بسط القول والإسهاب في بيان حكم مودة المؤمن للكافر

أبو فيصل البدراني

المقدمة

"بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , أما بعد: فهذه رسالة حول بيان حكم مودة المؤمن للكافر , وحكم معاملة الكفار بما يدل على مودات القلوب: تنبيه: أعتذر لكل الأخوة القراء لعدم الدقة في عزو المعلومات المسطرة في هذه الرسالة إلى مصادرها والسبب في ذلك أن أصل هذه الرسالة كان ملخصاً شخصياً ولم أكن أنوي وقتها نشرها بين الناس وبالتالي لم أهتم بمصادر المعلومات ولكن لمَا كثرت المادة لدي ارتأيت نشرها لتعم الفائدة للجميع , فجزى الله كل من ساهم في هذه الرسالة مساهمة مباشرة أو غير مباشرة كالذين نقلت عنهم ولم أذكر أسماءهم للسبب المذكور أعلاه وجعلها في موازين حسناتهم. لإبداء الملاحظات والاقتراحات فيرجى التواصل على البريد الإليكتروني: [email protected] أخوكم أبو فيصل البدراني. خلاصة حكم مودة المؤمن للكافر: محبة عين الكافر المحارب أو محبة عموم الكفار أياً كانوا محاربين أو مسالمين أمر محرم بالإجماع ولو كان محبة طبيعية ناهيك أن تكون دينية علماً بأن محبة الكافر لملته أو لصفة دينية فيه تُخالف الشرع ليست كفراً بإطلاق وإن كانت تلك المحبة محرمة بالإجماع , وذلك أن الحُبَّ القلبي الديني لغير المسلمين لأجل دينهم الباطل ليس شيئًا واحداً، فمنه ما ينقض الولاء والبراء من أساسه، ويَكْفُرُ صاحبُه بمجرّده ومنه ما يَنقصُ من الولاء والبراء ولا يَنقضُهُ، فيكون معصيةً تَنقصُ الإيمانَ ولا تنفيه , أمّا الحبّ القلبيُّ الذي يَنقضُ الولاء والبراء وينفي أساسَ الإيمان فهو حُبُّ الكافر لكُفره , وأمّا الحبُّ القلبي الذي لا يصل إلى حدّ النَقض، لكنه يُنقصُ الإيمانَ، ويدل على ضعفٍ في معتقد الولاء والبراء، فهو محبّة الشخص كافراً كان أو مسلماً لِفسْقِه أو لمعصيةٍ يقترفها فهذا إثمٌ ولاشك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ وهذا الحبّ قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحبّ محبوباً لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبّه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم من ارتكبها. وأمّا الحبّ الجبلي الطبيعي للكافر المعين المسالم للدين وأهله والذي يعسر التحرز من مودته لحرمة أو كراهة هجره وقطع أسباب محبته , كحبّ الوالد لولده الكافر، أو الوَلَدِ لوالديه الكافرين، أو الرجل لزوجته الكتابيّة، أو المرْءِ لمن أحسنَ إليه وأعانه من الكفار وكان له حق في صلته فهذا الحُبّ مباح ولا يؤثر في كمال الإيمان وفي معتقد الولاء والبراء، لكونه مباحاً من المباحات، مادام لم يؤثر في بُغْضه لكفر الكافرين، وفسق الفاسقين، ومعصية العاصين , أمّا إذا أثّر في بُغْضه، فإنه يعود إلى أحد القسمين السابقين، بما فيهما من تفصيل , والذي ينبغي من جهة الكمال أن يكون تعامل المرء مع الكفار تعاملاً ظاهرياً بالعدل ولا يكون في قلبه ميل لهم ولا مودة لهم خروجاً من خلاف أهل العلم، وإنما إذا أحسنوا إليه فإنه يُحسن إليهم.

حكم مودة المؤمن للكافر التفصيلي

حكم مودة المؤمن للكافر التفصيلي: يثير البعض شبهة مفادها أن موالاة الكفار غير محرمة بالصورة التي ذكرها العلماء في مباحث الولاء والبراء حيث إن الكتابية سواء كانت ذمية أو محاربة مندرجة تحت ما نهى الله عن مودتهم ومحبتهم، قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وفي الدعاء المأثور (اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد .... الحديث) وفيه (ونخلع من يكفرك) أي نطرح مودة العابد لغيرك ولا نحب دينه ولا نميل إليه علمًا بأن الزواج من الكتابية فيه مودة، قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) , فكيف يحل التزوج بها عملاً بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) مع النهي عن مودة من حاد الله ورسوله؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: في البداية قبل أن نشرع في الجواب لا بد لنا من تحقيق مسألة الإذن من الزواج من الكتابية المحصنة العفيفة , والجواب على ذلك أن للعلماء في الزواج من الكتابية حربية كانت أو ذمية قولين: القول الأول: هو قول ابن عباس (رضي الله عنه) حيث يقول بحرمة نكاح نساء أهل الكتاب ويوافقه على ذلك بعض الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب والمالكية فيما هو المشهور عندهم , ويستدلون على ذلك بأدلة هي كما يلي: 1 - قول الله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) ووجه الدلالة أن الآية أفادت بعمومها تحريم نكاح المشركات والكتابيات من المشركات، سواء كانت ذمية أو محاربة. 2 - قول الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) فقد دلت الآية على أن حل التزوج بالإماء، يشترط له إيمانهن وعدم قدرة المتزوج بهن على طول الحرة، فإذا انتفى الإيمان منهن بأن كن كتابيات مثلاً انتفى الحكم وهو الحل، فيحرم نكاحهن بناء على أن الحكم متى علق بشرط أوجب ذلك نفي الحكم عند عدم توفر الشرط. فانتفاء الإيمان في الإماء، يستلزم تحريم الزواج بهن. 3 - قول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). فقد دلت الآية على أن من لم يؤد الجزية من الكفار للمسلمين، ويكون في حرب معهم مطلوب قتاله، منهي عن محبته ومودته، فلا يحل للمسلم التزوج بنسائهم، لأن الزواج مودة ومحبة ونصرة. 4 - قول الله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) فقد حرم الله على المؤمنين تمسكهم بالزوجات الكافرات، وحرم عليهم أن يجعلوهن في عصمتهم بنهيه الوارد في هذه

الآية، فكان دليلاً على تحريم ابتداء نكاحهن، لأنه طريق إلى المنهي عنه المحرم، وهو الإمساك بعصم الكوافر، وما يؤدي إلى المحرم فهو محرم. 5 - ما روي بسند صحيح عن الليث عن نافع عن ابن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل للنصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعلم شيئًا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله ... انتهى. وقد توفرت فيها علة النهي المقتضية للتحريم في قوله تعالى: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ونص الآية الكريمة كاملة (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). 6 - ما روي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فرق بين من تزوجوا بكتابيات وأزواجهم , فحين تزوج طلحة بن عبيد الله بيهودية وحذيفة بن اليمان بنصرانية، غضب عمر غضبًا شديدًا، فقالوا: نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب، فقال: «إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن، ولكن أنزعهن منكم انتزاعًا»، فدل هذا على عدم جواز نكاح المسلمين للكتابيات، لأنه لو كان حلالاً جائزًا لما غضب عمر -رضي الله عنه- ولأنكر عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- ولصح إيقاع الطلاق، فكان تفريقه وعدم إجازته الطلاق دليلاً على حرمتهن. ومن الأدلة العقلية على حرمة الزواج بالكتابيات ما يلي: 1 - إن المرأة الكتابية تعارض دليل حلها وهو قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وتعارض دليل حرمتها وهو قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) وفي مثل تلك الحال يلزم الرجوع إلى الأصل وهو التحريم، لأن الابضاع مما يلزم الاحتياط فيها فيحرم على المسلمين الزواج من الكتابيات. 2 - إن الكتابية مستمسكة بكتاب دار القول فيه بين حالين هما: التغيير أو النسخ، والمغير تزول صفة الكتاب عنه، وكذلك المنسوخ، ترتفع أحكامه، وحينئذ يكون لا فرق بينه وبين ما لم يكن، وعليه، تكون الكتابية في حكم من لا كتاب لها، ومن هذا شأنها لا يحل نكاحها لتحقق النقص الفاحش فيها فساوت عابدة الوثن. القول الثاني: مذهب الجمهور وهو قول من يقول بجواز نكاح الكتابيات وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية: قال تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فقد عطف الله المحصنات في الآية على الطيبات المصرح بحلها في صدر الآية، والمحصنات معناها الحرائر أو العفيفات فتكون الآية دليلاً على حل الحرائر أو العفائف من أهل الكتاب، لأن قضية العطف تقتضي التشريك في الحكم وعلى هذا فالآية محكمة وليس حكمها بمنسوخ على القول بعدم تناول آية البقرة وهي قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) لأهل الكتاب، فتكون كل من الآيتين متناولة لأفرادها، وعليه فلا نسخ ولا تخصيص، وعلى القول الثاني وهو أن آية تحريم المشركات متناولة للكتابيات، تكون آية المائدة وهي قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) مخصصة للعموم في قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) أو ناسخة لها على الخلاف المعروف في علم الأصول. ويرد القائلون بجواز نكاح الكتابيات على أدلة المانعين بما يلي: 1 - يجيب القائلون بجواز الزواج من الكتابية عن قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أن هذه الآية لم تتعرض بصريح اللفظ لتحريم الزواج، بل اقتضت النهي عن موادة أهل الحرب عمومًا، فلا يثبت التحريم بالقياس مع وجود النص، إذ لا يلزم من كون عقد الزواج طريقًا من طرق المودة والمحبة، أن يحرم التزوج فغاية ما تدل عليه الآية الكراهية لا التحريم حيث وردت آيات في صلة ذوي الرحم من غير المسلمين مثل قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فالزوجة بعد عقد الزوجية تصبح من ذوي القرابة ومصاحبتها بالمعروف أمر واجب حتى لو كانت غير مسلمة لأن ذلك من حسن المعاشرة الواجبة على الزوج لزوجته. 2 - أجاب من يرى إباحة الزواج من الكتابيات عن قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) إن هذه الآية قد ورد ما يدل على إلغاء هذا الشرط حيث إن الآية في قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) شاملة للحرائر والإماء ثم أن الأمة الكتابية يجوز قياسها على الأمة المسلمة بجامع جواز الوطء في كل منهما بملك اليمين، فحيث جاز نكاح الأمة المسلمة اتفاقًا، يجوز كذلك نكاح الأمة الكتابية. 3 - وأجاب القائلون بإباحة الزواج من الكتابيات عن قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ) الآية: إن الآية دعت إلى قتال من يمتنع عن دفع الجزية للمسلمين وعدم قتال من يدفعها من الصغار والذلة، وحيث لا علاقة بين دفع الجزية وحِل الزواج، ولا علاقة بين عدم دفعها وحرمته، فلا دلالة في الآية على تحريم الزواج بالكتابية الحربية أو حلها. 4 - وأجاب من يرى الإباحة في زواج المسلم بالكتابية عن قوله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) بأن اللام في الكوافر لتعريف العهد والكوافر المعهودات كن مشركات عبدة أوثان، إذ الآية وردت في مشركات الحديبية وهن كذلك، وعليه فلا تتناول الآية الكتابيات، وعلى أن الخطاب متوجه لمن كانت في عصمته كافرة مشركة تركها بدار الحرب، أما الكتابيات فإن دلالة الآية لا تشملهن من هذا الوجه ولذلك فهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ذلك، فطلق عمر امرأتين له كانتا مشركتين بمكة حين نزلت الآية بالحديبية. 5 - وأجاب القائلون بالإباحة في زواج الكتابية من المسلم، بأن ما رُوي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من الأمر لطلحة وحذيفة بترك زوجتيهما من الكفار، غير جيد السند، قال ذلك ابن عطية، بل قيل في هذا الأثر: إنه غريب، ثم قالوا: والذي نقل عن عمر أنه قال لمن تزوج من الكتابيات: طلق، فطلقوهن ما عدا حذيفة -رضي الله عنه- فقال هي خمرة فطلقها، فهذا الأثر يدل على عدم التحريم في نهاية الكلام حيث لولا أن العقد صحيح لم يطلب عمر الطلاق من المتزوج، ويؤيد ذلك ما

نقل ابن وهب وابن المنذر- نقلاً صحيحًا عن عمر -رضي الله عنه- قوله بجواز نكاح الكتابيات. 6 - ورد القائلون بالإباحة على المعقول الأول وهو أن الأصل في الإبضاع التحريم ولذلك فهي مما يلزم الاحتياط فيها فيحرم على المسلمين لهذا الزواج من الكتابيات. فقال من يرى الإباحة أن هذا القول ليس على إطلاقه، وغير مسلم به حيث إن قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) يفيد بعد تعداد محرمات النكاح، أن الكتابيات داخلات في عموم آية الحل غير مخرجات منها، حيث إن آية النهي عن نكاح المشركات غير متناولة للكتابيات، وتكون آية المائدة وهي قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) جاءت مؤكدة للحل الوارد في العموم دفعًا لتوهم حرمتهن، كما فهم بعض الصحابة ذلك. 7 - ثم رد القائلون بالإباحة على المعقول الثاني، بأن من لها كتاب مبدل أو منسوخ يصح أن تندرج تحت من لها شبهة كتاب، نظرًا لكتابها المغير وصحة دينها في أصله، وبذلك لا مساواة بينها وبين من لا كتاب لها أصلاً، وتفرقة الشارع الحكيم بينهما في الأحكام دليل ناطق على ذلك, فقد حقن دماء أهل الكتاب دون أهل الشرك، وأحل ذبيحة أهل الكتاب دون أهل الشرك فناسب أن تفارق الكتابية المشركة في حكم النكاح بها فلا تساويها في حرمة التزوج بها. 8 - بالنسبة للرد على من قال بحرمة الزواج من الكتابيات مستنداً على أن علة النهي المقتضية لتحريم المشركات غير الكتابيات في قوله تعالى: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) تشمل الكتابيات, قال الجصاص: فإن قيل: لما قال عقيب تحريم نكاح المشركات: {أولئك يدعون إلى النار} دل على أنه لهذه العلة حرم نكاحهن، وذلك موجود في نكاح الكتابيات الذميات، والحربيات منهن، فوجب تحريم نكاحهن لهذه العلة كتحريم نكاح المشركات. قيل له: معلوم أن هذه ليست علة موجبة لتحريم النكاح; لأنها لو كانت كذلك لكان غير جائز إباحتهن بحال، فلما وجدنا نكاح المشركات قد كان مباحا في أول الإسلام إلى أن نزل تحريمهن مع وجود هذا المعنى وهو دعاء الكافرين لنا إلى النار, دل على أن هذا المعنى ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح; وقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين تحت نبيين من أنبياء الله تعالى، قال الله تعالى {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} فأخبر بصحة نكاحهما مع وجود الكفر منهما، فثبت بذلك أن الكفر ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح; وإن كان الله تعالى قد قال في سياق تحريم المشركات: {أولئك يدعون إلى النار} فجعله علماً لبطلان نكاحهن، وما كان كذلك من المعاني التي تجري مجرى العلل الشرعية، فليس فيه تأكيد فيما يتعلق به الحكم من الاسم فيجوز تخصيصه كتخصيص الاسم , وإذا كان قوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} يجوز به تخصيص التحريم الذي علق بالاسم، جاز أيضاً تخصيص الحكم المنصوب على المعنى الذي أجري مجرى العلل الشرعية، ونظير ذلك قوله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله} فذكر ما يحدث عن شرب الخمر من هذه الأمور المحظورة وأجراها مجرى العلة; وليس

بواجب إجراؤها في معلولاتها لأنه لو كان كذلك لوجب أن يحرم سائر البياعات والمناكحات وعقود المداينات لإرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في سائرها وأن يصدنا بها عن ذكر الله، فلما لم يجب اعتبار المعنى في سائر ما وجد فيه بل كان مقصور الحكم على المذكور دون غيره كان كذلك حكم سائر العلل الشرعية المنصوص عليها منها والمقتضية والمستدل عليها، وهذا مما يستدل به على تخصيص العلل الشرعية، فوجب بما وصفنا أن يكون حكم التحريم مقصوراً فيما وصفنا على المشركات منهن دون غيرهن، ويكون ذكر دعائهم إيانا إلى النار تأكيداً للحظر في المشركات غير متعد به إلى سواهن; لأن الشرك والدعاء إلى النار هما علما تحريم النكاح وذلك غير موجود في الكتابيات ... انتهى. وقال ابن العربي: فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا كَمَا قُلْتُمْ فَالْعِلَّةُ تَجْمَعُهُمْ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ}؛ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ. قُلْنَا: لَا نَمْنَعُ فِي الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَامَّةً وَالْحُكْمُ خَاصًّا أَوْ أَزَيْدُ مِنْ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ وَأَمَارَاتٌ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ} يَرْجِعُ إلَى الرِّجَالِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} لَا إلَى النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ كَافِرًا حُكِمَ عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا وَدَعَاهَا إلَى الْكُفْرِ، وَلَا حُكْمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؛ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. خلاصة القول في هذه المسألة: الذي يظهر من هذه المسألة أن الزواج بالكتابية مكروه في أقرب الأقوال إلى الاعتدال، وهو قول جمهور العلماء قال ابن قدامة: (ليس بين أهل العلم اختلاف في حل نساء أهل الكتاب، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل) , وقد قال بكراهية الزواج بالكتابية كل من الحنفية والمالكية والشافعية وإن اختلفوا في درجة الكراهية من كراهية التنزيه إلى كراهية التحريم تبعًا إلى نوع الكتابية إذا كانت ذمية أو حربية مقيمة في دار الإسلام أو خارج دار الإسلام. وخالفهم في ذلك الحنابلة فقالوا بجواز نكاح الكتابية مطلقًا بلا كراهية، وهو خلاف رأي الجمهور، ومخالف لما يُفهم من قوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) حيث فضل الله عز وجل المرأة المسلمة المؤمنة على الكافرة، ولا جدال في أن الزواج بالكتابية ليس على درجة الإباحة والمساواة بالنسبة إلى المرأة المسلمة ولهذا يترجح لدي أن الزواج بالكتابية مكروه، وإن كانت المسألة تدور وراء المصلحة والمفسدة، فإذا غلب على الظن أن الزواج بالكتابية فيه مصلحة شرعية في حق الزوج أو حق الزوجة أو حق المسلمين عامة فهو مباح وقد يكون مستحباً، وإذا ترتب على الزواج أو غلب على الظن أن هذا الزواج فيه مضرة على المسلم في دينه ودين أولاده، وعلى المسلمين من حوله فإنه محرم لما يترتب عليه من مفاسد، حيث إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, وننبه هنا على أن الإسلام اشترط على قول من يقول بجواز النكاح بالكتابيات، شروطًا: الأول أن تكون كتابية، ومن لا تؤمن بكتاب لا ينطبق عليها هذا الوصف، والشرط الثاني

