بريق المواعظ المنبرية

صالح المغامسي

[1]

سلسلة بريق المواعظ المنبرية من رحاب مسجد قباء [1] عرض الخطبة الأولى: إن من الموضوعات التي تطرق إليها القرآن الكريم: موضوع القصص القرآني، والتي جعل من أهدافها: تثبيت قلب رسول الله، وتسليته ورفع النصب عنه صلى الله عليه وسلم، ومن جملة هذه القصص: قصة موسى عليه السلام مع الخضر، وهي من أجمل قصص القرآن الكريم، وفيها فوائد جمة، ومعان غزيرة، يجدر بطالب العلم قبل الشخص العادي أن يفقهها، وأن يطبقها عملياً في واقع حياته.

قصة موسى عليه السلام مع الخضر

قصة موسى عليه السلام مع الخضر الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه كما وحد الله وعرفه ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله! فإن تقوى الله جل وعلا أزكى العطايا وأعظم الوصايا، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، فما فاز ولا سعد إلا أهلها، وما تقرب إلى الله جل وعلا بشيء مثلها. ثم اعلموا -عباد الله- أن القصص القرآني هو الأسمى في أسلوبه، والأبلغ في عظاته، وهو قطعاً الأصدق في أخباره، ومما قصه الله جل وعلا في كتابه العظيم على نبيه الكريم صلوات الله وسلامه عليه: نبأ موسى والخضر عليهما السلام، فذكر الله جل وعلا فيه رحلة موسى إلى الخضر وما كان في ذلك الأمر من غرائب الأخبار، وعظيم العظات، وجلائل الآثار، والقرآن أعظم هاد هدي به العباد، أنزله الله جل وعلا على خير خلقه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، والمتأمل فيه إنما ينجم عن تأمله العلم البين، والهداية الحقة، والإرشاد المستقيم إلى طريق الله جل وعلا.

ذكر سبب هذه القصة، وأهمية العلم إلى الله عز وجل

ذكر سبب هذه القصة، وأهمية العلم إلى الله عز وجل أيها المؤمنون! جاءت السنة تحدث عن هذا الخضر كما في البخاري وغيره من حديث ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما، وأصل الأمر أن موسى عليه السلام وقف خطيباً في بني إسرائيل يعظهم ويذكرهم، فلما رقت القلوب، وذرفت العيون، وخرج عنهم تبعه رجل من بني إسرائيل فقال: أي نبي الله! هل أحد في الأرض أعلم منك؟ فنسي موسى أن يرد العلم إلى الله فقال: لا، فأوحى الله جل وعلا إليه: أن لي عبداً هو أعلم منك، قال: أي رب كيف لي به؟ فأمره الله أن يأخذ حوتاً في مكتل فحيثما فقد الحوت فثم هو، أي: فهو هناك، فأخذ معه فتاه يوشع بن نون، وأخذ حوتاً في مكتل وتوجه صوب ما أمره الله جل وعلا حتى بلغ مجمع البحرين، فأخذ موسى غفوة ليستريح وبقي يوشع الفتى يراقب الحوت، فإذا بالحوت يخرج من المكتل بقدر الله وينزل في البحر، ثم يضرب الله جل وعلا عليه مثل الطاب حتى لا يعبر ولا يتحرك، فعزم يوشع على أن يخبر موسى إذا استيقظ، فلما استيقظ موسى نسي الفتى أن يخبره فمضيا في سفرهما حتى أصاب موسى النصب والتعب فقال للفتى: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، وهنا تذكر الفتى خبر الحوت فقال: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف:63]، فقال كليم الله وصفيه: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64]، فلم يثربه ولم يلمه؛ لأن الخطأ وقع من الفتى نسياناً، وكم تحت أيدينا اليوم من الأجراء والعمال والخدم والزوجات والأبناء، ومن كتب الله لنا عليهم الولاية يقع منهم الخطأ والنسيان، فينبغي لمن يهتدي بهدي الأنبياء ألا يثرب على كل أمر، وألا يحاسب على كل خطأ، وإن أراد أن يحزم حيناً فليكن حزمه في غير تعنيف، ومن أراد أن ينصح فليكن المقصود من نصحه التطهير لا التشهير. الشاهد: أن موسى عاد وفتاه -ومن سنن أنبياء الله: أنهم لا يتكلفون؛ ولهذا قال الله جل وعلا: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، وهذا يدل على أن غالب الظن أنهما كانا في صحراء سيناء؛ لأن الآثار لا تبقى إلا على أرض رملية والعلم عند الله-. عاد موسى وفتاه، فلما عادا وجدا الخضر قد التحف بطنفسة خضراء غطى بها رأسه ورجليه، فوقف موسى عليه وقال: السلام عليك، قال: أنى في أرضك السلام؟ قال: أنا موسى، فقال الخضر: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمك الله، فتعجب الخضر قائلاً: يا موسى! إنك كليم الله، وعندك من علم الله ما لا أعلمه أنا، ولي من العلم من عند الله ما لا تعلمه أنت، فأصر موسى على أن يصحبه، فاشترط عليه الخضر ألا يلجئه إلى حديث، ولا يسأله عن سبب تصرفه حتى يكون هو الذي يبتدئه بالأمر، قال تعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، والمؤمنون عند شروطهم، فركبا في سفينة كانت تعبر بالناس من ساحل إلى ساحل، فلما رأى أهل السفينة الخضر عرفوه فقالوا: هذا عبد الله الصالح فأركبوه معكم من غير نوء أي: من غير أجرة، فبينما موسى والخضر في السفينة إذا بعصفور يأتي فيقف على حافتها، ثم ينقر في البحر نقرة أو نقرتين ثم يمضي، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر، فسبحان من وسع علمه كل شيء، وعليه رزق كل حي، وإليه المصير والمنقلب، لا رب غيره، ولا إله سواه، ثم لم يلبث الخضر أن عمد إلى جهة في السفينة فخرقها، ووضع مكانها لوحاً، فاستشاط موسى غضباً، ونسي الشرط الذي بينهما: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، فذكره الخضر الذي بينهما، فاعتذر موسى أن ذلك قد وقع منه نسياناً، ثم ترك جانب البحر لينزل إلى جانب البر فبينما هما في المدينة التي استقبلتهما إذا بـ الخضر يعمد إلى غلام يلعب مع الغلمان فيقتله عياناً، فأنكر عليه موسى هذا الصنيع؛ لأن كل جبلة البشرية تنكره؛ فالله جل وعلا حرم سفك الدماء في الملل كلها، فقال موسى منكراً على الخضر صنيعه: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، فذكره الخضر بزيادة في الضمير فقال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:75]، فأراد موسى عليه السلام أن يلزم نفسه، قال مجاهد رحمه الله أحد أئمة السلف: كانت الأولى من موسى نسياناً، والثانية شرطاً، والثالثة عمداً، قال له: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76]، قال الله جل وعلا: {فَانطَلَقَا} [الكهف:77] أي: في سيرهما {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الكهف:77]، وهؤلاء طبعوا على اللؤم، لا يعرفون قدر الناس، ولا يقومون بواجب الضيافة، ومع ذلك سأل الخضر وموسى أهل القرية الطعام، قال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:77]، لكن القوم طبعوا على اللؤم فأبوا أن يضيفوهما، فكان موسى يرى أن هؤلاء لا يستحقون إكراماً، ولا ينبغي أن يفعل لهم معروف، لكن الخضر عمد إلى جدار يريد أن ينقض -أي: يكاد أن يسقط- فأقامه وعدله وشد بنيانه، فأنكر عليه موسى صنيعه هذا قائلاً: كان الأحرى والأولى أن تجعل من هذا الصنيع طريقاً للأجرة؛ لأن الأجرة طريق للطعام، قال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، والمؤمنون عند شروطهم، فقال الخضر لموسى وهو يعلم أن موسى صفي الله وكليمه: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، وليست هناك غضاضة أن يعمل المؤمنون بشروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، لكن لا ينبغي لمؤمن أن يأنف إذا أمضي عليه الشرط كما يقع بين الباعة والمشترين، وكما يقع بين المؤجر والمستأجر، وكما يقع بين الزوج وولي أمر المرأة من شروط في النكاح، وضروب ذلك وأمثاله، فكل ذلك جاء به الشرع، ولا يعد نقصاً في حق أحد، ثم أماط الخضر اللثام عن الأمور كلها، وكشف عن غرائب عديدة، قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، فسماهم مساكين رغم أن السفينة ملك لهم، وهذا يدل على أن المسكين قد يملك قوتاً وله دخل، لكن دخله وما يجرى عليه لا يحقق له حاجاته الأساسية، خاصة إذا كان رقيق الحال كثير العيال، وعلى هذا تصرف لهم الزكاة، فمن كان له أحد من جار أو قريب، أو أحد يعلم أن له دخلاً لا يعينه على أن يقوم بشيء لحياته كلها، فهذا من أهل الزكاة الذين يعطون منها شرعاً بنص كلام الله؛ قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60].

(وما فعلته عن أمري)

(وما فعلته عن أمري) قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، إن العاقل الأريب والمؤمن هو الذي يرتكب الضرر الأدنى حتى يدفع به الضرر الأعظم، وإن الخضر عليه السلام يعلم أن بقاء السفينة ملكاً للمساكين يقتاتون منها رغم ما فيها من عيب خير لهم من أن يفقدوا سفينتهم بالكلية، وبالتالي لا تجر عليهم رزقاً، ولا تأتي لهم بأجرة. قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، فلما فرغ من بيان أمر السفينة بدأ ببيان أمر الغلام، قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80]، والإنسان لا يملك بين جنبيه أعظم من إيمانه بربه تبارك وتعالى، فالإيمان بالله هو المنجي في عرصات يوم القيامة، ولئن يفقد هذان الأبوان ابنهما وهما في حاجة ماسة دنيوية إليه فيكون سبباً إذا كبر في كفرهما خير لهما من أن يبقى ثم يكون في بقائه كفرهما وبعدهما عن الله جل وعلا، فحفظ الله لهما دينهما بضياع شيء من دنياهما، وكل مصيبة تعظم إذا كانت في الدين أعاذنا الله وإياكم من ذلك، ثم أماط اللثام عن الأمر الثالث فقال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} [الكهف:82]، واليتيم -أيها المؤمنون- عني به القرآن أعظم عناية، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول اليتامى قدراً: ذكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم قال الله جل وعلا له: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6]، فقد منعه الله من حنان أمه وأبيه حتى لا يتعلق صلى الله عليه وسلم بأحد غير الله، فقد أراده الله جل وعلا لنفسه، واصطنعه ربه تبارك وتعالى لذاته العلية، فنشأ صلوات الله وسلامه عليه يتيماً لم ير أباه، وماتت أمه وهو ابن ست سنين، والمقصود من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على رعايتهم -أي: أهل اليتم- فقال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وقرب بين أصبعيه السبابة والوسطى).

