بصائر في الفتن

محمد إسماعيل المقدم

بصائر في الفتن تأليف محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم عفا الله عنه الدار العالمية للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

بصائر في الفتن

بصائر في الفتن كل الحقوق محفوظة الدار العالمية للنشر والتوزيع الطبعة الثانية 1429 هـ -2008 م رقم الإيداع: 23834/ 2007 الدار العالمية للنشر والتوزيع 31 ش الصالحي - محطة مصر - الإسكندرية محمول 20105406403 + /ت: 2034970370 + /تلفاكس 2033907305 + E-mail: [email protected]

المقدمة

المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله نحمدُه على النعمِ الغامرة، حمدًا يُعيد قِفارَ القلوبِ عامرة، ونقرُّ له بالتوحيد على عقيدة ظاهرة، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمدٍ صلاةً تجلب لنا صلاةً إلى صلاةٍ إلى عاشرة، وعلى آله أولي المناقب الفاخرة، وصحبه ذوي الفضائل المتكاثرة. أما بعد: فما أحوجنا في هذا الزمان المملوء بالفتن والأكدار إلى أن نستبصر بطبائع الفتن، وكيفية النجاة منها، من خلال هدي القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكذا هدي الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-. فإن الفتن تترى كالسحب المتراكمة، وتتواتر عمياء صماء مطبقة، كقطع الليل المظلم، أو كالأمواج الملاطمة، تطيش فيها العقول، وتموت فيها القلوب، إلا من عصم الله عز وجل. ومن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو خير الهدى: الاستعداد للفتن قبل نزولها، بالتسلح بالعلم والبصيرة، مع العمل والاجتهاد، والاستعداد ليوم المعاد، عسى أن ننتبه عن الذنوب، وتلين منا القلوب، ونستيقظ من الغفلة، ونغتنم المهلة قبل المباغتة والوَهْلَة. ومن هنا جاءت هذه "البصائر" (¬1) تذكرة لمن كان له قلب، أو ألقى ¬

_ (¬1) بصائر: جمع بصيرة، وهي: قوة القلب المدركة، ويقال لها -أيضًا-: بَصَر؛ =

السمع وهو شهيد، والله سبحانه أسأل أن يُخلص نيتي، ويحْسِنَ طَوِيَّتي، فإنما الأعمالُ بالنيات، وإن الحسناتِ يُذهبن السيئاتِ، وإنما لكل امرئ ما نوى. محمَّد بن أحمد بن إسماعيل المقدم ثغر الإسكندرية في الخميس 27 جادى الآخرة 1428 هـ. الموافق 12 يوليو 2007 م. ¬

_ = قال تعالى: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]، أي: على معرفة وتحقق، وقال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، والضرير يقال له: بصير؛ لما له من قوة بصيرة القلب، انظر: "المفردات" للراغب ص (127)، و "بصائر ذوي التمييز" للفيروزآبادي (2/ 222).

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الفتن

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمَّتَه من الفتن أَوْلَى الشرع الشريف الفتن (¬1) قدرًا عظيمًا من الاهتمام، وحفلت دواوين السنة بالنصوص التي تحذر منها، وقلَّ أن يخلو ديوان منها من كتابِ أو بابِ الفتن. قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: "كتاب الفتن، باب ما ¬

_ (¬1) أصل معنى الفتنة في اللغة يدل على الابتلاء والاختبار كما في "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/ 472)، وقد قال الإِمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى-: "وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه، أو يضيفها رسولُه إليه؛ كقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53]، وقول موسى - عليه السلام -: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] فتلك بمعنى آخر، وهي بمعنى الامتحان، والاختبار، والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب، فهذه لون، وفتنة المشركين لون، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإِسلام؛ كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية وبين أهل الجمل، وبين المسلمين، حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر، وهي الفتنة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي"، وأحاديثُ الفتنة التي أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيها باعتزال الطائفتين، هي هذه الفتنة". اهـ. من "زاد المعاد" (169، 170)، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "وُيعرف المراد حيثما وَرَدَ بالسياق والقرائن". اهـ. من "فتح الباري" (11/ 176).

جاء في قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحَذِّرَُ من الفتن" (¬1). اهـ. وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: أشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أُطُمٍ من آطام المدينة، ثم قال: "هل ترون ما أري؟ إني أري مواقع الفتن خلالَ بيوتكم كمواقع القَطْر" (¬2). قال النووي - رحمه الله تعالى-: "والتشبيه بمواقع القطر في الكثرة والعموم، أي أنها كثيرة، وتعم الناس، لا تختص بها طائفة، وهذا إشارة إلى الحروب الجارية بينهم؟ كوقعة الجمل، وصفين، والحَرَّة، ومقتل عثمان، ومقتل الحسن - رضي الله عنهما -، وغير ذلك، وفيه معجزة ظاهرة له - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). اهـ. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (13/ 3 - فتح). (¬2) رواه البخاري (13/ 14 - فتح)، ومسلم (4/ 2211) رقم (2885)، والأُطُم: بناء مرتفع كالحِصن. (¬3) "شرح النووي" (18/ 7، 8).

الفتن واقعة لا محالة

الفتن واقعة لا محالة والفتن واقعة في أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كونًا وقدرًا، ولا بد من أن يقع ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر، ومِن ثَمَّ فلا بد من التبصر بها، والاستعداد لها، والحذر منها، بل يجب مضاعفة الحذر منها في عصرنا؛ لأننا صِرنا أقربَ إلى أشراط الساعة مما كان عليه المسلمون منذ أربعة عشر قرنًا. عن المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "إن السعيد لَمَن جُنِّبَ الفتن، ولَمَن ابتُلي فصبر" (¬1). وعن أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يبقَ من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنة" (¬2). وعن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، قال: انتهيت إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو جالس في ظلِّ الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فسمعته يقول: بينا نحن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في سفر إذ نزل منزلاً، فمنا من يضرب خباءه، ومنا من ينتضل (¬3)، ومنا من هو في جَشَرِه (¬4)، إذ نادى مناديه: "الصلاة جامعةً"، فاجتمعنا، فقام ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4263)، وقال الألباني في "الصحيحة" رقم (975): "إسناده صحيح على شرط مسلم". (¬2) "صحيح ابن ماجه" (2/ 374) رقم (3260). (¬3) أي: يرتمون بالسهام. (¬4) الجَشَر: قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى، ويبيتون مكانَهم، ولا يأوون إلى البيوت، كما في "النهاية" (1/ 273).

رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فخطبنا، فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرًا لهم، وينذرهم ما يعلمه شرًّا لهم، وإن أمتكم هذه، جُعِلَتْ عافيتُها في أولها، وإن آخِرهم يصيبهم بلاء، وأمورٌ تنكرونها، ثم تجيء فتن يُرَقِّقُ بعضُها بعضًا، فيقول المؤمن: هذه مُهلِكَتي، ثم تنكشف، ثم تجيء فتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، فمن سَرَّه أن يُزَحْزَحَ عن النار ويُدْخَلَ الجنة، فَلْتُدْرِكهُ موتتُه وهو يؤمن باللهِ واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يأتوا إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صَفْقَةَ يمينه، وثمرةَ قلبه، فليُطعْه ما استطاع، فإن جاء آخرُ ينازعه، فاضربوا عنق الآخر". قال: فأدخلت رأسي من بين الناس، فقلت: أنشدك الله! أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأشار بيده إلى أذنيه، فقال: سمعتْه أذناي، ووعاه قلبي (¬1). وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "أمتي أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة (¬2)، عذابها في الدنيا (¬3): الفتن، والزلازل، والقتل" (¬4). ¬

_ (¬1) "صحيح ابن ماجه" رقم (3195)، وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (205). (¬2) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى-: "وهو محمول على معظم الأمة المحمدية؛ لثبوت أحاديث الشفاعة: أن قومًا يُعذبون ثم يخرجون من النار، ويدخلون الجنة". اهـ. من "بذل الماعون في فضل الطاعون" ص (127). (¬3) وفي "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 38): "إن أمتي أمة مرحومة، جُعل عذابها بأيديها في الدنيا". (¬4) أخرجه أبو داود (4/ 105) (4278)، والحاكم (4/ 444)، والإمام أحمد (4/ 410، 418)، قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وحسَّنه الحافظ =

وفي بعض طرقه: أن أبا بردة قال: بينما أنا واقف في إمارة زياد، إذ ضربت بإحدى يدي على الأخرى تعجبًا، فقال رجل من الأنصار- قد كانت لوالده صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -: مما تعجب يا أبا بردة؟ قلت: أعجب من قوم دينهم واحد، ونبيهم واحد، ودعوتهم واحدة، وحجهم واحد، وغزوهم واحد، يستحل بعضُهم قتل بعض، قال: فلا تعجب، فإني سمعت والدي أخبرني أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: "أمتي أمة مرحومة" (¬1) فذكر الحديث. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: وأخرج أبو يعلى -أيضًا- بسند صحيح من رواية أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "إن هذه الأمة أمة مرحومة، لا عذاب عليها إلا ما عذبت به أنفسها، قلت: وكيف تعذب أنفسها؟ قال: أما كان يوم النهر عذاب؟! أما كان يوم الجمل عذاب؟! أما كان يوم صفين عذاب؟! " (¬2). ¬

_ = ابن حجر في "بذل الماعون" ص (127)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (959)، وانظر: "عون المعبود" (11/ 358 - 360). (¬1) أخرجه الحاكم (4/ 353، 354)، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، قال الألباني: "هو كما قالا، لولا الرجل الأنصاري الذي لم يُسَمَّ" "الصحيحة" رقم (959). (¬2) "بذل الماعون في فضل الطاعون" ص (127).

الحذر من الشر باب من أبواب الخير

الحذر من الشر باب من أبواب الخير إن التحذير من الشر باب من أبواب الخير، قال حذيفة - رضي الله عنه -: "كان الناس يسألون رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني" الحديث (¬1). فالدفع أسهل من الرفع، والتخلية مقدمة على التحلية، والوقاية خير من العلاج، وأحيانًا تكون العلاجَ الوحيد، والخبرة بالظلام تميزه عن النور، وتعصم من التورط فيه، فالضِّدُّ يُظِهر حُسْنَه الضدُّ، وبضدها تتميز الأشياء، قال أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: "يوشك أن يَهْدِمَ الإِسلامَ حَجَرًا حَجَرًا مَن جهل عاداتِ الجاهلية". عرفتُ الشرَّ لا للشرِّ ... لكنْ لتوقِّيه ومن لا يعرف الشرَّ ... من الخير يقعْ فيه قال الأستاذ محمَّد أحمد الراشد -حفظه الله تعالى-: "كان حذيفة - رضي الله عنه - لا يقنع أن يشارك إخوته من الصحابة - رضي الله عنه - سؤالَهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكملات الخير الذي هم فيه، وما أن يشاركهم فرحهم بالخير حتى تلذع ابتسامةَ قلبِه تخوفاتٌ من احتمالات شَرِّ مبهم يراه مُقبِلًا، يجهل صفته وعلامته، فيظل قلقًا وجلًا، حتى ينعته له رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ويذكر له بوادره ومقدماته التي ستنبهه يومًا ما إلى الاحتياط ورفع صوته بأذان التحذير. ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ في "صحيحه" (9/ 65).

كان يريد علمًا يكمِّل علم الخير، فصار يحرص على أن يخلو برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله. يقول حذيفة - رضي الله عنه -: "كان الناس يسألون رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني". فأتقن علم الشر بهذا الحرص، وأحاط خُبرًا بما سيكون من فتن وسوء ونفاق، حتى احتاج إلى علمه كبارُ الصحابة، وطفِق مثلُ عمرَ - رضي الله عنه - يسأله، ويستشيره. والمغزى الأكبر هنا يكمن في استجابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لحذيفة، وجوابه له، وقبولِهِ تعليمه علمَ الشر. لم يقل له: "إننا في خير، ونسير من نصر إلى نصر، فاصرف عنك الهواجس"؛ بل أجابه، وأعلمه. وإنما نستمد نحن مُسَوِّغاتِ تطرقِ بحوثِ فقهِ الدعوة لعلم الفتن والقواصم، وما ينجي منها من النور والعواصم، من مواطأة النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة، وتزويده له بما أراد. نتعلم علم الشر كي نراه ونميزه قبل أن يغزونا" (¬1). ¬

_ (¬1) "العوائق" ص (173 - 175).

من طبائع الفتن

من طبائع الفتن هذا، وإن للفتن طبائعَ وخصائصَ يُعين الاستبصار بها على تَوَقِّيها والنجاةِ منها، وما أكثر الفتن التي وقعت بسبب غياب البصيرة بهذه الطبائع. * فمن طبائع الفتن: أنها تتزين للناس في مباديها، حتى تُغْرِيهم بملابستها والتورط فيها. قال ابن عيينة عن خَلَف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن: قال امرؤ القيس: الحرب أول ما تكونُ فَتيّةً ... تَسْعى بزينتها لكلِّ جهُولِ حتى إذا اشتعلت وشَبَّ ضِرامُها ... ولَّتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ حَليلِ شمطاءَ يُنكَرُ لونُها وتغيَّرت ... مكروهةً للشمِّ والتقبيلِ وكان خلف يقول: "ينبغي للناس أن يتعلموا هذه الأبيات في الفتنة" (¬1). وقال الإِمام ابن حزم (¬2) -رحمه الله تعالى-: "نُوَّارُ الفتنةِ لا يَعْقِدُ" (¬3). ¬

_ (¬1) "السنن المأثورة للشافعي" ص (344) رقم (423)، "صحيح البخاري" (9/ 68) ط. دار الشعب. (¬2) "الأخلاق والسير" ص (84). (¬3) وهذه الحكمة الرائعة من نتاج فكر ابن حزم الذي عاصر فتنة البربر في الأندلس، ورأى كيف كانت الآمال المعقودة على كل ثائر تنتهي بمآسٍ وأحزان وضحايا ودمار.

والنُّوَّار: الزهر؛ ويقال: عَقَد الزهرُ: إذا تضامَّتْ أجزاؤه فصار ثمرًا. ومعنى كلام ابن حزم أن للفتنة مظهرًا خادعًا في مبدئه، حتى يستحسن الناسُ صورتَها، ويعقدوا الآمال عليها، ولكن سُرعان ما تموت وتتلاشى، مثل الزهرة التي تموت قبل أن تتفتح، وتُعطيَ ثمرتها. * والفتن، تذهب بعقول الرجال، وتستخفهم ببُداءاتها: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "أخاف عليكم فتنًا كأنها الدخان، يموت فيها قلبُ الرجل، كما يموت بدنه" (¬1). وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكون فتنة تعرجُ فيها عقولُ الرجال، حتى ما تكاد ترى رجلًا عاقلًا" (¬2). وعنه - رضي الله عنه - قال: "ما الخمر صِرفًا بأذهب بعقول الرجال من الفتنة" (¬3). وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بين يدي الساعة الهَرْجَ" قالوا: وما الهرجُ؟ قال: "القتل، إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتلُ بعضِكم بعضًا، حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتلَ عمَّه، ويقتلَ ابنَ عمه" قالوا: ومعنا ¬

_ (¬1) رواه نعيم بن حماد في "الفتن" (1/ 65)، رقم (117). (¬2) رواه نعيم في "الفتن" (1/ 62) رقم (107)، وصححه الهندي في "كنز العمال" (11/ 179) رقم (31126). (¬3) رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 274)، والصِّرف: غير الممزوج بغيره.

عقولُنا يومئذٍ؟ قال: "إنه لَتُنزَع عقولُ أهلِ ذلك الزمان، ويَخْلُفُ له هباءٌ (¬1) من الناس، يحسب كثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء"، قال أبو موسى: "والذي نفسي بيده ما أجد لي ولكم منها مخرجًا إن أدركتني وإياكم - إلا أن نخرج منها كما دخلنا فيها، ولم نصب منها دمًا ولا مالًا" (¬2). وقد حدد حذيفة - رضي الله عنه - مِحَكًّا يقيس به الإنسان مدى تأثره بالفتنة، فقال - رضي الله عنه -: "إن الفتنة تُعرضُ على القلوب، فأيُّ قلبٍ أُشرِبها: نُكِتت فيه نكتة سوداءُ، فإن أنكرها: نكِتت فيه نكتة بيضاءُ؛ فمن أحب منكم أن يعلم: أصابته الفتنةُ أم لا؟ فلينظر: فإن كان يرى حرامًا ما كان يراه حلالًا، أو يرى حلالًا ما كان يراه حرامًا، فقد أصابته الفتنة" (¬3). * والفتنة- إذا جُففت منابعُها، وسُدت ذرائعها، وحُسِمت مادةُ أوائلها، وأُخِذَ علي أيدي سفهائها، ولم يُلتفت لقولهم: "ما أردنا إلا الخير" - سَلِمت الأمةُ من غوائلها، وكُفي الناسُ شرَّها. عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل القائم. على حدود الله والواقع (وفي رواية: والراتع) فيها، [والمدهِن فيها]؛ كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ [في البحر] ¬

_ (¬1) هباء: أي قليلو العقل، أراذل، وهو في الأصل: الغبار المُنبثُّ. (¬2) رواه الإِمام أحمد رقم (19492) (32/ 241)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (1682). (¬3) "حلية الأولياء" (1/ 272،273).

فأصاب بعضُهم أعلاها، و [أصاب] بعضُهم أسفلَها [وأوعرَها]، فكان الذي (وفي رواية: الذين) في أسفلها إذا استقوا من الماء فمروا على من فوقهم، [فتأذوا به] (وفي رواية: فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء، فيصبون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتوذوننا). فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا [فاستقينا منه] ولم نؤذِ مَن فوقنا (وفي رواية: ولم نمرَّ على أصحابنا فنؤذيهم)، [فأخذ (¬1) فأسًا، فجعل يَنْقُرُ أسفلَ السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بُدَّ لي من الماء]، فإن تركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم؛ نجوا، وأنجوا جميعًا" (¬2). وكان النعمان بن بشير - رضي الله عنهما- إذا سرد هذه الحديث يقول قبله: "يا أيها الناس، خذوا على أيدي سفهائكم"، فإذا سرده عاد فقال: "خذوا على أيدي سفهائكم قبل أن تهلكوا" (¬3). "ولقد صدق الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - وصدق النعمان - رضي الله عنه - فكم من مخلصٍ جاهل يسلك سبيل صاحب الفأس هذا في سفينة الدعوة؟ ذاك حمل فأسًا، وصاحبنا يحمل اللسان. ¬

_ (¬1) أي: أحدُهم. (¬2) رواه البخاري (5/ 132 - فتح)، والترمذي (رقم: 2173)، والأمام أحمد (4/ 268، 269، 270)، واللفظ من "السلسلة الصحيحة" رقم (69). (¬3) "الزهد" لابن المبارك ص (475).

إنه يهدم، ويشكك، ويثبط، ويفرِّق، ويعصى، كل ذلك بدعاوى حسن النية، والنقد الذاتي، إنه يجهل أن القانون على السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها، فالحكم لا يكون على العمل بعد وقوعه، بل على الشروع فيه، بل على توجيه النية إليه، فلا حرية هنا في عملٍ يُفسد السفينة ما دامت ملجَّجة في بحرها، سائرة إلى غايتها. إن كلمة (الخرق) لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، بل معناها البحري، فهناك لفظة (أصغر خرق) ليس لها إلا معنى (أوسع قبر) .. في قاع المحيط المظلم، لو تُرك هذا الخرق الصغير وشأنه. وكذا حسن النية، إنه لا يحمل عندنا في علاقاتنا معناه الأخروي الذي يحاسب الله بموجبه عباده، فالإفساد واحد حتى وإن كان بنية حسنة. أفما رأيت حالة هذه الطائفة التي في (الأسفل) تعمل لرحمة من هم في (الأعلى)؟ إنها قصة القواعد الساذَجة مع القيادات العاملة: عواطف ملتهبة .. لكنها بادرة. ومشاعر صادقة .. لكنها كاذبة. ورحمة خالصة .. لكنها مهلكة، إنهم المصلحون إصلاحًا مخروقًا" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "العوائق" ص (210 - 212)، "وحى القلم" (713).

* ومن طبائع الفتن: أنها متى ما وقعت فإنها سَرعان ما تتطور، وتخرج عن حدود السيطرة، حتى إنها لتستعصي على من أشعلوها إن حاولوا إطفاءها. قال بعض أشياخ الشام: "مَن أعطى مِن نفسه أسبابَ الفتنةِ أولًا، لم ينجُ آخِرًا، ولو كان جاهدًا". وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاءُ فيها عن دفع السفهاء ... وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله (¬1). ¬

_ (¬1) "منهاج السُّنَّة النبوية" (4/ 343).

نور الفطنة ييدد ظلمات الفتنة

نور الفطنة ييدد ظلمات الفتنة ويتفاوت الناس في مدى استبصارهم بحقيقة الفتنة، واستجلاء عواقبها، تَبَعًا لما أوتوه من التقوى، والفقه. "فالقلب كالعين في إبصارها، فتجد عينًا لا تبصر البعيد، وأخرى لا تبصر بمجرد وجود ضباب طفيف، أو غبار خفيف، فضلًا عن أن تكون في ظلام، فإبصار القلب تابع لقوة الفقه، ونور الإيمان، ومقدارهما" (¬1). وقد شَبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتنة بقطع الليل المظلم، أي: الذي لا قمر فيه ولا ضياء، فالساري فيه على شفا هلكة إن لم يكن معه نور يبصر به مواقع قدمه، وهو في حال الفتن نور العلم الذي يكشف أهلَها، ويبين حالها. قال حذيفة - رضي الله عنه -: "لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل". وقد سمَّى الله تعالى كتابه العزيز نورًا؛ فقال -عز من قائل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)} [النساء: 174]، وقال سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} [التغابن: 8]، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. ¬

_ (¬1) "العوائق" ص (29).

وسماه "بصائر" فقال -عزَّ وجلَّ-: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: 104]، وقال سبحانه: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} [الجاثية: 20]. وقد صحَّ عن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلتُ لأُبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان: أبا المنذر ما المخرج؟ قال: "كتابُ الله، ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكِلْه إلى عالمه" (¬1). وقال أبو مسعود لحذيفة - رضي الله عنه -: "إن الفتنة وقعت، فحدثني ما سمعته" قال: "أَوَلم يأتكم اليقين؟ كتابُ الله عزَّ وجلَّ" (¬2). ¬

_ (¬1) "التاريخ الأوسط" للبخاري (1/ 64). (¬2) "حلية الأولياء" (1/ 274).

العلماء سفينة نوح

العلماء سفينة نوح قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] وقال -عزَّ وجلَّ-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. قال العلَّامة السعدي - رضي الله عنه -: "وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُولَّى مَن هو أهلٌ لذلك، ويُجعلَ إلى أهله، ولا يُتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ" (¬1). إن ذهاب العلم مقترن برواج الفتن، وإن الالتحام بالعلماء عصمة للأمة من الضلال، والعلماء سفينة نوح، من تخلَّف عنها -لا سيما في زمان الفتن- كان من المغرقين. عن ابن مسعود وأبي موسى - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهَرْجُ؛ والهرج القتل" (¬2). وعن أنسِ - رضي الله عنه - قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "من أشراط الساعة أن يقل العلمُ، وبظهرَ الجهل" (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير السعدي" ص (190). (¬2) رواه البخاريّ (13/ 13 - فتح). (¬3) رواه البخاريّ (1/ 178 - فتح).

وسبب قلة العلم موت حَمَلَتِهِ، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمرٍو - رضي الله عنهما - قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يقبض العلمَ انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جُهَّالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضَلُّوا، وأضَلُّوا" (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أتدرون ما ذَهاب العلم؟ " قلنا: لا، قال: "ذهاب العلماء" (¬2). وعنه - رضي الله عنه - قال: "لا يزال عالم يموت، وأثر للحق يَدْرُس، حتى يكثر أهل الجهل، وقد ذهب أهلُ العلم، فيعملون بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل" (¬3). وعن هلال بن خباب قال: سالت سعيد بن جبير، قلت: يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟ قال: "إذا هلك علماؤهم" (¬4). وعن زياد بن لبيد - رضي الله عنه - قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، فقال: "ذاك أوانُ ذَهاب العلم"، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونُقرئه أبناءنا، وُيقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: "ثكلتك أمك يا زياد إن كنتُ لأراك من ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ رقم (100) (1/ 174، 175)، ومسلم رقم (2673). (¬2) رواه الدارمي (1/ 78). (¬3) "جامع بيان العلم" (1/ 603) رقم (1039). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (15/ 40).