الإحصان , وانعدام هذين الشرطين يجعل الزواج بالكتابية باطلاً باتفاق المسلمين وبنص القرآن الكريم على ذلك. وهنا يبقى السؤال المُشكل هل هنالك تعارض بين الولاء والبراء الشرعي بالصورة التي ذكرها العلماء من تحريم مودة الكفار وبين الإذن بالزواج من الكتابية ومعاشرتها بالمعروف والأمر ببر الوالدين المشركين وصلة الرحم الكافرة؟ أقول بدايةً لا يخفى على المسلم أن الشارع أوجب البر بالوالدين الكافرين وأمر بصلة الرحم الكافرة استحباباً وقيل رخَص فيها وأذن بالزواج من الكتابية المُحصنة العفيفة , وأهل العلم قد اتفقوا على أن الصلة والبر والإحسان الذي لا يستلزم التحابب والتوادد للأرحام الكفار وغيرهم مشروع باتفاق أهل العلم كالصلة بالمال وتفقد أحوالهم والنفقة عليهم والإعانة على نوائب الحق ومساعدة فقرائهم والمحتاجين منهم، وعيادة مرضاهم , واتباع جنائزهم، وقبول هداياهم، والإهداء لهم، وتهنئتهم في الأفراح، وتعزيتهم في الأحزان، وزيارتهم في منازلهم، وقبول دعوتهم، والدعاء لهم بالهداية، ومعاملتهم بالتي هي أحسن، وكل صلة ظاهرة تدل على الرحمة والإحسان لا المودة مشروعة وخاصة ما كان يُراد به وجه الله , وهذا مما أجمع عليه المسلمون ولا مخالف لذلك ممن لهم رأيٌ يُعتد به. وعلى هذا فالبر بالوالدين الكافرين وصحبتهم في الدنيا معروفاً وصلة الرحم الكافرة والإحسان إليها والزواج من الكتابية المُحصنة العفيفة ومعاشرتها بالمعروف لا إشكال فيه شرعاً ألبته إلا أنه ينبغي أن يُعلم بأن مشروعية ما قررناه من التعامل بالإحسان والبر بالوالدين الكافرين وصحبتهما بالمعروف وصلة الرحم الكافرة والزواج من الكتابية المُحصنة العفيفة يكون دون موالاتهم الموالاة المطلقة وطاعتهم فيما يريدون من الشرك ومعصية الله تعالى أو شهودهم وهم على منكراتهم أو تعظيمهم على النحو المنهي عنه ويجب أن تكون الصلة والإحسان إليهم مع البراءة منهم على الوجه الشرعي لا سيما إذا تلبسوا بكفرهم , وقد أوجب الشرع البراء من المشركين والولاء لله سبحانه بأن يتبرأ الإنسان من كل ما تبرأ الله منه كما قال سبحانه وتعالى عن موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه المشرك (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) وقوله سبحانه (َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء) , وعن أبي عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) متفق عليه واللفظ للبخاري, وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يصل ذوي رحمه وأقاربه من غير أن يُؤثرهم على من هو أفضل منهم, وقال الله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) , قال الجصاص في أحكام القرآن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان. فيه نهي للمؤمنين عن موالاة الكفار ونصرتهم والاستنصار بهم وتفويض أمورهم إليهم، وإيجاب التبري منهم وترك تعظيمهم وإكرامهم، وسواء بين الآباء والإخوان في ذلك إلا أنه قد أُمر مع ذلك بالإحسان إلى الأب الكافر وصحبته

بالمعروف بقوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه ... إلى قوله ... وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً). اهـ. قلتُ وقول الجصاص رحمه الله (وترك تعظيمهم) فهذا حق وأما إكرامهم فهذا فيه نظر. وقال ابن كثير رحمه الله: أي: إن حَرَصَا عليك كل الحرص، على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، أي: مُحسنًا إليهما، (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) يعني المؤمنين. انتهى. وقد قال الله سبحانه فيما يختص بالأقارب الكفار (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.) وينبغي التنبه إلى أن الممنوع في هذه الآية باتفاق أهل العلم وإجماعهم هو المحبة الدينية , وأما المحبة لغير الدين فقد اختلف أهل العلم في ذك وسنورد هذا الخلاف بعد قليل ثم أنه لا تنافي ولا حرج بين البراء من الكفار لأجل كفرهم ومواصلتهم والبر بهم والإحسان إليهم لا سيما الوالدين والأقارب، وكيف يكون في الأمر تناقضٌ أو حرج وقد جاء من عند الله وفي كتابه، وهو القائل) وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (أي أن كتابه لا تناقض فيه بحال وقال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) , فالولاء للإسلام أعظم منزلة من منزلة البر وحسن الصحبة للكفار ولذلك يُضحي المسلم بذوي القرابة والنسب من الكفار عندما تتعارض مع مطالب العقيدة الإسلامية , وعلى هذا فلا موالاة للكفار في مصاحبة الزوجة أو الوالدين من غير المسلمين بالبر والمعروف لأن الموالاة للكفار مطلقاً إنما تكون بمساواتهم مع المؤمنين أو تنزيلهم منزلة أقرب من منزلة أهل الإسلام أو التنازل عن شيء من أحكام الإسلام استجلاباً لمودتهم وحصول رضاهم. وبهذا يتبين بأن الإسلام لا يمنع من مصاحبة الوالدين بالمعروف، مع اختلاف العقيدة، وهذه المصاحبة ليست هي الموالاة المنهي عنها، لأن الموالاة هي محبة القلب وإرادة النصرة الدينية، وهي غير حاصلة في المصاحبة بالمعروف، لأن المصاحبة بالمعروف لا ترقى إلى درجة الموالاة، فلو وقف القريب الكافر في الصف المعادي للجماعة المسلمة، وأعلن الحرب عليها فعندئذ لا صلة ولا مصاحبة، ويتضح ذلك من قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول , فقد روى ابن جرير الطبري بسنده، عن ابن زياد قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله عبد الله بن أبي، فقال: ألا ترى ما يقول أبوك؟ قال ما يقول أبي؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: فقد صدق والله يا رسول الله، أنت الأعز وهو الأذل، أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر بوالده مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتينهما به فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ... ، فلما قدموا المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أُبي على بابها بالسيف لأبيه وقال: أنت القائل (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)؟ أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والله لا يأويك ظلها ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا للخزرج ابني يمنعني بيتي

بيان المتفق عليه بين أهل العلم في باب التعامل مع الكافر

للخزرج ابني يمنعني بيتي فقال والله لا يأويه أبداً إلا بإذن منه، فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال: والله لا يدخلن إلا بإذن من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه فقال: «اذهبوا إليه فقولوا له: خله ومسكنه» فأتوه فقال: أما إذا جاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فنعم اهـ. فإذا انعقدت آصرة العقيدة فالمؤمنون كلهم إخوة، ولو لم يجمعهم نسب ولا صهر، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وإذا اختلفت العقيدة ووقف المختلفان موقف المتحاربين فلا صلة ولا ارتباط ولو كانوا أباً أو ابناً. وبهذا يتبين أن الموالاة والنصرة على الدين والمحبة الدينية تختلف عن البر والإحسان إلى الكافر القريب أو الوالد , وأما بالنسبة لبغض الكفار في الله وحكمه , وهل يجوز مودة المؤمن للكافر باعتبار وجوب البر ببعض أفراد الكفار وعشرتهم بالمعروف وحرمة هجرهم كالأب المشرك والأم المشركة وكذلك الزوجة الكتابية؟ أقول وبالله أستعين ما يلي: قبل أن نشرع في خلاف العلماء في هذه المسألة لابد من أن نشرع في المتفق عليه بين أهل العلم المحققين في هذا الباب وهو ما يلي: إن أهل العلم المحققين اتفقوا على أن المودة الدينية لا تجوز للكافر بحالٍ من الأحوال , واتفق أهل العلم كذلك على حرمة محبة عموم ومجموع الكفار ولو كانت لغير دينهم , واتفق أهل العلم كذلك على وجوب بغض الكافر المحارب للدين وأهله ولا رخصة في محبته أبداً ألبته ولو كانت طبيعية ولغير دينه ذلك أن الشارع قد قطع أسباب هذه المودة كلياً فلا يجوز الإهداء لهم ولا زيارتهم ولا صحبتهم بالمعروف بل الواجب جهادهم ومدافعة شرورهم , واتفق أهل العلم أيضاً على أن بغض الكافر المسالم الذي لا يُحارب الدين وأهله جائز ولا تثريب على المسلم في ذلك لأن الكافر هو الذي تعاطى أسباب وموجبات البغض الديني واتفقوا على أنه يجب القصد والاعتدال في البغض للكفار بحيث لا يحمل البغض على ظلمهم أو تضييع حقوقهم , وألا لا يُغرق المسلم في بغضائهم ويجعل لحسن التعامل موضعاً وهذا في حق الكفار المسالمين باستثناء المُحاربين , واتفقوا كذلك على أن عدم مودة الكافر عموماً تُجزيء عن بغض شخصه وذلك أن عدم المودة شيء والبغض شيء آخر فلا يلزم من عدم مودتك لأحدٍ ما أنك تحبه أو أنك تُبغضه , إذ أن الموالاة والمعاداة كما هو معلوم ضدين كما أن المحبة والبغض ضدين أيضاً وليسا نقيضين كما يتوهم البعض , قال المتكلمون الضدان هما ما يمكن ارتفاعهما معاً ولا يمكن اجتماعهما معاً وذلك كاللون الأبيض والأسود فقد يكون شىءٌ ما لونه أبيض أو أسود أو غير ذلك كاللون الأخضر ولكن لا يمكن أن يكون الشىء الواحد نفسه أبيض وفي ذات الوقت أسود. أما النقيضان فهما اللذين لا يُتصور ارتفاعهما معاً ولا اجتماعهما معاً مثل الموت والحياة فلا يمكن أن يكون أحد ما حياً ميتاً أو لا حياً ولا ميتاً بل لا بد من أحدهما أي لا يوجد سوى هذين الاحتمالين. واتفق أهل العلم كذلك على وجوب بغض جميع الأعمال المخالفة للشرع بغض النظر عمَن صدرت منه وعلى وجوب البراءة من أعمال الكفار وعدم متابعتهم أو إقرارهم على شيء من باطلهم أياً كانوا سواءً كانوا آباء أو إخوة أو زوجة كتابية

بيان خلاف أهل العلم في حكم مودة المؤمن للكافر

واتفق أهل العلم على تحريم الإعانة على الإثم والعدوان وعلى حرمة شهود منكراتهم , واتفق أهل العلم أيضاً على أن محبة الخير والهداية للناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم والرحمة والشفقة عليهم مشروعة ولا علاقة لها بالبراء الشرعي من المشركين , واتفق أهل العلم كذلك على أن صلة الأقارب الكفار تكون محرمة إذا خشيت على نفسك أن يُضلوك ويضروك , وعموماً يجب هجر كل من يُدخل عليك الضرر في دينك هجراً جميلاً وقائياً ويُستثنى من ذلك ما كان على سبيل المداراة , واتفقوا على أن المسلم لو هجر أقاربه الكفار فإنه يجب عليه أن يكون الهجر هجراً جميلاً وهو الذي لا أذى معه ما لم تكن هناك مصلحة شرعية لهجرهم هجراً إيجابياً مبني على إظهار البغض لهم , واتفق أهل العلم كذلك على وجوب البر بالوالدين الكافرين وصحبتهما في الدنيا معروفاً وحرمة هجرهما وأن الشارع أذن بالزواج من الكتابية المحصنة العفيفة وأن الصلة والبر والإحسان الذي لا يستلزم التحابب والتوادد كالصلة بالمال ونحوها للكافر المسالم وخاصة ذوي الرحم منهم مشروع. وعلى هذا فبعد بيان المسائل المتفق عليها بين أهل العلم المحققين, إذاً في ماذا اختلف أهل العلم؟ أقول اختلف أهل العلم في مسألة وهي: هل يجوز للمؤمن أن يود ويحب الكافر المسالم محبةً طبيعية؟ وهنا تنبيه مهم قبل بيان هذه الأقوال عليك أن تعلم أن كل قول سأورده إن شاء الله قال به طائفة من أهل العلم قد اتفقوا على حكم المسألة دون الاتفاق على الدليل في بعض الأحيان فقد يستدل العالم الأول بدليل لا يوافقه العالم الثاني على ذات الدليل وإن اتفقا على نفس حكم المسألة , والحاصل أن أقوال أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال تقريباً , وبيان هذه الأقوال باختصار هي ما يلي: الفريق الأول: قالوا أنه يجب بغض الكافر لكفره وإن لم يكن ذلك فلا أقل من عدم موادته لا دينياً ولا طبيعياً , وعلى هذا فلا يجوز عندهم مودة الكافر أبداً ولو كانت جبلية ولو كان الكافر غير محارب ولو كان الكافر زوجة كتابية. الفريق الثاني والثالث اتفقوا فيما يلي: قالوا لا مانع من محبة الوالد أو القريب الكافر أو الزوجة الكتابية إذا لم تكن لدينهم، بل لقرابتهم فهذه المحبة الطبيعية التي تُمليها الجبلية البشرية والفطرة الإنسانية لا تحرم ولا يُلام عليها المسلم وهذا القدر متفق عليه بين الفريق الثاني والثالث إلا أنهم اختلفوا في حكم إضمار البغض في الله للوالد الكافر والزوجة الكتابية فقال فريق منهم إنه يجوز محبتهم بمقتضى الجبلة البشرية والطبع إلا أنه يجب أن يُصاحب محبتهم المحبة الطبيعية البغض لهم في الدين وقالوا لا منافاة بين الجمع بين بغضهم في الله وبغض أشخاصهم لكفرهم ومحبتهم بمقتضى الطبع , أما الفريق الآخر فقالوا إنه لا يلزم بغض شخص الكافر وذاته وأن المحبة الفطرية للكافر هي مثل الخوف الفطري لا يُؤاخذ العبد عليها إلا إذا رتب على هذا المحبة الفطرية ترك واجب أو فعل محرم , ويرون أن محبة الكافر المسالم المعين لغير دينه جائزة وهي من باب الرخصة لعسر التحرَز منها وخاصة مع من يخالطهم المسلم للحق الواجب كالوالدين المشركين والزوجة الكتابية ونحوهما وهذا من التخفيف الذي يتبع التشريع , واشترطوا عدم التوسع في هذه

الفريق الأول

الرخصة وأن تكون بالقدر الذي يرفع فيه المسلم الحرج عن نفسه وقالوا أنه يكفي البراءة من كفر الكافر وعدم متابعته وإقراره على باطله وبغض أعماله المخالفة للشرع وعدم تعظيمه دون بغض شخصه بشرط ألا تُقدم محبته على محبة الله ورسوله لاسيما مع من يُخالط منهم ويعسر التحرَز من صلتهم لأي سببٍ كان إلا أنه لو أبغضهم في الله فلا تثريب عليه لأنهم قد تعاطوا موجبات وأسباب البغض في الله. وعليه فإليك تفصيل هذه الأقوال: الفريق الأول: قالوا أنه يجب بغض الكافر لكفره وإن لم يكن ذلك فلا أقل من عدم موادته لا دينياً ولا طبيعياً, وعلى هذا فلا يجوز عندهم مودة الكافر أبداً ولو كانت جبلية ولو كان الكافر غير محارب ولو كان الكافر زوجة كتابية , واستدلوا بقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (من أحوال القلب وأعماله ما يكون من لوازم الإيمان الثابتة فيه، بحيث إذا كان الإنسان مؤمناً، لزم ذلك بغير قصد منه ولا تَعمُّد له , وإذا لم يوجد، دل على أن الإيمان الواجب لم يحصل في القلب، وهذا كقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} فأخبر أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته، كما ينفي أحد الضدين الآخر , فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه، كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب. ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}، فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف [لو]، التي تقتضي مع الشرط انتقاء المشروط، فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء}، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه. ومثله قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضًا، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ... انتهى). ويقول ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر: (وهذه الآية مثل قوله {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وقوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء}، بين سبحانه أن الإيمان له لوازم وله أضداد موجودة تستلزم ثبوت لوازمه وانتفاء أضداده ومن أضداده موادة من حاد الله ورسوله ... انتهى).

ويقول ابن تيمية رحمه الله عن مودة الكفار في مبحث حكم مشابهتهم في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم "إذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان قال الله تعالى) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) إلى أن قال رحمه الله: فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً فمن واد الكفار فليس بمؤمن فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة ... انتهى". ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك " أصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة البغض؛ فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف "ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن "أصل الموالاة الحبّ، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال " ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي" فالولاء والبراء تابع للحب والبغض، والحبّ والبغض هو الأصل فالولاء والبراء لازم الحبّ والبغض، وإذا تخلّف اللازم تخلّف الملزوم؛ فالظاهر والباطن متلازمان، ولا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر" ويقول ابن تيمية أيضاً "والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ , إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم، ... ثم قال وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، ... وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وبر، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته ... انتهى". ويقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ... (أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه , وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود

منه، .... ثم قال وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئا ولا يصدق صاحبها ... انتهى). إلا أن الشيخ السعدي رحمه الله يُرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب عمه أبو طالب حباً طبعياً وهذا مما يدل على عدم اتضاح الرؤية لديه أو يُقال أن له أكثر من مذهب في هذه المسألة حيث يقول في تفسيره لقوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (يخبر تعالى أنك يا محمد وغيرك من باب أولى لا تقدر على هداية أحد، ولو كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق، وخلق الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد الله سبحانه تعالى، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله). وقال أصحاب هذا المذهب أن الإيمان له لوازم وله أضداد موجودة تستلزم ثبوت لوازمه وانتقاء أضداده ومن أضداده موادة من حاد الله ورسوله وأنه إذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتاً استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه الكفار سواءً كانوا محاربين أو مُسالمين وهذا تلازم ضروري , وقالوا غالباً المودة والموالاة يدلان على إقرار الكافر على ما هو عليه والرضا عنه مما يسبب عدم دعوته إلى الإسلام , وقالوا كذلك أن ولاية الكفار الولاية المحظورة تشمل ولايتهم استقلالاً وكذلك ولايتهم اشتراكاً مع المؤمنين وأن مودة من حاد الله ورسوله ولو كان مُسالماً للمسلمين لا تجتمع مع من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فإن هذا جمع بين ضدين لا يجتمعان لكن قد يكون للقلب نوع من محبة وإرادة لشيء ونوع محبة وإرادة لضده فهذا كثير بل هو غالب على بني آدم لكن لا يكون واحداً منهما تاماً. قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان ({لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية , (هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء إذا لم يكن من دون المؤمنين لا بأس به بدليل قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} , وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقاً كقوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} , وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ .. } الآية , والجواب عن هذا: أن قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له, وقد تقرر في علم الأصول أن دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة له موانع تمنع اعتباره , منها كون تخصيص المنطوق بالذكر لأجل موافقته للواقع كما في هذه الآية؛ لأنها نزلت في قوم والَوْا اليهود دون المؤمنين, فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها, بل موالاة الكفار حرام مطلقاً , والعلم عند الله. انتهى). واستدل أصحاب هذا المذهب على صحة مذهبهم بقوله تعالى "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" انظر إلى قوله تعالى: " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " ولم يقل " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تكفوا عن حربنا" فجعل

