بر الوالدين
سعيد بن وهف القحطاني
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في ((بر الوالدين)) بيَّنت فيها: مفهوم بر الوالدين، لغة واصطلاحاً، ومفهوم عقوق الوالدين لغة واصطلاحاً، ثم ذكرت الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب بر الوالدين، وتحريم عقوقهما، ثم ذكرت أنواع البر التي يوصل بها الوالدان بعد موتهما.
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كلَّ من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف: أبو عبد الرحمن حرر بعد عصر يوم الخميس الموافق 2/ 5/1426هـ بالرياض
أولا: مفهوم بر الوالدين
أولاً: مفهوم بر الوالدين لغة واصطلاحاً: لغة: البرُّ: الخير والفضل، يقال: بَرَّ الرجلُ، يَبَرُّ بِرًّا، وِزان: علِمَ يعلم علماً، فهو بَرٌّ، وبَارٌّ: أي صادقٌ أو تقيٌّ، وهو خلاف الفاجر، وجمع البر: أبرار, وجمع البار: بررة، مثل: كافرٌ, وكفرةٌ. وبَرِرْتُ والدي، أبرَّرُهُ، بِرًّا: أحسنت الطاعة إليه، ورفقت به، وتحرَّيتُ محابّه، وتوقَّيتُ مكارهه (¬1). والبرُّ: ضد العقوق (¬2). قال ابن الأثير رحمه الله: ((البِرُّ بالكسر الإحسان، ومنه الحديث في بر الوالدين: وهو في حقهما وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق: وهو الإساءة إليهم والتضييع لحقهم)) (¬3). والبر: اسم ¬
اصطلاحا
جامع للخير وأصله الطاعة (¬1). اصطلاحاً: بر الوالدين: الإحسان إليهما (¬2) [بالقلب، والقول، والفعل تقرباً لله تعالى]. ثانياً: مفهوم عقوق الوالدين لغة واصطلاحاً: لغة: عَقَّ، يَعُقُّ عقوقاً: العقُّ: الشقُّ، يقال: عقَّ ثوبه، كما يقال: شقَّ ثوبه، ومنه يقال: عقَّ الولدُ أباه، [وعقَّ أمه]، من باب قَعَد: إذا عصاه وترك الإحسان إليه, فهو عاقٌّ، والجمع: عققةٌ (¬3). ويقال: عقَّ والده يعُقُّ، عقوقاً ومعقة على وزن مشقة، وجمع عاق: عققة، ككافر وكفرة (¬4). قال ابن الأثير رحمه الله: ((يقال: عق والده يعقُّه عقوقاً، فهو عاقٌّ: إذا آذاه وعصاه، وخرج عليه، وهو ¬
اصطلاحا
ضِدُّ البِرِّ به، وأصله من العقِّ: الشقِّ والقطع)) (¬1). ويقال: عق أباه، وعقوقاً، ومعقةً: استخف به وعصاه وترك الإحسان إليه (¬2). مفهوم عقوق الوالدين اصطلاحاً: هو إغضابهما بترك الإحسان إليهما (¬3). وقيل: عقوق الوالدين: كل فعل يتأذَّى به الوالدان تأذياً ليس بالهيِّن، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة (¬4). وقيل: عقوق الوالدين: ما يتأذَّى به الوالدان من ولدهما: من قولٍ، أو فعلٍ، إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالدان (¬5). ¬
ثالثا: بر الوالدين من أهم المهمات
والأقرب أن يقال: عقوق الوالدين: كل قول أو فعل، أو تركٍ يتأذَّى به الوالدان. ثالثاً: بر الوالدين من أهم المهمات، وأعظم القربات، وأجلِّ الطاعات، وأوجب الواجبات، وعقوقهما من أكبر الكبائر، وأقبح الجرائم، وأبشع المهلكات؛ للأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة على النحو الآتي: 1 - قرن الله حق الوالدين والإحسان إليهما بعبادته سبحانه وتعالى, كما قرن شكرهما بشكره؛ لأنه الخالق وحده، وقد جعل الوالدين السبب الظاهر في وجود الولد، وهذا يدل على شدة تأكد حقهما والإحسان إليهما: قولاً, وفعلاً؛ لأن لهما من المحبة للولد والإحسان إليه في حال صغره وضعفه ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر، وتحريم أدنى مراتب الأذى: وهو التضجر أو التأفف من خدمتهما،
2 - بر الوالدين أفضل من الجهاد
وزجرهما بالكلمة العالية، أو نفض اليد عليهما، وقد جاء حق الوالدين مقروناً بعبادة الله عز وجل في آيات كثيرة (¬1)، منها قوله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬2). وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬3). وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬4). وقال عز وجل: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (¬5). 2 - بر الوالدين أفضل من الجهاد، وأعلا مراتب الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لحديث عبد الله بن ¬
عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)). وفي لفظ لمسلم: أقبل رجل إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: ((فهل من والديك أحدٌ حيٌّ؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((تبتغي الأجر من الله؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) (¬1). قال ابن حجر رحمه الله: ((أي إن كان لك أبوان فبالغ جهدك في برهما والإحسان إليهما؛ فإن ذلك يقوم مقام الجهاد)) (¬2)؛ لأن المراد بالجهاد في الوالدين: بذل الجهد, والوسع, والطاقة في برهما؛ ¬