وكان أبوهما صالحا

وكان أبوهما صالحاً وفي هذا الخبر يخبر الله عن سنن التسخير، وكيف خرج كليم الله وهذا العبد الصالح يقطعان البحار والقفار والطرائق حتى يصلا إلى جدار ليقيماه رحمة من الله بهذين اليتيمين، ثم قال الله جل وعلا معللاً: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، إنه لم يدخر والد لولده ذخراً أعظم من أن يكون الأب صالحاً في نفسه؛ فإن الأب إذا كان صالحاً في نفسه حفظ الله جل وعلا من بعده ذريته بصلاحه. روي أن محمد بن كعب القرظي -أحد أئمة السلف من أهل التفسير رحمه الله- رزق مالاً فجأة، وكان المال كثيراً فتصدق به إلا قليلاً جداً، فعاتبه الناس وقالوا له: لو أبقيت هذا المال لولدك؟ فقال رحمه الله: جعلت المال ذخراً لي عند ربي، وجعلت لربي ذخراً لي عند ولدي. وهذه منازل عالية لا يعطاها كل أحد، والموفق من وفقه الله جل وعلا.

أدب الأنبياء والأولياء مع الله تعالى

أدب الأنبياء والأولياء مع الله تعالى قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]. تأمل -أيها المبارك- أدب الخضر مع ربه جل وعلا، فإنه لما تكلم عن خرق السفينة نسب الخرق إلى نفسه فقال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، ولما ذكر الخير وذكر الفلاح وذكر النجاح نسبه أدباً إلى ربه جل وعلا قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82]، وقال في الأولى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81]، والأدب مع الله هو الدين كله، ونبينا صلى الله عليه وسلم كما هو قدوة في كل فضل، فهو القدوة في الأدب عليه الصلاة والسلام مع ربه جل وعلا، (فإنه وقف ذات يوم يخطب على منبر مسجده فدخل رجل يشتكي إليه قلة الأمطار وجدب الديار وقال: يا رسول الله! ادع الله أن يغيثنا، ادع الله أن يرحمنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اسقنا! اللهم أغثنا!)، فمن الله على أهل المدينة في ذلك اليوم بالسحاب والمطر، فبعد جمعة دخل رجل من نفس الباب يشتكي ما أضرت به السيول من جعلها تقطع الطرق بين الناس فقال: يا نبي الله! ادع الله أن يمسكها عنا، فلقد تضرر الناس، فكان عليه الصلاة والسلام في ذروة الأدب مع ربه؛ لأنه يعلم أن الغيث رحمة، ونبي الله أكمل وأعظم من أن يدعو الله أن يمسك رحمته، لكنه كان رفيقاً رحيماً بأمته، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)، قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: فوالله ما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها صلوات الله وسلامه عليه. والغاية أيها المؤمنون! أن يتحلى الإنسان بأدب الأنبياء مع ربهم تبارك وتعالى، ونبينا عليه السلام ورث هذا عن أبيه إبراهيم عليه السلام، فإن إبراهيم أخبر الله جل وعلا عنه أنه قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77]، ثم أخذ يصف ربه فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]، فنسب الخلق والرزق والإطعام والشفاء إلى الله، ونسب المرض إلى نفسه، مع أنه يعلم أن الله خالق الشفاء والمرض، لكنه الأدب مع الرب جل وعلا، رزقنا الله وإياكم الأدب معه، وعلمنا الله وإياكم ما ينفعنا، ونفعنا بما علمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

وإنما لكل امرئ ما نوى

وإنما لكل امرئ ما نوى الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: عباد الله! فلئن كانت رحلة موسى عليه السلام التي قص الله خبرها رحلة علمية فإن الناس منذ أن كانوا ينتقلون في الأمصار، ويسافرون في البلدان مع اختلاف البواعث والدوافع والرغبات في الأسفار من زيد إلى عمرو ومن عبد إلى آخر، والأصل في السفر الإباحة، ثم يتلبس السفر بعد ذلك حكماً شرعياً بالمقصد الذي من أجله سافر العبد وانتقل وارتحل، والناس في هذا يتفاوتون تفاوتاً عظيماً؛ لأن الناس في أنفسهم تختلف اتجاهاتهم ونياتهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، فطوبى لعبد يمم البيت العتيق، عليه إزاره ورداؤه يريد أن يأتي بعمرة لعل الله جل وعلا أن يكفر عنه بها الخطايا، وطوبى لعبد يمم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو من الله أن يظفر بركعتين في هذا المسجد المبارك، وطوبى لعبد، وهنيئاً لطالب علم رحل إلى عالم يأخذ عنه علمه، لعل الله أن ينفع المسلمين بعلمه، وأتم الله العافية لرجل ألم به مرض فقصد أرضاً بها أطباء يسأل الله أن يجعل على يدي هؤلاء الأطباء الشفاء، وهنيئاً وطوبى لرب أسرة أخذ أبناءه وأهله وأسرته في أماكن يغلب على الظن ألا يسمع فيها فجور ولا فحش، ولا يرى فيها اختلاط ولا مجون، فروح عن أسرته، ولم يرتكب ذنباً في سفرته. وطوبى لعبد أراد في سفره أن ينشر العلم، ويدعو إلى الله، ويسهم في المعروف، ويبذل الخير، ويقدم لإخوانه المؤمنين هنا أو هناك ما يعينهم على أمر دينهم ودنياهم. على أن الحسرة كل الحسرة على عباد أو على أناس أو على رجال يقتر أحدهم على نفسه طوال العام، ويضيق على أهله وعلى نفسه وعلى من تحت يده ينتظر أيام الصيف، فإذا جاء الصيف يمم حانات الغرب والشرق، ومجالس الخمر، ومواطن اللهو، وأماكن المجون، يريد أن يعصي الله جل وعلا بما أنعم الله جل وعلا به عليه، إن الحسرة كل الحسرة والمصيبة كل المصيبة أن يجد الإنسان راحته حين يعصي ربه جل وعلا، هذا والعياذ بالله هو الخسران المبين الذي حذر الله جل وعلا منه، قال ربنا مذكراً: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8]، وقال ربنا متوعداً: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:13 - 14]، فسبحان من لا تخفى عليه من عباده خافية، الطائعون إذا أطاعوه والعصاة إذا عصوه، لكنه حلم الله جل وعلا على عباده. عباد الله! من ازدحمت عليه الشهوات وتكاثرت عليه الرغبات وجب عليه أن يوجهها بتذكره لعظمة الرب تبارك وتعالى، وأن يتذكر فضل الله جل وعلا عليه، ونعمائه تبارك وتعالى إليه: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]، عليه أن يتذكر أن كل لذة دون الجنة فانية، وأن كل بلاء دون النار عافية، عليه أن يتذكر أنه ما من أحد إلا وسيوسد التراب، وتحل عنه أربطة الكفن، ويخلى بينه وبين عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا يظلم ربك أحداً، عليه أن يتذكر الموت وسكرته، والقبر ووحشته وظلمته، والنفخ في الصور وفجعته، والصراط وزلته، وأعظم من ذلك كله لو قدر له أن يقبض على لذته المحرمة بأي وجه يلقى الله بعد ذلك؟! عليه أن يؤدب نفسه بأن يتذكر أنه يجب عليه أن يصبر في ترك ما يفنى ليفوز غداً بما يخلد ويبقى، عليه أن يتذكر ما أعده الله جل وعلا للصابرين على طاعته والمنفقين ابتغاء وجه ربهم، قال ربنا وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:5 - 10]، هذا صنيعهم فكافأهم أرحم الراحمين بقوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11]، اللهم قنا شر ذلك اليوم، ولقنا اللهم نضرة وسروراً. ألا واعلموا أنكم في يوم الجمعة سيد الأيام، فصلوا فيه وسلموا على سيد الأنام، ذي الوجه الأنور، والجبين الأزهر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين، واخصص اللهم منهم الأربعة الراشدين، وارحمنا اللهم معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً وعملاً خالصاً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به -يا كريم- منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجزه اللهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء، اللهم ارفع الضر واللأواء عن إخواننا في فلسطين ولبنان يا ذا الجلال والإكرام! اللهم ارفع الضر واللأواء عن إخواننا في فلسطين ولبنان والعراق، اللهم عليك بكل عدو للإسلام يا ذا الجلال والإكرام! وخص اللهم منهم اليهود والنصارى يا رب العالمين! اللهم اجعلهم لمن خلفهم آية، ولا ترفع لهم راية يا ذا الجلال والإكرام! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

[2]

سلسلة بريق المواعظ المنبرية من رحاب مسجد قباء [2] عرض الخطبة الأولى: لقد كرم الله تعالى الإنسان، وخلقه في أحسن تقويم، وجعل حفظ نفس المسلم من المقاصد التي دعت إليها الفطرة، وقدرتها الشريعة، بل جعل نفس المؤمن أعظم حرمة من الكعبة ذاتها، بل لم يجعل الله ذنباً أعظم ولا أشد عقوبة بعد الشرك من القتل، ولقد ذكر الله تعالى تاريخ هذه الجريمة مفصلة في قصة بني آدم في سورة المائدة، وكيف أن الحسد والغل أوصل الأخ إلى أن يقتل أخاه من أجل حطام الدنيا الفانية، ولقد شرع الإسلام القصاص دفعاً لهذه الجريمة، وصداً ودحراً لسبيلها ومبتغيها، والحق في القصاص أو العفو راجع إلى أولياء دم المقتول.

