ظن على خلاف حكم المتكلم، وسيأتي قريبا ما يفيد جواز تعدد التوكيد في التردد كالإنكار. ومن التأكيد للتردد في الحكم قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96] . 2 فيؤتى له بمؤكد واحد أو اثنين أو أكثر على حسب إنكاره في القوة والضعف، وقيل: إنه لا يكتفي في الإنكار بمؤكد واحد، ومثل إنكار الإسناد في هذا إنكار لازم فائدة الخبر، ومن هذا قوله تعالى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] ؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- ينكر علمهم بذلك، فأكدوا له. ومن أدوات التأكيد: إن، والقسم، ونونا التوكيد، ولام الابتداء، وأما الشرطية، وحروف التنبيه، وضمير الفصل، وقد، وأدوات الاستفتاح، والحروف الزائدة. 3 فأكد في المرة الأولى بإن واسمية الجملة, وفي الثانية بهما وبالقسم واللام؛ لأنهم بالغوا في الإنكار فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ... } الآية.

{إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} . ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس للكندي1 عن قوله: "إني أجد في كلام العرب حشوا؛ يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم, والمعنى واحد! " بأن قال: "بل المعاني مختلفة؛ فعبد الله قائم إخبار عن قيامه، وإن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل، وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر". ويسمى النوع الأول من الخبر: ابتدائيا, والثاني: طلبيا، والثالث: إنكاريا، وإخراج الكلام على هذه الوجوه2: إخراجا على مقتضى الظاهر 3: خريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر: وكثيرا ما يخرج على خلافه4، فينزل غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر, فيستشرف له استشراف المتردد الطالب5؛ كقوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} 6.

_ 1 أبو العباس: هو محمد بن يزيد المبرد، والكندي: هو يعقوب بن إسحاق الفيلسوف. 2 هي: الخلو عن التأكيد في الأول، وعن التقوية بمؤكد؛ استحسانا في الثاني، ووجوبا في الثالث. 3 أي: يسمى إخراجا على مقتضى الظاهر, والمراد به ظاهر الحال. وهو الحال الداعي الذي له ثبوت في الواقع؛ كخلو المخاطب من الحكم أو تردده أو إنكاره. والحال أعم من ظاهر الحال؛ لأنه يشمل أمرين: أحدهما ما له ثبوت في الواقع، والثاني ما لا ثبوت له؛ كتنزيل غير السائل منزلة السائل ونحوه مما سيأتي. 4 هذا باب من البلاغة أوقع في النفس من تخريج الكلام على مقتضى الظاهر؛ لدقة مسلكه، وحسن موقعه في النفس. وقد قيل: إنه باب الكناية. وقيل: إنه من الاستعارة بالكناية والتخييل. وقيل: إنه من مستتبعات الكلام فلا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا كناية. 5 الحال هنا تقديم ما يلوح للمخاطب بالخبر. ومن نكت تنزيل غير السائل منزلة السائل أيضا الاهتمام بشأن الخبر لكونه مستبعدا, والتنبيه على غفلة السامع، وغير ذلك. 6 آية: 37 سورة هود. فإن قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} يلوِّح باستحقاقهم العذاب.

وقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} 1، وقول بعض العرب "الرجز": فغنها وهي لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء2 وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة وغموض؛ روي عن الأصمعي أنه قال: كان أبو عمرو بن العلاء3 وخلف الأحمر يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما، ويكتبان عنه متواضعيْنِ له، حتى يأتي وقت الزوال، ثم ينصرفان. فأتياه يوما، فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما, قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب!! قال: نعم، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب؛ فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف, قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ، فأنشدهما "الخفيف": بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير4 حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح":

_ 1 آية 53 سورة يوسف، فإن قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} يلوِّح بقبح نفسها "امرأة العزيز". ولا يخفى أن هنا توكيدين، وهذا يفيد جواز تعدد التوكيد في المتردد وما ينزل منزلته، فيكون الفرق بينه وبين المنكر في الوجوب والاستحسان فقط. وقيل: إن أحد التوكيدين لاستبعاد الخبر في ذاته. 2 لا يعلم قائله. والضمير في قوله: "فغنها" للإبل أي: فغن لها، والحداء بضم الحاء وكسرها مصدر: "حدا الإبل" إذا ساقها وغنّى لها. والشاهد في أنه حين يقول: "غنها" ليشتد سيرها يفهم السامع أن غناءها هو الحداء الذي تساق به، فتستشرف له نفسه، ومن هذا قول أبي نواس "من بحر السريع": عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في الياس 3 رواية الأغاني: "كان خلف بن عمرو بن العلاء وخلف الأحمر ... " وقد ساق القصة كما هنا. 4 هو لبشار بن برد. والهجين: من الزوال إلى العصر.. أو شدة الحر. والشاهد في أن الشطر الأول يلوح بالثاني؛ ولهذا أتى به مؤكدا.

"بكرا فالنجاح" كان أحسن. فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية1 فقلت: "إن ذاك النجاح" كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت: "بكرا فالنجاح" كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام2، ولا يدخل في معنى القصيدة. قال: فقام خلف فقبّله بين عينيه. فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء -وهم من فحولة هذا الفن- إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟ وكذلك ينزل غير المنكر منزلة المنكر3 إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار؛ كقوله: جاء شقيق عارضا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح4 فإن مجيئه هكذا مدلا بشجاعته، قد وضع رمحه عرضا، دليل على إعجاب شديد منه، واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد، كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح. وكذلك ينزل المنكر منزلة غير المنكر5 إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن

_ 1 وحشية: صفة كاشفة لأعرابية، ولا يريد الوحشية المخلة بالفصاحة. 2 لأنه ليس فيه من دقة الإشارة إلى تنزيل غير السائل منزلة السائل ما في قوله: "إن ذاك النجاح"؛ وإنما فيه تكرير الأمر بالتبكير لتأكيده على وجه ظاهره لا دقة فيه. 3 غير المنكر يشمل خالي الذهن من الحكم، والمتردد، والعالم به من غير إنكار، ولكنه لا يعمل بعلمه؛ كقولك للمسلم التارك للصلاة: إن الصلاة واجبة. وفائدة تنزيل المتردد منزلة المنكر: المبالغة في توكيد الخبر له. 4 هو لحجل بن نضلة الباهلي، وبعده: هل أحدث الدهر لنا ذلة؟ ... أم هل رفت أم شقيق سلاح؟ وقوله: "عارضا رمحه" معناه: أنه وضعه على عرضه؛ بأن جعله على فخذيه بحيث يكون عرضه إلى جهتهم، وكان هذا من أمارة عدم التصدي للحرب، والشاهد في قوله: "إن بني عمك فيهم رماح"، وهو من تنزيل العالم منزلة المنكر. 5 المراد بغير المنكر: خالي الذهن من الحكم فقط؛ لأنه لا فائدة لتنزيل المنكر منزلة المتردد، وقيل: إن له فائدة في تقليل التوكيد كما سيأتي في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .

الإنكار؛ كما يقال لمنكر الإسلام: "الإسلام حق"1. وعليه قوله تعالى في حق القرآن: {لَا رَيْبَ فِيهِ} 2. ومما يتفرع على هذين الاعتبارين3 قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16] أكد إثبات الموت بتأكيدين وإن كان مما لا ينكر؛ لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت؛ لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده، ولهذا قيل: {لَمَيِّتُونَ} دون "تموتون" كما سيأتي الفرق بينهما4، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان مما ينكر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا ينكر، بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه، فنزل

_ هذا, وقد ترك تنزيل السائل منزلة غير السائل، وهو أيضا مما يدخل في باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وإنما ينزل السائل منزلة غير السائل إذا لم يكن هناك وجة لتردده. 1 أي: من غير تأكيد. واعتُرض على هذا بأنه جملة اسمية، وأجيب بأن الجملة الاسمية إنما تفيد التوكيد إذا اعتُبر تحويلها عن الجملة الفعلية، نحو: "زيد يقول" فإنها يمكن اعتبارها محولة عن "يقوم زيد". 2 آية 2 سورة البقرة. فإن معناه أن القرآن ليس محل شك، وهذا ينكره المخاطبون من الكفار، فكان حقه في الظاهر التأكيد، ولكنهم نزلوا منزلة غير المنكرين؛ فترك التأكيد لهم، وقيل: إن هذا ليس تمثيلا لتنزيل المنكر منزلة غير المنكر, بناء على أن المراد نفي الريب نفسه مع أنه واقع منهم, تنزيلا له منزلة عدمه، فيكون هذا تنظيرا لتنزيل المنكر منزلة غيره لا تمثيلا له، ويؤيد هذا أن قوله فيما يأتي: "وهكذا اعتبارات النفي" ظاهر في أنه لم يسبق مثال منه. 3 يعني اعتبار تنزيل غير المنكر منزلة المنكر، واعتبار تنزيل المنكر منزلة غير المنكر. 4 أي: في الكلام على المسند من أن ذكره قد يكون ليتعين كونه اسما, فيُستفاد منه الثبوت, أو كونه فعلا فيستفاد منه التجدد؛ وبهذا يكون ما في الآية من تنزيل العالم منزلة المنكر.

المخاطبون منزلة المترددين فيه؛ تنبيها لهم على ظهور أدلته، وحثا على النظر فيها، ولهذا جاء {تُبْعَثُونَ} على الأصل1. هذا كله اعتبارات الإثبات، وقس عليه اعتبارات النفي؛ كقولك: "ليس زيد"، أو: "ما زيد منطلقا" أو "بمنطلق"، "ووالله ليس زيدا"، أو: "ما زيد منطلقا" أو بمنطلق، و"ما ينطلق؛ أو ما إن ينطلق زيد"، و"ما كان زيد ينطلق، وما كان زيد لينطلق"، و"لا ينطلق زيد", و"لن ينطلق زيد"، "ووالله ما ينطلق, أو ما إن ينطلق زيد"2.

_ 1 أي: على الفعلية دون الاسمية؛ لأن المعنى على التجدد، لا الثبوت، وبهذا يكون ما في الآية من تنزيل المنكر منزلة المتردد. 2 هذا والتأكيد يأتي أيضا في الإنشاء كما يأتي في الخبر، كقول الشاعر "من البسيط": هلا تمنن بوعد غير مخلفة ... كما عهدتك في أيام ذي سلم ولكن التأكيد لا يأتي في الإنشاء لدفع التردد والإنكار؛ لأنهما لا يأتيان فيه، وإنما يأتي لأغراض أخرى من أغراض التأكيد في الخبر؛ لأنها لا تنحصر فيما ذكر: فمنها الدلالة على استبعاد الحكم من المخبر؛ كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117] . ومنها الاعتناء بشأن الحكم؛ كما في قول أبي بكر: "إن البلاء موكل بالمنطق". ومنها تهيئة النكرة للابتداء بها؛ كما في قول الشاعر "من الخفيف": إن دهرا يلف شملي بسعدى ... لزمان يهم بالإحسان ومنها إظهار صدق الرغبة في الحكم وقصد ترويجه، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] . فلم يؤكدوا في خطاب المؤمنين؛ لعدم رواجه منهم عندهم، وأكدوا في خطاب إخوانهم؛ لصدق رغبتهم فيهم.

تمرينات على أغراض الخبر وأضربه: تمرين1: بين الغرض من الخبر فيما يأتي: 1- ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب 2- محا البين ما أبقت عيون المها مني ... فشبت ولم أقض اللبانة من سني 3- قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: الآية 1] . تمرين2: من أي أضرب الخبر ما يأتي: 1- عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في الياس 2- لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير 3- ما إن ندمت على سكوتي مرة ... ولقد ندمت على الكلام كثيرا تمرين3: بين ما جرى من أضرب الخبر على مقتضى الظاهر, أو خلافه فيما يأتي: 1- ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليَبَس 2- قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] . 3- قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] . تمرين4: بين الغرض من التأكيد فيما يأتي: 1- إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذا مضوا مهلا 2- قوله تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] . 3- إن البغاث بأرضنا يستنسر. 4- ألا إن أخلاق الفتى كزمانه ... فمنهن بيض في العيون وسود

فصل: الحقيقة والمجاز العقليان

فصل: الحقيقة والمجاز العقليان الإسناد منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي1. أما الحقيقة فهي إسناد الفعل2 -أو معناه- إلى ما هو له3 عند المتكلم في الظاهر4. والمراد بمعنى الفعل نحو المصدر واسم الفاعل5.

_ 1 الحقيقة والمجاز العقليان يأتيان في الإسناد الإنشائي أيضا، وقيل: إنهما يأتيان في الإسناد الإضافي ونحوه، كما في قوله: {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] ، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [الحج: 12] . وقيل: إن الإضافة قد تكون لمطلق الملابسة، فتكون في نحو "مكر الليل" حقيقة عقلية. ويسمى المجاز العقلي مجازا حكميا ومجازا إسناديا أيضا، ومن الإسناد ما لا يكون حقيقة ولا مجازا كما سيأتي. 2 المراد بالإسناد ما يشمل الإسناد الإيجابي والسلبي. 3 الإسناد إلى ما هو له يشمل الإسناد إلى الفاعل وإلى المفعول. ويريد بكونه له إذا كان فاعلا أن معناه قائم به ووصف له، وحقه أن يسند إليه، سواء أكان مخلوقا لله تعالى كما يقول أهل السنة، أم كان لغيره كما يقول المعتزلة، والأفعال من هذه الجهة تنقسم إلى أفعال استأثر الله بها مثل الخلق والرزق، وإلى أفعال لغيره كسب فيها، مثل "أحسن وأساء وقام وقعد"، وإلى أفعال يراد من إسنادها مجرد الاتصاف بها، مثل "صح ومرض وعظم وتنزه"؛ فالأولى إسنادها إلى الله حقيقي ولا يصح إسنادها إلى غيره إسنادا حقيقيا، والثانية يصح إسنادها إلى غيره إسنادا حقيقيا، ومنها ما لا يصح إسناده إليه تعالى مثل "قام وقعد"، والثالثة منها ما يسند إليه تعالى، مثل "عظم وتنزه" ومنها ما يسند إلى غيره مثل "صح ومرض"، هذا والمعول عليه عند الخطيب هو إسناد الفعل أو معناه ولو في جملة اسمية, كما سيأتي تحقيقه. 4 أي: في ظاهر حال المتكلم، بألا ينصب قرينة تدل على أنه غير ما هو له في اعتقاده كما سيأتي. 5 مثلهما اسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والظروف؛ لأن المراد بالإسناد ما يشمل الإسناد على جهة المفعولية كما سبق، فيدخل في ذلك إسناد اسم المفعول كما يدخل فيه إسناد الفعل إلى المفعول.

وقولنا: "في الظاهر" ليشمل ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع، وما لا يطابقه؛ فهي أربعة أضرب: أحدها: ما يطابق الواقع واعتقاده؛ كقول المؤمن: "أنبت الله البقل، وشفى الله المريض". والثاني: ما يطابق الواقع دون اعتقاده؛ كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يُخفيها منه1: "خالق الأفعال كلها هو الله تعالى". والثالث: ما يطابق اعتقاده دون الواقع؛ كقول الجاهل: "شفى الطبيب المريض" معتقدا شفاء المريض من الطبيب، ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] ، ولا يجوز أن يكون مجازا، والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ؛ لما فيه من إيهام الخطأ2، بدليل3 قوله تعالى عقيبه: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] . والمتجوز المخطئ في العبارة لا يوصف بالظن، وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله. والرابع: ما لا يطابق شيئا منهما؛ كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالما بحالها دون المخاطب4.

_ 1 لأن الإسناد في قوله حينئذ يكون على ما هو له في ظاهر حاله، ولا يخفى أن الجملة هنا مركبة من مبتدأ وخبر، ولكن يصدق عليها أن فيها إسناد معنى الفعل لما هو له. 2 هذا تعليل للإنكار عليهم مع كونه مجازا؛ فقوله: "لما" متعلق بالإنكار. 3 متعلق بقوله: "ولا يجوز". 4 قيل: إن الأقوال الكاذبة حقيقة عقلية ولو علم المخاطب بحالها؛ لأن الفعل فيها مسند إلى ما هو له بحسب وضع اللغة، فهو بظاهره من شأنه أن يدل على ذلك وإن تخلَّفت الدلالة لمانع اعتقاد الكاذب؛ وبهذا تنقسم الحقيقة العقلية إلى: صادقة وكاذبة.

تعريف المجاز العقلي: وأما المجاز فهو إسناد الفعل1، أو معناه، إلى ملابس له2، غير ما هو له بتأول3. وللفعل4 ملابسات شتى: يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب5. فإسناده إلى الفاعل: إذا كان مبنيا له حقيقة كما مر، وكذا إلى المفعول: إذا كان مبنيا له6. وقولنا: "ما هو له" يشملهما. وإسناده إلى غيرهما7 -لمضاهاته8 ما هو له في ملابسة الفعل- مجاز؛ كقولهم في المفعول به9:

_ 1 المراد بالإسناد هنا أيضا ما يشمل الإيجابي والسلبي، والثاني كقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] ، وكذلك ما يشمل إسناد الفعل إلى الفاعل وإلى المفعول؛ كما في قولك: أجرى الله النهر. 2 يشير بهذا إلى أنه لا بد فيه من العلاقة كسائر المجازات؛ فالعلاقة هنا هي الملابسة، أي: ملابسة العقل للفاعل المجازي من جهة وقوعه عليه أو فيه أو به أو نحو ذلك. 3 أي: بقرينة صارفة عن إرادة الظاهر؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره، فالمتبادر في نحو: "أنبت الربيع البقل" أن الإسناد فيه إلى ما هو له، والقرينة تصرفه عن ظاهره. 4 مثله ما في معناه بقرينة التعريف. 5 لم يذكر المفعول معه والحال ونحوهما؛ لأن الفعل لا يسند إلى ذلك على سبيل المجاز العقلي. 6 نحو: أُنبت البقلُ. 7 هذا يشمل إسناد ما هو للفاعل إلى المفعول به؛ نحو: "عيشة راضية"، وإسناد ما هو للمفعول إلى الفاعل، نحو: "سيل مفعم". 8 يريد بالمضاهاة في ذلك علاقة الملابسة السابقة، ولا يريد أن العلاقة في ذلك المشابهة؛ لأن المشابهة علاقة المجاز بالاستعارة لا المجاز العقلي، وقيل: إن العلاقة هنا المشابهة في الملابسة، وهو تكلّف يأباه أسلوب المجاز العقلي؛ لأنه لا يلاحظ فيه ذلك أصلا، على أن علاقة المشابهة لا تكفي فيها هذه الملابسة. 9 أي: في إسناد ما هو للفاعل إلى المفعول به، والعلاقة فيه الملابسة بالمفعولية.

عيشة راضية، وماء دافق1، وفي عكسه: سيل مفعم2، وفي المصدر: شعر شاعر3، وفي الزمان: نهاره صائم، وليله قائم4، وفي المكان: طريق سائر، ونهر جارٍ5، وفي السبب: "بنى الأمير المدينة". وقال: إذا رد عافي القِدْر من يستعيرها6 وقولنا: "بتأول" يخرج نحو قول الجاهل: "شفى الطبيب المريض"؛ فإن إسناده

_ 1 منه أيضا قول الشاعر "البسيط": دع المكارم لا ترحل لبُغْيَتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي يريد: المطعوم المكسوّ، والأصل في ذلك: راضٍ صاحبها، ودافق ماؤه، وطاعم وكاسٍ: طاعمه وكاسيه. 2 منه أيضا قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] ، أي: آتيا، والعلاقة فيه الملابسة بالفاعلية، والأصل: مفعم واديه، ومأتيّ مضمونه. 3 منه أيضا قول الشاعر "السريع": سيذكرني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر والأصل -في ذلك- شعر شاعر صاحبه، وجدّ صاحب جدّهم، والعلاقة فيه الملابسة بالمصدرية. 4 منه أيضا قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر: 9] ، والعلاقة فيه الملابسة بالزمانية، والأصل: صائم فيه ... إلخ. 5 العلاقة فيه الملابسة بالمكانية، والأصل: سائر السائر فيه ... إلخ. 6 هو لعوف بن الأحوص من قوله "من الطويل": فلا تسأليني واسألي عن خليقتي ... إذا رد عافي القدر من يستعيرها وقد نُسب في "أساس البلاغة" للكميت. والعلاقة في ذلك: الملابسة بالسببية، والأصل: بنى البنّاء المدينة بسببه، ورد المعير القدر بسببه، وعافي القدر: المرق الذي يبقى فيها فيكون سببا في رد المستعير لها؛ فإسناد الرد إلى عافي القدر من الإسناد إلى السبب، وهذا كناية عن كَلَب الزمان وكونه يمنع إعارة القدر لتلك البقية، وقيل: إن عافي القدر هو الضيف، والمعنى أن المستعير يراه والقدر منصوبة له فلا يطلبها. وقيل: إن البيت لعبيد بن الأبرص. وقيل: إنه لمضرس الأسدي.

الشفاء إلى الطبيب ليس بتأول. ولهذا لم يحمل نحو قول الشاعر الحماسي "المتقارب": أشاب الصغير وأفنى الكبيـ ... ـر كر الغداة ومر العشي1 على المجاز، ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يُرِدْ ظاهره2، كما استُدل على أن إسناد "ميز" إلى "جذب الليالي" في قول أبي النجم "من الرجز": قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع من أن رأت رأسي كرأس الأصلع ميز عنه قنزعا عن قنزع جذب الليالي أبطئي أو أسرعي3 مجاز؛ بقوله عقيبه: أفناه قيل الله للشمس: اطلعي ... حتى إذا واراكِ أفق فارجعي4 وسمي الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليا؛ لاستناده إلى العقل دون الوضع؛ لأن إسناد الكلمة إلى الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة،

_ 1 هو لقثم بن خبية المعروف بالصلتان العبدي، وقيل: إنه للصلتان الضبي، والغداة: أول النهار، وكرها: رجوعها بعد ذهابها. والعشي: أول الليل. 2 جاء في قصيدة الصلتان ما يدل على أنه لم يرد بذلك الإسناد ظاهره، وهو قوله "المتقارب": فملتنا أننا مسلمون ... على دين صديقنا والنبي 3 هو للفضل بن قدامة المعروف بأبي النجم، والقنزع: الشعر المجتمع في نواحي الرأس، و"عن" الثانية بمعنى "بعد"، والأصلع: الذي سقط شعر مقدم رأسه، وجملتا "أبطئي أو أسرعي" حال من الليالي على تقدير القول؛ أي: مقولا فيها ذلك، بالنظر إلى اختلاف أحوالها في المسرة والمساءة. 4 فقد أسند فيه إفناء شعر الرأس إلى الله، فدل على أن إسناده قبله إلى الليالي مجاز. قيل الله: قوله، وقوله: واراك بمعنى: غيبك وسترك.

فلا يصير "ضَرَبَ" خبرا عن "زيد" بواضع اللغة؛ بل بمن قُصد إثبات الضرب فعلا له، وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة أن "ضرب" لإثبات الضرب، لا لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماضٍ، وليس لإثباته في زمان مستقبل، فأما تعيين من ثبت له، فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين. ولو كان لغويا لكان حكمنا بأنه مجاز في مثل قولنا: "خط أحسن مما وشّى الربيع"؛ من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر1, حكما بأن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد، وذلك مما لا يشك في بطلانه2. وقال السكاكي3: "الحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه, قال: وإنما قلت: "ما عند المتكلم" دون أن أقول: "ما عند العقل"4؛ ليتناول كلام الجاهل إذا قال: "شفى الطبيب المريض" رائيا شفاء المريض من الطبيب، حيث عُد منه حقيقة، مع أنه غير مفيد لما في العقل من الحكم فيه"5. وفيه نظر؛ لأنه غير مطرد؛ لصدقه على ما لم يكن المسند فيه فعلا ولا متصلا به6, كقولنا: "الإنسان حيوان" مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازا7، ولا منعكس؛

_ 1 أي: لا من الربيع. 2 يقصد بهذا الرد على قول بعضهم: إن الإسناد في هذين القسمين لغوي لا عقلي. وقيل: إن جرينا على أن المركبات موضوعة فهو لغوي، وإن لم نجر على هذا فهو عقلي، وهذا خلاف لا طائل تحته. 3 المفتاح ص211. 4 أي: كما قال عبد القاهر. 5 لأن العقل يرى إسناد ذلك إلى الله, لا إلى الطبيب. 6 المتصل بالفعل هو اسم الفاعل ونحوه. 7 الحق أنه لا معنى للاعتراض بهذا على السكاكي؛ لأنه يرى أن الحقيقة والمجاز العقليين يجريان في كل إسناد، ولا يخصّهما بما خصّه به الخطيب، على أن الخطيب قد ذكر في المجاز العقلي أمثلة مركبة من مبتدأ وخبر، مثل: "نهاره صائم" ولا ينفع في الجواب عنه أن المجاز عنده في إسناد الخبر إلى ضمير المبتدأ؛ لأن هذا الإسناد غير مقصود في الكلام، وإنما المقصود =

لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم، وما لا يطابق شيئا منهما منه مع كونهما حقيقتين عقليتين كما سبق1. وقال2: "المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه؛ لضرب من التأول، إفادة للخلاف، لا بواسطة وضع"؛ كقولك: "أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة". قال: وإنما قلت: "خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه" دون أن أقول: "خلاف ما عند العقل"؛ لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري3 عن اعتقاد جهل، أو قال جاهل غيره: "أنبت الربيع البقل" رائيا إنباته من الربيع؛ فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازا وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر، واحتج ببيت الحماسة4 وقول أبي النجم على ما تقدم. ثم قال: "ولئلا يمتنع عكسه "كسا الخليفة الكعبة، وهزم الأمير الجند" فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة، ولا أن يهزم الأمير وحده الجند،

_ = الإسناد إلى المبتدأ على أنه قد ذكر من أمثلة الحقيقة العقلية فيما سبق -خالق الأفعال كلها هو الله- وهذا الجواب لا يأتي فيه، وقد ذكر عبد القاهر من المجاز العقلي قول الخنساء "البسيط": ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار وهذا مبتدأ وخبر، وإنما جعله مجازا؛ لأن كلا من الإقبال والإدبار لم يحمل على الناقة حمل مواطأة وإن كان وصفا لها, وعبد القاهر حجة في هذا الفن. وقد قيل: إنه مجاز مرسل من إطلاق الصفة وإرادة الموصوف، وقيل: إنه على حذف مضاف تقديره: ذات إقبال، والحق أنه لا داعي إلى هذا التكلف؛ لأنها تقصد المبالغة بالإخبار بالمصدر من غير تأويل أو حذف، ويمكن أن يؤخذ من اقتصار الخطيب على الاعتراض بمثل "الإنسان حيوان" أن الذي لا يسمى عنده حقيقة ولا مجازا هو الذي يكون الخبر فيه جامدا لا فعلا أو في معناه، ولكنهم قالوا: إن مذهبه أعم من ذلك. 1 لأنهما دخلا في تعريفه لها بزيادته قيد "في الظاهر"، وقد أهمله السكاكي. 2 المفتاح ص208. 3 هو من ينسب الأفعال إلى الدهر. 4 هو بيت الصلتان العبدي السابق.

ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي، وإنما قلت: "لضرب من التأول"؛ ليُحْتَرَز به عن الكذب؛ فإنه لا يسمى مجازا مع كونه كلاما مفيدا خلاف ما عند المتكلم، وإنما قلت: "إفادة للخلاف لا بواسطة وضع"؛ ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة، وهي إذا ادُّعي أن "أنبت" موضوع لاستعماله في القادر المختار، أو وُضع لذلك"1. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذُكر؛ لخروجه بقوله: "لضرب من التأول" ولا بطلان عكسه بما ذكر؛ إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في نفس الأمر2. وفي كلام الشيخ عبد القاهر3 إشارة إلى ذلك؛ حيث عرّف الحقيقة العقلية بقوله: "كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل واقع موقعه"؛ فإن قوله: "واقع موقعه" معناه في نفس الأمر، وهو بيان لما قبله4. وكذا في كلام الزمخشري، حيث عرف المجاز العقلي بقوله: "وأن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له"، فإن قوله: "في الحقيقة" معناه في نفس الأمر، ونحو: "كسا الخليفة الكعبة" إذا كان الإسناد فيه مجازا كذلك. ثم القول بأن الفعل موضوع لاستعماله في القادر، ضعيف؛ وهو معترف بضعفه، وقد رده في كتابه بوجوه: منها أن وضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن واحد من رواة اللغة، وترك القيد دليل في العرف على الإطلاق؛ فقوله:

_ 1 الفرق بين الأمرين أن "أنبت" على الأول موضوع لإخراج النبات مطلقا، ولكنه لا يستعمل إلا في القادر المختار، وعلى الثاني يكون موضوعا لإخراج القادر المختار النبات. 2 فلا يخرج نحو: "هزم الأمير الجند"؛ لأنه خلاف ما في نفس الأمر؛ لأن الذي يهزم الجند جيشه. 3 أسرار البلاغة ص249، مطبعة الاستقامة. 4 يعني قوله: "على ما هو عليه في العقل" وهو جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر "أن" قبله، وهذا بيان له.

"إفادة للخلاف لا بواسطة وضع" لا حاجة إليه، وإن ذُكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار، على أن تمثيله بقول الجاهل: "أنبت الربيع البقل" ينافي هذا الاحتراز1. تنبيه: قد تبين مما ذكرنا أن المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي -على ما ذكره السكاكي- هو الكلام، لا الإسناد2. وهذا يوافق ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في مواضع من "دلائل الإعجاز"3, وأنه -على ما ذكرناه- هو الإسناد لا الكلام، وهذا ظاهر ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب -رحمه الله- عن الشيخ عبد القاهر، وهو قول الزمخشري في "الكشاف"، وقول غيره، وإنما اخترناه؛ لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازا إلى العقل على هذا لنفسه بلا وساطة شيء, وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل, أعني: الإسناد. أقسام المجاز العقلي: ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه -أعني: المسند والمسند إليه- أربعة أقسام لا غير؛ لأنهما إما حقيقتان4؛ كقولنا: "أنبت الربيع البقل"، وعليه قوله "الرجز":

_ 1 لأنه لا يتفق ودعوى أن "أنبت" لا يستعمل إلا في القادر المختار، إذ لو صح هذا يكون مجازا لا حقيقة؛ لإسناد الإنبات فيه إلى الربيع، وهو ليس بقادر مختار، هذا وقد أطال الخطيب هنا في الرد على السكاكي بما لا يحتمله علم البلاغة. 2 قيل: إن السكاكي يرى أن المسمى بهما هو الإسناد؛ لأنه في جميع الباب يقول: "إسناد حقيقة وإسناد مجاز" وما في تعريفه لهما يمكن حمله على التساهل في العبارة. 3 من هذا تعريفه للحقيقة الفعلية وللمجاز العقلي بأنهما كل جملة ... إلخ كما سبق في تعريفه، ويمكن حمل كلامه في هذا على التساهل أيضا؛ لتصريحه في عدة مواضع بأنهما وصفان للإسناد. 4 أي: لغويتان.

فنام ليلي وتجلى همي1 وقوله: وشيّب أيام الفراق مفارقي2 وقوله: ونمتِ ما ليل المطي بنائم3 وإما مجازان4 كقولنا: "أحيا الأرضَ شبابُ الزمان"5. وإما مختلقان: كقولنا: "أنبت البقلَ شبابُ الزمان"، وكقولنا: "أحيا الأرض الربيع" وعليه قول الرجل لصاحبه: "أحيتني رؤيتك" أي: آنستني وسرتني, فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة حياة، ثم جعل الرؤية فاعلة له. ومثله قول أبي الطيب "من الطويل":

_ 1 هو لرؤبة بن العجاج، وقبله: يا رب قد فرجت عني غمي ... قد كنت ذا هم وراعي نجم وقوله: "تجلى" بمعنى انكشف، والشاهد في قوله: "نام ليلي". 2 قيل: إنه لجرير من قوله "الطويل": وشيب أيام الفراق مفارقي ... وأنشزن نفسي فوق حيث تكون ولكنه لا يوجد في ديوانه، وقوله: "أنشزن" بمعنى: رفعن، وقوله: "تكون" مأخوذ من كان التامة، والمعنى: أيام الفراق رفعت نفسه عن مكانها في الجسم وبلغت بها الحلقوم، والشاهد في قوله: "وشيب أيام الفراق". 3 هو لجرير من قوله "من الطويل": لقد لمُتِنِي يا أم غيلان في السرى ... ونمتِ وما ليل المطي بنائم وأم غيلان: ابنته، والسرى: السير ليلا، والشاهد في قوله: "وما ليل المطي بنائم", والمعنى: أنه لا يقطع السير بالليل ولا ينام. 4 أي: لغويان. 5 فإحياء الأرض مجاز عن خصبها، وشباب الزمان مجاز عن الربيع، وفي اجتماع المجاز اللغوي والمجاز العقلي طرافة تجعل لذلك التقسيم فائدة.

وتُحيي له المالَ الصوارمُ والقنا ... ويقتل ما تُحيي التبسم والجدا1 جعل الزيادة والوفور حياة للمال، وتفريقه في العطاء قتلا له، ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم، والقتل فعلا للتبسم، مع أن الفعل لا يصح منهما. ونحوه قولهم: "أهلك الناس الدينار والدرهم" جعلت الفتنة إهلاكا، ثم أثبت الإهلاك فعلا للدينار والدرهم. وقوع المجاز العقلي في القرآن: وهو في القرآن كثير2؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] . نُسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا فيها، وكذا قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23] ، ومن هذا الضرب قوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4] فإن الفاعل غيره، ونسب الفعل إليه؛ لكونه الآمر به، وكقوله: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] نُسب النزع الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس؛ لأن سببه أكل الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين، وكذا قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ، نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم، وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر، وكقوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه، كقولهم: "نهاره صائم"، وكقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 3.

_ 1 هو لأحمد بن الحسين, المعروف بأبي الطيب المتنبي من قصيدة له في مدح سيف الدولة، والصوارم: السيوف القاطعة، والقنا: الرماح، واحدها: قناة، والجدا: العطاء. 2 يريد بالنص على وجود المجاز العقلي في القرآن الرد على من ينكر وجود المجاز مطلقا في القرآن؛ لأنه يوهم الكذب، والقرآن منزه عنه، ورُد بأنه لا إيهام مع وجود القرينة. 3 الزلزلة: 2. فقد نسب فيه الإخراج إلى مكانه وهو الأرض، مع أن الله هو المخرج للدفائن وهي الموتى. وقيل: إن الإسناد للمفعول؛ لأنه على تقدير "من"؛ أي: أخرج الله من الأرض.

المجاز في الإنشاء: وهو غير مختصّ بالخبر1؛ بل يجري في الإنشاء، كقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} 2 وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} 3 وقوله: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} 4. تقسيم قرينة المجاز: ولا بد له من قرينة: إما لفظية؛ كما سبق في قول أبي النجم، أو غير لفظية؛ كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور5, أو قيامه به6 عقلا؛ كقولك: "محبتك جاءت بي إليك"7, أو عادة، كقولك: "هزم الأمير الجند، وكسا الخليفة الكعبة، وبنى الوزير القصر"، وكصدور8 الكلام من المُوَحِّد9 في مثل قوله:

_ 1 مثله الحقيقة العقلية كما سبق. 2 سورة غافر: الآية 36. والشاهد في نسبة البناء لهامان، وليس هو الذي يفعله، وإنما يأمر به؛ لأنه كان وزيرا لفرعون، فيكون من الإسناد للسبب. والمجاز العقلي يجري أيضا في كل أنواع الإنشاء مع ملابسات الفعل السابقة. 3 سورة القصص: الآية 38. والشاهد في نسبة الإيقاد لهامان؛ لأنه بسببه. 4 سورة طه: الآية 117. والشاهد في نسبة الإيقاد لإبليس؛ لأنه بسببه. 5 أي: في الكلام، وهو المسند إليه المجازي؛ لأنه هو الذي يذكر في المجاز العقلي. 6 هذا معطوف على قوله: "صدور"؛ لأن الصدور الحدوث، والقيام الاتصاف، والأول مثل "ضرب" والثاني مثل "قرب وبعد". 7 لظهور استحالة قيام المجيء بالمحبة، وهذا إنما يجري على مذهب المبرد في باء التعدية، فهي تقضي عنده بمشاركة الفاعل للمفعول في الفعل، وهي عند سيبويه بمعنى همزة النقل في نحو: "أذهبت زيدا" أي: جعلته ذاهبا، فتكون المحبة عنده حاملة فقط على المجيء، وليس في هذا مجاز عقلي. 8 عطف على "كاستحالة". 9 المراد به المُوَحِّد الكامل بخلاف المعتزلة، والقرينة هنا حالية، وإنما لم يكن هذا من الاستحالة العقلية؛ لأن المراد بها الاستحالة الضرورية التي لا خلاف فيها، وما هنا محل خلاف بين المؤمن والدهري، والمعتزلة من الموحدين يقولون بتأثير الأسباب العادية، فلا يكون الإسناد إليها مجازا عندهم.

"أشاب الصغير ... "1 البيت. دقة مسلكه: واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز العقلي بسهولة، بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيئ الشيء وتصلحه له بشيء تتوخاه في النظم؛ كقول من يصف جملا "من الطويل": تجوب له الظلماء عين كأنها ... زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر2 يريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء، ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها، ولولاها لكانت الظلماء كالسد الذي لا يجد السائر شيئا يفرجه به، ويجعل لنفسه فيه سبيلا، فلولا أنه قال: "تجوب له" فعلق "له" بـ "تجوب" لما تبين جهة التجوز في جعل الجَوْب فعلا للعين كما ينبغي؛ لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل على أن اهتداء صاحبها في الظلمة ومضيه فيها بنورها، وكذلك لو قال: "تجوب له الظلماء عينه" لم يكن له هذا الموقع، ولا نقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به3. الخلاف في استلزامه الحقيقة: واعلم أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير، إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة؛ لما يُشعر

_ 1 أي: الصلتان العبدي فيما سبق ص55. 2 لا يعلم قائله، وقبله: تناس طلاب العامرية إذ نأت ... بأسجح مرقال الضحا قلق الضفر إذا ما أحسته الأفاعي تخيرت ... شواة الأفاعي من مكلمة سمر والشرب: جمع شارب، والصفر: الخالية، والمجاز في إسناد "تجوب" إلى العين، وإنما قيد الزجاجة بكونها غير ملأى ولا صفر؛ لأن العين إنما تشبهها في هذه الحالة. 3 لأن تنكيرها هو الذي هيأ له وصفها به.

بذلك تعريفه بما سبق1. وذلك قد يكون ظاهرا؛ كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16] أي: فما ربحوا في تجارتهم، وقد يكون خفيا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل؛ كما في قولك: "سرتني رؤيتك" أي: سرني الله وقت رؤيتك، كما تقول: أصل الحكم في "أنبت الربيع البقل": أنبت الله البقل وقت الربيع، وفي "شفى الطبيب المريض": شفى الله المريض عند علاج الطبيب، وكما في قوله: "أقدَمَني بلدك حق لي على فلان" أي: أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان، أي: قدمتُ لذلك، ونظيره: "محبتك جاءت بي إليك" أي: جاءت بي نفسي إليك لمحبتك، أي: جئتك لمحبتك، وإنما قلنا: إن الحكم فيهما مجاز؛ لأن الفعلين فيهما مسندان إلى الداعي2، والداعي لا يكون فاعلا. وكما في قول الشاعر "مجزوء الوافر": وصيرني هواك وبي ... لِحَيْني يُضرَب المثل3 أي: وصيرني الله لهواكِ وحالي هذه، أي: أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك. وكما في قول الآخر, وهو أبو نُواس "مجزوء الوافر":

_ 1 يرد بهذا على ما يفيده ظاهر كلام عبد القاهر من أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي لا يجب أن يكون له فاعل حقيقي، كما في قولك: "سرتني رؤيتك"، والخلاف في هذا لا ثمرة له ولا يصح الاشتغال به في علم البلاغة، ولا يريد عبد القاهر إلا أن العرف في مثل هذا لم يجرِ بإسناد الفعل إلى الفاعل الحقيقي؛ فلا يقال فيه: سرني الله عند رؤيتك. 2 يعني: الداعي إلى الفعل، وهو السبب. 3 هو -كما في الأغاني- لأبي عبد الله محمد بن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي، وقيل: إنه لابن البواب، وقبله: أتيتكِ عائذا بك منـ ... ـكِ لما ضاقت الحيل وبعده: فإن ظفرت بكم نفسي ... فما لاقيته جلل وإِنْ قتل الهوى رجلا ... فإني ذلك الرجل والحين في الأصل: الهلاك، استُعير لما وصل إليه من سوء الحال في هواه.

يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا1 أي: يزيدك الله حسنا في وجهه، لما أُودعه من دقائق الجمال متى تأملتَ. إنكار السكاكي له: وأنكر السكاكي2 وجود المجاز العقلي في الكلام3، وقال: "الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي4 بواسطة المبالغة في التشبيه، على ما عليه مبنى الاستعارة، كما سيأتي, وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة، وبجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة

_ 1 هو للحسن بن هانئ, المعروف بأبي نواس. والمراد بالحسن: حسن الوجه وجماله، وليس المراد به استحسان الناظر إليه. ورواية الديوان "من الوافر": وجوه عندنا تحكي ... بدارة وجهها القمرا يزيدك وجهها حسنا إذا ما زدته نظرا وقيل: إن البيت لابن المعدل، وقبله: لعتبة صفحتا قمر ... يفوق سناهما القمرا يريد: وجهها. 2 المفتاح ص212. 3 ذهب ابن الحاجب أيضا إلى أن المجاز في لفظ "أنبت" مثلا من قولك: "أنبت الربيع البقل" وهو يوافق السكاكي في إنكار المجاز العقلي، وذهب الفخر الرازي إلى إنكاره أيضا، ولكنه يحمل نحو: "أنبت الربيع البقل" على أنه تمثيل يورَد ليتصوّر معناه وينتقل الذهن منه إلى إنبات الله تعالى، فلا مجاز عنده في الإسناد ولا في طرفيه، وذهب سيبويه إلى أنه من التوسع في الكلام فيحتاج فيه إلى التأويل فقط، كما يؤوّل: "نام ليلي" بأنه على تقدير: نمت في ليلي؛ فجملة المذاهب في ذلك خمسة، والخلاف بينهم فيها مما لا يصح الاشتغال به في هذا العلم، وأقربها إلى أسلوب اللغة جعل التجويز في الإسناد، كما ذهب إليه الخطيب، وهو مذهب عبد القاهر إمام هذا الفن؛ لأنه لا تكلف فيه كغيره من المذاهب. 4 هو الله تعالى، وإنما لم يصرح به ليبتعد عن سوء الأدب في التشبيه من اللفظ. وما كان أغنى السكاكي عن ذلك المذهب الذي يُحْوِج إلى هذا التكلف.

للاستعارة". وفيما ذهب إليه نظر؛ لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] صاحب العيشة لا العيشة1، وبـ "ماء" في قوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] فاعل الدفق لا المَنِيّ2؛ لما سيأتي في تفسيره للاستعارة بالكناية3، وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم: "فلان نهاره صائم, وليله قائم"؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه، وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح. وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين4 -وبالبناء فيهما- لهامان5 مع أن النداء له6, وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: "أنبت الربيع البقل، وسرتني رؤيتك" على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، وكل ذلك منتفٍ ظاهر الانتفاء. ثم ذكره منقوص بنحو قولهم: "فلان نهاره صائم"؛ فإن الإسناد فيه مجاز، ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان؛ لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة، ويوجب حمله على التشبيه، ولهذا عُد نحو قولهم: "رأيت بفلان أسدا، ولقيني منه أسد" تشبيها لا استعارة، كما صرح السكاكي أيضا

_ 1 وجه اللزوم أن ضمير "راضية" يعود إلى عيشة، فيلزم أن يكونا بمعنى واحد، ووجه بطلان اللازم ما فيه من ظرفية الشيء في نفسه. 2 لأن ضمير "دافق" يعود إلى ماء، فيلزم أن يكونا بمعنى واحد، ووجه بطلان اللازم ما فيه من إثبات خلق الإنسان من نفسه. 3 ما سيأتي هو أن مبناها عنده على دعوى أن المشبه فرد من أفراد المشبه به. 4 أي: السابقتين, وهما: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] , {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} [القصص: 38] . 5 بل يكون للعَمَلَة الذين شُبه هامان بهم. 6 فيكون الأمر له؛ لئلا يلزم تعدد المخاطب في كلام واحد.

بذلك في كتابه1. تنبيه: سبب عدم إيراد الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان -كما فعل السكاكي ومن تبعه- لدخوله في تعريف علم المعاني, دون تعريف علم البيان2.

_ 1 أجاب أصحاب الحواشي عن السكاكي بأجوبة أعرضنا عنها؛ لأنها لا يصح التطويل بها في علم البلاغة. والحق أن المجاز العقلي طريقه غير طريق الاستعارة بالكناية؛ لأنها تقوم على علاقة المشابهة كغيرها من الاستعارات، بخلافه؛ فلا يصح حمله عليها. 2 بيان ذلك: أن الحقيقة والمجاز العقليين حالان من أحوال اللفظ، وأنه يؤتى بهما لأحوال تقتضيهما؛ لأن ملابسات الفعل السابقة تقتضي الإتيان بالمجاز العقلي عند قصد المبالغة، وعدمها يقتضي الإتيان بالحقيقة العقلية، وبهذا يدخلان في تعريف علم المعاني، وإنما لم يدخلا في تعريف علم البيان؛ لأنهما ليسا من أحوال الدلالة. وقد اعترض على هذا بأن الحقيقة والمجاز اللغويين حالان من أحوال اللفظ أيضا، وكل منهما له أحوال تقتضيه كالحقيقة والمجاز العقليين، وقد ذكرهما الخطيب كغيره في علم البيان، فإذا أجيب بأنهما من أحوال الدلالة فيدخلان في علم البيان، قيل: إنه يمكن جعل الحقيقة والمجاز العقليين من أحوال الدلالة أيضا؛ لأن إنبات البقل مثلا يمكن أن يدل عليه بقولنا: "أنبت الله البقل" على طريق الحقيقة، وبقولنا: "أنبت الربيع البقل" على طريق المجاز، وهكذا، ولكن هذا يتوقف على دخول دلالة الحقيقة في طرق الدلالة المذكورة في تعريف علم البيان.

تمرينات على الحقيقة والمجاز العقليين

تمرينات على الحقيقة والمجاز العقليين: تمرين1: بَيِّن الحقيقة والمجاز العقليين, والأحوال الداعية إليهما فيما يأتي: 1- فدعها وسل الهم عنها بحسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا 2- إني لمن معشر أفنى أوائلهم ... قِيلُ الكماة ألا أين المحامونا 3- إن المُنْبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى. 4- قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65] . تمرين2: بَيِّن نوع الملابسة فيما يأتي, من المجاز العقلي: 1- هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان 2- وكل امرئ يُولي الجميل ... وكل مكان يُنبت العز طيب 3- قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67] . تمرين3: 1- ما وجه من جعل الحقيقة والمجاز العقليين من علم المعاني؟ وما وجه من جعلهما من علم البيان؟ وهل لهذا الخلاف ثمرة في البلاغة؟ 2- بين الخلاف في كون الحقيقة والمجاز العقليين وصفين للكلام أو للإسناد؟ وما هي ثمرة هذا الخلاف في المقصود من علوم البلاغة؟

الباب الثاني: القول في أحوال المسند إليه

الباب الثاني: القول في أحوال المسند إليه أغراض حذف المسند إليه: أما حذفه: فإما لمجرد الاختصار1 والاحتراز عن العبث بناء2 على الظاهر. وإما لذلك مع ضيق المقام3. وإما لتخييل4 أن في تركه تعويلا على شهادة العقل، وفي ذكره تعويلا على شهادة اللفظ من حيث الظاهر, وكم بين الشهادتين! وإما لاختبار تنبه السامع له عند القرينة5، أو مقدار تنبهه6.

_ 1 الحذف: هو حال المسند إليه، وكذا ما سيأتي من الذكر والتعريف والتنكير والتقديم والتأخير، ومجرد الاختصار وما عُطف عليه هي الأحوال الداعية إلى الحذف، وهذا يقال في الحذف مما يأتي، وهذه الأحوال تسمى أغراضا أيضا. والاختصار غرض مطرد في الحذف؛ فتارة يكون وحده، وتارة يكون مع غيره من أغراض الحذف، وحذف المسند إليه يشمل حذف المبتدأ وحذف الفاعل مع إنابة المفعول عنه. 2 بناء: حال من العبث، أي: حال كون العبث مبنيا على الظاهر بأن تكون هناك قرينة تدل على المحذوف؛ لأنه لا يصح حذفه من غير قرينة تدل عليه، وظاهره أن الاختصار والاحتراز عن العبث غرضان لا ينفصل أحدهما عن الآخر. 3 ضيق المقام قد يكون بسبب شعر أو ضجر أو خوف فوات فرصة أو نحو ذلك. 4 إنما قال: "تخييل"؛ لأن الدال حقيقة عند الحذف هو اللفظ المدلول عليه بالقرينة، وهذه نكتة فلسفية أتى بها السكاكي في أغراض الحذف، وليست في شيء من البلاغة العربية. 5 هذا كأن يزورك رجلان سبقت لأحدهما صحبة لك، فتقول لمن معك: "وَفِيّ" تريد: الصاحب وَفِيّ. 6 هذا كأن يزورك رجلان أحدهما أقدم صحبة من الآخر، فتقول لمن معك: "جدير بالإحسان" تريد: الأقدم صحبة جدير بالإحسان، والفرق بين هذا وما قبله أن اختيار مقدار التنبه لا يكون إلا في القرائن الخفية. وهذا الغرض بقسميه من تكلفاتهم أيضا.

وإما لإيهام أن في تركه تطهيرا له عن لسانك، أو تطهيرا للسانك عنه1. وإما ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مست إليه حاجة2. وإما لأن الخبر لا يصلح إلا له، حقيقة أو ادعاء3. وإما لاعتبار آخر مناسب لا يهتدي إلى مثله إلا العقل السليم والطبع المستقيم4, كقول الشاعر "من الخفيف": قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل ... سهر دائم وحزن طويل5

_ 1 قيل: إن لفظ "إيهام" هنا لا داعي إليه، وكذلك لفظ "تخييل" فيما سبق؛ لأن ذلك يقع حقيقة لا تخييلا ولا إيهاما، والأول كقولك: "خاتم الأنبياء" أي: محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني سيأتي في أمثلة الإيضاح. 2 هذا كقولك: "فاجر" تريد رجلا معروفا، فلا تذكره لتقول عند الحاجة ما أردته. 3 الأول كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] ، والثاني كقولك: "وَهّاب الألوف" تريد كريما, لا تذكره ادعاء لتعينه وشهرته. 4 من ذلك تعجيل المسرة أو المساءة كقولك للسائل: "دينار". ومنه المحافظة على وزن أو سجع؛ كقولهم: "من طابت سريرته حمدت سيرته". فلو قيل: "حمد الناس سيرته" لفات السجع، وإني أرى أن هذا غرض يراعى من أجل محسن بديعي، فلا يفوت بتركه إلا ذلك المحسن، ولا يكون مقامه في البلاغة كغيره، وقد ذكر بعضهم من أغراض الحذف اتباع الاستعمال الوارد على تركه، كما في قولهم: "رمية من غير رام" أو على ترك نظائره؛ كالرفع على المدح أو الذم في النعت المقطوع، واعتُرض عليه بأن الحذف في ذلك ليس لأغراض بلاغية، وإنما يرجع إلى اقتضاء العربية له، وأجيب بأن هذا الحذف مع وجوبه عربية لا يصار إليه إلا لغرض بلاغي يقتضيه، وهو جواب ظاهر الضعف؛ لأنه لا معنى لتوقف الحذف على الغرض البلاغي مع وجوبه في ذاته؛ إذ لا بد منه, وجد هذا الغرض أو لم يوجد. 5 لا يعلم قائله، والشاهد في قوله: "عليل"؛ لأن التقدير: أنا عليل, وفي قوله: "سهر دائم"؛ لأن التقدير: حالي سهر دائم، والحذف فيه للاختصار والاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الضجر والشعر.

وقوله "من الطويل": سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تُمْنَن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت1 وقوله "من الطويل": أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه2 وقول بعض العرب في ابن عم له موسر، سأله، فمنعه، وقال: كم أعطيك مالي وأنت تنفقه فيما لا يعنيك، والله لا أعطينّك. فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم، فشكاه إلى القوم وذمه، فوثب إليه ابن عمه فلطمه، فأنشأ يقول "من الطويل": سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع

_ 1 هما لعبد الله بن الزبير الأسدي في مدح عمرو بن عثمان بن عفان، وقيل: إنهما لإبراهيم بن العباس الصولي، وقيل غير هذا في نسبتهما، وأيادي بدل اشتمال من عمرو، والتقدير: أيادي له، وهي جمع أيدي بمعنى النعم، وأيدي جمع يد، وقوله: "لم تمنن" معناه لم تقطع أو لم تخلط بمنة, وقوله: "إذا النعل زلت" كناية عن نزول الشر، وزلت بمعنى زلقت. والشاهد في قوله: "فتى"؛ لأن التقدير هو فتى، والحذف فيه للاختصار والاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الشعر، وقد قيل: إنه لصون المحذوف عن لسان المادح، وقيل: إنه لادعاء تعينه، وكلاهما ضعيف؛ لأنه صرح باسمه قبله. 2 قيل: إنهما لحنظلة بن الشرفي, المعروف بأبي الطمحان القيني, وقيل: للقيط بن زرارة في مدح "بني لأم" من طيئ، وهو الصحيح، وكان في أسر بجير بن أوس الطائي فأطلقه فمدحه بذلك. والجزع: خرز فيه بياض وسواد، والشاهد في قوله: "نجوم سماء"؛ لأن التقدير: هم نجوم سماء، والحذف فيه للاختصار والاحتراز عن العبث مع ضيق المقام بسبب الشعر، وقيل: إنه لصون المحذوف عن لسان المادح. هذا, وبعضهم يأخذ على البيت الأول ما فيه من المبالغة التي جاوزت الحد، وبعضهم يعجب به ويقول: هو أمدح بيت قيل في الجاهلية.

حريص على الدنيا مضيع لدينه ... وليس لما في بيته بمضيع1 وعليه قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10، 11] ، وقيام القرينة شرط في الجميع2. أغراض ذكر المسند إليه: وأما ذكره؛ فإما لأنه الأصل، ولا مقتضي للحذف3.

_ 1 هما للمغيرة بن عبد الله, المعروف بالأقيشر الأسدي. والندى: الكرم. والشاهد في قوله: "سريع إلى ابن العم"؛ لأن التقدير: هو سريع، والحذف فيه لصون اللسان عن المحذوف مع الاختصار والاحتراز عن العبث. 2 أي: في جميع أغراض الحذف؛ لأنه لا يصح الحذف إلا معه، واعتبار البلاغة إنما يكون بعد اعتبار الصحة، وقد يغني عن هذا قوله فيما سبق: "بناء على الظاهر". هذا, وقد ترك أمثلة حذف المسند إليه الفاعل مع إنابة المفعول عنه، ومن ذلك هذه الأمثلة: - سُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... مُنعنا بها من جيئة وذهوب "الطويل" - نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد "البسيط" - أسرت وما صحبي بعُزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر "الطويل" - لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب "الطويل" والحذف في الأول للعلم بالمحذوف، وفي الثاني للخوف عليه، وفي الثالث لضيق المقام، وفي الرابع لاحتقار المحذوف. 3 إنما قدم أغراض الحذف على أغراض الذكر؛ لأن الأولى أهم في البلاغة من الثانية، والذكر الذي يُبحث عن أغراضه هو الذي يصح الاستغناء عنه لوجود القرينة، فوجودها شرط في الذكر كما هو شرط في الحذف؛ لأنه مع فقدها يتعين الذكر، وإنما يُبحث في هذا العلم عن الأغراض المرجحة كما سبق. وقد اعتُرض على هذا الغرض بأنه مع وجود القرينة يكون مقتضى الحذف موجودا، ويكون الأصل الحذف، لا الذكر، وأجيب بأنه يريد لا مقتضى الحذف في قصد المتكلم وإن كان موجودا في نفسه. وإني أرى أنه متى وجدت القرينة يتعين الحذف بلاغة، ولا يصح الذكر لمثل هذا الغرض؛ فالأولى الاقتصار على ما بعده. وقيل: إن مراده أن الذكر هو الأصل عند فقد القرينة؛ ويكون ما بعده من الأغراض عند وجودها، ولا يخفى ضعف هذا الجواب أيضا.

وإما للاحتياط لضعف التعويل على القرينة1. وإما للتنبيه على غباوة السامع2. وإما لزيادة الإيضاح والتقرير3. وإما لإظهار تعظيمه أو إهانته كما في بعض الأسامي المحمودة أو المذمومة4. وإما للتبرك بذكره5. وإما لاستلذاذه6. وإما لبسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب؛ كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {هِيَ عَصَايَ} [طه: 18] ؛ ولهذا زاد على الجواب7. وإما لنحو ذلك8.

_ 1 هذا عند خفاء القرينة؛ كما تقول: "من حضر ومن سافر؟ " فيقال: "الذي حضر زيد، والذي سافر عمرو"، ولا يقال: زيد وعمرو؛ لأن السامع قد يجهل تعيين ذلك من السؤال. 2 هذا عند ظهور القرينة، كما تقول: من حضر؟ فيقال: "الذي حضر زيد". 3 نحو قول الشاعر "من الوافر": وقد علم القبائل من معد ... إذا قُبَب بأبطحها بُنينا بأنا المطعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا ابتُلينا وأنا المانعون لما أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا وأنا التاركون إذا سخطنا ... وأنا الآخذون إذا رضينا 4 الأول نحو: "أمير المؤمنين حاضر"، والثاني نحو: "السارق اللئيم حاضر" جوابا لمن سأل عنهما. 5 كقولك لمن سألك: هل الله يرضى هذا؟ الله يرضاه. 6 نحو قول الشاعر "من البسيط": بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر 7 فقال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ، وكل هذا لأن الكلام مع رب العزة، وإصغاء المخاطب في مثل هذا مطلوب للمتكلم، والإصغاء محال على الله تعالى، ولكن كلامه يجري على أساليب العربية، بقطع النظر عن كونه كلامه. وقد يطلب بسط الكلام لغير ذلك من مقامات المدح والرثاء والفخر ونحوها؛ كقول الشاعر "من الوافر": فعباس يصد الخطب عنا ... وعباس يجير من استجارا 8 كالتسجيل على السامع حتى لا يتأتى له الإنكار، ومنه قول الفرزدق في علي بن الحسين -رضي الله عنهما- حين أنكر هشام بن عبد الملك معرفته "من البسيط": هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العَلَم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد خُتموا

قال السكاكي1: "وإما لكون الخبر عام النسبة إلى كل مسند إليه، والمراد تخصيصه بمعين2؛ كقولك: "زيد جاء، وعمرو ذهب، وخالد في الدار" وقوله "من الكامل": الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل3 وقوله "من الكامل": النفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا تُرد إلى قليل تقنع"4 وفيه نظر؛ لأنه إن قامت قرينة تدل عليه إن حُذف، فعموم الخبر وإرادة تخصيصه بمعين وحدهما لا يقتضيان ذكره، وإلا فيكون ذكره واجبا5.

_ 1 المفتاح ص95. 2 أي: ذكر مسند إليه خاص يسند إليه الخبر، فلا يريد بالتخصيص قصر الخبر عليه؛ لأنه لا قصر فيما ذكره من الأمثلة، وقيل: إنه يريد به القصر على ما سيأتي في تقديم المسند إليه. ورُدّ بأن هذا خلاف مذهب السكاكي؛ لأنه يرى أن المبتدأ إذا كان اسما ظاهرا لا يفيد القصر كما سيأتي. 3 هو لامرئ القيس بن حندج بن حجر، واختار صاحب الأغاني أنه لامرئ القيس بن عابس. وأنجح: أفعل تفضيل من: "أنجح الله طلبته" على مذهب سيبويه في تجويز بنائه من المزيد, و"ما" في قوله: "ما طلبت به" نكرة موصوفة، بمعنى شيء، والبر: الطاعة، والحقيبة: ما يوضع فيه الزاد ونحوه، والرحل: الرحيل. 4 هو لخويلد بن خالد, المعروف بأبي ذؤيب الهذلي، وقوله: رغبتها بمعنى: أطمعتها. ورواية الجمهرة: "والنفس" بالواو. 5 أجيب عن هذا النظر بأنه لا مانع من أن يكون ذكره لعدم القرينة وللتخصيص بمعين معا، ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ لما سبق من وجوب القرينة في الذكر، كالحذف.

تمرينات على الذكر والحذف

تمرينات على الذكر والحذف: تمرين1: لماذا حُذف المسند إليه في الأمثلة الآتية: 1- وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع 2- سألوني في سقامي: ... كيف حالي؟ قلت: نِضْو 3- وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال: بخيل تمرين2: لماذا ذُكر المسند إليه في الأمثلة الآتية: 1- وإني لحلو تعتريني مرارة ... وإني لترّاك لما لم أُعَوَّد 2- قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18] . 3- قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". تمرين3: بين حال المسند إليه في الذكر والحذف، والداعي إليهما فيما يأتي: 1- قوّال محكمة نقّاض مبرمة ... فتّاح مبهمة حبّاس أوراد 2- قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] . 3- إن تُبتَدَر غاية يوما لمكرمة ... تلقَ السوابق منا والمصلينا 4- قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] .

أغراض تعريف المسند إليه: أغراض التعريف: وأما تعريفه فلتكون الفائدة أتم1؛ لأن احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة في الإعلام به أقوى، ومتى كان أقرب كانت أضعف، وبعده بحسب تخصيص2 المسند إليه، والمسند كلما ازداد تخصيصا ازداد الحكم بعدا، وكلما ازداد عموما ازداد الحكم قربا، وإن شئت فاعتبر حال الحكم في قولنا: "شيء ما موجود"، وفي قولنا: "فلان بن فلان يحفظ الكتاب"، والتخصيص: كماله بالتعريف. أغراض التعريف بالإضمار: ثم التعريف مختلف؛ فإن كان بالإضمار: فإما لأن المقام مقام التكلم3؛ كقول بشار "من البسيط": أنا المرعث لا أخفى على أحد ... ذَرَّتْ بي الشمس للقاصي وللداني4 وإما لأن المقام مقام الخطاب؛ كقول الحماسية "من الطويل":

_ 1 أي: مع اقتضاء المقام له؛ ولهذا آثر عليه التنكير في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20] . 2 المراد بالتخصيص التعيين، وإنما كان التعيين سببا في بعد الحكم؛ لأن كل واحد يعلم حصول ضرب ما مثلا من أي إنسان، ولا يعلم حصول ضرب معين من شخص معين، فتكون الفائدة أتم في الحكم على المعين. 3 لا يخفى أن مقام التكلم يوجب ضمير المتكلم، ومقام الخطاب يوجب ضمير الخطاب، ومقام الغيبة يوجب ضمير الغيبة، ومثل هذا لا يُبحث عنه في البلاغة كما سبق، وإنما هي معانٍ نحوية لا يصح ذكرها في علم البلاغة. 4 المرعث: المقرط لُقب به لرعثة "أي: قرط" كان يعلقها وهو صغير في أذنه. وقوله: "ذرت" معناه طلعت، وهو كناية عن شهرته. والشاهد في قوله: "أنا"؛ لأن المقام للتكلم، وقد علمت ما فيه. والحق أن ضمير التكلم يؤتى به في مقام الفخر ونحوه؛ لما فيه من الإشعار بالاعتداد بالنفس.

وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمتّ بي من كان فيك يلوم1 وإما لأن المقام مقام الغيبة؛ لكون المسند إليه مذكورا أو في حكم المذكور لقرينة2؛ كقوله "من الوافر": من البيض الوجوه بني سنان ... لو أنك تستضيء بهم أضاءوا هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا3 وقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي: العدل، وقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] أي: ولأبوي الميت4. وأصل الخطاب أن يكون لمعين، وقد يُترك إلى غير معين5؛ كما تقول: "فلان لئيم، إذا أكرمتَه أهانك، وإن أحسنتَ إليه أساء إليكَ" فلا تريد مخاطبا بعينه، بل تريد إن أُكرم أو أُحسن إليه، فتُخرجه في صورة الخطاب؛ ليفيد العموم؛ أي: سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد. وهو في القرآن كثير، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] أُخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد إلى تفظيع حالهم، وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها؛ فلا تختص بها رؤية راءٍ مختص به، بل كل من يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب6.

_ 1 هو لأمامة الخثعمية تخاطب ابن الدمينة الشاعر، وكان يتغزل بها في شعره، ثم تزوجها بعد ذلك، وقد وردت في أكثر شعره "أميمة" بتصغير الترخيم. 2 بهذا يمتاز مقام ضمير الغيبة عن مقام الاسم الظاهر؛ لأنه للغيبة أيضا. 3 هما لأبي البرج القاسم بن حنبل المري، في زفر بن أبي هاشم بن مسعود، وقبلهما: أرى الخِلّان بعد أبي حبيب ... بحجر في جنابهم خفاء وبياض الوجه كناية عن السيادة والشرف. والشاهد في ضمائر الغيبة الأربعة في البيتين. 4 المثالان في الآيتين لعود الضمير على ما هو في حكم المذكور، والقرينة في الأول لفظية، وفي الثاني حالية. 5 فيدل على العموم البدلي بطريق المجاز أو الحقيقة. وقيل: إن ذلك من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى} الظاهر فيه: ولو يرى أن كل أحد. ومثل هذا هو الذي يعد من وجوه البلاغة في هذا الباب؛ لما فيه من تلك المزية الظاهرة، ويمكن أن يعد منها الالتفات الآتي، واستعمال ضمير الجمع في الواحد، ونحو ذلك مما لا يدخل في المعاني النحوية للضمائر. 6 منه أيضا قول الشاعر "الطويل": إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها ... هوانا بها كانت على الناس أهونا وقول الآخر "الوافر": إذا ما كنت ذا قلب قنوع ... فأنت ومالك الدنيا سواء

أغراض التعريف بالعَلَمِيّة: وإن كان بالعلمية: فإما لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به1 كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 [الإخلاص: 1] . وقول الشاعر "من المتقارب": أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه3 وقوله "من الكامل": الله يعلم ما تركتُ قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد4 وإما لتعظيمه، أو لإهانته، كما في الكنى، والألقاب المحمودة والمذمومة5.

_ 1 هذا أيضا من استعمال العَلَم في معناه الأصلي، فلا يصح أن يعد من وجوه البلاغة. 2 وإنما تكون الآية من تعريف المسند إليه بالعلمية إذا جُعل لفظ الجلالة مبتدأ ثانيا لا خبرا عن الضمير. 3 هو لمالك بن عويمر المعروف بالمتنخل الهذلي, من قصيدة له في رثاء أبيه، وكان يكنى أبا مالك، والكنية علم. ومعنى قصره فقره على نفسه: أنه لا يسأل أحدا، ومعنى إشاعة غناه: أنه يعطي كل الناس. 4 هو للحارث بن هشام في الاعتذار عن فراره عن أخيه أبي جهل يوم بدر، والأشقر: لون يأخذ من الأحمر والأصفر، ويريد به الدم، والمزبد: الذي له زبد. يعتذر بأنه لم يفر إلا بعد أن جُرح، فعلا دمُه فرسَه. 5 كقولك: "أبو المعالي حضر، وأنف الناقة ذهب". ومثلُ الكنى والألقاب الأعلامُ المنقولة من معانٍ محمودة أو مذمومة.

وإما للكناية حيث الاسم صالح لها1، ومما ورد صالحا للكناية من غير باب المسند إليه قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] أي: جهنميّ. وإما لإيهام2 استلذاذه، أو التبرك به. وإما لاعتبار آخر مناسب3.

_ 1 الفرق بين هذا وما قبله أن ما هناك مجرد إشعار، وما هنا يُقصد فيه المعنى اللازم وتُنسى العلمية. وصلاح الاسم للكناية بالنظر إلى أصله قبل العلمية، وقيل: إنه لا يراد بالكناية هنا معناها الاصطلاحي الآتي في علم البيان؛ لأنه لا يكنى بأبي لهب عن جهنميّ باعتبار معناها المستعمل فيه وهو الذات المخصوصة، وهذا لا بد منه في الكناية الاصطلاحية. 2 لا معنى لإقحام لفظ "إيهام"؛ لأن التبرك والاستلذاذ حاصلان تحقيقا، وذلك كقول الشاعر "من البسيط": بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر 3 كالتفاؤل والتطير, نحو: "سعد في دارك، والسفاح في دار صديقك".

أغراض التعريف بالموصولية: وإن كان بالموصولية: فإما لعدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة1 كقولك: "الذي كان معنا أمس رجل عالم". وإما لاستهجان التصريح بالاسم. وإما لزيادة التقرير، نحو قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] فإنه مسوق لتنزيه يوسف -عليه السلام- عن الفحشاء، والمذكور أدل عليه من "امرأة العزيز" وغيره2.

_ 1 هذا أيضا معنى لغوي لاسم الموصول، فلا يصح عده في وجوه البلاغة. 2 لأنه إذا كان في بيتها وتمكن منها ولم يفعل، كان هذا أقوى في نزاهته. والآية تصلح أيضا مثالا لغرض استهجان التصريح بالاسم لقُبح الفعل المنسوب إليها. ومما عُدِل فيه عن التصريح بالاسم لاستهجانه قول الشاعر "من الرجز": قالت لتِرْب عندها جالسة ... في قصرها: هذا الذي أراد مَنْ؟ قلت: فتى يشكو الغرام عاشق ... قالت: لمن؟ قالت: لمن قالت: لمن

وإما للتفخيم؛ كقول تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] . وقول الشاعر "من البسيط": مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي1 ومنه في غير هذا الباب قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} 2 [النجم: 54] . وبيت الحماسة "من الطويل": صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: أبعد3 وقول أبي نواس "من الكامل": ولقد نَهَزْتُ مع الغُواة بدلوهم ... وأَسَمْتُ سرح اللَّحْظ حيث أساموا وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام4

_ التكرار في ذلك قبيح, يخل بفصاحته وبلاغته. 1 هو لعبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، وقيل: إنه لأبي نواس, والضمير في قوله: "بها" للخمر. ومعنى البيت: أنه مضى بالخمر قدر كبير من عقل شاربها، ولا يزال الباقي من الخمر في الزجاجة يطلب الباقي من عقله حتى يذهب به كله. 2 وإنما يكون ما في الآية من غير هذا الباب؛ إذا جُعلت "ما" مفعولا به، فإذا جُعلت فاعلا كانت منه. 3 هو لدريد بن الصمة، وإنما لم يكن من هذا الباب؛ لأن "ما" فيه مفعول به، أي: تعاطي الصبا الذي تعاطاه، ويجوز أن تكون مصدرية ظرفية، والصبا: الميل إلى الصبوة, وهي جهلة الصبيان. 4 هما للحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس، ويقال: "نهز الدلوَ في البئر" إذا ضرب بها في الماء لتمتلئ، ويقال: "أسام الماشية" إذا أخرجها إلى المرعى، والكلام على التمثيل في الموضعين. والإضافة في "سرح اللحظ" من إضافة الصفة إلى الموصوف، والسرح في الأصل: ذهاب الماشية إلى المرعى، والعصارة: ما تَحَلَّب مما عُصِر، والمراد بها هنا الثمرة والنتيجة، والشاهد في قوله: "ما بلغ امرؤ"؛ لأنه مفعول به.

وإما لتنبيه المخاطب على خطئه؛ كقول الآخر "من الكامل": إن الذين تُرَوْنَهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا1 وإما للإيماء إلى وجه بناء الخبر2؛ نحو: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] . ثم إنه3 ربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر4, كقوله "الكامل": إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول5 أو لشأن غيره6 نحو: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 92] . قال السكاكي7: "وربما جُعل ذريعة إلى تحقيق الخبر"؛ كقوله "من البسيط": إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت وُدّها غُول8 وربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على خطأ؛ كقوله: "إن الذين ترونهم...." "البيت". وفيه نظر؛ إذ لا يظهر بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر فرق9، فكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثاني, والمسند إليه في البيت الثاني ليس فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر عليه، بل لا يبعد أن يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه10؟!

_ 1 هو لعبدة بن الطبيب في وعظ بنيه، وقيل لغيره، وقوله: "ترونهم" بمعنى: تظنونهم، والواو فيه فاعل؛ لأنه مما يبنى على صورة المجهول وهو للفاعل، ويجوز أن يكون من "أرى" المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل، والغليل: العطش الشديد أو الحقد. والشاهد في أن الموصول في البيت يفيد من تخطئتهم في ظنهم ما لا يفيده قوله: إن فلانا وفلانا. 2 أي: طريق إسناده إلى الموصول من كونه مدحا أو ذما أو نحوهما، بأن يُذكر في الصلة ما يناسب ذلك. 3 الضمير يعود إلى الإيماء, إلى وجه بناء الخبر. 4 ربما جُعل ذريعة أيضا إلى الإهانة لشأنه؛ كقولك: "إن الذي لا يُحسن الفقه صنّف فيه"، أو شأن غيره، كقولك: إن الذي يتبع الشيطان خاسر. 5 هو لهمام بن غالب المعروف بالفرزدق, يفتخر ببيته في تميم على جرير؛ لأنه كان من ذوي الشرف فيهم، وليس المراد بالبيت الكعبة كما ذكر الدسوقي في حاشيته على المختصر، وقوله: "سمك" بمعنى رفع. والشاهد في أن قوله: "الذي سمك السماء" إيماء إلى أن الخبر المبنيّ عليه من جنس الرفعة والبناء، وأعز وأطول أي: من بيت جرير، أو من كل عزيز وطويل، أو من السماء المذكورة قبله، أو بمعنى عزيزة طويلة، فيكون أفعل التفضيل على غير بابه، وقد حذفت "مِنْ" على الأول؛ للدلالة على قوة الخبر. 6 كشعيب -عليه السلام- في الآية؛ لأن فيها إيماء إلى الخبر يُشعر بتعظيمه، إذ جعل خسرانهم بسبب تكذيبه، وفيها إيماء أيضا إلى أن الخبر من جنس الخسران. 7 المفتاح ص97. 8 هو لعبدة بن الطبيب. وكوفة الجند هي مدينة الكوفة، وروى أبو زيد: "بكوفة الخلد" على أنه موضع، وقال الأصمعي: إنما هو "بكوفة الجند"، والأول تصحيف. وقوله: "غالت" بمعنى أكلت، والغول: حيوان خرافي وقد يطلق على الداهية. والشاهد في أن ضرب البيت بالكوفة والهجرة إليها فيه إيماء إلى أن طريق بناء الخبر أمر من جنس زوال المحبة، وهو مع هذا يحقق زوال المودة ويُقره حتى كأنه دليل عليه. 9 فرق بينهما بأن الإيماء إشعار بالخبر سواء أكان معه تحقيق له م لا، والأول كما في بيت عبدة، والثاني كما في بيت الفرزدق، فالإيماء إلى الخبر أعم من تحقيقه وإفادة الجزم به. 10 نقيضه: نفي الأخوة عنهم، وهذا لا يخرجه فيما أرى عن كونه فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر؛ لأنهم أطلقوا فيه ولم يقيدوه بشيء، ومن هذا الإيماء قول أبي العلاء "من السريع": إن الذي الوحشة في داره ... تؤنسه الرحمة في لحده وربما يقصد بالإيماء تشويق السامع إلى الخبر ليتمكن في نفسه، كما في قول الشاعر "الخفيف": والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد ومن أغراض التعريف بالموصولية إخفاء الأمر عن غير المخاطب, كقول الشاعر "الكامل": وأخذت ما جاد الأمير به ... وقضيت حاجاتي كما أهوَى

أغراض التعريف بالإشارة: وإن كان بالإشارة؛ فإما لتمييزه أكمل تمييز لصحة إحضاره في ذهن السامع بواسطة الإشارة حسا1؛ كقوله "الطويل":

_ 1 هذا أيضا معنى أصلي لاسم الإشارة، فلا يصح أن يُعد من وجوه البلاغة، وإنما يعد منها أن يعنى بتمييزه أكمل تمييز؛ لأن المقام مقام مدح أو نحوه؛ لأن تمييزه أكمل تمييز يكون أعون على كمال المدح، وأبعد من التقصير في الاعتناء بأمر الممدوح.

هذا أبو الصقر فردا في محاسنه1 وقوله "من الطويل": أولئك قوم إن بَنَوْا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا2 وقوله "من الكامل": وإذا تأمل شخص ضيف مقبل ... متسربل سربال ليل أغبر أوما إلى الكَوْماء: هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحري3 وقوله "من البسيط": ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان: عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد4

_ 1 هو لعلي بن العباس المعروف بابن الرومي, في مدح أبي الصقر الشيباني وزير المعتمد من قوله: هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسَّلَم والضال: شجر السدر البري، والسلم: شجر ذو شوك، وقوله: "بين الضال والسلم" كناية عن عزهم؛ لأن هذه الأشجار بالبادية، وهي مجد العرب وعزهم. 2 هو لجرول بن أوس المعروف بالحطيئة. وقوله: "بنوا" يعني به ما يبنونه من المكارم، والبنى -بضم الباء- يقال: "بنا يبني بناء وبنية بكسر الباء في العمران، وبنى يبني بُنى وبُنية بضم الباء في الشرف. وقوله: "عقدوا" معناه: أبرموا أمرا من أمورهم". 3 قيل: إن البيتين لرجل يمدح حاتما، وقيل: إنهما لحسان بن ثابت، وقيل: إنهما لابن المولى محمد بن عبد الله بن مسلم، وفي مجموعة المعاني أنهما للعلوي صاحب الزنج، وقوله: "أوما" تخفيف أومأ بمعنى أشار، والكوماء: الناقة الضخمة. 4 هما لجرير بن عبد المسيح الضبعي المعروف بالمتلمس، والضمير في "به" يعود إلى المستثنى منه المقدر وهو "أحد" مثلا، والعير: الحمار، والرمة: القطعة من الحبل البالي، وقوله: "هذا" يعود إلى العير, وقوله: "ذا" يعود إلى الوتد.

وإما للقصد إلى أن السامع غبي لا يتميز الشيء عنده إلا بالحس؛ كقول الفرزدق "من الطويل": أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع1 وإما لبيان حاله في القرب أو البعد أو التوسط2؛ كقولك: "هذا زيد، وذلك عمرو، وذاك بشر". وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير3 كقوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 36] , وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41] , وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64] . وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26] ، وقول عائشة -رضي الله عنها- لعبد الله بن عمرو بن العاص: "يا عجبا لابن عمرو هذا"4. وقول الشاعر "من الطويل": تقول ودقت نحرها بيمينها: ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس؟ 5 وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم؛ كقوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ}

_ 1 هو لهمام بن غالب المعروف بالفرزدق، والتعريض بالغباوة ناشئ من استعمال اسم الإشارة في آبائه -وهم غائبون- لموتهم، والأمر في قوله: "فجئني" للتعجيز. 2 هذا أيضا من المعاني الأصلية لاسم الإشارة. 3 قد يجعل أيضا ذريعة إلى التعظيم؛ كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، فينزّل قربه من ساحة الحضور والخطاب منزلة قرب المسافة. 4 تريد بهذا تخطئته في فتواه بنقض النساء ذوائبهن في الاغتسال. 5 هو للهذلول بن كعب العنبري، ويقال له: الذهلول أيضا، وقيل: لغيره. وكانت امرأته رأته يطحن بالرحى لأضيافه فأنكرت عليه. وبعده: فقلت لها: لا تعجبي وتبيني ... بلائي إذا التفت علي الفوارس والمتقاعس: الذي يدخل ظهره ويخرج صدره، ضد الأحدب. والشاهد في أن اسم الإشارة فيه مسند, لا مسند إليه.

[البقرة: 1، 2] ذهابا إلى بعد درجته، ونحوه: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف: 72] ، ولذا قالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] ، لم تقل: "فهذا" وهو حاضر1؛ رفعا لمنزلته في الحسن، وتمهيدا للعذر في الافتتان به. وقد يجعل "البعد" ذريعة إلى التحقير، كما يقال: "ذلك اللعين فعل كذا". وإما للتنبيه -إذا ذُكر قبل المسند إليه مذكور2 وعُقِّب بأوصاف- على أن ما يرد بعد اسم الإشارة المذكور جدير باكتسابه من أجل تلك الأوصاف؛ كقول حاتم الطائي "من الطويل": ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما3 فتى طلبات لا يرى الخمْص تَرْحَة ... ولا شِبْعة إن نالها عد مغنما4 إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صَمَّما5 ترى رمحه ونبله ومِجَنّه ... وذا شُطَب عَضْب الضريبة مِخْذَما6 وأحناء سرج قاتر ولجامه ... عتاد أخي هَيْجا وطِرْفا مُسَوَّما7 فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما8 فعدّد له -كما ترى- خصالا فاضلة من المَضَاء على الأحداث مُقْدِما، والصبر على ألم الجوع، والأنفة من عد الشبعة مغنما، وتيمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها، ثم عقب ذلك بقوله: "فذلك"، فأفاد أنه جدير باتصافه بما ذُكر بعده. وكذا قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربهم والفلاح. وإما لاعتبار آخر مناسب9.

_ 1 أي: يوسف عليه السلام. 2 المسند إليه هو اسم الإشارة، والمذكور هو المشار إليه قبلها. 3 الصعلوك: الفقير، وقوله: "يساور" بمعنى يواثب. 4 الخمص: الجوع، وشبعة: مفعول أول لعدّ، ومغنما: مفعول ثانٍ. 5 أعرضت بمعنى: ظهرت، وتيمم بمعنى: قصد. 6 المجن: الترس، وشطب السيف: الخطوط في متنه، وضريبته: حده، والعضب: القاطع، والمخذم: القاطع بسرعة. 7 أحناء السرج: جمع حنو وهو اسم لكل من قربوسيه المقدم والمؤخر. والقاتر: الجيد الوقوع على الظهر. وعتاد: عدة هو مفعول "يرى" الثاني، وهيجا مقصور هيجاء وهي الحرب، والطرف: الجواد الكريم الأصل، والمسوم: الذي يُرسَل ليرعى أو للإغارة، أي: ويرى طرفا مسوما كذلك. 8 الحسنى: مصدر كالبشرى، أو اسم للإحسان خبر مقدم، وثناؤه: مبتدأ مؤخر. 9 كتنزيل الغائب منزلة الحاضر، والمعقول منزلة المحسوس في نحو قوله تعالى: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35] ، وقوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} [فصلت: 23] ، وقوله: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37] .

أغراض التعريف باللام: وإن كان باللام: فإما للإشارة إلى معهود3 بينك وبين مخاطبك؛ كما إذا قال لك قائل: "جاءني رجل من قبيلة كذا" فتقول: "ما فعل الرجل؟ ". وعليه قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] أي: وليس الذكر الذي طلبتْ4 كالأنثى التي وُهِبتْ لها.

_ 1 أي: في الخارج مذكورا أو غير مذكور؛ ولهذا تسمى اللام فيه لام العهد الخارجي، وهذا المعنى للام التعريف وما بعده من المعاني الأصلية لها؛ فلا يصح ذكرها على نحو ما ذكره الخطيب وغيره. 2 في قولها قبله: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} ؛ لأن نذر الأولاد لخدمة بيت المقدس كان مقصورا عندهم على الذكور، واللام في "الذكر" عائدة إلى مذكور بالكناية على هذا الوجه، واللام في "الأنثى" عائدة إلى مذكور صريح في قوله قبلها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} ، وقد تعود اللام إلى معهود غير مذكور؛ كقوله تعالى: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] ، وتسمى اللام فيه لام العهد العلمي؛ فأقسام لام العهد الخارجي ثلاثة: صريحي، وكنائي، وعلمي.

وإما لإرادة نفس الحقيقة1؛ كقولك: "الرجل خير من المرأة، والدينار خير من الدرهم"، ومنه قول أبي العلاء المعري "من البسيط": والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر2 وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] أي: جعلنا مبدأ كل شيء حي من هذا الجنس الذي هو الماء؛ لما روي أنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه. ونحوه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89] . والمعرف باللام3 قد يأتي لواحد4 باعتبار عهديته في الذهن5؛ لمطابقته الحقيقة6؛ كقولك: "ادخل السوق" وليس بينك وبين مخاطبك سوق معهود في الخارج، وعليه قول الشاعر "من الكامل":

_ 1 هذه لام الجنس. 2 هو لأحمد بن عبد الله, المعروف بأبي العلاء المعري. والخل: الصديق، وضمائره: ما يضمره من المودة وغيرها، وليس الحكم هنا على خل معهود، وإنما هو على جنس الخل. 3 يعني لام الحقيقة؛ لأنها هي التي يأتي فيها لام العهد الذهني، ولام الاستغراق. وقيل: إن لام العهد الذهني ولام الاستغراق مقابلتان للام العهد الخارجي ولام الحقيقة، وعلى هذا تكون لام الحقيقة هي التي يراد منها الحقيقة بقطع النظر عن الأفراد، ويُقصَر عليها اسم لام الجنس. 4 أي: مبهم، بخلاف لام العهد الخارجي؛ فإنها لمعين. 5 تسمى اللام فيه لام العهد الذهني. 6 يريد بمطابقته الحقيقة اشتمالها عليه.

ولقد أَمُرّ على اللئيم يسبني1 وهذا يقرب في المعنى من النكرة2؛ ولذلك يقدر: "يسبني" وصفا للئيم، لا حالا3. وقد يفيد الاستغراق؛ وذلك إذا امتنع حمله على غير الأفراد، وعلى بعضها دون بعض4؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3] . والاستغراق ضربان: حقيقي5 كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] أي: كل غيب وشهادة، وعرفي6 كقولنا: "جمع الأمير الصاغة" إذا جمع صاغة بلده أو أطراف

_ 1 هو لعميرة بن جابر الحنفي من قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني وثمت: حرف عطف لحقها تاء التأنيث، وقوله: "أمر" مضارع بمعنى الماضي؛ لاستحضار تلك الصورة العجيبة عنده، ورواية الكامل: "فأجوز ثم أقول لا يعنيني". والشاهد في لام اللئيم؛ لأن المراد منه واحد غير معين. 2 قال: "يقرب"؛ لأن النكرة تدل على واحد غير معين من جملة الحقيقة، والمعرف بلام العهد الذهني يدل على نفس الحقيقة في ذاته, ولا يدل على الواحد المبهم إلا بوساطة القرينة، كالدخول في قولك: "ادخل السوق" فهما بالنظر إلى القرينة سواء، وبقطع النظر عنها مختلفان. 3 لأن المعرف بلام العهد الذهني في معنى النكرة، والجمل بعد النكرات صفات لا أحوال، ولكن يرد على هذا أنهم جعلوه كالنكرة في المعنى فقط، وأجروا عليه في اللفظ أحكام المعارف، على أن تقدير "يسبني" حالا هو المناسب لقوله: "فمضيت"؛ لأنه ظاهر في أن السبّ كان منه في حال المرور فقط، ولم يكن صفة لازمة له. 4 بأن تقوم قرينة على أنه ليس القصد الحقيقة من حيث هي، ولا بعض الأفراد دون بعض بالاستثناء في الآية؛ فتكون اللام لاستغراق جميع الأفراد؛ ولهذا تسمى لام الاستغراق. 5 هو الذي يتناول كل فرد بحسب وضع اللفظ. 6 هو الذي يتناول كل فرد بحسب العرف العام، أما العرف الخاص كعرف الشرع فيدخل الاستغراق بحسبه في الاستغراق الحقيقي.

مملكته فحسب، لا صاغة الدنيا1. واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع2، بدليل أنه لا يصدق: "لا رجلَ في الدار" في نفي الجنس3 إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق: "لا رجالَ في الدار" ولا تنافي بين الاستغراق وإفراد اسم الجنس4؛ لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردا عن الدلالة على الوحدة والتعدد5، ولأنه بمعنى كل الإفرادي6 لا كل المجموعي؛ إذ معنى قولنا: "الرجل" كل فرد من أفراد الرجال، لا مجموع الرجال؛ ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع7، وللمحافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف أيضا. فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام: إما نفس الحقيقة، لا ما يصدق عليه من الأفراد، وهو تعريف الجنس والحقيقة, ونحوه عَلَم الجنس "كأسامة"، وإما

_ 1 ال في "الصاغة" معرفة لا موصولة؛ لأنها إنما تكون موصولة في اسم الفاعل, إذا دل على الحدوث. 2 هذا صحيح في استغراق النكرة المنفية؛ أما استغراق المعرف باللام فالمفرد والجمع فيه سواء؛ ولهذا كان قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] شاملا لكل مؤمن، وليس خاصا بجماعات المؤمنين. 3 بخلاف نفي الوحدة، نحو: "لا رجل في الدار" فإنه يصدق إذا كان فيها رجلان أو أكثر، ويكون لاستغراق الواحد كما يكون الجمع لاستغراق الجموع دون الأفراد. 4 هذا جواب عن اعتراض بعضهم بأن إفراد الاسم ينافي أن تكون الأداة الداخلة عليه للاستغراق؛ لأن إفراده يدل على الوحدة، والاستغراق يدل على التعدد. 5 لأنه قُصد به الجنس الصالح لهما. 6 هو الذي يدل على كل فرد على طريق البدل، وعلى هذا لا تُنافي الدلالةُ على الوحدة الدلالةَ على التعدد. 7 هذا عند الجمهور، وقد أجازه الأخفش لِمَا سمع من كلامهم: "أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض".

فرد معين، وهو العهد الخارجي، ونحوه العلم الخاص "كزيد"، وإما فرد غير معين، وهو العهد الذهني، ونحوه النكرة "كرجل"، وإما كل الأفراد؛ وهو الاستغراق، ونحوه لفظ "كل" مضافا إلى النكرة كقولنا: "كل رجل". وقد شكك السكاكي1 على تعريف الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه مما ذكرنا2، ثم اختار3 -بناء على ما حكاه عن بعض أئمة أصول الفقه من كون اللام موضوعة لتعريف العهد لا غير4- أن المراد بتعريف الحقيقة تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية؛ إما لكون الشيء حاضرا في الذهن لكونه محتاجا إليه على طريق التحقيق أو التهكم5، أو لأنه عظيم الخطر معقود به الهمم6 على أحد الطريقين7، وإما لأنه لا يغيب عن الحس8 على أحد الطريقين لو كان معهودا9. وقال10: الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا متعددة؛ لتحققها مع الوحدة تارة ومع التعدد أخرى، وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما، فهي صالحة للتوحد والتكثر؛ فكون الحكم استغراقا أو غير استغراق "راجع" إلى مقتضى المقام11، فإذا كان خطابيا12 مثل "المؤمن غِرّ كريم، والفاجر خَبّ لئيم" حُمل المعرف باللام -مفردا كان أو جمعا- على الاستغراق؛ بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر -مع تحقق الحقيقة فيهما- ترجيح لأحد المتساويين، وإذا كان استدلاليا حُمل على أقل ما يحتمل، وهو الواحد في المفرد، والثلاثة في الجمع13.

_ 1 المفتاح ص115. 2 أما تشكيكه في تعريف الحقيقة من حيث هي: فبدعوى أنه لا فرق بين المراد منها والمراد من أسماء الأجناس النكرات؛ كرجل، وقيامة، إن قصد منها الدلالة على الحقيقة من حيث هي، فإن قصد منها الحقيقة باعتبار حضورها في الذهن لم تفترق عن لام العهد الخارجي. وأما تشكيكه في الاستغراق فبدعوى التنافي بينه وبين أفراد الاسم. وقد أجاب الخطيب عن الأول بما أشار إليه من أن لام الحقيقة تدل على الحقيقة بقيد استحضارها في الذهن، ولام العهد الخارجي يقصد بها فرد معين، وبهذا تمتاز لام الحقيقة عن أسماء الأجناس النكرات، وعن لام العهد الخارجي، وأجاب عن الثاني بدفع التنافي بين الاستغراق وأفراد اسم الجنس. 3 أي: في الجواب عن تشكيكه في تعريف الحقيقة. 4 أي: لا الحقيقة؛ فلا تأتي لتعريفها إلا بعد تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الآتية. 5 كقولهم: "الدينار خير من الدرهم"، ويمكن أن يكون من هذا في التهكم قولهم: "إن البُغَاث بأرضنا يَسْتَنْسِر". 6 كقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89] . 7 أي: طريق التحقيق, وطريق التهكم. 8 كقولك: "الأرض مبسوطة" في الأول، وقولك: "الطفيليّ حضر" في الثاني. 9 هذه الجملة الشرطية لا توجد في كلام السكاكي, وفي نسخة: "فكأنه معهود". 10 أي: في الجواب عن تشكيكه في الاستغراق، وهذا هو الذي أجاب به الخطيب فيما سبق. 11 يعني أن دلالة اللام على هذا ليست بمقتضى الوضع، وإنما هي بمقتضى المقام. 12 المقام الخطابي هو الذي يكتفَى فيه بالظن، والمقام الاستدلالي هو الذي يُطلَب فيه اليقين. 13 مثل: "حصل الدرهم أو الدراهم". هذا وكل ما ذكره السكاكي والخطيب في التعريف باللام ليس فيه من البلاغة شيء؛ لأنه لا يخرج عما تفيده بمقتضى دلالتها الوضعية، وقد حاول السكاكي أن يجعل لذلك وجها من البلاغة، ولكنه تكلَّفَ فيه على عادته.

أغراض التعريف بالإضافة: وإن كان بالإضافة: فإما لأنه ليس للمتكلم إلى إحضاره في ذهن السامع طريق أخصر منها؛ كقوله "من الطويل": هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جَنِيب وجثماني بمكة مُوثَق6

_ 6 هو لجعفر بن علبة الحارثي، وكان مسجونا بمكة في جناية، فزارته محبوبته مع ركب من قومها، فلما رحلت قال فيها ذلك. وآثر قوله: "هواي" على نحو: "الذي أهوَى" أو "المهويّ لي"؛ لأن الإضافة أخصر وأنسب بما هو فيه من ضيق الصدر بالحبس، وكذلك ضيق الشعر، وقد أطلق الهوى على المهوي مجازا مرسلا. واليمانين: جمع يمان، وألفه عوض عن ياء النسب، والمصعد: اسم فاعل من "أصعد" بمعنى: أبعد في السير. والجنيب: المستتبع من "جنبَ البعير" إذا قاده إلى جنبه.

وإما لإغنائها عن تفصيل متعذر أو مرجوح لجهة1؛ كقوله "من الطويل": بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غِيل خَفّان أَشْبُل2 وقوله "الكامل": قومي هُمُ قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي3 وإما لتضمنها تعظيما لشأن المضاف إليه؛ كقولك: "عبدي حضر" فتعظم شأنك, أو تعظيما لشأن المضاف؛ كقولك: "عبد الخليفة ركب" فتعظم شأن العبد، أو لشأن غيرهما؛ كقولك: "عبد السلطان عند فلان" فتعظم شأن فلان. أو تحقيرا نحو: "ولد الحجام حضر"4, وإما لاعتبار آخر مناسب5.

_ 1 يعني أنه غير متعذر، ولكنه مرجوح لجهة, كما سيأتي في الشاهد. 2 هو لأبي السمط مروان بن أبي حفصة في مدح معن بن زائدة. وبنو مطر: قومه، بطن من شيبان. والغيل: الشجر المجتمع. وخفان: مأسدة قرب الكوفة. والأشبل: أولاد الأسود. والشاهد في قوله: "بنو مطر"؛ لإغناء الإضافة فيه عن تفصيل متعذر. 3 هو للحارث بن وعلة الجرمي، وأميم: منادى مرخم أميمة، وكانت تحضه على الأخذ بثأر أخيه ممن قتله من قومه. والشاهد في قوله: "قومي"؛ لإغناء الإضافة فيه عن تفصيل تركه أرجح لجهة هي خوف تنفيرهم منه وحقدهم عليه إذا صرّح بأسمائهم. 4 هذا مثال لإفادتها تحقير المضاف، ومن إفادتها تحقير المضاف إليه قولك: "ضارب بكر حضر"، ومن إفادتها تحقير غيرهما قولك: "ولد الحجام جليس زيد"، ومن إفادتها التعظيم والتحقير قول الشاعر "من الطويل": أبوك حُبَاب سارق الضيف برده ... وجدي يا حجاج فارس شمرا 5 كالاستعطاف في قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] . وكتضمنها لطفا مجازيا في نحو قول الشاعر "من الطويل": إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... سهيل أذاعت غزلها في الأقارب فأضاف الكوكب إلى الخرقاء لأدنى ملابسة، وهي أنها لا تتذكر كسوة الشتاء إلا وقت طلوعه سحرا، وهو لا يطلع سحرا إلا في الشتاء. وسهيل: بدل من كوكب. هذا, ولا تختص هذه المزايا بالتعريف بالإضافة، بل تأتي في الإضافة إلى النكرة، فتفيد التعظيم في نحو قول امرأة من بني عامر "من الطويل": وحربٍ يَضِجّ القوم من نفيانها ... ضجيج الجِمال الجلّة الدَّبِرات سيتركها قوم ويصلَى بِحَرّها ... بنو نسوة للثكل مصطبرات وتفيد التقليل والتحقير في قول الشاعر "من الطويل": إذا جاع لم يفرح بأكلة ساعة ... ولم يبتئس من فقدها وَهْوَ ساغب

أغراض تنكير المسند إليه: وأما تنكيره: فللإفراد1 كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20] ؛ أي: فرد من أشخاص الرجال. أو للنوعية؛ كقوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] أي: نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس2 وهو غطاء التعامي عن آيات الله. ومن تنكير غير المسند إليه للإفراد قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] . وللنوعية: قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] أي: نوع من الحياة مخصوص وهو الحياة الزائدة، كأنه قيل: "لتجدنهم أحرص الناس وإن عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في الماضي

_ 1 أي: الدلالة على فرد منتشر، وهذا عام في كل نكرة؛ فإذا كانت مفردا دلت على واحد، وإذا كانت مثنى دلت على اثنين، وإذا كانت جمعا دلت على ثلاثة، وإذا كانت نوعا دلت على النوعية أي فرد سائر الأنواع، ولا يخفى أن هذا معنى أصلي للنكرة لا يصح ذكره هنا، وإنما يعد من البلاغة إذا دل بمعونة المقام على نوعية غريبة أو نحو ذلك مما يأتي، وقد يقتضي المقام المعنى الأصلي للنكرة إذا كان لا يتعلق بتعيينها غرض، وذلك نحو "رجل" في الآية، ومثل هذا قد يعد وجها من وجوه البلاغة. 2 لهذا نُكّرت في الآية، ولو عُرِّفت لانصرفت إلى ما يتعارفه الناس منها، مع أنه ليس مرادا، فلما أريد غيره نُكِّرت ليبحثوا عنها فيعرفوها، وإنما كان التنكير هنا للنوعية؛ لأنه هو الذي يقابل أبصارهم المتعددة، بخلاف تنكير الأفراد. وقيل: إن التنكير في الآية للتعظيم.