3 - بر الوالدين: أفضل الأعمال
ولأهمية ذلك بين العلماء أنه لا يجوز الخروج للجهاد إلا بإذن الأبوين بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، فإن تعين الجهاد وكان فرض عين فلا إذن؛ لأن الجهاد أصبح فرضاً على الجميع: إما باستنفار الإمام، أو هجوم العدوِّ على البلاد، أو حضور الصف (¬1). 3 - بر الوالدين: أفضل الأعمال، وأقرب الأعمال إلى الجنة، وأحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الصلاة, التي هي أعظم دعائم الإسلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك ورتبه بـ (ثم) التي تعطي الترتيب والمهلة (¬2) , فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيُّ العَمَلِ أفضل؟ قال: ¬
4 - بر الوالدين يرضي الرب عز وجل
((الصلاةُ لوقتها)) قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: ((ثم بر الوالدين))، قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) (¬1). حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو استزدته لزادني. وفي لفظ: أيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها ... )) الحديث (¬2). وفي لفظ: أيُّ الأعمال أقرب إلى الجنة؟ قال: ((الصلاة على مواقيتها ... )) (¬3). 4 - بر الوالدين يرضي الرب عز وجل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) (¬4). ¬
5 - بر الوالدين يدخل الجنة
5 - بر الوالدين يدخل الجنة، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه)) (¬1). وعن معاوية بن جاهمة رضي الله عنهما أن جاهمة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أردت أن أغزوَ وقد جئت أستشيرك فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((هل لك من أمٍّ؟)) قال: نعم. قال: ((فالزمها؛ فإن الجنة تحت (¬2) رجليها)) (¬3). ولفظ الطبراني: ((ألك ¬
6 - دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من لم يبر والديه عند الكبر
والدان؟)) قلت: نعم. قال: ((الزمهما؛ فإن الجنة تحت أرجُلِهما)) (¬1). 6 - دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من لم يبر والديه عند الكبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رَغِمَ أنْفُهُ (¬2) , ثم رَغم أنفه، ثم رغم أنفه)) قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر: أحَدَهُما, أو كليهما ثم لم يدخل ¬
الجنة)) (¬1). قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((وهذا دعاء مؤكد على من قصَّر في بر أبويه، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه: صرعه الله لأنفه فأهلكه، وهذا إنما يكون في حق من لم يقم بما يجب عليه من برهما. وثانيهما: أن يكون معناه: أذله الله؛ لأن من ألصق أنفه - الذي هو أشرف أعضاء الوجه - بالتراب - الذي هو موطئ الأقدام وأخس الأشياء - فقد انتهى من الذُّل إلى الغاية القصوى, وهذا يصلح أن يدعى به على من فرَّط في متأكدات المندوبات, ويصلح لمن فرط في الواجبات، وهو الظاهر، وتخصيصه عند الكبر بالذكر - وإن كان ¬
برهما واجباً على كل حال - إنما كان ذلك لشدة حاجتهما إليه؛ ولضعفهما عن القيام بكثير من مصالحهما، فيبادر الولد اغتنام فرصة برهما؛ لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك)) (¬1). وقد خص الله حالة الكبر للوالدين بمزيد من الأمر بالإحسان، والبر، واللطف، والشفقة والرحمة؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره؛ لتغير الحال عليهما بالضعف، والكبر، فألزم سبحانه وتعالى في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلًّا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه؛ ولهذا خص هذه الحالة بالذكر، وأيضاً فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل، ويكثر الضجر، فيظهر غضبه ¬
على أبويه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما لقلة دينه وضعف بصيرته، وأقل المكروه ما يظهر بتنفسه المتردد من الضجر، وقد أمر الله أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة وهو السالم عن كل عيب (¬1)، فقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (¬2). وأمره الله عز وجل أن يتواضع لهما ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة احتساباً للأجر, لا للخوف منهما، وأمره عز وجل أن يدعو لهما بالرحمة: أحياءً, وأمواتاً، جزاءً على تربيتهم وإحسانهم، فقال عز وجل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬3). ¬
7 - بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يجزي الولد والده