أول جريمة ارتكبت على ظهر الأرض

أول جريمة ارتكبت على ظهر الأرض إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت عليها السماوات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، سلم الحجر عليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، وحن الجذع إليه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، كما وحد الله وعرّف به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة، فقد جعل الله جل وعلا تقواه طريقاً لجناته، وسبيلاً إلى رحمته وفضله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]. عباد الله! بالقرآن العظيم علم محمد صلى الله عليه وسلم الجيل الأول والرعيل الأمثل، ذلك أن الله جل وعلا جعل في طيات كتابه من عظيم النواهي والأوامر، والروادع والزواجر، وصادق الأخبار، ما أحيا به قلوب الأخيار، وأنبت به أنفساً زكية في أجساد الأبرار.

قصة ابني آدم قابيل وهابيل

قصة ابني آدم قابيل وهابيل عباد الله! يقول الله -وقوله الحق- لنبيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:27 - 30]، إلى آخر ما ذكره الله جل وعلا من نبأ ابني آدم، والله جل وعلا ذكر ذلك الجيل السابق في القرون الأول ظهوراً، لكن الله مطلع على كل شيء، فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية، وابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل فقد كانت حواء تحمل في كل بطن غلاماً وجارية، فكان آدم عليه السلام يزوج الغلام من جارية البطن الآخر، اعترف قابيل بخطيئته، فحكم بينهما الأب بأن يقرب كل منهما قرباناً إلى الله، فمن قبل قربانه ظفر بمن يريد، فاختار هابيل كبشاً من أجود غنمه وكان صاحب غنم، واختار قابيل سنبلة من أردئ زرعه وكان صاحب زرع، فتقبل الله جل وعلا قربان هابيل، ولم يتقبل جل وعلا قربان قابيل، فالمعاملة مع الله -أيها المؤمنون- تجارة رابحة لا يعقلها إلا العالمون، غلب الظن على قابيل أنها مسألة لا تقدم ولا تؤخر، يختار ما شاء من الزرع ثم لا يكون إلا ما أراده هو، وعلم هابيل أنها معاملة مع الله فاختار كبشاً من أفضل وأجود أنواع غنمه؛ لأنه يعلم أنه يتعامل ويتاجر مع الله جل وعلا، والله جل وعلا عظيم غني عن كل طاعة أحد، لكنه جل وعلا ابتلى عباده بالأوامر والنواهي والفتن حتى تكون قلوب عباده له وحده جل وعلا دون سواه، فإذا كان القلب لله جل وعلا وحده دون سواه حفظه الله جل وعلا من كيد الشيطان وسائر ما يضره، قال الله جل وعلا -ووعده الحق- لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، جاءت النار فأكلت قربان هابيل علامة قبولها، وأبقت على قربان قابيل علامة ردها، فدب الحسد في جسده، والحسد -أيها المؤمنون- أن يرى العبد أثر نعمة الله جل وعلا على أحد عباده فيصيبه البغي والحسد على تلك النعمة، ويسعى في إزالتها، وهو مرض خطير على الأفراد والمجتمعات، وقد جعله الله نعتاً لليهود فقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، والمؤمن الذي يحسن الظن بالله، ويعلم أن الفضل كله من الله إذا رأى نعمة من نعم الله على أحد من خلقه: فإما أن تكون هذه النعمة دينية فيندب أن يطلبها لنفسه، وأن يتمناها لذاته، دون أن يتمنى زوالها عن أخيه ولا يسعى في ذلك، وإن كانت نعمة دنيوية فلا حرج ولا بأس إن كانت في سلك المباحات أن يتمناها لنفسه، دون أن يتمنى زوالها عن أخيه، قيل: يا رسول الله! أي المؤمنين أفضل؟ قال: (كل مؤمن مخموم القلب، صدوق اللسان)، قالوا: يا رسول الله! صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن النقي التقي الذي ليس في قلبه غل ولا بغي ولا حسد)، فكلما سلم القلب من الحسد ارتفع في الملكوت الأعلى والمحل الأسمى، فإن غلب الحسد على القلب ساقه إلى الرذائل، ساقه إلى البغي، ساقه إلى الاعتداء، ساقه إلى أن يقول على الله جل وعلا ما يعلم أنه كذب، يريد أن يذهب نعم الله عن عباده: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، فلما دب الحسد في قلب قابيل توعد أخاه بالقتل فسعى إليه قائلاً: ((قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ)) فقال له مجيباً: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. قال ابن عطية رحمه الله: أجمع أهل التأويل على أن المقصود: تقوى الشرك؛ فإن من اتقى الشرك وكان عمله على الشرع الصحيح قبل الله جل وعلا منه عمله، وليس هذا بإيجاب على الله، ولكنه مما أخبر الله جل وعلا به عن ذاته العلية قال: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:27 - 28]. قال أهل العلم من أهل التأويل والأخبار: إن هابيل كان أقوى جسداً وأعظم قوة من أخيه، لكن الذي جعله يبقي على أخيه هو الخوف من الله، قال الله جل وعلا: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28]، والخوف من الله أعظم مقامات الصالحين، وعد الله جل وعلا عليه أعالي الجنان، قال سبحانه وهو الصادق: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال جل ذكره: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]، بل إن الرجل يكون مباركاً أينما حل، موفقاً في قوله، موفقاً في فعله، إذا كان ممن يخاف الله، قال الله جل وعلا عن رجلين من بني إسرائيل وفقا يوم خذل بنو إسرائيل موسى، قال الله جل وعلا: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، فالخوف من الله من أعظم ما يقرب من طاعته، بل من أعظم ما يقرب من رضاه إذا كان مقروناً بالرجاء والطمع في رحمة ربه تبارك وتعالى، لكن نفس قابيل جبلت على الشر، ولم يلجمها بلجام التقوى، فلما لم يلجمها بلجام التقوى سعت به إلى أن يقتل أخاه ويقطع رحمه، ويكون أول من سفك الدماء في الأرض، قال الله جل وعلا: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30]، إن المؤمن إذا لم يرقب الله جل وعلا ولم يخشه تغلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء فأوردته المهالك، قد يقع بين يدي الرجل أموال اؤتمن عليها فيقول: لا رقيب ولا حسيب، فيختلسها أو يسرقها أو يأكلها سحتاً ظناً منه أن أحداً لا يراه، وينسى علم علام الغيوب جل جلاله، يبيت الشخص ويخطط لخلوة محرمة أو استدراج للغلمان، أو الوقوع في الفواحش، أو السعي إلى الزنا ظناً منه أنه بذلك يحقق رغباته وشهواته، والله جل وعلا يقول: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14]، وهكذا كل أسلاب الذنوب والمعاصي، تسول لهم أنفسهم، وينزغ الشيطان في قلوبهم حتى يقعوا في المهالك، ثم يندمون ولات ساعة مندم، قال الله جل وعلا: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]، اللهم إنا نعوذ بك من ذل الفضيحة يوم العرض عليك! قال الله جل وعلا: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:31]، يأبى الله جل وعلا إلا أن يذل من عصاه، فقد قدر هذا الرجل على أن يحمل صخرة ويقتل أخاه، ثم بعث الله جل وعلا له غراباً ليريه، والغراب: إمام في الفساد، فلم يبعث الله له طيراً مكرماً، لم يبعث الله له حمامة ولا صقراً، ولا أياً من الدواب التي كرمها الله، بل لما كان قابيل فاسقاً بعث الله جل وعلا إليه من جنسه، بعث الله له طيراً من الفواسق التي أحل الله قتلها في الحل والحرم، قال الله جل وعلا: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة:31]، إن ذل المعصية نقل ابن آدم من كونه مكرماً بما كرم الله به أباه لأن يصبح أذل من الغراب؛ لأنه عصى الله جل وعلا وسفك الدماء، قال الله جل وعلا: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]، علمني الله وإياكم من القرآن ما ينفعنا، ونفعنا الله بما علمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

مشروعية القصاص أو العفو الراجعين إلى أولياء الدم

مشروعية القصاص أو العفو الراجعين إلى أولياء الدم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، قال الله جل وعلا بعد أن ذكر هذه العضات الجليلات، والآيات البينات: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة:32]. أيها المؤمنون! كان الناس بشرع من الله من لدن آدم إلى يومنا هذا، والشرائع على اختلافها اتفقت على تحريم القتل، فقد منع الله الاعتداء على الدماء، وشرع القصاص ردعاً وكفاً للظالمين والمجرمين، كل ذلك ليعلم العباد جميعاً أن سفك الدماء من أعظم الحرمات، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فالمؤمن يتقي الله جل وعلا في دماء المسلمين، ويتقي الله جل وعلا في أعراضهم، ويتقي الله جل وعلا في أموالهم، على أن الله جل وعلا شرع لأولياء الدم ثلاثة أمور: إما المطالبة بالقصاص، وإما الرضا بالدية، وإما العفو. وطرائق القتل تختلف: فما كان قتلاً عن مشاحنة وخصومة عارضة فتغليب العفو هنا أفضل، قال الله جل وعلا: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]، وقال جل وعلا: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، وأما ما كان عن ظلم وغدر وانتهاك أعراض فإنه قد يبعد العفو أن يكون الأفضل، وليس الأمر على إطلاقه، ولكن كل حادثة تقدر بقدرها. ألا وصلوا وسلموا على خير من عفا، السابق إلى كل فضل ومجد، المولود في مكة المسترضع في بني سعد، نبينا الأمين الحبيب الصادق الوعد، إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل على محمد ما تلاحمت الغيوم، وما تلألأت النجوم، وارض اللهم عن أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار، وارحمنا اللهم معهم بمنك وكرمك يا عزيز يا غفار! اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما مضى وسلف وكان من الذنوب والآثام والعصيان، اللهم إنا نسألك لباسي العافية والتقوى، وأن توفقنا ربنا لما تحب وترضى، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم واجزه عن الإسلام وأهله خير الجزاء، اللهم وارفع اللأواء والضراء عن إخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال يا رب العالمين! اللهم فك أسرى المأسورين من المسلمين، اللهم فك أسرى المأسورين من المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

[3]

سلسلة بريق المواعظ المنبرية من رحاب مسجد قباء [3] عرض الخطبة الأولى: لقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام ليعلمنا التؤدة والتأني، وبث فيهما من شواهد ربوبيته ما يشهد بوحدانيته، وتفرده بالخلق دون غيره سبحانه، ومن عظيم خلقه سبحانه: الليل الذي دلت النصوص من حيث الجملة على أفضليته على النهار؛ وذلك بالنظر إلى أجل عبادة فيه وهي: قيام الليل، وكذلك لنزوله سبحانه نزولاً يليق بجلاله وعظمته تبارك وتعالى، وقيام الليل دأب النبي والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهو علامة الصالحين، وسلوة المصابين، وأنس الخائفين، والعبادة عموماً لها أهمية عظمى في حياة المؤمن، خاصة في زمن الفتن، فالعبادة في الهرج كهجرة إليه صلى الله عليه وسلم.