أفقه رجل بالمدينة، أَوَليس اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟ " (¬1). وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "خذوا العلم قبل أن يذهب"، قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله، وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب -لا يُغضبه الله-. ثم قال: "ثكلتكم أمهاتكم، أَوَلم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئًا؟! إن ذَهاب العلم: أنْ يذهب حَمَلَتُه" (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح ابن ماجه" رقم (3272) (2/ 377). (¬2) رواه الدارمي (1/ 77، 78)، والطبراني في "الكبير" (8/ 276) رقم (7906).

الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء

الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء (¬1) قال الإِمام أبو بكر الآجري -رحمه الله تعالى-: "فما ظنكم -رحمكم الله- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيها ضياء وإلا تحيَّروا، فقيَّض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس، لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح، فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟ هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداءُ الفرائض، ولا كيف اجتنابُ المحارم، ولا كيف يُعْبد الله في جميع ما يَعبده به خلقُه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحيَّر الناس، ودَرَس العلم بموتهم، وظهر الجهل" (¬2). إن مهمة المبصرين هي التبصير، ولا سيما في أوقات الفتن؛ حيث يكون العلماء الفاقهون وحدهم هم المستشرفين لنتائجها في لحظات إقبالها على حَدّ قول الحماسي: تبين أعقابُ الأمور إذا مضت ... وتُقبل أشباهًا عليك صدورُها وقول الآخر: لو أن صدور الأمر يبدون للفتى ... كأعقابه لم تلفه يتندَّم ¬

_ (¬1) من كلام الحسن البصريّ -رحمه الله تعالى-. (¬2) "أخلاق العلماء" ص (96).

وقول الآخر يمدح ذا البصيرة النافذة: بصيرٌ بأعقاب الأمور برأيه ... كأنَّ له في اليوم عينًا على غدِ ولهذا قال الحسن البصريّ -رحمه الله تعالى-: "الفتنة إذا أقبلت عرفها (¬1) كل عالم (¬2)، وإذا أدبرت عرفها (¬3) كل جاهل". قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فأهل العلم هم أهل البصيرة الذين نوَّر الله قلوبهم فميزوا الحق من الباطل: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: حدَّثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حديثًا طويلًا عن الدجال، فكان فيما يحدثنا أنه قال: يأتي الدجال -وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة- فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو خير الناس، أو من خيار الناس، فيقول: "أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه"، فيقول الدجال: "أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ "، فيقولون: لا، فيقتله، ثم يحييه، ¬

_ (¬1) بأن يشاهدها بنور بصيرته. (¬2) فإن كان علمه كاملًا أبصرها قبل مجيئها ورأى نتائجها، وكأنه يهتك حُجُبَ الغيب، ويتأخر وقت إدراكه لضررها كلما كان علمه أقل. (¬3) إذا انتهت، فلا فضل للجاهل في رؤية تشتت دعاتها وإفلاسهم، فإنها تكون مشاهدةَ عينٍ وبصرٍ، لا إدراك عقل وبصيرة؛ ولذلك يتمكن منها من لا عقل له أيضًا.

فيقول: "والله ما كنت فيك أشدَّ بصيرةً مني اليوم"، فيريد الدجال أن يقتله، فلا يُسلَّط عليه (¬1). إن الالتحام بالعلماء والصدور عن توجيههم من أهم سبل الوقاية من الفتن، والعصمة من الزيغ والضلال. فقد أعزَّ الله دينه بالصِّدِّيق الأكب - رضي الله عنه - يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة. وبابن تيمية يوم الغزو التتاري الوحشي حين حرَّض الأمراءَ والعامةَ على التصدي للتتار، وارتاب الناس في حكم قتالهم، حتى قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: "لو رأيتموني في صف التتر مواليًا لهم، وعلى رأسي مصحف، فاقتلوني"، فتشجع الناس في قتال التتر، وقويت قلوبهم. وتأمل: كيف كشف السَّنوسي زيف دعوى المهدي السوداني؟! (¬2) وكيف كشف الألباني وابن باز ببصيرة نافذة زيف دعوى المهدي القحطاني؟ (¬3) وكيف وفَّرت البيئة الجاهلة المناخ المناسب لاحتضان ونُصرة مهدي المغاربة ابن تومرت (¬4)، وغيرهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (13/ 101)، واللفظ له، ومسلم (4/ 2256) رقم (2938)، وانظره أيضًا: (4/ 2256) رقم (2938). (¬2) "المهدي" للمؤلف ص (514 - 516). (¬3) "نفس المصدر" ص (557). (¬4) "نفسه" ص (419،418).

والجاهلون لأهل العلم أعداء

والجاهلون لأهل العلم أعداء ومما يجسد عداوة الجاهلين المبتدعين لأهل العلم والبصيرة: - موقف فرقة "الحشاشين" وهي الفرقة الإسماعيلية الباطنية النزارية، فقد كانوا فرقة إرهابية تعمل على اغتيال خصوم دعوتهم الإسماعيلية الباطنية من حُكَّام الأقاليم الإسلامية ووزرائهم، وتغتال العلماء والفقهاء المناوئين لهم (¬1). - موقف الجونبوري مدعي المهدية في "الهند" من العلم والعلماء: فقد كان يحظر على أتباعه طلب العلم بدعوى أن طلب العلم يضرهم، وكان يلزمهم بالاقتصار على صحبة مشائخ "المهدوية" مدعيًا أنهم المقصودون بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]. وبعد وفاة المهدي الجونبوري أخذ دعاته وأتباعه ينشرون مبادئ فرقتهم في أرجاء الهند، وقد وجدت هذه الحركة آذانًا صاغية في مناطق كثيرة من الهند، وفي إقليم "كجرات" أقبل كثير من العوام والجهلة والجنود وبعض العلماء على هذه الفرقة، وتكونت منهم قوة كبيرة، ووصل الأمر إلى أنه من ينكر الدعوة "المهدوية" يكفَّر، وإذا كان المُنكِر من أصحاب العلم والمعرفة، ومن وجهاء البلد؛ يُقتل (¬2). ¬

_ (¬1) مقدمة "زهر العريش في تحريم الحشيش للزركشي" تحقيق: د/ السيد أحمد فرج ص (45). (¬2) "فرق الهند المنتسبة إلى الإسلام" ص (241).

وهذا الشيخ "علي المتقي الهندي" من كبار علماء الحديث في القرن العاشر الهجري يتحير في شأن "الجونبوري"، ويميل إليه، بل قيل: إنه اعتنق المهدوية، ولما وصل إلى مكة المكرمة بحث مع علمائها مسألة "خروج المهدي"، فتبين له الحق، فنذر نفسه للرد على هذه الفرقة. وهو -رحمه الله تعالى- القائل في كتابه "البرهان في علامات مهدي آخر الزمان": "وكفى دليلًا على بطلان اعتقاد هذه الطائفة قتلهم العلماء، فإن خصلتهم هذه تدل على عدم الدليل على اعتقادهم، وعجزهم عن إثبات معتقدهم، فهذه الخصلة وحدها تكفي على البطلان" (¬1). ولما وزع داعية المهدوي الجونبوري "سيد عيسى" في عام (1282 هـ) ثلاثة كتب في الانتصار لعقيدة المهدوية في أرجاء الهند، وبعد سَنَةٍ رَفَعَ التماسًا في محكمة "حيدر أباد" قال فيه: "إن هذه الكتب وزعت على علماء البلاد، وانتظرتُ سنة كاملة فلم يرد عليها أحد، والآن أرفعها إلى حضرتكم للنظر فيها، فإذا كان فيها ما يخالف العقيدة الإِسلامية فنحن نتوب عنها ونرجع إلى الحق، وإذا كان ما فيها صحيحًا فالرجاء منكم الاعتراف بهذا المذهب، والتصديق به، والمساعدة على نشرها، فبعث القاضي هذه الكتب إلى الشيخ "محمَّد زمان خان الشاهجهان بوري"، فحملته الغيرة الدينية على الردِّ على هذه الكتب، وألف كتابه المشهور "هدية مهدوية"، وبعد نشر هذا الكتاب أعلن داعية المهدوي "سيد ¬

_ (¬1) "المصدر نفسه" ص (291).

عيسى" في أتباعه أن من يقتل الشيخ "محمَّد زمان خان" فله قصران في الجنة، وأربع نخلات، فاندفع شاب مهدوي لتنفيذ اغتياله، وأخذ يتحين الفرص، وفي يوم من الأيام وجد الشيخ وحيدًا في المسجد بين المغرب والعشاء يقرأ القرآن الكريم، فجاء من خلفه، وضربه بالسيف، وهرب، وفاضت روح الشيخ فورًا، رحمه الله رحمة واسعة، وتقبله في الشهداء البررة (¬1). وفي العصر المتأخر اغتالت يدُ الغدر والجهل العالِمَ السلفيَّ المجاهدَ "إحسان إلهي ظهير" الذي وقف حياته على الذبِّ عن الإِسلام والسُّنَّة، وكان سيفًا سَليطًا على أعدائهما، وببركة جهاده بلسانه وقلمه انحسرت كثير من الفرق الضَّالة، وخمد نشاطها، وقد سجن مرات عديدة بسبب نشاطه في قمع البدع، وما زال يذب عن حوزة الإِسلام، وينصر السّنَّة حتى اغتاله المبتدعون المارقون أثناء إلقائه محاضرة في (23 رجب 1407 هـ) في جمعية أهل الحديث بلاهور بباكستان بحضور ألفي شخص، حيث زرعت قنبلة بجوار المنصة التي كان يحاضر عليها، وقتل عشرة من العلماء وعدد من الحضور، ونقل إلى الرياض لعلاجه، ولكن وافته المنية بعد أيام، وصلى عليه الإِمام المجدد عبد العزيز بن باز - رحمه الله تعالى- ودفن في مقبرة البقيع مع خير أولياء الله بعد الأنبياء ممن كان يدافع عنهم، ويذب عن أعراضهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآل ¬

_ (¬1) "نفسه" ص (293، 294).

بيته الطاهرين، وأمهات المؤمنين - رضي الله عنهم أجمعين -، فنعم الجوار، ونعم الجار (¬1). نسأل الله تعالى أن يكرم نزله، وأن يتقبل عمله، وأن يرزقه الفردوس الأعلى من الجنة في روح وريحان، وجنة نعيم. ولولا خشية الإطالة لذكرنا صورًا كثيرة لحقد المبتدعة الجهال وإراقتهم دماء العلماء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إحسان إلهي ظهير: الجهاد والعلم من الحياة إلى الممات 1360 - 1407 هـ"، تصنيف الشيخ محمَّد بن إبراهيم الشيباني -مكتبة ابن تيمية- الكويت (1408 هـ - 1988 م). (¬2) انظر: "الحقد الدفين على العلماء والصالحين" لجامعه من "سير أعلام النبلاء" عبيد بن أبي نفيع الشعبي - ط. دار الوطن -الرياض-1413 هـ.

الصبر زمن الفتن

الصبر زمن الفتن قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]. وقال -عزَّ وجلَّ-: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155 - 157]. فالله- سبحانه وتعالى- يجزي المؤمن على صبره، كما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)} [المؤمنون: 109 - 111]،فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]. أي: أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون، فقرن الله -سبحانه- الفتنة بالصبر ها هنا، وفي قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)} [النحل: 110]. عن أُسيد بن حُضَير - رضي الله عنه - أن رجلًا أتى النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! استعملتَ فلانًا ولم تستعملني، فقال

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم سترون بعدي أُثْرة -وفي لفظ: ستلقون بعدي أثرة- فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" (¬1) وعن أمير المؤمنين معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يبقَ من الدنيا إلا بلاء وفتنة" (¬2). وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبر أوسع العطاء، فقال كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "وما أُعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر" (¬3)، وذلك أن الصبر لا يعقبه إلا السعة واليسر، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5، 6]؛ ولذا قال عمر - رضي الله عنه -: "أدركنا خير عيشنا بالصبر". أَمَا والذي لا خُلْدَ إلا لوجهه ... ومن ليس في العز النيع له كفو لئن كان بدء ابصبر مُرًّا مذاقُهُ ... لقد يُجتني من غِبِّه الثمرُ الحلو وعن المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - قال: ايْمُ الله، لقد سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن السعيد لَمَنْ جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لَمَنْ جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لَمَنْ جُنِّبَ الفتن، ولَمَنْ ابتُلِيَ فَصبر، فَوَاهًا" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (7/ 644 - فتح) رقم (4330)، والأُثْرة: الانفراد بالشيء المشترك دون من يشركه فيه، وقيل: الشدة. (¬2) تقدم تخريجه ص (9). (¬3) رواه البخاريّ (2/ 152)، ومسلم باب (42) رقم (124). (¬4) أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم، باب النهي عن السعي في الفتن: (4/ 460)، رقم (4263)، وسكت عليه المنذري في "مختصر أبي داود": (6/ 148)، =

وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذر" قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك -فذكر الحديث- قال فيه: "كيف أنت إذا أصاب الناسَ موتٌ يكون البيتُ فيه بالوصيف؟ " - يعني: القبر- قلت: الله ورسوله أعلمُ، أو قال: ما خار الله لي ورسوله (¬1)، قال: "عليك بالصبر" أو قال: "تصبر ... " الحديث (¬2). وفي رواية أن أبا ذر قال: ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارًا، وأردفني خلفه وقال: "يا أبا ذر: أرأيت إن أصاب الناسَ جوعٌ شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "تعفف" قال: "يا أبا ذر: أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد -يعني: القبر- كيف تصنع؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "اصبر ... " الحديث (¬3). ¬

_ = وصححه الألباني في "صحيح أبي داود": (3/ 803). و"واهًا" كلمة تعني التلهف، أو يعبر بها عن الإعجاب بالشيء، فكأنه قال: ما أحسن وما أطيب من ابتلي بالفتن فصبر على البلاء! (¬1) أي: ما اختار الله لي ورسوله. "عون المعبود": (11/ 342)، "بذل المجهود": (17/ 166). (¬2) أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة: (4/ 458، رقم 4261)، وابن ماجه في الفتن، باب التثبت في الفتن: (2/ 1308، رقم 3958)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود": (3/ 803)، و"صحيح ابن ماجه": (2/ 355). (¬3) رواه الإِمام أحمد (5/ 149) بهذا اللفظ، وهو بنحو لفظ أبي داود وابن ماجه المذكور قبله، وصححه الألباني في "صحيح الجامع": (2/ 1290)، رقم (7819).

والمراد بالبيت المذكور في الروايتين: القبر، كما هو مصرَّح به في الحديث، وكما ذكره جمع من أهل العلم؛ كالخطابي (¬1)، وابن الأثير (¬2) وغيرهما. وأما الوصيف: فهو العبد أو الخادم، والوصيفة: الأمة، يُريد أن الناس يُشغلون عن دفن موتاهم، وهذا يدل على أن الفتن تكثر، فتكثر القتلى، حتى إنه ليشتري موضع قبر يدفن فيه الميت بعبدٍ، من ضيق المكان عليهم، مبالغةً في كثرة وقوع الفتن، أو لاشتغال بعضهم ببعض، وبما حدث من الفتن لا يوجد من يحفر قبر ميت ويدفنه، إلا أن يعطى وصيفًا أو قيمته (¬3). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على الناس زمان، الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر" (¬4). قال الطيبي: "المعنى: كما لا يقدر القابض على الجمر أن يصبر لإحراق يده، كذلك المتدين يومئذٍ لا يقدر على ثباته على دينه لغلبة العصاة والمعاصي وانتشار الفسق وضعف الإيمان" (¬5). ¬

_ (¬1) "معالم السنن" (4/ 458). (¬2) "جامع الأصول" (10/ 8). (¬3) "نفس المصدر". (¬4) أخرجه الترمذي في الفتن، باب (73): (4/ 256، رقم 2260) وهو حديث صحيح بشواهده كما قال الألباني في "الصحيحة": (957)، و "صحيح الترمذي": (2/ 256). (¬5) "تحفة الأحوذي" (6/ 539).

وقال القاري: "الظاهر أن معنى الحديث: كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد وتحمُّل غلبة المشقة كذلك في ذلك الزمان، لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلاَّ بصبر عظيم". انتهى (¬1). ¬

_ (¬1) "نفس المصدر" (6/ 539).

مقارنة الحلم والرفق، ومفارقة العجلة والطيش

مقارنة الحِلْم والرفق، ومفارقة العجلة والطيش عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ" (¬1). وعنها - رضي الله عنها - قالت: اسْتَأذَنَ رَهْطٌ مِن الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُم السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحب الرِّفْقَ في الْأَمْرِ كلِّهِ"، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: "قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ" (¬2). وعن جرير - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الخَيرَ كُلَّهُ" (¬3). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الحِلْمُ (¬4) وَالْأَنَاةُ" (¬5). وعن خباب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فقلنا: أَلَا ¬

_ (¬1) أبو رواه مسلم (2594)، (16/ 146 - نووي). (¬2) رواه البخاريّ (6927)، واللفظ له، ومسلم (2165). (¬3) رواه مسلم (2592)، (16/ 145 - نووي). (¬4) الحِلم: ترك العجلة، وهو خلاف الطيش ونقيض السفه، وقال الراغب: "هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب"، "المفردات" ص (129). (¬5) رواه مسلم في الإيمان (17) (25).

تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لنا؟ فَقَالَ: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُوْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الْأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" (¬1). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَّأَنِّي مِنَ الله، وَالعَجَلَةُ مِنَ الشَّيطَان، وَمَا أَحَدٌ أَكْثَر مَعَاذيرَ مِنَ الله، وَمَا مِنْ شَيءٍ أَحَبُّ إِلى الله مِنَ الحِلْمِ" (¬2). والعَجَلة: فعل الشيء قبل وقته اللائق به، وكانت العرب تَكْني العجلة أمَّ الندامات (¬3). وقال عطاء بن أبي رباح -رحمه الله تعالى-: "ما أوى شيءٌ إلى شيءٍ أزين من حِلمٍ إلى علمٍ" (¬4). وقال وهب بن منبه - رحمه الله تعالى-: "الرفق ثِنْيُ الحِلم" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (12/ 315، 316 - فتح). (¬2) عزاه الهيثمي إلى أبي يعلى؛ وقال: "رجاله رجال الصحيح". اهـ. من "مجمع الزوائد" (8/ 19)، وله شاهد من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -، رواه الترمذي (2012). (¬3) "روضة العقلاء"، ص (288). (¬4) رواه الدارمي (576)، (1/ 152). (¬5) "الإحياء" (3/ 186)، الثِّنْيُ: الولد الثاني.

وقال حكيمُ العرب "أكثم بن صيفي" (¬1): "دِعامة العقل الحِلم، وجِمَاع الأمر الصبر" (¬2). وقال أمير المؤمنين عليٌّ - رضي الله عنه -: "إن أولَ ما عَوَّضَ الحليمَ مِن حِلمه أن الناسَ كلَّهم أعوانُه على الجاهل" (¬3). وقال أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -: "لا يبلغُ العبدُ مبلغَ الرأي حتى يغلبَ حِلْمُه جهلَه، وصبرُه شهوتَه، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم" (¬4). وسأل - رضي الله عنه - عمرَو بنَ الأهتم: أيُّ الرجال أشجع؟ قال: "من رَدَّ جهلَه بحِلْمِه"، قال: فأي الرجال أسخى؟ قال: "من بذل دنياه لصالح دينه" (¬5). وقال معاوية - رضي الله عنه - لرجلٍ شَهِدَ عنده بشهادةٍ: "كذبتَ"، فقال الأعرابي: "إن الكاذب لَلْمُتَزَمّلُ في ثيابك"، فقال معاوية - رضي الله عنه -: "هذا جزاء من يَعْجَل" (¬6). وقال الأوزاعي: "كان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلًا حبسه ثلاثًا، ثم عاقبه؛ كراهيةَ أن يعجل في أول غضبه" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الإصابة" (1/ 209)، و"الأعلام" للزركلي (2/ 6). (¬2) "نفس المصدر" (3/ 178). (¬3) "السابق" (3/ 178). (¬4) "السابق" (3/ 178). (¬5) "السابق" (3/ 178). (¬6) "روضة العقلاء"، ص (290). (¬7) "سير أعلام النبلاء" (5/ 133).

وقال مُطَرِّف: "أتى على الناسِ زمانٌ خيرُهم في دينهم المتسارع، وسيأتي على الناس زمان خيرهم في دينهم المتأنِّي". قال علي بن عَثَّام في تفسيره: "كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إذا أُمروا بالشيء تسارعوا إليه، وأمَّا اليومَ فينبغي للمؤمن أن يتبين، فلا يُقدم إلا على ما يعرف" (¬1). وقال محمَّد بن بشير: قدِّر لرِجالك قبل الخطوِ موضعَها ... فمن علا زَلَقًا عن غِرَّةٍ زَلجَاَ (¬2) أي: لا تأتِ أمرًا حتى تفكر في مغبته وعاقبته: فإن كان لك أقبلت عليه، وإن كان عليك كففتَ عنه. وعن حفص بن غياث، قال: قلت لسفيانَ الثوريِّ: "يا أبا عبد الله، إن الناسَ قد أكثروا في المهدي، فما تقول فيه؟ قال: إن مَرَّ على بابك؛ فلا تكن منه في شيء، حتى يجتمع الناس عليه" (¬3). وقال عبد الله: "إنها ستكون هَنَاتٌ، وأمورٌ مشبهات، فعليك بالتؤدة، فتكون تابعًا في الخيرِ خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر" (¬4). وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: "إياكم والفتنَ لا يشخص إليها أحد؛ فوالله، ما شخص فيها أحد، إلا نسفته، كما ينسف السيلُ ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (2/ 209)، و"شعب الإيمان" (2/ 305)، واللفظ له. (¬2) الغِرَّة: الجهالة والغفلة. زَلَجَ: زلق. أي: من لم يأت أمره عن علم لم يُصِب بغيته. (¬3) "حلية الأولياء" (7/ 31). (¬4) "المصنف" لابن أبي شيبة (15/ 34)، والهَنَاتُ: جمع هَنَة، تأنيث هَنٍ، وهو كناية عن كل اسم جنس، والمراد: شرورٌ، وفساد، وشدائد، وأمور عظام، وانظر: "النهاية" (5/ 279).

الدّمَن؛ إنها مُشَبَّهَةٌ مقبلةً، حتى يقولَ الجاهلُ: هذه تُشَبَّه؛ وتبيَّنُ مدبرةً؛ فإذا رأيتموها: فاجثموا في بيوتكم، وكسِّروا سيوفكم، وقطعوا أوتاركم" (¬1). وعنه - رضي الله عنه - أنه ذكر فتنة، فقال: "تُشَبَّهُ مُقْبِلَةً، وتُبَيَّنُ مُدْبِرةً" (¬2). قال شمر: "معناه: أن الفتنة إذا أقبلت شَبَّهَت على القوم، وأرتهم أنهم على الحق؛ حتى يدخلوا فيها، ويركبوا منها ما لا يحل؛ فإذا أدبرت وانقضت بَانَ أمرها، فَعَلِمَ من دخل فيها أنه كان على الخطأ" (¬3). فلا تُخْدَعْ بأولِ ما تراه ... فأولُ طالعٍ فجرٌ كذوبُ وفي مثل هذا المعنى قال شبيب بن البرصاء: تَبَينُّ أعجازُ (¬4) الأمورِ مَواضيًا ... وتُقْبِلُ أَشْباهًا عليكَ صُدُورُها (¬5) ومثله قول الشاعر: تشابَهُ أعناقُ (¬6) الأمورِ بواديًا ... وتظهرُ في أعقابها حين تُدْبِرُ ومثله قول قتيبة بن عمروٍ الأسدي: يشكُّ عليك الأمرُ ما دام مقبلا ... وتعرفُ ما فيه إذا هو أَدْبَرا ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (1/ 273). (¬2) "المصنف" لابن أبي شيبة (15/ 20). (¬3) "لسان العرب" (13/ 503، 504). (¬4) أعجاز الأمور: أواخرها. (¬5) صدورها: أوائلها. (¬6) أعناق الأمور: أوائلها.

