بغية الإربة في معرفة أحكام الحسبة لابن الديبع

ابن الديبع الشيباني

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف الحمد لله الذي بين الأحكام، وشرع الحلال والحرام ودعا إلى الخير ودل عليه أهل طاعته، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر لشناعته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحكم العدل في أحكامه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله المخصوص بتشريفه وإكرامه صلى الله عليه وسلم ما قامت به الأركان الحق الدعائم وعلى آله وصحبه الذين كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم. أما بعد فقد جمعت هذه الورقات في أحكام الحسبة لينتفع بها من كان له في ولاية الأحكام رغبة، وليعرف ما له، وما عليه من الأحكام، فليس العالم كالجاهل عند أولي الأحلام، وسميتها "ببغية الإربة في أحكام الحسبة"، وجعلتها في ستة فصول وخاتمة، وأسأل الله تعالى أن يرزقني وسائر المسلمين حسن الخاتمة.

الفصل الأول في حقيقة الحسبة وبيان كونها فرض عين على من وليها، وكفاية على غيره من سائر المسلمين

الفصل الأول في حقيقة الحسبة وبيان كونها فرض عين على من وليها، وكفاية على غيره من سائر المسلمين اعلم أن حقيقة الحسبة هي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، والمراد بالمعروف هو الأمر بالواجبات، والمندوبات والنهي عن المنكر النهي عن المحرمات، والمكروهات، قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون

إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، قال المفسرون الخطاب للمؤمنين في هذه الآية أي كونوا أمة تدعون إلى الخير أي الإيمان بالله ورسوله وتأمرون بالمعروف أي بطاعة الله وتنهون عن المنكر أي عن معصية الله تعالى: {وأولئك هم المفلحون} يعني الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتسألوني فلا أعطيكم، و (تستنصروني) فلا أنصركم"، قال العلماء كان النبي صلى لله عليه وسلم يجب عليه النهي عن المنكر مطلقًا، وذلك من الواجبات المختص عليه الصلاة والسلام بوجوبها عليه فكان يجب عليه صلى الله عليه وسلم إذا رأى منكرًا أن ينكره، ويغيره من غير تفصيل بالخوف، أو عدمه، وغيره من سائر الأمة لا يجب عليه ذلك إلا إذا أمكنه،

الفصل الثاني في الفروق بين المحتسب وغيره

وقدر عليه، وذلك لأن الله تعالى وعد النبي صلى الله عليه وسلم بالعصمة، والحفظ لقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} غيره ليس كذلك، فإذا تقرر أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ونصب الإمام الأعظم لذلك من يتولاه وهو المحتسب لزمه القيام بذلك، وكان في حقه فرض عين، وغيره من سائر المسلمين إنما يكون عليه فرض كفاية، والله أعلم. الفصل الثاني في الفروق بين المحتسب وغيره اعلم وفقك الله وإياي أن الفرق بين المحتسب وغيره يكون من تسعة أوجه: أحدها أن ذلك فرض تعين على المحتسب بحكم الولاية، وغيره إنما هو عليه فرض كفاية. الثاني: أن قيام المحتسب بذلك إنما هو من حقوق تصرفه الذي لا يجوز له أن يتساهل فيها بخلاف غيره، الثالث: أنه منصوب للاستعداء إليه بما يجب إنكاره، وليس أحاد المسلمين كذلك. الرابع: أنه يجب عليه إجابة من استعداه، ولا يجب ذلك على غيره. الخامس: أن يبحث عن المنكرات الظاهرة فينكرها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر فيأمر به وليس على غيره بحث ولا فحص، السادس أن يتخذ له على الإنكار أعوانًا لأنه عمل هو منصوب له، وإليه مندوب، وليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس ذلك لغيره. السابع: أن له أن يعزر بالمنكرات الظاهرة، وليس للآحاد ذلك. الثامن أن له أن يرتزق أي يأخذ على عمله رزقًا من بيت المال، التاسع: ما يتعلق بالعرف دون الشرع

كمقاعد الأسواق، وإخراج الأجنحة، فينكرها، ويقر من ذلك ما أداه إليه اجتهاده وليس هذا للآحاد. فهذا بيان الفرقة بين متولي الحسبة، وبين غيره من المسلمين عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأعمله، وليس للمحتسب سماع الدعاوي الخارجة عن المنكرات في العقود، والمعاملات، (والطلبات)، وسائر الحقوق، فلا يجوز أن يسمع الدعاوي فيها، ولا أن يتعرض للحكم فيها لا في كثير من الحقوق، ولا في قليلها من درهم فما دون إلا أن يصرح له بذلك بنص صريح، [يزيد على إطلاق الحسبة فيجوز، ويصير بهذه الزيادة جامعًا بين قضاء وحسبة فيراعي فيه أن يكون من أهل الاجتهاد]، والله أعلم.