لا نحصي ثناء عليك ولا مدحا

لا نحصي ثناءً عليك ولا مدحاً إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة، فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأكرم ما أسررتم، وأعظم ما ادخرتم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. عباد الله! لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه، ومن آيات القرآن العظيم التي أثنى الله جل وعلا على ذاته العلية، وأخبر فيها جل ذكره عن بعض صفاته وما تمدح به، قول ربنا تبارك اسمه، وتعالى جده، في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. عباد الله! لفظ الربوبية يشعر السامع بالأمان، ذلك أن العبد إذا علم أن له رباً يشفيه إذا مرض، ويرزقه إذا جاع، ويعطيه إذا سأل، شعر بعد ذلك بطمأنينة النفس وسكينة القلب. ثم أخبر الله جل وعلا عن بعض صفاته معرفاًَ بذاته العلية، ولا أحد أعلم بالله من الله، قال جل شأنه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف:54]، والخلق من أعظم صفاته جل وعلا، إذ لا خالق غيره تبارك وتعالى، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، خلقهن جل وعلا في ستة أيام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليعلم خلقه التؤدة والأناة، خلقهن جل وعلا في ستة أيام، خلق الأرض أولاً في يومين، ولم يكمل خلقها، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فأكمل خلقها، ثم خلق تبارك وتعالى بعد ذلك الأرض وأكملها، قال جل ذكره، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، خلقهن جل وعلا في ستة أيام، وقدر فيها أقواتها، وبارك فيها تبارك وتعالى رحمة بعباده وتسخيراً لهم، ثم قال جل شأنه، وتبارك اسمه: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، والعرش سقف المخلوقات، سرير له قوائم تحمله الملائكة، قال جل شأنه: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، والله جل وعلا كما أخبر مستو عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته، نؤمن به ولا نعرف كيفيته؛ لأن الوصول العلمي إلى أي شيء نريد أن نعلم كنهه وكيفيته لا يخلو من إحدى ثلاث: إما أن نراه، وإما أن يصفه لنا من رآه، وإما أن نقيسه على مثله. وكل هذه الطرائق الثلاث منتفية في حق ربنا تبارك وتعالى معنا، فنحن لم نر ربنا، ولم يره غيرنا حتى يصفه لنا، وليس لله مثيل ولا ند ولا شبيه حتى نقيسه عليه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. العرش -أيها المؤمنون- سقف المخلوقات، قال صلى الله عليه وسلم يخبر عن الساعة وقيامها: (فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى آخذ بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور)، منه تتفجر أنهار الجنة، وهو أعلى الجنة، والفردوس أعلى الجنة، وهو من العرش.

أفضلية الليل على النهار وأحب الأعمال فيه إلى الله

أفضلية الليل على النهار وأحب الأعمال فيه إلى الله قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف:54]، والليل والنهار مخلوقان من مخلقات الله، جعل الله جل وعلا لعباده الصالحين في كل واحد منهما عملاً، جاء في الحديث: (أن الله جل وعلا يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). ولله جل وعلا عمل في النهار لا يقبله في الليل، وله جل وعلا عمل في الليل لا يقبله في النهار، إلا أن ظاهر القرآن والسنة يدل إجمالاً على أن الليل أفضل من النهار، وآخر الليل أفضل من أوله، ذلك أن الله جل وعلا نجى لوطاً وبنتيه سحراً، قال سبحانه: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34]، وأمر نبيه وكليمه موسى بن عمران عليه السلام: أن اسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون، وأسرى الله جل وعلا بأشرف خلقه، وسيد رسله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليلاً، كما أخبر جل وعلا صريحاً في كتابه، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]. قال ربنا: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54]، جعل الله جل وعلا الليل والنهار مطيتين للأعمال، وسيفد العباد كافرهم ومؤمنهم، إنسهم وجنهم بين يدي الله، فيجد كل أحد منهم ما قدم من أعمال في ليله ونهاره بين يدي الله، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، ولئن كان الليل من حيث الجملة أفضل من النهار فإنه لا عبادة في الليل تعدل القيام بين يدي رب العالمين في جوف الليل الآخر. افتقدت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها نبينا صلى الله عليه وسلم آخر الليل، قالت: (فوجدته في المسجد ساجداً قد انتصبت قدماه، يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). فصلاة الرجل في جوف الليل الآخر أعظم ما يجعل المرء المؤمن يختم له بالأعمال الصالحة، بل إنه من أعظم ما يقي المؤمن الفتن، قال صلى الله عليه وسلم وقد قام ذات ليلة فزعاً: (سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة). أيها المؤمنون: إنه ينبغي على الإنسان أن يأخذ حظه من النوم في ليله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما نقل عنه أبداً أنه قام ليلة بأكملها، لكن ينبغي للمؤمن أن يكون جزء من ليله ولو يسيراً لربه، يقف فيه بين يدي رب العالمين جل جلاله، يعفر جبهته بالسجود، ويسجد للرب المعبود جل جلاله، يبث إلى الله شكواه، ويسأل الله بإلحاح رضاه، يستجير بالله من النار، ويسأل الله الفكاك منها، ويرجو الله الجنة، ويسأله بإلحاح أن يدخله إياها، يسأله كل خير يؤمله، ويستعيذه من كل شر يخافه، قال صلى الله عليه وسلم يوصي معاذاً وقد أحبه: (وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17])، والله لو أن أحداً من ملوك الدنيا أخفى لأمته ورعيته وشعبه جائزة لأحسن الشعب والرعية والأمة الظن بمليكها، فكيف الظن بما أخفاه رب العالمين جل جلاله؟ كيف الظن بما أخفاه أرحم الراحمين تبارك وتعالى؟ كيف الظن بما أخفاه من لا تنفد خزائنه أبداً جل جلالة؟ فالليل من حيث الجملة أفضل من النهار، ولئن كان لله عباد غضيضة عن الشر أعينهم، محزونة قلوبهم، قريبة دموعهم، فإن لله جل وعلا خلقاً غير ذلك، نسأل الله لنا ولكم العافية، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى. إن لله خلقاً لم يعرفوا أهمية الليل، وما جاء فيه عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم وهديه، فهذا يقضيه أمام الشاشات، وآخر يقضيه في اللهو والمجون، وآخر يقضيه في التعرض لأعراض المسلمات، وآخر يقضيه في غير ذلك، وكل سيفد على الله، وكل سيجد عمله، قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28]. قال ربنا: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف:54]، ثم قال: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، ما الشمس والقمر والنجوم إلا مخلوقات من مخلوقات الله، لا تدبر من أمرها شيئاً، قال صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر وقد غابت الشمس: (أتدري يا أبا ذر أين تغيب؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تأتي فتسجد تحت العرش فتستأذن ربها فيأذن لها، فليأتين عليها يوم فتستأذن فلا يؤذن لها، فتطلع على الناس من حيث غربت فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً). ومع أن العرب والناس جميعاً -حتى في عصرنا- يضربون المنتهى في الجمال لمن أحبوه ولمن بهتوا أو فتنوا بجماله من رجل أو امرأة، يضربون له مثلاً بالشمس والقمر، فقد كتب الله الكسوف على الشمس والخسوف على القمر حتى يعلم العباد أنهما آيتان من آيات الله، تخسف وتكسف، وأن ما لا يحول ولا يزول ولا يتغير هو وجه الله تبارك وتعالى العلي الأكرم.

(ألا له الخلق والأمر)

(ألا له الخلق والأمر) ثم قال جل وعلا: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فمن خلقه جل وعلا كل مخلوق خلقه الله. أما أمره فالمقصود به: غير الخلق، كإنزاله القرآن تبارك وتعالى، وهذا المقطع من الآية مما احتج به أهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- على أن القرآن منزل غير مخلوق، ثم قال جل شأنه: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وهذا اللفظ -أيها المؤمنون- لا يقال لغير الله، لا يقال لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لأحد من أولياء الله الصالحين: (تبارك)، وإنما يقال ويصرف فقط لله جل وعلا وحده دون سواه: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. ولما أثنى الله على نفسه، وأخبر عن بعض كمال صفاته جل شأنه دعا عباده جل وعلا إلى أن يدعوه ويرجوه، قال جل وعلا: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، فأمر الله جل وعلا بدعائه وسؤاله جل وعلا: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تغلق وينبغي على المرء أن يسأل ربه وحده ويلجأ إليه، ألا وإن من جوامع أدعيته -صلوات الله وسلامه عليه- أنه كان يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، وكان يقول: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلوبنا إلى طاعتك، كما كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من المأثم والمغرم، والجبن والكسل، ومن غبن الرجال). جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية العبادة في زمن الفتن