وقال الشاعر يذم قومًا: ولا يتقونَ الشرَّ حتى يصيبَهم ... ولا يعرفونَ الأمرَ إلا تدبرا قال أبو حاتم محمَّد بن حبان البستي -رحمه الله تعالى-: "إن العاجل لا يَكاد يلحق؛ كما أن الرافق لا يكاد يُسْبَق، والساكت لا يكاد يندم، ومن نطق لا يكاد يسلم، وإن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يُجَرِّبَ، ويذم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعَجِلُ تصحبهُ الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تَكْني العجلَةَ أمَّ الندامات" (¬1). لا تَعْجَلَنَّ فَرُبَّمَا ... عَجِلَ الْفَتَى فِيمَا يَضُرُّهْ وَلَرُبَّمَا كَرِهَ الْفَتَى ... أَمْرًا عَوَاقِبُهُ تََسُرُّهْ (¬2) وفي المثل: "إذا لم تستعجل؛ تَصِلْ". وقال القُطامي: قَدْ يُدْرِكُ المتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمستَعْجِلِ الزَّلَلُ وربما فات بعض القومِ أمرهمُ ... مع التأني وكان الرأيُ لو عَجِلُوا (¬3) وقال عمرو بن العاص لابنه عبد الله - رضي الله عنهما -: "الخَرَقُ معاداةُ إمامِك، ومناوأةُ مَن يَقْدِرُ على ضررك" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "روضة العقلاء"، ص (216). (¬2) "بصائر ذوي التمييز" (4/ 24). (¬3) "العقد الفريد" (3/ 52). (¬4) "الإحياء" (3/ 188).

وقال الحسن البصريّ -رحمه الله تعالى-: "إنما يُكَلَّمُ مؤمنٌ يُرجَى، أو جاهلٌ يُعَلَّم، فأما من وضع سيفه أو سوطه؛ وقال لك: اتقني اتقني! فما لك وله؟! " (¬1) وعن الشعبي قال: أغلظ رجلٌ لمعاوية، فقال: "أنهاك عن السلطان، فإن غَضبَه غضبُ الصبي، وأخذَهُ أخذُ الأسد" (¬2). فَائدَةٌ مَعْنَى قَوْلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه - في الرُّومِ: "إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ": قال المستورِدُ القرشي عند عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أكثَرُ النَّاسِ" فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَمَ، قَالَ: "لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ؛ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا-: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِين وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الملُوكِ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "حلية الأولياء" (2/ 209)، و"التمهيد" لابن عبد البر (23/ 282)، و"جامع العلوم والحكم" ص (323). (¬2) "سير أعلام النبلاء" (3/ 153). (¬3) رواه مسلم في "الفتن" (18/ 22 - نووي)، وحكى الأُبِّيُّ في "إكمال إكمال المُعْلِم" عن القرطبي قوله: "هذه الخلال الأربع الحميدة لعلها كانت في الروم التي أدرك، =

والشاهد قوله - رضي الله عنه -: "إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ"؛ "يعني: إذا ظهر تغير الحال، وظهرت الفتن؛ فإنهم يحلُمون، ولا يعجلون، ولا يغضبون؛ لِيقُوا أصحابهم النصارى القتلَ، ويقوهم الفتنَ؛ لأنهم يعلمون- أن الفتنة إذا ظهرت؛ فإنها ستأتي عليهم؛ فلأجل تلك الخصلة فيهم، بقوا أكثر الناس إلى قيام الساعة؛ ولهذا فإننا نعجب أن لا نأخذ بهذه الخصلة التي حمد بها عمرو بن العاص - رضي الله عنه - الروم، وكانت فيهم تلك الخصلة الحميدة، ونحن أولى بكلِّ خَيْرٍ عند مَن هم سوانا" (¬1). ¬

_ = وأما اليوم فهم أنحس الخليقة، وعلى الضد من تلك الأوصاف"، وقال الأُبِّيُّ: "هو مدح لتلك الأوصاف، لا أنها مدحٌ لهم؛ من حيث اتصافهم بها، ويحتمل أنه إنما ذكرها من حيث إنها سبب كثرتهم، وإلا فهم على الضد كما ذكر، ولا سيما فيما ذكر من كَرِّهِم بعد فرِّهم؛ فإنهم الآن ليسوا كذلك". اهـ (7/ 246). (¬1) "الضوابط الشرعية لموقف المسلم من الفتن"، للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله تعالى-، ص (18، 19).

الإمام ابن القيم يحذر من استفزاز البداءات

الإِمام ابن القيم يحذِّر من استفزاز البُداءات فقد ندد - رحمه الله تعالى- بمن تستخفه البُداءات وعوارضُ الشبهات، فقال فيمن هذا شأنه: " ... هذا دليلُ ضعفِ عقله ومعرفتِه؛ إذ تؤثر فيه البُداءات، ويُستفز بأوائل الأمور، بخلاف الثابت التام العاقل، فإنه لا تستفزه البُداءات، ولا تزعجه وتقلقه، فإن الباطل له دهشةٌ وروعة في أوله، فإذا ثبت له القلبُ؛ رُدَّ على عقبيه، والله يحب مَن عنده العلم والأناة، فلا يعجل، بل يثبت حتى يعلم، ويستيقنَ ما ورد عليه، ولا يعجل بأمرٍ مِن قبلِ استحكامه، فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البُداءات؛ استقبل أمره بعلم وحَزْم، ومن لم يثبت لها؛ استقبله بعجلةٍ وطيش، وعاقِبتُه الندامةُ، وعاقبةُ الأولِ حَمْدُ أمرِه، ولكن للأول آفة متى قُرِنت بالحزم والعزم نجا منها؛ وهي: الفَوْتُ، فإنه لا يُخاف من التثبت إلا الفَوْتُ، فإذا اقترن به العزم والحزم؛ تم أمره، ولهذا في الدعاء الذي رواه الإِمام أحمد والنسائي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، والعَزِيْمَةَ عَلَى الرُّشْدِ" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - الطبراني في "الكبير" (7/ 335، 336)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 266)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 127)، وقال الألباني: "إسناده جيد، رجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف لا يضر". اهـ. من "الصحيحة" رقم (3228)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط بطرقه كما في "الإحسان" (5/ 311، 312).

وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أُتي العبدُ إلا من تضييعهما أو تضييع أحدهما، فما أُتي أحد إلا من باب العجلة والطيش، واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والتماوت، وتضييع الفرصة بعد مُواتَاتها (¬1)، فإذا حصل الثبات أولًا، والعزيمة ثانيًا أفلح كل الفلاح، والله ولي التوفيق" (¬2). اهـ. والواقعة التالية تجسِّد لك سلوكَ الذي تستخفه بُداءاتُ الأمور، وتستفزه أوائلها، وسلوكَ الحليم الواثق الذي يصدر عن علم وبصيرة، وحزم وعزم: فقد قال يُسَيْرُ بن جابر: "هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هِجِّيرَى (¬3) إلا: يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة، قال: فقعد، وكان متكئًا، فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يُقْسَمَ ميراثٌ، ولا يُفْرَحَ بغنيمة، ثم قال بيده هكذا (ونحاها نحو الشام) فقال: عدوٌ يجمعون لأهل الإِسلام، ويجمع لهم أهلُ الإِسلام" الحديث (¬4) ¬

_ (¬1) وفي هذا يقول الأعشى: وربما فات قومًا جُلُّ أمرهمُ ... من التأني، وكان الحزمُ لو عجلوا (¬2) "مفتاح دار السعادة"، ص (169، 170)، ط. دار الحديث، القاهرة 1414 هـ. (¬3) له "هِجِّيرَى": أي شأنه ودأبه ذلك. (¬4) رواه مسلم، رقم (2899).

من مواقف التثبت في الفتن

من مواقف التثبت في الفتن عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه - رضي الله عنه -، أنه جاءه ابنه عامر، فقال: أي بُنَيَّ! أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسًا؟ لا والله، حتى أُعْطى سيفًا، إنْ ضربتُ به مسلمًا، نبا عنه، وإن ضربت كافرًا، قتله، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يحب الغني الخفي المتقي" (¬1). - وعن محمَّد قال: نُبِّئْتُ أن سعدًا - رضي الله عنه - قال: "ما أزعم أني بقميصي هذا أحقُّ مني بالخلافة، جاهدتُ وأنا أَعْرَفُ بالجهاد، ولا أبخَعُ نفسي إن كان رجلًا خيرًا مني، لا أقاتل حتى يأتوني بسيفٍ له عينان ولسانٌ، فيقول: هذا مؤمن، وهذا كافر" (¬2). - وعن عامرِ الشعبيِّ قال: لما قاتلَ مروانُ الضحاكَ بنَ قيس أرسلَ إلى أيمن بن خُريم الأسدي، فقال: "إنَّا نحبُ أن تقاتلَ معنا" فقال: "إن أبي وعَمِّي شَهِدا بدرًا، فعهِدا إليَّ أنْ لا أقاتلَ أحدًا يشهدُ أنْ لا إله إلا الله، فإن جئتني ببراءةٍ من النَّار قاتلتُ مَعَكَ! " فقال: "اذهب"، ووَقَعَ فيه، وسَبَّهُ، فأنشأ أيمن يقول: ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 177)، ومسلم (2965)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 94). (¬2) أخرجه ابن سعد (3/ 1/ 101)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 94)، والطبراني في "الكبير" (322)، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح". اهـ. من "مجمع الزوائد" (7/ 299)، وبخع نفسَه: قتلها غيظًا أو غمًّا.

ولستُ مقاتلًا رجلًا يصلي ... عَلَى سلطانِ آخرَ مِنْ قريشِ له سلطانه وعليَّ إثمي ... معاذ الله مِن جهل وطيشِ أأقاتل مسلمًا في غير شيء؟ ... فليس بنافعي ما عشتُ عيشي (¬1) - قال حميدُ بن هلال: أتى مُطَرِّفَ بنَ عبدِ الله زمانَ ابنِ الأشعثِ ناسٌ يدعونه إلى قتال الحجاج، فلمَّا أكثروا عليه، قال: "أرأيتم هذا الذي تدعونني إليه: هل يزيد على أن يكون جهادًا في سبيل الله؟ " قالوا: لا، قال: "فإني لا أخاطر بين هلكةٍ أقع فيها، وبين فضلٍ أصيبه" (¬2). - وقال حميد بن هلال -أيضًا-: أتى مُطَرفَ بنَ عبدِ الله الحروريةُ يدعونه إلى رأيهم، فقال: "يا هؤلاء، إنه لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما، وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدًى أتبعتُها الأخرى، وأن كان ضلالةً هلكت نفسٌ، وبقيتْ لي نفسٌ، ولكن هي نفسٌ واحدةٌ، فلا أغرر بها" (¬3). - وقال مُطَرِّف بن عبد الله - رضي الله عنه -أيضًا: "لأن آخذ بالثقة في القعود أحبُّ إليَّ من أن ألتمس -أو قال: أطلب- فضل الجهاد بالتغرير" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (2/ 245)، والطبراني في "الكبير" (1/ 290) رقم (851)، والبيهقي في "السنن" (8/ 193). (¬2) "الطبقات الكبرى" (7/ 143)، "تاريخ مدينة دمشق" (58/ 315). (¬3) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 178)، "حلية الأولياء" (2/ 199)، "تاريخ مدينة دمشق" (58/ 315)، وفي "لسان العرب" (5/ 14): "وفي حديث مُطَرِّف: إن لي نفسًا واحدة وإني أكره أن أغرر بها؛ أي: أحملها على غير ثقة"، وانظر: "النهاية في غريب الأثر" (3/ 356). (¬4) "مصنف ابن أبي شيبة" (7/ 178).

وقال أيضًا - رضي الله عنه -: "إن الفتنة ليست تأتي تهدي الناس، ولكن إنما تأتي تقارع المؤمنَ عن دينه؛ ولأن يقول الله: "لم لا قتلتَ فلانًا؟ " أحبُّ إليَّ من أن يقول: "لم قتلتَ فلانًا؟ " (¬1). وعن عُقبةَ بن إسحاق قال: كان منصور بن المعتمر يأتي زُبيد بن الحارث، فكان يذكُر له أهل البيت، ويَعْصِرُ عينيه، يريده على الخروج أيام زيد بن علي، فقال زبيدٌ: "ما أنا بخارج إلا مع نبيٍّ، وما أنا بواجده" (¬2). ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (2/ 204). (¬2) "سير أعلام النبلاء" (5/ 297).

العجلة أم الندامات

العَجلَة أمُّ الندامات قال قتادة بن دعامة -رحمه الله تعالى-: "قد رأينا والله أقوامًا يُسرعون إلى الفتن، وينزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبةً لله، ومخافة منه، فلما انكشفت، إذا الذين أمسكوا أطيب نفسًا، وأثلج صدورًا، وأخف ظهورًا من الذين أسرعوا إليها، وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك حزازاتٍ على قلوبهم كلما ذكروها، وَايمُ اللهِ! لو أن الناس يعرفون من الفتنة إذا أقبلت كما يعرفون منها إذا أدبرت، لعقل فيها جيل من الناس كثير (¬1). وقال محمَّد بن طلحة: رآني زُبيد مع العلاء بن عبد الكريم، ونحن نضحك، فقال: "لو شهدتَ الجماجم (¬2) ما ضحِكتَ، ولوددتُ أنَّ يدي -أو قال: يميني- قُطِعت من العضُد وأني لم أكن شهدتُ" (¬3). وعن إسماعيل بن أبي خالد قال مرة: "شهدت فتح القادسية، في ثلاثة آلاف من قومي؛ فما منهم من أحد: إلا خف في الفتنة غيري، وما منهم أحد: إلا غبطني" (¬4). ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (2/ 337). (¬2) انظر خبر فتنة ابن الأشعث، ووقعة "دير الجماجم" في "البداية والنهاية" (9/ 35 - 37)، (9/ 40 - 43)، (12/ 347 - 355)، و"سير أعلام النبلاء" (2/ 43). (¬3) انظر: "سؤالات أبي عبيد الآجري" رقم (96)، و"المعرفة والتاريخ" (3/ 109)، و"تاريخ مدينة دمشق" (19/ 473). (¬4) "حلية الأولياء" (4/ 163).

وقال الشعبي- لما أُدخل على الحجاج، وكان قد شارك في الفتنة-: "قد اكتحلنا بعدك السهرَ، وتَحَلَّسْنا الخوفَ، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء" (¬1). ولما أُتي بفيروز بن الحصين إلى الحجاج، قال له: "أبا عثمان! ما أخرجك مع هؤلاء؟ فقال: أيها الأمير! فتنة عَمَّت، فأمر به الحجاج، فضُرِبت عنقه" (¬2). وقال حماد بن زيد: ذكر أيوبُ السختياني القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث، فقال: "لا أعلم أحدًا منهم قُتِل إلا قد رُغِب عن مصرعه، ولا نجا أحد منهم إلا حَمِد الله الذي سلَّمه، وندِم على ما كان منه" (¬3). وقال مالكُ بنُ دينار: لقيتُ معبدًا الجهني بمكة بعد ابن الأشعث وهو جريح، وقد قاتل الحجاج في المواطن كلها، فقال: "لقيتُ الفقهاءَ والناسَ، لم أرَ مثل الحسن، يا ليتنا أطعناه"، كأنه نادم على قتال الحجاج (¬4). وعن أبي قِلابة قال: لما انجلت فتنة ابن الأشعث، كنا في مجلس، ومعنا مسلم بن يسار، فقال مسلم: "الحمد لله الذي أنجاني من هذه الفتنة، فوالله ما رميتُ فيها بسهم، ولا طعنتُ فيها برمحٍ، ولا ضربتُ ¬

_ (¬1) "سير أعلام البلاء" (4/ 306). (¬2) "وفيات الأعيان" (2/ 38). (¬3) "الطبقات الكبرى" (7/ 187)، و"المعرفة والتاريخ" للفسوي (2/ 52). (¬4) "تاريخ مدينة دمشق" (59/ 325).

فيها بسيف" (¬1)، قال أبوقلابة: فقلت له: "فما ظنك يا مسلم بجاهلٍ نظر إليك، فقال: والله ما قام مسلم بن يسار سيدُ القراء هذا المقامَ إلا وهو يراه عليه حقًّا، فقاتل حتى قُتِل؟ "، قال: "فبكى والذي نفسي بيده، حتى تمنيت أني لم أكن قلتُ شيئًا" (¬2). وعن عبد الله بن عون قال: "كان مسلم بن يسار لا يُفَضَّلُ عليه أحدٌ في ذلك الزمان حتى فعل تلك الفَعْلَة، فلقيه أبو قِلابة فقال: والله لا أعود أبدًا، فقال أبو قلابة: إن شاء الله، فتلا أبو قلابة {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155]، فأرسلَ مسلم عينيه" (¬3). ¬

_ (¬1) مع أنه وُجِدَ بين الصفين، قال أيوب السختياني: قيل لابن الأشعث: "إن أردتَ أن يُقتلوا حولك كما قُتِلوا يوم الجمل حول جمل عائشة - رضي الله عنها - فأخرج معك مسلمَ بنَ يسار، فأخرجه مُكرهًا". اهـ. من "المعرفة والتاريخ" (2/ 86)، ولذلك رَدَّ عليه أبو قلابة في رواية ابن عساكر (16/ 248): "فكيف بمن رآك بين الصفين، فقال: هذا مسلم بن يسار لن يقاتل إلا على حق، فقاتل حتى قُتل؟ ". اهـ. وفي "التاريخ الكبير" فقال أبو قلابة: "أبا عبد الله! لعل فئامًا من الناس رأوك واقفًا، فقالوا: هذا مسلم بن يسار، فقتلوا في سببك؟ " (2/ 302) رقم (2544). (¬2) أخرجه البخاريّ في "التاريخ الكبير" (2/ 302)، رقم (2544)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 146). (¬3) "المعرفة والتاريخ" (2/ 51).

ومن أسباب النجاة من الفتن: التثبت من الأخبار

ومن أسباب النجاة من الفتن: التثبت من الأخبار إن التثبت من الأخبار قبل تصديقها، فضلًا عن إذاعتها، منهج قرآني أصيل، يُستراحُ به من القال والقيل، ويوفر من طاقة الأمة المهدرة في الفتن ما يفيد في البناء. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6]، وقال -عزَّ وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} [النساء: 94] عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن رجلًا من بني سليم مرَّ على نفرٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه غنم له، فسلَّم عليهم، فقالوا: "ما سلَّم عليكم إلاَّ ليتعوذ منكم"، فقاموا إليه، وقتلوه، وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية (¬1) "والفتن إنما تظهر بالإشاعات والبواطيل، وتنتشر بالقال والقيل، مع خفة عقلٍ في نَقَلَتِها، ورِقَّةِ دين، تمنعهم من امتثال أمر الله تعالى بالتثبت وترك الاستعجال. ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ مختصرًا (4591)، والترمذي (3030)، وحسَّنه، والحاكم (2/ 235)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

ولتجدنَّ أشدَّ الناس حِدَّة في الطبع، وإعجابًا بالنفس، وتعصبًا للرأي؛ هم أولئك الذين لا يتثبتون ولا يتبيَّنون، فيغلب عليهم الصَّلَف والكِبْر، وعدمُ مراعاة الناس، والجميع عندهم جَهلة لا يعلمون، وهم العارفون العالمون. إن حملَ المسلمين على العدالة هو الأصل الذي لا ينبغي العدول عنه إلاَّ بمثله من اليقين، أما بمجرد قُوْلٍ قيل لا يُدرى من أي رأس خرج ولا على أي أرض درج؛ فجريمة يُسأل صاحبها عنها، مفضية إلى الندامة في الدنيا قبل الآخرة. وعليه؛ فإن من أعظم ما تُدفع به الفتن: التثبت والتبيُّن في الأخبار، لا سيما إذا كان الخبر متعلقًا بعموم الأمة، أوبرأس من رءوسها، وليعلم أن مجرد الثقة في الناقل لا تكفي بمفردها؛ وذلك لما يعتري النفوسَ من الهوى والشهوة ونفث الشيطان. ثم لو فرض صحة الخبر يقينًا، فإنه يبقى بعد ذلك النظر في مصلحة نشره من عدمها، فإنه ليس كل ما يعلم يقال، وإن من الأخبار ما لا يُلقى إلاَّ إلى الخاصة الذين يُصلحون في الأرض ولا يفسدون. وليعلم -أيضًا- أن هتكَ الأستار، ليس من الإصلاح في شيء؛ إذ إن الله تعالى أمر بالستر والنصح، وأَمْرُه سبحانه هو الصلاح والإصلاح بعينه، فما خالفه فليس من الإصلاح في شيء كما قلنا. إن المنهج الحق: هو التناصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع شفقة على المنصوح وحزن عليه يقتضي تمام السعي في

إصلاحه وإن كان جبارًا عنيدًا، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المقتول بسبب كلمة الحق من أعظم الشهداء عند الله، لكنه لم يجعل لهاتك الأستار إلاَّ الفضيحة في الدنيا؛ إذ يوشك الله تعالى أن يفضحه ولو في جوف داره (¬1)، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من سوء الحال والمآل". اهـ (¬2). روُي عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجلٍ شيئًا، فقال له عمر: "إن شئت نظرنا في أمرك: فإن كنتَ كاذبًا، فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟ "، فقال: "العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا" (¬3). إن اتقاء الغَواية في الرواية، والتحريَ والتثبت من الأخبار التي تتداولها الألسن وقت الفتن والحروب أَوْكَد من غيره من الأوقات؛ لأنها سلاح فتَّاك قد يضر أكثر مما تضر الأسلحة. وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83]. قال الحافظ ابن كثير - رضي الله عنه - في تفسيرها: "وقوله: ¬

_ (¬1) يشير إلى ما رواه أبو برزة الأسلمي والبراء بن عازب - رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمانُ قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومَنْ تتبع الله عورته، يفضحْهُ ولو في جوف بيته". وقال الهيثمي في "المجمع": "رجاله ثقات" (8/ 93)، وحسَّنه المنذري في "الترغيب" (3/ 240). (¬2) "مسائل في الفتن" للصبحان ص (67 - 68). (¬3) "الإحياء" (3/ 156).

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83] إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها، وقد لا يكون لها صحة. وقد قال مسلم في مقدمة "صحيحه" ... عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كفى بالمرءكذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع" (¬1). وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن قيل وقال ... " (¬2). أي: الذي يُكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين، وفي الصحيح: "مَنْ حدَّث عني بحديثٍ يُرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذِبِين" (¬3). ولنذكر ها هنا حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلَّق نساءه، فجاء من منزله حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاستفهمه: أطلَّقتَ نساءك؟ فقال: "لا"، فقلت: الله أكبر ... وذكر الحديث بطوله. وعند مسلم: فقلت: أطلقتهنَّ؟ فقال: "لا"، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يُطَلِّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "المقدمة" (1/ 10) رقم (5). (¬2) رواه مسلم (3/ 1341). (¬3) رواه مسلم في "المقدمة" (1/ 9) عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -.

مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فكنت أنا استنبط ذلك الأمر (¬1). ومعنى يستنبطونه؛ أي: يستخرجونه من معادنه؛ يُقال استنبط الرجلُ العينَ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها ... " (¬2) اهـ. ثم قال تعالى في عَجُزِ الآية: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أيها المؤمنون {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} في قَبول تلك الإشاعات المغرضة والإذاعات المُثَبِّطَة {إِلَّا قَلِيلًا} منكم من ذوي الآراء الصائبة والحصافة العقلية؛ إذ مثلهم لا تُثيرهم الدعاوى، ولا تغيرهم الأراجيف، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين (¬3). قال صاحب "الظلال"- عفا الله عنه -: "والصورة التي يرسمها هذا النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإِسلامي، لم تألف نفوسهم النظام، ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر، وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث؛ ولم يدركوا جدية الموقف، وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجرُّ من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطِرُ له ببال، وما لا يُتدارك بعد وقوعه بحال! أو -ربما- لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر، وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جرَّاء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك، وإذاعتها حين يتلقاها لسان عن لسان، سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف ... فكلتاهما قد ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2/ 1105 - 1108) رقم (1479). (¬2) "تفسير القرآن العظيم" (1/ 529، 530). (¬3) "أيسر التفاسير" (1/ 433).