الفصل الثالث في أركان الحسبة

الفصل الثالث في أركان الحسبة قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في كتابه إحياء علوم الدين للحسبة أركان: الأول المحتسب وله شروط منها أن يكون بالغًا عاقلًا، ومنها أن يكون مسلمًا فلا حسبة لكافر على مسلم، ومنها أن يكون قادرًا فلا حسبة للعاجز عما يتولي

ولا تشترط الحرية، ولا الذكورة، ولا العدالة، وآداب المحتسب العلم والورع

وحسن الخلق، والمداراة، وإذا علم المحتسب أن كلامه لا ينفع ولا يؤثر، وأنه لا يقدر على التأديب أو يضر به سقط الوجوب، وحرم عليه حضور مواضع المنكر، ولا يخرج من بيته إلا لحاجة مهمة، أو واجب ولا يلزمه مفارقة (البلد)، و (ولا الهجرة)، (إلا أن يرهق إلى الفساد أو يحمل على مساعدة) [السلاطين في] الظلم والمنكرات، وإن علم أنه لا ينفع كلامه لكنه لا يخاف مكروهًا استحب له المنع

الركن الثاني

ولا يلزمه المنع، ولو رأى فاسقًا معلنًا وعنده سيف وبيده قدح خمر، ولو علم أنه لو أنكر عليه شربه يضربه بالسيف حرمت عليه الحسبة، ولو علم أنه يضرب غيره من أصحابه وأقاربه فكذلك، وإن علم أنه يأخذ ماله أو مال أقاربه، أو رفقائه سقط الوجوب، ويختلف ذلك بالقلة والكثرة والظن الغالب في هذه الأبواب العلم، ولا يسقط الوجوب كخوف فوات المطالب فيلزمه الإنكار على معلمه، وقريبه، وعلى من يواسيه بمال، أو ينصره بجاه إلا أن يعينوه أو يضطر إليهم فلا يعد في سقوطه. الركن الثاني: ما فيه من الحسبة وله شروط: منها أن يكون منكرًا وإن لم تكن معصية حتى لو رأى صبيًا، أو مجنونًا يشرب الخمر فعلى المحتسب أن يريقها، وكذا إذا رأي مجنونًا يزني بمجنونة، أو بهيمة [فعليه أن يمنعه منها]، ومنها أن تكون المعصية موجودة في الحال فإذا فرغ من الشرب، أو الزنا فلا حسبة للآحاد فيما مضى، ولا فيما يوجد من بعد إذا

علمه بالقرينة أنه عائد إليه، إلا وعظًا، ومنها أن يكون ظاهرًا بلا تجسس، وكل من يستر معصيته في داره، وأغلق عليه بابه لم يجز التجسس عليه إلا أن يظهر من الدار ظهورًا يعرفها الخارج، كصوت المزمار، والأوتار، والسكارى بالكلمات المألوفة بينهم، وكذا لو فاحت روائح الخمر وعلم بالقرائن تعاطيهم شربها، وقد (يستر) الخمر والملاهي تحت أذيال الثياب، فإذا رأي فاسقًا تحت ذيله شيء لم يجز كشفه ما لم يظهر حاله كرائحة الخمر وغيرها، ومنها منكرًا مقطوعًا به، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب، والضبع، ومتروك التسمية، ولا الشافعي أن ينكر على الحنفي شرب النبيذ

الركن الثالث المحتسب (عليه)

[الذي ليس بمسكر]، وأخذ ميراث ذوي الأرحام، وسكنى دار أخذها بشفعة الجوار، نعم لو رآه الشافعي يشرب النبيذ وينكح بلا ولي ويطأها فله أن ينكر عليه لأن على كل مقلد إتباع مقلده، ويعصى بمخالفته، ولو رأي الشافعي الحنفي يأكل الضب أو الضبع أو يترك التسمية فله أن يقول إما أن تعتقد أن الشافعي أولى بالإتباع أو تترك ذلك وكذا الحنفي أن يقول للشافعي إذا نكح بلا ولي، لأن قول من قال لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتقده. الركن الثالث المحتسب (عليه): وشرط أن يكون إنسانًا، ولا يشترط أن يكون المنكر عليه المنكر إذ ينكر على الصبي، والمجنون، ولا أن يكون مسلمًا إذ ينكر على الكافر الزنا وإظهار الخمر وشربها، ولو رأى البهائم قد استرسلت في زرع، وقدر على حفظها من الضياع من