7 - بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يجزي الولد والده، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجزي ولدٌ والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) (¬1). وعن أبي بردة أنه شهد ابن عمر رضي الله عنهما، ورجل يماني يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره يقول: إني لها بعيرها المذلل ... إن أُذعرت ركابها لم أذعر ثم قال: يا ابن عمر، أتُراني جزيتها؟ قال: ((لا، ولا بزفرة واحدة)) (¬2). 8 - بر الوالدين أقرب الأعمال إلى الله عز وجل؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه أتاه رجلٌ ¬
9 - لين الكلام للوالدين يدخل الجنة
فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنْكِحَني وخطبها غيري فأحبت أن تَنكِحَهُ، فَغِرْتُ عليها فقتلتُها، فهل لي من توبةٍ؟ قال: أُمُّك حيَّةٌ؟ قال: لا، قال: تبْ إلى الله عز وجل, وتقرَّب إليه ما استطعت. [قال عطاء بن يسار] فذهبت فسألت ابن عباس: لِمَ سألتَهُ عن حياة أمه؟ فقال: ((إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله تعالى من بِرِّ الوالدة)) (¬1). 9 - لين الكلام للوالدين يدخل الجنة؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما لرجل أصاب ذنوباً, وذكرها لابن عمر، فقال له ابن عمر: ((ليست هذه من الكبائر))، ثم قال ابن عمر رضي الله عنهما عن الكبائر: ((هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، ¬
10 - من بر الوالدين إدخال السرور عليهما
وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد، والذي يستسخر (¬1)، وبكاء الوالدين من العقوق)). ثم قال ابن عمر: ((أحي والدك؟)) قال الرجل: عندي أمي، قال ابن عمر: ((فوالله لو ألنت لها الكلام, وأطعمتها الطعام, لتدخلنَّ الجنة ما اجتنبت الكبائر)) (¬2). 10 - من بر الوالدين إدخال السرور عليهما؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: ((ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما)) (¬3). ¬
11 - من بر الوالدين والإحسان إليهما أن لا يتعرض لسبهما
11 - من بر الوالدين والإحسان إليهما أن لا يتعرض لسبهما، ولا يعقهما, ولا يكون سبباً في شتمهما، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله، هل يشتم الرجل والديه؟! قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) (¬1). ولفظ أبي داود: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يلعن أبا الرجل فيلعن أباه، ويلعن أمه فيلعن أمه)). ¬
12 - بر الوالدين وإن كان فرضا فإنه يتفاوت في الأحقية
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً (¬1)، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غيَّر منار الأرض)) (¬2). 12 - بر الوالدين وإن كان فرضاً فإنه يتفاوت في الأحقية، فالأم عانت صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية، فهذه ثلاث منازل تمتاز بها الأم (¬3)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ (¬4) قال: ¬
13 - من تمام البر صلة أهل ود الوالدين
((أمك)) قال: ثم مَنْ؟ قال: ((أمك)) قال: ثم مَن؟ قال: ((أمك))، قال: ثم مَن؟ قال: ((ثم أبوك)) (¬1). وفي رواية لمسلم: ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك, ثم أدناك أدناك)) (¬2). 13 - من تمام البر صلة أهل وُدّ الوالدين، فعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال عبد الله بن دينار: أصلحك الله إنهم الأعراب, وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن ¬
14 - بر الوالدين لا يختص بأن يكونا مسلمين
الخطاب, وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أبرَّ البرِّ صلةُ الولد أهلَ وُِدِّ أبيه)) (¬1). ومن الأعمال الطيبة المباركة التي يُوصَلُ بها الوالدان بعد موتهما: الصلاةعليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما (¬2). 14 - بر الوالدين لا يختص بأن يكونا مسلمين، بل حتى ولو كانا كافرين، يبرهما ويحسن إليهما, قال الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (¬3). ¬
15 - من عظم حقهما قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقوقهما بالشرك بالله عز وجل
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أتتني أمِّي راغبةً (¬1) في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أأصلها؟ قال: ((نعم)) قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} (¬2). ومن أعظم البر دعوتهما إلى الله عز وجل وتعليمهما ما ينفعهما؛ لأنهما أحق الناس بالتوجيه مع الرفق والرحمة. 15 - من عظم حقهما قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقوقهما بالشرك بالله عز وجل، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ¬