الإيمان بالله وحده غاية ينقطع عندها وجوب العداوة والبغضاء , فالواجب بغض الكافر في الله أياً كان وقد ورد في هذا المعنى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: والذي نفس ابن عمر بيده لو أصبحت أصوم النهار لا أفطر، وأقوم الليل لا أفتر، ثم لم أصبح وأنا أحب أهل الطاعة وأبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار ولا يبالي ... انتهى. وَفِي صَحِيح الْحَاكِم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الشّرك فِي هَذِه الْأمة أخْفى من دَبِيب النَّمْل على الصَّفَا فِي اللَّيْلَة الظلماء وَأَدْنَاهُ أَن تحب على شَيْء من الْجور أَو تبغض على شَيْء من الْعدْل وَهل الدّين إِلَّا الْحبّ والبغض. وقد كان أحمد بن حنبل- رحمه الله - إمام أهل السنة، إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه، فقيل له في ذلك، فقال- رحمه الله -: " لا أقدرُ أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه " طبقات الحنابلة (1/ 12). قال عمر بن الخطاب في شان النصارى: " أهينوهم ولا تظلموهم، فإنهم سبُّوا الله - تعالى -أعظم المسبة ". ودخل أبو الوليد الطرطوش- يرحمه الله - على الخليفة في مصر، فوجدَ عنده وزيراً راهباً نصرانياً، قد سلّم إليه القيادة، وكان يأخذُ برأيهِ، فقال الطرطوشي: يا أيها الملك الذي جودهُ ... يطلبهُ القاصدُ والراغب إنَّ الذي شرفت من أجله ... يزعمُ هذا أنَّه كاذب ويعني في هذا البيت الرسول صلى الله عليه وسلم. فعندئذٍ اشتد غضبُ الخليفة، فأمرَ بالراهبِ فسُحبَ وضُرب، وأقبل على الشيخِ فأكرمهُ وعظَّمهُ بعد ما كان قد عزم على إيذائه يقول القرافي معلقاً على هذه القصة: " لما استحضر الخليفةُ تكذيب الراهبِ للرسول- صلى الله عليه وسلم - وهو سببُ شرفه، وشرفَ آبائهِ وأهل الأرض، بعثهُ ذلك عن البعدِ عن السكونِ إليه والمودة، وأبعدهُ عن منازلِ العزِّ إلى ما يليقُ به من الذلِ والصغار. الفروق (3/ 16). وعلى هذا فمثلما تحب ربك تبغض عدو ربك فهذه مسألة واحدة يستحيل أن تنفصل أبداً , حبيب حبيبي حبيبي , وعدو حبيبي عدوي , وليس من الحب أبداً أن تصافي عدو حبيبك فهذه علة الحب , قال ابن القيم ابن القيم في النونية: شرط المحبة أن توافق من تحب ... على محبته بلا عصيان فإذا ادعيت له المحبة مع خلافك ... ما يحب فأنت ذو بهتان أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حباً له ما ذاك في إمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين ... المحبة يا أخا الشيطان ليس العبادة غير توحيد المحبة ... مع خضوع القلب والأركان إلى أن يقول:

ولقد رأينا من فريق يدعي ... الإسلام شركاً ظاهر التبيان جعلوا له شركاء والوهم ... وسووهم به في الحب لا السلطان وقال أصحاب هذا المذهب أيضاً تعليقاً على بعض الآيات والأحاديث التي يحتج بها المُخالف لهم مثل قوله تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون) ومثل حديث رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم، قلت: إن أمي قَدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك. ومثل قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وغير ذلك بأن البر والإحسان للكفار لا يستلزم المحبة والمودة كما أن البغض والكراهية لا تستلزم عدم البر والإحسان وقالوا أن الصلة والمكافأة الدنيوية وحسن المعاملة شيء والمودة شيء آخر, وقالوا أن البر هو إيصال الخير إلى الغير مع قطع النظر عن محبتك له من عدمها , واستدلوا بما ورد في صحيح البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِىٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِى إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ". قال الحافظ ابن حجر في الفتح) ثم البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .... الآية)، فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل والله أعلم ا. هـ وقالوا أيضاً لا منافاة بين بغضهم في الله والإحسان إليهم وصلتهم في ذات الوقت، فإن لكلٍ ما يقتضيه، فالمقتضي للإحسان هو أمر الله بذلك والسبب الذي يوجب ذلك، كالجوار والقرابة، والكفر والمعصية مقتضيان للبغض والكراهية وقال صاحب أضواء البيان الإمام الشنقيطي رحمه الله في ذات المسألة (قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}. هذه الآية الكريمة تدل على الأمر ببر الوالدين الكافرين وقد جاءت آية أخرى يُفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} الآية. ثم نص على دخول الآباء في هذا بقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم} والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه لا معارضة بين الآيتين , ووجه الجمع بينهما أن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم فكأن الله حذَّر من الموادة المشعرة بالمحبة والموالاة بالباطن لجميع الكفار يدخل في ذلك الآباء وغيرهم وأمر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف وفعل المعروف لا يستلزم المودة لأن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح ومما يدل لذلك إذنه صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق أن تصل أمها وهي كافرة وقال بعض العلماء أن قصتها سبب لنزول قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي

الدِّينِ} الآية ... انتهى). وقال كذلك عن الكفار المسالمين (أما القسم العام وهم الذين كفروا بما جاءهم من الحق لكنهم لم يعادوا المسلمين في دينهم لا بقتال ولا بإخراج ولا بمعاونة غيرهم عليهم ولا ظاهروا على إخراجهم، فهؤلاء من جانب ليسوا محلاً للموالاة لكفرهم، وليس منهم ما يمنع برهم والإقساط إليهم. انتهى). وقال أيضاً (معاملة النَّبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده لليهود في خيبر فمما لا شك فيه أنهم داخلون أولاً في قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} ومنصوص على عدم موالاتهم في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ومع ذلك لما أخرجهم صلى الله عليه وسلم من المدينة وحاصرهم بعدها في خيبر وفتحها الله عليه وأصبحوا في قبضة يده فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين، ولا مظاهرين على إخراج المسلمين من ديارهم , عاملهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقسط فعاملهم على أرض خيبر ونخيلها وأبقاهم فيها على جزء من الثمرة كأجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين، فلم يتخذهم عبيداً يسخرهم فيها، وبقيت معاملتهم بالقسط كما جاء في قصة ابن رواحة رضي الله عنه لما ذهب يخرص عليهم وعرضوا عليه ما عرضوا من الرشوة ليخفف عنهم، فقال لهم كلمته المشهورة: والله لأنتم أبغض الخلق إلي وجئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولن يحملني بغضي لكم، ولا حبي له أن أحيف عليكم، فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت، وإما أن تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت، فقالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض أي بالعدالة والقسط ... انتهى). وقال هذا الفريق من أهل العلم أن الدليل على مشروعية البر والإحسان وبذل المعروف ولين الجانب وحسن المعاملة مع غير المسلمين من معاهدين ومستأمنين وذميين دون جواز موالاتهم ومودتهم ومحبتهم، قوله تعالى} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {فهنا حصر الله عز وجل الولاية في الله ورسوله والمؤمنين دون غيرهم. وقالوا لمن توهم -على حد قولهم- أنّ البر والإحسان إلى غير المسلمين هو من المودة والموالاة المحرمة شرعاً فمنعهما جميعاً، ولمن غلا فتوهم أنّ برهم والإحسان إليهم يقتضي مودتهم وحبهم وموالاتهم فجوزهما جميعاً –أن هذا التلازم غير صحيح وعليه فإبراز الفرق بين هاتين المسألتين من الأمور المهمة، لكثرة اللبس فيهما فالتمييز بين المودة والموالاة، وبين البر والإحسان وحسن التعامل مع غير المسلم من أدق الأمور وأصعبها, وقالوا أن الصحيح الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة الصالح، هو التفريق بين البر والإحسان لغير المسلمين، وبين الموالاة والمودة القلبية، وأنّ البر والإحسان إليهم لا يستلزم مودتهم بأي حال من الأحوال وذلك لما يلي:

أولاً: أنّ الله – عز وجل- قد جمع بينهما في كتابه، حيث أوصى بالبر والإحسان إلى الوالدين الكافرين، مع أنه قد نهى عن مودة الآباء والأبناء إن استحبوا الكفر على الإيمان، قال تعالى:} لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ {وقال} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {وقال تعالى في شأن الوالدين الكافرين:} وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {فالبر والإحسان والمصاحبة بالمعروف شيءّ، والمودةُ والموالاة شيءٌ آخر، ولا تعارض ولا تلازم بينهما. فالذي شرع لنا البراءة من الكفار وحرم علينا مودتهم وموالاتهم هو الذي شرع لنا البر والإحسان إليهم، فكلٌ منهما من عند الله، وكلٌ منهما من دين الله. ثانياً: أن الله تعالى قال} لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {فالآية فيها الرخصة بصلة نوع من الكفار، ومعاملتهم بالبر والإحسان من باب المكافأة على صنيعهم، وهذا لا يستلزم مودتهم بالقلب , ومعناها أنَّ من كف أذاه من الكفار فلم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم فإنَّ المسلمين يقابلون ذلك بمكافأته بالإحسان والعدل معه في التعامل الدنيوي ولا يحبونه بقلوبهم لأنَّ اللهَ قال:} أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ {ولم يقل توالونهم وتحبونهم. قال ابن الجوزي عند تفسيرها (قال المفسرون: وهذه رخصة في صلة الّذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة منهم ... انتهى). وقال ابن القيم بعد استشهاده بهذه الآية على جواز الصدقة والوقف على مساكين أهل الذمة (فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة -يعني سورة الممتحنة- عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء، وقطع المودة بينهم، توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة، فبين الله سبحانه أنّ ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها، وأنه لم ينه عن ذلك، بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه، وكتبه على كل شيء، وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة ... انتهى). وقد عقد الإمام القرافي في كتابه الفروق فصلاً نفيساً لبيان الفرق بين الأمر بعدم موالاة الكفار، والأمر ببرهم والإحسان إليهم، قال فيه -بتصرف يسير-: (اعلم أن الله تعالى منع من التودد لأهل الذمة بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ... الآية) فمنع الموالاة والتودد وقال في الآية الأخرى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ... الآية) وقال في حق الفريق الآخر (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين ... الآية) وقال صلى الله عليه وسلم استوصوا بأهل الذمة خيراً وقال في حديث آخر استوصوا بالقبط خيراً فلا بد من الجمع بين هذه النصوص وإن الإحسان لأهل الذمة مطلوب وأن التودد والموالاة منهي عنهما والبابان ملتبسان فيحتاجان إلى الفرق وسر الفرق أن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لهم لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم

ودين الإسلام فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام , وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله –تعالى- وذمة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى ذلك إجماع الأمة، فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم، وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة فيتعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، وتعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبيل ما نهي عنه في الآية وغيرها، ويتضح ذلك بالمثل، فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا، والقيام لهم حينئذ ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها هذا كله حرام، وكذلك إذا تلاقينا معهم في الطريق، وأخلينا لهم واسعها ورحبها والسهل منها، وتركنا أنفسنا في خسيسها وحزنها وضيقها كما جرت العادة أن يفعل ذلك المرء مع الرئيس، والولد مع الوالد، والحقير مع الشريف, فإن هذا ممنوع لما فيه من تعظيم شعائر الكفر، وتحقير شعائر الله –تعالى- وشعائر دينه، واحتقار أهله، ومن ذلك تمكينهم من الولايات والتصرف في الأمور الموجبة لقهر من هي عليه أو ظهور لعلو وسلطان المطالبة، فذلك كله ممنوع، وإن كان في غاية الرفق والأناة أيضاً لأن الرفق والأناة في هذا الباب نوع من الرئاسة والسيادة وعلو المنزلة في المكارم فهي درجة رفيعة أوصلناهم إليها وعظمناهم بسببها ورفعنا قدرهم بإيثارها وذلك كله منهي عنه وكذلك لا يكون المسلم عندهم خادماً ولا أجيراً يؤمر عليه وينهى ولا يكون أحد منهم وكيلا في المحاكمات على المسلمين عند ولاة الأمور. أما ما أُمر به من برهم من غير مودة باطنة فهو كالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال أذيتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً منا بهم، لا خوفاً وتعظيماً، والدعاء لهم بالهداية، وأن يُجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم .. وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يُعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم، وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله، فإن ذلك من مكارم الأخلاق، فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل، لا على وجه العزة والجلالة والتعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم، وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا، وتكذيب نبينا –صلى الله عليه وسلم- وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا، واستولوا على دمائنا وأموالنا، وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا –عز وجل-، ليمنعنا ذلك الاستحضار من الود الباطن لهم المحرم علينا خاصة لا لأن نُظهر آثار تلك الأمور التي نستحضرها في قلوبنا من صفاتهم الذميمة وينبغي ألا نستحضر صفاتهم الذميمة عند معاملتهم لئلا نقصر في برهم في الحدود المسموح بها لأننا لو

استحضرنا ذلك عند معاملتهم يُخشى من أن لا نعاملهم بالحسنى ولا بالعدل المطلوب منا حسب عقد الذمة ... انتهى). ويقول ابن عاشور رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى (لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم والآخر يوادون من حاد الله ورسوله ... الآية) , وقوله ولو كانوا آباءهم إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد يقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة. ثم أن الذي يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متجاهراً بذلك معلناً به، أو متجاهراً بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوة دنيوية، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته، قال تعالى (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) ولم يرخص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتقاء شرهم إن كان لهم بأس قال تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تقوا منهم تقاة). وأما ما عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شره عن المسلمين، قال تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بين شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البر والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) وأن لكل منهما حالتها ... انتهى). وقال هذا الفريق من أهل العلم كما ذكرنا أن في البر والإحسان والصلة وحسنِ المعاملة ترغيب للكفار في الإسلام، فهي من وسائلِ الدعوة إلى الله عز وجل، وبعكسه الغلظة والجفوة في التعامل ينفره عن قبول الإسلام قال تعالى في وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ). وقال: أبو الفتح البستي: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم * فطالما استعبد الإنسان إحسانٌ وهذا بخلاف المودة والموالاة؛ فهما يدلان غالباً على إقرارِ الكافرِ على ما هو عليه والرضى به، وذلك يسبب عدم دعوته إلى الإسلامِ، بل في ذلك تغريرٌ به ونحن عندما نلتزم بالبر والإحسان مع غير المسلّمين، لا نفعل ذلك حباً لهم ومودة، وإنما نفعل ذلك طاعة الله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإقامة للعدل والإحسان الذّي أمرنا الله به. وقالوا أن هناك فرق بين محبة الخير للكافر، وبين محبة شخص الكافر فهناك من يخلط بين محبة الخير للكافر، وبين محبة الكافر لذاته فالمسلم يدعو غير المسلم للإسلام، ويحرص على إسلامه، وهدايته، ويحب إسلامه، ويفرح بذلك أشد الفرح ويستبشر، وهذا من أعظم صور محبة الخير للكافر، ومع هذا فهو لا يحبه لذاته والتفريق بين محبته لذاته، وبين محبة الخير له دقيق جداً، ومهم في فهم هذا الباب. قال ابن تيمية وهو يخاطب أحد ملوك النصارى (ونحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة، فإنّ أعظم ما عُِبد الله به نصيحة خلقه، وبذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين ... انتهى).

فالحاصل أنّ البر والإحسان إلى غير المسلم وحسن التعامل معه؛ سلوك وعمل ظاهر، والمودة والموالاة معتقد وعمل باطن , والخلط واللبس بينهما يقع كثيراً من بعض المسلمين فهماً وعملاً، فيظن بعضهم أنهما لا يجتمعان , فيقع سوء الفهم والتطبيق، فهناك من أساء الفهم فظن أنّ حسن التعامل لا ينفك عن الولاء، وأنّ سوء التعامل لا ينفك عن البراء وهذا يؤدي إلى أن يسيء التعامل أداء للبراءة المطلوبة، ظناً منه أنّ الإساءة جزء، أو صورة من صور البراءة من الكافر، وقد تقدم بأنّ النصوص الشرعية فرقت بينهما وقلب المؤمن قلب واسع رحيم، يرحم غير المسلم، ويحب النجاة له من عذاب الله، ويحب له السعادة بالإسلام والإيمان، ولذا فهو يحرص على دعوته إلى الخير، ولكنه في الوقت نفسه لا يحب الكافرين ولا يواليهم طاعة لله، بل إذا حزن عليهم فإنما يحزن لكفرهم، وضلالهم، وعبادتهم غير الله تعالى. كما يُروى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه مر بدار راهب، فناداه: يا راهب، فأشرف، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له يا أمير المؤمنين: ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله تعالى:} عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً {فكان بكاؤه عليه لضلال سعيه، وخراب دينه، ومآله إلى جهنم وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً، فبكى خوفاً أن يضل مثله ... انتهى. وقال أصحاب هذا المذهب إن نصوص الكتاب والسنة، لم تذكر إباحة تولي الكفار أو موالاتهم على أي وجه من الوجوه سوى حالة واحدة وهي حالة الإكراه الملجئ قال تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فيجوز في حالة الضعف والخوف من أذاهم الموالاة لهم ظاهراً، ريثما يعد المسلمون العدة لمواجهة الكفار والتحرر من سيطرتهم، وقد عد بعض العلماء أقل نوع من أنواع الموالاة بدون إكراه إثماً ومعصية , يقول سفيان الثوري رحمه الله: (من لات للكفار دواة أو برا لهم قلماً أو ناولهم قرطاساً فقد دخل في الموالاة المنهي عنها ما لم يكن ذلك لغرض دعوة إلى الله) اهـ قلتُ أو لم يكن له حاجة كحق جوار أو رحم أو نحوهما. وعليه فالموالاة عند علماء الاصطلاح شيء، والبر شيء آخر، فالبر يعني: الصلة في الخير والاتساع في الإحسان، وقد أباح الله ذلك لطائفة من الكفار ضمن شروط معينة فلفظ الموالاة ليس مرادفاً للبر على الإطلاق. وردوا على من قال بأن مسألة الميل القلبي لا اختيار للشخص فيه؟ قالوا نعم المحبة والبغض أمران بيد الله لكن لهما أسباب وبإمكان المسلم رفعه بقطع أسباب المودة التي ينشأ عنها ميل القلب كما قيل الإساءة تقطع عروق المحبة إلا أن هذا لا يُمكن مع الوالدين المشركين لحرمة هجرهما وأما مع غيرهم فقد أوجب أهل هذا المذهب هجر وقطع أسباب المودة مع كل من يغلب على ظنك محبته بسبب صلته ولو حملك ذلك على رد ما ثبت بالشرع جوازه كالهدية واستدلوا على هذا المذهب بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ضعيفاً أنه كان يقول: " اللهم لا تجعل لفاجر