الركن الرابع الاحتساب وله درجات

غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في حاله، أو نقص في جاهه وجب الدفع، وفيه نظر لأن الدفع من المال غير واجب، وتثبت الحسبة على الوالد بالتعريف، والوعظ والنصح وكسر العود وإراقة الخمر، ورد ما غصب إلى ما مالكه، وإبطال الصور المنقوشة على حيطانه والمنقورة في خشب بيته، وليس عليه الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد، وهذا الترتيب يجري في العبد مع سيده، والزوجة مع الزوج، وأما الرعية مع السلطان فليس لهم إلا التعريف والنصح، وأما التلميذ مع الأستاذ فأمره أحق لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه، وله أن (يعامله) بموجب علمه الذي يعلمه منه. الركن الرابع الاحتساب وله درجات الأولى: التعرف لا التجسس، وهو حرام فلا يجوز أن يسترق السمع على دار غيره يسمع الأوتار، ولا أن يستنشق [ليدرك] رائحة الخمر، ولا أن يستخبر جيرانه ليخبروه بما (جرى) في داره، نعم لو أخبره عدلان ابتداء بأن (فلانًا) يشرب في داره الخمر، أو في داره خمر أعدها للشرب فله الهجوم على داره، وإن

أخبره عبدان، أو عدل واحد فالأولى أن يمتنع. الثانية: التعريف فإنه يعذر بالجهل فيجب تعريفه باللطف بلا عنف، كما لو رأى سواديًا يصلي ولا يحسن الركوع والسجود، فيقول له خفية إن الإنسان لا يولد عالمًا، وقد كنا جاهلين بأمور الصلاة فلعل قريتك خالية من أهل العلم، أو عالمها مقصر في شرح الصلاة وإيضاحها وهكذا يتلطف [من غير إيذاء] فإن إيذاء المسلم حرام. كما أن تقريره على المنكر حرام، ومن أستبدل (السكوت) عن النهي [فهو كمن] غسل البول بالدم، ولا يفعله عاقل. الثالثة النهي بالوعظ والنصح، والتخويف بالله، ويورد على ذلك الأخبار الواردة بالوعيد فيه، ويحكي للمواعظ بسيرة وعادة المتقين.

الرابعة: السب والتعنيف والأقوال الغليظة كقوله يا فاسق، يا فاجر، يا أحمق، يا جاهل، يا غبي، ولا يفحش، في القول بما فيه نسبته إلى الزنا، ومقدماته ولا إلى الكذب. الخامسة: التغيير للمنكر باليد ككسر الملاهي، وإراقة الخمر، وخلع الحرير من رأسه [وعن بدنه]، وإخراجه من الدار المغصوبة.

السادسة: التهديد والتخويف بعقوبة كقوله دع [عنك] هذا وإلا كسرت رأسك، أو لأمرن به ونحوهما، ولا يخوفه بما لا يجوز كقوله لأنهبن دارك، لأضربن ولدك. السابعة: مباشرة الضرب باليد والرجل بقدر الحاجة، فإن احتاج إلى شهر السلاح فله ذلك. الثامنة: أن [لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج إلى أعوان يُشهرون السلاح] إن احتاج إليه، فإن تقابلا صفان، وتقاتلا فهو كما قال بعضهم إلى بعض.

الفصل الرابع في المنكرات المألوفة

الفصل الرابع في المنكرات المألوفة وهي أنواع الأول منكرات المساجد: كأساة الصلاة بترك الطمأنينة في ركوعها وسجودها، [وهو منكر مبطل للصلاة]، فيجب النهي عنها إلا للحنفي، وكقراءة القرآن جنبًا، فيجب النهي عنه، وتلقين الصحيح الذي يكثر [اللحن في القرآن إن كان قادرًا على التعلم] فليمتنع عن القراءة [قبل التعلم] فإن من أهمل التعلم فقد عصى، فإن لم (يطاوعه لسانه) فإن أكثر ما (يقرؤه) لحنًا فليتركه وليشتغل بتعلم فاتحة الكتاب، وتصحيحها فإن كان الأكثر صحيحًا ولا يقدر على التسوية فلا بأس أن يقرأ، ولكن يخفي صوته حتى لا يسمع غيره، وتراسل المؤذنين في الأذان، وتطويلهم في كلماته، وانحرافهم عن صوب القبلة في الحيعلتين (وانفراد) كل واحد بأذان بلا توقف إلى انقطاع الأخر منكرات مكروهة يجب تعريفها، وإن صدر عن معرفة فيستحب منعه، ولو