والحاضر حياة في المستقبل"؛ فإن الإنسان لا يوصف بالحرص على شيء، إلا إذا لم يكن ذلك الشيء موجودا له حال وصفه بالحرص عليه، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] يحتمل الإفراد والنوعية؛ أي: خلق كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة، أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه. أو للتعظيم والتهويل أو للتحقير: أي ارتفاع شأنه أو انحطاطه إلى حد لا يمكن معه أن يعرف، كقول ابن أبي السمط "من الطويل": له حاجب عن كل أمر يَشِينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب1 أي: له حاجب أيّ حاجب، وليس له حاجب ما. أو للتكثير2: كقولهم: "إن له لإبلا، وإن له لغنما" يريدون الكثرة. وحمل الزمخشري التنكير في قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الأعراف: 113] عليه. أو للتقليل3 كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]

_ 1 هو كما في "زهر الآداب" لأبي السمط مروان بن أبي حفصة، ونسب في "ديوان المعاني" لولي بن أبي السمط، وهو أبو الطمحان القيني، وقبله "من الطويل": فتًى لا يبالي المدلجون بنوره ... إلى بابه ألا تضيء الكواكب ومعنى البيت: أن ممدوحه له حاجب عظيم من نفسه يمنعه عن فعل ما يشينه، وليس له حاجب ما عن طالب الندى؛ فالحاجب الأول نفسي، والتنكير فيه للتعظيم، والحاجب الثاني حسيّ، والتنكير فيه للتحقير على سبيل المبالغة في النفي، وفي قوله: "وليس له عن طالب العرف حاجب" قلب، والأصل: "وليس لطالب العرف حاجب عنه". 2 فيفيد أنه كثير إلى حد لا يعرف، وإنما أفاد التنكير التكثير مع أن الأصل فيه الدلالة على الوحدة؛ لأنه لا تنافي بين الدلالتين كما سبق، والفرق بين التكثير والتعظيم أن الأول ينظر فيه إلى الكميات والمقادير، والثاني ينظر فيه إلى علو الشأن، وبهذا يُعرَف الفرق بين التقليل والتحقير. 3 فيقيد أنه قليل إلى حد لا يعرف.

أي: وشيء ما من رضوانه أكبر من ذلك كله؛ لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راضٍ عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تهنأ له برضاه، كما أنه إذا علم بسخطه تنغّصت عليه، ولم يجد لها لذة، وإن عظمت. وقد جاء للتعظيم والتكثير جميعا، كقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] أي: رسل ذوو عدد كثير, وآيات عظام1، وأعمار طويلة، ونحو ذلك. والسكاكي2 لم يفرق بين التعظيم والتكثير، ولا بين التحقير والتقليل، ثم جعل التنكير في قولهم: "شر أهر ذا ناب" للتعظيم، وفي قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء: 46] لخلافه، وفي كليهما نظر؛ أما الأول فلما سيأتي3، وأما الثاني فلأن خلاف التعظيم مستفاد من البناء للمرة، ومن نفس الكلمة4؛ لأنها إما من قولهم: "نفحت الريح" إذا هبت, أي: هبة، أو من قولهم: "نفح الطيب" إذا فاح, أي: فوحة، كما يقال: شمة, واستعماله بهذا المعنى في الشر استعارة؛ إذ أصله أن يستعمل في الخير؛ يقال: "له نفحة طيبة" أي: هبة من الخير. وذهب أيضا إلى أن قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] بالتنكير دون "عذاب الرحمن" بالإضافة؛ إما للتهويل أو لخلافه5، والظاهر أنه لخلافه، وإليه

_ 1 قد يقال: إن الذي في الآية تنكير رسل، فيدل على عِظَمهم لا على عظم الآيات، وأُجيب بأنه يشير بهذا إلى أنه هو المراد بعظم الرسل، أو إلى أنه داخل في عظمهم. 2 المفتاح ص103. 3 من أن تقديم المسند إليه في ذلك للتخصيص لا للتعظيم؛ لأن المعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر. 4 لا يخفى أن هذا لا يمنع أن يكون للتنكير دلالة عليه أيضا؛ لأن المعنى الواحد قد يجتمع فيه دلالتان وثلاث لغرض من الأغراض. 5 خلاف التهويل هو التهوين.

ميل الزمخشري؛ فإنه ذكر أن إبراهيم -عليه السلام- لم يُخْلِ هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه؛ حيث لم يصرح فيه أن العذاب لاحق له لاصق به، ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] فذكر الخوف والمسّ، ونكّر العذاب. وأما التنكير في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فيحتمل النوعية والتعظيم؛ أي: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة؛ لمنعه عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد متى اقتدروا، أو نوع من الحياة وهو الحاصل للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل للعلم بالاقتصاص؛ فإن الإنسان إذا همّ بالقتل تذكر الاقتصاص فارتدع، فسلم صاحبه من القتل وهو من القَوَد، فتسبّبَ لحياة نفسين. ومن تنكير غير المسند إليه للنوعية: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الشعراء: 173] أي: وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا، يعني: الحجارة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} 1 [الشعراء: 173] ، وللتحقير2: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} [الجاثية: 32] 3.

_ 1 أي: في الآية نفسها؛ لأن قوله "فساء" صيغة تعجب. 2 فالمعنى في الآية: إلا ظنا ضعيفا، وإنما حُمل على هذا ولم يجعل مصدرا مؤكدا؛ لأن الاستثناء لا يصح في المصدر المؤكد، وعلى الأول يكون من المصدر المبين لنوع فعله. 3 [الجاثية: 32] . هذا، وقد يأتي التنكير لأغراض أخرى: منها قصد التجاهل في قوله تعالى: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] . ومنها أن يمنع مانع من التعريف كما في قول الشاعر "من الوافر": إذا سئمتْ مهنّده يمينٌ ... لطول الحمل بدّله شمالا لم يقل: "يمينه"؛ لأنه كره أن ينسب ذلك إلى يمين ممدوحه، فنكرها ولم يضفها إليه.

تمرينات على التعريف والتنكير: تمرين1: 1- قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] ، فلماذا نكر رسولا أولا وعرفه ثانيا؟ ومن أي أقسام اللام لام الرسول؟ تمرين2: 1- قال تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2] ، فلماذا أتى باسم الإشارة للبعيد ولم يأت به للقريب؟ 2- لماذا أوثر اسم الموصول على غيره من المعارف في قول الشاعر: أعُبّاد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا؟ تمرين3: 1- ما الغرض من تنكير المسند إليه في قول الشاعر: وفي السماء نجوم لا عداد لها ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر؟ 2- لماذا عرف المسند إليه بالعلمية وبالموصولية في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ؟ تمرين 4: 1- قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة" فلماذا نكر المسند إليه ولم يعرفه؟ 2- لماذا عرف المسند إليه بالإضافة في قول الشاعر: أخوك الذي إن تَدْعُه لِمُلمّة ... يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب؟

تمرين 5: 1- قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6] . فلماذا عُرِّف "العسر" في الموضعين ونُكِّر "يسرا" فيهما؟ ومن أي أقسام اللام لام العسر؟ 2- ما الغرض من التنكير في قول الشاعر: شقت لمنظرك الجيوب عقائل ... وبكتك بالدمع الهتون غَوانِ تمرين 6: 1- قال الشاعر: أحياؤنا لا يُرزقون بدرهم ... وبألف ألف تُرزق الأموات!! فلماذا عرف المسند إليه الأول بالإضافة والثاني باللام, ولم يعكس فيهما؟ 2- بين الغرض من التنكير في قول الشاعر: ولله مني جانب لا أضيعه وللَّهو مني والخلاعة جانب 3- بين الغرض من التعريف والتنكير في قول المتنبي: أَهُمّ بشيء والليالي كأنها ... تطاردني عن كون وأطارد

أغراض وصف المسند إليه: وأما وصفه: فلكون الوصف تفسيرا له كاشفا عن معناه1؛ كقولك: "الجسم الطويل العريض العميق محتاج إلى فراغ يشغله". ونحوه في الكشف قول أوس "المنسرح": الألمعي الذي يظن بك الظـ ... ـن كأن قد رأى وقد سمعا2 حكي أن الأصمعي سُئِل عن الألمعي، فأنشده ولم يزد. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19-21] قال الزمخشري: "الهَلَع: سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير، من قولهم: "ناقة هلوع: سريعة السير". وعن أحمد بن يحيى3: قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ قلت: قد فسره الله تعالى......" انتهى كلام الزمخشري. أو لكونه مخصصا له4 نحو: "زيد التاجر عندنا". أو لكونه مدحا له، كقولنا: "جاء زيد العالم" حيث يتعين فيه ذكر زيد قبل ذكر

_ 1 هذا معنى أصلي للوصف، فلا يصح ذكره في وجوه البلاغة، وكذلك كونه مخصصا للموصوف. 2 هو لأوس بن حجر يرثي فضالة بن كلدة، وقبله: أيتها النفسُ أَجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا إن الذي جمع الشجاعة والنجـ ... ـدة والبر والتقا جُمعا فالألمعي بالرفع خبر "إن"؛ ولهذا قال: "ونحوه في الكشف" لأنه ليس مسندا إليه، وقد روي بالنصب على أنه وصف لاسم "إن"، ويؤيد هذه الرواية إتيان خبر "إن" بعد هذا في قوله: أودَى فلا تنفع الإشاحة من ... أمر لمرء يحاول البدعا 3 هو أبو العباس ثعلب، من أئمة اللغة والنحو. 4 التخصيص: رفع الاحتمال في المعارف، وتقليل الاشتراك في النكرات.

العالم، ونحوه من غيره1 قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] . وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] . أو لكونه ذما له؛ كقولنا: "ذهب زيد الفاسق" حيث يتعين فيه ذكر زيد قبل ذكر الفاسق. ونحوه من غيره قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . أو لكونه تأكيدا له2 كقولك: "أمس الدابر كان يوما عظيما". أو لكونه بيانا له3، كقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 4. قال الزمخشري: الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دالّ على شيئين: على الجنسية، والعدد المخصوص. فإذا أريدت الدلالة على أن المَعْنِيّ به منهما والذي يساق له الحديث هو العدد، شُفع بما يؤكده، فدُل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت: "إنما هو إله" ولم تؤكده بـ "واحد" لم يحسن، وخُيِّل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، وأما قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ

_ 1 نحوه أيضا من المسند إليه قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] , وقول خرنق أخت طرفة "من الوافر": لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزْر النازلون بكل معترك ... والطيبون مَعاقِد الأُزُر 2 أي: تأكيدا لغويا لا اصطلاحيا، ولا بد للوصف المؤكد من حال يقتضيه؛ كإظهار السرور أو التأسف في المثال، والتأكيد يقصد هنا زائدا على الوصفية بخلافه في التوكيد بالنفس ونحوه مما يأتي. 3 وقد ذكروا هنا فروقا بين الوصف المبيِّن وغيره مما سبق، وقيل: إن الوصف المبين يمكن جعله من الوصف المؤكد، وإنما جُعل وصفا، ولم يُجعل عطف بيان؛ لأن عطف البيان لا يكون مشتقا ولا مؤوّلا به. 4 [النحل: 51] .

بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] فقال السكاكي1: شفع "دابة" بـ "في الأرض"، و"طائر" بـ "يطير بجناحيه" لبيان أن القصد بهما إلى الجنسين2. وقال الزمخشري: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة3 كأنه قيل: "وما من دابة قَطُّ في جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه". واعلم أن الجملة قد تقع صفة للنكرة، وشرطها أن تكون خبرية؛ لأنها في المعنى حكم على صاحبها كالخبر، فلم يستقِمْ أن تكون إنشائية مثله؛ وقال السكاكي4: لأنه يجب أن يكون المتكلم يعلم تحقق الوصف للموصوف؛ لأن الوصف إنما يُؤتَى به ليُميز به الموصوف مما عداه، وتمييز المتكلم شيئا من شيء بما لا يعرفه له محال، فما لا يكون عنده محققا للموصوف يمتنع أن يجعله وصفا له بحكم عكس النقيض5، ومضمون الجمل الطلبية كذلك؛ لأن الطلب يقتضي مطلوبا غير متحقق لامتناع طلب الحاصل، فلا يقع شيء منها صفة لشيء، والتعليل الأول أعم؛ لأن الجملة الإنشائية قد لا تكون طلبية6 كقولنا: "نعم الرجل زيد، وبئس الصاحب عمرو، وربما يقوم بكر، وكم غلامٍ ملكتَ؟ وعسى أن يجيء بشر، وما

_ 1 المفتاح ص101. 2 أي: لا إلى العدد. 3 أما أصل التعميم فمستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، والزيادة لدفع احتمال إرادة دواب أرض واحدة أو طيور جو واحد، وجعل الاستغراق حقيقيا في جميع الدواب والطيور. ولا يخفى أن كلام السكاكي يؤول إلى ذلك أيضا؛ لأنه عند قصد الجنس يكون الاستغراق حقيقيا. 4 المفتاح ص100, 101. 5 أي لقوله: "يجب أن يكون المتكلم يعلم تحقق الوصف للموصوف". 6 لا يخفى أن الجملة الإنشائية غير الطلبية كالإنشائية الطلبية فيما ذكره السكاكي، ولا معنى للتطويل بهذه المماحكات اللفظية في هذا العلم، ولا سيما أن ما ذكره من ذلك الشرط من مسائل علم النحو.

أحسن خالدا"، وصِيَغ العقود نحو: "بعت واشتريت" فإن هذه كلها إنشائية وليس شيء منها بطلبي. ولامتناع وقوع الإنشائية صفة أو خبرا؛ قيل في قوله "من الرجز": جاءوا بمَذْق هل رأيتَ الذئب قط1 تقديره: جاءوا بمذق مقول عنده هذا القول، أي: بمذق يحمل رائيه أن يقول لمن يريد وصفه له: هل رأيت الذئب قط؟ فهو مثله في اللون؛ لإيراده في خيال الرائي لون الذئب لوُرقته2. وفي مثل قولنا: "زيد اضربْه أو لا تضربْه" تقديره: "مقول في حقه: اضربه أو لا تضربه"3.

_ 1 هو لعبد الله بن رؤبة التميمي المعروف بالعجّاج، وقبله: حتى إذا جن الظلام واختلط والمذق: اللبن المخلوط بالماء، مصدر بمعنى اسم المفعول، وقوله: "جن الظلام" بمعنى أقبل أوله، واختلاطه إنما يكون بعد ذهاب نور النهار كله. يصف قوما أضافوه وأطالوا عليه, ثم أتوه بهذا المذق. 2 الورقة: سواد في غُبْرة. 3 قد يأتي الوصف لأغراض أخرى؛ منها الترحّم في قول الشاعر "من الوافر": إلهي، عبدك العاصي أتاكا ... مقرا بالذنوب وقد دعاكا ومنها قصد الإبهام، نحو قولك: "تصدقت صدقة كبيرة أو صغيرة". ومنها قصد التعميم، مثل قولك: "أكرِمِ الناسَ الصغارَ والكبار".

أغراض توكيد المسند إليه: وأما توكيده: فللتقرير، كما سيأتي في باب تقديم الفعل وتأخيره1. أو لدفع توهم التجوز أو السهو2 كقولك: "عرفت أنا، وعرفت أنت، وعرف زيد زيد"، أو عدم الشمول، كقولك: "عرفني الرجلان كلاهما، أو الرجال كلهم"3. قال السكاكي4: ومنه "كل رجل عارف، وكل إنسان حيوان". وفيه نظر؛ لأن كلمة "كل" تارة تقع تأسيسا، وذلك إذا أفادت الشمول من أصله حتى لولا مكانها لما عُقل، وتارة تقع تأكيدا، وذلك إذا لم تفده من أصله، بل تمنع أن يكون اللفظ المقتضى له مستعملا في غيره. أما الأول فهو أن تكون مضافة إلى نكرة5؛ كقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] وقوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] . وأما الثاني فما عدا ذلك؛ كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ} [الحجر: 30] . وهي في قوله: "كل رجل عارف، وكل إنسان حيوان" من الأول لا الثاني؛ لأنها لو حذفت منهما لم يفهم الشمول أصلا.

_ 1 كقولك: "هو يعطي الجزيل" فهو يفيد من تقوية الحكم ما لا يفيده قولك: "يعطي زيد الجزيل" لتكرار الإسناد في الأول. ولا يخفى أن هذا ليس من توكيد المسند إليه، فلا معنى لذكره هنا. 2 بأن يكون في الكلام أو المقام ما يوهم ذلك، فيؤتى بالتوكيد لدفعه، وبهذا يمتاز نظر علم المعاني عن نظر علم النحو إلى التوكيد، وهذا كما في قولك: "قطع الأمير نفسُهُ السارق" فإنه لو قيل: "قطع الأمير السارق" لتوهم أن القاطع غيره بأمره على ما جرت به العادة في ذلك، أما النحو فيجوز فيه أن يقال: "قطع الأمير نفسه السارق، وقطع الأمير السارق" بلا نظر إلى هذه الاعتبارات، وعلى هذا ورد التوكيد في قوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه: 56] وقوله: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 30، 31] . ففي هذا إشارة إلى فظاعة تكذيب فرعون واستكبار إبليس اللعين. 3 فإنه قبل التأكيد يحتمل أن أحد الرجلين أو بعض الرجال لم يجئ، ولكنه لم يعتد به، فأُطلق الكل وأُريد البعض على سبيل المجاز. 4 المفتاح ص101. 5 كذلك المضافة إلى معرفة، كقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] .

أغراض عطف البيان: وأما بيانه, وتفسيره فلإيضاحه باسم مختص به1؛ كقولك: "قدم صديقك خالد". أغراض الإبدال من المسند إليه: وأما الإبدال منه فلزيادة التقرير والإيضاح2 نحو: "جاءني زيد أخوك، وجاء القوم أكثرهم، وسُلِب عمرو ثوبه"3، ومنه في غيره قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7] .

_ 1 هذا معنى نحوي لعطف البيان، وإنما يعد من البلاغة إذا كان للمسند إليه شأن يقتضي العناية بأمره كعِظَم شأنه أو حقارته، فيكون عطف البيان لمدحه أو ذمه أو نحو ذلك، كقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] وقوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] . وقد يكون عطف البيان غير مختص بمتبوعه، ولكن يحصل الإيضاح والاختصاص بمجموعهما، كما في قول الشاعر "البسيط": والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذن فلا رفعت سوطا إلي يدي فالطير عطف بيان للعائذات، وكل منهما غير مختص بصاحبه في ذاته، وإنما حصل هذا بمجموعهما. 2 يعني أنه يؤتى به لهذين الأمرين زيادة على قصده بالحكم، وهو المعنى النحوي للبدل، أو أن فيه زيادة تقرير على التوابع السابقة؛ لأنه على نية تكرار العامل، فيكون إسناده أقوى من غيره. 3 لم يأت بمثال لعطف الغلط؛ لأنه لا يقع في فصيح الكلام إلا أن يكون بدل بداء؛ وهو أن تذكر المبدل منه عن قصد ثم تذكر البدل بعده, فتوهم أنك غالط لقصد المبالغة والتفنن، وشرطه أن يُرتقَى فيه من الأدنى إلى الأعلى، كما في قول الشاعر "من البسيط": ألمعُ برقٍ سرى أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي هذا, وفي البدل من وجوه البلاغة وجه الإجمال ثم التفصيل والعناية بإثبات الحكم، ولا يكون هذا إلا لمقام يقتضيه، كما في قول الشاعر "من الطويل": بلغنا السماء مجدُنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

أغراض عطف النسق: وأما العطف فلتفصيل المسند إليه مع اختصار2؛ نحو: "جاء زيد وعمرو وخالد". أو لتفصيل المسند مع اختصار؛ نحو: "جاء زيد فعمرو" أو ثم عمرو، أو "جاء القوم حتى خالد"3، ولا بد في "حتى" من تدريج؛ كما ينبئ عنه قوله "من الطويل":

_ 1 هذا غير ما يفيده العطف من معناه النحوي؛ كالدلالة على مطلق الجمع في الواو. ووجه الاختصار في المثال أنه في معنى "جاء زيد وجاء عمرو وجاء خالد" وقد أشار به إلى أن تفصيل المسند إليه خاص بالواو. هذا، ولا بد لذلك من مقام يقتضيه، كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] ، فذكر بالتفصيل فرعون وهامان؛ لأنهما السبب في الخطأ دون جنودهما. 2 أشار بهذا إلى أن تفصيل المسند خاص بالفاء وثم وحتى؛ لأنها تبين أنه حصل بترتيب وتعقيب، أو بترتيب وتراخٍ، أو بترتيب ذهني، ووجه الاختصار فيها أنها تغني عن "جاء زيد وعمرو بعده بيوم أو سنة أو نحو ذلك" ولا يخفى أنه يحصل فيه أيضا تفصيل المسند إليه ولكنه غير مقصود منها؛ لأنه يكون معلوما قبلها، فتساق لأجل تفصيل المسند وحده.

وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي1 أو لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب2؛ كقولك: "جاءني زيد لا عمرو" لمن اعتقد أن عمرا جاءك دون زيد، أو أنهما جاءاك جميعا، وقولك: "ما جاءني زيد لكن عمرو" لمن اعتقد أن زيدا جاءك دون عمرو. أو لصرف الحكم عن محكوم له إلى آخر؛ نحو: "جاءني زيد بل عمرو" و"ما جاءني زيد بل عمرو"3. أو للشك فيه أو التشكيك4؛ نحو: "جاءني زيد أو عمرو، أو: إما زيد وإما عمرو، أو: إما زيد أو عمرو". أو للإبهام، كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] . أو للإباحة أو التخيير: وهو أن يفيد ثبوت الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء فحسب5، مثالهما قولك: "ليدخل الدار زيد أو عمرو" والفرق بينهما واضح؛ فإن الإباحة لا تمنع من الإتيان بهما أو بها جميعا.

_ 1 هو للحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس، و"حتى" فيه ليست عاطفة، وإنما يقصد التمثيل لإفادتها التدريج، وإنما لم تكن عاطفة فيه؛ لأن المشهور أنها لا تأتي في عطف الجمل، ولأن الجملة قبلها لا يستقل بها الكلام حتى يصح العطف عليها عند من يقول بصحة العطف بها في الجمل. 2 أي: مع الاقتصار على ما سبق؛ لأن هذا هو الذي يُعنَى به في هذا العلم. 3 فالمعنى فيه على نقل حكم النفي إلى عمرو على ما ذهب إليه المبرد، والجمهور على أن "بل" تنقل حكم الإثبات لا النفي. 4 أي: مع الاختصار أيضا. والشك من المتكلم، والتشكيك للسامع، والبلاغة في التشكيك أعلى من البلاغة في الشك؛ لأن التشكيك يُجعل وسيلة إلى بلوغ اليقين ووصول الحق إلى المخالفين على وجه لا يثير غضبهم؛ لينظروا فيه فيؤديهم النظر إلى العلم به. وقد جعل السكاكي من هذا قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ ... } الآية, ولم يجعله للإبهام على السامع كما فعل الخطيب. ومنه أيضا قول الشاعر "من الطويل": وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها، أو عليها فجورها وقيل: إن "أو" فيه بمعنى الواو. 5 أي: من غير قصد إلى تشكيك أو إبهام.

أغراض ضمير الفصل: وأما توسط الفصل بينه وبين المسند فلتخصيصه به1؛ كقولك: "زيد هو المنطلق، أو: هو أفضل من عمرو، أو: هو خير منه، أو: هو يذهب"2.

_ 1 أي: من غير قصد إلى تشكيك أو إبهام. 2 يعني تخصيص المسند إليه بالمسند، فالباء داخلة على المقصور، وما قبلها هو المقصور عليه، ومن أغراض الفصل أيضا التأكيد، وإنما يفيد التأكيد إذا حصل التخصيص بغيره بأن تكون الجملة معرّفة الطرفين مثلا، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] . كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] , وقوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] . وقد يكون لتخصيص المسند بالمسند إليه؛ نحو: "الكرم هو التقوى"؛ لأنه بمعنى: لا كرم إلا بالتقوى. 3 الحق أن هذا ليس ضمير فصل، وإنما يعرب توكيدا أو مبتدأ ثانيا؛ لأنه يشترط في ضمير الفصل أن يكون ما بعده خبرا معرفة أو كالمعرفة في عدم قبول "ال"، كلفظ خير، ويشترط فيما قبله أن يكون مبتدأ ولو باعتبار الأصل، وأن يكون معرفة، ويشترط فيه نفسه أن يكون بصيغة المرفوع، وأن يطابق ما قبله؛ فلا يجوز: "كنت هو الفاضل".

تمرينات على التوابع: تمرين1: 1- بين الغرض من البدل في قول الشاعر: وكنت كذي رِجْلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشُلَّت 2- هل يجوز بلاغة -كما يجوز نحوا- أن يجعل عطف البيان بدلا مطابقا وبالعكس، أو أن لكل منهما مقاما خاصا به؟ 3- بين معنى "أو" ومنزلتها بلاغة في قول الشاعر: نحن أو أنتم الأولي ألفوا الحق ... فبعدا للمبطلين وسحقا تمرين2: 1- من أي أقسام البدل قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68، 69] ؟ وأي غرض دعا إليه؟ وما منزلته في البلاغة؟ 2- أي غرض دعا إلى التوكيد في قول الشاعر: لكنه شاقه أن قيل ذا رجب ... يا ليت عدة حول كله رجبا؟ 3- قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36] . فلماذا عطف في الأول دون الثاني؟ تمرين3: 1- قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] . فما فائدة العطف بلاغة فيه؟ ولماذا أُوثِرت فيه الواو على غيرها؟ 2- أي غرض دعا إلى العطف بحتى في قول الشاعر: قهرناكم حتى الكماة فأنتم ... تهابوننا حتى بَنِينا الأصاغرا؟ 3- ما الغرض من الوصف في قول الشاعر: ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالي؟

أغراض التقديم: وأما تقديمه فلكون ذكره أهم؛ إما لأنه الأصل ولا مقتضى للعدول عنه1، وإما ليتمكن الخبر في ذهن السامع؛ لأن في المبتدأ تشويقا إليه؛ كقوله "من الخفيف": والذي حارت البَرِيَّة فيه ... حيوان مستحدث من جماد2 وهذا أولى من جعله شاهدا؛ لكون المسند إليه موصولا كما فعل السكاكي3. وإما لتعجيل المسرة أو المساءة؛ لكونه صالحا للتفاؤل أو التطير؛ نحو: "سعد في دارك، والسفاح في دار صديقك". وإما لإيهام أنه لا يزول عن الخاطر، أو أنه يُستلذ، فهو إلى الذكر أقرب4. وإما لنحو ذلك5.

_ 1 هذا إذا كان المسند إليه مبتدأ أو نحوه، لا فاعلا أو نحوه، ولا يخفى أن هذه نكتة ضعيفة لا يعول عليها هنا. 2 هو لأحمد بن عبد الله المعروف بأبي العلاء المعري، وقوله: "حارت" بمعنى اختلفت، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم على سبيل المجاز المرسل، واسم الموصول مبتدأ وخبره حيوان على تقدير مضاف، أي: معاد حيوان كما يدل عليه سياق القصيدة. ويجوز أن يراد استحداث الحيوان من النطفة؛ فلا يحتاج إلى تقدير مضاف. 3 المفتاح ص98، ولا مانع من جعله شاهدا لهما معا، ومما يدخل في هذا الغرض أن يكون المسند إليه ضمير شأن أو قصة، كما في قول الشاعر "من الوافر": هي الدنيا تقول بملء فيها ... حَذارِ حَذارِ من بطشي وفتكي 4 كقول جميل: بثينة ما فيها إذا تبصرت ... معاب ولا فيها إذا نُسبتْ أشب 5 كإظهار تعظيمه في نحو قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ، أو تحقيره في قولك: "الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة".

قال السكاكي1: "وإما لأن كونه متصفا بالخبر يكون هو المطلوب، لا نفس الخبر؛ كما إذا قيل لك: كيف الزاهد؟ فتقول: الزاهد يشرب ويطرب". وإما لأنه يفيد زيادة تخصيص؛ كقوله "من الوافر": متى تهزز بني قطن تجدهم ... سيوفا في عواتقهم سيوف جلوس في مجالسهم رِزَان ... وإن ضيف ألم فهم خفوف2 والمراد: "هم خفوف". وفيه نظر؛ لأن قوله: "لا نفس الخبر" يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر، وهو باطل3؛ لأن نفس الخبر تصور لا تصديق، والمطلوب بها إنما يكون تصديقا، وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقا فغير صحيح أيضا؛ لما سيأتي4 أن العبارة عن مثله لا يتعرض فيها إلى ما هو مسند إليه؛ كقولك: "وقع القيام". ثم في مطابقة الشاهد الذي أنشده للتخصيص نظر5؛ لما سيأتي أن ذلك مشروط

_ 1 المفتاح ص104, 105. 2 لا يعلم قائلهما، وقوله: "تهزز" بمعنى تهيجهم للحرب، وقوله: "تجدهم سيوفا" معناه كالسيوف في المضاء، ورزان: جمع رزين، وخفوف: مصدر خفّ بمعنى أسرع. يمدحهم بالنخوة في قوله: "متى تهزز ... إلخ", وبالعظمة والشرف في قوله: "جلوس ... إلخ", وبالكرم في قوله: "وإن ضيف ألم ... إلخ". وبعد البيتين: إذا نزلوا حسبتَهم بُدورا ... وإن ركبوا فإنهم حُتوف 3 أجيب عنه في هذا بأنه لا يريد نفس الخبر مجردا عن الحكم حتى يلزمه ذلك، فهو لا يقصد إلا أنه إذا عُلم تحقق المسند في الجملة ولم يُعلم المسند إليه قُدم على المسند، وهذا ظاهر لا اعتراض عليه. 4 في أول الكلام على متعلقات الفعل. 5 أجيب عنه في هذا بأنه لا يريد بالتخصيص هنا الحصر، وإنما يريد التخصيص بالذكر، ولا يخفى أن حمل التخصيص على ذلك بعيد، على أنه سيأتي أن السكاكي يريد في هذا ونحوه التخصيص بمعنى الحصر, وأنه لا يشترط فيه كون الخبر فعليا.

بكون الخبر فعليا، وقوله: "والمراد هم خفوف" تفسير للشيء بإعادة لفظه1. قال عبد القاهر2: وقد يقدم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي إن وَلِيَ حرف النفي3 كقولك: "ما أنا قلت هذا" أي: لم أقله مع أنه مَقُول؛ فأفاد نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك، فلا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مقول وأنت تريد نفي كونك قائلا له. ومنه قول الشاعر "من المتقارب": وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلوب نارا4 إذ المعنى أن هذا السَّقْم الموجود والضَّرَم الثابت ما أنا جالب لهما؛ فالقصد إلى نفي كونه فاعلا لهما لا إلى نفيهما؛ ولهذا لا يقال: "ما أنا قلت ولا أحد غيري" لمناقضة منطوق الثاني5 لمفهوم الأول6, بل يقال: "ما قلت أنا ولا أحد غيري" ولا يقال: "ما أنا رأيت أحدا من الناس" ولا: "ما أنا ضربت إلا زيدا" بل يقال: "ما رأيت أو ما رأيت أنا أحدا من الناس، و: ما ضربت أو ما ضربت أنا إلا زيدا"؛ لأن المنفي في الأول الرؤية الواقعة على كل واحد من الناس، وفي الثاني الضرب الواقع

_ 1 لا يخفى أن السكاكي لا يريد بهذا تفسيره، وإنما يريد بيان محل الشاهد، وما كان أغنى الخطيب عن الإطالة في هذه المماحكات اللفظية!! 2 دلائل الإعجاز ص84. 3 يعني أنه في هذه الحالة يفيد قصر نفي الخبر الفعلي على المسند إليه, وإثباته لغيره على الوجه الذي نفي به من خصوص أو عموم على ما سيأتي في الأمثلة؛ فالباء داخلة هنا على المقصور، والمراد بإيلائه حرف النفي إتيانه بعده ولو كان بينهما فاصل، فيشمل نحو: ما زيدا أنا ضربت، وما في الدار أنا جلست. 4 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي، وقوله: "أضرمت" بمعنى أشعلت، يعني نار الحب، ونحوه قول المتنبي "من الطويل": وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله ... ولكن لشعري فيك من نفسه شعر وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا حملتُكم, ولكن الله حملكم". 5 هو "ولا أحد غيري". 6 هو "ما أنا قلت"؛ لأن مفهومه أن غيره قاله.

على كل واحد منهم سوى زيد1. وقد سبق أن ما يفيد التقديم ثبوته لغير المذكور هو ما نُفي عن المذكور، فيكون الأول مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد رأى كل الناس، والثاني مقتضيا لأن إنسانا غير المتكلم قد ضرب مَنْ عدا زيدا منهم؛ وكلاهما محال. وعلل الشيخ عبد القاهر والسكاكي2 امتناع الثاني بأن نقض النفي بـ "إلا" يقتضي أن يكون القائل له قد ضرب زيدا، وإيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ألا يكون ضربه، وذلك تناقض. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي يقتضي ذلك، فإن قيل: الاستثناء الذي فيه مفرَّع، وذلك يقتضي ألا يكون ضرب أحدا من الناس، وذلك يستلزم ألا يكون ضرب زيدا؛ قلنا: إن لزم ذلك3 فليس للتقديم؛ لجريانه في غير صورة التقديم أيضا؛ كقولنا: "ما ضربت إلا زيدا". هذا إذا ولي المسند إليه حرف النفي، وإلا فإن كان معرفة؛ كقولك: "أنا فعلت" كان القصد إلى الفاعل4، وينقسم قسمين: أحدهما: ما يفيد تخصيصه بالمسند5 للرد على من زعم انفراد غيره به، أو

_ 1 لا يخفى أن هذا ليس هو المنفي في المثالين وإلا كانا من سلب العموم لا من عموم السلب، وإنما المنفي في الأول رؤية أي واحد من الناس وفي الثاني ضرب أي واحد سوى زيد، وعلى هذا يكون مفهوم المثالين أن إنسانا غير المتكلم رأى واحدا من الناس وضرب أي واحد سوى زيد، وهو صحيح لا شيء فيه، وإنما الذي يؤدي إلى ما ذكره الخطيب أن يقال: ما أنا رأيت كل رجل، وما أنا ضربت كل رجل إلا زيدا. 2 دلائل الإعجاز ص85، المفتاح ص125. 3 الحق أنه لا يلزم؛ لأن إيلاء الضمير حرف النفي إنما يقتضي نفي ما عدا المستثنى، وما ذكره عبد القاهر والسكاكي إنما هو غفلة منهما. 4 أي: لا إلى الفعل كما في النفي. 5 يعني قصر المسند عليه، ويلزمه أيضا تقوية الحكم كما في القسم الثاني، ولكنها تحصل هنا تبعا لا قصدا.

مشاركته فيه؛ كقولك: "أنا كتبت في معنى فلان، وأنا سعيت في حاجته"؛ ولذلك إذا أردتَ التأكيد قلتَ للزاعم في الوجه الأول: "أنا كتبت في معنى فلان لا غيري" ونحو ذلك، وفي الوجه الثاني: "أنا كتبت في معنى فلان وحدي". فإن قلت: "أنا فعلت هذا وحدي" في قوة "أنا فعلته لا غيري" فلِمَ اختص كل منهما بوجه من التأكيد دون وجه؟ قلت: لأن جدوى التأكيد لما كانت إماطة شبهة خالجت قلب السامع، وكانت في الأول أن الفعل صدر من غيرك، وفي الثاني أنه صدر منك بشركة الغير، أكدت وأمطت الشبهة في الأول بقولك: "لا غيري"، وفي الثاني بقولك: "وحدي"؛ لأنه مَحَزُّه، ولو عكست أحلْت1. ومن البين في ذلك2 المَثل: "أتُعلمني بضب أنا حَرَشْتُه؟! "3. وعليه قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] أي: لا يعلمهم إلا نحن، ولا يطلع على أسرارهم غيرنا؛ لإبطانهم الكفر في سُوَيداوات قلوبهم. الثاني: ما لا يفيد إلا تقوِّي الحكم وتقرره في ذهن السامع وتمكنه، كقولك: "هو يعطي الجزيل" لا تريد أن غيره لا يعطي الجزيل، ولا أن تعرض بإنسان، ولكن تريد أن تقرر في ذهن السامع وتحقق أنه يفعل إعطاء الجزيل، وسبب تقويه هو أن المبتدأ يستدعي أن يستند إليه شيء، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يستند إليه صرفه إلى نفسه، فينعقد بينهما حكم سواء كان خاليا عن ضميره؛ نحو: "زيد غلامك"، أو متضمنا له، نحو: "أنا عرفت، وأنت عرفت، وهو عرف أو زيد عرف"، ثم إذا كان

_ 1 يعني: حوّلت كلا منهما عن موضعه المناسب له؛ لأن "لا غيري" تدل صريحا على نفي صدوره من غيرك، أما "وحدي" فيدل عليه التزاما، وكذلك "وحدي" يدل صريحا على نفي الشركة، أما "لا غيري" فيدل عليه التزاما. 2 أي: في إفادة التخصيص. 3 حرشته بمعنى صدته. والمثل يضرب لمن يخبرك بشيء أنت أعلم به منه.

متضمنا لضميره صرفه ذلك الضمير إليه ثانيا؛ فيكتسي الحكم قوة1. ومما يدل على أن التقديم2 يفيد التأكيد أن هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر؛ نحو أن يقول الرجل: "ليس لي علم بالذي تقول" فتقول: "أنت تعلم أن الأمر على ما أقول"، وعليه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] ؛ لأن الكاذب -لا سيما في الدين- لا يعترف بأنه كاذب، فيمتنع أن يعترف بالعلم بأنه كاذب. وفيما اعترض فيه شك: نحو أن تقول للرجل: "كأنك لا تعلم ما صنع فلان؟ " فيقول: "أنا أعلم". وفي تكذيب مُدّعٍ: كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] فإن قولهم "آمنا" دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به. وفيما يقتضي الدليل أن لا يكون: كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] فإن مقتضى الدليل أن لا يكون ما يُتخذ إلها مخلوقا. وفيما يستغرب: كقولك: "ألا تعجب من فلان؟ يدعي العظيم وهو يَعْيَا باليسير". وفي الوعد والضمان: كقولك للرجل: "أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر"؛ لأن من شأن من تَعِدُه وتضمن له أن يعترضه الشك في إنجاز الوعد والوفاء بالضمان، فهو من أحوج شيء إلى التأكيد.

_ 1 علله عبد القاهر بأن تقديم المسند إليه ينبّه السامع لقصده بالحديث قبل ذكره تحقيقا وتأكيدا له. 2 أي: في هذا القسم، وبهذا يكون له مقام في الكلام يباين مقام القسم الأول؛ لأن المقصود منه التخصيص لا التأكيد كما سبق.

وفي المدح والافتخار: لأن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به ويُبعدهم عن الشبهة، وكذلك المفتخر. أما المدح فكقول الحماسي: هم يفرشون اللِّبْد كل طِمِرّة1 وقول الحماسية: هما يلبسان المجد أحسن لِبْسة2 وقول الحماسي: فهم يضربون الكبش يبرق بيضه3 وأما الافتخار, فكقول طرفة:

_ 1 هو للمعذل بن عبد الله الليثي من قوله يمدح فتيان بني عتيك "من الطويل": هم يفرشون اللبد كل طمرة ... وأجرد سباح يبذ المغاليا وقبله: جزى الله فتيان العتيك وإن نأت ... بي الدار عنهم خير ما كان جازيا والطمرة: الفرس الكريم، والأجرد: القصير الشعر، والسباح: اللين الجري، والمغالي بضم الميم: السهم، وبفتحها: جمع مغلى أو مغلاة وهي السهم أيضا، يعني: أنه أسرع منه. 2 هو لعمرة الخثعمية من قولها في رثاء ابنيها "من الطويل": هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما واللبسة: اسم هيئة من لبس، والشحيح: الذي لا يفرط فيما في يده. وقيل: إن البيت لدرماء بنت سيار الجحدرية في رثاء أخويها. 3 هو للأخنس بن شهاب التغلبي من قوله "من الطويل": فهم يضربون الكبش يبرق بيضه ... على وجهه من الدماء سبائب وروي: "هم يضربون", والكبش: الشجاع، والبيض: اللّأمة، والسبائب: الطرائق جمع سبيبة، يعني: أنهم يضربونه فيسيل دمه كأنه طرائق حمر. 4 هو لعمرو بن العبد, المعروف بطرفة "من الرمل": نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر والمشتاة: الشتاء وهو زمن الجدب عندهم، والجفلى: الدعوة العامة، والآدب: الداعي إلى المأدبة، وقوله: "ينتقر" معناه: يدعو بعضا ويترك بعضا.

ومما لا يستقيم المعنى فيه إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] , وقوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] ، وقوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم لوُجد اللفظ قد نبا عن المعنى، والمعنى قد زال عن الحال التي ينبغي أن يكون عليها. وكذا إذا كان الفعل منفيا1؛ كقولك: "أنت لا تكذب" فإنه أشد لنفي الكذب عنه من قولك: "لا تكذب"، وكذا من قولك: "لا تكذب أنت"؛ لأنه لتأكيد المحكوم عليه، لا الحكم. وعليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59] فإنه يفيد من التأكيد في نفي الإشراك عنهم ما لا يفيده قولنا: "والذين لا يشركون بربهم" ولا قولنا: "والذين بربهم لا يشركون"، وكذا قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] ، وقوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 66] ، وقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55] . هذا كله إذا بني الفعل على معرّف؛ فإن بني على منكّر أفاد ذلك تخصيص2

_ 1 أي: بحرف نفي مؤخر عن المسند إليه، فهو يأتي كالمثبت تارة للتخصيص، وتارة لتقوية الحكم، ومن إتيانه للتخصيص قولك: "أنا ما قلت هذا" أي: وحدي، تقوله لمن يعتقد أنه لم يقل مصيبا في هذا ولكنه نسبه خطأ إلى غيرك، وكل الأمثلة التي ذكرها الخطيب لإفادة تقوية الحكم. 2 ظاهر من هذا أن بناء الفعل على المنكّر لا يفيد تقوية الحكم، وقد ذكر السعد أنه قد يفيد =

الجنس أو الواحد1 بالفعل؛ كقولك: "رجل جاءني" أي: لا امرأة، أو لا رجلان؛ وذلك لأن أصل النكرة أن تكون للواحد من الجنس، فيقع القصد بها تارة إلى الجنس فقط؛ كما إذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آتٍ، ولم يدر جنسه: أرجل هو أو امرأة؟ أو اعتقد أنه امرأة، وتارة إلى الوحدة فقط؛ كما إذا عرف أن قد أتاك من هو من جنس الرجال، ولم يدر: أرجل هو أم رجلان؟ أو اعتقد أنه رجلان. واشترط السكاكي2 في إفادة التقديم الاختصاص 3 أمرين: أحدهما: أن يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخرا بأن يكون فاعلا في المعنى فقط؛ كقولك: "أنا قمت" فإنه يجوز أن تقدر أصله: "قمت أنا" على أن "أنا" تأكيد للفاعل4 الذي هو التاء في قمت، فقدم "أنا" وجعل مبتدأ. وثانيهما: أن يقدر كونه كذلك. فإن انتفى الثاني دون الأول كالمثال المذكور إذا أُجري على الظاهر، وهو أن

_ = ذلك؛ كأن يقال: "رجل جاءني" فالمعنى: أنه جاء ولا بد، ثم ذكر أن هذا هو الذي يُشعر به كلام عبد القاهر في "دلائل الإعجاز", ولكني رجعت إلى كلامه فيه فوجدته صريحا في أنه لا يفيد إلا التخصيص؛ لأنه ذكر أنك إذا قلت: "رجل جاءني" لم يصلح حتى تريد أن تعلم المخاطب أن الذي جاءك رجل لا امرأة أو لا رجلان، ويكون كلامك مع من عرف أن قد أتاك آت، فإن لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول: "جاءني رجل". ولا شك أن ما ذكره السعد لا يصح عربية لعدم صحة الابتداء بالنكرة إلا عند إرادة التخصيص كما سيأتي، وإذا لم يصح عربية لم يصح بلاغة. 1 هذا إذا كان المنكّر مفردا، فإذا كان مثنى أو جمعا أفاد تخصيص الجنس أو المثنى أو الجمع. 2 المفتاح ص119, 120. 3 أما تقوية الحكم فلا خلاف فيها بين السكاكي وعبد القاهر؛ لأنها تأتي في جميع صور التقديم وإن لم تكن مقصودة في بعضها كما سبق. 4 أي: وتأكيد الفاعل في المعنى لا في اللفظ.

يقدر الكلام من الأصل مبنيا على المبتدأ والخبر، ولم يقدر تقديم وتأخير، أو انتفى الأول بأن يكون المبتدأ اسما ظاهرا1 فإنه لا يفيد إلا تقوّي الحكم. واستثنى المنكر2 كما في نحو: "رجل جاءني" بأن قُدر أصله: "جاءني رجل" لا على أن "رجل" فاعل "جاءني", بل على أنه بدل من الفاعل الذي هو الضمير المستتر في "جاءني"، كما قيل في قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] : إن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الواو في "أسروا"، وفرق بينه وبين المعرف بأنه لو لم يقدر ذلك فيه انتفى تخصيصه؛ إذ لا سبب لتخصيصه سواه، ولو انتفى تخصيصه لم يقع مبتدأ3، بخلاف المعرف؛ لوجود شرط الابتداء فيه، وهو التعريف. ثم قال: "وشرطه4 ألا يمنع من التخصيص مانع5 كقولنا: "رجل جاءني" أي: لا امرأة أو لا رجلان، دون قولهم: "شر أهر ذا ناب" أما على التقدير الأول6 فلامتناع أن يراد "المهر شر لا خير"7، وأما على الثاني8 فلكونه نابيا عن مكان استعماله9، وإذ قد صرح الأئمة بتخصيصه حيث تأولوه بـ " ما أهر ذا ناب إلا

_ 1 نحو: "زيد قام"، فإنه إذا قدر تأخيره يكون فاعلا في اللفظ والمعنى، لا في المعنى فقط. 2 أي: من ذلك الشرط؛ فلم يشترطه فيه. 3 لأنه لا يجوز الابتداء بالنكرة إلا إذا خُصصت، فإذا كان لها مخصص غير ذلك من وصف أو نحوه لم يجب جعل التقديم للتخصيص. 4 أي: شرط تقدير ذلك في المنكر ليفيد التخصيص. 5 يريد بالمانع انتفاء فائدة التخصيص من رد اعتقاد المخاطب في قيد الحكم مع تسليم أصله. 6 هو أن يكون لتخصيص الجنس. 7 لأنه لا يوجد من يتوهم أن الخير يُهِرّ الكلب حتى يُرَدّ عليه بذلك. 8 هو أن يكون لتخصيص الواحد. 9 لأنه مَثَل يقال في مقام الحث على شدة الحزم لدفع هذا الشر لعظمه، فإذا أريد أن الذي أهرّه شر لا شران نافى القصد منه؛ لأنه مما يوجب التساهل في دفعه.

شر"، فالوجه تفظيع شأن الشر بتنكيره كما سبق"1. هذا كلامه، وهو مخالف لما ذكره الشيخ عبد القاهر2؛ لأن ظاهر كلام الشيخ فيما يلي حرف النفي القطع بأنه يفيد التخصيص مضمرا كان أو مظهرا، معرفا أو منكرا من غير شرط، لكنه لم يمثّل إلا بالمضمَر، وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا إذا كان مضمرا أو منكرا بشرط تقدير التأخير في الأصل، فنحو: "ما زيد قام" يفيد التخصيص على إطلاق قول الشيخ، ولا يفيده على قول السكاكي، ونحو

_ 1 من أن التنكير قد يأتي للتعظيم، وبهذا يجمع بين قولهم بتخصيصه وقوله بعدمه. فقولهم بالتخصيص مبني على جعل التنكير للتعظيم، والمعنى: شر عظيم أهر ذا ناب لا شر ضعيف، فيكون التخصيص في الوصف لا في جنس الشر، ويكون له فائدة، وقوله بعده: التخصيص مبني على عدم إرادة ذلك من التنكير، فيكون التقديم عنده لتقوية الحكم فقط. 2 من يرجع إلى كلام السكاكي في "المفتاح" يرى أنه حاكى عبد القاهر فيما يفيده تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، فقد رأى في النكرة أن البناء عليها لا يفيده إلا التخصيص كما يرى عبد القاهر، ولم يخالفه إلا في توجيه ذلك بما لا يؤثر في موافقته له، وقد رأى فيما يلي حرف النفي ما يراه عبد القاهر، فلا يصح عنده مثله: "ما أنا رأيت أحدا" ولا: "ما أنا رأيت إلا زيدا"، وكذلك لا يصح عنده: "ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس" ولا: "ما أنا ضربت زيدا ولا أحد غيري" فالمضمر والمظهر عنده في ذلك سواء؛ ولهذا لم يذكر شرط تقدير التأخير فيما يلي حرف النفي، ولا يوجد في كلامه ما يشعر بحمله على المثبَت في هذا الشرط، وقد رأى في المعرف المثبت أنه يحتمل التخصيص وتقوية الحكم كما يرى عبد القاهر، ولكنه يرى أن البناء على المظهر ليس كالبناء على المضمر في احتمال هذين الاعتبارين على السواء، فهو لا ينفي فيه الاختصاص؛ بل يبعده. ولعل عبد القاهر لم يمثّل إلا بالمضمر كما ذكر الخطيب؛ لضعف اعتبار التخصيص في المظهر، ولعل الخطيب أشار بقوله: "لأن ظاهر كلام الشيخ ... إلخ" إلى أنه يمكن الجمع بينهما. فالحق أنه لا خلاف بين عبد القاهر والسكاكي في ذلك كله إلا في التوجيه فقط، والخلاف في التوجيه لا يؤثر في اتفاقهما على ذلك بشيء، وما كان أغنى الخطيب عن التطويل بما طوّل به في هذا الموضع!!

"ما أنا قمت" يفيده على قول الشيخ مطلقا، وعلى قول السكاكي بشرط. وظاهر كلام الشيخ أن المعرف إذا لم يقع بعد النفي وخبره مثبت أو منفي قد يفيد الاختصاص مضمرا كان أو مظهرا، لكنه لم يمثل إلا بالمضمر، وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا المضمر؛ فنحو: "زيد قام" قد يفيد الاختصاص على إطلاق قول الشيخ، ولا يفيده عند السكاكي، ثم فيما احتج به لما ذهب إليه نظر؛ إذ الفاعل وتأكيده سواء في امتناع التقديم، ما دام الفاعل فاعلا والتأكيد تأكيدا، فتجويز تقديم التأكيد دون الفاعل تحكّم ظاهر، ثم لا نسلّم انتفاء التخصيص في صورة المنكّر لولا تقدير أنه كان في الأصل مؤخرا فقدم؛ لجواز حصول التخصيص فيها بالتهويل -كما ذكر- وغير التهويل1. ثم لا نسلم امتناع أن يراد: المُهِرّ شر لا خير، قال الشيخ عبد القاهر: إنما قدم "شر" لأن المراد أن يعلم أن الذي أهر ذا ناب هو من جنس الشر لا من جنس الخير2، فجرى مجرى أن تقول: "رجل جاءني" تريد أنه رجل لا امرأة، وقول العلماء: إنه إنما صلح لأنه بمعنى: "ما أهر ذا ناب إلا شر" بيان لذلك، وهذا صريح في خلاف ما ذكره. ثم قال السكاكي3: ويقرب من قَبِيل "هو عرف" في اعتبار تقوي الحكم4:

_ 1 التهويل: في قولهم: "شر أهرَّ ذا ناب", وغير التهويل كالتحقير والتكثير والتقليل, ولكن هذا لا يرد به على السكاكي؛ لأنه إنما يقدر ذلك في النكرة إذا لم يكن هناك سبب للتخصيص سواه، نحو: "رجل جاءني" على إرادة الجنس أو الواحد، فليس فيه احتمال تهويل ولا غيره. 2 دلائل الإعجاز ص94. ولكن قد سبق أن التخصيص في مثل هذا لا فائدة فيه، وقيل: إن الكلب قد يُهر في الدفاع عن أصحابه، وهو من جنس الخير، فيكون على هذا في التخصيص بجنس الشر فائدة، ولا حاجة مع هذا إلى تسويغ التخصيص فيه بجعل التنكير للتعظيم كما سبق. 3 المفتاح ص119. 4 ظاهر هذا أنه لا يأتي للتخصيص عنده، وقيل: إنه يأتي عنده أيضا للتخصيص، ويدل على هذا ما سيأتي في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} وما سيأتي له في باب القصر من إفادة "أنا عارف" الحصر.

"زيد عارف"، وإنما قلت: "يقرب" دون أن أقول: "نظيره" لأنه لمّا لم يتفاوت في التكلم والخطاب والغيبة في: "أنا عارف، وأنت عارف، وهو عارف" أشبَهَ الخالي عن الضمير؛ ولذلك لم يحكم على "عارف" بأنه جملة ولا عُومِل معاملتها في البناء1، حيث أُعرب في نحو: "رجلٌ عارفٌ، رجلًا عارفًا، رجلٍ عارفٍ" وأُتبعه في حكم الإفراد، نحو: "زيد عارف أبوه" يعني أُتبع "عارف" "عرف" في الإفراد، إذا أسند إلى الظاهر السكاكي, مفردا كان أو مثنى أو مجموعا2. ثم قال: "ومما يفيد التخصيص ما يحكيه -عَلَتْ كلمته- عن قوم شعيب عليه السلام: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] أي: العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت3؛ لكونهم من أهل ديننا، ولذلك قال عليه السلام في جوابهم: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92] أي: من نبي الله، ولو كان معناه معنى "ما عززت علينا" لم يكن مطابقا. وفيه نظر؛ لأن قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} من باب "أنا عارف"، لا من باب "أنا عرفت"4، والتمسك بالجواب ليس بشيء؛ لجواز أن يكون عليه السلام فهم كون رهطه أعز عليهم من قولهم: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} . وقال الزمخشري: دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام في الفاعل لا

_ 1 المراد به عدم ظهور إعرابها؛ لأنه لا يلزم البناء فيها. 2 فلا تلحقهما علامة التثنية, ولا علامة الجمع. 3 فيفيد التخصيص مع تقوية الحكم. 4 هذا لا يَرِد على السكاكي عند من يرى أنه لا فرق عنده بين البابين في احتمال إفادة التخصيص وتقوية الحكم، ولكن الحق خلاف ما ذهب إليه السكاكي من التسوية بين البابين، بدليل أنه لو كان نحو: "زيد عارف" يفيد تقوية الحكم لما صح خطاب الذهن به، وهو خلاف ما سبق عن أبي العباس في جواب الكندي في باب الإسناد الخبري من الفرق بين "عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم".

في الفعل، كأنه قيل: "وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا"1. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي إذا لم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر، فإن قيل: الكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} ؟ قلنا: قال السكاكي: معناه: من نبي الله، فهو على حذف المضاف، وأجود منه ما قال الزمخشري: وهو أن تهاونهم به -وهو نبي الله- تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله، ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2؟ ويجوز أن يقال: لا شك أن همزة الاستفهام هنا ليست على بابها؛ بل هي للإنكار للتوبيخ، فيكون معنى قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} إنكار أن يكون مانعهم من رجمه رهطه؛ لانتسابه إليهم دون الله تعالى مع انتسابه إليه أيضا، أي: أرهطي أعز عليكم من الله حتى كان امتناعكم من رجمي بسبب انتسابي إليهم بأنهم رهطي، ولم يكن بسبب انتسابي إلى الله تعالى بأني رسوله؟! والله أعلم.

_ 1 فيكون الزمخشري في هذا موافقا للسكاكي، ويرى مثله أن نحو: "زيد عارف" من قبيل "هو عرف" في إفادة التقوية والتخصيص. 2 [سورة النساء، الآية: 80] . هذا، ومما ورد من الشعر في إفادة التقديم التقوية أو التخصيص قول جرير "من الوافر": إن العيون التي في طرفها مَرَض ... قتلْنَنا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا وقول بعضهم "عمرو بن قميئة" "من الكامل": كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والإمساء ودعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحني، فإذا السلامة داء وقول الآخر "من الطويل": لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدرِ أن الجود من كفه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي

ومما يرى تقديمه1 كاللازم لفظ "مثل" إذا استُعمل كناية من غير تعريض2؛ كما في قولنا: "مثلك لا يبخل"، ونحوه مما لا يراد بلفظ "مثل" غير ما أضيف إليه، ولكن أريد أن من كان على الصفة التي هو عليها كان من مقتضى القياس وموجب العرف أن يفعل ما ذكر أو ألا يفعل3، ولكون المعنى هذا4 قال الشاعر "السريع": ولم أقل مثلك أعني به ... سواك يا فردا بلا مشبه5 وعليه قوله "من السريع": مثلك يثني الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدمع عن غَرْبه6

_ 1 أي: على الخبر الفعلي، ويلحق بلفظ "مثل" ما هو بمعناه كلفظ "شبيه ونظير"، وإنما كان التقديم فيها كاللازم ولم يكن لازما؛ لأنه لا شيء يوجبه من جهة القياس ولا من جهة الكناية، وإنما هو مما يساعد على الغرض المقصود منها، وهي حاصلة مع التقديم والتأخير، فليس هذا اللزوم إلا في استعمال البلغاء. 2 أي: بغير ما أضيف إليها، فلو أريد بها غيره لم يلزم تقديمها؛ لأنها تخرج من الكناية إلى الحقيقة، كما في قول أبي إسحاق الصابي "من الطويل": تشابه دمعي إذا جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب فليس المراد بالتعريض هنا التعريض المعدود من الكناية، وإنما المراد به معناه اللغوي وهو الإشارة على وجه الإجمال. 3 هذا يلزم أنه هو نفسه يفعله أو لا يفعله؛ فالكناية في ذلك من إطلاق الملزوم وإرادته اللازم. 4 أي: على أنه لا يراد بـ "مثل" غير ما أضيفت إليه. 5 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي، و"مثلك" فيه مفعول "أقل" على حكايته في البيت الآتي بعده؛ لأنه قبله في القصيدة. 6 هو للمتنبي أيضا من قصيدة له في الرثاء، وقوله: "يثني الحزن" بمعنى يكفّه بالصبر، والصوب: الجهة، والغرب: عِرْق في العين يجري منه الدمع، وفي رواية: "يثني المزن" وهو السحاب، وهي خلاف رواية الديوان، ولا تناسب مقام الرثاء.

وكذا قول القَبَعْثَرِي1 للحجاج لما توعده بقوله: "لأحملنّك على الأدهم": "مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب"2 أي: من كان على هذه الصفة من السلطة وبسطة اليد، ولم يقصد أن يجعل أحدا مثله. وكذلك حكم "غير" إذا سُلك به هذا المسلك3 فقيل: "غيري يفعل ذلك" على معنى: "إني لا أفعله"4 فقط من غير إرادة التعريض بإنسان5. وعليه قوله: غيري بأكثر هذا الناس ينخدع6

_ 1 الصواب "ابن القبعثرى"، وهو الغضبان بن القبعثرى الشيباني، وكان ممن خرج على الحجاج بن يوسف الثقفي. 2 الأدهم في كلام الحجاج بمعنى القيد من الحديد، وفي كلام الغضبان بمعنى الفرس الأسود، وسيأتي هذا في الكلام على تلقي المخاطب بغير ما يترقب. الأشهب: الفرس الأشهب. 3 فلم يقصد بها سوى ما أضيف إليها، فإن قصد بها سوى ما أضيف إليها لم يلزم تقديمها، كما في قول الشاعر "من الكامل": غيري جنى وأنا المعاقَب فيكمُ ... فكأنني سبابة المتندم ويعطى حكم "غير" في ذلك ما بمعناها مثل "سوى" و"سواء" ونحوهما. ومن ذلك قول ابن سناء الملك "من الطويل": سواي يهاب الموت أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يعيش مخلدا 4 هذا أيضا بطريق الكناية كما في لفظ "مثل" وهي من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أيضا؛ لأنه إذا كان غيره هو الذي يفعله لزم أنه هو لا يفعله بحكم المقابلة، وإذا كان غيره لا يفعله لزم أنه هو يفعله؛ لأنه لا بد له من محل يقوم به. 5 لا يعني به التعريض الآتي في الكناية، وإنما يعني به قصد إنسان غير المخاطب على طريق الحقيقة كما سبق. 6 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي, من قوله "من البسيط": غيري بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا يريد أنهم جبناء في قتالهم، شجعان في حديثهم، فلا تصدق أفعالهم أقوالهم.

فإنه معلوم أنه لم يرد أن يُعرِّض بواحد هناك فيصفه بأنه ينخدع؛ بل أراد أنه ليس ممن ينخدع. وكذا قول أبي تمام "من الوافر": وغيري يأكل المعروف سُحْتا ... ويشحُب عنده بيِض الأيادي1 فإنه لم يرد أن يعرض بشاعر سواه فيزعم أن الذي قُرف به عند الممدوح من أنه هجاه كان من ذلك الشاعر لا منه، بل أراد أن ينفي عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم لا غير. واستعمال "مثل" و"غير" هكذا مركوز في الطباع، وإذا تصفّحت الكلام وجدتهما يُقدَّمان أبدا على الفعل إذا نُحِي بهما نحو ما ذكرناه، ولا يستقيم المعنى فيهما إذا لم يقدما، والسر في ذلك أن تقديمهما يفيد تقوي الحكم كما سبق تقريره، وسيأتي أن المطلوب بالكناية في مثل قولنا: "مثلك لا يبخل, وغيرك لا يجود" هو الحكم2، وأن الكناية أبلغ من التصريح فيما قصد بها، فكان تقديمهما أعون للمعنى الذي جُلبا لأجله. قيل3: " ... وقد يقدم؛ لأنه4 دال على العموم5 كما تقول: "كل إنسان لم يقم"

_ 1 هو لحبيب بن أوس المعروف بأبي تمام، والسحت: الحرام، ويعني بذلك أنه لا يجحد المعروف فيأكله سحتا، وقوله: "يشحب" من الشحوب وهو في الأصل تغير اللون، والأيادي: النعم. 2 لأنه من قسم الكناية التي يُطلب بها نسبة. 3 المصباح ص13 "لبدر الدين بن مالك" المطبعة الخيرية، وانظر طبعة مكتبة الآداب المحققة. 4 أي: المسند إليه على الخبر الفعلي. 5 لا يخفى أن دلالة التقديم هنا على العموم دلالة لغوية لا وجه لذكرها هنا، وإن كانت تدل على دقة العربية في ترتيب كلامها، وإنما ينظر هنا إلى أن نحو: "كل إنسان لم يقم" يفيد تقوية حكم العموم، بخلاف نحو: "لم يقم إنسان" فهو داخل في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، وما كان أغنى الخطيب عن الإطالة في هذا البحث الذي لا صلة له بهذا العلم، وإنما هو أشبه بعلم المنطق!!

فيقدم ليفيد نفي القيام عن كل واحد من الناس؛ لأن الموجبة المعدولة المهملة1 في قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفي الحكم عن جملة الأفراد، دون كل واحد منها، فإذا سُوِّرت بـ "كل" وجب أن تكون لإفادة العموم لا لتأكيد نفي الحكم عن جملة الأفراد؛ لأن التأسيس خير من التأكيد2 ولو لم تقدم فقلت: "لم يقم كل إنسان" كان نفيا للقيام عن جملة الأفراد دون كل واحد منها3؛ لأن السالبة المهملة4 في قوة السالبة الكلية5 المقتضية سلب الحكم عن كل فرد لورود موضوعها في سياق النفي6، فإذا سورت بـ "كل" وجب أن تكون لإفادة نفي الحكم عن جملة الأفراد؛ لئلا يلزم ترجيح التأكيد عن التأسيس". وفيه نظر؛ لأن النفي عن جملة الأفراد في الصورة الأولى -أعني: الموجبة المعدولة المهملة- كقولنا: "إنسان لم يقم" وعن كل فرد في الصورة الثانية -أعني: السالبة المهملة- كقولنا: "لم يقم إنسان" إنما أفاده الإنسان إلى "إنسان"، فإذا أضيف "كل" إلى "إنسان" وحُوِّل الإسناد إليه، فأفاد في الصورة الأولى نفي الحكم عن جملة الأفراد، وفي الثانية نفيه عن كل فرد منها، كان "كل" تأسيسا لا تأكيدا؛ لأن التأكيد

_ 1 المعدولة هي التي وقع النفي جزءا من موضوعها أو محمولها، والمهملة هي التي لم تسور بسور كلي أو جزئي، والمراد بالموجبة المعدولة المهملة هنا جملة "إنسان لم يقم" قبل دخول "كل" عليها؛ فهي في قوة السالبة الجزئية، أي: "لم يقم بعض الإنسان"، فكل منهما يفيد نفي الحكم عن جملة الأفراد, لا عن كل واحد منها. 2 يريد بالتأسيس إفادة معنى جديد، وبالتأكيد خلافه. 3 هذا باعتبار الغالب، وقد يتقدم النفي على "كل" ويكون المعنى على عموم النفي، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] ، وقيل: إن دلالة هذا ونحوه على عموم النفي ليس بأصل الوضع، وإنما هو بمعونة القرائن. 4 هي جملة: "ولم يقم إنسان". 5 هي جملة: "لا شيء من الإنسان بقائم". 6 لأن النكرة في سياق النفي تعم.

لفظ يفيد تقوية ما يفيده لفظ آخر، وما نحن فيه ليس كذلك، ولئن سلّمنا أنه يسمى تأكيدا1 كقولنا: "لم يقم إنسان" إذا كان مفيدا للنفي عن كل فرد؛ كان مفيدا للنفي عن جملة الأفراد لا محالة؛ فيكون "كل" في: "لم يقم كل إنسان" إذا جُعل مفيدا للنفي عن جملة الأفراد تأكيدا لا تأسيسا، كما قال في: "كل إنسان لم يقم"؛ فلا يلزم من جعله للنفي عن كل فرد2 ترجيح التأكيد على التأسيس3. ثم جعله قولنا: "لم يقم إنسان" سالبة مهملة في قوة سالبة كلية -مع القول بعموم موضوعها لوروده نكرة في سياق النفي- خطأ؛ لأن النكرة في سياق النفي إذا كانت للعموم كانت القضية التي جعلت هي موضوعا لها سالبة كلية، فكيف تكون سالبة مهملة4؟! ولو قال: "لو لم يكن الكلام المشتمل على كلمة "كل" مفيدا لخلاف ما يفيده الخالي عنها؛ لم يكن في الإتيان بها فائدة" لثبت مطلوبه في الصورة الثانية دون الأولى؛ لجواز أن يقال: إن فائدته فيها الدلالة على نفي الحكم عن جملة الأفراد بالمطابقة5. واعلم أن ما ذكره هذا القائل من كون "كل" في النفي مفيدة للعموم تارة

_ 1 بألا يراد التأكيد الاصطلاحي، وإنما يراد به أن "كل" أفادت معنى كان مستفادا قبلها، ويقصد الخطيب أنه إذا سُلِّم هذا صح توجيهه في الصورة الأولى دون الثانية. 2 أي: لا يلزم من جعل: "لم يقم كل إنسان" لعموم السلب مثل: "لم يقم كل إنسان". 3 إذ لا تأسيس مع هذا أصلا، وإنما يلزم ترجيح أحد التأكيدين على الآخر بلا مرجِّح، وهو باطل. ويكون هذا هو التوجيه الصحيح في الصورة الثانية، لا ما ذكره من لزوم ترجيح التأكيد على التأسيس. 4 أجيب عن هذا بأنه جرى على اصطلاح علم المنطق؛ لأن هذه القضية خالية من سور السلب الكلي، وهو "لا شيء" ونحوه، فتكون مهملة لا سالبة كلية. 5 لأن قولنا: "إنسان لم يقم" يدل بالمطابقة على نفي الحكم عن بعض الأفراد، ولا يحتمل المجموع إلا بدلالة الالتزام، أما: "كل إنسان لم يقم" فإنه إذا جُعل لنفي الحكم عن المجموع تكون دلالته عليه بالمطابقة.

وغير مفيدة أخرى مشهور1، وقد تعرض له الشيخ عبد القاهر، وغيره. وقال الشيخ2: كلمة "كل" في النفي إن أُدخلت في حيزه بأن قُدم عليها لفظا؛ كقول أبي الطيب: ما كل ما يتمنى المرء يُدركه3 وقول الآخر: ما كل رأْي الفتى يدعو إلى رَشَد4 وقولنا: "ما جاء القوم كلهم، وما جاء كل القوم، ولم آخذ الدراهم كلها، ولم آخذ كل الدراهم"، أو تقديرا5؛ بأن قدمت على الفعل المنفي وأُعمل فيها؛ لأن العامل رتبته التقدم على المعمول، كقولك: "كل الدراهم لم آخذ" توجه النفي6 إلى الشمول خاصة دون أصل الفعل، وأفاد الكلام ثبوته لبعض أو تعلقه7 ببعض. وإن أُخرجت من حيزه بأن قدمت عليه لفظا ولم تكن معمولة للفعل المنفي؛ توجه النفي إلى أصل الفعل، وعم ما أضيف إليه "كل" كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال له

_ 1 فهو مسلم في ذاته، ولم يرد الخطيب بما سبق إلا إبطال توجيه ابن مالك له؛ لأنه يرجع في الحقيقة إلى أصل الوضع، لا إلى تلك التكلفات المنطقية السابقة. 2 دلائل الإعجاز ص186. 3 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي من قوله "من البسيط": ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن والمشهور رواية "كل" بالرفع، وقد جوّز ابن جني نصبها على الاشتغال. 4 هو لإسماعيل بن القاسم المعروف بأبي العتاهية من قوله "من البسيط": ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد ... إذا بدا لك رأي مشكل فقف 5 معطوف على "لفظا". 6 هذا جواب "إن". 7 إفادة الثبوت فيما يكون "كل" فيه فاعلا في المعنى، وإفادة التعليق فيما يكون فيه مفعولا في المعنى.

ذو اليدين1: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ ": "كل ذلك لم يكن" أي: لم يكن واحد منهما: لا القصر ولا النسيان. وقول أبي النجم "من الرجز": قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع2 ثم قال: "وعلة ذلك أنك إذا بدأت "بكل" كنت قد بنيت النفي عليه وسلطت الكلية على النفي، وأعملتها فيه، وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي ألا يشذ شيء عن النفي، فاعرفه". هذا لفظه، وفيه نظر3. وقيل: إنما كان التقديم مفيدا للعموم دون التأخير؛ لأن صورة التقديم تُفهِم سلب لحوق المحمول للموضوع4، وصورة التأخير تفهم سلب الحكم من غير تعرض للمحمول بسلب أو إثبات. وفيه نظر أيضا؛ لاقتضائه ألا تكون "ليس" في نحو قولنا: "ليس كل إنسان كاتبا" مفيدة لنفي كاتب. هذا إن حمل كلامه على ظاهره، وإن تُؤُوِّل بأن مراده أن التقدم يفيد سلب لحوق المحمول عن كل فرد، والتأخير يفيد سلب لحوقه لكل فرد، اندفع هذا الاعتراض، لكن كان مصادرة على

_ 1 هو الحرباق أو العرباض بن عمرو. 2 هو للفضل بن قدامة, المعروف بأبي النجم. والرواية برفع "كله" على أنه مبتدأ خبره جملة "لم أصنع"، والرابط محذوف؛ أي: لم أصنعه. 3 لعل وجه النظر ما قيل: إن تمثيله بـ "ما جاء القوم كلهم" ليس بجيد؛ لأن "كلهم" هنا ليس مسندا ولا مسندا إليه بل هو تأكيد، ولكن سلب العموم هنا في الألف واللام في "القوم". ومثله في هذا تمثيله بـ "لم آخذ الدراهم كلها"، وإني أرى أن المثالين من باب عموم السلب لا من باب سلب العموم، و"كل" فيهما تفيد شمول النفي كما تفيد شمول الإثبات في نحو: "جاء القوم كلهم"؛ لأن الغرض من التوكيد واحد فيهما، وهو إفادة الشمول في النسبة إثباتا كانت أو نفيا. 4 المراد بالموضوع لفظ "إنسان" في قولنا: "كل إنسان لم يقم"، و"ليس كل إنسان قائما" لا لفظ "كل"، وهذا اصطلاح أهل المنطق، إنما أفادت صورة التقديم ذلك لاتصال النفي فيه بالمحمول دون الحكم؛ لأنها موجبة معدولة المحمول.

المطلوب1. واعلم أن المعتمد في المطلوب: الحديث، وشعر أبي النجم، وما نقلناه عن الشيخ عبد القاهر وغيره لبيان السبب، وثبوت المطلوب لا يتوقف عليه، والاحتجاج بالخبر من وجهين: أحدهما أن السؤال بـ "أم" عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على الإبهام، فجوابه إما بالتعيين أو بنفي كل واحد منهما2. وثانيهما ما روي أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" قال له ذو اليدين: "بعض ذلك قد كان"، والإيجاب الجزئي نقيضه السلب الكلي، وبقول3 أبي النجم ما أشار إليه الشيخ عبد القاهر، وهو أن الشاعر فصيح "والفصيح الشائع في مثل قوله: نصب "كل"4، وليس فيه ما يكسر له وزنا، وسياق كلامه أنه لم يأت بشيء مما ادعت عليه هذه المرأة؛ فلو كان النصب مفيدا لذلك والرفع غير مفيد لم يعدل عن النصب إلى الرفع من غير ضرورة.

_ 1 لأن الدليل حينئذ يكون عين المطلوب. 2 والجواب لم يحصل بالتعيين، فتعين أنه بنفي واحد منهما، وهذا هو عموم السلب. 3 معطوف على قوله: "بالخبر"، فهو متعلق بالاحتجاج مثله. 4 لأن في الرفع تهيئة العامل للعمل، ثم قطعه عنه، وذلك ضعيف غير فصيح، بل ذهب ابن هشام وغيره إلى منعه، وقد أجازه سيبويه احتجاجا بقول الشاعر: ثلاث كلهن قتلت عمدا هذا وما جاء فيه تقديم "كل" على النفي وتأخيرها عنه قول دعبل الخزاعي "من الطويل": فوالله ما أدري بأي سهامها ... رمتني وكل عندنا ليس بالمكدي أبالجيد أم مجرى الوشاح؟ وإنني ... لأتهم عينيها مع الفاحم الجعد وقول أبي الأسود "من الطويل": وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤت نصحه بلبيب وقول الآخر "من الكامل": إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يُكرَما

ومما يجب التنبه له في فصل التقديم أصل؛ وهو أن تقديم الشيء على الشيء1 ضربان: تقديم على نية التأخير، وذلك في شيء أُقر مع التقديم على حكمه الذي كان عليه؛ كتقديم الخبر على المبتدأ، والمفعول على الفاعل؛ كقولك: "قائم زيد، وضرب عمرا زيدٌ"؛ فإن "قائم" و"عمرا" لم يخرجا بالتقديم عما كانا عليه من كون هذا مسندا ومرفوعا بذلك، وكون هذا مفعولا ومنصوبا من أجله. وتقديم لا على نية التأخير، ولكن على أن ينقل الشيء عن حكم إلى حكم، ويُجعل له إعراب غير إعرابه، كما في اسمين يحتمل كل منهما أن يُجعل مبتدأ والآخر خبرا له، فيقدم تارة هذا على ذاك، وأخرى ذاك على هذا؛ كقولنا: "زيد المنطلق"، و"المنطلق زيد"، فإن "المنطلق" لم يقدم على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير؛ فيكون خبر مبتدأ كما كان؛ بل على أن يُنقل عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ، وكذا القول في تأخير "زيد".

_ 1 هذا تقسيم قد مهد به عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" للكلام على التقديم والتأخير، وهو عام في تقديم المسند إليه وتقديم المسند وتقديم غيرهما، وتقديم المسند إليه يكون دائما من القسم الثاني؛ لأن رتبته التقديم, فلا يأتي فيه تقديم على نية التأخير.

أغراض تأخير المسند إليه: وأما تأخيره؛ فلاقتضاء المقام تقديم المسند1.

_ 1 سيأتي في الكلام على المسند بيان أغراض تقديمه، وذلك كتخصيصه بالمسند إليه في نحو قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] ، وكالتشويق إلى ذكر المسند في قول محمد بن وهيب "من البسيط": ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحا وأبو إسحاق والقمر

تمرينات على التقديم والتأخير: تمرين1: 1- لماذا قدم المسند إليه في قول الشاعر: أنا لا أختار تقبيل يد ... قطعها أجمل من تلك القُبَل؟ 2- لماذا أخر المسند إليه أولا وقدم ثانيا في قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] ؟ تمرين2: 1- أي الأمرين "التخصيص وتقوية الحكم" يقصد من قول الشاعر: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صَمَم؟ 2-لماذا أخر المسند إليه أولا وقدم آخرا في قول الشاعر: وكالنار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان؟ تمرين3: 1- ماذا تدل عليه "سوى" من الكناية أو الحقيقة في قول الشاعر: وإذا تُباع كريمة أو تُشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري؟ 2- ماذا تدل عليه "كل" من سلب العموم أو عموم السلب في قولهم: "ما كل سوداء تمرة، وما كل بيضاء شحمة"؟ تمرين4: 1- لماذا أخر "كل" على النفي في قول الشاعر: فيا لك من ذي حجة حِيل دونها ... وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله؟ 2- لماذا قدم المسند إليه في قول الشاعر: خير الصنائع في الأنام صنيعة ... تنبو بحاملها عن الإذلال؟

تمرينات على التقديم والتأخير: تمرين5: 1- لماذا قدمت "سوى وغير" في قول الشاعر: سواي بتحنان الأغاريد يَطْرَب ... وغيري باللذات يلهو ويلعب؟ 2- لماذا أخر المسند إليه في قول الشاعر: إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت؟ تمرين6: 1- ما أحسن طريق يُختار في إثبات إفادة "كل" عموم السلب إذا وقعت قبل النفي، وسلب العموم إذا وقعت بعده؟ 2- أي فائدة لتقسيم عبد القاهر التقديم إلى تقديم على نية التأخير، وتقديم لا على نية التأخير؟ تمرين7: قال بعض الشعراء: أحياؤنا لا يُرزقون بدرهم ... وبألف ألف تُرزق الأموات!! 1- فلماذا أتى بالشطر الأول جملة اسمية خبرها فعليّ دون الثاني؟ 2- من أي قسمي التقديم قوله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46] ؟ تمرين8: 1- لماذا أخر المسند إليه في قول الشاعر: ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل ... عفاف وإقدام وحزم ونائل؟ 2- لماذا قدم المسند إليه في قول الشاعر: وما أنا ممن تأسِر الخمر لبه ... ويملك سمعيه اليَرَاع المثقّب؟

تخريج المسند إليه على خلاف مقتضى الظاهر: وضع المضمر موضع المظهر: هذا كله مقتضى الظاهر1. وقد يُخرّج المسند إليه على خلافه؛ فيوضع المضمر موضع المظهر، كقولهم ابتداء من غير جري ذكر لفظا أو قرينة حال: "نعم رجلا زيد، وبئس رجلا عمرو" مكان "نعم الرجل وبئس الرجل"، على قول من لا يرى الأصل: "زيد نعم رجلا، وعمرو بئس رجلا"2 وقولهم: "هو زيد عالم، وهي عمرو شجاع"3 مكان "الشأن زيد عالم، والقصة عمرو شجاع"؛ ليتمكن في ذهن السامع ما يعقبه4؛ فإن السامع متى لم يفهم من الضمير معنى بقي منتظرا لعقبى الكلام كيف تكون؟ فيتمكن المسموع بعده في ذهنه فضل تمكن، وهو السر في التزام تقديم ضمير الشأن أو القصة، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] , وقال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] وقال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] .

_ 1 أي: مقتضى ظاهر الحال على ما سبق في باب الإسناد الخبري، واسم الإشارة يعود إلى كل ما سبق من الكلام على أحوال المسند إليه، وقيل: إنه يُستثنى منه توجيه الخطاب لغير معين؛ لأنه من تخريجه على خلاف مقتضى الظاهر. 2 من لا يراه يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف؛ فيكون الضمير الفاعل عائدا على معقول معهود في الذهن، وأما الذي يرى أن الأصل: "زيد نعم رجلا" فلا يكون عنده من التخريج على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأنه يجعل المخصوص مبتدأ مؤخرا، وما قبله خبرا عنه، فيكون الضمير الفاعل عائدا على مذكور متقدم رتبة. 3 الأولى أن يذكر بدله: "وهي هند مليحة" لأن ضمير القصة لا بد معه من أن يكون في الكلام مؤنث غير فضلة أو شبيه بها، فلا يقال: "إنها بنيت غرفة" ولا: "إنها كان القرآن الكريم معجزة". 4 هذا هو الاعتبار الذي اقتضى تخريج المسند إليه في ذلك على خلاف مقتضى الظاهر، ولكنه لا يأتي في باب "نعم"؛ لأنه لا يعلم أن فيها ضميرا قبل سماع مفسره. ومثل ضمير "نعم" وضمير الشأن في ذلك كل ضمير يتقدم مرجعه حكما ويتأخر لفظا ورتبة، كما في قولك: "رُبَّه فتى" وكما في قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] ، وكما قال الشاعر: جفوني ولم أجف الأخلّاء ... إنني لغير جميل من خليلي مهمل

وضع المظهر موضع المضمر: وقد يعكس فيوضع المظهر موضع المضمر؛ فإن كان المظهر اسم إشارة فذلك إما لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بحكم بديع؛ كقوله "من البسيط": كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا1 وإما للتهكم بالسامع: كما إذا كان فاقد البصر، أو لم يكن ثَمَّ مشار إليه أصلا2. وإما للنداء على كمال بلادته بأنه لا يدرك غير المحسوس بالبصر، أو على كمال فطانته بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره، وإما لادعاء أنه كمل

_ 1 هما لأحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي، وكان يُرمى بالزندقة، وقيل: إنه كان من المتصوفة. وكل من "عاقل" الثانية و"جاهل" الثانية صفة للأولى منهما على معنى: كامل في العقل وكامل في الجهل، وليس ذلك من التأكيد اللفظي؛ لأنه إنما يكون لدفع توهم سهو أو نحوه، وهو غير محتمل هنا. وقوله: "أعيت مذاهبه" بمعنى أعجزته طرق معاشه، أو أعيت عليه متعدية أو لازمة، والأوهام يراد بها العقول من تسمية المحلّ باسم الحالّ على المجاز المرسل، والنحرير من نحر الأمور علما: أتقنها، والزنديق الذي يؤمن بالزندقة وهي القول بأزلية العالم، وتُوُسِّع فيه فأُطلق على كل شاكّ أو ضالّ أو ملحد. والشاهد في اسم الإشارة؛ لأنه يعود إلى الحكم السابق عليه، وهو كون العاقل محروما والجاهل مرزوقا؛ فالمقام للضمير لأن هذا الحكم غير محسوس، واسم الإشارة موضوع للمحسوس، والحكم البديع الذي أسند إلى اسم الإشارة هو جعل الأوهام حائرة والعالم النحرير زنديقا. 2 كأن يقول لك أعمى: أتشهد أن زيدا ضربني؟ فتقول له: "نعم، ذلك الذي في جانبك" سواء أكان في جانبه أم لم يكن.

ظهوره حتى كأنه محسوس بالبصر. ومنه في غير باب المسند إليه قوله "من الطويل": تعاللتِ كي أشجى وما بك علة ... تريدين قتلي، قد ظفرتِ بذلك1 وإما لنحو ذلك2. وإن كان المظهر غير اسم إشارة؛ فالعدول إليه عن المضمر إما لزيادة التمكين3 كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] ، ونظيره من غيره قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] ، وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 59] . وقول الشاعر: إن تسألوا الحق نعطِ الحق سائله4 بدل "نعطكم إياه". وإما لإدخال الرَّوْع في ضمير السامع وتربية المهابة, وإما لتقوية داعي المأمور5. مثالهما قول الخلفاء: "أمير المؤمنين يأمرك بكذا". وعليه من غيره: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 1. وإما للاستعطاف، كقوله: إلهي عبدك العاصي أتاكا2 وإما لنحو ذلك3

_ 1 هو كما رواه المبرد لمرة بن عبد الله الهلالي، وقوله: "تعاللت" بمعنى ادعاء العلة. وقوله: "أشجى" بمعنى أحزن، والشاهد في وضع اسم الإشارة موضع الضمير؛ لأن الظاهر أن يقال: قد ظفرتِ به أي: بالقتل، والداعي إلى ذلك هو ادعاء كمال ظهوره حتى كأنه محسوس بالبصر. 2 كالإشارة إلى بعده، ويمكن أن يحمل عليه ما في البيت السابق أيضا؛ بأن يكون مراده به الإشارة إلى بعد قتله لكمال شجاعته. 3 هذا إذا كان المقام يقتضي الاعتناء بالمسند إليه. 4 هو لعبد الله بن عنمة الضبي من قوله "من البسيط": إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرع محقبة والسيف مقروب والمحقبة: المشدودة في الحقبة، والمقروب: الموضوع في قرابه. وسيأتي هذا البيت مع بيت قبله في شواهد الالتفات. 5 أي: إلى امتثال ما أُمر به.

الالتفات: قال السكاكي4:

_ 1 [آل عمران: 159] ؛ لأنه لم يقل فيه: "فتوكل علي" ولكنه من باب تقوية داعي المأمور إلى الامتثال، لا من باب إدخال الروع في ضمير السامع؛ لأن الاطمئنان بالتوكل لا يناسبه الروع من المطمأن إليه. 2 هو لإبراهيم بن أدهم من مقطوعة مطلعها "من الوافر": هجرت الخلق طرا في هواكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا إلى أن يقول: إلهي عبدك العاصي أتاكا ... مقرا بالذنوب وقد دعاكا فإن تغفر فأنت لذاك أهل ... وإن تطرد فمن يرحم سواكا؟ والشاهد في قوله: "عبدك" فلم يقل: "أنا أتيتك". 3 كأن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف، نحو قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} إلى أن قال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} [الأعراف: 158] ، وكأن يكون المعنى على الإظهار هو المراد؛ نحو قول الله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف: 77] ؛ لأن جملة: {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} صفة "قرية" وليست صفة "أهل"؛ لأنه مسوق للتحدث عن القرية وجدارها لا عن أهلها، وليست أيضا جوابا لإذا؛ لأن جوابها قوله بعده: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} فوضع المظهر موضع المضمر؛ لأن الصفة جارية على غير من هي له. 4 المفتاح ص106.

هذا1 غير مختص بالمسند إليه، ولا بهذا القدر2، بل التكلم والخطاب والغيبة مطلقا3 ينقل كل واحد منها إلى الآخر، ويسمى هذا النقل "التفاتا" عند علماء المعاني4 كقول ربعية بن مقروم "من البسيط": بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ... وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا5 فالتفت كما ترى؛ حيث لم يقل: "وأخلفتني". وقوله "من الطويل": تذكرت والذكرى تهيجك زينبا ... وأصبح باقي وصلها قد تقضبا وحل بفلج فالأباتر أهلنا ... وشطت فحلت غمرة فمثقبا6 فالتفت في البيتين. والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة, بعد التعبير عنه بطريق آخر منها7.

_ 1 أي: النقل من الحكاية إلى الغيبة. 2 أي: ولا النقل مطلقا مختص بهذا القدر، وهو النقل من الحكاية إلى الغيبة، وإنما أُوِّلت عبارته هذا التأويل لما في ظاهره من التهافت. 3 أي: في المسند إليه وغيره، وحيث سبق التعبير بأحدهما ثم عبر بالآخر على خلافه أو لم يسبق، كما سيأتي. 4 بعضهم يجعل منه التعبير بالمضارع عن الماضي، وعكسه، والانتقال من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجماعة إلى الآخَر منها. 5 المعمود: الحزين، وابنة الحر: هي سعاد من وضع المظهر موضع المضمر. ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: "وأخلفتك" تجريدا لا التفاتا على ما هو الجليّ من الفرق بينهما؛ لأن مبنى التجريد على المغايرة؛ لأنه يجرد من الشخص شخصا آخر، ومبنى الالتفات على اتحاد المعنى، وكذلك يقال في كل ما أشبه هذا الخطاب. 6 هما لربيعة بن مقروم أيضا، وقوله: "والذكرى تهيجك" معترض بين الفعل ومفعوله، وقوله: "تقضب" بمعنى انقطع، وفلج والأباتر وغمرة ومثقب: مواضع، وقوله: "شطت" بمعنى بَعُدت. والالتفات في البيت الأول من التكلم إلى الخطاب، ويجوز حمله على التجريد كما سبق، والالتفات في البيت الثاني من الخطاب إلى التكلم. 7 يجب فيه أيضا أن يكون التعبير الثاني على خلاف ما يقتضيه ظاهر السياق، وإن كان =

وهذا أخص من تفسير السكاكي؛ لأنه أراد بالنقل أن يعبر بطريق من هذه الطرق عما عبر عنه بغيره، أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره منها1؛ فكل التفات عندهم التفات عنده، من غير عكس2. مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3 [يس: 22] .

_ = موافقا لظاهر المقام؛ فلا يعد منه الخطاب الثاني في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وإنما حصل الالتفات بالأول فقط، وجرى الثاني على سياقه، وكذلك لا يعد منه الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قول الشاعر "من الرجز": نحن اللذون صبّحوا الصباحا ... يوم النخيل غارة مِلْحاحا من الاسم الظاهر، وهو يدل على الغيبة، ومقتضى سياقه أن يعود الضمير عليه من الصلة بطريق الغيبة أيضا. ويعد منه الانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1-3] ، وإن كان الخطاب ظاهر المقام؛ لأنه خلاف ظاهر السياق. 1 يعني: أو لم يعبر عنه بغيره, وكان مقتضى الظاهر ... إلخ. وهذا الشق الثاني هو الذي ينفرد فيه الالتفات عند السكاكي عن الالتفات عند الجمهور؛ كالالتفات من التكلم إلى الخطاب في الشاهدين السابقين لربيعة بن مقروم، والجمهور يجعلونه من التجريد لا من الالتفات، والخطب في هذا سهل. 2 أي: لغوي لا منطقي؛ لصحة العكس المنطقي هنا بخلاف اللغوي؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون كل التفات عند السكاكي التفاتا عند الجمهور، وهو باطل. 3 فالسياق يقتضي "وإليه أرجع" وإن كان الخطاب هو ظاهر المقام؛ لأن قوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ} تعريض بالمخاطبين، والمراد "وما لكم لا تعبدون". وقيل: إنه لا التفات في قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ؛ لأنه يجوز إرادة المخاطبين فلا يكون في معنى "وإليه أرجع"، وقيل: إن في قوله {وَمَا لِيَ} التفاتا، والحق أنه من التعريض لا من الالتفات. ومن الالتفات من = التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14] ، وهو أظهر من الآية السابقة.

ومن التكلم إلى الغيبة1 قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 1، 2] . ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة "من الطويل": طحا بك قلب في الحسان طروب ... بُعَيْد الشباب عصر حان مشيب يكلفني ليلى وقد شط وَلْيُها ... وعادت عَوادٍ بيننا وخطوب2 ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] . ومن الغيبة إلى التكلم قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9] . ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 4، 5] . وقول عبد الله بن عَنَمَةَ "من البسيط": ما إن ترى السيد زيدا في نفوسهم ... كما يراه بنو كُوز ومَرهوب

_ 1 المراد بالغيبة ما يشمل الاسم الظاهر كما في الآية، وكان السياق فيها أن يقال: "فصل لنا وانحر". 2 قوله: "طحا" بمعنى ذهب وأتلف, وطروب بمعنى أن له طربا ونشاطا في طلبهن، وقوله: "يكلفني" ضميره يعود إلى القلب، وروي "تكلفني" فيجوز أن يكون فاعله القلب على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ويجوز أن يكون فاعله "ليلى" بمعنى أنها تكلفه شدائد فراقها. وقوله: "شط وليها" بمعنى بعد قربها، وقوله: "عادت عواد" بمعنى رجعت عوائق كانت تحول بيننا إلى ما كانت عليه، ويجوز أن تكون "عادت" من المعاداة. والشاهد في قوله: "يكلفني"؛ لأن الأصل "يكلفك" على مقتضى السياق، أما قوله: "طحا بك" فهو التفات أو تجريد على ما سبق.

إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرع محقبة والسيف مقروب1 وأما قول امرئ القيس "من المتقارب": تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخَلِيّ ولم ترقد وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد وذلك من نبأ جاءني ... وخُبِّرتُه عن أبي الأسود2 فقال الزمخشري: "فيه ثلاثة التفاتات"3، وهذا ظاهر على تفسير السكاكي؛ لأن على تفسيره في كل بيت التفاتة، لا يقال: الالتفات عنده من خلاف مقتضى الظاهر؛ فلا يكون في البيت الثالث التفات لوروده على مقتضى الظاهر؛ لأننا نمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى4؛ لما تقدم5.

_ 1 السيد وزيد وكوز ومرهوب: أحياء من ضبّة قوم الشاعر. يريد أن السيد لا يوجبون لزيد في نفوسهم من الحرمة والنصرة ما يوجبه كوز ومرهوب، والضمير في قوله: "تسألوا" لزيد، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والمحقبة: المشدودة في الحقيبة، والمقروب: الموضوع في قرابه. وبعد البيتين "من البسيط": وإن أبيتم فإنا معشر أُنُف ... لا نطعم الخَسْف إن السم مشروب 2 هي لامرئ القيس حندج بن حجر، وقيل: إنها لامرئ القيس بن عابس الصحابي في رثاء ابن عمه أبي الأسود. والأثمد: اسم موضع، وقوله: "وبات وباتت له ليلة" بات الأولى فيه تامة، والثانية يجوز أن تكون ناقصة وأن تكون تامة، والعائر: قذى العين، وأبو الأسود: كنية أبيه حجر ملك بني أسد، والخبر الذي خبره عنه: خبر قتلهم له. 3 الالتفات الأول في قوله: "ليلك" من التكلم إلى الخطاب، وكافها مفتوحة أو مكسورة على ما سيأتي، وهو الذي يأتي على مذهب السكاكي، والالتفات الثاني في قوله: "وبات" من الخطاب إلى الغيبة، والالتفات الثالث في قوله: "جاءني" من الغيبة إلى التكلم. 4 يعني خلاف مقتضى ظاهر المقام. 5 من أن الالتفات عنده ينقسم إلى ما يجري على خلاف ظاهر المقام وإن لم يجر على خلاف السياق، وهو يخالف فيه الجمهور، وإلى ما يجري على خلاف السياق وإن لم يخالف ظاهر المقام، وهو الذي يوافق فيه الجمهور.

وأما على المشهور1 فلا التفات في البيت الأول، وفي الثاني التفاتة واحدة، فيتعين أن يكون في الثالث التفاتتان، فقيل: هما في قوله: "جاءني" إحداهما باعتبار الانتقال من الخطاب في البيت الأول، والأخرى باعتبار الانتقال من الغيبة في الثاني. وفيه نظر؛ لأن الانتقال إنما يكون من شيء حاصل ملتَبَس به؛ وإذ قد حصل الانتقال من الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في الثاني لم يبق الخطاب حاصلا ملتبَسا به؛ فيكون الانتقال إلى التكلم في الثالث من الغيبة وحدها، لا منها ومن الخطاب جميعا؛ فلم يكن في البيت الثالث إلا التفاتة واحدة، وقيل: إحداهما في قوله: "وذلك"؛ لأنه التفات من الغيبة إلى الخطاب2، والثانية في قوله: "جاءني"؛ لأنه التفات من الخطاب إلى التكلم، وهذا أقرب. بلاغة الالتفات: واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام، ووجه حسنه -على ما ذكر الزمخشري- هو أن الكلام إذا نُقل من أسلوب إلى أسلوب3 كان ذلك أحسن تطرية4 لنشاط السامع، وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب

_ 1 قد ذكروا أن مذهب السكاكي في الالتفات هو مذهب الزمخشري؛ فلا معنى لتكلف تحقيق الالتفات الذي ذكره في البيتين على مذهب الجمهور؛ لأن مذهبه يخالف مذهبهم. 2 الالتفات في قوله: "ذلك" متكلف؛ لأنه لا دليل على أنه يعني بالخطاب فيها نفسه، بل الظاهر أن المعنيّ بها غير المتكلم؛ ولهذا لم ينظر إليها قبل هذا التكلف. 3 إنما خص بيان محاسن الالتفات بما فيه نقل من أسلوب إلى أسلوب؛ لأنه هو الغالب فيه، أما الالتفات الذي انفرد به السكاكي فوجه حسنه أن المخاطب إذا سمع خلاف ما يترقب نشط وأصغى إليه، وقد قيل: إن الالتفات على هذا يكون من المحسنات البديعية، فلا يصح ذكره هنا؛ لأن حسنه يرجع إلى ما ذكره الزمخشري, ولا يرجع إلى اقتضاء المقام. وأجيب بتسليم أنه من المحسنات البديعية، ولكن هذا لا يمنع من إدخاله في علم المعاني عند اقتضاء المقام لفائدته من طلب مزيد الإصغاء لكون الكلام دعاء أو مدحا أو نحوهما. والحق أن مثل هذا يكون شرطا لحسنه، ولا يقتضي وجوبه في البلاغة, فلا يصح أن يعد به من علم المعاني. 4 أي: تجديدا، تقول: "طريتُ الثوب" إذا عملتَ ما يجعله طريا كأنه جديد.

