بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية

محمد الخادمي

مقدمة

[مُقَدِّمَة] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلْنَا خَيْرَ أُمَمٍ أُمَّةٍ مَرْحُومَةٍ مَغْفُورَةٍ مُثَابَةٍ غَايَةَ كَرَمٍ وَمُبَارَكَةٍ لَا يَدْرِي أَوَّلُهَا خَيْر

أَو آخِرِهَا مِنْ شُمُولِ النِّعَمِ مِنْ فَضْلٍ أَتَى مِنْ قِبَلِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ التَّحِيَّةُ وَالْكَرَمُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَفْضَلِ رُسُلِهِ الَّذِي بِتَبَعِيَّتِهِ يُفَازُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بَلْ يُنَالُ إلَى أَقْصَى الرِّيَاسَتَيْنِ وَبِمُحَافَظَةِ حُدُودِ شَرِيعَتِهِ يُتَنَجَّى عَنْ الْأَهْوَالِ وَالْهَلَكَاتِ وَبِحِرَاسَةِ حِمَى سُنَّتِهِ يُوصَلُ إلَى قُصْوَى الْأَمَانِي وَالدَّرَجَاتِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ هُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ كَانُوا هُمْ تَبِعُوهُ، وَجَاهَدُوا مَعَهُ وَآوَوْا وَقَدْ نَصَرُوا. (وَبَعْدُ) فَمِنْ أَجْلَى الْبَدِيهِيَّاتِ شَرْعًا وَأَوْضَحِ الْيَقِينِيَّاتِ عَقْلًا أَنَّ الدُّنْيَا فَانٍ وَآخِرَ لِبَاسِ الْإِنْسَانِ الْأَكْفَانُ وَأَنَّ الِارْتِحَالَ مِنْهَا كَانَ وَعْدًا مَأْتِيًّا وَالشُّرْبَ مِنْ كَأْسِ الْمَنِيَّةِ حَتْمًا مَقْضِيًّا أَوَّلُهَا ضَعْفٌ وَفُتُورٌ وَآخِرَهَا مَوْتٌ وَقُبُورٌ فَدَارُ نِفَاقٍ وَشِقَاقٍ وَمَوْطِنُ عُبُورٍ وَفِرَاقٍ مَشُوبَةٌ بِالْفِتَنِ وَالشُّرُورِ سَلَّابَةٌ لِلْأَذْوَاقِ وَالسُّرُورِ عِزُّهَا مَعَ الذُّلِّ مُحَرَّمٌ وَنِعَمُهَا مَعَ النِّقَمِ تَوْأَمٌ فَأَوَّلُهَا خِزْيٌ وَغَمٌّ وَآخِرُهَا مُذَمٌّ وَهَمٌّ مَنَّاعَةُ النِّعَمِ أَكَّالَةُ الْأُمَمِ مِنَحُهَا مِحَنٌ وَمِحَنُهَا مِنَحٌ وَمِنَنٌ فَرُكُونُهَا وَيْلٌ وَوَبَالٌ وَاعْتِمَادُهَا وِزْرٌ وَضَلَالٌ. رَأَيْت الدَّهْرَ مُخْتَلِفًا يَدُورُ ... وَلَا حُزْنٌ يَدُومُ وَلَا سُرُورُ وَشَيَّدَتْ الْمُلُوكُ بِهَا قُصُورًا ... فَمَا بَقِيَ الْمُلُوكُ وَلَا الْقُصُورُ وَلَا يُوثَقُ بِالدَّوْلَةِ فَإِنَّهَا ظِلٌّ زَائِلٌ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى النِّعْمَةِ فَإِنَّهَا ضَيْفٌ رَاحِلٌ، لَوْ كَانَ الدَّوْلَاتُ دَائِمَةً لَكَانُوا كَغَيْرِهِمْ رَعَايَا لَكِنْ لَيْسَ لِلدَّوْلَاتِ دَوَامٌ. أَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَأَيْنَ الْأَسْلَافُ وَالْأَحْفَادُ أَيْنَ قَيَاصِرَةُ الْقُصُورِ وَأَيْنَ هُرَامِزِةِ الدُّهُورِ أَيْنَ شَدَّادٌ وَعَادٌ وَأَيْنَ إرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ؟ وَإِنَّ فِي الْآخِرَةِ دَارًا لَيْسَ فِيهَا إلَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ وَعَظِيمُ الْبَطْشِ بِمَقَامِعِ الْحَدِيدِ وَيَنَابِيعِ الصَّدِيدِ وَعِنْدَ النُّضْجِ التَّبْدِيلُ بِالْجَدِيدِ وَالْأَخْذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ وَاسْوِدَادُ وُجُوهِ الْأَقْوَامِ وَالْكَبُّ عَلَى الْوُجُوهِ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَسَرَاوِيلُ الْقَطْرَانِ وَالْأَنْكَالِ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ الرُّءُوسِ الْحَمِيمُ وَيُصْهَرُ مَا فِي الْبُطُونِ بِحُكْمِ الْحَكِيمِ وَطَعَامُهُمْ زَقُّومٌ وَغَسَّاقٌ وَغِسْلِينٌ وَالْعَطَشُ إلَى انْقِطَاعِ الْأَكْبَادِ وَغَلُّ الْأَعْنَاقِ إلَى الْإِيَادِ وَلَيْسَ الْكُلَّ إلَّا وَارِدٌ وَلَيْسَ فِيهَا رَاحَةٌ وَلَا بَارِدٌ وَأَنْتَ فِي ذُهُولٍ

وَغُفُولٍ بَعِيدٍ وَتَقُولُ النَّارُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. وَإِنَّ فِيهَا دَارًا أُخْرَى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ فِي اللَّهِ جَاهَدُوا وَصَارُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ وَمُلْكٌ كَبِيرٌ عَظِيمٌ وَنَضْرَةُ النَّعِيمُ عِزَّتُهَا بَاقِيَةٌ وَنِعَمُهَا صَافِيَةٌ وَعَنْ الْفَنَاءِ خَالِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا لَاغِيَةٌ وَقُطُوفُهَا دَانِيَةٌ وَأَذْوَاقُهَا مُتَوَالِيَةٌ شَرَابُهَا رَحِيقٌ وَلِبَاسُهَا حَرِيرٌ أَنِيقٌ وَسُنْدُسٌ وَإِسْتَبْرَقٌ عَمِيقٌ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ وَسُرَرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ مُتَّكِئِينَ عَلَى أَرَائِكَ مَصْفُوفَةٍ. فِيهَا الْوِلْدَان وَالْغِلْمَانُ وَحُورٌ عَيْنٌ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ شَكِلَاتٌ غِنْجَاتٌ آمِنَاتٌ مِنْ الْهَرَمِ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخَيْمِ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ مِنْ مَاءٍ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَفِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ وَعَتْ وَلَا عَلَى قَلْبٍ خَطَرَتْ وَأَعْظَمُ النِّعَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ رُؤْيَةُ الْمَلِكِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَبِمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدِينَ فِيهَا عَلَى الْوِفَاقِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَلَاصَ مِنْ الدَّارِ الْأُولَى وَالْوُصُولَ إلَى الثَّانِيَةِ فِي الْعُقْبَى إنَّمَا يَحْصُلَانِ بِالتَّشَرُّعِ بِالشَّرْعِ الْمَتِينِ وَالتَّسَنُّنِ بِأَصَحِّ السَّنَنِ الْمَكِينِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَدَوَاعِي فَاسِدَاتِ الْمُيُولَاتِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَتَحْلِيَةِ الْمَلَكَاتِ الْحَمِيدَةِ وَصِدْقِ الْمُجَاهَدَةِ فِي تَحْصِيلِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَقَهْرِ إمَارَةِ النَّفْسِ وَالْمُيُولَاتِ الْفَاسِدَاتِ كَمَا قِيلَ الْإِسْلَامُ ذَبْحُ النَّفْسِ بِسُيُوفِ الْمُجَاهَدَةِ وَتَرْكُ الْهَوَى بِالْمُخَالَفَةِ فَإِنَّهَا مُعِينَةٌ لِلْأَعْدَاءِ سَائِقَةٌ لِلْأَسْوَاءِ، سَيْفُ الشَّيْطَانِ وَآلَةُ الْعِصْيَانِ وَمَنْشَأُ الطُّغْيَانِ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ وَبَلَاؤُهَا أَصْعَبُ الْبَلْوَى وَعِلَاجُهَا أَعْسَرُ الْأَشْيَاءِ وَدَاؤُهَا أَعْضَلُ الدَّاءِ وَدَوَاؤُهَا أَشْكَلُ الدَّوَاءِ لِأَنَّهَا عَدُوٌّ مِنْ الدَّاخِلِ وَلَيْسَ لِدَفْعِ ضُرِّهِ كَافِلٌ نَفْسِي إلَى مَا ضَرَّنِي دَاعِي ... تُكْثِرُ أَسَقَامِي وَأَوْجَاعِي كَيْفَ احْتِيَالِي مِنْ عَدُوِّي إذَا ... كَانَ عَدُوِّي بَيْنَ أَضْلَاعِي إنَّهَا عَدُوٌّ مَحْبُوبٌ وَذَنْبُ الْمَحْبُوبِ مَرْغُوبٌ بَلْ مُسْتَحْسَنٌ وَمَطْلُوبٌ فَكُلُّ الْفَضَائِحِ إنَّمَا تَنْشَأُ مِنْهَا وَكُلُّ الْمَصَائِبِ إنَّمَا يَتَحَصَّلُ بِهَا وَأَيْضًا مُخَالَفَةُ الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ عَدُوٌّ مَكِينٌ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَغَايَةُ جَهْدِهِ لَيْسَ إلَّا هَلَاكًا قَوِيًّا {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] غَوِيًّا فَمَجْبُولٌ عَلَى إيقَاعِ كُلِّ خِزْيٍ عَلَيْهِ قَدِيرٌ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ وَقَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِإِيقَاعِ النَّارِ الْحَمِيمِ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] . إلَى أَنْ قَالَ {لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] فَيَنْفُذُ حُكْمُهُ لِقَوْمٍ غَافِلِينَ {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] فَيُوقِعُهُمْ إلَى فِتْنَةِ الْمَعَاصِي نَحْوَ ذُنُوبٍ كَالْجِبَالِ الرَّوَاسِي وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ وَالْقَهْرُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ بِاتِّبَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا اتِّبَاعُهُ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْأُخْرَى فَبِقَدْرِ الْإِعْرَاضِ وَالْإِقْبَالِ قَدْرُ سُلُوكِ سَبِيلِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ وَعَلَى قَدْرِ سُلُوكِ سَبِيلِهِ قَدْرُ قُرْبِهِ وَلُحُوقِ زُمْرَتِهِ وَنَيْلِ شَفَاعَتِهِ وَبِقَدْرِ إقْبَالِ الدُّنْيَا قَدْرُ الْبُعْدِ عَنْهُ، وَبِقَدْرِ قُرْبِ الْهَوَى قَدْرُ اللُّحُوقِ فِي زُمْرَةِ {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37] {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: 38] {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39] وَلَعَمْرِي لَوْ أَنْصَفْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا مِنْ الصُّبْحِ إلَى الْمَسَاءِ لَا نَسْعَى إلَّا لِلْعَاجِلَةِ كَأَنَّا لَا نَطْمَعُ الدُّخُولَ بِزُمْرَتِهِ فِي الْآجِلَةِ فَإِنْ ظَنَنَّا ذَلِكَ وَنَحْنُ نُصِرُّ عَلَى فِعْلِنَا فَمَا أَبْعَدَ ظَنَنَّا وَمَا أَبْرَدَ طَمَعَنَا {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] . {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 36] ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ الطَّرِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ كَافِلًا لِمُعْظَمِ هَذِهِ كُلِّهَا دِقُّهَا وَجُلُّهَا وَلَمْ يُهْمِلْ دَقِيقَةً مِنْ الْمُهْلِكَاتِ وَقَطْرَةً مِنْ الْمُنْجِيَاتِ إلَّا وَقَدْ أَتَى بِأُسْلُوبٍ عَجِيبٍ وَتَرْتِيبٍ غَرِيبٍ وَنَهْجٍ بَدِيعٍ، اجْتَهَدْت فِي شَرْحِهِ وَتِبْيَانِهِ خِدْمَةً مَوْعُودَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقُرْبَةً وَوَصْلَةً لِلَّهِ الْأَعَزِّ الْأَجَلِّ الْأَكْرَمِ فَجَاءَ بِحَمْدِهِ تَعَالَى بِلَطَائِفَ دِيَانِيَّةٍ وَمَعَارِفَ نَبَوِيَّةٍ فِي قَوَاعِدَ فَاخِرَةٍ وَأُصُولٍ بَاهِرَةٍ مَعَ زِيَادَاتٍ جَلِيلَةٍ وَتَوْضِيحَاتٍ جَمِيلَةٍ وَتَلْوِيحَاتٍ بَاهِرَةٍ وَتَصْرِيحَاتٍ ظَاهِرَةٍ وَتَحْقِيقَاتٍ عَمِيقَةٍ وَتَدْقِيقَاتٍ أَنِيقَةٍ وَتَقَيُّحَاتٍ بَهِيَّةٍ وَتَرْشِيحَاتٍ عَلِيَّةٍ وَلَطَائِفَ مَزِيَّةٍ وَفَوَائِدَ شَهِيَّةٍ وَفَرَائِدَ وَافِيَةٍ مِنْ كُتُبٍ مُعْتَبَرَةٍ وَزُبُرٍ مُعْتَمَدَةٍ، وَمِنْ أَسْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْفَاسِ الْأَوْلِيَاءِ وَكُنُوزِ الْعُلَمَاءِ وَخَزَائِنِ الْحُكَمَاءِ وَأَبْكَارِ أَفْكَارِ

الْفُضَلَاءِ فَإِذَا هُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ وَالتِّرْيَاقُ الْأَكْبَرُ لِكَوْنِهَا شُمُوسًا مِنْ مَشَارِقِ النُّبُوَّةِ طَلَعَتْ وَأَقْمَارًا مِنْ أُفُقِ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ بَدَرَتْ فَكَأَنَّهَا حَرِيَّةٌ بِأَنْ تُسَمَّى (بَرِيقَةٌ مَحْمُودِيَّةٌ فِي شَرْحِ طَرِيقَةٍ مُحَمَّدِيَّةٍ وَشَرِيعَةٍ نَبَوِيَّةٍ فِي سِيرَةٍ أَحْمَدِيَّةٍ) . فَأَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَيَنْفَعَ بِهِ لِجَامِعِهِ وَقَارِئِهِ وَنَاظِرِهِ وَكَاتِبِهِ نَفْعًا مُوجِبًا لِعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ بَلْ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ مَعَ الْمُنَعَّمِينَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِسُنَّتِهِمْ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِمْ. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَدْ قَضَيْنَا الْوَطَرَ فِي حَقِّ الْبَسْمَلَةِ الشَّرِيفَةِ فِي رِسَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْفُنُونِ إلَى أَنْ تَبْلُغَ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَنًّا فَلْنَكْتَفِ بِمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَالْبَيْضَاوِيِّ تَرْجِيحُ جَانِبِ الِاسْتِعَانَةِ فِي الْبَاءِ مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي جَوَازِهَا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ الِاسْتِعَانَةِ طَلَبُ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى إيقَاعِ الْفِعْلِ وَإِحْدَاثِهِ وَذَلِكَ بِإِفَاضَةِ الْقُدْرَةِ مُمْكِنَةً أَوْ مُيَسَّرَةً عَلَيْهِ مَا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْفِعْلِ إمَّا التَّصْنِيفُ أَوْ الْقِرَاءَةُ أَوْ الْعِبَادَةُ أَوْ نَحْوُهَا فَإِنْ أُرِيدَ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ الْقُوَّةُ الَّتِي يَصِحُّ صَرْفُهَا لِلْفِعْلِ وَعَدَمِهِ فَهِيَ حَاصِلَةٌ قَبْلَ الطَّلَبِ فَيَلْزَمُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِنْ أُرِيدَ الْقُدْرَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالصَّرْفِ أَيْ صَرْفِ الْعَبْدِ قُدْرَتَهُ إلَى الْفِعْلِ فَهُوَ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ قُدْرَةِ اللَّهِ بِفِعْلِ الْعَبْدِ مَشْرُوطٌ بِذَلِكَ الصَّرْفِ عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ الصَّرْفُ مِنْ الْعَبْدِ لَا يُوجَدُ الْخَلْقُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَادَته وَإِنْ أُرِيدَ تَعَلُّقُ قُدْرَتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الصَّرْفِ مِنْ الْعَبْدِ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ أَيْضًا عَلَى عَادَتِهِ تَعَالَى فَلَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِهِ وَبِالْجُمْلَةِ طَلَبُ الْمُعَاوَنَةِ هُوَ طَلَبُ الْقُدْرَةِ. فَالْقُدْرَةُ الْمَطْلُوبَةُ إنْ كَانَتْ مَا هِيَ صِفَةٌ لِلْعَبْدِ صَالِحَةٌ صَرْفُهَا لِلضِّدَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ أَوْ سَلَامَةِ الْآلَاتِ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا صِحَّةُ التَّكْلِيفِ فَهِيَ صَالِحَةٌ قَبْلَ الطَّلَبِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الطَّلَبِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنَ ذَلِكَ الصَّرْفِ وَلَوْ مَجَازًا فَقَدْ قُرِّرَ أَنَّهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فِي الْخَارِجِ وَصُدُورُهُ مِنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَقَطْ وَلَوْ فُرِضَ صُدُورُهُ مِنْ اللَّهِ يَلْزَمُ الْجَبْرُ فَلَا مَعْنَى لِطَلَبِ الْمُعَاوَنَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى فِعْلٍ مَا وَنَحْوُهُ طَلَبُ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ وَنَحْوِهَا وَمُذْ زَمَانٍ كَثِيرٍ يَخْتَلِجُ ذَلِكَ فِي خَاطِرِ هَذَا الْفَقِيرِ عَصَمَهُ اللَّهُ وَلَا يَجِدُ مَلْجَأً غَيْرَ التَّفْوِيضِ إلَى عِلْمِهِ تَعَالَى وَالتَّبَعِيَّةِ بِالنُّصُوصِ وَالسَّلَفِ ثُمَّ اطَّلَعْت فِي بَحْثِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِلْعَبْدِ مِنْ الْبَيْضَاوِيِّ. وَلِصُعُوبَةِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْكَرَ السَّلَفُ مُنَاظَرَتَهُ لِتَأَدِّيهِ إلَى إنْكَارِ التَّكْلِيفِ أَوْ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ بَعْدَمَا قَالَ الْأَوْلَى هُوَ طَرِيقُ السَّلَفِ مِنْ تَرْكِ الْمُنَاظَرَةِ وَتَفْوِيضِ الْعِلْمِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هَذَا ثُمَّ سَبَقَ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ طَلَبُ الْمُعَاوَنَةِ بِإِلْقَاءِ نَحْوِ الشَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ وَإِخْطَارِ الْأَمْرِ الْمُلَائِمِ بِالْقَلْبِ عَلَى وَجْهٍ يُرَجِّحُ الْعَبْدُ جَانِبَ الْفِعْلِ مَثَلًا يَعْنِي يَحْصُلُ الصَّرْفُ بِلَا رُتْبَةِ إيجَابٍ وَاضْطِرَارٍ وَنَحْوِهَا لَا يَبْعُدُ صُدُورُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ عَلَى أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا يَبْعُدُ صُدُورُ نَحْوِ هَذَا الْوُجُودِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَالْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ وَغَايَتُهُ لُزُومُ عَدَمِ الْمَخْلُوقِيَّةِ فِي بَعْضِ مَا صَدَرَ عَنْهُ تَعَالَى لَعَلَّهُ لَا بَأْسَ فِيهِ بَلْ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ. فَلَعَلَّك بِهَذَا الْقَدْرِ تَفْهَمُ تَحْقِيقَ الْمَقَامِ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَفِعُ حُجُبٌ نَحْوَ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ بَلْ اسْتِصْعَابُ الْبَيْضَاوِيِّ وَاعْتِرَافُ الْأَصْفَهَانِيِّ حَتَّى التَّفْتَازَانِيِّ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَبِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ بِحَقَائِقِ الْمَقَامِ يَنْكَشِفُ ظُلُمَاتُ الْأَوْهَامِ بِعِنَايَةِ الْمُفَضِّلِ الْمِنْعَامِ. وَتَمَامُ تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِي بَحْثِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْفَتَّاحُ الْمَنَّانُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هُوَ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ لِلتَّعْظِيمِ وَكَوْنُهُ غَيْرَ نِعْمَةٍ هَذَا هُوَ الْحَمْدُ اللُّغَوِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ

يُفَسِّرُونَهُ بِهِ وَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ اخْتِيَارُ جَانِبِ الْعُرْفِيِّ إذْ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا أَيْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ بَلْ الشَّرْعُ أَيْضًا يُرَجِّحُ الْعُرْفَ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْعُرْفِ إمَّا الْعُرْفُ الْعَامُّ فَيَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُطْلَقًا فِي أَيِّ فَنٍّ كَانَ أَوْ الِاصْطِلَاحُ الْخَاصُّ وَالْمُتَبَادِرُ فِي أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ هُوَ اصْطِلَاحُ أَهْلِ الشَّرْعِ وَالْمَقَامُ تَخَاطُبُ الشَّرْعِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلَا يُصَارُ إلَى مَجَازِهِ بِلَا صَارِفٍ وَقَدْ قُرِّرَ لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ بِلَا تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ وَأَيْضًا مُقْتَضَى الْعَقْلِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْعُرْفِيِّ إذْ هُوَ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا إذْ حَاصِلُهُ مُطْلَقُ التَّعْظِيمِ الشَّامِلِ لِمَا بِاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْأَرْكَانِ وَظَاهِرٌ أَنَّ مَا كَانَ شُمُولُهُ أَكْثَرَ فِي الْفَائِدَةِ أَوْفَرُ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْحَمْدَ هُنَا لَيْسَ مُنْبَعِثًا مِنْ قِرَاءَةِ هَذَا الْكِتَابِ فَقَطْ بَلْ تَصْنِيفُهُ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ حَتَّى الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ. وَأَمَّا خُصُوصُ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ النِّعْمَةُ فَلَا يَضُرُّ بَلْ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ حَمْدَ اللَّهِ لَا يَخْلُو عَنْ نِعْمَتِهِ وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُهُ تَعَالَى الْحَمْدَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ وَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ نِعْمَتِهِ وَإِنْ أَهَمَّ فَمِنْ قَبِيلِ اسْتِلْزَامِ مُحَالٍ مُحَالًا آخَرَ أَوْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْوَاقِعِ بِمَقَامِ التَّصْنِيفِ وَالْقِرَاءَةِ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ أَنَّ التَّحْمِيدَاتِ النَّبَوِيَّةَ وَالْمَأْثُورَةَ عَلَى أَلْفَاظِ نَحْوِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ الظَّاهِرُ مِنْ أَمْثَالِهَا إنْشَاءُ الْحَمْدِ لَا الْإِخْبَارُ وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِي الْمُؤْثُورَاتِ هُوَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي الْحَمْدِ كَوْنُ الْمَحْمُودِ مُخْتَارًا وَهُوَ كَمَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيجَابِ وَأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى الِاخْتِيَارِيِّ أَبْلَغُ مِمَّا عَلَى الْإِيجَابِيِّ وَكَوْنُهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَأَيْضًا لِلْعُمُومِ السَّابِقِ فِي الْحَمْدِ مَدْخَلٌ مَا فِي التَّرْجِيحِ وَإِنَّ اللِّسَانَ أَكْثَرُ شُيُوعًا لِلنِّعَمِ وَأَدَلُّ عَلَى شَرَفِهَا لِخَفَاءِ الِاعْتِقَادِ وَلِاحْتِمَالِ الْجَوَارِحِ لِغَيْرِ الشُّكْرِ أَوْ لِغَيْرِ شُكْرِ النِّعْمَةِ الْمُعَيَّنَةِ. وَبِمَا قَرَّرْنَا عَرَفْت وَجْهَ اخْتِيَارِ الْحَمْدِ عَلَى الشُّكْرِ وَالْمَدْحِ سِيَّمَا الشُّكْرَ الْعُرْفِيَّ الَّذِي هُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إلَى مَا خَلَقَ لَهُ وَمِمَّا ذُكِرَ عَرَفْت سِرَّ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَأْسُ الشُّكْرِ» لِأَنَّ الشُّكْرَ لَمَّا كَانَ بِاللِّسَانِ وَالْجِنَانِ وَالْأَرْكَانِ وَكَانَ اللِّسَانُ أَشْيَعَ وَأَدَلَّ وَفِيهِ إظْهَارُ النِّعْمَةِ كَانَ رَأْسًا وَلَعَلَّ بِمِثْلِ هَذَا فُضِّلَ التَّحْمِيدُ عَلَى التَّسْبِيحِ بَلْ عَلَى التَّهْلِيلِ عِنْدَ بَعْضٍ بِظَاهِرِ بَعْضِ الْحَدِيثِ وَإِنْ رُدَّ فِي التَّهْلِيلِ لِعَدَمِ مُعَادَلَةِ شَيْءٍ لَهُ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِالْجَمِيلِ إنْ كَانَ صِلَةً لِلْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْمُودِيَّةِ مُطَابَقَةً وَعَلَى الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ الْتِزَامًا وَإِنْ لِلسَّبَبِيَّةِ فَعَلَى الْعَكْسِ وَالْوَصْفِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاصِفٍ فَهُوَ الْحَامِدُ وَمِنْ مَوْصُوفِ تِلْكَ الصِّفَةِ فَهُوَ الْمَحْمُودُ وَنَفْسُ الْوَصْفِ مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْمَحْمُودِيَّةِ فَتَحْقِيقُ مَاهِيَّةِ الْحَمْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْقِيقِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ. فَالْأَوَّلُ أَيْ الْمَحْمُودُ بِهِ صِفَةٌ تُظْهِرُ اتِّصَافَ شَيْءٍ بِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ صِفَةَ كَمَالٍ يُدْرَكُ عَقْلًا وَلَوْ بِدِقَّةِ نَظَرٍ أَوْ تَعَلُّمٍ