يكون لإشاعتها خطورة مدمِّرة! فإن إشاعة أمر الأمن مثلًا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو .. إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تُحدِثُ نوعًا من التراخي، مهما تكن الأوامر باليقَظة؛ لأن اليقَظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقَظة النابعة من مجرد الأوامر، وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية! كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة، وقد تُحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكًا، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف .. وقد تكون كذلك القاضية! وعلى آية حال؛ فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه، أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته، أو هما معًا ... ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجمتع المسلم حينذاك باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان، ومختلفة المستويات في الإدراك، ومختلفة المستويات في الولاء ... وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرَّباني. والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، أي: لو أنهم ردُّوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لَعَلِمَ حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة.

فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم، الذي يقوده أمير مؤمن -بشرط الإيمان ذاك وحده- حين يبلغ إلى أذنيه خبر، أن يسارع فيُخبر به نبيه أو أميره، لا أن ينقله أو يذيعه بين زملائه؛ أو بين من لا شأن له به؛ لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر -حتى بعد ثبوته- أو عدم إذاعته ... " (¬1). ليس كل ما يُعلم يُقال: قال أمير المؤمنين عليٌّ - رضي الله عنه -: "حَدِّثوا الناسَ بما يعرفون، أتحبون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولهُ؟! " (¬2). وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغُه عقولُهم، إلَّا كان لبعضهم فتنة" (¬3). وقد ترجم البخاريّ -رحمه الله تعالى- في كتاب العلم: "باب: من خصَّ بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا" (¬4)، "باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يَقْصُر فهمُ بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدَّ منه" (¬5). قال حماد بنُ زيد: سئل أيوبُ السَّخْتِياني عن مسألةٍ، فسكت، فقالَ الرجلُ: يا أبا بكر لم تفهم، أعيدُ عليكَ؟ قال: فقال أيوب: "قد فهمتُ، ولكني أفكرُ كيف أجيبك" (¬6) ¬

_ (¬1) "في ظلال القرآن" (2/ 723، 724). (¬2) أخرجه البخاريّ (1/ 225 - فتح) رقم (127). (¬3) أخرجه مسلم في "المقدمة" (1/ 76 - نووي). (¬4) "فتح الباري" (1/ 225). (¬5) نفسه (1/ 224). (¬6) "المعرفة والتاريخ" (2/ 138).

ورَوَى الحَاكِمُ في تَاريِخِهِ بإِسْنَادِهِ عَنْ أَبي قُدَامَةَ عَن النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ: سُئِلَ الخَلِيلُ عَنْ مَسأَلَةٍ فَأَبْطَأَ بالْجَوَابِ فِيهَا، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا في هَذِه الْمَسْألَةِ كُلُّ هَذَا النَّظَر، قَالَ: "فَرَغْتُ مِن الْمَسْأَلَةِ وَجَوَابهَا، وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجيبَك جَوَابًا يَكُونُ أَسْرَعَ إلَى فَهْمِكَ"، قَالَ أَبُو قُدَامَةَ: فَحَدَّثتُ بهِ أَبَا عُبَيْدٍ فَسُرَّ به (¬1). ومن هذا الباب قولُ أبي هريرة - رضي الله عنه -: "حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين: فأمَّا أحدهما فبثثتُهُ، وأما الآخر فلو بثثتُه قُطع هذا البُلْعُوم" (¬2). والبُلْعُوم:- بضم الموحدة- مجرى الطعام، وقد كنَّى بذلك عن القتل. وفي رواية: "لَقُطِعَ هذا" يعني: رأسه. وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثَّه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يَكْنِي عن بعضه، ولا يُصرِّح به خوفًا على نفسه منهم؛ كقوله: "أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان"، يُشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، وكان يقول - رضي الله عنه -: "اللهمَّ لا تدركني سنة ستين، ولا إمارة الصبيان" (¬3)، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة (¬4). ¬

_ (¬1) "الآداب الشرعية" (3/ 156). (¬2) رواه البخاريّ رقم (120) (1/ 261 - فتح). (¬3) لأن يزيد كان غالبًا ينتزع الشيوخ من إمارة البلدان الكبار، وُيوَلِّيها الأصاغر في أقاربه. انظر: "الفتح" (13/ 12، 13). (¬4) "فتح الباري" (1/ 261).

فأبو هريرة - رضي الله عنه - كتم الأحاديث التي فيها الفتن، والأحاديث التي في بني أمية، ونحو ذلك من الأحاديث، ككتمه لأسماء الأُغَيْلمة السُّفهاء الذين يكون هلاك الأمة على أيديهم؛ فقد قال - رضي الله عنه - سمحت الصادق المصدوق يقول: "هلكةُ أُمتي على يدَي غِلْمَةٍ من قريش" ... ثم قال أبو هريرة: "لو شئت أن أقول بني فلان، بني فلان لفعلت" (¬1). وفي رواية: "إن شئْت أن أُسَمِّيَهُمْ، وبني فلان، وبني فلان" (¬2). "فأبو هريرة - رضي الله عنه - كتم الوعاء الآخر الذي حفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبثه، بل حفظ لسانه وكفه من إشاعته؛ درءًا للمفسدة وخشية الفتنة، علمًا بأنه قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه، ومعاوية قد اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال، معلوم في التاريخ ما حصل فيه، فأبو هريرة كتم الوعاء الآخر، ولم يبثه في ذلك الزمن، وكتم - أيضًا- بعض الأحاديث الأخرى التي ليست من الأحكام الشرعية؛ كل ذلك لأجل ألَّا تكون فتنة بين الناس، فهو - رضي الله عنه - لم يقل: إن رواية الحديث وقوله حق، ولا يجوز كتمان العلم، لم يقل ذلك؛ لأن كتم العلم في مثل ذلك الوقت -وقت الفتن- الذي تكلم فيه أبو هريرة لا بُدَّ منه؛ جلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة، لكيلا يتفرق الناس شذَر مذَر بعد أن اجتمعوا في عام الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. وصنيع أبي هريرة هذا يدل على حكمته وحصافته وفطنته رضي الله عنه؛ حيث حفظ لسانه زمن الفتنة بُغية اجتماع الأمة وعدم افتراقها" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (13/ 11) رقم (7058)، ومسلم (4/ 2236) رقم (2917). (¬2) رواه البخاري (6/ 708) رقم (3605). (¬3) "موقف المسلم من الفتن" للحازمي ص (428، 429).

وجوب حفظ اللسان

وجوب حفظ اللسان يجب على كل مُكلَّف أن يكفَّ لسانه ويحفظه عن كل باطل، وفي جميع الأوقات والأحوال، بيد أنه يتأكد ذلك الحفظ إبَّان الفتنة، وحلول المحنة؛ ففيها تكثر الأقاويل، وتزداد شهوة الإشاعات والمبالغات والأباطيل، وعندها تكون الآذان مستعدة لاستقبال كل ما يُقال، وفي هذا تكمن الخطورة، فربَّ كلمة أشدُّ من وقع السيف أيام الفتنة. فلذا؛ يجب على المسلمين قاطبة أن يكفُّوا ألسنتهم عن كل كلمة تزيد من وَهَج الفتنة. وليُعلم أن اللسان من أخطر ما خلق الله في جسم الإنسان، لذا يقول تعالى منبهًا المؤمنين: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)} [الإسراء: 53]، وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18]، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14]، وقال سبحانه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: 10 - 12]، وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 80]. قال الإِمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-: "ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنى، والسرقة، وشُرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى تَرى الرجل يُشار إليه

بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري (¬1) في أعراض الأحياء والأموات، ولا يُبالي ما يقول! " (¬2) اهـ. وقد كان السلف الصالح - رحمهم الله - يحاسب أحدهم نفسه في قوله: يوم حار، ويوم بارد. ولقد رُؤيَ بعض الأكابر من أهل العلم في النوم فسُئل عن حاله؟ فقال: أنا موقوف على كلمةٍ قلتُها؛ قلتُ: ما أحوجَ الناسَ إلى غيث!، فقيل لي: وما يدريك؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي (¬3). وليُعلم أن أيسر حركات الجوارح حركة اللسان، وهي أضرها على العبد. وما أكثر الأحاديث والآثار الواردة في التحذير من آفات هذه الآلة الخطيرة، في كل الأوقات عمومًا، وفي زمن الفتن والمحن خصوصًا. فمما ورد في التحذير من آفات اللسان عمومًا: سؤال معاذٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن العملِ الذي يدخله الجنة ويباعده من النار، فأخبره برأسه وعموده وذروة سنامه، ثم قال: "ألا أخبرك بمِلاك (¬4) ذلك كله؟ " قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "كُفَّ عليك هذا"، ¬

_ (¬1) يقال: فَرَى الجلدَ: مزَّقه. (¬2) "الداء والدواء" ص (187، 188). (¬3) "المصدر نفسه"، ص (280). (¬4) مِلاك الشيء: قِوامه، ونظامه، وما يُعتمد عليه فيه.

فقال: وإنَّا لمُؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أُمك يا معاذ، وهل يَكُبُّ الناسَ على وجوههم -أو مناخيرهم- إلَّا حصائدُ ألسنتهم" (¬1). وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- معلقًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ "، قلت: بلى. فأخذ بلسانه، فقال: "تكف عليك هذا" ... الحديث: "هذا يدل على أن كفَّ اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله، وأن مَنَ مَلَك لسانه، فقد ملك أمره، وأحكمه وضبطه" (¬2) اهـ. وقد سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخل الناسَ النارَ؟ فقال: "الأجوفان: الفم، والفرج" (¬3). وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ... " الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي رقم (2616)، وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه رقم (7973)، والإمام أحمد (5/ 231)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" رقم (2110). (¬2) "جامع العلوم والحكم" (2/ 146). (¬3) أخرجه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - الترمذي (4/ 363) رقم (2004)، وقال: "صحيح"، وابن ماجه (2/ 1418) رقم (4246)، والإمام أحمد (2/ 242)، وابن حبَّان (2/ 95 - إحسان)، واللفظ له، وحسَّنه الألباني في "صحيح الترمذي" (2/ 194). (¬4) رواه البخاريّ (1/ 53) رقم (10)، ومسلم رقم (40)، وأبو داود رقم (3481)، والنَّسائيّ (8/ 105).

وعن علقمة بن وقاص؛ قال: مَرَّ به رجل له شرف، فقال له علقمة: إن لك رحمًا، وإن لك حقًّا، وإني رأيتك تدخل على هؤلاء الأمراء، وتتكلم عندهم بما شاء الله أن تتكلم به، وإني سمعت بلال بن الحارث المزنيِّ، صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحدكُم ليتكلَّمُ بالكلمة من رضوان الله، ما يظُنُّ أن تبلُغَ ما بلغت، فيكتبُ الله -عزَّ وجلَّ- لهُ بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يَظُنُّ أن تبلُغَ ما بَلَغَتْ، فيكتب الله - عز وجل- عليه بها سُخْطَةُ إلى يوم يلقاهُ". قال علقمة: فانظر، ويحك! ماذا تقول، وماذا تكلَّمُ به، فَرُبَّ كلامٍ، قد منعني أن أتكلم به، ما سمعت من بلال بن الحارث (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - قال: " ... وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في نار جهنم" (¬2). وفي لفظ: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب" (¬3). وعن شَكَل بن حميد - رضي الله عنه - قال: أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله؛ عَلِّمْني تعوذًا أتعوذ به، قال: فأخذ ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد (1/ 45، 46)، والترمذي رقم (2319)، وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه رقم (3969)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (2/ 358)، رقم (3205). (¬2) رواه البخاريّ رقم (6113)، والإمام أحمد (2/ 334). (¬3) رواه مسلم رقم (2988)، والإمام أحمد (2/ 379).

بكفِّي، فقال: قل: "اللهمَّ إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي" (¬1). وعن سفيان بن عبد الله الثقفي، قال: قلت: يا رسول الله! ما أخوفُ ما تخافُ عليَّ؟ فأخذ بلسَانِ نفسه، ثم قال: "هذا" (¬2). ورُوِيَ أُم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كلُّ كلامِ ابنِ آدمَ عليه لا لَهُ، إلاَّ أمرٌ بمعروف، أو نهيٌ عن منكر، أو ذِكرٌ لله عز وجل" (¬3). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أصبحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاء كلَّها تُكَفِّرُ اللسانَ (¬4) فتقول: اتقِ الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا" (¬5). هذا وقد اطَّلع عمر بن الخطاب على أبي بكر - رضي الله عنهما - وهو يمُدُّ لسانه، فقال: ما تصنعُ يا خليفة رسول الله؟ فقال: إن هذا أوردني ¬

_ (¬1) رواه الترمذي رقم (2775 - صحيح الترمذي)، و"صحيح أبي داود" رقم (1387). (¬2) رواه مسلم رقم (38)، وابن ماجه رقم (2972)، والإمام أحمد (3/ 413). (¬3) رواه الترمذي رقم (2412)، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وابن ماجه رقم (3974)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" رقم (861). (¬4) أي: تَذِلُّ له وتخضع، كما في "فيض القدير" (1/ 286). (¬5) رواه الترمذي (4/ 605، 606) رقم (2407)، والإمام أحمد (3/ 96)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (1/ 124) رقم (351).

المواردَ، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ شيءٌ من الجسدِ إلَّا وهو يشكُو ذَرَبَ (¬1) اللسانِ" (¬2). وعن شقيق قال؛ لبَّى عبد الله - رضي الله عنه - على الصفا، ثم قال: "يا لسان! قُلْ خيرًا تغنم، اسكت تسلم، من قبل أن تندم"، قالوا: "يا أبا عبد الرحمن، هذا شيء أنت تقوله أم سمعته؟ " قال: "لا، بل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أكثرُ خطايا ابنِ آدمَ في لسانه" (¬3). ¬

_ (¬1) ذَرَبُ اللسان: سلاطته، وفساد مَنْطِقِه، من قولهم: "ذََرِبَ لسانُه" إذا كان حادَّ اللسان، لا يُبالي ما قال. (¬2) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1/ 17) رقم (5)، وقال الهيثمي في "المجمع": "ورجاله رجال الصحيح" (10/ 302)، وصححه الألباني على شرط البخاريّ، في "الصحيحة" (2/ 62) رقم (535). (¬3) رواه الطبراني في "الكبير" (10/ 243) رقم (10446)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 107)، وقال المنذري: "رواته رواة الصحيح" كما في "الترغيب" (3/ 534)، وكذا قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 300)، وقال الألباني في "الصحيحة" رقم (534): "وهذا إسناد جيد، وهو على شرط مسلم". اهـ.

في الصمت السلامة

في الصمت السلامة عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَمَتَ نجا" (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (¬2). وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لم تَزَلْ سالمًا ما سَكَتَّ، فإذا تكلَّمْت كُتِبَ لك أو عليك" (¬3). وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "مَنْ كثُر كلامُه كثر سَقَطُه (¬4)، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثُرت ذنوبه كانت النار أولى به" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2501)، وقال: "غريب"، وأحمد (3/ 159)، والدارمي (2/ 299)، والطبراني في "الأوسط" (2/ 311) رقم (1954)، وقال المنذري: "رواته ثقات" (4/ 9). ونقل المناوي عن الزين العراقي قوله: "سند الترمذي ضعيف، وهو عند الطبراني بسند جيد" اهـ. من "فيض القدير" (6/ 171). وقال الحافظ في "الفتح": "رواته ثقات" اهـ. (11/ 309). وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (536). (¬2) رواه البخاريّ (10/ 445)، ومسلم رقم (47). (¬3) رواه الطبراني في "الكبير" (20/ 74) رقم (137)، وقال في "المجمع" "رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات" اهـ. (10/ 300)، وسكت عليه في "فتح الباري" (11/ 309). (¬4) السَّقَط هنا: الخطأ في القول والفعل. (¬5) "جامع العلوم والحكم" ص (161).

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويلَ الصمت، قليلَ الضحك (¬1). ووصف هندُ بنُ أبي هالة - رضي الله عنه - منطِقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي - رضي الله عنهما - فقال: " ... كان طويلَ السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلامَ ويختمه باسم الله تعالى، ويتكلم بجوامع الكلم، كلامه فَصْل، لا فضولَ ولا تقصير" (¬2). وسأل الحسين بن علي - رضي الله عنهما- أباه عن مخرجه صلى الله عليه وسلم، كيف كان يصنع فيه؟ فقال - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْزِن (¬3) لسانه إلَّا فيما يعنيه ... " (¬4). وقال -أيضًا-: "كان- صلى الله عليه وسلم - لا يذم أحدًا، ولا يَعيبه، ولا يطلب عورته (¬5)، ولا يتكلم إلَّا فيما رجا ثوابه" (¬6). قال عبد الله - رضي الله عنه -: "والذي لا إله إلَّا هو، ما على وجه الأرض أحوج إلى طولِ سَجْنٍ مِن لسان (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "مسنده" (5/ 86، 88) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، ورواه البيهقي بلفظ: "كان طويلَ الصمت" (7/ 52)، (10/ 240)، والبغوي في "شرح السُّنَّة" (13/ 256)، وحسَّنه الألباني في "المشكاة" رقم (5826). (¬2) "مختصر الشمائل المحمدية للترمذي" للألباني ص (20). (¬3) يخزن: يحبس. (¬4) "مختصر الشمائل المحمدية للترمذي"، ص (23). (¬5) أي: لا يطلب عورة أحد، وهي: ما يُستحيى منه إذا ظهر، والمعنى: لا يُظهر ما يريد الشخصُ ستره، ويخفيه عن الناس. (¬6) "مختصر الشمائل المحمدية" ص (25). (¬7) أخرجه الإِمام أحمد في "الزهد" (162)، ووكيع في "الزهد" رقم (285)، وابن أبي عاصم في "الزهد" رقم (23)، وغيرهم.

وعن يزيد بن أبي حبيب، قال: "إن المتكلم لينتظر الفتنة، وإن المُنْصِتَ لينتظر الرحمة" (¬1). وقد قيل: "ما نَدِمَ حليمٌ ولا ساكت". وقال الفضيل: "خصلتان تُقَسِّيان القلب: كثرةُ الكلام، وكثرةُ الأكل" (¬2). وعن سفيان، قال: "طول الصمت مِفتاحُ العبادة". وعن محمَّد بن النضر الحارثي، قال: كان يقال: "كثرة الكلام تُذْهِبُ الوقَار" (¬3). وعن أبي الذيَّال، قال: "تعلم الصمتَ كما تتعلمُ الكلامَ، فإن يكن الكلامُ يهديك؛ فإن الصمت يقيك، ولك في الصمت خَصلتان: تأخذ به عِلْمَ مَن هو أعلمُ منك، وتدفع به عنك مَن هو أجدلُ منك" (¬4). وقال إبراهيم بن الأشعث: "سمعت الفضيل يقول: مَن استوحش مِن الوَحْدة، واستأنس بالناس، لم يسلم من الرياء، ولا حجَّ ولا جهادَ أشدُّ من حبس اللسان، وليس أحدٌ أشدَّ غَمًّا ممن سجن لسانه" (¬5). ¬

_ (¬1) "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 549). (¬2) "سير أعلام النبلاء" (8/ 440). (¬3) "الصمت" لابن أبي الدنيا رقم (52)، ص (68). (¬4) "جامع بيان العلم" (1/ 550). (¬5) "سير أعلام النبلاء" (8/ 436).

وقال إبراهيم بن أدهم: "إذا اغتممت بالسكوت، فتذكر سلامتك من زلل اللسان" (¬1). وعن مروان بن محمَّد، قال: قيل لإبراهيم بن أدهم: "إن فلانًا يتعلم النحو"، فقال: "هو إلى أن يتعلمَ الصمتَ أحوجُ" (¬2). وعن المُعَلَّى، قال: قال مورِّق: "أمْرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة، لم أقدر عليه، ولستُ بتاركٍ طلبَه أبدًا"، قالوا: "وما هو يا أبا المعتمر؟ "، قال: "الكفُّ عما لا يعنيني" (¬3). وقال رياح القيسي: قال لي عتبة الغلام: "يا رياح، إن كنتُ كلما دعتني نفسي إلى الكلام تكلمتُ، فبئس الناظرُ لها أنا، يا رياح، إن لي موقفًا يُغتبط فيه بطول الصمت عن الفضول" (¬4). وقال طاوس:"لساني سَبُع، إن أرسلتُه أكلني" (¬5). وعن شيخ من قريش قال: قيل لبعض العلماء: "إنك تُطيل الصمتَ"، فقال: "إني رأيتُ لساني سَبُعًا عَقورًا، أخافُ أن أخَلِّيَ عنه فَيَعْقِرني" (¬6). ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (8/ 20). (¬2) "نفسه" (8/ 16). (¬3) "الصمت" لابن أبي الدنيا رقم (575). (¬4) "صفة الصفوة" (3/ 372). (¬5) "الإحياء" (3/ 120). (¬6) "الصمت" رقم (699) ص (300).

وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "والكلام أسيرك، فإذا خرج من فِيكَ صِرْتَ أنت أسيرَه، واللهُ عندَ لسانِ كلِّ قائلٍ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18] " (¬1). وقال بعضهم: "رأيت مالكًا صامتًا لا يتكلم، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا، إلَّا أن يكلمه إنسان فيسمع منه، ثم يجيبه بشيء يسير، فقيل له في ذلك، فقال: وهل يَكُبُّ الناسَ في جهنم إلَّا هذا؟ وأشار إلى لسانه" (¬2). وعن أبي بكر بن عياش قال: "أدنى نفعِ السكوتِ السلامةُ،- وكفى به عافية، وأدنى ضررِ المنطقِ الشهرةُ، وكفى بها بلية" (¬3). ما إن ندمت على سكوتي مرّة ... ولقد ندمت على الكلام مرارا وعن إبراهيم، قال: "كانوا يجلسون، فأطولهم سكوتَا أفضلُهم في أنفسهم" (¬4). وعن محارب، قال: "صحبنا القاسم بن عبد الرحمن فغلبنا بثلاث: بكثرة الصلاة، وطولِ الصمت، وسخاء النفس" (¬5). وحضر ابن المبارك يومًا عند الثوري، فلم يتكلم بحرف حتى قام، فلما قام قال الثوري لأصحابه: "وددت أني أقدر أن أكون مثلَه" (¬6). ¬

_ (¬1) "الجواب الكافي" ص (281). (¬2) "ترتيب المدارك" (1/ 179). (¬3) "سير أعلام النبلاء" (8/ 501). (¬4) "الحلية" (4/ 224)، "الزهد" لابن أبي عاصم رقم (55) ص (38). (¬5) "الزهد" لابن أبي عاصم رقم (79) ص (46). (¬6) تقدمة "الجرح والتعديل" ص (266).

الموازنة بين الصمت والكلام

وقال عبد الله بن أبي زكريا: "عالجتُ الصمتَ ثنتي عشرةَ سنةً، فما بلغتُ منه ما كنت أرجو" (¬1). وعن مالك، عن سعيد بن أبي هند، قال: "وجدت الصمت أشدَّ من الكلام" (¬2). وعن أرطاة بن المنذر قال: "تعلَّم رجل الصمتَ أربعين سنة، بحَصَاةٍ يضعها في فيه، لا ينزِعُها إلَّا عند طعام، أو شراب، أو نوم" (¬3). قال الإِمام مُوَرِّقٌ العِجْلِيُّ: "تعلمت الصمت في عشر سنين، وما قلتُ شيئًا قَطُّ إذا غضبت، أندم عليه إذا زال غضبي" (¬4). الموازنة بين الصمت والكلام: فليكن الأصل هو الصمت؛ إذ يكفي في فضل الصمت كونه أقوى وسيلة وقائية من الغِيبة وأخواتها من آفات اللسان، والسلامة لا يعدلها شيء إلَّا مَن تيقن مِن حصول الغنيمة بالكلام. روُيَ عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ كلام ابن آدمَ عليه، لا له، إلَّا أمرٌ بمعروف، أو نهيٌ عن منكر، أو ذِكرٌ لله" (¬5). ¬

_ (¬1) "الصمت" لابن أبي الدنيا رقم (713) ص (303). (¬2) "الزهد" لابن أبي عاصم رقم (36) ص (30). (¬3) "الصمت" لابن أبي الدنيا رقم (435). (¬4) "سير أعلام النبلاء" (4/ 354). (¬5) تقدم تخريجه ص (66).