لبس الخطيب ثوبًا أسود يغلب عليه الإبريسيم، أو أمسك سيفًا مذهبًا كان فاسقا يجب الإنكار عليه، ومجرد السواد لا يكره، ولا يستحب، ومن قال أنه مكروه، أو بدعة أراد أنه لم يكن معهودًا في الصدر الأول، ولكن إذا لم يرد نهي فلا ينبغي أن يسمى بدعة ولا مكروه، ولكنه ترك المستحب، ويجب على المحتسب منع الواعظ المبتدع والقاص الكاذب في الأخبار ولا يجوز حضور مجلسهم إلا للمنع، وإذا مال كلام الواعظ إلى الإرجاء وتجرئة الناس على المعاصي (وازدادوا) به جراءةً على الله، ووثوقًا بعفوه ورحمته، وزاد به رجاؤهم على خوفهم وجب منعه، بل لو رجح خوفهم على رجائهم كان أليق وأحسن، ولو كان الواعظ شابًا مزينًا كثير الأشعار والحركات والإشارات وقد حضر مجلسه النساء وجب المنع، فإن فساده أكثر من

صلاحه، بل ينبغي أن (لا يسلم الوعظ إلا) (لمن) علم من ظاهره الورع، وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين، وإلا فلا يزاد الناس به إلا تماديًا في الضلال فيجب أن يضرب بين النساء والرجال حائل يمنع النظر فإنه مظنة الفساد، ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلاة، ومجالس الوعظ إذا خيفت الفتنة، ومنع

(الحلق) يوم الجمعة، ومنع الأدوية، والأطعمة، والتعويذات، وقيام السؤال وقراءتهم الأشعار المحرمة، ومنع أهل الشعبذة والتلبيسات، وكذا أرباب التعويذات، الذين يتواصلون ببيعها إلى تلبيسات على الصبيان والسوداية فهذا حرام في المسجد وخارجه، ويجب المنع منه، بل كل بيع فيه كذب وتلبيس وإخفاء عيب على المشتري فغير مباح، ومنها ما هو خارج المسجد كالخياطة، وبيع الأدوية والكتب، والأطعمة، فلا

النوع الثاني: منكرات السوق

تحرم في المسجد إن لم تضيق المكان على المصلين والمعتكفين، ولم يشوش عليهم، وجرى في أوقات نادرة وأيام معدودة، فإن اتخذ المسجد دكانًا على الدوام حرم، ووجب المنع، فإن من المباحات ما يباح بشرط القلة، فإن كثر صار صغيرة، كما أن من الذنوب ما يكون صغيرة بعدم الإصرار. النوع الثاني: منكرات السوق (من المنكرات) المعتادة في الأسواق كالكذب في المرابحة، أو خفاء العيب، وترك الإيجاب والقبول في البيع، وبيع الملاهي والصور، وبيع العبيد والصبيان، وبيع الأواني المتخذة من الذهب والفضة، وبيع ثياب الحرير للرجال، وقلانس

النوع الثالث: منكرات الشوارع

الذهب والحرير التي لا تصلح [إلا] للرجال ويعرف ذلك بعادة البلد، وكل ذلك منكرات، ويجب المنع منه. النوع الثالث: منكرات الشوارع كوضع الأسطوانات، والدكات، وغرس الأشجار، وإخراج الرواشن، والأجنحة، ووضع الأخشاب والأحمال، والأطعمة، وكل ذلك يجب منعه إذا كان يؤدي إلى تضييق الطريق، وتتضرر به المارة، وكذا ربط الدواب على الطريق، وسوقها مع الشوك أو الحطب بحيث يمزق ثياب الناس، وطرح القمامة على الطريق، ورش الماء بحيث يخاف منه التزلق، وإرسال الماء من الميازيب في الطريق الضيقة طالقًا الثلج والماء المجتمع في الطريق، ولو كان له كلب عقور على باب داره وجب منعه.