وَالْجَمِيلُ عَامٌّ لِمَا فِي الْوَاقِعِ أَوْ عِنْدَ الْحَامِدِ أَوْ الْمَحْمُودِ بِزَعْمِ الْحَامِدِ فَالظُّلْمُ الَّذِي ادَّعَى حُسْنَهُ حَمْدٌ وَأَيْضًا يَجُوزُ كَوْنُ الْمَحْمُودِ بِهِ سَلْبِيًّا أَيْضًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ فَوَاضِلَ أَيْ مُتَعَدِّيًا كَأَنْعَامٍ أَوْ فَضَائِلَ أَيْ غَيْرِ مُتَعَدٍّ كَحَسَنٍ وَلَا بَيْنَ كَوْنِهِ الْمُتَعَدِّيَ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لَا عَلَى مَا نَقَلَ مِنْ الدَّوَانِيِّ وَصَدْرِ الْأَفَاضِلِ فِي حَاشِيَةِ التَّجْرِيدِ وَالْمَطَالِعِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ شَرْحِ التَّهْذِيبِ اخْتِصَاصُهُ بِالِاخْتِيَارِيِّ وَلِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ. أَقُولُ هَذَا لَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ عَلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ بِالْمَشْهُورِ فِي دِيبَاجَتِهِ وَأَنَّ الْمَشْهُورَاتِ مِنْ الْجَدَلِيَّاتِ وَأَنَّ تَعْلِيلَهُ بِأَنَّ الْجَمِيلَ اخْتِيَارِيٌّ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ وَهُوَ بِالِاخْتِيَارِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ بُرْهَانًا تَأَمَّلْ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَالِعِ اخْتِيَارُ التَّعْمِيمِ وَالثَّانِي أَيْ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ مَا يَقَعُ الْمَحْمُودُ بِهِ لِأَجْلِهِ فَلَوْلَاهُ لَمْ يَقَعْ فَهُوَ كَالْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ لِلْوَاصِفِ عَلَى الْوَصْفِ أَوْ هُوَ عِلَّتُهُ وَقَدْ يَتَّحِدُ الْمَحْمُودُ بِهِ وَعَلَيْهِ ذَاتًا وَيَتَغَايَرَانِ اعْتِبَارًا فَإِنَّ الشَّجَاعَةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْوَصْفِ بِهَا مَحْمُودًا بِهِ وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْوَصْفِ لِأَجْلِهَا لِقِيَامِهَا فِي مَحِلِّهَا مَحْمُودًا عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّ الْمَحْمُودَ عَلَيْهِ يَجِبُ كَوْنُهُ كَمَالًا وَلَوْ فِي زَعْمِ الْحَامِدِ أَوْ الْمَحْمُودِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ فِعْلَ الْمَحْمُودِ أَوْ كَيْفِيَّتَهُ ثُمَّ الْمَشْهُورُ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا وَلَوْ حُكْمًا فَأَوْرَدَ بِنَحْوِ الثَّنَاءِ عَلَى صَفَاءِ اللُّؤْلُؤِ وَرَشَاقَةِ الْقَدِّ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ مَدْحٌ لَا حَمْدٌ وَلَوْ مَجَازًا وَأَشْكَلَ بِثَنَائِهِ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْغَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاخْتِيَارِيَّ شَامِلٌ لِمَا يَكُونُ أَثَرُهُ اخْتِيَارِيًّا أَوْ بِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُسْتَقِلًّا فِي مَصْدَرِيَّتِهَا كَالِاخْتِيَارِ أَوْ هُوَ مَجَازٌ وَبَابُ الْمَجَازِ وَاسِعٌ كَتَحَامُدِ الرَّعَايَا عَلَى الْكَلَأِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمِنْ الْمَجَازِ حَمِدَتْ الْأَرْضُ وَالثَّالِثُ أَيْ الْحَامِدُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَظِّمًا لِلْمَحْمُودِ فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِ وَجَمِيعِ أَفْعَالِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَوْ اقْتَرَنَ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ بِنَحْوِ تَحْقِيرٍ وَاسْتِهْزَاءٍ وَلَوْ بِاحْتِمَالٍ مَعَ تَحَقُّقِ التَّعْظِيمِ مِنْ الْجَمِيعِ يَكُونُ حَمْدًا لِأَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ فِي التَّعْظِيمِ عُمُومُ الْإِفْرَادِ. كَذَا قَرَّرَ صَدْرُ الْأَفَاضِلِ وَأَيَّدَ بِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعْظِيمُ وَالتَّحْقِيرُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ فَلَوْ فُرِضَ اجْتِمَاعُهُمَا يُرَجَّحُ جَانِبُ التَّحْقِيرِ لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنْ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ خَارِجٌ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْحَظْرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اعْتِقَادُ الْحَامِدِ اتِّصَافَ الْمَحْمُودِ بِالْجَمِيلِ الَّذِي أَتَاهُ إنْ لَمْ يُقَارَنْ بِشَوْبِ تَحْقِيرٍ فَيَدْخُلُ هَذَا الْوَصْفُ الَّذِي اعْتَقَدَ الْحَامِدُ انْتِفَاءَهُ عَنْ الْمَحْمُودِ فِي الْحَمْدِ هَذَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ لَكِنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُطَابِقْ الْقَوْلُ الِاعْتِقَادَ يَكُونُ سُخْرِيَةً فَدَفَعَهُ الدَّوَانِيُّ بِأَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الِاعْتِقَادِ لَازِمُهُ الَّذِي هُوَ إنْشَاءُ التَّعْظِيمِ إذْ الْحَمْدُ إنْشَاءٌ وَلَا حُكْمَ فِي الْإِنْشَاءِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ أَلَا يَرَى أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ أَوْصَافًا جَمِيلَةً فِي نَحْوِ الْعَقَائِدِ الْقَطْعِيِّ انْتِفَاؤُهَا عَنْ الْمَمْدُوحِ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَيَعُدُّونَهَا حَمْدًا وَمَدْحًا ثُمَّ قَالَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ الْحَامِدَ مُعْتَقِدٌ تِلْكَ الْأَوْصَافَ فِي الْمَحْمُودِ أَوْ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا مَعَانِيَ مَجَازِيَّةً مُعْتَقِدًا إيَّاهَا فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ الْأَوَّلَ خِلَافُ الْبَدِيهَةِ وَالثَّانِيَ خِلَافُ الْوَاقِعِ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَدْرُ الْأَفَاضِلِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ خِلَافَ الْبَدِيهَةِ وَالثَّانِي خِلَافَ الْوَاقِعِ لَزِمَ خُلُوُّ الْكَلَامِ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ الدَّوَانِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اعْتِقَادِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ عَدَمُ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ كَقَوْلِ السُّنِّيِّ الْمُخْفِي عَنْ الْمُعْتَزِلِيِّ الْعَبْدُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِهِ ثُمَّ حَاصِلُ مَا تَحَرَّرَ هُنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحَامِدِ مِنْ التَّعْظِيمِ فِي ثَنَائِهِ وَلَا بُدَّ فِي كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ أَنْ يَكُونَ مُعَظِّمًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ مُطَابَقَتُهُ بِاعْتِقَادِهِ إنْ لَمْ يُقَارِنْ نَحْوَ اسْتِهْزَاءٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. وَالرَّابِعُ الْمَحْمُودُ وَقَدْ عَرَفْت اشْتِرَاطَ كَوْنِهِ فَاعِلًا وَمُخْتَارًا أَوْ فِي حُكْمِهِ ثُمَّ إنَّ الْمُحَقِّقِينَ كالتَّفْتَازانِيِّ وَالْجُرْجَانِيِّ وَأَفَاضِلِ الْمُفَسِّرِينَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ حَصَرُوا الْحَمْدَ لَهُ تَعَالَى وَعَلَيْهِ إشْكَالٌ حَكَمُوا بِصُعُوبَتِهِ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كَمَا تَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ خَلْقُ اللَّهِ الْجَمِيلُ فِيهِ وَمَكَّنَهُ بِصَرْفِ إرَادَتِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ فَلَوْلَا صَرْفُهُ لَمْ يُوجِدْهُ تَعَالَى عَلَى عَادَتِهِ فَيَحْمَدُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَرُجُوعُ هَذَا إلَى اللَّهِ لَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ. وَالنَّاسُ فِيهِ فَرِيقَانِ

فَرِيقٌ كَابْنِ الْكَمَالِ مَنَعُوا حَصْرَ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى لِنَحْوِ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا نَحْمَدُ اللَّهَ لَا نَحْمَدُك وَفِي الْمَثَلِ عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى فَالْمَحْمُودُ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ فِعْلًا لِلْمَحْمُودِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُخْتَارًا فِيهِ وَلَا مَدْخَلَ لِخَلْقِ الْأَعْمَالِ إذْ الْكَلَامُ فِي الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ فَمَرْجِعُهُ النَّقْلُ مِنْهُمْ كَمَا عَرَفْت وَفَرِيقٌ أَوَّلُوا مَعَهُمْ كَالدَّوَّانِيِّ وَحَصَرُوا الْحَمْدَ لَهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ الْحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِالْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَلَا اخْتِيَارَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَبْدُ مُضْطَرٌّ فِي صُورَةِ مُخْتَارٍ. قَالَ الْمَوْلَى الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ مُشِيرًا إلَى تَرْجِيحِ الْأَخِيرِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ نَزَّلُوا حَمْدَ الْغَيْرِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ وَمَنْزِلَةَ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَبْدَأُ كُلِّ جَمِيلٍ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ خَلْقًا وَتَمْكِينًا وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ سِوَى الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ بِجَعْلِهِ أَيْضًا وَكُلُّ جَمَالٍ وَكَمَالٍ مُضْمَحِلٌّ فِي جَنْبِهِ تَعَالَى رَاجِعٌ إلَيْهِ وَكُلُّ اخْتِيَارٍ لِغَيْرِهِ يَعُودُ إلَى اضْطِرَارٍ. انْتَهَى. (وَالْخَامِسُ) وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْمَحْمُودِ بِهِ وَهُوَ بِاللِّسَانِ كَمَا فُهِمَ مِنْ لَفْظَةِ الْوَصْفِ ضِمْنًا وَلَزِمَ عَلَيْهِ عَدَمُ الْحَمْدِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] فَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ أَوْ أَمْرٌ بِهِ أَوْ مَجَازٌ عَنْ إظْهَارِ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ مَيْلُ السَّيِّدِ إلَى الْأَخِيرِ أَقُولُ قَالَ السَّيِّدُ عِنْدَ قَوْلِ شَارِحِ الْمَطَالِعِ وَهُوَ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ حَقِيقَةُ الْحَمْدِ إظْهَارُ الصِّفَاتِ الْكَمَالِيَّةِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَهُوَ أَقْوَى لِدَلَالَتِهِ عَقْلًا وَدَلَالَةُ الْقَوْلِ وَضْعًا الَّذِي يَجُوزُ تَخَلُّفُهُ عَنْ مَدْلُولِهَا بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا عَلَى وَفْقِ مَا ذَكَرَهُ الدَّوَانِيُّ أَنَّ ذِكْرَ اللِّسَانِ قَيْدٌ غَالِبِيٌّ إذْ هُوَ مَوْضُوعٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْأَمْرِ الْعَامِّ ثُمَّ بِالْغَلَبَةِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ اللِّسَانُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيهِ مَعَ أَنَّهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ أَعَمُّ بِالْإِظْهَارِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى وَأَتَمُّ فَيَشْمَلُ أَيْضًا حَمْدَ الْمَلَائِكَةِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى تَقْيِيدِ تَشَكُّلِهِمْ بِشَكْلِ الْإِنْسَانِ لَكِنْ أَخْرَجَ الْمُنَاوِيُّ حَمْدَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ وَالنَّائِمِينَ لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَلَا يَخْفَى إذَا اُعْتُبِرَ حَمْدُ الْجَمَادَاتِ كَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَالْحَيَوَانَاتُ أَوْلَى مَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ تِلْكَ الْآيَةِ وَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَكُلُّ أَمْرٍ مُمْكِنٌ أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ فَحُمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ غَايَتُهُ عَدَمُ اطِّلَاعِنَا بِهِ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ تَسْبِيحُهُمْ وَتَحْمِيدُهُمْ إلَّا أَنْ يُرَادَ الْحَمْدُ الَّذِي يَحْمَدُ بِهِ الْحَيَوَانُ بِتَعْلِيمِ الْإِنْسَانِ لَا مُطْلَقُ الْحَمْدِ. قَالَ الشَّرِيفُ وَمِنْ قَبِيلِ الْحَمْدِ الْفِعْلِيِّ حَمْدُهُ تَعَالَى وَثَنَاؤُهُ عَلَى ذَاتِهِ لِأَنَّهُ حِينَ أَوْجَدَ الْمَوْجُودَاتِ أَظْهَرَ عَنْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ بِدَلَالَاتٍ قَطْعِيَّةٍ وَلَا تَدُلُّ الْعِبَارَةُ مِثْلُهَا وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» فَلَوْلَا خَوْفُ إمْلَالِ الْمَقَامِ لَقَضَيْت حَقَّ حَمْدِ الْمُفَضِّلِ الْمِنْعَامِ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ (الَّذِي جَعَلَنَا) إنْ أُرِيدَ بِهَذَا الْوَصْفِ بَيَانُ دَاعِي هَذَا الْحَمْدِ فَمَحْمُودٌ عَلَيْهِ وَإِنْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ تَوْصِيفِهِ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ فَمَحْمُودٌ بِهِ فَمِنْ قَبِيلِ اجْتِمَاعِهِمَا بِالْجِهَتَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَمَالٌ وَاخْتِيَارِيٌّ وَجَمِيلٌ وَقَعَ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ فِعْلِيَّةً فَالْمُرَادُ أُمَّةُ إجَابَةٍ وَإِنْ مُمْكِنَةً فَأُمَّةُ دَعْوَةٍ فَالْمُتَبَادَرُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي أَيْضًا نِعْمَةٌ فَإِنَّ التَّمْكِينَ نِعْمَةٌ وَالْأَقْدَارَ عَلَيْهَا نِعْمَةٌ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ لِإِزَالَةِ امْتِنَاعِهَا لَكِنْ لَوْ لَمْ يُوقِعْ ذَلِكَ لَزَادَ نِقْمَةً وَعُقُوبَةً يَظْهَرُ بِمُلَاحَظَةِ شَاهِقِ الْجَبَلِ ثُمَّ هَذَا الْجَعْلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ سِيَّمَا لِمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْأُسْتَاذِ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ صَعُبَ الْفَهْمُ إذْ مَعْنَى جَعَلَهُ تَعَالَى مِنْ الْأُمَّةِ إعْطَاءُ الْإِسْلَامِ مَثَلًا وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ فَإِنْ أُرِيدَ مِنْ إعْطَاءِ الْإِسْلَامِ إعْطَاؤُهُ ابْتِدَاءً بِلَا تَوَسُّطِ مَدْخَلِ الْعَبْدِ فَمَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ أَوْ الْحُكَمَاءِ وَإِنْ بِوَاسِطَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِأَنْ يَصْرِفَ قُدْرَتَهُ فَيُوجِدَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَيَرْجِعُ إلَى تَمْكِينِ الْإِسْلَامِ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ اللَّفْظِ وَالْمُعْتَدُّ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ لَيْسَ إمْكَانَهُ بَلْ وُقُوعَهُ وَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ اسْتِقْلَالُهُ تَعَالَى فِي إعْطَاءِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ اشْتَرَكَ فِيهِ الْعَبْدُ بِصَرْفِ قُدْرَتِهِ إذْ هَذَا الصَّرْفُ مِنْ الْعَبْدِ فَقَطْ عِنْدَنَا لَعَلَّ حَلَّ هَذَا الْإِشْكَالَ كَمَا أُشِيرَ بِأَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ عِلْمَ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَحَبَّتَهُ وَسَائِرَ دَوَاعِيهِ نَحْوَ إرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ الْمُلْهِمَةِ وَكَرَاهَةِ ضِدِّهِ وَمَنْعِ الشَّيْطَانِ عَنْ وَسَاوِسِهِ وَسَلَامَةِ آلَاتِهِ وَبِعَدَمِ إرَادَةِ ضِدِّهِ (أُمَّةٍ) جَمَاعَةٌ

فَإِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ جَمَاعَةٌ لِنَبِيِّهِمْ وَالنَّبِيُّ إمَامُهُمْ (وَسَطًا) بِالتَّحْرِيكِ أَيْ عَدْلًا كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ وَأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]-. وَأَيْضًا فِي الْقَامُوسِ أَيْ عَدْلًا خِيَارًا وَفِي تَرْجَمَةِ الصِّحَاحِ جَعَلَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى مَا يَنْبَغِي كَأَنَّهُ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَالْعَدَالَةُ إنَّمَا تَظْهَرُ وَتُعْتَدُّ بِالتَّزْكِيَةِ وَمُزَكِّيهِمْ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالصَّلَاحُ وَالدَّعَةُ وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ الَّذِي فُسِّرَ بِالْعَدَالَةِ هُنَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ انْتِفَاءُ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ أَوْ لِتَسَاوِي الْحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُمْ. وَأَمَّا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ قَدْ يَغْلِبُ جَانِبُ الْعَمَلِيَّةِ وَقَدْ يَغْلِبُ جَانِبُ النَّظَرِيَّةِ قِيلَ وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي كَوْنِهَا خَاتَمَ الشَّرِيعَةِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدَالَةَ إمَّا لِلْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَشْرَفِ الْأَجْزَاءِ وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ الْكُلِّ الْإِفْرَادِيِّ مُشْكِلٌ ثُمَّ فِيهِ تَنْبِيهٌ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ ادَّعَى الْإِفْرَاطَ وَكَذَا التَّفْرِيطَ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مُبَيِّنُ ذَلِكَ التَّوَسُّطِ الْأَصْلِيِّ الشَّرْعِيِّ وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إلَى الْأُمُورِ الَّتِي اخْتَارَ فِيهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ طَرِيقَةَ التَّوَسُّطِ كَالْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ فِي قَاعِدَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَفِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ بَلْ فِي قَاعِدَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الْمُفَصَّلَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فَفِيهِ إشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إلَى إمْكَانِ دَلِيلِ الْمَسَائِلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَرَدٌّ لَطِيفٌ إلَى مُخَالِفِ الْمَسَائِلِ وَلَوْ كَانَ الْأَشْعَرِيُّ وَنَوْعُ بَرَاعَةِ اسْتِهْلَالٍ لِكُلِّ مَا ذَكَرَ مِنْ التَّوَسُّطِ وَتِلْكَ الْمَسَائِلِ ثُمَّ قِيلَ هَذَا اقْتِبَاسٌ مِنْ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. أَقُولُ الِاقْتِبَاسُ إمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ تَغْيِيرٌ أَوْ يَكُونَ يَسِيرًا وَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِضَرُورَةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّغْيِيرَ هُنَا لَيْسَ بِيَسِيرٍ وَلَوْ سُلِّمَ فَلَيْسَ هُنَا ضَرُورَةٌ إذْ هِيَ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ النَّحْوِ وَزْنٌ أَوْ قَافِيَةٌ فَالْأَوْلَى أَنَّ مَا وُجِدَ فِيهِ نَحْوُ الِاقْتِصَاصِ الْمُفَسِّرِ بِكَوْنِ كَلَامٍ فِي صُورَةٍ مُقْتَصًّا مِنْ كَلَامٍ آخَرَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]- كَمَا فِي الْإِتْقَانِ عَنْ ابْنِ فَارِسٍ (خَيْرَ أُمَمٍ) قِيلَ أَيْضًا هَذَا اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]-. أَقُولُ الْكَلَامُ كَالْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِبَاسِ بِمُجَرَّدِ قَيْدٍ مِنْ الْكَلَامِ بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ تَحْرِيرِهِمْ لُزُومُ أَصْلِ الْكَلَامِ ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ خَيْرِيَّتِهِمْ مَا هُوَ مِنْ النِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأُمَمِ لِكَوْنِ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْرَمَ الْبَشَرِ وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَأَفْضَلَ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً وَأَقْرَبَهُمْ زُلْفَى بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ وَقِيلَ لِكَوْنِ دِينِهِمْ خَيْرَ الْأَدْيَانِ لِأَنَّهُ رُفِعَ عَنْهُمْ الْإِصْرُ وَالْأَغْلَالُ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ مِنْ بَخْعِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَخَمْسِينَ صَلَاةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ عِنْدَ مَعْصِيَةٍ. قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ» وَأَيْضًا حُفِظُوا مِنْ نَحْوِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ الَّذِي عُوقِبَ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَقِيلَ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ أَكْثَرَ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِيهِمْ أَوْفَرَ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِمُقَابَلَةِ قَلِيلِ أَعْمَالِهِمْ ثَوَابًا عَظِيمًا وَأَكْرَمَهُمْ بِنَحْوِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالْجُمُعَةِ خُصُوصًا وَقْتُهَا الْمَعْهُودُ. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ نَازِلَةٌ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ فِي حَقِّ نَحْوِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حِينَ فَضَّلَ بَعْضُ الْيَهُودِ دِينَهُمْ عَنْ دِينِنَا فَكَيْفَ يَعُمُّ الْخَيْرِيَّةَ عَلَى جَمِيعِنَا حَتَّى يَصْلُحَ لَأَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا عَلَيْهِ هُنَا وَقَدْ خَصَّ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ الْمُهَاجِرِينَ بِرِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» الْحَدِيثَ. فَإِنْ قِيلَ لَا عِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ بَلْ بِعُمُومِ اللَّفْظِ قُلْنَا لَا عُمُومَ هُنَا لِأَنَّ كُنْتُمْ لَيْسَ عَامًّا بَلْ قَالُوا إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَكُنْ عَامًّا فَمُخْتَصٌّ بِهِ قَطْعًا وَمَثَّلَ لَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيّ قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]- مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى حَصْرِ الْأَفْضَلِيَّةِ لَهُ وَدَفَعَ وَهْمَ تَسَاوِي مَنْ عَمِلَ عَمَلَهُ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ بِعَدَمِ الْعُمُومِ إذْ اللَّامُ لِلْعَهْدِ

لِلْقَرِينَةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ نَحْوَ كُنْتُمْ خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ وَقْتَ النُّزُولِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْغَائِبِينَ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً أَوْ بِنَصٍّ كَمَا فِي مَحِلِّهِ قُلْنَا هَذَا قَرِيبٌ أَنْ يَكُونَ رَأْيًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ مِمَّا ذُكِرَ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ فَضْلُ فَرْدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ عَلَى بَعْضِ فَرْدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي مَرَّةً وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي سَبْعَ مَرَّاتٍ» . وَبِقَوْلِهِ «أَفْضَلُ الْخَلْقِ إيمَانًا قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي فَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ إيمَانًا» كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ فَقَرِيبٌ بِظَاهِرِهِ أَنْ يَكُونَ تَرْجِيحًا لِلْآحَادِ عَلَى النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بَلْ الْمُتَوَاتِرُ إذْ الْأَحَادِيثُ فِي أَفْضَلِيَّةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالُوا فَضْلِيَّةُ الصُّحْبَةِ مَعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعَدُّ لَهَا عَمَلٌ ثُمَّ نَقُولُ فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ لَا يَلْزَمُ اسْتِفَادَةُ أَفْضَلِيَّةِ الْجَمِيعِ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ إذْ يَجُوزُ فَهْمُهَا مِنْ نَصٍّ آخَرَ وَيَجُوزُ فَضْلُ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نِعْمَةً مُوجِبَةً لِلْحَمْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ لِظُهُورِ انْتِفَاءِ الْبَاقِينَ نَصًّا أَوْ عَقْلًا عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ مَا ذُكِرَ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ وَالتَّخْصِيصِ غَيْرُ مَعْلُومٍ قَطْعًا فَنَعْمَلُ بِقِيَاسِنَا فِي مِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالصَّلَاةُ) فِي الْقَامُوسِ الصَّلَاةُ الدُّعَاءُ وَالرَّحْمَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَحُسْنُ الثَّنَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ فَمَا خُصَّ أَنَّ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ وَأَنَّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءٌ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ فَلَيْسَ بِتَمَامِهِ لُغَوِيًّا لَعَلَّ لِهَذَا. قَالَ الْفَاضِلُ الْمُنَاوِيُّ كَذَا أُثِرَ عَنْهُ الْخَبَرُ فَتَكُونُ مَعْنَى شَرْعِيًّا وَأَبْطَلَ مَنْ أَرْجَعَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ إلَى طَلَبِ الرَّحْمَةِ بِلُزُومِ إرْجَاعِ جَمِيعِ الْمُشْتَرَكِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ يَجْمَعُ الْجَمِيعَ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ أَلْبَتَّةَ وَلَيْسَ فِيهَا جِهَةُ الْإِخْبَارِيَّةِ كَالْحَمْدِ إذْ لَيْسَ الْأَخْبَارُ بِثُبُوتِ الدُّعَاةِ دُعَاءً فَلَا يَصِحُّ هُنَا غَيْرُ مَعْنَى الرَّحْمَةِ إذْ الْمَعْنَى أَيْ مَعْنَى الصَّلَاةِ صَلِّ بِمَعْنَى نَطْلُبُ الصَّلَاةَ أَيْ الرَّحْمَةَ وَلَا مَعْنَى مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُنَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ هُنَا مَا هِيَ مِنْ اللَّه فَقَطْ فَلَعَلَّ أَنَّ جُمْهُورَ الشُّرَّاحِ ذَهِلُوا فَوَقَعُوا عَلَى مَا وَقَعُوا بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ الْقَامُوسِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَطْلُوبُ حُسْنَ الثَّنَاءِ نَقَلَ عَنْ فَتْحِ الْبَارِي. وَهَذَا أَوْلَى الْأَقْوَالِ فَتَأَمَّلْ ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الرَّحْمَةِ أَوْ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ نَحْوُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي أُمِرْنَا بِسُؤَالِهَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَلُوا لِي الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ الرَّفِيعَةَ» وَنَحْوُ إبْقَاءِ الشَّرِيعَةِ وَتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ وَتَشْفِيعِهِ فَإِنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا غَايَةَ لِإِحْسَانِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُحَسِّنَهُ تَعَالَى بِسَبَبِ دُعَائِنَا غَيْرَ إحْسَانِهِ مِنْ كَرَمِهِ وَمِنْ مُجَازَاةِ أَعْمَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَوْعٌ مِنْ الرَّحْمَةِ مَنُوطٌ بِدُعَاءِ الْأُمَّةِ كَسَائِرِ الْعَادِيَّات عَلَى حِكْمَتِهِ وَمِنْ الْحِكْمَةِ تَثْوِيبُ الْمُصَلِّي وَتَقْرِيبُهُ وَرَبْطُ عَلَاقَةٍ وَمَحَبَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ شَفِيعَهُ أَوْ صَاحِبَهُ بَلْ رَفِيقَهُ وَيَقْضِي بِهَا حَاجَاتِهِ وَقِيلَ فَائِدَةُ الصَّلَاةِ مُجَرَّدُ التَّقَرُّبِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ تَعَالَى وَقَضَاءِ حَقِّ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقُولُ هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرِيٌّ إذْ يُقَالُ حِينَئِذٍ مَا فَائِدَةُ أَمْرِهِ تَعَالَى وَكَيْفَ يَقْضِي حَقَّهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُ وَقِيلَ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْنَا شُكْرُ نِعَمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عَجْزِنَا عَنْهُ أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَا شَفَقَةً لَنَا وَإِلَّا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ يَشْفَعُ لِلْكُلِّ وَهَذَا قَرِيبٌ لِمَا ذُكِرَ آنِفًا عَلَى أَنَّهُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ عَنْ الشُّكْرِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَبِالْجُمْلَةِ إنْ كَانَ الصَّلَاةُ شُكْرَهَا فَلَيْسَ بِعَجْزٍ وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهَا فَائِدَةٌ عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ لَيْسَ بِعَقْلِيٍّ بَلْ شَرْعِيٌّ فَالْأَوْلَى مَا قَدَّمْنَا وَهُوَ أَيْضًا أَوْلَى مِمَّا نُسِبَ إلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَقَرِيبٌ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ مِنْ أَنَّ فَائِدَتَهَا تَرْجِعُ إلَى الْمُصَلِّي فَقَطْ لِدَلَاتِهَا عَلَى صِدْقِ الْعَقِيدَةِ وَإِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ وَاحْتِرَامِ الْوَاسِطَةِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ بِالرَّحْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]- أَقُولُ قَدْ عَرَفْت مَا فِي الْقَامُوسِ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ الْقَابِلَةِ وَإِنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْوَاوِ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى مُسَاوِيهِ بَلْ عَلَى مُرَادِفِهِ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ تَبَعٍ قِيلَ تَجُوزُ وَالْأَصَحُّ لَا تَجُوزُ فَأَوْرَدَ بِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وَدُفِعَ بِكَوْنِهِ مِنْ خَوَاصِّ النَّبِيِّ أَقُولُ يُرَدُّ عَلَيْهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43]

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} [البقرة: 157] {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] فَالْوَجْهُ مَا قَالُوا مِنْ جَعْلِهِمْ ذَلِكَ شِعَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّلَاةُ عَلَى غَيْرهمْ صَارَتْ شِعَارَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لِمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْعِصْمَةَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ هِيَ حَرَامٌ أَوْ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى أَقْوَالٌ أَرْجَحُهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ بَقِيَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا قِيلَ مُسْتَحَبٌّ وَقِيلَ وَاجِبٌ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْوُجُوبِ أَيْضًا هَلْ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ قِيلَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَكِنْ فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ فَرْضٌ عَلَى الْجُمْلَةِ غَيْرُ مَحْدُودٍ بِوَقْتٍ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْوُجُوبِ وَمَا ادَّعَى الطَّبَرِيِّ مِنْ إجْمَاعِ الِاسْتِحْبَابِ فَلَعَلَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَرَّةٍ ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ طَوِيلِ كَلَامِهِ الْمَرَّةُ فِي الْعُمُرِ فَرْضٌ وَالْإِكْثَارُ وَاجِبٌ. وَأَمَّا حُكْمُهَا فِي الصَّلَاةِ فَمَعْلُومٌ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ خِلَافًا وَوِفَاقًا ثُمَّ تَكْرَارُ الْوُجُوبِ عِنْدَ تَكَرُّرِ ذِكْرِ اسْمِهِ الشَّرِيفِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الذَّاكِرِ وَالسَّامِعِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ كَالطَّحَاوِيِّ وَالْحَلِيمِيِّ قِيلَ وَهُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَحْوَطُ وَفِي الْقُنْيَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ وَقِيلَ بِكِفَايَةِ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَلَوْ كُرِّرَ مِرَارًا وَنُسِبَ إلَى التِّرْمِذِيِّ. وَفِي الأسروشنية وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَقِيلَ تَجِبُ إلَى ثَلَاثٍ كَمَا فِي الْقُنْيَةِ وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ لِمُصَنَّفِهِ الْفَتْوَى عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِيمَا عَدَا الْفَرْضَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ. قَالَ فِي الأسروشنية وَلَوْ سَلَّمَ بَدَلَ التَّصْلِيَةِ جَازَ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة إذَا كَانَ السَّامِعُ قَارِئَ قُرْآنٍ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ فَلَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَحَسَنٌ لَكِنْ فِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ عَنْ الْجَزَرِيِّ إذَا مَرَّ بِذِكْرِهِ حَالَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَوْ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الأسروشنية لَا يَأْتِي فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ وَلَوْ أَتَى بَعْدَ الْفَرَاغِ حَسَنٌ فَإِنْ قِيلَ الْإِتْيَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَعْنِي فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ مِنْ أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ قُلْت لَعَلَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثٍ أُسْنِدَ إلَى الْجَزَرِيِّ كُلُّ كَلَامٍ لَا يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُبْدَأُ بِهِ وَبِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ. وَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤْتَى فِي ابْتِدَاءِ التَّذْكِيرِ وَالشُّرُوعِ فِي الدَّرْسِ بِتَبْلِيغِ الْعِلْمِ وَفِي طَالِعِ الْمَسَرَّاتِ بِاسْتِحْبَابِهِ كُلُّ مُصَنِّفٍ وَدَارِسٍ وَمُدَرِّسٍ وَالْكُلُّ يَدَّعِي بِنَاءَ كَلَامِهِ عَلَى الْأَثَرِ فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْوُجُوبِ كَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ فَلَعَلَّهُ عَادِيٌّ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْوُجُوبَ الشَّرْعِيَّ يُؤْخَذُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يُسْمَعْ. قَالَ الْقُطْبُ فِي شَرْحِ الْمَطَالِعِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْكِمَالَاتِ مُسْتَفَاضَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي غَايَةِ الْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى فِي غَايَةِ التَّجَرُّدِ عَنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ وَاسِطَةٍ ذِي جِهَتَيْنِ التَّجَرُّدُ وَالتَّعَلُّقُ فَالنَّفْسُ تَسْتَفِيضُ مِنْ الْوَاسِطَةِ بِجِهَةِ التَّعَلُّقِ وَالْوَاسِطَةُ تَسْتَفِيضُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِجِهَةِ التَّجَرُّدِ فَالْوَاسِطَةُ لَنَا مَالِكُ أَزِمَّةِ الْجِهَتَيْنِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ وَاسِطَةٍ أَيْضًا إلَى ذَلِكَ الْوَاسِطَةِ لِكَمَالِ قُصُورِنَا وَهُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ. قَالَ الشَّرِيفُ فِي حَاشِيَتِهِ هَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي صِحَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَمَّا بَعْدُ فَمُجَرَّدٌ مَحْضٌ فَالْمُنَاسَبَةُ مُنْتَفِيَةٌ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ أَثَرَ الْقُوَّةِ الْمَاضِيَةِ بَاقٍ فِيهِمْ بَعْدَ انْتِقَالِهِمْ كَمَا يُشَاهِدُ زُوَّارُ قُبُورِهِمْ فَيَضَانَ أَنْوَارِهِمْ مِنْ أَرْبَابِ الْبَصَائِرِ أَقُولُ هَذَا أَمْرٌ نِزَاعِيٌّ بَيْنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَبَيْنَ أَكْثَرِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي طَوَالِعِهِ وَفِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِي حَاشِيَتِنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ (وَالسَّلَامُ) أَيْ التَّسْلِيمُ مِنْ الْآفَاتِ الْمُنَافِيَةِ لِغَايَةِ الْكَمَالِ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَمَلًا بِصُورَةِ قَوْله تَعَالَى - {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]- أَوْ عَمَلًا بِالِاتِّفَاقِ وَأَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ وَالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَحَدِهِمَا هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ أَوْ تَرْكُ الْأَوْلَى؟ أَقْوَالٌ رَجَّحَ الْكَرَاهَةَ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ وَرَدَّهُ فِي جَامِعِ الرُّمُوزِ وَأَيْضًا عَنْ النَّخَعِيِّ عَدَمُ الْكِرْهَةِ. قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ لَا كَرَاهَةَ خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ وَالْوَاوُ فِي الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي الْجَمْعَ عِنْدَ ذِكْرِ أَحَدِهِمَا بَلْ إذَا صَلَّى فِي وَقْتٍ وَسَلَّمَ فِي آخَرَ يُوجَدُ الِامْتِثَالُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ وَعَنْ الْعَسْقَلَانِيِّ إنْ صَلَّى فِي وَقْتٍ وَسَلَّمَ فِي وَقْتٍ لَا يُكْرَهُ وَإِلَّا كُرِهَ وَفِي الْمُنَاوِيِّ اخْتِيَارُ جَانِبِ الْكَرَاهَةِ وَبِالْجُمْلَةِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ وَالْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ قَدْ نَرَى فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ جَمْعَهُمَا وَفِي بَعْضِهَا بِانْفِرَادِ الصَّلَاةِ وَبَعْضِهَا بِانْفِرَادِ

السَّلَامِ قُلْنَا إمَّا لِتَعْلِيمِ الْجَوَازِ أَوْ لِأَنَّ لِلصَّلَاةِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ لِلسَّلَامِ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِعَامٍّ وَكَذَا السَّلَامُ أَوْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْمُخَاطَبِينَ أَوْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ثُمَّ السَّلَامُ كَالصَّلَاةِ لَا يُفْرَدُ بِهِ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا مَنْ اُخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِ فَقِيلَ كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ لَا بَأْسَ فِي ذَلِكَ بَلْ الْأَوْلَى التَّرْضِيَةُ. (عَلَى أَفْضَلِ مِنْ أُوتِيَ) أَيْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى (النُّبُوَّةُ) مِنْ النَّبَأِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ بِمَعْنَى الْمُخْبَرِ إنْ مَهْمُوزًا وَبِمَعْنَى الِارْتِفَاعِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَهْمُوزًا وَالْمُرَادُ هُنَا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ سِفَارَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَوِي الْأَلْبَابِ لِإِزَاحَةِ عِلَلِهِمْ وَالنَّبِيُّ إنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْخَلْقِ لِتَبْلِيغِ مَا أَوْحَى إلَيْهِ فَأُورِدَ بِمَنْ بُعِثَ لِمُجَرَّدِ إكْمَالِ نَفْسِهِ فَاكْتَفَى فِي التَّعْرِيفِ بِمُجَرَّدِ الْوَحْيِ فَرُدَّ بِلُزُومِ نُبُوَّةِ نَحْوِ مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَالْتِزَامُهُ شَاذٌّ. وَأُجِيبَ عَنْ أَصْلِ الِاعْتِرَاضِ بِتَأْوِيلِ الْخَلْقِ وَالتَّبْلِيغِ ثُمَّ أُورِدَ أَيْضًا بِمَنْ بُعِثَ لِتَبْلِيغِ الْغَيْرِ كَمَا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا أُوحِيَ إلَيْهِ وَإِنْ شَرَعَ غَيْرُهُ إلَيْهِ فِيمَا أُوحِيَ فِي الْجُمْلَةِ وَالنَّبِيُّ مُرَادِفٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَى مَا حَكَى ابْنُ الْهُمَامِ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ وَابْنِ حَجَرٍ خَطَّأَهُ فِيمَا نَسَبَهُ وَذَهَبَ إلَى الْعُمُومِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ لَهُ إلْهَامٌ رَبَّانِيٌّ فَقَطْ وَالرَّسُولُ مَنْ لَهُ إلْهَامٌ وَكِتَابٌ. أُورِدَ بِأَنَّ الْكُتُبَ قَلِيلَةٌ وَالرُّسُلَ كَثِيرَةٌ إذْ هِيَ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَثِمِائَةٍ وَدُفِعَ بِمَأْمُورِيَّةِ تَبْلِيغِ كِتَابٍ وَلَوْ نَزَلَ إلَى الْغَيْرِ أَوْ بِتَكَرُّرِ نُزُولِهِ وَقِيلَ الرَّسُولُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِتَبْلِيغِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ سَوَاءٌ لَهُ كِتَابٌ أَوْ لَا وَالنَّبِيُّ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا إشْكَالَ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ الْمُصَنِّف مَنْ أُوتِيَ الرِّسَالَةَ بَدَلَ النُّبُوَّةِ مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِمَّا ذَكَرَ أَفْضَلِيَّةُ جِهَةِ الرِّسَالَةِ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ عِنْدَهُ التَّرَادُفَ أَوْ لِإِيهَامِ إثْبَاتِ الْأَفْضَلِيَّةِ مِنْ جِهَتَيْ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ يَعْنِي أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ وَمَعَ مَا فِيهِ مِنْ الرِّسَالَةِ أَوْ لِإِيهَامِ أَنَّهُ لَوْلَا جِهَةُ الرِّسَالَةِ لَكَفَى جِهَةُ النُّبُوَّةِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ فَيَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَ أَيْضًا أَنَّهُ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ يَلِيقُ ذِكْرُ الرِّسَالَةِ ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْقَلْبِ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ أُوتِيَتْ لَهُ لَا الْعَكْسُ وَمِنْ أَفْضَلِيَّةِ كَوْنِهِ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ الثَّقَلَيْنِ وَالْمَلَائِكَةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ كَالسُّبْكِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى - {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]- وَخَبَرِ «أُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» خِلَافًا لِمَنْ اخْتَصَّ بِالْأَوَّلِينَ مُدَّعِيًا فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَإِنْ رَدَّ مُدَّعِي الْإِجْمَاعِ بِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيهِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ. قَالَ السُّيُوطِيّ عَنْ السُّبْكِيّ أُرْسِلَ لِلْخَلْقِ كَافَّةً وَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ نُوَّابٌ وَمَعُونَاتٌ لَهُ وَمُرْسَلٌ إلَى الْجِنِّ وَالْمَلَكِ فِي الْقَوْلِ الرَّاجِحِ وَبُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ حَتَّى الْكُفَّارِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ، ثُمَّ قَالَ هُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ وَأَفْضَلُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَنِسَاؤُهُ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَبَلَدُهُ أَفْضَلُ الْبِلَادِ إلَّا مَكَّةَ وَمَسْجِدُهُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَالْبُقْعَةُ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الْكَعْبَةِ دُونَ الْعَرْشِ وَالتُّرْبَةِ الَّتِي مَاسَّتْ بَدَنَهُ الشَّرِيفَ أَفْضَلُ مِنْ الْعَرْشِ. وَأَيْضًا حَكَى السُّيُوطِيّ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمَاوَرْدِيِّ عَدَمَ جَوَازِ الْخَطَإِ وَعَنْ قَوْمٍ عَدَمَ النِّسْيَانِ أَيْضًا جَامِعٌ لِخَوَاصِّ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَأَنَّهُ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ لَهُ خَاصَّةٌ فِي أُمَّتِهِ إلَّا وَفِي أُمَّتِهِ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَائِهَا يَقُومُ فِي قَوْمِهِ مَقَامَ ذَلِكَ النَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ كَمَا وَرَدَ «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ» وَأَنَّ لَهُ الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى وَالْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَاللِّوَاءَ الْمَعْقُودَ وَالْحَوْضَ وَالْكَوْثَرَ وَالْوَسِيلَةَ وَآدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْبَيَانِ عَنْ إحَاطَةِ مَا دَلَّ عَلَى فَضْلِهِ وَلِذَا صُنِّفَ فِيهِ الْكُتُبُ وَالرَّسَائِلُ الطِّوَالُ وَالْقِصَارُ فَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ (وَالْحِكَمُ) جَمْعُ حِكْمَةٍ وَهِيَ تَحْقِيقُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُهُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حِكْمَةٍ نَظَرِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ وَقِيلَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّي وَقِيلَ عِلْمُ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ وَقِيلَ (وَعَلَى آلِهِ) أَعَادَ لَفْظَ عَلَى مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى نَوْعِ اسْتِقْلَالٍ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ التَّبَعِيَّةِ رَدًّا عَلَى الشِّيعَةِ وَالرَّوَافِضِ فَإِنَّ إعَادَةَ عَلَى عِنْدَهُمْ مَكْرُوهَةً بِحَدِيثٍ لَيْسَ لَهُ صِحَّةٌ وَلَوْ فُرِضَ فَلَيْسَ بِجَارٍ بَلْ اسْمُ فِعْلٍ لَعَلَّ وَجْهَ الْتِزَامِهِمْ تَرْكُهُ لِإِيجَابِ إتْيَانِ الْمُبَاعِدَةِ وَهُمْ يَلْتَزِمُونَ كَمَالَ الْمُقَارَبَةِ ثُمَّ أَصْلُ آلٍ أَهْلُ بِدَلِيلِ أُهَيْلٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَعِنْدَ الْكِسَائِيّ أَوَّلٌ بِدَلِيلِ أُوَيْلٍ ثُمَّ خُصَّ بَعْدَ الْقَلْبِ أَوْ مُطْلَقًا بِمَا لَهُ شَرَفٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَوْ رُدَّ