واحد1. وقد تختص مواقعه بلطائف2 كما في سورة الفاتحة3؛ فإن العبد إذا افتتح حَمْد مولاه الحقيق بالحمد عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لما هو فيه بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الدال على اختصاصه بالحمد وأنه حقيق به، وجد من نفسه لا محالة محركا للإقبال عليه، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} الدال على أنه مالك للعالمين، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته، قوي ذلك المحرك، ثم إذا انتقل إلى قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الدال على أنه منعم بأنواع النعم: جلائلها ودقائقها؛ تضاعفت قوة ذلك المحرك، ثم إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام وهي قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الدال على أنه مالك للأمر كله يوم الجزاء تناهت قوته، وأوجب الإقبال عليه وخطابه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمّات4.

_ 1 أورد ابن الأثير على ما ذكره الزمخشري من ذلك أنه لو كان صحيحا لما حسن الالتفات إلا في الكلام الطويل، مع أنه قد أتى في القرآن حيث لا يمكن أن يقال: إن الكلام قد طال، ثم ذكر أن الالتفات لا يكون إلا لفائدة اقتضته، وأن تلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، ولكنها لا تحد بحد ولا تضبط بضابط، وإنما يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها، كما سيأتي في سورة الفاتحة، ولكنه عاد فذكر أنه لا ينكر أن في الانتقال من أسلوب إلى أسلوب اتساعا وتفننا في أساليب الكلام، مع أنه قد يكون لمقصد آخر معنوي هو أعلى وأبلغ، ولا يخفى أن مثل هذا لا يخالفه فيه الزمخشري؛ لأنه فيما ذكره من ذلك لم يرد إلا بيان وجه عام لحسن الالتفات، ولا يمنع أن تختص مواقعه بلطائف أخرى خاصة. 2 قيل: إنه يلزم أن يُلتمَس ذلك في كل التفات، وقيل: إنه لا يلزم أن يكون له في كل مقام نكتة خاصة. 3 الفاتحة: 2، 3، 4، 5. 4 يعني خطابه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] لم يقل: "واستغفرت لهم" وعدل عنه إلى طريق الالتفات؛ تفخيما لشأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان. وذكر السكاكي1 لالتفات امرئ القيس في الأبيات الثلاثة على تفسيره وجوها: أحدها أن يكون قصد تهويل الخطب واستفظاعه، فنبه في التفاته الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهتْ وَلَه الثكلى، فأقامها مقام المصاب الذي لا يتسلى بعض التسلي إلا بتفجع الملوك له، وتحزنهم عليه، وخاطبها "بتطاول ليلكِ"2 تسلية، أو على أنها لفظاعة شأن النبأ أبدت قلقا شديدا ولم تتصبر -فعل الملوك- فشك في أنها نفسه، فأقامها مقام مكروب، وخاطبها بذلك تسلية, وفي الثاني على أنه صادق في التحزن -خاطب أو لا- وفي الثالث على أنه يريد نفسه. أو نبه3 في الأول على أن النبأ لشدته تركه حائرا، فما فَطِنَ معه لمقتضى الحال؛ فجرى على لسانه ما كان ألِفه من الخطاب الدائر في مجاري أمور الكبار أمرا ونهيا. وفي الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى أفاق شيئا، فلم يجد النفس معه، فبنى الكلام على الغيبة. وفي الثالث على ما سبق. أو نبه4 في الأول على أنها حين لم تثبت ولم تتبصر غاظه ذلك؛ فأقامها مقام المستحق للعتاب، فخاطبها على سبيل التوبيخ والتعيير بذلك، وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب لما كان هو الغيظ والغضب، وسكن عنه الغضب بالعتاب الأول، ولى عنها الوجه وهو يُدمدم قائلا: "وبات وباتت له"، وفي الثالث على ما سبق. هذا كلامه، ولا يخفى على المنصف ما فيه من التعسف5.

_ 1 المفتاح ص107. 2 فكافها مكسورة، ويصح فتحها نظرا إلى كون النفس يراد بها شخصه. 3 هذا هو الوجه الثاني، وكان المناسب لسياقه أن يقول: وثانيها. 4 هذا هو الوجه الثالث. 5 لأنه يحمل امرأ القيس ما لا يمكن أن يكون قد خطر بباله من ذلك. ولا يخفى أن كثيرا من اللطائف التي تلتمس للالتفات فيها مثل هذا التعسف، وأن ذلك يرجع إلى أنها غير مضبوطة؛ لأنها لو كانت مضبوطة لأمكن الرجوع إلى أمر ظاهر مقرر منها.

الأسلوب الحكيم: ومن خلاف المقتضى ما سماه السكاكي1 الأسلوب الحكيم2، وهو تلقي المخاطِب3 بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده؛ تنبيها على أنه الأولى بالقصد، أو "تلقي" السائل بغير ما يتطلب4 بتنزيل سؤاله منزلة غيره؛ تنبيها على أنه الأولى بحاله، أو المهم له. أما الأول فكقول القبعثرى5 للحجاج لما قال له متوعدا بالقيد: "لأحملنك على

_ 1 المفتاح ص175. 2 أكثر العلماء يذكره في علم البديع، على أن الخطيب سيذكر في علم البديع القول بالموجب، ويقسمه إلى قسمين، والقسم الثاني هو الأسلوب الحكيم بعينه، ولا شك أن مراعاة ذلك مما يورث الكلام حسنا، ولا يصل تركه إلى إخلال بفصاحة أو بلاغة، فاللائق به أن يعد في علم البديع. وقد ذكر السعد أنه لما انجرّ الكلام إلى ذكر خلاف مقتضى الظاهر أورد عدة أقسام منه، وإن لم تكن من مباحث المسند إليه، وهي: الأسلوب الحكيم، والتعبير عن المستقبل بلفظ الماضي ... إلخ. 3 بكسر الطاء أي: المتكلم، من إضافة المصدر لمفعوله، وهذا أولى من فتح الطاء؛ لما فيه من التعقيد. 4 الفرق بينه وبين ما عُطف عليه أن فيه سؤالا، فهو أخص منه بهذا الاعتبار، ولكنه أعم منه باعتبار آخر، وهو أنه لا يُشترط فيه حمل كلام سابق على خلاف ظاهره كما يشترط في الأول. 5 الصواب ابن القبعثرى كما سبق.

الأدهم": "مثل الأمير يحمل على الأدهم1 والأشهب". فإنه أبرز وعيده في معرض الوعد، وأراه بألطف وجه أنّ من كان على صفته في السلطان وبسطة اليد فجدير بأن يُصْفِد لا أن يَصْفِد2، وكذا قوله له لما قال له في الثانية: "إنه حديد": "لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا"3. وعن سلوك هذه الطريقة في جواب المخاطَب عبّر من قال مفتخرا "من الطويل": أتت تشتكي عندي مزاولة القِرَى ... وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها: ... هم الضيف جدي في قراهم وعجلي4 وسماه الشيخ عبد القاهر "مغالطة"5. وأما الثاني؛ فكقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] قالوا: "ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا؟ "6 وكقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 215] ، سألوا عن بيان ما ينفقون، فأجيبوا ببيان المصرف7.

_ 1 أراد الحجاج بالأدهم القيد، فحمله على غير مراده وهو الفرس الذي غلب سواده على بياضه، وعطف عليه الأشهب وهو الفرس الذي غلب بياضه على سواده. 2 أي: جدير بأن يعطي لا أن يُقيد؛ لأن الإصفاد: الإعطاء من الصفد وهو العطاء، ويقال: صفده يصفده بمعنى قيده؛ ولهذا يسمى القيد صفادا. 3 أراد الحجاج بقوله: "إنه حديد" أنه قيد حديد، فحمله على الحدّة، والمعنى: "لأن يكون العطاء حديدا". 4 لا يعلم قائلهما، والقرى: طعام الضيف، وقوله: "ينحون" بمعنى يقصدون. والشاهد في أنه أجابها بغير ما تتطلب من الشكوى؛ ولهذا قيل: إن هذا من القسم الثاني لا الأول؛ لأنه ليس فيه حمل كلام على خلاف ظاهره، وإنما هو من تلقي السائل بغير ما يتطلب؛ للتنبيه على أن الأولى بها الاستعداد لهم لا الشكوى منهم. 5 دلائل الإعجاز ص92. وقيل: إن الأسلوب الحكيم بقسميه يسمى مغالطة، لا القسم الأول وحده. 6 فأجابهم ببيان حكمته؛ تنبيها على أنه هو الأولى بحالهم، لا السؤال عن سببه. 7 للتنبيه على أنه هو المهم لهم. ومن هذا أيضا أجوبة موسى لفرعون في قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 23-28] .

التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي: ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ المضي1 تنبيها على تحقق وقوعه، وأن ما هو للوقوع كالواقع؛ كقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] ، وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47] ، وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ ... } الآية [الأعراف: 48] جعل المتوقع الذي لا بد من وقوعه بمنزلة الواقع. وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زُنبور وهو طفل، فجاء إليه يبكي، فقال له: يا بني ما لك؟ قال: لسعني طُوَيِّر كأنه ملتف في بردي حِبَرَة2. فضمه إلى صدره وقال: يا بني قد قلت الشعر. ومثله التعبير عنه باسم القاعل3: كقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6] وكذا باسم المفعول؛ كقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] .

_ 1 مثله التعبير عن الماضي بلفظ المضارع استحضارا لصورته العجيبة؛ كقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر: 9] ، أي: فأثارت، ولا يخفى أن النوعين من المجاز المرسل أو الاستعارة، فلا معنى لذكرهما في علم المعاني؛ لأنه لا فرق بينهما وبين غيرهما من أنواع المجاز فيما فعلا به من خلاف مقتضى الظاهر. 2 طوير: تصغير طائر، والحبرة: ضرب من برود اليمن. والشاهد في قوله: "قد قلت الشعر" لأنه بمعنى ستقول. 3 لأن كلا من اسم الفاعل واسم المفعول حقيقة في المتلبس بالفعل -في الحال- اتفاقا، وفي الماضي على قول ضعيف, فيكون استعماله في المستقبل مجازا.

القلب: ومنه القلب1؛ كقول العرب: "عرضت الناقة على الحوض"2، ورده مطلقا قوم3، وقبله مطلقا قوم4، منهم السكاكي5. والحق أنه إن تضمن اعتبارا لطيفا6 قُبِل، وإلا رُدّ.

_ 1 هو في الاصطلاح أن يجعل جزء من الكلام مكان آخر يجعل مكانه على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر، فليس منه نحو: في الدار زيد، وضرب عمرا زيد, وهو قسمان: لفظي ومعنوي، وسيأتي بيانهما في أمثلته. 2 هذا من القلب المعنوي؛ لأن المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور واختيار لأجل أن يميل إلى المعروض أو يُحجم عنه، ولكن لما كان المعتاد في ذلك أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه، وكانت الناقة هي التي يؤتى بها إلى الحوض، نُزِّل كل منهما منزلة الآخر، وقيل: إنه لا قلب في ذلك، وإنما القلب في "عرضت الحوض على الناقة"؛ لأن المعروض عليه هو المستقر. 3 لأنه عكس المطلوب ونقيض المقصود، وقيل: إنه لا يكاد أحد يمنعه مطلقا لوروده في القرآن وفصيح الكلام، ولعلهم يردون القلب اللفظي دون المعنوي. 4 لأن قلب الكلام مما يُحوج إلى التنبه للأصل، وذلك مما يورث الكلام ملاحظة ولطفا. 5 المفتاح ص113. 6 أي: غير تلك المَلَاحة التي احتج بها مَنْ قبلَه مطلقا، وذلك كالاعتبار السابق في قولهم: "عرضت الناقة على الحوض"، وكالاعتبارات الآتية في باقي الأمثلة. وإنما لم يقبل القلب إلا بهذا؛ لأنه من غيره يكون عدولا عن مقتضى الظاهر من غير نكتة يعتد بها؛ إذ لا يعتد فيه بتلك المَلَاحة العامة وحدها، ولا يخفى أن القلب بتلك المَلَاحة يكون من المحسنات البديعية، فالأليق ذكره في علم البديع؛ لأن تلك الاعتبارات التي يقبل بها في علم المعاني ليست محدودة ولا مضبوطة، وهي مع هذا شرط لحسنه ولا توجبه.

أما الأول1, فكقول رؤبة "من الرجز": ومَهْمَهٍ مغبرّة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه2 أي: كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه، فعكس التشبيه للمبالغة. ونحوه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح "من الطويل": لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأَرْي الجَنَى اشتارته أيدٍ عواسل3 وأما الثاني4, فكقول القطامي: كما طينت بالفَدَن السِّياعا5

_ 1 هو المقبول. 2 هو لرؤبة بن عبد الله بن رؤبة. والمهمه: المفازة، والأرجاء: جمع رجا وهو الناحية. والقلب في هذا معنوي أيضا، وهو من التشبيه المقلوب الآتي في علم البيان، والاعتبار اللطيف فيه بقصد المبالغة. 3 هو لحبيب بن أوس المعروف بأبي تمام، وأري الجنى: العسل، من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقوله: اشتارته بمعنى جنته، والأيدي العواسل: العارفة بجنيه، والأولى صفة للقلم مع الأعداء، والثانية صفته مع الأصدقاء. والشاهد في شطره الأول، وهو من القلب المعنوي أيضا؛ لأنه من التشبيه المقلوب، والاعتبار اللطيف فيه قصد المبالغة. 4 هو المردود. 5 هو لعُمَير بن شُيَيم المعروف بالقطامي من قوله "من الوافر": فلما أن جرى سِمَن عليها ... كما طينت بالفدن السياعا أمرت بها الرجال ليأخذوها ... ونحن نظن أن لن تُستطاعا يصف بذلك ناقته، والفدن: القصر، والسياع: الطين المخلوط بالتبن أو الآلة التي يُطين بها، يعني أنها صارت ملساء من السمن كالقصر المطين بالسياع، وفي ذلك قلب معنوي؛ فإن حمل السياع على الآلة لم يتضمن اعتبارا لطيفا، وفيه الشاهد، وإن حمل على الطين فيجوز أن يكون المقصود المبالغة في سمنها؛ لأنه يقصد تشبيهها بالسياع الذي صار لكثرته كأنه الأصل والفدن هو الفرع، فيكون هو أيضا مثله مع أصله من العظم ونحوه، ولكنه لا يخلو من تكلف. وروي: "كما بطنت بالفدن السياعا" وهو على القلب أيضا، والمعنى: كما بطنت الفدن بالسياع.

وقول حسان: يكون مِزاجها عسل وماء1 وقول عروة بن الورد: فديت بنفسه نفسي ومالي2 وقول الآخر: دولا يك موقف منكِ الوداعا3

_ 1 هو لحسان بن ثابت الأنصاري من قوله "من الوافر": كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجَها عسل وماء على أنيابها أو طعم غض ... من التفاح عصّره اجتناء والسبيئة: الخمر المشتراة للشراب، وبيت رأس: بلد بالشام بين رملة وغزة، والغض: الطري، وقوله: "عصره" بمعنى أساله، كناية عن إدراكه وقت نضجه، شبه ريق محبوبته بخمر مُزجت بعسل. والقلب في قوله: "يكون مزاجها عسل" قلب لفظي؛ لأنه لا قلب في المعنى، وإنما القلب في اللفظ؛ لأنه نكّر ما هو في موضع المبتدأ، وعرّف الخبر، والأصل فيهما العكس. ويروى برفع "مزاجها" على أن اسم يكون ضمير الشأن، فلا يكون فيه قلب. 2 هو من قوله "من الوافر": فلو أني شهدت أبا سعاد ... غداة غدا لمُهْجته يفوق فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوك إلا ما أطيق وقد رواه المرتضى في أماليه وابن الأنباري في "الأضداد" للعباس بن مرداس. يقال: "فاق بمهجته، ولمهجته، يفوق" إذا اشرفت نفسه على الخروج أو خرجت، وقوله: "وما آلوك" بمعنى لم أقصر فيك، والقلب فيه معنوي، والأصل: "فديت نفسه بنفسي ومالي" وليس في قلبه اعتبار لطيف؛ لأنه يوهم خلاف المراد. 3 هو لعمير بن شييم المعروف بالقطامي من قوله "من الوافر": قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منكِ الوداعا وألف "ضباعا" للإطلاق، وهو مرخم "ضباعة" اسم بنت له أو امرأة غيرها. والقلب في قوله: "ولا يك موقف منك الوداعا" لفظي كالقلب في بيت حسان السابق.

وقد ظهر من هذا أن قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] ليس واردا على القلب1؛ إذ ليس في تقدير القلب فيه اعتبار لطيف، وكذا قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} 2، وكذا قوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} 3 فأصل الأول: أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا أي: إهلاكنا، وأصل الثاني: ثم أراد الدنوّ من محمد -صلى الله عليه وسلم- فتدلى فتعلق عليه في الهواء، ومعنى الثالث: تَنَحَّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه؛ ليكون ما يقولونه بمسمَع منك، فانظر ماذا يرجعون، فيقال: إنه دخل عليها من كُوَّة، فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة. وأما قول خِدَاش: وتشقى الرماح بالضَّياطِرَة الحُمْر4 فقد ذُكر له سوى القلب5 وجهان: أحدهما: أن يجعل شقاء الرماح بهم استعارة عن كسرها بطعنهم بها، والثاني: أن يجعل نفس طعنهم شقاء لها تحقيرا لشأنهم, وأنهم ليسوا أهلا لأن يُطعنوا بها، كما يقال: "شَقِيَ الخز بجسم فلان"، إذا لم

_ 1 يرد بهذا على من زعم أن أصله: "جاءها بأسنا فأهلكناها". 2 [النجم: 8] ، وعلى تقدير القلب فيه يكون أصله: ثم تدلى فدنا. 3 [النمل: 28] ، وعلى تقدير القلب فيه يكون أصله: فانظر ماذا يرجعون ثم تولَّ عنهم. 4 هو لخداش بن زهير من قوله "من الطويل": وتلحق خيل لا هَوَادَة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر والهوادة: اللين والرفق أو ما يرجى به الصلاح بين القوم، وعلى هذا يكون المراد لا هوادة بين أصحابها، والضياطرة: جمع ضيطر وهو الضخم اللئيم العظيم الاست، والحمر: جمع أحمر اللون، وقيل: هو الذي لا سلاح معه. وقد روي: "وتُركب خيل". 5 على أنه من القلب؛ يكون أصله: "وتشقى الضياطرة بالرماح"، وليس له اعتبار لطيف.

يكن أهلا للبسه. وقيل في قول قَطَرِيّ بن الفُجَاءَة "من الكامل": ثم انصرفت وقد أصبت ولم أُصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام1 إنه من باب القلب2، على أن "لم أُصب" بمعنى لم أُجرح، أي: قارح البصيرة جذع الإقدام3 كما يقال: "إقدام غِرّ ورأي مجرب"، وأجيب عنه4 بأن "لم أصب" بمعنى لم أُلْفَ بهذه الصفة، بل وجدت بخلافها جذع الإقدام قارح البصيرة، على أن قوله: "جذع البصيرة قارح الإقدام" حال من الضمير المستتر في "لم أصب"، فيكون متعلقا بأقرب مذكور، ويؤيد هذا الوجه قوله قبله: لا يركنَنْ أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوفا لحِمام5 فلقد أراني للرماح دَرِيئة ... من عن يميني مرة وأمامي6 حتى خَضَبْتُ بما تحدّر من دمي ... أكناف سَرْجي أو عنان لجامي7 فإن الخضاب بما تحدر من دمه دليل على أنه جُرح، وأيضا فحوى كلامه أن مراده أن يدل على أنه جرح لم يمت، إعلاما أن الإقدام غير علة للحمام، وحثا على الشجاعة وبغض الفرار

_ 1 جذع البصيرة: بمعنى غير مجرب للأمور، وقارح الإقدام: بمعنى إقدام أصحاب السن القديمة، يقال: "فلان جذع: إذا كان حديث السن، وقارح: إذا كان قديما". 2 لأنه بقصد التمدح بذلك، وإنما يُتمدح بعكسه لا به. 3 على هذا يكون "جذع البصيرة قارح الإقدام" حالين من فاعل "انصرفت". 4 هذا جواب يجعل كلامه لا قلب فيه؛ لأنه قلب غير مقبول لما فيه من إيهام خلاف المراد، وقيل أيضا: إنه يريد تشبيه بصيرته بالجذع في عدم الاختلاط والتزلزل من الهول، وتشبيه إقدامه بالقارح في الصبر والاحتمال، وعلى هذا لا قلب أيضا. 5 الإحجام: التأخر، والوغى: الحرب، والحمام: الموت. 6 الدريئة: حلقة يتعلم عليها الطعن، شبه نفسه بها، وهي من الدرء بمعنى الدفع أو من الدرى بمعنى الختل، فتكون درية، بالياء المشددة. 7 أكناف السرج: جوانبه، والعنان: سير اللجام.

تمرينات على تخريج المسند إليه على خلاف مقتضى الظاهر: تمرين 1: بين ما يحتمل الالتفات والتجريد، وما يتعين فيه الالتفات مما يأتي: 1- قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] . 2- هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟ تمرين2: 1- بين الالتفات في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] ، ومن أي قسم من أقسام الالتفات هو؟ 2- هل يعد من الالتفات أو لا يعد قول الشاعر: أأنت الهلالي الذي كنت مرة ... سمعنا به والأرحبيّ المغلب؟ تمرين 3: 1- من أي أنواع خلاف مقتضى الظاهر ما في قول الشاعر: ومية أجمل الثَّقَلَين جِيدا ... وسالفة وأحسنه قذالا؟ 2- هل يقبل القلب أو لا يقبل في قول الشاعر: رأيت شيخا قد تحنى صلبه ... يمشي فيقعس أو يكب فيعثر؟ تمرين4: 1- من أي أنواع خلاف مقتضى الظاهر ما في قول الشاعر: فرجي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القارظ العنزي آبا؟

2- هل يعد من القلب أو لا يعد ما في قول الشاعر: وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق!! تمرين5: 1- من أي نوعي الأسلوب الحكيم ما في قول الشاعر: وقالوا: قد صفت منا قلوب ... نعم ... صدقوا ولكن عن ودادي؟ 2- من أي أنواع الالتفات ما في قول الشاعر: سألت نسيم أرضك حين وافى ... وقلت: صف القوام ولا تُحاشي؟ تمرين6: 1- من أي أنواع خلاف مقتضى الظاهر ما في قول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فإن زمانكم زمن خميص؟ 2- متى يكون من خلاف مقتضى الظاهر ما في قول الشاعر: نعم امرأ هَرِم لم تعر نائبة ... إلا وكان لمرتاع بها وزرا؟ تمرين 7: 1- بين ما في قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 78] من الخروج على مقتضى الظاهر. 2- بين ما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] من الخروج على مقتضى الظاهر. 3- بين ما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] من الخروج على مقتضى الظاهر.

الباب الثالث: القول في أحوال المسند

الباب الثالث: القول في أحوال المسند حذف المسند: أغراض الحذف: أما تركه فلنحو ما سبق في باب المسند إليه1. من تخييل العدول إلى أقوى الدليلين. ومن اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة، أو مقدار تنبهه. ومن الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر2؛ إما مع ضيق المقام كقوله: فإني وقَيَّار بها لغريب3 أي: وقيار كذلك4. وكقوله "من المنسرح":

_ 1 أي: في الكلام على حذفه، والتعبير بالترك هنا بدل "الحذف" هناك من التفنن في العبارة. 2 كان الأحسن أن يذكر هذا الغرض في أول الأغراض؛ ليجعله مطردا في جميعها كما صنع في حذف المسند إليه. 3 هو لضابئ بن الحارث البرجمي من قوله "من الطويل": ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب وكان عثمان -رضي الله عنه- حبسه في المدينة لهجائه قوما في شعره، والرحل: المنزل والمأوى، وقيار: اسم فرسه أو غلامه، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعد الفاء عليه، وتقديره: "فقد حسنت حاله وساءت حالي". 4 فهو من عطف الجمل، ولا يصح جعل "قيار" معطوفا على محل اسم "إن"؛ لامتناع العطف على محل اسمها قبل مضي خبرها، ولا يصح أن يكون "غريب" خبرا عن "قيار" والمحذوف خبر "إن" لاقترانه بلام الابتداء، وخبر المبتدأ لا يقترن بها في الفصيح إلا إذا كان منسوخا. وضيق المقام في البيت بسبب الشعر والسجن.

نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مختلف1 أي: نحن بما عندنا راضون. وكقول أبي الطيب "من الكامل": قالت وقد رأت اصفراري: من به؟ ... وتَنَهّدتْ، فأجبتها: المتنهِّد2 أي: المتنهد هو المطالَب به3، دون: المطالب به هو المتنهد, إن فسر بمن المطالب به؟ لأن مطلوب السائلة -على هذا- الحكم على شخص معين بأنه المطالب به ليتعين عندها، لا الحكم على المطالب به بالتعيين، وقيل: معناه من فعل به؟ فيكون التقدير: فعل به المتنهد4. وإما بدون الضيق، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] على وجه؛ أي: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، ويجوز أن يكون جملة واحدة، وتوحيد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله، فكانا في حكم مَرضِيّ

_ 1 هو لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي، أو لقيس بن الخطيم، وقبله "من المنسرح": يا مال والسيد المعمم قد ... يُبطره بعض الرأي والسَّرَف يخاطب مالك بن العجلان حين رد قضاءه في واقعة للأوس والخزرج، مال: ترخيم مالك، وأراد بـ "والرأي مختلف" أن يتبع كل منهما رأيه على اختلافهما؛ لرضا كل منهما برأيه، وعدم انقياده لصاحبه. وضيق المقام هنا بسبب الشعر، وعدم استعداد المخاطَب لقبول الكلام، وقد حذف في هذا البيت من الأول لدلالة الثاني، على عكس البيت السابق. 2 هو لأحمد بن الحسين المعروف بأبي الطيب المتنبي. وقد عنى اصفراره مما يلقاه من حبها، وقوله: "به" متعلق بمحذوف تقديره المطالب، وقوله: "وتنهدت" يعني به أنها تنهدت لما رأته من اصفراره. 3 فيكون من حذف المسند لا المسند إليه. وقد أجاز السكاكي كلا من التقديرين؛ لأنه إذا جُعلت "من" مبتدأ على مذهب سيبويه والمحذوف خبرا، فالأحسن أن يقدر: "المتنهد هو المطالب به"؛ ليطابق الجواب السؤال، وإذا جعلتَ "من" خبرا مقدما فالأحسن أن يقدر: "المطالب به هو المتنهد" ليطابق الجواب السؤال أيضا. 4 هو من حذف المسند أيضا، ولكنه "فعلَ" على هذا التقدير.

واحد؛ كقولنا: "إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني"1، وكقولك: "زيد منطلق وعمرو" أي: وعمرو كذلك، وعليه قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي: واللائي لم يحضن مثلهن، وقولك: "وخرجت فإذا زيد"2, وقولك لمن قال: هل لك أحد، إن الناس إِلب عليك: "إن زيدا وإن عمرا" أي: إن لي زيدا وإن لي عمرا3. وعليه قوله: إن محلا وإن مرتحلا4 أي: إن لنا محلا في الدنيا، وإن لنا مرتحلا عنها إلى الآخرة. وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} 5 [الإسراء: 100] تقديره: "لو تملكون تملكون ... " مكررا لفائدة التأكيد، فأُضمر "تملك" الأول إضمارا على شريطة التفسير، وأُبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل وهو "أنتم"؛ لسقوط ما يتصل به

_ 1 فإفراد الضمير فيه؛ لأن إحسانه وإجماله بمعنى واحد. 2 أي: موجود أو حاضر أو بالباب أو ما أشبه ذلك، والحذف هنا لإتباع الاستعمال مع الاختصار والاحتراز عن العبث؛ لأنه يطرد حذف المسند إليه بعد "إذا" الفجائية؛ لأنها تدل على مطلق وجود، وقد توجد معها قرائن تدل على نوع خصوصية؛ كلفظ الخروج في المثال. 3 الحذف فيه أيضا لإتباع الاستعمال مع الاختصار والاحتراز عن العبث؛ لأنه يطرد حذف المسند مع تكرير "إن" وتعدد اسمها. 4 هو لميمون بن قيس, المعروف بالأعشى من قوله "من المنسرح": إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضوا مهلا محلا ومرتحلا: مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال، والسفر: اسم جمع بمعنى المسافرين وقد أراد بهم الموتى، والمهل: مصدر بمعنى الإمهال وطول الغيبة. والمعنى: إن في غيبة الموتى طولا وبعدا؛ لأنهم مضوا مضيا لا رجوع معه إلى الدنيا. وروي: "إذ مضوا مثلا" والحذف هنا لإتباع الاستعمال وضيق المقام مع الاختصار والاحتراز عن العبث. 5 هذا من حذف المسند إلى الفاعل.

من اللفظ؛ فـ "أنتم" فاعل الفعل المضمر، و"تملكون" تفسيره. قال الزمخشري: هذا ما يقتضيه علم الإعراب، فأما ما يقتضيه علم البيان1 فهو أن {أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بالشحّ المتبالغ2. ونحوه قول حاتم: "لو ذات سوار لطمتْني"3, وقول المتلمس: ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي4 وذلك لأن الفعل الأول5 لما سقط لأجل المفسِّر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر. وكقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] أي: كمن لم يزين له سوء عمله. والمعنى: أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما

_ 1 يعني بعلم البيان ما يشمل علم المعاني. 2 رُدّ هذا على الزمخشري بأن الاختصاص إنما يكون في الجملة الاسمية التي يُقدَّم فيها المسند إليه على خبره الفعلي كما سبق، وما هنا ليس كذلك؛ لأنه من الجملة الفعلية، وبأنه على تسليم ذلك يكون معناه: لو اختصصتم بملك تلك الخزائن لأمسكتم، هذا لا يقتضي اختصاصهم بالشح، وإنما يقتضي ذلك أن يقال: "أنتم لو تملكون ذلك لأمسكتم". 3 رواه الأصمعي: "لو غير ذات سوار لطمتني" على أن حاتما مر ببلاد عنزة، فناداه أسير لهم: يا أبا سفانة، أكلني الإسار والقمل، ولم يكن مع حاتم شيء، فساومهم به. ثم قال: أطلقوه واجعلوا يدي في القيد مكانه، ففعلوا، ثم جاءته امرأة ببعير ليفصده، فنحره، فلطمته، فقال لها ذلك القول؛ يعني أنه لا يقتص من النساء. وقيل: إن التي ضربته كانت أمة لهم، فقال لها: "لو ذات سوار لطمتني" يعني حرة من النساء، وهو أظهر لتأنيث الفعل. 4 هو لجرير بن عبد المسيح, المعروف بالمتلمس من قوله "من الطويل": ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العَرانين مِيسما والعرانين: جمع عرنين وهو الأنف كله أو ما صلب منه، والميسم: العلامة، وهو على تقدير: ولو أراد غير إخواني ... إلخ. 5 في قوله تعالى: {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} [الإسراء: 100] ، وهذا تعليل لإفادة الاختصاص.

-الذين كفروا، والذين آمنوا- كمن لم يزين له سوء عمله؟ ثم كأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له ذلك قال: لا، فقيل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] . وقيل: المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات؟ فحذف الجواب1 لدلالة: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أو "المعنى": أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله؟ فحذف لدلالة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وأما قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] , وقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1] , وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] فكل منها يحتمل الأمرين: حذف المسند إليه، وحذف المسند؛ أي: فأمري صبر جميل، أو: فصبر جميل أجمل2، و: هذه سورة أنزلناها، أو: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، و: أمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو: طاعتكم طاعة معروفة، أي: بأنها بالقول دون الفعل، أو: طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة. ومما يحتمل الوجهين قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171] قيل: التقدير: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، ورد بأنه تقرير لثبوت "آلهة"؛ لأن النفي إنما يكون للمعنى المستفاد من الخبر دون معنى المبتدأ, كما تقول: "ليس أمراؤنا ثلاثة" فإنك

_ 1 على هذا تكون "مَنْ" شرطية. 2 أي: من الصبر الذي ليس بجميل بأن يكون معه شكاية، ولكنه مع هذا خير من عدمه، فيصح تفضيل الصبر الجميل عليه.

تنفي به أن تكون عدة الأمراء ثلاثة، دون أن تكون لكم أمراء، وذلك1 إشراك، مع أن قوله تعالى بعده: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يناقضه. والوجه: أن {ثَلَاثَةٌ} صفة مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف مميزه، لا خبر مبتدأ، والتقدير: "ولا تقولوا لنا -أو في الوجود- آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة"2 ثم حُذف الخبر كما حُذف من "لا إله إلا الله"، و"ما من إله إلا الله", ثم حذف الموصوف أو المميز كما يحذفان في غير هذا الموضع؛ فيكون النهي عن إثبات الوجود لآلهة، وهذا ليس فيه تقرير لثبوت إلهين، مع أن ما بعده أعني قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ينفي ذلك، فيحصل النهي عن الإشراك والتوحيد من غير تناقض؛ ولهذا يصح أن يتبع نفي الاثنين فيقال: "ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان"؛ لأنه كقولنا: "ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان" وهذا صحيح، ولا يصلح أن يقال على التقدير الأول: "ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، ولا اثنان"؛ لأنه كقولنا: "ليست آلهتنا ثلاثة ولا اثنين" وهذا فاسد، ويجوز أن يقدر: "ولا تقولوا: الله والمسيح وأمه ثلاثة3؛ أي: لا تعبدوهما كما تعبدونه"؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] فيكون المعنى "ثلاثة مستوون في الصفة والرتبة"؛ فإنه قد استقر في العرف أنه إذا أريد إلحاق اثنين بواحد في وصف وأنهما شبيهان له أن يقال: "هم ثلاثة"، كما يقال إذا أريد إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه: هما اثنان. واعلم أن الحذف لا بد له من قرينة؛ كوقوع الكلام جوابا عن سؤال: إما

_ 1 أي: تقرير ثبوت "آلهة". 2 التقدير الأول على أنها صفة مبتدأ، والثاني على أنها مبتدأ محذوف مميزه. 3 فيكون من حذف المسند إليه، والمعنى صحيح بخلاف التقدير الذي أبطله، وقد أُجيب عنه بأن السالبة تحتمل نفي موضوعها كما تحتمل نفي محمولها وحده، فيكون المعنى عليه محتملا لنفي الثلاثة والاثنين أيضا، ولكن الحمل على هذا نادر.

محقق1 كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] , وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63] ، وإما مقدر، نحو: ليُبْكَ يزيد ضارع لخصومة2 وقراءة من قرأ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ} [النور: 36] وقوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3] ببناء الفعل "يسبَّح، ويوحَى" للمفعول3. وفضل هذا التركيب على خلافه -أعني نحو: "ليبك يزيد ضارع" ببناء الفعل للفاعل، ونصب "يزيد"- من وجوه: أحدها أن هذا التركيب يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين؛ إجمالا ثم تفصيلا، والثاني أن نحو "يزيد" فيه ركن الجملة لا فضلة4، والثالث أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل، فيكون عند ورود ذكره كمن تيسرت له غنيمة من حيث لا يحتسب، وخلافه بخلاف ذلك. ومن هذا الباب -أعني: الحذف الذي قرينته وقوع الكلام جوابا عن سؤال مقدر- قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100] على وجه5؛ فإن {لِلَّهِ شُرَكَاءَ} إن جعلا مفعولين لـ "جعلوا"، فـ "الجن" يحتمل وجهين: أحدهما ما ذكره الشيخ عبد القاهر6 من أن يكون منصوبا بمحذوف دل عليه سؤال مقدر، كأنه قيل: من جعلوا لله شركاء؟ فقيل: الجن، فيفيد الكلام إنكار الشرك مطلقا، فيدخل اتخاذ الشريك من غير الجن في الإنكار، دخول اتخاذه من الجن، والثاني: ما ذكره الزمخشري، وهو أن ينتصب {الْجِنَّ} بدلا من {شُرَكَاءَ} ، فيفيد إنكار الشريك مطلقا أيضا كما مر7، وإن جُعل {لِلَّهِ} لغوا8 كان {شُرَكَاءَ الْجِنَّ} مفعولين، قدم ثانيهما على الأول، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك مَلَكا كان أو جِنِّيا أو غيرهما، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء، ولو لم يُبْنَ الكلام على التقديم وقيل: "وجعلوا الجن شركاء لله" لم يفد إلا إنكار جعل الجن شركاء، والله أعلم. ومنه ارتفاع المخصوص في باب "نعم وبئس" على أحد القولين9.

_ 1 السؤال المحقق هو المذكور في الكلام، والمقدر بخلافه. 2 هو للحارث بن ضرار النهشلي, أو الحارث بن نهيك من قوله في رثاء يزيد بن نهشل "الطويل": ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح وقبله: سقى جَدَثا أمسى بدوحة ثاويا ... من الدلو والجوزاء غادٍ ورائح قوله: "ليبك" بالبناء للمفعول، والضارع: الذليل، والمختبط: الذي يأتي إليك للمعروف من غير وسيلة، وقوله: "تطيح" بمعنى تذهب وتهلك، والطوائح: جمع مطيحة على غير القياس، وقياسه: مطاوح أو مطيحات وهي النوازل الصعبة، والشاهد في حذف فعل "ضارع" إذ التقدير: يبكيه ضارع. يصفه بأنه كان ملجأ الذليل, وعون المحتاج. 3 فيكون كل من لفظ الجلالة "الله" و"رجال" في الآيتين فاعلا لفعل محذوف تقديره: يوحي ويسبِّح. 4 كونه ركن الجملة يفيد الاعتناء بشأنه، ويناسب مقام رثائه. 5 هو الوجه الذي سينقله عن عبد القاهر، لا الوجهان المذكوران بعده. 6 دلائل الإعجاز ص187, 188. 7 لأنه يكون بدل بعض من كل، والتقدير: الجن منهم. 8 أي: جارا ومجرورا متعلقا بـ {شُرَكَاءَ} مقدما عليه. 9 هو قول من يجعله مبتدأ محذوف الخبر، فيكون التقدير في قولك "نعم الرجل زيد": زيد الممدوح، وهو واقع جواب سؤال مقدر أيضا، كأنه قيل: من الممدوح؟ وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل: إنه بدل من الفاعل قبله، فالأقوال أربعة لا اثنان.

أغراض الذكر: وأما ذكره: فإما لنحو ما مر في باب المسند إليه من زيادة التقرير، وللتعريض بغباوة السامع، والاستلذاذ، والتعظيم، والإهانة، وبسط الكلام1.

_ 1 زيادة التقرير كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] ، والتعريض بغباوة السامع كما في قولك: "محمد نبينا" في جواب سؤال: من نبيكم؟ والاستلذاذ كما في قولك: "هي سعاد" في جواب: هل هذه سعاد؟ وهكذا، ولا بد في الذكر من قرينة كما سبق في ذكر المسند إليه.

وإما ليتعين كونه اسما، فيستفاد منه الثبوت1، أو كونه فعلا، فيستفاد منه التجدد2، أو كونه ظرفا3، فيورِث احتمال الثبوت والتجدد4، وإما لنحو ذلك. قال السكاكي5: وإما للتعجيب من المسند إليه بذكره؛ كما إذا قلت: "زيد يقاوم الأسد" مع دلالة قرائن الأحوال6. وفيه نظر؛ لحصول التعجيب بدون الذكر إذا قامت القرينة7.

_ 1 أي: الدلالة على النسبة من غير تقييد بزمان. 2 أي: الدلالة على الحدوث بعد العدم. 3 أو جارا أو مجرورا. 4 لأن نحو: "زيد في الدار" تقديره: زيد مستقر أو استقر في الدار. وهذا وما قبله معانٍ أصلية للاسم والفعل والظرف، فليست في شيء من البلاغة. 5 المفتاح ص111. 6 بأن يكون جواب سائل: "من يقاوم الأسد؟! ". 7 أجيب عنه بأن القرينة على المسند لا على التعجيب، وإنما يحصل التعجيب بذكره مع الاستغناء عنه.

تمرينات على الذكر والحذف: تمرين1: 1- لِمَ حُذف المسند في قول الشاعر: ولولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يُفْقِر والإقدام قتال؟ 2- لِمَ ذكر المسند بعد "بل" في قوله تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 62، 63] ؟ تمرين 2: 1- لِمَ حذف المسند الأول وأعيد ذكر الثاني في قول الشاعر: لولا التقا لجعلت قبركَ كعبتي ... وجعلت قولك سنّتي وكتابي؟ 2- لِمَ حذف المسند في قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] ؟ تمرين3: 1- لِمَ حذف المسند أولا ثم المسند إليه ثانيا في قول الشاعر: والناس هذا حظه مال وذا ... علم وذاك مكارم الأخلاق؟ 2- بين المحذوف والداعي إلى حذفه في قول الشاعر: والطير أقعدها الكَرَى ... والناس نامت والوجود تمرين4: 1- لماذا حذف المسند في قولهم: "أحَشْفًا وسُوءَ كيلة؟! "؟ 2- لماذا أعيد ذكر المسند في قول الخنساء: أعينيّ جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجواد الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا؟

أغراض المسند: أغراض الإفراد: وأما إفراده فلكونه غير سببي مع عدم إفادة تقوي الحكم1؛ كقولك: "زيد منطلق، وقام عمرو" والمراد بالسببي نحو: "زيد أبوه منطلق"2. قال السكاكي3: وأما الحالة المقتضية لإفراده فهي إذا كان فعليا ولم يكن المقصود من نفس التركيب تقوي الحكم، وأعني بالمسند الفعلي ما يكون مفهومه محكوما به بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه، كقولك: "أبو زيد منطلق، والكُرّ4 من البُرّ بستين، وضُرب أخو عمرو، ويشكرك بكر إن تعطه، وفي الدار خالد"؛ إذ تقديره: "استقر أو حصل في الدار" على أقوى الاحتمالين5؛ لتمام الصلة بالظرف، كقولك: "الذي في الدار أخوك"6. وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن ما ذكره في تفسير المسند الفعلي يجب أن يكون تفسيرا للمسند مطلقا7، والظاهر أنه إنما قصد به الاحتراز عن المسند السببي، إذ فسر المسند السببي بعد هذا بما يقابل تفسير المسند الفعلي، ومثّله بقولنا: "زيد أبوه منطلق أو انطلق، والبر الكر منه بستين" فجعل -كما ترى- أمثلة السببي مقابلة لأمثلة الفعلي مع الاشتراك في أصل المعنى8. والثاني أن الظرف الواقع خبرا إذا كان مقدرا بجملة -كما اختاره- كان قولنا: "الكر من البر بستين" تقديره: "الكر من البر استقر بستين"، فيكون المسند جملة، ويحصل تقوي الحكم كما مر، وكذا إذا كان: "في الدار خالد" تقديره: "استقر في الدار خالد" كان المسند جملة أيضا؛ لكون "استقر" مسندا إلى ضمير "خالد" لا إلى "خالد" على الأصح؛ لعدم اعتماد الظرف على شيء9.

_ 1 نحو: "زيد قائم" وإنما يكون ذلك عند اقتضاء المقام له بأن يكون المخاطَب خالي الذهن من الحكم؛ فلا يؤتى له بصورة تفيد تقويته، وهي صورة تقديم الاسم على الخبر الفعلي كما سبق في المسند إليه. وإنما اختص إفراده بذلك؛ لأنه إذا كان سببا أو مفيدا للتقوي كان جملة لا مفردا. 2 فالسببي كل جملة عُلقت على مبتدأ بعائد لا يكون مسندا إليه في تلك الجملة؛ لأنه إذا كان مسندا إليه فيها كان من صورة تقوية الحكم نحو: "زيد ينطلق"، والسببي نسبة إلى السبب وهو ضمير الربط. 3 المفتاح ص111. 4 الكر: مكيال مقداره أربعون إردبا، وقيل غير ذلك. 5 الاحتمال الثاني تقديره اسما, أي: مستقر أو حاصل. 6 فإن تقديره: الذي استقر أو حصل في الدار أخوك، ولا يصح تقدير: حاصل أو مستقر فيه؛ لأن الصلة لا تتم به، ولكن تعين هذا في الصلة لا يوجب أرجحيته في غيرها. 7 لأنه يشمل المسند إذا كان فعلا أو غيره، نحو: انطلق زيد، وزيد منطلق، وزيد أبوه منطلق. 8 يعني به المعنى الذي ذكره للفعلي؛ لأنه يشمل كل مسند كما سبق، فيدخل فيه السببي، وإذا كان داخلا في معنى الفعلي لم تصح المقابلة بين أمثلتهما. 9 مقابل الأصح يجعل خالدا فاعلا لمتعلق الظرف، فلا تكون جملة مركبة من مبتدأ وخبر، وهذا إنما يأتي في الأصح إذا اعتمد الظرف على نفي أو شبهة نحو: أَوَفِي الدار خالد؟

أغراض كون المسند فعلا أو اسما: وأما كونه فعلا: فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة على أخصر ما يمكن1 مع إفادة التجدد2. وأما كونه اسما: فلإفادة عدم التقييد3 والتجدد، ومن البين فيهما قول الشاعر "من البسيط": لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق4 وقوله "من الكامل": أَوَكلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إلي عريفهم يتوسم5 إذ معنى الأول على انطلاق ثابت للدرهم مطلقا من غير اعتبار تجدده وحدوثه، ومعنى الثاني على توسم وتأمل ونظر يتجدد6 من العريف هناك.

_ 1 نكتة الاختصار هي في الحقيقة مرجع البلاغة في هذا الغرض؛ لأن دلالة الفعل على الأزمنة الثلاثة بأصل وضعه، ووجه الاختصار بأن قولك: "قام زيد أو زيد قام" يفيد مع الاختصار معنى قولك: "زيد حصل منه القيام في الزمن الماضي" ولكن هذا الاختصار لا يكاد يمتاز به بليغ عن غيره، والذي يدخل منه في معنى البلاغة دلالته على الاستمرار التجددي كما سيأتي. 2 المراد بالتجدد حصول الشيء بعد عدمه، والفعل يدل عليه بأصل وضعه أيضا، وإنما تعرّض لإفادته ذلك؛ لأن من الأسماء ما يشارك الفعل في الدلالة على أحد الأزمنة, كاسم الفاعل، فإنه حقيقة في الحال، مجاز في الاستقبال. 3 أي: بأحد الأزمنة؛ لأنه يدل على الثبوت فقط، وهي دلالة وضعية لا يصح عدها من وجوه البلاغة، وإنما الذي يصح عده دلالته على الدوام بمعونة القرائن إذا كان المقام يقتضي كمال المدح أو الذم ونحوهما، وكما سيأتي في البيت الآتي. 4 هو للنضر بن جؤية؛ والمشهور نصب "صرتنا" على أنه مفعول، ولكن الأحسن نصب "الدرهم" ليكون عدم الإلف من جانب الصرة، فيدل على غناهم وإنفاقهم، أما الأول فيحتمل أن عدم إلف الدرهم صرتهم لفقرهم، مع أنه يقصد التمدح بغناهم وجودهم؛ ولهذا حمل بعضهم الجملة الاسمية "وهو منطلق" على إفادة الدوام ليكون المدح أكمل. 5 هو لطريف بن تميم العنبري، وعكاظ: سوق بين نخلة والطائف، والعريف: القيّم الذي يقوم بأمر القوم، ويريد أنهم يبعثون إليه عريفهم من أجل شهرته وعظمته. 6 يريد به الدوام التجددي، والفعل إنما يُدل عليه بمعونة القرائن؛ لأن التجدد الذي يدل الفعل عليه بأصل وضعه هو حصول الشيء بعد عدمه، والبلاغة في الفعل إنما تكون بدلالته على الدوام التجددي، ومما يتبين الفرق فيه بين المسند الفعلي والمسند الاسمي قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} بعد قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14، 15] ؛ لأن دلالة الأول على الاستمرار التجددي، وهو أبلغ.

أغراض تقييد الفعل بمفعول ونحوه، وترك تقييد الفعل: وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه فلتربية الفائدة1 كقولك: "ضربت ضربا شديدا، وضربت زيدا، وضربت يوم الجمعة، وضربت أمامك، وضربت تأديبا، وضربت بالسوط، وجلست والساريةَ، وجاء زيد راكبا، وطاب زيد نفسًا، وما ضرب إلا زيد، وما ضربت إلا زيدا"2. والمقيد في نحو: "كان زيد قائما" هو "قائما" لا "كان"3. وأما ترك تقييده فلمانع من تربية الفائدة4.

_ 1 أي: تكثيرها، ولا يخفى أن تقييد الفعل بذلك من أحوال متعلقات الفعل، فلا معنى لذكره هنا، ولا يخفى أيضا أن هذا التقييد يرجع إلى أصل معاني تلك المتعلقات، فيجب أن يكون اعتبار ذلك هنا عند وجود القرينة التي تغني عن ذكرها، كما اعتُبر وجود القرينة في ذكر المسند إليه والمسند، ومثال ذلك هنا أن يقال لك: هل تحب هندا؟ فتقول: أحب هندا. 2 الاستثناء في الأول من الفاعل، وفي الثاني من المفعول، وقيد الفعل فيهما هو المستثنى؛ لأنه في الحقيقة منسوب إلى المستثنى منه المحذوف، فيكون المستثنى قيدا فيهما، وإن كان في الأول هو الفاعل في الظاهر. 3 لأن "قائما" هو المسند، فهو الذي يدل على الحدث المراد إسناده، و"كان" تدل على زمانه؛ فكأنك قلت: زيد قائم في الزمان الماضي. 4 كخوف انقضاء فرصة، أو ضيق مقام، أو نحو ذلك من أغراض الحذف. وبهذا يرجع اعتبار التقييد وتركه إلى اعتبارَيِ الحذف والذكر. ومِنْ ترك التقييد لخوف انقضاء فرصة قولُ الصائد لمن معه: "حُبس الصيد" فلا يقول: "في الشَّرَك" ليبادر إليه قبل فواته بالفرار أو موته قبل ذبحه.

أغراض تقييد الفعل بالشرط: إن، وإذا، ولو وأما تقييده1 بالشرط: فلاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل، وقد بُيِّن ذلك في علم النحو2، ولكن لا بد من النظر ههنا في: "إن، وإذا، ولو".

_ 1 أي: الفعل مسندا في الجزاء؛ فالشرط قيد لحكم الجزاء؛ كالمفعول ونحوه؛ لأن قولك: "إن جئتني أكرمك" بمنزلة: أكرمك وقت مجيئك. 2 لا يخفى أن تلك الاعتبارات اعتبارات نحوية، وليست في شيء من اعتبارات البلاغة إلا أن ينظر إلى دلالة أدوات الشرط على تعليق الجزاء بالشرط في أخصر عبارة، فتكون نظير حروف العطف فيما سبق، وذلك وجه ضعيف من وجوه البلاغة.

أما "إن وإذا" فهما للشرط في الاستقبال1، لكنهما يفترقان في شيء: وهو أن الأصل في "إن" ألا يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه2؛ كما تقول لصاحبك: "إن تكرمني أكرمك" وأنت لا تقطع بأنه يكرمك. والأصل في "إذا" أن يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه3 كما تقول: إذا زالت الشمس آتيك. ولذلك كان الحكم النادر موقعا لـ "إن"؛ لأن النادر غير مقطوع به في غالب الأمر، وغلب لفظ الماضي مع "إذا" لكونه أقرب إلى القطع بالوقوع نظرا إلى اللفظ4؛ قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] أتى5 في جانب الحسنة بلفظ "إذا"؛ لأن المراد بالحسنة الحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به؛ ولذلك عرفت تعريف الجنس6. وجوز السكاكي7 أن يكون تعريفها للعهد، وقال: "وهذا أقصى لحق البلاغة"،

_ 1 أي: لتعليق حصول الجزاء بحصول الشرط في الاستقبال. 2 بأن يُتردد في وقوعه، أو يُظن عدم وقوعه، أما القطع بعدم وقوعه لاستحالته فلا تُستعمل فيه "إن" إلا لنكتة كما سيأتي في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] . ومثل "إن" في دلالتها على ذلك باقي أدوات الشرط كما ذكره الدسوقي في حاشيته على المختصر. 3 مثل القطع في ذلك ظن وقوعه، ولا يخفى أن الأداتين تدلان على ذلك بأصل الوضع، ولكن إيثار إحداهما على الأخرى في موضع يصلح لهما قد يكون لاعتبارات دقيقة كما سيأتي في أمثلتهما. 4 إنما كان هذا بالنظر إلى اللفظ؛ لأن الماضي معها يُنقل إلى الاستقبال. 5 هذه الاعتبارات تأتي في كلام الله تعالى؛ لأنه وارد على أساليب كلام البشر، وإن لم يتصور فيه جزم ولا عدمه، فيراعى في ذلك، على فرض أنه لمخلوق يجوز عليه الجزم والتردد. 6 يعني الحقيقة في ضمن فرد مبهم، بدليل إسناد المجيء إليها. 7 المفتاح ص130.

وفيه نظر1. وأتى في جانب السيئة بلفظ "إن"؛ لأن السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة؛ ولذلك نكرت2. ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] أتى بـ "إذا" في جانب الرحمة، وأما تنكيرها فجعله السكاكي3 للنوعية نظرا إلى لفظ الإذاقة, وجعله للتقليل نظرا إلى لفظ الإذاقة -كما قال- أقرب4. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} [الروم: 33] بلفظ "إذا" مع الضر فللنظر إلى لفظ "المس", وإلى تنكير "الضر" المفيد في المقام التوبيخي القصد إلى اليسير من الضر، وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضر، وللتنبيه على أن مساس قدر يسير من الضر لأمثال هؤلاء حقه أن يكون في حكم المقطوع به، وأما قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] بعد قوله عز وجل: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي: أعرض عن شكر الله وذهب بنفسه وتكبر وتعظم؛ فالذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير في "مسه" للمعرض المتكبر، ويكون لفظ "إذا" للتنبيه على أن مثله يحق أن يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعا به.

_ 1 وجهه أنه ذكر أن المراد الحسنة المطلقة، والإطلاق ينافي العهد، وأجيب عنه بأنه يريد العهد على مذهبه من تنزيل الحقيقة منزلة المعهود لاعتبار من الاعتبارات، والذي ينافي الإطلاق العهد الحقيقي الذي يراد فيه فرد معين، وإنما كان ذلك أقضى لحق البلاغة؛ لأن المعهود أقرب إلى التحقق من الجنس الذي لا عهد فيه، ولكن هذا لا يخلو من تكلف. 2 لأن التنكير في أصله يفيد التقليل؛ لدلالته على الوحدة، بخلاف "ال" الجنسية. 3 المفتاح ص136. 4 لأن الإذاقة أثرها أضعف من غيرها، وقد اعتُرض على هذا بأنه ينافي ما ذكره في الآية السابقة من أن إطلاق الحسنة المفيد للتكثير هو الذي يناسب "إذا"؛ فلا يكون التقليل هنا في الرحمة مناسبا لها.

قال الزمخشري: وللجهل بموقع "إن" و"إذا" يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب فيغلطون؛ ألا ترى إلى عبد الرحمن بن حسان1 كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة، وقد سأله حاجة فلم يقضها، ثم شفع له فيها فقضاها "من الطويل": ذُمِمْت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... تولى سواكم أجرها واصطناعها أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بشر أطاعها فلو عكس لأصاب2. وقد تستعمل "إن" في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة: كالتجاهل؛ لاستدعاء المقام إياه3. وكعدم جزم المخاطب؛ كقولك لمن يُكذّبك4 فيما تخبر: إن صدقتُ فقل لي ماذا تفعل؟ وكتنزيله منزلة الجاهل5؛ لعدم جريه على موجب العلم، كما تقول لمن يؤذي أباه: "إن كان أباك فلا تؤذه". وكالتوبيخ على الشرط، وتصوير أن المقام لاشتماله على ما يقلعه عن أصله لا

_ 1 قيل: إن هذه القصة وما فيها من الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان. 2 يعني بالعكس أن يقول: "إن هي حثته، وإذا همت" ووجه الصواب فيه أنه هو المناسب لما يقصده من الهجاء، وأجيب عنه بأنه يقصد في "إذا" إثبات حث نفس الوالي له على الخير وأنه مع ذلك يعصيها، وهو أبلغ في الذم، وبأنه يقصد في "إن" أنه يبادر إلى الشر بمجرد توهم نفسه له، وهو أبلغ في الذم أيضا. 3 كأن يُسأل خادم عن سيده: هل هو في الدار؟ وهو يعلم أنه فيها، فيقول: "إن كان فيها أُخبرك" فيتجاهل خوفا من سيده. 4 أي: لمن يجوّز كذبك؛ لأن المقام في عدم جزم المخاطَب. 5 يعني به الشاكّ؛ لأنه هو الأصل في استعمال "إن"، والفرق بين هذا وما قبله أن الشك غير حقيقي هنا، وفيما قبله حقيقي.

يصلح إلا لفرضه كما يفرض المحال لغرض1، كقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} 2 فيمن قرأ "إِنْ" بالكسر لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب الإسراف، وتصوير أن الإسراف من العاقل في هذا المقام واجب الانتفاء، حقيق ألا يكون ثبوته له إلا على مجرد الفرض. وكتغليب غير المتصف بالشرط على المتصف به3، ومجيء قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] بـ "إن", يحتمل أن يكون للتوبيخ على الريبة لاشتمال المقام على ما يقلعها عن أصلها، ويحتمل أن يكون لتغليب غير المرتابين من المخاطَبين على المرتابين منهم4؛ فإنه كان فيهم من يعرف الحق؛ وإنما ينكر عنادا5، وكذلك قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج: 5] .

_ 1 كإرخاء العنان لإلزام الخصم. 2 [الزخرف: 5] بقراءة: {أَنْ كُنْتُمْ} . 3 يعني تغليب المشكوك في اتصافه بالشرط على المجزوم باتصافه به، ولا يعني تغليب المجزوم بعدم اتصافه به على المجزوم فيه بذلك؛ لأن كلا منهما ليس هو المقام الأصلي لها، والمراد تغليب مقامها الأصلي على غيره. 4 اعترض على هذا بأن ما هنا جمع بين مرتاب يقينا وغير مرتاب يقينا، وكل منهما لا تستعمل فيه "إن"؛ فالوجه أن يجعل من تغليب من يشك في ارتيابه كالمنافقين على غيرهم. ويمكن أن يجعل من تغليب غير المرتابين على المرتابين، على أنه بعد التغليب صار الجميع بمنزلة غير المرتابين، فصار الشرط قطعيّ الانتفاء، فاستعمل "إن" فيه على سبيل الفرض للتبكيت والإلزام، ولا يخفى ما في هذا من التكلف. 5 هؤلاء هم غير المرتابين. هذا, وكما تستعمل "إن" في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة، تستعمل في مقام القطع بعدم وقوعه لنكتة أيضا، وذلك كالتبكيت، وإلزام الخصم، والمبالغة، ونحو ذلك. ومن هذا الاستعمال قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] . وقد تستعمل "إذا" في مقام الشك لنكتة؛ كالإشعار بأن الشك في الشرط لا ينبغي أن يكون؛ كقولك لمن قال: لا أدري هل يتفضل علي الأمير: إذا تفضل عليك فكيف يكون شكرك؟ للإشعار بأن الأمير لا ينبغي الشك في تفضله. وقد تستعمل في ذلك أيضا لتغليب المتصف بالشرط على غير المتصف به، ولكن استعمال "إذا" في مقام الشك نادر، بخلاف استعمال "إن" في مقام الجزم.

استطراد إلى التغليب: والتغليب باب واسع1 يجري في فنون كثيرة2؛ كقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] أُدخل شعيب -عليه السلام- في: {لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} بحكم التغليب؛ إذ لم يكن شعيب في ملتهم أصلا. ومثله قوله تعالى: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] , وكقوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] عدت الأنثى من الذكور بحكم التغليب3، وكقوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] عد إبليس من الملائكة

_ 1 لا يخفى أن التغليب معدود في المحسنات البديعية، فلا معنى لذكره هنا، وهو إعطاء أحد المتصاحبين أو المتشابهين حكم الآخر بجعله موافقا له في الهيئة أو المادة؛ فالأول كقوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} ، والثاني كالأبوين للأب والأم، وكالقمرين للقمر والشمس. وقيل: إن التغليب من المجاز المرسل لعلاقة المجاورة، أو من باب عموم المجاز، بأن يراد من "القانتين" مثلا الذوات المتصفة بالقنوت، ويصح بهذا أن يُلحَق التغليب بعلم البيان، والحق أنه ليس من المجاز؛ لأن المجاز نقل اللفظ من معنى إلى آخر، أما التغليب فهو كالمشاكَلَة الآتية في البديع، فإنما ينقل فيه المعنى من لباس إلى لباس لا اللفظ، وهذا إلى أنه لا علاقة فيه من مجاورة أو غيرها؛ لأن علاقة المجاورة تكون بين مدلولي اللفظين لا بين اللفظين. 2 أي: يجري في أساليب من الكلام لاعتبارات مختلفة غير محدودة ولا مضبوطة، وشأنه في ذلك شأن غيره من المحسنات البديعية. 3 هذا على أن "مِنْ" تبعيضية، ويجوز جعلها ابتدائية على أن المراد بالقانتين آباؤها الأولون كإبراهيم وإسحاق، والأول أبلغ لما في التغليب من الإشعار بأنها بلغت في طاعتها مبلغ أولئك الرجال القانتين حتى عدت منهم.

بحكم التغليب، وكقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] بتاء الخطاب، غُلِّب جانب "أنتم" على جانب "قوم"1. ومثله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] فيمن قرأ بالتاء2. وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] غلب المخاطبون في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} على الغائبين3 في اللفظ، والمعنى على إرادتهما جميعا؛ لأن "لعل" متعلقة بـ "خلقكم" لا بـ "اعبدوا"4، وهذا من غوامض التغليب. وكقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] فإن الخطاب فيه5 شامل للعقلاء والأنعام، فغلب فيه المخاطبون6 على الغُيَّب7 والعقلاء8 على الأنعام9. وقوله تعالى {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي: يبثّكم ويُكثركم في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد

_ 1 قيل: إن ذلك التفات من الغيبة إلى الخطاب، ورُدّ بأن الخطاب فيه مسبوق بخطاب مثله، فلم يجر على خلاف السياق حتى يكون التفاتا. 2 غلب فيها خطاب النبي في قوله تعالى قبل ذلك: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} على من ورد ذكرهم قبله في قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} . 3 في قوله: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . والمخاطبون هم الناس في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهم أمة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. 4 فلو تعلقت به لم يكن ذلك من التغليب؛ لأنه يراد به المخاطبون وحدهم. 5 أي: في قوله: {يَذْرَؤُكُمْ} . 6 أي: في قوله: {جَعَلَ لَكُمْ} . 7 هم: الأنعام. 8 هم: المخاطَبون. 9 لأنه جمع ما لا يعقل؛ فالأفصح فيه إفراد الضمير العائد عليه، لكنه غلب عليه العقلاء، فجمع الضمير.

والتناسل، فجعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير؛ ولذلك قيل: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} ولم يقل: "به" كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 1. واعلم أنه لما كانت هاتان الكلمتان لتعليق أمر بغيره -أعني الجزاء بالشرط- في الاستقبال2، امتنع في كل واحدة من جملتيهما الثبوت، وفي أفعالهما المضي؛ أعني: أن يكون كلتا الجملتين أو إحداهما اسمية، أو كلا الفعلين أو أحدهما ماضيا، ولا يخالف ذلك لفظا3؛ نحو: "إن أكرمتني أكرمتك، وإن أكرمتني أكرمك، وإن تكرمني أكرمتك، وإن تكرمني فأنت مكرم، وإن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس" إلا لنكتة ما4؛ مثل إبراز غير الحاصل في صورة الحاصل؛ إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه، كقولك: "إن اشترينا كذا" حال انعقاد الأسباب في ذلك، وإما لأن ما هو للوقوع كالواقع؛ كقولك: "إن مت كان كذا وكذا" كما سبق، وإما للتفاؤل، وإما

_ 1 سورة البقرة: 179، فقد جعل القصاص كالمنبع للحياة. 2 متعلق بمحذوف تقديره: كائنين في الاستقبال، ولا يتعلق بالمصدر، وهو "تعليق" لأنه حاصل في الحال لا في الاستقبال. 3 أما في المعنى: فالاستقبال باقٍ على حاله، ولو قلت: "إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس" لأن معناه: إن تعتدّ بإكرامي الآن أعتد بإكرامك أمس، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] ؛ لأن جواب الشرط فيه محذوف تقديره: فاصبر. وقد تستعمل "إن" في الماضي لفظا ومعنى باطّراد مع "كان" كقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] ، وعلى قلة مع غيرها؛ كقول أبي العلاء "من الطويل": فيا وطني إن فاتني بك سابق ... من الدهر فلينعم لساكنك البال وقد تستعمل "إذا" في الماضي كذلك، كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا} [الكهف: 96] ، وهذا استعمال لغوي لهما لا يحتاج إلى نكتة؛ كاستعمالها في الماضي لفظا فقط. 4 المثال الأخير على تقدير: "إن تعتد بإكرامي الآن أعتد بإكرامك أمس" كما سبق.

لإظهار الرغبة في وقوعه1؛ نحو: "إن ظفرتَ بحسن العاقبة فهو المرام"؛ فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر يكثر تصوره إياه، فربما يُخيل إليه حاصلا، وعليه قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] 2, وقد يَقْوَى هذا التخيل عند الطالب حتى إذا وَجَدَ حكم الحس بخلاف حكمه غلّطه تارة، واستخرج له محملا أخرى، وعليه قول أبي العلاء المعري "من البسيط": ما سرتُ إلا وطيف منك يصحبني ... سُرًى أمامي وتأويبا على أثري3 يقول: لكثرة ما ناجيت نفسي بكِ انتقشتِ في خيالي، فأعدكِ بين يدي مغلطا للبصر -بعلة الظلام- إذا لم يدركك ليلا أمامي، وأعدك خلفي إذا لم يتيسر لي تغليطه حين لا يدركك بين يدي نهارا. وإما لنحو ذلك. قال السكاكي4: أو للتعريض5؛ كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا

_ 1 التفاؤل للسامع، وهو ذكر ما يسرّه، والرغبة من المتكلم، والمثال المذكور صالح لهما. 2 ومعنى إظهار الرغبة في حقه -تعالى- إظهار كمال رضاه؛ لتنزّهه -تعالى- عن الرغبة. 3 هو لأحمد بن عبد الله المعروف بأبي العلاء المعري، والطيف: الخيال، السرى: السير ليلا، والتأويب: السير نهارا, مشتق من الأوب؛ لأن الغالب أنهم يسيرون ليلا ويئوبون إلى منازلهم نهارا، وفي البيت تعقيد ظاهر. 4 المفتاح ص132. 5 معطوف على ما ذكره السكاكي من الأسباب السابقة لإبراز غير الحاصل في صورة الحاصل، وإنما صرح الخطيب باسم السكاكي في هذا السبب مع أن ما سبق منقول عنه؛ لأن التعريض يحصل في ذلك، ولو عبر بالمضارع بدل الماضي، فلا يصلح نكتة للتعبير بالماضي دونه كالأسباب السابقة. وأجيب عن السكاكي بأن ذكر المضارع في ذلك لا يفيد التعريض؛ لكونه على أصله. والحق أنه يفيد؛ لأن مبنى التعريض فيه على نسبة الفعل إلى من لا يصح وقوعه منه، وهي حاصلة في المضارع كالماضي.

لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 15] وقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 209] . ونظيره في التعريض قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1. المراد: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟! والمنبه عليه {تُرْجَعُونَ} 2. وقوله تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 23, 24] إذ المراد: أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئا، ولا ينقذوكم إنكم إذًا لفي ضلال مبين؛ ولذلك قيل3: {آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} دون "بربي"، وأتبعه {فَاسْمَعُونِ} . ووجه حسنه4 تطلّب إسماع المخاطبين -الذين هم أعداء المُسْمِع- الحق على وجه لا يورثهم مزيد غضب، وهو ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل، ومواجهتهم بذلك، ويعين على قبوله5؛ لكونه أدخل في إمحاض النصح لهم، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] ، فإن من حق النسق من حيث الظاهر: "قل لا

_ 1 سورة يس, آية 22. وإنما كان نظيره ولم يكن منه؛ لخلوه عن أداة الشرط. 2 لأنه لولا التعريض لكان المناسب للسياق: "وإليه أرجع". وقد سبق التمثيل بالآية للالتفات، ولا منافاة بينه وبين التعريض. 3 في قوله تعالى بعد الآيتين 23، 24 السابقتين: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} . 4 أي: حسن هذا التعريض في قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} وما بعده. أما التعريض في قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فيفيد نسبته إليهم على وجه أبلغ من التصريح بنسبته إليهم. 5 أي: قبول الحق.

تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون". وكذا ما قبله1: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . قال السكاكي رحمه الله2: وهذا النوع من الكلام يسمى المُنْصِف. ومما يتصل بما ذكرناه أن الزمخشري قدر قوله تعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] عطفا على جواب الشرط في قوله: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} ، وقال: الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب3, فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم؛ يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارا. وردكم كفارا أسبق المضار عندهم وأولها؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم؛ لأنكم بذّالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه. هذا كلامه، وهو حسن دقيق، لكن في جعل {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} عطفا على جواب الشرط نظر؛ لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم؛ فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة؛ فالأولى أن يجعل قوله: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} عطفا على الجملة الشرطية؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 4. لو: وأما "لو" فهي للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط؛ فيلزم انتفاء الجزاء5؛ كانتفاء الإكرام في قولك: "لو جئتَني لأكرمتك" ولذلك قيل: هي لامتناع

_ 1 الضمير في قوله: "قبله" يعود إلى قوله: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ ... } الآية. 2 المفتاح ص133. 3 لأنه ينقلب فيه من المضي إلى المستقبل. 4 سورة آل عمران, آية 111، فإن قوله: {لَا يُنْصَرُونَ} معطوف على الجملة الشرطية. 5 يعني أن "لو" موضوعة للدلالة على امتناع الجزاء، وعلى أن امتناعه ناشئ عن امتناع الشرط، ولا يريد أن دلالتها على امتناع الشرط بالوضع، وعلى امتناع الجزاء باللزوم؛ فلا =

الشيء لامتناع غيره1، ويلزم كون جملتيها فعليتين، وكون الفعل ماضيا2؛ فدخولها على المضارع3 في نحو قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا4، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] بعد قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} 5 وفي قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] 6.

_ = يُعترض عليه بأن الشرط سبب في الجزاء، ولا يلزم من انتفاء السبب انتفاء المسبب؛ لأنه يجوز أن يكون له سبب آخر غيره. وإذا كان هذا معنى "لو" بالوضع؛ فإنه يلزمه أن العلم بامتناع الشرط لأجل العلم بامتناع الجزاء، وبهذا يكون لها معنيان: أحدهما وضعي، وهو الشائع في القرآن والحديث وأشعار العرب، كقول الحماسي "من المتقارب": ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر وقول أبي العلاء "من الطويل": ولو دامت الدُّولات كانوا كغيرهم ... رعايا ولكن ما لهن دوام وثانيهما عقلي، وهو المعتمد في علم المنطق، والشائع في مقام الاستدلال العقلي، وعليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ؛ لأن الغرض منه الاستدلال بامتناع الفساد على امتناع تعدد الآلهة دون العكس. 1 أي: لامتناع الجزاء لامتناع الشرط؛ لأن "لو" في كلامهم إنما تستعمل في الشرط الذي لا سبب سواه لجزائه، فإذا حصل حصل، وإذا انتفى انتفى. 2 ذهب المبرد إلى أنها قد تستعمل وضعا في المستقبل، فلا يلتمس لها فيه نكتة، كقول الشاعر "من الطويل": ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ... ومن دون رَمْسَيْنا من الأرض سَبْسَب لظل صدى صوتي وإن كنت رِمَّة ... لصوت صدى ليلي يَهَش ويطرب 3 إذ لم يقل: "مما كسبوا" كما قال: "مما كتبت أيديهم"؛ لأن كسبهم يتجدد، بخلاف ما كتبوه. 4 هذا هو الذي يدخل في معنى البلاغة من استعمال "لو" وغيره استعمال وضعي لا بلاغي. 5 فيكون المعنى في الآية أن امتناع عنتهم بسبب امتناع استمراره على إطاعتهم. 6 فلم يقل: "الله مستهزئ بهم" كما قالوا: "نحن مستهزءون"؛ لأن المضارع يفيد استمرار الاستهزاء على سبيل التجدد، وهو أبلغ من الاستمرار والثبوت الذي تفيده الجملة الاسمية.

ودخولها عليه في نحو قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السجدة: 12] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31] ؛ لتنزيله منزلة الماضي؛ لصدوره عمن لا خلاف في إخباره، كما نُزِّل {يَوَدُّ} منزلة "ود" في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2] 1. ويجوز أن يرد الغرض من لفظ "ترى" و"يود" إلى استحضار صورة2 رؤية المجرمين ناكسي الرءوس قائلين لما يقولون، وصورة رؤية الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات، وصورة وَدادة الكافرين لو أسلموا كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] . إذ قال: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} استحضارا3 لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة، من إثارة السحاب مسخرا بين السماء والأرض، تبدو في الأول كأنها قطع قطن مندوف، ثم تتضامّ متقلبة بين أطوار حتى يَعُدْن ركاما. وكقول تأبط شرا4 "من الوافر":

_ 1 لأن الفعل الواقع بعد "رب" المكفوفة يجب أن يكون ماضيا عند ابن السراج وأبي علي، والجمهور لا يوجبون ذلك. 2 الحق أن هذا إنما يكون في حكاية الحال الماضية، كما في قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18] . ولم يثبت في كلامهم حكاية الحال المستقبلة كما هنا، وقيل: إن ما هنا من حكاية الحال الماضية بعد تنزيل المضارع منزلة الماضي، وهو تكلف ظاهر. 3 هذا من استحضار الحال الماضية، فلا يصح قياس ما سبق عليه. 4 هذا لقب غلب عليه، واسمه: ثابت بن جابر بن سفيان، وقيل: إن الأبيات لأبي الغول الطهوي.

ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحا بطان1 بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صَحْصحان2 فقلت لها: كلانا نِضْو أرض ... أخو سفر فخلي لي مكاني3 فشدت شدة نحوي فأهوت ... لها كفي بمصقول يماني فأضربها بلا دَهَش فخرت ... صريعا لليدين وللجِران4 إذ قال: "فأضربها" ليصور لقومه الحالة التي تَشَجَّع فيها على ضرب الغول كأنه يُبصِّرهم إياها، ويتطلب منهم مشاهدتها, تعجيبا من جراءته على كل هول وثباته عند كل شدة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] ؛ إذ قال: {كُنْ فَيَكُونُ} دون "كن فكان", وكذا قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

_ 1 فهم: قبيلة تأبط شرا، ورحا بطان: موضع. 2 قوله: "تهوي" بمعنى تسرع، والسهب: الفلاة، والصحصحان: ما استوى من الأرض. 3 النضو: المهزول من كل شيء، فِعْل بمعنى مفعول، كأنه نُضي وأُخرج عن لحمه من جدبها. 4 صريعا: فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، والجران في الأصل: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره.

تمرينات على إفراد المسند، واسميته، وفعليته، وتقييده، وترك تقييده تمرين1: 1- بين الداعي إلى فعلية المسند وظرفيته في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] . 2- لِمَ أتى المتنبي بالمسند فعلا ثم ظرفا في قوله: تدبر شرق الأرض والغرب كفه ... وليس لها يوما عن الجود شاغل؟ تمرين2: 1- بين ما يستفاد من اسمية المسند وفعليته في قول الشاعر: سلام على القبر الذي لا يجيبنا ... ونحن نحيي تربه ونخاطبه يهوَى الثناء مبرز ومقصر ... حب الثناء طبيعة الإنسان تمرين3: 1- افرق بين الدوام الذي تفيده اسمية المسند بمعونة القرائن، والدوام الذي تفيده فعليته بمعونة القرائن. 2- أيهما أحسن في تقدير متعلق الظرف والجار والمجرور؟ وهل يدخل هذا في البلاغة أو لا يدخل؟ تمرين4: 1- لِمَ عبر بـ "إن" في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] ؟ 2- لِمَ عبر بـ "إذا" في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 1-3] ؟

أغراض تنكير المسند: وأما تنكيره: فإما لإرادة عدم الحصر والعهد1؛ كقولك: "زيد كاتب، وعمرو شاعر"، وإما للتنبيه على ارتفاع شأنه أو انحطاطه على ما مر في المسند إليه؛ كقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] أي: هدى لا يُكْتَنَه كُنْهُه2. أغراض التخصيص بالإضافة والوصف، وتركه. وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف: فلتكون الفائدة أتم كما مر3. وأما ترك تخصيصه بهما فظاهر مما سبق4.

_ 1 لأن تعريف المسند إذا كان بأداة عهدية أو بمضمر أو اسم إشارة أفاد العهد، وإذا كان بأداة جنسية أو بموصول أفاد الاستغراق المستلزم للحصر، وقد يفيد في هذا غير الحصر كما سيأتي. 2 فالتنكير في ذلك للتعظيم، ومن التنكير للتحقير قول قيس بن جروة يخاطب عمرو بن هند "من الطويل": غدرت بأمر كنت أنت دعوتنا ... إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد وقد يترك الغدرَ الفتى، وطعامه ... إذا هو أمسى، حلبة من دم الفَصْد 3 من أن زيادة الخصوص توجب تمام الفائدة، وإنما ذكر الإضافة هنا مع الوصف لاتحادها معه في ذلك الغرض، وقد ذكر السعد أن جعل معمولات المسند كالحال ونحوه من التقييد، وجعل الإضافة والوصف من التخصيص إنما هو مجرد اصطلاح؛ لأنه لا فرق بينهما في ذلك، ولا يخفى أن أغراض الإضافة والوصف في المسند إليه تأتي هنا أيضا. ومن التخصيص بالإضافة قول الشاعر "من الكامل": حَمِيَ الحديد عليهم فكأنه ... وَمَضَان برق أو شعاع شُموس ومن التخصيص بالوصف قول الشاعر "من الطويل": وكنت امرأ لا أسمع الدهر شِبْعة ... أسب بها إلا كشفت غطاءها 4 أي: في ترك تقييد المسند من أنه يكون لمانع من تربية الفائدة، وذلك كقصد الإخفاء عن السامعين ونحو ذلك.

تعريف المسند: غرض التعريف: وأما تعريفه1 فلإفادة السامع إما حكما على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر معلوم له كذلك2. وإما "لإفادته" لازم حكم بين أمرين كذلك3. تفسير هذا أنه قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف، ويكون السامع عالما باتصافه بإحداهما دون الأخرى4. فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى تعمد إلى اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ، وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية وتجعله خبرا، فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه بالثانية، كما إذا كان للسامع أخ يسمى زيدا وهو يعرفه بعينه واسمه، ولكن لا يعرف أنه أخوه، وأردت أن تُعرّفه أنه أخوه، فتقول له: "زيد أخوك"، سواء عرف أن له أخا ولم يعرف أن زيدا أخوه، أو لم يعرف أن له أخا أصلا5، وإن عرف أن له أخا في الجملة6 وأردت أن تعينه عنده قلت: "أخوك زيد"، أما إذا لم يعرف أن له أخا أصلا فلا

_ 1 أخّره هنا عن الكلام على التنكير، وذكر بينهما التخصيص بالإضافة والوصف، ولا يخفى أن أغراض الإضافة من أغراض التعريف، وأن أغراض الوصف من أغراض التوابع، وما كان أحسن لو رتب الكلام هنا كما رتبه في باب المسند إليه. 2 لا يقال: إنه يلزم من علم السامع بكل منهما أن يكون هذا إخبارا بمعلوم له؛ لأن المراد أنه يعلم كلا منهما، ويجهل إسناد أحدهما إلى الآخر، وإنما جعل الحكم في ذلك على أمر معلوم لوجوب تعريف المسند إليه عند تعريف المسند؛ ولهذا حُكم بالقلب في قول القطامي السابق: ولا يك موقف منك الوداعا 3 لازم الحكم هو ما سماه في باب الإسناد الخبري لازم فائدة الخبر؛ كأن تقول لمن مدحك أمس في غيبتك: أنت المادح لي أمس؟ 4 هذا لا يمنع علمه بالأخرى في ذاتها كما سبق. 5 هذا ينافي ما سبق له من وجوب أن يعرف السامع كلا من المسند إليه والمسند بإحدى طرق التعريف؛ لأن هذا يلزمه أن يعرف أن له أخا في الجملة، فإذا لم يعرف ذلك قيل له: "زيد أخ منك" بالتنكير. 6 أي: وكان يعرف زيدا بعينه واسمه.

يقال ذلك؛ لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطَب أصلا، فظهر الفرق بين قولنا: "زيد أخوك" وقولنا: "أخوك زيد". وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه، وعرف أنه كان من إنسان انطلاق، ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره، فأردت أن تعرفه أن زيدا هو ذلك المنطلق1, فتقول: "زيد المنطلق"، وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد قلت: "المنطلق زيد"2. وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه، وهو يعرف معنى جنس المنطلق، وأردت أن تعرفه أن زيدا متصف به، فتقول: "زيد المنطلق"، وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت: "المنطلق زيد". لا يقال: "زيد" دال على الذات، فهو متعين للابتداء -تقدم أم تأخر- "والمنطلق" دال على أمر نسبي، فهو متعين للخبرية -تقدم أو تأخر- لأنا نقول: "المنطلق" لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق، وإنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرا، و"زيد" لا يجعل خبرا إلا بمعنى صاحب اسم "زيد"، وإنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ. ثم التعريف بلام الجنس3 قد لا يفيد قصر المعرف على ما حُكم عليه به؛ كقول الخنساء "من الوافر":

_ 1 على هذا تكون "ال" في المنطلق للعهد الذهني، أما فيما بعده فهي فيه للجنس كما صرح به. 2 ضابط هذا أن ما يعرف السامع اتصاف الذات به منهما يجب تقديمه وجعله مسندا إليه، وقد اختلف النحويون في إعراب ذلك على أربعة مذاهب: فقيل, وهو المشهور: إن الأول هو المبتدأ، وقيل: إن المبتدأ أعرفهما، وقيل: إن المبتدأ هو المعلوم عند السامع منهما، وقيل: إن كلا منهما يجوز أن يكون مبتدأ وخبرا. 3 أي: في المسند؛ لأن الكلام فيه. وإن كان التعريف بلام الجنس في المسند إليه يفيد القصر أيضا كما سيأتي.

إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا1 وقد يفيد قصره2؛ إما تحقيقا كقولك: "زيد الأمير" إذا لم يكن أمير سواه، وإما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه3؛ كقولك: "عمرو الشجاع"، أي: الكامل في الشجاعة، فتخرج الكلام في صورة تُوهِم أن الشجاعة لم توجد إلا فيه؛ لعدم الاعتداد بشجاعة غيره؛ لقصورها عن رتبة الكمال. ثم المقصور قد يكون نفس الجنس مطلقا، أي: من غير اعتبار تقييده بشيء كما مر، وقد يكون الجنس، باعتبار تقييده بظرف أو غيره، كقولك: "هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرا" فإن المقصور هو الوفاء في هذا الوقت لا الوفاء مطلقا. وكقول الأعشى "من الخفيف": هو الواهب المائة المصطفا ... ة إما مخاضا وإما عشارا4 فإنه قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين، لا هبتها مطلقا، ولا الهبة مطلقا. وهذه الوجوه الثلاثة -أعني العهد، والجنس للقصر تحقيقا، والجنس للقصر مبالغة- تمنع جواز العطف بالفاء ونحوها5 على ما حُكم عليه بالمعرف بخلاف المنكر؛ فلا يقال: "زيد المنطلق وعمرو"، ولا: "زيد الأمير وعمرو"، ولا "زيد الشجاع وعمرو".

_ 1 هو لتماضر بنت عمرو المعروفة بالخنساء. وتريد بقولها: "على قتيل" كل قتيل، بقرينة المقام؛ لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعم في أصل الوضع، وإني أرى أنه لا حاجة إلى هذا العموم، ويكفي أن يراد "إذا قبح البكاء على أي قتيل". وإنما لم يفد تعريف "الحسن" القصر؛ لأن كلامها للرد على من يتوهم قبح البكاء على قتيلها كغيره، والرد عليه يكفي فيه إخراج البكاء على قتيلها من القبح إلى الحسن، وإنما يصح القصر إذا كان الكلام للرد على من يسلّم حسن البكاء على قتيلها، ولكنه يدعي أن بكاء غيره حسن أيضا، وهذا لا يلائمه أول البيت، وفائدة تعريف "الحسن" ادعاء أنه معلوم لا ينكره أحد؛ لأن "ال" الجنسية تفيد هذا كما سبق. 2 أي: قصره على المسند إليه. 3 فالأول قصر تحقيقي، والثاني ادعائي، وتعريف المسند إليه بلام الجنس يفيد القصر كما سبق، ولكنه يفيد قصر المسند إليه على المسند؛ كقولك: "الأمير زيد، والشجاع عمرو" وتعريف المسند بالعكس، كما سبق؛ ولهذا لا يتفاوت المعنى فيهما من جهة القصر. 4 هو لميمون بن قيس المعروف بالأعشى في مدح قيس بن معديكرب أبي الأشعث الكندي. والمخاض: الحوامل من النوق اسم جمع، والعشار: جمع عشراء وهي من النوق كالنفساء من النساء، أو التي مضى لحملها عشرة أشهر. 5 أي: مما يفيد الجمع من حروف العطف؛ كالواو وثم، وإنما امتنع العطف بذلك لأنه ينافي القصر.

أغراض كون المسند جملة: وأما كونه جملة1؛ فإما لإرادة تقوِّي الحكم بنفس التركيب كما سبق2، وإما لكونه سببيا، وقد تقدم بيان ذلك3. وفعليتها لإفادة التجدد4، واسميتها لإفادة الثبوت؛ فإن من شأن الفعلية أن تدل على التجدد، ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت، وعليهما قول رب العزة: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} 5

_ 1 هذا يقابل قوله فيما سبق: "وأما إفراده"، وقد وسّط بينهما الأحوال السابقة؛ لدخولها في حال الإفراد. 2 أي: في الكلام على الخبر الفعلي في تقديم المسند إليه، نحو: "هو يعطي الجزيل". 3 أي: بيان كونه سببا عند قوله: "وأما إفراده" وقيل: إن كل ما خبره جملة يفيد التقوي ولو كانت اسمية، وعلى هذا تكون الجملة المسببية مفيدة للتقوي أيضا، فيفيد قولك: "زيد أبوه منطلق" تقوي الحكمة بخلاف: "أبو زيد منطلق". ولا يرد على الحصر في الغرضين أن خبر ضمير الشأن جملة وليس للتقوي؛ ولا للسببية؛ لأن جملة الخبر عن ضمير الشأن في حكم المفرد لتفسيرها له، وقيل: إنها تفيد التقوي لما فيها من البيان بعد الإبهام. 4 الضمير في قوله: "وفعليتها" يعود إلى الجملة الواقعة مسندا، فليس في هذا تكرار مع ما سبق؛ لأنه كان في الفعل الواقع مسندا، وهو مفرد لا جملة، وفي هذا إشارة إلى أن الجملة الاسمية إذا كان خبرها فعليا تفيد التجدد. 5 سورة البقرة, آية: 14. ويريد بهذا وما بعده الاستشهاد على إفادة الفعلية التجدد، والاسمية الثبوت بقطع النظر عن أصل الموضوع؛ لأن أصله فيهما إذا كانا مسندين، وهما فيها ذكره من الشواهد ليسا كذلك، والشاهد في قوله: {آمَنَّا} وقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} .

وقوله تعالى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] ؛ إذ أصل الأول: "نسلم عليك سلاما"، وتقدير الثاني: سلام عليكم، كأن إبراهيم -عليه السلام- قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به1 أخذا بأدب الله تعالى في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] وقد ذُكر له وجه آخر فيه دقة، غير أنه بأصول الفلاسفة أشبه، وهو أن التسليم دعاء للمسلم عليه بالسلامة من كل نقص، ولهذا أُطلق، وكمال الملائكة لا يتصور فيه التجدد؛ لأن حصوله بالفعل مقارن لوجودهم، فناسب أن يحيوا بما يدل على الثبوت دون التجدد، وكمال الإنسان متجدد؛ لأنه بالقوة، وخروجه إلى الفعل بالتدريج، فناسب أن يُحيَّا بما يدل على التجدد دون الثبوت, وفيه نظر2. وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] ، أي: أأحدثتم دعاءهم أم استمر صمتكم عنه؟ فإنه كانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعائهم، فقيل: لم يفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم وما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم. وقوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55] أي: أأحدثت عندنا تعاطي الحق فيما نسمعه منك أم اللعب أي: أحوال الصبا بعد مستمرة عليك؟ وأما قوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} في جواب {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] فلإخراج ذواتهم من جنس المؤمنين مبالغة في تكذيبهم؛ ولهذا أطلق قوله:

_ 1 لأن الجملة الاسمية في ذلك تفيد الثبوت والدوام، بخلاف الفعلية. 2 وجهه أن إبراهيم لم يكن يعلم وقت السلام أنهم ملائكة، بدليل قوله: {قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} على أن ذلك يقتضي أن يكون رفع "سلام" في تحية البشر بعضهم لبعض غير بليغ، ولا يقول بهذا أحد.

{بِمُؤْمِنِينَ} ، وأكد نفيه بالباء1، ونحوه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] . شرطية جملة المسند: وشرطيتها لما مر2. وظرفيتها لاختصار الفعلية؛ إذ هي مقدرة بالفعل على الأصح3.

_ 1 فكل هذا كان له أثره في أنه لم يقل: "ولم يؤمنوا" مع أنه هو المطابق لقولهم: "آمنا". 2 أي: في الكلام على تقييد المسند إذا كان فعلا بالشرط، ولا تكرار في هذا أيضا مع ما سبق؛ لأن الكلام هنا في شرطية الجملة الواقعة مسندا، وفيما سبق في تقييد الفعل إذا كان مسندا بالشرط. 3 كان الأحسن "إذ الظرف"؛ لأن ظاهر عبارته يقتضي أن الجملة الظرفية مقدرة باسم الفاعل في غير الأصح، ولا يخفى فساده، وقد سبق توجيه الأصح في الكلام على إفراد المسند.

تمرينات على تعريف المسند وتنكيره وكونه جملة: تمرين1: 1- لِمَ نُكِّر المسند في قول الشاعر: آراؤه وعطاياه ونعمته ... وعفوه رحمة للناس كلهم؟ 2- لِمَ عُرف المسند بالإضافة أولا، ونُكر ثانيا في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ؟ تمرين2: 1- لِمَ كان المسند جملة اسمية في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] ؟ 2- لِمَ كان المسند جملة فعلية في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ؟ تمرين3: 1- لِمَ نكر المسند في قول الشاعر: لئن صدفت عنا فرُبَّت أنفس ... صَوَادٍ إلى تلك النفوس الصوادف؟ ولِمَ جاءت الجملة الأولى فيه فعلية, والجملة الثانية اسمية؟ 2- بين الغرض من تعريف المسند بأل في قول الشاعر: وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو أم مخزوم، ووالدك العبد تمرين4: 1- لِمَ نكر المسند وأضيف في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ؟ ولِمَ عرف بالإضافة في المعطوف بعد تنكيره في المعطوف عليه؟

2- بين المسند والمسند إليه في قول الشاعر: أبوك حباب سارق الضيف برده ... وجدي يا حجّاج فارس شمّرا تمرين 5: 1- ما هو الضابط الذي يميز بين المسند والمسند إليه في حال تعريفهما؟ وما الفرق بين نظر علم المعاني وعلم النحو في هذه الحالة؟ 2- لِمَ عرف المسند في قول الشاعر: كلثم، أنتِ الهم يا كلثم ... وأنت دائي الذي أكتم؟ ولِمَ نكر في قول الآخر: خير الصنائع في الأنام صنيعة ... تنبو بحاملها عن الإذلال وقول الآخر: وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... بي الحال حتى صار إبليس مِن؟

أغراض تأخير وتقديم المسند: أغراض التأخير: وأما تأخيره؛ فلأن ذكر المسند إليه أهم كما سبق1. أغراض التقديم: وأما تقديمه فإما لتخصيصه بالمسند إليه2 كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] ، وقولك: "قائم هو" لمن يقول: "زيد إما قائم أو قاعد"، فيردده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما. ومنه قولهم: "تميمي أنا", وعليه قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] أي: بخلاف خمور الدنيا فإنها تغتال العقول3؛ ولهذا لم يقدم الظرف في قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] لئلا يفيد ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى4. وإما للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت5؛ كقوله "من الطويل": له هِمَم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجلّ من الدهر6

_ 1 أي: في الكلام على تقديم المسند إليه، فأغراض تأخير المسند هي ما سبق من أغراض تقديم المسند إليه. 2 الباء داخلة على المقصور، فيكون المسند إليه في ذلك مقصورا، والمسند مقصورا عليه. 3 فالمعنى أن عدم الغول مقصور على الكون في خمور الجنة، أو أن الغول مقصور على عدم الحصول فيها، وهذا على ما قيل من اعتبار النفي في جانب المسند أو المسند إليه. 4 لأنها المعتبرة في مقابلة القرآن، والقصر إنما يكون باعتبار النظير الذي يُتوهم فيه المشاركة، والمراد أن التقديم يوهم ذلك باعتبار الغالب؛ لأنه قد يكون للاهتمام لا للتخصيص. ومن تقديم المسند للتخصيص قول الشاعر "من الوافر": رضينا قسمة الجبار فينا ... لنا علم وللأعداء مال وقول الآخر: لك القلم الأعلى الذي بشَباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصل 5 لأن النعت لا يتقدم على المنعوت, بخلاف الخبر مع المبتدأ. 6 هو لبكر بن النطاح في مدح أبي دلف العجلي, وقيل: إنه لحسان بن ثابت في مدح النبي صلى الله عليه وسلم. والشاهد في قوله: "له همم" لأنه لو عكس لأوهم أن الجار والمجرور صفة، والجملة بعده هي الخبر، مع أن الكلام مسوق لمدحه لا لمدح هممه، ويصح أن يكون التقديم لإفادة التخصيص، وهو أبلغ.

وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف: 24] . وإما للتفاؤل1. وإما للتشويق إلى ذكر المسند إليه، كقوله "من البسيط": ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحا وأبو إسحاق والقمر2 وقوله "من الوافر": وكالنار الحياة فمن رماد ... وأواخرها وأولها دخان3 قال السكاكي رحمه الله4: "وحق هذا الاعتبار تطويل الكلام في المسند5، وإلا لم يحسن ذلك الحُسْنَ".

_ 1 كقول ابن الرومي "من الخفيف": يمن الله طلعة المهرجان ... كل يُمْنٍ على الأمير الهجان وقول الآخر "من الكامل": سعدت بغرة وجهك الأيام ... وتزينت ببقائك الأعوام 2 هو لمحمد بن وهيب في مدح أبي إسحاق المعتصم، وإنما لم يجعل "ثلاثة" مبتدأ و"شمس الضحا" وما عطف عليه خبرا؛ لأنه لا يخبر بمعرفة عن نكرة. 3 هو لأحمد بن عبد الله المعروف بأبي العلاء المعري. يعني أن أول الحياة وآخرها وهما الصبا والشيب ليسا بشيء، وأن وسطها وهو الشباب هو المعتد به، وقد شبهها في ذلك بالنار في أحوالها الثلاث. 4 المفتاح ص119. 5 كما في بيت ابن وهيب، وكما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] . وقد يكون تقديم المسند لمجرد الاهتمام، كقول الشاعر "من الوافر": سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام وقد يكون لإظهار التألم؛ كقول المتنبي "من الطويل": ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا ليس له من صداقته بد

تنبيه: كثير1 مما ذكر في هذا الباب, والذي قبله غير مختص بالمسند إليه والمسند؛ كالذكر، والحذف، وغيرهما مما تقدمت أمثلته. والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما لا يخفى عليه اعتباره في غيرهما2.

_ 1 أما القليل منه فيختص بالبابين؛ كضمير الفصل، وكون المسند فعلا، والذي لا يختص بهما لا يلزم أن يجري في كل ما عداهما؛ كالتعريف، فإنه لا يجري في الحال والتمييز. 2 أي: من المفعولات ونحوهما، وسيأتي بيان شيء من هذا في أحوال متعلقات الفعل.