النوع الرابع: منكرات الحمامات

النوع الرابع: منكرات الحمامات كالصورة على بابه وكشف العورة والنظر إليها، وكشف الدلاك عن الفخذ وما تحت السرة لتنحية الوسخ وإدخال اليد تحت الإزار، والإنبطاح على الوجه بين يدي الدلاك فكل ذلك حرام، إلا الانبطاح فإنه مكروه، ولا يجوز غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة، وغسل الإزار، والطاس النجس في الحوض وماؤه قليل، ولو كان فيه (حجارة) ملساء ينزلق الغافلون بها وجب قلعها وإزالتها، وترك السدر والصابون المزلق على أرض الحمام (منكر) يجب منعه. النوع الخامس منكرات الضيافة كفرش الحرير، ومجمرة الذهب والفضة، واستعمال الطيب من آنية الذهب والفضة، والستور المصورة، وسماع الأوتار والقينات، واجتماع النساء على السطوح للنظر

إلى الرجال، كل ذلك حرام يجب منعه، ومهما كان الطعام والثياب حراما، والموضع مغصوبا [فهو من] أشد (المنكرات)، ولو كان هناك لابس حرير، وخاتم [ذهب] فهو فاسق لا يجوز الجلوس معه (من غير) ضرورة، ولو كان هناك مبتدع متكلم في بدعته فيجوز الحضور لمن يقدر (الرد عليه)، وإن كان لا يتكلم فيجوز الحضور مع إظهار الكراهة، ولو كان في الموضع مضحك يضحك الناس بالفحش والكذب لم يجوز الحضور أو يغيرها جاز إن قل، ولو اتخذه عادة لم يجب، وليس من المنكرات [كل كذب لا يخفى أنه كذب ولا يقصد به التليس كقول الإنسان مثلا] طلبتك اليوم ألف مرة، (وأعدت) الكلام ألف مرة وشبهها، والإسراف في الطعام،

والبناء، وصرف المال إلى الطرب، والنائحة منكر يجب منعه، قلت وذكر غير الإمام رحمه الله (عن) المحتسب أمور. الأول ما يتعلق بحق الله تعالى، وهو نوعان أحدهما ما يؤمر به الجمع كإقامة الجمعة بحيث تجتمع بشروطها، فإن كانوا عددا يرون انعقادها بهم، والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوز، ولا ينهاهم عما يرون فرضا عليهم. ويأمرهم (بصلاة) العيد وجوبا لأن الأمر بالمعروف هو الأمر بالطاعة. النوع الثاني: ما يؤمر به الآحاد فلو أخر بعض الناس (صلاة) عن وقتها وقال نسيته حثه على المراقبة، ولا يعترض على من أخرها إلى أخر الوقت.

الأمر الثاني ما يتعلق (بحقوق الآدميين) وهو نوعان أيضًا: أحدهما عام كالبلد إذا تعطل شربه، أو انهدم سوره، أو جامعه، أو طُرقُه المحتاجون إليها، فإن كان في بيت المال، مال عمر ذلك منه، وإن لم يكن فيه مال أمر أهل الأمكنة أن يخرج كل واحد ما يسهل عليه وتطيب به نفسه لإصلاح ذلك. النوع الثاني: خاص كمطل المدين الموسر، فالمحتسب يأمره بالأداء إذا استعدى وليس له الضرب والحبس. الأمر الثالث الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بانكاح الأكفاء، وإلزام النساء العدد وأحكامها وأخذ السادة بحقوق الأرقاء، وأصحاب البهائم يتعهدها وأن (لا) يستعملوها فيما لا تطيق، ومن المنكرات تغيير هيئة العبادة كالجهر في الصلاة السرية، والإسرار في الصلاة

الجهرية، والزيادة في الأذان، والتصدي للتدريس، أو الوعظ وليس من أهلها، والوقوف في طريق خال مع امرأة لا في شارع يطرقه الناس فيقول له المحتسب إن كانت محرما لك فصنها من الريبة، ولا ينكر في حقوق الآدمي كتعدي الجار في [حد لجاره أو حريم لداره أو وضع بنيان أو أجذع على] جداره إلا إذا أستعدى عليه، وينكر على من يطيل (الصلاة) من أئمة المساجد المطروقة وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم واقصروا في النظر في الخصومات، ويختبر السوقي المختص بمعاملة النساء فإن ظهرت خيانته منعه من معاملتهن، قال الإمام النووي رحمه الله: " ولا يسقط الفرض

الفصل الخامس في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على آحاد الناس بعد قدرتهم