بِنَحْوِ آلِ فِرْعَوْنَ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ شَرِيفٌ بِحَسَبِ الدُّنْيَا أَوْ بِاعْتِقَادِهِمْ أَوْ فِي الصُّورَةِ. وَفِي الْقُرْآنِ تَهَكُّمٌ عَلَى حَدِّ - {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]- نَقَلَ عَنْ صَاحِبِ الْقَامُوسِ وَهُوَ هُنَا مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَقِيلَ إمَّا نَسَبًا كَأَوْلَادِ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ وَعَبَّاسٍ وَالْحَارِثِ أَوْ دِينًا هُوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ أَوْ كُلُّ مُؤْمِنٍ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَيُرْوَى أَنَّهُ حِينَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]- سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْقَرَابَةِ. قَالَ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَابْنَاهُمَا وَقَدْ يُرَادُ مِنْ الْآلِ أَهْلُ الْبَيْتِ وَقِيلَ مَنْ نَاسَبَهُ إلَى جَدِّهِ الْأَدْنَى وَقِيلَ مَنْ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي رَحِمٍ وَقِيلَ مَنْ اتَّصَلَ بِهِ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ وَأَيْضًا ذَوُو الْقُرْبَى هُمْ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَابْنَاهُمَا وَقِيلَ ذُرِّيَّتُهُ وَأَزْوَاجُهُ وَقِيلَ أَتْبَاعِهِ قِيلَ رَجَّحَ النَّوَوِيُّ كَوْنَهُ أَتْقِيَاءَ أُمَّتِهِ وَجَرَى عَلَيْهِ الدَّوَانِيُّ (وَأَصْحَابِهِ) قِيلَ جَمْعُ صَاحِبٍ وَرُدَّ بِأَنَّ فَاعِلًا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ فَقِيلَ جَمْعُ صَحْبٍ تَخْفِيفُ صَاحِبٍ أَوْ جَمْعُ صَحْبٍ اسْمُ جَمْعٍ كَتَمْرٍ وَأَتْمَارٍ وَقِيلَ اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبٍ بِمَعْنَى الصَّحَابِيِّ هُوَ لُغَةً مَنْ صَحِبَ غَيْرَهُ وَاصْطِلَاحًا مَنْ لَقِيَ الْمُصْطَفَى يَقْظَةً بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ وَفَاتِهِ مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يَرَهُ لِعَارِضٍ كَعَمًى أَوْ لَمْ يَرَهُ النَّبِيُّ وَلَوْ بِلَا مُكَالَمَةٍ وَلَا مُجَالَسَةٍ كَكَوْنِهِ مَارًّا وَلَوْ بِغَيْرِ جِهَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَشْعُرْ بِالْآخَرِ أَوْ تَبَاعُدًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِشَاهِقٍ وَالْآخَرُ بِوَهْدَةٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا مَانِعُ مُرُورٍ كَنَهْرٍ أَوْ سِتْرٍ رَقِيقٍ لَا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ وَكَذَا لَوْ تَلَاقَيَا نَائِمَيْنِ أَوْ كَانَ غَيْرَ النَّبِيِّ مَجْنُونًا وَقِيلَ لِأَزْمِنَةِ إفَاقَتِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لِشَرَفِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ يَظْهَرُ أَثَرُ نُورِهِ فِي قَلْبِ مُلَاقِيهِ وَعَلَى جَوَارِحِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْجِنِّ وَالْأَصَحُّ نَعَمْ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَطْفَالُ كَمَا فِي النُّخْبَةِ قِيلَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّمَيُّزِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَكَذَا الْمَلَكُ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ دَاخِلَةً لَكِنْ عَنْ الْبُلْقِينِيِّ الْجَزْمُ بِخُرُوجِهِمَا وَالْأَكْثَرُ شَرْطِيَّةُ اللِّقَاءِ بِالتَّعَارُفِ دُونَ الْخَارِقِ فَيَخْرُجُ أَيْضًا جَمِيعُ مَنْ رَآهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لَكِنْ فِي النُّخْبَةِ إنْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُشِفَ لَهُ عِيَانًا جَمِيعُ مَنْ فِي الْأَرْضِ إنْ آمَنَ فِي حَيَاتِهِ يُعَدُّ صَحَابِيًّا لِأَنَّهُ وَقَعَ الرُّؤْيَةُ مِنْ جَانِبِهِ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا مَنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَبْلَ دَفْنِهِ وَمَنْ رَآهُ حَيًّا عَلَى طَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِجَسَدِهِ الْمُكَرَّمِ كَمَا جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ بَلْ نُقِلَ وُقُوعُهُ لِلْغَزَالِيِّ وَمَنْ رَآهُ فِي الْمَنَام وَإِنْ حَقًّا فَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ لَا مِنْ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهُمْ يَوْمَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّرَايَةِ (الْمُقْتَدِينَ بِهِ) صِفَةٌ لِلْآلِ وَالْأَصْحَابِ فَيَجُوزُ جَمْعُهُ وَتَثْنِيَتُهُ كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى وَجْهِ تَشْرِيكِهِمْ فِي الصَّلَاةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ إنْ اسْتَحَقُّوا هَذَا التَّعْظِيمَ بِالِاقْتِدَاءِ فَغَيْرُهُمْ أَيْضًا يَسْتَحِقُّونَ التَّعْظِيمَ وَالْإِحْسَانَ بِالِاقْتِدَاءِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اقْتِدَاءَهُمْ نِعْمَةٌ لَنَا لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُمْ وَاسِطَةٌ لِاقْتِدَائِنَا وَتَشْرِيك الصَّلَاةِ مِنَّا شُكْرٌ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْمُقْتَدِينَ مِنْهُمْ لَيْسَ جَمِيعَهُمْ الَّذِي فُضِّلَ فِي مَعْنَى الصَّحَابِيِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَالصَّلَاةُ لَيْسَ لِجَمِيعِهِمْ أَوْ لَا يَكُونُ الِاقْتِدَاءُ عِلَّةً لِلصَّلَاةِ كَمَا فُهِمَ مِمَّا ذُكِرَ وَأَنَّ الْوَصْفَ فِي مِثْلِهِ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا فِي الْأُصُولِ. قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الْعَلِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْجِنْسِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ شَأْنِهِمْ الِاقْتِدَاءُ سَوَاءٌ جَامَعَ بِالْفِعْلِ أَوْ لَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يَقْتَدِي فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ كَيْفَ وَقَدْ نُقِلَ إجْرَاءُ الْحُدُودِ بَلْ الْقَتْلُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا أَوْ سِيَاسَةً قُلْنَا هُوَ قَلِيلٌ وَنَادِرٌ وَعَلَى طَرِيقِ خَطَئِهِ فَكَالْمَعْدُومِ فِي جَنْبِ الْأَكْثَرِ وَأَنَّهُمْ مَغْفُورُونَ بِشَرَفِ الصُّحْبَةِ بِالْآثَارِ وَغَيْرُهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ مَنْ لَا يَقْتَدِي مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ لَهُ هَذَا الدُّعَاءُ بِتَشْرِيكِ الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ صِفَاتٌ مَادِحَةٌ لَا يَجْرِي فِيهَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ (فِي الْقَصْدِ) يَعْنِي أَنَّ اقْتِدَاءَهُمْ بِالنِّيَّةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ وَلَا عَلَى طَرِيقِ نَحْوِ الرِّيَاءِ أَوْ لِأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ كَاقْتِدَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَفِيهِ إيمَاءٌ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ إنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِ إذَا كَانَ عَنْ نِيَّاتٍ حَمِيدَةٍ وَأَغْرَاضٍ صَالِحَةٍ أَوْ مِنْ الِاقْتِصَادِ أَيْ التَّوَسُّطِ فَالْمَعْنَى تَبِعُوا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْإِخْلَاصِ أَوْ تَبِعُوا فِي تَوَسُّطِ الْأَعْمَالِ أَمَّا عَلَى الْقَيْدِ الْوُقُوعِيِّ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَكِنِّي أَصُومُ

وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . أَرَادَ بِذَلِكَ رَدَّ قَوْمٍ يُرِيدُونَ خِلَافَ مَا ذُكِرَ بِنَحْوِ صَوْمِ الدَّهْرِ أَوْ الِاحْتِرَازِيِّ فَإِنْ بَعْضَ شَيْءٍ يَفْعَلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَوَاصُّ لَهُ كَصَوْمِ الْوِصَالِ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ لِلْأُمَّةِ لِأَنَّهُ إفْرَاطٌ فِي حَقِّهِمْ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَائِلًا إنَّ الْمُرَادَ الْمُقْتَدُونَ فِي إخْلَاصِ النِّيَّةِ وَتَوَسُّطِ الْأَعْمَالِ فَقَطْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. (وَالشِّيَمِ) جَمْعُ شِيمَةٍ وَهِيَ الْخَلْقُ وَالْعَادَةُ وَنُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ هِيَ الْغَرِيزَةُ وَالطَّبِيعَةُ وَالْجِبِلَّةُ الَّتِي خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا انْتَهَى هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا جَبْرِيًّا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ بَلْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ بَعْضِ الْحَدِيثِ فَلَا يُلَائِمُ قَاعِدَةَ التَّكْلِيفِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ كَسَبْيٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْآثَارِ غَايَتُهُ أَنَّ أَصْلَهُ ضَرُورِيٌّ، وَأَثَرُهُ كَسَبْيٍ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِتَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِاقْتِدَاءُ وَالْمَدْحُ بِهِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاخْتِيَارِيِّ ثُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْخَلْقِ الْعَادَةُ وَيُرَادَ بِالْعَادَةِ مَا اعْتَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِقَادًا أَوْ أَخْلَاقًا أَوْ أَفْعَالًا أَوْ أَقْوَالًا فِي الشَّرْعِيَّاتِ أَوْ الْعَادِيَّاتِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ إلَّا إنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَفِيهِ أَيْضًا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ أَكْمَلَ (مَا دَامَتْ) مُدَّةَ دَوَامِ (السَّمَوَاتِ) جَمْعُ سَمَاءٍ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ وَتُجْمَعُ عَلَى اسْمِيَّةٍ أَيْضًا (وَالْأَرْضُ) بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ وَالْأَصَحُّ سَبْعٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «طَوَّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» فَالْإِفْرَادُ لِكَوْنِهَا طَبَقَةً وَاحِدَةً. نَقَلَ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ وَفِي الْإِتْقَانِ لِأَنَّ لَفْظَهُ ثَقِيلٌ وَلِهَذَا يُؤْتَى بِمَا يُفِيدُ الْعَدَدَ عِنْدَ إرَادَةِ التَّعَدُّدِ {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْخُلُودِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مِثْلِهِ أَوْ الْمُرَادُ سَمَوَاتُ الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا لِأَنَّ كُلَّ عُلُوٍّ سَمَاءٌ وَكُلَّ مُسْتَقِرٍّ أَرْضٌ فَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود: 107]- (وَمَا تَعَاقَبَتْ) أَيْ مُدَّةَ تَتَابُعِ (الْأَضْوَاءِ) جَمْعُ ضَوْءٍ وَهُوَ الضِّيَاءُ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا وَهُوَ النُّورُ وَهُوَ كَيْفِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ بِنَفْسِهَا مُظْهِرَةٌ لِغَيْرِهَا وَقِيلَ الضِّيَاءُ أَقْوَى وَأَتَمُّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]- وَقِيلَ الضَّوْءُ ضَوْءٌ ذَاتِيٌّ وَالنُّورُ ضَوْءٌ عَارِضِيٌّ. (وَالظُّلَمُ) جَمْعُ ظُلْمَةٍ إمَّا يُرَادُ بِهِمَا حَقِيقَتُهُمَا أَوْ مَحِلُّهُمَا أَيْ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ أَوْ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أَوْ نَحْوُهُمَا ثُمَّ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَعَ مَعْطُوفِهِ إمَّا قَيْدٌ لِلصَّلَاةِ فَقَطْ أَوْ قَيْدٌ لَهَا مَعَ الْحَمْدِ عَلَى التَّنَازُعِ فَهُوَ أَبْلَغُ مَعْنًى وَالْمَقْصُودُ هُوَ الدَّوَامُ كَمَا مَرَّ لَا التَّوْقِيتُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْعِبَارَةِ وَبَيْنَ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ طِبَاقٌ بَدِيعِيٌّ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى عَلَّلَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الصُّورِيِّ يَعْنِي قَوْلَهُ الَّذِي جَعَلَنَا فَهُوَ بَاعِثُ الْحَمْدِ فَمَحْمُودٌ عَلَيْهِ يَعْنِي إنَّمَا حَمِدْنَاهُ لِأَنَّهُ جَعَلَنَا خَيْرَ أُمَمٍ ثُمَّ احْتَاجَ هَذَا إلَى بَيَانٍ أَيْضًا أَشَارَ إلَى عِلَّتِهِ فِي ضِمْنِ الصَّلَاةِ يَعْنِي إنَّمَا صِرْنَا خَيْرَهَا لِأَنَّا أُمَّةُ أَفْضَلِ مَنْ أُوتِيَ إلَخْ أَوْ نَقُولُ لَمَّا قَالَ جَعَلَنَا خَيْرَ أُمَمٍ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ مِنْ قِبَلِنَا بِاسْتِعْدَادِ أَنْفُسِنَا وَاكْتِسَابِهَا فَكَأَنَّهُ دَفَعَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُدْخَلٍ مِنَّا بَلْ مِنْ قِبَلِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحِكَمِهِ أَفْضَلَ الْحِكَمِ وَلَمَّا كَانَ هَاتَانِ النِّعْمَتَانِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَتَيْنِ وَاقْتَضَتَا شُكْرًا كَذَلِكَ قُيِّدَ شُكْرَيْهِمَا أَعْنِي الْحَمْدَ وَالصَّلَاةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ اللَّا تَنَاهِي أَعْنِي قَوْلَهُ {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ} [هود: 107] إلَخْ. (وَبَعْدُ) كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْتِي بِهَا فِي خُطَبِهِ وَكُتُبِهِ فَأَتَى لِلتَّبَرُّكِ وَالِاقْتِدَاءِ

فَائِدَتُهَا الْإِشَارَةُ إلَى انْقِطَاعِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا هِيَ الْبَسْمَلَةُ وَالْحَمْدَلَةُ وَالتَّصْلِيَةُ وَمَا بَعْدَهَا هُنَا إشَارَةٌ إلَى مُقَدَّمَاتِ الْعِلْمِ مِنْ نَحْوِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ أَيِّ عِلْمٍ يَعْنِي الْكَلَامَ وَالتَّصَوُّفَ يَعْنِي الْأَخْلَاقَ وَالْفِقْهَ أَيْ الْأَعْمَالَ وَمِنْ الْإِشَارَةِ إلَى شَرَفِ هَذَا الْكِتَابِ وَرُتْبَتِهِ فِي الشَّرَفِ وَإِلَى سَبَبِ التَّأْلِيفِ وَإِلَى غَايَةِ الْعُلُومِ الَّتِي أُخِذَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَشَرَفِهَا وَإِلَى اسْمِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ أَبْوَابِهِ وَنَحْوِهَا وَيَحْصُلُ التَّصَوُّرُ بِوَجْهٍ مَا الَّذِي يَجِبُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي ضِمْنِ مَا ذُكِرَ فَافْهَمْ. (فَإِنَّ) الْفَاءُ إمَّا جَوَابُ (أَمَّا) الْمُقَدَّرَةِ أَوْ الْمَوْهُومَةِ أَوْ لَفْظُ (الْوَاوِ) لِقِيَامِهِ مَقَامَ أَمَّا أَوْ لَفْظُ بَعْدُ لِغَلَبَةِ الشَّرْطِيَّةِ فِي الظُّرُوفِ كَمَا قِيلَ (الْعَقْلُ) لَهُ مَعَانٍ مِنْهَا جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفِ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: هَذَا مَا قِيلَ جَوْهَرٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جُسْمَانِيٍّ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ فِي أَفْعَالِهِ إلَى جِسْمٍ قِيلَ هَذَا مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ» وَمِنْهَا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إدْرَاك الْحَقَائِقِ لَعَلَّ هَذَا مَا قَالُوا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا تَسْتَعِدُّ لِلْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ وَمِنْهَا الْغَرِيزَةُ الَّتِي يَلْزَمُهَا الْعِلْمُ بِالضَّرُورَاتِ أَوْ نَفْسُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَمِنْهَا قُوَّةٌ مُمَيِّزَةٌ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ وَمِنْهَا هَيْئَةٌ مَحْمُودَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَكَلَامِهِ وَنَحْوِهِ وَمِنْهَا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا تَنْتَقِلُ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ إلَى النَّظَرِيَّاتِ. قِيلَ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ نُورٌ يُضِيءُ بِهِ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَى دَرْكِ الْحَوَاسِّ فَيَبْتَدِئُ الْمَطْلُوبَ لِلْقَلْبِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَوْلِيدًا إعْدَادًا وَلُزُومًا وَهَذَا مَا عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ جَوَّزَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَيْنَ الْأَوَّلِ فَرَدَّهُ التَّلْوِيحُ بِأَنَّ ذَاكَ صِفَةُ الْمُكَلَّفِ وَذَلِكَ لَيْسَ صِفَةً لَهُ وَجَوَّزَ أَيْضًا كَوْنَ هَذَا التَّعْرِيفَ أَثَرًا فَائِضًا مِنْ الْأَوَّلِ أَيْضًا عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ وَيُعِدُّهَا لِلْإِدْرَاكِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَةِ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى إنْكَارِهَا إلَّا أَنْ يُحْمَلَ مَذْهَبُ صَاحِبِ التَّوْضِيحِ عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ كَالْغَزَالِيِّ وَالرَّاغِبِ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَجَمْعٍ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وِفَاقًا لِلْحُكَمَاءِ لَكِنَّ ظَاهِرَ التَّلْوِيحِ تَسْلِيمُ ذَلِكَ مِنْهُ وَهُوَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَمْ يُقِرَّ بِثُبُوتِ الْمُجَرَّدَاتِ فَتَأَمَّلْ وَمِنْهَا جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ عَنْ الْمَادَّةِ فِي ذَاتِهِ مُقَارِنٌ لَهَا فِي فِعْلِهِ وَهِيَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الَّتِي يُشِيرُ إلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ أَنَا لَعَلَّ هَذَا مَا قِيلَ جَوْهَرٌ يُدْرِك بِهِ الْغَائِبَاتِ بِالْوَسَائِطِ وَالْمَحْسُوسَاتِ بِالْمُشَاهَدَةِ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْعُرْفَ وَاللُّغَةَ عَلَى مُغَايَرَةِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَدَفَعَ بِجَوَازِ كَوْنِ الْمُرَادِ أَنَّهُ يُطْلِقُ الْعَقْلَ عَلَى النَّفْسِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى قُوَّتِهَا. ثُمَّ الظَّاهِرُ هُنَا هُوَ الثَّانِي أَعْنِي قُوَّةً لِلنَّفْسِ إذْ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْعِلْمِ هُوَ ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ. وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا غَيْرَهُ ثُمَّ لِلْعَقْلِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ لِأَنَّ النَّفْسَ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ خَالِيَةٌ عَنْ الْعُلُومِ مُسْتَعِدَّةٌ لَهَا سُمِّيَ عَقْلًا هَيُولَانِيًّا كَمَا فِي الطِّفْلِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ الضَّرُورِيَّاتِ وَاسْتَعَدَّتْ لِلنَّظَرِيَّاتِ سُمِّيَ عَقْلًا بِالْمَلَكَةِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ النَّظَرِيَّاتِ وَحَصَلَ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِحْضَارِهَا مَتَى شَاءَتْ سُمِّيَ عَقْلًا بِالْفِعْلِ ثُمَّ إذَا كَانَتْ النَّظَرِيَّاتُ حَاضِرَةً عِنْدَهَا مُشَاهِدَةً لَهَا سُمِّيَ عَقْلًا مُسْتَفَادًا. قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي تَعْدِيلِ الْعُلُومِ الرُّوحُ الْعُلْوِيُّ فِي مَرْتَبَةِ كَمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ يُسَمَّى عَقْلًا وَفِي مَرْتَبَةِ الِانْشِرَاحِ بِنُورِ الْإِسْلَامِ يُسَمَّى صَدْرًا وَفِي مَرْتَبَةِ الْمُرَاقَبَةِ وَالْمَحَبَّةِ يُسَمَّى قَلْبًا وَفِي مَرْتَبَةِ الْمُشَاهَدَةِ يُسَمَّى سِرًّا وَفِي مَرْتَبَةِ التَّجَلِّي يُسَمَّى رُوحًا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَدْعِيَةِ اللَّهُمَّ زَيِّنْ ظَوَاهِرَنَا بِخِدْمَتِك وَبَوَاطِنَنَا بِمَعْرِفَتِك وَقُلُوبَنَا بِمَحَبَّتِك وَأَسْرَارَنَا بِمُشَاهَدَتِك وَأَرْوَاحَنَا بِمُعَايَنَتِك انْتَهَى ثُمَّ هَلْ الْأَفْضَلُ الْعِلْمُ كَمَا فِي بَحْرِ الْكَلَامِ أَوْ الْعَقْلُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ الْأَلْوَغِيَّةِ وَالْأَصَحُّ الْعُلُومُ الزَّاجِرَةُ أَفْضَلُ. (وَالنَّقْلُ) أَيْ الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ الْقَطْعِيُّ لَا الظَّنِّيُّ أَيْضًا كَمَا تَوَهَّمَ إذْ دَلِيلُ فَنَاءِ الدُّنْيَا مَثَلًا قَطْعِيٌّ كَأَدِلَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ إذْ كُلُّ مَا ثَبَتَ حُدُوثُهُ ثَبَتَ زَوَالُهُ كَمَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْمُرَادُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى فَنَاءِ الْعَالَمِ مَثَلًا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا أَخْبَارُ السَّلَفِ فَلَا إلَّا أَنْ تَرْجِعَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَطْلَبَ قَطْعِيٌّ وَالْمُقَدَّمَاتِ الْمَقْبُولَةَ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهُمَا ظَنِّيَّةٌ وَمِنْهُ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا يُقَالُ وَكَذَا كَلَامُ السَّلَفِ وَالْحُكَمَاءِ مُتَّفِقَانِ وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ الْحُكَمَاءِ مَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَصِحُّ رَأْسًا لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا

بَقَاءَ الْعَالَمِ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ الْجُسْمَانِيَّ. فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ لِإِفَادَةِ الْمَطْلُوبِ وَالْعَقْلُ لَا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ كَيْفَ وَالْإِجْمَاعُ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى حُسْنِ شَيْءٍ وَإِنَّ النَّقْلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إنْ لَمْ يُخَالِفْ الْعَقْلَ وَإِلَّا يَتَوَقَّفُ كَالْمُتَشَابِهِ قُلْنَا بِجَوَازِ إرَادَةِ الْمَجْمُوعِ يَعْنِي مَجْمُوعُ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَطَالِبِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَعْنَى لَوْلَا خِطَابُ الشَّرْعِ لَمْ يُدْرَكْ بَلْ مِنْ الْمَطَالِبِ الَّتِي يَجُوزُ حُصُولُهَا بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ فَيَثْبُتُ بِالْعَقْلِ ثُمَّ يُطَبَّقُ بِالشَّرْعِ لِيُعْتَدَّ بِهِ فَإِنْ قُلْت إنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَطْعِيًّا فَأَحَدُهُمَا كَافٍ فَمَا الْحَاجَةُ إلَى الْآخَرِ وَإِنْ ظَنِّيًّا فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْقَطْعُ مِنْ اجْتِمَاعِ الظُّنُونِ قُلْت الِاحْتِيَاجُ إلَى الْآخَرِ لِتَحْصِيلِ أَعْلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ إذْ الْيَقِينُ كُلِّيٌّ مُشَكَّكٌ بِتَفَاوُتِ أَفْرَادِهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وَلِهَذَا سَمَّوْهُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَعَيْنَ الْيَقِينِ وَحَقَّ الْيَقِينِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ التَّفَاوُتَ بِالظُّنُونِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ وُجُوهٍ أَقْوَى مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِوَجْهٍ وَأَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا هُنَا لَكِنْ قَدْ يَشُوبُ بِالْوَهْمِ كَشُبَهِ الْفَلَاسِفَةِ فِي بَقَاءِ الْعَالَمِ فَلَا يَصْفُو عَنْ الْكَدَرِ فَيَحْتَاجُ إلَى ضَمَّ النَّقْلِ وَأَنَّ النَّقْلَ أَيْضًا وَإِنْ قَاطِعًا لَا يَخْلُو عَنْ شُبَهٍ أَيْضًا كَمَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ اللَّفْظِيِّ قَطْعًا كَمَا أُسْنِدَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ أَنَّهُ سَفْسَطَةٌ كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَالتَّلْوِيحِ فَإِذَا ضُمَّ إلَيْهِ الْعَقْلُ فَيَصْفُو عَنْ الشُّبَهِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ مَوَاضِعِ الْمَقَاصِدِ وَالتَّلْوِيحِ إفَادَةُ مَجْمُوعِ الْأَمَارَاتِ الْقَطْعَ لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ. نَعَمْ الْمَقَامُ كَالْخَطَّابِيِّ فَافْهَمْ ثُمَّ لَوْ ضُمَّ إلَيْهِمَا الْحِسُّ كَمَا نُشَاهِدُ أَحْوَالَ مُعَاصِرِنَا وَنَسْمَعُ أَحْوَالَ أَسْلَافِنَا لَحَصَلَ الْحُكْمُ الْآتِي مِنْ جَمِيعِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ الْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ وَالْخَبَرِ الصَّادِقِ (مُتَوَافِقَانِ) فِي الدَّلَالَةِ عَلَى خَرَابِ الْعَالَمِ وَفَنَاءِ نِعَمِهِ وَنَحْوِهِمَا (وَالْكِتَابُ) الْقُرْآنُ (وَالسُّنَّةُ) الظَّاهِرُ السُّنَّةُ الْقَوْلِيَّةُ هُنَا وَلَوْ ضُمَّ الْإِجْمَاعُ لَمْ يَخْلُ عَنْ وَجْهٍ وَكَانَ أَبْلَغَ، وَتَعْمِيمُ السُّنَّةِ لَهُ لِكَوْنِهِ سُنَّةَ الْعُلَمَاءِ بَعِيدٌ كَالتَّوْجِيهِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ رَاجِعٌ إلَيْهِمَا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى السُّنَّةِ مِنْهُمَا وَكَالتَّوْجِيهِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِمَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ إذْ الْإِجْمَاعُ لَا يَجْرِي فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ الْغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ رَدَّهُ التَّلْوِيحُ بِأَنَّ الْعَقْلِيَّ يَكُونُ ظَنِّيًّا فَيَصِيرُ بِالْإِجْمَاعِ قَطْعِيًّا وَالْحِسِّيُّ قَدْ يَسْتَنْبِطُهُ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ النُّصُوصِ فَيَقْطَعُ بِسَبَبِ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ سَنَدَ الْإِجْمَاعِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ ظَنِّيَّانِ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنَّ دَلَالَتَهُمَا قَطْعِيَّتَانِ وَإِمَّا الْإِجْمَاعُ الَّذِي سَنَدُهُ قَطْعِيٌّ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِهِ فَلَا يُفِيدُ نَفْعًا كَثِيرًا (مُتَطَابِقَانِ) ثُمَّ قَوْلُهُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ دَافِعٌ لِوَهْمِ اخْتِصَاصِ النَّقْلِ بِأَحَدِهِمَا أَوْ لِوَهْمِ كَوْنِ النَّقْلِ مِنْ نَحْوِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ (عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا) نَقِيضُ الْآخِرَةِ إمَّا لِدُنُوِّهَا أَيْ لِقُرْبِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ أَوْ لِقُرْبِ مُشْتَهَيَاتِهَا فِي الْقَلْبِ أَوْ لِدَنَاءَتِهَا قِيلَ فِي حَقِيقَتُهَا عَنْ الْعَيْنِيِّ هِيَ إمَّا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْهَوَاءِ وَالْجَوِّ. وَأَمَّا كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ قَبْلَ الدَّارِ الْآخِرَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (فَانِيَةٌ) فِي أَمَدٍ قَرِيبٍ لِأَنَّهُ آتٍ، فَسَّرَ الْفَنَاءَ بِالْعَدَمِ الطَّارِئِ عَلَى الْوُجُودِ خِلَافًا لِلْكَرَامِيَّةِ كَالْفَلَاسِفَةِ يُرَدُّ عَلَيْهِ قَدْ فَسَّرَ الدُّنْيَا بِالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ فَلَزِمَ فَنَاءُ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ وَالْمُخْتَارُ بَعْثُ الْإِنْسَانِ بِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَفَنَاءُ الْأَعْمَالِ وَلَا تُتَصَوَّرُ الْمُجَازَاةُ بِالْمَعْدُومِ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ فَنَاءَ كُلِّ شَيْءٍ عَدَمُ شَكْلِهِ وَبُطْلَانُ صُورَتِهِ لِانْعِدَامِ جَمِيعِ مَوَادِّهِ فَمُجَرَّدُ بُطْلَانِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ كَافٍ فِي فَنَائِهِ وَإِنَّ الْأَعْمَالَ لِكَوْنِهَا أَعْرَاضًا لَا بَقَاءَ بَعْدَ آنِ الْوُجُودِ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ فِي أَعْمَالِ الْعَبْدِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ وَفِي أَعْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَوْلَى قِيلَ فِي وَجْهِ الْفَنَاءِ إنَّ وُجُودَ الْإِنْسَانِ عَرَضٌ فَهُوَ غَيْرُ بَاقٍ فَهُوَ فَانٍ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أُرِيدَ الْعَرَضُ الْعَارِضُ بِمَعْنَى الْحَادِثِ كَمَا عَرَفْت. وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ ضِدُّ الْجَوْهَرِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِهِ وَسَوْقِهِ فَلَا يَصِحُّ إذْ الْإِنْسَانُ لَيْسَ بِعَرَضٍ وَأَنَّ الْفَنَاءَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُؤَقَّتًا بَلْ يَكُونُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَيُنَافِيهِ غَرَضُ الْمُصَنِّفِ فَبِهِ يَظْهَرُ أَيْضًا عَدَمُ صِحَّةِ إرَادَةِ كَوْنِ الْوُجُودِ الْإِمْكَانِيِّ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُسْتَهْلَكًا

دَائِمًا لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّف مَا يَكُونُ فَانِيًا فِي وَقْتٍ مَا كَالْقِيَامَةِ فَمِثْلُ ذَلِكَ وَإِنْ صَحَّ فِي ذَاتِهِ لَكِنْ لَا يَصِحُّ هُنَا فِي إرَادَتِهِ. أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي فَنَاءِ الدُّنْيَا فَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ وَنَحْوِهِمَا. (سَرِيعَةُ الزَّوَال) كَأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْفَنَاءِ أَوْ تَعْلِيلٌ لَهُ أَوْ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَقْتَ الْفَنَاءِ وَجَوَابٌ عَلَى طَرِيقِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إذْ الْكَلَام لِلسَّائِلِ مَعْرِفَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا مَعْرِفَةُ الْحَدِّ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَسْرَارِ الْمَكْتُومَةِ وَقَوْلُهُ (وَالْخَرَابُ) دَاخِلٌ فِي حُكْمِ مَا سَبَقَ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الزَّوَالَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْأَشْخَاصِ، وَالْخَرَابَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الدُّنْيَا، أَوْ الْأَوَّلَ إلَى نِعَمِهَا وَالثَّانِيَ إلَى أَشْخَاصِهَا وَنَفْسِهَا ثُمَّ إنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مِلْكًا لِأَحَدٍ بَلْ عَارِيَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ وَوُجُودُهَا مَجَازِيَّةٌ صُورِيَّةٌ فَاعْتِمَادُهَا ضَلَالٌ وَرُكُونُهَا وِزْرٌ وَوَبَالٌ لِأَنَّ خُلُودَهَا أَمْرٌ مُحَالٌ (عِزُّهَا) أَيْ الشَّرَفُ وَالْعِزَّةُ الْحَاصِلَةُ فِيهَا نَحْوُ الْجَاهِ وَالْحَشَمِ وَالْأَمْوَالِ (ذُلٌّ) مِنْ الذَّلِيلِ أَيْ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ فِي الْعَاقِبَةِ لِأَنَّ سَبَبَ تَحْصِيلِهَا يُضَيِّعُ الْعُمُرَ الْعَزِيزَ الَّذِي خُلِقَ لِلْعِبَادَةِ وَكَسْبِ الصَّالِحَاتِ بَلْ بِسَبَبِهَا يُرْتَكَبُ الْقَبَائِحُ وَالسَّيِّئَاتُ وَلِهَذَا قَالَ (وَنِعَمُهَا) جَمْعُ نِعْمَةٍ (نِقَمٌ) بِالْقَافِ جَمْعُ نِقْمَةٍ بِمَعْنَى الْمِحْنَةِ الَّتِي تَنْفِرُ عَنْهَا الطَّبَائِعُ لِأَنَّهَا إمَّا مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ وَلَا أَدْنَى مِنْ الْحِسَابِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ» وَأَنَّ مَا جُمِعَ مِنْ الدُّنْيَا سَيَنْتَقِلُ إلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ الْجَامِعُ أَسِيرًا لِلْغَيْرِ وَخَدِيمَهُ فَالْعَاقِلُ يَخْتَارُ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى (وَشَرَابُهَا) أَيْ مَشْرُوبَاتُهَا كَالْمَاءِ وَسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ اللَّذِيذَةِ (سَرَابٌ) يُرَى مِنْ بَعِيدٍ عَلَى صُورَةِ مَاءٍ وَلَوْ قُرِّبَ بِهِ لَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَذَلِكَ الدُّنْيَا بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ نَظَرُ الْحَمْقَاءِ تُرَى شَيْئًا يَسْتَرِيحُ بِهِ النَّفْسُ وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَتِهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَعَلِمَ أَنَّهَا عَدِيمٌ لَا أَصْلَ لَهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَشْبَاحِ وَالظِّلَالِ عَلَى مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88]- {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 64] لِتَأَخُّرِهَا عَنْ الدُّنْيَا فِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الدَّارِ دُونَ الدُّنْيَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الدَّارَ هِيَ الْآخِرَةُ فَقَطْ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارٍ لِأَنَّهَا مَعَ وُجُودِهَا الصُّورِيِّ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] بِفَتْحِ الْيَاءِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ وَجْهُ الْحَصْرِ مَعَ لَامِ التَّأْكِيدِ فِي خَبَرِ إنَّ لِرَدِّ مَنْ أَنْكَرَ الْآخِرَةَ أَوْ بَقَاءَهَا كَالْمُشْرِكِينَ وَالْحُكَمَاءِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ لِأَمَارَةِ الْإِنْكَارِ مِنْ صُورَةِ الْمُسْتَغْرِقِينَ بِالدُّنْيَا وَإِنْ أَقَرُّوا فَيَنْزِلُ الْعَالِمُ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بَلْ الْمُنْكِرِ لِعَدَمِ جَرَيَانِهِ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِ كَقَوْلِك لِمَنْ يُصَلِّي مَعَ عِلْمِهِ بِهَا إنَّ الصَّلَاةَ فَرِيضَةٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِهَا الْجَنَّةُ لَا الْمُطْلَقُ وَإِلَّا لَا يَسْتَقِيمُ قَوْله تَعَالَى {أُعِدَّتْ} [آل عمران: 133] أَيْ هُيِّئَتْ فِيمَا مَضَى لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الْآنَ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ عَدَمُ مَعْلُومِيَّةِ مَحِلِّهَا {لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] الَّذِينَ حَفِظُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مُخَالَفَةِ رَبِّهِمْ وَلِلتَّقْوَى مَرَاتِبُ: وِقَايَةُ الْكُفْرِ لِلْعَوَامِّ، وَالْمَعَاصِي لِلْخَوَاصِّ، وَعَمَّا سِوَى اللَّهِ لِأَخَصِّ الْخَوَاصِّ. وَالْجَنَّةُ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَاقْتَسِمُوهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِكُمْ» فَالْعَاقِلُ لَا يَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ مَعَ إمْكَانِ الْقَدْرِ الْجَلِيلِ فَإِنَّ الْمُنْتَهَى فِي التَّقْوَى مُنْتَهًى فِي الْأَكْرَمِيَّةِ الْأَعْلَى كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]- عَلَى أَنَّ مَنْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مَعَ الْخَوَالِفِ عَنْ فُرْسَانِ هَذَا الْمَيْدَانِ بِأَنْ يَكْتَفِيَ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ خَطَرِ زَوَالِ الْإِيمَانِ وَلَوْ يُسِّرَ لَهُ الْجِنَانُ لَا يَخْلُو مِنْ قَهْرٍ وَعُقُوبَةٍ مِنْ الدَّيَّانِ فَالْوَاجِبُ دِقَّةُ النَّظَرِ فِي اسْتِحْصَالِ دَقَائِقِ التَّقْوَى وَاسْتِحْضَارِ حَقَائِقِهَا بِتَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَتَنْقِيحِ الْجَوَارِحِ عَمَّا يُوجِبُ سَخَطَ اللَّهِ وَوَزْنِ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ بِمِيزَانِ اللَّهِ لِيَلِيقَ بِجِنَانِ اللَّهِ. (مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ) وَهُمْ الَّذِينَ جَمَعُوا الْإِيمَانَ مَعَ الصَّالِحَاتِ فَيَنْدَفِعُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقُيُودِ احْتِرَازٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ الِاتِّقَاءُ بِلَا إيمَانٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْمُتَّقِينَ غَيْرَ الْأَوَّلِ مِنْ التَّقْوَى وَيَكُونُ إشَارَةً إلَى أَنَّ تَحَقُّقَ التَّهَيُّؤِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْمَاضِي إنَّمَا هُوَ لِصَاحِبِ الْأُخْرَيَيْنِ وَالْأَوَّلُ

وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَكِنْ كَمْ مِنْ عَقَبَةٍ كَئُودٍ تَسْتَقْبِلُهُ، أَوَّلُ تِلْكَ الْعَقَبَةِ عَقَبَةُ الْإِسْلَامِ هَلْ يَسْلَمُ لَهُ فِي آخِرِ الْأَوَانِ مِنْ مَكْرِ الشَّيْطَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ لَكِنَّ دَوَامَ الْإِيمَانِ لِغَيْرِ الْأَخِيرَيْنِ عَلَى خَطَرٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ وَقِيلَ هَذَا بَيَانٌ لِلْمُتَّقِينَ. أَقُولُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى فَقَطْ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، أَوْ مُحْتَاجٍ إلَى تَكَلُّفٍ (عِزَّتُهَا بَاقِيَةٌ) خِلَافُ عِزَّةِ الدُّنْيَا (أَبَدِيَّةٌ) لَا تَنْقَطِعُ بَلْ تَدُومُ عَلَى الْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ (وَنِعَمُهَا) كَقُصُورِ الْجِنَانِ وَالْحُورِ مِنْ الْغِلْمَانِ وَالْوِلْدَانِ مَعَ سَائِرِ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ مِصْدَاقَ - {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20]- (صَافِيَةٌ) مِنْ الْكُدُورَاتِ كَمَا فِي الدُّنْيَا (سَرْمَدِيَّةٌ) لَا نِهَايَةَ لَهَا قَالَ تَعَالَى {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] وَمُحْكِمَاتُ النُّصُوصِ الدَّالَّةُ عَلَى الْخُلُودِ وَالتَّأْبِيدِ لِلْجَنَّةِ وَنِعَمِهَا قَرِيبَةٌ إلَى أَنْ لَا تَتَنَاهَى (وَشَرَابُهَا) أَيْ خَمْرُهَا وَيُمْكِنُ إرَادَةُ مُطْلَقِ الْمَشْرُوبَاتِ كَالْكَوْثَرِ وَالرَّحِيقِ. (خَالِيَةٌ عَنْ إثْمٍ) أَيْ جَرِمَةٍ وَمَعْصِيَةٍ أَوْ عَنْ كَدَرٍ كَالصُّدَاعِ وَالسُّكْرِ وَضَرَرِ الْعَقْلِ وَوَجَعِ الْبَطْنِ وَعُرُوضِ الْجَفَاءِ كَالْبَوْلِ وَالْقَيْءِ فَإِنَّهَا شَرَابٌ طَهُورٌ يَعْنِي طَاهِرٌ عَنْ الْأَقْذَارِ لَمْ تَمَسَّهَا الْأَيْدِي وَلَمْ تَدُسَّهَا الْأَرْجُلُ كَشَرَابِ الدُّنْيَا لَا يَسْتَحِيلُ بَوْلًا وَلَكِنْ رَشْحًا فِي أَبْدَانِهِمْ كَالْمِسْكِ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ أَكْلِهِمْ الطَّعَامَ يُؤْتَوْنَ بِالشَّرَابِ فَتَطْهُرَ بُطُونُهُمْ وَيَرْشَحَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ جُلُودِهِمْ كَالْمِسْكِ وَقِيلَ الشَّرَابُ الطَّهُورُ عَيْنٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ تَنْزِعُ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ غِلٍّ وَغِشٍّ (وَ) كَذَا عَنْ (لَاغِيَةٍ) لِأَنَّهُ لَا يُسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةٌ لَغْوٌ وَبَاطِلٌ وَلَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا لَغْوٌ حَتَّى يُسْمَعَ فَلَا تُشْرَبُ عَلَى اللَّغْوِ وَالْكَلَامِ الْفَاحِشِ وَالْغِنَاءِ الْبَاطِلِ وَإِنَّمَا تُشْرَبُ عَلَى الْأَلْحَانِ بِاللَّطَائِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْكَلَامِ الْحَقِّ (فِيهَا) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ (حُورٌ) يُقَالُ أَحْوَرُ حَوْرَاءُ حُورٌ كَأَحْمَرَ حَمْرَاءُ حُمْرٌ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْعَظِيمَةُ الْعَيْنِ الْخَالِصَةُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَبِذَلِكَ يَكْمُلُ الْجَمَالُ وَالْبَهَاءُ، وَقِيلَ هِيَ النَّقِيَّةُ الْبَيَاضُ مِنْ النِّسَاءِ وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ الْحُورُ الْبِيضُ الْوُجُوهِ. فَإِنْ قِيلَ فَائِدَةُ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ التَّغَذِّي وَدَفْعُ ضَرَرِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَفَائِدَةُ الزَّوْجَةِ التَّوَلُّدُ وَحِفْظُ النَّوْعِ وَهَذِهِ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْجَنَّةِ قُلْت فَائِدَتُهَا هُنَالِكَ الِاسْتِلْذَاذَاتُ الْحِسِّيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِيهَا طَبِيعَةُ نَوْعِ الْإِنْسَانِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْجَوَابِ نِعَمُ الْجَنَّةُ لَا تُشَارِكُ نِعَمَ الدُّنْيَا فِي تَمَامِ حَقِيقَتِهَا حَتَّى تَسْتَلْزِمَ جَمِيعَ مَا يَلْزَمُهَا وَتُفِيدَ عَيْنَ فَائِدَتِهَا (مَقْصُورَاتٌ) مُخَدَّرَاتٌ وَمَسْتُورَاتٌ لَا يَخْرُجْنَ لِشَرَفِهِنَّ وَلَا يَنْظُرْنَ إلَى الْغَيْرِ قِيلَ أَيْ مَحْبُوسَاتٌ لِئَلَّا تَتَطَرَّقَ شَائِبَةُ الِاتِّهَامِ وَقِيلَ مَقْصُورَاتٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ لَا تَتَنَاوَلُ غَيْرَهُمْ وَلَوْ بَدَلًا كَمَا فِي الدُّنْيَا. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَشْرَقَتْ إلَى الْأَرْضِ لَمَلَأَتْ الْأَرْضَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَلَأَذْهَبَتْ ضَوْءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ» . (فِي الْخِيَامِ) جَمْعُ خَيْمَةٍ فِي الْقَامُوسِ الْخَيْمَةُ كُلُّ بَيْتٍ مُسْتَدِيرٍ أَوْ ثَلَاثَةُ أَعْوَادٍ أَوْ أَرْبَعَةُ أَعْوَادٍ يُلْقَى عَلَيْهَا الثُّمَامُ وَيُسْتَظَلُّ بِهَا فِي الْحَرِّ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا. «إنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سَبْعُونَ مِيلًا» قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ اللُّؤْلُؤِ التَّشْبِيهُ فِي الصَّفَاءِ وَرُدَّ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي نَفْسِهَا لَعَلَّ الْأَوَّلَ بُنِيَ عَلَى الْعَادِي وَالثَّانِي عَلَى الْإِمْكَانِ النَّفْسِيِّ الْأَمْرِيِّ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ عَادَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ فِي الْأُخْرَى خِلَافَ الْأُولَى. وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِصْرَاعٍ مِنْ ذَهَبٍ قِيلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ عَنْ أَنَسٍ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أُسْرِيَ بِي دَخَلْت فِي الْجَنَّةِ مَوْضِعًا يُسَمَّى الْبِدْحَ عَلَيْهِ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ وَالزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ وَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ فَقُلْنَ السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْت يَا جَبْرَائِيلُ مَا هَذَا النِّدَاءُ قَالَ هَؤُلَاءِ الْمَقْصُورَاتُ فِي الْخِيَامِ اسْتَأْذَنَّ رَبَّهُنَّ فِي السَّلَامِ عَلَيْك فَأَذِنَ لَهُنَّ فَطَفِقْنَ يَقُلْنَ نَحْنُ الرَّاضِيَاتُ فَلَا نَسْخَطُ أَبَدًا وَنَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَظْعَنُ أَبَدًا» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُزَوَّجُ خَمْسَمِائَةِ حَوْرَاءَ وَأَرْبَعَةَ آلَافِ بِكْرٍ وَثَمَانِيَةَ آلَافِ ثَيِّبٍ يُعَانِقُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِقْدَارَ عُمُرِهِ فِي الدُّنْيَا» (نَاعِمَاتٌ) لَيِّنَاتٌ (مُطَهَّرَاتٌ) نَظِيفَاتٌ تَقِيَّاتٌ (عَنْ الْأَقْذَارِ) عَمَّا يُسْتَقْذَرُ