وقال الإِمام النووي -رحمه الله تعالى-: "اعلم أنه ينبغي لكل مكلَّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلَّا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلامُ وتركُه في المصلحة، فالسُّنَّة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجرُّ الكلامُ المباح إلى حرام أو مَكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة (¬1) لا يعدلها شيء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) متفق عليه (¬2)، وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي ألَّا يتكلم إلا إذا كان الكلامُ خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحتُه، ومتى شكَّ في ظهور المصلحة فلا يتكلم" (¬3) اهـ. وقد قال الإِمام الشافعي -رحمه الله-: "إذا أراد الكلامَ فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شكَّ لم يتكلم حتى تظهر" (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) السلامة: هي البراءة من العيوب، كما في "القاموس"، وهي من الكلمات الجوامع، فإن من سلم نجا، فهي قريبة من العافية؛ ولذا تكون دعوة الرسل عند مرور الناس على الصراط: "اللهم، سلِّم سلِّم"، وكان عبد الله بن الخيار يقول في مجلسه: "اللهم سلَمِّنا، وسلِّم المؤمنين منا"، وقال الشاعر: وقائلة لي ما لي أراك مُجَنِّبًا ... أمورًا وفيها للتجارة مربحُ فقلت لها: كفِّي ملامَكِ واسمعي ... فنحنُ أناس بالسلامةِ نفرحُ (¬2) تقدم تخريجه ص (68). (¬3) "رياض الصالحين" مع "دليل الفالحين" (4/ 347، 348). (¬4) "الأذكار النووية" ص (284).

وقال رجل لسلمان الفارسي - رضي الله عنه -: "أوصني"، فقال: "لا تتكلم! " قال: "ما يستطيع من عاش في الناس ألَّا يتكلم"، قال: "فإن تكلمتَ فتكلم بحق، أو اسكت" (¬1). قال الشافعي -رحمه الله-: وجدتُ سكوتي متجرًا فَلَزِمتُه ... إذا لم أَجِدْ ربحًا فلستُ بخاسرِ وقال -أيضًا-: قالوا سكتَّ وقد خوصمتَ قلتُ لهم ... إن الجوابَ لبابِ الشرِّ مفتاحُ وقال مرةً رجل: "ما أشدَّ البرد اليوم! " فالتفت إليه المعافى بن عمران، وقال: "استدفأت الآن؟! لو سكتَّ؛ لكان خيرًا لك" (¬2). وقال أبو بكر بن محمَّد بن القاسم: كان شيخنا أبو إسحاق الشيرازي إذا أخطأ أحد بين يديه، قال: "أيُّ سكتةٍ فاتتك؟ " (¬3). ¬

_ (¬1) "جامع العلوم والحكم" ص (162). (¬2) "السير" (9/ 84). (¬3) "السير" (18/ 455).

حفظ اللسان في الفتن

حفظ اللسان في الفتن قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]، وقال -عزَّ وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، فمن سُنَّة الجهاد البُداءَة بالعدو الأقرب فالأقرب، والنفس الأمَّارة بالسوء بين جنبي الإنسان هي أقرب أعدائه إليه، فليبدأ بمجاهدتها وقمعها، خصوصًا وأنها التي تأمر اللسان بالغِيبة، والنميمة، والجدل، والمراء، والكذب، والخوض في الفتن. عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل" (¬1). وعن أبي ذر - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الجهاد: أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجلَّ" (¬2). وقال أبو حازم -رحمه الله-: "قاتِل هواك أشدَ مما تقاتل عدوك" (¬3). ويتأكد وجوب حفظ اللسان وقت الفتن لما لِلِّسان من أثر في إشعالها، وقد يحسب المغرور أنه إذا كفَّ يده فقد اعتزل الفتن، ولا يدري أنه لا ينجو منها حتى يكف لسانه أيضًا، وكم من خائضٍ في الفتن متلوثٍ بها بلسانه، وهو يظن أنه ناجٍ منها، وهو من أنشط الساعين فيها، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 20، 22)، والترمذي (1621)، وقال: "حسن صحيح"، وابن حبَّان رقم (4624)، (4706)، والطبراني (18/ 309) رقم (797)، وقال الألباني في "الصحيحة": "إسناده جيد" (3/ 484). (¬2) رواه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 249). وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (1496). (¬3) "الحلية" (3/ 231).

المُضْرِمين نارَها، ومِن ثَمَّ قال وهيب بن الورد - رحمه الله -: "وجدتُ العزلة في اللسان" (¬1). وعن عبد الله بن المبارك قال: قال بعضهم في تفسير العزلة: "هو أن يكون مع القوم، فإن خاضوا في ذكر الله فخُض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فأسكت" (¬2). وعن حذيفة رضي الله عنه، قال: "إن الفتنة وُكِّلَتْ بثلاث: بالحادِّ النِّحْرِيرِ الذي لا يرتفع له شيء إلَّا قمعه بالسيف (¬3)، وبالخطيب الذي يدعو إليها (¬4)، وبالسيد (¬5)، فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتبحثه، حتى تبلو ما عنده" (¬6). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال لما ذُكِرت عنده الفتن، وسُئل: أي أهل ذلك الزمان شر؟ قال: "كل خطيب مِسْقَعٍ (¬7)، وكل راكب مُوضِع" (¬8). ¬

_ (¬1) "الصمت" لابن أبي الدنيا رقم (38). (¬2) "المصدر نفسه" رقم (37). (¬3) الحادُّ: النشيط القوي القلب، أو الطائش، والنِّحْرير: العالم الحاذق في علمه. ومراده: أن مثل هذا المتهور لا رجاء له في النجاة؛ لأنه يفكر بسيفه. (¬4) وهذا كسابقه صاحب سيف، لكن سيفه لسانه. (¬5) لأن الفتنة امتحانٌ له. (¬6) "حلية الأولياء" (1/ 274). (¬7) الخطيب المِسْقَعِ والمِصْقَع: البليغ، أو: من لا يُرْتَجُ عليه في كلامه، ولا يتتعتع. وإنما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - ذلك؛ لأن الأول محرِّضٌ على الفتنة بلسانه، والآخر بسنانه، فاجتمع الشران: شر القول، وشر العمل. (¬8) "شرح السّنَّة" (15/ 16) ن والراكب المُوضِع في الفتنة: المُسْرعُ فيها.

والنصوص التالية تجسِّد لنا خطورة وَقْعِ اللسان في الفتن: عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تكون فتنة تَسْتَنْظِفُ (¬1) العرب، قتلاها في النار (¬2)، اللسانُ فيها أشدُّ (¬3) من وقع السيف" (¬4). ¬

_ (¬1) تستنظف العرب؛ أي: تستوعبهم هلاكًا؛ يقال: اسْتَنْظَفتَ الشيء، إذا أخذته كلَّه، ومنه قولهم: استنظفت الخراج، ولا يقال: نظَّفْتُه. كما في "النهاية" (5/ 79) وقال القاري: "أي: تطهرهم من الأرذال وأهل الفتن" نقله في "تحفة الأحوذي" (6/ 402). (¬2) في النار؛ أي: سيكونون في النار أو هم حينئذٍ في النار؛ لأنهم يباشرون ما يوجب دخولهم في النار؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} [الانفطار: 13] قال القاضي - رحمه الله تعالى-: المراد "بقتلاها" مَنْ قُتِل في تلك الفتنة، وإنما هم من أهل النار؛ لأنهم ما قصدوا بتلك المقاتلة والخروج إليها إعلاء دين أو دفع ظالم أو إعانة محق، وإنما كان قصدهم التباغي والتشاجر طمعًا في المال والملك. (¬3) اللسان فيها أشد؛ أي: وقعه وطعنه على تقدير مضاف، ويدل عليه رواية: "إشراف اللسان" أي: إطلاقه وإطالته أشد من وقع السيف؛ لأن السيف إذا ضُرِب به أثَّر في واحد، واللسان تضرب به في تلك الحالة ألف نسَمَة، كما في "تحفة الأحوذي" (6/ 403). قال القرطبي - رحمه الله تعالى-: "قوله: "اللسان فيها أشد من وقع السيف" أي: بالكذب عند أئمة الجور، ونقل الأخبار إليهم، فربما ينشأ عن ذلك من النهب والقتل والجلد والمفاسد العظيمة أكثر مما ينشأ من وقوع الفتنة نفسها" اهـ. من "التذكرة" (2/ 249). ونقل المناوي عن القاضي ابن العربي قوله: "وجه كونه أشد: أن السيف إذا ضرب ضربةً واحدةً مضت، واللسان يضرب به في تلك الحالة الواحدة ألف نَسمة، ثم هذا يحتمل أنه إخبار عَمَّا وقع من الحروب بين الصدر الأول، ويحتمل أنه سيكون، وكيفما كان فإنه من معجزاته؛ لأنه إخبار عن غيب" اهـ. من "فيض القدير" (4/ 101). (¬4) أخرجه أبو داود (4/ 461) رقم (4265)، وابن ماجه (2/ 1312) رقم (3967)، والإمام أحمد (11/ 170) رقم (6980)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تحقيق "المسند" (11/ 170)، وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" رقم (319).

ورُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون فتنة صَمَّاءُ بَكْمَاءُ عَمْيَاءُ (¬1) من أشرف لها اسْتَشْرَفَتْ له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف" (¬2). ورُوي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والفتن، فإن اللسان فيها مثل وقع السيف" (¬3). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكروا الفتنة، أو ذُكِرتْ عنده، قال: "إذا رأيتم الناسَ قد مَرِجَتْ عهودُهم، وخَفَّت أماناتُهم، وكانوا هكذا" -وشَبَّك بين أصابعه- قال: فقمتُ إليه، فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: "الزم بيتك، واملكْ عليك لسانك، وخُذْ بما تَعْرِفُ، ودَعْ ما تُنكِر، وعليك بأمر خاصةِ نفسك، ودَع عنك أمرَ العامة" (¬4). ¬

_ (¬1) وصف الفتنة بأوصاف أصحابها، أي: يعمي الناس فيها، فلا يرون منها مخرجًا، ويصمون عن استماع الحق. (¬2) رواه أبو داود (4/ 460) رقم (4264)، وقال الحافظ المنذري في "مختصر سنن أبي داود": "في إسناده عبد الرحمن بن البيلماني، ولا يُحتج بحديثه" اهـ. (6/ 148)، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" رقم (917). (¬3) رواه ابن ماجه (2/ 1312) رقم (3968)، وقال الألباني في "ضعيف ابن ماجه" رقم (860) ص (319): "ضعيف جدًّا". (¬4) رواه الإِمام أحمد (2/ 212)، وأبو داود رقم (4343) واللفظ له، والحاكم (4/ 525)، وصححه، ووافقه الذهبي، ونقل المناوي في "الفيض" تحسين المنذري والعراقي إياه (1/ 353)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في "تحقيق المسند" (11/ 172)، والألباني في "الصحيحة" رقم (502).

ولما كان "الدفع أسهل من الرفع" و"الوقاية خيرًا من العلاج"، أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على من يلزم بيته اتقاءً لآفات اللسان واحترازًا من الغيبة، والنميمة، والجدل، والسعاية وغير ذلك مما يكون وقودًا لإضرام نار الفتن. عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ... ومن جلس في بيته لم يغتب إنسانا كان ضامنًا على الله" (¬1). وهذا يدل على فضيلة من اعتزل مجالس الناس، ولزم بيته بنية كف شر لسانه عن إخوانه المؤمنين، كما قال- صلى الله عليه وسلم - في أفضل الأعمال بعد الجهاد: "مؤمن في شِعْبٍ من الشِّعاب يعبد الله، ويَدَعُ الناسَ مِنْ شَرِّه" (¬2). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسم- خرج عليهم وهم جُلُوس في مجلسٍ، فقال: "ألا أخبركم بخير ¬

_ (¬1) عَجُز الحديث رواه ابن حبَّان في "صحيحه" رقم (372)، والطبراني في "الكبير" (20/ 54)، والحاكم (2/ 90)، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في "السنن" (9/ 166، 167). وانظر: "المسند" (5/ 241)، والبزار (1649)، و"مجمع الزوائد" (5/ 277)، (10/ 304). ومعنى "ضامن على الله" أي: مضمون، على حَدِّ: "عيشة راضية" أي: مرضية، أو: ذو ضمان. قال النووي في "الأذكار": "معنى (ضامن) صاحب الضمان، والضمان: الرعاية للشيء، كما يقال: (تامر، ولابن) أي: صاحب تمر ولبن"، وانظر: "فيض القدير" للمناوي (3/ 319)، و"النهاية" لابن الأثير (3/ 102). (¬2) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مسلمٌ (1888)، وابن ماجه (3978)، وابن حبَّان (606)، وغيرهم.

الناس منزلًا؟ "، فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: "رجل آخِذٌ برأس فرسه في سبيل الله حتى عُقرت أو يُقتل، فأخبركم بالذي يليه؟ "، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "امرؤ معتزل في شِعْب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس" (¬1). الحديث. وقال شقيق البلخي: "اصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها، واحذر أن تُحرِقَك" (¬2). وقال عبد الله بن داود: "من أمكن الناسَ من كل ما يريدون، أضروا بدينه ودنياه" (¬3). وعن زياد بن حدير، قال: "لوددتُ أني في حَيِّزٍ من حديد، ومعي ما يُصلحني، لا أُكَلِّم الناسَ، ولا يكلموني حتى ألقى الله تبارك تعالى" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 237)، والنسائي (5/ 83)، والدارمي (2/ 201، 202)، وابن حبَّان (604)، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: "وإسناده حسن". (¬2) "صفة الصفوة" (4/ 160). (¬3) "سير أعلام النبلاء" (9/ 349). (¬4) "حلية الأولياء" (4/ 197)، و"الزهد" لابن أبي عاصم رقم (67) ص (42).

تورع السلف عن آفات اللسان في الفتن

تورع السلف عن آفات اللسان في الفتن قال إياس بن معاوية بن قُرَّة -رحمه الله تعالى-: "كان أفضلهم عندهم -أي عند الصحابة رضي الله عنهم- أسلمهم صدورًا، وأقلهم غِيبة" (¬1). وعن طارق بن شهاب، قال: كان بين خالدٍ وسعدٍ كلام، فذهب رجل يقع في خالدٍ عند سعد، فقال: "مه! إن ما بيننا لم يبلغ ديننا" (¬2). وسمع عمار بن ياسر - رضي الله عنه - رجلًا ينال من أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها -، فقال له: "اسكُتْ مقبوحًا منبوحًا، فأشهد أنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة"، وفي رواية: "اغرب مقبوحًا أتؤذي محبوبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! " (¬3). وقال ثابتٌ البُنانِيُّ: "إن مُطَرِّفَ بن عبد الله قال: لبثتُ في فتنة ابن الزبير تسعًا أوسبعًا ما أُخْبِرتُ فيها بخبر، ولا استخبرت فيها عن خبر". وعن شقيق، قال: قال لي شريح: "ما أخبرت ولا استخبرت منذ كانت الفتنة"، قلت: "لو كنتُ مثلك، لسرني أن أكون قد مت"، قال: ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (3/ 125)، بلفظ: "عندي -يعني الماضين"، ولعل ما أثبتناه أقرب. (¬2) "المرجع نفسه" (1/ 94). (¬3) أخرجه ابن عساكر كما في "الكنز" (3/ 116)، وابن سعد (8/ 65).

"فكيف بما في صدري، تلتقي الفئتان: إحداهما أحبُّ إليَّ من الأخرى؟ " (¬1). وقال الإِمام الزهري -رحمه الله تعالى-: (حدَّثني عروةُ أن المِسورَ بن مَخْرَمة أخبره أنه وفد على معاويةَ، فقضى حاجتَه، ثم خلا به، فقال: "يا مسورُ، ما فعل طعنُك على الأئمة؟ "، قال: "دعنا من هذا وأحسِن"، قال: "لا والله! لتكلِّمنِّي بذاتِ نفسِك بالذي تعيبُ عليَّ" قال مسور: "فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلَّا بيَّنتُ له" قال: "لا أبرأ من الذنب، فهل تعُدُّ لنا يا مسورُ ما نلي من الإصلاح في أمر العامَّة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعدُّ الذنوبَ وتتركُ المحاسنَ؟ " قال: "ما تُذكَر إلَّا الذنوب"، قال معاوية: "فإنَّا نعترف لله بكل ذنبٍ أذنبناه، فهل لك يامسورُ ذنوبٌ في خاصتك تخشى بأن تهلك إن لم تُغفر؟ "، قال: "نعم"، قال: "فما يجعلك اللهُ برجاء المغفرةِ أحقَّ مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مِما تلي، ولكن واللهِ لا أُخيَّر بين أمرين، بين الله وبين غيره، إلَّا اخترتُ اللهَ على ما سواه، وإنِّي على دينٍ يُقبل فيه العمل، ويُجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلَّا أن يعفوَ الله عنها"، قال: "فَخَصَمَني" قال عروة: "فلم أسمع المسورَ ذكر معاويةَ إلَّا صلَّى عليه") (¬2). عن أبي راشد، قال: (جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر، فقال: إني رسولُ إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يُقرءونك ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (4/ 133). (¬2) "سير أعلام النبلاء" (3/ 150، 151) (391، 392).

السلام، ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان، وما قولك فيهما؟ فقال: "هل غير؟ " قال: "لا"، قال: "جَهّزوا الرجل"، فلما فُرغ من جَهازه قال: "اقرأ عليهم السلام، وأخبرهم أن قولي فيهم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} [البقرة: 134] (¬1). وعن شريك قال: سألت إبراهيم بن أدهم عما كان بين علي ومعاوية، فبكى، فندمت على سؤالي إياه، فرفع رأسه، فقال: "إنه من عرف نفسه اشتغل بنفسه، ومن عرف ربه اشتغل بربه عن غيره" (¬2). وقال الشافعي: قيل لعمر بن عبد العزيز: "ما تقول في أهل صِفِّين؟ " قال: "تلك دماء طَهَّر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني بها" (¬3). وقال الرياشي -رحمه الله تعالى-: لَعمرُكَ إن في ذنبي لَشُغُلًا ... لنفسي عن ذنوب بني أمَيَّهْ على ربي حسابُهمُ إليه ... تناهى عِلمُ ذلك لا إليَّهْ وليس بضائري ما قد أَتَوْه ... إذا ما الله أصلحَ ما لديَّهْ (¬4) وعن الهيثم بن عبيد الصيدلاني، قال: سمع ابن سيرين رجلًا يَسُبُّ الحجاج، فقال: "مه أيها الرجل! إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب ¬

_ (¬1) "العزلة" للخطابي ص (41). (¬2) "حلية الأولياء" (8/ 15). (¬3) "العزلة" للخطابي ص (41). (¬4) "الأذكار النووية" ص (288).

عمِلتَه قَطُّ أعظمَ عليك من أعظم ذنبٍ عمله الحجاجُ، واعلم أن الله -عز وجل- حَكَمٌ عدلٌ، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئًا فشيئًا، أخذ للحجاج مِمَّن ظلمه، فلا تشغلنَّ نفسَك بسبِّ أحدٍ" (¬1). وكان عبد الله بن الخيار يقول في مجلسه: "اللهمَّ سلّمنا، وسلّم المؤمنين مِنَّا" (¬2). ¬

_ (¬1) "شعب الإيمان" (5/ 287) رقم (6681). (¬2) "تذكرة الحُفَّاظ" (1/ 139).

رب قول يسيل منه دم

رُبَّ قولٍ يسِيل مِنه دَمٌ لا ينحصر شؤم إطلاق اللسان في الفتن في ولائم السوء التي يسودها الجدل والمراء والغيبة والنميمة، لكنه يتعداها إلى آثار خطيرة في واقع الأمة، فالشر مبدؤه شرارة، "ومعظم النار مِن مُستصغَر الشرر". - وكثير من الفتن تُبْذَر بذرتها في مجالس الغيبة والوقيعة، ولا يتوقع أصحابها أن تبلغ ما بلغت، ثم تُلَقَّحُ بالنجوى، وتُنْتَجُ بالشكوى، وإذا بها تشتعل وتضطرم رويدًا رويدًا حتى يستعصي إطفاؤها حتى على الذين أوقدوا شرارتها، فهؤلاء الغيابون أكلة لحوم البشر هم من الذين وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن من الناس مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشر، وإن من الناس مفاتيحَ للشر، مغاليقَ للخير، فطوبى لمن جعل اللهُ مفاتيحَ الخيرِ على يديه، وويل لمن جعل اللهُ مفاتيحَ الشر على يديه" (¬1). خَلِّ جنبيك لرامِ ... وامض عنه بسلامِ مُتْ بداءِ الصمتِ ... خيرٌ لك من داء الكلامِ رُبَّما استُفْتِحَ بالقو ... لِ مغاليقُ الحِمامِ رُبَّ قولٍ ساقَ ... آجالَ فِئامٍ وفئامِ إنما السالمُ مَنْ ... ألجَمَ فاهُ بِلِجامِ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه رقم (237)، وابن أبي عاصم في "السُّنَّة" رقم (297)، وحسَّنه الألباني بطرقه في "الصحيحة" رقم (1332).

- وهاك هذه الشواهدَ التاريخيةَ التي تدل على أنه "رُبَّ قولٍ يسيلُ منه دمٌ" (¬1). قال أبو معبد عبد الله بن عَكيم الجهني -تابعي جليل- في خطبة له: "لا أُعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان"، فقال رجل متعجبًا: "يا أبا معبد، أَوَأَعنتَ على دمه؟ "، فقال أبو معبد: "إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عونًا على دمه (¬2) " (¬3). ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبدَ ليتكلمُ بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم" (¬4). فهؤلاء الساعون بالوشاية والنميمة، أحْصَوا اجتهادات أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وصوَّروها بحسب ما تتخيل عقولهم الضعيفة، وقلوبهم المريضة، فاتخذوا ذلك سُلََّمًا إلى الفتنة (¬5). حين علم حذيفة - رضي الله عنه - بمقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: "اللهمَّ العن قَتَلَتَهُ وشُتَّامَه، اللهمَّ إنَّا كنا نعاتبه ويعاتبنا، فاتخذوا ذلك سُلَّمًا إلى الفتنة، اللهمَّ لا تُمِتْهم إلَّا بالسيوف" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "المنهج المسلوك في سياسة الملوك" ص (447). (¬2) أو عونًا على سجنه وتشريده، وشلله عن دعوته. (¬3) "الطبقات" لابن سعد (3/ 80). (¬4) رواه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - البخاريّ رقم (6478)، ومسلمٌ رقم (2988). (¬5) وقد جمعها الإِمام ابن العربي، وفنَّدها في كتابه المبارك "العواصم من القواصم"، فانظره ص (76 - 150) ط. دار الكتب السلفية، 1405 هـ. (¬6) "الكامل" لابن الأثير (3/ 51).

قال عبد الواحد بن زيد للحسن البصريّ- وكلاهما من التابعين-: "يا أبا سعيد، أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي صفرة (¬1) إلَّا أنه عاون بلسانه، ورضي بقلبه"، فقال الحسن: "يابن أخي كم يد عقرت الناقة؟ "، قلت: "يد واحدة" قال: "أليس قد هلك القوم جميعًا برضاهم وتماليهم؟ " (¬2). ولعل النزعة الخارجية التي تُطل برأسها من وقت إلى آخر لتبعث الحياة في فِكْر الخوارج الأولين وسلوكهم هي المسئولة عن كثير من التعديات على الحرمات، فقد قال- صلى الله عليه وسلم - في شأن الخوارج: "يقتلون أهل الإِسلام، ويَدَعون أهل الأوثان" (¬3)، وهذه العلامة هي التي جعلت أحد العلماء، وقد وقع مرة في يد بعض الخوارج، فسألوه عن هُويته، فقال: "مشرك مستجير، يريد أن يسمع كلام الله"، وهنا قالوا له: "حقٌّ علينا أن نجيرك، ونُبْلِغَكَ مأمنك"، وتلوا قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]، بهذه الكلمات نجا "مشرك مستجير"، ولو قال لهم: "مسلم" لقطعوا رأسه (¬4). ¬

_ (¬1) وكان قد إنشقً عن الدولة الإِسلامية معتمدًا على وجاهة أبيه، وكان أبوه - رحمه الله تعالى- مبيدًا للخوارج. (¬2) "الزهد" للإمام أحمد ص (289). (¬3) رواه الإِمام أحمد (3/ 68)، والبخاري رقم (7432) (13/ 415)، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. (¬4) وانظر صورًا مماثلة من تهور الخوارج وانتهاكهم حرمات المسلمين مع تورعهم مع الكافرين في "تلبيس إبليس" لابن الجوزي ص (128، 129).