تمرينات على التقديم والتأخير وغيرهما

تمرينات على التقديم والتأخير وغيرهما: تمرين1: 1- لماذا قدم المسند في قولهم: "ثلاثة يُذهبن الغم والحزن: الماء، والخضرة، والوجه الحسن"؟ 2- لماذا عبر بـ "إن" دون "إذا" في قول الشاعر: إن دام هذا ولم تحدث له غِيَر ... لم يُبك ميْت ولم يُفرَح بمولود؟ تمرين2: 1- هل تأخير المسند للتخصيص, أو لتقوية الحكم في قول الشاعر: ريم على القاع بين البان والعلَم ... أحل سفك دمي الأشهر الحرم؟ لماذا قدم المسند في قول الشاعر: ثلاثة ليس لها إياب ... الوقت والجمال والشباب؟ تمرين3: 1- هل تقديم المسند للتخصيص, أو لمجرد الاهتمام في قول الشاعر: وليس بمغنٍ في المودة شافع ... إذا لم يكن بين الضلوع شفيع؟ 2- لماذا قدم المسند في قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ؟ تمرين4: 1- هل تقديم المسند للتخصيص, أو لمجرد الاهتمام في قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونس: 41] ؟ 2- لماذا قدم المسند في قول الشاعر: إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت؟ تمرين5: 1- لماذا عبر بـ "إذا" دون "إن" في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9] ؟ 2- كيف صحّت التثنية في قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك" , مع أنها تثنية عمر وعمرو؟ ولماذا أُوثرت تثنية الأول على الثاني؟

الباب الرابع: القول في أحوال متعلقات الفعل

الباب الرابع: القول في أحوال متعلَّقات الفعل 1 حال الفعل مع المفعول والفاعل: حال الفعل مع المفعول كحاله مع الفاعل2؛ فكما أنك إذا أسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك أن تفيد وقوعه منه، لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط، كذلك إذا عدّيته إلى المفعول كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه، لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان ليعلم التباسه بهما؛ فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباسه به من جهة وقوعه منه، والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. أما إذا أُريد الإخبار بوقوعه في نفسه من غير إرادة أن يعلم ممن وقع في نفسه3 أو على من وقع، فالعبارة عنه أن يقال: كان ضرب، أو وقع ضرب، أو وُجد، أو نحو ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد. أغراض حذف المفعول به: وإذا تقرر هذا فنقول: الفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله ولم يُذكَر له مفعول فهو على ضربين:

_ 1 يُلحق بالفعل ما في معناه؛ كاسم الفاعل، واسم المفعول، ونحوهما. 2 يريد بهذا أن يمهد للكلام على المفعول به. وقد ذكر في هذا الباب ثلاثة أحوال لمتعلقات الفعل: أولها حذف المفعول به، ومثله في ذلك باقي المتعلقات من المفعولات والحال والتمييز وغيرها، وثانيها تقديم المفعول ونحوه من المتعلقات على الفعل, وثالثها تقديم بعض معمولات الفعل على بعض. وقد ترك الكلام على غير هذه الأحوال الثلاثة اكتفاء بما ذكره في التنبيه الواقع في آخر القول في أحوال المسند؛ فقد ذكروا فيه أن أمرها يجري في غير المسند إليه والمسند كما يجري فيهما. 3 لا داعي إلى لفظ "في نفسه" هنا؛ ولهذا حذفها السعد في شرحه على التلخيص.

الأول: أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق، أو نفيه عنه كذلك، وقولنا: "على الإطلاق" أي: من غير اعتبار عمومه وخصوصه، ولا اعتبار تعلقه بمن وقع عليه، فيكون المتعدي حينئذ بمنزلة اللازم، فلا يُذكر له مفعول؛ لئلا يتوهم السامع أن الغرض الإخبار به باعتبار تعلقه بالمفعول1، ولا يقدر أيضا؛ لأن المقدر في حكم المذكور2. وهذا الضرب قسمان3؛ لأنه إما أن يجعل الفعل مطلقا كناية4 عن الفعل, متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة، أو لا5. الثاني6: كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أي: من يحدث له معنى العلم ومن لا يحدث. قال السكاكي7: ثم إذا كان المقام خطابيا لا استدلاليا8 أفاد العموم في أفراد

_ 1 مع أنه في هذا الضرب يقصد إثباته في نفسه من غير اعتبار تعلقه بمفعول، ولكل منهما مقام خاص به، فإذا قيل: فلان يعطي؛ كان هذا لمن يجهل إعطاءه، وإذا قيل: فلان يعطي الدنانير، كان هذا لمن يعلم إعطاءه ويجهل أنه يعطي الدنانير. 2 قيل: إنه في هذه الحالة لا يسمى المفعول محذوفا، ولكن هذه نظرة نحوية، أما هنا فيعد محذوفا، ويبحث عن نكتته، بدليل أنه لا يبحث عن مثل هذا في اللازم. 3 جرى عبد القاهر على حصر هذا الضرب في القسم الثاني، وجعل القسم الأول من الضرب الثاني الآتي؛ لأن له عنده مفعولا مقصودا محذوفا لدلالة الحال ونحوه عليه، ولا يؤثر في ذلك محاولة المتكلم أن ينسيه نفسه لغرض من الأغراض الآتية، فلا يرى عبد القاهر فيه من الكناية ما يراه الخطيب، كما يأتي. 4 الكناية في هذا من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم على سبيل الادعاء؛ لأن المقيد لا يكون لازما للمطلق إلا على هذا التقدير. 5 يعني أو لا يجعل الفعل كذلك. 6 أي: القسم الثاني من الضرب الأول، وهو الذي لا يجعل الفعل فيه مطلقا كناية عن الفعل, متعلقا بمفعول مخصوص. 7 المفتاح ص116 و123. 8 المقام الخطابي هو الذي يكتفي بالظن؛ كالمدح والفخر ونحوهما، والاستدلالي هو الذي يطلب فيه اليقين.

الفعل بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما تحكّم، ثم جعل قولهم في المبالغة: "فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع" محتملا لذلك1، ولتعميم المفعول2 كما سيأتي. وعده الشيخ عبد القاهر3 مما يفيد أصل المعنى على الإطلاق من غير إشعار بشيء من ذلك4. والأول5 كقول البحتري يمدح المعتز ويعرّض بالمستعين بالله "من الخفيف": شجو حساده وغيظ عِدَاه ... أن يرى مبصر ويسمع واعي6 أي: أن يكون ذا رؤية وذا سمع، يقول: محاسن الممدوح وآثاره لم تخف على من له بصر؛ لكثرتها واشتهارها، ويكفي في معرفة أنها سبب لاستحقاقه الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع؛ لظهور دلالتها على ذلك لكل أحد, فحسّاده وأعداؤه يتمنون ألا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يسمع بها كي يخفى استحقاقه للإمامة, فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إياها. فجعل كما ترى مطلق الرؤية كناية عن رؤية محاسنه وآثاره، ومطلق السماع كناية عن سماع

_ 1 أي: لتعميم أفراد الفعل، فيكون المعنى: يفعل كل إعطاء وكل منع وكل صلة وكل قطع. 2 في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] من الضرب الثاني، أي: كل أحد، فيكون المعنى عليه في ذلك: يعطي كل أحد ... إلخ. 3 دلائل الإعجاز ص101, 102. 4 أي: من شمول أفراد الفعل أو المفعول، وهذا هو المختار؛ لأنه المفهوم فيما بين الناس، وما ذكره السكاكي تكلف لا وجه له. 5 أي: القسم الأول من الضرب الأول, وهو الذي يُجعل الفعل فيه مطلقا، كناية عن الفعل، متعلقا بمفعول مخصوص. 6 هو للوليد بن عبيد المعروف بالبحتري، والشجو: الحزن، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل ليصح حمل الخبر عليه.

أخباره1. وكقول عمرو بن معديكرب "من الطويل": فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرّت2 لأن غرضه أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق بمدحهم والافتخار بهم؛ حتى يلزم منه بطريق الكناية مطلوبه وهو أنها أجرّته3. وكقول طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب "من الطويل": جزى الله عنا جعفرا حين أُزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلّت أبوا أن يَمَلونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لاقوه منا لملت هم خلطونا بالنفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلت4 فإن الأصل: "لملتنا، وأدفأتنا, وأظلتنا" إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدل على مطلوبه بطريق الكناية5. فإن قلت: لا شك أن قوله: "ألجئوا" أصله: "ألجئونا" فلأي معنى حُذف المفعول منه؟ قلت: الظاهر أن حذفه لمجرد الاختصار؛

_ 1 هذا بادعاء الملازمة بينهما كما سبق، وفائدة ذلك الإشارة إلى شهرة محاسنه مبالغة في مدحه، ومثل هذا يفوت بالتصريح بالمفعول وترك الكناية بذلك عنه، وعلى مذهب عبد القاهر في هذا القسم لا يكون في البيت كناية، وإنما يكون قصده من أول الأمر أن يرى مبصر محاسنه، ولكنه حذفها ادعاء لشهرتها، وأن رؤية القصر لا تقع إلى عليها، وهو معنى حسن أيضا. 2 قوله: "أجرت" من الإجرار، وهو في الأصل شق لسان الفصيل لئلا يرضع، والمراد أنها حبست لسانه عن مدحهم على سبيل الاستعارة، وإنما حبست لسانه عن مدحهم؛ لأنها لم تبل في الحرب بلاء حسنا. 3 قال عبد القاهر في بيان معناه على مذهبه: إنه يقصد أجرتني، ولكنه حذف المفعول لتتوافر العناية على إثبات الفعل للفاعل، ويوهم أن إجرارها كان عاما له ولغيره. 4 هي لطفيل بن عوف الغنوي يمدح بني جعفر، وقوله: "أزلقت" بمعنى زلت ولم تثبت، وعلى هذا يتحد معناه ومعنى قوله: فزلت. ويجوز أن يكون المراد زلق ما تحتها، فيتغايران، وكلاهما كناية عن سوء حالهم. 5 جعل عبد القاهر حذف المفعول في ذلك؛ لتتوفر الغاية على إثبات الفعل للفاعل.

لأن حكمه حكم ما عُطف عليه، وهو قوله: "خلطونا"1. الضرب الثاني2: أن يكون الغرض إفادة تعلقه بمفعول، فيجب تقديره بحسب القرائن3. ثم حذفه من اللفظ: إما للبيان بعد الإبهام، كما في فعل المشيئة إذا لم يكن في تعلقه بمفعوله غرابة4 كقولك: لو شئت جئت، أو لم أجئ؛ أي: لو شئت المجيء أو عدم المجيء؛ فإنك متى قلت "لو شئت" علم السامع أنك علقتَ المشيئة بشيء، فيقع في نفسه أن هنا شيئا تعلقت به مشيئتك بأن يكون أو لا يكون، فإذا قلت: "جئت أو لم أجئ" عرف ذلك الشيء، ومنه قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] . وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الأنعام: 39] وقول طرفة "من الطويل": فإن شئت لم تُرقِل، وإن شئت أرقلت ... مخافة ملوي من القِدّ محصد5 وقول البحتري "من الكامل": لو شئت عدت بلاد نجد عودة ... فحللت بين عقيقه وزَرُوده6

_ 1 جعله عبد القاهر مثل الحذف في "وأدفأت وأظلت", وما ذهب إليه الخطيب أقوى وأدق. 2 أي: من الفعل المتعدي الذي لم يُذكر له مفعول. 3 يشير بهذا إلى أن حذف المفعول لا بد فيه من قرينة تدل عليه. 4 مثله فعل الإرادة والمحبة ونحوهما، نحو: "لو أحب لأعطاكم". ولا يلزم أن يكون شرطا كما ذكر في هذه الأمثلة، ومن مجيئه غير شرط قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] ، ولكن الظاهر أن الحذف في الآية ليس للبيان بعد الإبهام. 5 هو لعمرو بن العبد المعروف بطرفة. وقوله: لم ترقل بمعنى: لم تسرع، والضمير لناقته، والملوي: السوط المفتول، والقد: الجلد المشقوق، والمحصد: المفتول المحكَم. 6 هو للوليد بن عبيد المعروف بالبحتري، وقوله: عدت بلاد نجد بمعنى عدت إليها، وعقيق نجد وزروده: موضعان به. وخطابه للسحاب الوارد في قوله قبل هذا البيت في مطلع القصيدة: يا عارضا متلفعا ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده

وقوله "من الكامل": لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما ولم تهدم مآثر خالد1 فإن كان في تعلق الفعل به غرابة ذكرت المفعول لتقرره في نفس السامع وتؤنسه به، يقول الرجل يخبر عن عزه: لو شئت أن أرد على الأمير رددت، وإن شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته. وعليه قول الشاعر "من الطويل": ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع2 فأما قول أبي الحسين علي بن أحمد الجوهري أحد شعراء الصاحب ابن عباد "من الطويل": فلم يبق مني الشوق غير تفكري ... فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا فليس منه؛ لأنه لم يرد أن يقول: فلو شئت أن أبكي تفكرا بكيت تفكرا، ولكنه أراد أن يقول: أفناني النحول فلم يبق مني وفي غير خواطر تجول، حتى لو شئت البكاء فمريت جفوني، وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده، ولخرج منها بدل الدمع التفكر؛ فالمراد بالبكاء في الأول الحقيقي، وفي الثاني غير الحقيقي، فالثاني لا يصلح لأن يكون تفسيرا للأول3. وإما لدفع أن يتوهم السامع في أول الأمر إرادة شيء غير المراد؛ كقول البحتري: وكم ذدت عني من تحامل حادث ... وسَوْرة أيام حَزَزْن إلى العظم4

_ 1 هو للبحتري أيضا. والمراد بحاتم: حاتم الطائي، وبخالد: خالد بن إصبع النبهاني الذي نزل عليه امرؤ القيس الشاعر. 2 هو لأبي يعقوب إسحاق بن حسان الخريمي "بالراء" في رثاء أبي الهيذام عامر بن عمارة الخريمي كما في "البيان والتبيين" و"نهاية الأرب"، وهو من قصيدة له مطلعها "من الكامل": قضى وطرا منك الحبيب المودع ... وحل الذي لا يستطاع فيدفع والشاهد في قوله: "لو شئت أن أبكي دما"؛ لأن بكاء الدم غريب. 3 لهذا ذكر الأول ولم يحذف. 4 هو للوليد بن عبيد المعروف بالبحتري يمدح أبا الصقر الشيباني. وقوله ذدت: بمعنى دفعت، وكم: خبرية في موضع نصب مفعول به مقدم، ومميزها "من تحامل حادث". وقيل: إن التقدير كم مرة، فتكون "من" زائدة في الإثبات على قول بعض النحاة، والسورة: الشدة والصولة.

إذ لو قال: "حززن اللحم" لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم ولم ينته إلى العظم، فترك ذكر اللحم ليبرئ السامع من هذا الوهم، ويصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم1. وإما لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه؛ إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه2؛ كقول البحتري أيضا "من المنسرح": قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مِثْلا3 أي: قد طلبنا لك مثلا في السؤدد والمجد والمكارم، فحذف المثل؛ إذ كان غرضه أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل4, ولأجل هذا المعنى بعينه عكس ذو الرمة في قوله "من الوافر": ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيما أن يكون أصاب مالا5 فإنه أعمل الفعل الأول الذي هو "أمدح" في لفظ اللئيم، والثاني الذي هو "أرضي" في ضميره؛ إذ كان غرضه إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحا دون

_ 1 لا شك أنه يمكن تأدية هذا الغرض بتأخير المفعول، بأن يقول: حززن إلى العظم اللحم، ولكن تأخير المفعول لا يجعل لذكره فائدة. 2 هذه نكتة الإتيان بصريح اسم المفعول ثانيا، وأما نكتة حذفه أولا فهي لزوم التكرار مع ذكره ثانيا. 3 المثل: الشبيه والنظير, والبيت من قصيدة له في مدح المعتز. 4 إنما كان هذا غرضه؛ لأنه آكَد في كمال المدح، ولو عكس فصرح أولا وأضمر ثانيا لفات هذا الغرض؛ لأنه قد يتوهم عود الضمير على غيره. 5 هو لغيلان بن عقبة المعروف بذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة، وبعده "من الوافر": ولكن الكرام لهم ثنائي ... فلا أجزي إلى ما قيل قالا والضمير في قوله: "لأرضيه" يعود إلى "لئيما"، وقوله: "أن يكون" في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المحذوفة.

الإرضاء. ويجوز أن يكون سبب الحذف في بيت البحتري قصد المبالغة في التأدب مع الممدوح، بترك مواجهته بالتصريح بما يدل على تجويز أن يكون له مثل؛ فإن العاقل لا يطلب إلا ما يجوز وجوده1. وإما للقصد إلى التعميم2 في المفعول، والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره، مع الاختصار، كما تقول: "قد كان منك ما يؤلم" أي: ما الشرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان3، وعليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] أي: يدعو كل أحد4. وإما للرعاية على الفاصلة5 كقوله سبحانه وتعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1، 3] أي: وما قلاك6. وإما لاستهجان ذكره، كما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "ما رأيت منه، ولا رأى مني"7 تعني: العورة. وإما لمجرد الاختصار؛ كقولك: "أصغيت إليه" أي: أُذُني، "وأغضيت عليه" أي: بَصَري. ومنه قوله تعالى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] أي: ذاتك. وقوله تعالى:

_ 1 يجوز أيضا أن يكون الحذف فيه لقصد البيان بعد الإبهام. 2 التعميم يؤخذ في الحقيقة من قرينة المقام، ولا يؤخذ من الحذف؛ لوجوده مع الذكر، ولكن الحذف له فيه تأثير في الجملة؛ لأن تقدير مفعول خاصٍ فيه دون آخر ترجيحٌ بلا مرجح، وبهذا يحمل على العموم، وهذا إلى ما فيه من الاختصار كما ذكره بعد. 3 بقرينة أن المقام مقام مبالغة. 4 الآية تفيد العموم تحقيقا، والمثال يفيده مبالغة. 5 لا يخفى أن رعاية الفاصلة يُقصد لمحسن بديعي فيكون مطلوبا من أجله، ويقدر في البلاغة بقدره. 6 سيأتي أنه حذف أيضا لصونه عن نسبة {قَلَى} إليه، وهذا إلى أن ذكره في {وَدَّعَكَ} يغني عن ذكره في {قَلَى} فلا يكون حذفه لمجرد ذلك المحسن البديعي. 7 هو من قولها: "كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، فما رأيت منه ولا رأى مني".

{أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41] أي: بعثه الله. وقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] أي: إنه لا يماثل، "تعلمون" أو ما بينه وبينها من التفاوت، أو أنها لا تفعل كفعله، كقوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} 1 [الروم: 40] ويحتمل أن يكون المقصود نفس الفعل من غير تعميم، أي: وأنتم من أهل العلم والمعرفة2. ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم -من جعل الأصنام لله أندادا- غاية الجهل. ومما عد السكاكي3 الحذف فيه لمجرد الاختصار قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا} 4 [القصص: 23، 24] والأولى أن يجعل لإثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق كما مر5، وهو ظاهر قول الزمخشري، فإنه قال: تُرك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول، ألا ترى أنه رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا؟ وكذلك قولهما: {لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} المقصود منه السقي لا المسقيّ. واعلم أنه قد يشتبه الحال في أمر الحذف وعدمه لعدم تحصل معنى الفعل، كما في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}

_ 1 والكاف للتنظير للوجه الأخير، وهو أنها لا تفعل كفعله. 2 فيكون من القسم الثاني من الضرب الأول. 3 المفتاح ص133. 4 ومحل الشاهد فيه: "يسقون، تذودان، نسقي". 5 فيكون من القسم الثاني من الضرب الأول، وجعله عبد القاهر مما قصد فيه إلى مفعول خاص ثم حُذف لتتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل.

[الإسراء: 110] فإنه يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء، فلا يقدّر في الكلام محذوف، وليس بمعناه؛ لأنه لو كان بمعناه لزم إما الإشراك أو عطف الشيء على نفسه؛ لأنه إن كان مسمى أحدهما غير مسمى الآخر لزم الأول، وإن كان مسماهما واحدا لزم الثاني، وكلاهما باطل، تعالى كلام الله عز وجل عن ذلك؛ فالدعاء في الآية بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين، أي: سموه الله أو الرحمن أيا ما تسموه فله الأسماء الحسنى1 كما يقال: "فلان يدعى الأمير" أي: يسمى الأمير. وكما في قراءة من قرأ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] 2 بغير تنوين، على القول بأن سقوط التنوين لكون الابن صفة واقعة بين علمين، كما في قولنا: "زيد بن عمرو قائم" فإنه قد يُظن أن فعل القول فيه لحكاية الجملة كما هو أصله3. فقيل: تقدير الكلام: "عزير ابن الله معبودنا"، وهذا باطل؛ لأن التصديق والتكذيب إنما ينصرفان إلى الإسناد لا إلى وصف ما يقع في الكلام موصوفا بصفة، كما إذا حكيت عن إنسان أنه قال: "زيد بن عمرو سيد" ثم كذبته فيه، ولم يكن تكذيبك أن يكون زيدٌ ابنَ عمرو، ولكن أن يكون زيد سيدا، فلو كان التقدير ما ذكره، لكان الإنكار راجعا إلى أنه معبودهم، وفيه تقرير أن عزيرا ابن الله, تعالى الله عن ذلك، فالقول في الآية بمعنى الذكر4؛ لأن الغرض الدلالة على أن اليهود قد بلغوا في الرسوخ في الجهل والشرك إلى أنهم كانوا يذكرون عزيرا هذا الذكر، كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بالغلو في أمر صاحبهم وتعظيمه: "إني أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما؛ فهم يقولون أبدا: زيد الأمير" تريد أنه كذلك يكون

_ 1 الحذف فيه لمجرد الاختصار. 2 وهذا من باب التنظير في اشتباه الحال في أمر الحذف وعدمه؛ لأن ما هنا ليس من حذف المفعول به. 3 أي: كما هو الأصل في القول؛ لأن الأصل فيه أن يكون لحكاية الجملة. 4 أي: على قراءة "ابن" بغير تنوين، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير محذوف في ذلك ليكون جملة.

ذكرهم له إذا ذكروه. واعلم أن لحذف التنوين من "عزير" في الآية وجهين1: أحدهما: أن يكون لمنعه من الصرف لعُجمته وتعريفه كعازَرَ2. والثاني: أن يكون لالتقاء الساكنين؛ كقراءة من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] بحذف التنوين من {أَحَدٌ} ، وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] بحذف التنوين من "سابق" ونصب "النهار" فقيل له: وما تريد؟ فقال: "سابقٌ النهارَ". فالمعنى على هذين الوجهين كالمعنى على إثبات التنوين، فعزير مبتدأ "وابن الله خبره"، و"قال" على أصله3, والله أعلم.

_ 1 أي: غير الوجه السابق، وهو أن حذف تنوينه لكون الابن صفة واقعة بين عَلَمين، فيحذف تنوين العلم قبله، فتكون الوجوه في ذلك ثلاثة. 2 من يصرف "عزيرا" مع عجمته وتعريفه يرى أن خفته عارضت ذلك فصرفته. 3 من الدخول على الجملة، ولا حاجة إلى تأويله بمعنى الذكر، كما أُوِّل به في الوجه السابق الذي جُعل فيه الابن صفة لا خبرا. هذا، وقد يكون حذف المفعول لأغراض أخرى: منها إخفاؤه خوفا عليه، ومنها تعينه حقيقة أو ادعاء، ومنها صونه عن اللسان، أو صون اللسان عنه. وقد قيل في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] : إنه يجوز أن يكون حذف مفعول "قلى" لصونه -صلى الله عليه وسلم- عن التصريح بتعلقه به وإن كان على جهة النفي، وهذا بخلاف "ودعك" لأنه يدل على الترك فقط، ولا يدل على البغض كما يدل عليه "قلى"، وقد تقول: "نحمد ونشكر" أي: الله، فتحذفه لتعينه، وتقول: "لعن الله وأخزى" أي: الشيطان، فتحذفه لصون لسانك عنه.

تمرينات على الذكر والحذف: تمرين1: 1- لماذا حُذف المفعول في قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 2] ؟ 2- من أي ضربَيْ حذف المفعول قول الشاعر: بَرِّدْ حشاي إن استطعت بلفظة ... فلقد تضر إذا تشاء وتنفع؟ تمرين2: 1- لماذا ذُكر الحال في قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19] ؟ 2- من أي ضربي حذف المفعول حذفه أولا, وثانيا في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] ؟ تمرين3: 1- لماذا ذكر المفعول المطلق في قوله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21] ؟ 2- لماذا حذف وصف المضاف إلى المفعول في قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] ؟ 3- لماذا حذف المفعول في قول الشاعر: إذا بعدت أبلت وإن قرُبت شَفَت ... فهجرانها يُبلي ولُقيانها يَشفي؟ تمرين4: 1- من أي ضربي حذف المفعول حذفه في قول الشاعر: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع؟ 2- لماذا حذف المفعول في قول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يُفقر والإقدام قتال؟

أغراض تقديم المتعلقات: أغراض تقديم المتعلقات على الفعل: وأما تقديم مفعوله ونحوه1 عليه؛ فلرد الخطأ في التعيين2, كقولك: "زيدًا عرفتُ" لمن اعتقد أنك عرفتَ إنسانا وأنه غير زيد، وأصاب في الأول دون الثاني، وتقول لتأكيده وتقريره: "زيدا عرفت لا غيره"؛ ولذلك لا يصح أن يقال: "ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس"؛ لتناقض دلالتي الأول والثاني3، ولا أن تُعقب الفعل المنفي بإثبات ضده، كقولك: "ما زيدا ضربت ولكن أكرمته"؛ لأن مبنى الكلام ليس على أن الخطأ في الضرب فتردّه إلى الصواب في الإكرام، وإنما هو على أن الخطأ في المضروب حين اعتُقد أنه زيد، فرده إلى الصواب أن تقول: ولكن عمرا4. وأما نحو قولك: "زيدا عرفته"5 فإن قُدر المفسَّر المحذوف قبل المنصوب؛ أي: عرفت زيدا عرفته، فهو من باب التوكيد؛ أعني تكرير اللفظ، وإن قدر بعده، أي: "زيدا عرفت عرفته" أفاد التخصيص. وأما6 نحو قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ}

_ 1 أي: نحوه من كل متعلقات الفعل التي يجوز تقديمها عليه، وذلك كالظرف، والجار والمجرور، والحال، ونحوها. 2 أو في اعتقاد الشركة، وذلك كقولك: "زيدا عرفتُ وحده" كما سبق في تقديم المسند إليه. 3 يريد بالأول "ما زيدا ضربت"، وبالثاني "ولا أحدا من الناس"؛ لأن الثاني يناقض ما يفيده الأول من ضرب غير زيد من الناس، وإنما لا يصح أن يقال إذا كان التقديم للتخصيص لا لمجرد الاهتمام. 4 هذا أيضا على أن التقديم للتخصيص, لا لمجرد الاهتمام. 5 نحوه كل ما يكون التقديم فيه من باب الاشتغال، وقد ذهب الزمخشري إلى أن التقديم فيه للتخصيص مطلقا، وإني أرى أنه لا يفيد إلا التوكيد؛ لأنه يفيد التخصيص من غير الاشتغال، فالعدول إليه لا يكون إلا لغرض غير التخصيص، ولأنه يجب تقدير الفعل قبل الاسم الظاهر ليوافق مفسِّره في تقدمه على الضمير. 6 يريد بهذا تقييد ما ذكره من حكم التقديم في الاشتغال.

[فصلت: 17] فيمن قرأ بالنصب1 فلا يفيد إلا التخصيص؛ لامتناع تقدير: أما فهدينا ثمود2. وكذلك إذا قلت: "بزيد مررت" أفاد أن سامعك كان يعتقد مرورك بغير زيد، فأزلت عنه الخطأ مخصصا مرورك بزيد دون غيره3. والتخصيص في غالب الأمر لازم للتقديم؛ ولذلك يقال في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] : معناه نخصك بالعبادة، لا نعبد غيرك، ونخصك بالاستعانة, لا نستعين غيرك, وفي قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] : معناه إن كنتم تخصونه بالعبادة, وفي قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] : أخرت صلة الشهادة في الأول وقدمت في الثاني؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الثاني اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم, وفي قوله تعالى: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] : معناه إليه لا إلى غيره, {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء: 79] : معناه لجميع الناس من العرب والعجم؛ على أن التعريف للاستغراق، لا لبعضهم المعين على أنه للعهد؛ أي: للعرب، ولا لمسمى الناس على أنه للجنس؛ لئلا يلزم من الأول4

_ 1 يعني: نصب "ثمود". 2 لوجوب الفصل بين "أما" والفاء، وإنما التقدير: أما ثمود فهدينا هديناهم، وقد يقال: إن هذا إنما يقتضي امتناع ذكره لامتناع تقديره؛ لأن كثيرا مما يقدر يمتنع ذكره ولا يمنع تقديره؛ كالضمير المستتر وجوبا ونحوه. والحق أن التقدير في ذلك لإصلاح اللفظ لا للتخصيص؛ لأن غير ثمود مثلها في ذلك الحكم. 3 مثل تقديم الجار والمجرور في ذلك تقديم غيره، كقولك: يوم الجمعة سرت، وتأديبا ضربت، وماشيا حججت. ومن تقديم الجار والمجرور للتخصيص قوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 30] . 4 كونه للعهد.

اختصاصه بالعرب دون العجم؛ لانحصار الناس في الصنفين، ومن الثاني1 اختصاصه بالإنس دون الجن؛ لانحصار من يُتصوّر الإرسال إليهم من أهل الأرض فيهما. وعلى تقدير الاستغراق لا يلزم شيء من ذلك؛ لأن التقديم لما كان مفيدا لثبوت الحكم للمقدَّم ونفيه عما يقابله؛ كان تقديم "للناس" على "رسولا" مفيدا لنفي كونه رسولا لبعضهم خاصة2؛ لأنه هو المقابل لجميع الناس، لا لبعضهم مطلقا ولا لغير جنس الناس3. وكذلك يُذْهَب في معنى قوله تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] إلى أنه تعريض بأن الآخرة التي عليها أهل الكتاب فيما يقولون: "إنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وإنه لا تمسهم النار فيها إلا أياما معدودات، وإن أهل الجنة لا يتلذذون في الجنة إلا بالنسيم والأرواح العَبِقة والسماع اللذيذ"4 ليست الآخرة5 وإيقانهم بمثلها ليس من الإيقان بالتي هي الآخرة عند الله في شيء، أي: بالآخرة يوقنون لا بغيرها كأهل الكتاب. ويفيد التقديم في جميع ذلك -وراء التخصيص- اهتماما بشأن المقدم؛ ولهذا قدر المحذوف في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} مؤخرا، وأورد قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فإن الفعل فيه مقدم، وأجيب بأن تقديم الفعل هناك6 أهم؛ لأنها أول سورة نزلت. وأجاب السكاكي7 بأن {بِاسْمِ رَبِّكَ} متعلق بـ "اقرأ" الثاني8، ومعنى الأول: افعل القراءة وأوجِدها، على نحو ما تقدم في قولهم: "فلان يعطي ويمنع"، يعني: إذا لم يُحمَل على العموم9, وهو بعيد10.

_ 1 كونه للجنس. 2 يعني قومه من العرب؛ لأنهم هم الذين يتوهم أنه أُرسل إليهم دون غيرهم. 3 لأن كلا منهما لا يقابل جميع الناس، وإنما يقابل الأول تعريف العهد، ويقابل الثاني تعريف الجنس. هذا, ويجوز أن يكون "للناس" متعلقا بقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ} فلا يكون فيه تقديم، ولا تتعين اللام فيه للاستغراق وإن كان هو الظاهر. 4 لأنهم ينكرون أن تكون فيها لذائذ جسمانية. 5 جملة "ليس" واسمها وخبرها خبر "أن" في قوله: "بأن الآخرة ... إلخ". 6 أي: في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} . 7 المفتاح ص127. 8 في قوله بعده: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} . 9 أي: العموم في المفعول؛ فإن السكاكي يجعله محتملا للعموم في المفعول، وللعموم في أفراد الفعل، وعلى هذا يكون "اقرأ" الأول منزلا منزلة اللازم. 10 لأنه خلاف ظاهر نظم الآيتين؛ لبعد ما بين "اقرأ" الثاني والجار والمجرور الذي يراد تعليقه به. هذا، وقد يأتي التقديم لأغراض أخرى: منها مجرد الاهتمام، وقصد التبرك، والالتذاذ، وموافقة كلام السامع، ونحو ذلك، كقولك: "العلم طلبت، ومحمدا اتبعت, وليلى أحببت" ومن ذلك قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 84] .

أغراض تقديم بعض المعمولات على بعض: وأما تقديم بعض معمولاته على بعض فهو: إما لأن أصله التقديم ولا مقتضي للعدول عنه1؛ كتقديم الفاعل على المفعول2 نحو: "ضرب زيد عمرا"، وتقديم المفعول الأول على الثاني، نحو: "أعطيت زيدا درهما". وإما لأن ذكره أهم، والعناية به أتم3.

_ 1 قد سبق أن مثل هذا لا يصح أن يعد في وجوه البلاغة؛ لأن الكلام معه لا يفيد معنى ثانويا يعتد به. 2 تقديم الفاعل على المفعول لا يدخل في تقديم المعمولات؛ فذكره هنا استطراد، ولبيان اختلاف الغرض عند تقديم كل منهما على الآخر. 3 لا بد أن يكون هذا لغرض من الأغراض كما سيأتي في الأمثلة؛ لأن لا يكفي -كما ذكر عبد القاهر- أن يقال: قُدّم للعناية من غير معرفة وجهها.

فيقدم المفعول على الفاعل إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه، لا وقوعه ممن وقع منه؛ كما إذا خرج رجل على السلطان وعاث في البلاد وكثر منه الأذى، فقُتل، وأردت أن تخبر بقتله، فتقول: "قَتَلَ الخارجيَّ فلانٌ" بتقديم "الخارجي"؛ إذ ليس للناس فائدة في أن يعرفوا قاتله، وإنما الذي يريدون علمه هو وقوع القتل به ليخلُصوا من شره. ويقدم الفاعل على المفعول: إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل ممن وقع منه، لا وقوعه على من وقع عليه، كما إذا كان رجل ليس له بأس ولا يُقدّر فيه أن يَقتل، فقتل رجلا، وأردت أن تخبر بذلك، فتقول "قتل فلان رجلا" بتقديم القاتل؛ لأن الذي يعني الناس من شأن هذا القتل ندوره وبعده من الظن، ومعلوم أنه لم يكن نادرا ولا بعيدا من حيث كان واقعا على من وقع عليه، بل من حيث كان واقعا ممن وقع منه. وعليه قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] ، قدم المخاطبين1 في الأولى دون الثانية؛ لأن الخطاب في الأولى للفقراء، بدليل قوله تعالى: {مِنْ إِمْلَاقٍ} ، فكان رزقهم أهم عندهم من رزق أولادهم، فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم، والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل قوله: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} ؛ فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع؛ فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم؛ لأن حاصل، فكان2 أهم؛ فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم. وإما لأن في التأخير إخلالا ببيان المعنى؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ

_ 1 يعني غيرهم في قوله: {نَرْزُقُكُمْ} في الأولى، وقوله: {وَإِيَّاكُمْ} في الثانية. 2 أي: رزق أولادهم.

فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] فإنه لو أخّر {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} عن {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} لتُوهم أن {مِنْ} متعلقة بـ {يَكْتُمُ} ، فلم يفهم أن الرجل من آل فرعون1. أو التناسب, كرعاية الفاصلة، نحو: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} 2. وإما لاعتبار آخر مناسب3. وقسم السكاكي4 التقديم للعناية -مطلقا5- قسمين: أحدهما: أن يكون أصل ما قدم في الكلام هو التقديم ولا مقتضى للعدول عنه؛ كالمبتدأ المعرَّف6؛ فإن أصله التقديم على الخبر؛ نحو: "زيد عارف" وكذي الحال المعرف، فإن أصله التقديم على الحال، نحو: "جاء زيد راكبا"، وكالعامل؛ فإن أصله التقديم على معموله، نحو: "عرف زيد عمرا، وكان زيد عارفا، وإن زيدا عارف"، وكالفاعل؛ فإن أصله التقديم على المفعولات وما يُشبهها من الحال والتمييز، نحو: "ضرب زيد الجاني بالسوط يوم الجمعة أمام بكر ضربا شديدا تأديبا له، ممتلئا من الغضب"، و"امتلأ الإناء ماء"، وكالذي يكون في حكم المبتدأ من مفعولي باب

_ 1 فالتقديم في ذلك لدفع اللبس؛ لأن الأصل عند اختلاف النعوت تقديم النعت المفرد ثم الظرف ثم الجملة. 2 [سورة طه: الآية 67] ، وقد سبق أن مثل هذا إنما يفوت به محسن بديعي، فتكون منزلته في البلاغة بقدر الغرض منه، ويمكن أن يكون تقديم {فِي نَفْسِهِ} على {خِيفَةً} ؛ لأنه لو أخر عنه لتوهم تعلقه به لا بقوله: {فَأَوْجَسَ} وهو المقصود. 3 كإفادة التخصيص في نحو: "جاء راكبا زيد"، كما ذهب إليه ابن الأثير، وهو خلاف مذهب الجمهور. 4 المفتاح ص127. 5 أي: في المعمولات وغيرها. 6 أما المنكر فإنه يتقدم عليه الخبر؛ لتسويغ الابتداء به، وكذلك صاحب الحال المنكر.

"علمت"1 نحو: "علمت زيدا منطلقا"، أو في حكم الفاعل من مفعولي باب "أعطيت" و"كسوت"2؛ نحو: "أعطيت زيدا درهما وكسوت عمرا جبة"3، وكالمفعول المتعدَّى إليه بغير واسطة فإن أصله التقديم على المتعدَّى إليه بواسطة؛ نحو: "ضربت الجاني بالسوط". وكالتوابع, فإن أصلها أن تذكر بعد المتبوعات4. ثانيهما: أن تكون العناية بتقديمه والاعتناء بشأنه لكونه في نفسه نُصْبَ عينك، والتفات خاطرك إليه في التزايد، كما تجدك قد مُنيتَ بهجْر حبيبك وقيل لك: ما تتمنى؟ تقول: "وجه الحبيب أتمنى" وعليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} [الأنعام: 100] أي: على القول5 بأن {لِلَّهِ شُرَكَاءَ} مفعولا {وَجَعَلُوا} . أو لعارض يورثه ذلك6: كما إذا توهمت أن مخاطَبك ملتفت الخاطر إليه، ينتظر أن تذكر، فيبرز في معرض أمر يتجدد في شأنه التقاضي ساعة فساعة، فمتى تجد له مجالا للذكر صالحا أوردته، نحو قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] قُدم فيه المجرور لاشتمال ما قبله على سوء معاملة أهل القرية الرسل من إصرارهم على تكذيبهم، فكان مظنة أن يلعن السامع -على مجرى العادة- تلك القرية، ويبقى مُجيلا في فكره: أكانت كلها كذلك أم كان فيها قطر

_ 1 بابه كل مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر. 2 بابه كل مفعولين أولهما فاعل في المعنى. 3 فكل من زيد وعمرو في حكم الفاعل؛ لأن زيدا هو الآخذ والدرهم مأخوذ، وعمرا هو اللابس والجبة ملبوسة. 4 فلا تتقدم عليها، ولا يتقدم عليها غيرها بعدها؛ كالحال في نحو: "جاء زيد الطويل راكبا". 5 هناك قول في هذه الآية: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} بأن "شركاء الجن" هما المفعولان، والجار والمجرور متعلق بشركاء. ولا يخفى أن الاستشهاد جارٍ عليه أيضا؛ لأن الشاهد في تقديم "الله" لكونه في نفسه مما يُلتفَت إليه. 6 معطوف على قوله: "لكونه في نفسه" والمقابلة ظاهرة.

-دانٍ أم قاصٍ- منبت خير؟ منتظرا لإلمام الحديث به، بخلاف ما في سورة القصص1. أو كما إذا وُعدت2 ما تستبعد وقوعه من جهتين؛ إحداهما أدخل في تبعيده من الأخرى؛ فإنك -حال التفات خاطرك إلى وقوعه باعتبارهما- تجد تفاوتا في إنكارك إياه قوة وضعفا بالنسبة، ولامتناع إنكاره بدون القصد إليه يستتبع تفاوته ذلك تفاوتا في القصد إليه والاعتناء بذكره، فالبلاغة توجب أنك -إذا أنكرت- تقول في الأول3: شيء حاله في البعد عن الوقوع هذه أنى يكون؟ لقد وُعدت هذا أنا وأبي وجدي, فتقدم المنكر على المرفوع4. وفي الثاني: لقد وُعدت أنا وأبي وجدي هذا, فتؤخر. وعليه قوله تعالى في سورة النمل: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا} [النمل: 68] , وقوله تعالى في سورة "المؤمنون": {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} [المؤمنون: 83] فإن ما قبل الأولى: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} وما قبل الثانية: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} , فالجهة المنظور فيها هناك كونهم أنفسهم وآباؤهم ترابا، والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما، ولا

_ 1 هو قوله تعالى في قصة موسى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص: 20] . وقد جاء الكلام فيها على أصله من تأخير الجار والمجرور؛ لأنه ليس فيها من ذلك ما يقتضي تقديمهما في الآية الأولى لتبكيت أولئك القوم بكون البعيد عمّا شاهدوا ينصح لهم ما لم ينصحوه لأنفسهم. 2 معطوف على قوله: كما إذا توهمت. 3 أي: في الحال الأول، وهو ما كانت جهته أدخل في تبعيد ذلك، فتجعل العناية بذكره أهم، والثاني هو ما كانت جهته أضعف في تبعيد ذلك، فلا تكون هناك عناية بذكره قبل غيره. 4 المنكر هو اسم الإشارة "هذا" لأنه هو المستبعد، والمرفوع هو مؤكِّد نائب الفاعل "أنا" وما عُطف إليه.

شبهة أن الأول أدخل عندهم في تبعيد البعث1. أو كما إذا عرفت في التأخير مانعا2 كما في قوله تعالى في سورة "المؤمنون": {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ} [المؤمنون: 33] بتقديم المجرور على الوصف3؛ لأنه لو أُخِّر عنه -وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل في صلة الموصول، وتمامه: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} - لاحتمل أن يكون من صلة الدنيا، واشتبه الأمر في القائلين: إنهم من قومه أم لا, بخلاف قوله تعالى في موضع آخر منها: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [المؤمنون: 24] فإنه جاء على الأصل4؛ لعدم المانع، وكان في قوله تعالى في سورة طه: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70] للمحافظة على الفاصلة، بخلاف قوله تعالى في سورة الشعراء: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 48] . وفيما ذكره نظر من وجوه: أحدها: أنه جعل تقديم {لِلَّهِ} على {شُرَكَاءَ} للعناية والاهتمام، وليس كذلك؛ فإن الآية مسوقة للإنكار التوبيخي، فيمتنع أن يكون تعلق {وَجَعَلُوا} بـ {لِلَّهِ} منكرا من غير اعتبار تعلقه بـ {شُرَكَاءَ} ، إذ لا ينكر أن يكون جعل "ما" متعلقا به, فيتعين أن يكون إنكار تعلقه به باعتبار تعلقه بـ {شُرَكَاءَ} , وتعلقه بـ {شُرَكَاءَ} كذلك

_ 1 لأنهم صاروا فيها إلى تراب، ولم يبق لهم فيها عظام، وقد قيل في سر التقديم والتأخير في الآيتين: إن قوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا} جاء على أسلوب ما قبله: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} ، فقدم المفعول الثاني لـ "وُعد"، كما قدم خبر "كان" على المعطوف على اسمها، ولا شك أن الخبر كمفعول لها. 2 معطوف على قوله: "كما إذا وُعدتَ". 3 المجرور "قومه"، والوصف "الذين". 4 من تقديم الصفة على الحال، وهو الجار والمجرور؛ لأنه متأخر الرتبة على التابع.

منكرا باعتبار تعلقه بـ "الله"، فلم يبق فرق بين التلاوة وعكسها1. وقد عُلم بهذا أن كل فعل متعد إلى مفعولين لم يكن الاعتناء بذكر أحدهما إلا باعتبار تعلقه بالآخر؛ إذا قدم أحدهما على الآخر لم يصح تعليل تقديمه بالعناية. وثانيها: أنه جعل التقديم للاحتراز عن الإخلال ببيان المعنى، والتقديم للرعاية على الفاصلة من القسم الثاني، وليسا منه2. وثالثها: أن تعلق "من قومه" بـ "الدنيا" على تقدير تأخره غير معقول المعنى إلا على وجه بعيد3.

_ 1 يعني من هذه الجهة، فلا ينافي هذا ما سبق له في الكلام على حذف المسند، وهو أن تقديم "لله" على "شركاء" لإفادة استعظام أن يتخذ له شريك ملكا كان أو جنا أو غيرهما. ويمكن الجواب عن السكاكي بأنه جعل تقديم "الله" لكونه نصب العين، وهذا يوجب تقديمه عنده، وإن كان ما سيقت له الآية من الإنكار التوبيخي يحصل عند تأخيره. 2 لأن المراد به تقديم ما حقه التأخير، والجار والمجرور في قوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... } [المؤمنون: 33] حال من الملأ، واسم الموصول صفة لقومه لا للملأ كما ذهب إليه السكاكي. فلا يكون الحال حقه في التأخير عنها؛ لأنها ليست صفة لصاحبه، وكذلك تقديم هارون على موسى في قوله: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70] لأن المتعاطفين بالواو ليس من حق أحدهما التأخر عن الآخر. وقد أجيب عن السكاكي بأن تقسيمه التقديم للعناية مبني على أن العناية في القسم الأول ترجع إلى مجرد أن التقديم فيه هو الأصل، وفي القسم الثاني ترجع إلى الأمور التي ذكرها، وليس مبنيا على أن التقديم في القسم الأول تقديم ما أصله التقديم، وفي القسم الثاني تقديم ما حقه التأخير حتى يصح الاعتراض عليه بذلك. 3 أجيب عن هذا بأن احتمال ذلك فيه، ولو كان بعيدا، يكفي في إثبات ما ذكره السكاكي في نكتة تقديمه، ولكن الأوجه من هذا أن يجعل المانع من تأخيره طول الصفة بالصلة وما عطف عليها، فلو أخر عنها لطال الفصل بين ضمير "قومه" ومرجحه.

تمرينات على التقديم والتأخير

تمرينات على التقديم والتأخير: تمرين1: 1- لماذا قدم الظرف على الفعل في قول الشاعر: أبعد المشيب المنقضي في الذوائب ... تحاول وصل الغانيات الكواعب؟ 2- هل تقديم الجار المجرور للتخصيص, أو لمجرد الاهتمام في قول الشاعر: على الأخلاق خطوا الملك وابنوا ... فليس وراءها للعز ركن؟ تمرين2: 1- لماذا قدم المفعول الثاني على نائب الفاعل في قول الشاعر: أفي الحق أن يعطى ثلاثون شاعرا ... ويحرم ما دون الرضا شاعر مثلي؟! 2- لماذا قدم الجار والمجرور على متعلقه, وعلى الفاعل في قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] ؟ تمرين3: 1- ما الغرض من تقديم المفعول على الفعل في قول الشاعر: صهوة الجو اعتلوا تحسبهم ... جمع أفلاك على الخيل تسامى؟ 2- ما الغرض من تقديم الجار والمجرور على الفعل في قول الشاعر: إذا شئت يوما أن تسود عشيرة ... فبالحلم سُدْ لا بالتسرع والشتم؟ تمرين4: 1- لماذا قدم المفعول على الفعل في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 3، 4] ؟ 2- هل تقديم الجار والمجرور للاهتمام أو للتخصيص في قول الشاعر: بك اقتدت الأيام في حسناتها ... وشيمتها لولاك هم وتكريب؟

3- ما الغرض من تقديم بعض المعمولات على بعض في قول الشاعر: ألقت مقاليدها الدنيا إلى رجل ... ما زالت وقفا عليه الجود والكرم إلى هنا تم بحمد الله الجزء الأول كما قسمه المؤلف رحمه الله "ويليه الجزء الثاني وأوله: القصر في علم المعاني" "وقد أرجأنا فهرس المحتويات إلى آخر الجزء الثاني حيث ينتهي علم المعاني"

المجلد الثاني

المجلد الثاني تكملة الفن الأول: علم المعاني الباب الخامس: القول في القصر القصر القصر حقيقي، وغير حقيقي 1: وكل واحد منهما ضربان: قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على

الموصوف1. والمراد الصفة المعنوية2 لا النعت. والأول من الحقيقي كقولك: "ما زيد إلا كاتب" إذا أردت أنه لا يتصف بصفة غير الكتابة، وهذا لا يكاد يوجد في الكلام؛ لأنه ما من متصور إلا وتكون له صفات تتعذر الإحاطة بها أو تتعسر3. والثاني منه كثير؛ كقولنا: "ما في الدار إلا زيد"4. والفرق بينهما ظاهر؛

فإن الموصوف في الأول لا يمتنع أن يشاركه غيره في الصفة المذكورة، وفي الثاني يمتنع، وقد يقصد به1 المبالغة لعدم الاعتداد بغير المذكور، فينزّل منزلة المعدوم. والأول من غير الحقيقي: تخصيص أمر بصفة دون أخرى2 أو مكانَ أخرى، والثاني منه: تخصيص صفة بأمر دون آخر3 أو مكان آخر، فكل واحد منهما ضربان، والمخاطب بالأول من ضربي كل "أعني تخصيص أمر بصفة دون أخرى, وتخصيص صفة بأمر دون آخر" من يعتقد الشركة4؛ أي: اتصاف ذلك الأمر بتلك

الصفة وغيرها جميعا في الأول، واتصاف ذلك الأمر وغيره جميعا بتلك الصفة في الثاني، فالمخاطب بقولنا: "ما زيد إلا كاتب" من يعتقد أن زيدا كاتب وشاعر, وبقولنا: "ما شاعر إلا زيد" من يعتقد أن زيدا شاعر، لكن يدعي أن عمرا أيضا شاعر، وهذا يسمى قصر إفراد؛ لقطعه الشركة بين الصفتين في الثبوت للموصوف، أو بين الموصوف وغيره في الاتصاف بالصفة. والمخاطب بالثاني من ضربي كل "أعني تخصيص أمر بصفة مكان أخرى, وتخصيص صفة بأمر مكان آخر": إما من يعتقد العكس؛ أي: اتصاف ذلك الأمر بغير تلك الصفة عوضا عنها في الأول، واتصاف غير ذلك الأمر بتلك الصفة عوضا عنه في الثاني، وهذا يسمى قصر القلب؛ لقلبه حكم السامع، وإما من تساوى الأمران عنده؛ أي: اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة واتصافه بغيرها في الأول، واتصافه بها واتصاف غيره بها في الثاني، وهذا يسمى قصر تعيين؛ فالمخاطب بقولنا: "ما زيد إلا قائم" من يعتقد أن زيدا قاعد لا قائم، أو يعلم أنه إما قاعد أو قائم ولا يعلم أنه بماذا يتصف منهما بعينه، وبقولنا: "ما قائم إلا زيد" من يعتقد أن عمرا قائم لا زيدا، أو يعلم أن القائم أحدهما دون كل واحد منهما، لكن لا يعلم من هو منهما بعينه1.

وشرط قصر الموصوف على الصفة إفرادا عدم تنافي الصفتين1؛ حتى تكون المنفية في قولنا: "ما زيد إلا شاعر" كونه كاتبا أو منجما أو نحو ذلك، لا كونه مفحما لا يقول الشعر؛ ليتصور اعتقاد المخاطب اجتماعهما. وشرط قصره قلبا تحقق تنافيهما؛ حتى تكون المنفية في قولنا: "ما زيد إلا قائم" كونه قاعدا أو جالسا أو نحو ذلك، لا كونه أسود أو أبيض أو نحو ذلك؛ ليكون إثباتها مشعرا بانتفاء غيرها2. وقصر التعيين أعم؛ لأن اعتقاد كون الشيء موصوفا بأحد أمرين معينين على الإطلاق لا يقتضي جواز اتصافه بهما معا، ولا امتناعه، وبهذا عُلم أن كل ما يصلح أن يكون مثالا لقصر الإفراد أو قصر القلب يصلح أن يكون مثالا لقصر التعيين، من غير عكس3. وقد أهمل السكاكي4 القصر الحقيقي، وأدخل قصر التعيين في قصر الإفراد5، فلم

يشترط في قصر الموصوف إفرادا عدم تنافي الصفتين1، ولا في قصره قلبا تحقق تنافيهما2.

تمرينات على أقسام القصر

تمرينات على أقسام القصر: تمرين1: 1- هل القصر في البيت الآتي حقيقي أم إضافي: قد علمت سلمى وجارتها ... ما قطّر الفارس إلا أنا؟ 2- بأي اعتبار ينقسم القصر إلى حقيقي وغير حقيقي؟ وما فائدة هذا التقسيم بلاغة؟ ولماذا أهمله السكاكي؟ تمرين2: 1- من أي القصرين -قصر الموصوف على الصفة, أو العكس- قول الشاعر: وما المرء إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق؟ 2- بأي اعتبار ينقسم القصر إلى قصر صفة على موصوف، وبالعكس؟ وما فائدة ذلك بلاغة؟ تمرين3: 1- هل القصر في البيت الآتي قصر إفراد أم قصر تعيين: فإن كان في لبس الفتى شرف ... فما السيف إلا غمده والحمائل؟ 2- بأي اعتبار ينقسم القصر إلى: قصر إفراد وقصر قلب وقصر تعيين؟ وما فائدة ذلك بلاغة؟ وما هو الحال ومقتضى الحال في الأقسام الثلاثة؟ تمرين4: 1- هل من القصر الحقيقي أو الادعائي قول الشاعر: وما البأس إلا حمل نفس على السرى ... وما العجز إلا نومة وتشمس؟ 2- هل يأتي القصر الادعائي في القصر الإضافي؟ وأيهما أبلغ: الحقيقي أم الادعائي؟

طرق القصر

طرق القصر: وللقصر طرق؛ منها: 1- العطف1: كقولك في قصر الموصوف على صفة إفرادا: "زيد شاعر لا كاتب"، أو "ما زيد كاتبا بل شاعر"2 وقلبا: "زيد قائم لا قاعد"، أو "ما زيد قاعدا بل قائم"3، وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا أو قلبا بحسب المقام: "زيد قائم لا عمرو" أو: "ما عمرو قائما بل زيد"4.

2- النفي والاستثناء: ومنها النفي والاستثناء1؛ كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا: "ما زيد إلا شاعر" وقلبا: "ما زيد إلا قائم"، وتعيينا كقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] أي: لستم في دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق والكذب2 كما يكون ظاهر حال المدعي إذا ادعى، بل أنتم عندنا كاذبون فيها. وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين3: "ما قائم" أو "ما من قائم" أو "لا قائم إلا زيد". وتحقيق وجه القصر في الأول4 أنه متى قيل: "ما زيد" توجّه النفي إلى صفته لا ذاته؛ لأن أنفس الذوات يمتنع نفيها، وإنما تُنفَى صفاتها كما بُيّن ذلك في غير هذا العلم، وحيث لا نزاع في طوله وقصره وما شاكل ذلك، وإنما النزاع في كونه شاعرا أو كاتبا تناولهما النفي، فإذا قيل: "إلا شاعر" جاء القصر5. وفي الثاني6 أنه متى قيل: "ما شاعر" فأدخل النفي على الوصف المسلَّم ثبوته -أعني الشعر- لغير من الكلام فيهما -كزيد وعمرو مثلا- توجه النفي إليهما، فإذا قيل: "إلا زيد" جاء القصر7.

إنما

3- إنما: ومنها: إنما؛ كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا1: "إنما زيد كاتب"،

وقلبا: "إنما زيد قائم"، وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين: "إنما قائم زيد". والدليل على أنها تفيد القصر كونها متضمنة معنى "ما وإلا"1 لقول المفسرين2 في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173] بالنصب؛ معناه: ما حرم عليكم إلا الميتة، وهو المطابق لقراءة الرفع3 لما مر في باب: "المنطلق زيد"، ولقول النحاة4: "إنما" لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه، ولصحة انفصال الضمير معها5؛ كقولك: "إنما يُضرَب أنا" كما تقول: "ما يُضرَب إلا أنا"، قال الفرزدق "من الطويل":

أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يُدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي1 وقال عمرو بن معديكرب: قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قَطَّر الفارس إلا أنا2 قال السكاكي3: ويذكر لذلك وجه لطيف يسند إلى علي بن عيسى الربعي, وهو أنه لما كانت كلمة "إن" لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها "ما" المؤكدة, لا النافية -كما يظنه من لا وقوف له على علم النحو- ناسب أن يُضمَّن معنى القصر؛ لأن القصر ليس إلا تأكيدا على تأكيد4، فإن قولك: "زيد جاء لا عمرو" -لمن يردد المجيء الواقع بينهما- يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحا، وفي الآخَر ضمنا.

التقديم

4- التقديم: ومنها التقديم1 كقولك في قصر الموصوف على الصفة: إفرادا: "شاعرٌ هو" لمن يعتقده شاعرا وكاتبا. وقلبا: "قائم هو" لمن يعتقده قاعدا2. وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا: "أنا كفيت مُهِمَّك" بمعنى وحدي، لمن يعتقد أنك وغيرك كفيتماه مهمه، وقلبا: "أنا كفيت مهمك" بمعنى لا غيري، لمن يعتقد أن غيرك كفى مهمه دونك، كما تقدم3. فروق طرق القصر: وهذه الطرق تختلف من وجوه: الأول: أن دلالة الثلاثة الأولى بالوضع دون الرابع4.

الثاني: أن الأصل في الأول أن يدل على المثبت والمنفيّ جميعا بالنص، فلا يترك ذلك إلا كراهة الإطناب في مقام الاختصار، كما إذا قيل: "زيد يعلم النحو والتصريف والعروض والقوافي"، أو "زيد يعلم النحو, عمرو وبكر وخالد" فتقول فيهما: "زيد يعلم النحو لا غير"1، وفي معناه "ليس إلا" أي: لا غير النحو أو لا غير زيد, وأما الثلاثة الباقية فتدل بالنص على المثبت دون المنفي2. الثالث: أن النفي3 لا يجامع الثاني؛ لأن شرط المنفي بـ "لا" ألا يكون منفيا قبلها بغيرها، ويجامع الأخيرين، فيقال: "إنما زيد كاتب لا شاعر، وهو يأتيني لا عمرو"؛ لأن النفي فيهما غير مصرح به4 كما يقال: "امتنع زيد عن المجيء لا عمرو". قال السكاكي5: "شرط مجامعته للثالث: ألا يكون الوصف مختصا

بالموصوف1 كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36] ؛ فإن كل عاقل يعلم أن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمع. وكذا قولهم: "إنما يعجل من يخشى الفوت"، قال الشيخ عبد القاهر2: "لا تحسن مجامعته له في المختص كما تحسن في غير المختص، وهذا أقرب3، قيل: ومجامعته له إما مع التقديم كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22] ، وإما مع التأخير؛ كقولك: "ما جاءني زيد, وإنما جاءني عمرو"، وفي كون نحو هذين مما نحن فيه نظر4. الرابع: أن أصل الثاني أن يكون ما استُعمل له مما يجهله المخاطَب وينكره5؛ كقولك لصاحبك وقد رأيت شبحا من بعيد: "ما هو إلا زيد" إذا وجدتَه يعتقده غير زيد، ويصر على الإنكار، وعليه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62] . وقد يُنَزَّل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب؛ فيستعمل له الثاني إفرادا؛ نحو: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] ، أي: إنه -صلى الله عليه وسلم- مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبرِّي من الهلاك؛ نزّل استعظامهم هلاكه منزلة

إنكارهم إياه1. ونحوه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 22، 23] ؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان لشدة حرصه على هداية الناس يكرر دعوة الممتنعين عن الإيمان، ولا يرجع عنها، فكان في معرض من ظن أنه يملك مع صفة الإنذار إيجاد الشيء فما يمتنع قبوله إياه، أو قلبا؛ كقوله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] ، أي: أنتم بشر لا رسل، نزّلوا المخاطَبين2 منزلة من ينكر أنه بشر؛ لاعتقاد القائلين3 أن الرسول لا يكون بشرا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة. وأما قوله تعالى4 حكايةً عن الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فمن مجاراة الخصم للتبكيت والإلزام والإفحام5؛ فإن من عادة من ادعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه؛

أن يعيد كلامه على وجهه، كما إذا قال لك من يناظرك: "أنت من شأنك كيت وكيت" فتقول: "نعم، أنا من شأني كيت وكيت، ولكن لا يلزمني من أجل ذلك ما ظننتَ أنه يلزم"، فالرسل -عليهم السلام- كأنهم قالوا: "إن ما قلتم من أنا بشر مثلكم هو كما قلتم لا ننكره، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون الله تعالى قد مَنَّ علينا بالرسالة". وأصل الثالث أن يكون ما استُعمل له مما يعلمه المخاطب ولا ينكره، على عكس الثاني؛ كقولك: "إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم" لمن يعلم ذلك ويقر به، تريد أن ترقّقه عليه وتنبهه لما يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب1، وعليه قول أبي الطيب "من الخفيف": إنما أنت والد والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولا2 لم يرد أن يُعلِم كافورا أنه بمنزلة الوالد، ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام، ولكنه أراد أن يذكّره منه بالأمر المعلوم ليبني عليه استدعاء ما يوجبه. وقد ينزّل المجهول منزلة المعلوم؛ لادّعاء المتكلم ظهوره؛ فيستعمل له

الثالث1 نحو: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 11] ادَّعوا أن كونهم مصلحين ظاهر جلي، ولذلك جاء: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] للرد عليهم مؤكَّدا بما ترى: من جعل الجملة اسمية، وتعريف الخبر باللام، وتوسيط الفصل2، والتصدير بحرف التنبيه3، ثم بـ "إن". ومثله قول الشاعر "من الخفيف": إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء4 ادعى أن كون مصعب -كما ذهب- جلي معلوم لكل أحد، على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدعوا في كل ما يصفون به ممدوحيهم الجلاء، وأنهم قد شُهروا به حتى إنه لا يدفعه أحد؛ كما قال الآخر "من الطويل": وتعذلني أفناء سعد عليهم ... وما قلتُ إلا بالتي علمتْ سعد5 وكما قال البحتري "من الكامل":

لا أدَّعي لأبي العلاء فضيلة ... حتى يسلمها إليه عداه1 واعلم أن لطريق "إنما" مزية2 على طريق العطف، وهي أنه يُعقل منها إثبات الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة، بخلاف العطف، وإذا ما استقريتَ وجدتَها أحسن ما تكون موقعا إذا كان الغرض بها التعريض بأمر هو مقتضى معنى الكلام بعدها3 كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19] فإنه تعريض بذم الكفار، وأنهم من فرط العناد وغلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل؛ فأنتم في طمعكم منهم أن ينظروا ويتذكروا كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب، وكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] ، وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18] المعنى على أن من لم تكن له هذه الخشية فكأنه ليس له أذن تسمع، وقلب يعقل، فالإنذار معه كلا إنذار. قال الشيخ عبد القاهر4: ومثال ذلك من الشعر قوله "من المديد": أنا لم أُرزَق محبتها ... إنما للعبد ما رُزِقا5

فإنه تعريض بأنه قد علم أنه لا مطمع له في وصلها، فيئس من أن يكون منها إسعاف به. وقوله: وإنما يعذر العشَّاق من عَشِقا1 يقول: ينبغي للعاشق ألا ينكر لوم من يلومه؛ فإنه لا يعلم كُنْه بلوى العاشق، ولو كان قد ابتُلي بالعشق مثله لعرف ما هو فيه فعذره. وقوله "من الكامل": ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ... نُجْح الأمور بقوة الأسباب فاليوم حاجتنا إليك وإنما ... يُدعَى الطبيب لساعة الأوصاب2 يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه، وفي الثاني: إنّا قد طلبنا الأمر من جهته حين استعنّا بك فيما عرض لنا من الحاجة وعوّلنا على فضلك، كما أن من يعوِّل على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب في فعله. ثم القصر -كما يقع بين المبتدأ والخبر كما ذكرنا3- يقع بين الفعل والفاعل

وغيرهما1؛ ففي طريق النفي والاستثناء يؤخّر المقصور عليه مع حرف الاستثناء, كقولك في قصر الفاعل على المفعول -إفرادا أو قلبا- بحسب المقام: "ما ضرب زيدٌ إلا عمرًا"2 وعلى الثاني لا الأول قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] ؛ لأنه ليس المعنى: "إني لم أزد على ما أمرتني به شيئا"؛ إذ ليس الكلام في أنه زاد شيئا على ذلك أو نقص منه، ولكن المعنى: "إني لم أترك ما أمرتني به أن أقوله لهم إلى خلافه"3؛ لأنه قاله في مقام اشتمل على معنى: "إنك يا عيسى تركتَ ما أمرتُك أن تقوله إلى ما لم آمرك أن تقوله؛ فإني أمرتك أن تدعو الناس إلى أن يعبدوني، ثم إنك دعوتهم إلى أن يعبدوا غيري"، بدليل قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] . وفي قصر المفعول على الفاعل: "ما ضرب عمرًا إلا زيد". وفي قصر المفعول الأول على الثاني في نحو4: "كسوتُ وظننتُ"، "ما كسوتُ زيدا إلا جبة"، و"ما ظننت زيدا إلا منطلقا". وفي قصر الثاني على الأول: "ما كسوت جبة إلا زيدا"، و"ما ظننت منطلقا إلا زيدا". وفي قصر ذي الحال على الحال5: "ما جاء زيد إلا راكبا".

وفي قصر الحال على ذي الحال: "ما جاء راكبا إلا زيد". والوجه في جميع ذلك1 أن النفي في الكلام الناقص -أعني الاستثناء المفرغ- يتوجه إلى مقدر هو مستثنى منه عامّ2 مناسب للمستثنى في جنسه وصفته، أما توجهه إلى مقدر هو مستثنى منه فلكون "إلا" للإخراج واستدعاء الإخراج مُخرَجا منه، وأما عمومه فليتحقق الإخراج منه؛ ولذلك قيل: تأنيث المضمر في "كانت" على قراءة أبي جعفر المدني: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً} [يس: 29] بالرفع، وفي "تُرى" مبنيا للمفعول في قراءة الحسن: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] برفع {مَسَاكِنُهُمْ} ، وفي "بقيتْ" في بيت ذي الرمة: فما بقيت إلا الضلوع الجراشع3 للنظر إلى ظاهر اللفظ، والأصل التذكير؛ لاقتضاء المقام معنى شيء من الأشياء. وأما مناسبته في جنسه وصفته فظاهرة؛ لأن المراد بجنسه أن يكون في نحو: "ما ضرب زيد إلا عمرا": أحدا4، وفي نحو قولنا: "وما كسوت زيدا إلا جبة" لباسا، وفي نحو: "ما جاء زيد إلا راكبا" كائنا على حال من الأحوال، وفي نحو: "ما اخترت رفيقا

إلا منكم" من جماعة من الجماعات, ومنه قول السيد الحميري "من السريع": لو خير المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا1 لما سيأتي إن شاء الله تعالى أن أصله: ما اختار فارسا إلا منكم. والمراد بصفته كونه فاعلا أو مفعولا أو ذا حال أو حالا، وعلى هذا القياس إذا كان النفي متوجها إلى ما وصفناه، فإذا أُوجب منه شيء جاء القصر2. ويجوز تقديم المقصور عليه مع حرف الاستثناء بحالهما على المقصور، كقولك: "ما ضرب إلا عمرا زيدٌ، وما ضرب إلا زيدٌ عمرا، وما كسوت إلا جبة زيدا، وما ظننت إلا زيدا منطلقا، وما جاء إلا راكبا زيد، وما جاء إلا زيد راكبا". وقولنا: "بحالهما" احتراز عن إزالة حرف الاستثناء عن مكانه بتأخيره عن المقصور عليه؛ كقولك في الأول: "ما ضرب عمرا إلا زيدٌ" فإنه يختل المعنى3؛ فالضابط أن الاختصاص إنما يقع في الذي يلي "إلا"4. ولكن استعمال هذا النوع -أعني تقديمها- قليل؛ لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها5؛ كالضرب الصادر من زيد في: "ما ضرب زيد إلا عمرا" والضرب الواقع

على عمرو في: "ما ضرب عمرا إلا زيد" وقيل1: إذا أُخِّر المقصور عليه والمقصور عن "إلا" وقدم المرفوع كقولنا: "ما ضرب إلا عمرو زيدا" فهو على كلامين، و"زيدا" منصوب بفعل مضمر؛ فكأنه قيل: "ما ضرب إلا عمرو" أي: ما وقع ضرب إلا منه. ثم قيل: من ضرب؟ فقيل: "زيدا" أي: ضرب زيدا، وفيه نظر؛ لاقتضائه الحصر في الفاعل والمفعول جميعا2. وأما في "إنما" فيؤخر المقصور عليه3، تقول: "إنما زيد قائم، وإنما ضرب زيد، وإنما ضرب زيد عمرا، وإنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة، وإنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة في السوق" أي: "ما زيد إلا قائم، وما ضرب إلا زيد، وما ضرب زيد إلا عمرا، وما ضرب زيد عمرا إلا يوم الجمعة، وما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة إلا في السوق"؛ فالواقع أخيرا هو المقصور عليه أبدا4؛ ولذلك يقول: "إنما هذا

لك، وإنما لك هذا"، أي: ما هذا إلا لك، وما لك إلا هذا، حتى إذا أردت الجمع بين "إنما" والعطف فقل: "إنما هذا لك لا لغيرك، وإنما لك هذا لا ذاك، وإنما أخذ زيد لا عمرو، وإنما زيد يأخذ لا يعطي"1. ومن هذا تعثر على الفرق بين قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2 [فاطر: 28] وقولنا: "إنما يخشى

العلماءُ من عباد الله اللهَ" فإن الأول يقتضي قصر خشية الله على العلماء, والثاني يقتضي قصر خشية العلماء على الله1. واعلم أن حكم "غير"2 حكم "إلا" في إفادة القصرين؛ أي: قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف، وفي امتناع مجامعة "لا" العاطفة؛ تقول في قصر الموصوف إفرادا: "ما زيد غير شاعر"، وقلبا: "ما زيد غير قائم"، وفي قصر الصفة بالاعتبارين بحسب المقام: "لا شاعر غير زيد"، ولا تقول: "ما زيد غير شاعر ولا كاتب، ولا شاعر غير زيد ولا عمرو".

تمرينات على طرق القصر

تمرينات على طرق القصر: تمرين1: 1- بين لماذا أُوثر القصر بالعطف على غيره في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ؟ وبين ما فيه من مزايا القصر. 2- بين طريق القصر، والمقصور، والمقصور عليه في قول الشاعر: بك اجتمع الملك المبدد شمله ... وضمت قواصٍ منه بعد قواص تمرين2: 1- لماذا أوثر القصر بـ "إنما" في قول الشاعر: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا؟ 2- من أي طرق القصر قول الشاعر: وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو أم مخزوم ووالدك العبد؟ وما هو المقصور فيه؟ وما هو المقصور عليه؟ تمرين3: 1- لماذا لم يُفِد تعريف المسند بـ "ال" القصر في قول الخنساء: إذا قبح البكاء على قتيل ... وجدتُ بكاءك الحسن الجميلا؟ 2- لماذا أوثر القصر بالنفي والاستثناء في قوله تعالى: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 18] وبـ "إنما" في قوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] ؟ تمرين4: 1- ما هو طريق القصر؟ وما هو المقصور عليه في قول الشاعر:

ما افترينا في وصفه بل وصفنا ... بعض أخلاقه وذلك يكفي؟ 2- بين كيف اختصت المزايا البلاغية بالقصر بطرقه من العطف وغيره؟ تمرين5: 1- لماذا قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105] ولم يفد الاختصاص بطريق من طرقه المعروفة؟ 2- يأتي التوكيد لدفع التردد في نحو: "إن زيدا شاعر"، ويأتي قصر التعيين لدفع التردد في نحو: "إنما زيد شاعر"، فما هو الفرق بين دفع التردد فيهما؟ تمرين6: 1- لماذا قدم المقصور عليه في قول الشاعر: وما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مذهب الحق مذهب؟ 2- بين موقع المقصور عليه في جملتيه في قول الشاعر: ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... ولا أسلمها إلا يدا بيد تمرين7: 1- هل من قصر الفعل على الفاعل, أو من قصر المفعول عليه قول الشاعر: في ليلة لا نرى بها أحدا ... يحكي علينا إلا كواكبها؟ 2- بين الذي أفاد القصر -من التقديم أو العطف- في قول الشاعر: للفتى من ماله ما قدمت ... يداه قبل موته لا ما اقتنى 3- هل من القصر قول الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان؟ 4- اختلف في إفادة الاستثناء من الإثبات بالقصر، فبين ما تختاره في ذلك.

الباب السادس: القول في الإنشاء

الباب السادس: القول في الإنشاء أقسام الإنشاء: الإنشاء ضربان: طلب، وغير طلب. الطلب يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب؛ لامتناع تحصيل الحاصل1، وهو المقصود بالنظر ههنا2، وأنواعه كثيرة. أنواع الطلب: التمني: منها التمني3، واللفظ الموضوع له "ليت"، ولا يشترط في التمني

الإمكان، تقول: "ليت زيدا يجيء، وليت الشباب يعود". قال الشاعر "من الرجز": يا ليت أيام الصِّبَا رواجعا1 وقد يُتمنى بـ "هل"2؛ كقول القائل: "هل لي من شفيع" في مكان يعلم أنه لا شفيع له فيه3 لإبراز المتمنى -لكمال العناية به- في صورة الممكن4, وعليه قوله تعالى, حكاية عن الكفار: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف: 53] . وقد يتمنى بـ "لو"5 كقولك: "لو تأتيني فتحدثَني" بالنصب6. قال السكاكي7: وكأن حروف التنديم والتحضيض: هَلَّا، وألّا بقلب الهاء همزة، و"لولا، ولوما" مأخوذة منهما8 مركبتين مع "لا" و"ما" المزيدتين؛ لتضمينهما معنى التمني9؛ ليتولد منه في الماضي التنديم، نحو: "هلا أكرمت زيدا"

وفي المضارع التحضيض، نحو: "هلا تقوم". وقد يتمنى بـ "لعل" فتعطَى حكم ليت1، نحو: "لعلي أحج فأزورك" بالنصب؛ لبعد المرجو عن الحصول2، وعليه قراءة عاصم في رواية حفص: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36، 37] . ومنها الاستفهام3. والألفاظ الموضوعة له: "الهمزة"، و"هل"، و"ما"، و"من"، و"أي"، و"كم"، و"كيف"، و"أين"، و"أنى"، و"متى"، و"أيّان". فالهمزة لطلب التصديق4، كقولك: "أقام زيد؟ وأزيد قائم؟ " أو التصور5: كقولك: "أدِبْس في الإناء أم عَسَل؟ " أو: "أفي الخابية دبسك أم في الزق؟ " ولهذا لم

يقبح: "أزيد قائم؟ " و"أعمرًا عرفت؟ "1. المسئول عنه بها هو ما يليها، فتقول: "أضربت زيدا؟ " إذا كان الشك في الفعل نفسه وأردتَ بالاستفهام أن تعلم وجوده2، وتقول: "أأنت ضربت زيدا؟ " إذا كان الشك في الفاعل من هو؟ وتقول: "أزيدا ضربت؟ " إذا كان الشك في المفعول من هو؟ 3. و"هل": لطلب التصديق فحسب، كقولك: "هل قام زيد؟ وهل عمرو قاعد؟ "؛ ولهذا امتنع: "هل زيد قام أم عمرو؟ "4 وقبُح: "هل زيدا صربتَ؟ "؛ لما سبق أن

التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل والشك فيما قُدِّم عليه1, ولم يقبح: "هل زيدا ضربته؟ "؛ لجواز تقدير المحذوف المفسّر مقدما كما مر، وجعل السكاكي2 قبح نحو: "هل رجل عرف؟ " لذلك، أي: لما قبح له: "هل زيدا ضربت؟ "، ويلزمه ألا يقبح نحو: "هل زيد عرف؟ "؛ لامتناع تقدير التقديم والتأخير فيه عنده على ما سبق3. وعلل غيره4 القبح فيهما بأن أصل "هل" أن تكون بمعنى "قد"، إلا أنهم تركوا الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام. و"هل" تخصص المضارع بالاستقبال، فلا يصح أن يقال: "هل تضرب زيدا وهو أخوك؟ "5، كما تقول: "أتضرب زيدا وهو أخوك؟ "، ولهذين6 -أعني اختصاصها بالتصديق وتخصيصها المضارع بالاستقبال- كان لها مزيد اختصاص بما كونه زمانيا أظهر؛ كالفعل7، أما الثاني8 فظاهر, وأما الأول9 فلأن الفعل لا يكون إلا صفة، والتصديق حكم بالثبوت أو الانتفاء، والنفي والإثبات إنما

يتوجهان إلى الصفات لا الذوات؛ ولهذا1 كان قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] أدل على طلب الشكر من قولنا: "فهل تشكرون؟ "، وقولنا: "فهل أنتم تشكرون؟ "2؛ لأن إبراز ما سيتجدد في معرض الثابت أدل على كمال العناية بحصوله من إبقائه على أصله3، وكذا من قولنا: "أفأنتم شاكرون؟ " وإن كانت صيغته للثبوت؛ لأن "هل" أدعى للفعل من الهمزة، فتركه معها أدل على كمال العناية بحصوله؛ ولهذا لا يحسن: "هل زيد منطلق؟ " إلا من البليغ4. وهي قسمان: بسيطة، وهي التي يُطلب بها وجود الشيء؛ كقولنا: "هل الحركة موجودة؟ " ومركبة، وهي التي يُطلب بها وجود شيء لشيء، كقولنا: "هل الحركة دائمة؟ "5.

والألفاظ الباقية لطلب التصور فقط1. أما "ما" فقيل: يطلب به إما شرح الاسم2، كقولنا: "ما العنقاء؟ "، وإما ماهية المسمى؛ كقولنا: "ما الحركة؟ ". والقسم الأول يتقدم على قسمَيْ "هل" جميعا، والثاني يتقدم على "هل" المركبة دون البسيطة؛ فالبسيطة في الترتيب واقعة بين قسمي "ما"3. وقال السكاكي4: يسأل بـ "ما" عن الجنس5؛ تقول: "ما عندك؟ " أي: أي أجناس الأشياء عندك6؟ وجوابه: إنسان، أو فرس، أو كتاب، أو نحو ذلك. كذلك تقول: "ما الكلمة؟ وما الكلام؟ "، وفي التنزيل: {فَمَا خَطْبُكُمْ} [الحجر: 57] ، أيْ: أيّ أجناس الخطوب خطبكم؟، وفيه: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133] أي: أي من في الوجود تُؤْثرونه للعبادة؟ أو عن الوصف7؛ تقول: ما زيد؟ وما عمرو؟

وجوابه: الكريم أو الفاضل، ونحوهما1. وسؤال فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] 2 إما عن الجنس؛ لاعتقاده لجهله بالله تعالى أن لا موجود مستقلا بنفسه سوى الأجسام، كأنه قال: أي أجناس الأجسام هو؟ وعلى هذا جواب موسى -عليه السلام- بالوصف3؛ للتنبيه على النظر المؤدي إلى معرفته، لكن لما لم يطابق السؤال عند فرعون عجّب الجَهَلَة الذين حوله من قول موسى بقوله لهم: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} ثم لما وجده مصرا على الجواب بالوصف إذ قال في المرة الثانية: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} استهزأ به وجنّنه بقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ، وحين رآهم موسى -عليه السلام- لم يفطنوا لذلك في المرتين، غلّظ عليهم في الثالثة بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} . وإما عن الوصف4 طمعا في أن يسلك موسى -عليه السلام- في الجواب معه مسلك الحاضرين5، ولو كانوا هم المسئولين مكانه؛ لشهرته بينهم برب العالمين إلى درجة دعت السحرة إذ عرفوا الحق أن عقّبوا قولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 47] بقولهم: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} نفيا لاتهامهم أنهم عنوه، ولجهله6 بحال موسى إذ لم يكن جمعهما

قبل ذلك مجلس، بدليل1: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 30، 31] فحين سمع الجواب تعداه، عجّب، واستهزأ، وجنَّن، وتفيهق بما تفيهق من قوله: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] . وأما "مَنْ" فقال السكاكي2: هو للسؤال عن الجنس من ذوي العلم3، تقول: "من جبريل؟ بمعنى: أبشر هو أم ملك أم جني؟ " وكذا: "من إبليس؟ ومن فلان؟ " ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49] أي: أملك هو أم بشر أم جني؟ منكِرا لأن يكون لهما رب سواه؛ لادعائه الربوبية لنفسه، ذاهبا في سؤاله هذا إلى معنى: "ألكما رب سواي؟ " فأجاب موسى -عليه السلام- بقوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] كأنه قال: نعم, لنا رب سواك هو الصانع الذي إذا سلكت الطريق الذي بيّن بإيجاده لما أوجد، وتقديره إياه على ما قدره، واتبعت فيه الخِرِّيت الماهر، وهو العقل الهادي عن الضلال؛ لزمك الاعتراف بكونه ربا، وأن لا رب سواه، وأن العبادة له مني ومنك ومن الخلق أجمع حق لا مَدْفَع له. وقيل: هو للسؤال عن العارض المشخِّص لذي العلم4، وهذا أظهر؛ لأنه إذا

قيل: "من فلان؟ " يجاب بـ "زيد" ونحوه، مما يفيد التشخيص، ولا نسلم صحة الجواب بنحو: "بشر أو جني" كما زعم السكاكي1. أما "أي" فللسؤال عما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما2، يقول القائل: "عندي ثياب" فتقول: "أي الثياب هي؟ " فتطلب منه وصفا يميزها عندك عما يشاركها في الثوبية، وفي التنزيل: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا} [مريم: 73] أي: أنحن أم أصحاب محمد عليه السلام؟ 3. وفيه: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] أي: الإنسي أم الجني؟ وأما "كم" فللسؤال عن العدد، فإذا قلت: "كم درهما لك؟ وكم رجلا رأيت؟ " فكأنك قلت: "أعشرون أم ثلاثون أم كذا أم كذا؟ " وتقول: "كم درهمك؟ وكم مالك؟ أي: كم دانقا4 أو كم دينارا؟ وكم ثوبك؟ أي: كم شبرا أو كم ذراعا؟ وكم زيد ماكث؟ أي: كم يوما أو كم شهرا؟ وكم رأيتك؟ أي: كم مرة؟ وكم سرت؟ أي: كم فرسخا؟ أو كم يوما؟ قال الله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] أي: كم يوما؟ أو كم ساعة؟ وقال: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}

[المؤمنون: 112] ، وقال: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211] . ومنه قول الفرزدق "من الكامل": كم عمة لك يا جرير وخالة ... فَدْعَاء قد حلبت علي عِشارى1 فيمن روى بالنصب، وعلى رواية الرفع تحتمل الاستفهامية والخبرية2. وأما "كيف" فللسؤال عن الحال، إذا قيل: "كيف زيد؟ " فجوابه: صحيح، أو سقيم، أو مشغول، أو فارغ، ونحو ذلك. وأما "أين" فللسؤال عن المكان, إذا قيل: "أين زيد؟ " فجوابه: في الدار، أو في المسجد, أو في السوق، ونحو ذلك. وأما "أنَّى" فتستعمل تارة بمعنى "كيف" قال الله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أي: كيف شئتم، وأخرى بمعنى: "من أين"3 قال الله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] أي: من أين لك هذا؟ وأما "متى، وأيّان" فللسؤال عن الزمان، إذا قيل: "متى جئت؟ " أو "أيان جئت؟ " قيل: يوم الجمعة، أو يوم الخميس، أو شهر كذا، أو سنة كذا. وعن علي بن عيسى الربعي: أن "أيان" تستعمل في مواضع التفخيم4؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 6] ، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات: 12] . ثم هذه الألفاظ كثيرا ما تستعمل في معانٍ غير الاستفهام بحسب ما يناسب

المقام1؛ منها الاستبطاء2 نحو: "كم دعوتك؟ " وعليه قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] . ومنها التعجب3 نحو قوله: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] . ومنها التنبيه على الضلال4 نحو: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] . ومنها الوعيد5؛ كقولك لمن يسيء الأدب: "ألم أؤدب فلانا؟ " إذا كان عالما بذلك، وعليه قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} [المرسلات: 16] . ومنها الأمر6 نحو قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] , ونحو: {فَهَلْ

مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15] . ومنها التقرير1: ويُشترط في الهمزة أن يليها المقرَّر به2 كقولك: أفعلتَ؟ إذا أردتَ أن تقرره بأن الفعل كان منه، وكقولك: "أأنت فعلت؟ " إذا أردت أن تقرره بأنه الفاعل. وذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي3 وغيرهما إلى أن قوله: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62] من هذا الضرب. قال الشيخ4: لم يقولوا ذلك له -عليه السلام- وهم يريدون أن يُقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقر بأنه منه كان، وكيف وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا} وقال عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ولو كان التقرير بالفعل في قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ} لكان الجواب: "فعلتُ أو لم أفعل"5. وفيه نظر؛ لجواز أن تكون الهمزة فيه على أصلها6؛ إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه -عليه السلام- هو الذي كسر الأصنام، وكقولك: "أزيدا ضربتَ؟ " إذا أردت أن تقرره بأن مضروبه زيد.

ومنها الإنكار1: إما للتوبيخ، بمعنى: ما كان ينبغي أن يكون2 نحو: "أعصيتَ ربك؟ " أو بمعنى: لا ينبغي أن يكون3؛ كقولك للرجل يضيع الحق: "أتنسى قديم إحسان فلان؟ " وكقولك هذا للرجل يركب الخَطَر: أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ والغرض بذلك تنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل أو يرتدع عن فعل ما همّ به. وإما للتكذيب بمعنى: "لم يكن" كقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} [الإسراء: 40] وقوله: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153] ، أو بمعنى: لا يكون؛ نحو: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28] ، وعليه قول امرئ القيس "من الطويل": أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ 4 فيمن روى "أيقتلني؟ "5 بالاستفهام. وقول الآخر "من الطويل": أأترك أن قلّت دراهم خالد ... زيارته؟ إني إذن للئيم6 والإنكار كالتقرير يشترط "فيه" أن يلي المنكر الهمزة، كقوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40] ، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] ، {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ}

[القمر: 24] ، وكقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 31، 32] ، أي: ليسوا هم المتخيرين للنبوة من يصلح لها، المتولين لقسم رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته. وعد الزمخشري قوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف: 40] من هذا الضرب، على أن المعنى: أفأنت تقدر على إكراههم على الإيمان؟ أو أفأنت تقدر على هدايتهم؟ على سبيل القصر والإلجاء؛ أي: إنما يقدر على ذلك اللهُ لا أنت. وحمل السكاكي1 تقديم الاسم في هذه الآيات الثلاث2 على البناء على الابتداء، دون تقدير التقديم والتأخير؛ كما مر3 في نحو: "أنا ضربت" فلا يفيد إلا تقوِّي الإنكار4. ومن مجيء الهمزة للإنكار نحو قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] , وقول جرير "من "الوافر": ألستم خير من رَكِب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح5 أي: الله كافٍ عبده، وأنتم خير من ركب المطايا؛ لأن نفي النفي إثبات، وهذا مراد من قال: إن الهمزة فيه للتقرير، أي: للتقرير بما دخله النفي, لا للتقرير

بالانتفاء1. وإنكار الفعل مختص بصورة أخرى2، وهي نحو قولك: "أزيدا ضربتَ أم عمرا؟ " لمن يدعي أنه ضرب إما زيدا وإما عمرا دون غيرهما؛ لأنه إذا لم يتعلق الفعل بأحدهما، والتقدير أنه لم يتعلق بغيرهما؛ فقد انتفى من أصله لا محالة، وعليه قوله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] أخرج اللفظ مخرجه؛ إذ كان قد ثبت تحريم في أحد الأشياء ثم أريد معرفة عين المحرَّم، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله. وكذا قوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] إذ معلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله، إلا أن اللفظ أُخرِج مُخْرَجَه إذا كان الأمر كذلك؛ ليكون أشد لنفي ذلك وإبطاله، فإنه إذا نُفِي الفعل عما جُعل فاعلا له في الكلام، ولا فاعل له غيره، لزم نفيه من أصله. قال السكاكي رحمه الله3: "وإياك أن يزول عن خاطرك التفصيل الذي سبق4 في نحو: أنا ضربت، وأنت ضربت، وهو ضرب من احتمال الابتداء، واحتمال التقديم، وتفاوت المعنى في الوجهين، فلا تحملْ نحو قوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] على التقديم، فليس المراد أن الإذن يُنْكَر من الله دون غيره5، ولكن احملْه على الابتداء مرادا منه تقوية حكم الإنكار".

وفيه نظر؛ لأنه إن أراد أن نحو هذا التركيب -أعني ما يكون الاسم الذي يلي الهمزة فيه مُظهَرا- لا يفيد توجه الإنكار إلى كونه فاعلا للفعل الذي بعده؛ فهو ممنوع1، وإن أراد أنه يفيد ذلك إن قدر تقديم وتأخير، وإلا فلا -على ما ذهب إليه فيما سبق- فهذه الصورة مما منع هو ذلك فيه على ما تقدم2. لا يقال: قد يلي الهمزةَ غيرُ المنكر في غير ما ذكرتم، كما في قوله "من الطويل": أيقتلني والمشرفي مضاجعي3؟! فإن معناه أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي4 بدليل قوله: يغط غطيط البكر شُدّ خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتّال5 لأنا نقول: ليس ذلك معناه؛ لأنه قال: "والمشرفي مضاجعي" فذكر ما يكون منعا من الفعل، والمنع إنما يحتاج إليه مع من يُتصور صدور الفعل منه دون من يكون في نفسه عاجزا عنه. ومنها التهكم6 نحو: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا

مَا نَشَاءُ} [هود: 87] . ومنها التحقير1 كقولك: من هذا؟ وما هذا؟ ومنها التهويل2 كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 30، 31] بلفظ الاستفهام، لما وصف الله تعالى العذاب بأنه مُهين لشدته وفظاعة شأنه، أراد أن يصور كُنْهه فقال: {مِنْ فِرْعَوْنَ} أي: أتعرفون من هو في فرط عتوه وتجبره؟ ما ظنكم بعذاب يكون هو المعذَّب به؟ ثم عرّف حاله بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} . ومنها الاستبعاد3 نحو: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان: 13، 14] . ومنها التوبيخ والتعجيب جميعا4؛ كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ

أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] أي: كيف تكفرون, والحال أنكم عالمون بهذه القصة؟ وأما التوبيخ؛ فلأن الكفر مع هذه الحال يُنبئ عن الانهماك في الغفلة أو الجهل. وأما التعجيب؛ فلأن هذه الحال تأبى ألا يكون للعاقل علم بالصانع، وعلمه به يأبى أن يكفر، وصدور الفعل مع الصارف القويّ مظنة تعجب، ونظيره: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] .

تمرينات على التمني والاستفهام

تمرينات على التمني والاستفهام: تمرين1: 1- لماذا آثر الشاعر في التمني "ليت" على غيرها في قوله: ليت الكواكب تدنو لي فأنظِمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كَلِمي؟ 2- لماذا أوثرت "لو" في التمني على "ليت" في قوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 102] ؟ تمرين2: 1- بين ما تدل عليه "هل" في قوله تعالى حكاية عن أهل النار: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44] , وما الداعي إلى إيثارها على غيرها فيه؟ 2- بين معنى الاستفهام في قول الشاعر: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر؟ تمرين3: 1- هل الإنكار بالاستفهام في البيت الآتي للتوبيخ أو للتكذيب؟ وهل المقصود به الفعل أو غيره؟ أعندي وقد مارست كل خفية ... يُصدَّق واشٍ أو يُخَيَّب سائل 2- بين ما يدل عليه الاستفهام في قول الشاعر: فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يُضير!! تمرين4: 1- بين معنى "هل" في قول الشاعر: هل الدهر إلا ساعة ثم تنقضي ... بما كان فيها من بلاء ومن خفض؟ 2- بين معنى "ليت" في قول الشاعر: فليت لي بهم قوما إذا ركبوا ... شَنّوا الإغارة فرسانا وركبانا

الأمر

الأمر: الأمر: ومن أنواع الإنشاء الأمر، والأظهر أن صيغته -من المقترنة باللام، نحو: "ليحضر زيد" وغيرها، نحو: "أكرم عمرا" و"رويد بكرا"- موضوعة لطلب الفعل استعلاء؛ لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك، وتوقف ما سواه على القرينة. قال السكاكي1: ولإطباق أئمة اللغة على إضافتها إلى الأمر بقولهم: "صيغة الأمر، ومثال الأمر، ولام الأمر"، وفيه نظر لا يخفى على المتأمل2. ثم إنها -أعني: صيغة الأمر- قد تستعمل في غير طلب الفعل استعلاء، بحسب مناسبة المقام3؛ كالإباحة4؛ كقولك في مقام الإذن: "جالس الحسن أو ابن سيرين". ومن أحسن ما جاء فيه قول كثير "من الطويل": أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلَّتِ5 أي: لا أنت ملومة ولا مقلية، ووجه حسنه: إظهار الرضا بوقوع الداخل تحت

لفظ الأمر حتى كأنه مطلوب، أي: مهما اخترتِ في حقي من الإساءة والإحسان؛ فأنا راضٍ به غاية الرضا؛ فعامليني بهما، وانظري: هل تتفاوت حالي معكِ في الحالين؟ والتهديد1 كقولك لعبد شتم مولاه وقد أدّبه: "اشتُم مولاك". وعليه قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] . والتعجيز2 كقولك لمن يدعي أمرا تعتقد أنه ليس في وُسْعه: "افعلْه"، وعليه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] . والتسخير3 نحو: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] . والإهانة4 نحو: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] , وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] . والتسوية5 كقوله تعالى: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} [التوبة: 53] ,

وقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] . والتمني1 كقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي2 والدعاء: إذا استُعملتْ في طلب الفعل على سبيل التضرع3 نحو: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] . والالتماس: إذا استعملت فيه على سبيل التلطف4؛ كقولك لمن يساويك في الرتبة: "افعل" بدون الاستعلاء. والاحتقار5 نحو: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [الشعراء: 43] . ثم الأمر: قال السكاكي6: "حقه الفور؛ لأنه الظاهر من الطلب، ولتبادر الفهم عند الأمر بشيء بعد الأمر بخلافه إلى تغيير الأمر الأول دون الجمع, وإرادة التراخي" والحق خلافه؛ لما تبين في أصول الفقه7.

النهي

النهي: ومنها النهي، وله حرف واحد وهو "لا" الجازمة في نحو قولك: "لا تفعلْ"؛ وهو كالأمر في الاستعلاء، وقد يستعمل في غير طلب الكف أو الترك1؛ كالتهديد2؛ كقولك لعبد لا يمتثل أمرك: "لا تمتثل أمري". واعلم أن هذه الأربعة -أعني التمني والاستفهام والأمر والنهي- تشترك في كونها قرينة دالة لى تقدير الشرط بعدها3 كقولك: "ليت لي مالا أنفقه" أي: إن أُرزقه، وقولك: "أين بيتك أزرْك" أي: إن تُعرِّفنيه، وقولك: "أكرمني أكرمك"، أي: إن تكرمني، قال تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} [مريم: 5] بالجزم، فأما

قراءة الرفع فقد حملها الزمخشري على الوصف1، وقال السكاكي2: الأولى حملها على الاستئناف دون الوصف؛ لهلاك يحيى قبل زكريا -عليهما السلام- وأراد بالاستئناف أن يكون جواب سؤال مقدر تضمنَه ما قبله، فكأنه لما قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} قيل: ما تصنع به؟ فقال: {يَرِثُنِي} فلم يكن داخلا في المطلوب بالدعاء3. وقولك: "لا تشتم يكن خيرا لك"؛ أي: إن لا تشتم. وأما العرض كقولك لمن تراه لا ينزل: "ألا تنزل تصب خيرا" أي: إن تنزل، فمولّد من الاستفهام4، وليس به؛ لأن التقدير: أنه لا ينزل؛ فالاستفهام عن عدم النزول طلب للحاصل، وهو محال. وتقدير الشرط في غير هذه المواضع لقرينة جائز أيضا؛ كقوله تعالى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} أي: إن أرادوا وليا بالحق, فالله هو الولي بالحق لا ولي سواه5. وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ} [المؤمنون: 91] 1, أي: لو كان معه إله إذن لذهب.

النداء

النداء: ومنها النداء1: وقد تستعمل صيغته في غير معناه: كالإغراء في قولك لمن أقبل يتظلم: يا مظلوم2. والاختصاص3 في قولهم: "أنا أفعل كذا أيها الرجل4، ونحن نفعل كذا أيها

القوم، واغفر اللهم لنا أيتها العصابة"؛ أي: متخصصا من بين الرجال، ومتخصصين من بين الأقوام والعصائب. ثم الخبر قد يقع موقع الإنشاء1: إما للتفاؤل، أو لإظهار الحرص في وقوعه كما مر2. والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يحتمل الوجهين3، أو للاحتراز عن صورة الأمر؛ كقول العبد للمولى إذا حوّل عنه وجهه: "ينظر المولى إلي ساعة" أو لحمل المخاطب على المطلوب؛ بأن يكون المخاطب ممن لا يحب أن يكذب الطالب4، أو لنحو ذلك5.

تنبيه

تنبيه: ما ذكرناه في الأبواب الخمسة السابقة ليس كله مخصَّصا بالخبر، بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر1 يظهر ذلك بأدنى تأمل؛ فليعتبره الناظر.