وَيُذَمُّ كَالْحَيْضِ وَسَيِّئِ الْأَخْلَاقِ وَالْوَسَخِ وَالدَّرَنِ فَإِنَّ التَّطْهِيرَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَبِالْجُمْلَةِ عَنْ جَمِيعِ مَا لَا يَسْتَحْسِنُهُ الطَّبْعُ. (وَالْآلَامُ) جَمْعُ أَلَمٍ وَهُوَ الْمَرَضُ وَالْوَجَعُ أَوْ عَمَّا يُوجِبُ الْآلَامَ مِنْ نَحْوِ ذَهَابِ حُسْنِهِنَّ وَتَغْيِيرِ جَمَالِهِنَّ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ الْأَحْقَابُ يَزْدَادُ الْحُسْنُ وَالْجَمَالُ وَقِيلَ مُطَهَّرَاتٌ مِنْ نَحْوِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ وَقِيلَ عَنْ بُغْضِ ضَرَائِرِهِنَّ {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ} [الرحمن: 58] الْأَظْهَرُ الْيَوَاقِيتُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ يَاقُوتًا فَالْمَقَامُ مَحِلُّ انْقِسَامِ الْآحَادِ إلَى الْآحَادِ فَيُنَاسِبُ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ إلَّا أَنَّهُ اقْتَبَسَ مِنْ قَوْله تَعَالَى لَعَلَّ أَنَّهُ أُرِيدَ مِنْ اللَّامِ الِاسْتِغْرَاقُ قِيلَ الْيَاقُوتُ أَرْبَعَةٌ أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وأسمانجوني وَأَبْيَضُ ثُمَّ لِلْأَقْسَامِ أَنْوَاعٌ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا الْأَحْمَرُ أَوْ الْأَبْيَضُ. ( {وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58] قِيلَ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ هُوَ صِغَارُ اللُّؤْلُؤِ وَقِيلَ عَنْ الْخَازِنِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى - {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58]- فِيهِ تَشْبِيهُ لَوْنِهِنَّ بِبَيَاضِ اللُّؤْلُؤِ يَعْنِي الْمَرْجَانَ مَعَ حُمْرَةِ الْيَاقُوتِ لِأَنَّ أَحْسَنَ الْأَلْوَانِ الْبَيَاضُ الْمَشُوبُ بِالْحُمْرَةِ وَمِنْهُ عُلِمَ وَجْهُ التَّخْصِيصِ وَالْأَصَحُّ وَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ الصَّفَاءُ بِحَيْثُ يُرَى مَا فِي بَاطِنِهِ مِنْ ظَاهِرِهِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً حَتَّى يُرَى مُخُّهَا» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ أَرَادَ صَفَاءَ الْيَاقُوتِ فِي بَيَاضِ صَفَاءِ الْمَرْجَانِ ثُمَّ فِي إتْقَانِ السُّيُوطِيّ الْمَرْجَانُ لَفْظٌ عَجَمِيٌّ وَالْيَاقُوتُ فَارِسِيٌّ {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 56] الطَّمْثُ النِّكَاحُ أَوْ الْوَطْءُ أَوْ الْمَسُّ أَقُولُ فَلِلْكُلِّ وَجْهٌ. {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 56] يَعْنِي لَمْ يَمَسّهُنَّ قَبْلَ أَزْوَاجِهِنَّ فَرْدٌ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَالتَّقْيِيدُ بِالْجِنِّ إمَّا لِأَنَّ الْجِنَّ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَنِعَمِهَا كَالْحُورِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ مُسْتَدِلًّا بِنَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ فِي أَنَّهَا صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ فِي النِّسَاءِ تَتَسَارَعُ بِهَا النُّفُوسُ ثُمَّ هَذِهِ بَعْضُ صِفَاتِ الْحُورِ وَأَمَّا نِسَاءُ الدُّنْيَا فَأَعْلَى مِنْهُنَّ مَرَاتِبَ فِي الْأَحَادِيثِ فَلَوْ قَدَّمَ قَوْلَهُ {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 56] عَلَى قَوْلِهِ {كَأَنَّهُنَّ} [الرحمن: 58] لَوَافَقَ تَرْتِيبَ الْقُرْآنِ وَإِنَّ عَدَمَ الطَّمْثِ أَنْسَبُ وَأَقْرَبُ لِلتَّطْهِيرِ إذْ طَمْثُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِنْ مُسْتَقْدَرَاتِ الطَّبْعِ وَمُؤْلِمِهِ وَمَا قِيلَ لِأَنَّ شَرْطَ الِاقْتِبَاسِ عَدَمُ إرَادَةِ الْقُرْآنِ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الِاقْتِبَاسَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّغْيِيرِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّغْيِيرِ لَا يَضُرُّ الِاقْتِبَاسَ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ عَلَى تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ لَزِمَ قَصْدِيَّةُ قُرْآنِيَّتِهِ وَيَفُوتُ قَصْدُ الِاقْتِبَاسِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَأَيْضًا قِيلَ هُمَا سَجْعَانِ فَلَوْ رُتِّبَ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ لَكَانَ السَّجْعُ الثَّانِي أَقَلَّ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا يَحْسُنُ إطَالَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي أَقُولُ الْمَانِعُ مِنْ الْحُسْنِ مَا يَكُونُ أَكْثَرَ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} [الفيل: 1] . إلَى قَوْلِهِ {فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل: 2] عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْبَدِيعِيَّةِ إنَّمَا تَتَأَتَّى بَعْدَ رِعَايَةِ أَسْرَارِ أَصْلِ الْفَصَاحَةِ وَقَدْ عَرَفْت الْأَقْرَبِيَّةَ وَالْأَنْسَبِيَّةَ لَعَلَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ الْمُصَنِّف نَظَرَ الْيَاقُوتِيَّةَ وَالْمَرْجَانِيَّةَ مِنْ الْمَحَاسِنِ الذَّاتِيَّةِ وَعَدَمَ الطَّمْثِ مِنْ الْعَرَضِيَّةِ وَأَنَّ تَوَهُّمَ الطَّمْثِ إنَّمَا يَتَبَادَرُ بَعْدَ الْكَمَالِ فِي الْحُسْنِ وَمِنْ الْكَمَالِ مَا قُدِّمَ وَلَوْ جُعِلَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّشْبِيهِ عَدَمُ قَبُولِ الْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ شَيْئًا مِنْ نَوْعِ الْوَسَخِ وَمَا يَنْفِرُ الطَّبْعُ فَلَهُ وَجْهٌ. اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ اللَّذَّةُ الْجِسْمِيَّةُ كَالْمُقَدَّمَةِ لِلَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ قُدِّمَ الْجِسْمِيَّةُ مَعَ شَرَفِ الرُّوحِيَّةِ إذْ هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَقْصَى وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ الْجِسْمِيَّةِ الْمَسْكَنَ وَالْمَطْعَمَ وَالْمُشْرَبَ وَالنِّكَاحَ اكْتَفَى بِمَا ذَكَرَ ثُمَّ قَالَ لِلَّذَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ {وُجُوهٌ} [القيامة: 22] الظَّاهِرُ مِمَّا سَبَقَ وُجُوهُ الْمُتَّقِينَ جَمْعُ وَجْهٍ إنَّمَا خَصَّ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْحُسْنِ وَالسُّرُورِ يَظْهَرُ فِيهِ وَلِأَنَّ الْعَيْنَ النَّاظِرَةَ فِيهِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْوُجُوهِ هُوَ الذَّاتُ أَوْ الْمُرَادُ أَصْحَابُ وُجُوهٍ {يَوْمَئِذٍ} [القيامة: 22] فِي الْجَنَّةِ أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] خَبَرُ وُجُوهٍ إمَّا لِتَخْصِيصِهِ بِالظَّرْفِ أَوْ بِوَصْفٍ مُقَدَّرٍ أَيْ وُجُوهٍ عَظِيمَةٍ وَمَعْنَى نَاضِرَةٍ حَسَنَةٌ مَسْرُورَةٌ مُشْرِقَةٌ مُسْفِرَةٌ مُضِيئَةٌ وَقِيلَ بِيضٌ يَعْلُوهَا نُورٌ {إِلَى رَبِّهَا} [القيامة: 23] أَيْ رَبُّ تِلْكَ الْوُجُوهِ. {نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ قُدِّمَ مُتَعَلِّقُهُ أَعْنِي إلَى رَبِّهَا لِلِاخْتِصَاصِ فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنْظُرُوا غَيْرَهُ تَعَالَى كَسَائِرِ نِعَمِ الْجَنَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ

قُلْنَا الِاخْتِصَاصُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتِ الرُّؤْيَةِ خِلَافَ رُؤْيَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ وَقْتَ رُؤْيَتِهِمْ يَسْتَغْرِقُونَ فِي مُطَالَعَةِ جَمَالِهِ بِحَيْثُ يَغْفُلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنْ الْغَيْرِ وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الرُّؤْيَةِ فَفِيهِ نَظَرٌ وَالْمُرَادُ مِنْ الرُّؤْيَةِ مَا هُوَ لِعَيْنِ الرَّأْسِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا إذْ النَّظَرُ الْمُسْتَعْمَلُ بِإِلَى فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ. وَكَذَا الْإِجْمَاعُ فَمَنْ قَالَ إنَّمَا نَسَبَ الرُّؤْيَةَ إلَى الذَّاتِ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَجْهِ وَكَذَا حَقِيقَةُ الْوَجْهِ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِجَمِيعِ ذَوَاتِهِمْ بِلَا اخْتِصَاصٍ بِالْعَيْنِ بَلْ يَرَى بِكُلِّ مِنْ الْحَاسَّةِ وَكَذَا مَا بِسَائِرِ الْحَوَاسِّ يُدْرِكُ بِكُلِّ مَا يُدْرِكُ بِالْآخَرِ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَا ارْتَكَبَ خِلَافَ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ وَقَدْ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ فُلَانٌ رَأَى وَيُرَادُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ كَمَا يُقَالُ تَكَلَّمَ فُلَانٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ بَلْ بِلِسَانِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ التِّرْمِذِيِّ «إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلَى جَنَّاتِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنِعَمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُورِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ وَتَمَامُهُ «ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]-» ثُمَّ قَالَ عَنْ الْغَيْرِ لَا غَدْوَةَ وَلَا عَشِيَّةَ هُنَاكَ فَالْمُرَادُ مُجَرَّدُ كَثْرَةِ النَّظَرِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يُقَوِّيهِمْ لِيَسْتَوْفُوا لَذَّةَ النَّظَرِ فَيُنْسِيهِمْ ذَلِكَ كُلَّ النَّعِيمِ وَفِيهِ أَنَّهُ يُرْجَى نَيْلُ الرُّؤْيَةِ بِمُحَافَظَةِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِالذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ رَبِّهَا (مَرْضِيَّةٌ) أَيْ تِلْكَ الْوُجُوهُ يَعْنِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِطَاعَتِهِ (مُطْمَئِنَّةٌ) بِذِكْرِهَا - {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]- فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَرَقَّى فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ إلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ فَتَسْتَقِرُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ إلَى الْحَقِّ بِحَيْثُ لَا يَرِيبُهَا شَكٌّ أَوْ الْآمِنَةُ الَّتِي لَا يَسْتَفِزُّهَا خَوْفٌ أَوْ حَزَنٌ كَمَا ذَكَرَ الْبَيْضَاوِيُّ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ وَصْفًا تَعْلِيلِيًّا إذَا لَوْ وُصِفَ الصَّالِحُ لِلْعِلَّةِ عِلَّةً مَا فَوُصُولُ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إلَى رُتْبَةِ الِاطْمِئْنَانِ سَبَبٌ إلَى رِضَاهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي الْعُقْبَى. فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى الْأَوَّلِ مَثَلًا مَنْ لَمْ يَصِلْ فِي الدُّنْيَا إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الرِّضَا قُلْنَا نَعَمْ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الرِّضَا لَعَلَّ الرِّضَا مُشَكَّكٌ يَتَفَاوَتُ بِالْقُوَّةِ وَنَحْوِهَا وَفَسَّرَ أَيْضًا بِالْمُؤْمِنَةِ الْمُوفِيَةُ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ الْمُتَقَرِّرَةُ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الرَّاسِخَةِ فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ رَبِّهَا أَوْ عَطَاءِ رَبِّهَا عَلَى الِاسْتِخْدَامِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ بَيْنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ (رَاضِيَةٍ) لِأَنَّهُمْ رَضُوا عَنْهُ بِثَوَابِهِ وَعَطَائِهِ ثُمَّ قِيلَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ أَيْ الْوُجُوهُ لَمْ يَرْضَى عَنْهُمْ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ لِتَرْكِهِمْ جَمِيعَ مَنْ سِوَاهُ أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ عِنْدَهُ إمَّا بَدَلٌ مِنْ يَوْمئِذٍ أَوْ إلَى رَبِّهَا وَإِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِمَرْضِيَّةٍ وَمَرْضِيَّةٌ إمَّا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِوُجُوهٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ نَاضِرَةٍ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَيْسَ فِيهِ حَصْرٌ وَعَلَى الثَّانِي لَوْ كَانَ لَيْسَ مِنْ قَبْلِ مَا ذَكَرَهُ وَلَوْ سُلِّمَ صِحَّةُ الْحَصْرِ مُطْلَقًا فَالظَّاهِرُ عَدَمُ إرَادَتِهِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]- تَلْمِيحًا أَوْ اقْتِبَاسًا أَوْ اقْتِصَاصًا فَلَا يَلِيقُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ (شَاكِرَةً) فَإِنْ قِيلَ الشُّكْرُ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ إلَيْهِ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ قُلْنَا يَجُوزُ الْعِبَادَةُ فِي الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا لَا تَكْلِيفًا وَلَوْ جُعِلَ مُقَدَّمَةُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَاجِبًا عَقْلِيًّا كَمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا شَرْعِيًّا كَمَا هُوَ الْحَقُّ فَالْأَمْر سَهْلٌ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الشُّكْرُ رُؤْيَةُ الْمُنْعِمِ لَا رُؤْيَةُ النِّعْمَةِ وَمِنْ الشُّكْرِ الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ (وَهَذِهِ) الظَّاهِرُ رُؤْيَةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ إذْ سَائِرُ نِعَمِ الْجَنَّةِ فِي جَنْبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ كَنِعَمِ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ نِعَمِ الْجَنَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إلَى جَمِيعِ نِعَمِ الْآخِرَةِ (هِيَ النِّعْمَةُ) الْحَقِيقِيَّةُ التَّامَّةُ الدَّائِمَةُ لَا الْمَجَازِيَّةُ الصُّورِيَّةُ الْفَانِيَةُ الْمُتَشَتِّتَةُ الْقَذِرَةُ الَّتِي هِيَ مِحَنٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَنِقْمَةٌ فِي النَّتِيجَةِ وَعُقُوبَةٌ فِي الْوَصِيلَةِ. (وَاللَّذَّةُ الْعُظْمَى) الظَّاهِرُ أَنَّ أَعْظَمِيَّتَهَا فِي نَفْسِهَا لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نِعَمِ الدُّنْيَا فَإِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا لَا تَقْبَلُ نِسْبَةً إلَيْهَا بَلْ تُلْحَقُ إلَى الْعَدَمِ فِي جَنْبِهَا فَضْلًا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي أَصْلِ الْعَظَمَةِ كَمَا تَوَهَّمَ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ نَحْوِ اللَّهُ أَكْبَرُ (وَالْفَوْزُ) أَيْ الْوُصُولُ وَالظَّفَرُ بِتَمَامِ الْمُرَادِ أَوْ بِرِضَا اللَّهِ (وَالْفَلَاحُ)

أَيْ الْخَيْرُ الْمُفْرِطُ الْكَثِيرُ أَوْ الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وُصُولِ النِّعَمِ وَالثَّانِي إلَى الْخَلَاصِ مِنْ الْبُؤْسِ وَالنِّقَمِ (وَالسَّعَادَةُ الْكُبْرَى) أَيْ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ سَعَادَةٍ إذْ لَا شَقَاوَةَ بَعْدَهَا أَبَدًا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ النِّعْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ نِعَمِ الْجَنَّةِ وَاللَّذَّةِ الْعَظِيمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرُّؤْيَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ وَالْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ لِسَائِرِ النِّعَمِ وَالسَّعَادَةُ الْكُبْرَى لِلرُّؤْيَةِ فَقَوْلُهُ النِّعْمَةُ مَعَ قَوْلِهِ وَالْفَوْزُ وَالسَّعَادَةُ كَالْمُتَسَاوِيَيْنِ وَكَذَا الْأَخِيرَانِ فَعِنْدَ قَصْدِ الْإِغْرَاءِ وَالْبَسْطِ وَالتَّرْغِيبِ يُؤْتَى بِمِثْلِ هَذَا الْإِطْنَابِ وَالتَّكْرِيرِ الْبَيَانِيِّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بِالِاعْتِبَارِ فَبِاعْتِبَارِ كَرَمٍ مِنْ اللَّهِ وَعَطَائِهِ لَا لِعِوَضٍ وَلَا لِغَرَضِ نِعْمَةٍ وَبِاعْتِبَارِ وُصُولِ الْإِنْسَانِ إلَيْهِ بَعْدَ سَعْيٍ وَكَدٍّ فِي طَرِيقِهِ وَخَلَاصٍ مِنْ مَخَاوِفِهِ وَعَوَائِقِهِ فَوْزٌ وَفَلَاحٌ، وَأَيْضًا اللَّذَّةُ حَالَّةٌ بِوَاسِطَةِ قُوَّةِ الذَّائِقَةِ وَقَدْ يَزُولُ، وَالسَّعَادَةُ شُرَافَةٌ فِي الذَّاتِ لَيْسَ لَهَا زَوَالٌ. فَلَوْ قَدَّمَ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ عَلَى النِّعْمَةِ لَكَانَ أَنْسَبَ إذْ هُمَا كَالْحَاصِلَيْنِ فِي طَرِيقِهَا أَيْ النِّعْمَةِ نَعَمْ قَدْ تُقَدَّمُ الْمَقَاصِدُ عَلَى الْوَسَائِلِ. (وَأَنَّ الظَّفَرَ) عَطْفٌ عَلَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ (بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ يَعْنِي لَمَّا ذَكَرَ كَوْنَ نِعَمِ الْآخِرَةِ فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ وَنِهَايَةِ الشَّرَفِ يُرِيدُ بَيَانَ سَبَبِ الْوَصْلِ إلَيْهَا لِيَسْعَى كُلُّ مَنْ يُرِيدُ وُصُولَهُ إلَيْهَا وَهِيَ مُتَابَعَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ قُلْت هَذَا التَّسَبُّبُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]- إذْ اللَّامُ لِلتَّخْصِيصِ وَمَأْخَذُ الِاشْتِقَاقِ فِي الْمُشْتَقَّاتِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ عِنْدَ صَلَاحِهِ لَهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ إلَّا مَعْنًى لِلتَّقْوَى فَلَا مَعْنَى لِمَا ذَكَرَ ثَانِيًا قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْصِيلًا بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَتَصْرِيحًا بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا أَوْ الْتِزَامًا وَلِتَمْهِيدِ مَا بَعْدَهُ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيْطَانِ وَمَرَاتِبِ الْإِنْسَانِ وَأَنَّ التَّكْرِيرَ فِي الْمَقَامِ الْخَطَّابِيِّ مِمَّا يُسْتَحْسَنُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْقَوْلُ عِلَّةً لِذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ مُعَدَّةٌ لِلْمُتَّقِينَ لِأَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ لِمَنْ تَابَعَ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَمَنْ تَابَعَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُتَابَعَةِ) إي إتْيَانِ مِثْلِ فِعْلِ (خَاتَمِ النَّبِيِّينَ) يَجُوزُ الْكَسْرُ فِي التَّاءِ اسْمُ فَاعِلٍ وَفَتْحُهَا بِمَعْنَى الطَّابَعِ وَهُوَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ فَالْمَفْهُومُ مِنْ الْبَيْضَاوِيِّ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْ آخِرُهُمْ الَّذِي خَتَمَهُمْ وَعَلَى الثَّانِي خُتِمُوا بِهِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مُتَابَعَتُهُ وَلَوْ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ إذْ عَمَلُهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَتَمِّ طِرَازِ وَلَنْ يُتَصَوَّرَ لِأَحَدٍ وَلَوْ وَلِيًّا مُقَرَّبًا إتْيَانُ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدِ فَضْلًا عَنْ الْجَمِيعِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. نَقُولُ مَأْمُورِيَّةُ كُلٍّ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ وَلَا يُكَلَّفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَاللَّازِمُ بَذْلُ الْوُسْعِ وَصَرْفُ الطَّاقَةِ فِي أَمْرِ الْمُتَابَعَةِ حَتَّى يَتَشَرَّفَ بِتِلْكَ الْكَرَامَاتِ الْعَلِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِلَ إلَيْهَا مَنْ لَا يُتَابَعُ فِي الْجَمِيعِ وَمِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ أَصْلًا دُخُولُ الْجَنَّةِ قُلْنَا الْمُرَادُ هُوَ الظَّفَرُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَعْتَرِيهِ مِحْنَةٌ وَمَشَقَّةٌ وَلَا يُطْرِيهِ خَوْفٌ وَحَزَنٌ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ الظَّفَرِ ثُمَّ إنَّهُ أَشْكَلَ عَلَى كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِعِيسَى وَأَشَارَ الْبَيْضَاوِيُّ إلَى جَوَابِهِ بِأَنَّهُ إذَا نَزَلَ كَانَ عَلَى دِينِهِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ آخِرُ مَنْ نُبِّئَ انْتَهَى وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَنْسَخُ شَرِيعَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِهِ وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لِمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» فَعِيسَى وَكَذَا الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ مَنْ أَتْبَاعِهِ وَبِهِ أَيْضًا دُفِعَ الْإِشْكَالُ عَلَى الْخَاتِمِيَّةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا» وَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ يُفِيدُ جَوَازَ النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ وَوَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ نُبُوَّتُهُ يَكُونُ تَابِعًا لَا نَاسِخًا وَالْخَاتِمِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَوْنِهِ نَاسِخًا أَقُولُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّبِيِّ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَنْصِبِهِ الْعَالِي وَشَرَفِهِ السَّامِي فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ وَالْمَوَاهِبِ مِنْ أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْمُقَدَّمِ أَيْ بَقَاءِ إبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَعَلَّ تَحْقِيقَهُ مَا ذَكَرَ أَهْلُ الْمَعْقُولِ أَنَّ صِدْقَ الشَّرْطِيَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمُقَدَّمِ صَادِقًا إذْ تَصْدُقُ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ مُحَالٍ بِمُحَالٍ آخَرَ إذْ بَقَاءُ إبْرَاهِيمَ بَعْدَ مَوْتِهِ مُحَالٌ فَنُبُوَّتُهُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَيْهِ مُحَالٌ