ثلاثاً. قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وجلس وكان متكئاً, فقال: ((ألا وقول الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت (¬1). وعن عمير بن قتادة الليثي، أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ فقال: ((هن تسع ... فذكر معناه [أي معنى حديث أبي هريرة المتفق عليه في السبع الموبقات] (¬2) وزاد: ((وعقوق الوالدين، ¬
واستحلال البيت الحرام: قبلتكم أحياءً, وأمواتاً)) (¬1). وعن أنس رضي الله عنه قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكبائر قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور)) (¬2). وعن المغيرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات, ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكره لكم: قيل وقال, وكثرة السؤال, وإضاعة المال)) (¬3). ¬
16 - من بر الوالدين الاعتراف بفضلهما والدعاء لهما
16 - من بر الوالدين الاعتراف بفضلهما والدعاء لهما، فعن أبي مرة مولى أمِّ هانئ بنت أبي طالب: ((أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بـ[العقيق] فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليكِ السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه يا أمَّتاه! تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رحمكِ اللهُ كما ربيتيني صغيراً، فتقول: يا بُنيَّ! وأنت، فجزاك الله خيراً ورضي عنك كما بررتني كبيراً)) (¬1). 17 - بر الوالدين وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتسع: ((لا تشرك بالله شيئاً وإن قُطِّعتَ أو حُرِّقت، ولا تتركنّ الصلاة المكتوبة ¬
متعمداً, ومن تركها متعمِّداً برئت منه الذمة (¬1)، ولا تشربنَّ الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر، وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك، فاخرج لهما، ولا تُنازعنَّ ولاة الأمر, وإن رأيت أنك أنت (¬2)، ولا تفرَّ من الزحف وإن هلكت وفرَّ أصحابك، وأنفق من طولك (¬3) على أهلك، ولا ترفع عصاك عن أهلك (¬4) ¬
18 - ولعظم حق الوالدين كان الولد وما ملك لوالده
وأخفهم في الله عز وجل)) (¬1). 18 - ولعظم حق الوالدين كان الولد وما ملك لوالده؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً, وإن والدي يجتاحُ مالي (¬2)؟ قال: ((أنت ومالك لوالدك؛ فإن أولادكم من أطيب كسبكم, فكلوا من كسب أولادكم)). وفي لفظٍ لابن ماجه: إن أبي اجتاح مالي، فقال: ((أنت ومالك ¬
19 - دعوة الوالدين مستجابة
لأبيك)) (¬1). 19 - دعوة الوالدين مستجابة. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً عابداً، وكان في صومعة له، فأتته أمه وهو يصلي, فقالت: يا جريج أنا أمك كلمني، فقال: يا ربِّ أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثاني كذلك فأقبل على صلاته، وفي اليوم الثالث أتته، فقال: ربِّ أمِّي وصلاتي فأقبل على صلاته، قالت: ((اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات)) فاستجاب الله دعاءَها فبهتته بغي من بني إسرائيل حامل من الزنا، وقالت: هو الذي فعل بها، فعذب وهدمت صومعته، وأخيراً أنجاه الله بعد العقوبة العاجلة (¬2). ¬
20 - أكرم الله من برهما بإجابة دعواته
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنَّ: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)) (¬1). 20 - ولعظم حقهما أكرم الله من برهما بإجابة دعواته، ومن ذلك حديث الثلاثة الذين انحدرت عليهم صخرة عظيمة, فأغلقت عليهم باب الغار؛ فإن منهم رجلاً كان برًّا بوالديه، فتوسل بذلك العمل الصالح فاستجاب الله دعاءه (¬2). ¬
21 - حرم الله الجنة على من عقهما
ومن ذلك إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل التابعين, وأنه لو أقسم على الله لأبره، والسبب أن له والدة هو بها برٌّ (¬1). 21 - ولعظم حق الوالدين حرم الله الجنة على من عقهما؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة قد حرَّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاقُّ, والديُّوثُ الذي يقر في أهله الخبث)) (¬2). 22 - ولعظم حق الوالدين أن الله لا ينظر إلى من ¬
23 - ولعظم حق الوالدة جعل الله الخالة بمنزلتها عند فقدها
عقَّ والديه يوم القيامة؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم عز وجل يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنَّان بما أعطى)) (¬1). 23 - ولعظم حق الوالدة جعل الله الخالة بمنزلتها عند فقدها؛ لحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الخالة بمنزلة الأم)) (¬2)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ قال: ((هل لك ¬