تمرينات على الأمر والنهي والنداء

تمرينات على الأمر والنهي والنداء: تمرين1: 1- ما يُرَاد بالنهي في قول الشاعر: لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا؟ 2- ما يراد بالأمر في قول الشاعر: أريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلا مخلدا؟ تمرين2: 1- ما يراد بالنداء في قول الشاعر: يا درة نُزعت من تاج والدها ... فأصبحت حلية في تاج رضوان؟ 2- لماذا أتى بنداء القريب في قول الشاعر: أَأُبَيّ لا تبعد وليس بخالد ... حي، ومن تصب المَنُون بعيد؟ تمرين3: 1- لأي شيء استُعمل الأمر باللام في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] ؟ 2- لماذا أُتي بنداء البعيد في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] ؟ وما يراد بالأمر فيه؟ تمرين4: 1- لماذا عُبِّر بالخبر عن الطلب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84] ؟ 2- ما يراد بالأمر في قول الشاعر: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتْنا يا جرير المجامع؟

الباب السابع: القول في الوصل والفصل

الباب السابع: القول في الوصل والفصل تعريف الوصل والفصل: الوصل: عطف بعض الجمل على بعض، والفصل: تركه1. وتمييز موضع

ونحوه1 مقبولا في المفرد أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة2 كما في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2] 3 يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في الجملة، ذلك كقولك: "زيد يكتب ويُشعِر، أو يعطي ويمنع", وعليه قوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] ؛ ولهذا عِيبَ على أبي تمام قوله "من الطويل": لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم4

إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى، ولا تعلق لأحدهما بالآخر1. الفصل لعدم الاشتراك في الحكم: وإن لم يقصد ذلك تُرك عطفها عليها2 كقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14, 15] لم يعطف {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على: {إِنَّا مَعَكُمْ} ؛ لأنه لو عطف عليه؛ لكان من مقول المنافقين؛ وليس منه. وكذا قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 11، 12] ، وكذا قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] . الوصل بغير الواو من حروف العطف: وعلى الثاني إن قصد بيان ارتباط الثانية بالأولى على معنى بعض حروف العطف سوى الواو, عُطفت عليها بذلك الحرف3 فتقول: "دخل زيد فخرج

عمرو" إذا أردتَ أن تخبر أن خروج عمرو كان بعد دخول زيد من غير مهلة، وتقول: "خرجت ثم خرج زيد" إذا أردت أن تخبر أن خروج زيد كان بعد خروجك بمهلة، وتقول: "يعطيك زيد دينارا أو يكسوك جبة" إذا أردت أن تخبر أنه يفعل واحدا منهما لا بعينه، وعليه قوله تعالى: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27] . الفصل لعدم الاشتراك في القيد: وإن لم يقصد ذلك, فإن كان للأول حكم ولم يقصد إعطاؤه للثانية؛ تعين الفصل1؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] لم يعطف {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {قَالُوا} لئلا يشاركه في الاختصاص بالظرف المقدَّم2، وهو قوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} فإن استهزاء الله بهم -وهو أن خذلهم، فخلاهم وما سوَّلتْ لهم أنفسهم، مستدرجا إياهم من حين لا يشعرون- متصل لا ينقطع بكل حال، خلوا إلى شياطينهم أم لم

يخلوا إليهم، وكذلك في الآيتين الأخيرتين1؛ فإنهم مفسدون في جميع الأحيان؛ قيل لهم: لا تفسدوا، أو لا، وسفهاء في جميع الأوقات؛ قيل لهم: آمنوا، أو لا. أحوال أخرى للفصل: وإن لم يكن للأولى حكم كما سبق، فإن كان بين الجملتين كمال الانقطاع وليس في الفصل إيهام خلاف المقصود كما سيأتي، أو كمال الاتصال، أو كانت الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى، أو بمنزلة المتصلة بها, فكذلك يتعين الفصل2. أما في الصورة الأولى؛ فلأن الواو للجمع، والجمع بين الشيئين يقتضي مناسبة بينهما كما مر. وأما في الثانية؛ فلأن العطف فيها بمنزلة عطف الشيء على نفسه، مع أن العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه3. وأما في الثالثة والرابعة فظاهر مما مر4.

الأول: كمال الانقطاع: وأما كمال الانقطاع فيكون لأمر يرجع إلى الإسناد، أو إلى طرفيه: الأول: أن تختلف الجملتان خبرا وإنشاء، لفظا ومعنى؛ كقولهم: "لا تدنُ من الأسد يأكلك"، و"هل تصلح لي كذا أدفع إليك الأجرة؟ " بالرفع فيهما. وقول الشاعر "من البسيط": وقال رائدهم: ارسوا نزاولها ... فكل حتف امرئ يجري بمقدار1 أو معنى لا لفظا؛ كقولك: "مات فلان رحمه الله"2. أما قول اليزيدي "من السريع": ملّكتُهُ حَبْلي ولكنه ... ألقاه من زهد على غاربي وقال: إني في الهوى كاذب ... انتقم الله من الكاذب3 فعده السكاكي4 -رحمه الله- من هذا الضرب, وحمله الشيخ عبد القاهر5

-رحمه الله- على الاستئناف بتقدير: "قلت"1. الثاني: ألا يكون بين الجملتين جامع كما سيأتي2.

الثاني: كمال الاتصال. وأما كمال الاتصال فيكون لأمور ثلاثة: الأول: أن تكون الثانية مؤكدة للأولى، والمقتضي للتأكيد دفع توهم التجوز والغلط، وهو قسمان: أحدهما: أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في المعنى1؛ كقوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] , فإن وزان "لا ريب فيه" في الآية وزان "نفسه" في قولك: "جاءني الخليفة نفسه"2، فإنه لما بُولِغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى من

الكمال بجعل المبتدأ "ذلك" وتعريف الخبر باللام1؛ كان عند السامع قبل أن يتأمله مظنة أنه مما يُرْمَى به جزافا من غير تحقق2، فأتبعه {لا رَيْبَ فِيهِ} نفيا لذلك3 إتباع "الخليفة نفسه" إزالةً لما عسى أن يتوهم السامع أنك في قولك: "جاءني الخليفة" متجوز أو ساهٍ، وكذا قوله: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7] . الثاني مقرر لما أفاده الأول4. وكذا قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] ؛ لأن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه الثبات على اليهودية، وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} رد للإسلام، ودفع له منهم؛ لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع له لكونه غير معتد به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته5. ويحتمل الاستئناف6؛ أي: فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أصحاب محمد؟

وثانيهما: أن تنزّل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي من متبوعه في اتحاد المعنى1؛ كقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ؛ فإن {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} معناه أنه في الهداية بالغ درجة لا يُدرَك كُنْهها حتى كأنه هداية محضة2، وهذا معنى قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ؛ لأن معناه -كما مر- الكتاب الكامل، والمراد بكماله كماله في الهداية3؛ لأن الكتب السماوية بحسبها تتفاوت في درجات الكمال، وكذلك قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ، فإن معنى قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} معنى ما قبله4، وكذا ما بعده5 تأكيد ثانٍ؛ لأن عدم التفاوت بين الإنذار وعدمه لا يصح إلا في حق من ليس له قلب يخلص إليه حق، وسمع تدرك به حجة، وبصر تثبت به عبرة، ويجوز أن يكون {لا يُؤْمِنُونَ} خبرا لـ {إِنَّ} 6 فالجملة قبلها اعتراض.

الثاني1: أن تكون الثانية بدلا من الأولى، والمقتضي للإبدال كون الأولى غير وافية بتمام المراد، بخلاف الثانية، والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لنكتة؛ ككونه مطلوبا في نفسه أو فظيعا أو عجيبا أو لطيفا، وهو ضربان: أحدهما: أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض من متبوعه2؛ كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 132-134] فإنه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطَبين، وقوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أوفى بتأديته مما قبله3؛ لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين، والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون4، ويحتمل الاستئناف5. وثانيهما: أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال من متبوعه؛ كقوله تعالى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20، 21] فإن المراد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل، وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ

أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أوفى بتأدية ذلك؛ لأن معناه: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، وتربحون صحة دينكم، فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة. وقول الشاعر "من الطويل": أقول له: ارحل لا تُقيمنَّ عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما1 فإن المراد به كمال إظهار الكراهة؛ لإقامته بسبب خلاف سره العلن، وقوله: "لا تقيمن عندنا" أوفى بتأديته؛ لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد2، بخلاف "ارحل"3، ووزان الثانية من كل واحد من الآية والبيت وزان "حسنها" في قولك: "أعجبتني الدار حسنها"؛ لأن معناها مغاير لمعنى ما قبلها، وغير داخل فيه، مع ما بينهما من الملابسة4.

الثالث1: أن تكون الثانية بيانا للأولى، وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعه، في إفادة الإيضاح، والمقتضي للتبيين أن يكون في الأولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام إزالته؛ كقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] ؛ فصل جملة "قال" عما قبلها؛ لكونها تفسيرا له وتبيينا2. ووزانه وزان "عمر" في قوله "من الرجز": أقسم بالله أبو حفص عمر3 وأما قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] فيحتمل التبيين والتأكيد؛ أما التبيين فلأنه يمتنع أن يخرج من جنس البشر ولا يدخل في جنس آخر؛ فإثبات المَلَكية له تبيين لذلك الجنس وتعيين. وأما التأكيد؛ فلأنه إذا

كان ملكا لم يكن بشرا، ولأنه إذا قيل في العرف لإنسان: "ما هذا بشرا" حال تعظيم له وتعجب مما يشاهد منه من حسن خَلق أو خُلُق، كان الغرض أنه مَلَك بطريق الكناية. فإن قيل: هلَّا نزلتم الثانية منزلة الكل من متبوعه في بعض الصور، ومنزلة النعت من متبوعه في بعض؟ قلنا: لأن بدل الكل لا ينفصل عن التأكيد إلا بأن لفظه غير لفظ متبوعه، وأنه مقصود بالنسبة دون متبوعه، بخلاف التأكيد، والنعت لا ينفصل عن عطف البيان إلا بأنه يدل على بعض أحوال متبوعه؛ لا عليه، وعطف البيان بالعكس، وهذه كلها اعتبارات لا يتحقق شيء منها فيما نحن بصدده1. الثالث: شبه كمال الانقطاع وأما كون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى؛ فلكون عطفها عليها موهما لعطفها على غيرها2، ويسمى الفصل لذلك قطعا، مثاله قول الشاعر "من الكامل": وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أُراها في الضلال تَهِيم3 لم يعطف "أراها" على "تظن"؛ لئلا يتوهم السامع أنه معطوف على "أبغي"؛

لقربه منه، مع أنه ليس بمراد، ويَحتمل الاستئناف1. وقسَّم السكاكي2 القطع إلى قسمين: أحدهما القطع للاحتياط؛ وهو ما لم يكن لمانع من العطف؛ كما في هذا البيت. والثاني: القطع للوجوب، وهو ما كان لمانع، ومثّله بقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] قال: لأنه لو عُطف لعُطف إما على جملة {قَالُوا} وإما على جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} ، وكلاهما لا يصح لما مر3. وكذا قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} , وقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 12، 13] ، وفيه نظر؛ لجواز أن يكون المقطوع في المواضع الثلاثة معطوفا على الجملة المصدرة بالظرف4، وهذا القسم5 لم يبين امتناعه. الرابع: شبه كمال الاتصال: وأما كونها بمنزلة المتصلة بها؛ فلكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى؛ فتنزل منزلته، فتُفصَل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال6.

وقال السكاكي1: فينزل ذلك منزلة الواقع2. ثم قال: وتنزيل السؤال بالفحوى3 منزلة الواقع لا يُصار إليه إلا لجهات لطيفة، إما لتنبيه السامع على موقعه، أو لإغنائه أن يسأل، أو لئلا يسمع منه شيء، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه، أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وهو تقدير السؤال وترك العاطف، أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السلك. ويسمى الفصل لذلك استئنافا، وكذلك الجملة الثانية أيضا تسمى استئنافا. والاستئناف ثلاثة أضرب: لأن السؤال الذي تضمنته الجملة الأولى، إما عن سبب الحكم فيها مطلقا كقوله "من الخفيف": قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل ... سهر دائم وحزن طويل4 أي: ما بالك عليلا؟ أو ما سبب علتك؟ وكقوله "من البسيط": وقد غَرِضْتُ من الدنيا فهل زمني ... معطٍ حياتي لغِرّ بعد ما غَرِضا جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ود امرئ غَرضَا5

أي: لِمَ تقول هذا ويحك؟ وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة -إلى هذا الحد- كشحك1؟ وإما عن سبب خاص له2؛ كقوله تعالى3: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] . كأنه قيل: هل النفس أَمّارة بالسوء؟ فقيل: إن النفس لأمارة بالسوء. وهذا الضرب يقتضي تأكيد الحكم4؛ كما مر في باب أحوال الإسناد. وإما عن غيرهما5 كقوله تعالى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] كأنه قيل:

فماذا قال إبراهيم عليه السلام؟ فقيل: قال: سلام. ومنه قول الشاعر "من الكامل": زعم العواذل أنني في غمرة ... صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي1 فإنه لما أبدى الشكاية من جماعات العذّال؛ كان ذلك مما يحرك السامع ليسأل: أصدقوا في ذلك أم كذبوا؟ فأخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له؛ ففُصِل. ومثله قول جندب بن عمار "من الكامل": زعم العواذل أن ناقة جندب ... بجنوب خَبْت عُرِّيت وأُجمت كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بالقادسية قلن: لج وذلت2 وقد زاد هنا أمر الاستئناف تأكيدا؛ بأن وضع الظاهر3 موضع المضمر؛ من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله، وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام. ومن الأمثلة قول الوليد "من الوافر": عرفت المنزل الخالي ... عفا من بعد أحوال

عفاه كل حنّان ... عَسُوف الوبل هَطَّال1 فإنه لما قال: "عفا" وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه؛ كان مظنة أن يُسأل عن الفاعل. ومثله قول أبي الطيب "من الوافر": وما عفت الرياح له محلا ... عفا من حدا بهم وساقا2 فإنه لما نفى الفعل الموجود عن الرياح؛ كان مظنة أن يسأل عن الفاعل. وأيضا من الاستئناف ما يأتي بإعادة اسم ما استُؤنف عنه، كقولك: "أحسنت إلى زيد، زيد حقيق بالإحسان". ومنه ما يبنى على صفته؛ كقولك: "أحسنت إلى زيد، صديقك القديم أهل لذلك" وهذا أبلغ؛ لانطوائه على بيان السبب3. وقد يُحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة، كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ} [النور: 36، 37] فيمن قرأ "يُسَبَّحُ" مبنيا للمفعول4، وعليه نحو قولهم: "نعم الرجل أو رجلا زيد، وبئس الرجل أو رجلا عمرو"؛ على القول بأن المخصوص خبر مبتدأ محذوف، أي: هو زيد، كأنه لما قيل ذلك، فأبهم الفاعل بجعله معهودا ذهنيا، مظهرا5

أو مضمرا1، سُئل عن تفسيره، فقيل: "هو زيد"، ثم حذف المبتدأ. وقد يحذف الاستئناف كله، ويقام ما يدل عليه مقامه، كقول الحماسي "من الوافر": زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف2 حذف الجواب الذي هو "كذبتم في زعمكم"، وأقام قوله: "لهم إلف وليس لكم إلاف" مقامه؛ لدلالته عليه، ويجوز أن يقدر قوله: "لهم إلف وليس لكم إلاف" جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف، كأنه لما قال المتكلم: كذبتم، قالوا: "لِمَ كذبنا؟ " قال: "لهم إلف وليس لكم إلاف"؛ فيكون في البيت استئنافان. وقد يحذف ولا يقام شيء مقامه3 كقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 30] أي: أيوب، أو هو لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه، ونحوه قوله: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}

[الذاريات: 48] ؛ أي: نحن1. الوصل لدفع الإيهام: وإن لم يكن بين الجملتين شيء من الأحوال الأربع، تعين الوصل؛ إما لدفع إيهام خلاف المقصود2؛ كقول البلغاء: "لا، وأيدك الله"3, وهذا عكس الفصل للقطع4. الوصل للتوسط بين الكمالين: وإما للتوسط بين حالتي كمال الانقطاع وكمال الاتصال، وهو ضربان: أحدهما: أن تتفقا خبرا وإنشاء5، لفظا ومعنى، كقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14] ، وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31] ، وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ، وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] . والثاني: أن يتفقا كذلك معنى لا لفظا، كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي

إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا} [البقرة: 83] ؛ عطف قوله: {وَقُولُوا} على قوله: {لا تَعْبُدُونَ} ؛ لأنه بمعنى لا تعبدوا. وأما قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} فتقديره إما: وتُحسنون بمعنى وأحسنوا، وإما: وأحسنوا1، وهذا2 أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سُورِع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه. وأما قوله تعالى في سورة البقرة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 25] ، فقال الزمخشري فيه: فإن قلت: عَلَامَ عُطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه3؟ قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يُطلَب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين؛ فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين4؛ كما تقول: "زيد يعاقَب بالقيد والإرهاق، وبَشِّر عمرا بالعفو والإطلاق". ولك أن تقول: هو معطوف على {فَاتَّقُوا} ؛ كما تقول: "يا بني تميم، احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم" هذا كلامه. وفيه نظر لا يخفى على المتأمل5.

وقال أيضا في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13] : إنه معطوف على {تُؤْمِنُونَ} 1؛ لأنه بمعنى: آمِنوا2، وفيه أيضا نظر؛ لأن المخاطبين في {تُؤْمِنُونَ} هم المؤمنون، وفي {وَبَشِّرِ} هو النبي عليه السلام3. ثم قوله: {تُؤْمِنُونَ} بيان لما قبله4 على سبيل الاستئناف، فكيف يصح عطف {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} عليه5؟! وذهب السكاكي6 إلى أنهما معطوفان على "قل" مرادا قبل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] ، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الصف: 10] ؛ لأن إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة في القرآن، وذكر صورا كثيرة منها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا} [البقرة: 57] وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا} [البقرة: 93] ، وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا} [البقرة: 125] أي: وقلنا أو قائلين7، والأقرب أن يكون الأمر في الآيتين معطوفا على مقدر يدل عليه ما قبله، وهو في الآية الأولى "فأنذر" أو نحوه، أي: "فأنذرهم

وبشر الذين آمنوا"، وفي الآية الثانية "فأبشر" أو نحوه، أي: "فأبشر يا محمد وبشر المؤمنين"، وهذا كما قدَّر الزمخشري قوله تعالى: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] معطوفا على محذوف يدل عليه قوله: {لَأَرْجُمَنَّكَ} أي: فاحذرني واهجرني؛ لأن {لَأَرْجُمَنَّكَ} تهديد وتقريع. الجامع بين الجملتين, وأقسامه: والجامع بين الجملتين يجب أن يكون باعتبار المسنَد إليه في هذه، والمسنَد إليه في هذه، وباعتبار المسند في هذه، والمسند في هذه جميعا1 كقولك: "يشعر زيد ويكتب، ويعطي ويمنع"، وقولك: "زيد شاعر"، و"عمرو كاتب"، و"زيد طويل"، و"عمرو قصير" إذا كان بينهما مناسبة؛ كأن يكونا أخوين أو نظيرين بخلاف قولنا: "زيد شاعر، وعمرو كاتب" إذا لم يكن بينهما مناسبة، وقولنا: "زيد شاعر، وعمرو طويل" كان بينهما مناسبة أو لا، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] قُطع عما قبله؛ لأنه كلام في شأن الذين كفروا، وما قبله كلام في شأن القرآن2. وأما ما يُشعِر به ظاهر كلام السكاكي3 في موضع من كتابه أنه يكفي أن يكون

الجامع باعتبار المخبر عنه أو الخبر أو قيد من قيودهما, فإنه منقوض بما مر1 وبنحو قولك: هزم الأمير الجند يوم الجمعة، وخاط زيد ثوبي فيه2. ولعله سهو؛ فإنه صرح في موضع آخر منه3 بامتناع عطف قول القائل: "خفِّي ضيق" على قوله: "خاتمي ضيق" مع اتحادهما في الخبر4.

أنواع الجامع: ثم قال1: الجامع بين الشيئين: عقلي ووهمي وخيالي. أما العقلي2 فهو أن يكون بينهما اتحاد في التصور3، أو تماثل4؛ فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخص في الخارج يرفع التعدد بينهما، أو تضايف؛ كما بين العلة والمعلول، والسبب والمسبَّب، والسفل والعلو، والأقل والأكثر؛ فإن العقل يأبى ألا يجتمعا في الذهن5. وأما الوهمي6 فهو أن يكون بين تصورَيْهما شبه تماثل؛ كلون بياض ولون صفرة؛ فإن الوهم يُبرزهما في معرض المثلين7؛ ولذلك حسُن الجمع بين الثلاثة التي في قوله "من البسيط":

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحا وأبو إسحاق والقمر1 أو تضاد2 كالسواد والبياض، والهمس والجهارة، والطيب والنتن، والحلاوة والحموضة، والملاسة والخشونة، وكالتحرك والسكون، والقيام والقعود، والذهاب والمجيء، والإقرار والإنكار، والإيمان والكفر، وكالمتصفات بذلك؛ كالأسود والأبيض، والمؤمن والكافر. أو شبه تضاد3 كالسماء والأرض، والسهل والجبل، والأول والثاني؛ فإن الوهم يُنزل المتضادين والشبيهين بهما منزلة المتضايفين، فيجمع بينهما في الذهن؛ ولذلك نجد الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد. والخيالي4 أن يكون بين تصوريهما تقارن في الخيال سابق5، وأسبابه مختلفة؛ ولذلك اختلفت الصور الثابتة في الخيالات ترتبا ووضوحا، فكم صور تتعانق في

خيال وهي في آخر لا تتراءى، وكم صورة لا تكاد تلوح في خيال وهي في غيره نار على علم. كما يحكى أن صاحب سلاح ملك، وصائغا، وصاحب بقر، ومعلم صبية سافروا ذات يوم، وواصلوا سير النهار بسير الليل، فبينما هم في وحشة الظلام ومقاساة خوف التخبّط والضلال؛ طلع عليهم البدر بنوره، فأفاض كل منهم في الثناء عليه، وشبّهه بأفضل ما في خزانة صوره، فشبهه السلاحي بالترس المذهب يُرفع عند الملك، والصائغ بالسبيكة من الإبريز تفترّ عن وجهها البوتقة، والبقار بالجبن الأبيض يخرج من قالبه طريا، والمعلم برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذي مروءة. وكما يحكى عن ورّاق يصف حاله: "عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرقّ من الزجاج، وحظي أخفى من شقّ القلم، وبدني أضعف من قصبة، وطعامي أمرّ من العفص، وشرابي أشد سوادا من الحبر، وسوء الحال لي ألزم من الصمغ". ولصاحب علم المعاني1 فضل احتياج إلى التنبّه لأنواع الجامع، لا سيما الخيالي؛ فإن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في ذلك؛ كالجمع بين الإبل والسماء، والجبال والأرض في قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17-20] بالنسبة إلى أهل الوبر، فإن جُلّ انتفاعهم في معاشهم من الإبل؛ فتكون عنايتهم مصروفة إليها، وانتفاعهم منها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب، وذلك بنزول المطر، فيكثر تقلب وجوههم في السماء، ثم لا بد لهم من مأوى يُؤويهم وحصن يتحصنون به، ولا شيء لهم في ذلك كالجبال، ثم لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها؛ فإذا فتش

البدوي في خياله وجد صور هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور، بخلاف الحضري، فإذا تلا قبل الوقوف على ما ذكرنا؛ ظن النسقَ "لجهله" مَعِيبا1. محسنات الوصل: ومن محسنات الوصل2 تناسب الجملتين في الاسمية والفعلية، وفي المُضِيّ والمضارعة3، إلا لمانع، كما إذا أريد بإحداهما التجدد، وبالأخرى الثبوت؛ كما إذا كان زيد وعمرو قاعدين ثم قام زيد دون عمرو، وقلت: "قام زيد، وعمرو قاعد" كما سبق4.

فروق الجملة الحالية: ومما يتصل بهذا الباب القول في الجملة إذا وقعت حالا منتقلة1، فإنها تجيء تارة بالواو، وتارة بغير الواو2؛ فنقول: أصل الحال المنتقلة أن تكون بغير واو؛ لوجوه:

الأول: أن إعرابها ليس بتبع1؛ وما ليس إعرابه بتبع لا يدخله الواو، وهذه الواو وإن كانت تسمى واو الحال فإن أصلها العطف. الثاني: أن الحال في المعنى حكم على ذي الحال؛ كالخبر بالنسبة إلى المبتدأ، إلا أن الفرق بينه وبينها أن الحكم به يحصل بالأصالة، لا في ضمن شيء آخر، والحكم بها إنما يحصل في ضمن غيرها؛ فإن الركوب مثلا في قولنا: "جاء زيد راكبا" محكوم به على زيد، لكن لا بالأصالة بل بالتبعية، بأن وُصل بالمجيء، وجُعل قيدا له، بخلافه في قولنا: "زيد راكب". الثالث: أنها في الحقيقة وصف لذي الحال؛ فلا يدخلها الواو؛ كالنعت؛ فثبت أن أصلها أن تكون بغير واو، لكن خُولِف هذا الأصل فيها إذا كانت جملة؛ لأنه بالنظر إليها من حيث هي جملة2 مستقلة بالإفادة، فتحتاج إلى ما يربطها بما جُعلت حالا عنه، وكل واحد من الضمير والواو صالح للربط، والأصل: للضمير3؛ بدليل الاقتصار عليه في الحال المفردة والخبر والنعت. وإذا تمهّد هذا فنقول: الجملة التي تقع حالا ضربان: خالية عن ضمير ما تقع حالا عنه، غير خالية: أما الأول: فيجب أن تكون بالواو؛ لئلا تصير منقطعة عنه، غير مرتبطة به، وكل جملة خالية عن ضمير ما يجوز أن ينتصب عنه حال؛ يصح أن تقع حالا عنه إذا كانت مع الواو، إلا المصدرة بالمضارع المثبت؛ كقولك: "جاء زيد ويتكلم عمرو"، على أن يكون "ويتكلم عمرو" حالا عن زيد؛ لما سيأتي أن ارتباط مثلها يجب أن يكون بالضمير وحده.

وأما الثاني: فتارة يجب أن تكون بالواو، وتارة يمتنع ذلك، وتارة يترجح أحدهما، وتارة يستوي الأمران، والواو غير منافٍ للضمير في إفادة الربط1؛ فتعين التنبيه على أسباب الاختلاف؛ فنقول: الجملة إن كانت فعلية والفعل مضارع مثبت، امتنع الواو؛ كقوله تعالى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [الأنعام: 110] ، وقوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] 2، وقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17، 18] ؛ لأن أصل الحال المفردة أن تدل على حصول صفة غير ثابتة3 مقارنة لما جعلت قيدا له4، والمضارع المثبت كذلك. أما دلالته على حصول صفة غير ثابتة فلأنه فعل مثبت، والفعل المثبت يدل على التجدد وعدم الثبوت كما مر5. وأما دلالته على المقارنة فلكونه مضارعا6، فوجب أن يكون بالضمير وحده كالحال المفردة، وبهذا امتنع

نحو: "جاء زيد ويتكلم عمرو" كما مر، وأما ما جاء من نحو قول بعض العرب: "قمت وأصُكّ عينه أو وجهه" وقول عبد الله بن همام السلولي "من المتقارب": فلما خَشِيتُ أظافيرهم ... نجوت وأرهنهم مالكا1 فقيل: هو على حذف المبتدأ، أي: أصك عينه وأنا أرهنهم، وقيل: الأول شاذ والثاني ضرورة، وقال الشيخ عبد القاهر2: ليست الواو فيهما للحال، بل هي للعطف، وأصكّ وأرهن، بمعنى: صككت ورهنت، ولكن الغرض من إخراجهما على لفظ الحال أن يحكيا الحال في أحد الخبرين، ويَدَعا الآخر على أصله كما في قوله "من الكامل": ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيتُ ثمَّتْ قلت: لا يعنيني3 يبين ذلك أن الفاء قد تجيء مكان الواو في مثله، كما في خبر عبد الله بن عتيك، فإنه ذكر دخوله على أبي رافع اليهودي حِصْنه ثم قال: فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم, لا أدري أين هو من البيت، قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت، فأضربه بالسيف وأنا دَهِش، فإن قوله: "فأضربه" مضارع عطفه بالفاء على ماضٍ؛ لأنه في المعنى ماضٍ. وإن كان الفعل مضارعا منفيا فيجوز فيه الأمران من غير ترجيح؛ لدلالته على المقارنة؛ لكونه مضارعا، وعدم دلالته على الحصول؛ لكونه منفيا4، أما مجيئه

بالواو فكقراءة ابن ذكوان: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ} [يونس: 89] بتخفيف النون1، وقول بعض العرب: "كنت ولا أُخشى بالذيب"، وقول مسكين الدارمي "من الرمل": أكسبتْه الورِق البيض أبا ... ولقد كان ولا يدعى لأب2 وقول مالك بن رفيع، وكان قد جنى جناية؛ فطلبه مصعب بن الزبير "من الوافر": بغاني مصعب وبنو أبيه ... فأين أحيد عنهم لا أحيد قادوا من دمي وتوعّدوني ... وكنت وما يُنهنهني الوعيد3 وأما مجيئه بغير واو: فكقوله تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [المائدة: 84] . وقول عكرشة العبشي "من الطويل": مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ... من الدهر أسباب جَرَيْنَ على قدر4 وقول خالد بن يزيد من معاوية "من الكامل":

لو أن قوما لارتفاع قبيلة ... دخلوا السماء ودخلتُها لا أُحجب1 وقول الأعشى "من الوافر": أتينا أصبهان فهزّلتْنا ... وكنا قبل ذلك في نعيم وكان سفاهة مني وجهلا ... مسيري، لا أسير إلى حميم2 كأنه قال: وكان سفاهة مني وجهلا أن سرت غير سائر إلى حميم. وإن كان ماضيا لفظا أو معنى؛ فكذلك يجوز الأمران من غير ترجيح. أما مجيئه بالواو فكقوله تعالى حكاية: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40] , وقوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: 8] . وقول امرئ القيس "من الطويل": أيقتلني وقد شعَفتْ فؤادها ... كما شعف المنهوءة الرجل الطالي3 وقوله "من الطويل": فجئت وقد نَضَّتْ لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لِبْسَة المتفضِّل4 وقوله تعالى: {قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] 5، وقوله: {أَنَّى

يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] ، وقول كعب "من البسيط": لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت فيَّ الأقاويل1 وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214] , وقول الشاعر "من البسيط": بانت قَطامِ ولمّا يحظَ ذو مِقَة ... منها بوصل ولا إنجاز ميعاد2 وأما مجيئه بلا واو فكقوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] . وقول الشاعر "من الطويل": وإني لتعروني لذكراك هِزّة ... كما انتفض العصفور بلَّلَه القطر3 وقوله "من الطويل": أتيناكُمُ قد عمكم حذر العدا ... فنلتم بنا أمْنا ولم تعدموا نصْرا4 وقوله "من البسيط": متى أرى الصبح قد لاحت مخايله ... والليل قد مُزِّقتْ عنه السرابيل5 وكقوله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] .

وقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25] . وقول امرئ القيس "من الطويل": فأدركَ لم يُجْهَد ولم يثن شأوه1 وقول زهير "من الطويل": كأن فُتَات العِهْن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم2 والسبب في أن جاز الأمران فيه إذا كان مثبتا دلالته على حصول صفة غير ثابتة لكونه فعلا مثبتا، وعدم دلالته على المقارنة؛ لكونه ماضيا3؛ لهذا اشتُرط أن يكون مع "قد" ظاهرة أو مقدرة حتى تقربه إلى الحال؛ فيصح وقوعه حالا. وظاهر هذا يقتضي وجوب الواو في المنفي؛ لانتفاء المعنيين4، لكنه لم يجب فيه؛ بل كان مثله، أما المنفي بـ "لما" فلأنها للاستغراق5، وأما المنفي بغيرها فإنه لما دل على انتفاء متقدم6، وكان الأصل استمرار ذلك7؛ حصلت الدلالة على المقارنة عند

إطلاقه1، بخلاف المثبت؛ فإن وضع الفعل على إفادة التجدد2 وتحقيق هذا أن استمرار العدم لا يفتقر إلى سبب بخلاف استمرار الوجود، كما بين في غير هذا العلم3. وإن كانت الجملة اسمية فالمشهور أنه يجوز فيها الأمران، ومجيء الواو أولى؛ أما الأول4 فلعكس ما ذكرناه في المصدرة بالماضي المثبت5؛ فمجيء الواو كقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] ، وقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وقول امرئ القيس "من الطويل": أيقتلني والمشرَفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال6 وقوله "من الطويل": لياليَ يدعوني الهوى فأجيبه ... وأعين من أهوى إلي رَوَان7 والخلو منها كما رواه سيبويه: "كلمته فوه إلى في، ورجع عوده على بدئه"

بالرفع1. وما أنشده أبو علي في الإغفال "من الطويل": ولولا جَنان الليل ما آب عامر ... إلى جعفر، سرباله لم يمزق2 وقول الآخر "من الكامل": ما بال عينك دمعها لا يَرْقأ؟! 3 وقول الآخر "من الرمل": ثم راحوا عَبَق المسك بهم4 وأما الثاني5: فلعدم دلالة الاسمية على عدم الثبوت، مع ظهور الاستئناف فيها؛ لاستقلالها بالفائدة6؛ فتحسن زيادة رابط ليتأكد الربط. وقال الشيخ عبد القاهر7: "إن كان المبتدأ ضمير ذي الحال؛ وجب الواو؛ كقولك: "جاء زيد وهو يسرع، أو وهو مسرع"، ولعل السبب فيه أن أصل الفائدة

كان يحصل بدون هذا الضمير؛ بأن يقال: "جاءني زيد يسرع أو مسرعا"؛ فالإتيان به يشعر بقصد الاستئناف المنافي للاتصال؛ فلا يصلح لأن يستقل بإفادة الربط؛ فتجب الواو". وقال أيضا: إن جعل نحو: "على كتفه سيف"1 "بتقديم الظرف" حالا عن شيء، كما في قولنا: "جاء زيد على كتفه سيف"؛ كثر فيها أن تجيء بغير واو؛ كقول بشار "من الطويل": إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي عليّ سواد2 يعني: علي بقية من الليل. وقول أبي الصلت عبد الله الثقفي يمدح ابن ذي يزن "من البسيط": فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا3 وقول الآخر "من الطويل": لقد صيرت للذل أعواد منبر ... تقوم عليها في يديك قضيب4 ثم قال5: والوجه أن يقدر الاسم في الأمثلة مرتفعا بالظرف؛ فإنه جائز باتفاق

من صاحب الكتاب وأبي الحسن1 لاعتماده على ما قبله2، ثم اختار أن يكون الظرف ههنا خاصة في تقدير اسم فاعل، وجوّز أيضا أن يكون في تقدير فعل ماضٍ مع "قد"، ومنع أن يكون في تقدير فعل مضارع، ولعله إنما اختار تقديره باسم فاعل لرجوع الحال حينئذ إلى أصلها في الإفراد؛ ولهذا كثر مجيئها بلا واو، وإنما جُوز التقدير بفعل ماضٍ أيضا لمجيئها بالواو قليلا، وإنما منع التقدير بفعل مضارع؛ لأنه لو جاز التقدير به لامتنع مجيئها بالواو3. ثم قال4: وربما يحسن مجيء الاسمية بلا واو؛ لدخول حرف على المبتدأ؛ كما في قوله "من الطويل": فقلت عسى أن تبصريني كأنما ... بَنِيّ حوالي الأسود الحوارد5 فإنه لولا دخول "كأن" عليه لم يحسن الكلام إلا بالواو؛ كقولك: عسى أن تبصريني وبني حوالي الأسود. ثم قال6: وشبيه بهذا أن تقع حالا بعقب المفرد فيلطف مكانها7، بخلاف ما لو أفردت8؛ كقول ابن الرومي "من الطويل":

والله يبقيك لنا سالما ... برداك تبجيل وتعظيم1 فإنه لو قال: "والله يُبقيك لنا برداك تبجيل"؛ لم يحسن. هذا كله إذا لم يكن صاحبها نكرة مقدمة عليها، فإن كان كذلك نحو: "جاء رجل وعلى كتفه سيف" وجب الواو؛ لئلا تشتبه بالنعت. وأما نحو قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] فقال السكاكي2: "الوجه فيه عندي هو أن {وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} حال لقرية؛ لكونها في حكم الموصوف نازلة منزلة "وما أهلكنا قرية من القرى" لا وصف، وحمله على الوصف سهو لا خطأ، ولا عيب في السهو للإنسان ولا ذام، والسهو ما يتنبه له صاحبه بأدنى تنبيه، والخطأ ما لا يتنبه له صاحبه أو يتنبه ولكن بعد تعب". وكأنه عرض الزمخشري حيث قال في تفسيره: {وَلَهَا كِتَابٌ} جملة واقعة صفة "لقرية"، والقياس ألا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا

مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208] ، وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف؛ كما يقال في الحال: "جاءني زيد عليه ثوب"، و"جاءني زيد وعليه ثوب". ثم قال السكاكي1: "من عرف السبب في تقديم الحال إذا أريد إيقاعها عن النكرة؛ تنبَّه لجواز إيقاعها عن النكرة مع الواو في مثل: "جاءني رجل وعلى كتفه سيف"، ولمزيد جوازه في قوله عز اسمه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] على ما قدمت". واعلم أن السكاكي بنى كلامه في الجملة الواقعة حالا على أصول مضطربة لا يخفى حالها على الفَطِن، لا سيما إذا أحاط علما بما ذكرناه وأتقنه، فآثرنا الإعراض عن نقل كلامه والتعرض لما فيه من الخلل؛ لئلا يطول الكتاب من غير طائل.

تمرينات على الوصل والفصل: تمرين 1: 1- لماذا فصل الشاعر بين الجملتين في قوله: جزى الله الشدائد كل خير ... عرفت بها عدوي من صديقي؟ 2- لماذا وصل الشاعر بين الجملتين في قوله: سافر تجد عوضا عمن تفارقه ... وانصب فإن لذيذ العيش في النَّصَب؟ تمرين 2: 1- بين موضع الوصل والفصل في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 1، 2] . 2- بين الفصل لكمال الانقطاع, ولشبه كمال الاتصال في قول الشاعر: قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل ... سهر دائم وحزن طويل تمرين 3: 1- بين سبب الفصل في موضعيه من قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] . 2- لأي جامع وُصِلَ في قول الشاعر: ولست بهيّاب لمن لا يهابني ... ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا؟ تمرين 4: 1- لماذا فصل الشاعر بين الجملتين مع كونهما خبريتين في قوله: الفقر فيما جاوز الكفافا ... من اتقى الله رجا وخافا؟ 2- مر أبو بكر -رضي الله عنه- برجل في يده ثوب، فقال له: أتبيع هذا؟ فقال: لا يرحمك الله، فقال له: لا تقل هكذا، وقل: ويرحمك الله، فأمره بزيادة "واو" بين "لا" وقوله: "يرحمك الله"؛ ليكون وصلا لا فصلا؛ فما هو السبب في أمر

أبي بكر له بالوصل بين الجملتين؟ وهل الوصل يجب في ذلك بلاغة أو نحوا؟ وهل الجملة الثانية خبر أو إنشاء؟ تمرين 5: 1- لماذا فصل بين الجملتين في قول الشاعر: قم للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا؟ 2- بين سبب الوصل والفصل في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا، إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا، وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 10-13] . تمرين 6: 1- بين موضع الوصل للتناسب في الاسمية والفعلية، ولِمَ وصل من عدمه في قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] ؟ وبين لِمَ فُصل فيه الحال أيضا؟ 2- لماذا أتت الجملة الحالية من غير واو في قول الشاعر: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بمكة حولي إذخر وجليل؟ 3- لماذا عطف "يُذبحون" في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم: 6] , ولم يعطف في قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49] ؟

الباب الثامن: القول في الإيجاز والإطناب والمساواة

الباب الثامن: القول في الإيجاز والإطناب والمساواة تعريف السكاكي للإيجاز والإطناب والمساواة: قال السكاكي1: "أما الإيجاز والإطناب؛ فلكونهما نسبيين2، لا يتيسر الكلام فيهما إلا بترك التحقيق3، والبناء على شيء عرفي4 مثل جعل كلام الأوساط على مجرى متعارَفهم في التأدية للمعاني فيما بينهم -ولا بد من الاعتراف بذلك5- مقيسا عليه6 ولنسمِّه "متعارف الأوساط"، وأنه في باب البلاغة لا يُحمد منهم ولا يُذم. فالإيجاز7: هو أداة المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط،

والإطناب: هو أداؤه بأكثر من عباراته؛ سواء كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل"1 ثم قال2: "الاختصار لكونه من الأمور النسبية يُرجَع في بيان دعواه3 إلى ما سبق تارة، وإلى كون المَقام خليقا بأبسط مما ذُكر أخرى"4. وفيه نظر؛ لأن كون الشيء نسبيا لا يقتضي ألا يتيسر الكلام فيه إلا بترك التحقيق والبناء على شيء عرفي5، ثم البناء على متعارف الأوساط والبسط الذي يكون المقصود جديرا به رد إلى جهالة6، فكيف يصلح للتعريف؟!

تعريف الخطيب

تعريف الخطيب: والأقرب أن يقال: المقبول من طرق التعبير عن المعنى هو تأدية الأصل المراد1 بلفظ مساوٍ له2، أو ناقص عنه وافٍ، أو زائد عليه لفائدة. والمراد بالمساواة أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد؛ لا ناقصا عنه بحذف أو غيره كما سيأتي، ولا زائدا عليه بنحو تكرير أو تتميم أو اعتراض، كما سيأتي.

التطويل والحشو والإخلال

التطويل والحشو والإخلال: الإخلال: وقولنا: "وافٍ" احتراز عن الإخلال، وهو أن يكون اللفظ قاصرا عن أداء المعنى؛ كقول عروة بن الورد "من الطويل": عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا1 فإنه أراد "إذ يقتلون نفوسهم في السلم"، وقول الحارث بن حلزة "من الرجز": والعيش خير في ظلا ... ل النَّوْك ممن عاش كَدَّا2 فإنه أراد "العيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل"؛ فأخل كما ترى. التطويل والحشو: وقولنا: "لفائدة" احتراز من شيئين: أحدهما: التطويل، وهو ألا يتعين الزائد في

الكلام؛ كقوله "من الوافر": وألفَى قولها كذبا ومَيْنا1 فإن الكذب والمَيْن واحد. وثانيهما: ما يشتمل على الحشو؛ والحشو ما يتعين أنه الزائد؛ وهو ضربان: أحدهما: ما يفسد المعنى؛ كقول أبي الطيب "من الطويل": ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب2 فإن لفظ: "الندى" فيه حشو يفسد المعنى؛ لأن المعنى أنه لا فضل في الدنيا للشجاعة والصبر والندى لولا الموت، وهذا الحكم صحيح في الشجاعة3 دون الندى؛ لأن الشجاع لو علم أنه يخلد في الدنيا لم يخش الهلاك في الإقدام؛ فلم يكن لشجاعته فضل، بخلاف الباذل ماله، فإنه إذا علم أنه يموت هان عليه بذله؛ ولهذا يقول إذا عوتب فيه: كيف لا أبذل ما لا أبقى له؟ أنّى أثق بالتمتع بهذا المال؟! وعليه قول طرفة "من البسيط":

فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي ... فذرني أبادرها بما ملكت يدي1 وقول مهيار "من البسيط": فكل إن أكلت وأطعم أخاك ... فلا الزاد يبقى ولا الآكل2 فلو علم أنه يخلد ثم جاد بماله كان جوده أفضل، فالشجاعة لولا الموت لم تحمد، والندى بالضد. وأجيب عنه بأن المراد بالندى في البيت بذل النفس لا بذل المال؛ كما قال مسلم بن الوليد "من البسيط": يجود بالنفس إن ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود ورُد بأن لفظ "الندى" لا يكاد يستعمل في بذل النفس، وإن استعمل فعلى وجه الإضافة, فأما مطلقا فلا يفيد إلا بذل المال. والثاني: ما لا يفسد المعنى؛ كقوله "من الوافر": ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوَصَب3 فإن لفظ "الرأس" فيه حشو لا فائدة فيه؛ لأن الصداع لا يستعمل إلا في الرأس، وليس بمفسد للمعنى. وقول زهير "من الطويل": وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عَمِي فإن قوله: "قبله" مستغنى عنه، غير مفسد، وقول أبي عدي "من الطويل":

نحن الرءوس وما الرءوس إذا سَمَت ... في المجد للأقوام كالأذناب1 فإن قوله: "للأقوام" حشو لا فائدة فيه، مع أنه غير مفسد2. واعلم أنه قد تشتبه الحال على الناظر؛ لعدم تحصيل معنى الكلام وحقيقته، فيعد من الزائد على أصل المراد ما ليس منه، كما مثّله بعض الناس3 بقول القائل "من الطويل": ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح وشُدّت على دُهْم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح4 يبيّن أنه ليس منه ما ذكره الشيخ عبد القاهر في شرحه5 قال: أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: "ولما قضينا من منى كل حاجة" فعبر عن قضاء جميع

المناسك؛ فرائضها وسننها بطريق العموم الذي هو أحد طرق الاختصار، ثم نبه بقوله: "ومسح بالأركان من هو ماسح" على طواف الوداع الذي هو آخِر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر، ثم قال: "وشُدَّت ... " البيت، فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من ذم الركاب وركوب الركبان، ثم دل بلفظ "الأطراف" على الصفة التي تختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتظرفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء1، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوة النشاط وفضل الاغتباط، كما توجبه ألفة الأصحاب، وأنسة الأحباب، ويليق بحال من وُفق لقضاء العبادة الشريفة ورَجَا حسن الإياب، وتنسُّم روائح الأحبة والأوطان، واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإخوان، ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة حيث قال: "وسالت بأعناق المطي الأباطح" فنبّه بذلك على سرعة السير ووطأة الظهر، وفي ذلك ما يؤكد ما قبله؛ لأن الظهور إذا كانت وطيئة، وكان سيرها سهلا سريعا, زاد ذلك في نشاط الركبان، فيزداد الحديث طِيبا، ثم قال: "بأعناق المطي" ولم يقل: بالمطي؛ لأن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في أعناقها، ويتبين أمرهما من هَواديها2 وصدورها، وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة، وتَتبعها في الثقل والخفة3.

القسم الأول: المساواة

القسم الأول: المساواة كقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] 1، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] , وقول النابغة الذبياني "من الطويل": فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع2

القسم الثاني: الإيجاز

القسم الثاني: الإيجاز وهو ضربان: إيجاز القصر: أحدهما إيجاز القصر1 وهو ما ليس بحذف، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، فإنه لا حذف فيه2 مع أن معناه كثير يزيد على لفظه؛ لأن المراد به أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتل قُتل كان ذلك داعيا له قويا إلى ألا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل -الذي هو القصاص- كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، فكان ارتفاع القتل حياة لهم، وفضله على ما كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى، وهو قولهم: "القتل أنفى للقتل"، من وجوه: أحدها: أن عدة حروف ما يناظره منه وهو "في القصاص حياة" عشرة في التلفظ3، وعدة حروفه أربعة عشر. وثانيها: ما فيه من التصريح بالمطلوب -الذي هو الحياة- بالنص عليها؛ فيكون أزجر عن القتل بغير حق؛ لكونه أدعى إلى الاقتصاص. وثالثها: ما يفيده تنكير "حياة" من التعظيم أو النوعية كما سبق4. ورابعها: اطراده، بخلاف قولهم؛ فإن القتل الذي ينفي القتل هو ما كان على

وجه القصاص لا غيره. وخامسها: سلامته من التكرار الذي هو من عيوب الكلام، بخلاف قولهم. وسادسها: استغناؤه عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم، فإن تقديره: "القتل أنفى للقتل من تركه"1. وسابعها: أن القصاص ضد الحياة؛ فالجمع بينهما طباق كما سيأتي2. وثامنها: جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بإدخال "في" عليه على ما تقدم. ومنه قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] أي: هدى للضالين الصائرين إلى الهدى بعد الضلال3. وحسّنه التوصل إلى تسمية الشيء باسم ما يئول إليه4 وإلى تصدير السورة بذكر أولياء الله تعالى، وقوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [يونس: 18] أي: بما لا ثبوت له ولا علم لله متعلق بثبوته؛ نفيا للملزوم بنفي اللازم5. وكذلك قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] أي: لا شفاعة ولا طاعة، على أسلوب قوله "من البسيط": على لاحِب لا يُهتدى بمناره6

أي: لا منار، ولا اهتداء، وقوله "من السريع": ولا ترى الضب بها ينجَحِر1 ... أي: لا ضب، ولا انجحار. ومن أمثلة الإيجاز أيضا قوله تعالى فيما يخاطب به النبي عليه الصلاة والسلام: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، فإنه جمع فيه مكارم الأخلاق؛ لأن قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} أمر بإصلاح قوة الشهوة2؛ فإن العفو ضد الجهل. قال الشاعر "من الطويل": خذي العفو مني تستديمي مودتي3 أي: خذي ما تيسر أخذه وتَسَهَّل. وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أمر بإصلاح قوة الغضب4، أي: أعرِض عن السفهاء، واحلُم عنهم، ولا تكافئهم على أفعالهم. هذا ما يرجع إليه منها، وأما ما يرجع إلى أمته, فدل عليه قوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} أي: بالمعروف والجميل من الأفعال؛ ولهذا قال جعفر الصادق -رضي الله عنه- فيما روي عنه: أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لها من هذه الآية. ومنها قول الشريف الرضي "من الكامل": مالوا إلى شُعَب الرحال وأسندوا ... أيدي الطعان إلى قلوب تَخْفِق5 فإنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في أثناء وصفهم بالغرام، عبّر عن ذلك بقوله: "أيدي الطعان". ومنها ما كتب عمرو بن مسعدة عن المأمون، لرجل يُعنَى به، إلى بعض العمال؛ حيث أمره أن يختصر كتابه ما أمكن: "كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معنيّ بمن كُتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله".

إيجاز الحذف

إيجاز الحذف: والضرب الثاني إيجاز الحذف، وهو ما يكون بحذف، والمحذوف إما جزء جملة، أو أكثر من جملة. والأول: إما مضاف؛ كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي: أهلها, وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي: تناولها؛ لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالأفعال دون الأجرام، وقوله تعالى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] أي: تناوُل طيبات أُحل لهم تناولها، وتقدير التناول أولى من تقدير الأكل؛ ليدخل فيه شرب ألبان الإبل؛ فإنها من جملة ما حرمت عليهم، وقوله تعالى: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام: 138] ؛ أي: منافع ظهورها، وتقدير المنافع أولى من تقدير الركوب؛ لأنهم حرَّموا ركوبها وتحميلها، كقوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو

اللَّهَ} [الأحزاب: 21] أي: رحمة الله، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} [النحل: 50] أي: عذاب ربهم، وقد ظهر هذان المضافان في قوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] . وإما موصوف؛ كقوله "من الوافر": أنا ابن جَلَا وطَلاع الثنايا1 ... أي: أنا ابن رجل جلا2. وإما صفة؛ نحو: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] أي: كل سفينة صحيحة أو صالحة أو نحو ذلك؛ بدليل ما قبله3، وقد جاء ذلك مذكورا في بعض القراءات؛ قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس -رضي الله عنه- يقرأ: "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا". وإما شرط كما سبق4. وإما جواب شرط، وهو ضربان:

أحدهما: أن يحذف لمجرد الاختصار1 كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45] أي: أعرضوا، بدليل2 قوله بعده: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس: 46] ، وكقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] أي: لكان هذا القرآن، وكقوله تعالى: {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] أي: ألستم ظالمين؟ بدليل قوله بعده: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [الأحقاف: 10] . والثاني: أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف3، أو لتذهب نفس السامع فيه كل مذهب ممكن4؛ فلا يتصور مطلوبا أو مكروها إلا ويجوّز أن يكون الأمر أعظم منه، ولو عُين شيء اقتصر عليه، وربما خف أمره عنده5؛ كقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ

لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] 1، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] , {وَلَوْ تَرَى إِذِ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] , {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] 2. قال السكاكي رحمه الله3: "ولهذا المعنى حُذفت الصلة من قولهم: "جاء بعد اللُّتيَّا والتي"4 أي: المشار إليه بهما، وهي المحنة والشدائد قد بلغت شدتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهَت الواصف معه حتى لا يُحير ببنت شفة. وإما غير ذلك5؛ كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] ، أي: ومن أنفق من بعده وقاتل6، بدليل ما بعده7. ومن هذا الضرب قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] ؛ لأن أصله: "يا رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس مني شيبا". وعده السكاكي من القسم الثاني من الإيجاز على ما فسره8؛ ذاهبا إلى أنه -وإن اشتمل على بسط- فإن انقراض الشباب وإلمام المشيب جديران بأبسط منه،

ثم ذكر أن فيه لطائف يتوقف بيانها على النظر في أصل المعنى ومرتبته الأولى، ثم أفاد أن مرتبته الأولى "يا ربي، قد شختُ" فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس، ثم تُركت هذه المرتبة لتوخي مزيد التقرير إلى تفصيلها في "ضعف بدني وشاب رأسي" ثم ترك التصريح "بضعف بدني" إلى الكناية بـ "وهنت عظام بدني" لما سيأتي أن الكناية أبلغ من التصريح، ثم لقصد مرتبة رابعة أبلغ في التقرير بُنيت الكناية على المبتدأ1 فحصل "أنا وهنت عظام بدني"، ثم لقصد مرتبة خامسة أبلغ أدخلت إن على المبتدأ، فحصل "إني وهنت عظام بدني"، ثم لطلب تقرير أن الواهن عظام بدنه قصد مرتبة سادسة؛ وهي سلوك طريقي الإجمال والتفصيل، فحصل "إني وهنت العظام من بدني"، ثم لطلب مزيد اختصاص العظام به قصدت مرتبة سابعة؛ وهي ترك توسيط البدن، فحصل "إني وهنت العظام مني"، ثم لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا قُصدت مرتبة ثامنة، وهي ترك الجمع إلى الإفراد؛ لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد فرد2، فحصل ما ترى3. وهكذا تُركت الحقيقة في "شاب رأسي" إلى الاستعارة في "اشتعل شيب رأسي" لما سيأتي أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة، ثم تركت هذه المرتبة إلى تحويل الإسناد إلى الراس وتفسيره بـ "شيبا"؛ لأنها أبلغ من جهات: إحداها: إسناد الاشتعال إلى الرأس؛ لإفادة شمول الشيب الرأس؛ إذ وزان "اشتعل شيب رأسي، واشتعل رأسي شيبا" وزان "اشتعل النار في بيتي، واشتعل بيتي نارا" والفرق بيّن نيّر. وثانيتها: الإجمال والتفصيل في طريقي التمييز.

وثالثتها: تنكير "شيبا" لإفادة المبالغة، ثم ترك "اشتعل رأسي شيبا" لتوخي مزيد التقدير إلى "اشتعل الرأس مني شيبا" على نحو: "وهن العظم مني" ثم ترك لفظ "مني" لقرينة عطف "اشتعل الرأس" على "وهن العظم مني" لمزيد التقرير، وهو إيهام حَوَالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ". ثم قال عقيب هذا الكلام: "واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي "رب" اختُصرت ذلك الاختصار، بأن حذفت كلمة النداء وهي "يا"، وحذفت كلمة المضاف إليه وهي ياء المتكلم، واقتُصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب وهي المنادى، والمقدمة للكلام كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة نازلة منزلة الأساس للبناء، فكما أن البنّاء الحاذق لا يرمي الأساس إلا بقدر ما يقدر من البناء عليه، كذلك البليغ يصنع بمبدأ كلامه؛ فمتى رأيته قد اختصر المبدأ فقد آذنك باختصار ما يورد". انتهى كلامه. وعليك أن تتنبه لشيء، وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ "العظام" إلى لفظ "العظم" فيه نظر؛ لأننا لا نسلم بصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد1؛ فالوجه في ذكر "العظم" دون سائر ما تركّب منه البدن، وتوحيده؛ ما ذكره الزمخشري؛ قال: "إنما ذكر العظم؛ لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، وإذا وهن تداعى وتساقطت قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحّده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية2، وقصده إلى أن هذا الجنس -الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد- قد أصابه

الوهن، ولو جُمع لكان قصدا إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن بعض عظامه ولكن كلها، واعلم أن المراد بشمول الشيب الرأس أن يعم جملته؛ حتى لا يبقى من السواد شيء أو لا يبقى منه إلا ما لا يعتد به. والثاني: أعني ما يكون جملة، إما مسبّب ذُكر سببه، كقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8] أي: فعل ما فعل1، وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 46] أي: اخترناك، وقوله: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الفتح: 25] أي: كان الكف ومنع التعذيب. ومنه قول أبي الطيب "من البسيط": أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم2 أي: فساءنا. أو بالعكس3 كقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 54] أي: فامتثلتم فتاب عليكم، وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60] أي: فضربه بها فانفجرت، ويجوز أن يقدر: "فإن ضربتَ بها فقد انفجرت"4.

أو غير ذلك1 كقوله تعالى: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48] على ما مرّ2. والثالث3 كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] أي: فضربوه ببعضها، فحَيِيَ، فقلنا: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} . وقوله: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ، يُوسُفُ} [يوسف: 45، 46] أي: فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه، فأتاه وقال له: يا يوسف. وقوله: {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: 36] أي: فأتياهم فأبلغاهم الرسالة فكذبوهما، فدمرناهم. وقوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا} [الشعراء: 16-18] أي: فأتياه فأبلغاه ذلك، فلما سمعه قال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ} . ويجوز أن يكون التقدير: فأتياه فأبلغاه ذلك, ثم يقدر: فماذا قال؟ فيقع قوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ} استئنافا، ونحوه قوله: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} [النمل: 28, 29] أي: ففعل ذلك، فأخذتْ الكتاب فقرأته، ثم كأن سائلا سأل فقال: فماذا قالت؟ فقيل: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} . وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15] فقال الزمخشري في تفسيره: هذا موضع الفاء، كما يقال: "أعطيته فشكر ومنعته فصبر"، وعطفَه بالواو إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما العلم، كأنه قال: فعملا به، وعلما وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، وقالا:

الحمد لله. وقال السكاكي1: يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عما صنع بهما وعما قالا؛ كأنه قال: نحن فعلنا إيتاء العلم، وهما فعلا الحمد، من غير بيان ترتّبه عليه؛ اعتمادا على فهم السامع2 كقولك: "قم يدعوك" بدل: قم, فإنه يدعوك. واعلم أن الحذف على وجهين: أحدهما: ألا يقام شيء مقام المحذوف كما سبق3. والثاني: أن يقام مقامه ما يدل عليه؛ كقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هود: 57] ليس الإبلاغ هو الجواب؛ لتقدمه على توليهم، والتقدير: "فإن تولوا فلا لوم علي لأني قد أبلغتكم"، أو: فلا عذر لكم عند ربكم لأني قد أبلغتكم. وقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] أي: فلا تحزن واصبر؛ فإنه قد كذبت رسل من قبلك، وقوله: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] أي: فيصيبهم مثل ما أصاب الأولين4. وأدلة الحذف5 كثيرة: منها أن يدل العقل على الحذف، والمقصود الأظهر6 على تعيين المحذوف؛ كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ... } الآية [المائدة: 3] , وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ... } الآية [النساء: 23] ؛ فإن العقل يدل على الحذف لما مر7، والمقصود الأظهر يرشدك إلى أن التقدير: حرم

عليكم تناول الميتة وحُرِّم عليكم نكاح أمهاتكم؛ لأن الغرض الأظهر من هذه الأشياء تناولها، ومن النساء نكاحهن. ومنها أن يدل العقل على الحذف والتعيين؛ كقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] أي: أمر ربك أو عذابه أو بأسه، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] أي: عذاب الله أو أمره. ومنها أن يدل العقل على الحذف، والعادة على التعيين1؛ كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] دل العقل على الحذف فيه؛ لأن الإنسان إنما يُلام على كسبه، فيُحتمل أن يكون التقدير: في حبه؛ لقولهن: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30 وما بعدها] ، وأن يكون في مراودته، لقولهن: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} ، وأن يكون في شأنه وأمره؛ فيشملهما، والعادة دلت على تعيين المراودة؛ لأن الحب المفرط لا يلام الإنسان عليه في العادة؛ لقهره صاحبه وغلبته إياه، وإنما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التي يقدر أن يدفعها عن نفسه. ومنها أن تدل العادة على الحذف والتعيين؛ كقوله تعالى: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167] مع أنهم كانوا أخبر الناس بالحرب، فكيف يقولون: إنهم لا يعرفونها؟! فلا بد من حذف؛ قدره مجاهد -رحمه الله- مكان قتال، أي: إنكم تقاتلون في موضع لا يصلح للقتال، ويُخشى عليكم منه، ويدل عليه أنهم أشاروا2 على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا يخرج من المدينة وأن الحزم البقاء فيها. ومنها الشروع في الفعل؛ كقول المؤمن: "بسم الله الرحمن الرحيم" كما إذا قلت

عند الشروع في القراءة: "باسم الله", فإنه يفيد أن المراد: "باسم الله أقرأ"، وكذا عند الشروع في القيام أو القعود أو أي فعل كان؛ فإن المحذوف يقدر على حسب ما جُعلت التسمية مبدأ له1. ومنها اقتران الكلام بالفعل2؛ فإنه يفيد تقريره؛ كقولك لمن أعرس: "بالرَّفاء والبنين"؛ فإنه يفيد: بالرفاء والبنين أعرستَ.

القسم الثالث: الإطناب

القسم الثالث: الإطناب أقسام الإطناب: الإيضاح بعد الإبهام وفروعه: وهو إما بالإيضاح بعد الإبهام؛ ليُرى المعنى في صورتين مختلفتين، أو ليتمكن في النفس فضل تمكن؛ فإن المعنى إذا أُلقي على سبيل الإجمال والإبهام، تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح، فتتوجه إلى ما يَرِد بعد ذلك، فإذا ألقي كذلك تمكن فيها فضل تمكن، وكان شعورها به أتم، أو لتكمل اللذة بالعلم به؛ فإن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم، وإذا حصل الشعور به من وجه دون وجه تشوفت النفس إلى العلم بالمجهول، فيحصل لها بسبب المعلوم لذة، وبسبب حرمانها من الباقي ألم، ثم إذا حصل لها العلم به حصلت لها لذة أخرى، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم، أو لتفخيم الأمر وتعظيمه، كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 25، 26] فإن قوله: "اشرح لي" يفيد طلب شرح لشيء ما له1، وقوله: "صدري" يفيد تفسيره وبيانه2، وكذلك قوله: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} ، والمقام مقتضٍ للتأكيد؛ للإرسال3 المؤذِن بتلقي المكاره والشدائد، وكقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66] ؛ ففي إبهامه4 وتفسيره تفخيم الأمر وتعظيم له.

ومن الإيضاح بعد الإبهام باب: "نعم وبئس" على أحد القولين1؛ إذ لو لم يقصد الإطناب لقيل: "نعم زيد وبئس عمرو"2، ووجه حسنه -سوى الإيضاح بعد الإبهام- أمران آخران: أحدهما: إبراز الكلام في معرض الاعتدال؛ نظرا إلى إطنابه من وجه، وإلى اختصاره من آخر، وهو حذف المبتدأ في الجواب3. والثاني: إيهام الجمع بين المتنافيين4. ومنه التوشيع، وهو أن يؤتى في عجز الكلام بمثنى مفسَّر باسمين؛ أحدهما معطوف على الآخر5، كما جاء في الخبر: "يشيب ابن آدم ويشيب فيه خصلتان: الحرص، وطول الأمل". وقول الشاعر "من الطويل": سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خديها بغير رقيب فما زالت في ليلين: شعر وظلمة وشمسين: من خمر ووجه حبيب6 وقول البحتري "من الكامل": لما مشيْنَ بذي الأراك تشابهت ... أعطاف قضبان به وقُدود في حلتي حبر وروض فالتقى ... وشيان: وشي ربا ووشي برود وسفرْنَ فامتلأت عيون راقها ... وردان: ورد جنى وورد خدود7

ذكر الخاص بعد العام

ذكر الخاص بعد العام: وإما بذكر الخاص بعد العام1؛ للتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنسه؛ تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات؛ كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ، وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] ، وقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] . التكرير: وإما بالتكرير، لنكتة؛ كتأكيد الإنذار في قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ

تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3، 4] وفي "ثم" دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ وأشد1. وكزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة؛ ليكمل تلقي الكلام بالقبول، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر: 38، 39] . وقد يكرر اللفظ لطول في الكلام؛ كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119] ، وفي قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] . وقد يكرر لتعدد المتعلَّق؛ كما كرره الله تعالى من2 قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] ؛ لأنه تعالى ذكر نعمة بعد نعمة وعقب كل نعمة بهذا القول3، ومعلوم أن الغرض من ذكره عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى. فإن قيل: قد عقّب بهذا القول ما ليس بنعمة، كما في قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] , وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43، 44] ؟! قلنا: العذاب وجهنم وإن لم يكونا من آلاء الله تعالى، فإن ذكرهما ووصفهما -على طريق الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات- من

آلائه تعالى1. ونحوه قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] ؛ لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة، وأتبع كل قصة بهذا القول، فصار كأنه قال عقب كل قصة: ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة. والإيغال: وإما بالإيغال، واختلف في معناه، فقيل: هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها؛ كزيادة المبالغة في قول الخنساء "من البسيط": وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه عَلَم في رأسه نار2 لم ترض أن تشبهه بالعلم الذي هو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا3، وقول ذي الرمة "من الطويل": قف العيس في أطلال مية واسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل4 أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعا كتبذير الجمان المفصل5

وكتحقيق التشبيه1 في قول امرئ القيس "من الطويل": كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجَزْع الذي لم يثقب2 فإنه لما أتى على التشبيه قبل ذكر القافية، واحتاج إليها، جاء بزيادة حسنة في قوله: "لم يثقب"؛ لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون. ومثله قول زهير "من الطويل": كأن فُتَات العِهْن في كل منزل ... نزلت به حَبّ الفَنا لم يحطم3 فإن حب الفنا أحمر الظاهر أبيض الباطن، فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطم. وكذا قول امرئ القيس "من الطويل": حملت رُدَينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان4 كما سيأتي5. وقيل: لا يختص بالنظم، ومثل له بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 6 [يس: 21] .

التذييل: وإما بالتذييل؛ وهو تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معناها1 للتوكيد2؛ وهو ضربان: ضرب لا يُخرَج مُخْرَج المثل لعدم استقلاله بإفادة المراد وتوقفه على ما قبله؛ كقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] إن قلنا: إن المعنى: وهل نجازي ذلك الجزاء3؟ وقال الزمخشري: وفيه وجه آخر، وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة، ويستعمل تارة في معنى المعاقبة، وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله: {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} بمعنى عاقبناهم بكفرهم قيل: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} بمعنى: وهل نعاقب4؟ فعلى هذا يكون من الضرب الثاني5. وقول الحماسي "من الكامل": فدعوا: نَزَالِ، فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل؟! 6 وقول أبي الطيب "من الطويل":

وما حاجة الأظعان حولك في الدجى ... إلى قمر ما واجد لك عادمه1 وقوله أيضا "من البسيط": تمسي الأمانِيّ صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء: ليت ذلك لي2 وقول ابن نباتة السعدي "من البسيط": لم يُبق جودك لي شيئا أؤمّله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل3 قيل: نظر فيه إلى قول أبي الطيب، وقد أربى عليه في المدح والأدب مع الممدوح؛ حيث لم يجعله في حيز من تمنى شيئا4. وضرب يخرج مخرج المثل؛ كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] . وقول الذبياني "من الطويل": ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شَعَث، أي الرجال المهذب؟! 5

وقول الحطيئة "من الطويل": تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المكارم يُحمَد1 وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34، 35] , فإن قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} من الأول، وما بعده2 من الثاني، وكل منهما تذييل على ما قبله. وهو أيضا إما لتأكيد منطوق كلام3؛ كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} الآية [الإسراء: 81] . وإما لتأكيد مفهومه4؛ كبيت النابغة5؛ فإن صدره دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال، فحقق ذلك وقرره بعجُزِه.

التكميل: وإما بالتكميل، ويسمى الاحتراس أيضا، وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه، وهو ضربان: ضرب يتوسط الكلام؛ كقول طرفة "من الكامل": فسقى دياركِ -غير مفسدها ... صوب الربيع ودِيمة تَهْمِي1 وقول الآخر "من الكامل": لو أن عزة خاصمت شمس الضحا ... في الحسن عند موفق لقضى لها2 إذ التقدير: "عند حاكم موفق"؛ فقوله: "موفق" تكميل3. وقول ابن المعتز "من الطويل": صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل4 وضرب يقع في آخر الكلام، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ

عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لتُوُهم أن ذلتهم لضعفهم، فلما قيل: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} علم أنها منهم تواضع لهم؛ ولذا عدي "الذل" بـ "على"1 لتضمينه معنى العطف، كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع، ويجوز أن تكون التعدية بـ "على"؛ لأن المعنى أنهم -مع شرفهم وعلوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين- خافضون لهم أجنحتهم2. ومنه قول ابن الرومي فيما كتب به إلى صديق له: "إني وليك الذي لا يزال تنقاد إليك مودته عن غير طمع ولا جزع، وإن كنتَ لذي الرغبة مطلبا، ولذي الرهبة مهربا". وكذا قول الحماسي "من الطويل": رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد3 وكذا قول كعب بن سعد الغنوي "من الطويل": حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مَهيب4

فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم، لأوهم أن حلمه عن عجز؛ فلم يكن صفة مدح، فقال: "إذا ما الحلم زين أهله" فأزال هذا الوهم، وأما بقية البيت فتأكيد للازم ما يُفهَم من قوله: "إذا ما الحلم زين أهله" من كونه غير حليم حين لا يكون الحلم زينا لأهله؛ فإن من لا يكون حليما حين لا يحسن الحلم لأهله يكون مهيبا في عين العدو لا محالة، فعلم أن بقية البيت ليست تكميلا كما زعم بعض الناس1. ومنه قول الحماسي "من الطويل": وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طُلّ منا حيث كان قتيل2 فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم؛ لأوهم أن ذلك لضعفهم وقلتهم، فأزال هذا الوهم بوصفهم بالانتصار من قاتلهم. وكذا قول أبي الطيب "من الوافر": أشد من الرياح الهُوج بطشا ... وأسرع في الندى منها هبوبا3 فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش، لأوهم ذلك أنه عنف كله، ولا لطف

عنده، فأزال هذا الوهم بوصفه بالسماحة، ولم يتجاوز في ذلك كله صفة الريح التي شبّهه بها، وقوله: "إنه أسرع في الندى منها هبوبا"؛ كأنه من قول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ كان كالريح المرسَلَة"1. التتميم: وإما بالتتميم، وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة تفيد نكتة2؛ كالمبالغة في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] أي: مع حبه، والضمير للطعام أي: مع اشتهائه والحاجة إليه، ونحوه: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] ، وكذا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وعن فضيل بن عياض: "على حب الله"3؛ فلا يكون مما نحن فيه4. وفي قول الشاعر "من المنسرح": إني على ما تريْنَ من كبري ... أعرف من أين تؤكل الكتف5 وفي قول زهير "من البسيط":

من يَلْقَ يوما -على عِلَّاته- هَرِما ... يلق السماحة منه والندى خُلُقا1 الاعتراض: وإما بالاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى2 بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذُكر في تعريف التكميل3, كالتنزيه والتعظيم4 في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 5 [النحل: 57] . والدعاء في قول أبي الطيب "من الطويل": وتحتقر الدنيا احتقار مُجرِّب ... يرى كل ما فيها -وحاشاك- فانيا6

فإن قوله: "وحاشاك" دعاء حسن في موضعه. ونحوه قول عوف بن محلم الشيباني "من السريع": إن الثمانين -وبُلِّغتَها- ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان1 والتنبيه في قول الشاعر "من الكامل": واعلم -فعلم المرء ينفعه- ... أَنْ سوف يأتي كل ما قُدِرا2 وتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر عُلِّق بهما؛ كقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} 3 [لقمان: 14] . والمطابقة مع الاستعطاف في قول أبي الطيب "من الكامل": وخفوق قلب لو رأيتِ لهيبَه ... "يا جنتي" لرأيتِ فيه جهنما4 والتنبيه على سبب أمر فيه غرابة؛ كما في قول الآخر "من الطويل":

فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصله يبدو لنا فنكارمه1 فإن قوله: "فلا هجره يبدو" يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه، وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبا للمحب، فقال: "وفي اليأس راحة" لينبه على سببه. وقوله تعالى: {لَوْ تَعْلَمُونَ} في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 75-77] اعتراض في اعتراض؛ لأنه اعتُرض به بين الموصوف والصفة2، واعترض بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} بين القسم والمقسَم عليه3. ومما جاء بين كلامين متصلين معنى قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [البقرة: 222، 223] ، فإن قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} بيان لقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يعني أن المأتى الذي أمركم به هو مكان الحرث؛ دلالة على أن الغرض الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة، فلا تأتوهن إلا من حيث يتأتى فيه هذا الغرض، وهو مما جاء في أكثر من جملة أيضا4، ونحوه في كونه أكثر من جملة قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36] , فإن قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} ليس

من قول أم مريم1، وكذا قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 44-46] إن جُعل "من الذين" بيانا لـ {الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} ؛ لأنهم يهود ونصارى، أو لأعدائكم؛ فإنه على الأول يكون قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} اعتراضا، وعلى الثاني يكون {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} اعتراضا، ويجوز أن يكون {مِنَ الَّذِينَ} صلة لـ "نصيرا"2 أي: ينصركم من الذين هادوا؛ كقوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [الأنبياء: 77] 3، وأن يكون كلاما مبتدأ على أن {يُحَرِّفُونَ} صفة مبتدأ محذوف تقديره: "من الذين هادوا قوم يحرفون"؛ كقوله: وما الدهر إلا تارتان؛ فمنهما ... أموت، وأخرى أبتغي العيش أكدح4 وقد علم مما ذكرنا أن الاعتراض كما يأتي بغير واو ولا فاء, قد يأتي بأحدهما5.

ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق: حسن الإفادة، مع أن مجيئه مجيء ما لا معوَّل عليه في الإفادة, فيكون مَثَله مَثَل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها1. ومن الناس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرناه، بل يجوز أن تكون دفع توهم ما يخالف المقصود، وهؤلاء فرقتان: فرقة لا تشترط فيه أن يكون واقعا في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنًى؛ بل يجوز أن يقع في آخر كلام لا يليه كلام، أو يليه كلام غير متصل به معنًى، وبهذا يشعر كلام الزمخشري في مواضع مع الكشاف: "فالاعتراض عند هؤلاء يشمل التذييل"2، ومن التكميل ما لا محل له من الإعراب؛ جملة كان أو أكثر من جملة3. وفرقة تشترط فيه ذلك، لكن لا تشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة، فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعا في أحد الموقعين4، ومن التكميل ما كان واقعا في أحدهما ولا محل له من الإعراب5؛ جملة كان أو أقل من

جملة أو أكثر. الإطناب بغير هذه الأنواع: وإما بغير ذلك1 كقولهم: "رأيته بعيني"، ومنه قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} 2 [النور: 15] ، أي: هذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم في القلب، كما هو شأن المعلوم إذا ترجم عنه اللسان، وكذا قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] لإزالة توهم الإباحة3، كما في نحو قولنا: "جالس الحسن وابن سيرين" وليُعلَم العدد جملة كما عُلِم تفصيلا؛ ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، وفي أمثال العرب: "علمان خير من علم". وكذا قوله: {كَامِلَةٌ} تأكيد آخر، وقيل: أي: كاملة في وقوعها بدلا من الهدي، وقيل: أريد به تأكيد الكيفية لا الكمية، حتى لو وقع صوم العشرة على غير الوجه المذكور4 لم تكن كاملة5. وكذا قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7] فإنه لو لم يقصد الإطناب لم يذكر {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ؛ لأن إيمانهم6 ليس مما ينكره أحد من مثبِتيهم، وحسّن ذكره إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه7، وكذا قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ

إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] فإنه لو اختُصر1 لتُرك قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ؛ لأن مساق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة كما مر2، وحسنه دفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر3، ونحوه قول البلغاء: "لا وأصلحك الله"4، وكذا قوله تعالى إخبارا عن موسى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] ، وحسنه أنه -عليه السلام- فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله تعالى في العصا؛ فينبغي أن يتنبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين5، وكذا قوله تعالى: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71] وحسّنه إظهار الابتهاج بعبادتها والافتخار بمواظبتها؛ ليزداد غيظ السائل6. الإيجاز والإطناب النسبيان: واعلم أنه قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب7

باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة إلى كلام آخر مساوٍ له في أصل المعنى1؛ كالشطر الأول من قول أبي تمام "من الطويل": يصد عن الدنيا إذا عَنَّ سؤدد ... ولو برزت في زي عذراء ناهد2 وقول الآخر "من الطويل": ولست بنظّار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر3 ومنه قول الشماخ "من الوافر": إذا ما راية رُفعت لمجد ... تَلقّاها عرابة باليمين4 وقول بشر بن أبي خازم "من الوافر":

إذا ما المَكْرُمات رُفعن يوما ... وقصّر مبتغوها عن مداها وضاقت أذرع المثرين عنها ... سما أوس إليها فاحتواها1 ويقرب من هذا الباب2 قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . وقول الحماسي "من الطويل": وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول3 وكذا ما ورد في الحديث: "الحزم سوء الظن". وقول العرب: "الثقة بكل أحد عجز"4.

تمرينات على الإيجاز والإطناب والمساواة

تمرينات على الإيجاز والإطناب والمساواة: تمرين1: 1- بين موضع الإطناب، والداعي إليه في قول الشاعر: تأمل من خلال السجف وانظر ... بعينك ما شربت ومن سقاني تجد شمس الضحا تدنو بشمس ... إلي من الرحيق الخسرواني 2- من أي أنواع الإيجاز قول بعض الأعراب: "إن شككت في فاسأل قلبك عن قلبي"؟ تمرين2: 1- بين نوع الإيجاز، والداعي إليه في قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 3، 5] . 2- لماذا كان من المساواة قول بعض البلغاء: "علمتني نبوتك سلوتك، أسلمني يأسي منك إلى الصبر عنك"؟ تمرين3: 1- يعدون من المساواة قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] , فهل ترى أنها منها، أو من إيجاز القصر؟ 2- هل من المساواة أو الإيجاز أو الإطناب قول الشاعر: يقول أناس: لا يُضيرك فقدها ... بلى كل ما شف النفوس يضير؟ تمرين4: 1- من أي أنواع الإيجاز قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22] ؟ 2- من أي أنواع الإطناب قول الشاعر: المشرقان عليك ينتحبان ... قاصيهما في مأتم والداني؟

تمرين 5: 1- بين موضع الإطناب ونوعه في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6] . 2- كيف يكون من الإيجاز قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] مع أنها جملة مستوفية كل أجزائها؟ تمرين6: 1- لماذا عد من الإخلال قول بعضهم: "فإن المعروف إذا زجا، كان أفضل منه إذا توفر وأبطأ" "زجا" بمعنى تيسر، وفي رواية: "وحى" بمعنى أسرع. 2- من أي أنواع الإطناب قول الشاعر: لو أن الباخلين وأنت منهم ... رأوك تعلموا منك المطالا؟ تمرين7: 1- أيهما أعلى مقاما في البلاغة: الإيجاز أو الإطناب؟ وهل هناك فرق بين الإيجاز في غير موضعه والإخلال؟ وبين الإطناب في غير موضعه والتطويل؟ 2- بين خلافهم في منزلة المساواة من البلاغة، واذكر رأيك فيه.

باب الفهارس

باب الفهارس مباحث الجزأين الأول والثاني: الصفحة الموضوع 3 تقديم للشارح 9 خطبة الإيضاح 10 المقدمة في تفسير الفصاحة والبلاغة 10 الخلاف في تفسير الفصاحة والبلاغة 11 فصاحة المفرد 16 فصاحة الكلام 23 فصاحة المتكلم 24 بلاغة الكلام 28 بلاغة المتكلم 28 حصر علوم البلاغة 31 تمرينات على الفصاحة والبلاغة "33-376" الفن الأول: علم المعاني 33 تعريف علم المعاني 35 أبواب علم المعاني 36 تنبيه: انحصار الخبر في الصادق والكاذب 38 تنبيه آخر "41-68" الباب الأول: القول في أحوال الإسناد الخبري 41 أغراض الخبر 43 أضرب الخبر 45 تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر 50 تمرينات على أغراض الخبر وأضربه

51 فصل: الحقيقة والمجاز العقليان 59 تنبيه 59 أقسام المجاز العقلي 61 وقوع المجاز العقلي في القرآن 62 تقسيم قرينة المجاز 63 دقة مسلكه 63 الخلاف في استلزامه الحقيقة 65 إنكار السكاكي له 67 تنبيه: في بيان سبب عدم إيراده الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان 68 تمرينات على الحقيقة والمجاز العقليين "69-154" الباب الثاني: القول في أحوال المسند إليه 69 أغراض الحذف 72 أغراض الذكر 75 تمرينات على الذكر والحذف 76 أغراض التعريف، وأغراض التعريف بالإضمار 78 أغراض التعريف بالعلمية 79 أغراض التعريف بالموصولية 82 أغراض التعريف بالإشارة 86 أغراض التعريف باللام 91 أغراض التعريف بالإضافة 93 أغراض التنكير 97 تمرينات على التعريف والتنكير 99 أغراض الوصف 103 أغراض التوكيد 104 أغراض عطف البيان 105 أغراض الإبدال، أغراض عطف النسق

107 أغراض ضمير الفصل 108 تمرينات على التوابع 109 أغراض التقديم 132 أغراض التأخير 133 تمرينات على التقديم والتأخير 134 تخريج المسند إليه على خلاف مقتضى الظاهر 134 وضع المضمر موضع المظهر 135 وضع المظهر موضع المضمر 137 الالتفات 145 الأسلوب الحكيم 147 التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي 148 القلب 153 تمرينات على تخريج المسند إليه على خلاف مقتضى الظاهر "155-195" الباب الثالث: القول في أحوال المسند 155 أغراض الحذف 162 أغراض الذكر 164 تمرينات على الذكر والحذف 165 أغراض الإفراد 166 أغراض كون المسند فعلا أو اسما 167 أغراض تقييد الفعل بمفعول ونحوه وترك تقييده 168 أغراض تقييد الفعل بالشرط: إن وإذا ولو 173 استطراد إلى التغليب 182 تمرينات على إفراد المسند واسميته وفعليته وتقييده وترك تقييده 183 أغراض التنكير 183 أغراض التخصيص بالإضافة أو الوصف وتركه 184 تعريف المسند

184 غرض التعريف 187 أغراض كون المسند جملة 190 تمرينات على تعريف المسند وتنكيره وكونه جملة 192 أغراض تأخيره 194 تنبيه: في بيان عدم اختصاص كثير مما ذكر في هذا الباب, والذي قبله بالمسند إليه والمسند 195 تمرينات على التقديم والتأخير وغيرهما 196 الباب الرابع: القول في أحوال متعلقات الفعل 196 حال الفعل مع المفعول والفاعل 196 أغراض حذف المفعول به 207 تمرينات على الذكر والحذف 208 أغراض تقديم المتعلقات على الفعل 211 أغراض تقديم بعض المعمولات على بعض 218 تمرينات على التقديم والتأخير "221-248" الباب الخامس: القول في القصر 221 القصر 221 أقسام القصر 227 تمرينات على أقسام القصر 228 طرق القصر: 1- العطف 229 2- النفي والاستثناء 230 3- إنما 233 4- التقديم 233 فروق طرق القصر 247 تمرينات على طرق القصر

"249-277" الباب السادس: 251 الإنشاء: أنواع الطلب: التمني 251 الاستفهام 268 تمرينات على التمني والاستفهام 269 الأمر 272 النهي 274 النداء 276 تنبيه 277 تمرينات على الأمر والنهي والنداء "278-323" الباب السابع: القول في الوصل والفصل 278 تعريف الوصل والفصل 279 أحوال الوصل والفصل: 279 الوصل للاشتراك في الحكم 281 الفصل لعدم الاشتراك في الحكم 282 الوصل بغير الواو من حروف العطف 282 الفصل لعدم الاشتراك في القيد 284 أحوال أخرى للفصل 286 الأول: كمال الانقطاع 290 الثاني: كمال الاتصال 292 الثالث: شبه كمال الانقطاع 293 الرابع: شبه كمال الاتصال 299 الوصل لدفع الإيهام 299 الوصل للتوسط بين الكمالين 302 الجامع بين الجملتين وأقسامه

307 محسنات الوصل 308 فروق الجملة الحالية 322 تمرينات على الوصل والفصل "324-368" الباب الثامن: القول في الإيجاز والإطناب والمساواة 324 تعريف السكاكي للإيجاز والإطناب والمساواة 325 تعريف الخطيب 326 الإخلال، التطويل، الحشو 331 القسم الأول: المساواة 332 القسم الثاني: الإيجاز، إيجاز القصر 335 إيجاز الحذف 346 القسم الثالث: الإطناب 346 أقسام الإطناب: الإيضاح بعد الإبهام وفروعه 348 ذكر الخاص بعد العام 348 التكرير 350 الإيغال 352 التذييل 355 التكميل 358 التتميم 359 الاعتراض 364 الإطناب بغير هذه الأنواع 365 الإيجاز والإطناب النسبيان 368 تمرينات على الإيجاز والإطناب والمساواة "371-377" الفهرس

المجلد الثالث

المجلد الثالث بسم الله الرحمن الرحيم الفن الثاني: علم البيان مدخل تعريف علم البيان: وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد1 بطرق مختلفة في وضوح الدلالة

عليه1. أقسام الدلالة: ودلالة اللفظ: إما على ما وُضع له، أو على غيره. والثاني إما داخل في الأول دخول السقف في مفهوم البيت، أو الحيوان في مفهوم الإنسان، أو خارج عنه خروج الحائط عن مفهوم السقف، أو الضاحك عن مفهوم الإنسان. وتسمى الأولى دلالة وضعية، وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية. وتختص الأولى بدلالة المطابَقَة، والثانية بالتضمن، والثالثة بدلالة الالتزام، وشرط الثالثة: اللزوم الذهني؛ أي: أن يكون حصول ما وضع اللفظ له في الذهن ملزوما

لحصول الخارج فيه1؛ لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر؛ لكون نسبة الخارج إليه حينئذ كنسبة سائر المعاني الخارجية. ولا يُشترط في هذا اللزوم أن يكون مما يُثبته العقل2؛ بل يكفي أن يكون مما يثبته اعتقاد المخاطب؛ إما لعرف عام، أو لغيره3؛ لإمكان الانتقال حينئذ من المفهوم الأصلي إلى الخارجي. وقد وقع في كلام بعض العلماء4 ما يشعر بالخلاف في اشتراط اللزوم الذهني في دلالة الالتزام، وهو بعيد جدا، وإن صح فلعل السبب فيه توهم أن المراد باللزومِ الذهني اللزومُ العقلي5؛ لإمكان الفهم بدون اللزوم الذهني بهذا المعنى حينئذ كما سبق. ثم إيراد المعنى الواحد على الوجه المذكور لا يتأتى بالدلالة الوضعية6؛ لأن

السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ، لم يكن بعضها أوضح دلالة من بعض، وإلا لم يكن كل واحد منها دالا، وإنما يتأتى بالدلالات العقلية؛ لجواز أن يكون للشيء لوازم بعضها أوضح لزوما من بعض1. أبواب علم البيان: ثم اللفظ المراد به لازم ما وُضع له: إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو مجاز، وإلا فهو كناية. ثم المجاز منه الاستعارة، وهي ما تَبتني على التشبيه، فيتعين التعرض له2. فانحصر المقصود في: التشبيه، والمجاز، والكناية. وقدم التشبيه على المجاز؛ لما ذكرنا من ابتناء الاستعارة -التي هي مجاز-

على التشبيه، وقُدِّم المجاز على الكناية؛ لنزول معناه من معناها منزلة الجزء من الكل1.

الباب الأول: القول في التشبيه

الباب الأول: القول في التشبيه: تعريف التشبيه: التشبيه: الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنًى1. والمراد بالتشبيه ههنا2 ما لم يكن على وجه الاستعارة التحقيقية، ولا الاستعارة بالكناية، ولا التجريد3؛ فدخل فيه ما يسمى تشبيها بلا خلاف؛ وهو ما ذُكرت فيه أداة التشبيه؛ كقولنا: "زيد كالأسد"، أو "كالأسد" بحذف "زيد" لقيام قرينة، وما يسمى تشبيها -على المختار- كما سيأتي4 وهو ما حذفت فيه أداة التشبيه وكان اسم المشبه به خبرا للمشبه، أو في حكم الخبر5 كقولنا: "زيد أسد"، وكقوله تعالى:

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} 1 أي: هم. ونحوه قول من يخاطب الحجَّاج: أسد علي وفي الحروب نعامة ... فَتْخَاء تنفر من صفير الصافر2 وكقولنا: "رأيت زيدا بحرا". تأثير التشبيه: وإذ قد عرفتَ معنى التشبيه في الاصطلاح؛ فاعلم أنه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وفخامة أمره في فن البلاغة3، وأن تعقيب المعاني به -لا سيما قسم التمثيل منه- يضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها، مدحا كانت أو ذما أو افتخارا أو غير ذلك، وإن أردت تحقيق هذا، فانظر إلى قول البحتري: دانٍ على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضَرِيب4 كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السارين جد قريب5 أو قول ابن لَنْكَك: إذا أخو الحسن أضحى فعله سَمِجا ... رأيت صورته من أقبح الصور6

وهبه كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر1 أو قول ابن الرومي: بذل الوعد للأخلاء سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء فغدا كالخلاف يُورِق للعَيْـ ... ـن ويأبى الإثمار كل الإباء2 أو قول أبي تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود3 لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يُعرَف طيب عَرْف العود4 وقوله أيضا: وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب يتجدد5 فإني رأيت الشمس زِيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسَرْمَد6 وقس حالك -وأنت في البيت الأول ولم تنتهِ إلى الثاني- على حالك وأنت قد انتهيتَ إليه ووقفتَ عليه، تعلم بُعد ما بين حالتيك في تمكن المعنى لديك، وكذا تَعَهَّدِ الفرق بين أن تقول: "الدنيا لا تدون" وتسكت وأنت تذكر عقيبه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، والضيف مرتحل والعارية مؤداة" , أو تنشد قول لبيد: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع7 وبين أن تقول: "أرى قوما لهم منظر، وليس لهم مخبر" وتقطع الكلام، وأن تُتبعه نحو قول ابن لنكك: في شجر السَّرْو منهم مَثَل ... له رُواء وما له ثمر8 وانظر في جميع ذلك إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يتزايد شرفه عليه في الحالة الأولى.

أسباب تأثير التشبيه: ولذلك أسباب؛ منها: ما يحصل للنفس من الأُنس بإخراجها من خفي إلى جلي؛ كالانتقال مما يحصل لها بالفكرة إلى ما يُعلم بالفطرة، أو بإخراجها مما لم تألفه إلى ما ألفته. كما قيل: ما الحُبّ إلا للحبيب الأول3 أو مما تعلمه إلى ما هي به أعلم؛ كالانتقال من المعقول إلى المحسوس؛ فإنك قد

تعبر عن المعنى بعبارة تؤديه وتبالغ، نحو أن تقول وأنت تصف اليوم بالقِصَر: "يوم كأقصر ما يُتصور"، فلا يجد السامع له من الأنس ما يجده لنحو قولهم: "أيام كأباهيم القَطَا"1، وقول الشاعر: ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب2 وكذا تقول: "فلان إذا همّ بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره، وقصر خواطره على إمضاء عزمه فيه، ولم يشغله عنه شيء" فلا يصادف السامع له أريحية، حتى إذا قلت: إذا هم ألقى بين عينيه عزمه3 امتلأت نفسه سرورا، وأدركته هزة لا يمكن دفعها عنه. ومن الدليل على أن للإحساس من التحريك للنفس وتمكين المعنى ما ليس لغيره, أنك إذا كنت أنت

وصاحب لك يسعى في أمر على طرف نهر، وأنت تريد أن تقرر له أنه لا يحصل من سعيه على طائل، فأدخلت يدك في الماء ثم قلت له: "انظر: هل حصل في كفي من الماء شيء؟ فكذلك أنت في أمرك" كان لذلك ضرب من التأثير في النفس وتمكين المعنى في القلب زائد على القول المجرد. ومنها: الاستطراف كما سيأتي1. ومن فضائل التشبيه أنه يأتيك من الشيء الواحد بأشياء عدة2: نحو أن يعطيك من الزند بإيرائه3: شبه الجواد والذكي والنجح في الأمور، وبإصلاده4: شبه البخيل والبليد والخيبة في السعي، ومن القمر: الكمال عن النقصان، كما قال أبو تمام: لهفي على تلك الشواهد فيهما ... لو أُمهلت حتى تصير شمائلا5 لغدا سكوتهما حجا وصباهما ... حلما وتلك الأريحية نائلا6 ولأعقب النجم المُرِذّ بديمة ... ولعاد ذاك الطل جَوْدا وابلا7

إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيصير بدرا كاملا1 والنقصان عن الكمال؛ كقول أبي العلاء المعري: وإن كنتَ تبغي العيش فابغِ توسطا ... فعند التناهي يقصر المتطاول2 تُوَقَّ البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل3 وتتفرع من حالتي كماله ونقصه فروع لطيفة؛ كقول ابن بابك في الأستاذ أبي علي, وقد استوزره وأبا العباس الضبي فخر الدولة بعد وفاة ابن عبّاد: وأُعرتَ شطر المُلْك شطر كماله ... والبدر في شطر المسافة يكمل4 وقول أبي بكر الخوارزمي: أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ... مقيما وإن أعسرت زرت لِماما فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه ... أغَبَّ وإن زاد الضياء أقاما5

المعنى لطيف وإن لم تساعده العبارة على ما يجب؛ لأن الإغباب أن يتخلل بين وقتي الحضور وقت يخلو منه، فإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نوره لم يوالِ الطلوع في كل ليلة، بل يظهر في بعض الليالي دون البعض، وليس الأمر كذلك؛ لأنه -على نقصانه- يطلع كل ليلة حتى تكون السِّرار. وكذا يُنظر إلى بعده وارتفاعه، وقرب ضوئه وشعاعه، في نحو ما مضى من بيتي البحتري1 وإلى ظهوره في كل مكان، كما في قول أبي الطيب: كالبدر من حيث التفتَّ وجدتَهُ ... يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا2 إلى غير ذلك3. أركان التشبيه: ثم النظر في أركان التشبيه, وهي أربعة: "طرفاه، ووجهه، وأداته"، وفي الغرض منه، وفي تقسيمه بهذه الاعتبارات.

طرفا التشبيه: أما طرفاه فهما إما حسيان، كما في تشبيه الخد بالورد، والقَدّ بالرمح، والفيل بالجبل في المبصرات، والصوت الضعيف بالهمس في المسموعات، والنكهة بالعنبر في المشمومات، والريق بالخمر في المذوقات، والجلد الناعم بالحرير في الملموسات1. وإما عقليان؛ كما في تشبيه العلم بالحياة2. وإما مختلفان؛ والمعقول هو المشبه؛ كما في تشبيه المنية بالسبع3، أو العكس؛ كما في تشبيه العطر بخُلُق كريم4.

والمراد بالحسي المدرَك -هو أو مادته- بإحدى الحواس الخمس الظاهرة؛ فدخل فيه الخيالي1 كما في قوله: وكأن محمر الشقيـ ... ـق إذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نُشر ... ن على رماح من زبرجد2 وقوله: كلنا باسط اليد ... نحو نيلوفر ندي كدبابيس عسجد ... قُضْبها من زبرجد3 والمراد بـ "العقلي" ما عدا ذلك، فدخل فيه الوهمي؛ وهو ما ليس مدركا بشيء من الحواس الخمس الظاهرة، مع أنه لو أُدرك لم يدرك إلا بها4؛ كما في قول امرئ القيس: ومسنونة زرق كأنياب أغوال5 وعليه قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} 6، وكذا ما يُدرَك بالوجدان7؛ كاللذة، والألم، والشبع، والجوع.

وجه الشبه

وجه الشبه: وأما وجهه: فهو المعنى الذي يشترك فيه الطرفان تحقيقا أو تخييلا، والمراد بالتخييل ألا يُمكن وجوده في المشبه به إلا على تأويل1؛ كما في قول القاضي التنوخي: وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع2 فإن وجه الشبه فيه الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بِيض في جوانب شيء مظلم أسود؛ فهي غير موجودة في المشبه به إلا على طريق التخييل، وذلك أنه لما كانت البدعة والضلالة وكل ما هو جهل يجعل صاحبها في حكم من يمشي في الظلمة، فلا يهتدي إلى الطريق، ولا يفصل الشيء من غيره؛ فلا يأمَن أن يتردّى في مَهْوَاة؛ أو يعثر على عدو قاتل، أو آفة مهلكة، شبهت بالظلمة، ولزم -على عكس ذلك- أن تشبه السنة والهدى وكل ما هو علم بالنور، وعليهما قوله تعالى:

{يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1 وشاع ذلك حتى وُصف الصنف الأول بالسواد، كما في قول القائل: "شاهدت سواد الكفر من جبين فلان" والصنف الثاني بالبياض؛ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتيتكم بالحنيفية البيضاء" وذلك لتخييل أن السنن ونحوها من الجنس الذي هو إشراق أو ابيضاض في العين، وأن البدعة ونحوها على خلاف ذلك، فصار تشبيه النجوم ما بين الدياجي بالسنن ما بين الابتداع كتشبيه النجوم في الظلام ببياض الشيب في سواد الشباب، وبالأنوار2 مؤتلقة بين النبات الشديد الخضرة؛ فالتأويل فيه أنه تخيّل ما ليس بمتلون متلونا، ويحتمل وجها آخر وهو أن يُتأول بأنه أراد معنى قولهم: "إن سواد الظلام يزيد النجوم حسنا" فإنه لما كان وقوف العاقل على عوار الباطل يزيد الحق نبلا في نفسه وحسنا في مرآة عقله؛ جُعل هذا الأصل من المعقول مثالا للمشاهد المبصر هناك، غير أنه لا يخرج -مع هذا- عن كونه على خلاف الظاهر؛ لأن الظاهر أن يُمثَّل المعقول في ذلك بالمحسوس3؛ كما فعل البحتري في قوله: وقد زادها إفراط حسن جوارها ... خلائق أصفار من المجد خُيِّب4 وحسن دراريّ الكواكب أن ترى ... طوالع في داجٍ من الليل غَيْهب5

ومن التشبيه التخييلي قول أبي طالب الرقي: ولقد ذكرتُكِ والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق1 فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسعا؛ فيقال: "اسودّ النهار في عيني، وأظلمت الدنيا عليَّ"، وكان الغَزِل يدعي القسوة على من لم يعشق، والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا، تخيل يوم النوى وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد، وجعلهما أعرف به، وأشهر من الظلام، فشبّهه بهما. وكذا قول ابن بَابَك: وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ... وقد كحّل الليل السماك فأبصرا2 فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيقة، تخيل أخلاق الكرام شيئا له سعة، وجُعل أصلا فيها، فشبه الأرض الواسعة بها. وكذا قول التنوخي: فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا3 فإنه لما كان يقال في الحق: "إنه منير واضح"، فيستعار له صفة الأجسام المنيرة، وفي الظلم خلاف ذلك، تخيلهما شيئين لهما إنارة وإظلام، فشبه النار والفحم مجتمعَين بهما مجتمعين. وكذا ما كتب به الصاحب إلى القاضي أبي الحسن4, وقد أهدى له الصاحب عطر القُطْر: وقال له: هل سمعت هذا المعنى؟ فقال ابن رشيق: سمعته، وأخذتَه أنتَ وأفسدتَه؛ أما الأخذ فمن النابغة الذبياني حيث يقول: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثََمْن ذو إمّة وهو طائع5 لكلفْتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العُرّ يُكوَى غيره وهو راتع6 وأما الإفساد؛ فلأن سبابة المتندم أول شيء يتألم منه؛ فلا يكون المعاقَب غير الجاني، وهذا بخلاف بيت النابغة؛ فإن المكوي من الإبل يألم وما به عُرّ البتة، وصاحب العر لا يألم جملة7.