أهمية العبادة في زمن الفتن الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: عباد الله! فإن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه لأمته من الطرائق الواضحة الغراء والمحجة البيضاء: أنه دعا أمته في زمن الفتن أن يكثروا من العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إلي). والمعنى: أن الإكثار من العبادة في زمن الفتن يعادل الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم لو كان حياً، وذلك لأن الناس في زمن الفتن يغفلون عن العبادة، فحثهم صلى الله عليه وسلم وهو أتقى الخلق لربه، وأعلم العباد بالشرع، حثهم على الإكثار من العبادة في زمن الفتن، ولا ريب أن الناس في زماننا هذا قد أحاطت بهم الفتن، فتن المال، وفتن النساء، وفتن القتل، وغيرها. فأما فتن القتل والهرج فإن الهدي والسنة فيها: الاستمساك بالكتاب والسنة، والاعتصام بحبل الله المتين، والبقاء على بيعة ولي الأمر المسلم، والحرص على أن يكون المسلم مع جماعة المسلمين لا يشذ عنهم. وأما القضاء على فتن الشهوات: فيكون بعظيم الإيمان الناجم عن كثرة العبادة كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فإن كثرة العبادة إقبال على الله، والإقبال على الله يجعل المرء قريباً من رحمته تبارك وتعالى وهدايته وتوفيقه. ألا وصلوا وسلموا على ذي الوجه الأنور، والجبين الأزهر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم إنا نسألك قلوباً تخلص لك، ترضى بقضائك، وتشكرك على نعمائك، وتصبر على بلائك يا ذا الجلال والإكرام! اللهم إنا نسألك قلوباً تشتاق كل الشوق إلى لقائك يا ذا الجلال والإكرام! فارزقنا اللهم لقائك والنظر إلى وجهك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، في عفو وعافية منك يا أرحم الراحمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وانشر الخير العميم على بلاد المسلمين كلها يا رب العالمين! اللهم اجمعهم على الحق، وأيدهم بالفضل يا ذا الجلال والإكرام! اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك ربنا من النار وما قرب إليها من قول وعمل. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

[4]

سلسلة بريق المواعظ المنبرية من رحاب مسجد قباء [4] عرض الخطبة الثانية: من الأسر العظيمة الإيمانية التي شرفها الله بذكرها كقدوة للأسر المسلمة في القرآن الكريم: أسرة آل عمران، بل إن الله تعالى سمى سورة كاملة من الطوال باسم هذه الأسرة المباركة، ولقد قص الله علينا حكايتهم، وحكاية الطاهرة مريم عليها السلام في القرآن لنأخذ العبرة والعظة منها، لا أن نمر عليها مرور الغافلين الساهين، وهذا هو المقصود الأعظم من تلاوة كلام الله عز وجل.

آل عمران هم بيت رفع الله شأنهم

آل عمران هم بيت رفع الله شأنهم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسموات، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، ختم الله به الرسالات، وأتم به النبوات، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، كما وحد الله وعرف به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله! فإن تقوى الله جل وعلا أولى الوصايا، وأجل العطايا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، ثم اعلموا عباد الله! أن لله جل وعلا عباداً اختصهم تبارك وتعالى بعظيم العطايا، وجليل الصفات، من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والقلوب الخاشعة، وهؤلاء الكبار ذكر الله جل وعلا بعضاً منهم في سورة جليلة من كتابه العظيم سميت بإحدى تلك الأسر المباركة، قال الله جل وعلا في سورة آل عمران: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33]، هذه بيوتات رفيعة منّ الله جل وعلا على أهلها ذكوراً ونساء بمعرفتهم بربهم، مع صلاح القول والعمل، والتأهب ليوم المعاد، فآل عمران -أيها المباركون- أهل بيت طيب أثنى الله جل وعلا عليهم في كتابه، وسميت سورة عظيمة من سور القرآن باسمهم، في أخبارهم عظات، وفي أنبائهم جلائل ما يمكن أن ينتفع به المرء في أمر دينه ودنياه، قال الله جل وعلا ولا أحد أصدق من الله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:33 - 34]، فقد ذكر الله فيها أن زوجة عمران قبل أن يتوفى زوجها حنت إلى الولد، فلما أعطاها الله جل وعلا سؤلها، وحقق مرادها، حملت ونذرت أن يكون ذلك الحمل خادماً للرب في مسجده، ملازماً لطاعته؛ ظناً منها أن الحمل ذكر، ثم قدر لعمران زوجها أن يتوفى، فأخذت تلك المرأة تشتد في تضرعها إلى ربها بأن يكون المولود له، قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]، والناس يحبون الأولاد ذكوراً وإناثاً للأنس بهم، والاستنصاف، والعون على ما كتب الله جل وعلا من نوائب الدهر، لكن تلك المباركة لما اطمأنت إلى وجود الحمل أرادت أن يكون حملها خالصاً لربها تبارك وتعالى، بمعنى: أنها لا تريد من ابنها حضها من الولد؛ بأن يخدمها ويقوم بأمرها ويبرها، بل تريده أن يكون كاملاً لربه جل وعلا يخدم البيت المقدس ويصلي لربه، قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]، ثم قدر لها أن تضع فإذا هي ترزق بأنثى، فتقول في انكسار بين يدي ربها: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36]، ولا ريب أن الله جل جلاله يعلم ما الذي وضعته هذه المرأة المباركة، قال الله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36]، ثم قال ربنا وهو الخالق للذكر والأنثى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، ولا ريب أن الله جمل الرجل بخصائص وجمل النساء بخصائص، فما كان للرجال أن يطلبوا ما لم يخلقهم الله له، ولا يكون للنساء أن يطلبن ما لم يخلقهن الله له، ولهذا صح في الحديث: (أن نبينا صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال)، وأخبر الله جل وعلا أنه لا يجوز لأحدهما أن يتفضل على الآخر بما ليس له، ولا يتمناه أصلاً فقال: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32].

(وإني سميتها مريم)

(وإني سميتها مريم) عباد الله! قالت تلك المرأة المنكسرة إلى ربها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران:36]، أي: ليس بمقدوري أن أخلقها ذكراً أو أنثى، لكن جعلت لي القدرة أن أسميها، فسمتها مريم، وهي بلغتهم: خادمة الرب، حتى لا يفوتها شيء من برها مع خالقها جل وعلا، قالت: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، هذا دعاء تقبله الله العظيم الجليل رب الأرض والسماء، قال الله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، قال صلى الله عليه وسلم نبينا وهو الصادق المصدوق: (ما من مولود يولد إلا ويطعنه الشيطان فيستهل صارخاً إلا ما كان من مريم وابنها)؛ لأن الله جل وعلا تقبل دعاء هذه المرأة المباركة، فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً، قال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، زوج خالتها، قال الله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]، وقد كانت مريم ملازمة للعبادة، فاتخذت في بيتها محراباً تصلي لله لا تفتر فيه، من صلاة وقنوت وعبادة لخالقها، فكان الله جل وعلا يكرمها بطعام يأتي إليها من غير كد ولا تعب، وزكريا هو المسئول عنها القائم بكفالتها، فهو لم يأذن بهذا الطعام، ولم يأت به أصلاً، فلما وجد ذلك الطعام بين يديها تعجب: من الذي أتى به؟ من الذي استأذنه أن يأتي بالطعام؟ فكان حرياً به أن يسألها، وكذلك يعلم القرآن أتباعه: أن الإنسان مسئول عما استرعاه الله جل وعلا، فلا حرج عليه وهو يحبهم ويودهم ويشفق عليهم أن يتفقد أحوالهم، ويسأل عنهم، ويبحث في الأمور خاصها وعامها حتى يقوم بواجب القيام على من أوكل الله إليه أمره على خير قيام، فسألها: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، كان ذلك كرامة من الله لها، فذكر ذلك الأمر زكريا بحاله ففزع إلى ربه، وهو رجل قد احدودب ظهره، واشتعل الرأس شيباً، وبلغ من الكبر ما جاوز به المائة في أظهر أقوال المفسرين، وامرأته عاقر، لكن ما رآه من إكرام الله لتلك المرأة الصالحة جعله يتذكر حاله ويسأل ربه، قال جل وعلا مخبراً عن ذلك: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]، قال الله جل وعلا يصور هذا النداء في صورة أخرى: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:1 - 3]، في مكان خلي، بصوت خفي، وقلب تقي، ينادي زكريا رباً علياً، لا رب غيره، ولا إله سواه، {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]، قال الله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران:39]، وهم خلق مكرمون، أعظم أنصار المؤمنين بقدر الله، يتوخون الأماكن الفاضلة الشريفة التي يذكر الله جل وعلا فيها، فلما حملت الملائكة البشارة من الله إلى زكريا اختارت وقتاً وحالاً وموطناً شريفاً حتى تبلغ فيه البشارة والرسالة لزكريا، قال الله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]، وهذا هو الموطن الحقيقي لأولياء الله جل وعلا، أماكن العبادة التي يعبدون الله جل وعلا فيها، فما أجمل أن يتخذ المرء في بيته مكاناً يتعبد الله جل وعلا فيه، قال الله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39]، وهنا غلبت على زكريا بشريته، فتذكر الأسباب المانعة من كونه يرزق ولداً، {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران:40]، فجاء الجواب الرباني الإلهي: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40]، فأحب أن يكون له آية، قال العلماء: إن الإنسان يحب مقدمات اللطف، وبشائر الفرح، قبل أن تقع عين رحمة الله جل وعلا عليه: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران:41]، وهو يعلم أن وعد الله حق، ولكنها البشرية التي لا ينفك عنها أحد، قال الله جل وعلا: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41]، فتبقى صامتاً لا تستطيع الكلام مع قدرتك عليه وكمال خلقتك، ثم قال له: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]، وذكر الله -أيها المؤمنون- حياة الضمائر، وأنس السرائر، وأقوى الذخائر، فقد أمر الله به في ساحات الوغى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، بل أمر الله جل وعلا به في كل محفل وموطن، إلا ما استثناه الشرع من أماكن معلومة، قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191].

(إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)

(إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) عباد الله! أكثر زكريا من ذكر ربه، وسبح بحمد ربه كما أمره الله، ثم بالقرآن ينقل الأمر إلى قضية مريم نفسها، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43]، إن هناك بشارة عظيمة تنتظرك، لكن الملائكة لشفقتها على مريم أوصت مريم بما يعينها على استقبال البشارة، فأوصتها بملازمة الصلوات والقنوت، والصلاة -عباد الله- نور وبرهان ونجاة يوم القيامة، يخسف القمر أو تكسف شمسه فيشرع الله لنا عند ذلك أن نصلي، تنزل علينا ما كتب الله لنا من المصائب الفردية فيشرع الله لنا أن نصلي، يغطي الليل بظلامه الكون فيشرع الله لنا أن نصلي ونقف بين يديه على ما فرضه الله علينا من صلوات خمس، فمن حفظها حفظ الله له دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]، ثم أراد الله جل وعلا أن يبين لنبينا صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام على علو منزلته ورفيع درجته وأنه قطعاً أفضل الخلق، إلا أنه لا يعلم من العلم إلا ما علمه الله، قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44]، فالله وحده الذي يعلم ما قد كان وما سيكون وما هو كائن، ويعلم جل وعلا ما لم يكن لو كان كيف يكون. بلغني الله وإياكم من العلم أنفعه، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

بشارة الله لمريم بعيسى عليه السلام

بشارة الله لمريم بعيسى عليه السلام الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. ثم مضت الآيات البينات تخبر عن هذه البيوت العظام، قال الله جل وعلا: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:44 - 46]. لم يختلف أهل الأرض على أحد كما اختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام، فقد زعمت اليهود أنها صلبته وقتلته، وزعمت النصارى أنه صلب وأنه ابن الله تعالى الله عما يقولون، وذهبت هذه الأمة وهو الحق على أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، بشرت الملائكة مريم ابنة عمران بعيسى، فقالت تلك المرأة متعجبة بعد أن أخبر الله أن هذا العبد سيرزق التكليم: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران:46]، وهذه كرامة لأمه؛ لأن بكلامه دفع الريبة عن أمه، وتكليمه الناس في حال طفولته نفع للعباد؛ لأنه سيدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده، ويبين لهم الدين بأكمله، فقالت تلك المرأة تخاطب ربها في أدب جم على قدر ما أعطيت من علم: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47]. أيها المؤمنون! الأمور ثلاثة: أولها: ما لا يكون بالله، ولا يمكن أن يكون ما لا يكون بالله أبداً، فشيء لم يقدره الله لا يمكن أن يقع. والأمر الثاني: ما يكون لغير الله، فهذا لا يثبت ولا يبقى ولا يدوم، قال الحي القيوم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. والأمر الثالث رزقني الله وإياكم إياه: أمر يكون بالله ولله، فهذا الذي يثبت ويدوم، فإن ذهبت في الدنيا عينه، بقيت في الآخرة آثاره، قال الله جل وعلا: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران:115]. ولا ريب أنه ينبغي لمن ازداد علماً بالله أن يزداد علماً بالشرع نفسه، فيعبد الله على بينة من الأمر، ويعلم أن الله لا أحد أعظم منه، لا تطيب الدنيا إلا بذكره، ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه، ولا تطيب الجنة إلا برؤيته، قال جل ذكره، وتبارك اسمه، يمدح ذاته العلية: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:25 - 27]. اللهم إنا نسألك قلوباً تعرفك وتحبك، اللهم إنا نسألك قلوباً تعرفك وتعبدك وتحبك على الوجه الذي شرعت. ألا وصلوا وسلموا على خير من أحبه الله وخير من أحب الله، قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم وارض عن أصحاب نبيك أجمعين، أخص اللهم منهم الأربعة الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، اللهم وارحمنا معهم بمنك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام! اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وارزق بلادنا الأمن والإيمان يا ذا الجلال والإكرام! وزدها اللهم بركة وخيراً ورخاء يا ذا الجلال والإكرام! اللهم وانشر خيراتك على بلاد المسلمين كلها يا حي يا قيوم! وارفع الضر واللأواء عن إخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم إن لنا في أجواف المقابر آباء وأمهات، وإخواناً وأخوات، وجيران وجارات، اللهم آنس في تلك البقاع وحشتهم، وارحم اللهم تحت الثرى غربتهم، وارحمنا اللهم إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

[5]

سلسلة بريق المواعظ المنبرية من رحاب مسجد قباء [5] عرض الخطبة الثانية: إن دستور الأمة المحمدية قائم على الوسطية في أمور الدين والدنيا، فالوسطية شعار ودثار هذه الأمة، فقد ضاع دين الله بين غلو النصارى وحقد اليهود، والحق أن الوسطية مطلوبة ليس فقط في الدين بل في أمور المسلم الحياتية اليومية، وهذا الشعار يجب أن يتمثل في حياة المسلم؛ لأنه السبيل إلى النجاة من هول المطلع، فلا أحد منا يدري متى تكون قيامته، وبأي يد سيأخذ كتابه؟

الوسطية في الإسلام مفهومها وضوابطها

الوسطية في الإسلام مفهومها وضوابطها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي الأميين، ورسول رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا سراً وجهاراً، وخشيته تبارك وتعالى غيباً وشهادة: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]. عباد الله! نعت الله هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه الكريم بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، أي: أمة عدلاً خياراً، والمؤمن عظيم المعتقد في صحة الدين الذي يتقرب إلى الله جل وعلا به؛ فالمؤمنون جميعاً يعلمون أن الله لا يقبل ديناً غير دين الإسلام، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، لكن المرء إذا ازداد تدبراً في هذا الدين ووسطيته، وما عليه الناس قديماً وحديثاً ازداد علماً ويقيناً أنه دين رب العالمين جل جلاله الذي ارتضاه لنفسه تبارك وتعالى وابتغاه لعباده، وتعبدهم به سبحانه جل شأنه. أيها المؤمنون! أنبياء الله صفوة من الخلق، جعلهم الله جل وعلا رسلاً بينه وبين عباده، اختلف الناس فيهم فلم يلق أنبياء الله من أكثر اليهود إلا الرد والقتل، ووجد من أتباع عيسى من النصارى الغلو متمثلاً في شخص عيسى بن مريم، حتى نسبوه إلى الله ولداً، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وجاء القرآن فقبَّح عظيم الفعلين، وشنع الله على ما صنعه اليهود بأنبيائهم، ونبه الله جل وعلا النصارى إلى عظيم جرمهم، قال الله جل وعلا عن اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:155]، وبالغ في حق عيسى بن مريم {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171]، ثم بين القرآن المنهج الحق في أنبياء الله جل وعلا ورسله المصطفين الأخيار، الأئمة الأبرار، قال الله لنبيه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، ومع ذلك لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110]، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أئمة عدول، معصومون بعصمة الله جل وعلا لهم، بلغوا عن الله رسالاته، ونصحوا له في برياته، فاتباعهم هدي، ومحبتهم دين، والإيمان بهم جملة ركن عظيم من أركان الإيمان كما في حديث جبريل، قال الله جل وعلا عن الرعيل الأول، والجيل الأمثل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].

الحاجة إلى الوسطية في بناء الدول وقيام الحضارات

الحاجة إلى الوسطية في بناء الدول وقيام الحضارات أيها المؤمنون! وكما أن القرآن جاء بالوسطية في هذا، فقد جاء القرآن بالوسطية في بناء الدول وقيام الحضارة، فالعرب في جاهليتهم كانوا لا يحتكمون إلى أحد يغلب عليهم الهوى والتعصب، وقد سمى الله أيامهم أيام جاهلية يحتكمون فيها إلى أهوائهم وإلى قوتهم وغلبتهم، كثر فيهم النهب والقتل والسلب، حتى قال قائلهم: وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا وكان من الحضارات القريبة منهم حضارة كسروية تقوم على تأليه الفرد كما هو موجود عند فرعون حين قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:29]، وما هو موجود عند النمرود عندما قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، وما هو موجود عند كسرى في الفرس، وقيصر في الروم، ثم جاءت الحضارة المعاصرة الغربية فأخذت الطغيان من الفرد، وأعطت مفاتيحه ومقاليده للمجتمع، فجعلت المجتمع يحكم نفسه بنفسه كما قاله أغلب الناس -ولو كان شاذاً طبعاً وشرعاً-: إذا صوت الناس عليه، وقبلوا به، أصبح لزاماً على الناس أن يقروه، يحفظه الجيش، وتقوم عليه الشرطة، ويحرسه القانون، ولو كان ذلك مخالفاً لشرع الله، فأخذوا الطغيان من الفرد في الحضارة القديمة، وأعطوا الطغيان للجماعة في الحضارة المعاصرة؛ أما دين الله فلا ينظر إلى الحاكم المسلم إلا أنه رجل يسوس الرعية بشرع الله جل وعلا، فلا سلطان مطلق إلا سلطان الرب تبارك وتعالى، فنبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعظم البشر على الإطلاق لم يكن له أن يحكم إلا بما أراه الله من الحق الذي نزّله الله جل وعلا عليه في كتابه، وجعل الله جل وعلا لولي الأمر المسلم بيعة في الأعناق وسمعاً وطاعة في المعروف، وأمر الأمة كلها بالاتحاد والاجتماع، والبعد عن الشقاق، وسيء الأخلاق، وما يدعو إلى الفرقة، وينجم عنه الشتات، ومن نعم الله علينا أننا في بلاد لولي أمرها بيعة في الأعناق، ومودة في القلوب، وسمع وطاعة بالمعروف، هذه المدنية الحقيقية التي جاء بها الشرع، جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، وكما عني الإسلام بهذا فقد عني بخاصة المسلم في أهله، قال الله جل وعلا عن أوليائه المتقين في وصفهم: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، حسنة بين سيئتين، فالمؤمن يعلم أنه مؤتمن على مال الله الذي آتاه، فلا يقع منه الإقتار والبخل والشح؛ لأن ذلك سوء ظن برب العالمين جل جلاله، ولا يقع منه التبذير والإسراف، والمكابرة والخيلاء؛ لأن ذلك -والعياذ بالله- مدعاة للكبر الذي نهى عنه الشرع، بل من قرائنه ودلائله -خاصة إذا صاحب ذلك فقيراً يمنع، أو يتيماً يدفع- كان أعظم جرماً وأشد شناعة، فإن كان ذلك في باب الموائد، فعظم ما فيها وكثر حتى غلب على الظن أنه للمفاخرة والخيلاء، وصاحب ذلك مطعوم أو مشروب حرمه الله ازداد الأمر إثماً، فإن كان على رأسه الأغاني والمعازف وما حرم الله من نظائرها كان ذلك من مجلبات سخط الرب تبارك وتعالى، والمؤمن عليه أن يدرك أن الله جل وعلا وحده خير الرازقين، فليتق الله جل وعلا إن أنعم الله عليه في أن يستعمل نعمة الله جل وعلا فيما يرضيه، وإن كان ممن لم يكتب الله لهم أن يبسط الله لهم الرزق فليعلم أن ذلك لخير أراده الله به، علمه من علمه، وجهله من جهله؛ فخيرة الله لعبده خير من خيرة المرء لنفسه، والمؤمن بين سراء وضراء، فالسراء مطيتها الشكر، والضراء مطيتها الصبر.