المكلف بظنه أنه لا يقبل كلامه ولعلمه أنه لا يؤثر أمره ونهيه"، وقد سبق في كلام الغزالي تفصيل في ذلك، ولا يشترط في الامر والناهي أن يكون ممتثلا ما يأمر بهن مجتنبا ما ينهي عنه، بل عليه (الأمر للامتثال والنهي للاجتناب) وإن أخل بأحدهم لم (يخل) بالأخر والله الموفق. الفصل الخامس في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على آحاد الناس بعد قدرتهم اعلم أنه لا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالولاة، بل يجوز ذلك للآحاد، ويجب عليهم بحد قدرتهم على ذلك، فإنما يأمر وينهي من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه، ويختلف ذلك بالأشياء، فإن ذلك من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة (كالصلاة) والصيام، والزنا، والخمر، فعلى كل عالم بها الإنكار منها، وإن كان من دقائق الأقوال والأفعال، ومما يتعلق بالاجتهاد، ولم يكن للعوام الابتداء به، بل ذلك للعلماء أو من علمه العلماء، والعلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، وأما المختلف فلا إنكار فيه إلا أن يعتقد تحريمه، على من يعتقد تحريمه، كالشافعي ينكر على الشافعي شرب النبيذ، والوطء في النكاح بلا ولي، كما ذكرناه أولا، ويستحب الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال سنة ثابتة، أو وقوع في خلاف آخر.

الفصل السادس في مراتب النهي عن المنكر

الفصل السادس في مراتب النهي عن المنكر اعلم أن الناهي عن المنكر يغير أولا باليد، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، ولا يكفي الوعظ لمن يمكنه الإزالة باليد، ولا يكفي بالقلب لمن يقدر على النهي باللسان، ويرفق بالجاهل أو الظالم الذي يخاف شره، وليس للآمر والناهي البحث والتجسس ولا اقتحام الدور بالظنون، وإن غلب على الظن إستسرار قوم بالمنكر بآثار وإمارات، فإن كان مما يفوت تداركه بأن أخبره ثقة أن رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها جاز التجسس والإقدام على الكشف، وإن لم يثبت تداركه فلا يجوز، ولو خاف الآمر والناهي على نفسه، أو على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع سقط الوجوب. خاتمة قال الإمام أبو الحسن الماوردي رحمه الله في كتابه الأحكام السلطانية: لو ظن المحتسب برجل أنه لا يغتسل من الجنابة، أو لا يصلي، أو لا يصوم لم يأخذه بالنقمة، ولو رآه يأكل في رمضان لم يؤذيه إلا بعد سؤاله عن الأكل فإن ذكر عذرًا كالمرض والسفر، واحتمال حاله ذلك كف عنه وأمره بإخفاء الأكل، كما لو علم عذره، ولو رأي من يسأل وعلم أنه غني بمال، أو عمل منعه وأدبه، ولو رأى عليه آثار الغنى أعلمه بالتحريم

[على المستغني عنها]، ولم يمنعه [لجواز أن يكون في الباطل فقيرا]، ولو رآه قويا جلدا منعه فإن أبا عزره، ويمنع من التطفيف في المكيال والميزان، والذرع، فإن استراب في ذلك فله أن يختبرها ويعايرها، ولو جعل على المعاير الصحيح (ختما)، لا (يتعاملون) إلا به كان أحفظ وأحوط، ولو رأى من يطفف فإن توفر علمه وحسنت طريقته قدره، وإلا منعه، ويأخذ أهل الذمة بالغيار، وما شرط عليهم في القول في

عزير وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وينكر على من (يطيل) (الصلاة) إلى أن يعجز عنها الضعفاء، وينكر على أهل السفن حمل ما لا تحتمله، ويخاف منه الغرق وكذا اليسير في اشتداد الريح، ولو كان فيهم النساء نصب لها مخارج للبراز، ولو بنى قوم في طريق (سابل) منعهم، وإن اتسع الطريق ويأمرهم بهدم البناء وإن كان مسجدًا،

ويمنع من نقل الموتى من قبر إلى أخر (لعدم جوازه)، ومن بقعة إلى أخرى، ويمنع من خضاب الشيب بالسواد إلا للجهاد، ومن التصبيغ للنساء، ومن التكسب بالكهانة، ويؤدب عليه الآخذ والمعطى. والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب، انتهى ما أردت جمعه من هذه الأوراق بتوفيق الملك الخلاق، وهي مع حجمها الصغير مشتملة على علم كبير، فأسأل الله التوفيق، وأن ينفع بذلك المسلمين، وأن يجعله لي ذخيرة يوم الدين. وصلى الله على سيدنا محمد و [على] آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

§1/1