رابعا: أنواع البر التي يوصل بها الوالدان بعد موتهما
من أمٍّ؟)) قال: لا، قال: ((هل لك من خالةٍ؟)) قال: نعم، قال: ((فَبِرَّها)) (¬1). رابعاً: أنواع البر التي يوصل بها الوالدان بعد موتهما، كثيرة متنوعة، ولكن منها على سبيل المثال ما يأتي: 1 - الاستغفار لهما؛ لقول الله تعالى ذاكراً دعاء إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬2). وقال تعالى ذاكراً دعاء نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (¬3)؛ ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليرفع الدرجة ¬
2 - الدعاء لهما
للعبد الصالح في الجنة, فيقول: يا ربّ أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك)) (¬1). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ((ترفع للميت بعد موته درجتُه، فيقول: أي ربِّ أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك يستغفر لك)) (¬2). 2 - الدعاء لهما؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)) (¬3). 3 - قضاء الدين عنهما؛ لحديث أبي هريرة ¬
4 - قضاء النذور عنهما
رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نفس المؤمن معلقة بدَينه, حتى يقضى عنه)) (¬1). ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين)) (¬2). 4 - قضاء النذور عنهما: كنذر الصيام، والحج أو العمرة، أو غير ذلك مما تدخله النيابة. 5 - قضاء الكفارات عنهما: ككفارة اليمين، وكفارة قتل الخطأ، وغير ذلك؛ لدخول هذه الواجبات في قوله في حديث ابن عباس رضي الله ¬
6 - تنفيذ وصيتهما
عنهما، وفيه: أن امرأة نذرت أن تصوم شهراً، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إما أختها أو ابنتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: ((أرأيتك لو كان عليها دَين كنتِ تقضينه؟)) قالت: نعم، قال: ((فدَين الله أحقُّ أن يقضى)) (¬1). فكل الديون لله تعالى الواجبة: من الكفارات، والنذور، وفرض الحج والعمرة، والصوم، تدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: ((فدين الله أحق أن يقضى)). 6 - تنفيذ وصيتهما إن كان لهما وصية، الثلث فأقل؛ وإنفاذ الوصية واجب، والإسراع بالتنفيذ: إما واجب أو مستحب، فإن كانت في واجب فللإسراع في إبراء الذمة، وإن كانت في تطوع؛ فللإسراع في الأجر لهما، وينبغي أن تنفذ قبل الدفن. ¬
7 - قضاء صيام الفرض من رمضان عنهما
7 - قضاء صيام الفرض من رمضان عنهما؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة رضي الله عنها: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه)) (¬1). 8 - صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما؛ لحديث أبي بردة رضي الله عنه قال: ((قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر، فقال: أتدري لِمَ أتيتك؟ قال: قلت: لا، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده)) وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاءٌ ووُدٌّ، فأحببت أن أصل ذاك)) (¬2). ¬
9 - إكرام صديقهما
9 - إكرام صديقهما من بعدهما؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن أبرَّ البر صلةُ الولدِ أهلَ وُدِّ أبيه)) (¬1). وإذا كان من الإحسان إلى الميت الإحسان إلى أصدقائه, فالوالد والوالدة أولى بذلك الإحسان بعد موتهما؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأةٍ من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرتُ على خديجة؛ لكثرة ذكره إيَّاها، وما رأيتُها قط، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذبح الشاة، يقول: ((أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة)) فأغْضَبْتُهُ يوماً فقلتُ: خديجة؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((قد رُزقتُ حبَّهَا)) وفي لفظ: (( ... وإن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها)) (¬2). ¬
10 - الصدقة عنهما
10 - الصدقة عنهما؛ لحديث سعد بن عبادة رضي الله عنه، أن أمه توفيت، فقال: يا رسول الله! إن أُمي تُوفِّيتْ وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: ((نعم)) قال: فإني أشهِدُك أن حائطي المخراف (¬1) صدقةٌ عليها)) (¬2). فبر الوالدين يكون في حياتهما وبعد موتهما، فمن فاته الإحسان إلى والديه في حياتهما فقد جعل الله له ذلك بعد موتهما، سواء كان ذلك بالصدقة عليهما، أو الاستغفار، والدعاء، وقضاء الديون، والنذور، والكفارات، أو إنفاذ عهدهما من بعدهما، أو صلة الرحم التي لا ¬
توصل إلا بهما، أو صلة أهل ودِّهما، أو غير ذلك من أنواع البر والإحسان إليهما. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.