ولا لفاسق عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت (لا تجد قوما) إلى آخره " وبقوله تعالى ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) فهذا بهلول بن راشد - رحمه الله - من أصحاب مالك بن أنس - رحمه الله - دفع إلى بعض أصحابه دينارين ليشتري به زيتاً، فذُكر للرجل أن عند نصراني زيتاً أعذب ما يوجد. فانطلق إليه الرجل بالدينارين وأخبر النصراني أنه يريد زيتاً عذباً لبهلول بن راشد، فقال النصراني: نتقرب إلى الله - تعالى بخدمة بهلول كما تتقربون أنتم إلى الله بخدمته. وأعطاه بالدينارين من الزيت ما يعطى بأربعة دنانير، ثم أقبل الرجل إلى بهلول وأخبره الخبر، فقال بهلول: قضيت حاجةً فاقض لي الأخرى، رُدَّ علىّ الدينارين فقال: لم؟ قال: تذّكرت قول الله - تعالى -: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) (المجادلة: من الآية22). فخشيت أن آكل زيت النصراني فأجد له في قلبي مودة فأكون ممن حاد الله ورسوله على عرض من الدنيا يسير ... انتهى. ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 337). وقال أهل هذا المذهب لمن قال بأن الموادة الواردة في قوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية) ليست هي مجرد المحبة فأجابوا وقالوا بل إن الموادة هنا تعني المحبة بغض النظر عن درجتها والذي يدل على هذا أن الله لم يقل هنا إلا أن تتقوا منهم تقاة، لأن المودة من أحوال القلب فلا تتصور معها التقية، بخلاف قوله (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ... إلى قوله ... إلا أن تتقوا منهم تقاة). وأما من قال بأن المحاد لله ورسوله هو الكافر المحارب للدين وأهله وليس مطلق الكفار فردوا عليه قائلين بأن الله تعالى نعت المنافقين الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يُحادون الله ورسوله فلا يلزم من المحادة أن يكون الكافر محارباً للدين وأهله حيث قال تعالى ذكره عنهم:} وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ {وأما من قال بأن المحاد لله ورسوله هو الكافر المحارب فحسب مستنداً على سبب نزول الآية " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " فردوا عليه بأن سبب النزول ضعيف الإسناد بل هو منقطع. وأما من قال بأن المحاد لله ورسوله هو الكافر المحارب دون الكافر المسالم مستنداً على حل الزواج من الكتابية الذمية المستلزم لمحبتها على حد تعبيرهم فردوا عليهم بأن هذا الكلام له حظ من النظر لو لم تكن الكتابية من أهل الحرب يجوز الزواج منها أيضاً أما وقد ثبت حل الزواج منها على مذهب بعض أهل العلم فبطل هذا الاستدلال , فالذي يقولُ: إن إباحةَ نكاح نساء أهل الكتابِ، دليلٌ على أن النهي عن الموالاة خاصٌّ بأهل الحرب، عليه أن يراجع قوله فالآيات التي تنهى عن موالاة الكفار لا يدخل فيها حتى الكفار المحاربون على مذهبهم، لأن

الله أباح نكاحَ نسائهم ومن غير المعقول، بل من التكليفِ بالمحال أن يبيح الله نكاح نسائهم، ثم ينهى عن موالاتهم!!!. هذه نتيجةُ قول من يعارِضُ نصوص النهي عن موالاة الكفار، بإباحة نكاح الكتابيات. وردوا على من قال بأن قوله تعالى في نفس السورة}: لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ { فقسم المخالفين في الدين إلى فريقين فريق كان سلماً للمسلمين لم يقاتلهم في الدين، ولم يخرجهم من ديارهم، فهؤلاء لهم حق البر والإقساط إليهم وفريق اتخذوا موقف العداوة، والمحادة للمسلمين، بالقتال أو الإخراج من الديار، أو المظاهرة والمعاونة على ذلك، فهؤلاء تحرم موالاتهم مثل مشركي مكّة الّذين ذاق المسلمون على أيديهم الويلات ومفهوم هذا النص أن الفريق الآخر لا تحرم موالاته وأن الآية الثانية وهي} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {تنهى عن مولاة الكفّار الذّين ذكرت أوصافهم في الآية، وهي المقاتلة من أجل الدين، والإخراج من الديار، أو المظاهرة أو المناصرة على الإخراج أما الآية الأولى فتدل على إباحة البر، بكل معانيه، للّذين يسالمون، ويتركون قتال المسلّمين ومفهوم الآية الثانية التي تنهى عن الموالاة في حال وجود تلك الأوصاف، أن محبة الكفار غير المحاربين محبة لغير دينهم جائزة أي الموالاة جائزة في حال عدمها وهذا واضح بالمقابلة ويدل على هذا قوله تعالى في مستهل سورة الممتحنة:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ {فالآية تعللّ تحريم الموالاة أو الإلقاء بالمودة إلى المشركين بأمرين مجتمعين كفرهم بالإسلام، وإخراجهم للرسول والمؤمنين من ديارهم بغير حق فهؤلاء جمعوا مع الكفر المحاربة أما مجرد الكفر، فقد يوجد معه سبب للمودة. فالجواب أن الاستدلال بمفهوم قوله تعالىِ}: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {على جواز الموالاة الجزئية للكفار المسالمين أن ثمّة منطوق يُعارض هذا المفهوم في آيات عديدة، ومنها قوله تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {. ففي هذه الآية نهى الله عز وجل عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وهذا عام في كل يهودي ونصراني ليس له مخصص، وغير اليهود والنصارى أولى بذلك، سواء قاتلنا أولم يقاتلنا فلا تجوز موالاتهم، ومما يدل على هذا العموم أنه لمّا عين أبو موسى الأشعري رضي الله عنه- كاتباً نصرانياً أنكر عليه عمر رضي الله عنه، وتلا هذه الآية السابقة , ومن المقطوع به أن كاتبَ أبي موسى الأشعريِّ لم يكن كافراً محارباً, ومن الأدلة كذلك قوله تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ

وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {وقوله تعالى}: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {ففي هذه الآية حصر الموالاة في الله ورسوله والمؤمنين، وغير المؤمنين خارجون عن هذا الحصر قطعاً، فلا تجوز موالاتهم بأي حال. وردوا على من قال إنّ كلمة الولاية لا تتضمن بالضرورة المحبة القلبية، وكلمة البراء لا تتضمن بالضرورة الكراهة والبغضاء لمن يقوم بشيء يستوجب البراءة , أما الرد الأول أن هذا مُخالف لمدلولات هذه الكلمة في اللغة العربية، فإنّ من معاني ولوازم الولاية المودة، والمحبة، ومن لوازم ومعاني البراءة البغض والكراهة, وأما الرد الثاني أنّ هذا القول مخالف لظاهر الآيات التي فيها البراءة من الكافرين، ومنها قوله تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ {.قال ابن كثير في تفسيرها: (يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن، بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم، فنحن نتبرأ منكم، ونبغضكم). وردوا على من استدلوا بسبب نزول قول الله تعالى} إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {. حيث نزلت في أبي طالب عم النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها دلالة على أنّ النبي صّلى الله عليه وسلّم كان يحب عمه وهو مشرك، ففيها دليل على جواز محبة غير المسلم , فالجواب أن المعنى من أحببت هدايته لا من أحببت شخصه، على تقدير أنّ المفعول محذوف , كما جَاءَ ذلك مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ , أو يُقال إنّ ذلك قبل النهي عن محبة المشركين وعلى فرض صحة هذا القول يبطل قول من يقول بأن قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يدل على أن بغض الكافر المُسالم في الله لا ينفك عن محبة الله وفيه تلازم ضروري بينه وبين محبة الله والإيمان به على وجه الكمال , فاللام في قوله "لا تجدُ قوما" هي "لا" النافية وليست ناهية بدليل قوله تجدُ بالضم أي مرفوعة ولو كانت الناهية لكانت تجد مجزومة بالسكون , قال أهل العلم أن النفي نفيٌ لحقيقة الشىء في الماضي والمستقبل بعكس النهي فقد يوجد ولكن الله نهى عنه. والحق أن ((لا تجد قوماً)) أسلوب خبري؛ لأن (لا) هنا نافية وليست ناهية؛ لكنه ظاهره النفي ومراده النهي، كقوله: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] فهذا خبر لكن المقصود به: (لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا) فالمقصود هنا: أن هذا من شدة تأكده ولزومه على المؤمنين، كأنه لا يمكن أن تجد مؤمناً يحب الله ورسوله يجمع بين الإيمان ومودة المحادين لله ورسوله، فالمراد بنفي الوجدان نفي المودة، يعني: لا توادوهم أبداً، على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في

النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية في التصلب في مجانبة المحادين ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر: ((لا تَجِدُ قَوْمًا)) والمراد بها الإنشاء، وهذا للنهي البليغ والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد من إيراده بلفظ الإنشاء كما هو معلوم بمحله ... انتهى. وعلى كل حال الآية التي يحتج بها المُخالف ليس فيها دليل على جواز مودة غير المسلم، ولا تعارض بينها وبين الآيات السابقة، التي تحرم مودة غير المسلم ولو كان أقرب قريب، وكتاب الله يُصدق بعضه بعضاً، ولا يعارضه، وما يُشكل منه يُرد للمُحكم، كما هي طريقة الراسخين في العلم. والذي يدل على أن المراد إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته لا من أحببت شخصه أن الآية مُحتملة وليست صريحة , والمُشكل المُحتمل يُرد للمُحكم الصريح , والصريح حرمة محبة الكفار كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [سورة آل عمران: 118] [33]، وقالِ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة: 24] [34]، وقولِه: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [سورة هود: 113] [35]، وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة المجادلة: 22]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة: 1]. وردوا على من قال (إنّ الإسلام أباح للمسلم الزواج بالكتابية، والحياة الزوجية يجب أن تقوم على السكون النفسي، والمودة، والرحمة، كما دل على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى} وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {فهذا يدل على أنّ مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها، لأنّ التواد بين الزوج المسلم وزوجته الكتابية حاصل بما أودعه الله -تبارك وتعالى- في الزوجين من التواد، والتراحم بينهما, وكيف لا يواد الرجل زوجته إذا كانت كتابية؟ وكيف لا يواد الولد جده وجدته وخاله وخالته إذا كانت أمه ذمية؟ ولو كانت مودة الكافر محرمة ما شرع الله لنا الزواج من الكتابية التي لا تؤمن برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا يدل على عدم الممانعة من حب الكافر المسالم ومودته، وأنّ ذلك لا يؤثر على العقيدة، وليس

من الموالاة المنهي عنها). وقد كان الرد الأول ما يلي: صحيح بأنّ الحياة الزوجية قد يكون من آثارها المودة والرحمة، فأما الرحمة بغير المسلمة فلا بأس بها، وليست موالاة كما تقدم , وأما المودة القلبية فالأصل النهي عنها وعدم مودتها لكفرها؛ ولكن لو حصل ميل طبيعي إليها بلا قصد ولا إرادة، وفيه نوع مودة لها طبيعية وفطرية من أجل إحسانها إليه، ولما بينهما من العشرة والأولاد فهذا لا يُلام عليه الإنسان بشرط مدافعة محبتها وعدم الركون إلى محبتها ويجب عليه أن يبغضها لما فيها من الكفر , وعلى هذا فقوله تعالى "وجعل بينكم مودة ورحمة" محمولة على الأغلب , والأغلب هو زواج المسلمين من المسلمات. وأما الرد الثاني: أن يقال: المودة الحاصلة بالزواج بالكتابية هي أمر كوني قدري، وأمر الله ببغض الكافر أمر شرعي ديني، وأوامر الله الشرعية لا يُعترض عليها بالأمور الكونية , والمحتج بذلك هو نظير من يقول: أن الله خلق الخلق مختلفين ولن يزالوا كذلك، فلا داعي للأمر بالجماعة والائتلاف! فأبطل أمر الله الشرعي بالأمر الكوني. أو كمن يقول أن قضى على العباد أن تقع منهم المعاصي، وأخبر أن بني آدم مذنبون خطاؤون، وعليه فلا داعي لأن ننهى الناس عن المعاصي، فأبطل أمر الله بعدم معصيته بناء على الأمر الكوني من وقوع المعاصي! وهكذا، فكيف يعترض على أمر الله ببغض الكفار، بأمر كوني قدري وهو وقوع المتزوج في حب زوجته؟ ثم إنه لا يمتنع أن تكون بين الزوجين عداوة دينية كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14] فالله أثبت احتمال قيام العداوة الدينية بين الزوج والزوجة. وأما الرد الثالث: أن الآية التي نهت عن موآدّة الكفار آية عامة , ولم يصرح فيها بالنص على عدم موآدّة الزوجة غير المسلمة فلا مانع من أن تكون الزوجة الكتابية مخصوصة بجواز المحبة من بين سائر الكفار , ولا يتعدى هذا الحكم إلى غيرها. وردوا على من استدل بقوله تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أن المودة التي ذكرها الله المراد بها الصلة والإحسان كما قال تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فالنبي لا يطلب أن يتحاب مع كفار قريش وإنما كما في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة) [البخاري:4818]. وردوا على من قال (أننا نقر أن الله نهى عن موالاة الكفار، لكن آيات النهي عن موالاة الكفار لا يلزم منها النهي عن حبهم والأمر ببغضهم، لأن الموالاة فيها قدر زائد على مجرد الحب والبغض وهي "النصرة") فالجواب أن "الموالاة" لفظ عام يشمل الحب والنصرة، فالحب موالاة، والنصرة موالاة، والنهي عن العام يشمل جميع أفراده. ومن ظن أن الموالاة لا تكون إلا لما تركّب منهما فقد خالف النص الذي منع الحب كقوله (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم) وهي في المسالمين كما هو معلوم.

وردوا على من أباح محبة الكافر المُسالم محبة طبيعية وعدم وجوب بغضه بما ورد عن أسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة تقول كما في صحيح البخاري (كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة) [البخاري، 4230] فأهل الحبشة مسالمون، بل نفعوا أصحاب النبي حيث وفروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم "البُغَضاء". ولما بعث نبي الله –صلى الله عليه وسلم- عبدالله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار خافوا أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح: (يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم) [أحمد: 14966] فهؤلاء كفار مسالمون وليسو محاربين، ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم , واستدلوا أيضاً بقوله تعالى "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" انظر إلى قوله تعالى: " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " ولم يقل " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تكفوا عن حربنا" فجعل الإيمان بالله وحده غاية ينقطع عندها وجوب العداوة والبغضاء , فالواجب بغض الكافر في الله أياً كان. وردوا على من قال (إنّ المراد من تحريم موالاة الكفار هو اتخاذهم أولياء بوصفهم جماعة متميزة بديانتها وعقائدها وأفكارها وشعائرها، أي بوصفهم يهوداً أو نصارى أو مجوسا أو نحو ذلك، لا بوصفهم جيراناً أو زملاء أو مواطنين , والمفروض أن يكون ولاء المسلّم للأّمة المسلّمة وحدها، ومن هنا جاء التحذير في عدد من الآيات من اتخاذهم أولياء: (من دون المؤمنين). أي أنه يتودد إليهم المسلم، ويتقرب لهم على حساب جماعته). فأجابوا بأنّ هذا الفهم مُخالف لفهم السلف , وتحريف لمعنى النصوص. وردوا على من قال (أن قوله تعالى "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم" فيه دليل على جواز وإمكانية محبة مجموع الكفار أو آحادهم لسبب دنيوي.). فأجابوا بأن الآية دليل على عكس ذلك فهي دليل على عدم جواز محبة الكافر إلا أن يؤمن بدليل أن المراد بالمودة هنا هي إسلام الكافر , قال الشوكاني في فتح القدير: عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة. وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وحسن إسلامهم ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام مودة وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة إلى الله، وقيل المراد بالمودة هنا تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، ولا وجه لهذا التخصيص وإن كان من جملة ما صار سببا إلى المودة، فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها لم تحصل المودة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده. اهـ. وفي تفسير الألوسي: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم}. أي من أقاربكم المشركين {مودة} بأن يوافقوكم في الدين، وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبا لقولهم، ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح

لهم الفتح فأسلم قومهم فتم بينهم من التحاب والتصافي ما تم، ويدخل في ذلك أبو سفيان وأضرابه من مسلمة الفتح من أقاربهم المشركين. وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن عدي. وابن مردويه. والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت المودة التي جعل الله تعالى بينهم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين، وأنت تعلم أن تزوجها كان وقت هجرة الحبشة، ونزول هذه الآيات سنة ست من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره، وفي ثبوته عن ابن عباس مقال. اهـ. وردوا على من قال يجب التفريق بين البراءة من الأشخاص، والبراءة مما يعملون وأن البراءة من عمل غير المسلم لا تقتضي بالضرورة البراءة منه , فكان الرد هو أنّ البراءة تكون من الشرك وأهله، ومن أعمال المشركين على حد سواء، لقوله تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ {ثمّ هذه الشبهة مع مخالفتها لصريح الآية، فهي مخالفة للواقع، فهناك تلازم لا ينفك بين البراءة من الشخص والبراءة من عمله على حسبه ولو كان ذلك سائغاً لقال قائل نُحب الإيمان ولا نُحب المؤمن، نعم نحن نحب الخير والهداية لغير المسلمين، ولكن لا يلزم من ذلك محبتهم ومودتهم بالقلب , ثم إن الصفة كما هو معلوم تتبع الموصوف، فلا يتصور صفة قائمة بذاتها دون موصوف يتصف بها، فكيف تُبغض الكفر دون حامله؟! ومن الذي جاء بهذا الكفر؟! أليس الكافر؟! وأما متى تكون البراءة من المعصية دون فاعل المعصية ولو كانت هذه المعصية كفراً أكبر؟ فالجواب إذا كان فاعل المعصية معذوراً عند الله إما بالتأول أو الجهل الذي ليس فيه تفريط أو نسيان أو خطأ أو هذيان أو نحو ذلك , فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: قال: «بعثَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- خالدَ بنَ الوليد إِلى بني جَذِيمةَ، فدعاهم إِلى الإِسلام، فلم يُحسِنُوا أن يقولوا: أسْلَمْنا، فجعلوا يقولون: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا، فجعل خالد بن الوليد يقتل ويأسر، ودفع إِلى كُلِّ رجل مِنَّا أسيرَهُ، فقلتُ: والله، لا أقتلُ أسيري، ولا يَقْتُلُ رجل من أصحابي أسيرَهُ، حتى قَدِمْنا على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وذكرناه، فرفع يَدَيْهِ، فقال: اللهم إِني أبْرَأْ إِليك مما صنع خالد - مرتين -». أخرجه البخاري، والنسائي. فهنا رسول الله عليه الصلاة والسلام تبرأ مما صنع خالد ومن عمله رضي الله عنه دون شخص خالد , وذلك لأن خالد كان متأولاً معذوراً عند الله. هذه جملة أدلة وردود من قال بهذا القول , وأهل هذا المذهب يرون أن المسلم إذا رأى من نفسه ميلاً ومحبة طبيعية للكافر بسبب هديته أو إحسانه أو صلته فإنه يجب عليه في هذه الحال قطع أسباب هذه المودة ولو أدى ذلك إلى رد الهدية وعدم قبولها والامتناع من الزيارة وعليه هجر الأقارب الكفار هجراً جميلاً إذا آنس من نفسه إضمار المحبة الطبيعية تجاههم باستثناء هجر الوالدين والزوجة الكتابية فإنه لا يجوز هجرهم لهذا السبب.