وتكفير المسلم مفتاح استباحة دمه: - فقد اتُّهمَ القاضي عياض - رحمه الله تعالى- بأنه "يهودي"؛ لأنه كان يلزم بيته للتأليف نهار السبت. - وهذا الشيخ علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي -رحمهما الله- مع أنه كان شيخ زمانه- كان يمشي متأبطًا وثيقة من أحد القضاة بصحة إيمانه، وبراءته من كل ما يكفره، مخافةَ أن يصادفه أفَّاك في مجلس. - وفي القصة التالية معتبر ومزدجر وتذكرة بأن "من الغيبة ما قتل": عن رشيد الخبَّاز قال: خرجت مع مولاي إلى مكة، فجاورنا، فلما كان ذات يوم، جاء إنسان فقال لسفيان: "يا أبا عبد الله، قَدِم اليوم حسنٌ وعليٌ ابنا صالح"، قال: "وأين هما؟ " قال: "في الطواف"، قال: "إذا مَرَّا، فأرنيهما"، فمرَّ أحدهما، فقلت: "هذا عليٌّ"، ومرَّ الآخر، فقلت: "هذا حَسَنٌ"، فقال: "أما الأول فصاحِب آخِرة، وأما الآخَرُ فصاحب سيف، لا يملأ جوفَه شيء"، قال: فيقوم إليه رجل ممن كان معنا، فأخبر عليًّا، ثم مضى مولاي إلى علي يسلم عليه، وجاء سفيان يُسلم عليه، فقال له علي: "يا أبا عبد الله، ما حملك على أن ذكرتَ أخي أمسِ بما ذكرته؟ ما يُؤمنك أن تبلغ هذه الكلمة ابن أبي جعفر، فيبعث إليه، فيقتله؟ " قال: فنظرت إلى سفيان، وهو يقول: "أستغفر الله" وجادتا عيناه (¬1). ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (7/ 366).

- وعن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: كنا مع رجاء بن حَيْوَة فتذاكرنا شكر النعم، فقال: "ما أحدٌ يقوم بشكر نِعمة"؛ وخَلْفَنا رجلٌ على رأسه كِساء، فقال: "ولا أميرُ المؤمنين؟ "، فقلنا: "وما ذِكْرُ أمير المؤمنين هنا؟! وانما هو رجلٌ مِن الناس"، قال: فغفلنا عنه، فالتفتَ رجاءٌ فلم يره، فقال: "أُتيتم من صاحب الكساء، فإن دُعيتم، فاستُحْلِفتم، فاحلفوا"؛ قال: فما علمنا إلَّا بحَرَسِي قد أقبل عليه (¬1)، قال: "هِيه يا رجاء، يُذكَر أمير المؤمنين، فلا تحتج له؟! "، قال: فقلت: "وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ "، قال: "ذكرتم شكر النعم، فقلتم: ما أحد يقوم بشكر نعمة، قيل لكم: ولا أمير المؤمنين؟، فقلتَ: أمير المؤمنين رجل من الناس! "، فقلت: "لم يكن ذلك"؛ قال: "آلله؟ "، قلت: "آلله"، قال: فأمر بذلك الرجل الساعي، فضُرب سبعين سوطًا، فخرجت وهو متلوِّث بدمه، فقال: "هذا وأنت رجاءُ بنُ حَيْوة؟ "، قلت: "سبعين سوطًا في ظهرك خير من دم مؤمن"، قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس يقول، ويتلفَّت: "احذروا صاحب الكساء" (¬2). قال الشاعر: يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرِّجلِ فعثرته بلسانه تُذْهب رأسه ... وعثرته برجله تبرا على مهل آخر: وجُرح السيف تُدْمِلُه فيبرا ... وجرحُ الدهر ما جَرَحَ اللسانُ ِ ¬

_ (¬1) يبدو أن في هذا الموضع سقطًا، ولعله: "فاصطحبه، وأدخله على أمير المؤمنين". (¬2) "سير أعلام النبلاء" (4/ 561).

جراحاتُ الطِّعان لها التئامٌ ... ولا يلتامُ ما جَرَح اللسانُ (¬1) وآخر: السيف يأسوه المُداوي ... وجرحُ القولِ طولَ الدهرِ دامي (¬2) ¬

_ (¬1) "المحاسن والمساوئ" للبيهقي ص (381). (¬2) "المصدر نفسه" ص (381).

ومن أسباب النجاة من الفتن: اعتزالها والفرار منها

ومن أسباب النجاة من الفتن: اعتزالها والفِرار منها فقد حثَّ الشرع الشريف على اجتناب المشاركة في الفتن، وكفِّ اليد عنها، والفِرار منها. عن بلال بن سعد في قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56]، قال: عند وقوع الفتنة: أرضي واسعة، ففروا إليها (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ- صلى الله عليه وسلم - قال: "ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتربَ، أفلحَ مَنْ كَفَّ يَدَه" (¬2). وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيف بكم وبزمانٍ يوشك أن يأتي، يُغَربَلُ الناسُ فيه غربلةً، وتبقى حُثالةٌ من الناس قد مرِجَت عهودُهم وأماناتُهم، فاختلفوا، وكانوا هكذا؟ " -وشبَّك بين أصابعه- قالوا: كيف بنا يا رسولَ الله! إذا كان ذلك؟ قال: "تأخذون بما تعرفون، وتَدَعون ما تُنكرون، وتُقْبِلون على خاصَّتكم، وتذرون أمرَ عوامِّكم" (¬3). ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (5/ 227). (¬2) رواه أبو داود رقم (4249)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 441)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (3/ 800). (¬3) رواه ابن ماجه رقم (3957)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" رقم (3196)، و"الصحيحة" رقم (205).

وعن خالد بيت الوليد - رضي الله عنه - قال: كتب إليَّ أمير المؤمنين حين ألقى الشامُ بَوانِيَهُ (¬1) بَثْنِيَّةً (¬2) وعَسَلًا، فأمرني أن أسير إلى الهند، والهند في أنفسنا يومئذٍ البصرة، قال: وأنا لذلك كاره، قال: فقام رجل فقال لي: يا أبا سليمان، اتق الله، فإن الفتن قد ظهرت، قال: فقال: "وابن الخطاب حي؟! إنما تكون بعده، والناس بذي بِلِيَّان (¬3)، أو بذي بليان بمكان كذا وكذا، فينظر الرجل فيتفكر: هل يجد مكانًا لم ينزل به مثلُ ما نزل بمكانه الذي هو فيه من الفتنة والشر؟ فلا يجده"، قال: "وتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين يدي الساعة الهَرْج"، فنعوذ بالله أن تدركنا وإياكم تلك الأيام" (¬4). وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ" (¬5). ¬

_ (¬1) بوانيه: خيره وما فيه من السَّعة والنعمة. (¬2) البثنية: قيل: الزبدة. أي: صارت كأنها زبدة وعسل؛ لأنها صارت تُجبى أموالُها من غير تعب. (¬3) المراد: إذا كانوا طوائف وفِرقًا من غير إمام، وكل من بعد عنك حتى لا تعرف موضعه فهو بذي بِلِيِّ، وهو من: بَلِّى في الأرض إذا ذهب، وأراد ضياع أمور الناس بعده. (¬4) أخرجه الإِمام أحمد (4/ 90)، والطبراني في "الكبير" رقم (3841) (4/ 116)، قال الألباني: "بسند حسن في المتابعات والشواهد" اهـ. من "الصحيحة" (4/ 249) حديث رقم (1682). (¬5) رواه البخاريّ في "صحيحه" رقم (6677) باب: مِن الدِّين الفِرار من الفتن.

وقَالَ عُثْمَانُ الشَّحَّامُ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَفَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ في أَرْضِهِ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا: هَلْ سَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدّثُ في الْفِتَنِ حَدِيثًا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يُحَدّثُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِن السَّاعِيِ إِلَيْهَا، أَلَا فإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كانَ لَهُ إبلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإبلِهِ، وَمَنْ كانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ" قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: "يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ ليَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ" قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَيْنِ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتينِِ فَضَرَبَنِي رَجُل بِسَيْفِهِ أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُني؟ قَالَ: "يَبُوءُ بِإثْمِهِ وَإِثْمِكَ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّار" (¬1). وعَن الْحَسَنِ، عَن الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ وَأَنَا أُريدُ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يا أَحْنَف؟ قالَ: قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَعْني عَليًّا- قَالَ: فقَالَ لِي: يَا أحْنَفُ، ارْجِع! فَإِنِّي سَمعتُ رَسُول اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقول: "إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمقْتُولُ في النَّارِ" قالَ: فَقُلْتُ -أو قِيلَ-: يا رَسُولَ الله هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُول؟ قَالَ: "إِنَّهُ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2887). (¬2) رواه البخاريّ رقم (6672)، ومسلم رقم (2888).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، مَن تشرَّفَ لها تستشرِفْه (¬1)، فمن وَجَدَ ملجأً أو مَعاذًا فليعُذْ به" (¬2). وقال حذيفة - رضي الله عنه - "إياكم والفتن، لا يشخصْ إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلَّا نسفته، كما ينسف السيلُ الدِّمَنَ" (¬3). وعن أبي بُردة، قَال: دخلت على محمَّد بن سلمة فقال: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنها ستكون فِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ واختلافٌ، فَإِذَا كَانَ كذلك؛ فَأْتِ بسيفك أُحُدًا فاضربه حَتَّى ينقطعَ، ثُمَّ اجلس في بيتك حَتى تَأْييَكَ يَدٌ خَاطِئَةٌ أَو مَنِيَّة قَاضِيَةٌ". فقد وَقَعَتْ وفعلتُ مَا قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (¬4). وعن أبي ذر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أنتَ يا أبا ذرٍّ! وموتًا يصيبُ الناسَ حتى يُقَوَّم البيتُ ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى-: "قوله: (مَن تشرَّف لها) -بفتح المثناة والمعجمة وتشديد الراء -أي: تطلَّع لها؛ بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها ... قوله: (تستشرفه) أي: تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك، يريد من انتصب لها انتصبت له، ومن أعرض عنها أعرضت عنه .. وفيه: التحذيرُ من الفتنة، والحث علي اجتناب الدخول فيها، وأنَّ شرها يكون بحسب التعلق بها" اهـ. من "فتح الباري" (13/ 31). (¬2) رواه البخاريّ رقم (3406)، ومسلم رقم (2886). (¬3) الدِّمَن: جمع دِمنة، وهي ما تُدمِّنُه الإبل والغنم بابوالها وأبعارها: أي تُلبِّده في مرابضها، فربما نبت فيها النبات الحسن النضير، وفي الحديث: "فينبتون نباتَ الدِّمن في السيل"، يريد البَعْرَ لسرعة ما ينبت فيه، انظر: "النهايه" (2/ 134). (¬4) رواه ابن ماجه رقم (3962)، وانظر: "الصحيحة" للألباني رقم (1380).

بالوصيف؟ " (يعني القبر) قنت: ما خَارَ الله لي ورسوله (أو قال: الله ورسوله أعلم) قال: "تصبَّر"، قال: "كيف أنت وجوعًا يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك، ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك؟ " قال، قلت: الله ورسوله أعلم (أو: ما خار الله لي ورسوله" قال: "عَليكَ بالعِفَّة"، ثم قال: "كيف أنت وقَتْلًا يصيبُ الناسَ حتى تُغْرَق حجارةُ الزَّيت بالدَّم؟ " قلت: ما خار الله لي ورسوله. قال: "الْحَقْ بمن أنت منه" قال: قلت: يا رسول الله، أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك؟ قال: "شاركتَ القومَ إذن، ولكن ادخل بيتك" قلت: يا رسول الله، فإن دُخِل بيتي؟ قال: "إن خشيتَ أن يَبْهَرَك شعاعُ السيفِ فألقِ طَرَفَ رِدائك على وجهك، فيبوء بإثمِهِ وإثمِك، فيكون من أصحاب النار" (¬1). ورُوي أن رجلًا قال لحذيفة - رضي الله عنه -: إذ اقتتل المسلمون فما تأمرني؟ قال: "انظر أقصى بيتٍ في دارِكَ فلِجْ فيه، فإن دُخِل عليك، فقل: ها بُو بذنبي وذنبك" (¬2). وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمِع بالدَّجال فَلْيَنْأَ عنه، فواللهِ إن الرجلَ ليأتيه وهو يحسب أنه مومن، فيتَّبعه، مما يُبْعَثُ به من الشبهات، أو: لما يُبعَث به من الشبهات" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه رقم (3958)، وصححه الألباني في "الإرواء" رقم (2451). (¬2) رواه الداني في "السنن الواردة في الفتن" (1/ 345). (¬3) رواه أبو داود رقم (4319)، والإمام أحمد (4/ 431)، والطبراني في "الكبير" رقم (550) (18/ 220)، والحاكم (4/ 531)، وصححه على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5/ 303) رقم (6177).

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "إذا وقع الناس في الفتنة، فقالوا: اخرج، لك بالناس أسوة، فقل: لا أسوة لي بالشر" (¬1). ومن مظاهر التطبيق العملي لمبدأ كف اليد عن المشاركة في الفتن واعتزالها: أن مروانَ بن الحكم لما دعا أيمن بن خريم إلى الخروج في قتال فتنة أجابه: إن أبي وعمي شهدا بدرًا، وإنهما عَهِدا إليَّ ألَّا أقاتل أحدًا يقول: "لا إله إلَّا الله"، فإن أنت جئتني ببراءة من النار؛ قاتلتُ معك! ثم يقول: ولستُ بقاتلٍ رجلًا يصلي ... على سلطانِ آخرَ من قريشِ له سلطانُه وعليَّ إثمي ... معاذ الله من جهلٍ وطيشِ أأقتل مسلمًا في غير جُرْمٍ ... فليس بنافعي ما عِشتُ عيشي (¬2) وعن عُدَيْسَة بنت أُهْبانَ، قالت: جاء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى أبي، فدعاه إلى الخروج معه، فقال له أبي: "إن خليلي وابنَ عمك عَهِد إليَّ إذا اختلف الناس أن أتخذَ سيفًا من خشب، فقد اتخذتُه! فإن شئتَ خرجتُ به معك" قالت: فتركه (¬3). وعن أيوب السختياني، قال: اجتمع سعد بن أبي وقاص، وابن ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": "رواه الطبراني، وفيه خديج بن معاوية: وثقة أحمد وغيره، وضعَّفه جماعة" اهـ. (7/ 298). (¬2) تقدم تخريجه ص (48). (¬3) أخرجه الترمذي رقم (2203) (4/ 490)، وقال: "حسن غريب"، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2/ 241)، والمراد باتخاذ السيف من الخشب: الامتناع عن القتال، كما في "تحفة الأحوذي" (6/ 446).

مسعود، وابن عمر، وعمار بن ياسر - رضي الله عنهم- فذكروا الفتنة، فقال سعد: "أما أنا، فأجلس في بيتي، ولا أدخل فيها" (¬1). وعن عامر بن سعد أن أباه سعدًا - رضي الله عنه - كان في غنمٍ له، فجاء ابنُه عمر، فلما رآه قال: "أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب"، فلما انتهى إليه، قال: يا أبة! أرضيتَ أن تكون أعرابيًّا في غنمك، والناس يتنازعون في المُلك بالمدينة؟ فضرب صدرَ عمر، وقال: اسكت، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل يحب العبد التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ" (¬2). وعن ابنِ سيرين، قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: "ألا تقاتل، فإنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ " فقال: "لا أقاتل حتى تأتوني بسيفٍ له عينان ولسان وشفتان، يعرف المؤمن من الكافر، إن ضربتُ به مسلمًا نبا عنه (¬3)، وإن ضربتُ به كافرًا قتله، فقد جاهدتُ وأنا أعرف الجهاد"، وضَرَب لهم مثَلًا، فَقَالَ: "مثلُنا ومَثلكم كمثلِ قوم كانوا عَلى محجةٍ بيضاء، فبينا هم كذلك يسيرون هاجتْ ريحٌ عَجَّاجة (¬4) فَضَلُّوا الطريقَ، والتبس عليهم، فقال بعضهم: (الطريق ذات اليمين)، فأخذوا فيها، فتاهوا، وضلوا، وقال آخرون: (الطريق ذات الشمال)، ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (1/ 94). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد (1/ 168)، ومسلم رقم (2965). (¬3) نبا عنه: أعرض عنه، ونَفَر، ولم يُصِبْه. (¬4) عجَّت الريح: اشتد هبوبها، وأثارت العَجاج؛ أي: الغُبار.

فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا في الطريق حيثُ هاجت الريح فنُنِيخ فأناخوا (¬1)، فأصبحوا، فذهب الريح، وتبيَّن الطريق، فهؤلاء هم الجماعة، قالوا: "نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن" (¬2). وعن الحسن قال: لما كان من أمر الناس ما كان من أمر الفتنة، أتوا عبد الله بن عمر، فقالوا: أنت سيد الناس، وابن سيدهم، والناس بك راضون: اخرج نبايعك، فقال: لا والله، لا يهراق فيَّ محجمة من دم، ولا في سببي، ما كان فيَّ الروح، قال: ثم أُتِيَ، فخُوِّفَ، فقيل له: لتخرجنَّ أو لتقتلنَّ على فراشك، فقال مثل قوله الأول؛ قال الحسن: فوالله، ما استقلوا منه شيئًا، حتى لحق بالله تعالى (¬3). - وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَتَاهُ رَجُلان (¬4) في فِتنةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالا: إِنَّ النَّاسَ قد ضُيِّعُوا، وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ- صلى ¬

_ (¬1) أناخ بالمكان: أقام به، وأناخ الجملَ: أبركَه، والمقصود أنهم ثبتوا في أماكنهم، ولم يبرحوا. (¬2) رواه نعيم في "الفتن" ص (167)، وابن سعد في "الطبقات" (3/ 143)، والطبراني في "الكبير" (1/ 144)، رقم (322)، والخطابي في "العزلة" ص (72)، والحاكم (4/ 444)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 94)، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني (1/ 144 - رقم 322)، ورجاله رجال الصحيح" اهـ. من "مجمع الزوائد" (7/ 299)، وانظر -أيضًا-: "حلية الأولياء" (1/ 309،310). (¬3) "حلية الأولياء" (1/ 293). (¬4) أحدهما نافع بن الأزرق، ويحتمل أن يكون الثاني العلاء بن عرار، "هدي الساري" ص (310).

الله عليه وسلم - فَمَا يمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟! فَقَالَ: يَمْنَعُني أَنَّ اللهَ حرَّمَ دَمَ أَخِي، فَقَالا: أَلَمْ يَقُل اللهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]؟ فَقَالَ: قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلهِ، وأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، ويَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ الله (¬1). وعَنْ نَافِعٍ أيضًا أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ في سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللهُ فِيهِ؟ قَالَ: يَابْنَ أَخِي، بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: إِيمَانٍ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، والصلواتِ الْخَمْسِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ الله في كِتَابِهِ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قَالَ: فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا، فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ- في دِينِهِ إِمَّا قَتَلُوهُ وَأَمَّا يُعَذِّبُونَهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ في عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؟ قَالَ: أَمَّا عُثْمَانُ فكان اللهُ عَفَا عَنْهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكَرِهْتُمْ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -، وَخَتَنُهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَذَا بَيْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ (¬2). قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لابنه عبد الله - رضي الله عنه -، وهو ممن اعتزل الفتنة يوم صفين-: "يا بني! انظر أين ترى عليًّا؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في "صحيحه" رقم (4513) (8/ 183 - فتح). (¬2) أخرجه البخاريّ (4514، 4515) (8/ 184 - فتح).

قال: أراه في تلك الكتيبة القتماء ذات الرماح، عليه عمامة بيضاء، قال: لله دَرُّ ابن عمر وابن مالك (¬1)! لئن كان تخلفهم عن هذا الأمر خيرًا؛ كان خيرًا مبرورًا، ولئن كان ذنبًا؛ كان ذنبًا مغفورًا" (¬2). وكذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يقول: "لله درُّ مقامٍ قامه سعدُ بن مالك وعبدُ الله بن عمر: إن كان بِرًّا إن أجره لعظيم، وإن كان إثمًا إن خطأه ليسير" (¬3). وعن أبي العالية، قال: لما كان قتال عليٍّ ومعاوية كنت رجلًا شابَّا، فتهيأتُ، ولبستُ سلاحي، ثم أتيت القوم، فإذا صفان لا يُرى طرفاهما، قال: فتلوت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]. قال: فرجعت وتركتهم (¬4). وعن ثابتٍ البُناني، عن مُطَرِّف، قال: "لأن يسألني ربي -عزَّ وجل- يومَ القيامة، فيقول: يا مُطَرِّف ألا فعلتَ! أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ يقولَ لِمَ فَعلتَ؟ " (¬5). ¬

_ (¬1) هو سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، كان وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة الأنصاري في عدة من الصحابة تخلَّفوا عن الفريقين، وقعدوا عن تلك الفتنة حتى انجلت. (¬2) "العزلة" ص (74، 75). (¬3) "مجموع الفتاوى" (4/ 440). (¬4) "حلية الأولياء" (2/ 219). (¬5) "كتاب الزهد" للبيهقي رقم (847) (2/ 316)، "سير أعلام النبلاء" (4/ 190).

قال مُطَرِّف: "إن الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهديَ الناس، ولكن لتقارعَ المؤمنَ عن دينه، ولَأن يقول اللهُ: لِمَ لا قتلتَ فلانًا؟ أحبُّ إليَّ مِنْ أنُ يقولَ: لِمَ قتلتَ فُلانًا؟ " (¬1). وقال مُطَرِّف -أيضًا-: "لَأَنْ أُعافَى فأشكر، أحبُّ إليَّ من أن أُبتلى فأصبر، نظرتُ في العافية فوجدتُ فيها خيرَ الدنيا والآخرة" (¬2). وقال أيضًا - رحمه الله -: "لأن آخذَ بالثقة في القعود أَحبُّ إليَّ من أن ألتمسَ -أو قال؛ أطلبَ- فضلَ الجهادِ بالتغرير" (¬3). ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (2/ 204). (¬2) المرجع نفسه (2/ 212). (¬3) عاصر مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير فتنًا عظيمة، وُفِّق للنجاة منها، قال العجلي: "تابعي ثقة، من خيار التابعين، رجل صالح، وكان أبوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَنْجُ من فتنة ابن الأشعث بالبصرة إلَّا رجلان: مطرف بن عبد الله، ومحمد بن سيرين، ولم ينج منها بالكوفة إلَّا رجلان: خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي، وإبراهيم النخعي"، وانظر: "معرفة الثقات" (2/ 282).