الوجه الداخل في الطرفين، والخارج عنهما

الوجه الداخل في الطرفين، والخارج عنهما: وهو إما غير خارج عن حقيقة الطرفين، أو خارج. والأول: إما تمام حقيقتهما كما في تشبيه إنسان بإنسان في كونه إنسانا، أو جزئهما؛ كما في تشبيه بعض الحيوانات العُجْم بالإنسان في كونه حيوانا. والثاني: صفة؛ إما حقيقية أو إضافية1، والحقيقية إما حسية؛ وهي الكيفيات الجسمية مما يدرك بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات وما يتصل بها من الحسن والقبح وغير ذلك، أو بالسمع من الأصوات القوية والضعيفة والتي بين بين، أو بالذوق من أنواع الطعوم، أو بالشم من أنواع الروائح، أو باللمس من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والخشونة والملاسة، واللين والصلابة، والخفة والثقل، وما ينضاف إليها. وإما عقلية: كالكيفيات النفسية من الذكاء والتيقظ والمعرفة والعلم والقدرة والكرم والسخاء والغضب والحلم وما جرى مجراها من الغرائز والأخلاق. والإضافية: كإزالة الحجاب في تشبيه الحُجَّة بالشمس2.

الوجه الواحد، وغيره، والحسي، والعقلي

الوجه الواحد، وغيره، والحسي، والعقلي: تقسيم آخر باعتبار آخر: وجه الشبه إما واحد, أو غير واحد. والواحد: إما حسي، أو عقلي. وغير الواحد: إما بمنزلة الواحد؛ لكونه مركبا من أمرين أو أمور، أو متعدد غير مركب. والمركب إما حسي، أو عقلي. والمتعدد: إما حسي، أو عقلي، أو مختلف. والحسي لا يكون طرفاه إلا حسيين؛ لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسي شيء. والعقلي طرفاه إما عقليان، أو حسيان، أو مختلفان؛ لجواز أن يدرك بالعقل من الحسي شيء؛ ولذلك يقال: التشبيه بالوجه العقلي أعم من التشبيه بالوجه الحسي. قال الشيخ صاحب المفتاح1: "وههنا نكتة لا بد من التنبه لها؛ وهي أن التحقيق في وجه الشبه يأبى أن يكون غير عقلي؛ وذلك أنه متى كان حسيا -وقد عرفت أنه يجب أن يكون موجودا في الطرفين، وكل موجود له تعين- فوجه الشبه مع المشبه متعين, فيمتنع أن يكون هو بعينه موجودا مع المشبه به؛ لامتناع حصول المحسوس المعين ههنا، مع كونه بعينه هناك بحكم الضرورة، وبحكم التنبيه على امتناعه إن شئت، وهو استلزامه إذا عُدمت حمرة الخد دون حمرة الورد، أو بالعكس: كون الحمرة معدومة موجودة معا، وهكذا في أخواتها، بل يكون2 مثله مع المشبه به، لكن المِثلين لا يكونان شيئا واحدا، ووجه الشبه بين الطرفين -كما عرفتَ- واحد، فيلزم أن يكون أمرا كليا مأخوذا من المثلين بتجريدهما عن التعين، لكن ما هذا شأنه فهو عقلي. ويمتنع أن يقال: فالمراد بوجه الشبه حصول المثلين في الطرفين3؛ فإن المثلين متشابهان، فمعهما وجه تشبيه؛ فإن كان عقليا كان المرجع في وجه الشبه العقل في المآل، وإن كان حسيا استلزم أن يكون مع المثلين مثلان آخران، وكان الكلام فيهما كالكلام فيما سواهما، ويلزم التسلسل". هذا لفظه، ويمكن أن يقال: المراد بكونه حسيا أن تكون أفراده مدركة بالحس4؛ كالسواد؛ فإن أفراده مدركة بالبصر، وإن كان هو نفسه غير مدرك به ولا بغيره من الحواس.

الواحد الحسي

الواحد الحسي: الواحد الحسي: كالحمرة، والخفاء، وطِيب الرائحة، ولذة الطعم، ولين الملمس في تشبيه الخد بالورد، والصوت الضعيف بالهمس، والنكهة بالعنبر، والريق بالخمر، والجلد الناعم بالحرير، كما سبق1. الواحد العقلي: والواحد العقلي: كالعَراء عن الفائدة في تشبيه وجود الشيء العديم النفع بعدمه، وجهة الإدراك في تشبيه العلم بالحياة -فيما طرفاه معقولان- والجراءة في تشبيه الرجل الشجاع بالأسد، ومطلق الاهتداء في تشبيه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم, ورضي عنهم- بالنجوم2 فيما طرفاه محسوسان, والهداية في تشبيه العلم بالنور3، وتحصيل ما بين الزيادة والنقصان في تشبيه العدل بالقسطاس, فيما المشبه فيه معقول والمشبه به محسوس، واستطابة النفس في تشبيه العطر بخُلُق كريم4، وعدم الخفاء في تشبيه النجوم بالسنن5 فيما المشبه به فيه محسوس والمشبه به معقول. قال الشيخ صاحب المفتاح6: "وفي أكثر هذه الأمثلة في معنى وحدتها تسامح"7.

المركب الحسي: والمركب الحسي طرفاه إما مفردان: كالهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكُرّي, والمقدار المخصوص في قول ذي الرمة: وسِقْط كعين الديك عاورت صاحبي ... أباها وهيأنا لموقعها وكرا7

وكالهيئة الحاصلة من تقارن الصور البِيض المستديرة الصغار المقادير في المرأى على كيفية مخصوصة إلى مقدار مخصوص في قول أحيحة بن الجلاح, أو أبي قيس بن الأسلت: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود مُلَّاحية حين نوَّرا1 وإما مركبان؛ كالهيئة الحاصلة من هَوِيّ أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شيء مظلم، في قول بشار: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه2 وكالهيئة الحاصلة من تفرق أجرام متلألئة مستديرة صغار المقادير في المرأى على سطح جسم أزرق صافي الزرقة في قول أبي طالب الرقي: وكأن أجرام النجوم لوامعا3 ... درر نثرن على بساط وإما مختلفان، كما في تشبيه الشاة الجبليّ4 بحمار أبتر مشقوق الشفة والحوافر

نابت على رأسه شجرتا غَضَا، وكما مر في تشبيه الشقيق والنيلوفر1. ومن بديع هذا النوع -أعني المركب الحسي- ما يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة، ويكون على وجهين: أحدهما: أن يقرن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم؛ كالشكل، واللون؛ كما في قوله: والشمس كالمرآة في كف الأشل2 من الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة، وما يحصل من الإشراق بسبب تلك الحركة من التموج والاضطراب، حتى يُرَى الشعاع كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة، ثم يبدو له فيرجع من الانبساط الذي بدا له إلى الانقباض، كأنه يجتمع من الجوانب إلى الوسط؛ فإن الشمس إذا أحدّ الإنسان النظر إليها ليتبين جِرْمها، وجدها مؤدية لهذه الهيئة، وكذا المرآة التي كانت في يد الأشل. ومثله قول المهلبي الوزير: والشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب3 كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب4 فإن البوتقة إذا أُحميت وذاب فيها الذهب، تشكل بشكلها في الاستدارة، وأخذ

يتحرك فيها بجملته تلك الحركة العجيبة، كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها؛ لما في طبعه من النعومة، ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض؛ لما بين أجزائه من شدة الاتصال والتلاحم؛ ولذلك لا يقع فيه غليان على الصفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء. وكما في قول الصنوبري: كأن في غدرانها ... حواجبا ظلت تمط1 أراد ما يبدو في صفحة الماء من أشكال كأنصاف دوائر صغار، ثم تمتد امتدادا يُنقِص من انحنائها، فينقلها من التقوس إلى الاستواء، وذلك أشبه شيء بالحواجب إذا امتدت؛ لأن للحاجب كما لا يخفى تقويسا، ومده يُنقِص من تقويسه. والوجه الثاني: أن تُجرَّد هيئة الحركة عن كل وصف غيرها للجسم، فهناك أيضا لا بد من اختلاط حركات كثيرة للجسم إلى جهات مختلفة له؛ كأن يتحرك بعضه إلى اليمين، وبعضه إلى الشمال، وبعضه إلى العلو، وبعضه إلى السفل، فحركة الرحا والدولاب2 والسهم لا تركيب فيها؛ لاتحاد الحركة، وحركة المصحف في قول ابن المعتز: وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا3 فيها تركيب؛ لأنه يتحرك في الحالتين إلى جهتين4؛ في كل حالة إلى جهة. وكلما كان التفاوت في الجهات التي تتحرك أبعاض الجسم إليها أشد، كان

التركيب في هيئة المتحرك أكثر. ومن لطيف ذلك قول الأعشى1 يصف السفينة في البحر, وتقاذف الأمواج بها: تَقِصّ السَّفِين بجانبيه كما ... يَنْزُو الرباح خلا له كَرْع2 قال الشيخ عبد القاهر3: الرباح: الفصيل، والكرع: ماء السماء؛ شبّه السفينة في انحدارها وارتفاعها بحركات الفصيل في نزوه؛ فإنه يكون له حينئذ حركات متفاوتة تصير له أعضاؤه في جهات مختلفة، ويكون هناك تسفل وتصعد على غير ترتيب، وبحيث يكاد يدخل أحدهما في الآخر، فلا يتبينه الطرف مرتفعا حتى يراه متسفلا، وذلك أشبه شيء بحال السفينة وهيئة حركتها حين تتدافعها الأمواج. ومنه قول الآخر: حُفّت بسَرْو كالقيان تلحفت ... خضر الحرير على قوام معتدل فكأنها والريح جاء يُميلها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل4 فإن فيه تفصيلا دقيقا؛ وذلك أنه راعى الحركتين: حركة التهيؤ للدنوّ والعناق، وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق، وأدى ما يكون في الثانية من سرعة زائدة تأدية لطيفة؛ لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركتها في حال خروجها عن مكانها من الاعتدال، وكذلك حركة من يدركه الخجل فيرتدع أسرع من حركة من يهم بالدنو؛ لأن إزعاج الخوف أقوى أبدا من

إزعاج الرجاء. ومما مذهبه السهل الممتنع من هذا الضرب قول امرئ القيس: مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ1 يقول: إن هذا الفرس لفرط ما فيه من لين الرأس وسرعة الانحراف ترى كَفَله في الحال التي ترى فيها لَبَبه؛ فهو كجلمود صخر دفعه السيل من مكان عالٍ؛ فإن الحجر بطبعه يطلب جهة السفل؛ لأنها مركزه، فكيف إذا أعانته قوة دفع السيل من عل، فهو لسرعة تقلبه يرى أحد وجهيه حين يرى الآخر. وكما يقع التركيب في هيئة الحركة قد يقع في هيئة السكون؛ فمن لطيف ذلك قول أبي الطيب في صفة الكلب: يُقعي جلوس البدوي المصطلي2 وإنما لطف من حيث كان لكل عضو من الكلب في إقعائه موقع خاص، وللمجموع صورة خاصة مؤلفة من تلك المواقع. ومنه البيت الثاني من قول الآخر في صفة مصلوب: كأنه عاشق قد مد صفحته ... يوم الوداع إلى توديع مرتحل أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتمطيه من الكسل3

والتفصيل فيه أنه شبّهه بالمتمطي إذا واصل تمطيه مع التعرض لسببه وهو اللوثة والكسل فيه، فنظر إلى هذه الجهات الثلاث1، ولو اقتصر على أنه كالمتمطي كان قريب التناول؛ لأن هذا القدر يقع في نفس الرائي للمصلوب ابتداء؛ لأنه من باب الجملة. وشبيه بهذا القول قول الآخر: لم أر صفا مثل صف الزُّط ... تسعين منهم صُلبوا في خط من كل عالٍ جذعه بالشط ... كأنه في جذعه المشتط أخو نعاس جدّ في التمطي قد خامر النوم ولم يغط2 والفرق بين هذا والأول3: أن الأول صريح في الاستمرار على الهيئة والاستدامة لها دون بلوغ الصفة غاية ما يمكن أن يكون عليها، والثاني بالعكس. قال الشيخ عبد القاهر4: وشبيه بالأول في الاستقصاء قول ابن الرومي في المصلوب أيضا: كأن له في الجو حبلا يَبُوعه ... إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل5 فقوله: "إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل" كقوله: "مواصل لتمطيه من الكسل" في التنبيه على استدامة الشبه؛ لأنه إذا كان لا يزال يبوع حبلا لم يقبض باعه، ولم يرسل يده، وفي ذلك بقاء شبه المصلوب على الاتصال.

وجه الشبه المركب العقلي

وجه الشبه المركب العقلي: والمركب العقلي كالمنظر المُطمِع مع المَخْبَر المؤيس الذي هو على عكس ما قدّر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} 1 شبه ما يعمله من لا يُقرن الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم يَخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة2 وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء فيأتيه، فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله عنده، فيأخذونه، فيعتِلونه3 إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق. فهو كما ترى منتزع من أمور مجموعة قُرن بعضها إلى بعض، وذلك أنه روعي من الكافر فعل مخصوص، وهو حسبان الأعمال نافعة له، وأن تكون للأعمال صورة مخصوصة، وهي صورة الأعمال الصالحة التي وعد الله تعالى بالثواب عليها، بشرط الإيمان به وبرسله عليهم السلام، وأنها لا تفيدهم في العاقبة شيئا، وأنهم يلقَوْن فيها عكس ما أمّلوه وهو العذاب الأليم، وكذا في جانب المشبه به4. وكحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 1 فإنه أيضا منتزع من أمور مجموعة قُرن بعضها إلى بعض، وذلك أنه روعي من الحمار فعل مخصوص وهو الحمل، وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهي الأسفار التي هي أوعية العلوم، وأن الحمار جاهل بما فيها، وكذا في جانب المشبه.

دقيقة في الوجه المركب

دقيقة في الوجه المركب: واعلم أنه قد تقع بعد أداة التشبيه أمور يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها، فيقع الخطأ؛ لكونه أمرا منتزعا من جميعها؛ كقوله: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت1 فإنه ربما يظن أن الشطر الأول منه تشبيه مستقل بنفسه لا حاجة به إلى الثاني، على أن المقصود به ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة إليه2، ولكن بالتأمل يظهر أن مغزى الشاعر في التشبيه أن يثبت ابتداء مُطمعا متصلا بانتهاء مؤيس، وذلك يتوقف على البيت كله. فإن قيل: هذا يقتضي أن يكون بعض التشبيهات المجتمعة كقولنا: "زيد يصفو ويكدر" تشبيها واحدا3؛ لأن الاقتصار على أحد الخبرين يُبطل الغرض من

الكلام؛ لأن الغرض منه وصف المخبر عنه بأنه يجمع بين الصفتين، وأن إحداهما لا تدوم. قلنا: الفرق بينهما أن الغرض في البيت أن يُثبَت ابتداء مطمع متصل بانتهاء مؤيس كما مر، وكون الشيء ابتداء لآخر زائد على الجمع بينهما، وليس في قولنا: "يصفو ويكدر" أكثر من الجمع بين الصفتين، ونظير البيت قولنا: "يصفو ثم يكدر"؛ لإفادة "ثم" الترتيب المقتضي ربط أحد الوصفين بالآخر. وقد ظهر مما ذكرنا أن التشبيهات المجتمعة تفارق التشبيه المركب في مثل ما ذكرنا بأمرين: أحدهما: أنه لا يجب فيها ترتيب، والثاني: أنه إذا حُذف بعضها لا يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيده قبل الحذف، فإذا قلنا: "زيد كالأسد بأسا، والبحر جودا، والسيف مضاء" لا يجب أن يكون لهذه التشبيهات نسق مخصوص، بل لو قدم التشبيه بالبحر أو التشبيه بالسيف جاز، ولو أسقط واحد من الثلاثة لم يتغير حال غيره في إفادة معناه1، بخلاف المركب؛ فإن المقصود منه يختل بإسقاط بعض الأمور.

المتعدد الحسي

المتعدد الحسي: والمتعدد الحسي كاللون والطعم والرائحة في تشبيه فاكهة بأخرى. المتعدد العقلي: المتعدد العقلي؛ كحدّة النظر، وكمال الحذر، وإخفاء السفاد في تشبيه طائر بالغراب. المتعدد المختلف: والمتعدد المختلف؛ كحسن الطلعة ونباهة الشأن في تشبيه إنسان بالشمس. واعلم أن الطريق في اكتساب وجه الشبه أن يُميَّز عما عداه، فإذا أردت أن تشبه جسما بجسم في هيئة حركة، وجب أن تطلب الوِفَاق بين الهيئة والهيئة مجردتين عن الجسم وسائر أوصافه من اللون وغيره، كما فعل ابن المعتز في تشبيه البرق1؛ فإن لم ينظر إلى شيء من أوصافه سوى الهيئة التي تجدها العين من انبساط يعقبه انقباض. أداة التشبيه: وأما أداته: "فالكاف" في نحو قولك: "زيد كالأسد". "وكأن"2 في نحو قولك: "زيد كأنه أسد". "ومثل" في نحو قولك: "زيد مثل الأسد". وما في معنى "مثل"، كلفظة "نحو"، وما يُشتق من لفظة "مثل" و"شبه" ونحوهما3.

والأصل في الكاف ونحوها1 أن يليها المشبه به2، وقد يليها مفرد لا يتأتى التشبيه به3. وذلك إذا كان المشبه به مركبا؛ كقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 4؛ إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء، ولا بمفرد آخر يُتَمَحَّل لتقديره5؛ بل المراد تشبيه حالها في نضارتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء بحال النبات يكون أخضرَ وارفا، ثم يهيج فتطيّره الرياح كأن لم يكن. وأما قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} 6 فليس منه؛ لأن المعنى: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى, حين قال لهم: من أنصاري إلى الله؟ 7. وقد يذكر فعل8 ينبئ عن التشبيه؛ كعلمت في قولك: "علمت زيدا أسدا"، ونحوه9. هذا إذا قرب التشبيه، فإن بُعِّد أدنى تبعيد قيل: "خلته وحسبته"، ونحوهما10.

الغرض من التشبيه

الغرض من التشبيه: وأما الغرض من التشبيه فيعود في الأغلب إلى المشبه، وقد يعود إلى المشبه به. ما يعود إلى المشبه من أغراض التشبيه: أما الأول فيرجع إلى وجوه مختلفة: منها بيان أن وجود المشبه ممكن: وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالَف فيه ويدعّى امتناعه؛ كقول أبي الطيب: فإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال4

أراد أنه فاق الأنام في الأوصاف الفاضلة، إلى حد بطل معه أن يكون واحدا منهم، بل صار نوعا آخر -برأسه- أشرف من الإنسان، وهذا -أعني أن يتناهى بعض أفراد النوع في الفضائل, إلى أن يصير كأنه ليس منها- أمر غريب يفتقر من يدعيه إلى إثبات جواز وجوده على الجملة، حتى يجيء إلى إثبات وجوده في الممدوح؛ فقال: "فإن المسك بعض دم الغزال" أي: ولا يعد في الدماء؛ لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا يوجد منها شيء في الدم، وخلوه من الأوصاف التي لها كان الدم دما؛ فأبان أن لما ادّعاه أصلا في الوجود على الجملة. ومنها بيان حاله؛ كما في تشبيه ثوب بثوب آخر في السواد، إذا عُلم لون المشبه به دون المشبه1. ومنها بيان مقدار حاله في القوة والضعف والزيادة والنقصان؛ كما في قوله: مداد مثل خافية الغراب2 وعليه قول الآخر: فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانتْه فروج الأصابع3 أي: بلغت في بوار سعيي في الوصول إليها وإن أُمتَّع بها أقصى الغايات، حتى لم

أحظ منها بما قل ولا بما كثر. ومنها تقرير حاله في نفس السامع؛ كما في تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل بمن يَرْقِم على الماء1. وعليه قوله عز وجل: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} 2 فإنه بيّن ما لم تجر به العادة بما جرت به العادة3. وهذه الوجوه تقتضي أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم، وهو به أشهر4؛ ولهذا ضُعِّف قول البحتري:

على باب قِنَّسْرينَ والليل لاطخ ... جوانبه من ظلمة بمداد1 فإنه رب مداد فاقد اللون، والليل بالسواد وشدته أحق وأحرى؛ ولهذا قال ابن الرومي: حِبْر أبي حفص لعاب الليل ... يسيل للإخوان أي سيل2 فبالغ في وصف الحبر بالسواد حين شبهه بالليل؛ فكأنه 3 نظر إلى قول العامة في الشيء الأسود: " هو كالنِّقْس"4, ثم تركه للقافية إلى المداد. ومنها تزيينه للتغريب فيه، كما في تشبيه وجه أسود بمقلة الظبي. ومها تشويهه للتنفير عنه، كما في تشبيه وجه مجدور بسِلحة جامدة قد نقرتها الديكة، وقد أشار إلى هذين الغرضين ابن الرومي في قوله: تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن تَعِبْ قلت ذا قيء الزنابير5

ومنها استطرافه1: كما في تشبيه فحم فيه جمرة موقد ببحر من المسك مَوْجه الذهب؛ لإبرازه في صورة الممتنع عادة. وللاستطراف وجه آخر؛ وهو أن يكون المشبه به نادر الحضور؛ إما مطلقا كما مر2 وإما عند حضور المشبه؛ كما في قوله: ولازَوَرْدية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليَوَاقيت كأنها فوق قامات ضعُفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت3 فإن صورة اتصال النار بأطراف الكبريت لا يندر حضورها في الذهن ندرة صورة بحر من المسك موجه الذهب، وإنما النادر حضورها عند حضور صورة البنفسج، فإذا أُحضر مع صحة الشبه استُطرف لمشاهدة عناق بين صورتين لا تتراءى ناراهما. ومما يؤيد هذا ما يحكى أن جريرا قال: "أنشدني عدي": عرف الديار توهما فاعتادها فلما بلغ إلى قوله: تزجي أغَنَّ كأن إبرة رَوْقه رحمته، وقلت: قد وقع، ما عساه يقول وهو أعرابي جلف جاف؟ فلما قال: قلم أصاب من الدواة مدادها4 ... استحالت الرحمة حسدا.

فهل كانت رحمته في الأولى والحسد في الثانية إلا لأنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر شبه، وحين أتمه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف. وذكر الشيخ عبد القاهر -رحمه الله- للاستطراف في تشبيه البنفسج بنار الكبريت وجها آخر1، وهو أنه أراك شبها لنبات غض يرفّ وأوراق رطبة من لهب نار في جسم مُستَولٍ عليه اليبس، ومبنى الطباع وموضوع الجبلّة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له؛ كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان الشغف به أجدر. ما يعود إلى المشبه به من أغراض التشبيه: وأما الثاني فيكون في الغالب إيهام أن المشبه به أتم من المشبه في وجه الشبه، وذلك في التشبيه المقلوب، وهو أن يكون الأمر بالعكس2؛ كقول محمد بن وهيب: وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح3 فإنه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتم من الصباح في الوضوح والضياء. واعلم أن هذا وإن كان في الظاهر يشبه قولهم: "لا أدري أوجهه أنوَر أم الصبح؟، وغرته أضوأ أم البدر؟ "، وقولهم إذا أفرطوا: "نور الصباح يخفى في ضوء

وجهه" أو "نور الشمس مسروق من نور جبينه" ونحو ذلك من وجوه المبالغة؛ فإن في الأول خلابة وشيئا من السحر ليس في الثاني، وهو أنه كأنه يستكثر للصباح أن يشبهه بوجه الخليفة، ويوهم أنه احتشد له واجتهد في تشبيه يفخم به أمره، فيوقع المبالغة في نفسك من حيث لا تشعر، ويفيدكها من غير أن يظهر ادعاؤه لها؛ لأنه وضع كلامه وضع من يقيس على أصل متفق عليه، لا يُشفِق من خلاف مخالف وتهكم متهكم، والمعاني إذا وردت على النفس هذا المورد كان لها نوع من السرور عجيب، فكانت كالنعمة التي لا تكدرها المنة، وكالغنيمة من حيث لا تحتسب، وفي قوله: "حين يمتدح" فائدة شريفة، وهي الدلالة على اتصاف الممدوح بما لا يوجد إلا فيمن هو كامل في الكرم، من معرفة حق المادح -على ما احتشد له من تزيينه وما قصده من تفخيم شأنه في عيون الناس- بالإصغاء إليه والارتياح له، والدلالة بالبشر والطلاقة على حسن موقعه عنده. ومنه قوله تعالى حكاية عن مستحلّ الربا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} 1؛ فإن مقتضى الظاهر أن يقال: إنما الربا مثل البيع؛ إذ الكلام في الربا لا في البيع، فخالفوا لجعلهم الربا في الحلّ أقوى حالا من البيع وأعرف به. ومنه قوله عز وجل: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} 2؛ فإن مقتضى الظاهر العكس؛ لأن الخطاب للذين عبدوا الأوثان وسمَّوها آلهة تشبيها بالله سبحانه وتعالى؛ فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فخولف في خطابهم؛ لأنهم بالغوا في عبادتها؛ وغلوا حتى صارت عندهم أصلا في العبادة3 والخالق سبحانه وتعالى فرعا، فجاء الإنكار

على وفق ذلك. وقال السكاكي1: "عندي أن المراد بـ {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} الحي العالم القادر من الخلق2؛ تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله عز وجل، وقوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} تنبيه توبيخ عليه، ونحوه3 قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 4 بدل: "أرأيت من اتخذ هواه إلهه؟! ". وقد يكون الغرض العائد على المشبه به بيان الاهتمام به، كتشبيه الجائع وجها كالبدر في الإشراق والاستدارة بالرغيف؛ إظهارا للاهتمام بشأن الرغيف لا غير، وهذا5 يسمى إظهار المطلوب. قال السكاكي6: "ولا يحسن المصير إليه إلا في مقام الطمع في تسنِّي المطلوب، كما يحكى عن الصاحب أن قاضي سجستان دخل عليه، فوجده الصاحب متفننا, فأخذ يمدحه حتى قال: وعالم يعرف بالسِّجْزي7

وأشار للندماء أن ينظموا على أسلوبه، ففعلوا واحدا بعد واحد، إلى أن انتهت النوبة إلى شريف في البَيْن1، فقال: أشهى إلى النفس من الخبز2 ... فأمر الصاحب أن تقدم له مائدة. هذا3 كله إذا أريد إلحاق الناقص في وجه الشبه حقيقة أو ادعاء4 بالزائد، فإن أريد مجرد الجمع بين شيئين في أمر5، فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه6 ليكون كل واحد من الطرفين مشبها ومشبها به؛ احترازا من ترجيح أحد المتساويين على الآخر؛ كقول أبي إسحاق الصابي: تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكُب7

فوالله ما أدري أبالخمر أسبَلَتْ ... جفوني أم من عَبْرتي كنت أشرب؟ 1 وكقول الآخر: رَقَّ الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قَدَح ... وكأنما قدح ولا خمر2 ويجوز التشبيه أيضا3؛ كتشبيه غُرَّة الفرس بالصبح وتشبيه الصبح بغرة الفرس، متى أريد ظهور منير في مظلم أكثر منه4، وتشبيه الشمس بالمرآة المجلوّة أو الدينار الخارج من السّكَّة، كما قال: وكأن الشمس المنيرة دينا ... ر جلته حدائد الضّرَّاب5 وتشبيه المرآة المجلوة أو الدينار الخارج من السكة بالشمس، متى أريد استدارة متلألئ متضمن لخصوص في اللون، وإن عظم التفاوت بين بياض الصبح وبيان الغرة، وبين نور الشمس ونور المرآة والدينار، وبين الجِرْمين، فإنه ليس شيء من ذلك بمنظور إليه في التشبيه، وعلى هذا ورد تشبيه الصبح في الظلام بعَلَم أبيض على ديباج أسود في قول ابن المعتز: والليل كالحُلَّة السوداء لاح به ... من الصباح طراز غير مرقوم1 فإنه تشبيه حسن مقبول، وإن كان التفاوت في المقدار بين الصبح والطراز في الامتداد والانبساط شديدا.

أقسام التشبيه باعتبار طرفيه

أقسام التشبيه باعتبار طرفيه ... على الماء، وكالراقم في الماء"؛ فإن المشبه هو الساعي، لا مطلقا، بل مقيدا بكون سعيه كذلك، والمشبه به هو القابض أو الراقم، لا مطلقا، بل مقيدا بكون قبضه على الماء أو رقمه فيه؛ لأن وجه الشبه فيهما هو التسوية بين الفعل وعدمه في عدم الفائدة، والقبض على الماء والرقم فيه كذلك؛ لأن فائدة قبض اليد على الشيء أن يحصل فيها، فإذا كان مما لا يتماسك؛ فقبضها عليه وعدمه سواء، وكذلك القصد بالرقم في الشيء أن يبقى أثره فيه، فإذا فُعل فيما لا يقبله كان فعله كعدمه؛ فالقيد في هاتين الصورتين هو الجار والمجرور. ونحوهما قولهم: "هو كمن يجمع سيفين في غمد"1 وقولهم: "كمبتغي الصيد في عِرِّيسة الأسد"2، وقد يكون حالا؛ كقولهم: "هو كالحادي وليس له بعير"3. ومما طرفاه مقيدان قول الشاعر: إني وتزييني بمَدحي مَعشَرًا ... كَمُعَلِّقٍ دُرًّا عَلى خِنزيرِ4 فإن المشبه فيه هو المتكلم بقيد اتصافه بتزيينه بمدحه معشرا، فمتعلق التزيين أعني قوله: "بمدحي" داخل في المشبه، والمشبه به من يعلق درا، بقيد أن يكون تعليقه إياه على خنزير، فالشبه مأخوذ من مجموع المصدر وما في صلته، وهو أن كل واحد منهما يضع الزينة حيث لا يظهر لها أثر؛ لأن الشيء غير قابل للتزيين؛ فالواو في قوله: "وتزييني" بمعنى مع؛ إذ لا يمكن أن يقال: إني كذا، وإن تزييني كذا5؛ لأنه ليس معنا شيئان يكون أحدهما خبرا عن ضمير المتكلم، والآخر عن تزييني، لا يقال تقديره: إني كمعلق درا على خنزير، وإن تزييني بمدحي معشرا كتعليق در على خنزير؛ لأنه لا يتصور أن يشبه المتكلم نفسه -من حيث هو- بمعلق درا على خنزير، بل لا بد أن يكون يشبه نفسه باعتبار تزيينه بمدحه معشرا. وإما مختلفان، والمقيد هو المشبه به، كقوله: والشمس كالمرآة في كف الأشل6 فإن المشبه هو الشمس على الإطلاق، والمشبه به هو المرآة لا على الإطلاق، بل بقيد كونها في يد الأشل. أو على عكس ذلك؛ كتشبيه المرآة في كف الأشل بالشمس.

تشبيه المركب بالمركب

تشبيه المركب بالمركب: الثاني: تشبيه المركب بالمركب، وهو ما طرفاه كثرتان مجتمعتان؛ كما في قول البحتري: ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في الغيم الجَهَام3 لا يريد به تشبيه بياض الحُجول على الانفراد بالبرق، بل مقصوده الهيئة الخاصة الحاصلة من مخالطة أحد اللونين4 بالآخر. وكذلك المقصود في بيت بشار5،

ولذلك وجب الحكم بأن "أسيافنا" في حكم الصلة للمصدر1، ونصب الأسياف لا يمنع من تقدير الاتصال؛ لأن الواو فيها بمعنى مع2؛ كقولهم: "لو تُركت الناقة وفصيلها لرضعها". ومما ينبه على ذلك أن قوله: "تهاوى كواكبه" جملة وقعت صفة لليل؛ فإن الكواكب مذكورة على سبيل التبع لليل، ولو كانت مستبدة لشأنها لقال: "ليل وكواكب". وأما بيت امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحَشَف البالي3 فهو على خلاف هذا، فإن أحد الشيئين فيه -في الطرفين- معطوف على الآخر، أما في طرف المشبه فبيّن، وأما في طرف المشبه؛ فلأن الجمع4 في المتفق كالعطف في المختلف؛ فاجتماع شيئين أو أشياء في لفظ تثنية أو جمع لا يوجب أن أحدهما أو أحدها في حكم التابع للآخر، كما يكون ذلك إذا جرى الثاني صفة للأول أو حالا منه أو ما أشبه ذلك، وقد صرح بالعطف فيما أجراه بيانا له من قوله: "رطبا ويابسا"5. وهذا القسم ضربان: أحدهما: ما لا يصح تشبيه كل جزء من أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر،

كقوله: غدا والصبح تحت الليل بادٍ ... كطِرْف أشهب ملقى الجِلال1 فإن "الجلال" فيه في مقابلة "الليل"، ولو شبهه به لم يكن شيئا. وكقول الآخر: كأنما المريخ والمشتري ... قُدّامه في شامخ الرفعه منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجت قدامه شمعه2 فإن "المريخ" في مقابلة "المنصرف عن دعوة"، ولو قيل: "كأن المريخ منصرف بالليل عن دعوة" كان خَلْفا من القول3. والثاني: ما يصح تشبيه كل جزء من أجزاء أحد طرفيه بما يقابله من أجزاء الطرف الآخر، غير أن الحال تتغير، ومثاله قوله: وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق4 فإنه لو قيل: كأن النجوم درر، وكأن السماء بساط أزرق، لكان تشبيها صحيحا، لكن أين يقع من التشبيه الذي يُريك الهيئة التي تملأ القلوب سرورا وعجبا من طلوع النجوم مؤتلقة متفرقة في أديم السماء, وهي زرقاء زرقتها الصافية؟!

تشبيه المفرد بالمركب

تشبيه المفرد بالمركب: الثالث: تشبيه المفرد بالمركب، كما مر من تشبيه الشاة الجَبَليّ والشقيق والنيلوفر1. تشبيه المركب بالمفرد: الرابع: تشبيه المركب بالمفرد، كقول أبي تمام: يا صاحبيّ تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور2 تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر3 يعني أن النبات من شدة خضرته -مع كثرته وتكاتفه- قد صار لونه إلى الاسوداد، فنقص من ضوء الشمس حتى صار كضوء القمر. التشبيه الملفوف والمفروق: وأيضا إن تعدد طرفاه4 فهو إما ملفوف أو مفروق. فالملفوف ما أتى فيه بالمشبهين ثم بالمشبه بهما؛ كقول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي5 وغير الملفوف بخلاف ذلك6؛ كقول المرقِّش الأكبر: النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عَنَم7 ومنه قول أبي الطيب: بدت قمرا ومالت خُوط بان ... وفاحت عنبرا ورَنَت غزالا8

تشبيه التسوية والجمع: وإن تعدد طرفه الأول؛ أعني المشبه، دون الثاني، سمي تشبيه التسوية؛ كقول الآخر: صدغ الحبيب وحالي ... كلاهما كالليالي وثغره في صفاء ... وأدمعي كاللآلي1 وإن تعدد طرف الثاني -أعني المشبه به دون الأول- سمي تشبيه الجمع؛ كقول البحتري: كأنما يَبْسَم عن لؤلؤ ... منضّد أو بَرَد أو أقاح2 ومثله قول امرئ القيس: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخُزَامَى ونشر القُطُر3 يعل به برد أنيابها ... إذا طرّب الطائر المستَحِر4 إلا أن فيه شوبا من القصد إلى هيئة الاجتماع5.

أقسام التشبيه باعتبار وجه الشبه

أقسام التشبيه باعتبار وجه الشبه: وأما باعتبار وجهه: فله ثلاثة تقسيمات: تمثيل وغير تمثيل، ومجمل ومفصل، وقريب وبعيد. تشبيه التمثيل: التمثيل ما وجهه وصف منتزع من متعدد؛ أمرين أو أمور1، وقيده السكاكي

بكونه غير حقيقي1, ومثّله بصور مثّل بها غيره أيضا، منها قول ابن المعتز: اصبر على مَضَض الحسو ... د فإن صبرك قاتله فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله2 فإن تشبيه الحسود المتروك مقاولته -مع تطلبه إياها لينال بها نفثة مصدور- بالنار التي لا تُمد بالحطب في أمر غير حقيقي3؛ منتزع من متعدد، وهو إسراع الفناء؛ لانقطاع ما فيه مدد البقاء. ومنها قول صالح بن عبد القدوس: وإن من أدبته في الصِّبا ... كالعود يُسقَى الماء في غرسه حتى تراه مونقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه4 فإن تشبيه المؤدَّب في صباه بالعود المسقيّ أوان غرسه فيما يلزم كل واحد، من كون المؤدب في صباه مهذب الأخلاق حميد الفعال؛ لتأديبه المصادف وقته، وكون العود المسقي أوان غرسه مونقا بأوراقه ونضرته؛ لسقيه المصادف وقته من تمام الميل5 وكمال الاستحسان، بعد خلاف ذلك. ومنها قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} 6 فإن تشبيه حال المنافقين بحال الموصوف بصلة الموصول في الآية في أمر غير حقيقي منتزع من متعدد، وهو الطمع في حصول مطلوب لمباشرة أسبابه القريبة، مع تعقب الحرمان والخيبة؛ لانقلاب الأسباب.

أقسام التشبيه باعتبار طرفيه: وأما تقسيم التشبيه: فباعتبار طرفيه أربعة أقسام: الأول: تشبيه المفرد بالمفرد: وهو ما طرفاه مفردان: إما غير مقيدين، كتشبيه الخد بالورد ونحوه، وعليه قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 2. فإن قلت: ما وجه الشبه في الآية؟ قلت: جعله الزمخشري حسيا، فإنه قال: "لما كان الرجل والمرأة يعتنقان، ويشتمل كل واحد منهما على صاحب في عناقه؛ شبه باللباس المشتمل عليه، قال الجعدي: إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا3 وقيل: شبه كل واحد منهما باللباس للآخر؛ لأنه يصونه من الوقوع في فضيحة الفاحشة، كاللباس الساتر للعورة4. وإما مفردان مقيدان5 كقولهم لمن لا يحصل من سعيه على شيء: "هو كالقابض

تشبيه غير التمثيل

تشبيه غير التمثيل: وغير التمثيل ما كان بخلاف ذلك، كما سبق في الأمثلة المذكورة1. التشبيه المجمل: والمجمل ما لم يذكر وجهه؛ فمنه ما هو ظاهر يفهمه كل أحد حتى العامة؛ كقولنا: "زيد أسد"؛ إذ لا يخفى على أحد أن المراد به التشبيه في الشجاعة دون غيرها. ومنه ما هو خفي لا يدركه إلا من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة؛ كقول من وصف2 بني المهلب للحجاج لما سأله عنهم وأن أيهم أنجد: "كانوا كالحلقة المفرغة3 لا يدرى أين طرفاها" أي: لتناسب أصولهم وفروعهم في الشرف يمتنع

تعيين بعضهم فاضلا وبعضهم أفضل منهم، كما أن الحلقة المفرغة لتناسب أجزائها يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا1. هكذا نسبه الشيخ عبد القاهر إلى من وصف بني المهلب2، ونسبه الشيخ جار الله العلامة3 إلى الأنمارية، قيل: هي فاطمة بنت الخرشب سُئلت عن بنيها: أيهم أفضل؟ فقالت: عُمارة، لا، بل فلان، لا، بل فلان، ثم قالت: "ثكلتُهم إن كنت أعلم أيهم أفضل4؛ هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها". وأيضا منه ما لم يذكر فيه وصف المشبه ولا وصف المشبه به5 كالمثال الأول6. ومنه ما ذكر فيه وصف المشبه به وحده كالمثال الثاني7، ونحوه قول زياد الأعجم: وإنا وما تُلقِي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما تُلقِ في البحر يغرق8 وكذا قول النابغة الذبياني: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب9 ومنه ما ذكر فيه وصف كل واحد منهما، كقول أبي تمام: صدفت عنه ولم تَصدِف مواهبه ... عني وعاوده ظني فلم يَخِب10 كالغيث إن جئته وافاك رَيِّقه ... وإن ترحّلت عنه لَجّ في الطلب11

التشبيه المفصل

التشبيه المفصل: والمفصل ما ذكره وجهه1، كقول ابن الرومي: يا شبيه البدر في الحسـ ... ـن وفي بعد المنال2 جُدْ فقد تنفجر الصخـ ... ـرة بالماء الزلال3 وقول أبي بكر الخالدي: يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومنالا

وشبيه الغصن لينا ... وقواما واعتدالا أنت مثل الورد لونا ... ونسيما وبلالا1 زارنا حتى إذا ما ... سرّنا بالقرب زالا وقد يُتسَامح بذكر ما يستتبعه مكانه2 كقولهم في وصف الألفاظ إذا وجدوها لا تثقل على اللسان لتنافر حروفها أو تكرارها، ولا تكون غريبة وحشية تستكره لكونها غير مألوفة، ولا مما تبعد دلالتها على معانيها: "هي كالعسل في الحلاوة، وكالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرقة" وقولهم في الحُجَّة إذا كانت معلومة الأجزاء، يقينية التأليف، بينة الاستلزام للمطلوب: "هي كالشمس في الظهور"، والجامع في الحقيقة لازم الحلاوة؛ وهو ميل الطبع، ولازم السلاسة والرقة؛ وهو إفادة النفس نشاطا ورَوْحا3، ولازم الظهور؛ وهو إزالة الحجاب4؛ فإن شأن النفس مع الألفاظ الموصوفة بتلك الصفات كشأنها مع العسل الذي يَلَذّ طعمه فتهَش النفس له، ويميل الطبع إليه، ويُحب وروده عليه، أو كشأنها مع الماء الذي يسوغ في الحلق، ومع النسيم الذي يسري في البدن، فيتخلل المسالك اللطيفة منه، فيفيدان النفس نشاطا وروحا. وشأنها مع الشبهة التي تمنع القلب إدراك ما هي شبهة فيه، كشأنها مع الحجاب الحسي الذي يمنع أن يُرَى ما يكون من ورائه؛ ولذلك توصف بأنها اعترضت دون الذي يروم القلب إدراكه. قال الشيخ صاحب المفتاح5: "وتسامحهم هذا لا يقع إلا حيث يكون التشبيه في وصف اعتباري كالذي نحن فيه6. وأقول: يشبه أن يكون تركهم التحقيق في وجه الشبه على ما سبق التنبيه عليه من تسامحهم هذا"7 انتهى كلامه.

التشبيه القريب المبتذل

التشبيه القريب المبتذل: والقريب المبتذل، وهو ما يُنتقَل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر؛ لظهور وجهه في بادئ الرأي، وسبب ظهوره أمران: الأول: كون الشبه أمرا جمليا1؛ فإن الجملة أسبق أبدا إلى النفس من التفصيل؛ ألا ترى أن الرؤية لا تصل في أول أمرها إلى الوصف على التفصيل؟ لكن على الجملة، ثم على التفصيل؛ ولذلك قيل: "النظرة الأولى حمقاء، وفلان لم يُنعم النظر" وكذا سائر الحواس؛ فإنه يدرك من تفاصيل الصوت والذوق في المرة الثانية ما لم يدرك في المرة الأولى، فمن يروم التفصيل كمن يبتغي الشيء من بين جملة, يريد تمييزه مما اختلط به, ومن يروم الإجمال كمن يريد أخذ الشيء جزافا، وكذا حكم ما يدرك بالعقل، ترى الجمل أبدا تسبق إلى الذهن، والتفاصيل مغمورة فيها، لا تحضر إلا بعد إعمال الروية. والثاني: كونه قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به في الذهن: إما عند حضور المشبه؛ لقرب المناسبة بينهما، كتشبيه العنبة الكبيرة السوداء بالإجّاصة2 في الشكل وفي المقدار، والجرة الصغيرة بالكوز كذلك، وإما مطلقا لتكرره على الحس، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة المجلوة في الاستدارة والاستنارة؛ فإن قرب المناسبة والتكرر كل واحد منهما يعارض التفصيل؛ لاقتضائه سرعة الانتقال.

التشبيه البعيد الغريب

التشبيه البعيد الغريب: والبعيد الغريب؛ وهو ما لا يُنتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر؛ لخفاء وجهه في بادئ الرأي، وسبب خفائه أمران: أحدهما: كونه كثير التفصيل؛ كما سبق من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل1؛ فإن ما ذكرناه من الهيئة2 لا يقوم في نفس الرائي للمرآة الدائمة الاضطراب إلا أن يُستأنف تأملا، ويكون في نظره متمهِّلا. والثاني: نُدُور حضور المشبه به في الذهن: إما عند حضور المشبه؛ لبعد المناسبة بينهما، كما تقدم من تشبيه البنفسج بنار الكبريت3، وإما مطلقا؛ لكونه وهميا، أو مركبا خياليا، أو مركبا عقليا، كما مضى من تشبيه نصال السهام بأنياب الأغوال4، وتشبيه الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من الزبرجد5، وتشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا6؛ فإن كلا سبب لندرة حضور

المشبه به في الذهن، أو لقلة تكرره على الحس، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل1؛ فإنه ربما يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل، فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين2. والمراد بالتفصيل أن يُنظر في أكثر من وصف واحد لشيء واحد أو أكثر، وذلك يقع على وجوه كثيرة، والأغلب الأعرف منها وجهان: أحدهما: أن تأخذ بعضا3 وتدع بعضا، كما فعل امرؤ القيس في قوله: حملت ردينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان4 ففصل السنا عن الدخان، وأثبته مفردا5. والثاني: أن يعتبر الجميع، كما فعل الآخر في قوله: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نَوَّرا6 فإنه اعتبر من الأنجم الشكل والمقدار واللون، واجتماعها على المسافة المخصوصة في القرب، ثم اعتبر مثل ذلك في العنقود المنوَّر من الملاحية. وكلما كان التركيب من أمور أكثر كان التشبيه أبعد وأبلغ؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا

أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} 1 فإنها عشر جمل إذا فُصِّلت2، وهي وإن دخل بعضها في بعض حتى صارت كلها كأنها جملة واحدة، فإن ذلك لا يمنع من أن تشير إليها واحدة واحدة، ثم إن الشبه منتزع من مجموعها من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض، حتى لو حُذف منها جملة أخل ذلك بالمغزى من التشبيه. ومن تمام القول في هذه الآية ونحوها أن الجملة إذا وقعت في جانب المشبه به, تكون على وجوه: أحدها: أن تلي نكرة؛ فتكون صفة لها، كما في هذه الآية، وعليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة" 3. والثاني: أن تلي معرفة هي اسم موصول؛ فتكون صلة له، كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. ..} 4 الآية. والثالث: أن تلي معرفة ليست باسم موصول فتقع استئنافا5 كقوله عز وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} 6.

ومن أبلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه قول ابن المعتز: كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نُطير غرابا ذا قوادم جُون1 شبّه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص الغربان، ثم شرط أن تكون قوادم ريشها بيضاء؛ لأن تلك الفِرَق من الظلمة تقع في حواشيها من حيث يلي معظم الصبح وعموده لُمَع نور2 يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض، وتمام التدقيق في هذا التشبيه أن جعل ضوء الصبح -لقوة ظهوره ودفعه لظلام الليل- كأنه يحفز الدجى ويستعجلها، ولا يرضى منها بأن تتمهل في حركتها، ثم لما راعى ذلك في التشبيه ابتداء، راعاه آخرا حيث قال: "نطير غرابا" ولم يقل: "غراب يطير" ونحوه؛ لأن الطائر إذا كان واقعا في مكان، فأُزعج وأُطير منه، أو كان قد حبس في يد أو قفص فأرسل، كان ذلك لا محالة أسرع لطيرانه، وأدعى له أن يستمر على الطيران، حتى يصير إلى حيث لا تراه العيون، بخلاف ما إذا طار عن اختيار؛ فإنه حينئذ يجوز أن لا يسرع في طيرانه، وأن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأول. وكذا قول أبي نواس في صفة منقار البازي: كعطفة الجيم بكف أعسرا3

غير خافٍ أن الجيم خطان: أولهما: الذي هو مبدؤه، وهو الأعلى، والثاني: الذي يذهب إلى اليسار. وإذا لم يوصل بها1 فلها تعريق2. والمنقار إنما يشبه الخط الأعلى فقط؛ فلهذا قال: "كعطفة الجيم" ولم يقل: "كالجيم"، ثم دقّق بأن جعلها بكف أعسر؛ لأن جيم الأعسر يقال: إنه أشبه بالمنقار من جيم الأيمن3، ثم أراد أن يؤكد أن الشبه مقصور على الخط الأعلى من الجيم, فقال: يقول من فيها بعقل فكرا لو زادها عينا إلى فاء ورا ... فاتصلت بالجيم صارت جعفرا4 فأبان أنه لم يدخل التعريق في التشبيه؛ لأن الوصل يسقطه أصلا، ولا الخط5 الأسفل وإن كان لا بد منه مع الوصل؛ لأنه قال: "فاتصلت بالجيم" أي: بالعطفة المذكورة، ولم يقتصر على قوله: "لو زادها عينا إلى فاء ورا"؛ ولأجل هذا التدقيق قال: "يقول من فيها بعقل فكرا"؛ فنبه على أن بالمشبه حاجة إلى فضل فكر، وأن

يكون فكره فكر من يراجع عقله. وإذ قد تحققتَ ما ذكرنا من التفصيل، علمتَ أن قول امرئ القيس في وصف السنان1 أعلى طبقة من قول الآخر: يتابع لا يبتغي غيره ... بأبيض كالقبس الملتهب2 لخلو الثاني عن التفصيل الذي تضمنه الأول، وهو قصر التشبيه على مجرد السنا وتصويره مقطوعا عن الدخان، ومعلوم أن هذا لا يقع في الخاطر أول وهلة، بل لا بد فيه من أن يتثبّت، وينظر في حال كل من الفرع والأصل، حتى يقع في النفس أن في الأصل شيئا يقدح في حقيقة التشبيه؛ وهو الدخان الذي يعلو رأس الشعلة. وكذا قوله: وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق3 أفضل من قول ذي الرمة: كأنها فضة قد مسها ذهب4 لأن الأول مما يندر وجوده دون الثاني؛ فإن الناس أبدا يرون في الصياغات فضة قد مُوِّهت بذهب، ولا يكاد يتفق أن يوجد درر قد نثرن على بساط أزرق.

وكذا بيت بشار1 أعلى طبقة من قول أبي الطيب: يزور الأعادي في سماء عَجَاجة ... أسنته في جانبيها الكواكب2 وكذا من قول الآخر: تبني سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفا كواكبه البيض المَبَاتير3 لأن كل واحد منهما، وإن راعى التفصيل في التشبيه، فإنه اقتصر على أن أراك لمعان الأسنة والسيوف في أثناء العجاجة، بخلاف بشار؛ فإنه لم يقتصر على ذلك، بل عبر عن هيئة السيوف وقد سُلَّت من أغمادها وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب، وهذه الزيادة زادت التفصيل تفصيلا؛ لأنها لا تقع في النفس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة، وذلك أن للسيوف عند احتدام الحرب واختلاف الأيدي بها في الضرب اضطرابا شديدا وحركات سريعة، ثم لتلك الحركات جهات مختلفة تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة، والارتفاع والانخفاض، ثم هي باختلاف هذه الأمور تتلاقى ويصدم بعضها بعضا, ثم أشكالها مستطيلة, فنبه على هذه الدقائق بكلمة واحدة وهي قوله: "تهاوى"؛ لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركتها، ثم كان لها في التهاوي تواقع وتداخل، ثم استطالت أشكالها. وكذا قول الآخر في الآذريون: مَداهِن من ذهب ... فيها بقايا غاليهْ4

أعلى وأفضل من قوله فيه: ككأس عقيق في قرارتها مسك1 لأن السواد الذي في باطن الآذريونة -الموضوع بإزائه الغالية والمسك- فيه أمران: أحدهما: أنه ليس بشامل لها. والثاني: أنه لم يستدر في قعرها، بل ارتفع منه حتى أخذ شيئا من سمكها من كل الجهات، وله في منقطَعه هيئة تشبه آثار الغالية في جوانب المدهن إذا كانت بقيت بقية عن الأصابع. وقوله: "في قرارتها مسك" يبين الأمر الأول، ويُؤمِن من دخول النقص عليه كما كان يدخل لو قال: "فيها مسك", ولم يشترط أن يكون في القرارة. وأما الثاني فلا يدل عليه كما يدل قوله: "بقايا غالية"؛ لأن من شأن المسك والشيء اليابس، إذا حصل في شيء مستدير له قعر أن يستدير في القعر، ولا يرتفع في الجوانب الارتفاع الذي في سواد الآذريونة، بخلاف الغالية؛ فإنها رَطِبة، ثم تؤخذ بالأصابع؛ فلا بد في البقية منها أن ترتفع عن القرارة ذلك الارتفاع، ثم هي لنعومتها تَرِقّ فتكون كالصبغ الذي لا يظهر له جِرْم، وذلك أصدق للشبه.

التشبيه البعيد وهو التشبيه البليغ

التشبيه البعيد وهو التشبيه البليغ: والبليغ من التشبيه ما كان من هذا النوع -أعني البعيد- لغرابته1؛ ولأن الشيء إذا نِيل بعد الطلب له والاشتياق إليه كان نيله أحلى، وموقعه من النفس ألطف وبالمسرة أولى؛ ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ، كما قال: وهن ينبذْنَ من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغُلَّة الصادي2 لا يقال: عدم الظهور ضرب من التعقيد، والتعقيد مذموم؛ لأنا نقول: التعقيد -كما سبق- له سببان: سوء ترتيب الألفاظ، واختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد باللفظ. والمراد بعدم الظهور في التشبيه ما كان سببه لطف المعنى ودقته أو ترتيب بعض المعاني على بعض، كما يشعر بذلك قولنا3: "في بادئ الرأي"؛ فإن المعاني الشريفة لا بد فيها -في غالب الأمر- من بناء ثانٍ على أول، وَرَدّ تالٍ إلى سابق، كما في قول البحتري: "دان على أيدي العفاة ... " البيتين4.

فإنك تحتاج في تعرف معنى البيت الأول إلى معرفة وجه المجاز في كونه دانيا وشاسعا، ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وتنظر كيف شرط في العلو الإفراط ليشاكل قوله: "شاسع"؛ لأن الشسوع هو الشديد من البعد، ثم قابله بما يشاكله من مراعاة التناهي في القرب، فقال: "جد قريب" فهذا ونحوه هو المراد بالحاجة إلى الفكر، وهل شيء أحلى من الفكر إذا صادف نهجا قويما إلى المراد؟ قال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر من الفضيلة: "وأين تقع لذة البهيمة بالعَلُوفة، ولذة السبع بلطع الدم وأكل اللحم، من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه؟ ".

تحول القريب إلى بعيد: وقد يتصرف في القريب المبتذل بما يخرجه من الابتذال إلى الغرابة، وهو على وجوه: منها أن يكون كقوله: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء1 وقوله: فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخِدْر تطلع فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع2 فإن تشبيه وجوه الحسان بالشمس مبتذل، لكن كل واحد من حديث الحياء في الأول، والتشكيك -مع ذكر يوشع عليه السلام- في الثاني، أخرجه من الابتذال إلى الغرابة. وشبيه بالأول قول الآخر: إن السحاب لتستحي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها3 ومنها أن يكون كقوله: عزماته مثل النجوم ثواقبا ... لو لم يكن للثاقبات أفول4 وقوله: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل5 وقوله: يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا والبدر لو لم يغب والشمس لو نطقت ... والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا6 وهذا يسمى التشبيه المشروط7.

ومنها أن يكون كقوله: في طلعة البدر شيء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنيها1 وقول ابن بابك: ألا يا رياض الحزن من أبرق الحِمَى ... نسيمك مسروق ووصفك منتحل2 حكيت أبا سعد فنشرك نشره ... ولكن له صدق الهوى ولك الملل3 وقد يُخرج من الابتذال بالجمع بين عدة تشبيهات، كقوله: كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو برد أو أقاح4 كما يزداد بذلك لطفا وغرابة، كقوله: له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل5

أقسام التشبيه باعتبار أداته

أقسام التشبيه باعتبار أداته: وأما باعتبار أداته؛ فإما مؤكد، أو مرسل: والمؤكد: ما حُذفت أداته؛ كقوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} 1 وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 2, وقول الحماسي: هم البحور عطاء حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقي بِهِم بُهَم3 إلى غير ذلك كما سبق4. ومنه نحو قول الشاعر: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لُجَيْن الماء5 وقول الآخر يصف القمر لآخر الشهر قبل السرار: كأنما أدهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصبح ألقى نعل حافره6 وقول الشريف الرضي: أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضع ولا يزال جنين النبت ترضعه ... على قبوركم العَرَّاضة الهَمِع7

التشبيه المرسل

التشبيه المرسل: والمرسل ما ذُكرت أداته؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} 1؛ وقوله عز وجل: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 2 وقول امرئ القيس: وتعطو برَخْص غير شَثْن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل3 وقول البحتري: وإذا الأسنة خالطتها خلتها ... فيها خيال كواكب في الماء4 إلى غير ذلك كما تقدم5.

أقسام التشبيه باعتبار الغرض

أقسام التشبيه باعتبار الغرض: وأما باعتبار الغرض؛ فإما مقبول، أو مردود: 1- التشبيه المقبول: الوافي بإفادة الغرض؛ كأن يكون المشبه به أعرف شيء بوجه الشبه1 إذا كان الغرض بيان حال المشبه من جهة وجه الشبه، أو بيان المقدار. ثم الطرفان في الثاني2 إن تساويا في وجه الشبه, فالتشبيه كامل في القبول، وإلا فكلما كان المشبه به أسلم من الزيادة والنقصان، كان أقرب إلى الكمال، أو كأن يكون المشبه به أتم شيء3 في وجه الشبه، إذا قُصد إلحاق الناقص بالكامل، أو كأن يكون المشبه به مسلم الحكم معروفه عند المخاطب في وجه الشبه؛ إذا كان الغرض بيان إمكان الوجود. 2- التشبيه المردود: والمردود بخلاف ذلك؛ أي: القاصر عن إفادة الغرض4.

وثامنتها: إفراد المشبه به بالذكر؛ كقولك: "أسد" أي: زيد، وهي كالسابعة1. واعلم أن الشبه2 قد ينتزع من نفس التضاد؛ لاشتراك الضدين فيه، ثم ينزل منزلة التناسب3 بواسطة تمليح؛ أو تهكم4؛ فيقال للجبان: "ما أشبهه بالأسد"، وللبخيل: "هو حاتم".

خاتمة

خاتمة: مراتب التشبيه: قد سبق أن أركان التشبيه أربعة: المشبه، والمشبه به، وأداة التشبيه، ووجهه. فالحاصل من مراتب التشبيه في القوة والضعف في المبالغة باعتبار ذكر أركانه كلها أو بعضها ثمانٍ: إحداها: ذكر الأربعة؛ كقولك: "زيد كالأسد في الشجاعة" ولا قوة لهذه المرتبة1. وثانيتها: ترك المشبه؛ كقولك: "كالأسد في الشجاعة" أي: زيد، وهي كالأولى في عدم القوة2. وثالثتها: ترك كلمة التشبيه؛ كقولك: "زيد أسد في الشجاعة" وفيها نوع قوة3. ورابعتها: ترك المشبه وكلمة التشبيه؛ كقولك: "أسد في الشجاعة" أي: زيد، وهي كالثالثة في القوة. وخامستها: ترك وجه الشبه؛ كقولك: "زيد كالأسد"، وفيها نوع قوة؛ لعموم وجه الشبه من حيث الظاهر. وسادستها: ترك المشبه ووجه التشبيه؛ كقولك: "كالأسد" أي: زيد, وهي كالخامسة. وسابعتها: ترك كلمة التشبيه ووجهه؛ كقولك: "زيد أسد" وهي أقوى الجميع.

تمرينات على التشبيه

تمرينات على التشبيه: تمرين1: 1- من أي قسم من أقسام التشبيه باعتبار الطرفين قول الشاعر: تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك؟ 2- بين التشبيه الضمني في قول الشاعر: إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع تمرين2: 1- من أي قسم من أقسام التشبيه باعتبار وجه الشبه قول الشاعر: أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ ... إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِلُغَاتِ سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى ... لُعابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ؟ 2- ما الفرق بين التشبيه المؤكد والتشبيه البليغ عند الخطيب وعند غيره؟ تمرين3: 1- من أي أقسام التشبيه باعتبار الأداة قول الشاعر: وتراكضوا خيل الشباب وبادِروا ... أن تسترد فإنهن عواري؟ 2- ما هو الغرض من التشبيه في قول الشاعر: ويا وطني لقيتك بعد يأس ... كأني قد لقيت بك الشبابا؟ تمرين4: 1- لماذا فضّل عبد الملك بن مروان قول ابن القيس الرقيات في مصعب بن الزبير: إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء على قوله فيه: يأتلق التاج فوق مفرقه ... على جبين كأنه الذهب؟ 2- لماذا قبح التشبيه في قول أبي نواس في وصف الخمر:

وإذا ما الماء واقعها ... أظهرت شكلا من الغزل لؤلؤات يتحدرن بها ... كانحدار الذر من جبل؟ تمرين5: 1- أي التشبيهين أبلغ في هذين البيتين: 1- يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومنالا 2- في طلعة البدر شيء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنيها؟ 2- ما الفرق بين التمثيل والتشبيه؟ وأيهما أعلى منزلة في التشبيه؟ تمرين6: بين أركان التشبيه وأقسامه باعتبارها فيما يأتي: 1- والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم 2- الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب الأعراق 3- والبدر في أفق السماء كغادة ... بيضاء لاحت في ثياب حداد 4- أبابل مرأى العين أم هذه مصر ... فإني أرى فيها عيونا هي السحر 5- ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار تمرين7: وازن بين التشبيه في هذين البيتين: 1- ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... متى غمزوها بالأكف تلين 2- إذا قامت لحاجتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران

الباب الثاني: القول في الحقيقة والمجاز

الباب الثاني: القول في الحقيقة والمجاز وقد يقيدان باللغويين1. تعريف الحقيقة: الحقيقة: الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب2. فقولنا: "المستعملة" احتراز عما لم يستعمل؛ فإن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمى حقيقة، وقولنا: "فيما وضعت له" احتراز عن شيئين: أحدهما: ما استعمل في غير ما وضعت له غلطا؛ كما إذا أردت أن تقول لصاحبك: "خذ هذا الكتاب" مشيرا إلى كتاب بين يديك، فغلطت فقلت: "خذ هذا الفرس". والثاني: أحد قسمي المجاز: وهو ما استعمل فيما لم يكن موضوعا له، لا في اصطلاح به التخاطب، ولا في غيره؛ كلفظة الأسد في الرجل الشجاع، وقولنا: "في اصطلاح به التخاطب" احتراز عن القسم الآخر من المجاز؛ وهو ما استعمل فيما وضع له، ولا في اصطلاح به التخاطب؛ كلفظ "الصلاة" يستعمله المخاطِب بعرف الشرع في الدعاء مجازا3.

تعريف الوضع

تعريف الوضع: والوضع تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه1. فقولنا: "بنفسه" احتراز من تعيين اللفظ للدلالة على معنى بقرينة -أعني المجاز- فإن ذلك التعيين لا يسمى وضعا، ودخل المشترك في الحد؛ لأن عدم دلالته على أحد معنييه بلا قرينة لعارض -أعني الاشتراك- لا ينافي تعيينه للدلالة عليه بنفسه2. وذهب السكاكي إلى أن المشترك "كالقَرْء" معناه الحقيقي هو ما لا يتجاوز معنييه؛ كالطهر والحيض غير مجموع بينهما3. قال: "فهذا ما يدل عليه بنفسه ما دام منتسبا إلى الوضعين، أما إذا خصصته بواحد إما صريحا، مثل أن تقول: "القرء بمعنى الطهر"، وإما استلزاما، مثل أن تقول: "القرء لا بمعنى الحيض"؛ فإنه حينئذ ينتصب دليلا دالا بنفسه على الطهر بالتعيين، كما كان الوضع عينه بإزائه بنفسه". ثم قال في موضع آخر4: "وأما ما يظن بالمشترك من الاحتياج إلى القرينة في

دلالته على ما هو معناه؛ فقد عرفت أن منشأ هذا الظن عدم تحصيل معنى المشترك الدائر بين الوضعين". وفيما ذكره نظر؛ لأنا لا نسلم أن معناه الحقيقي ذلك. وما الدليل على أنه عند الإطلاق يدل عليه؟ ثم قوله: "إذا قيل: القرء بمعنى الطهر أو: لا بمعنى الحيض، فهو دال بنفسه على الطهر بالتعيين" سهو ظاهر؛ فإن القرينة كما تكون معنوية، تكون لفظية، وكل من قوله: "بمعنى الطهر" وقوله: "لا بمعنى الحيض" قرينة1. إنكار الوضع: وقيل: دلالة اللفظ على معناه لذاته2، وهو ظاهر الفساد؛ لاقتضائه أن يمنع نقله إلى المجاز وجعله علما ووضعه للمضادين؛ كالجون للأسود والأبيض؛ فإن ما بالذات لا يزول بالغير، ولاختلاف اللغات باختلاف الأمم. وتأوله السكاكي -رحمة الله3- على أنه تنبيه على ما عليه أئمة علمي الاشتقاق والتصريف؛ من أن للحروف في أنفسها خواص بها تختلف؛ كالجهر، والهمس، والشدة، والرخاوة، والتوسط بينها، وغير ذلك، مستدعية أن العالم بها إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما؛ قضاء لحق الحكمة4 كـ "الفَصْم" "بالفاء" الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير أن يبين5، والقَصْم "بالقاف" الذي هو حرف شديد لكسر الشيء حتى يبين، وأن للتركيبات6 كالفَعَلان والفَعَلى بالتحريك كالنزوان والحيدى وفعُل مثل شرف وغير ذلك، خواص أيضا7، فيلزم فيها ما يلزم في الحروف، وفي ذلك نوع تأثير لأنفس الكلم في اختصاصها بالمعاني.

تعريف المجاز وأقسامه: والمجاز مفرد ومركب

تعريف المجاز وأقسامه: والمجاز مفرد ومركب أما المفرد فهو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له، في اصطلاح به التخاطب، على وجه يصح مع قرينة عدم إرادته. فقولنا: "المستعملة" احتراز عما لم يستعمل؛ لأن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمى مجازا كما لا تسمى حقيقة، وقولنا: "في اصطلاح به التخاطب" ليدخل فيه نحو لفظ الصلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا؛ فإنه -وإن كان مستعملا فيما وضع له في الجملة1- فليس بمستعمل فيما وضع له في الاصطلاح الذي به وقع التخاطب. وقولنا: "على وجه يصح" احتراز عن الغلط كما سبق2.

وقولنا: "مع قرينة عدم إرادته" احتراز عن الكناية؛ كما تقدم1. "أنواع الحقيقة": والحقيقة: لغوية، وشرعية، وعرفية، خاصة أو عامة؛ لأن واضعها إن كان واضع اللغة فلغوية، وإن كان الشارع فشرعية، وإلا فعرفية، والعرفية إن تعين صاحبها نسبت إليه؛ كقولنا: كلامية ونحوية، وإلا بقيت مطلقة. مثال اللغوية لفظ "أسد" إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في السبع المخصوص. ومثال الشرعية لفظ "صلاة" إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في العبادة المخصوصة، ومثال العرفية الخاصة لفظ "فِعْل" إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الكلمة المخصوصة، ومثال العرفية العامة لفظ "دابة" إذا استعمله المخاطب بالعرف العام في ذي الأربع2. "أنواع المجاز": وكذلك المجاز المفرد لغوي، وشرعي، وعرفي؛ مثال اللغوي لفظ "أسد" إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في الرجل الشجاع، ومثال الشرعي لفظ "صلاة" إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء، ومثال العرف الخاص لفظ "فعل" إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحدث، ومثال العرفي العام لفظ "دابة" إذا استعمله المخاطب بالعرف العام في الشاة3. اشتقاق الحقيقة والمجاز: والحقيقة: إما فعيل بمعنى مفعول من قوله: "حققت الشيء أحقه": إذا أثبته، أو

فعيل بمعنى فاعل من قولك: "حق الشيء يحق إذا ثبت" أي: المثبتة أو الثابتة في موضعها الأصلي. فأما التاء فقال صاحب المفتاح1: "هي عندي للتأنيث في الوجهين، لتقدير لفظ "الحقيقة" قبل التسمية صفة مؤنث غير مجراة على الموصوف وهو الكلمة"2. وفيه نظر3. وقيل: هي لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة؛ كما قيل في أكيلة ونطيحة: إن التاء فيهما لنقلهما من الوصفية إلى الاسمية4؛ فلذلك لا يوصف بهما؛ فلا يقال: شاة أكيلة أو نطيحة. والمجاز: قيل: "مفعل" من "جاز المكان يجوزه" إذا تعداه؛ أي: تعدت موضعها الأصلي5. وفيه نظر6. والظاهر أنه من قولهم: "جعلت كذا مجازا إلى حاجتي" أي: طريقا له7، على أن معنى جاز المكان: سلكه، على ما فسره الجوهري وغيره؛ فإن المجاز طريق إلى تصور معناه، واعتبار التناسب في التسمية يغاير اعتبار المعنى في الوصف8؛ كتسمية إنسان له حمرة بأحمر، ووصفه بأحمر؛ فإن الأول لترجيح الاسم على غيره حال وضعه له، والثاني لصحة إطلاقه؛ فلا يصح نقض الأول بوجود المعنى في غير المسمى كما يلهج به بعض الضعفاء.

تقسيم المجاز المفرد إلى مرسل واستعارة

تقسيم المجاز المفرد إلى مرسل واستعارة: والمجاز ضربان: مرسل، واستعارة؛ لأن العلاقة المصححة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة، وإلا فهو مرسل، وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به في المشبه1، فيسمى المشبه به مستعارا منه، والمشبه مستعارا له، واللفظ مستعارا2، وعلى الأول لا يشتق منه؛ لكونه اسما للفظ لا للحدث3. المجاز المرسل وعلاقاته: علاقة السببية والمجاورة: الضرب الأول: المرسل، وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه4؛ كاليد إذا استعملت في النعمة؛ لأن من شأنها أن تصدر عن

الجارحة، ومنها تصل إلى المقصود بها1. ويشترط أن يكون في الكلام إشارة إلى المولي لها2؛ فلا يقال: "اتسعت اليد في البلد"، أو"اقتنيت يدا" كما يقال: "اتسعت النعمة في البلد"، أو "اقتنيت نعمة"، وإنما يقال: "جلت يده عندي، وكثرت أياديه لدي" ونحو ذلك. ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل: "إن له عليها إصبعا"3. أرادوا أن يقولوا: "له عليها أثر حذق" فدلوا عليه بإصبع؛ لأنه ما من حذق في عمل يد إلا وهو مستفاد

من حسن تصريف الأصابع، واللطف في رفعها ووضعها، كما في الخط والنقش. وعلى ذلك قيل في تفسير قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1 أي: نجعلها كخف البعير، فلا يتمكن من الأعمال اللطيفة، فأرادوا بالإصبع الأثر الحسن، حيث يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة لا مطلقا، حتى يقال2: "رأيت أصابع الدار، وله إصبع حسنة، وإصبع قبيحة" على معنى: له أثر حسن، وأثر قبيح, ونحو ذلك. وينظر إلى هذا قولهم: "ضربته سوطا"؛ لأنهم عبروا عن الضربة الواقعة بالسوط باسم السوط، فجعلوا أثر السوط سوطا. وتفسيرهم له بقولهم: "المعنى ضربته ضربة بالسوط" بيان لما كان الكلام عليه في أصله. ونظير قولنا: "له علي يد" قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه: "أسرعكن لحوقا -ويروى لحاقا- بي أطولكن يدا"، وقوله: "أطولكن" نظير ترشيح الاستعارة، ولا بأس أن يسمى ترشيح المجاز، والمعنى3: بسط اليد بالعطاء، وقيل: قوله: "أطولكن" من الطَّوْل بمعنى الفضل؛ يقال: "لفلان على فلان طَوْل" أي: فضل؛ فاليد على هذين الوجهين4 بمعنى النعمة، ويحتمل أن يريد: أطولكن يدا بالعطاء؛ أي: أمدكن، فحذف قوله: "بالعطاء" للعلم به5. وكاليد أيضا إذا استعملت في القدرة؛ لأن أكثر ما يظهر سلطانها في اليد، وبها يكون البطش، والضرب، والقطع، والأخذ، والدفع، والوضع، والرفع، وغير ذلك من الأفعال التي تنبئ عن وجود القدرة ومكانها. وأما اليد في قول النبي صلى الله عليه وسلم:

"المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم" فهو استعارة1، والمعنى أن مَثَلَهم مع كثرتهم في وجوب الاتفاق مثل اليد الواحدة، فكما لا يتصور أن يخذل بعض أجزاء اليد بعضا، وأن تختلف بها الجهة في التصرف، كذلك سبيل المؤمنين في تعاضدهم على المشركين؛ لأن كلمة التوحيد جامعة لهم. وكالرواية للمَزادة مع كونها للبعير الحامل لها؛ لحمله إياها2، وكالخفض في البعير، مع كونه لمتاع البيت لحمله إياه. وكالسماء في الغيث، كقوله: "أصابتنا السماء" لكونه من جهة المظلة. وكالإكاف في قول الشاعر: يأكلن كل ليلة إكافا3 ... أي: علفا بثمن الإكاف4.

علاقة الجزئية

علاقة الجزئية: وهذا الضرب من المجاز يقع على وجوه كثيرة غير ما ذكرناه1: منها تسمية الشيء باسم جزئه2؛ كالعين في الرَّبيئة3 لكون الجارحة المخصوصة هي المقصود في كون الرجل ربيئة؛ إذ ما عداها لا يُغني شيئا مع فقدها, فصارت كأنها الشخص كله4. وعليه قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} 5 أي: صل، ونحوه: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} 6 أي: لا تصل، وقول النبي عليه السلام: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا, غُفر له ما تقدم من ذنبه" أي: من صلى7. علاقة الكلية: ومنها عكس ذلك8 نحو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} 9 أي: أناملهم، وعليه قولهم: "قطعتُ السارق" وإنما قُطعت يده10.

علاقة السببية أيضا

علاقة السببية أيضا: ومنها تسمية المسبب باسم السبب؛ كقولهم: "رعينا الغيث" أي: النبات الذي سببه الغيث، وعليه قوله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 1 سمي جزاء الاعتداء اعتداء؛ لأنه مسبب عن الاعتداء، وقوله تعالى: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 2 تجوز بالبلاء عن العرفان؛ لأنه مسبب عنه، كأنه قيل: ونعرف أخباركم، وعليه قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا3 الجهل الأول: حقيقة، والثاني: مجاز، عبر به عن مكافأة الجهل4. وكذا قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 5 تجوز بلفظ السيئة6 عن الاقتصاص؛ لأنه مسبب عنها. وقيل: إن عبر بها عما ساء أي: أحزن لم يكن مجازا؛ لأن الاقتصاص محزن في الحقيقة كالجناية. وكذا قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} 7 تجوز بلفظ المكر عن عقوبته لأنه سببها. قيل: ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة؛ لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم، وهذا محقق من الله تعالى باستدراجه إياهم بنعمه مع ما أعد لهم من نقمه.

علاقة المسببية

علاقة المسببية: ومنها تسمية السبب باسم المسبب؛ كقولهم: "أمطرت السماء نباتا"، وعليه قولهم: "كما تدين تدان" أي: كما تفعل تجازى1، وكذا لفظ "الأسنمة" في قوله يصف غيثا: أقبل في المستنّ من ريابه ... أسنمة الآبال في سحابه2 وكذا تفسير إنزال أزواج الأنعام في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} 3 بإنزال الماء على وجه4؛ لأنها لا تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء؛ وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها، ويؤيده ما ورد أن كل ما في الأرض من السماء يُنزله الله تعالى إلى الصخرة ثم يقسمه. قيل: وهذا5 معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} 6. وقيل: معناه: وقضى لكم؛ لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كُتب في اللوح كل كائن يكون. وقيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها، وكذا قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} 7.

أي: مطرا هو سبب الرزق، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} 1، وقولهم: "فلان أكل الدم" أي: الدية التي هي مسببة عن الدم2، قال: أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر3 وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 4 أي: أردت القراءة بقرينة الفاء5 مع استفاضة السنة بتقديم الاستعاذة، وقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} 6 أي: أراد؛ بقرينة {فَقَالَ رَبِّ} ، وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} 7 أي: أردنا إهلاكها؛ بقرينة {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} . وكذلك قوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} 8؛ بقرينة {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} ، وفيه دلالة واضحة على الوعيد بالإهلاك؛ إذ لا يقع الإنكار9 في {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} في المحز إلا بتقدير: "ونحن على أن نهلكهم"10.

علاقة اعتبار ما كان

علاقة اعتبار ما كان: ومنها تسمية الشيء باسم ما كان عليه1؛ كقوله عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} 2 أي: الذين كانوا يتامى؛ إذ لا يتم بعد البلوغ، وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} 3 سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام. علاقة اعتبار ما يكون: ومنها تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه4 كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} 5. علاقة المحلية: ومنها تسمية الحال باسم محله7 كقوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} 7 أي: أهل ناديه.

علاقة الحالية

علاقة الحالية: ومنها عكس ذلك1 نحو: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} 2 أي: في الجنة. علاقة الآلية: ومنها تسمية الشيء باسم آلته3 كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 4 أي: بلغة قومه، وقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} 5 أي: ذكرا جميلا وثناء حسنا. وكذا غير ذلك مما بين معنى اللفظ وما هو موضوع له تعلق سوى التشبيه6. قال صاحب المفتاح7: "وللتعلق بين الصارف عن فعل الشيء والداعي إلى تركه8 يحتمل عندي أن يكون المراد بـ "منعك" في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ

إِذْ أَمَرْتُكَ} 1؛ دعاك، و"لا" غير صلة قرينة المجاز2. وكذا {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَّا تَتَّبِعَنِ} 3. وقال الراغب رحمه الله: "قال بعض المفسرين: إن معنى {مَا مَنَعَكَ} ما حماك وجعلك في منعة مني في ترك السجود؛ أي: في معاقبة تركه. وقد استبعد ذلك بعضهم بأن قال: لو كان كذا لم يكن يجيب بأن يقول: "أنا خير منه" فإن ذلك ليس بجواب السؤال على ذلك الوجه، وإنما هو جواب من قيل له: ما منعك أن تسجد؟ ويمكن أن يقال في جواب ذلك: إن إبليس لما كان أُلزم ما لم يجد سبيلا إلى الجواب عنه -إذ لم يكن له من كالئ يحرسه ويحميه- عدل عما كان جوابا، كما يفعل المأخوذ بكظمه في المناظرة". انتهى كلامه4. المجاز المرسل الخالي عن الفائدة والمفيد: وقسم الشيخ صاحب المفتاح5 المجاز المرسل إلى خالٍ عن الفائدة، ومفيد, وجعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في أعم مما هو موضوع له؛ كالمرسن في قول العجا وفاحما ومرسنا مسرجا6

فإنه مستعمل في الأنف لا بقيد كونه المِرْسون1 مع كونه موضوعا له بهذا القيد لا مطلقا، وكالمشفر2 في نحو قولنا: "فلان غليظ المشافر" إذا قامت قرينة على أن المراد هو الشفة لا غير، وقال: سمي هذا الضرب غير مفيد لقيامه مقام أحد المترادفين من نحو: "ليث وأسد، وحبس ومنع" عند المصير إلى المراد منه3. وأراد بالمفيد ما عدا الخالي عن الفائدة والاستعارة كما مر. والشيخ عبد القاهر -رحمه الله4- جعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في شيء بقيد، مع كونه موضوعا لذلك الشيء بقيد آخر من غير قصد التشبيه، ومثّله ببعض ما مثّله الشيخ صاحب المفتاح ونحوه؛ مصرحا بأن الشفة والأنف موضوعان للعضوين المخصوصين من الإنسان5 فإن قصد التشبيه صار اللفظ استعارة6؛ كقولهم في مواضع الذم: "غليظ المشفر"، فإنه بمنزلة أن يقال: "كأن شفته في الغِلَظ مشفر البعير". وعليه قول الفرزدق: فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي ... ولكن زنجي غليظ المشافر7

أي: ولكنك زنجي كأنه جمل لا يهتدي لشرفي. وكذا قول الحطيئة يخاطب الزبرقان: قروا جارك العَيْمان لما جفوته ... وقلص عن برد الشراب مشافره1 فإنه وإن عنى نفسه بالجار، جاز أن يقصد إلى وصف نفسه بنوع من سوء الحال؛ ليزيد في التهكم بالزبرقان، ويؤكد ما قصده من رميه بإضاعة الضيف وإسلامه للضر والبؤس. وكذا قول الآخر: سأمنعها أو سوف أجعل أمرها ... إلى ملك أظلافه لم تشقَّق2

الاستعارة

الاستعارة: الاستعارة التصريحية: الضرب الثاني من المجاز الاستعارة، وهي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له1. وقد تقيد بالتحقيقية2؛ لتحقق معناها3 حسا أو عقلا؛ أي: التي تتناول أمرا معلوما يمكن أن ينص عليه ويشار إليه إشارة حسية أو عقلية، فيقال: إن اللفظ نقل من مسماه الأصلي، فجعل اسما له على سبيل الإعارة للمبالغة في التشبيه. أما الحسي: فكقولك: "رأيت أسدا"، وأنت تريد رجلا شجاعا، وعليه قول زهير: لدى أسد شاكي السلاح مقذف4

أي: لدى رجل شجاع. ومن لطيف هذا الضرب ما يقع التشبيه فيه في الحركات، كقول أبي دلامة يصف بغلته: أرى الشهباء تعجن إذ غدونا ... برجليها وتخبز باليدين1 شبه حركة رجليها حيث لم تثبتا على موضع تعتمد بهما عليه وهَوَتا ذاهبتين نحو يديها بحركة يدي العاجن, فإنهما لا تثبتان في موضع، بل تزلّان إلى قدام لرخاوة العجين، وشبه حركة يديها بحركة يد الخابز؛ فإنه يثني يده نحو بطنه، ويحدث فيها ضربا من التقويس، كما تجد في يد الدابة إذا اضطربت في سيرها ولم تقو على ضبط يدها وأن ترمي بها إلى قدام، وأن تشد اعتمادها حتى تثبت في الموضع الذي تقع عليه، فلا تزلّ عنه ولا تنثني. وأما العقلي: فكقولك: "أبديت نورا" وأنت تريد: حجة؛ فإن الحجة مما يدرك بالعقل من غير وساطة حس؛ إذ المفهوم من الألفاظ هو الذي ينور القلب ويكشف عن الحق لا الألفاظ أنفسها، وعليه قوله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2 أي: الدين الحق، وأما قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} 3. فعلى ظاهر قول الشيخ جار الله العلامة4 استعارة عقلية؛ لأنه قال: شبه باللباس -لاشتماله على اللابس- ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وعلى ظاهر قول الشيخ صاحب المفتاح: حسية؛ لأنه جعل اللباس استعارة لما يلبسه الإنسان عند جوعه وخوفه من امتقاع اللون ورثاثة الهيئة5. فالاستعارة ما تضمن تشبيه معناه بما وضع له6، والمراد بمعناه ما عُني به؛ أي: ما استعمل فيه7؛ فلم يتناول ما استعمل فيما وضع له، وإن تضمن التشبيه به؛ نحو: "زيد أسد، ورأيته أسدا"، ونحو: "رأيت به أسدا"8 لاستحالة تشبيه الشيء بنفسه9. على أن المراد بقولنا: "ما تضمن" مجاز تضمن؛ بقرينة تقسيم المجاز إلى الاستعارة وغيرها، والمجاز لا يكون مستعملا فيما وضع له.

الفرق بين الاستعارة والتشبيه المؤكد

الفرق بين الاستعارة والتشبيه المؤكد: وههنا شيء لا بد من التنبيه عليه، وهو أنه إذا أجري في الكلام لفظ دلت القرينة1 على تشبيه شيء بمعناه، فيكون ذلك على وجهين: أحدهما: ألا يكون المشبه مذكورا ولا مقدرا؛ كقولك: "رنت لنا ظبية"، وأنت تريد امرأة، و"لقيت أسدا"، وأنت تريد رجلا شجاعا. ولا خلاف أن هذا ليس بتشبيه وأن الاسم فيه استعارة.

والثاني: أن يكون المشبه مذكورا أو مقدرا1؛ فاسم المشبه به إن كان خبرا، أو في حكم الخبر -كخبر "كان وإن"، والمفعول الثاني لباب "علمت" والحال- فالأصح أنه يسمى تشبيها، وأن الاسم فيه لا يسمى استعارة؛ لأن الاسم إذا وقع هذه المواقع فالكلام موضوع لإثبات معناه لما يعتمد عليه، أو نفيه عنه؛ فإذا قلت: "زيد أسد"، فقد وضعت كلامك في الظاهر لإثبات معنى الأسد لزيد، وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة، كان لإثبات شبه من الأسد له، فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه، فيكون خليقا بأن يسمى تشبيها؛ إذ كان إنما جاء ليفيده، بخلاف الحالة الأولى؛ فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه للشيء، كما إذا قلت: "جاءني أسد، ورأيت أسدا"، فإن الكلام في ذلك موضوع لإثبات المجيء واقعا من الأسد، والرؤية واقعة منك عليه، لا لإثبات معنى الأسد لشيء؛ فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه، وصار قصد التشبيه مكنونا في الضمير, لا يعلم إلا بعد الرجوع إلى شيء من النظر. ووجه آخر في كون التشبيه مكنونا في الضمير؛ وهو أنه إذا لم يكن المشبه مذكورا جاز أن يتوهم السامع في ظاهر الحال أن المراد باسم المشبه به ما هو موضوع له، فلا يعلم قصد التشبيه فيه إلا بعد شيء من التأمل، بخلاف الحالة الثانية، فإنه يمتنع ذلك فيه مع كون المشبه مذكورا أو مقدرا. ومن الناس2 من ذهب إلى أن الاسم في الحالة الثانية استعارة؛ لإجرائه على المشبه مع حذف كلمة التشبيه3، وهذا الخلاف لفظي راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة والتشبيه في الاصطلاح4، وما اخترناه هو الأقرب لما أوضحناه من

المناسبة، وهو اختيار المحققين؛ كالقاضي أبي الحسن الجرجاني، والشيخ عبد القاهر، والشيخ جار الله العلامة، والشيخ صاحب المفتاح1 رحمهم الله؛ غير أن الشيخ عبد القاهر قال بعد تقرير ما ذكرناه2: فإن أبيتَ إلا أن تُطلق اسم الاستعارة على هذا القسم، فإن حسن دخول أدوات التشبيه لا يحسن إطلاقه؛ وذلك كأن يكون اسم المشبه به معرفة؛ كقولك: "زيد الأسد، وهو شمس النهار"، فإنه يحسن أن يقال: "زيد كالأسد، وخِلْتُه شمس النهار". وإن حسن دخول بعضها دون بعض، هان الخطب في إطلاقه؛ وذلك كأن يكون نكرة غير موصوفة؛ كقولك: "زيد أسد"؛ فإنه لا يحسن أن يقال: "زيد كأسد"3، ويحسن أن يقال: "كأن زيدا أسد، ووجدته أسدا"4. وإن لم يحسن دخول شيء منها إلا بتغيير لصورة الكلام كان إطلاقه أقرب؛ لغموض تقدير أداة التشبيه فيه؛ وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به؛ كقولك: "فلان بدر يسكن الأرض، وهو شمس لا تغيب"؛ وكقوله: شمس تألق، والفراق غروبها ... عنا، وبدر والصدود كسوفه5

فإنه لا يحسن دخول الكاف ونحوه في شيء من هذه الأمثلة ونحوها إلا بتغيير صورته1؛ كقولك: "هو كالبدر إلا أنه يسكن الأرض، وكالشمس إلا أنه لا يغيب، وكالشمس المتألقة إلا أن الفراق غروبها، وكالبدر إلا أن الصدود كسوفه". وقد يكون في الصفات والصلات التي تجيء في هذا النحو ما يحيل تقدير أداة التشبيه فيه؛ فيقرب إطلاقه أكثر، وذلك مثل قول أبي الطيب: أسد دم الأسد الهزبر خضابه ... موت فريص الموت منه يرعد2 فإنه لا سبيل إلى أن يقال: "المعنى: هو كالأسد وكالموت"؛ لما في ذلك من التناقض؛ لأن تشبيهه بجنس السبع المعروف دليل أنه دونه أو مثله، وجعل دم الهزبر -الذي هو أقوى الجنس- خضاب يده دليل أنه فوقه، وكذلك لا يصح أن يشبهه بالموت المعروف ثم يجعل الموت يخاف منه3. وكذا قول البحتري: وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رجلي منه أسود مظلم4

إن رُجع فيه إلى التشبيه الساذج -حتى يكون المعنى: هو كالبدر- لزم أن يكون قد جعل البدر المعروف موصوفا بما ليس فيه1؛ فظهر أنه إنما أراد أن يُثبت من الممدوح بدرا له هذه الصفة العجيبة التي لم تعرف للبدر، فهو مبني على تخيل أنه زاد في جنس البدر واحدا له تلك الصفة؛ فالكلام موضوع لا لإثبات الشبه بينهما ولكن لإثبات تلك الصفة؛ فهو كقولك: "زيد رجل كيت كيت", لم تقصد إثبات كونه رجلا, لكن إثبات كونه متصفا بما ذكرت. فإذا لم يكن اسم المشبه به في البيت مجتلبا لإثبات الشبه، تبين أنه خارج عن الأصل الذي تقدم2 من كون الاسم مجتلبا لإثبات الشبه؛ فالكلام فيه مبني على أن كون الممدوح بدرا أمر قد استقر وثبت، وإنما العمل في إثبات الصفة الغريبة3. وكما يمتنع دخول الكاف في هذا ونحوه4، يمتنع دخول "كأن" ونحوه "تحسب" لاقتضائهما5 أن يكون الخبر والمفعول الثاني أمرا ثابتا في الجملة6، إلا أن كونه متعلقا بالاسم والمفعول الأول مشكوك فيه؛ كقولنا: "كأن زيدا منطلق"، أو خلاف الظاهر؛ كقولنا: "كأن زيدا أسد"7، والنكرة فيما نحن فيه غير

ثابتة1؛ فدخول "كأن" و"تحسب" عليها كالقياس على المجهول. وأيضا هذا الجنس إذا فليت عن سره، وجدت محصوله أنك تدعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختص بصفة عجيبة لم يتوهم جوازها على ذلك الجنس2، فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى3. التجريد ليس استعارة ولا تشبيها: وإن لم يكن اسم المشبه به خبرا للمشبه، ولا في حكم الخبر4؛ كقولهم: "رأيت بفلان أسدا، ولقيني منه أسد" سمي تجريدا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى5 ولم يسم استعارة؛ لأنه إنما يتصور الحكم على الاسم بالاستعارة إذا جرى بوجه على ما يدعى أنه مستعار له؛ إما باستعماله فيه، أو بإثبات معناه له6، والاسم في مثل هذا غير جارٍ على المشبه بوجه.

ولأنه يجيء على هذه الطريقة1 ما لا يتصور فيه التشبيه، فيظن أنه استعارة2؛ كقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} 3؛ إذ ليس المعنى على تشبيه جهنم بدار الخلد؛ إذ هي نفسها دار الخلد4، وكقول الشاعر: يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسا بكف من بخلا5 فإنه لا يتصور فيه التشبيه، وإنما المعنى أنه ليس ببخيل. ولا يسمى6 تشبيها أيضا؛ لأن اسم المشبه به لم يُجتلَب فيه لإثبات التشبيه كما سبق، وعده الشيخ صاحب المفتاح تشبيها7، والخلاف أيضا لفظي8.

الاستعارة مجاز لغوي لا عقلي

الاستعارة مجاز لغوي لا عقلي: والدليل على أن الاستعارة مجاز لغوي كونها موضوعة للمشبه به, لا للمشبه ولا لأمر أعم منها؛ كالأسد فإنه موضوع للسبع المخصوص لا للرجل الشجاع ولا للشجاع مطلقا؛ لأنه لو كان موضوعا لأحدهما لكان استعماله في الرجل الشجاع من جهة التحقيق لا من جهة التشبيه، وأيضا لو كان موضوعا للشجاعة مطلقا لكان وصفا لا اسم جنس. وقيل: الاستعارة مجاز عقلي؛ بمعنى أن التصرف فيها أمر عقلي لا لغوي1؛ لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به؛ لأن نقل الاسم وحده لو كان استعارة لكانت الأعلام المنقولة كـ "يزيد ويشكر" استعارة، ولما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة؛ لأنه لا بلاغة في إطلاق الاسم المجرد عاريا عن معناه، ولما صح أن يقال لمن قال: "رأيت أسدا" يعني زيدا: إنه جعله أسدا، كما لا يقال لمن سمى ولده أسدا: إنه جعله أسدا؛ لأن "جعل" إذا تعدى إلى مفعولين كان بمعنى "صير" فأفاد إثبات صفة للشيء، فلا تقول: "جعلته أميرا" إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة، وعليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} 2 المعنى: أنهم أثبتوا صفة الأنوثة، واعتقدوا وجودها فيهم، وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم للملائكة إطلاق اسم الإناث عليهم، لا أنهم أطلقوه من غير اعتقاد ثبوت معناه لهم؛ بدليل قوله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} . وإذا كان نقل الاسم تبعا لنقل المعنى؛ كان الاسم مستعملا فيما وضع له؛ ولهذا صح التعجب في قول ابن العميد: قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز علي من نفسي قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس3 والنهي عنه في قول الآخر: لا تعجبوا من بِلَى غلالته ... قد زر أزراره على القمر4 وقوله: ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحيانا فيُبليها فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل وقت طالع فيها5 والجواب عنه أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به لا يُخرِج اللفظ عن كونه مستعملا في غير ما وضع له. وأما التعجب والنهي عنه -فيما ذكر- فلبناء الاستعارة على تناسي التشبيه؛ قضاء لحق المبالغة.

التوفيق بين الادعاء في الاستعارة والقرينة المانعة

التوفيق بين الادعاء في الاستعارة والقرينة المانعة: فإن قيل: إصرار المتكلم على ادعاء الأسدية للرجل، ينافي نصبه قرينة مانعة من أن يراد به السبع المخصوص؟ قلنا: لا منافاة. ووجه التوفيق هو ما ذكره السكاكي1 وهو أن تبني دعوى الأسدية للرجل على ادعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان بطريق التأويل متعارف؛ وهو الذي له غاية الجرأة ونهاية قوة البطش مع الصورة المخصوصة2، وغير متعارف؛ وهو الذي له تلك الجرأة وتلك القوة لا مع

تلك الصورة بل مع صورة أخرى1 على نحو ما ارتكب المتنبي هذا الادعاء في عد نفسه وجماعته من جنس الجن، وعد جماله من جنس الطير، حين قال: نحن قوم مِلْجن في زي ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال2 مستشهدا لدعواه هاتيك3 بالمخيلات العرفية. وأن تخصص4 القرينة بنفيها المتعارف الذي يسبق إلى الفهم5؛ ليتعين الآخر6. ومن البناء على هذا التنويع7 قوله: تحية بينهم ضرب وجيع8 وقولهم: "عتابك السيف"، وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 9ومنه قوله: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس10

الفرق بين الاستعارة والكذب

الفرق بين الاستعارة والكذب: وإذ قد عرفت معنى الاستعارة وأنها مجاز لغوي؛ فاعلم أن الاستعارة تفارق الكذب من وجهين: بناء الدعوى فيها على التأويل1، ونصب القرينة على أن المراد بها خلاف ظاهرها؛ فإن الكاذب يتبرأ من التأويل، ولا ينصب دليلا على خلاف زعمه. الاستعارة لا تدخل في الأعلام: وأنها لا تدخل في الأعلام2؛ لما سبق من أنها تعتمد إدخال المشبه في جنس المشبه به، والعلمية تنافي الجنسية، وأيضا لأن العَلَم لا يدل إلا على تعين شيء من غير إشعار بأنه إنسان أو فرس أو غيرهما؛ فلا اشتراك بين معناه وغيره، إلا في مجرد التعين ونحوه من العوارض العامة التي لا يكفي شيء منها جامعا في الاستعارة، اللهم إلا إذا تضمن نوع وصفية لسبب خارج؛ كتضمن اسم حاتم "الجواد"، ومادر "البخيل"، وما جرى مجراهما3.