التوكل والخوف والرجاء تحت منظار الوسطية

التوكل والخوف والرجاء تحت منظار الوسطية والتوكل -أيها المؤمنون- من أعظم أعمال القلوب، والناس فيه قديماً وحديثاً على ضربين: قوم ينظرون إلى المادة المحسوسة، فلا يعنون إلا بالأسباب، ويغفلون أن الأمور كلها تدبر في الملكوت الأعلى، فما قام سببه غلب على ظنهم أنه سيقع، وما لم يقم له سبب لم يغلب على ظنهم أنه سيقع، ونفضوا أيديهم من التعلق بكمال وجلال الواحد الأحد، وآخرون غلوا في هذا الباب غلواً مجانباً فأهملوا الأسباب كلها، ولم يكن لهم قدوة يتأسون بها، حتى إن بعضهم يقول: جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غياهبه الجنين ونسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو إمام المتوكلين- حفر الخندق يوم الأحزاب، وظهر في درعين في يوم أحد، على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من عظيم التوكل على ربه، لكن الأسباب إذا انقطعت، والأبواب إذا سدت، فإنه حري بالمؤمن -ولو من غير سبب- أن يحسن الظن والتعلق بالواحد الأحد، وكفى بالله وكيلاً، فإن الله قادر على أن يقدّم من يشاء بفضله، ويؤخر من يشاء بعدله، فربنا لا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله. أيها المؤمنون! الخوف والرجاء جناحا طائر للمؤمن، والوسطية فيهما أن ينظر الإنسان إلى حال نفسه، فإن رأى في نفسه عملاً صالحاً قدمه فليغلب جانب الخوف؛ فإنه لا يدري قبل منه هذا العمل أم لم يقبل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، فإذا غلب عليه الذنب واستزلّه الشيطان فوقعت منه الجريرة غلب حسن الظن بربه تبارك وتعالى، والرجاء في رحمته جل وعلا، وليعلم أن الله جل وعلا كما أنه تبارك وتعالى يسمع الأصوات وإن خفيت، فإنه جل وعلا يغفر الذنوب وإن عظمت، بل ليس لنا إلا الله، فإن أذنبنا فليس لنا إلا الله يغفر لنا ذنوبنا، وإن عملنا صالحاً ليس لنا إلا الله يثيبنا على ما قدّمنا، فإذا حانت ساعة الأجل، وشعر المرء بدنو الموت فليغلب حينها حسن الظن بربه تبارك وتعالى كما أوصى رسولنا صلى الله عليه وسلم. عباد الله! هذه بعض من الأمور الوسطية التي دل عليها الشرع، وليس المقام مقام تفصيل، لكن من رزق عقلاً وإنصافاً وعلماً وهداية قاس الأشباه على النظائر، وألحق الأول بالآخر، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. بلغني الله وإياكم من القول والعمل أنفعه، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الموت حقيقة لا مفر منها

الموت حقيقة لا مفر منها الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرّفهم كيف ما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله. عباد الله! وإن مما خلقه الله جل وعلا وجعله أطواراً في بني آدم: أنه جل وعلا كتب عليهم قبل لقائه ساعة ضعف يؤمن فيها الفاجر، ويبصر فيها الكافر، ويعاين فيها المرء الموت، فقد أذل الله بالموت جبروت الأكاسرة، وأذل به عنفوان القياصرة، كتبه الله جل وعلا على كل نفس، قال جل ثناؤه، وتباركت أسماؤه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، بل كتبه على سيد خلقه وأشرف رسله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، وهذا النبي الخاتم يسّر الله القرآن على لسانه، قال الله جل وعلا: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، ومع علو فصاحته، وجميل بلاغته صلوات الله وسلامه عليه، فقد عجز في يوم مرض وفاته وهو ينظر إلى السواك وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء أن ينطق بكلمة: هات السواك، فلم يقدر إلا أن ينظر إلى السواك ويحدِّق النظر فيه، لتفهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مراده، فتأخذ السواك فتقضمه وتطيبه، ثم تعطيه إياه صلوات الله وسلامه عليه، وقبل ذلك كان يضع يده في ركوة فيها ماء ويقول: (لا إله إلا الله، اللهم إن للموت لسكرات، فأعني على سكرات الموت)، هذه اللحظات لا مفر منها، ولا محيد عنها، قد تكون ساعات، قد تكون دقائق، قد تكون لحظة لا يعلمها من حولك، قال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99]، وقال جل وعلا قبل ذلك: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] أي: الروح ((وَأَنْتُمْ)) أي: من حول الميت {حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:84] أي: إلى الميت ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)) أي: ملائكة الرحمن ((أَقْرَبُ إِلَيْهِ)) أي: أقرب إلى الميت ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ)) على أنكم تلامسونه، لكنكم لا ترون الملائكة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] أي: لا تُبصرون الملائكة وهي تنزع الروح {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86] أي: تزعمون أنه لا عودة ولا بعث ولا نشور ولا حساب {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:86 - 87] أي: أعيدوا الروح التي قبضناها {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:87]، وأنى لهم ذلك وقد كتب الله ألا يجعل ذلك بيد أحد منهم؟! هذه اللحظات يمر فيها على الإنسان كل ما مضى من أيامه، عندها عياذاً بالله يتمنى الفاجر، يتمنى الفاسق، يتمنى الكافر أن يعود، قال الله في سورة المؤمنون: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] مجرد كلمة، ثم قال الله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، فبعضنا ينعّم جعلنا الله جميعاً من أهل ذلك، والآخرون يعذّبون أعاذني الله وإياكم من ذلك، ثم يكون البعث والنشور؛ والمقصود -أيها المؤمنون- من هذه العبارة: أن ينظر الإنسان في صنيعه وأعماله وأقواله، ويتقي الله جل وعلا فيها، فالمؤمن إذا حسنت سريرته، وسلمت نيته، وصدق في توجهه إلى الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا كريم لا يهلك عليه إلا هالك، فمن رزق سريرة صالحة، وحسن توجه إلى الله، وكان أعظم ما أهمه في الدنيا وفادة على ربه أحسن الله جل وعلا وفادته عليه، فالقدوم على الله لحظات يختم بها للمرء، وينتقل فيها من حال إلى حال، فنعم العبد عبد أحسن الله جل وعلا وفادته عليه، وختم له بخير، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة)، اللهم املأ قلوبنا محبة لك، وتعلقاً بك، وحسن ظن بك يا رب العالمين! اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم كلنا إلى رحمتك وإحسانك وبرد عفوك يا ذا الجلال والإكرام! ألا وصلوا وسلموا على خير من ختم له بخير، الزهري أماً، الهاشمي أباً، أطهر الناس بيتاً ونسباً، صلى الله عليه، فإن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض الله عن أصحاب نبيك أجمعين، وخُّص اللهم منهم الأربعة الراشدين، وارحمنا اللهم معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم إنا نسألك حسن الوفادة عليك، اللهم إنا نسألك حسن الوفادة عليك، اللهم إنا نسألك حسن الوفادة عليك، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون

[6]

سلسلة بريق المواعظ المنبرية من رحاب مسجد قباء [6] عرض الخطبة الثانية: إن خلاصة أمر الله عز وجل أن تلتزم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فتعطيه فيما أمر، وتجتنب ما نهى عنه وزجر، وتصدقه فيما أخبر، ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر، ونهى عن مناهٍ كثيرة رأفة بالعباد، وحرصاً عليهم، وابتلاء لهم؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، ومن هذه النواهي: نهيه عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، ونهيه عن الضرب في الوجه، وكذلك نهيه عن القزع، والذي صار عادة للشباب في هذا الزمان الفتان، ثم ذكر آثار تدبر القرآن، وأهميته في حياة المسلم، فهو السبيل إلى التعرف على الله أكثر فأكثر.

ذكر بعض من المنهيات الرائجة في المجتمعات اليوم

ذكر بعض من المنهيات الرائجة في المجتمعات اليوم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم الله لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة، فإن تقوى الله جل وعلا أزين ما أظهرتم، وأكرم ما أسررتم، وأعظم ما ادخرتم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131]. عباد الله! إن مما شرعه الله لنا في كتابه أن جمع لنا سنة المعصوم صلى الله عليه وسلم في آية واحدة، قال الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ومن علم ما أضفى الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدي الكامل والطريق القويم علم أن الخير كله في اتباع أمره واجتناب نهيه صلوات الله وسلامه عليه، مع محبته وتوقيره، ألا وإن هناك جملة من المنهيات، نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الأخذ بها صلاح للفرد وصلاح للمجتمع، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا). عباد الله! مما نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عنه كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن نبينا صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه)، نهى البائع والمبتاع، وفي رواية صحيحة: (أنه سئل عن صلاحها؟ قال: إذا ذهبت عنها العاهة). وفي الصحيحين أيضاً من حديث أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، قيل: وما صلاحها؟ قال: حتى تزهو، قيل له: وما زهوها؟ قال: تحمار أو تصفار). عباد الله! من هذا يفهم أن بيع الثمار إنما يسمى: بيعاً للثمرة لا بيعاً للأصول، وفي مثل هذه الأوقات من كل عام في المناطق الزراعية يكثر ما يسمى: ببيع الصيف أو شرائه، ولما كان المؤمن مقيداً بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يتقيد بأمره ونهيه صلوات الله وسلامه عليه، والضابط الشرعي في شراء الثمار: أن تذهب عنها العاهة، أي: أن يغلب على الظن أن العاهة لا تصيبها، أي: الجائحة وما أشبهها، وهذا في الأغلب يكون إذا بدأ أول نضجها؛ ولهذا عبر عنه أنس رضي الله عنه وأرضاه: بأن تحمار أو تصفار، أي: أن يظهر عليها شيء من الحمرة، أو شيء من الصفرة، قال الفقهاء: نهى النبي صلى الله عليه وسلم البائع؛ لأن في أخذه المال قبل بدو الصلاح مال لا مقابل له، ونهى المبتاع أي: المشتري؛ لأن فعله ذلك تغرير ومخاطرة بماله، وقد جاء الشرع برفع الضرر عن الكل، ومن هنا يعلم أن الخير كل الخير، بل الواجب على المسلم وجوباً حتمياً: أن يقف عند نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أي خير يرتجى، وأي كسب هذا الذي يؤمل ويبتغى، وقد اتخذ الإنسان له طريقاً يخالف به هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فتقيدوا طيب الله مكاسبكم بهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم تفلحوا في الدارين، وتنجوا في الحياتين. عباد الله! ألا وإن مما نهى عنه رسولنا صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الضرب في الوجه)، ونحن نعلم أن الشرع أعطى بعض الناس الحق في تأديب من حوله، كتأديب الوالد لولده، والمعلم لتلميذه، والزوج لزوجته عند خوف نشوزها، إذا لم ينفع معها وعظ ولا هجر في مضجع، فهنا يجوز له أن يضربها ضرباً غير مبرح. والمقصود من الحديث على كل حال: تحريم الضرب في الوجه على أي حال يبتغى، بل قال بعض الفقهاء: حتى العدو إذا لقيته في المعركة وهو كافر فاحترز أن تضربه في وجهه، فربما أسلم وكان له شأن في إسلامه، فإذا كان هذا مما علمه الفقهاء واستنبطوه من الحديث النبوي، فكيف بمن يتعمد أن يضرب مؤمناً أياً كانت ولايته عليه على وجهه؟! إن في ذلك مخالفة صريحة صحيحة واضحة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل فيها تعد على نهيه وزجره صلوات الله وسلامه عليه، قال العلماء من الفقهاء معللين ذلك: لأن الوجه موضع المحاسن، وفي ضرب المؤمن في وجهه إهانة للصورة التي كرم الله جل وعلا بها بني آدم، أن خلق أباهم آدم عليها. والمقصود ولو لم تعرف العلة: أنه يجب عليك الوقوف عند هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لله أقدر عليك منك عليه