الفريق الثاني

الفريق الثاني والثالث اتفقوا فيما يلي: قالوا لا مانع من محبة الوالد أو القريب الكافر أو الزوجة الكتابية إذا لم تكن لدينهم، بل لقرابتهم فهذه المحبة الطبيعية التي تُمليها الجبلة البشرية والفطرة الإنسانية لا تحرم ولا يُلام عليها المسلم وقد أباح الشرع زواج العفائف الحرائر من نساء أهل الكتاب ولم يُحرَج في محبتهن لجمالهن وحب الاستمتاع بهن بل لا بد أن توجد المودة والرحمة التي أشار الله إليها جل وعلا في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) , وكما قال تعالى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) فالله عز وجل أقر هنا بوجود الإعجاب من غير نكير , وإن كان لم يُقر الانسياق وراء هذا الإعجاب. ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في شأن عمه أبي طالب الكافر (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) أي من أحببته لقرابته على أحد التفسيرين للآية , وقال الإمام سليمان بن عبدالله - رحمه الله - في كتابه تيسير العزيز الحميد, وقد ثبت في الصحيحين أنها أنزلت في أبي طالب، وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في حقه، ويحبه حباً طبعياً لا حباً شرعياً ا. هـ وبنحوه قال الإمام ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه القول المفيد , ويجوز أن يحبه محبة قرابة، ولا ينافي هذه المحبة الشرعية ا. هـ بل قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تعليقه على تفسير الجلالين (وقوله "إنك لا تهدي من أحببت" المؤلف قدره بقوله: "هدايته". من أحببت هدايته , والصواب من أحببته , إنك لا تهدي من أحببته لماذا عدل المؤلف إلى: أحببت هدايته؟ قال: لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يُحب أبا طالب وهو كافر. .كيف؟ فإن المؤمن لا يحب الكافرين ولكننا نقول الحب الطبيعي هذا لا يُنافي الإيمان. الإنسان يحب مثلاً قريبه ولو كان كافراً لكنها محبة طبيعية كما تُحب الأم ولدها؛ نعم المحبة الدينية هذه لا تجوز بين المؤمن والكافر (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أيضاً المؤلف يقول: من أحببت هدايته , في الحقيقة لو أننا حملناها على ما قال المؤلف لكانت هذه تعم كل الناس لأن الرسول يحب أن يهدي كل الناس وليس فقط عمه أبا طالب، لكان من أحببته هذا يختص بأبي طالب أو غيره من أقاربه , أيضاً لو أننا قلنا كما قال المؤلف لكان في الآية إضمار. ما هو الإضمار على تقدير المؤلف؟ إضمار الهداية؛ لأن الأصل في ضمير الصلة أن يعود إلى نفس الصلة، (وإنك لا تهدي من) "مَن" هذا اسم موصول يعود على من؟ على أبي طالب، وعائد الصلة يعود على نفس الصلة. وبهذا تبين أن الراجح "من أحببته" من وجوه ثلاثة: وجه معنوي ووجهان لفظيان. الوجه المعنوي أن الآية نزلت في أبي طالب، ولو أن "من أحببت هدايته" لكانت عامة. الوجهان اللفظيان أننا إذا قدرنا "هدايته" لزم أن يكون في الآية شيئاً محذوفاً، والأصل عدم الحذف.

الوجه الثاني من الوجهين اللفظيين أن عائد الصلة يعود إلى موصول، فإذا عاد إلى "مَن" في قوله: (من أحببت) صار المراد من أحببته هو. وأما ما لاحظ المؤلف فيما يظهر لي: أن المؤلف لاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يحب أبا طالب فالجواب عليه أن المحبة نوعان: محبة طبيعة، ومحبة شرعية. فالمحبة الطبيعية لا تنافي المحبة الشرعية، فالشرعية قد تجتمع معها وقد تنفرد؛ فإذا كان المؤمن قريباً لك اجتمع فيه المحبتان، وإذا كان بعيداً منك وجد فيه محبة واحدة وهي الشرعية، فإذا كان قريب وهو غير مؤمن ففيه محبة واحدة وهي المحبة الطبيعية. اهـ). وقد استدل أهل هذا المذهب بقوله تعالى في حق الوالدين المشركين اللذين يُجاهدا ابنهما على الشرك (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) وقالوا أن مقتضى البغض في الله أن يبعد المسلم عمن يبغضه ويهجره ولا يصاحبه ولا يداخله ولا يباسطه والله عز وجل أمر بمصاحبة الوالدين المشركين في الدنيا معروفاً بل أذن بالزواج من الكتابية , وبقاء المسلم مع من يجب بغضه , فيه حرج كما هو معلوم وهو القائل (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). وقالوا أيضاً أنه إذا تقرر إباحة البغض الفطري للمؤمن كما في قصة بغض زوجة ثابت بن قيس بن شماس لزوجها رضي الله عنه وكما في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع وحشي رضي الله عنه , فمن باب أولى إباحة المحبة الفطرية للكافر المعين. وكذلك استدل أهل هذا المذهب على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وهو استدلال ضمني بأنَّ الله نهى عن الإحسان إلى المحاربين وأَذِنَ بالصلة والإحسان لمن لم يحارب من الكفار فقال} لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ .... الآية {، وقوله هنا} أَن تَوَلَّوْهُمْ {في وصف المحاربين يدل على أنَّ غير المحاربين له نوع موالاة جائزة بالإحسان والمودة الجزئية ونحو ذلك، وهذا واضح بالمقابلة.). واستدلوا كذلك بأن البر والإحسان فيه قدر من المودة لا ينفك عنه , واستدلوا أيضاً بحديث رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صّلى الله عليه وسلّم، فاستفتيت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، قلت: إنّ أمي قَدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال "نعم، صلي أمك". والصلة المراد بها في هذا الحديث أنها تكرمها إكرام الولد لوالده إذا قدم عليه، وهذا الإكرام لا يخلو؛ بل لابد فيه من مودة وارتياح وانبساط ومؤانسة , واستدلوا كذلك بقوله تعالى مخاطباً بعض المؤمنين الذين كانوا يواصلون بعض الكفار من أهل الكتاب لقرابة بينهم (هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) قال ابن الجوزي رحمه الله (قوله تعالى: {أَنتُمْ * أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ} قال ابن عباس: كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود، فنزلت هذه الآية.

والخطاب بهذه الآية للمؤمنين. قال ابن قتيبة: ومعنى الكلام: ها أنتم يا هؤلاء. فأما «تحبونهم». فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم. وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال. أحدها -وهو الشاهد-: أنها الميل إليهم بالطباع، لموضع القرابة، والرضاع، والحلف، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس.) واستدلوا أيضاً بجواز مودة الزوجة الكتابية بناءً على إذن الشارع بالزواج منها والتي أشار الله إليها جل وعلا في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ولم يكن الشارع ليجعل المسلم في حرج بعد زواجه من الزوجة الكتابية والله سبحانه يقول (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فإذا تقرر هذا فإن عدم مؤاخذة المسلم في محبة والديه الغير مسلمين من باب أولى لأن المتزوج من الكتابية قد تزوج من تلقاء نفسه ولم يُكرهه أحد على ذلك أما من ابتُلي بوالدين كافرين أو إخوة كفار فهو مُكره على ذلك ولم يختر والديه وأقاربه وهو أولى بالإعذار من المتزوج للكتابية. وردوا على من قال بأن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح والبر والإحسان من أفعال الجوارح لا من أفعال القلوب بأن هذا الكلام يستقيم لو لم يكن هناك علاقة تلازم بين ما يقع في القلب وبين ما يقع في الجوارح بل إن بينهما تلازماً في كثير من الأحيان يصعب انفكاكه. وأجاب بعض أهل العلم ممن ذهب هذا المذهب كمحمد رشيد رضا رحمه الله وغيره كثير بأن المودة الواردة في قوله (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) هي المودة الدينية وهي لا تجوز للمشرك بأي حال من الأحوال، وأن الحب الطبيعي لا يدخل في الأمور الدينية. وفي ذلك قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في" إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ". (وأنزل الله في أبي طالب (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)، (إِنَّكَ) أيها الرسول، (لَا تَهْدِي) لا تملك هداية (مَنْ أَحْبَبْتَ) من أقاربك وعمِّك، والمراد بالمحبة هنا: المحبة الطبيعية، ليست المحبة الدينية، فالمحبة الدينية لا تجوز للمشرك ولو كان أقرب الناس (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) فالمودة الدينية لا تجوز، أما الحب الطبيعي فهذا لا يدخل في الأمور الدينية ... انتهى). وبعضهم يرى أن الموادة الواردة في قوله (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .. الآية) بأن الموادة شيء والمحبة الطبيعية شيء آخر فالموادة هي المحبة المُفرطة الحاملة على تقديمها على محبة الله ورسوله وممن ذهب هذا المذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في أحد شروحه لبلوغ المرام , علماً أن الشيخ ابن عثيمين والفوزان وغيرهم لهم في المسائل السابقة فتاوى تُعارض ما ذهبوا إليه وهذا مما يدل على أن المسألة تحتاج إلى مزيد من التحقيق. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لكتاب الجنائز في بلوغ المرام تعليقاً على حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعطني قميصك أكفنه فيه" فأعطاه إياه،

متفق عليه. قال ما نصه} أن المودة للقرابة لا تُعد من المودة في الدين فإن قال قائل هذا يُعارض قوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية) , فالجواب أن الموادة شيء والمحبة الطبيعية التي مقتضاها القرابة شيء آخر فالمواد هو الذي يسعى في طلب المودة أكثر مما تقتضيه الفطرة ويسعى إلى رضاهم بكل وسيلة ويدلك على هذا قوله تعالى (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) والأبناء والآباء في هذه الآية عام يتناول المسلمين والكفار فلذلك تقديم محبة غير الله على الله ورسوله هو المحرم وعلى هذا فضابط المودة المحرمة للكفار هو تقديم محبتهم على محبة الله ورسوله ... انتهى {المصدر شرحه لكتاب بلوغ المرام كتاب الجنائز بداية الشريط الثالث. وكما قال رسول الله (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) فإذا قدم هذه المودة الجبلية على أوامر الله وأوامر رسوله هنا يُلام المسلم , وقال بعضهم أن هنالك فرق بين المحبة والمودة فالمودة أخص من المحبة حيث أن المودة هي الحب الكثير والحب المجرد عن المودة يكون أقل من المودة بدرجات متفاوتة. وقال الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله في شرحه لكتاب الجنائز في بلوغ المرام لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعطني قميصك أكفنه فيه" فأعطاه إياه، متفق عليه, قال ما نصه (هذا الحديث الذي أشرنا إليه أنفاً، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما توفي عبد الله بن أُبي رأس المنافقين، الذي نهي النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الصلاة عليه، أخباره كثيرة شهيرة في مضاداته ومحاداته للدعوة ولصاحبها -عليه الصلاة والسلام-، ومات على نفاقه -نسأل الله السلامة والعافية- قال لما توفي عبد الله بن أُبي جاء ابنه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعطني قميصك أكفنه فيه" "أعطني قميصك" هذه محبة جبلية من الابن تجاه أبيه وإلا فهو عدو، المنافق -نسأل الله السلامة والعافية- لا تجوز مودته ولا محبته، لكن هذه جبلة بحيث لو خالفت هذه المحبة والمودة الحكم الشرعي، هل يجرؤ عبد لله الابن أن يطلب مثل هذا لو جاء النهي عن ذلك؟ لا، المودة والمحبة الجبلية لو عارضت المحبة الشرعية صارت محرمة، "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فإذا قدم هذه المودة الجبلية على أوامر الله وأوامر رسوله ما صار الله ورسوله أحب إليه مما سواهم، لكن الولد مجبول على حب أبيه، والبحث عن شيء عله أن ينفعه، فطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- القميص ليكفنه فيه، فأعطاه النبي -عليه الصلاة والسلام- قميصه ... انتهى). وقال أصحاب هذا المذهب أن محبة الكفار بمقتضى الطبيعة سواء كانوا ذوي قرابة كالوالدين أو الزوجة أو غيرهم من الكفار لا يعني ذلك مودتهم في القلب من كل وجه ولا يعني أن يتنازل عن شيء من أحكام الإسلام مهما صغر طلباً لرضاهم واستجلاباً لمودتهم.

وأجاب بعض أهل العلم ممن ذهب هذا المذهب عن قوله (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) وقالوا بأن المحاد هو المحارب وليس المسالم بدليل سبب نزول الآية. وهذا القدر متفق عليه بين الفريق الثاني والثالث إلا أنهم اختلفوا في حكم إضمار البغض في الله للوالد الكافر والزوجة الكتابية فقال فريق منهم إنه يجوز محبتهم بمقتضى الجبلة البشرية والطبع إلا أنه يجب أن يصاحب محبتهم المحبة الطبيعية البغض لهم في الدين وقالوا لا منافاة بين الجمع بين بغضهم في الله وبغض أشخاصهم لكفرهم ومحبتهم بمقتضى الطبع وفي هذا يقول الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله مُجيباً على أحد السائلين الذين استشكلوا جواز الزواج بالكتابية وفي ذات الوقت وجوب بغضها في الله ما يلي (الحمد لله، قد فرض الله موالاة المؤمنين، وحرم مولاة الكافرين قال الله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال تعالى {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} وقال تعالى {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} وقال تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .. الآية} والود، والمودة بمعنى المحبة، والمحبة نوعان: محبة طبيعية كمحبة الإنسان لزوجته، وولده، وماله. وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. ومحبة دينية؛ كمحبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله، ورسوله من الأعمال، والأقوال، والأشخاص. قال تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد .. الحديث ".ولا تلازم بين المحبتين بمعنى: أن المحبة الطبيعية قد تكون مع بغض ديني؛ كمحبة الوالدين المشركين فإنه يجب بغضهما في الله، ولا ينافي ذلك محبتهما بمقتضى الطبيعة، فإن الإنسان مجبول على حب والديه، وقريبة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب عمه لقرابته مع كفره قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} ومن هذا الجنس محبة الزوجة الكتابية فإنه يجب بغضها لكفرها بغضاً دينياً، ولا يمنع ذلك من محبتها المحبة التي تكون بين الرجل وزوجه، فتكون محبوبة من وجه، ومبغوضة من وجه، وهذا كثير، فقد تجتمع الكراهة الطبيعية مع المحبة الدينية كما في الجهاد فإنه مكروه بمقتضى الطبع، ومحبوب لأمر الله به، ولما يفضي إليه من العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ومن هذا النوع محبة المسلم لأخيه المسلم الذي ظلمه فإنه يحبه في الله، ويبغضه لظلمه له؛ بل قد تجتمع المحبة الطبيعية، والكراهة الطبيعية كما في الدواء المر: يكرهه المريض لمرارته، ويتناوله لما يرجو فيه من منفعة.

وكذلك تجتمع المحبة الدينية مع البغض الديني كما في المسلم الفاسق فإنه يحب لما معه من الإيمان، ويبغض لما فيه من المعصية .... انتهى). وقد سُئل الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله السؤال التالي أيضاً: قال تعالى "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ... " فهل تعني هذه الآية أننا يجب ألاَّ نكن أي عاطفة لأقاربنا من غير المسلمين، حتى ولو كان عندهم اهتمام بالإسلام، ولا يعادون إيماننا؟ أم أن هناك فرقاً بين العاطفة الفطرية والعاطفة بسبب الإيمان؟ هل يكون من الجائز للمسلم أن يكره كفر أقاربه، ومع ذلك يبقى لديه نوع من العاطفة الفطرية نحوهم؟ هل مثل هذه العاطفة تخرج المسلم من الملة؟ أرجو توضيح الأمر. فأجاب حفظه الله: الحمد لله، الواجب على من منّ الله عليه بالإسلام والإيمان والتوحيد أن يبغض الشرك وأهله، فإن كانوا محاربين فعليه أن يعاديهم بكل ما يستطيع، وإن كانوا مسالمين للمسلمين فيجب بغضهم على كفرهم ومعاداتهم لكفرهم، ولكن من غير أن ينالوا بأذى؛ بل لا مانع من الإحسان إليهم وصلتهم إن كانوا أقارب، وبرهم إن كانوا من الوالدين، كما قال تعالى: "أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون"، وبغض الكافرين لا يمنع من أداء الحقوق، حق القرابة، وحق الجوار، كما قال – صلى الله عليه وسلم- لما أنذر عشيرته وتبرأ منهم قال: "إن لكم رحماً عندي سأبلها ببلالها" مسلم، وقال سبحانه وتعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" , وقوله سبحانه وتعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" المراد من يواد الكافرين ولا يبغضهم البغض الإيماني ولا يبرأ منهم ومن دينهم ومعبوداتهم الباطلة فهذا هو الذي لا يكون مسلماً وإن ادعى الإيمان، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" فالمؤمنون الصادقون يبغضون الكافرين وإن كانوا أقرب الأقارب إليهم، وعلى هذا فيجتمع في قلب المؤمن المحبة الفطرية الطبيعية والبغض الديني، وقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يحب أبا طالب لقرابته ولنصرته له وهو يبغضه لكفره، ولهذا كان حريصاً على هدايته ولكن الله سبحانه وتعالى بحكمته لم يوفقه للإيمان؛ لأنه تعالى أعلم بمن هو أهل لذلك قال تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين"، فلك أيها السائل أن تصل أقاربك وأن تبر بالوالدين، وأن تحسن إلى جيرانك وإن كانوا كفاراً، ما داموا لا يجاهرون بعداوة الإسلام والمسلمين، وأما من أعلن محاربته للمسلمين فالواجب محاربته وجهاده حتى يدخل في الإسلام أو يعطي الجزية كما قال تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" والله أعلم ... انتهى).