فصل

فصل قال الإِمام أحمد: حدَّثنا إسماعيل، قال: حدَّثنا أيوب عن محمَّد بن سيرين، قال: "هاجت الفتنة وأصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف فما خفَّ فيها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين" (¬1). لما حدث الخلاف بين الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين- وجرَّ إلى القتال، دخل كعب بن سور -رحمه الله- في بيت، وطَيَّن عليه، وجعل فيه كُوَّة يُناوَلُ منها طعامَه، وشرابَه، اعتزالًا للفتنة (¬2). عن ابن طاووس عن أبيه، قال: لما وقعت فتنة عثمان، قال رجل (¬3) لأهله: "أَوْثقوني بالحديد، فإني مجنون"، فلما قُتل عثمان، قال: "خَلُّوا عني، الحمد لله الذي شفاني من الجنون، وعافاني من قتل عثمان" (¬4). وعن مرحوم بن عبد العزيز، قال: سمعت أبي يقول: لما كانت فتنة يزيد بن المهلب، انطلقت أنا ورجل إلى ابن سيرين، فقلنا: ما ترى؟ فقال: "انظروا إلى أسعدِ الناس حين قُتِلَ عثمان، فاقتدوا به"، قلنا: هذا ابن عمر كف يده (¬5). ¬

_ (¬1) "العلل ومعرفة الرجال" (3/ 182)، و"السُّنَّة" للخلال (2/ 466)، وانظر: "منهاج السُّنَّة" (6/ 236). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات" (7/ 92)، وربما فعل كعب ذلك ليراه المتورِّط المستدرَج، فيراجع، ويستدرك. (¬3) وسمَّاه بعض الرواة: عامر بن ربيعة. (¬4) "حلية الأولياء" (1/ 178، 179). (¬5) "المصدر نفسه" (2/ 276).

وقال بشيرُ بنُ عقبة: قلتُ ليزيد بن عبد الله بن الشخير: ما كان مُطَرِّف يصنع إذا هاج في الناس هيج؟ قال: "يلزم قَعْرَ بيته، ولا يقرب لهم جمعة ولا جماعة حتى تنجلي لهم عما انجلت" (¬1). وقال قتادةُ: كان مُطَرِّف إذا كانت الفتنةُ نَهَى عنها وَهَرَب، وَكانَ الحسن البصريّ ينهى عنها، ولا يَبْرح، فَقَالَ مُطَرِّف: "ما أشبِّهُ الحسنَ إلَّا برجل يُحَذِّرُ النَّاسَ السيلَ ويقوم بسَنَنهِ" (¬2). وعن مالك بن دينار، قال: لما وقعت الفتنة، أتيت الحسن أسأله: يا أبا سعيد، ما تأمرني؟ فلا يجيبني، فقلت: "يا أبا سعيد، أتيتك ثلاثة أيام أسألك، وأنت معلمي فلا تجيبني، والله، لقد هممت أن آخذ الأرض بقدمي، وأشرب من أفواه الأنهار، وآكل من بقل البَرِّيَّةِ، حتى يحكم الله بين عباده"، قال: فأرسل الحسن عينيه باكيًا، ثم قال: "يا مالك، ومن يطيق ما تطيق؟ لكنا والله ما نطيق هذا" (¬3). وعن أبي الحارث الصائغ، قال: سألت أبا عبد الله -يعني الإِمام أحمد- في أمر كان حدث في بغداد، وهمَّ قوم بالخروج، فقلت: "يا أبا عبد الله! ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ " فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: "سبحان الله! الدماء، الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يُسفك فيها الدماء، ويُستباح فيها الأموال، وينتهك فيها ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" (7/ 142). (¬2) "المصدر نفسه" (7/ 142)، "حلية الأولياء" (2/ 204). (¬3) "حلية الأولياء" (2/ 367، 368).

المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه -يعني أيام الفتنة-؟ " قلت: والناس اليوم أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟ قال: "وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف عَمَّت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك"، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة، وقال: "الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به" (¬1). وعن أبي المنهال، قال: لما كان زمن أُخْرِجَ ابنُ زياد: وثب مروان بالشام، وابنُ الزبير بمكة، ووثب الذين كانوا يُدعَوْنَ القُرَّاءَ بالبصرة؛ غُمَّ أبي غَمُّا شديدًا، وكان يثني على أبيه خيرًا- قال: قال لي: انطلق إلى هذا الرجل الذي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أبي برزة الأسلمي، فانطلقت معه، حتى دخلنا عليه في داره، وإذا هو في ظل علو له من قصب، في يوم شديد الحر، فجلست إليه، قال: فأنشأ أبي يستطعمه الحديث، وقال: يا أبا برزة ألا ترى؟ قال: فكان أول شيء تكلم به، أن قال: إني أحتسب عند الله -عزَّ وجلَّ- أني أصبحتُ ساخطًا على أحياء قريش، وأنكم -معشرَ العرب- كنتم على الحال الذي قد علمتم من جهالتكم، والقلة، والذلة، والضلالة، وأن الله -عز وجل- نَعَّشَكم بالإِسلام، وبمحمد- صلى الله عليه وسلم - خير الأنام، حتى بلغ بكم ما ترون، وإن هذه الدنيا هي التي أفسدت بينكم، وإن ذاك الذي بالشام والله! إن يقاتل إلا على الدنيا، وإن الذي حولكم الذين تدعونهم قراءكم: والله! لن يقاتلوا إلا على الدنيا"؛ قال: ¬

_ (¬1) "السُّنَة" للخلال (1/ 132).

فلما لم يدع أحدًا، قال له أبي: بِمَ تأمر إذن؟ قال: "لا أرى خير الناس اليوم: إلَّا عصابة ملبدة؛ خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دمائهم" (¬1). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وقلَّ مَنْ خرج على إمام ذي سلطان إلَّا كان ما تولَّد على فعله من الشر أعظم مما تولَّد من الخير" (¬2). وقال -أيضًا-: " ... ولهذا استقرَّ أمر أهل السُّنَّة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم" (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (2/ 32، 33). (¬2) "منهاج السُّنَّة النبوية" (4/ 527). (¬3) "نفسه".

فصل

فصل (¬1) وكثر ما تتأكد العزلة في الفتن لأحد صنفين: أحدهما: من خشي على دينه أن يُفتن فيه، ويحول عنه. الثاني: من كان ذا بأس وشدة، يُخْشَى على الناس منه ومن بأسه، ومثله صاحب الرأي والمشورة والدهاء، الذي يُخشى على الناس من رأيه، ولذا ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال- لما ذُكرت عنده الفتن، وسُئل: أي أهل ذلك الزمان شر؟ - قال: "كل خطيب مِسقع، وكل راكب مُوضِع" (¬2)؛ وذلك لأن الأول محرِّض على الفتنة بلسانه، والآخر بسنانه، فاجتمع الشران: شر القول، وشر العمل. فائدة العزلة وقت الفتن: - صيانة الدين عن المساس، والنفس عن التلف، والعِرض عن الضيم والانتهاك، والمالِ عن الضياع، وقلَّ من شارك في فتنة، وسلمت له هذه كلها. - سلامة الصدر على المسلمين، ولذلك أمر سعد - رضي الله عنه - أهله ألا يُخبروه بشيء من أخبار الناس لما وقعت الفتنة حتى يجتمعوا على إمام. ¬

_ (¬1) انظر: "مسائل في الفتن" ص (74، 75). (¬2) انظر شرحه وتخريجه ص (77).

تنبيهات

- إطفاء الفتنة وإخماد نارها؛ لأن الناس كلما اعتزلوا الفتن؛ قلَّ أهلها، فَقَلَّ شرها، وكلما تشرَّفوا لها وقاموا وقعدوا فيها، كثَّروا سواد أهلها، فزاد شرها، وعظم خطبها. ولذلك بَوَّب البخاريّ في "صحيحه" في كتاب الفتن، فقال: باب من كره أن يُكَثِّر سواد أهل الفتن والظلم، وذكر فيه حديث أبي الأسود، قال: قطع على أهل المدينة بعثٌ فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة فأخبرته، فنهاني أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس - رضي الله عنهما-: أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِّرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأتي السهم يصيب أحدهم فيقتله، أو يضر به فيقتله، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]. تنبيهات الأول: اعلم -رحمك الله تعالى- أن العزلةَ لا تشرع مطلقًا، لكن لها حالات استثنائية تشرع فيها، وما ورد من النصوص في مدح العزلة مطلقًا يُحْمَل على أنه خاص بأفراد معينين تضر المخالطة بدينهم ودنياهم، أو أنه خاص بزمان الفتن التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتزالها. الثاني: اعلم أن العزلة في إلفتن على وجهين بحسب الحاجة والمصلحة، وبحسب القدرة والاستطاعة: أحدهما: العزلة التامة في مكان بعيد عن الناس. والآخر: العزلة النسبية أو الجزئية؛ بحيث يعتزل الفتن وأهلها، ولا يشارك فيها، وإن كان مقيمًا بين ظهراني الناس.

الثالث: إذا خرج بُغَاة على الإِمام الشرعيّ، فالصواب مناصرته عليهم وعدم خِذْلانه بزعم مشروعية العزلة في مثل ذلك، قال الإِمام الطبري - رحمه الله تعالى-: "والصواب أن يُقال: إن الفتنةَ أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل مَنْ قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومَنْ أعان المخطئ أخطأ، وإن أُشكل الأمرُ فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها" (¬1) اهـ. الرابع: أما ما وقع بين الصحابة - رضي الله عنه - من الاقتتال: "فلا يجوز أن يُنسب إلى أحد منهم خطأ مقطوع به؛ إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله -عزَّ وجلَّ- وهم كلهم لنا أئمة، وقد تُعُبِّدنا بالكفِّ عَمَّا شجر بينهم، وألَّا نذكرهم إلَّا بأحسن الذكر؛ لحرمة الصحبة، ولنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سَبّهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم" (¬2). ومما يُنَجِّي من الفتنة لُزومُ الجماعة: من لطف الله تعالى بهذه الأمة المرحومة أنه- عَزَّ وجَلَّ- لا يجمعها على ضلالة أبدًا، بل الحق فيها دائم ما دامت الأمة، فقد ضمن -تبارك وتعالى- بقاء طائفة من الأمة ثابتة على الحق مستمسكة به حتى يأتيها أمر الله، وهي على ذلك. ¬

_ (¬1) نقله عنه الحافظ في "الفتح" (13/ 35). (¬2) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (16/ 321، 322)، و"شرح النووي لصحيح مسلم" (18/ 11).

عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: "اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بَرٌّ، أو يُستراحَ من فاجر، وعليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمة محمَّد- صلى الله عليه وسلم - على ضلالة" (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ إلى النار" (¬2). وفي حديث عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: " ... فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، ومن الاثنين أبعد، فمن سَرَّته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن" (¬3). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفُرْقَة" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (8/ 604)، وصححه الحافظ في "التلخيص" (3/ 296). (¬2) رواه أبو داود (4/ 452) رقم (4253)، والترمذي (4/ 466) رقم (2167)، وصححه الألباني في "تخريج المشكاة" (173). (¬3) رواه الترمذي في "سُننه" (4/ 466) رقم (2165)، وقال: "حسن صحيح غريب"، ْوالحاكم (1/ 114)، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن أبي عاصم في "السُّنَّة" أرقام (86، 88، 896، 899، 902)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة" رقم (155). (¬4) رواه الآجري في "الشريعة" (1/ 123، 124)، رقم (17)، واللالكائي في "الأصول" رقم (159).

وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كُلَّها، ولو أن تَعَضَّ على أصل شجرةٍ حتى يدركك الموتُ وأنت على ذلك" (¬1). وقال مطرف: قلت لعمران بن حصين: "أنا أفقر إلى الجماعة من عجوز أرملة؛ لأنها إذا كانت جماعة عرفتُ قبلتي ووجهي، وإذا كانت الفرقة التبس عليَّ أمري" قال له: "إن الله عَزَّ وجَلَّ سيكفيك من ذلك ما تُحاذِر" (¬2). وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجماعة رحمة، والفُرْقَة عذاب" (¬3). ولما أتم ذو النورين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الصلاة بمنى أربع ركعات -خلافًا لما كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -، عجب الصحابة من صنيعه ذلك، حتى إن ابن مسعود - رضي الله عنه - استرجع، وقال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6/ 615 - فتح)، (13/ 35)، ومسلم رقم (1475)، وغيرهما. (¬2) "حلية الأولياء" (2/ 208). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد (4/ 278، 375)، وابن أبي عاصم في "السُّنَّة" رقم (895)، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة" رقم (667).

فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان" (¬1)، وفي رواية أنه: "صلَّى أربعًا، فقيل له: عِبْتَ على عثمان ثم صليت أربعًا، قال: الخلاف شر" (¬2). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "سبب الاجتماع والأُلفة جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنًا وظاهرًا. وسبب الفرقة: ترك حظ مما أُمر العبد به، والبغي بينهم. ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه. ونتيجة الفرقة: عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول منهم" (¬3) اهـ. ومن أهم المظاهر التي تشد المسلمين شدَّا إلى حبل الله وصراطه المستقيم المواظبة على حضور صلاة الجماعة حتى في أحلك أوقات الفتن، باعتبار ذلك من مظاهر التعاون على البرِّ والتقوى، وهي -إن لم تستأصل الفتنة- فإنها تُحَجِّم أضرارها، وتذكر المسلمين بأخوة الإيمان، ووحدة العقيدة، واستصحاب أصل الائتلاف والتلاحم. عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: "إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في "صحيحه" (2/ 656 - فتح). (¬2) رواه أبو داود (2/ 491، 492) رقم (1960)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1/ 369)، وانظر: "شرح النووي على مسلم" (5/ 204). (¬3) "مجموع الفتاوى" (1/ 17).

وَيُصَلّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنتَحَرَّجُ، فَقَالَ: "الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ" (¬1). قال أبو مُحَمَّد بن حَزْم: "وكان ابنُ عمر يصلي خلف الحجَّاجِ ونجدةَ، أحدهما: خارجي (¬2)، والثاني: أفسق البرية (¬3)، وكان ابنُ عمر يقول: "الصلاةُ حَسَنَة ما أبالي مَن شَرَكَنِي فيها". وعن القاسم بن عبد الرحمن: أنهم قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى: ألا تخرج فتقاتل؟ فقال: "قد قاتلتُ والأنصابُ بين الركن والباب، حتى نفاها الله -عزَّ وجلَّ- من أرض العرب؛ فأنا أكره أن أقاتل من يقول: لا إله إلا الله"، قالوا: "والله ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يُفْنِيَ أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعضُهم بعضًا حتى إذا لم يبقَ غيرُك، قيل: بايِعوا لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنين"، قال: "واللهَ ما ذلك فِيَّ، ولكن إذا قلتم: حَيَّ على الصلاة، أجبتكم، حَيَّ على الفلاح، أجبتكم، وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في "صحيحه" رقم (695) (2/ 188 - فتح). (¬2) أي: نجدة بن عامر الحنفي الحروري الخارجي من رءوس الخوارج. انظر: "لسان الميزان" (6/ 148). (¬3) الأَوْلَى أن يقول: "من أفسق البرية"، أما إطلاقها هكذا فلا ينبغي؛ لأنه لا يعلمه إلَّا الله سبحانه، وقد رُوي عن قتادة، قال: قلت لسعيد بن المسيب: "أنصلي خلف الحجاج؟ " قال: "إنَّا لنصلي خلف من هو شر منه". (¬4) "حلية الأولياء" (1/ 294).

وعن نافع، قال: قيل: لابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - زمنَ ابنِ الزبير، والخوارج، والخشبية: أتصلي مع هؤلاء، ومع هؤلاء، وبعضهم يقتل بعضا؟ قال: "من قال: حَيَّ على الصلاة، أجبته، ومن قال: حَيَّ على الفلاح، أجبته، ومَنْ قال: حَيَّ على قتل أخيك المسلم، وأَخْذِ ماله، قلت: لا" (¬1). وقال مسلم: كنا مع عبد الله بن الزبير والحجاج محاصره، وكان ابن عمر يصلي مع ابن الزبير، فإذا فاتته الصلاة معه وسمع مؤذن الحجاج، انطلق فصلى معه، فقيل: لِمَ تصلي مع ابن الزبير ومع الحجاج؟ فقال: "إذا دعونا إلى الله أجبناهم، وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم"، وكان ينهى ابنَ الزبير عن طلب الخلافة والتعرض لها (¬2). وعن ابن جريج: قلتُ لعطاء: أرأيت إمامًا يؤخر الصلاة حتى يصليها مفرِّطًا فيها، قال: "أصلي مع الجماعة أحبُّ إليَّ". وعن أبي الأشعث قال: ظهرت الخوارج علينا، فسألتُ يحيي بنَ أبي كثير، فقلت: يا أبا نصر، كيف ترى في الصلاة خلف هؤلاء؟ قال: "القرآنُ إمامُك، صَلِّ معهم ما صَلَّوْها". وعن الحسن قال: "لا تضر المؤمنَ صلاتُه خلف المنافق، ولا تنفع المنافقَ صلاتُه خلف المؤمن". ¬

_ (¬1) "المرجع نفسه" (8/ 309). (¬2) "العزلة" ص (15).

قال علي (¬1): ما نعلم أحدًا من الصحابة - رضي الله عنه - امتنع من الصلاة خلف المختار، وعبيد الله بن زياد، والحجاج، ولا فاسق أفسق من هؤلاء، وقد قال الله - عَزَّ وجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] (¬2). ¬

_ (¬1) أي: الإِمام أبو محمَّد علي بن حزم -رحمه الله تعالى-. (¬2) "المحلى" (4/ 213)، وانظر: "قاعدة أهل السُّنَّة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي، ومشاركتهم في صلاة الجماعة"، شيخ الإِسلام ابن تيمية.

مواجهة الفتنة بالعمل الصالح

مواجهة الفتنة بالعمل الصالح في مواطن الفتن والنوازل ينشغل كثيرٌ من الناس بتتبع الأخبار، ويولعون بذلك، ومِن ثَمَّ يغلب على أحاديث المجالس: "سمعت، ورأيت، وأتوقع، ولو كان كذا كان أولى، ولو قُدّم هذا أو أُخِّر ذاك لكان أحرى"، مما يصرف هممهم عن النوافل المستحبة، وربما فرَّطوا في الواجبات، أو أخرجوا الصلاة عن وقتها بسبب السهر في السمر والجدل مثلًا، بجانب الإخلال بواجبات المعاش، وحقوق الأهل والأولاد. كل ذلك بسبب السهر في قيل وقال، والإغراق في تصفح الجرائد والمجلات، ومتابعة القنوات، بل الشغف بذلك إلى حد إدمانها والوقوع في أسرها (¬1). وهذا كله انحراف عن الهدي النبوي في التعامل مع الفتنة، وقد قال- صلى الله عليه وسلم -: "خير الهدي هديُ محمَّد صلى الله عليه وسلم" (¬2)، فكيف كان هديه- صلى الله عليه وسلم - في ذلك؟ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) "معالم في أوقات الفتن والنوازل" للشيخ عبد العزيز السدحان -حفظه الله تعالى- ص (43، 44). (¬2) انظر: "خطبة الحاجة" للألباني - رحمه الله تعالى-.

"بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مومنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا" (¬1). وكان الحسن البصريّ -رحمه الله تعالى- يقول في هذا الحديث: "يصبح الرجل مُحَرِّمًا لدم أخيه وعِرضه وماله، ويمسي مستحلًّا له، ويُمسي مُحَرِّمًا لدم أخيه وعرضه وماله، ويصج مستحلًّا له" (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بادروا بالأعمال ستًّا: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم" (¬3). وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً فَزِعًا يقول: "سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل (¬4) من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه- لكي يصلين (¬5)؟ ربَّ كاسيةٍ في الدنيا عارية في الآخرة" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "صحيحه" رقم (118)، والترمذي (2196)، والإمام أحمد (2/ 304). (¬2) نقله عنه الترمذي في "سننه" رقم (2198) (4/ 488). (¬3) رواه مسلم، رقم (118). (¬4) أي: أنه أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - في نومه ذاك بما سيقع بعده من الفتن، فعبَّر عنه بالإنزال، كما في "فتح الباري" (1/ 254). (¬5) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى-: "فيه الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة، لتُكْشَف أو يَسْلم الداعي ومن دعا له". اهـ. "الفتح" (1/ 255). (¬6) أخرجه البخاري (1/ 253) رقم (115)، وأحمد (6/ 297).

فالعمل الصالح وسيلة للثبات على الحق، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]. وإن النفس وقت الفتن إن لم يبادر المؤمن بإشغالها بالحق، شغلته بالباطل ولا بد. قال الحسن البصريّ -رحمه الله تعالى-:"نفسك إن لم تشغلها بالحق؛ شغلتك بالباطل". وصاحب الأعمال الصالحة لا يخزيه الله أبدًا: ففي حديث بدء الوحي قالت خديجة - رضي الله عنها - للنبي- صلى الله عليه سلم-: "كلا والله! لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتَقْرِي الضيفَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتُكْسِبُ المعدومَ، وتُعين على نوائب الحق" (¬1). ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء" (¬2). وُيروى أن الفتنة لما وقعت، قال طلق بن حبيب: "اتقوها بالتقوى". وعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ" (¬3). قال الأُبِّيُّ المالكي -رحمه الله تعالى-: "الهَرْجُ: الفنتة والاختلاط، ووجه التشبيه: أن المهاجر فَرَّ بدينه ممن يصده عنه إلى الاعتصام برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك هذا ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ رقم (3)، ومسلم (245) من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) روي من طرق عن جمع من الصحابة - رضي الله عنهم- انظرها في "السلسلة الصحيحة" رقم (1908). (¬3) رواه مسلم رقم (5376).

المنقطع للعبادة في الفتنة فَرَّ عن الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه عز وجل، فهو مهاجر إلى الله سبحانه وتعالى" (¬1). وقد قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10] لأن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا فعلوا ذلك في وقت خوف وقلة، بخلاف من فعل ذلك بعد الفتح، فإنهم- وإن كانوا موعودين بالحسنى- إلا أنهم أنفقوا وقاتلوا بعد عزة الإِسلام وقوة أهله (¬2). وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]. وذلك لأن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر. وقال- جلَّ وعلا- مخاطبًا خليله محمدًا- صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97 - 99]. فأمره- صلى الله عليه وسلم - بأن يفزع إلى الصلاة والذكر إذا ضاق صدره بما يقوله أعداء الدين، فإن في ذلك شرحًا للصدر، وتفريجًا للكربة، وهكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، قال حذيفة - رضي الله عنه -: "رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبه أَمْرٌ صَلى" (¬3). ¬

_ (¬1) "إكمال إكمال المعلم" (7/ 283). (¬2) انظر: "مسائل في الفتن" للصبحان ص (41). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد (5/ 388)، وابن جرير (1/ 205)، وأبو داود (1319)، وحسَّنه الألباني.

وعن أمير المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه - قال: "لقد رأيتنا ليلة بدر، وما فينا إنسان إلا نائم، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يصلي إلى شجرة، ويدعو حتى أصبح" (¬1). ويُروى أن ثابتًا قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابته خصاصة نادى بأهله: "صلوا، صلوا". قال ثابت: "وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة") (¬2). ورُوي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: "كان النبي، صلى الله عليه وسلم - إذا كان ليلة ريح شديدة، كان مفزعه إلى المسجد حتى تسكن الريح، وإذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أوقمر كان مفزعه إلى الصلاة حتى ينجلي" (¬3). وهكذا كان شأن الصحابة الأبرار - رضي الله عنهم -، فقد رُوِيَ عن النضر أنه قال: (كانت ظلمة على عهد أنس، فأتيته، فقلت: "يا أبا حمزة، هل كان هذا يصيبكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " فقال: "معاذ الله! إن كانت الريح لتشتد فنبادر إلى المسجد مخافة أن تكون القيامة") (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 125)، والنسائي في "الكبرى" (823)، والطيالسي (116)، وأبو يعلى (208)، وابن خزيمة (899)، وابن حبان (2257)، وصحح إسناده الألباني. (¬2) رواه الإِمام أحمد في "الزهد" ص (10)، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الشعب". وانظر: "الدر المنثور" (4/ 313)، "تعظيم قدر الصلاة" ص (140). (¬3) عزاه الندوي في حاشية "الأركان الأربعة" ص (30) إلى الطبراني في "الكبير"، وقال: "وفيه زياد بن صخر". (¬4) "ضعيف سنن أبي داود" رقم (258).