قرينة الاستعارة

قرينة الاستعارة: وقرينة الاستعارة إما معنى واحد؛ كقولك: "رأيت أسدا يرمي"، أو أكثر1؛ كقول بعض العرب: فإن تعافوا العدل والإيمانا ... فإن في أيماننا نيرانا2 أي: سيوفا تلمع كأنها شعل نيران، كما قال الآخر: ناهضتهم والبارقات كأنها ... شعل على أيديهم تتلهب3 فقوله: "تعافوا" باعتبار كل واحد من تعلقه بالعدل وتعلقه بالإيمان قرينة لذلك4؛ لدلالته على أن جوابه أنهم يحاربون ويُقسَرون على الطاعة بالسيف، أو معانٍ مربوط بعضها ببعض5، كما في قول البحتري: وصاعقة من نصله تنكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب6 عنى بـ "خمس سحائب": أنامل الممدوح؛ فذكر أن هناك صاعقة، ثم قال: "من نصله" فبين أنها من نصل سيفه، ثم قال: "على أرؤس الأقران" ثم قال: "خمس"، فذكر عدد أصابع اليد؛ فبان من مجموع ذلك غرضه7.

تقسيمات الاستعارة

تقسيمات الاستعارة: ثم الاستعارة تنقسم باعتبار الطرفين، وباعتبار الجامع، وباعتبار الثلاثة، وباعتبار اللفظ، وباعتبار أمر خارج عن ذلك كله. أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين: أما باعتبار الطرفين فهي قسمان؛ لأن اجتماعهما في شيء إما ممكن، أو ممتنع، واسم الأولى: وفاقية، والثانية: عنادية. الوفاقية: أما الوفاقية فكقوله تعالى: {فَأَحْيَيْنَاهُ} 1 في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} فإن المراد بـ "أحييناه" هديناه؛ أي: أَوَمَن كان ضالا فهديناه. والهداية والحياة لا شك

في جواز اجتماعهما في شيء1. العنادية: وأما العنادية: فمنها ما كان وضع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة وإن كانت موجودة؛ لخلوها مما هو ثمرتها والمقصود منها، وما إذا خلت منه لم تستحق الشرف؛ كاستعارة اسم المعدوم للموجود، إذا لم تحصل منه فائدة من الفوائد المطلوبة من مثله, فيكون مشاركا للمعدوم في ذلك2، أو اسم الموجود للمعدوم إذا كانت الآثار المطلوبة من مثله موجودة حال عدمه، فيكون مشاركا للموجود في ذلك, أو اسم الميت للحي الجاهل؛ لأنه عدم فائدة الحياة والمقصود بها؛ أعني العلم, فيكون مشاركا للميت في ذلك؛ ولذلك جُعل النوم موتا؛ لأن النائم لا يشعر بما بحضرته، كما لا يشعر الميت، أو للحي العاجز؛ لأن العجز كالجهل يحط من قدر الحي3. ثم الضدان إن كانا قابلين للشدة والضعف كان استعارة اسم الأشد للأضعف أولى4، وكل من كان أقل علما وأضعف قوة كان أولى بأن يستعار له اسم الميت،

ولما كان الإدراك أقدم من العقل في كونه خاصة للحيوان؛ كان الأقل علما أولى باسم الميت أو الجماد من الأقل قوة. وكذا في جانب الأشد؛ فكل من كان أكثر علما كان أولى بأن يقال له: إنه حي، وكذا من كان أشرف علما, وعليه قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} 1 فإن العلم بوحدة الله تعالى وما أنزله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- أشرف العلوم. العنادية التهكمية والتمليحية: ومنها ما استعمل في ضد معناه أو نقيضه؛ بتنزيل التضاد أو التناقض2 منزلة التناسب، بواسطة تهكم أو تمليح3 على ما سبق في التشبيه؛ كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4. ويُخَص هذا النوع باسم "التهكمية" أو "التمليحية"5.

أقسام الاستعارة باعتبار الجامع

أقسام الاستعارة باعتبار الجامع: وأما باعتبار الجامع فهي قسمان: أحدهما ما يكون الجامع فيه داخلا في مفهوم الطرفين1. كاستعارة الطيران للعدو؛ كما في قول امرأة من بني الحارث ترثي قتيلا: لو يشا طار به ذو ميعة ... لاحق الآطال نهد ذو خصل2 وكما جاء في الخبر: "كلما سمع هيعة طار إليها" 3 فإن الطيران والعدو يشتركان في أمر داخل في مفهومهما؛ وهو قطع المسافة بسرعة4، ولكن الطيران أسرع من العدو. ونحوهما قول بعض العرب: فطرت بمُنْصُلي في يَعْمَلات ... دوامي الأيد يخبطن السريحا5 يقول: إنه قام بسيفه مسرعا إلى نوق فعقرهن، ودميت أيديهن، فخبطن السيور المشدودة على أرجلهن. وكاستعارة الفيض لانبساط الفجر في قوله: كالفجر فاض على نجوم الغيهب6

فإن الفيض موضوع لحركة الماء على وجه مخصوص؛ وذلك أن يفارق مكانه دفعة، فينبسط، وللفجر انبساط شبيه بذلك. وكاستعارة التقطيع لتفريق الجماعة وإبعاد بعضهم عن بعض في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} 1، فإن القطع موضوع لإزالة الاتصال بين الأجسام التي بعضها ملتزق ببعض؛ فالجامع بينهما إزالة الاجتماع التي هي داخلة في مفهومهما، وهي في القطع أشد. وكاستعارة الخياطة لسرد الدرع في قول القطامي: لم تلق قوما هم شر لإخوتهم ... منا عشية يجري بالدم الوادي نقريهم لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زرّاد2 فإن الخياطة تضم خرق القميص، والسرد يضم حلق الدرع؛ فالجامع بينهما الضم الذي هو داخل في مفهومهما، وهو في الأول أشد. وكاستعارة النثر لإسقاط المنهزمين وتفريقهم في قول أبي الطيب: نثرته فوق الأحيدب نثرة ... كما نُثرت فوق العروس الدراهم3 لأن النثر أن تجمع أشياء في كف أو وعاء، ثم يقع فعل تتفرق معه دفعة من غير ترتيب ونظام، وقد استعاره لما يتضمن التفرق على الوجه المخصوص، وهو ما اتفق من تساقط المنهزمين في الحرب دفعة من غير ترتيب ونظام، ونسبه إلى الممدوح؛ لأنه سببه4.

ما يخرج جامعها عن مفهوم الطرفين

ما يخرج جامعها عن مفهوم الطرفين: والثاني ما يكون الجامع فيه غير داخل في مفهوم الطرفين؛ كقولك: "رأيت شمسا"، وتريد إنسانا يتهلل وجهه؛ فالجامع بينهما التلألؤ، وهو غير داخل في مفهومهما1. الاستعارة العامية والخاصية: وتنقسم باعتبار الجامع أيضا إلى عامية وخاصية2؛ فالعامية: المبتذَلة؛ لظهور الجامع فيها؛ كقولك: "رأيت أسدا ووردت بحرا". والخاصية: الغريبة، التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة، كما سيأتي في الاستعارات الواردة في التنزيل، وكقول طفيل الغنوي: وجعلت كُوري فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل4 وموضع اللطف والغرابة منه: أنه استعار الاقتيات لإذهاب الرحل شحم السنام؛ مع أن الشحم مما يقتات. وقول ابن المعتز:

حتى إذا ما عرف الصيد الضار ... وأذن الصبح لنا في الإبصار1 ولما كان تعذر الإبصار منعا من الليل جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا منه. وقول الآخر: بعُرْض تنوفة للريح فيه ... نسيم لا يروع في التراب2 وقوله: يناجيني الإخلاف من تحت مطله ... فتختصم الآمال واليأس في صدري3 ثم الغرابة قد تكون في الشبه نفسه4، كما في تشبيه هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج بهيئة الثوب في موقعه من ركبة المحتبي، في قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له بأنه مؤدب: وإذا احتبى قَرْبُوسه بعَنانه ... عَلَكَ الشكيم إلى انصراف الزائر5

وقد تحصل بتصرف في العامية؛ كما في قول الآخر: وسالت بأعناق المطي الأباطح1 أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة، وكانت سرعة في لين وسلاسة حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرَتْ بها. ومثلها في الحسن وعلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها, قول ابن المعتز: سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير2 أراد أنه مطاع في الحي، وأنهم يسرعون إلى نصرته، وأنه لا يدعوهم لخطب إلا أتوه وكثروا عليه وازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول تجيء من ههنا وههنا، وتنصبّ من هذا المسيل وذاك، حتى يَغَصّ بها الوادي ويطفح منها، وهذا شبه معروف ظاهر، ولكن حسن التصرف فيه أفاد اللطف والغرابة، وذلك أن أسند الفعل إلى الأباطح والشعاب3 دون المطي أو أعناقها، والأنصار أو وجوههم، حتى أفاد أنه امتلأت الأباطح من الإبل، والشعاب من الرجال على ما تقدم4 في

قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} 1، وفي كل واحد منهما شيء غير الذي في الآخر يؤكد أمر الدقة والغرابة؛ أما الذي في الأول فهو أنه أدخل الأعناق في السير؛ فإن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في أعناقها على ما مر، وأما الذي في الثاني فهو أنه قال: "عليه"؛ فعدى الفعل إلى ضمير الممدوح بـ "على"، فأكد مقصوده من كونه مطاعا في الحي. وكما في قوله: فرعاء إن نهضت لحاجتها ... عَجِلَ القضيب وأبطأ الدِّعْص2 إذ وصف القضيب بالعجلة، والدعص بالبطء3. وقد تحصل الغرابة بالجمع بين عدة استعارات لإلحاق الشكل بالشكل؛ كقول امرئ القيس: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكَلْكَل4 أراد وصف الليل بالطول، فاستعار له صلبا يتمطى به؛ إذ كان كل ذي صلب يزيد في طوله عند تمطيه شيء، وبالغ في ذلك بأن جعل له أعجازا يردف بعضها بعضا، ثم أراد أن يصفه بالثقل على قلب ساهره والضغط لمكابده؛ فاستعار له كلكلا ينوء به؛ أي: يثقل به. وقال الشيخ عبد القاهر5: "لما جعل لليل صلبا قد تمطى به، ثنّى ذلك، فجعل له أعجازا قد أردف بها الصلب، وثلَّث فجعل له كلكلا قد ناء به، فاستوفى له جملة أركان الشخص، وراعى ما يراه الناظر من سواده إذا نظر قدامه، وإذا نظر خلفه، وإذا رفع البصر ومده في عُرْض الجو"6.

أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع

أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع: وأما باعتبار الثلاثة -أعني الطرفين والجامع- فستة أقسام: استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي، أو بوجه عقلي، أو بما بعضه حسي وبعضه عقلي، واستعارة معقول لمعقول، واستعارة محسوس لمعقول، واستعارة معقول لمحسوس، كل ذلك بوجه عقلي؛ لما مر1. استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي: أما استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي؛ فكقوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} 2؛ فإن المستعار منه ولد البقرة، والمستعار له الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حُليّ القبط التي سبكتها نار السامري عند إلقائه فيها التربة التي أخذها من موطئ حيزوم فرس جبريل عليه السلام، والجامع لهما الشكل3، والجميع حسي4. وكقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} 5 فإن المستعار منه حركة الماء على الوجه المخصوص، والمستعار له حركة الإنس والجن، أو يأجوج ومأجوج، وهما حسيان، والجامع لهما ما يشاهد من شدة الحركة والاضطراب. وأما قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} 6 فليس مما نحن فيه وإن عد منه؛ لأن فيه تشبيهين: تشبيه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وتشبيه انتشاره في الشعر باشتعالها في سرعة الانبساط مع تعذر تلافيه، والأول استعارة بالكناية، والجامع في الثاني عقلي7, وكلامنا في غيرهما8.

استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي

استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي: وأما استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي؛ فكقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} 1, فإن المستعار منه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها، والمستعار له إزالة الضوء عن مكان الليل ومُلْقَى ظله، وهما حسيان، والجامع لهما ما يُعقل من ترتب أمر على آخر2. وقيل: المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل، وليس بسديد؛ لأنه لو كان ذلك لقال: "فإذا هم مبصرون" ونحوه، ولم يقل: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي: داخلون في الظلام3. قيل: ومنه قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} 4 فإن المستعار منه المرأة، والمستعار له الريح، والجامع المنع من ظهور النتيجة والأثر؛ فالطرفان حسيان والجامع عقلي. وفيه نظر؛ لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها، وكذلك جعلت صفة للريح لا اسما5. والحق أن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحمل6، والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر، والجامع لهما ما ذكر7.

استعارة محسوس لمحسوس بوجه مختلف

استعارة محسوس لمحسوس بوجه مختلف: وأما استعارة محسوس لمحسوس بما بعضه حسي وبعضه عقلي فكقولك: "رأيت شمسا" وأنت تريد إنسانا شبيها بالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن, وأهمل السكاكي هذا القسم1.

استعارة معقول لمعقول

استعارة معقول لمعقول: وأما استعارة معقول لمعقول فكقوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} 1 فإن المستعار منه الرقاد2، والمستعار له الموت، والجامع لهما عدم ظهور الأفعال3، والجميع عقلي4. استعارة محسوس لمعقول: وأما استعارة محسوس لمعقول فكقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} 5 فإن المستعار منه صدع الزجاجة، وهو كسرها، وهو حسي6، والمستعار له تبليغ الرسالة7، والجامع لهما التأثير، وهما عقليان، كأنه قيل: "أَبِنِ الأمر إبانة لا تنمحي كما لا يلتئم صدع الزجاجة" وكقوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} 8 جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضُربتْ عليه، أو ملصقة بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه؛ فالمستعار منه إما ضرب القبة على الشخص، وإما ضرب الطين على الحائط، وكلاهما حسي، والمستعار له حالهم مع الذلة، والجامع الإحاطة أو اللزوم، وهما عقليان9.

استعارة معقول لمحسوس

استعارة معقول لمحسوس: وأما استعارة معقول لمحسوس, فكقوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} 1 فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسي، والمستعار منه التكبر، والجامع الاستعلاء المفرط، وها عقليان2. أقسام الاستعارة باعتبار المستعار: الأصلية، والتبعية: وأما باعتبار اللفظ3 فقسمان؛ لأنه إن كان اسم جنس, فأصلية كـ "أسد" و"قتل"4، وإلا فتبعية؛ كالأفعال والصفات المشتقة منها الحروف؛ لأن الاستعارة

تعتمد التشبيه، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا1، وإنما يصلح للموصوفية الحقائق2 كما في قولك: "جسم أبيض وبياض صافٍ" دون معاني الأفعال والصفات المشتقة منها والحروف3. فإن قلت: فقد قيل في نحو "شجاع باسل، وجواد فياض، وعالم نحرير": إن باسلا وصف لشجاع، وفياضا وصف لجواد، ونحريرا وصف لعالم4، قلت: ذلك متأول بأن الثواني لا تقع صفات إلا لما يكون موصوفا بالأول5. فالتشبيه في الأفعال والصفات المشتقة منها لمعاني مصادرها6، وفي الحروف لمتعلقات معانيها؛ كالمجرور7 في قولنا: "زيد في نعمة ورفاهية"؛ فيقدر التشبيه في

قولنا: "نطقت الحال بكذا، والحال ناطقة بكذا" للدلالة بمعنى النطق1. وعليه في التهكمية قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 2 بدل "فأنذرهم"، وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 3 بدل "السفيه الغوي"، وفي لام التعليل4 كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 5 للعداوة والحزن الحاصلين بعد الالتقاط بالعلة الغائية للالتقاط6. ومما يتصل بهذا أن "يا" حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة القريب؛ لتشبيهه بالبعيد باعتبار أمر راجع إليه أو إلى المنادى؛ أما الأول فكقولك لمن سها وغفل وإن قرب: "يا فلان"، وأما الثاني فكقول الداعي في جُؤَاره: "يا رب يا ألله" وهو أقرب إليه من حبل الوريد؛ فإنه استقصار منه لنفسه، واستبعاد لها من مظانّ الزُّلْفى ومما يقربه إلى رضوان الله تعالى ومنازل المقربين؛ هضما لنفسه، وإقرارا عليها بالتفريط في جنب الله تعالى، مع فرط التهالك على استجابة دعوته والأذن7 لندائه وابتهاله.

واعلم أن مدار قرينة التبعية1 في الأفعال والصفات المشتقة منها على نسبتها إلى الفاعل، كما مر في قولك: "نطقت الحال"، أو إلى المفعول؛ كقول ابن المعتز: جمع الحق لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السماحا2 وقول كعب بن زهير: صبّحنا الخزرجية مرهفات ... أباد ذوي أرومتها ذووها3 والفرق بينهما أن الثاني مفعول ثانٍ دون الأول. ونظير الثاني قوله: نقريهم لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد4 أو إلى المفعولين الأول والثاني؛ كقول الحريري: وأقري المسامع إما نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا5 أو إلى المجرور كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 6 قال السكاكي7 "أو إلى الجميع؛ كقول الآخر: تقري الرياح رياض الحزن مزهرة ... إذا سرى النوم في الأجفان إيقاظا8 فيه نظر9

أقسام الاستعارة باعتبار الخارج

أقسام الاستعارة باعتبار الخارج: وأما باعتبار الخارج, فثلاثة أقسام: أحدها المطلقة: وهي التي لم تقترن بصفة ولا تفريع كلام1، والمراد المعنوية لا النعت. المجردة: وثانيها المجردة، وهي التي قرنت بما يلائم المستعار له2 كقول كثير:

غَمْر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غَلِقت لضحكته رقاب المال1 فإنه استعار الرداء للمعروف؛ لأنه يصون عِرْض صاحبه كما يصون الرداء ما يُلْقَى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف لا الرداء2، فنظر إلى المستعار له، وعليه قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] . حيث قال: "أذاقها" ولم يقل: كساها؛ فإن المراد بالإذاقة إصابتهم بما استعير له اللباس3 كأنه قال: فأصابها الله بلباس الجوع والخوف4. قال الزمخشري: "الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها؛ فيقولون: "ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب" شبه ما يدرك من أثر الضر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع"5. فإن قيل: الترشيح أبلغ من التجريد، فهلا قيل: "فكساها الله لباس الجوع والخوف"؟ قلنا: لأن الإدراك بالذوق يستلزم الإدراك باللمس من غير عكس، فكان في الإذاقة إشعار بشدة الإصابة بخلاف الكسوة. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: "فأذاقها الله طعم الجوع والخوف"؟ قلنا: لأن الطعم وإن لاءم الإذاقة فهو مفوت لما يفيده لفظ اللباس من بيان أن الجوع والخوف عم أثرهما جميع البدن عموم الملابس.

المرشحة: وثالثها المرشحة

المرشحة: وثالثها المرشحة وهي التي قُرنت بما يلائم المستعار منه1؛ كقوله: ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر2 فإنه استعار الرداء للسيف لنحو ما سبق، ووصفه بالاعتجار الذي هو وصف الرداء، فنظر إلى المستعار منه، وعليه قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 3 فإنه استعار الاشتراء للاختيار، وقفّاه بالربح والتجارة اللذين هما من متعلقات الاشتراء؛ فنظر إلى المستعار منه. وقد يجتمع التجريد والترشيح, كما في قول زهير: لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم4 والترشيح أبلغ من التجريد5؛ لاشتماله على تحقيق المبالغة؛ ولهذا كان مبناه على تناسي التشبيه6، حتى إنه يوضع الكلام في علوّ المنزلة وضعه في علو المكان،

كما قال أبو تمام: ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء1 فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه، ويصمم على إنكاره، فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية؛ لما كان لهذا الكلام وجه. وكما قال ابن الرومي: يا آل نُوبَخْت لا عَدِمتكم ... ولا تبدلت بعدكم بدلا2 إن صح علم النجوم كان لكم ... حقا إذا ما سواكم انتحلا3 كم عالم فيكم وليس بأن ... قاس ولكن بأن رَقَى فَعَلا4 أعلاكم في السماء مجدكم ... فلستم تجهلون ما جهلا

شافهتم البدر بالسؤال عن الـ ... ـأمر إلى أن بلغتم زحلا1 وكما قال بشار: أتتني الشمس زائرة ... ولم تك تبرح الفَلَكا2 وكما قال أبو الطيب: كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق3 وكما قال غيره: ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه ... ولا رجلا قامت تعانقه الأُسْد4 ومن هذا الفن5 ما سبق من التعجب والنهي عنه6؛ غير أن مذهب التعجب على عكس مذهب النهي عنه؛ فإن مذهبه إثبات وصف ممتنع ثبوته للمستعار منه7، ومذهب النهي عنه إثبات خاصة من خواص المستعار منه8.

وإذا جاز البناء على المشبه به1 مع الاعتراف بالمشبه, كما في قول العباس بن الأحنف: هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا2 فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا وقول سعيد بن حميد: قلت: زوري فأرسلت ... أنا آتيك سُحْرَهْ3 قلت: فالليل كان أخـ ... ـفى وأدنى مسره فأجابت بحجة ... زادت القلب حسره أنا شمس وإنما ... تطلع الشمس بكره4 فلأن يجوز مع جحده في الاستعارة أولى. ومن هذا الباب5 قول الفرزدق: أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي ... متى تُخلف الجوزاء والدلو يمطر أجار بنات الوائدين ومن يجر ... على الموت فاعلم أنه غير مخفر6 ادَّعى لأبيه اسم الغيث ادّعاء من سُلِّم له ذلك، ومن لا يخطر بباله أنه متناول له من طريق التشبيه. وكذا قول عدي بن الرقاع يصف حمارين وحشيين: يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محكمة هما نسجاها7 تُطْوَى إذا وردا مكانا محزنا ... وإذا السنابك أسهلت نشراها8

المجاز المركب أو التمثيل

المجاز المركب أو التمثيل: وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شُبِّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل1 للمبالغة في التشبيه2؛ أي: تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو

أمور بالأخرى1، ثم تدخل المشبهة في جنس المشبه بها مبالغة في التشبيه، فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه. كما كتب به الوليد بن يزيد2 -لما بويع- إلى مروان بن محمد, وقد بلغه أنه متوقف في البيعة له: "أما بعد, فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى3، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت، والسلام" شبه صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر، فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا، وتارة لا يريد فيؤخر أخرى4. وكما يقال لمن يعمل في غير مَعْمَل:

"أراك تنفخ في غير فحم1 وتخط على الماء" والمعنى: إنك في فعلك كمن يفعل ذلك. وكما يقال لمن يُعمِل الحيلة حتى يُميل صاحبه إلى ما كان يمتنع منه: "ما زال يفتل منه في الذروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد" والمعنى أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال من يجيء إلى البعير الصعب فيحكه، ويفتل الشَّعْر في ذروته وغاربه2 حتى يسكن ويستأنس. وهذا في المعنى نظير قولهم: "فلان يقرِّد فلانا" أي: يتلطف به فعل من ينزع القراد3 من البعير؛ ليلتد بذلك، فيسكن ويثبت في مكانه حتى يتمكن من أخذه. وكذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 4 فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له؛ صار النهي عن التقدم متعلقا باليدين مثلا للنهي عن ترك الأتباع. وكذا قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5 إذ المعنى -والله أعلم- أن مَثَل الأرض في تصرفها تحت أمر الله تعالى وقدرته مَثَل الشيء يكون في قبضة الآخذ له منا، والجامع يده عليه. وكذا قوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 6 أي: يخلق فيها صفة الطي حتى ترى كالكتاب المطويّ بيمين الواحد منا، وخص اليمين ليكون أعلى وأفخم للمثل؛ لأنها أشرف اليدين وأقواهما والتي لا غناء للأخرى دونها؛ فلا يهش إنسان لشيء إلا بدأ بيمينه فهيأها لنيله، ومتى قصد جعل الشيء في جهة العناية جعل في اليد اليمنى،

ومتى قُصد خلاف ذلك جُعل في اليسرى، كما قال ابن ميَّادة: ألم تك في يمنى يديك جعلتَني ... فلا تجعلني بعدها في شمالكا1 أي: كنت مكرما عندك فلا تجعلني مهانا، وكنت في المكان الشريف منك فلا تحطني في المنزل الوضيع. وكذا إذا قلت للمخلوق: "الأمر بيدك" أردت المثل؛ أي: الأمر كالشيء يحصل في يدك فلا يمتنع عليك. وكذا قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} 2 قال الزمخشري: كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وأَلْقِ الألواح وجُرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء3. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة4، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة: "ولما سكن عن موسى الغضب"2 لا تجد النفس عندها شيئا من الهِزّة، وطرفا من تلك الروعة5. وأما قولهم: "اعتصمتُ بحبله" فقال الزمخشري أيضا: يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به، ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلِّي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن

انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد, أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه1. وكذا قول الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين2 الشبه مأخوذ من مجموع التلقي واليمين، على حد قولهم: "تلقيته بكلتا اليدين"؛ ولهذا لا تصلح حيث يقصد التجوز فيها وحدها؛ فلا يقال: "هو عظيم اليمين" بمعنى عظيم القدرة، ولا: "عرفت يمينك على هذا" بمعنى: عرفت قدرتك عليه. ومثله قول الآخر: هون عليك؛ فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها3 وكذا ما روى أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: $"إن أحدكم إذا تصدق بالتمرة من الطَّيِّب -ولا يقبل الله إلا الطيب- جعل الله ذلك في كفه فيُربيها كما يُربي أحدكم فلوه4 حتى يبلغ بالتمرة مثل أحد"، والمعنى فيهما5 على انتزاع الشبه من المجموع. وكل هذا6 يسمى التمثيل على سبيل الاستعارة، وقد يسمى التمثيل مطلقا،

ومتى فشا استعماله كذلك1 سمي مثلا؛ ولذا لا تغير الأمثال2. ومما يُبْنَى على التمثيل نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 3 معناه: لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه، واعٍ لما يجب وعيه، ولكن عدل عن هذه العبارة ونحوها إلى ما عليه التلاوة4 بقصد البناء على التمثيل؛ ليفيد ضربا من التخييل؛ وذلك أنه لما كان الإنسان حين لا ينتفع بقلبه، فلا ينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه، ولا يفهم ولا يعي؛ جُعل كأنه قد عَدِم القلب جملة، كما جُعل من لا ينتفع بسمعه وبصره، فلا يفكر فيما يؤديان إليه، بمنزلة العادم لهما، ولزم على هذا ألا يقال: "فلان له قلب" إلا إذا كان ينتفع بقلبه فينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه، ويعي ما يجب وعيه، فكان في قوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} تخييل أن من لم ينتفع بقلبه كالعادم للقلب جملة، بخلاف نحو قولنا: "لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه، واعٍ لما يجب وعيه"5، وفي نظر الآية فائدة أخرى شريفة وهي تقليل

اللفظ مع تكثير المعنى. ونقل الشيخ عبد القاهر1 عن بعض المفسرين أنه قال: "المراد بالقلب العقل"، ثم شدّد عليه النكير في هذا التفسير، وقال: "وإن كان المرجع فيما ذكرناه عند التحصيل إلى ما ذكره، ولكن ذهب عليه أن الكلام مبني على تخييل أن من لا ينتفع بقلبه -فلا ينظر ولا يعي- بمنزلة من عَدِم قلبه جملة2، كما تقول في قول الرجل إذا قال: "قد غاب عني قلبي"، أو "ليس يحضرني قلبي": إنه يريد أن يخيل إلى السامع أنه غاب عنه قلبه بجملته، دون أن يريد الإخبار أن عقله لم يكن هناك، وإن كان المرجع عند التحصيل إلى ذلك، وكذا إذا قال: "لم أكن ههنا"، يريد غفلته عن الشيء، فهو يضع كلامه على التخييل". هذا معنى كلام الشيخ، وهو حق؛ لأن المراد بالآية الحثّ على النظر، والتقريع على تركه، فإن أراد هذا المفسر بتفسيره أن المعنى: لمن كان له عقل مطلقا، فهو ظاهر الفساد3، وإن أراد أن المعنى: لمن كان له عقل ينتفع به ويُعمِله فيما خُلق له من النظر؛ فتفسير القلب بالعقل، ثم تقييد العقل بما قيده عَرِيّ عن الفائدة؛ لصحة وصف القلب بذلك4 بدليل قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} 5. واعلم أن المثل السائر لما كان فيه غرابة، استُعير لفظة المَثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة6. وهو في القرآن كثير كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ

كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} 1 أي: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا. وكقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} 2 أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة، وكقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} 3 أي: صفتهم وشأنهم المتعجب منه4، وكقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} 5؛ أي: فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة، ثم أخذ في بيان عجائبها6، إلى غير ذلك.

فصل: الاستعارة المكنية والتخييلية

فصل: الاستعارة المكنية والتخييلية: قد يضمر التشبيه في النفسن، فلا يصرح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه، ويُدَل عليه1 بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسا أو عقلا أجري عليه اسم ذلك الأمر2، فيسمى التشبيه استعارة بالكناية، أو مكنيا منها، وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية3. والعَلَم 4 في ذلك قول لبيد: وغداة ريح قد كشفت وقِرَّة ... إذ أصبحت بيد الشَّمال زمامها5

فإنه جعل للشمال يدا، ومعلوم أنه ليس هناك أمر ثابت حسا أو عقلا تجري اليد عليه؛ كإجراء الأسد على الرجل الشجاع، والصراط على ملة الإسلام فيما سبق1، ولكن لما شبه الشمال لتصريفها القرة -على حكم طبيعتها في التصريف- بالإنسان المصرِّف لما زمامه بيده؛ أثبت لها يدا على سبيل التخييل مبالغة في تشبيهها به، وحكم الزمام في استعارته للقرة2 حكم اليد في استعارتها للشمال، فجعل للقرة زماما ليكون أتم في إثباتها مُصَرَّفة، كما جعل للشمال يدا ليكون أبلغ في إثباتها مصرفة، فوفّى المبالغة حقها من الطرفين؛ فالضمير في "أصبحت" و"زمامها" للقرة، وهو قول الزمخشري، والشيخ عبد القاهر جعله للغداة3, والأول أظهر. واعلم أن الأمر المختص بالمشبه به المثبت للمشبه، منه ما لا يكمل وجه الشبه في المشبه به بدونه, كما في قول أبي ذؤيب الهذلي: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيتَ كل تميمة لا تنفع4 فإنه شبه المنية بالسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، من غير تفرقة بين نفّاع وضرّار ولا رقة لمرحوم، ولا بُقْيا على ذي فضيلة، فأثبت للمنية الأظفار التي لا يكمل ذلك في السبع بدونها؛ تحقيقا للمبالغة في التشبيه5. ومنه ما به يكون قوام وجه الشبه في المشبه به، كما في قول الآخر:

ولئن نطقت بشكر برك مفصحا ... فلسان حالي بالشكاية أنطق1 فإنه شبه الحال الدالة على المقصود بإنسان متكلم في الدلالة؛ فأثبت لها اللسان الذي به قوام الدلالة في الإنسان2. وأما قول زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعُرِّيَ أفراس الصِّبا ورواحله3 فيحتمل أن يكون استعارة تخييلية، وأن يكون استعارة تحقيقية؛ أما التخييل فأن يكون أراد أن يبين أنه ترك ما كان يرتكبه أوان المحبة من الجهل والغي، وأعرض عن معاودته؛ فتعطلت آلاته كأي أمر وطّنْتَ النفس على تركه؛ فإنه تهمل آلاته فتتعطل، فشبه الصبا بجهة من جهات المسير -كالحج والتجارة- قُضي منها الوطر فأُهملت آلاتها، فتعطلت4، فأثبت له الأفراس والرواحل5؛ فالصبا على هذا من الصبوة بمعنى الميل إلى الجهل والفتوّة، لا بمعنى الفتاء6. وأما التحقيق فأن يكون أراد بالأفراس والرواحل دواعي النفوس وشهواتها، والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذات، أو الأسباب التي قلّما تتآخذ في اتباع الغي إلا أوان الصبا7.

فصل: اعتراضات على السكاكي

فصل: اعتراضات على السكاكي اعلم أن كلام السكاكي في هذا الباب -أعني: باب الحقيقة والمجاز والفصل الذي يليه- مخالف لمواضع مما ذكرنا؛ فلا بد من التعرض لها، ولبيان ما فيها. اعتراض عليه في تعريف الحقيقة والمجاز: منها أنه عرف الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع2، وقال: "إنما ذكرت هذا القيد يعني قوله: "من غير تأويل في الوضع" ليُحترَز به عن الاستعارة؛ ففي الاستعارة تُعَد الكلمة مستعملة فيما هي موضوعة له على أصح القولين3، ولا نسميها حقيقة، بل نسميها مجازا لغويا؛ لبناء

دعوى المستعار موضوعا للمستعار له على ضرب من التأويل كما مر"1. ثم عرّف المجاز اللغوي بالكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها2 مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع3, وقال: قولي "بالتحقيق" احتراز عن ألا تخرج الاستعارة4 التي هي من باب المجاز، نظرا إلى دعوى استعمالها فيما هي موضوعة له على ما مر. وقوله: "استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها" بمنزلة قولنا في تعريف المجاز: "في اصطلاح به التخاطب" على ما مر، وقوله: "مع قرينة ... إلخ" احتراز عن الكناية كما تقدم. وفيهما نظر؛ لأن لفظ الوضع وما يشتق منه إذا أُطلق لا يُفهَم منه الوضع بتأويل، وإنما يفهم منه الوضع بالتحقيق؛ لما سبق من تفسير الوضع، فلا حاجة إلى تقييد الوضع في تعريف الحقيقة بعدم التأويل، وفي تعريف المجاز بالتحقيق، اللهم إلا أن يراد زيادة البيان لا تتميم الحد، ثم تقييد الوضع باصطلاح التخاطب ونحوه إذا كان لا بد منه في تعريف المجاز؛ ليدخل فيه نحو لفظ "الصلاة" إذا استعملها المخاطِب بعرف الشرع في الدعاء مجازا، فلا بد منه في تعريف الحقيقة أيضا؛ ليخرج نحو هذا اللفظ منه كما سبق، وقد أهمله في تعريفها. لا يقال: قوله في تعريفها: "من غير تأويل في الوضع" أغنى عن هذا القيد؛ فإن استعمال اللفظ فيما وُضع له في غير اصطلاح التخاطب إنما يكون بتأويل في وضعه؛ لأن التأويل5 في الوضع يكون في الاستعارة على أحد القولين6 دون سائر أقسام المجاز7؛ ولذلك قال: "وإنما ذكرت هذا القيد ليحترز به عن الاستعارة". ثم تعريفه للمجاز يدخل فيه الغلط كما تقدم8.

الاعتراض عليه في جعل التمثيل من المجاز المفرد

الاعتراض عليه في جعل التمثيل من المجاز المفرد: ومنها أنه قسّم المجاز إلى الاستعارة وغيرها1، وعرّف الاستعارة بأن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر, مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به2، وقسّم الاستعارة إلى المصرح بها، والمكني عنها، وعنَى بالمصرح بها أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه به3، وجعلها ثلاثة أضرب: تحقيقية، وتخييلية، ومحتملة للتحقيق والتخييل4. وفسر التحقيقية بما مر5، وعد التمثيل على سبيل الاستعارة منها. وفيه نظر؛ لأن التمثيل على سبيل الاستعارة لا يكون إلا مركبا كما سبق، فكيف يكون قسما من المجاز المفرد؟! ولو لم يقيِّد الاستعارة بالإفراد وعرّفها بالمجاز الذي أريد به ما شُبِّه بمعناه الأصلي مبالغة في التشبيه, دخل كل من التحقيقية والتمثيل في تعريف الاستعارة6.

الاعتراض على السكاكي في تعريف التخييلية

الاعتراض على السكاكي في تعريف التخييلية: ومنها أنه فسر التخييلية بما استُعمل في صورة وهمية محضة قدّرت مشابهة لصورة محققة هي معناه، كلفظ "الأظفار" في قول الهذلي1؛ فإنه لما شبّه المنية بالسبع في الاغتيال على ما تقدم، أخذ الوهم في تصويرها بصورته، واختراع مثل ما يلائم صورته ويتم به شكله لها من الهيئات والجوارح، وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتياله للنفوس به؛ فاخترع للمنية صورة مشابهة لصورة الأظفار المحققة، فأطلق عليها اسمها2. وفيه نظر؛ لأن تفسير التخييلية بما ذكره بعيد؛ لما فيه من التعسف3، وأيضا فظاهر تفسير غيره لها بقولهم: "جعل الشيء للشيء كجعل لبيد4 للشمال يدا" يخالفه؛ لاقتضاء تفسيره أن يجعل للشمال صورة متوهمة مثل صورة اليد، لا أن يجعل لها يدا؛ فإطلاق اسم اليد على تفسيره استعارة، وعلى تفسير غيره حقيقة، والاستعارة إثباتها للشمال، كما قلنا في المجاز العقلي الذي فيه المسند حقيقة

لغوية1 وأيضا فيلزمه أن يقول بمثل ذلك -أعني بإثبات صورة متوهَّمة- في ترشيح الاستعارة2؛ لأن كل واحد من التخييلية والترشيح فيه إثبات بعض لوازم المشبه به المختصة به للمشبه, غير أن التعبير عن المشبه في التخييلية بلفظه الموضوع له، وفي الترشيح بغير لفظه3، وهذا لا يفيد فرقا، والقول بهذا يقتضي أن يكون الترشيح ضربا من التخييلية، وليس كذلك4. وأيضا فتفسيره للتخييلية أعم من أن تكون تابعة للاستعارة بالكناية، كما في بيت الهذلي5، أو غير تابعة بأن يتخيل ابتداء صورة وهمية مشابهة لصورة محققة، فيستعار لها اسم الصورة المحققة، والثانية بعيدة جدا، ويدل على إرادته دخول الثانية في تفسير التخييلية أنه قال6: "حسنها بحسب حسن المكنيّ عنها متى كانت تابعة لها، كما في قولك: "فلان بين أنياب المنية ومخالبها" وقلما تحسن الحسن البليغ غير تابعة لها؛ ولذلك استُهجنت في قول الطائي: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صَبّ قد استعذبت ماء بكائي7

فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يريد بغير التابعة للمكني عنها التابعة لغير المكني عنها؟ قلنا: غير المكني عنها هي المصرح بها؛ فتكون التابعة لها ترشيح الاستعارة، وهو من أحسن وجوه البلاغة، فكيف يصح استهجانه؟ ". وأما قول أبي تمام فليس له فيه دليل؛ لجواز أن يكون أبو تمام شبه الملام بظَرْف الشراب؛ لاشتماله على ما يكرهه الملوم، كما أن الظرف قد يشتمل على ما يكرهه الشارب؛ لبشاعته أو مرارته؛ فتكون التخييلية في قوله تابعة للمكني عنها، أو بالماء نفسه1؛ لأن اللوم قد يسكن حرارة الغرام كما أن الماء يسكن غليل الأُوام، فيكون تشبيها على حد "لُجَيْن الماء" فيما مر2، لا استعارة. والاستهجان على الوجهين3؛ لأنه كان ينبغي له أن يشبهه بظرف شراب مكروه، أو بشراب مكروه4؛ ولهذا لم يُستهجَن نحو قولهم: "أغلظت لفلان القول، وجرّعته منه كأسا مُرَّة، أو سقيته أمرّ من العلقم"5.

الاعتراض عليه في تعريف المكنية

الاعتراض عليه في تعريف المكنية: ومنها أنه عنى بالاستعارة المكني عنها أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه1، على أن المراد بالمنية في قول الهذلي2 السبع، بادعاء السَّبُعية لها، وإنكار أن تكون شيئا غير السبع، بقرينة إضافة الأظفار إليها3. وفيه نظر؛ للقطع بأن المراد بالمنية في البيت هو الموت لا الحيوان المفترس، فهو مستعمل فيما هو موضوع له على التحقيق، وكذا كل ما هو نحوه، ولا شيء من الاستعارات مستعملا كذلك، وأما ما ذكره في تفسير قوله: "من أنّا ندعي ههنا أن اسم المنية اسم للسبع، مرادف للفظ السبع بارتكاب تأول، وهو أن ندخل المنية في جنس السبع للمبالغة في التشبيه، ثم نذهب على سبيل التخييل إلى أن الواضع كيف يصح منه أن يضع اسمين لحقيقة واحدة ولا يكونا مترادفين، فيتهيأ لنا بهذا الطريق دعوى السبعية للمنية مع التصريح4 بلفظ المنية" فلا يفيده؛ لأن ذلك لا يقتضي كون اسم المنية غير مستعمل فيما هو موضوع له على التحقيق من غير تأويل، فيدخل في تعريفه للحقيقة، ويخرج من تعريفه للمجاز5، وكأنه -لما رأى علماء البيان يطلقون لفظ الاستعارة على نحو ما نحن فيه6 وعلى أحد نوعي المجاز اللغوي- الذي هو اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي7 -ويقولون: الاستعارة تنافي ذكر طرفي التشبيه- ظن أن مرادهم بلفظ "الاستعارة" عند الإطلاق وفي قولهم: "استعارة بالكناية" معنى واحد8، فبنَى على ذلك ما تقدم9.

الاعتراض على السكاكي في رد التبعية إلى المكنية

الاعتراض على السكاكي في ردّ التبعية إلى المكنية: ومنها أنه قال في آخر فصل الاستعارة التبعية: "هذا ما أمكن من تلخيص كلام الأصحاب في هذا الفصل، ولو أنهم جعلوا قسم الاستعارة التبعية من قسم الاستعارة بالكناية، بأن قلَبوا فجعلوا -في قولهم: "نطقت الحال بكذا"- الحال -التي ذكرُها عندهم قرينة الاستعارة بالتصريح1- استعارة بالكناية عن المتكلم بوساطة المبالغة في التشبيه على مقتضى المقام، وجعلوا نسبة النطق إليه قرينة الاستعارة، كما تراهم في قوله: وإذا المنية أنشبت أظفارها2 يجعلون المنية استعارة بالكناية عن السبع، ويجعلون إثبات الأظفار لها قرينة الاستعارة. وهكذا لو جعلوا البخل3 استعارة بالكناية عن حي أُبطلتْ حياته بسيف أو غير سيف، فالتحق بالعدم، وجعلوا نسبة القتل إليه قرينة الاستعارة، ولو

جعلوا أيضا اللَّهْذَميات1 استعارة بالكناية عن المطعومات اللطيفة الشهية على سبيل التهكم، وجعلوا نسبة لفظ "القِرَى" إليها قرينة الاستعارة, لكان أقرب إلى الضبط"2 هذا لفظه3. وفيه نظر؛ لأن التبعية التي جعلها قرينة لقرينتها التي جعلها استعارة بالكناية؛ كـ "نطقتْ" في قولنا: "نطقت الحال بكذا" لا يجوز أن يقدرها حقيقةً حينئذ؛ لأنه لو قدرها حقيقة لم تكن استعارة تخييلية؛ لأن الاستعارة التخييلية عنده مجاز كما مر، ولو لم تكن تخييلية لم تكن الاستعارة بالكناية مستلزمة للتخييلية؛ واللازم باطل بالاتفاق4؛ فيتعين أن يقدرها مجازا، وإذا قدرها مجازا لزمه أن يقدرها من قبيل الاستعارة؛ لكون العلاقة بين المعنيين هي المشابهة، فلا يكون ما ذهب إليه مغنيا عن قسمه الاستعارة إلى أصلية وتبعية, ولكن يستفاد مما ذكر رد التركيب في التبعية5 إلى تركيب الاستعارة بالكناية على ما فسرناها6، وتصير التبعية حقيقة واستعارة تخييلية؛ لما سبق أن التخييلية -على ما فسرناها7- حقيقة لا مجاز.

فصل: شروط حسن الاستعارة

فصل: شروط حسن الاستعارة وإذا قد عرفتَ معنى الاستعارة التحقيقية، والاستعارة التخييلية، والاستعارة بالكناية، والتمثيل على سبيل الاستعارة؛ فاعلم أن لحسنها شروطا إن لم تصادفها عريت عن الحسن، وربما تكتسب قبحا. وهي في كل من التحقيقية والتمثيل1: رعاية ما سبق ذكره من جهات حسن التشبيه2، وأن لا يشم من جهة اللفظ رائحته3؛ ولذلك يوصى فيه أن يكون الشبه بين طرفيها جليا بنفسه أو عرف أو

غيره1، وإلا صار تعمية وإلغازا، لا استعارة وتمثيلا، كما إذا قيل: "رأيت أسدا" وأُريد إنسان أبخر، وكما إذا قيل: "رأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة" وأُريد الناس2، أو قيل: "رأيت عودا مستقيما أوان الغرس" وأريد إنسان مؤدب في صباه، وبهذا ظهر أنهما لا يجيئان في كل ما يجيء فيه التشبيه. ومما يتصل بهذا3 أنه إذا قَوِي الشبه بين الطرفين بحيث صار الفرع كأنه الأصل لم يحسن التشبيه وتعيّنت الاستعارة4، وذلك كالنور إذا شُبِّه العلم به، والظلمة إذا شبهت الشبهة بها؛ فإنه لذلك يقول الرجل إذا فهم المسألة: "حصل في قلبي نور"، ولا يقول: "كأن نورا حصل في قلبي"5، ويقول لمن أوقعه في شبهة: "أوقعتني في ظلمة" ولا يقول: "كأنك أوقعتني في ظلمة". وكذا المكني عنها حسنها برعاية جهات حسن التشبيه6. وأما التخييلية فحسنها بحسب حسن المكنيّ عنها؛ لما بيّنّا أنها لا تكون إلا تابعة لها.

فصل: المجاز بالحذف والزيادة

فصل: المجاز بالحذف والزيادة واعلم أن الكلمة كما توصف بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي كما مضى؛ تُوصَف به أيضا لنقلها عن إعرابها الأصلي إلى غيره لحذف لفظ أو زيادة لفظ؛ أما الحذف فكقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1 أي: أهل القرية2؛ فإعراب القرية في الأصل هو الجر، فحذف المضاف وأعطي المضاف إليه إعرابه، ونحوه قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} 3 أي: أمر ربك4. وكذا قولهم: "بنو فلان يطؤهم الطريق" أي: أهل الطريق. وأما الزيادة: فكقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5 على القول بزيادة الكاف6, أي: ليس مثله شيء؛ فإعراب "مثله" في الأصل هو النصب، فزِيدت الكاف فصار جرا. فإن كان الحذف أو الزيادة لا يوجب تغيير الإعراب كما في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} 7 إذ أصله: أو كمثل ذوي صيِّب، فحذف "ذوي" لدلالة {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} عليه, وحذف "مثل" لما دل عليه عطفه على قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ؛ إذ لا يخفى أن التشبيه ليس بين صفة المنافقين العجيبة الشأن وذوات ذوي صيب8, وكقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 9، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} 10، فلا توصف الكلمة بالمجاز.

انكار المجاز بالحذف والزيادة

إنكار المجاز بالحذف والزيادة: وقد بالغ الشيخ عبد القاهر في النكير على من أطلق القول بوصف الكلمة بالمجاز للحذف أو الزيادة1.

تمرينات على المجاز المرسل والاستعارة

تمرينات على المجاز المرسل والاستعارة: تمرين1: 1- بين ما فيه مجاز مرسل، وما فيه استعارة من هذين البيتين: من يزرع الشر يحصد في عواقبه ... ندامة، ولحصد الزرع إبَّان ولم يبق سوى العدوا ... ن دِنَّاهم كما دانوا 2- ما نوع الاستعارة, وما قرينتها في قول الشاعر: إذا ما الدهر جرّ على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا؟ تمرين2: 1- وردت "دما" فيما يأتي مجازا مرسلا واستعارة؛ فبيِّنهما: فتى كلما فاضت عيون قبيلة ... دما ضحكت عنه الأحاديث والذكر أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر 2- كيف تجري الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية في قول الشاعر: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدو في ثياب صديق؟ تمرين3: 1- كيف جرت الاستعارة في العَلَم من قول الشاعر: لقد حان توديع العميد وإنه ... حقيق بتشييع المحبين والعدا فلِمَ لا نرى الأهرام يا نيل ميِّدا ... وفرعون عن واديك مرتحل غدا؟ 2- كيف تجري الاستعارة التمثيلية في قوله تعالى: {الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72] ؟ تمرين2: بين الاستعارة المطلقة والمرشحة والمجردة في الأبيات الآتية: 1- رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ... ظواهر جلد وهو للقلب جارح

2- إن التباعد لا يضر ... إذا تقاربت القلوب 3- إذا انتضل القول الأحاديث لم يكن ... عَيِيّا ولا ربا على من يقاعد تمرين 5: 1- لماذا قبحت الاستعارة في قول الشاعر: بلوناك أما كعب عِرْضك في العلا ... فعالٍ وأما خد مالك أسفل؟ 2- لماذا كان المجاز المرسل في هذا البيت غير مفيد: فبتنا جلوسا لدى مهرنا ... ننزع من شفتيه الصفارا؟ 3- لماذا استُحسنت الاستعارة التخييلية في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24] , واستُهجنت في قول أبي تمام: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صَبّ قد استعذبت ماء بكائي؟ تمرين 6: 1- وازن بين الاستعارتين في قول الشاعر: سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير وقول الآخر: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح 2- ما هي علاقة المجاز المرسل في قول الشاعر: فهمت الكتاب أبر الكتب ... فسمعًا لأمر أمير العرب؟ 3- لماذا عِيب على أبي تمام قوله: يا دهر قَوِّمْ من أخدعيك فقد ... أضججتَ هذا الأنام من خَرِقك؟

الباب الثالث: القول في الكناية

الباب الثالث: القول في الكناية تعريف الكناية: الكناية: لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه حينئذ1؛ كقولك: "فلان طويل النجاد" أي: طويل القامة، و"فلانة نئوم الضحى" أي: مرفهة مخدومة غير محتاجة إلى السعي بنفسها في إصلاح المهمات؛ وذلك أن وقت الضحى وقت سعي نساء العرب في أمر المعاش وكفاية أسبابه وتحصيل ما يحتاج إليه في تهيئة المتناولات وتدبير إصلاحها؛ فلا تنام فيه من نسائهم إلا من تكون لها خدم ينوبون عنها في السعي لذلك. ولا يمتنع أن يراد مع ذلك طول النجاد، والنوم في الضحى من غير تأويل2؛ فالفرق بينها وبين المجاز من هذا الوجه؛ أي: من جهة إرادة المعنى3 مع إرادة لازمه؛ فإن المجاز ينافي ذلك، فلا يصح في نحو قولك: "في الحمّام الأسد" أن تريد معنى الأسد من غير تأول؛ لأن المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة كما عرفت، وملزوم معاند الشيء معاند لذلك الشيء4. وفرّق السكاكي وغيره بينهما بوجه آخر أيضا5، وهو أن مبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى الملزوم، ومبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم. وفيه نظر؛ لأن اللازم ما لم يكن ملزوما يمتنع أن يُنتقَل منه إلى الملزوم6، فيكون الانتقال حينئذ من الملزوم إلى اللازم. ولو قيل: اللزوم من الطرفين من خواصّ الكناية دون المجاز، أو شرط لها دونه، اندفع هذا الاعتراض، لكن اتجه منع الاختصاص والاشتراط7.

أقسام الكناية

أقسام الكناية: ثم الكناية ثلاثة أقسام؛ لأن المطلوب بها إما غير صفة ولا نسبة، أو صفة، أو نسبة. والمراد الصفة المعنوية؛ كالجود والكرم والشجاعة وأمثالها، لا النعت.

المطلوب بها غير صفة ولا نسبة

1- المطلوب بها غير صفة ولا نسبة: الأولى: المطلوب بها غير صفة ولا نسبة1: فمنها ما هو معنى واحد؛ كقولنا: "المضياف" كناية عن زيد، ومنه قوله كناية عن القلب: الضاربين بكل أبيض مِخْذَم ... والطاعنين مجامع الأضغان2 ونحوه قول البحتري في قصيدته التي يذكر فيها قتله الذئب: فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد3 فقوله: "بحيث يكون اللب والرعب والحقد" ثلاث كنايات لا كناية واحدة؛ لاستقلال كل واحد منها بإفادة المقصود4. ومنها: ما هو مجموع معانٍ؛ كقولنا كناية عن الإنسان: "حي مستوي القامة, عريض الأظفار"5.

وشرط كل واحدة منهما1 أن تكون مختصّة بالمكنيّ عنه لا تتعدّاه؛ ليحصل الانتقال منها إليه. وجعل السكاكي الأولى قريبة، والثانية بعيدة2, وفيه نظر3. 2-المطلوب بها صفة: الثاني: المطلوب بها صفة4؛ وهي ضربان: قريبة، وبعيدة. القريبة: ما يُنتقَل منها إلى المطلوب بها، لا بواسطة. وهي إما واضحة؛ كقولهم كنايةً عن طويل القامة: "طويل نجاده، وطويل النجاد" والفرق بينهما أن الأول كناية ساذجة, والثاني كناية مشتملة على تصريح ما؛ لتضمن الصفة فيه ضمير الموصوف، بخلاف الأول5. ومنها قول الحماسي:

أَبَتِ الرَّوَادِف والثُّدِيّ لقُمْصها ... مَسَّ البطون وأن تمس ظُهُورا1 وإما خفية: كقولهم كناية عن الأبله: "عريض القفا" فإن عرض القفا وعظم الرأس إذا أفرط -فيما يقال- دليل الغباوة2؛ ألا ترى إلى قول طرفة بن العبد: أنا الرجل الضَّرْب الذي تعرفونه ... خَشاش كرأس الحية المتوقد3 والبعيدة: ما يُنتقَل منها إلى المطلوب بها بواسطة؛ كقولهم كناية عن الأبله: "عريض الوسادة" فإنه ينتقل من عرض الوسادة إلى عرض القفا، ومنه إلى المقصود. وقد جعله السكاكي من القريبة على أنه كناية عن عرض القفا، وفيه نظر4. وكقولهم: "كثير الرماد" كناية عن المضياف، فإنه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القُدُور، ومنها إلى كثرة الطبائخ، ومنها إلى كثرة الأَكَلَة، ومنها إلى كثرة الضِّيفان، ومنها إلى المقصود. وكقوله:

وما يَكُ فيّ من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل1 فإنه ينتقل من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار من هو بمرصد لأن يعسّ دونها؛ مع كون الهرير في وجه من لا يعرفه طبيعيا له، إلى استمرار تأديبه؛ لأن الأمور الطبيعية لا تتغير بموجب لا يقوى، ومن ذلك إلى استمرار موجب نباحه وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه، ومن ذلك إلى كونه مقصد أدان وأقاص، ومن ذلك إلى أنه مشهور بحسن قِرَى الأضياف. وكذلك ينتقل من هزال الفصيل إلى فقد الأم، ومنه إلى قوة الداعي إلى نحرها؛ لكمال عناية العرب بالنوق لا سيما المُتلِيات، ومنها إلى صرفها إلى الطبائخ، ومنها إلى أنه مضياف. ومن هذا النوع قول نُصيب: لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم مِنَن من ظاهره2 فبابك أسهل أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره3 وكلبك آنَس بالزائرين ... من الأم بالابنة الزائره فإنه ينتقل من وصف كلبه بما ذكر، إلى أن الزائرين معارف عنده، ومن ذلك إلى اتصال مشاهدته إياهم ليلا ونهارا، ومنه إلى لزومهم سدته، ومنه إلى تسني مباغيهم لديه من غير انقطاع، ومنه إلى وفور إحسانه إلى الخاص والعام، وهو المقصود. ونظيره مع زيادة لطف قول الآخر: يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم4

ومنه قوله: لا أُمتِع العوذ بالفِصَال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل1 فإنه ينتقل من عدم إمتاعها إلى أنه لا يُبقي لها فصالها لتأنس بها، ويحصل لها الفرح الطبيعي بالنظر إليها، ومن ذلك إلى نحرها، أو لا يُبقي العوذ إبقاء على فصالها2، وكذا قرب الأجل ينتقل منه إلى نحرها، ومن نحرها إلى أنه مضياف. ومن لطيف هذا القسم3 قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} 4؛ أي: ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل؛ لأن من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعضّ يده غما، فتصير يده مسقوطا فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها. وكذا قول أبي الطيب كناية عن الكذب: تشتكي ما اشتكيتُ من ألم الشو ... ق إليها والشوق حيث النحول5 وكذا قوله: إلى كم تَرُدّ الرُّسْل عما أتوا له ... كأنهم فيما وهبتَ مَلام6

فإن أوله كناية عن الشجاعة، وآخره كناية عن السماحة. وكذا قول أبي تمام: فإن أنا لم يحمدك عني صاغرا ... عدوك، فاعلم أنني غير حامد1 يريد بحمده عنه حفظه مدحه فيه وإنشاده، أي: إن لم أكن أجيد القول في مدحك حتى يدعو حسنه عدوك أن يحفظه ويلهج به صاغرا؛ فلا تَعُدني حامدا لك بما أقول فيك. ووصفه بالصَّغار؛ لأن من يحفظ مديح عدوه وينشده فقد أذل نفسه، فكنى بحفظ عدو الممدوح مدحه له عن إجادته القول في مدحه2. وكذا قول من يصف راعي إبل أو غنم: ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا3 وقول الآخر: صلب العصا بالضرب قد دَمَّاها4 أي: جعلها كالدُّمى في الحسن. والغرض5 من قول الأول: "ضعيف العصا" وقول الثاني: "صلب العصا" -وهما وإن كانا في الظاهر متضادين- فإنهما كنايتان عن شيء واحد، وهو حسن الرعية والعمل بما يصلحها ويحسن أثره عليها، فأراد الأول أنه رفيق بها مشفق عليها, لا يقصد من حمل العصا أن يوجعها بالضرب من غير فائدة، فهو يتخير ما لان من العصا، وأراد الثاني أنه جيد الضبط لها، عارف بسياستها في الرعي، يزجرها عن المراعي التي لا تُحمَد ويتوخى بها ما تسمن عليه، ويتضمن أيضا أنه يمنعها عن التشرد والتبدد، وأنها -لما عرفت من شدة شكيمته وقوة عزيمته- تنساق في الجهة التي يريدها، وقوله: "بالضرب قد دماها" تورية حسنة6، ويؤكد أمرها قوله: "صلب العصا".

المطلوب بها نسبة

3- المطلوب بها نسبة: الثالثة: المطلوب بها نسبة1؛ كقول زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضُربت على ابن الحشرج2 فإنه حين أراد ألا يصرح بإثبات هذه الصفات لابن الحشرج جمعها في قبة؛ تنبيها

بذلك على أن محلها ذو قبة، وجعلها مضروبة عليه؛ لوجود ذوي قباب في الدنيا كثيرين، فأفاد إثبات الصفات المذكورة له بطريق الكناية1. ونظيره قولهم: "المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه". قال السكاكي2: وقد يظن هذا من قسم "زيد طويل نجاده"3، وليس بذاك؛ فـ "طويل نجاده" بإسناد "طويل" إلى النجاد تصريح بإثبات الطول للنجاد، وطول النجاد -كما نعرف- قائم مقام طول القامة، فإذا صرح من بعدُ بإثبات النجاد لزيد بالإضافة، كان ذلك تصريحا بإثبات الطول لزيد4، فتأمل. وكقول الآخر: والمجد يدعو أن يدوم لجيده ... عقد مساعي ابن العميد نظامه5 فإنه شبه المجد بإنسان بديع الجمال في ميل النفوس إليه، وأثبت له جيدا على سبيل الاستعارة التخييلية، ثم أثبت لجيده عقدا ترشيحا للاستعارة، ثم خص مساعي ابن العميد بأنها نظامه، فنبه بذلك على اعتنائه خاصة بتزيينه، وبذلك على محبته وحده له، وبها على اختصاصه به، ونبه بدعاء المجد أن يدوم لجيده ذلك العقد على طلبه دوام بقاء ابن العميد، وبذلك على اختصاصه به6. وكقول أبي نواس:

فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير1 فإنه كنى عن جميع الجود بأن نكّره2، ونفى أن يجوز ممدوحه ويحل دونه فيكون متوزعا, يقوم منه شيء بهذا وشيء بهذا، و"كنى" عن إثباته له بتخصيصه بجهته بعد تعريفه باللام التي تفيد العموم3، ونظيره قولهم: "مجلس فلان مَظِنّة الجود والكرم" هذا قول السكاكي4. وقيل: كنَى بالشطر الأول عن اتصافه بالجود، وبالثاني عن لزوم الجود له، ويحتمل وجها آخر؛ وهو أن يكون كل منهما كناية عن اختصاصه به، وعدم الاقتصار على أحدهما للتأكيد والتقرير، وذكرهما على الترتيب المذكور؛ لأن الأولى بواسطة5، بخلاف الثانية. وكقولهم: "مثلك لا يبخل"، قال الزمخشري: نفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية؛ لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه؛ فقد نفوه عنه، ونظيره قولك للعربي: "العرب لا تَخْفِر الذمم" فإنه أبلغ من قولك: "أنت لا تخفر". ومنه قولهم: "أيفعتْ لِداتُه، وبلغت أترابه" يريدون: إيفاعه وبلوغه. وعليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 6 على أحد الوجهين وهو أن لا تجعل الكاف زائدة، قيل: وهذا غاية لنفي التشبيه، إذ لو كان له مِثْل، لكان كمثله شيء

وهو ذاته تعالى، فلما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ} دل على أنه ليس له مثل1. وأُورد أنه يلزم منه نفيه تعالى لأنه مثل مثله، ورُدّ بمنع أنه تعالى مثل مثله؛ لأن صدق ذلك موقوف على ثبوت مثله؛ تعالى عن ذلك. وكقول الشنفرى الأزدي في وصف امرأة بالعفة: فإنه نبه بنفي اللوم عن بيتها على انتفاء أنواع الفجور عنه، وبه على براءتها منها، وقال: "يبيت" دون "يظل" لمزيد اختصاص الليل بالفواحش، هذا على ما رواه الشيخ عبد القاهر والسكاكي3، وفي الأغاني الكبير: "يحل بمنجاة". وقد يظن أن هنا قسما رابعا، وهو أن يكون المطلوب بالكناية الوصف والنسبة معا، كما يقال: "يكثر الرماد في ساحة عمرو" في الكناية عن أن عمرا مضياف، وليس بذاك؛ إذ ليس ما ذُكر بكناية واحدة، بل هو كنايتان: إحداهما عن المضيافية، والثانية عن إثباتها لعمرو. وقد ظهر بهذا أن طرف النسبة المثبتة بطريق الكناية يجوز أن يكون مكنيا عنه أيضا كما في هذا المثال، ونحوه بيت الشنفرى المتقدم؛ فإن حلول البيت بمنجاة من اللوم كناية عن نسبة العفة إلى صاحبه، والمنجاة من اللوم كناية عن العفة4.

الكناية العرضية "التعريض بالكناية"

الكناية العُرْضِيَّة "التعريض بالكناية": واعلم أن الموصوف في القسم الثاني والثالث1 قد يكون مذكورا كما مر، وقد يكون غير مذكور، كما تقول في عُرْض2 من يؤذي المسلمين: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" أي: ليس المؤذي مسلما3. وعليه قوله تعالى في عرض المنافقين: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 4 إذا فسر الغيب بالغيبة، أي: يؤمنون مع الغَيْبة عن حضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أصحابه رضي الله عنهم؛ أي: هدى للمؤمنين عن إخلاص، لا للمؤمنين عن نفاق. أنواع الكناية: التعريض والتلويح والرمز والإيماء والإشارة: وقال السكاكي5: الكناية تتفاوت إلى تعريض، وتلويح، ورمز، وإيماء،

وإشارة، فإن كانت عُرْضيّة فالمناسب أن تسمى تعريضا1، وإلا فإن كان بينها وبين المكني عنه مسافة متباعدة لكثرة الوسائط -كما في "كثير الرماد" وأشباهه- فالمناسب أن تسمى تلويحا؛ لأن التلويح هو أن تشير إلى غيرك عن بعد. وإلا فإن كان فيها نوع خفاء فالمناسب أن تسمى رمزا؛ لأن الرمز هو أن تشير إلى قريب منك على سبيل الخفية، قال: رمزت إلي مخافة من بعلها ... من غير أن تُبدي هناك كلامها2 وإلا, فالمناسب أن تسمى إيماء وإشارة؛ كقول أبي تمام يصف إبلا: أبين فما يزرن سوى كريم ... وحسبك أن يزرن أبا سعيد3 فإنه في إفادة أن أبا سعيد كريم غير خافٍ. وكقول البحتري: أوما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول4

فإنه في إفادة أن آل طلحة أماجد ظاهر. وكقول الآخر: إذا الله لم يَسْقِ إلا الكرام ... فسقى وجوه بني حنبل وسقى ديارهم باكرا ... من الغيث في الزمن الممحل1 وكقول الآخر: متى تخلو تميم من كريم ... ومسلمة بن عمرو من تميم2 ثم قال3: "والتعريض كما يكون كناية قد يكون مجازا؛ كقولك: "آذيتني فستعرف" وأنت لا تريد المخاطب، بل تريد إنسانا معه4، وإن أردتهما جميعا كان كناية"5.

تمرينات على الكناية

تمرينات على الكناية: تمرين1: وازن بين قول المتنبي في الكناية عن العفة: إني على شغفي بما في خُمرها ... لأعف عما في سراويلاتها وقول الشريف الرضي في الكناية عنها: أحن إلى ما يضمن الخمر والحلي ... وأصدف عما في ضمان المآزر تمرين2: 1- بين ما يطلب بالكناية من أقسامها الثلاثة في قول الشاعر: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفِطَن 2- وقفت امرأة على قيس بن سعد فقالت: "أشكو إليك قلة الفأر" فقال: "ما أحسن ما ورّت! املئوا بيتها خبزا وسمنا ولحما" فهل قول هذه المرأة كناية، أو تعريض، أو كناية وتعريض معا؟ تمرين3: 1- من أي الكنايتين القريبة والبعيدة قول الشاعر: أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلا قِبَلي؟ 2- بين الكناية ونوعها في قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] . تمرين4: 1- من أي أقسام الكناية قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] ؟ ولماذا أُوثرت على التصريح باسمها أو بامرأة العزيز؟ 2- وازن بين الكناية السابقة, والكناية في قول الشاعر: تقول التي من بينها خفّ مركبي ... عزيز علينا أن نراك تسير

تمرين5: 1- ما المكنيّ عنه؟ وما نوع كنايته في قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] ؟ 2- بين الكناية ونوعها في قول الشاعر: أخو لحم أعارك منه ثوبا ... هنيئا بالقميص المستجدّ وقد روي "أخو لحم" بالحاء المهملة. 3- بين ما يطلب بالكناية من أقسامها الثلاثة في قول الشاعر: أبيني أفي يُمنَى يديك جعلتني ... فأفرح أم صيرتني في شمالك تمرين6: 1- ما هو المطلوب من الكناية في قول الشاعر: قوم ترى أرحامهم يوم الوغى ... مشغوفة بمواطن الكتمان؟ 2- ما هو المطلوب من الكناية في قول الشاعر: ولا زال بيت المُلك فوقك عاليا ... تُشَيّد أطناب له وعمود؟ تمرين7: 1- ما هي فائدة تقسيم الكناية إلى ما يطلب بها موصوف, وما يطلب بها صفة, وما يطلب بها نسبة؟ 2- ما الفرق بين دلالة الحقيقة والمجاز والكناية ودلالة التعريض؟ وأيهما ألطف: دلالة التعريض أم دلالة الكناية؟ 3- هل الكناية العُرْضِيّة عين التعريض أو غيره؟ وإذا كانت غيره, فما الفرق بينهما مع توضيحه في مثال يجمعهما؟

تنبيه الموازنة بين المجاز والحقيقة والكناية والتصريح

تنبيه: الموازنة بين المجاز والحقيقة والكناية والتصريح أطبق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة1. وأن الاستعارة أبلغ من التصريح بالتشبيه. وأن التمثيل على سبيل الاستعارة أبلغ من التمثيل لا على سبيل الاستعارة. وأن الكناية أبلغ من الإفصاح بالذكر2. قال الشيخ عبد القاهر3: "وليس ذلك4؛ لأن الواحد من هذه الأمور يفيد زيادة في المعنى نفسه لا يفيدها خلافه، بل لأنه يفيد تأكيدا لإثبات المعنى لا يفيده خلافه، فليست فضيلة قولنا: "رأيت أسدا" على قولنا: "رأيت رجلا هو والأسد سواء في الشجاعة" أن الأول أفاد زيادة في مساواته للأسد في الشجاعة لم يفدها

الثاني، بل هي أن الأول أفاد تأكيدا لإثبات تلك المساواة له لم يفده الثاني، وليست فضيلة قولنا: "كثير الرماد" على قولنا: "كثير القِرَى" أن الأول أفاد زيادة لقراه لم يفدها الثاني، بل هي أن الأول أفاد تأكيدا لإثبات كثرة القرى له لم يفده الثاني. والسبب في ذلك أن الانتقال في الجميع1 من الملزوم إلى اللازم؛ فيكون إثبات المعنى به كدعوى الشيء ببينة، ولا شك أن دعوى الشيء ببينة أبلغ في إثباته من دعواه بلا بينة. ولقائل أن يقول: قد تقدم أن الاستعارة أصلها التشبيه، وأن الأصل في وجه الشبه أن يكون في المشبه به أتم منه في المشبه وأظهر؛ فقولنا: "رأيت أسدا" يفيد للمرئي شجاعة أتم مما يفيده قولنا: "رأيت رجلا كالأسد"؛ لأن الأول يفيد شجاعة الأسد، والثاني شجاعة دون شجاعة الأسد؟! ويمكن أن يجاب عنه بحمل كلام الشيخ على أن السبب في كل صورة ليس هو ذلك، لا أن ذلك ليس بسبب في شيء من الصور أصلا2 "هذا آخر الكلام في الفن الثاني"

تقسيم السكاكي للبلاغة

تقسيم السكاكي للبلاغة: البلاغة والفصاحة عند السكاكي وذكر السكاكي1 بعد الفراغ منه2 تفسير البلاغة بما نقلناه عنه في صدر الكتاب3، ثم قسم الفصاحة إلى: معنوية ولفظية. وفسر المعنوية بخلوص المعنى عن التعقيد، وعَنَى بالتعقيد اللفظي على ما سبق تفسيره4. وفسر اللفظية بأن تكون الكلمة عربية أصلية، وقال: "وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء الموثوق بعربيتهم أَدْوَر، واستعمالهم لها أكثر، لا مما أحدثه المولدون، ولا مما أخطأت فيه العامة، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة، وأن تكون سليمة عن التنافر". فجعل الفصاحة غير لازمة للبلاغة5، وحصر مرجع البلاغة في الفنين6، ولم يجعل الفصاحة مرجعا لشيء منهما7.

ثم قال: "وإذ قد وقفت على البلاغة والفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ما عسى يسترها عنك"، وذكر ما أورده الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1, وزاد عليه نكتا لا بأس بها، فرأيت أن أورد تلخيص ما ذكره, جاريا على اصطلاحه في معنى البلاغة والفصاحة: قال: أما النظر فيها من جهة علم البيان فهو أنه -تعالى- لما أراد أن يبيِّن معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن يغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن يقضى أمر نوح -وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه- فقُضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى؛ بنى الكلام على تشبيه المراد منه2 بالمأمور الذي لا يتأتى منه -لكمال هيبته- العصيان، وتشبيه تكوين المراد3 بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود، تصويرا لاقتداره تعالى، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، كأنهم عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام؛ فقال تعالى: {وَقِيلَ} على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل4، وجعل قرينة المجاز خطاب الجماد، وهو: يا أرض ويا سماء، ثم قال: {يَا أَرْضُ} و {وَيَا سَمَاءُ} , مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه

المذكور1. ثم استعار لغَوْر الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم بجامع الذهاب إلى مقر خفي2, واستتبع ذلك تشبيه الماء بالغذاء على طريق الاستعارة بالكناية؛ لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزرع والأشجار، وجعل قرينة الاستعارة لفظ "ابلعي"3؛ لكونه موضوعا للاستعمال في الغذاء دون الماء، ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره4، ثم قال: "ماءك" بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز؛ تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واستعار لحبس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل؛ للشبه بينهما في عدم ما كان، وخاطب في الأمرين5 ترشيحا للاستعارة، ثم قال: " {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فلم يصرح بالغائض والقاضي والمسوي والقائل، كما لم يصرح بقائل {يَا أَرْضُ} و {وَيَا سَمَاءُ} سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية أن تلك الأمور العظام6 لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا تُكتنه، قهار لا يُغالَب؛ فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون الفاعل لشيء من ذلك غيره. ثم ختم الكلام بالتعريض لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل7 -ظلما

لأنفسهم- ختْم إظهار لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه1. وأما النظر فيها من حيث علم المعاني -وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها، وجهة كل تقديم وتأخير بين جملها- فذلك أنه اختير "يا" دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر استعمالا، ولدلالتها على بعد المنادَى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، ويؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرض بالكسر؛ تجنبا لإضافته التشريف تأكيدا للتهاون. ولم يقل: "يا أيتها الأرض" للاختصار مع الاحتراز عما في "أيتها" من تكلف التنبيه غير المناسب للمقام؛ لكون المخاطَب غير صالح للتنبيه على الحقيقة2. واختير لفظ "أرض" دون سائر أسمائها؛ لكونه أخف وأدور، واختير لفظ السماء لمثل ذلك مع قصد المطابقة3. واختير {ابْلَعِي} على "ابتلعي" لكونه أخصر, ولمجيء حظ التجانس بينه وبين {أَقْلِعِي} أوفر4، وقيل: {مَاءَكِ} بالإفراد دون الجمع؛ لدلالة الجمع على الاستكثار الذي يأباه مقام إظهار الكبرياء، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء، ولم يحذف مفعول {ابْلَعِي} لئلا يفهم ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وغيرها، نظرا إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء، ثم إذ بيّن المراد اختصر الكلام على {أَقْلِعِي} فلم يقل: "أقلعي عن إرسال الماء" احترازا عن الحشو المستغنَى عنه من حيث الظاهر5 وهو الوجه في أنه لم يقل: "يا أرض ابلعي ماءك فبلعتْ، ويا سماء أقلعي فأقلعتْ". واختير {وَغِيضَ الْمَاءُ} على "غُيِّض" المشددة؛ لكونه أخصر وأخف وأوفق

لـ "قيل"1، وقيل: {الْمَاءُ} دون أن يقال: "ماء طوفان السماء"، وكذا {الْأَمْرُ} دون أن يقال: "أمر نوح" للاختصار، ولم يقل: "سُوِّيتْ على الجودي" بمعنى أُقِرَّت على نحو: "قِيل وغِيض وقُضي" في بناء الفعل للمفعول؛ اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} مع قصد الاختصار2. ثم قيل: {بُعْدًا لِلْقَوْمِ} دون أن يقال: "ليبعد القوم" طلبا للتوكيد مع الاختصار، وهو نزول {بُعْدًا} منزلة "ليبعدوا بعدا" مع إفادة أخرى وهي استعمال اللام3 مع "بعدا" الدال على معنى أن البعد حق لهم، ثم أُطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم بتكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى الكَلِم4, وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل؛ فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل: "يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي" دون أن يقال: "ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء" جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه؛ ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح5، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لابتداء الطوفان منها ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، ثم أتبعها قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} لاتصاله بقصة الماء، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي: أنجز الوعد من إهلاك الكفرة وإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة، ثم ختمت القصة بما خُتمت. هذا كله نظر في الآية من جانب البلاغة، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة

المعنوية فهي -كما ترى- نَظْم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخّصة مبينة، لا تعقيد يُعْثِر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يُشيك الطريق إلى المرتاد، بل ألفاظها تُسابق معانيها، ومعانيها تُسابق ألفاظها. وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية؛ فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذَبات1، سَلِسَة على الأسَلات2، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة، والله أعلم.

الفهرس

الفهرس تعريف علم البيان "379-564" 379 380 أقسام الدلالة "384-455" الباب الأول: القول في التشبيه 384 تعريف التشبيه 385 تأثير التشبيه 387 أسباب تأثير التشبيه 391 أركان التشبيه 391 طرفا التشبيه 394 وجه التشبيه 398 الوجه الداخل في الطرفين, والخارج عنهما 399 الوجه الواحد وغيره, والحسي والعقلي 400 الواحد الحسي, والواحد العقلي 401 المركب الحسي 408 المركب العقلي 409 دقيقة في الوجه المركب 410 المتعدد الحسي، المتعدد العقلي 411 المتعدد المختلف، أداة التشبيه 413 الغرض من التشبيه: ما يعود إلى المشبه من أغراض التشبيه 423 أقسام التشبيه باعتبار طرفيه 423 تشبيه المفرد بالمفرد

25 تشبيه المركب بالمركب 428 تشبيه المركب بالمفرد 428 التشبيه الملفوف والمفروق 429 تشبيه التسوية والجمع 430 أقسام التشبيه باعتبار وجهه 430 التمثيل 432 غير التمثيل، المجمل 434 المفصل 436 القريب المبتذل 437 البعيد الغريب 445 التشبيه البعيد هو التشبيه البليغ 446 تحول القريب إلى بعيد 449 أقسام التشبيه باعتبار أداته 449 المؤكد 450 المرسل 451 أقسام التشبيه باعتبار الغرض 451 المقبول, المردود 452 خاتمة: مراتب التشبيه "456-537" الباب الثاني: الحقيقة والمجاز 426 تعريف الحقيقة 457 تعريف الوضع 459 إنكار الوضع

458 تعريف المجاز وأقسامه 460 أقسام الحقيقة والمجاز والمفرد, واشتقاق الحقيقة والمجاز 462 تقسيم المجاز المفرد إلى مرسل, واستعارة المرسل وعلاقاته 462 علاقة السببية والمجاورة 465 علاقة الجزئية 466 علاقة الكلية 467 علاقة السببية أيضا 468 علاقة المسببية 470 علاقة اعتبار ما كان, علاقة اعتبار ما يكون 470 المحلية 471 علاقة الحالية، علاقة الآلية 472 المرسل الخالي عن الفائدة والمفيد 475 الاستعارة: الاستعارة التصريحية: 477 الفرق بين الاستعارة والتشبيه المؤكد 482 التجريد ليس استعارة ولا تشبيها 483 الاستعارة مجاز لغوي لا عقلي 485 التوفيق بين الادعاء في الاستعارة, والقرينة المانعة 487 الفرق بين الاستعارة والكذب 487 الاستعارة لا تدخل في الأعلام 488 قرينة الاستعارة 489 تقسيمات الاستعارة 489 أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين

492 أقسام الاستعارة باعتبار الجامع 492 ما يدخل جامعها في مفهوم الطرفين 494 ما يخرج جامعها عن مفهوم الطرفين 498 أقسام الاستعارة, باعتبار الطرفين والجامع 498 استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي 499 استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي 500 استعارة محسوس لمحسوس بوجه مختلف 501 استعارة معقول لمعقول 501، 502 استعارة محسوس لمعقول, استعارة معقول لمحسوس 502 أقسام الاستعارة باعتبار المستعار: 502 الأصلية والتبعية 506 أقسام الاستعارة باعتبار الخارج: المطلقة 506 المجردة 508 المرشحة 512 المجاز المركب, أو التمثيل 519 فصل: الاستعارة المكنية والتخييلية 523 فصل: اعتراضات على السكاكي: الاعتراض عليه في تعريف الحقيقة والمجاز 525 الاعتراض عليه في جعل التمثيل من المجاز المفرد 526 الاعتراض عليه في تعريف التخييلية 529 الاعتراض عليه في تعريف المكنية 530 الاعتراض عليه في ردّ التبعية إلى المكنية

532 فصل: شروط حُسن الاستعارة 534 فصل: المجاز بالحذف والزيادة 535 إنكار المجاز بالحذف والزيادة 536 تمرينات على المجاز المرسل والاستعارة "538-554" الباب الثالث: القول في الكناية 538 تعريف الكناية 539 أقسام الكناية 540 المطلوب بها غير صفة ولا نسبة 541 المطلوب بها صفة 546 المطلوب بها نسبة 550 الكناية العرضية 550 أنواع الكناية: التعريض والتلويح والرمز والإيماء والإشارة 553 تمرينات على الكناية 555 تنبيه: الموازنة بين المجاز والحقيقة والكناية والتصريح 557 البلاغة والفصاحة عند السكاكي 563 الفهرس

المجلد الرابع

المجلد الرابع الفن الثالث: علم البديع مدخل تعريف علم البديع: وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام1، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة2. تقسيم المحسنات إلى معنوية ولفظية: وهذه الوجوه ضربان: ضرب يرجع إلى المعنى3، وضرب يرجع إلى اللفظ4.

أقسام المحسن المعنوي

أقسام المحسن المعنوي: المطابقة أو الطباق: أما المعنوي فمنه المطابقة1، وتسمى الطباق والتضاد أيضا؛ وهي: الجمع بين

المتضادين؛ أي: معنيين متقابلين في الجملة1، ويكون ذلك إما بلفظين من نوع واحد اسمين، كقوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18] ، أو فعلين؛ كقوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] ، وقول النبي عليه السلام للأنصار: "إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع"، وقول أبي صخر الهذلي: أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر2 وقول بشار: إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم3 أو حرفين؛ كقوله تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 4 [البقرة: 286] . وقول الشاعر: على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا علي ولا ليا5

وإما بلفظين من نوعين؛ كقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أي: ضالا فهديناه، وقول طفيل: بساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول1 ومن لطيف الطباق قول ابن رشيق: وقد أطفئوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عَجَاج2 وكذا قول القاضي الأرَّجانيّ: ولقد نزلت من الملوك بماجد ... فقر الرجال إليه مفتاح الغِنَى3 وكذا قول الفرزدق: لعن الإله بني كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يَفُون لجار يستيقظون إلى نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار4 وفي البيت الأول تكميل حسن5؛ إذ لو اقتصر على قوله: "لا يغدرون" لاحتمل الكلام ضربا من المدح؛ إذ تجنب الغدر قد يكون عن عفة؛ فقال: "ولا يفون" ليفيد أنه للعجز، كما أن ترك الوفاء للؤم، وحصل مع ذلك إيغال حسن6؛ لأنه لو اقتصر على قوله: "لا يغدرون ولا يفون" تم المعنى الذي قصده، ولكنه لما احتاج إلى القافية أفاد بها معنى زائدا، حيث قال: "لجار"؛ لأن ترك الوفاء للجار أشد قبحا من ترك الوفاء لغيره.

الطباق الظاهر والخفي

الطباق الظاهر والخفي: والطباق قد يكون ظاهرا كما ذكرنا، وقد يكون خفيا نوع خفاء؛ كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25] ؛ طابق بين "أغرقوا" و"أدخلوا نارا". وقول أبي تمام: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قَنَا الخَطّ إلا أن تلك ذوابل1 طابق بين "هاتا" و"تلك"2. طباق الإيجاب وطباق السلب: والطباق ينقسم إلى طباق الإيجاب كما تقدم، وإلى طباق السلب؛ وهو الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي، أو أمر ونهي؛ كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 6، 7] ، وقوله: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] . وقول الشاعر:

ونُنكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول1 وقول البحتري: يقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إلي الشوق من حيث أعلم2 وقول أبي الطيب: ولقد عرفت وما عرفت حقيقة ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا3 وقول الآخر: خلقوا وما خلقوا لمكْرُمَة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا4 قيل: ومنه5 قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ؛ أي: لا يعصون الله في الحال، ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل. وفيه نظر؛ لأن العصيان يضادّ فعل المأمور به، فكيف يكون الجمع بين نفيه وفعل المأمور به تضادا6؟!

الطباق المسمى تدبيجا

الطباق المسمى تدبيجا: ومن الطباق1 قول أبي تمام: تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر2 وقول ابن حيّوس: طالما قلت للمسائل عنكم ... واعتمادي هداية الضلال إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقَهم يوم نائل أو نِزَال تلق بيض الوجوه سود مثار النـ ... ـقع خضر الأكناف حمر النصال3 وقول الحريري: "فمذ ازوَرّ المحبوب الأصفر4، واغبَرَّ العيش

الأخضر1، اسودّ يومي الأبيض، وابيض فَوْدي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق2؛ فيا حبذا الموت الأحمر"3. ومن الناس من سمى نحو ما ذكرناه تدبيجا، وفسره بأن يذكر في معنى من المدح أو غيره ألوان بقصد الكناية أو التورية4؛ أما تدبيج الكناية فكبيت أبي تمام وبيتي ابن حيوس، وأما تدبيج التورية فكلفظ "الأصفر" في قول الحريري5.

ما يلحق بالطباق

ما يلحق بالطباق: ويلحق بالطباق شيئان: أحدهما1 نحو قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ؛ فإن الرحمة مسبَّبة عن اللين2 الذي هو ضد الشدة، وعليه قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] , فإن ابتغاء الفضل يستلزم الحركة المضادة للسكون، والعدول عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل؛ لأن الحركة ضربان: حركة لمصلحة، وحركة لمفسدة، والمراد الأولى لا الثانية. ومن فاسد هذا الضرب قول أبي الطيب: لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو مساءة مجرم؟ 3 فإن ضد المحب هو المبغض، والمجرم قد لا يكون مبغضا، وله وجه بعيد4. والثاني ما يسمى إيهام التضاد5 كقول دِعْبل: لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى6 وقول أبي تمام: ما إن ترى الأحساب بيضا وُضّحا ... إلا بحيث ترى المنايا سودا7 وقوله أيضا في الشيب: له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع8 وقوله: وتنظري خَبَب الرِّكَاب ينُصّها ... محيي القَرِيض إلى مميت المال9

المقابلة ومعناها

المقابلة ومعناها: ودخل في المطابقة ما يُخَص باسم المقابلة؛ وهو أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معانٍ متوافقة، ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب، والمراد بالتوافق خلاف التقابل1. وقد تتركب المقابلة من طباق وملحق به. مثال مقابلة اثنين باثنين قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] وقول النبي عليه السلام: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزَع من شيء إلا شانه". وقول الذبياني: فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا2

وقول الآخر: فواعجبا كيف اتفقنا؛ فناصح ... وفيّ، ومطويّ على الغِل غادر1 فإن الغل ضد النصح، والغدر ضد الوفاء. ومثال مقابلة ثلاثة بثلاثة, قول أبي دلامة: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل!! 2 وقول أبي الطيب: فلا الجود يفني المال والجد مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجد مدبر3 ومثال مقابلة أربعة بأربعة قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5-10] ؛ فإن المراد بـ "استغنى" أنه زهد فيما عند الله كأنه مستغنٍ عنه؛ فلم يتق، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة؛ فلم يتق4. قيل: وفي قول أبي الطيب: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي5

مقابلة خمسة بخمسة؛ على أن المقابلة الخامسة بين "لي" و"بي". وفيه نظر؛ لأن اللام والباء فيهما صلتا الفعلين، فهما من تمامهما. وقد رجح بيت أبي الطيب على بيت أبي دلامة بكثرة المقابلة، مع سهولة النظم، وبأن قافية هذا ممكنة، وقافية ذاك مستدعاة؛ فإن ما ذكره غير مختص بالرجال1، وبيت أبي دلامة على بيت أبي الطيب بجودة المقابلة؛ فإن ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح. ومن لطيف المقابلة ما حكي عن محمد بن عمران الطلحي إذ قال له المنصور: بلغني أنك بخيل. فقال: "يا أمير المؤمنين، ما أجمد في حق، ولا أذوب في باطل". وقال السكاكي2: المقابلة أن تجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وضديهما، ثم إذا شرطت هنا شرطا شرطت هناك ضده3؛ كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآيتين [الليل: 5، 6] ، لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والإبقاء والتصديق، جعل ضده وهو التعسير مشتركا بين أضداد تلك؛ وهي المنع والاستغناء والتكذيب.

مراعاة النظير أو التناسب

مراعاة النظير أو التناسب: ومنه مراعاة النظير؛ وتسمى التناسب والائتلاف والتوفيق أيضا، وهي أن يجمع في الكلام بين أمر وما يناسبه، لا بالتضاد1؛ كقوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] ، وقول بعضهم للمهلبي الوزير: "أنت أيها الوزير إسماعيلي الوعد، شعيبي التوفيق، يوسفي العفو، محمدي الخُلُق"2. وقول أسيد بن عنقاء3 الفزاري: كأن الثريا علقت في جبينه ... وفي خده الشعرى وفي وجهه البدر4 وقول الآخر في فرس: من جُلّنَار ناضر خده ... وأذنه من ورق الآس5 وقول البحتري في صفة الإبل الأنضاء: كالقسي المعطفات بل الأسـ ... ـهم مَبْرِية بل الأوتار6 وقول ابن رشيق:

أصح وأقوى ما سمعناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم1 فإنه ناسب فيه بين الصحة والقوة، والسماع والخبر المأثور، والأحاديث والرواية، ثم بين السيل والحيا، والبحر وكف تميم، مع ما في البيت الثاني من صحة الترتيب في العنعنة؛ إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الأحاديث؛ فإن السيول أصلها المطر، والمطر أصله البحر على ما يقال2؛ ولهذا جعل كف الممدوح أصلا للبحر مبالغة. ما يسمى من التناسب تشابه الأطراف: ومن مراعاة النظير ما يسميه بعضهم تشابه الأطراف, وهو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى؛ كقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] ، فإن اللطف يناسب ما لا يُدرَك بالبصر3، والخبرة تناسب من يدرك شيئا؛ فإن من يدرك شيئا يكون خبيرا به، وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج: 64] ، قال: {الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} لينبه على أن ما له ليس لحاجة، بل هو غني عنه جواد به، فإذا جاد به حمده المنعَم عليه. ومن خفيّ هذا الضرب4 قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ، فإن قوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} يوهم أن الفاصلة "الغفور الرحيم"، ولكن إذا أُنعم النظر عُلم أنه يجب أن تكون ما عليه التلاوة؛ لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه؛ فهو العزيز؛ لأن "العزيز" في صفات الله هو الغالب، من قولهم: "عزه يعزه عزا" إذا غلبه، ومنه المثل: "من عَزّ بَزّ" أي: من غلب سلب5، ووجب أن يوصف بالحكيم أيضا؛ لأن الحكيم من يضع الشيء في محله، والله تعالى كذلك، إلا أنه قد يخفى وجه الحكمة في بعض أفعاله؛ فيتوهم الضعفاء أنه خارج عن الحكمة؛ فكان في الوصف بـ "الحكيم" احتراس حسن6، أي: وإن تغفر لهم -مع استحقاقهم العذاب- فلا معترض عليك لأحد في ذلك، والحكمة فيما فعلته.

إيهام التناسب

إيهام التناسب: ومما يُلْحَق بالتناسب نحو قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 5، 6] ، ويسمى: إيهام التناسب1. إرجاع التفويف إلى التناسب والمطابقة: وأما ما يسميه بعض الناس التفويف, وهو أن يؤتى في الكلام بمعانٍ متلائمة في جمل مستوية المقادير أو متقاربتها؛ كقول من يصف سحابا: تسربل وشيا من خُزُوز تطرّزت ... مطارفها طُرْزا من البرق كالتبر فوشي بلا رقْم ونقش بلا يد ... ودمع بلا عين وضحك بلا ثغر2

وكقول عنترة: إن يلحقوا أَكْرُر وإن يستلحقوا ... أشدد، وإن نزلوا بضنك أنزل1 وكقول ابن زيدون: تِهْ أحتمل، واحتكم أصبر، وعز أَهُنْ ... ودِلّ أخضع، وقل أسمع، ومر أطع2 وكقول ديك الجن: احْلُ وامرُرْ وضر وانفع ولِنْ واخـ ... ـشن ورِشْ وابْرِ وانتدب للمعالي3 فبعضه من مراعاة النظير4، وبعضه من المطابقة5.

الإرصاد أو التسهيم

الإرصاد أو التسهيم: ومنه الإرصاد، ويسمى التسهيم أيضا1. وهو أن يجعل قبل العَجُز من الفقرة أو البيت ما يدل على العَجُز إذا عُرف الرَّوِيّ2. كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 3 [العنكبوت: 40] وقوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19] . وقول زهير: سَئِمْتُ تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم4 وقول الآخر: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع5 وقول البحتري: أبكيكما دمعا ولو أني على ... قدر الجوى أبكي بكيتكما دما6 وقوله: أحَلّت دمي من غير جُرْم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي فليس الذي حللتِهِ بمُحَلَّل ... وليس الذي حرمتِهِ بحرام7

المشاكلة

المشاكلة: ومنه المشاكلة، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته1؛ تحقيقا، أو تقديرا. أما الأول فكقوله: قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا2 كأنه قال: خِيطوا لي. وعليه قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 3 [المائدة: 116] , وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 4 [الشورى: 40] . ومنه قول أبي تمام: من مُبْلِغ أفناء يعرب كلها ... أني بنيت الجار قبل المنزل5

وشهد رجل عند شريح فقال: "إنك لَسَبْط الشهادة"1 فقال الرجل: "إنها لم تجعَّد عني"2؛ فالذي سوغ بناء الجار وتجعيد الشهادة هو مراعاة المشاكلة، ولولا بناء الدار لم يصح بناء الجار، ولولا سبوطة الشهادة لامتنع تجعيدها. ومنه قول بعض العراقيين في قاضٍ شهد عنده برؤية هلال الفطر، فلم يقبل شهادته: أترى القاضي أعمى ... أم تراه يتعامى سرق العيد كأن الـ ... ـعيد أموال اليتامى3 وأما الثاني: فكقوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138] وهو مصدر مؤكد4 منتصب عن قوله: {آمَنَّا بِاللَّهِ} ، والمعنى "تطهير الله"؛ لأن الإيمان يطهر النفوس، والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية, ويقولون: هو تطهير لهم. فأُمر المسلمون بأن يقولوا لهم: قولوا آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مِثل صبغتنا، وطهّرنا به تطهيرا لا مثل تطيرنا. أو يقول المسلمون: صبغنا الله بالإيمان صبغته ولم يصبغ صبغتكم، وجيء بلفظ الصبغة5 للمشاكلة، وإن لم يكن قد تقدم لفظ الصبغ؛ لأن قرينة الحال التي هي سبب النزول من غمس النصارى أولادهم في الماء الأصفر دلت على ذلك؛ كما تقول لمن يغرس الأشجار: "اغرس كما يغرس فلان" تريد رجلا يصطنع الكرام6.

الاستطراد

الاستطراد: ومنه الاستطراد، وهو الانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به لم يُقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني1؛ كقول الحماسي: وإنا لقوم ما نرى القتيل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول2 وقول الآخر: إذا ما اتقى اللهَ الفتى وأطاعه ... فليس به بأس وإن كان من جَرْم3 وعليه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] . قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر السوءات وخصف الورق عليها؛ إظهارا للمنة فيما خلق الله من اللباس، ولما في العُرْي وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى. إيهام الاستطراد: هذا أصله4، وقد يكون الثاني هو المقصود، فيُذكر الأول قبله ليُتوصل إليه، كقول أبي إسحاق الصابي: إن كنت خنتُكَ في المودة ساعة ... فذممتُ سيف الدولة المحمودا وزعمت أن له شريكا في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا قَسَمًا لو أني حالف بغَموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا5 ولا بأس بأن يسمى هذا إيهام الاستطراد6.

المزاوجة: ومنه المزاوجة، وهي أن يُزَاوَج بين معنيين1 في الشرط والجزاء2, كقول البحتري: إذا ما نهى الناهي فلَجَّ بي الهوى ... أصاختْ إلى الوشي فلج بها الهَجْر3 وقوله أيضا: إذا حتربت يوما ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها4

العكس والتبديل

العكس والتبديل: ومنه العكس والتبديل؛ وهو أن يقدم في الكلام جزء ثم يؤخر1. ويقع على وجوه: منها: أن يقع بين أحد طرفي جملة وما أُضيف إليه؛ كقول بعضهم: "عادات السادات سادات العادات". ومنها: أن يقع بين متعلقي فعلين في جملتين؛ كقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31] , وكقول الحماسي: فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا2 : أن يقع بين لفظين في طرفي جملتين؛ كقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] , وقوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 52] , وقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] . وقول الحسن البصري: "إن من خوّفك حتى تلقى الأمن خير ممن أمّنك حتى تلقى الخوف". وقول أبي الطيب: فلا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده3 وقول الآخر:

الرجوع

الرجوع: ومنه الرجوع، وهو العَوْد على الكلام السابق بالنقض لنكتة1؛كقول زهير: قف بالديار التي لم يعفها القِدَم ... بلى وغيّرها الأرواح والدِّيَم2 قيل: لما وقف على الديار تسلطت عليه كآبة أذهلته، فأخبر بما لم يتحقق، فقال: "لم يعفها القدم"، ثم ثاب إليه عقله فتدارك كلامه فقال: "بلى وغيّرها الأرواح والديم". وعلى هذا بيت الحماسة: أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليكِ! وكلا ليس منكِ قليل3 ونحوه: فأف لهذا الدهر لا بل لأهله4

التورية أو الإيهام

التورية أو الإيهام: ومنه التورية، وتسمى الإيهام أيضا، وهو أن يطلق لفظ له معنيان1: قريب، وبعيد2، ويراد به البعيد منهما3. وهي ضربان: مجردة، ومرشحة. أما المجرد: فهي التي لا تجامع شيئا مما يلائم المورَّى به -أعني: المعنى القريب4- كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 [طه: 5] . وأما المرشحة: فهي التي قُرن بها ما يلائم المورَّى به: إما قبلها: كقوله تعالى:

{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي: بقوة1. قيل: ومنه قول الحماسي: فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر فما أسلمتْنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضينا الجفون على وِتْر2 فإن الإغضاء مما يلائم جفن العين لا جفن السيف، وإن كان المراد به إغماد السيوف؛ لأن السيف إذا أُغمِد انطبق الجفن عليه، وإذا جُرِّد انفتح الخلاء الذي بين الدفتين. وإما بعدها: كلفظ "الغزالة" في قول القاضي الإمام أبي الفضل عياض في صيفية باردة: كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر تَمُّوز أنواعا من الحُلَل أو الغزالة من طول المدى خَرِفت ... فما تُفرِّق بين الجَدْي والحَمَل3

واعلم أن التوهم1 ضربان: ضرب يستحكم حتى يصير اعتقادا2، كما في قوله: حملناهم طرا على الدُّهْم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان مَلَابس3 وضرب لا يبلغ ذلك المبلغ، ولكنه شيء يجري في الخاطر وأنت تعرف حاله4، كما في قول ابن الربيع: لولا التطير بالخلاف وأنهم ... قالوا: مريض لا يعود مريضا لقضيت نَحْبِي في فنائك ... خدمة لأكون مندوبا قضى مفروضا5 ولا بد من اعتبار هذا الأصل6 في كل شيء بُنِي على التوهم, فاعلم. وقال السكاكي7: "أكثر متشابهات القرآن8 من التورية".