وقال أحدهم لمحاولة التوفيق بين اجتماع المحبة الطبيعية والبغض الديني (قال تعالى في الكراهية الطبيعية للقتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة:216] وقال تعالى في الحب الشرعي للقتال (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [التوبة:92]. فانظر كيف أخبر أنهم يكرهون القتال طبعاً، ثم تفيض عيونهم من الحزن إذا فاتهم القتال لحبهم إياه شرعاً وديانة! فمن أنكر الكره الطبيعي للقتال فقد كابر، ومن أنكر الحب الشرعي للقتال فما عرف معنى الإيمان بعد، فإن أثبت اجتماعهما في محل واحد فكيف ينكر اجتماعهما في شخص واحد وهو الزوجة الكافرة؟! وكذلك فإن كل نفس تجد في داخلها كراهية السجن كراهية طبيعية، ولكن لما كان فيه مصلحة شرعية ليوسف –عليه السلام- صار أحب إليه شرعاً وإن كان يبغضه طبعاً، كما قال تعالى عن يوسف (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33]. وكذلك فإن الإنسان إذا تصدق بأنفس ماله عنده اجتمع في هذا الفعل حب وبغض، فهو يحب ماله طبعاً، ويحب التخلي عنه والصدقة به شرعاً، كما قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92] وقال تعالى (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) [البقره: 177] وقال تعالى يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان:8] ... انتهى). وقال آخر (إن النفس البشرية السوية لتقوى على الجمع بين المشاعر المتضادة في آن واحد، فهذا الرجل تحمله القسوة على تأديب ولده مع أن قلبه يذوب رقة وحناناً عليه، فهو جامعٌ بين القسوة والغلظةِ من جهة وبين الرقة والشفقة من جهة أخرى، وهذا اللص الفقير ينظر إليه أحدنا من باب الشرع فتأخذه الحمية لدين الله عز وجل في ردعه وزجره بالعقاب الشرعي، وننظر إليه نظرة شفقة ورحمة لحاله، وقس على ذلك، ومنه ما جرى على ألسنة بعض الصحابة من رحمة الكفار والشفقة عليهم إذا نظر لهم من جهة القدر لا الشرع. بل إن الرجل المسلم المطيع لله جل وعلا قد يأتي المعصية عن شهوة وحب لها، وفي الوقت ذاته يقع في قلبه شيء من الكراهية لها والانقباض عنها لأنه عصى فيها الله عز وجل، فهذا عاص لله محب للمعصية، وفي الوقت نفسه يجد في قلبه شيئاً من الانقباض والنفور عنها، مع كونه ممارساً لها. وممن صور الثنائية النفسية أبدع تصوير أبو الطيب المتنبي في رثاءه لفاتك، عندما قال: الحزن يُقلق والتجمّل يردعُ .......... والدمع بينهما عصيٌّ طيّعُ إنّي لأجبن عن فراق أحبتي ......... وتُحسُّ نفسي بالحمام فأشجعُ ويزيدني غضبُ الأعادي قسوةً ......... ويُلمُّ بي عتب الصديق فأجزعُ وهي من عيون شعره، بل من عيون المراثي الشعرية التي نطق بها أدباء العربية. المقصودُ أنَّ الحسَّ والواقع يشهدان بجريان بعض المشاعر المتضادة المتعارضة في النفس البشرية، دون أن يؤثر ذلك على السلوك أو يوقع في الاضطراب، ومن ذلك حب الرجل المحبة الطبيعية لزوجه النصرانية أو اليهودية، مع بغضه لها

الفريق الثالث

لكفرها ولدينها ونحلتها وبغض تدينها به وانتحالها له، فلا يعارض هذا هذا ألبتّة. .. انتهى). وبهذا يتبيَن أن أهل هذا المذهب يرون أنه لا منافاة بين المحبة الطبيعية، وبين البغض للشخص في الله؛ لأن البغض له مقتضى آخر وهو مقتضى شرعي أيضاً فإذا ابتُلي المسلم بمحبة الكافر محبة طبيعية فلا ضير ولكن يُعامله بمقتضى الشرع , ومقتضى الشرع يوجب بُغض الكافر لأجل كفره ولو كان أقرب قريب، وأما المحبة الطبيعية كمحبة الزوجة أو الولد أو الأخ إذا كانوا كفاراً غير محاربين فجائزة لكن تكون مصاحبة للبغض الإيماني لأجل كفرهم وعلى هذا فأهل هذا المذهب يختلفون مع أهل المذهب الأول باعتبار إمكانية وجود المودة الفطرية للكافر ابتداءً لكنهم يوافقونهم باعتبار المآل والغاية وهو وجوب بغض الكافر لكفره. أما الفريق الآخر وهو الثالث فقالوا إنه لا يلزم بغض شخص الكافر وذاته وأن المحبة الفطرية للكافر المسالم المعين هي مثل الخوف الفطري لا يُؤاخذ العبد عليها إلا إذا رتب على هذا المحبة الفطرية ترك واجب أو فعل محرم , ويرون أن محبة الكافر المُسالم المعين لغير دينه جائزة وهي من باب الرخصة لعسر التحرَز منها وخاصة مع من يخالطهم المسلم للحق الواجب كالوالدين المشركين والزوجة الكتابية ونحوهما وهذا من التخفيف الذي يتبع التشريع , واشترطوا أن تكون بالقدر الذي يرفع فيه المسلم الحرج عن نفسه وقالوا أنه يكفي البراءة من كفر الكافر وعدم متابعته وإقراره على باطله وبغض أعماله المخالفة للشرع وعدم تعظيمه دون بغض شخصه بشرط ألا تُقدم محبته على محبة الله ورسوله لاسيما مع من يُخالط منهم ويعسر التحرَز من قطع أسباب مودتهم لأي سببٍ كان إلا أنه لو أبغضهم فلا تثريب عليه لأنهم قد تعاطوا موجبات وأسباب البغض في الله , واشترطوا كذلك عدم التوسع في هذه الرخصة وقالوا مستدلين بالمعقول أنََ إعطاء الوسيلة حكم التوسل إليه دليل على حكمة الباري وعلمه بخصائص النفس البشرية لأنه لو حرم الشيء وأباح الوسائل الموصلة إليه غالباً لوقع الناس في حرج عظيم فما بالك لو كان تعاطي هذه الوسائل واجب كوجوب بر الوالدين المشركين وصحبتهما في الدنيا معروفاً , وممن ذهب هذا المذهب الشيخ ابن عثيمين وإن كان له رأي آخر في ذات المسألة فقال الشيخ رحمه الله في شرحه لكتاب الجنائز في بلوغ المرام تعليقاً على حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعطني قميصك أكفنه فيه" فأعطاه إياه، متفق عليه. قال ما نصه} أن المودة للقرابة لا تُعد من المودة في الدين فإن قال قائل هذا يُعارض قوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية) , فالجواب أن الموادة شيء والمحبة الطبيعية التي مقتضاها القرابة شيء آخر فالمواد هو الذي يسعى في طلب المودة أكثر مما تقتضيه الفطرة ويسعى إلى رضاهم بكل وسيلة ويدلك على هذا قوله تعالى (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) والأبناء

والآباء في هذه الآية عام يتناول المسلمين والكفار فلذلك تقديم محبة غير الله على الله ورسوله هو المحرم وعلى هذا فضابط المودة المحرمة للكفار هو تقديم محبتهم على محبة الله ورسوله ... انتهى {المصدر شرحه لكتاب بلوغ المرام كتاب الجنائز بداية الشريط الثالث. وكما قال رسول الله (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) فإذا قدم هذه المودة الجبلية على أوامر الله وأوامر رسوله هنا يُلام المسلم , وقال بعضهم أن هنالك فرق بين المحبة والمودة فالمودة أخص من المحبة حيث أن المودة هي الحب الكثير والحب المجرد عن المودة يكون أقل من المودة بدرجات متفاوتة. قال الشيخ صالح آل الشيخ في كتابه: إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل ـ حيث قال: المقصود من ذلك أن يعلم أنَّ الولاء والبراء للكافر ـ يعني للمعين ـ ثلاث درجات: الدرجة الأولى: موالاة ومحبة الكافر لكفره، وهذا كفر. الدرجة الثانية: محبته وموادته وإكرامه للدنيا مطلقاً هذا لا يجوز ومحرم ونوع موالاة مذموم. الدرجة الثالثة: وهو أن يكون في مقابلة نعمة، أو في مقابلة قرابة، فإن نوع المودة الحاصلة، أو الإحسان أو نحو ذلك في غير المحاربين هذا فيه رخصة. انتهى. وقال ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق في مسألة الولاء والبراء والتكفير والتفسيق وما يتعلق بذلك: (وفي هذا فروع مفيدة الأول: أن هذا كله في الحب الذي هو في القلب وخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة كما يأتي، وأما المخالفة والمنافعة وبذل المعروف وكظم الغيظ وحسن الخلق وإكرام الضيف ونحو ذلك، فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة فلا يبذل للعدو في حال الحرب، وذكر الإمام المهدي محمد بن المطهر أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك، قلت: وهو كلام صحيح، والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة، منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله: "وصاحبهما في الدنيا معروفا"، ومنها قوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" ـ ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليها من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ في قصة حاطب على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل عذره بالخوف على أهله في مكة والتقية بما لا يضر في ظنه، فإن قيل: القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله:" ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل" ـ فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره؟ قلت: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان وعدم موالاة المشركين لشركهم، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: يا أيها الذين آمنوا ـ والعموم نص في سببه، فاتفق القرآن والحديث، وأما ذنبه فإنه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن

أميرهم، لقوله تعالى: وإذا جاءهم أمر من الخوف أو الأمن أذاعوا به الآية ـ ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع ومع إذنه يجوز. اهـ وأجاب بعض أهل العلم ممن ذهب هذا المذهب عن قوله (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) وقالوا بأن المحاد هو المحارب وليس المسالم بدليل سبب نزول الآية. وقال بعض أصحاب هذا المذهب أن الموالاة فرع عن المحبة وهي من لوازمها , والمولاة أشمل من الحب فليس كل من تحبه يعني أنك تواليه بل الموالاة هي قدر زائد على المحبة فالولاء والموالاة يعني المحبة المؤدية إلى الموافقة والنصرة والمتابعة. وعليه فقد تنفرد الموالاة بالتعاضد والنصرة من دون محبة، وموالاة الكافر تضافرت النصوص على تحريمها، وأجمع العلماء على هذا التحريم، بل ذهب بعض العلماء إلى أن موالاة الكفار تعد ناقضاً من نواقض الإسلام، وغالب الأدلة التي يوردها المُخالف لجواز المحبة الطبيعية للكافر تدور حول الموالاة كقوله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)). ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)). وقوله (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، هذا بالنسبة للموالاة. وعلى هذا نستنتج أن الاستدلال بآيات تحريم الموالاة على تحريم المحبة التي تكون من دون نصرة وتعاضد ضد المسلم لا يصح. ثم إنه من الجمع بين هاتين الآيتين " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ " , " وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً " وآية المجادلة ((لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية)) يتضح لنا معنى المحادة وأنها تدل على معنى زائد على مجرد الكفر، ويؤيد هذا سبب نزولها، جاء في تفسير ابن كثير ((وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر) إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، حين قتل أباه يوم بدر ... ثم قال: وقيل في قوله (ولو كانوا آباءهم) نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر (أو أبناءهم) في الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، (أو إخوانهم) في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ (أو عشيرتهم) في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضاً، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة يومئذ، والله أعلم، قلتُ – القائل ابن كثير -: ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين في أسارى بدر فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله أن يهديهم. وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله، هل تمكني من فلان؟ - قريب لعمر - فأقتله، وتمكن عليا من عقيل وتمكن فلانا من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين. . . القصة بكاملها)) أهـ. قال الرازي في تفسيره: واعلم أن الأكثرين اتفقوا على أن قوله: (لا تجد قوما

يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد فتح مكة، وتلك القصة معروفة. وما ذكره ابن كثير والرازي من سبب النزول الذي وإن كان ضعيفاً ولكن تقبله أهل التفسير بالقبول , يؤيد أن المحادة هنا المقصود بها أمر زائد على مجرد الكفر وقد صرح القاسمي في تفسيره محاسن التأويل بهذا في تفسيره لآية المجادلة، ثم إنه لو كان مجرد الكفر يصدق عليه المحادة لكان هذا مناقضاً لآيتي (جعل بينهم مودة ورحمة)، و (إنك لا تهدي من أحببت)؛ فكيف ينص على أنه جل وعلا يجعل في قلب الرجل مودة لزوجته الكافرة ثم ينهى في موضع آخر عن المودة للكافر، وكذا كيف يخبر عن خليله محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه يحب عمه الكافر؟! إذن هاتان الآيتان تدلان دلالة قطعية على جواز محبة الكافر غير المحاد وإن كان ليس على إطلاقه، وهذا دليل نقلي، وأما الدليل العقلي فإنه ثبت بالتجربة أن النفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها، ولا يستطيع المرء أن يمنع قلبه من محبة من أحسن إليه وأكرمه ممن يعاشره أو يزامله في عمل أو رحلة من الكفار غير المحادين وأما المحادون فلا يجوز له مزاملتهم ومعاشرتهم أصلاً. ومن الأدلة على صحة هذا المذهب هو جواز الزواج من الكتابية المستلزم لإباحة محبتها طبعاً وجبلة , ولا يُقال هنا يجوز محبتها جبلة ويجب بغضها في الله فإن هذا مما لا تطيقه النفوس بل جعل بعض فقهاء الإسلام قيام العداوة الدينية بين الزوج المسلم والزوجة الكافرة الوثنية علةً من جملة العلل القاضية بتحريم الزواج منها , قال الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 270): "لا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْمُشْرِكَةَ ; لقوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) , وَيَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْكِتَابِيَّةَ ; لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). وَالْفَرْقُ أَنَّ الأَصْلَ أَنْ لا يَجُوزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْكَافِرَةَ ; لأَنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لا يَحْصُلُ السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّذِي هُوَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ إلا أَنَّهُ جَوَّزَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ ; لِرَجَاءِ إسْلامِهَا" .. انتهى. ورد أهل هذا المذهب على من قال (البغض في الله واجب مع جميع الكفار محاربهم ومسالمهم ويستدلون بقوله تعالى:"وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده" وقالوا لو كانت هذه الآية خاصة بالكفار المحاربين لقال "وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تكفوا عن حربنا" , وقالوا إن إظهار العداوة والبغضاء لا ينافي البر والإحسان .. انتهى). الجواب: أن الآية الثانية (لا ينهاكم .. ) بينت الآية الأولى المُجملة (قد كانت لكم أسوة) وهي أنها في الكافر الحربي. بمعنى أن الآية الأولى (قد كانت لكم أسوة .. ) وردت في صنف الكفار المحاربين للرسل الذين جاهروا بالعداوة وهو حال قوم إبراهيم بل انظر إلى حال أبيه معه كيف طرده فكيف بحال الآخرين معه؟ واقرأ بداية السورة يتضح لك أن الآية وردت في هذا السياق. فهؤلاء محاربون أظهروا العداوة والبغضاء .. فجاءت الآية في هذا السياق وبالتالي

فإن الكفار المسالمين لم يكونوا داخلين في معنى الآية (قد كانت لكم أسوة حسنة) أصلاً , بمعنى أن الآية الكريمة (قد كانت لكم أسوة ... ) ليست عامة في جميع أصناف الكفار بإطلاق .. والسياق يدل على ذلك وواقع قوم إبراهيم يدل على ذلك .. ولو سلمنا جدلاً أن الآية مطلقة والمقصود بها جميع الكفار المحارب منهم والمسالم فإن الآية التي بعدها وهي (لا ينهاكم .. ) وغيرها من الأدلة الدالة على بر الكفار المسالمين تكون مخصصة لآية (قد كانت لكم أسوة ... ) أو ناسخة لها جزئياً. وبهذا التقرير نرد على من يقول أن هذه الآية مطلقة في حق جميع الكفار بلا استثناء وأما بالنسبة لمن يستدل بوجوب إظهار العداوة والبغضاء مع الكافر مطلقاً مستدلاً بقوله تعالى: (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) وعدم قوله (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تكفوا عن حربنا) فالجواب أن الدلالة هنا دلالة مفهوم ودلالة قوله تعالى عن الوالدين (وصاحبهما في الدنيا معروفا) وقوله (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم .... ) دلالتها منطوقة على مشروعية البر وحسن الخلق مع الكافر لا سيما الوالدين والأقارب وعلى هذا فالمنطوق مُقدم على المفهوم ناهيك أن قوله (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم.) نزلت بعد قوله (قد كانت لكم أسوة .. ) وبالتالي لو فرضنا جدلاً بأن معنى آية الأسوة هو كما ذهب إليها هؤلاء فالمُقدم آخر ما نزل عند التعارض. يُضاف إلى ما تقدم: ما ذكره البغوي رحمه الله (قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة. ويعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم) أي من كفار مكة (مودة) ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم (والله قدير والله غفور رحيم) ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم) .... انتهى) قلتُ بهذه الرخصة تجتمع الآيتين اللتين فيهما إشكال آية الأسوة وآية الإذن ببر لكفار المسالمين , وبغض النظر عن كون الرخصة واجبة أم مستحبة أم مباحة وقد تختلف من حال إلى حال فالأخذ بها مع الوالدين واجب ومع من يُرجى إسلامه كذلك واجبة باعتبار الواجب لغيره ومع الأقارب مستحب. وبهذا يتبين خطأ من قال أن الجمع بين إظهار العداوة واجب مع كل كافر وأنه لا ينافي صحبة الوالدين بالمعروف بل وحتى الزواج من الكتابية. وأما من يقول بعدم التعارض ويُجوز الزواج من الكتابية ومصاحبة الوالدين المشركين بالمعروف مع إبداء العداوة لهم والبغضاء فهذا يكفيه أنه لما نزلت آية الأسوة، المهيجة على عداوة الكافرين، وقعت من الصحابة المؤمنين كل موقع، وقاموا بها أتم القيام، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين، وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله عنه لعلمهم بأن إظهار العداوة ينافي الصحبة والصلة بالمعروف. فأخبرهم الله أن الكفار المسالمين لا يدخلون في معنى الآية أو تكون الآية التي بعدها رخصةً لهم فقال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: لا ينهاكم الله عن

البر والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين، من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم في هذه الحالة، لا محذور فيها ولا مفسدة كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. ورد أصحاب هذا المذهب على من قال معترضاً ((أن المودة الحاصلة بالزواج بالكتابية هي أمر كوني قدري، وأمر الله ببغض الكافر أمر شرعي ديني، وأوامر الله الشرعية لا يُعترض عليها بالأمور الكونية. والمحتج بذلك هو نظير من يقول: أن الله خلق الخلق مختلفين ولن يزالوا كذلك، فلا داعي للأمر بالجماعة والائتلاف! فأبطل أمر الله الشرعي بالأمر الكوني. أو كمن يقول أن قضى على العباد أن تقع منهم المعاصي، وأخبر أن بني آدم مذنبون خطاؤون، وعليه فلا داعي لأن ننهى الناس عن المعاصي، فأبطل أمر الله بعدم معصيته بناء على الأمر الكوني من وقوع المعاصي!)) انتهى كلامه. فالجواب: أن هذا الاستدلال صحيح لو كان الزواج من الكتابية محرم وصحبة الوالدين المشركين بالمعروف محرمة , فهنا نقول أن هنالك تعارض بين الأمر الكوني وهي المودة وبين الأمر الشرعي وهو بغضهم , والمُقدم في هذه الحال الأمر الشرعي , أما في هذه الحال فالتعارض قائم بين أمرين شرعيين الأول الإذن الشرعي بالزواج من الكتابية المستلزم لمحبتها ووجوب بغضها على مذهب المخالفين , فالتناقض بين شرعيين لا كما يتوهم البعض من أنه تناقض بين كوني وشرعي. وأما الرد على من استدل بحديث أسماء بنت عميس ((كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة) [البخاري، 4230] وبحادثة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه مع اليهود حين أراد خرص الثمار فخافوا أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح: (يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم) [أحمد: 14966] , فالجواب عليه أن في هذا دليل على وجوب بغض عموم الكفار في الله وهذه خارج محل النزاع , أو يُقال أن ما تقدم فيه دليل على جواز بغض الكافر المسالم في الله ومشروعيته لا وجوبه. وأما الرد على من نقل قول الإمام ابن تيمية (وأصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة البغض) وحمله على إطلاقه دون تخصيص أو تقييد , ويقرر أن أصل المعاداة البغض، فهذا يعني أن بغض الزوجة الكافرة كما يقرر المُخالف يقتضي معاداتها، معنى هذا أن الرجل يُقدم على زوجة يعلم يقيناً أنها عدوة له، وهذا لا يقول به عاقل فضلا عن طالب علم، بل هو قول لا يتصور، وأما الاستدلال بقوله تعالى ((إن من أزواجكم وأبنائكم عدوا لكم) فهو إخبار بحصول العداوة بعد الزواج لا أن الزوج تزوج بها وهو يعلم أنها عدوة له. وأما الرد على من حمل المودة الواردة في قوله تعالى ((قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)) على أنها الصلة وليست الحب مستدلاً بما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من

قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة) فالجواب أن المودة في اللغة هي الحب، وذكر ابن عباس في تفسيره لها بأن المقصود في هذه الآية (الوصل) إنما هو ذكر لبعض لوازم المودة، ولا يقتضي ذلك نفي المودة والحب، وهذا مشهور جدا في التفسير، فكثير ما يفسر السلف الكلمة ببعض لوازمها ولهذا تتنوع تفسيراتهم للكلمة وهو ما يسميه العلماء اختلاف تنوع كتفسيرهم لقوله تعالى ((قل هذه سبيلي)) قال بعضهم القرآن، وقال بعضهم الإسلام، ومعلوم أن السبيل هو الطريق، فطريقة النبي من لوازمها الإسلام والقرآن. وأما الرد على من قال (أن المرأة الكتابية من المحاربين يجوز الزواج منها، وبالتالي تجوز محبتها وعليه فتجوز محبة الكافر المحارب!!! وهذا يدل على بطلان قولكم أن المحاد لله ورسوله هو الكافر المحارب فحسب مستدلين بحل الزواج من الكتابية الذمية). فالجواب أن هذا ليس ناقضاً لما تقرر من جواز محبة الكافر المعين غير المحارب، ووجوب بغض صفة الكفر فيه، وذلك لأن المحاربين نوع، لكن آحادهم تختلف فقد يوجد في المحاربين من هو غير محارب،، ولهذا فتلك المرأة من القوم المحاربين ينظر لحالها هل تنطبق عليها صفة المحاربين أو لا؟ فلو ثبت أن المرأة تنطبق عليها صفات المحاربين لم يجز الزواج منها أصلاً فضلا عن محبتها، فمثلا لو ثبت أن المرأة تشتم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تشتم الإسلام، أو تكيد للمسلمين فهي محاربة؛ بغض النظر عن قومها هل هم محاربون لنا أو مسالمون؟. ومثله لو وُجد قوم مسالمون لنا فلا شك أن برهم مشروع , هذا من حيث العموم أي الجواز متجه للنوع، لكن آحادهم تختلف المعاملة معه فلو أن واحداً منهم تصرَّفَ تصرُّفَ المحاربين بشتم الرسول مثلاً لكان هو نفسه محارباً فتنطبق عليه أحكام المحاربين وحده، وإن كان بقية قومه مسالمين , وكلام أهل العلم عن حل الزواج من الكتابية الحربية لا يقصدون بها المحاربة بعينها بل هذا لا يجوز ولكن يقصدون الزواج من الكتابية المنتسبة لأهل الحرب , وفرقٌ بين المحاربة بعينها وبين من هي منتسبة لأهل الحرب , ويدلك على هذا التفريق أن الشريعة أباحت الإهداء للكافر المعين المسالم الذي ينتمي لأهل الحرب لموجب شرعي كصلة قرابة ونحو ذلك , فعن عبد الله بن عمر - رضِي الله عنْهُما - قال: رأى عمر بن الخطَّاب حلَّة سيراء - أي حرير - عند باب المسجِد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريْتها فلبسْتَها يوم الجمعة وللوفد، قال: ((إنَّما يلبسها مَن لا خَلاق له في الآخِرة))، ثمَّ جاءت حلل فأعْطى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عُمَر - منها حُلَّة، وقال: أكسوْتَنيها وقلت في حلَّة عُطَارِد ما قُلْت؟! فقال: ((إنِّي لم أكسُكها لتلبسها))، فكساها عمر أخًا له بمكَّة مشركًا؛ رواه البخاري ومسلم. وعلى هذا فالنساء الكتابيات من أهل الحرب اللاتي يتزوجن بالمسلمين لا يقعن تحت مفهوم من يحاد الله ورسوله الوارد في قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} (المجادلة 22) وذلك لضعفهن وقصورهن وتبعيتهن للأزواج , يقول تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم

يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحبّ المقسطين} (الممتحنة 8). وقد ذكر أهل العلم من المفسرين لهذه الآية أن المراد بها النساء والصبيان فبرهم وصلتهم غير محرّمة ما داموا بهذا الوصف, وإنما الذين نهانا الله عن موالاتهم هم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} (الممتحنة 9) ومن المعلوم أن المرأة الكتابية التي رضيت بالزواج من المسلم ودخلت تحت ولايته غير داخلة تحت من لا تصح موالاتهم في هذه الآية. وأما الرد على من قال (أننا قلنا أن الكافر المعين غير المحارب لا نبغضه فإن قاتلنا أبغضناه، وبالتالي أصبح الوصف المؤثّر هو غيرتنا على أنفسنا وليس لأجل ربنا وديننا) فالجواب أن هذا القول كلام عاطفي غير علمي إطلاقاً، ويُقال فيما لو أننا قلنا بجواز محبة الكافر المعين غير المحارب من دون دليل، لكن حينما نستدل بالنصوص الشرعية فلا وجه لمثل هذا الاعتراض، ولو أن مثل هذا الكلام العاطفي يستدل به مع وجود الدليل الشرعي على خلافه لصح أن يُقال لمن تزوج بكتابية: كيف تتزوج بامرأة كافرة يبغضها الله وتحسن عشرتها، وهي تسب الله بزعمها أن له ولداً، ولو أنها سبتك أو سبت أباك لطلقتها فكيف تكون غيرتك لأبيك أو نفسك ولا تكون غيرتك لله؟!! ومثله يُقال فيمن بر الكافر غير الحارب وبر والديه الكافرين وهذا مشروع بنص القرآن , فعلى هذا المذهب يتبين أن الكلام العاطفي لو أخذنا به لأمكن طرده في كثير مما نتفق على جوازه. وأجاب أصحاب هذا المذهب عن ما روى أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). ومارواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله، والحب في الله والبغض في الله).فقالوا أن ما قررناه لا يعني خلو قلب المؤمن من البغض في الله فهو لا يزال يبغض جميع الأعمال المخالفة للشرع ثم إن هذا الحديث لا ينص على بغض شخص الكافر, أو يُقال أن هذا الحديث دليل على وجوب بغض عموم الكفار وهذا خارج محل النزاع , وهذا النص عام ولا يمنع من تخصيصه بنصوص أخرى. وقالوا لمن قال (أن الاستدلال بمفهوم قوله تعالىِ}:إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {على جواز الموالاة أن ثمّة منطوق يُعارض هذا المفهوم في آيات عديدة، ومنها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فالجواب على ذلك: أن قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان) هو دليل على قطع مطلق الولاية الشاملة لجميع مفردات الولاية من تعظيم وإرث وخلة ومتابعة بين المؤمنين والكافرين ولو كانوا أقرباء وقيل إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد

الكفر فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب نهوا أن يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعاً في سكن البلاد والكفر ويدل على ذلك سبب النزول وهو الأظهر ومما يدل على ذلك أيضاً هو قوله تعالى بعد الآية السابقة} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {فعدم ذكر الأبناء والأزواج في آية النهي عن الولاية; لأن من شأن الإنسان أن يتابع في السكن ويتولى في الحرب من فوقه كالأب ومن هو مثله كالأخ دون من هو دونه كابنه وزوجه. وعلى هذا يكون المراد بالولاية في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء .... الآية) المراد بها والله أعلم هي المتابعة في سكن بلاد الكفر مع وجوب الهجرة المتعينة أو مطلق الولاية الشاملة لجميع مفرداتها من نصرة على الباطل ونحوها ثم إن الموالاة وإن كانت فرع عن المحبة وهي من لوازمها, إلا أن المولاة أشمل من الحب فليس كل من تحبه يعني أنك تواليه بل الموالاة هي قدر زائد على المحبة فالولاء والموالاة يعني المحبة المؤدية إلى الموافقة والنصرة والمتابعة على الدين ولا شك أن الموالاة تختلف معانيها حسب السياق, هذا والله تعالى أعلم. وأجاب أصحاب هذا المذهب على من اعترض عليهم مستدلاً بقوله تعالى} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {فهنا حصر الله عز وجل الولاية في الله ورسوله والمؤمنين دون غيرهم فأجابوا قائلين نعم من تجب موالاته مطلقاً هو المؤمن المقيم للصلاة المؤتي للزكاة وأما ما قررناه فهو موالاة جزئية وليست مطلقة. وقالوا لمن حاول التوفيق بين محبة الكافر محبة طبيعية وبغضه لدينه في ذات الوقت أن هذا مجرد جمع نظري والواقع يكذبه وأن المشكلة ليست في مجرد الجمع النظري بين المحبة الطبيعية والبغض الديني وإنما المشكلة هي في الجمع بين موجب الأمرين فمن موجبات البغض الديني عدم البدء بالسلام مثلاً وعدم المخالطة إلا إذا طمع في إسلام الكافر وإظهار البغض له ومقتضى البغض في الله أن يبعدوا عنهم ويهجروهم , وموجبات المحبة الطبيعية هي المخالطة والانجذاب والتبسط وهي موجبات تتعارض مع موجبات البغض في الله وإن قلنا أن البغض للدين والمحبة لغير الدين , وقالوا أن البغض والمحبة قد يجتمعان حينما يكون محل البغض يختلف عن محل المحبة فقد تحب أعمال الإنسان الموافقة للشرع وفي ذات الوقت تُبغض أعماله المخالفة للشرع وذلك لإنفكاك الجهة لكن محبة ذات الشخص المعينة وبغضها في ذات الوقت يستحيل عقلاً وهو ممتنع بل يجب أن يكون الغالب عليها المحبة أو البغض ولو كان سبب المحبة يختلف عن سبب البغض , فمن قال إنه يحب الزوجة الكتابية حباً طبعياً ويبغضها لأجل كفرها فمحصل قوله: أن الله يكلف عباده بما لا يطاق، بل يكلف عبادة بالمستحيل؛ لأن الحب يترتب عليه

القرب والتلذذ، والبغض يترتب عليه البعد والنفرة، ويستحيل الجمع بين هذين العملين المتناقضين؟! , وقد ورد في "حاشية العدوي" (1/ 273): "قَوْلُهُ: (وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُك) أَيْ: نَطْرَحُ مَوَدَّةَ الْعَابِدِ لِغَيْرِك، وَلا نُحِبُّ دِينَهُ وَلا نَمِيلُ إلَيْهِ. وَلا يُعْتَرَضُ هَذَا بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ لأَنَّ فِي تَزَوُّجِهَا مَيْلًا لَهَا لأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُرَادُ هُوَ بُغْضُ الدِّينِ اهـ. والخطأ الذي يقع فيه من قال بمثل هذا أنه لم يتصور أن الكفر وصف قائم بالذات، مثله مثل كل وصف مكروه كوصف البخل، أو الكذب، أو الفسق أو غيره، فالكره متوجه لذلك الوصف وليس للذات نفسها، فأنت تحب أباك حباً فطرياً لكن تكره فيه صفة البخل، أو صفة الفسق، أو صفة الكفر، وتحب زوجتك المسلمة لكن تكره فيها صفة سلاطة اللسان مثلاً، ويُقال مثل هذا في الزوجة الكافرة فأنت تحب زوجتك النصرانية وتكره فيها صفة الكفر لكن يستحيل أن يتوجه الحب والبغض للذات نفسها كما تقدم؛ فيستحيل أن تحب أباك وتبغضه في الوقت نفسه، ومثله أن تحب زوجتك وتبغضها وتنفر منها , وهنا سؤال: هل يمكن الجمع بين الإرادتين المتناقضتين في شخص واحد؟ هذا مستحيل لأن المتناقضين يرفع أحدهما الآخر فتحقق أحدهما ينافي تحقق الآخر، ومثله حب ذات المرأة، وكرهها يستحيل الجمع بينهما , لأنه إذا تحققت إحدى الإرادتين ارتفعت الأخرى بدليل أن القلب إذا أبغض أمر ما من وجه وأحبه من وجه آخر فلا بد من غلبة أحدهما على الآخر فلا يمكن أن يجتمعا إلا بحالة من الصراع النفسي والحرج فلذلك إذا تعاطى المريض الدواء دل ذلك على أنه ترجح لديه محبته وإذا جاهد المسلم دل ذلك على ترجيحه لمحبة الجهاد ومرضاة ربه ولكن المسلم المتزوج للكتابية كيف يرجح؟ إن رجح بغضها فلا يمكن أن يُبقيها في عصمته وسيطلقها لا محالة وإن أحبها سيعني أنه لن يبغض ذاتها ولو دينياً بل يبغض أعمالها المخالفة للشرع. وأما من استدل على إمكان الجمع بين بغض الزوجة الكافرة وحبها بقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة:216] وقال ((ونظير ذلك في الشرعيات أن القتال في سبيل الله يجتمع فيه كره طبيعي لما فيه من إيذاء النفوس، وحب شرعي لما فيه من الثواب العظيم، كما قال تعالى في الكراهية الطبيعية للقتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة:216] وقال تعالى في الحب الشرعي للقتال (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [التوبة:92]. فانظر كيف أخبر أنهم يكرهون القتال طبعاً، ثم تفيض عيونهم من الحزن إذا فاتهم القتال لحبهم إياه شرعاًَ وديانة!)) انتهى. فالجواب أن هذه الآية فيها الرد على مذهبهم، فهي على عكس مراد من استشهد بها تماماً؛ وذلك أن هذه الآية تقرر أن أصل الجهاد محبوب لنفس المؤمن لكن صفة المشقة فيه مكروهة، تماماً كما أن الزوجة الكافرة قد تكون محبوبة لزوجها المؤمن لكن صفة الكفر فيها مكروهة، فالكره الوارد في آية الجهاد متوجه لصفة المشقة لا للجهاد نفسه، ولهذا لو قيل للمؤمن: إنك ستجاهد من دون مشقة لكان محبوباً له من

كل وجه. وهذه الآية من أقوى الأدلة القاطعة على استحالة الجمع بين الحب والبغض لذات الشيء بل الحب متوجه للذات، والبغض متوجه لصفة من صفات الذات، كما قررنا أن من قال إن المسلم يحب زوجته الكافرة من وجه ويكرهها من وجه أنه تكليف بما لا يطاق. وقول المعترض ((إن الدواء يجتمع فيه الحب والبغض، فهو محبوب من وجه مبغوض من وجه، وهذا مثال يكرره أهل العلم كثيراً للتدليل على كيفية اجتماع الحب والبغض في شخص واحد.)) قلنا: لا يسلم له هذا، بل ذات الدواء مكروه للمريض أصلاً، ومحبته إنما لصفة من صفات الدواء وهي ما فيه من شفاء. ومثله قول المعترض ((وكذلك فإن كل نفس تجد في داخلها كراهية السجن كراهية طبيعية، ولكن لما كان فيه مصلحة شرعية ليوسف –عليه السلام- صار أحب إليه شرعاً وإن كان يبغضه طبعاً، كما قال تعالى عن يوسف (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33]))، وهذا أيضا دليل عليهم فذات السجن مكروه ليوسف، ومحبته ليست للسجن بل لأمر خارج السجن وهو البعد عن المرأة المغوية، فذات السجن مكروهة ليوسف من كل وجه، ولولا ما تعلق به من مصلحة ليست من السجن أصلاً لم يحبه. ومن الأدلة أيضاً على استحالة جمع بغض الزوجة الكافرة ومحبتها في القلب وأن من قرر ذلك فقد قرر أن الله يكلف بالمستحيل منها: الدليل الأول: من الواجب على الزوج العدل بين زوجاته، ومن لم يعدل فهو آثم وظالم ومرتكب لكبيرة من الكبائر، ولهذا قال تعالى ((فإن لم تستطيعوا أن تعدلوا فواحدة))، ومع هذا فقد جاء في الحديث ((عَنْ عَائِشَة " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِم بَيْن نِسَائِهِ فَيَعْدِل وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِك، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِك وَلَا أَمْلِك " قَالَ التِّرْمِذِيّ يَعْنِي بِهِ الْحُبّ وَالْمَوَدَّة، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَهْل الْعِلْم. فالحديث بجموع طرقه حسن لغيره، وعليه فالرجل المسلم قد يحب إحدى زوجتيه أكثر من الأخرى، والشاهد من ذلك كله هو أننا نقرر أن أمر الحب والبغض أمر بيد الله لا طاقة للعبد في التحكم به، ولا يكلف الله عباده ما لا يطيقون، ولهذا لا يعاقب العبد على ميله القلبي لبعض زوجاته مع أنه مأمور شرعاً بالعدل بينهن، ومثله المرأة الكافرة لا يكلف الله زوجها ببغضها وهو أمر لا طاقة له به، بل البغض متوجه لصفة الكفر فيها لا لها، ولو كان يستطيع التحكم بذلك البغض لوجب أن يعدل بين زوجاته في الحب لأن ترك العدل في المعاملة والجور كبيرة من الكبائر. الدليل الثاني: قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)) رواه مسلم قوله ((لايفرك)) أي: لا يبغض، والشاهد من الحديث أنه لا يمكن الجمع بين الحب والبغض، ولهذا نص على بغض خلق منها، وأرشده إلى الاكتفاء بكره هذا