هكذا كان شأن الصحابة - رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان في كل جيل مع الصلاة شأن الجندي مع سيفه، وشأن الغني مع ثروته، وشأن الطفل الصغير مع بكائه وصراخه، واستعطافه للأم الحنون، بل كانوا أكثر إدلالًا وثقة بصلاتهم، وأقوى اعتمادًا عليها من كل ذلك، وأصبح ذلك طبيعة لهم لا تفارقهم، فإذا أفزعوا أو أثيروا، وإذا دهمهم عدو، أو تأخر عليهم فتح، أو التبس عليهم أمر، التجئوا إلى الصلاة، وفزعوا إليها. وفي أعقاب معركة اليرموك، وقف ملك الروم يسائل فلول جيشه المهزوم: "ويلكم، أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟! " قالوا: "بلى أيها الملك"، قال: "فأنتم أكثر أم هم؟! " قالوا: "بل نحن أكثر منهم في كل موطن"، قال: "فما بالكم إذن تنهزمون؟! " فأجابه شيخ من عظمائهم: "إنهم يهزموننا؛ لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويتناصفون بينهم" (¬1). فللصلاة خصوصية في دفع الفتن ورفعها: عن عبيد الله بن عدي بن خيارأنه دخل على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهو محصور، فقال: لا إنك إمام عامة (¬2)، ونزل بك ما نرى (¬3)، ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (7/ 15). (¬2) أي: إمام جماعة، أو الإِمام الأعظم. (¬3) من الحصار.

ويصلي لنا (¬1) إمام فتنة (¬2)، ونتحرج"، فقال: "الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم (¬3)، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم" (¬4). قال الحافظ ابن حجر- رضي الله عنه -: "وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة، ولا سيما في زمن الفتنة؛ لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تُكره الصلاةُ خلفَه أولى من تعطيل الجماعة" (¬5). ¬

_ (¬1) يؤمنا. (¬2) رئيس الفتنة الذي خرج على إمام المسلمين. (¬3) ظاهره أنه رخَّص له في الصلاة معهم، كانه يقول: "لا يضرك كونه مفتونًا، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه، واترك ما افتتن به". كذا في "الفتح" (2/ 222). (¬4) تقدم تخريجه ص (113). (¬5) "فتح الباري" (2/ 190).

الدعاء والتضرع في الفتن

الدعاء والتضرع في الفتن الضراعة إلى الله تعالى من أسباب كشف الغمة وتفريج الكربة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} [الأنعام: 42، 43]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)} [الأعراف: 94]. وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم مبتلَيْنَ، فقال: "أما كان هؤلاء يسألون العافية؟! " (¬1). وكان الحسن البصريّ يقول: "إن الحجاج عذابُ الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} [المؤمنون: 76]. وعند الفتن تطيش العقول، وتحتار النفوس فلا تدري ماذا تعمل؟ وفي هذا الموقف يغفل كثير من الناس عن سلاح عظيم كان عُدَّةً للأنبياء والصالحين على مر الزمان، ألا وهو الدعاء، قال تعالى عن نبيه نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)} [القمر: 10، 11] وقال عن نبيه ذي النون: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]. ¬

_ (¬1) أخرجه البزار في "مسنده" (3134 - كشف الأستار)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (2197).

وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]، وقال- صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء هو العبادة". (¬1) وقال- صلى الله عليه وسلم -: "أعجز الناس من عجز عن الدعاء" (¬2). ومن شأن الفتن أن تشتبه فيها الأمور، ويغمض وجه الحق ويلتبس على الجمهور، إلا من عصم الله ورحم، فمن أعظم أسباب النجاة منها الاعتصام بالله تعالى والاستغاثة به، ودعاؤه، فإنه -عز وجل- القائل في الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم" الحديث (¬3). وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: بأي شيء كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: "كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في الصلاة (رقم 1479)، والترمذي في الدعوات (رقم 2969)، والنسائي في التفسير من "السنن الكبرى" (رقم 11464)، وابن ماجه في "الدعاء" (رقم 3828) من حديث النعمان بن بشير، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان رقم (890)، والحاكم في "مستدركه" رقم (1802) (1/ 491، 492). (¬2) رواه عبد الغني المقدسي في "الدعاء" رقم (20) ص (53 - 55)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (601). (¬3) رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2577)، والترمذي رقم (2497).

يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (¬1). فالهداية إلى الحق والاستبصار به وقت الفتن منحة ربانية، وهبة إلهية، قال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]. وكان إبراهيم التيمي - رحمه الله تعالى- يقول: "اللهم اعصمني بدينك وسنة نبيك من الاختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى، ومن سبل الضلال، ومن شبهات الأمور، ومن الزيغ والخصومات". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "تكون فتنة لا ينجي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق" (¬2). وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: "ليأتين على الناس زمان، لا ينجو فيه إلا من دعا كدعاء الغريق" (¬3). وعن يحيى بن سعيد قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يصلي من الليل حين نشب الناس في الفتنة، ثم نام، فأُرِيَ في المنام، فقيل له: "قم فسل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالحَ عبادهِ"، فقام يصلي، ثم اشتكى، فما خرج إلا جنازة (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه"، كتاب صلاة المسافرين وقصرها (رقم 770). (¬2) "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 22، 7/ 451، 531)، و"شعب الإيمان، (2/ 40). (¬3) "حلية الأولياء" (1/ 274). (¬4) "نفس المرجع" (1/ 178).

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: لما نشب الناس في الطعن علي عثمان رضي الله تعالى عنه، قام أبي يصلي من الليل، وقال: "اللهم، قني من الفتنة، بما وقيت به الصالحين من عبادك"؛ قال: فما خرج إلا جنازة. (¬1) وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: بينا رجل بمصر في بستان -زمن فتنة آل الزبير- جالسًا، كئيبًا، حزينًا، يبكي، ينكث (¬2) الأرض بشيء معه؛ فرفع رأسه، فإذا صاحب مسحاة (¬3)، قد مُثِّل له، فقال: "ما لي أراك مهمومًا حزينًا؟ " فكأنه ازدراه، فقال: لا شيء؛ فقال: "أبالدنيا؟ فإن الدنيا عَرَضٌ (¬4) حاضر، يأكل منها البر والفاجر، أم بالآخرة؟ فإن الآخرة أجل صادق، يُفصَل فيه بين الحق والباطل؛ قال: حتى ذكر أن لها مفاصلَ كمفاصل اللحم، من أخطأ منها شيئًا أخطأ الحق" قال: فكأنه أعجبه بذلك من كلامه؛ قال: اهتمامي بما فيه المسلمون؛ فقال: "إن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين، وسل، مَن ذا الذي سأل اللهَ فلم يعطه، أو دعا الله فلم يجبه، أو توكل عليه فلم يكفه، أو وثق به فلم ينجه؟ " قال: فعلقت الدعاء، فقلت: "اللهم سلمني، وسلم مني"؛ قال: فتجلت الفتنة ولم تصب منه شيئًا. (¬5) ¬

_ (¬1) "نفس المرجع". (¬2) كذا بالأصل! ولعلها (ينكت) بالتاء، يقال: نكت الأرضَ: أثر فيها بعود أو نحوه، ويقال: أتيته وهو ينكُت: يفكر كأنما يحدث نفسَه. (¬3) المِسْحاة: أداة القَشر والحرف. (¬4) العَرَض: متاع الدنيا وحُطامها. (¬5) "حلية الأولياء" (4/ 244).

التعوذ بالله تعالى من الفتن

التعوذ بالله تعالى من الفتن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه - رضي الله عنه - بالتعوذ بالله من الفتن، فقال- صلى الله عليه وسلم -: "تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها ومن بطن". (¬1) وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - التعوذُ بالله من كثير من الفتن: - مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك من فتنة الدنيا" (¬2). - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك من فتنة الغنى" (¬3). - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك من شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال" (¬4). - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات" (¬5). وقال الإِمام البخاريّ -رحمه الله تعالى-: "بَاب التَّعَوُّذِ مِنَ الفِتَنِ"، ثم روى حديث أنس - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلُوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالمَسْأَلَةِ، وفيه: "أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا باللهِ رَبًّا، ¬

_ (¬1) قطعة من حديث رواه مسلم (4/ 2200) رقم (2867). (¬2) رواه البخاريّ (11/ 178). (¬3) رواه البخاريّ (11/ 181). (¬4) رواه البخاريّ (11/ 176). (¬5) رواه البخاريّ (11/ 176).

وبالإِسْلامِ دِينًا، وَبمُحَمَّدٍ رَسُولًا، نَعُوذُ باللهِ مِنْ سُوءِ الفِتَنِ ... " وقال أنس- لمَّا حَدَّثَ بالحديث- "عَائِذًا بالله مِنْ شَرِّ الفِتَنِ" (¬1). وقال البخاريّ في "صحيحه": وقال ابنُ أبي مُليكة: "اللهمَّ، إنا نعوذ بك أن نرجعَ على أعقابنا، أو نُفْتَنَ" (¬2). ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وهو يحمل لَبِنتين لبنتين أثناء بناء المسجد؛ أخذ ينفض التراب عنه، ويقول؛ "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار" قال عمار - رضي الله عنه -: "أعوذ بالله من الفتن" (¬3). قال الحافظ ابن حجر- رضي الله عنه -: "فيهِ دليلٌ عَلَى استحبابِ الاستعاذة من الفتن، ولو علم المرءُ أنه متمسكٌ فيها بالحق؛ لأنها قد تفضي إلى وقوع ما لا يرى وقوعه، قال ابنُ بطال: وفيه ردٌّ للحديث الشائع: "لا تستعيذوا بالله من الفتن؛ فإن فيها حصادَ المنافقين". قلتُ: وقد سُئل ابن وهب قديمًا عنه فقال: إنه باطلٌ" (¬4). إذا اعتصم المخلوقُ مِن فتنِ الهوى ... بخالِقِهِ نجَّاه منهن خالِقُهْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في "صحيحه" رقم (6678)، ومسلم رقم (2359). (¬2) "فتح الباري" (13/ 3). (¬3) رواه البخاريّ رقم (436). (¬4) "نفس المرجع" (1/ 543).

حكم تمني الموت في الفتنة

حكم تمني الموتِ في الفتنة عن أبي بكرةَ - رضي الله عنه - أن رجلًا قال: يا رسول الله أيُّ الناس خير؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من طال عُمُره، وحَسُنَ عملُه"، قالوا: يا رسول الله، وأي الناس شر؟ قال: "مَنْ طال عُمره، وساء عمله" (¬1). وعن عبد الله بن شداد قال: جاء ثلاثة وهط من بني عُذْرة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - فأسلموا، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يكفيني هؤلاء؟ " قال: فقال طلحة: أنا، قال: فكانوا عندي، قال: فضُرب على الناس بعث، قال: فخرج أحدهم فاستُشهِد، ثم ضُرِب بعث فخرج الثاني فيه فاستشهد، قال: وبقى الثالث حتى مات مريضًا على فراشه، قال طلحة: فرأيت في النوم كأني أُدِخلتُ الجنةَ فرأيتهم، أعرفهم بأسمائهم وسيماهم، قال: فإذا الذي مات على فراشه دخل أولهم، وإذا الثاني من المستشهدين على أثره، وإذا أولهم آخرهم، قال: فدخلني من ذلك، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: فذكرت ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس أحدٌ عند الله أفضلَ من مُعَمَّرٍ يُعَمَّرُ في الإِسلام لتهليله وتكبيره وتسبيحه وتحميده" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (5/ 40، 47 - 50)، والدارمي (2/ 308)، والترمذي (2331)، وقال: "حديث حسن صحيح"، والبغوي من طريقين في "شرح السُّنَة" رقم (4094)، ورقم (4095)، وقال: "هذا حديث حسن" (14/ 288). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (12/ 181) رقم (35426).

وعن طلحة بن عبيد الله؛ أن رجلين من بَلِيٍّ قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعًا، فكان أحدهما أشدَّ اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم تُوُفي، قال طلحة: فرأيت في المنام: بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة، فأذِن للذي توفي الآخِرَ منهما، ثم خرج، فأذن للذي استُشهد، ثم رجع إليَّ فقال: "ارجع، فإنك لم يأنِ لك بعدُ"، فأصبح طلحة يحدّث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وحدَّثوه الحديث، فقال: "مِنْ أَيِّ ذلِكَ تَعْجَبُونَ؟ " فقالوا: يا رسول الله! هذا كان أشد الرجلين اجتهادًا، ثم استُشهد، ودخل هذا الآخر الجنةَ قبله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَيْسَ قدْ مَكَثَ هذا بَعْدهُ سنة؟ " قالوا: بلى. قال: "أَدرَكَ رمضان، فصام، وصلَّى كذا وكذا من سجدةٍ في السُّنَّةِ؟ " قالوا: بلى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فما بَيْنَهُمَا أبعد ممَّا بين السَّمَاء والأرض" (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنَّينَّ أحدُكم الموتَ لِضُرٍّ نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا فليقل: اللهمَّ أحيني ما كانت الحياةُ خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي" (¬2). ¬

_ (¬1) "صحيح ابن ماجه" (2/ 345، 346)، رقم (3171)، وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (2591). (¬2) رواه البخاريّ (5/ 2337)، رقم (5990)، ومسلم (4/ 2064)، رقم (2680).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنَّينَّ أحدُكم الموتَ، ولا يَدْع به مِن قبل أن يأتيَه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عملُه، وإنه لا يزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيرًا" (¬1). وعند البخاريّ: "لا يتمنَّينَّ أحدُكم الموتَ: إما محسنًا فلعله أن يزدادَ خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يَسْتَعْتِبَ (¬2) " (¬3). فإن قيل: كيف- مع هذا- تمنى يوسف - عليه السلام - الموتَ في قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] وكذا قالت مريم- عليها السلام -: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23]؟ أجاب القرطبي -رحمه الله تعالى- في "تفسيره" إذ قال: "فكيف يقال: إن يوسف تمنى الموت والخروج من الدنيا وقطع العمل؟ هذا بعيد! إلا أن يقال: إن ذلك كان جائزًا في شرعه، وإما أنه يجوز تمني الموت والدعاء به عند ظهور الفتن وغلبتها، وخوف ذهاب الدين" (¬4). وقال- في "التذكرة": (قال الله تعالى مخبرًا عن يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] ¬

_ (¬1) رواه مسلم (4/ 2065) رقم (2682). (¬2) الاستعتاب: طلب العُتْبَى، وهو الرضا، وذلك لا يحصل إلا بالتوبة والرجوع عن الذنوب. قال الجوهري: "استعتب: طلب أن يُعْتَب؛ يقول: استعتبته فأعتبني؛ أي: استرضيته فأرضاني". اهـ. من "الصحاح" له (1/ 176). وفي التنزيل في حق الكافرين: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]. (¬3) رواه البخاريّ (5/ 2147) رقم (2680)، (6/ 2644) رقم (6808). (¬4) "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 269).

قال قتادة: "لم يتمنَّ الموت أحدٌ نبيٌّ ولا غيره إلا يوسف، حين تكاملت عليه النعم، وجُمع له الشملُ، اشتاق إلى لقاء ربه عزَّ وجلَّ، فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي} [يوسف: 101]. فاشتاق إلى لقاء ربه عز وجل. وقيل: إن يوسف - عليه السلام - لم يتمنَّ الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإِسلام؛ أىِ: إذا جاء أجلي توفني مسلمًا، وهذا هو القول المختار في تأويل الآيهَ عند أهل التأويل). اهـ (¬1). أما مريم- عليها السلام - فقال القرطبىِ - رحمه الله تعالى- في "التذكرة": و"أما مريم- عليها السلام - فإنما تمنت الموت لوجهين (¬2): أحدهما: أنها خافت أن يُظن بها الشرُّ في دينها وتُعَيَّر، فيفتنَها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والزور، والنسبة إلى الزنى، وذلك مهلك لهم، وقد قال الله -عزَّ وجل- في حق من افترى على عائشة - رضي الله عنها -: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]، وقال: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] " (¬3). ¬

_ (¬1) "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" (1/ 116، 117). (¬2) وزاد الماوردي على هذين الوجهين ثالثًا، وهو: لأنها لم ترَ في قومها رشيدًا ذا فراسة ينزهها من السوء، كما في تفسير المارودي "النكت والعيون" (3/ 364). (¬3) "التذكرة" (1/ 117، 118).

ذكر أدلة السنة على جواز تمني الموت إذا خاف على دينه من الفتن

ذكر أدلة السُّنَّة على جواز تمني الموت إذا خاف على دينه من الفتن عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن الله -عز وجل- أنه قال: "سل" قلت: "اللهم، إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحُبَّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردتَ فِتنةً في قومٍ فتوفني غيرَ مفتونٍ، وأسألك حُبَّك، وحُبَّ من يُحبك، وحبَّ عملٍ يقرب إلى حبك" (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل للعرب من شر قد اقترب، موتوا إن استطعتم". (¬2) قال القرطبي - رحمه الله تعالى-: "وهذا غاية في التحذير من الفتن والخوض فيها حين جعل الموتَ خيرًا من مباشرتها" (¬3). اهـ. وعن محمود بن لَبيد - رضي الله عنه - مرفوعًا: "اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموتُ خيرٌ للمومن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلةُ المالِ أقلُّ؟ للحساب" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي رقم (3465)، وهو في "صحيح الترمذي" رقم (2582)، وانظر: "إرواء الغليل" (3/ 147، 148). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (4/ 486) رقم (8357)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي"، واحتج به الحافظ في "الفتح" (13/ 13). (¬3) "التذكرة" (3/ 1141). (¬4) أخرجه الإمام أحمد (5/ 427، 428)، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (813).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى يَمُرَّ الرجلُ بقبر الرجلِ، فيقول: يا ليتني مكانَهَ (¬1)، [ما به حُبُّ لقاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (¬2)] ". ويشهد لهذه الزيادة ما رواه أبو حازم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: "يا ليتني كنتُ مكانَ صاحبِ هذا القبرِ، وليس به الدينُ، إلا البلاء" (¬3). قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: "وكأن هذا إشارة إلى أن كثرة الفتن وشدة المحن والمشقات والأنكاد اللاحقة للإنسان في نفسه وماله وولده قد أذهبت الدينَ منه ومِن أكثر الناس، أو قللت الاعتناء به من الذي يتمسك بالدين عند هجوم الفتن، ولذلك عظم قدر العبادة في حالة الفتن، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العبادة في الهَرْجِ كهجرةٍ إليَّ (¬4) ". اهـ (¬5). وقال أيضًا- رضي الله عنه -: "وأما الحديث: فإنما هو خبر أن ذلك يكون لشدة ما ينزل بالناس من فساد الحال في الدين، وضعفه، وخوفِ ذَهابه، لا لضُر ينزل بالمرء في جسمه أو غير ذلك من ذهاب ماله ¬

_ (¬1) رواه البخاريّ (6/ 2605) رقم (6704)، ومسلم (4/ 2231) رقم (157)، والإمام أحمد (2/ 236)، دون قوله: "ما به حب لقاء الله عز وجل". (¬2) أخرجه الإِمام أحمد (2/ 530)، وقال الألباني: "صحيح على شرط مسلم" كما في "الصحيحة" رقم (578). (¬3) أخرجه ابن ماجه (2/ 1340) رقم (4037). (¬4) رواه مسلم (4/ 2268) رقم (2948). (¬5) "التذكرة" (3/ 1142، 1143).

مما يحط به عنه خطاياه، ومما يوضح هذا المعنى ويبينه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم، إني أسألك فعلَ الخيرات، وترك المنكرات، وحُبَّ المساكين، وإذا أردت -ويُروى: أدرت- في الناس فتنة؛ فاقبضني إليك غير مفتون) رواه مالك (¬1)، ومثل هذا قول عمر - رضي الله عنه -: (اللهم، قد ضعفت قوتي، وكبرت سنين، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مُقصِّر)، فما جاوز ذلك الشهرَ حتى قُبِض - رضي الله عنه - رواه مالك (¬2) -أيضًا". اهـ (¬3). وقال الألباني -رحمه الله تعالى-: "ومعنى الحديث أنه لا يتمنى الموت تديُّنًا وتقربًا إلى الله وحبًّا في لقائه، وإنما لِما نزل به من البلاء والمحن في أمور دنياه، ففيه إشارة إلى جواز تمني الموت تدينًا، ولا ينافيه قوله- صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ لضر نزل به .. "؛ لأنه خاص بما إذا كان التمني لأمر دنيوي كما هو ظاهر، قال الحافظ: "ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من ¬

_ (¬1) رواه الإِمام مالك في "الموطأ" (1/ 218) رقم (508)، والترمذي (5/ 366) رقم (3233)، والطبراني في "الكبير" (20/ 109) رقم (216) من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 368) رقم (3484) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما-، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (3/ 97، 98) رقم (2580). (¬2) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 824) رقم (1506)، وفي "الجامع" لابن أبي زيد ص (128) أن مالكًا قال: "ولا أرى عمر دعا ما دعا به من الشهادة إلا أنه خاف التحول من الفتن". (¬3) "التذكرة" (1/ 118، 119).

السلف، قال النووي: لا كراهة في ذلك، بل فَعَلَه خلائق من السلف منهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... " (¬1). اهـ. وفي كتاب "الفتن" من رواية عبد الله بن الصامت عن أبي ذر -رضي الله عنه - قال: "يوشك أن تمر الجنازة في السوق على الجماعة فيراها الرجل، فيهز رأسه، فيقول: ياليتني مكان هذا"، قلت: يا أبا ذر! إن ذلك لَمِن أمرٍ عظيم، قال: أجل (¬2). قال ابن وهب: وحدَّثني مالك قال: كان أبو هريرة - رضي الله عنه - يلقى الرجل فيقول له: "مت إن استطعت"، فيقول له: لِمَ؟ قال: "تموت وأنت تدري على ما تموت، خير لك من أن تموت وأنت لا تدري على ما تموت عليه" (¬3). وأخرج الحاكم من طريق أبي سلمة قال: عدت أبا هريرة، فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: "اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمت، والذي نفسي بيده ليأتين على العلماء زمانٌ الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر، وليأتين أحدُهم قبر أخيه، فيقول: ياليتني مكانه" (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "إذا رأيتم ستًّا فإن كانت نفسُ أحدِكم في يده، فليرسلها؛ فلذلك أتمنى الموتَ، أخافُ أن تدركَني: ¬

_ (¬1) "السلسلة الصحيحة" (1/ 100) رقم (578). (¬2) "فتح الباري" (13/ 76). (¬3) "التذكرة" (3/ 1141). (¬4) "فتح الباري" (13/ 76).

إذا أُمِّرتِ السفهاء، وبيع الحُكْمُ، وتُهُوِّنَ بالدم، وقُطعت الأرحام، وكَثُرت الجلاوزة (¬1)، ونشأ نشء يتخذون القرآن مزامير" (¬2). ورُوي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "سيأتي عليكم زمانٌ، لو وجد أحدُكم الموتَ يُباعُ، لاشتراه". وقد قيل: وهذا العيشُ ما لا خير فيه ... ألا موتٌ يُباع فأشتريه وعن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، وسُئل عن الرجل يتمنى الموت؛ قال: "ما أرى بذلك بأسًا: إذ يتمنى الموتَ الرجلُ، مخافة الفتنة على دينه؛ ولكن: لا يتمنى الموت من ضربة أوفاقة، أو شيء مثل هذا"؛ ثم قال عبد الرحمن: "تمنى الموتَ أبو بكر وعمر ومَن دونهما"؛ وسمعته ونحن مقبلون من جنازة عبد الوهاب؛ فقال: "إني لأشم ريح فتنة، إني لأدعو الله أن يسبقني بها"؛ وسمعته يقول: "كان لي إخوان، فماتوا ودُفِعَ عنهم شَرُّ ما نرى، وبقينا بعدهم؛ وما بقي لي أخ، إلا هذا الرجل يحيي بن سعيد؛ وما يُغْبَطُ اليوم: إلا مؤمن في قبره" (¬3). ¬

_ (¬1) الجَلاوزة: الشرطة، مفردها: الجِلواز: الشرطي، كما في "القاموس المحيط" مادة (جلز) (2/ 175). (¬2) "حلية الأولياء" (1/ 384)، "البداية والنهاية" (8/ 113). (¬3) "نفس المصدر" (9/ 13).

وهذا آخر ما قصدت جمعه في هذا الكتاب، بمعونة الملكِ الوهاب، سائلًا الله عَزَّ وَجَلَّ أن يجنبنا مُضِلَّاتِ الفتن، وأن يعصِمنا من المِحَن، وأن يغفر لنا ذنوبنا التي جنيناها في السر والعلن، والحمد لله رب العالمين.

§1/1