الاستخدام

الاستخدام: ومنه الاستخدام، وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما، ثم بضميره معناه الآخر. أو يراد بأحد ضميريه أحدهما، وبالآخر الآخر1. فالأول كقوله: إن نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا2 أراد بالسماء الغيث، وبضميرها النبت3. والثاني كقول البحتري: فسقى الغَضَا والساكنِيهِ وإن هم ... شَبُّوه بين جوانح وضلوع4 أراد بضمير الغضا في قوله: "والساكنيه" المكان، وفي قوله: "شبوه" الشجر5.

اللف والنشر

اللف والنشر: ومنه اللف والنشر، وهو ذكر متعدد على جهة التفصيل أو الإجمال1، ثم "ذكر" ما لكل واحد من غير تعيين2؛ ثقة بأن السامع يرده إليه. فالأول3 ضربان؛ لأن النشر إما على ترتيب اللف، كقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 4 [القصص: 73] . وقول ابن حيّوس: فعل المُدَام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه5 وقول ابن الرومي: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم

فيها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم1 وإما على غير ترتيبه، كقول ابن حيوس: كيف أسلو وأنتِ حِقْف وغصن ... وغزال لَحْظا وقَدّا ورِدْفا2 وقول الفرزدق: لقد خنت قوما لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملا ثِقْل مغرم3 لألفيت فيهم معطيا أو مطاعنا ... وراءك شَزْرا بالوشيج المقوَّم4 والثاني5 كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] ؛ فإن الضمير في "قالوا" لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، والمعنى: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فَلَفّ بين القولين5 ثقة بأن السامع يردّ إلى كل فريق قوله، وأمنا من الإلباس؛ لِمَا عُلم من التعادي بين الفريقين، وتضليل كل واحد منهما لصاحبه.

الجمع

الجمع: ومنه الجمع، وهو أن يُجمَع بين شيئين أو أشياء في حكم واحد1 كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] . وقول الشاعر: إن الشباب والفراغ والجِدَة ... مفسدة للمرء أي مفسده2 ومنه قول محمد بن وهيب: ثلاثة تُشرق الدنيا ببهجتها: ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر3 التفريق: ومنه التفريق، وهو إيقاع تباين4 بين أمرين من نوع واحد في المدح أو غيره؛ كقوله: ما نَوَال الغَمَام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بَدْرَة عين ... ونوال الغمام قَطْرة ماء5 ونحو قوله: من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شكلين أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين6

التقسيم

التقسيم: ومنه التقسيم؛ وهو ذكر متعدد، ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين1؛ كقول أبي تمام: فما هو إلا الوحي أو حدّ مرهف ... تميل ظباه أخدعي كل مائل2 فهذا دواء الداء من كل عالم ... وهذا دواء الداء من كل جاهل3 وقول الآخر: ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد4 وقال السكاكي5: وهو أن تذكر شيئا ذا جزأين أو أكثر، ثم تضيف إلى كل واحد من أجزائه ما هو له عندك؛ كقوله: أديبان في بلخ لا يأكلان ... إذا صحبا المرء غير الكبد فهذا طويل كظل القناة ... وهذا قصير كظل الوتد6 وهذا يقتضي أن يكون التقسيم أعم من اللف والنشر7.

الجمع مع التفريق

الجمع مع التفريق: ومنه الجمع مع التفريق؛ وهو أن يُدخَل شيئان في معنى واحد، ويُفرَّق بين جهتي الإدخال؛ كقوله: فوجهك كالنار في ضوئها ... وقلبي كالنار في حرها1 شبه وجه الحبيب وقلب نفسه بالنار، وفرّق بين وجهي المشابهة. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] .

الجمع مع التقسيم

الجمع مع التقسيم: ومنه الجمع مع التقسيم، وهو جمع متعدد تحت حكم، ثم تقسيمه، أو تقسيمه ثم جمعه؛ فالأول كقول أبي الطيب: حتى أقام على أرباض خَرْشَنة ... تشقى به الروم والصلبان والبِيَع1 للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا2 جمع في البيت الأول شقاء الروم بالممدوح على سبيل الإجمال؛ حيث قال: "تشقى به الروم"، ثم قسم في الثاني وفصله. والثاني كقول حسان: قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع3 قسم في البيت الأول صفة الممدوحين إلى ضر الأعداء ونفع الأولياء، ثم جمعهما في البيت الثاني حيث قال: "سجية تلك". ومن لطيف هذا الضرب قول الآخر: لو أن ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا لكن رأيت الليالي غير تاركة ... ما سر من حادث أو ساء مطردا فقد سكنت إلى أني وأنكم ... سنستجدّ خلاف الحالتين غدا4 فقوله: "خلاف الحالتين" جمع لما قسّم لطيف، وقد ازداد لطفا بحسن ما بناه عليه من قوله: "فقد سكنتُ إلى أني وأنكم".

الجمع مع التفريق والتقسيم

الجمع مع التفريق والتقسيم: ومنه الجمع مع التفريق والتقسيم1؛ كقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 105-108] . أما الجمع ففي قوله: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فإن قوله: {نَفْسٌ} متعدد معنًى؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم، وأما التفريق ففي قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} ، وأما التقسيم ففي قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} إلى آخر الآية الثانية. وقول ابن شرف القيرواني: لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن فللخامل العَلْيا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العتبى وللخائف الأمن2

التقسيم بمعنيين آخرين

التقسيم بمعنيين آخرين: وقد يطلق التقسيم على أمرين أحدهما: أن يذكر أحوال الشيء مضافا1 إلى كل حال ما يليق بها2؛ كقول أبي الطيب: سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مُرْد3 ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دُعُوا ... كثير إذا شدوا قليل إذا عُدّوا4 وقوله أيضا: بدت قمرا ومالت خُوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا5 ونحوه قول الآخر: سفرن بدورا وانتقبن أهلة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا6

والثاني: استيفاء أقسام الشيء بالذكر؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32] ، وقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49, 50] . ومنه ما حُكي عن أعرابي وقف على حلقة الحسن1 فقال: "رحم الله من تصدق من فضل، أو آسى من كَفَاف، أو آثر من قوت" فقال الحسن: "ما ترك لأحد عذرا". ومثاله من الشعر قول زهير: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي2 وقول طريح: إن يعلموا الخير يُخفوه وإن علموا ... شرا أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا3 وقول أبي تمام في الأفشِين4 لما أُحرق: صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجار5 وقول نصيب: فقال فريق القوم: لا، وفريقهم: ... نعم، وفريق: لَيْمُنُ الله ما ندري6 فإنه ليس في أقسام الإجابة غير ما ذُكر. وقول آخر: فهَبْها كشيء لم يكن، أو كنازح ... به الدار، أو من غيّبته المقابر7

التجريد

التجريد: ومنه التجريد، وهو أن يُنتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله في تلك الصفة؛ مبالغة في كمالها فيه1. وهو أقسام: منها نحو قولهم2: "لي من فلان صديق حميم" أي: بلغ من الصداقة مبلغا صح

معه أن يستخلص منه صديق آخر. ومنها نحو قولهم1: "لئن سألت فلانا لتسألن به البحر". ومنها نحو قول2 الشاعر: وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى ... بمستلئم مثل الفَنِيق المُرَحَّل3 أي: تعدو بي، ومعي من نفسي -لكمال استعدادها للحرب- مستلئم؛ أي: لابس لأمة. ومنها: قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} 4 [فصلت: 28] ؛ فإن جهنم -أعاذنا الله منها- هي دار الخلد، لكن انتُزع منها مثلها، وجعل معدا فيها للكفار؛ تهويلا لأمرها. ومنها نحو قول5 الحماسي: فلئن بقيت لأرحلَنَّ بغزوة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم6

وعليه قراءة من قرأ: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] بالرفع، بمعنى: فحصلت سماء وردة. وقيل: تقدير الأول: "أو يموت مني كريم"1، والثاني: "فكانت منه2 وردة كالدهان"، وفيه نظر3. ومنها: نحو قوله4: يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسا بكف من بخلا5 ونحوه قول الآخر: إن تلقني لا ترى غيري بناظرة ... تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد6 ومنها: مخاطبة الإنسان نفسه؛ كقول الأعشى: ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل7 وقول أبي الطيب: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليُسعد النطق إن لم يُسعد الحال8

المبالغة المقبولة

المبالغة المقبولة: ومنه: المبالغة المقبولة1. والمبالغة أن يُدَّعَى لوصف بلوغه في الشدة أو الضعف حدا مستحيلا أو مستبعدا؛ لئلا يُظَن أنه غير متناهٍ في الشدة أو الضعف، وتنحصر في: التبليغ، والإغراق، والغلوّ؛ لأن المدعى للوصف من الشدة أو الضعف إما أن يكون ممكنا في نفسه2 أو لا. الثاني: الغلو3. والأول إما أن يكون ممكنا في العادة أيضا4 أو لا، الأول: التبليغ5, والثاني: الإغراق6. 1- أما التبليغ فكقول امرئ القيس: فعادى عِدَاء بين ثور ونعجة ... دراكا ولم ينضح بماء فيُغسَل7

وصف هذا الفرس بأنه أدرك ثورا وبقرة وحشيين في مضمار واحد ولم يعرق، وذلك غير ممتنع عقلا ولا عادة. ومثله قول أبي الطيب: وأصرع أي الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب1 2- وأما الإغراق فكقول الآخر: ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونُتبعه الكرامة حيث مالا2 فإنه ادعى أن جاره لا يميل عنه إلى جهة إلا وهو يُتبعه الكرامة، وهذا ممتنع عادة، وإن كان غير ممتنع عقلا. وهما3 مقبولان. 3- وأما الغلو: فكقول أبي نواس: وأخفتَ أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق4 والمقبول منه أصناف:

أحدها: ما أدخل عليه ما يقربه إلى الصحة، نحو لفظة "يكاد"1 في قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] . وفي قول الشاعر يصف فرسا: ويكاد يخرج سرعة من ظله ... لو كان يرغب في فراق رفيق2 والثاني: ما تضمن نوعا حسنا من التخييل3؛ كقول أبي الطيب: عقدت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا4 وقد جمع القاضي الأرجاني بينهما في قوله يصف الليل بالطول: يخيل لفي أن سُمِّر الشهب في الدجى ... وشدت بأهدابي إليهن أجفاني5 والثالث: ما أخرج مخرج الهذل والخلاعة6، كقول الآخر: أسكر بالأمس إن عزمت على الـ ... ـشرب غدا إن ذا من العَجَب7

المذهب الكلامي

المذهب الكلامي: ومنه المذهب الكلامي1؛ وهو أن يورد المتكلم حجة لما يدعيه على طريق أهل الكلام2؛ كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 3 [الأنبياء: 22] ، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] ؛ أي: والإعادة أهون عليه من البدء، والأهون من البدء أدخل في الإمكان من البدء؛ وهو المطلوب4. وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] أي: القمر آفل، وربي ليس بآفل؛ فالقمر ليس بربي5. وقوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] أي: أنتم تعذَّبون، والبنون لا يعذَّبون؛ فلستم ببنين له6. ومنه قول النابغة يعتذر إلى النعمان:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب لئن كنت قد بُلِّغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب ولكنني كنت امرأ لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب1 ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم ... أُحَكَّم في أموالهم وأُقَرَّب2 كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم ... فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا يقول: أنت أحسنت إلى قوم فمدحوك، وأنا أحسن إلي قوم فمدحتهم، فكما أن مدح أولئك لك لا يعد ذنبا، فكذلك مدحي لمن أحسن إلي لا يعد ذنبا3.

حسن التعليل

حسن التعليل: ومنه حسن التعليل، وهو أن يدعى لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيف1 غير حقيقي. وهو أربعة أقسام؛ لأن الوصف إما ثابت قصد بيان علته، أو غير ثابت أريد إثباته؛ والأول إما ألا يظهر له في العادة علة، أو يظهر له علة غير المذكورة، والثاني إما ممكن، أو غير ممكن. أما الأول2 فكقول أبي الطيب: لم تحك نائلك السحاب وإنما ... حُمَّت به فصبيبها الرُّحَضَاء3 فإن نزول المطر لا يظهر له في العادة علة4. وكقول أبي تمام: لا تنكري عَطَلَ الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي5 علل عدم إصابة الغنى الكريم بالقياس على عدم إصابة السيل المكان العالي كالطَّوْد العظيم، من جهة أن الكريم لاتصافه بعلو القدر كالمكان العالي، والغني لحاجة الخلق إليه كالسيل. ومن لطيف هذا الضرب قول أبي هلال العسكري: زعم البنفسج أنه كعِذَاره ... حسنا فَسَلّوا من قفاه لسانه6 وقول ابن نباتة في صفة فرس: وأدهم يستمد الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريا

سرى خلف الصباح يطير مشيا ... ويطوي خلفه الأفلاك طيا فلما خاف وَشْك الفوت منه ... تشبث بالقوائم والمحيا1 وأما الثاني2 فكقول أبي الطيب: ما به قتل أعاديه ولكن ... يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب3 فإن قتل الملوك أعداءهم في العادة لإرادة هلاكهم، وأن يدفعوا مضارهم عن أنفسهم؛ حتى يصفو لهم ملكهم من منازعتهم، لا لما ادعاه من أن طبيعة الكرم قد غلبت عليه، ومحبته أن يصدق رجاء الراجين بعثته على قتل أعدائه؛ لما علم أنه لما غدا للحرب غدت الذئاب تتوقع أن يتسع عليها الرزق من قتلاهم، وهذا مبالغة في وصفه بالجود، ويتضمن المبالغة في وصفه بالشجاعة على وجه تخييلي4، أي: تناهى في الشجاعة حتى ظهر ذلك للحيوانات العجم، فإذا غدا للحرب رجت الذئاب أن تنال من لحوم أعدائه، وفيه نوع آخر من المدح وهو أنه ليس ممن يسرف في القتل طاعة للغيظ والحنق. وكقول أبي طالب المأموني في بعض الوزراء ببخارى:

مغرم بالثناء صَبّ بكسب المجد ... يهتز للسماح ارتياحا لا يذوق الإغفاء إلا رجاء ... أن يرى طيف مستميح رَوَاحا1 وكأن تقييده بالرواح ليشير إلى أن العفاة إنما يحضرون له في صدر النهار على عادة الملوك، فإذا كان الرواح قلوا؛ فهو يشتاق إليهم، فينام ليأنس برؤية طيفهم. وأصله من نحو قول الآخر: وإني لأستغشي وما بي نَعْسة ... لعل خيالا منك يلقى خياليا2 وهذا غير بعيد أن يكون أيضا من هذا الضرب، إلا أنه لا يبلغ في الغرابة والبعد عن العادة ذلك المبلغ، فإنه قد يتصور أن يريد المُغْرَم المتيم إذا بعد عهده بحبيبه أن يراه في المنام، فيريد النوم لذلك خاصة. ومن لطيف هذا الضرب قول ابن المعتز: قالوا: اشتكت عينه، فقلت لهم: ... من كثرة القتل نالها الوَصَب حمرتها من دماء من قتلت ... والدم في النصل شاهد عجب3 وقول الآخر: أتتني تؤنبني بالبكا ... فأهلا بها وبتأنيبها

تقول وفي قولها حشمة: ... أتبكي بعين تراني بها فقلت: إذا استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها1 وذلك أن العادة في دمع العين أن يكون السبب فيه إعراض الحبيب أو اعتراض الرقيب، ونحو ذلك من الأسباب الموجبة للاكتئاب، لا ما جعله من التأديب على الإساءة باستحسان غير الحبيب. وأما الثالث2 فكقول مسلم بن الوليد: يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجّى حذارك إنساني من الغرق3 فإن استحسان إساءة الواشي ممكن، لكن لما خالف الناس فيه عقّبه بذكر سببه، وهو أن حذاره من الواشي منعه من البكاء، فسلم إنسان عينيه من الغرق في الدموع، وما حصّل ذلك فهو حسن. وأما الرابع4 فكمعنى بيت فارسي ترجمته: لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ... لما رأيت عليها عقد منتطق5 فإن نية الجوزاء خدمته ممتنعة6.

ما يلحق بحسن التعليل

ما يلحق بحسن التعليل: ومما يلحق بالتعليل وليس به؛ لبناء الأمر فيه على الشك1 نحو قول أبي تمام: ربا شفعت ريح الصَّبَا لرياضها ... إلى المزن حتى جادها وهو هامع2 كأن السحاب الغر غيبن تحتها ... حبيبا فما ترقا لهن مدامع3 وقول أبي الطيب: رحل العزاء برحلتي فكأنني ... أتبعته الأنفاس للتشييع4 علة تصعيد الأنفاس في العادة هي التحسر والتأسف، لا ما جوز أن يكون إياه، والمعنى: رحل عني العزاء بارتحالي عنك؛ أي: معه أو بسببه5، فكأنه لما كان الصدر محل الصبر، وكانت الأنفاس تتصعد منه, أيضا صار العزاء وتنفس الصعداء كأنهما نزيلان، فلما رحل ذلك كان حقا على هذا أن يشيعه قضاء لحق الصحبة. التفريع: ومنه التفريع، وهو أن يُثبت لمتعلق أمر حكم بعد إثباته لمتعلق له آخر6 كقول الكميت: أحلامكم لسَقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تشفي من الكَلَب7 فرَّع من وصفهم بشفاء أحلامهم لسقام الجهل وصفهم بشفاء دمائهم من داء الكَلَب.

تأكيد المدح بما يشبه الذم

تأكيد المدح بما يُشبه الذم: ومنه تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ وهو ضربان: أفضلهما: أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها؛ كقول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قِراع الكتائب1 أي: إن كان فلول السيف من قراع الكتائب من قبيل العيب، فأثبتَ شيئا من العيب على تقدير أن فلول السيف منه، وذلك محال؛ فهو في المعنى تعليق بالمحال؛ كقولهم: "حتى يبيضّ القار"؛ فالتأكيد فيه2 من وجهين: أحدهما أنه كدعوى الشيء ببينة3، والثاني أن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا4، فإذا نطق المتكلم بـ "إلا" أو نحوها توهم السامع قبل أن ينطق بما بعدها أن ما يأتي بعدها مُخرَج مما قبلها، فيكون شيء من صفة الذم ثابتا، وهذا ذم، فإذا أتت بعدها صفة

مدح تأكّد المدح؛ لكونه مدحا على مدح، وإن كان فيه نوع من الخِلابة1. والثاني2: أن يُثبَت لشيء صفة مدح، ويُعقَّب بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى له؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب؛ بيد أني من قريش". وأصل الاستثناء في هذا الضرب أيضا أن يكون منقطعا، لكنه باقٍ على حاله لم يقدر متصلا3؛ فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني من الوجهين المذكورين4؛ ولهذا قلنا: الأول أفضل. ومنه قول النابغة الجعدي: فتى كمُلت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يُبقِي من المال باقيا5 وأما قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25، 26] ، فيحتمل الوجهين6. وأما قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] , فيحتملهما7، ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكون الاستثناء من أصله متصلا8؛ لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، وأهل الجنة عن الدعاء بالسلامة أغنياء؛ فكان ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام، لولا ما فيه من فائدة الإكرام. ومن تأكيد المدح بما يُشبه الذم ضرب ثالث؛ وهو أن يأتي الاستثناء فيه مفرغا9؛ كقوله تعالى: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} [الأعراف: 126] ، أي: وما تعيب منا إلا أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإيمان بآيات الله، ونحوه قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [المائدة: 59] ؛ فإن الاستفهام فيه للإنكار. واعلم أن الاستدراك في هذا الباب يجري مجرى الاستثناء، كما في قول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني: هو البدر إلا أنه البحر زاخرا ... سوى أنه الضِّرْغام لكنه الوَبْل10

تأكيد الذم بما يشبه المدح

تأكيد الذم بما يشبه المدح: ومنه تأكيد الذم بما يشبه المدح، وهو ضربان: أحدهما: أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم بتقدير دخولها فيها؛ كقولك: فلان لا خير فيه إلا أنه يسيء إلى من يحسن إليه1. وثانيهما: أن يُثبَت للشيء صفة ذم ويعقب بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى له؛ كقولك: فلان فاسق إلا أنه جاهل2. وتحقيق القول فيهما على قياس ما تقدم3.

الاستتباع

الاستتباع: ومنه الاستتباع، وهو المدح بشيء على وجه يستتبع المدح بشيء آخر1؛ كقول أبي الطيب: نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لَهُنِّئت الدنيا بأنك خالد2 فإنه مدحه ببلوغه النهاية في الشجاعة؛ إذ كثر قتلاه بحيث لو ورث أعمارهم لخُلِّد في الدنيا على وجه استتبع مدحه بكونه سببا لصلاح الدنيا ونظامها، حيث جعل الدنيا مهنأة بخلوده، قال علي بن عيسى الربعي: وفيه وجهان آخران من المدح: أحدهما أنه نهب الأعمار دون الأموال3، والثاني أنه لم يكن ظالما في قتل أحد من مقتوليه؛ لأنه لم يقصد بذلك إلا صلاح الدنيا وأهلها؛ فهم مسرورون ببقائه. الإدماج: ومنه الإدماج، وهو أن يُضمَّن كلام سِيق لمعنى معنًى آخر4؛ فهو أعم من

الاستتباع1. ومثاله قول أبي الطيب: أُقَلِّب فيه أجفاني كأني ... أعد بها على الدهر الذنوبا2 فإنه ضمَّن وصف الليل بالطول الشكاية من الدهر. وقول ابن المعتز في الخِيريّ: نفض العاشقون ما صنع الـ ... ـهجر بألوانهم على ورقه3 فإن الغرض وصف الخيري بالصفرة، فأدمج الغزل في الوصف، وفيه وجه آخر من الحسن وهو إيهام الجمع بين متنافيين؛ أعني الإيجاز والإطناب؛ أما الإيجاز فمن جهة الإدماج، وأما الإطناب فلأن أصل المعنى أنه أصفر؛ فاللفظ زائد عليه لفائدة4. ومنه قول ابن نباتة:

ولا بد لي من جَهْلة في وصاله ... فمن لي بِخِلّ أودِع الحلم عنده1 فإنه ضمّن الغزل الفخر بكونه حليما المكني عنه بالاستفهام عن وجود خل صالح لأن يودعه حلمه، وضمن الفخر بذلك -بإخراج الاستفهام مخرج الإنكار- شكوى الزمان لتغير الإخوان، حتى لم يبق فيهم من يصلح لهذا الشأن، ونبه بذلك على أنه لم يعزم على مفارقة حلمه جملة أبدا، ولكن إذا كان مريدا لوصل هذا المحبوب المستلزم للجهل المنافي للحلم؛ عزم على أنه إن وجد من يصلح لأن يودعه حلمه أودعه إياه؛ فإن الودائع تستعاد. قيل: ومنه قول الآخر يهنئ بعض الوزراء لما استُوزِر: أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم2 فإنه أدمج شكوى الزمان وما هو عليه من اختلال الأحوال في التهنئة، وفيه نظر؛ لأن شكوى الزمان مصرح بها في صدره، فكيف تكون مدمجة؟ ولو عكس فجعل التهنئة مدمجة في الشكوى أصاب3.

التوجيه

التوجيه: ومنه التوجيه؛ وهو إيراد الكلام محتملا لوجهين مختلفين1؛ كقول من قال لأعور يسمى عمرا: خاط لي عمرو قِبَاء ... ليت عينيه سواء2 وعليه قوله تعالى: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا} [النساء: 46] ، قال الزمخشري: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} حال من المخاطب، أي: اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين: يحتمل الذم؛ أي: اسمع منا مدعوّا عليك بـ: لا سمعت؛ لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم: "لا سمعت" دعوى مستجابة، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك فكأنك لم تسمع شيئا، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه؛ فسمعك عنه نابٍ، ويجوز على هذا3 أن يكون "غير مسمع" مفعول "اسمع" أي: اسمع كلاما غير مسمع إياك؛ لأن أذنك لا تعيه نُبُوًّا عنه. ويحتمل المدح؛ أي: اسمع غير مسمع مكروها، من قولك: "أسمع فلان فلانا" إذا سَبّه. وكذلك قوله: {وَرَاعِنَا} يحتمل "راعنا نكلمك" أي: ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل سبة؛ وهي كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي "راعينا"4, فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكلمونه بكلام محتمل؛ ينوُون به الشتيمة والإهانة ويُظهرون به التوقير والاحترام5. ثم قال: فإن قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعدما صرحوا وقالوا: "سمعنا وعصينا"؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز ألا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جُعلوا كأنهم نطقوا به. قال السكاكي6: ومنه متشابهات القرآن باعتبار7.

الهزل الذي يراد به الجد

الهَزْل الذي يراد به الجد: ومنه الهزل الذي يراد به الجد؛ وترجمته تغني عن تفسيره1. ومثاله قول الشاعر: إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ... فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب2 ومنه قول امرئ القيس: وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بأن الفتى يهذي وليس بفعّال3

تجاهل العارف

تجاهل العارف: ومنه تجاهل العارف، وهو كما سماه السكاكي1: "سوق المعلوم مساق غيره لنكتة"2؛ كالتوبيخ في قول الخارجية: أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف3

والمبالغة في المدح في قول البحتري: ألمع برق سرى أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي1 أو في الذم في قول زهير: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء2؟ والتَّدَلُّه في الحب في قول الحسين بن عبد الله الغزي3: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر4 وقول ذي الرمة: أيا ظبية الوعساء بين جُلَاجل ... وبين النَّفَا أأنتِ أم أمّ سالم5

والتحقير: في قوله تعالى في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- حكاية عن الكفار: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] ، كأن لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما. والتعريض1: في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍْ} [سبأ: 24] . وفي مجيء هذا اللفظ على الإبهام فائدة أخرى، وهي أنه يبعث المشركين على الفكر في حال أنفسهم وحال النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، وإذا فكّروا فيما هم عليه من إغارات بعضهم على بعض, وسبْي ذراريهم واستباحة أموالهم، وقطع الأرحام، وإتيان الفروج الحرام، وقتل النفوس التي حرم الله قتلها، وشرب الخمر التي تُذْهِب العقول، وتحسن ارتكاب الفواحش، وفكروا فيما النبي عليه السلام والمؤمنون عليه من صلة الأرحام، واجتناب الآثام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإطعام المساكين, وبر الوالدين، والمواظبة على عبادة الله تعالى, علموا2 أن النبي -عليه السلام- والمسلمين على هدى، وأنهم على الضلالة، فبعثهم ذلك على الإسلام، وهذه فائدة عظيمة.

القول بالموجب

القول بالموجَِب: ومنه القول بالموجِب 1 , وهو ضربان: أحدهما: أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء2 أُثبت له حكم، فتُثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء، من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم له أو انتفائه عنه؛ كقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم1، وبالأذل عن فريق المؤمنين، وأثبتوا للأعز الإخراج، فأثبت الله تعالى -في الرد عليهم- صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، من غير تعرض لثبوت حكم الإخراج للموصوفين بصفة العزة, ولا لنفيه عنهم. والثاني: حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه2؛ كقوله: قلت: ثقلت إذ أتيت مرارا ... قال: ثقلت كاهلي بالأيادي قلت: طولت، قال: لا بل تطولت ... وأبرمت، قال: حبل ودادي3 والاستشهاد بقوله: "ثقلت وأبرمت" دون قوله: "طولت"4. ومنه قول القاضي الأرجاني:

غالطتْني إذ كست جسمي الضنى ... كسوة عرّت من اللحم العظاما ثم قالت: أنت عندي في الهوى ... مثل عيني، صدقت لكن سَقاما1 وكذا قول ابن دويدة المغربي من أبيات يخاطب بها رجلا أودع بعض القضاة مالا، فادعى القاضي ضياعه: إن قال: قد ضاعت، فيصدق؛ إنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي2 أو قال: قد وقعت، فيصدق إنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع3 وقريب من هذا قول الآخر: وإخوان حسبتهم دروعا ... فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاما صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا: قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من وِدَادي4 والمراد البيتان الأولان5, ولك أن تجعل نحوهما ضربا ثالثا6.

الاطراد

الاطراد: ومنه الاطراد1 وهو أن يأتي بأسماء الممدوح أو غيره وآبائه2 على ترتيب الولادة، من غير تكلف في السبك؛ حتى تكون الأسماء في تحدرها كالماء الجاري في اطراده وسهولة انسجامه؛ كقول الشاعر: إن يقتلوك فقد ثللتَ عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب3 وقول دريد بن الصمة: قتلنا بعبد الله خير لِدَاته ... ذُؤَاب بن أسماء بن زيد بن قارب4 وفيه تعرض للمقتول به، ولشرف المقتول5. قيل: لما سمعه عبد الملك بن مروان قال: "لولا القافية لبلغ به آدم"6. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".

تمرينات على المحسنات المعنوية

تمرينات على المحسنات المعنوية: تمرين1: بين نوع المحسن المعنوي, ووجه حسنه فيما يأتي: 1- فلا كَمَدِي يفنى ولا فيك رقة ... ولا عنكِ إقصار ولا فيكِ مطمع 2- تشابه دمعانا غداة افتراقنا ... مشابهة في قصة دون قصة فوجنتها تكسو المدامع حمرة ... ودمعي يكسو حمرة اللون وجنتي 3- فتى قسّم الأيام بين سيوفه ... وبين طَرِيفات المكارم والتُّلْد فسوّد يوما بالعَجَاج وبالردى ... وبيَّض يوما بالفضائل والمجد 4- أباحت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفي الله إن لم يُنصفوا حَكَم عدل 5- إذا ما ركبنا قال ولدان بيتنا: ... تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطب 6- يقولون: لم يورث، ولولا تراثه ... لقد شركت فيه بكيل وأرحب 7- خذها إذا أنشدت في القوم من ... صدورها عرفت منها قوافيها 8- ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم 9- إن البخيل ملوم حيث كان ولـ ... ـكن الجواد على عِلَّاته هَرِم 10- وإذا ما بدا فأخجل بدرا ... لمعت كأسه فأخجل شمسا 11- إذا أمطرت منهم ومنك سحابة ... فوابلهم طل وطلك وابل 12- لجنية أم غادة رفع السَّجْف ... لوحشية لا ما لوحشية شَنْف 13- وصاحب لما أتاه الغنى ... تاه ونفس المرء طماحه وقيل: هل أبصرت منه يدا ... تشكرها، قلت: ولا راحه 14- العقل أنت عقلتَه وسرحتَه ... وأحرتَ فيك دليله وأرحتَه آتيتَه الحجر الأصم ونحته ... والنجم يعبد فوقه أو تحته 15- ولحظه ومحياه وقامته ... بدر الدجى وقَضِيب البان والراح

16- حياتي وموتي في يديه وجنتي ... وناري ورَيِّي في الهوى وأُوامي 17- رأى المزن ما تعطي فضم على الأسى ... فؤادا كأن البرق فيه لهيب 18- أتوني فعابوا من أحب جهالة ... وذاك على سمع المحب خفيف 19- فما فيه عيب غير أن جفونه ... مِرَاض وأن الخصر منه ضعيف 20- إلى كم ترد الرسل عما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام 21- إن أكن مهديا لك الشعر إني ... لابن بيت تهدى له الأشعار 22- ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان 23- تزعم يا ظبي مساواتها ... ولست أبدي لك تفنيدا إن كان ما تزعم عارض لنا ... مقلتها واحك لنا الجِيدا 24- أتُراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خِلْقة في المآق 25- تثني عطفه خطرات دَلّ ... إذا لم تثنه نشوات راح يميل مع الوشاة وأي غصن ... رطيب لا يميل مع الرياح 26- أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ يرجو شبابك وائل 27- ما أبصرت عيناك أحسن منظر ... فيما يُرى من سائر الأشياء كالشامة الخضراء فوق الوجنة الـ ... ـحمراء تحت المقلة السواداء تمرين2: من أي أقسام الطباق ما يأتي: 1- يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل الشر إحسانا 2- ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دُعُوا ... كثير إذا شدوا قليل إذا عُدُّوا 3- لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رِفْدا 4- وقد كان يدعى لابس الصبر حازما ... فأصبح يدعى حازما حين يجزع؟

تمرين3: تنزّه طرفي في تعابيرك الغُرّ ... وجال بها فكري من السطر للسطر فما خلتها إلا حدائق بهجة ... مكلّلة الأرجاء بالزهر والزهر ولكنها -أستغفر الله- نسخة ... مزينة الأرقام بالدر والتبر طربت بها لما فهمت نقوشها ... كما يطرب النشوان من لذة الخمر تمرين4: بين المحسن المعنوي, ووجه حسنه في قول الشاعر: قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاف فذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف تمرين5: من أي أقسام المبالغة ما يأتي: 1- كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي 2- منعت مهابتك القلوب كلامها ... بالأمر تكرهه وإن لم تعلم 3- كأن غلامي إذ علا حال متنه ... على ظهر طير في السماء محلق؟ تمرين6: بين المحسن المعنوي في قول الشاعر: يا ذا الذي بصروف الدهر عيرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خَطَر أما ترى البحر تطفو فوقه جِيَف ... وتستقر بأقصى قعره الدرر وفي السماء نجوم لا عداد لها ... وليس يُكسَف إلا الشمس والقمر

تمرين7: من أي أقسام حسن التعليل ما يأتي: 1- ما زُلزلت مصر من كيد ألمّ بها ... لكنها رقصت من عدلكم طربا 2- علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح 3- قد طَيَّب الأفواه طِيب ثنائه ... من أجل ذا تجد الثغور عذابا؟ تمرين8: 1- من أي ضربي القول بالموجب قول الشاعر: شكا رمدا فقلت: عساه كلّت ... لواحظه من الفتكات فينا وقالوا: سيف مقلته تصدَّى ... فقلت: نعم لقتل العاشقينا؟ 2- هل أحسن أبو نواس, أو أساء بذكر أم الأمين في مدحه بقوله: أصبحتَ يابن زبيدة بنة جعفر ... أملا لعَقْد حباله استحكام؟

المحسنات اللفظية

المحسنات اللفظية: أقسام المحسن اللفظي: الجناس: الجناس التام وأقسامه: وأما اللفظي فمنه الجناس بين اللفظين؛ وهو تشابههما في اللفظ1. والتام منه أن يتفقا في أنواع الحروف2، وأعدادها، وهيئاتها3، وترتيبها؛ فإن كانا من نوع واحد -كاسمين- سمي مماثلا؛ كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} 4 [الروم: 55] ، وقول الشاعر: حدق الآجال آجال ... والهوى للمرء قتال5 الأول جمع إِجْل بالكسر، وهو القطيع من بقر الوحش، والثاني جمع أجَل والمراد به منتهى الأعمار. وقول أبي تمام:

إذا الخيل جابت قَسْطَلَ الحرب ... صدور العوالي في صدور الكتائب1 وإن كانا من نوعين كاسم وفعل سمي مستوفى، كقول أبي تمام أيضا: ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله2 ونحوه قول الآخر: وسميته يحيى ليحيا فلم يكن ... إلى رد أمر الله فيه سبيل3 والتام أيضا إن كان أحد لفظيه مركبا4 سمي جناس التركيب, ثم إن كان المركب منهما مركبا من كلمة وبعض كلمة سمي مَرْفُوًّا5؛ كقول الحريري: ولا تَلْهُ عن تَذْكار ذنبك وابكه ... بدمع يحاكي الوبل حال مصابه ومثل لعينيك الحِمَام ووقعه ... وروعة ملقاه ومطعم صابه6

وإلا1؛ فإن اتفقا في الخط سمي متشابها، كقول أبي الفتح البستي: إذا ملك لم يكن ذا هبه ... فدعه فدولته ذاهبه2 وإن اختلفا سمي مفروقا، كقول أبي الفتح أيضا: كلكم قد أخذ الجا ... م ولا جام لنا3 ما الذي ضر مدير الجام ... لو جامَلَنَا4 وقول الآخر: لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تبالغ قبل في تهذيبها فمتى عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسا تهذي بها5 ووجه حسن هذا القسم -أعني التام- حسن الإفادة، مع أن الصورة صورة الإعادة6.

الجناس المحرف

الجناس المحرف: وإن اختلفا في هيئات الحروف1, سمي مُحَرَّفا. ثم الاختلاف قد يكون في الحركة فقط، كالبُرد والبَرد في قولهم: "جُبَّة البُرد جُنَّة البَرد" وعليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 72, 73] قال السكاكي2: وكقولك: "الجهول إما مفرِط أو مفرِّط"، والمشدد في هذا الباب يقوم مقام المخفف نظرا إلى الصورة، فاعلم3. وقد يكون في الحركة والسكون؛ كقولهم: "البدعة شَرَك الشرك". وقول أبي العلاء: والحسن يظهر في بيتين رونقه ... بيت من الشِّعر أو بيت من الشَّعر4 الجناس الناقص: وإن اختلفا في أعداد الحروف فقط5؛ سمي ناقصا، ويكون ذلك على وجهين: أحدهما: أن يختلفا بزيادة حرف واحد في الأول؛ كقوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 29, 30] ، أو في الوسط؛ كقولهم: "جدي جهدي"6. أو في الآخر كقول أبي تمام:

يمدون من أيدٍ عَوَاصٍ عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب1 وقول البحتري: لئن صدفَتْ عنا فرُبَّت أنفس ... صوادٍ إلى تلك الوجوه الصوادف2 ومنه ما كتب به بعض ملوك المغرب إلى صاحب له3 يدعوه إلى مجلس أنس له: أيها الصاحب الذي فارقت عيـ ... ـني ونفسي منه السنا والسناء4 نحن في المجلس الذي يهب الرا ... حة والمسمع الغنى والغناء5 نتعاطى التي تنسي من اللذ ... ة والرقة الهوى والهواء6 فأتِهِ تُلْفِ راحة ومحيا ... قد أعدَّا لك الحيا والحياء7 وربما يسمى هذا القسم -أعني الثالث8- مُطَرَّفًا، ووجه حسنه أنك تتوهم قبل أن يرد عليك آخر الكلمة كالميم من "عواصم" أنها هي التي مضت، وإنما أُتي بها للتأكيد، حتى إذا تمكن آخرها في نفسك ووعاه سمعك، انصرف عنك ذلك التوهم؛ وفي هذا حصول الفائدة بعد أن يخالطك اليأس منها. الوجه الثاني: أن يختلفا بزيادة أكثر من حرف واحد؛ كقول الخنساء: إن البكاء هو الشفا ... ء من الجوى بين الجوانج9 وربما سمي هذا الضرب مذيَّلا.

الجناس المضارع واللاحق

الجناس المضارع واللاحق: وإن اختلفا في أنواع الحروف اشتُرط ألا يقع الاختلاف بأكثر من حرف. ثم الحرفان المختلفان إن كانا متقاربين1 سمي الجناس مضارعا؛ ويكونان إما في الأول؛ كقول الحريري: "بيني وبين كِنِّي ليل دامس، وطريق طامس"، وإما في الوسط؛ كقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] وقول بعضهم: "البرايا أهداف البلايا", وإما في الآخر؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة". وإن كانا غير متقاربين سمي لاحقا، ويكونان أيضا إما في الأول؛ كقوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وقول بعضهم: "رب وَضِيّ غير رَضِيّ". وقول الحريري: "لا أعطي زمامي لمن يخفر ذِمَامي", وإما في الوسط؛ كقوله2 تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] , وقوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 7, 8] ، وإما في الآخر؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ} 3 [النساء: 83] ، وقول البحتري: هل لما فات من تلاقٍ تلافي ... أم لشاكٍ من الصبابة شافي4 وإن اختلفا في ترتيب الحروف سمي جناس القلب، وهو ضربان: قلب الكل؛ كقولهم: "حسامه فَتْح لأوليائه، حَتْف لأعدائه"، وقلب البعض؛ كما جاء في الخبر: "اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" وقول بعضهم: "رحم الله امرأ أمسك ما بين فكيه، وأطلق ما بين كفيه". وعليه قول أبي الطيب: مُمَنَّعة مُنَعَّمة رَدَاح ... يكلف لفظها الطير الوقوعا5

الجناس المقلوب المجنح، والجناس المزدوج

الجناس المقلوب المجَنَّح، والجناس المزدَوج: وإذا وقع أحد المتجانسين جناس القلب في أول البيت، والآخر في آخره سمي مقلوبا مجنحا1. وإذا ولي أحد المتجانسين الآخر سمي مزدوجا ومكررا ومرددا1 كقوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] ، وما جاء في الخبر: "المؤمنون هينون لينون"، وقولهم: "من طلب وَجَدّ وَجَدَ"، وقولهم: "من قرع بابا وَلَجّ وَلَجَ" وقولهم: "النبيذ بغير النغم غم، وبغير الدسم سم". وقوله: يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب2

ما يلحق بالجناس

ما يلحق بالجناس: واعلم أنه يلحق بالجناس شيئان: أحدهما: أن يجمع اللفظين الاشتقاق1 كقوله تعالى: " {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم: 43] وقوله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلمات يوم القيامة"، وقول الشافعي -رضي الله عنه2- وقد سُئل عن النبيذ: "أجمع أهل الحرمين على تحريمه", وقول أبي تمام: فيا دمع أنجدني على ساكني نجد3

وقول البحتري: يعشى عن المجد الغبيّ ولن ترى ... في سؤدد أَرَبا لغير أريب1 وقول محمد بن وهيب: قسمت صروف الدهر بأسا ونائلا ... فمالُك موتور وسيفك واتر2 والثاني: أن يجمعهما المشابهة؛ وهي ما يشبه الاشتقاق وليس به3؛ كقوله تعالى: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38] ، {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] ، وقوله: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54] . وقول البحتري: وإذا ما رياح جودك هبت ... صار قول العَذُول فيها هَبَاء4

رد العجز على الصدر

رد العَجُز على الصدر: ومنه رد العجز على الصدر؛ وهو في النثر أن يُجعل أحد اللفظين المكررين أو المتجانسين أو الملحقين بهما في أول الفقرة، والآخر في آخرها1؛ كقوله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] ، وقولهم: "الحيلة ترك الحيلة"2، وكقولهم: "سائل اللئيم يرجع ودمعه سائل", وكقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] ، وكقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] . وفي الشعر أن يكون أحدهما3 في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول، أو حشوه، أو آخره، أو صدر الثاني؛ فالأول كقوله: سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع4 ونحوه قول الآخر: سُكْرَان سُكْر هوى وسكر مدامة ... أنَّى يُفيق فتى به سكران5 والثاني كقول الحماسي:

تمتع من شَمِيم عَرَار نجد ... فما بعد العشية من عرار1 ونحوه قول أبي تمام: ولم يحفظ مضاعَ المجد شيءٌ ... من الأشياء كالمال المضاع2 والثالث كقوله أيضا: ومن كان بالبيض الكواعب مغرما ... فما زلت بالبيض القواضب مغرما3 والرابع كقول الحماسي: وإن لم يكن إلا معرج ساعة ... قليلا؛ فإني نافع لي قليلها4 والخامس كقول القاضي الأرَّجَاني: دعاني من مَلامكما سَفَاها ... فداعي الشوق قبلكما دعاني5

وقول الآخر: سل سبيلا فيها إلى راحة النفـ ... ـس براح كأنها سلسبيل1 وقول الآخر: ذوائب سود كالعناقيد أُرسلت ... فمن أجلها منها النفوس ذوائب2 والسادس كقول الآخر: وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فانفِ البلابل باحتساء بلابل3 والسابع كقول الحريري: فمشغوف بآيات المثاني ... ومفتون برنات المثاني4

والثامن كقول القاضي الأرَّجاني: أمَّلتهم ثم تأملتهم ... فلاح لي أن ليس فيهم فَلَاح1 والتاسع كقول البحتري: ضرائب أبدعتَها في السماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا2 والعاشر كقول امرئ القيس: إذا المرء لم يخزُن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخَزَّان3 وقول أبي العلاء المعري: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يُهْجَر للإفراط في الخَصَر4 والحادي عشر كقول الآخر: فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أَطَنِين أجنحة الذباب يَضِير5 والثاني عشر كقول أبي تمام: وقد كانت البيض القواضب في ... بواتر فهي الآن من بعده بُتْر6

السجع وأقسامه

السجع وأقسامه: ومنه السجع؛ وهو تواطؤ الفاصلتين1 من النثر على حرف واحد، وهذا معنى

قول السكاكي1: "الأسجاع في النثر كالقوافي في الشعر". وهو ثلاثة أضرب: مطرَّف، ومتوازٍ، وترصيع. السجع المطرف: لأن الفاصلتين إن اختلفتا في الوزن2 فهو السجع المطرف3 كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13, 14] . الترصيع: وإلا فإن كان ما في إحدى القرينتين4 من الألفاظ أو أكثر ما فيها مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن والتقفية؛ فهو الترصيع؛ كقول الحريري: "فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه" وكقول أبي الفضل الهمذاني: "إن بعد الكدر صفوا، وبعد المطر صحوا", وقول أبي الفتح البستي: "ليكن إقدامك توكلا، وإحجامك تأملا". السجع المتوازي: وإلا فهو السجع المتوازي؛ كقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية: 13,14] وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أدرأ بك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم". شروط حسن السجع: وشرط حسن السجع اختلاف قرينتيه في المعنى كما مر5، لا كقول ابن عباد في مهزومين: "طاروا واقين بظهورهم صدورهم،

وبأصلابهم نحورهم". قيل: وأحسن السجع ما تساوت قرائنه1 كقوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 28، 29، 30] . ثم ما طالت2 قرينته الثانية، كقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1, 2] ، أو الثالثة، كقوله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} 3 [الحاقة: 30, 31] وقول أبي الفضل الميكالي: "له الأمر المطاع، والشرف اليَفَاع، والعِرْض المصون، والمال المضاع". وقد اجتمعا4 في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3] . ولا يحسن أن تُولَى قرينةٌ قرينةً أقصر منها كثيرا5؛ لأن السمع إذا استوفى أمده من الأولى لطولها، ثم جاءت

الثانية أقصر منها كثيرا يكون كالشيء المبتور، ويبقى السامع كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثَر دونها، والذوق يشهد بذلك، ويقضي بصحته. السجع القصير، والطويل، والمتوسط: ثم السجع إما قصير، كقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات: 1, 2] . أو طويل1, كقوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأنفال: 43, 44] . أو متوسط, كقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1، 2] . ومن لطيف السجع قول البديع الهمذاني من كتاب له إلى ابن فريغون2: "كتابي والبحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه، فقد تصورت خلقه، والملك العادل وإن لم أكن لقيته، فقد لقيني صيته، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره"3.

سكون أعجاز الفواصل 1: واعلم أن فواصل الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز، موقوفا عليها؛ لأن الغرض أن يزاوج بينها، ولا يتم ذلك في كل صورة إلا بالوقف، ألا ترى أنك لو وصلتَ قولهم: "ما أبعد ما فات، ما أقرب ما هو آتٍ" لم يكن بد من إجراء كل من الفاصلتين على ما يقتضيه حكم الإعراب، فيفوت الغرض من السجع، وإذا رأيتهم يُخرجون الكلم عن أوضاعها للازدواج في قولهم: "إني لآتيه بالغدايا والعشايا" أي: بالغُدُوات2، فما ظنك بهم في ذلك؟ الخلاف في إطلاق السجع في القرآن والشعر: وقيل: إنه لا يقال: "في القرآن أسجاع" وإنما يقال: "فواصل"3. وقيل: السجع غير مختص بالنثر، ومثاله من الشعر4 قول أبي تمام: تجلى به رشدي، وأثرت به يدي ... وفاض به ثِمْدي، وأورى به زندي5

وكذا قول الخنساء: حامي الحقيقة، محمود الخليقة، مهـ ... ـدي الطريقة، نفّاع وضرّار1 وكذا قول الآخر: ومكارم أوليتها متبرعا ... وجرائم ألغيتَها متورعا2 وهو3 ظاهر التكلف4. وهذا القائل لا يشترط التقفية في العَروض والضرب5؛ كقوله: وزند ندى فواضله وَرِيّ ... ورَنْد ربا فضائله نضير6

التشطير: ومن السجع على هذا القول1 ما يسمى التشطير، وهو أن يجعل كل من شطري البيت سجعة مخالفة لأختها2؛ كقول أبي تمام: تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتغب في الله مرتقب3 التصريع: ومنه ما يسمى التصريع، وهو جعل العروض مقفّاة تقفية الضرب؛ كقول أبي فراس: بأطراف المثقفة العوالي ... تفردنا بأوساط المعالي4 وهو مما استحسن، حتى إن أكثر الشعر صُرِّع البيت الأول منه5؛ ولذلك متى خالفت العروض الضرب في الوزن؛ جاز أن تُجعل موازنة له إذا كان البيت مصرعا؛ كقول امرئ القيس: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن من كان في العصر الخالي6

أتى بعَروض الطويل "مفاعلن"، وذلك لا يصح إذا لم يكن البيت مصرعا1، ولهذا خُطِّئ أبو الطيب في قوله: تفكره علم، ومنطقه حكم ... وباطنه دين وظاهره ظَرْف2 الموازنة، والمماثلة: ومنه الموازنة، وهي أن تكون الفاصلتان3 متساويتين في الوزن دون التقفية، كقوله تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} 4 [الغاشية: 15، 16] . فإن كان ما في إحدى القرينتين من الألفاظ، أو أكثر ما فيها، مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن خُص باسم المماثلة، كقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات: 117، 118] . وقول أبي تمام: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قَنَا الخَطّ إلا أن تلك ذوابل5 وقول البحتري:

فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا ... وأقدم لما لم يجد عنك مهربا1 القلب: ومنه القلب2، كقولك: "أرض خضراء"، وقول عماد الدين الكاتب للقاضي الفاضل: "سر فلا كبا بك الفرس". وجواب القاضي: "دام علا العماد". وقول القاضي الأرجاني: مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم3

وفي التنزيل: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] ، وفيه: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] . التشريع: ومنه التشريع، وهو بناء البيت على قافيتين يصح المعنى على الوقوف على كل واحدة منهما1؛ كقول الحريري: يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شَرَك الردى وقَرارة الأكدار2

الأبيات. لزوم ما لا يلزم: ومنه لزوم ما لا يلزم؛ وهو أن يجيء قبل حرف الروي وما في معناه من الفاصلة ما ليس بلازم في مذهب السجع1؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 201، 202] ، وقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10] ، وقول الشاعر: سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خَلَّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت2 وقول الآخر: يقولون: في البستان للعين لذة ... وفي الخمر والماء الذي غير آسن إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن3

وقد يكون ذلك في غير الفاصلتين أيضا1؛ كقول الحريري: "وما اشتار العسل من اختار الكسل". أصل الحسن في القسم اللفظي: وأصل الحسن في جميع ذلك -أعني القسم اللفظي- كما قال الشيخ عبد القاهر2 هو أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني3؛ فإن المعاني إذا أُرسلت على سجيتها، وتُركت وما تريد، طلبت لأنفسها الألفاظ، ولم تكتسِ إلا ما يليق بها؛ فإن كان خلاف ذلك كان كما قال أبو الطيب: إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب4

وقد يقع في كلام بعض المتأخرين ما حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع، على أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليُبِين، ويخيل إليه أنه إذا جمع عدة من أقسام البديع في بيت؛ فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خَبْط عَشْواء1.

تمرينات على المحسنات اللفظية: تمرين 1: بين نوع المحسن اللفظي, ووجه حسنه فيما يأتي: 1- سلسل خطوطك ما غدا ... شاطي الجِمَام الزرق بالأغصان واسجع بشعرك ما غدا متصلصلا ... شادي الحمام الوُرْق بالألحان 2- هلال في إضاءته حياء ... شهاب في سماحته اتقاد 3- لم يقض من حقكم بعض الذي ... قلب متى ما جرى ذكراكم يجب 4- أسكرني باللفظ والمقلة الـ ... ـكحلاء والوجنة والكاس ساق يُريني قلبه قسوة ... وكل ساق قلبه قاسي تمرين 2: بين نوع الجناس في الأمثلة الآتية: 1- تحملت خوف المن كل رزيئة ... وحمل رزايا الدهر أحلى من المن 2- ستر المحبة يوم البين منهتك ... وثوب صبري من الأشواق منتهك 3- لعيني كل يوم ألف عبره ... تصيرني لأهل الشوق عبره 4- كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهي ... حتى تعود لي الحياة وأنت هي 5- من بحر جودك أغترف ... وبفيض علمك أعترف 6- عطفت كأمثال القسي حواجبا ... فرمت غداة البين قلبا واجبا تمرين 3: بين نوع المحسن اللفظي, ووجه حسنه فيما يأتي: 1- تمنت سليمى أن أموت صبابة ... وأهون شيء عندنا ما تمنت 2- اسلم ودمت على الحوادث ما رسا ... ركنا ثبير أو هضاب حراء ونُل المراد ممكّنا منه على ... رغم الدهور وفُزْ بطول بقاء 3- ضحكنا وكان الضحك منا ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا

تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سَبْك تمرين 4: لماذا حسن الجناس في قول أبي الفتح: ناظِرَاه فيما جَنَت ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني ولم يحسن في قول أبي تمام: ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت ... فيه الظنون أمَذهب أم مُذهب؟ تمرين 5: بين نوع المحسن اللفظي فيما يأتي: 1- كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر يعلّ به برد أنيابها ... إذا طرب الطائر المستحر 2- فنحن في جذل، والروم في وَجَل ... والبر في شغل، والبحر في خجل مُوفٍ على مُهَج، في يوم ذي رَهَج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل

خاتمة في فصلين يلحقان بالبديع

خاتمة في فصلين يُلحقان بالبديع: مدخل هذا ما تيسر بإذن الله تعالى جمعه وتحريره من أصول الفن الثالث، وبقيت أشياء يذكرها فيه بعض المصنفين: منها ما يتعين إهماله؛ لعدم دخوله في فن البلاغة؛ نحو ما يرجع في التحسين إلى الخط دون اللفظ، مع أنه لا يخلو من التكلف؛ ككون الكلمتين متماثلتين في الخط، وكون الحروف منقوطة أو غير منقوطة. ونحو ما لا أثر له في التحسين، كما يسمى "الترديد"1. أو لعدم جدواه؛ نحو ما يوجد في كتب بعض المتأخرين مما هو داخل فيما ذكرناه، كما سماه: "الإيضاح"؛ فإنه في الحقيقة راجع إلى الإطناب2 أو خلط فيه، كما سماه: "حسن البيان"3. ومنها ما لا بأس بذكره؛ لاشتماله على فائدة4، وهو شيئان: أحدهما: القول في السرقات الشعرية وما يتصل بها. والثاني: القول في الابتداء والتخلص والانتهاء. فعقدنا فيهما فصلين ختمنا بهما الكتاب.

الفصل الأول: السرقات الشعرية

الفصل الأول: السرقات الشعرية مدخل اعلم أن اتفاق القائلين إن كان في الغرض على العموم1 -كالوصف بالشجاعة والسخاء والبلادة والذكاء- فلا يُعدّ سرقة، ولا استعانة ولا نحوهما؛ فإن هذه أمور متقررة في النفوس، متصورة للعقول، يشترك فيها الفصيح والأعجم، والشاعر والمُفْحَم. وإن كان في وجه الدلالة على الغرض2, وينقسم إلى أقسام كثيرة: منها التشبيه بما توجد الصفة فيه3 على الوجه البليغ كما سبق4، ومنها ذكر هيئات تدل على الصفة؛ لاختصاصها بمن له الصفة؛ كوصف الرجل حال الحرب بالابتسام وسكون الجوارح وقلة الفكر؛ كقوله: كأن دنانيرا على قَسَمَاتهم ... وإن كان قد شَفَّ الوجوه لقاء5 وكذا وصف الجواد بالتهلل عند ورود العفاة، والارتياح لرؤيتهم، ووصف البخيل بالعبوس وقلة البِشْر، مع سعة ذات اليد ومساعدة الدهر. فإن كان مما يشترك الناس في معرفته؛ لاستقراره في العقول والعادات؛ كتشبيه الفتاة الحسنة الوجه بالشمس والبدر، والجواد بالغيث والبحر، والبليد البطيء بالحجر والحمار، والشجاع الماضي بالسيف والنار، فالاتفاق فيه كالاتفاق في عموم الغرض. وإن كان مما لا يُنال إلا بفكر، ولا يصل إليه كل أحد6؛ فهذا الذي يجوز أن يدعى فيه الاختصاص والسبق، وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاضل، وأن أحدهما فيه أفضل من الآخر، وأن الثاني زاد على الأول أو نقص عنه. وهو ضربان: أحدهما: ما كان في أصله خاصيا غريبا. والثاني: ما كان في أصله عاميا مبتذلا، لكن تُصُرِّف فيه بما أخرجه من كونه ظاهرا ساذجا إلى خلاف ذلك7، وقد سبق ذكر أمثلتهما في التشبيه والاستعارة8. إذا عرفت هذا فنقول: الأخذ والسرقة نوعان: ظاهر، وغير ظاهر.

أقسام السرقة الظاهرة

أقسام السرقة الظاهرة: النسخ والانتحال: أما الظاهر فهو أن يؤخذ المعنى كله؛ إما مع اللفظ كله، أو بعضه1، وإما وحده؛ فإن كان المأخوذ اللفظ كله من غير تغيير لنظمه فهو مذموم؛ لأنه سرقة محضة، ويسمى نسخا وانتحالا؛ كما حكي أن عبد الله بن الزبير دخل على معاوية, فأنشده: إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل2

ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مَزْحَل1 فقال له معاوية: "لقد شعرتَ بعدي يا أبا بكر". ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معن بن أوس المزني، فأنشد كلمته التي أولها: لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تغدو المنية أول2 حتى أتى عليها، وفيها ما أنشده عبد الله، فأقبل معاوية على عبد الله وقال له: "ألم تخبرني أنهما لك؟! " فقال: "المعنى لي، واللفظ له، وبعد فهو أخي من الرضاعة، وأنا أحق بشعره"3. وقد رُوي لأوس ولزهير في قصيدتيهما4 هذا البيت: إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخَنَا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل5 وقد روي للأبيرد اليربوعي:

فتى يشتري حسن الثناء بماله ... إذا السنة الشهباء أعوزها القَطْر1 ولأبي نواس: فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور2 وقد روي لبعض المتقدمين يمدح معبدا: أجاد طويس والسريجي بعده ... وما قصبات السبق إلا لمعبد3 ولأبي تمام: محاسن أصناف المغنين جمة ... وما قصبات السبق إلا لمعبد4 وحكى صاحب الأغاني في أصوات معبد: لهفي على فتية ذل الزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاءوا5

وفي شعر أبي نواس: دارت على فتية ذل الزمان لهم ... فما تصيبهم إلا بما شاءوا1 وفي هذا المعنى ما كان التغيير فيه بإبدال كلمة أو أكثر بما يرادفها2؛ كقول امرئ القيس: وقوفا بها صحبي علي مَطِيّهم ... يقولون: لا تهلك أسى وتجمّل3 وقول طرفة: وقوفا بها صحبي عليَّ مطيهم ... يقولون: لا تهلك أسى وتجلد4 وكقول العباس بن عبد المطلب, رضي الله عنه:

وما الناس بالناس الذين عَهِدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم1 وقول الفرزدق: وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعرف وكقول حاتم: ومن يبتدع ما ليس من خِيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خِيمها2 وقول الأعور: ومن يقترف خلقا سوى خلق نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها3 الإغارة أو المسخ: وإن كان4 مع تغيير لنظمه، أو كان المأخوذ بعض اللفظ؛ سمي إغارة ومسخا. 1- فإن كان الثاني أبلغ من الأول لاختصاصه بفضيلة؛ كحسن السبك5، أو الاختصار، أو الإيضاح، أو زيادة معنى, فهو ممدوح مقبول، كقول بشار: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللَّهِج6 وقول سلم الخاسر:

من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجَسور1 فبيت سلم أجود سبكا وأخصر2، وكقول الآخر: خلقنا لهم في كل عين وحاجب ... بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا3 وقول ابن نباتة بعده: خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم ... عيونا لها وَقْع السيوف حواجب4 فبيت ابن نباتة أبلغ؛ لاختصاصه بزيادة معنى؛ وهو الإشارة إلى انهزامهم5. ومن الناس من جعلهما متساويين6. وإن كان الثاني دون الأول في البلاغة فهو مذموم مردود؛ كقول أبي تمام: هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل7

وقول أبي الطيب: أعدى الزمان سخاؤه فسخا به ... ولقد يكون به الزمان بخيلا1 فإن مصراع أبي تمام أحسن سبكا من مصراع أبي الطيب؛ لأن أبا الطيب أراد أن يقول: ولقد كان الزمان به بخيلا، فعدل عن الماضي إلى المضارع للوزن، فإن قلتَ: المعنى أن الزمان لا يسمح بهلاكه2 قلتُ: السخاء بالشيء هو بذله للغير، فإذا كان الزمان قد سخا به؛ فقد بذله، فلم يبق في تصريفه حتى يسمح بهلاكه أو يبخل به3. وإن كان مثله فالخطب فيه أهون، وصاحب الثاني أبعد من المذمّة، والفضل لصاحب الأول؛ كقول بشار: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا4 وقول ابن الشحنة الموصلي: وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق5 وكذا قول القاضي الأرجاني:

لم يبكني إلا حديث فراقكم ... لما أسرّ به إلي مودعي هو ذلك الدُّرّ الذي أودعتم ... في مسمعي ألقيته من مدمعي1 وقول جار الله: وقائلة: ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين؟ فقلت: هي الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر أذني تساقط من عيني2 وكقول أبي تمام: لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلا الفراق على النفوس دليلا3 وقول أبي الطيب: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا4 واعلم أن من هذا الضرب5 ما هو قبيح جدا، وهو ما يدل على السرقة باتفاق الوزن والقافية أيضا؛ كقول أبي تمام:

مقيم الظن عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد1 ولا سافرت في الآفاق إلا ... ومن جدواك راحلتي وزادي2 وقول أبي الطيب: وإني عنك بعد غد لغادٍ ... وقلبي عن فنائك غير غادي3 محبك حيثما اتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد الإلمام أو السلخ: وإن كان المأخوذ المعنى وحده سمي إلماما وسلخا، وهو ثلاثة أقسام كذلك4: أولها كقول البحتري: تصد حياء أن تراك بأوجه ... أتى الذنب عاصيها فلِيم مطيعها5 وقول أبي الطيب: وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب6

فإن بيت أبي الطيب أحسن سبكا1 وكأنه اقتبسه2 من قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] , وكقول الآخر: ولست بنَظَّار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر3 وقول أبي تمام بعده: يصد عن الدنيا إذا عَنَّ سؤدد ... ولو برزت في زي عذراء ناهد فبيت أبي تمام أخصر وأبلغ؛ لأن قوله: "ولو برزت في زي عذراء ناهد" زيادة حسنه4. وكقول أبي تمام: هو الصنع إن يعجل فخير، وإن يرث ... فللرَّيث في بعض المواضع أنفع5 وقول أبي الطيب: ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجَهَام6

فبيت أبي الطيب أبلغ؛ لاشتماله على زيادة بيان1. وثانيها كقول بعض الأعراب: وريحها أطيب من طيبها ... والطيب فيه المسك والعنبر2 وقول بشار: وإذا أدنيت منها بصلا ... غلب المسك على ريح البصل3 وقول أشجع: وعلى عدوك يابن عم محمد ... رصدانِ: ضوء الصبح والإظلام فإذا تنبه رعته، وإذا هدا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام4 وقول أبي الطيب: يرى في النوم رمحك في كُلاه ... ويخشى أن يراه في السُّهَاد5

فقصّر بذكر "السهاد"؛ لأنه أراد اليقظة ليطابق بها النوم فأخطأ؛ إذ ليس كل يقظة سهادا، وإنما السهاد امتناع الكرى في الليل، وأما المستيقظ بالنهار فلا يسمى ساهدا. وكقول البحتري: وإذا تألق في الندى كلامه المصـ ... ـقول خلت لسانه من عضبه1 وقول أبي الطيب: كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا2 فإن أبا الطيب فاته ما أفاده البحتري بلفظي "تألق" و"المصقول" من الاستعارة التخييلية3. وكقول الخنساء: وما بلغ المهدون للناس مِدْحة ... وإن أطنبوا إلا وما فيك أفضل4 وقول أشجع: وما ترك المُدَّاح فيك مقالة ... ولا قال -إلا دون ما فيك- قائل5

فإن بيت الخنساء أحسن من بيت أشجع؛ لما في مصراعه الثاني من التعقيد، إذ تقديره: ولا قال قائل إلا دون ما فيك1. وثالثها كقول الأعرابي: ولم يك أكثر الفتيان مالا ... ولكن كان أرحبهم ذراعا2 وقول أشجع: وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفه أوسع3 وكذا قول بكر بن النطاح: كأنك عند الكر في حومة الوغى ... تفر من الصف الذي من ورائك4 وقول أبي الطيب: فكأنه والطعن من قدامه ... متخوف من خلفه أن يطعنا5 وكذا قول الآخر يذكر ابنا له مات:

والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم1 وقول أبي تمام بعده: وقد كان يدعى لابس الصبر حازما ... فأصبح يدعى حازما حين يجزع2

أقسام السرقة غير الظاهرة

أقسام السرقة غير الظاهرة: وأما غير الظاهر؛ فمنه أن يتشابه معنى الأول ومعنى الثاني3؛ كقول الطرماح بن حكيم الطائي: لقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل1 وقول أبي الطيب: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل2 فإن ذم الناقص أبا الطيب كبغض من هو غير طائل الطرماح، وشهادة ذم الناقص أبا الطيب كزيادة حب الطرماح لنفسه. وكذلك قول أبي العلاء المعري في مرثية:

وما كُلْفَة البدر المنير قديمة ... ولكنها في وجهه أثر اللَّطْم1 وقول القيسراني: وأهوى الذي أهوى له البدر ساجدا ... ألست ترى في وجهه أثر الترب2 وأوضح من ذلك قول جرير: فلا يمنعك من أَرَب لحاهم ... سواء ذو العمامة والخمار3 وقول أبي الطيب: ومن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم خضاب4 ولا يغرك من البيتين المتشابهين أن يكون أحدهما نسيبا والآخر مديحا أو هجاء أو افتخارا أو غير ذلك5؛ فإن الشاعر الحاذق إذا عمد إلى المعنى المختلس لينظمه

تحيل في إخفائه، فغيّر لفظه وعدل به عن نوعه ووزنه وقافيته. ومنه النقل: وهو أن ينقل معنى الأول إلى غير محله؛ كقول البحتري: سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يُسلبوا1 نقله أبو الطيب إلى السيف فقال: يبس النجيع عليه وهو مجرد ... من غمده فكأنما هو مغمد2 المبالغة: ومنه: أن يكون معنى الثاني أشمل من معنى الأول؛ كقول جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم ... وجدت الناس كلهم غضابا3 وقول أبي نواس: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد4 ومنه القلب: وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول، سمي بذلك لقلب المعنى إلى نقيضه؛ كقول أبي الشيص:

أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللُّوَّم1 وقول أبي الطيب: أأحبه وأحب فيه ملامة؟ ... إن الملامة فيه من أعدائه2 وكذا قول أبي الطيب أيضا: والجراحات عنده نغمات ... سبقت قبل سيبه بسؤال3 فإنه ناقض به قول أبي تمام: ونغمة مُعْتَفٍ جدواه أحلى ... على أذنيه من نغم السماع4 وقد تبعه البحتري فقال: نشوان يطرب للسؤال كأنما ... غناه مالك طيئ أو معبد5 ومنه: أن يؤخذ بعض المعنى ويضاف إليه زيادة تحسنه، كقول الأفوه الأودي:

وترى الطير على آثارنا ... رَأْي عين ثقة أن ستُمار1 وقول أبي تمام: وقد ظُلِّلت عُقْبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل2 فإن الأفوه أفاد بقوله: "رأي عين" قربها؛ لأنها إذا بعدت تُخُيلت ولم تُرَ، وإنما يكون قربها توقعا للفريسة، وهذا يؤكد المعنى المقصود، ثم قال: "ثقة أن ستمار" فجعلها واثقة بالمِيرة، وأما أبو تمام فلم يلم بشيء من ذلك3 لكن زاد على الأفوه بقوله: "إلا أنها لم تقاتل"، ثم بقوله: "في الدماء نواهل"، ثم بإقامتها مع الرايات حتى كأنها من الجيش، وبذلك يتم حسن قوله: "إلا أنها لم تقاتل"؛ وهذه الزيادات حسنت قوله، وإن كان قد ترك بعض ما أتى به الأفوه. وهذه الأنواع4 ونحوها أكثرها مقبولة، ومنها ما أخرجه حسن التصرف من قبيل الأخذ والاتباع، إلى حيز الاختراع والابتداع، وكلما كان أشد خفاء كان أقرب إلى القبول.

هذا كله1 إذا عُلم أن الثاني أخذ من الأول، وهذا لا يُعلَم إلا بأن يعلم أنه كان يحفظ قول الأول حين نظم قوله، أو بأن يخبر هو عن نفسه أنه أخذه منه؛ لجواز أن يكون الاتفاق من قبيل توارد الخواطر، أي: مجيئه على سبيل الاتفاق من غير قصد إلى الأخذ والسرقة، كما يُحكى عن ابن ميادة أنه أنشد لنفسه: مفيد ومِتْلاف إذا ما أتيتَهُ ... تهلّل واهتز اهتزاز المهند2 فقيل له: أين يذهب بك؟ هذا للحطيئة! 3 فقال: "الآن علمت أني شاعر؛ إذ وافقتُه على قوله ولم أسمعه". ولهذا لا ينبغي لأحد بَتّ الحكم على شاعر بالسرقة ما لم يعلم الحال، وإلا4 فالذي ينبغي أن يقال: قال فلان كذا، وقد سبقه إليه فلان فقال كذا؛ فيغتنم به فضيلة الصدق، ويسلم من دعوى العلم بالغيب ونسبة النقص إلى الغير. ما يتصل بالسرقات الشعرية: ومما يتصل بهذا الفن القول في الاقتباس، والتضمين، والعقد، والحل، والتلميح. أما الاقتباس: فهو أن يُضمَّن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه5؛ كقول

الحريري: "لم يكن {إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} 1 حتى أنشد فأغرب". وقوله: " {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} 2، وأميز صحيح القول من عليله". وقول ابن نباتة الخطيب: "فيا أيها الغَفَلَة المطرقون، أَمَا أنتم بهذا الحديث مصدقون؟ ما لكم لا تشفقون؟ فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون"3. وقوله أيضا من خطبة أخرى ذكر فيها القيامة: "هنالك يرفع الحجاب، ويوضع الكتاب، ويجمع من وجب له الثواب، وحق عليه العقاب، فيضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَله العذاب"4. وقول القاضي الفاضل وقد ذكر الإفرنج: "وغضبوا، زادهم الله غضبا، وأوقدوا نارا للحرب جعلهم الله لها حطبا"5. وكقول الحماسي: إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب: ميعاد السُّلُو المقابر ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر6 وقول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني: لآل فريغون في المكْرُمات ... يد أولا واعتذار أخيرا إذا ما حللت بمغناهم ... رأيت نعيما وملكا كبيرا7

وقول الأبيوردي: وقصائد مثل الرياض أضعتها ... في باخل ضاعت به الأحساب فإذا تناشدها الرواة وأبصروا ... الممدوح قالوا: ساحر كذاب1 وقول الآخر: لا تعاشر معشرا ضلوا الهدى ... فسواء أقبلوا أو أدبروا بدت البغضاء من أفواههم ... والذي يُخفون منها أكبر2 وقول الآخر: خُلَّة الغانيات خلة سوء ... فاتقوا الله يا أولي الألباب وإذا ما سألتموهن شيئا ... فاسألوهن من وراء حجاب3 وقول الآخر: إن كنت أزمعتِ على هجرنا ... من غير ما جُرْم فصبر جميل

وإن تبدلت بنا غيرنا ... فحسبنا الله ونعم الوكيل1 وكقول الحريري: "وكتمان الفقر زهادة، وانتظار الفرج بالصبر عبادة"؛ فإن قوله: "انتظار الفرج بالصبر عبادة" لفظ الحديث، وقوله: "قلنا: شاهت الوجوه وقبح اللكع ومن يرجوه" فإن قوله: "شاهت الوجوه" لفظ الحديث؛ فإنه روي أنه لما اشتدت الحرب يوم حنين أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- كفا من الحصباء فرمى بها في وجوه المشركين وقال: "شاهت الوجوه" أي: قبحت، واللكع قيل: هو اللئيم، وقال أبو عبيد: هو العبد. وكقول ابن عباد: قال لي: إن رقيبي ... سيئ الخلق؛ فداره قلت: دعني وجهك الجنـ ... ـة حفت بالمكاره2 اقتبس من لفظ الحديث: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات". والاقتباس منه ما لا يُنقل فيه اللفظ المقتبس عن معناه الأصلي إلى معنى آخر كما تقدم، ومنه ما هو بخلاف ذلك3 كقول ابن الرومي: لئن أخطأت في مدحيك ... ما أخطأت في منعي لقد أنزلت حاجاتي ... بوادٍ غير ذي زرع4

ولا بأس بتغيير يسير لأجل الوزن أو غيره1؛ كقول بعض المغاربة عند وفاة بعض أصحابه: قد كان ما خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا2 وقول عمر الخيام: سبقت العالمين إلى المعالي ... بصائب فكرة وعلو همه3 ولاح بحكمتي نور الهدى في ... ليال للضلالة مدلهمّه4 يريد الجاهلون ليطفئوه ... ويأبى الله إلا أن يتمه5 وكقول القاضي منصور الهروي الأزدي: فلو كانت الأخلاق تحوى وراثة ... ولو كانت الآراء لا تتشعب6 لأصبح كل الناس قد ضمهم هوى ... كما أن كل الناس قد ضمهم أب7

ولكنها الأقدار؛ كل ميسر ... لما هو مخلوق له ومقرب اقتبس من لفظ الحديث: "اعملوا؛ كل ميسر لما خُلق له". التضمين: وأما التضمين فهو أن يضمن الشعر شيئا من شعر الغير، مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء1؛ كقول بعض المتأخرين "قيل: هو ابن التلميذ الطبيب النصراني": كانت بُلَهْنِية الشبيبة سكرة ... فصحوت واستبدلت سيرة مجمل وقعدت أنتظر الفناء كراكب ... عرف المحل فبات دون المنزل2 البيت الثاني لمسلم بن الوليد الأنصاري. وقول عبد القاهر بن طاهر التميمي: إذا ضاق صدري وخفت العدا ... تمثلت بيتا بحالي يليق فبالله أبلغ ما أرتجي ... وبالله أدفع ما لا أطيق3 وقول ابن العميد: وصاحب كنت مغبوطا بصحبته ... دهرا، فغادرني فردا بلا سكن هبت له ريح إقبال فطار بها ... نحو السرور وألجاني إلى الحَزَن كأنه كان مطويا على إِحَن ... ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني4

إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن البيت الأخير لأبي تمام1. وكقول الحريري: على أني سأنشد عند بيعي ... أضاعوني وأي فتى أضاعوا2 المصراع الأخير قيل: هو للعرجي، وقيل: لأمية بن أبي الصلت. وتمام البيت: ليوم كريهة وسِدَاد ثغر3 ولا حاجة إلى تقديره؛ لتمام المعنى بدونه. ومثله قول الآخر: قد قلت لما أطلعت وَجَنَاته ... حول الشقيق الغض روضة آس أعذاره الساري العَجُول ترفقا ... ما في وقوفك ساعة من باس4 المصراع الأخير لأبي تمام5. وكقول الآخر:

كنا معا أمس في بؤس نكابده ... والعين والقلب منا في قذًى وأذى والآن أقبلت الدنيا عليك بما ... تهوى فلا تنسني إن الكرام إذا1 أشار إلى بيت أبي تمام2، ولا بد من تقدير الباقي منه؛ لأن المعنى لا يتم بدونه. وقد عُلم بهذا أن تضمين ما دون البيت ضربان3. وأحسن وجوه التضمين: أن يزيد المضمن في الفرع عليه في الأصل بنكتة؛ كالتورية، والتشبيه في قول صاحب التحبير: إذا الوهم أبدى لي لَماها وثغرها ... تذكرت ما بين العُذَيب وبارق ويُذكرني من قدها ومدامعي ... مَجَرّ عوالينا ومجرى السوابق4 المصراعان الأخيران لأبي الطيب5.

ولا يضر التغيير اليسير ليدخل في معنى الكلام؛ كقول بعض المتأخرين في يهودي به داء الثعلب: أقول لمعشر غَلِطوا وغضّوا ... من الشيخ الرشيد وأنكروه هو ابن جلا وطلّاع الثنايا ... متى يضع العمامة تعرفوه1 البيت لسحيم بن وثيل، وأصله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني2

تقسيم التضمين إلى استعانة وإيداع، أو رفو

تقسيم التضمين إلى استعانة، وإيداع، أو رفو: وربما سمي تضمين البيت فما زاد استعانة، وتضمين المصراع فما دونه تارة إيداعا, وتارة رفوا1. العقد: وأما العقد فهو: أن ينظم نثر لا على طريق الاقتباس2. 1- أما عقد القرآن, فكقول الشاعر: أنلني بالذي استقرضت خطا ... وأشهد معشرا قد شاهدوه3 فإن الله خلاق البرايا ... عنت لجلال هيبته الوجوه يقول: إذا تداينتم بدين ... إلى أجل مسمى فاكتبوه 2- وأما عقد الحديث؛ فكما روي للشافعي رضي الله عنه: عمدة الخير عندنا كلمات ... أربع قالهن خير البريه اتق الشبهات، وازهد، ودع ما ... ليس يعنيك، وأعملَنْ بنيه4 عقد قوله عليه السلام: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات"، وقوله عليه السلام: "ازهد في الدنيا يحبك الله"، وقوله عليه السلام: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات". وأما عقد غيرهما فكقول أبي العتاهية: ما بال من أوله نطفة ... وجِيفة آخره يفخر5 عقد قول علي رضي الله عنه: "وما لابن آدم والفخر؛ وإنما أوله نطفة، وآخره جيفة! ". وقوله أيضا: كفى حزنا بدفنك، ثم أني ... نفضت تراب قبرك عن يديّا

وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا1 قيل: عقد قول بعض الحكماء في الإسكندر لما مات: "كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس". وقيل: هو قول "المُوبَذ" لما مات قُباذ الملك. وقول الآخر: يا صاحب البغي إن البغي مصرعة ... فارْبَعْ فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يوما على جبل ... لاندكّ منه أعاليه وأسفله2 عقد قول ابن عباس رضي الله عنهما: "لو بغى جبل على جبل لدُك الباغي", وقول الآخر: البس جديدك إني لابس خَلَقي ... ولا جديد لمن لا يلبس الخَلَقا3 عقد المثل: "لا جديد لمن لا خَلَق له" قالته عائشة -رضي الله عنها- وقد وهبت مالا كثيرا، ثم أمرت بثوب لها أن يرقع. يضرب في الحث على استصلاح المال.

الحل

الحل: وأما الحل فهو أن ينثر نظم، وشرط كونه مقبولا شيئان: أحدهما أن يكون سبكه مختارا لا يتقاصر عن سبك أصله، والثاني: أن يكون حسن الموقع مستقرا في محله غير قلق1، وذلك كقول بعض المغاربة: "فإنه لما قبحت فعلاته، وحنظلت نخلاته، لم يزل سوء الظن يقتاده، ويصدق توهمه الذي يعتاده"؛ حلّ قول أبي الطيب: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم2 وكقول صاحب "الوشى المرقوم في حل المنظوم"3 يصف قلم كاتب: "فلا تحظى به دولة إلا فخرت على الدول، وغنِيت به عن الخيل والخَوَل، وقالت: أعلى الممالك ما يبنى على الأقلام, لا على الأسل". حلّ قول أبي الطيب أيضا: أعلى الممالك ما يبنى على الأسل4 وكقول بعض كتاب العصر في وصف السيف: "أورثه عشق الرقاب نحولا، فبكى، والدمع مطر تزيد به الخدود محولا". حل قول أبي الطيب أيضا:

التلميح

التلميح: وأما التلميح فهو: أن يُشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره1. فالأول كقول ابن المعتز: أترى الجيرة الذين تداعوا ... عن سير الحبيب وقت الزوال علموا أنني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجِمَال مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م، ولا يعلمون ما في الرحال2 وقول أبي تمام: لحقنا بأخراهم وقد حوّم الهوى ... قلوبا عهدنا طيرها وهي وُقَّع3

فرُدَّت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخِدْر تطلع1 نضا ضوءها صِبْغ الدُّجُنة وانطوى ... لبهجتها ثوب السماء المجزع2 فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع3 أشار إلى قصة يوشع بن نون فتى موسى -عليهما السلام- واستيقافه الشمس؛ فإنه روي أنه قاتل الجبارين يوم الجمعة، فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم، ويدخل السبت، فلا يحل له قتالهم فيه، فدعا الله، فرد له الشمس حتى فرغ من قتالهم. والثاني كقول الحريري: "وإني -والله- لطالما تلقيت الشتاء بكافاته، وأعددت له الأهب قبل موافاته". أشار إلى قول ابن سكرة: جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا كِنّ، وكِيس، وكانون، وكاس طِلا ... بعد الكَباب، وكشّ ناعم، وكِسا4 وقوله أيضا: "بتّ بليلة نابغية"، أومأ به إلى قول النابغة: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع5

وقول غيره: لعمرو مع الرَّمْضاء والنار تلتظي ... أرق وأحفى منك في ساعة الكرب1 أشار إلى البيت المشهور: المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار2 ومن التلميح ضرب يشبه اللُّغْز، كما روي أن تميميا قال لشريك النميري: "ما في الجوارح أحب إلي من البازي" فقال: "إذا كان يصيد القطا". أشار التميمي إلى قول جرير3: أنا البازي المطل على نمير ... أتيح من السماء لها انصبابا4 وأشار شريك إلى قول الطرماح: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلت5

تمرينات على السرقات الشعرية وما يتصل بها

تمرينات على السرقات الشعرية وما يتصل بها: تمرين1: بين موضع الأخذ ونوعه وحكمه في قول عمرو بن معديكرب: والضاربين بكل أبيض مرهف ... والطاعنين مجامع الأضغان قوم ترى أرماحهم يوم الوغى ... مشغوفة بمواطن الكتمان وقول مسلم بن الوليد، وأبي تمام بعده: لا يستطيع يزيد من طبيعته ... عن المروءة والمعروف إحجاما تعود بسط الكف حتى لو انه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله تمرين2: من أي أقسام الأخذ غير الظاهر ما يأتي: 1- قول أبي العتاهية: إنما الناس كالبهائم في الرز ... ق سواء جهولهم والحكيم مع قول أبي تمام بعده: فلو كانت الأرزاق تجري على الحجا ... هلكن إذن من جهلهن البهائم؟ 2- قول مسلم بن الوليد: يعدو عدوك خائفا فإذا رأى ... أن قد قدرت على العقاب رجاكا مع قول أبي تمام بعده: إذا سيفه أضحى على الهام حاكما ... غدا العفو منه وهو في السيف حاكم؟ تمرين3: ميز بين الاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح في الأمثلة الآتية: 1- قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] .

2- أشكو الأقارب لا يغيب جَفَاهم ... يبغي أذاي صغيرهم وكبيرهم هم يعلنون لدى اللقاء مودتي ... والله يعلم ما تُكنّ صدورهم 3- لم أنس موقفنا بكاظمة ... والعيش مثل الدار مسوَدّ والدمع يُنشد في مسايله: ... هل بالطلول لسائل رد؟ 4- قول إبراهيم بن العباس الصولي: "فأبدلوه آجالا من آمال"، مع قول مسلم بن الوليد قبله: مُوفٍ على مُهَج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل 5- قول أبي الطيب: ولم أر في عيوب الناس شيئا ... كنقص القادرين على التمام مع قول أرسطو قبله: "أعجز العَجَزَة من قدر أن يزيل العجز عن نفسه فلم يفعل". 6- قول أبي العلاء: أَفِقْ إنما البدر المقنع رأسه ... ضلال وغي مثل بدر المقنع 7- قول أبي نواس: بروحي غزال كان للناس قِبْلَة ... وقد زرت في بعض الليالي مصلاه ويقرأ في المحراب والناس خلفه ... ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله فقلت: تأمل ما تقول فإنها ... فعالك يا من تقتل الناس عيناه

الفصل الثاني مواضع التأنق في الكلام

الفصل الثاني: مواضع التأنق في الكلام ينبغي للمتكلم أن يتأنق في ثلاثة مواضع من كلامه؛ حتى تكون أعذب لفظا، وأحسن سبكا، وأصح معنى1. حسن الابتداء: الأول: الابتداء؛ لأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان كما ذكرنا أقبل السامع على الكلام، فوعى جميعه، وإن كان بخلاف ذلك أعرض عنه ورفضه، وإن كان في غاية الحسن. فمن الابتداءات المختارة قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل2 وقول النابغة: كِلِيني لهمّ يا أميمة ناصب ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب3 وقول أبي الطيب:

أتظنني من زَلّة أتعتّب ... قلبي أرقّ عليك مما تحسب1 وقوله: أريقكِ أم ماء الغمامة أم خمر ... بفيّ برود وهو في كبدي جمر2 وقوله: فراق ومن فارقت غير مذمم ... وأم ومن يممت خير مُيَمَّم3 وقوله: أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خِلْقة في المآقي4 وقول الآخر: زَمّوا الجِمال فقل للعاذل الجاني ... لا عاصم اليوم من مِدْرار أجفاني5

قبح الابتداء

قبح الابتداء: وينبغي أن يجتنب في المديح ما يُتطير به؛ فإنه قد يتفاءل به الممدوح أو بعض الحاضرين؛ كما روي أن ذا الرمة أنشد هشام بن عبد الملك قصيدته البائية: ما بال عينك منها الماء ينسكب1 ... فقال هشام: "بل عينك". ويقال: إن ابن مقاتل الضرير أنشد الداعي العلوي قصيدته التي أولها: موعد أحبابك بالفرقة غد2 فقال له الداعي: "بل موعد أحبابك، ولك المَثَل السوء". وروي أيضا أنه دخل عليه في يوم مهرجان, وأنشد: لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غُرَّة الداعي ويوم المهرجان3 فتطيّر به وقال: "أعمى يبتدئ بهذا يوم المهرجان! " وقيل: بطحه وضربه خمسين عصا، وقال: إصلاح أدبه أبلغ في ثوابه. وقيل: لما بنى المعتصم بالله قصره بالميدان وجلس فيه؛ أنشده إسحاق الموصلي: يا دار غيّرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاكِ4 فتطير المعتصم بهذا الابتداء، وأمر بهدم القصر. ومن أراد ذكر الديار والأطلال في مديح, فليقل مثل قول القُطامي: إنا محيوك فاسلم أيها الطلل5 أو مثل قول أشجع السلمي: قصر عليه تحية وسلام ... خلعت عليه جمالها الأيام6

براعة الاستهلال

براعة الاستهلال: وأحسن الابتداءات ما ناسب المقصود، ويسمى براعة الاستهلال1؛ كقول أبي تمام يهنئ المعتصم بالله بفتح عمورية، وكان أهل التنجيم زعموا أنها لا تفتح في ذلك الوقت: السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب2 بيض الصفائح لا سود الصحائف ... في متونهن جلاء الشك والريب3 وقول أبي محمد الخازن ينهئ ابن عباد بمولود لبنته: بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعد ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا4 وقول الآخر: أبشر فقد جاء ما تريد ... أباد أعداءك المبيد5 وكقول أبي الفرج الساوي يرثي بعض الملوك من آل بويه -أظنه6 فخر الدولة: هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي7 وكذا قول أبي الطيب يرثي أم سيف الدولة: نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال8 وترتبط السوابق مقربات ... فما ينجين من خبب الليالي9

حسن التخلص

حسن التخلص: الثاني التخلص، ونعني به الانتقال مما شبب1 الكلام به من تشبيب أو غيره2 إلى المقصود مع رعاية الملاءمة بينهما3: لأن السامح يكون مترقبًا للانتقال من التشبيب إلى المقصود كيف يكون؛ فإذا كان حسنًا متلائم الطرفين، حرك من نشاط السامع، واعان على إصغائه إلى ما بعده، وإن كان بخلاف ذلك؛ كان الامر بالعكس. فمن التخلصات المختارة قول أبي تمام:

يقول في قُومس قومي وقد أخذت ... منا السُّرَى وخُطا المهرية القود1 أمطلع الشمس تبغي أن تؤمّ بنا ... فقلت: كلا ولكن مطلع الجود2 وقول مسلم بن الوليد: أجدّكِ ما تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك تنشر3 سهرت بها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر4 وقول أبي الطيب يمدح المغيث العجلي: مرت بنا بين تِرْبَيها فقلت لها: ... من أين جالس هذا الشادن العَرَبا5 فاستضحكت ثم قالت: كالمغيث يرى ... ليث الشَّرَى وهو من عجل إذا انتسبا6 وقوله أيضا: خليليّ ما لي لا أرى غير شاعر ... فكم منهم الدعوى ومني القصائد7 فلا تعجبا؛ إن السيوف كثيرة ... ولكن سيف الدولة اليوم واحد8

الاقتضاب

الاقتضاب: وقد يُنتقل من الفن الذي شُبِّب الكلام به إلى ما لا يلائمه، ويسمى ذلك "الاقتضاب"، وهو مذهب العرب الأول ومن يليهم من المخضرمين1؛ كقول أبي تمام: لو رأى الله أن في الشيب خيرا ... جاورته الأبرار في الخلد شِيبا2 كل يوم تبدي صروف الليالي ... خلقا من أبي سعيد غريبا3

الاقتضاب القريب من التخلص

الاقتضاب القريب من التخلص: ومن الاقتضاب ما يقرب من التخلص1؛ كقول القائل بعد حمد الله: "أما بعد"2؛ قيل: وهو3 فصل الخطاب، وكقوله تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] أي: الأمر هذا، أو هذا؛ كما ذكر4. وقوله تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} 5 [ص: 49] ، ونحوه قول الكاتب: هذا باب، هذا فصل.

حسن الانتهاء

حسن الانتهاء: الثالث: الانتهاء؛ لأنه آخر ما يعيه السمع، ويرتسم في النفس؛ فإن كان مختارا كما وصفنا1 جَبَر ما عساه وقع فيما قبله من التقصير، وإن كان غير مختار كان بخلاف ذلك، وربما أنسى محاسن ما قبله. فمن الانتهاءات المرضية قول أبي نواس: فبقيتَ للعلم الذي تهدي له ... وتقاعست عن يومك الأيام2 وقوله: وإني جدير إذ بلغتك بالمنى ... وأنت بما أمّلت منك جدير فإن تُولِني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور3 وقول أبي تمام في خاتمة قصيدة فتح عمّورية: إن كان بين صروف الدهر من رَحِم ... موصولة أو ذِمَام غير مقتضب4 فبين أيامك اللاتي نُصرتَ بها ... وبين أيام بدر أقرب النَّسَب5 أبقت بني الأصفر المِمْراض كاسمهم ... صفر الوجوه وجلّت أوجه العرب1

براعة المقطع

براعة المقطع: وأحسن الانتهاءات ما آذن بانتهاء الكلام1؛ كقول الآخر: بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبرِيّة شامل2 وقوله: فلا حَطّت لك الهَيْجاء سَرْجا ... ولا ذاقت لك الدنيا فِرَاقا3 وجميع فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البلاغة وأكملها؛ يظهر ذلك بالتأمل فيها مع التدبر لما تقدم من الأصول4. ... والله الموفق للخيرات. "تم الكتاب بحمد الله وتوفيقه"

تمرينات على مواضع التأنق في الكلام

تمرينات على مواضع التأنق في الكلام تمرين1: بين المقصود من القصائد المجعول لها ما يأتي براعة استهلال: 1- المجد عُوفِيَ إذ عُوفيتَ والكرم ... وزال منك إلى أعدائك السَّقَم 2- أما وهواها عِذْرَة وتنصلا ... لقد نقل الواشي إليها وأمحلا 3- حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار تمرين2: ميز بين الاقتضاب, والتخلص فيما يأتي: 1- وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح 2- كأنما قولنا للبابلي أدر ... سلافة قولنا للمزيدي هب 3- هذا وكم لي بالجنينة سكرة ... أنا من بقايا شربها مخمور 4- فدع ذا وسل الهم عنك بجَسْرة ... ذَمُول إذا صام النهار وهجّرا 5- ولا الرجاء لمتّ من ألم النوى ... لكن قلبي بالرجاء موكَّل إن الرعية لم تزل في سيرة عمريّة مد سَاسَها المتوكل تمرين3: بين لِمَ كانت الانتهاءات الآتية براعة مقطع: 1- فما من ندى إلا إليك محله ... ولا رفعة إلا إليك تسير 2- بقيت ولا أبقى لك الدهر كاشحا ... فإنك في هذا الزمان فريد 3- عليك سلام نشْره كلما بدا ... به يتغالى الطيب والمسك يختم

الفهارس

الفهارس: الصفحة الموضوع 571 تعريف علم البديع 572 تقسيم المحسنات إلى معنوية ولفظية "572-639" أقسام المحسن المعنوي: 572 المطابقة أو الطباق 575 الطباق الظاهر والخفي 575 طباق الإيجاب وطباق السلب 577 الطباق المسمى تدبيجا 578 ما يُلحق بالطباق 580 ما يُخص من الطباق باسم المقابلة 582 مراعاة النظير أو التناسب, تشابه الأطراف 585 إيهام التناسب 585 إرجاع التفويف إلى التناسب والمطابقة 587 الإرصاد أو التسهيم 588 المشاكلة 591 الاستطراد 591 إيهام الاستطراد 592 المزاوجة 592 العكس والتبديل 594 الرجوع 595 التورية أو الإيهام 598 الاستخدام 600 اللف والنشر 602 الجمع 602 التفريق 603 التقسيم

604 الجمع مع التفريق 605 الجمع مع التقسيم 606 الجمع مع التفريق والتقسيم 607 التقسيم بمعنيين آخرين 609 التجريد 612 المبالغة المقبولة 615 المذهب الكلامي 616 حسن التعليل 621 ما يلحق بحسن التعليل 621 التفريع 622 تأكيد المدح بما يشبه الذم 624 تأكيد الذم بما يشبه المدح 625 الاستتباع 625 الإدماج 627 التوجيه 629 الهزل الذي يراد به الجد 630 تجاهل العارف 632 القول بالموجب 635 الاطراد 636 تمرينات على المحسنات المعنوية "640-667" المحسنات اللفظية: 640 أقسام المحسن اللفظي, الجناس: الجناس التام وأقسامه 643 الجناس المحرف، الجناس الناقص 645 الجناس المضارع واللاحق 646 الجناس المقلوب المجنح والجناس المزدوج

647 ما يُلْحَق بالجناس 649 رد العجز على الصدر 653 السجع وأقسامه 654 السجع المطرف 654 الترصيع 654 السجع المتوازي 654 شروط حسن السجع 656 السجع القصير والطويل والمتوسط 656 سكون أعجاز الفواصل 657 الخلاف في إطلاق السجع في القرآن والشعر 659 التشطير 659 التصريع 660 الموازنة والمماثلة 661 القلب 662 التشريع 663 لزوم ما لا يلزم 664 أصل الحسن في القسم اللفظي 666 تمرينات على المحسنات اللفظية "668-715" خاتمة في فصلين يلحقان بالبديع 669 الفصل الأول: السرقات الشعرية 670 أقسام السرقة الظاهرة 670 النسخ والانتحال 674 الإغارة أو المسخ 678 الإلمام أو السلخ 683 أقسام السرقة غير الظاهرة 685 النقل

685 القلب 688 ما يتصل بالسرقات الشعرية 688 الاقتباس 693 التضمين 696 تقسيم التضمين إلى استعانة وإبداع أو رفو 696 العقد 698 الحل 700 التلميح 703 تمرينات على السرقات الشعرية 705 الفصل الثاني: مواضع التأنق في الكلام 705 حسن الابتداء 706 قبح الابتداء 708 براعة الاستهلال 709 حسن التخلص 711 الاقتضاب 712 الاقتضاب القريب من التخلص 713 حسن الانتهاء 714 براعة المقطع 715 تمرينات على مواضع التأنق في الكلام "717-720" الفهرس رقم الإيداع: 7774 لسنة 2005م الترقيم الدولي: i.s.b.n.: 977-241-659-x

§1/1