لله أقدر عليك منك عليه أيها المؤمنون! ومما ينبغي أن يعلم أن على الإنسان أن يحذر حذراً شديداً من الضرب لمجرد الضرب، كأن يضرب للتشفي، ولأسباب ذاتية شخصية، ولو زين له الشيطان أنه يفعل ذلك لصالح عام، كمن يضرب زوجته على وجهها أمام أولادها بنين وبنات، فإن هذا وإن زعم أنه يقوم بيتاً أو يصلح حالاً إنما يغرس الغل والأحقاد في قلوب أبنائهم وبناتهم، فربما لم يجد من يترحم عليه بعد وفاته، ومن المحال أن تجني من الشوك العنب، كما أنه ينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا يحق له شرعاً أن يضرب إلا من كتب الله له ولاية عنده، ضرباً غير مبرح، أما سائر من حولنا فإذا أخطئوا علينا فبيننا وبينهم القضاء، أما أن يترك الإنسان لنفسه أن يضرب من شاء متى شاء، مستمداً قوته من سلطان أو جاه أو مال أو غيره، فكل ذلك محرم شرعاً. روى الإمام مسلم في الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، قال: (كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت صوتاً يقول: لله أقدر عليك منك عليه، قال: فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، فقال: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار)، فهذا صحابي شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ما شهد من الغزوات، ومع ذلك قال له نبينا صلى الله عليه وسلم ما قال، فليحذر المؤمن أن يقترف إثماً في حق إخوانه المؤمنين، من تعد على مال أو عرض، أو على نفسه من باب أولى.

وقفة مع شباب الأمة ورجالها

وقفة مع شباب الأمة ورجالها أيها المؤمنون! ومما نهى نبينا صلى الله عليه وسلم عنه: (أنه مر على صبي قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهى صلى الله عليه وسلم عن القزع)، وهو في سنن أبي داود والنسائي بسند صحيح من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. ومن رأى حال كثير من شبابنا اليوم رأى عياناً أنهم يواجهون حملة تغريب آثمة، يراد بها صد شباب الأمة في المقام الأول عن دينهم، وإبعادهم عن هدي رسولهم صلى الله عليه وسلم، يتزعم ذلك كثير من الظاهرين أو الأخفياء عبر القنوات والإذاعات والصحف وغيرها، هذا يبطن وهذا يظهر، هذا يعلن وهذا يسر، والمقصود عياذاً بالله واحد، لا بلغهم الله مقصودهم. ولا ريب أن لرجال الحسبة دوراً رائداً وجهداً مشكوراً، لكن المسئولية تقع على الجميع، تقع على الآباء، وعلى الأئمة والخطباء، وعلى المعلمين في المقام الأول؛ لأنهم ألصق الناس بالتلاميذ والطلاب والمراهقين، لكن ينبغي أن يسوس الناس بعضهم بعضاً في الرفق، قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه). وإنه مما يدمي القلب أن يرى الإنسان رجلاً شاباً مؤمناً، يؤمل أن يكون أحداً من أحفاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ممن أكرم الله آبائهم بالسير على منهجهم وطريقتهم، فيلبس ما تتأفف عن لبسه ربات الحجاب، فكيف ينسب ذلك إلى المؤملين من الرجال. أيها المؤمنون! إنه ينبغي علينا ونحن ننتشل أبنائنا من هذا الطريق أن نبين لهم أن القوة الحقيقية في سلامة المعتقد، والأخلاق الكريمة، والحفاظ على القيم، والتأسي بنبينا صلى الله عليه وسلم والأخيار من أمته، كما ينبغي أن نحذر ممن يصطادون في الماء العكر ممن يتبنون منهجاً منحرفاً، فيوسوسون لذلك الشاب بأنهم يريدون إخراجه من عالم الأنوثة الذي يعيشه، إلى عالم الرجولة المزعومة عندهم، ويضعون تفكيره على طرائق التكبير، ويضعون يديه على الرصاص وغيره، يريدون أن يجعلوا منه خارجاً على ولي أمره، وقتالاً للمسلمين، وسفاكاً للدماء، تضييعاً منهم للحقوق، وهدماً لما شيدته الأمة من بنيان معنوي أو مادي، وكل ذلك -والعياذ بالله- طرائق آثمة، فدين الله جل وعلا بين الغالي فيه والجافي عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن نكون لحمة واحدة ينفع أحدنا نفسه قبل الآخرين، ثم ينفع من أمرهم الله جل وعلا بأن يعولهم، يبني نفسه بناءً عقدياً ورجولياً وأخلاقياً، وينفع أمته ووطنه ومجتمعه ونفسه كما بينا في المقام الأول، فإذا وجد أمثال هؤلاء انتفعت الأمة، وصلح حالها، وقام الجيل على أحسن منوال، أما إن سعى الناس إلى الأخذ بطرائق التغريب، أو بطرائق التفجير والتكفير فكل ذلك باطل منهي عنه في كتاب الله، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

تدبر كلام الله عز وجل من أعظم أسباب التوفيق

تدبر كلام الله عز وجل من أعظم أسباب التوفيق الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: عباد الله! فإن القدرة على ترك المنهيات، والقدرة على المسارعة في الخيرات، والمسابقة في الطاعات، لا تكون إلا لمن وفقه الله، وإن من أعظم أسباب التوفيق: تدبر كتاب الله جل وعلا، ففي تدبر القرآن، قرب من العلي الرحمن جل جلاله، فالله جل وعلا جعل في كتابه العظيم بصائر وهدى، ورحمة وشفاء لعباده المؤمنين، فيتدبر القرآن، ومعرفة مقاصده، جلاء القسوة من القلوب، قال الله جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، من تدبر القرآن حق التدبر عرف عظمة ربه، وعرف جلال قدرته، وكمال جماله، وعز جلاله سبحانه وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]، من تدبر القرآن هانت الدنيا في عينيه، وترك الفانيات، وسابق في الخيرات، ونافس في الطاعات والباقيات الصالحات، قال ربنا وهو أصدق القائلين: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:45 - 46]، ثم قال جل ذكره يرشد عباده وأوليائه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]. ومن أعظم ما فسرت به الباقيات الصالحات أن يقول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. من تدبر القرآن عرف عظمة الكتاب الذي يقرأ، والقرآن الذي يتلو، وعرف حال المؤمنين فسأل الله أن يسلك به سبيلهم، وحالهم في الآخرة، وطمع من الله أن يلحقه بهم، وعرف حال الكفار والفساق والفجار، فجأر إلى ربه أن يعيذه من هذا الطريق، وعلم مآلهم في الآخرة، فاشتد إلحاحه على ربه أن يجيره من النار، قال الله وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:41 - 43]. اللهم اجعلنا من أهل مغفرتك، وأعذنا اللهم من عقوبتك، من تدبر القرآن جعل هواه وراء ظهره، وقدم مراد الله ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم على كل مراد وهوى، ولم يبال بما ألقى وراء ظهره، فمن رضي الله عنه لم يضره سخط أحد، ومن سخط الله عليه لم ينفعه رضا أحد، اللهم إنا نسألك رضاك الذي لا سخط بعده. ألا وصلوا وسلموا على من أنارت المدينة له في يوم هجرته، وأظلم منها كل شيء في يوم دفنه وإيداعه حفرته، الطاهر نسباً، والكامل أدباً، الزهري أماً، الهاشمي أباً، إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا وصلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم وارض عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عنا جميعاً بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! واغفر اللهم لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك مرداً إليك غير مخزي ولا فاضح يا ذا الجلال والإكرام! اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجعله اللهم رحمة على البلاد والعباد يا رب العالمين! اللهم ارفع الضر واللأواء على إخواننا المسلمين في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام! اللهم عليك بكل عدو للإسلام، أظهر أم أبطن يا رب العالمين! اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية يا ذا الجلال والإكرام! اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، أنت الله لا إله إلا أنت، الواحد الأحد الفرد الصمد، الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تصلي على محمد وآله، وأن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا نسألك غيث الإيمان في قلوبنا، وغيث السماء في أرضنا يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنين الآنة، وحنين الحانة يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، وبارك لنا في سكنانا في مدينة رسولك صلى الله عليه وسلم. اللهم أمتنا على سنته، واحشرنا على ملته، عند حوضه وتحت رايته. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

§1/1