الفريق الرابع

الخلق، والانتباه إلى الأخلاق الحسنة الأخرى فيها، كل ذلك خوفاً من أن يتعدى الأمر إلى بغض المرأة لأنه لا يمكن أن يبغضها ويحبها في وقت واحد. وعلى هذا يتيبن لنا أن البراء من المشركين ليس على مرتبة واحدة، بل هو مراتب متفاوتة، يتراوح بين قتالهم وهو أعلاها وبين بغض عملهم وهو أدناها، وبينهما مراتب كثيرة , وهذه المراتب تختلف بحسب اختلاف أصناف المشركين وحالهم فمودة الزوجة الكتابية أو الوالدين المشركين لا تتنافى مع بغض الكفر الذي هم فيه وقد قال ربُّنا عز وجل حكاية عن بعض أنبيائه: {إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ القَالِين}. أما محبَّة دين الزوجة الكتابية المحرَّف والميل إليه والإعجاب به فحرام شرعاً , كما علَّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن نقول: (ونخلع ونترك من يفجرك) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي, أي نطرح مودَّة العابد لغيرك, ولا نحبُّ سلوكه واعتقاده. وعليه فما تقدم إنما هو أدلة تُخرج الزوجة الكتابية والوالدين ونحوهما مما ورد فيه الدليل من البغض لذات الشخص وإنما يبغض دينه وعمله. وهذا المذهب الذي يظهر لي أنه الأقرب للصواب ومع ترجيحي لهذا المذهب فإني لا أسفه الآراء الأخرى؛ بل أحترم قولهم، وأرى أن لها وجهاً قوياً من النظر باستثناء القول الرابع الذي توسع في الترخص بمودة الكافر المسالم توسعاً فاحشاً يُخالف ظاهر نصوص الكاتب والسنة وظاهر مذهب السلف القائم على بغض الكافر ومنابذته إلا ما استثناه الشارع. الفريق الرابع: هنالك من أهل العلم من ذهب إلى أن الولاء المحرم هو الولاء لأهل الحرب من الكفار فقط دون المُسالمين منهم وأن موالاة الكافر المسالم الذي لا تخشى على نفسك من أن يضرك في دينك هي موالاة مكروهة ولا تصل إلى درجة التحريم حتى قال بعضهم بجواز صداقة الكافر المُسالم بإطلاق وقال بعضهم أن الموالاة هي نصرة أهل الحرب الكفار على المسلمين , واستدل بقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" وقوله "وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ" ووجه الاستدلال أن الله عز وجل وصف الكفار بأنهم أولياء بعض مع أنه لا يخفى على أحد بأن بين الكفار من البغضاء والتشاحن ما لا يُنكره أحد اطلع على أمورهم , كما قال تعالى عنهم " بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى" ومع ذلك لم يكن البغض بينهم مانعاً من أن يصفهم الله بأنهم أولياء وبالتالي هذا يدل على أن الموالاة لا تعني المحبة , بل الموالاة هي الحِلف والمناصرة فقط وعليه فهي خاصة بأهل الحرب , ولا تعني الحب كما يتوهم البعض , وقال بعضهم أن المحبة ليست شرطاً للولاء باستثناء ولاء العبد لربه فلا بد من وجود المحبة. وعلى هذا فالموالاة ليست هي الأخوة الإيمانية بل هي أخص , فهي خاصة بأهل الدار والدولة الواحدة ويدخل في هذه الولاية كل من انتسب إليها ولو كان ذمياً ولكن تكون ولاية ناقصة علماً بأن أهل الذمة الكفار هم الذين تولونا ونحن قبلنا وليس نحن من تولاهم , وهم تحت رايتنا وسلطاننا وليس العكس , والذي يدل على ما تقدم قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا

وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فالله عز وجل هنا نفى الولاية بين المؤمنين في دار الهجرة والمؤمنين في دار الحرب ومن المعلوم بأنه لم ينفي المحبة بينهم والأخوة. هذه جملة أقوال هذا الفريق , وهذا المذهب ضعيف بلا شك ويُخالف صريح قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) وقد تأول أصحاب هذا المذهب قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ... الآية) فقال أحدهم في معناها (فهو نهي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين الموصوفين بتلك الأوصاف على القول بأن قوله لا يألونكم ... إلخ نعوت للبطانة هي قيود للنهي، وكذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق للتعليل، فالمراد واحد، وهو أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر، وهو أنهم لا يألونهم خبالاً وإفساداً لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فهذا هو القيد الأول، والثاني قوله - عز وجل -: ودوا ما عنتم أي تمنوا عنتكم، أي وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة. والثالث والرابع قوله: قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر أي قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها ويعز عليهم إخفاؤها، على أن ما تخفي صدورهم منها أكبر مما يفيض على ألسنتهم من الدلائل عليه، ... ثم قال: وأنت ترى أن هذه الصفات التي وصف بها من نهي عن اتخاذهم بطانة لو فرض أن اتصف بها من هو موافق لك في الدين والجنس والنسب لما جاز لك أن تتخذه بطانة لك إن كنت تعقل، فما أعدل هذا القرآن الحكيم وما أعلى هديه وأسمى إرشاده! لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود فظنوا أن النهي عن المخالف في الدين مطلقاً، ولو جاء هذا النهي مطلقاً لما كان أمراً غريباً، ونحن نعلم أن الكافرين كانوا إلباً على المؤمنين في أول ظهور الإسلام إذ نزلت هذه الآيات ولا سيما اليهود الذين نزلت فيهم على رأي المحققين، ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود لأن الله - تعالى - وهو منزلها - يعلم ما يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة كما وقع من هؤلاء اليهود فإنهم بعد أن كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا فصاروا عوناً للمسلمين في بعض فتوحاتهم كفتح الأندلس وكذلك كان القبط عوناً للمسلمين على الروم في مصر فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على هؤلاء واحداً في كل زمان ومكان أبد الأبيد؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية. ولا تروي غلته الرواية .... ثم قال: ما أشبه هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصاراً وأولياء، إذ قيد بقوله - عز وجل -: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ... انتهى) , (قلتُ لو رجع هذا القائل لكلام أهل التفسير

المحققين لعلم أنه قد أبعد وذهب مذهباً بعيداً إلا أن الأمانة العلمية تلزم مني استيعاب الأقوال كلها ولو كان بعضها مرجوحاً). واستدل أصحاب هذا المذهب على ما ذهبوا إليه وهو جواز موالاة الكافر المسالم بمعظم أدلة الفريق الثاني والثالث التي سلفت. ومما استدلوا به قوله تعالى} لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {، قالوا ما كان من مشركي مكة هو الكفر بما جاء المسلمين من الحق وإخراج الرسول والمسلمين من ديارهم وهذه الصفات بمجموعها لا تنطبق إلا على المشركين من أهل مكة المحاربين ومجموعها هو علة النهي عن موادتهم وقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. (استئناف هو منطوق لمفهوم الأوصاف التي وصف بها العدو في قوله تعالى) وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم) وقوله) إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء)، المسوقة مساق التعليل للنهي عن اتخاذ عدو الله أولياء، استثنى الله أقواما من المشركين غير مضمرين العداوة للمسلمين وكان دينهم شديد المنافرة مع دين الإسلام. فإن نظرنا إلى وصف العدو من قوله) لا تتخذوا عدوي وعدوكم (وحملناه على حالة معاداة من خالفهم في الدين ونظرنا مع ذلك إلى وصف يخرجون الرسول وإياكم، كان مضمون قوله) لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخره، بياناً لمعنى العداوة المجعولة علة للنهي عن الموالاة وكان المعنى أن مناط النهي هو مجموع الصفات المذكورة لكل صفة على حيالها. وإن نظرنا إلى أن وصف العدو هو عدو الدين، أي مخالفه في نفسه مع ضميمة وصف وقد كفروا بما جاءكم من الحق، كان مضمون لا ينهاكم الله إلى آخره تخصيصا للنهي بخصوص أعداء الدين الذين لم يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم. وأياً ما كان فالمنهي عن موالاته هو الكافر المحارب دون غيره هذا وإن كان الكافر المسالم ُتكره موالاته وقالوا كذلك بأن قوله تعالى:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ {النهي عن الشيء بسبب من الأسباب لا يتناول من لم يتحقق فيهم، ولا ينافي زوال النهي بزوال سببه ولذلك قال تعالى بعد هذا النهي في هذه السورة " الممتحنة ": (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" فهذه الآيات نص صريح في كون النهي عن الولاية لأجل العداوة، وكون القوم حرباً، لا لأجل الخلاف في الدين لذاته. وقد أباح الله للمسلمين نكاح الكتابيات على ما فطر عليه القلوب من

حب الزوجية وقوله"وجعل بينكم مودة ورحمة" والمصاهرة إنما تكون بعد التحاب بين أهل الزوجين، والارتباط بينهما بروابط الائتلاف، وأقل ما فيها محبة الرجل لزوجته، وهي على غير دينه، قال تعالى "خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" والله يقول لخيار المؤمنين"ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم" ويقول محمد رشيد رضا بتصرف يسير مني في تفسير المنار عند قوله تعالى (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ عن حب آبائهم المشركين كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) , قال (الله عز وجل لم ينه المسلمين، بل حذرهم أن يكونوا أحب إليهم من الله ورسوله، وجهاد ما في سبيله ; لأن هذا لا يجتمع مع الإيمان الصحيح كذلك نهاهم في سورة المجادلة عن موادة من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم إذا كانت لأجل المحادة، كما يفيده ترتيب النهي على فعلها، فإن المودة هي المعاملة الحبية، والمحادة شدة العداوة والبغضاء، فاشتراك المؤمن المحب لله ورسوله مع المحاد لله ولرسوله في المودة المرتبة على صفتيهما جمع بين الضدين، فهو في معنى موالاتهم بل أخص منها ... انتهى). ومراده رحمه الله بكلامه أن المودة المنهي عنها إنها هي المودة لأجل ما هم عليه من المحادة لله ورسوله، فمثل هذه المودة لا تجتمع مع الإيمان، فلا يمكن أن يجتمع في قلب رجل واحد محبة الله ورسوله، مع محبة من يحاد الله ورسوله، بحيث يكون الباعث على هذه المحبة هو هذه المحادة، فهذان ضدان لا يجتمعان، بخلاف الجمع بين محبة الله ورسوله والمؤمنين محبة دينية شرعية، وبين محبة أعداء الله ورسوله والمؤمنين محبة جبلية بشرية. وقال محمد رشيد رضا رحم الله أيضاً في تفسيره المنار عن قوله تعالى "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون". (ولو كان معنى الركون في اللغة الميل اليسير مهما يكن نوعه كما زعم الزمخشري ومقلدوه، لكان هذا الوعيد الشديد على قليل منه على قلته في نفسه مما لا يمكن أن تراد به حقيقته ; لأنه أشد الوعيد على ما لا يستطيع بشر اتقاءه إلا بعصمة خاصة من الله - تعالى - كما سترى في تفسيرهم له، أما والحق ما قلناه، وهو أن الركون إلى الشخص أو الشيء هو الاعتماد عليه والاستناد إليه وجعله ركنا شديدا للراكن، فأجدر بقليله أن يتعذر اجتنابه على أكمل البشر إلا بالعصمة والتثبيت الخاص من الله عز وجل، فكيف ينهى جميع المؤمنين عن الميل اليسير إلى من وقع منه أي نوع من الظلم؟ لم يكن ميل النفس الطبعي من المؤمنين إلى أولادهم وأرحامهم المشركين الظالمين ولا البر بهم والإحسان إليهم محظورا عليهم ; لأنه ليس من الركون إليهم الخاص بالولاية لهم والاعتماد عليهم وهو المنهي عنه، ولا من الميل إليهم لأجل الظلم. ولما فعل حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - فعلته التي هي أقرب إلى الولاية الحربية منها إلى صلة الرحم كما تأولها، أنزل الله - تعالى - سورة الممتحنة التي نهى فيها عن ولاية المشركين الظالمين المقاتلين في الدين والمودة فيها وقال: -

حكم معاملة الكافر بما يدل على مودات القلوب

ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون وأذن بالبر والقسط لغيرهم منهم، ولا تنس ما ورد في الصحيح من نزول قوله - تعالى -: - إنك لا تهدي من أحببت في حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إسلام عمه أبي طالب الذي كفله في صغره، وكان يحميه ويناضل عنه في نبوته، واذكر قول السيدة خديجة - رضي الله عنها - له في حديث بدء الوحي: " كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل " إلخ. بل لم تكن الثقة ببعض المشركين والاعتماد عليهم في أهم الأعمال من الركون المنهي عنه، فقد وثق النبي - صلى الله عليه وسلم - والصديق الأكبر - رضي الله عنه - بمشرك من بني الديل وائتمناه على الراحلتين اللتين هاجرا عليهما ليوافيهما بهما في الغار بعد ثلاث، وكان المشركون الظالمون يبحثون عنهما، وقد جعلوا لمن يدلهم عليهما قدر ديتهما .. انتهى). حكم معاملة الكافر بما يدل على مودات القلوب: يجوز معاملة الكافر المعين بما يدل على مودات القلوب إذا كان ممن تجوز محبته طبيعياً ولا يجب بغض ذاته في الله , وأما الذي يجب بغضه في الله فلا يجوز معاملته بما يدل على مودات القلوب إلا على سبيل المداراة أو الدعوة إلى الله ولو كنت تحبه طبيعياً كما قال تعالى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) فالله عز وجل أقر هنا بوجود الإعجاب من غير نكير , ولكن لم يُقر الله الانسياق وراء هذا الإعجاب. وللعلم لا خلاف على اجتماع ما جُبلت عليه النفس مع ما وجب عليها شرعاً بنقيضه , ولكن الخلاف هل يجوز إلقاء الحب الجبلي لهذا المحبوب أو ذاك , مع النهي عن إلقاء المودة والمحبة للكافر؟ والشرع رخص لنا في البر والإحسان ولم يرخص في إلقاء المودة لعموم الكفار كما نص على ذلك بقوله تعالى (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) وثرب على المسلمين عندما ألقوا بالمحبة لأعداء الله وإن كانت لغير دينهم , ونص جل وعز على تعبير المحبة فقال جل شأنه (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (ومن المؤكد أن محبتهم ليست لدينهم , فالنصوص متكاثرة ومتظافرة في النهي عن إلقاء المودة والمحبة لعموم الكفار ولو كانت طبيعية. حكم مودة الكافر للمؤمن: تجوز مودة الكافر للمؤمن ولا يُلام المسلم على ذلك إذا لم يكن سبب هذه المودة سبب محرم وقد كان أبو طالب يحب النبي صلى الله عليه وسلم. حكم طلب مودة الكفار غير المحاربين: طلب مودة الكفار غير المحاربين واستدعاؤها بسبب شرعي جائز بلا شك كالهدية وحسن التعامل ونحوهما , هذا وإن كان يندر أن يحبك الكفار وأنت تقيم فيهم الشريعة كما ينبغي لقوله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ولكن إذا أحبوك بسبب شرعي فلا تثريب عليك , والشيخ ابن عثيمين رحمه الله يوافق هذا الحكم في أحد شروحه وإن كان له أكثر من مذهب في هذه المسألة

الخاتمة

وقد قال رحمه الله في حكم طلب مودة الكفار في شرحه للأربعين النووية ما نصه (أن الإنسان لا حرج عليه أن يطلب محبة الناس، أي أن يحبوه، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً حتى نقول: لا حرج عليه أن يطلب محبة الكفار له، لأن الله عزّ وجل قال: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) ومن المعلوم أنه إذا برهم بالهدايا أو الصدقات فسوف يحبونه، أو عدل فيهم فسوف يحبونه، والمحذور أن تحبهم أنت، ولهذا جاء في الحديث وإن كان ضعيفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل على البلد قال: "اللَّهمَّ حَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحبَب صَالِحي أَهْلِهَا إِلَينَا"، فلما أراد المحبة الصادرة منه قال: "صَالِحي أَهْلِهَا" ولما أراد المحبة الصادرة من الناس قال: حَبِّبنَا إِلَى أَهْلِهَا مطلقاً ... انتهى). قلتُ ومما يُستدل به في هذه المسألة قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى). ختاماً: هذا ما من الله به، ثم ما وسعه الجهد، وسمح به الوقت، وتوصل إليه الفهم المتواضع، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن فيه خطأ أو نقص فتلك سنة الله في بني الإنسان، فالكمال لله وحده، والنقص والقصور واختلاف وجهات النظر من صفات الجنس البشري، ولا أدعي الكمال، وحسبي أني قد حاولت التسديد والمقاربة، وبذلت الجهد ما استطعت بتوفيق الله - تعالى-، وأسأل الله أن ينفعني بذلك، وينفع به جميع المسلمين؛ فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قائمة ببعض مراجع هذه الرسالة - القرآن الكريم. - كتب الصحاح والسنن والمسانيد. - تفسير الإمام الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن ". - تفسير ابن كثير. - تفسير البغوي: معالم التنزيل. - تفسير الإمام ابن الجوزي "زاد المسير في علم التفسير. - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية. - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للمؤلف: محمد بن علي بن محمد الشوكاني رحمه الله. - تفسير الإمام القرطبي المالكي (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان). - أحكام القرآن لابن العربي. - أحكام القرآن للجصاص. - تفسير الجلالين. - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله. - تفسير التحرير والتنوير للمؤلف: محمد الطاهر بن عاشور. - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي. - تفسير المنار للمؤلف: محمد رشيد رضا. - فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني. - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للإمام النووي. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر رحمه الله. - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار لابن عبد البر رحمه الله. - سبل السلام في شرح بلوغ المرام للصنعاني رحمه الله. - تطريز رياض الصالحين للمؤلف: فيصل بن عبد العزيز آل مبارك رحمه الله. - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لابن علان الصديقى. - غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني. - الآداب الشرعية للمؤلف: عبد الله بن محمد بن مفلح المقدسي رحمه الله. - المغني لا بن قدامة.

- المجموع للنووي. - روضة الطالبين للنووي. - المفصل في شرح آية الولاء والبراء للمؤلف: علي بن نايف الشحود حفظه الله. - مقالات منشورة على النت للدكتور سليمان الضحيان الكاتب والأكاديمي في جامعة القصيم. - مقالات منشورة على النت للدكتور بندر الشويقي حفظه الله. - مقالات منشورة على النت للدكتور إبراهيم السكران حفظه الله. - الولاء والبراء تأليف: مها البنيان رحمها الله. - أصول وضوابط في مجانبة الكافرين للمؤلف: ناصر العقل حفظه الله. - الموالاة والمعاداة عند أهل السنة والجماعة للمؤلف: عبد الله بن عبد الحميد الأثري حفظه الله. - من مفاهيم عقيدة السلف الصالح: الولاء والبراء في الإسلام للمؤلف: محمد بن سعيد القحطاني حفظه الله. - حقيقة الولاء والبراء في الكتاب والسنة بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وبراءة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الطائفتين للمؤلف عصام السناني حفظه الله. - الولاء والبراء بين الغلو والجفاء في ضوء الكتاب والسنة للمؤلف: الشريف حاتم بن عارف العوني حفظه الله. - الحب والبغض في الله في ضوء الكتاب والسنة للمؤلف: سليم بن عيد الهلالي حفظه الله. - أصول الفقه للمؤلف: عياض بن نامي السلمي وسعد بن ناصر الشثري حفظهم الله. - شرح ابن عثيمين رحمه الله لمقدمة التفسير لا بن تيمية رحمه الله. - الأصول من علم الأصول للمؤلف: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله. - الواضح في أصول الفقه للمؤلف: محمد الأشقر حفظه الله. - رسالة في القواعد الفقهية للمؤلف: عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله. - فتاوى سليمان الماجد حفظه الله. - فتاوى ابن باز رحمه الله. - مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله. - فتاوى ابن عثيمين رحمه الله. - فتاوى اللجنة الدائمة. - مركز الفتوى من موقع إسلام ويب.

- دروس في شرح نواقض الإسلام للمؤلف: صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله. - الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للمؤلف: صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله. - قاعدة جامعة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادة واستعانة للمؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله. - بحث منشور على النت عن الفسق (تعريفه وأحكامه وضوابطه) من إعداد أبو عبد الله الساحلي حفظه الله. - الفسق وأحكامه في الفسق الإسلامي للمؤلف: بسام بن محمد صهيوني. - التكفير وضوابطه للمؤلف: إبراهيم الرحيلي حفظه الله. - الانترنت وبعض المصادر الأخرى التي لم يتيسر لي استحضارها.

§1/1