وَلِخَفَاءِ هَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالنَّوَوِيِّ حَكَمَا بِبُطْلَانِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا حَكَى الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ مُعَقِّبًا عَلَيْهِمَا أَنَّهُ عَجِبَ مِنْهُمَا مَعَ وُرُودِ الْحَدِيثِ عَنْ ثَلَاثَةِ صَحَابِيِّينَ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَرْبَعَةٌ أَنَسٌ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَقُولُ لَوْ حُمِلَ الْمَقَامُ عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْخَارِجِ لَانْدَفَعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَبِالْجُمْلَةِ الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَطِرْ (سَيِّدُنَا) لَعَلَّ الْأَنْسَبَ أَيْ مُعَاشِرُ أَمَتِهِ (وَسَيِّدٌ) بِصِيغَةِ اسْمِ فَاعِلٍ فِيهِمَا مِنْ السِّيَادَةِ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ (الْأَوَّلِينَ) الْأَظْهَرُ أَيْ مَنْ تَقَدَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَانًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْأَوَّلِ مُطْلَقُ النَّاسِ فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ وَمِنْ الثَّانِي فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى يَعْنِي الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْأَجْسَامِ فَإِنَّ سِيَادَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَسَبِ نُورِهِ الرُّوحِيِّ عَلَى الْجَمِيعِ ثَابِتٌ بِالْآثَارِ وَتَكَاثُرِ الْأَخْبَارِ بَلْ نُورُهُ اللَّطِيفُ أَصْلُ أَنْوَارِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَمُسْتَفَادَةٌ عَنْهُ فَيُنَاسِبُ أَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ (وَالْآخِرِينَ) الْعَرَصَاتُ وَالْقِيَامَةُ وَإِنْ اتَّفَقَ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ قَدْ بَيَّنَ سِيَادَتَهُ فِي بَيَانِ أَفْضَلِيَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إجْمَالًا وَنُفَصِّلُ بَعْضَهُ بَعْضًا قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81]- الْآيَةَ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَن بِهِ وَلْيَنْصُرَنهُ وَقِيلَ عَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُرَادُ كُلُّ نَبِيٍّ مَعَ أُمَّتِهِ أَوْرَدَ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ عِنْدَ مَبْعَثِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ أَمْوَاتًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الْإِيمَانُ فَأَوَّلَ أَنَّ الْمُرَادَ أَخْذُهُمْ الْمِيثَاقَ مِنْ أُمَمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ وَصَلُوا بَعْثَهُ وَأَيَّدَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ الْحُكْمُ بِالْفِسْقِ عِنْدَ الْمُتَارَكَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِلَائِقٍ بِالْأَنْبِيَاءِ أَقُولُ الْمِيثَاقُ مِنْ الْأَرْوَاحِ كَمَا يَشْهَدُهُ بَعْضُ الْآثَارِ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُرَادُ مُجَرَّدُ إظْهَارِ رُتْبَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الشَّرَفِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَعْنَى أَنَّ نِسْبَةَ الشَّرَفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءً فِي زَمَانِهِ لَكَانُوا كَذَا وَأَيْضًا الْفِسْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُتَارَكَةِ وَهِيَ مُحَالٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْجَوَابِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ كَمَا فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]- عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مِثْلِهِ إرَادَةُ الْغَيْرِ وَالتَّعْرِيضُ لَا النَّبِيُّ وَعَنْ السُّبْكِيّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نُبُوَّتَهُ لَيْسَتْ بِمُخْتَصَّةٍ بِمَنْ بَعْدَهُ بَلْ إلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً» . وَفِي الْمَوَاهِبِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ جَابِرٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ الْإِجْمَالِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ نُورَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَخَلَقَ مِنْهُ الْقَلَمَ وَاللَّوْحَ وَالْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ وَالْكُرْسِيَّ وَسَائِرَ الْمَلَائِكَةِ وَأَيْضًا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأَيْضًا نُورَ أَبْصَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَنُورَ قُلُوبِهِمْ وَنُورَ أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» . وَأَمَّا سِيَادَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِينَ فَمَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ أَيْضًا وَلْنُذْكَرْ تَفْصِيلَ بَعْضِهِ أَيْضًا وَهُوَ مَا فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ «أَنَّ الزَّبَانِيَةَ يَأْتُونَ بِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ تَمْشِي عَلَى أَرْبَعِ قَوَائِمَ وَتُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفِ زِمَامٍ فِي كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفِ حَلْقَةٍ عَلَى كُلِّ حَلْقَةٍ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ فَإِذَا انْفَلَتَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إمْسَاكِهَا لِعِظَمِ شَأْنِهَا فَيَجْثُو كُلُّ مَنْ فِي الْمَوْقِفِ عَلَى الرُّكَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28]- حَتَّى الْمُرْسَلِينَ وَيَتَعَلَّقُ إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْعَرْشِ وَهَذَا قَدْ نَسِيَ الذَّبِيحَ وَهَذَا هَارُونُ وَهَذَا مَرْيَمُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - قَائِلِينَ نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُك الْيَوْمَ غَيْرَهَا» لَكِنْ قَالَ فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ «لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ خَوْفِهِمْ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ بَلْ لِإِظْهَارِ شَرَفِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ أُمَّتِي أُمَّتِي سَلِّمْهَا وَنَجِّهَا يَا رَبُّ وَعِنْدَ نَقْلِهَا تَكْبُو مِنْ الْحَنَقِ وَالْغَيْظِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] أَيْ لِغَضَبِهَا وَحَنَقِهَا تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ فَيَقُومُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَيَأْخُذُ بِخِطَامِهَا وَيَقُولُ ارْجِعِي مَدْحُورَةً إلَى خَلْفِك فَتَقُولُ خَلِّ سَبِيلِي فَإِنَّك حَرَامٌ يَا مُحَمَّدُ عَلَيَّ فَيُنَادَى مِنْ سُرَادِقَاتِ الْعَرْشِ اسْمَعِي وَأَطِيعِي لَهُ ثُمَّ تُجْذَبُ وَتُجْعَلُ عَنْ شِمَالِ الْعَرْشِ فَيَخِفُّ وَجَلُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] » . قِيلَ هَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى فَإِنَّ نَفْعَ هَذِهِ لَا يَخْتَصُّ بِأُمَّتِهِ بَلْ يَعُمُّ الْكُلَّ حَتَّى الْكُفَّارَ بِالتَّأْخِيرِ وَبِالتَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ وَمِنْ سِيَادَتِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» الْمُرَادُ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «لِوَاءٌ طُولُهُ مَسَافَةُ أَلْفِ سَنَةٍ قَبْضَتُهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ وَرُمْحُهُ مِنْ الزُّمُرُّدِ لَهُ ثَلَاثُ شُقَقٍ إحْدَاهَا بِالْمَشْرِقِ وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ وَالثَّالِثَةُ عَلَى مَكَّةَ مَكْتُوبٌ فِي إحْدَاهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَفِي الْأُخْرَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَفِي الْأُخْرَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَيُؤْتَى بِالْعَرَصَاتِ فَيُنَادَى النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ الْقُرَشِيُّ الْحَرَمِيُّ التِّهَامِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَيَتَقَدَّمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَأْخُذُ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ ثُمَّ يَجْمَعُ حَوَالَيْهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ آدَمَ إلَى عِيسَى - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ثُمَّ الصُّلَحَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَكَافَّةُ أَهْلِ الْعُرْفَانِ ثُمَّ يُحْضَرُ لِكُلِّ فِرْقَةٍ تَاجٌ وَحُلَّةٌ وَبُرَاقٌ ثُمَّ يُجَرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ عَلَمٍ وَسَبْعُونَ أَلْفَ لِوَاءٍ فَيُعْطِي لِوَاءَ الْحَمْدِ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْبَوَاقِيَ بِحِذَائِهِ وَوَرَائِهِ» فَمَنْ تَابَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْهَبُ بِهَذَا اللِّوَاءِ إلَى جَنَّةِ عَدْنٍ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا مُتَابَعَةَ هَذَا السَّيِّدِ الْمُبِينِ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَفِي رِوَايَةٍ «يُؤْمَرُ إلَى الْمَلَائِكَةِ بِالْحَمْلِ وَلَمْ يَقْدِرُوا فَيُؤْمَرُ إلَى أَسَدِ اللَّهِ الْغَالِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَحْمِلُهُ كَقَبْضَةٍ مِنْ الْوَرْدِ بِلَا مُؤْنَةٍ» وَقِيلَ يُجْعَلُ كَتَاجٍ عَلَى رَأْسِهِ وَقِيلَ مَا دَامَ اللِّوَاءُ فِي الْعَرْصَاتِ يَخِفُّ الْعَذَابُ فِي الدَّرَكَاتِ وَإِذَا مَرَّ تَشْتَدُّ وَتَضُمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَأْتِيَ هُنَا بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مَنْ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ قَدْ عَرَفْت لُزُومَ الصَّلَاةِ عِنْدَ ذِكْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمُجَرَّدُ ذِكْرِهِ اللِّسَانِيِّ بِدُونِ الْخَطِّ الْبَيَانِيِّ لَوْ سَلَّمَ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْمُصَنِّف فِي التَّوَرُّعِ وَالِاحْتِيَاطِ بَقِيَ أَنَّ فِي إيثَارِ الْمُصَنِّفِ مِنْ جُمْلَةِ أَوْصَافِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِيَادَتُهُ هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى تَأْكِيدِ وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُنْوَانِ خَاتِمِيَّهِ الْأَنْبِيَاءِ مُحْتَاجٌ إلَى عِنَايَةٍ يَسِيرَةٍ إذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ خِتَامَ الشَّيْءِ شَرَفُهُ وَنَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتُهُ وَمِنْ شَأْنِهِ كَذَا لَازِمُ الِاتِّبَاعِ (فِي الْعَقَائِدِ) يَعْنِي أَنَّ الْفَوْزَ وَالسَّعَادَةَ مَقْصُورٌ بِمُتَابَعَتِهِ فِي الْعَقَائِدِ إلَخْ فَالظَّفَرُ مُتَعَلِّقٌ بِمُتَابَعَةٍ جَمْعُ عَقِيدَةٍ اسْمٌ لِمَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ مِنْ الْمَعَانِي الدِّينِيَّةِ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ بِمَعْنَى مَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِنَفْسِ اعْتِقَادِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ كَمَبَاحِثِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْيَقِينِيِّ فِي الْأُصُولِ وَالْأُمَّهَاتِ وَفِيمَا هُوَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ أَيْضًا فِي اللَّوَاحِقِ وَالْفُرُوعَاتِ. وَأَمَّا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ فَلَعَلَّ عَدَمَ ضَرَرِ الظُّنُونِ وَإِلَّا يَلْزَمُ إكْفَارُ كُلِّ فِرْقَةٍ فِرْقَةً أُخْرَى فِي الْأُصُولِ لِمُخَالَفَتِهَا لَهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ ذَلِكَ فِي أَقَلِّ قَلِيلٍ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ فِرْقَةً بَلْ أَزْيَدَ كَمَا سَيُشِيرُ الْمُصَنِّف فَمَا قِيلَ الظَّنُّ فِي هَذَا الْبَابِ كُفْرٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى إطْلَاقِهِ وَقَدْ قِيلَ مُطْلَقُ هَذَا الِاعْتِقَادِ يَعُمُّ الظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ الَّذِي لَا يَحْضُرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّ إيمَانَ أَكْثَرِ الْعَوَامّ كَذَلِكَ ثُمَّ إنَّمَا قَدَّمَ الْعَقَائِدَ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَسَاسُ جَمِيعِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَصْلُهُ (وَ) فِي (الْأَقْوَالِ) لَعَلَّ الْأَوْلَى الِاكْتِفَاءُ بِالثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْأَقْوَالِ نَحْوُ الْإِقْرَارِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْإِيمَانِ لَا شَكَّ فِي دُخُولِهِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ كَمَا هُوَ عَادَةُ كُلِّ أَحَدٍ مَعَ عَدَمِ تَبَادُرِ اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ أُرِيدَ مُطْلَقُ الْعِبَادَاتِ الْقَوْلِيَّةِ فَدَاخِلَةٌ فِي الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ يُقَالُ فِعْلُ اللِّسَانِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَعَمَلُ الْعَامَّةِ أَيْضًا كَذَلِكَ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الْأَقْوَالِ لَكِنْ لِزِيَادَةِ الِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ اللِّسَانِ وَآفَاتِهِ عُدَّ نَوْعًا مُقَابِلًا لَهَا فَلَا يُنَاسِبُ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ بَلْ تُؤَخَّرُ عَنْ الْأَفْعَالِ وَعَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ غَايَتُهَا أَنْ تُؤَخَّرَ عَنْ الْأَخْلَاقِ كَمَا فِي التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ الْآتِي هُنَا لَعَلَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ أَرَادَ رِعَايَةَ السَّجْعِ الْبَدِيعِيِّ مَعَ الْإِشَارَةِ اللَّطِيفَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ

فِي الِاعْتِقَادِيَّات وَالتَّفْسِيرِ بِقَوْلِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَتَخْصِيصٌ بِلَا مُخَصِّصٍ مَعَ مَا عَرَفْت فِيهِ. (وَالْأَخْلَاقِ) جَمْعُ خُلُقٍ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَلَكَةٍ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ النَّفْسَانِيَّةُ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالتَّهْذِيبِ عَنْ الذَّمِيمَةِ إذْ الصَّالِحُ بِسَبَبِ التَّصْنِيفِ هُوَ هَذَا لَا مَا وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] مِنْ تَحَمُّلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْمِهِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ أَمْثَالُهُ فَقَطْ بَلْ نَحْوُ مَا فَسَّرَ مِنْ أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ مِنْ نَحْوِ إحْسَانِ الْمُسِيءِ وَالْعَفْوِ عَمَّنْ ظَلَمَ، وَالْوَصْلِ لِلْقَاطِعِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ وَالْبَذْلِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ فِي الْأُمُورِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى مَعَ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وَقَالَ - {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] . رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةُ سَأَلَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ تَأْوِيلِهَا فَقَالَ جِبْرِيلُ حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ ثُمَّ ذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك. وَقَالَ لَهُ - {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]- وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَزِيدُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَذَى إلَّا صَبْرًا وَعَلَى الْإِسْرَافِ إلَّا حِلْمًا وَإِنَّ كُلَّ حَلِيمٍ قَدْ عُرِفَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ وَحُفِظَتْ عَنْهُ هَفْوَةٌ» وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كُسِرَتْ لَهُ رُبَاعِيَّتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَدِيدًا وَقَالُوا لَوْ دَعَوْت عَلَيْهِمْ فَقَالَ إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنِّي بُعِثْت دَاعِيًا رَحْمَةً لَهُمْ اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . «وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَذَبَ أَعْرَابِيٌّ بِرِدَائِهِ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ فِي صَفْحَةِ عَاتِقِهِ قَائِلًا يَا مُحَمَّدُ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرِي هَذَيْنِ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَك فَإِنَّك لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِك وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيك فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَأَنَا عَبْدُهُ ثُمَّ قَالَ وَيُقَادُ مِنْك يَا أَعْرَابِيُّ مَا فَعَلْت بِي قَالَ لَا قَالَ لِمَ قَالَ إنَّك لَا تُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ لَهُ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرٌ وَالْآخَرِ تَمْرٌ» . وَبِالْجُمْلَةِ حِلْمُهُ وَصَبْرُهُ وَعَفْوُهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ بَالِغٌ حَدَّ التَّوَاتُرِ كَصَبْرِهِ عَلَى مُقَاسَاةِ قُرَيْشٍ وَأَذَى الْجَاهِلِيَّةِ وَعَفْوِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ وَوَلِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ الَّذِي سَحَرَهُ وَلَمْ يُعَاتِبْ فَضْلًا عَنْ الْمُعَاقَبَةِ وَالتَّفْصِيلِ فِي نَحْوِ شِفَاءِ الْقَاضِي عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَالْأَفْعَالِ) الظَّاهِرُ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا فَيَلْزَمُ التَّبَعِيَّةُ فِيمَا كَانَ تَرْكُهُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا إلَى مَا تَرْكُهُ أَوْلَى وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ لَازِمَةٌ فِيمَا عَطَفَ عَلَيْهَا أَيْضًا بَلْ الْمُتَابَعَةُ فِي الْمُتَارَكَةِ أَوْلَى وَأَقْدَمُ وَقَدْ رُوِيَ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكُ ذَرَّةٍ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» . فَإِنْ قِيلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بَلْ التَّجَوُّزُ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ كَإِرَادَةِ الْفَرَسِ مِنْ لَفْظِ الْإِنْسَانِ وَصَرَّحُوا بِامْتِنَاعِهِ قُلْنَا لَا يَبْعُدُ جَعْلُهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَيْ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ أَوْ مِنْ جَعْلِ النَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرًا بِنَقِيضِهِ ابْتِدَاءً أَوْ اسْتِلْزَامًا فَإِنْ قِيلَ الْأَفْعَالُ جَمْعٌ مُحَلَّى بِاللَّامِ فَالْمُتَبَادَرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ الِاسْتِغْرَاقُ وَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِيمَا يَكُونُ خَاصَّةً لَهُ إمَّا بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ كَالْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا وَعَدَمِ نَقْضِ وُضُوئِهِ بِالنَّوْمِ وَإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِبَاحَةِ نَظَرٍ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَخَلْوَتِهَا وَعَدَمِ مَهْرِ نِسَائِهِ وَجَوَازِ نِكَاحِهِ بِلَا شُهُودٍ وَفَوْقَ الْأَرْبَعِ وَتَزْوِيجِ أَيِّ امْرَأَةٍ بِلَا إذْنِهَا وَإِذْنِ وَلِيِّهَا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ وَلَوْ رَغِبَ تَزَوُّجَ امْرَأَةً حَرُمَ عَلَى الْغَيْرِ خِطْبَتُهَا وَلَوْ مُزَوَّجَةً يَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقُهَا لِيَنْكِحَهَا أَوْ بِطَرِيقِ الْحُرْمَةِ كَالزِّكْوَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالشَّعْرِ وَرِوَايَتِهِ وَالْقِرَاءَةِ فِي الْكِتَابِ وَأَكْلِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَالْأَكْلِ مُتَّكِئًا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فِيهِمَا. قُلْنَا الْأَصْلُ الِاتِّبَاعُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ فَالْكَلَامُ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلِ وَيُقِرُّ بِهِ الْعَامَّ الَّذِي خَصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ أَوْ الْمُرَادُ هُوَ الْعَهْدُ وَالِاسْتِغْرَاقُ إنَّمَا يُرَادُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ وَدَلِيلِ الْجِنْسِ هَذَا ثُمَّ لَا عَلَيْنَا فِي ذِكْرِ بَعْضِ أَفْعَالِهِ بَلْ لَعَلَّك حَرِيصٌ بِبَيَانِنَا لِفَرْطِ حُبِّك فِي مُتَابَعَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمَ الْبِشْرِ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلَا يَنْفِرُهُمْ وَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ يُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ نَصِيبَهُ يُعْطِي بِحَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنْ

الْقَوْلِ لَيِّنَ الْجَانِبِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا فَحَّاشٍ وَلَا عَيَّابٍ وَلَا مَدَّاحٍ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ مِسْكِينًا» . «قَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَدَمْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ وَلَا لِمَ صَنَعْته وَلَا لِمَ تَرَكْته وَيَقُولُ لِكُلِّ مَنْ دَعَاهُ لَبَّيْكَ وَيُمَازِحُ أَصْحَابَهُ وَيُخَالِطُهُمْ وَيُحَادِثُهُمْ وَيُلَاعِبُ صِبْيَانَهُمْ وَيُجْلِسُهُمْ فِي حِجْرِهِ وَيَعُودُ الْمَرْضَى فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَيَقْبَلُ عُذْرَ كُلِّ مُعْتَذِرٍ وَلَمْ يُرَ مَادًّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ يُكْرِمُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا بَسَطَ لَهُ ثَوْبَهُ وَيُؤْثِرُهُ بِالْوِسَادَةِ وَيُبْرِمُ فِي الْجُلُوسِ إنْ أَبَى وَيَدْعُو بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِمْ وَلَا يَقْطَعُ حَدِيثَ أَحَدٍ وَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ عِنْدَ صَلَاتِهِ يُخَفِّفُ صَلَاتَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ حَاجَتِهِ فَيَعُودُ إلَى صَلَاتِهِ» هَذَا الْكُلُّ مِنْ الشِّفَاءِ. وَقِيلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ «كَانَ يَخْصِفُ النَّعْلَ وَيُرَقِّعُ الثَّوْبَ وَيَخْدُمُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ كَقَطْعِ اللَّحْمِ مَعَهُنَّ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَوْ جَرْعَةَ لَبَنٍ أَوْ فَخِذَ أَرْنَبٍ وَيُكَافِئُ عَلَيْهَا وَيَعْصِبُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ الْجُوعِ وَيَأْكُلُ مَا حَضَرَ وَلَا يَرُدُّ مَا وَجَدَ وَلَا يَتَوَرَّعُ مِنْ مَطْعَمٍ حَلَالٍ وَلَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ قَمْحٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةً لَا فَقْرًا وَلَا بُخْلًا بَلْ غَايَةً فِي التَّوَاضُعِ، وَلَا يَهُولُهُ أَمْرٌ دُنْيَاوِيٌّ، وَيَلْبَسُ مَا وَجَدَ فَمَرَّةً شَمْلَةً وَمَرَّةً بُرْدَةً حَمْرَاءَ يَمَانِيَّةً وَمَرَّةً جُبَّةَ صُوفٍ خَاتَمُهُ فِضَّةٌ فِي خِنْصَرِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ يُرْدِفُ خَلْفَهُ وَلَوْ عَبْدًا، يَرْكَبُ مَا أَمْكَنَ فَرَسًا أَوْ بَعِيرًا أَوْ بَغْلَةً شَهْبَاءَ أَوْ حِمَارًا، وَيَمْشِي رَاجِلًا حَافِيًا بِلَا رِدَاءٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا قَلَنْسُوَةٍ، وَكَانَ لَهُ لِقَاحٌ وَغَنَمٌ يَتَقَوَّتُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ أَلْبَانِهَا وَكَانَ لَهُ عَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَيَخْرُجُ إلَى بَسَاتِينِ أَصْحَابِهِ، وَإِذَا لَقِيَ أَحَدًا بَدَأَهُ بِالْمُصَافَحَةِ ثُمَّ أَخَذَ يَدَهُ فَشَبَّكَهُ ثُمَّ شَدَّ قَبْضَهُ، وَأَكْثَرُ جُلُوسِهِ يَنْصِبُ سَاقَيْهِ جَمِيعًا وَيُمْسِكُ يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا شِبْهَ الْحَبْوَةِ وَأَكْثَرُ جُلُوسِهِ نَحْوُ الْقِبْلَةِ، وَإِذَا سَكَتَ يُكَلِّمُ أَصْحَابَهُ، وَلَا يَأْكُلُ الْحَارَّ وَيَأْكُلُ مِمَّا يَلِيهِ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَقَدْ يَسْتَعِينُ بِالرَّابِعَةِ لَا بِأُصْبُعَيْنِ لِكَوْنِهِ أَكْلَ الشَّيْطَانِ، وَيَتَحَدَّثُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَلَوْ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ رِفْقًا بِهِمْ وَتَوَاضُعًا وَيَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحْيَانًا وَيَذْكُرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ، وَيَتَبَسَّمُ وَلَا يَزْجُرُ إلَّا عَنْ حَرَامٍ» . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْخُضْرَةَ وَالْقَمِيصَ وَالْحِبَرَةَ وَمُقَدَّمَ الشَّاةِ وَالْحُلْوَ الْبَارِدَ مِنْ الشَّرَابِ وَاللَّبَنَ وَشُرْبَ الْعَسَلِ وَصَوْمَ شَعْبَانَ وَالْخَلَّ وَالثَّرِيدَ مِنْ الْخُبْزِ وَالرُّطَبَ وَالْبِطِّيخَ وَكَتِفَ اللَّحْمِ وَيُخَفِّفُ الصَّلَاةَ لِلنَّاسِ وَيُطَوِّلُ لِنَفْسِهِ وَيَسْجُدُ شُكْرًا عِنْدَ مَسَرَّةٍ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ عِنْدَ الضَّحِكِ وَقَمِيصُهُ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ وَكُمُّهُ مَعَ الْأَصَابِعِ وَلَهُ بُرْدٌ يَلْبَسُهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ وَلَهُ خِرْقَةٌ يُنَشِّفُ بِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ وَيَعُودُ مَرِيضًا بَعْدَ ثَلَاثٍ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ طُولًا وَعَرْضًا وَيَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَأْكُلُ عَلَيْهَا وَيَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَتَنَوَّرُ وَيُعْجِبُهُ الْقَرْعُ وَالذِّرَاعَانِ وَالْكَتِفُ وَالرِّيحُ الطَّيِّبَةُ» وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ الْإِجْمَالِيِّ (وَإِنَّ الشَّيْطَانَ) عَطَفَ عَلَى وَإِنَّ الظَّفَرَ بِهَا. إمَّا فَيْعَالُ عَلَى أَنْ تَكُونَ نُونُهُ أَصْلِيَّةً مِنْ شَطَنَ إذَا بَعُدَ لِبُعْدِهِ عَنْ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ أَوْ فَعْلَانُ عَلَى أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً مِنْ شَاطَ إذَا هَلَكَ أَوْ بَطَلَ فَالْوَجْهُ فِيهِمَا ظَاهِرٌ أَوْ إذَا أَسْرَعَ فِي السَّيْرِ لِسُرْعَةِ سَيْرِهِ فِي بَاطِنِ الْآدَمِيِّ أَوْ فِي إضْلَالِ الْآدَمِيِّ أَوْ إذَا احْتَرَقَ لِكَوْنِ أَصْلِهِ نَارًا أَوْ لِكَوْنِ أَوَّلِهِ نَارًا فَعَلَى هَذَيْنِ يَجُوزُ صَرْفُهُ وَعَدَمُ صَرْفِهِ إذَا جُعِلَ عَلَمًا. قَالَ الْجَعْبَرِيُّ الشَّيْطَانُ إبْلِيسُ وَجُنُودُهُ وَالْمُرَادُ الْجِنْسُ وَقِيلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْخَازِنِ جِنْسٌ لِلْمَرَدَةِ مِنْ الشَّيَاطِينِ الظَّاهِرُ كُلُّ شَيْطَانٍ مَرَدَةٌ ثُمَّ اُخْتُلِفَ أَنَّ الشَّيْطَانَ وَالْجِنَّ هَلْ هُمَا مَوْجُودَانِ أَوْ مَعْدُومَانِ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ فَعَلَى الْأَوَّلِ اُخْتُلِفَ أَيْضًا هَلْ هُمَا مُجَرَّدَانِ غَيْرُ مُتَحَيِّزَيْنِ أَوْ لَا؟ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الثَّانِي فَعَلَى الثَّانِي اُخْتُلِفَ أَيْضًا فِي أَنَّهُمَا هَلْ مُخْتَلِفَانِ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ جِسْمٌ لَطِيفٌ نَارِيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْجِنُّ هَوَائِيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّشَكُّلِ كَذَلِكَ وَأَيْضًا الْمَلَكُ جِسْمٌ لَطِيفٌ نُورِيٌّ كَذَلِكَ أَوْ مُتَّحِدَانِ جِنْسًا فَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ خَيِّرَةً سَعِيدَةً جِنٌّ وَشِرِّيرَةً شَقِيَّةً شَيْطَانٌ قِيلَ وَلَهُمْ عُقُولٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالٍ صَعْبَةٍ فَإِنْ قِيلَ هَلْ لِلشَّيْطَانِ نَسْلٌ قُلْنَا نَعَمْ. قَالَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ قِيلَ إنَّ الشَّيَاطِينَ تَبِيضُ بَيْضَاتٍ وَيَخْرُجُ مِنْهَا الْوَلَدُ وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ فِي إحْدَى فَخِذَيْهِ فَرْجًا وَفِي الْأُخْرَى ذَكَرًا فَيُجَامِعُ

نَفْسَهُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْوَلَدُ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ وَقِيلَ يُدْخِلُ ذَنَبَهُ فِي دُبُرِهِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْوَلَدُ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ (لِلْإِنْسَانِ) وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْ بَنِي آدَمَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مِنْ الْإِنْسِ قِيلَ لِاسْتِئْنَاسِ آدَمَ بِحَوَّاءَ وَقِيلَ بِرَبِّهِ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ الْمُطْلَقُ وَلِذَا قِيلَ الْإِنْسَانُ مُتَّحِدٌ بِالطَّبْعِ وَقِيلَ لِظُهُورِهِمْ كَمَا سُمِّيَ الْجِنُّ لِاجْتِنَانِهِمْ أَيْ اخْتِفَائِهِمْ وَقِيلَ مِنْ النَّوْسِ بِمَعْنَى الْحَرَكَةِ لِكَثْرَةِ حَرَكَاتِهِمْ الْقَلْبِيَّةِ وَالْجَوَارِحِ الْأَرْكَانِيَّةِ وَقِيلَ مِنْ نَسِيَ لِنِسْيَانِهِمْ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ عَهِدَ إلَيْهِ فَنَسِيَ ثُمَّ الْإِنْسَانُ بَعْدَمَا اُتُّفِقَ فِي أَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ اُخْتُلِفَ فِي هُوِيَّتِه هَلْ هُوَ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ مُجَرَّدٌ أَوْ مَادِّيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَ الدَّوَانِيُّ لَعَلَّهُ إجْمَالُ مَا فِي نَحْوِ الْمَوَاقِفِ مِنْ أَنَّهَا إمَّا جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْقَلْبِ هَذَا لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ. وَإِمَّا أَجْزَاءُ أَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ سَارِيَةٍ فِي الْبَدَنِ وَإِمَّا قُوَّةٌ فِي الدِّمَاغِ أَوْ الْقَلْبِ وَإِمَّا ثَلَاثُ قُوَى حَيَوَانِيَّةٌ فِي الْقَلْبِ وَنَبَاتِيَّةٌ فِي الْكَبِدِ وَنَفْسَانِيَّةٌ فِي الدِّمَاغِ وَإِمَّا الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِمَّا الْأَخْلَاطُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعْتَدِلَةُ وَإِمَّا اعْتِدَالُ الْمِزَاجِ وَإِمَّا الدَّمُ الْمُعْتَدِلُ وَإِمَّا هَوَاءٌ بِحَيْثُ يَكُونُ الْبَدَنُ كَالزِّقِّ الْمَنْفُوخِ وَهَذِهِ تِسْعَةُ مَذَاهِبَ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى كَيْفِيَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ عَرَضٌ لَكِنْ قَالَ الشَّرِيفُ الْمَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ وَمَا ذُكِرَ مَشْهُورُهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا مُجَرَّدٌ فَهُمْ: الْحُكَمَاءُ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّاغِبُ قَالَ الشَّرِيفُ وَأَيْضًا جَمْعٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُكَاشِفِينَ قَالُوا النُّفُوسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مُجَرَّدَةٌ لَيْسَ بِقُوَّةٍ جُسْمَانِيَّةٍ وَلَا جِسْمًا مُتَعَلِّقَةً بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفِ بِلَا دُخُولٍ وَلَا حُلُولٍ بِالْبَدَنِ أَقُولُ وَكَذَا فِي تَجَرُّدِ الْعُقُولِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَكَذَا فِي الْجِسْمِيَّةِ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ لَكِنْ مَعَ نَوْعِ خِلَافٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ (عَدُوٌّ مُبِينٌ) بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ، لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ سَبَبًا لِطَرْدِهِ وَلَعْنِهِ بِسَبَبِ تَرْكِ سَجْدَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِهَذَا عَقَدَ الْخُصُومَةَ وَنَصَبَ نَفْسَهُ وَبَذَلَ غَايَةَ جُهْدِهِ وَصَرَفَ نِهَايَةَ طَاقَتِهِ لِإِضْلَالِ الْإِنْسَانِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ مُكَافَأَتَهُ فَبَدَأَ مِنْ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَوَسْوَسَ إلَيْهِ {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه: 120] الْآيَةَ وَقَالَ {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62] وَقَالَ {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَغْفُلَ الْإِنْسَانُ عَنْ كَيَدِهِ وَلَا يَذْهَلَ عَنْ مَكْرِهِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ وَيُدِقَّ فِي تَرَقُّبِ مَدَاخِلِهِ وَحِيَلِهِ وَيَصْرِفَ وَسَاوِسَهُ بِحِيَلِهَا. (يَصُدُّ) أَيْ يَمْنَعُ الشَّيْطَانُ الْإِنْسَانَ (عَنْهُ) أَيْ عَنْ الظَّفَرِ الْمَذْكُورِ أَوْ الْمُتَابَعَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ فِي مِثْلِهَا أَوْ بِتَأْوِيلٍ وَاسِعٍ أَوْ الْإِنْسَانَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ الْمُتَابَعَةَ (صَدًّا) مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْفِعْلِ إشْعَارًا لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ يَعْنِي اهْتِمَامَ الشَّيْطَانِ بِالصَّدِّ فَإِنْ قِيلَ الصَّدُّ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65] قَالَ {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ: 21] قُلْنَا قَالَ تَعَالَى أَيْضًا {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف: 37] وَقَالَ {اسْتَحْوَذَ} [المجادلة: 19] أَيْ غَلَبَ {عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] فَإِنْ قِيلَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ أَوْ التَّرْجِيحِ وَإِلَّا فَحُكْمُ التَّعَارُضِ التَّسَاقُطُ أَقُولُ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ إسْنَادُ نَحْوِ الصَّدِّ وَالِاسْتِحْوَاذِ إلَى الشَّيْطَانِ مَجَازًا لِكَوْنِهِ سَبَبًا بِالْوَسْوَسَةِ لَأَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ الشُّرُورَ بِإِلْقَاءِ الْمَكَارِهِ إلَى الْقَلْبِ وَإِغْرَاءِ الْأَبَاطِيلِ وَتَحْسِينِ الْمَنَاهِي وَتَزْيِينِ الْمُنْكَرَاتِ وَإِلَّا فَاَللَّهُ {كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] ، وَاَللَّهُ {مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَخَلَقَ إبْلِيسَ مُزَيِّنًا وَلَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ» فَإِنْ قِيلَ مَا كَيْفِيَّةُ الْوَسْوَسَةِ مَعَ أَنَّا لَا نُدْرِكُ الشَّيْطَانَ بِوَاحِدٍ مِنْ مَشَاعِرِنَا فَكَيْفَ يُحَرِّكُنَا وَيُعَلِّمُنَا الْوَسْوَسَةَ قُلْنَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ فِي كَيْفِيَّتِهَا الْقَلْبُ كَالْقُبَّةِ لَهَا أَبْوَابٌ تُنْصَبُ إلَيْهَا الْأَحْوَالُ مِنْ كُلِّ بَابٍ وَمِثْلُ هَدَفٍ تُرْمَى إلَيْهَا السِّهَامُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَكُلَّمَا أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ وَمِنْ الْبَاطِنَةِ كَالْخَيَالِ وَالشَّهْوَةِ وَالْغَصْبِ حَدَثَ فِيهِ أَيْ الْقَلْبِ أَثَرٌ وَكَذَا عِنْدَ هَيَجَانِ شَيْءٍ مِنْ نَحْوِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَهَذِهِ الْآثَارُ هِيَ الْخَوَاطِرِ وَهِيَ مُحَرِّكَاتٌ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ فَإِنْ مَحْمُودَةً فَإِلْهَامٌ وَإِنْ مَذْمُومَةً فَوَسَاوِسُ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ اسْتِنَادُ الْوَسْوَسَةِ إلَى الشَّيْطَان فَضْلًا عَنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا أَقُولُ هِيَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ إذْ حِينَئِذٍ يُمْكِنُ

إفَاضَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاسْتِفَاضَتُهُ مِنْ الْآخَرِ لِمُجَانَسَتِهِمَا وَمُؤَانَسَتِهِمَا. وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَلَعَلَّ لَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إلَّا الْوِجْدَانُ فِي النَّفْسِ وَالْمُشَاهَدَةُ مَعَ أَنَّ فِيهِ كَلَامًا وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الشَّيْطَانِ مَعَ الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُفِيدُ إذْ الْكَلَامُ فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْمَفْهُومُ عَنْ ظَاهِرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَسْوَسَتُهُ بِوَضْعِ بَعْضِ آلَاتِهِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ كَوَضْعِ خُرْطُومِهِ عَلَى الْقَلْبِ وَمَسْحِهِ وَجَرَيَانِهِ مَجْرَى الدَّمِ وَبِالْجُمْلَةِ النُّصُوصُ نَاطِقَةٌ وَالتَّأْثِيرُ مُجَرَّبٌ وَالتَّحْرِيكُ مُشَاهَدٌ فَلَيْسَ إلَّا التَّحَفُّظُ وَالتَّحَرُّزُ بِالتَّسَلُّحِ مِنْ نَحْوِ ذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّقَائِهِ (بِأَقْصَى جَهْدٍ) بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الطَّاقَةُ وَقَدْ يُخَصُّ الْفَتْحُ بِالْمَشَقَّةِ الظَّرْفُ لَغْوٌ بِمَعْنَى السَّبَبِ مُتَعَلِّقٌ بِيَصُدُّ أَوْ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ (مَتِينٌ) مِنْ الْمَتَانَةِ وَالْقُوَّةِ لَعَلَّ الْمَتَانَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَهْدِهِ، أَوْ الْمُرَادُ كَالْمَتَانَةِ فِي ظُهُورِ غَايَتِهِ وَبِكَثْرَةِ مُبَالَاةِ أَهْلِ الْهَوَى وَإِلَّا فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِجَهْدِهِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى قَاعِدَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنْ لَا يَقْدِرَ أَيْضًا عَلَى التَّحْرِيكِ أَصْلًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي لِلْعَبْدِ قُدْرَةً يَصِحُّ بِهَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ ثُمَّ الْعَبْدُ بِلَا صُنْعٍ مِنْ أَحَدٍ وَلَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَصْرِفُ تِلْكَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ الصَّرْفِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ اللَّا مَوْجُودٌ وَاللَّا مَعْدُومٌ الَّذِي يُسَمُّونَهُ حَالًا قُدْرَةً فِي الْعَبْدِ مَوْجُودَةً تَامَّةً تُسَمَّى الِاسْتِطَاعَةَ وَيُقَارِنُهُ تَعَالَى بِقُدْرَةِ نَفْسِهِ فَبِمَجْمُوعِ الْقُدْرَتَيْنِ يَخْلُقُ الْفِعْلَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِلَا قَبْلِيَّةِ الِاسْتِطَاعَةِ فَهُمَا مُؤَثِّرَانِ فِي الْفِعْلِ لَا غَيْرُ فَكُلَّمَا وُجِدَ الصَّرْفُ مِنْ الْعَبْدِ يُوجَدُ الْخَلْقُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى لِفِعْلِ الْعَبْدِ مَشْرُوطٌ بِصَرْفِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي صُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ مَدْخَلٌ مِنْ الشَّيْطَانِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَسْوَسَتُهُ مَبَادِئَ وَدَاعِيًا لِذَلِكَ الصَّرْفِ فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يُرَجِّحُ بِتَحْرِيكِهِ جَانِبَ الْفِعْلِ أَيْ الشَّرِّ مِنْ رُتْبَةِ التَّسَاوِي فَلَوْ لَمْ يُوقِعْ وَسْوَسَتَهُ جَازَ أَنْ لَا يَصْرِفَ قُدْرَتَهُ إلَيْهِ بَلْ يَصْرِفُ إلَى خِلَافِهِ أَيْ الطَّاعَةِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى مَا ذَكَرْت يَلْزَمُ أَنْ لَا يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْ الضَّلَالَةِ وَكَذَا الْهِدَايَةُ فِي الْعَبْدِ إذْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجِدَ اللَّهُ فِعْلَ الْعَبْدِ بِلَا صَرْفِ الْعَبْدِ بَلْ يَفْعَلُ اللَّهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ شَيْئًا بِصَرْفِ قُدْرَتِهِ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَهُ وَإِلَّا فَلَا قُلْنَا لَا كَلَامَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ مُيُولًا وَأَشْوَاقًا مَوْجُودَةً لِكَوْنِهَا مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ فَيُرَجِّحُ الْعَبْدُ بِهَا جَانِبَ صَرْفٍ فَلَوْ لَمْ يَخْلُقْ لَمْ يَصْرِفْ فَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ يَعْنِي كُلَّمَا وُجِدَ الصَّرْفُ يُوجَدُ الْخَلْقُ عَادِيَةٌ وَمُلَازَمَةُ الْمَشِيئَةِ ذَاتِيَّةٌ فَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَخْلُقَ الْفِعْلَ بَعْدَ صَرْفٍ بَلْ قَدْ وَقَعَ مُعْجِزَةً لِلْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَةً لِلْأَوْلِيَاءِ كَمَا فَصَّلَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ التَّوْضِيحِ فَلَا إشْكَالَ فَخُذْهُ فَاسْتَمْسِكْ فِي الْمَوَاضِعِ وَلَعَلَّهُ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الْكِتَابِ. {إِنَّمَا يَدْعُو} [فاطر: 6] أَيْ الشَّيْطَانُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَقِيلَ بِمَعْنَى يَقْهَرُ وَيَغْلِبُ ( {حِزْبَهُ} [فاطر: 6] أَيْ جُنْدَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَهِيَ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَلَا يُجِيبُ دَعْوَةَ اللَّهِ الَّذِي يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَلَا يَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ فَدَعْوَتُهُ مَقْصُورَةٌ إلَى حِزْبِهِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ حِزْبِهِ لَا يَمْتَثِلُ وَلَا يُجِيبُ بِدَعْوَتِهِ فَهَذِهِ إمَّا تَعْلِيلٌ وَتَبْيِينٌ لِلْعَدَاوَةِ لِأَنَّ الْإِيصَالَ إلَى الْمَضَرَّةِ كَالسَّعِيرِ لَيْسَ إلَّا شَأْنَ الْعَدُوِّ بَلْ شَأْنُ الْحَبِيبِ الْمَنْعُ عَنْ نَحْوِهَا أَوْ بَيَانٌ لِمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ الْمُتَابَعَةِ السَّابِقَةِ يَعْنِي لَا يَمْنَعُ الْكُلَّ عَنْ مُتَابَعَةِ حَبِيبِهِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ يَمْنَعُ أَحِبَّاءَهُ وَلَيْسَ دَعَوْتُهُ كَسَائِرِ الدَّعْوَةِ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ بَلْ {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] . قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: تَقْرِيرٌ لِعَدَاوَتِهِ وَبَيَانٌ لِغَرَضِهِ فِي دَعْوَةِ شِيعَتِهِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالرُّكُونِ إلَى الدُّنْيَا وَهُوَ أَيْ الْغَرَضُ لَيْسَ سَوْقَ مَنَافِعِهِمْ كَمَا بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ بَلْ تَوْرِيطُهُمْ وَإِلْقَاؤُهُمْ فِي مُخَلَّدِ الْعَذَابِ فِي رُفَاقَتِهِ وَمُقَارَنَتِهِ. قَالَ تَعَالَى {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] فَالْعَاقِلُ لَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُ بَلْ يَتَّخِذُهُ عَدُوًّا وَيَأْخُذ رَدَّهُ مِنْ مُتَابَعَةِ هَذَا النَّبِيِّ الْهَادِي الدَّاعِي إلَى الْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي الِاعْتِقَادِيَّات وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى مَا كَانَ عَهْدُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيْهَا. {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] أَيْ حِفْظَكُمْ أَيْ أَسْبَابَ حِفْظِكُمْ يَعْنِي إذَا كَانَتْ

دَعْوَةُ الشَّيْطَانِ مَقْصُورَةً لِاتِّبَاعِهِ وَشِيعَتِهِ وَكَانَتْ دَعَوْته رَاجِعَةً إلَى السَّعِيرِ فَالْوَاجِبُ التَّحَفُّظُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَجُنُودِهِ وَاتِّخَاذُهُ عَدُوًّا وَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] فَإِنَّ الْعَدُوَّ لَا يَدْعُو عَدُوَّهُ بَلْ الدَّعْوَةُ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ وَلَوْ دَعَا لَا يُجِيبُ وَلَا يَمْتَثِلُ وَالتَّحَفُّظُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْفِرَارِ إلَى اللَّهِ فَفَرُّوا إلَى اللَّهِ بِالتَّعَوُّذِ وَبِالْمُسَارَعَةِ إلَى مَا فِيهِ مَغْفِرَةُ اللَّهِ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] لَا سِيَّمَا الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «إنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خُرْطُومَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ» وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4] أَنَّهُ قَالَ هُوَ مُنْبَسِطٌ عَلَى قَلْبِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَانْقَبَضَ وَإِذَا غَفَلَ انْبَسَطَ عَلَى قَلْبِهِ. قَالَ تَعَالَى {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19] - (فَإِنَّهُ كَلْبٌ مُبِيرٌ) أَيْ مُهْلِكٌ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَكَلْبٍ مُبِيرٍ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ الْكَلْبُ مُؤَثِّرٌ فِي إهْلَاكِهِ وَالشَّيْطَانُ لَيْسَ مُؤَثِّرًا لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ مُوَسْوِسٍ إذْ لَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَأَكْثَرُ تَسَلُّطِهِ فِي خِيَارِ الْأَعْمَالِ سِيَّمَا الصَّلَاةَ. «وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَسْوَسَةِ الصَّلَاةِ فَقَالَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ إذَا أَحْسَسْت بِهِ فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِك ثَلَاثًا قَالَ فَفَعَلْت ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي» وَيُقَالُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الشَّيْطَانِ سِتَّةٌ الِاسْتِعَاذَةُ وَكَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَالْبَسْمَلَةُ وَتَرْكُ الطَّمَعِ وَتَرْكُ الْأَمَلِ وَتَرْكُ الدُّنْيَا. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا حِينَ شَكَوْا إلَى الْحَسَنِ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ إنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي الْآنَ وَيَشْكُو مِنْكُمْ وَقَالَ قُلْ لِلنَّاسِ دَعُوا دُنْيَايَ حَتَّى أَدَعَ دِينَهُمْ ثُمَّ رَبَطَ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ كَلْبٌ يَعْنِي لَا تَغْتَرُّوا بِمَا زَيِّنَّ الشَّيْطَانُ وَلَا تَذْهَلُوا عَنْ مَكَايِدِهِ حَتَّى لَا تُجِيبُوا دَعَوْتَهُ فَخُذُوا أَسْلِحَتَكُمْ خَائِفِينَ مِنْ عَدُوِّكُمْ فَإِنَّ عَدُوَّكُمْ كَلْبٌ مُهْلِكٌ فَيُهْلِكُكُمْ بِلَا خِبْرَةٍ مِنْكُمْ (فَغَايَةُ بُغْيَتِهِ) أَيْ نِهَايَةُ مَطْلُوبِهِ وَمُعْظَمُهُ (سَلْبُ الْإِيمَانِ) الظَّاهِرُ تَعْلِيلِيَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا أَيْ لَا بِتَأْثِيرٍ بَلْ بِتَشْوِيشِ الْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ وَتَحْسِينِ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ وَأَفْعَالِ الِارْتِدَادِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ السَّكَرَاتِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ بِالشَّدَائِدِ وَالْكُرُبَاتِ لِأَنَّهُ آخِرُ فُرْصَتِهِ لَا يُقْبَلُ التَّدَارُكُ بَعْدَهَا الْعِيَاذُ بِهِ تَعَالَى كَمَا فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ «يَجِيءُ شَيْطَانٌ عَنْ الْيَمِينِ وَيُحَسِّنُ دِينَ الْيَهُودِ وَيُظْهِرُ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ وَيُقَدِّمُ بِقَبُولِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَيَجِيءُ شَيْطَانٌ آخَرُ عَنْ يَسَارِهِ عَلَى صُورَةِ أُمِّهِ وَيُحَسِّنُ دِينَ النَّصَارَى كَذَلِكَ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «يَقْدَحُ مَاءً بَارِدًا قَائِلًا إنْ أَجَبْتَنِي بِشَيْءٍ مِمَّا يُوجِبُ الْكُفْرَ أُعْطِك» فَاَلَّذِي أَحْكَمَ إيمَانَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَلَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ وَحَصَّنَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يُثَبِّتُهُ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ لِلْأَعْمَالِ إعَانَةً قَوِيَّةً فِي رُسُوخِ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي مِنْهَا الْإِيمَانُ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ لِصُلَحَاءِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي قِصَّةِ بَرْصِيصٍ. (وَالْخُلُودُ الدَّائِمُ) الْأَظْهَرُ أَنَّ الْخُلُودَ بِمَعْنَى الدَّوَامِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِي وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الدَّوَامِ كَأَنْ يُقَالَ دَوَامٌ دَائِمٌ فَيَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مَا يُقَالُ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لَهُ وَلَا يَبْعُدُ مَا يُقَالُ الْخُلُودُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الدَّوَامِ بَلْ عِنْدَ هُمْ بِمَعْنَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ دَوَامًا أَوَّلًا (فِي النِّيرَانِ) . وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَلُومُ وَيَتَبَرَّأُ مِنْ الْإِنْسَانِ فِي النِّيرَانِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ يُوضَعُ لَهُ مِنْبَرٌ فِي النَّارِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ لَائِمِينَ وَمُقَرِّعِينَ إيَّاهُ بِأَنَّ مَا مَسَّنَا مِنْ الْعَذَابِ لَيْسَ إلَّا مِنْك فَيَقُولُ لَسْت أَنَا بِجَابِرٍ وَلَيْسَ لِي وِلَايَةٌ عَلَيْكُمْ أَمَا تُلِيَتْ عَلَيْكُمْ الْآيَاتُ الْقَطْعِيَّةُ أَلَمِ تُنْذَرُوا بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَلَيْسَ حَالِي إلَّا الدُّعَاءَ وَالْوَسْوَسَةَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَلْتَفِتُوا إلَى دَعْوَتِي وَحِيَلِي جَنْبَ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَلَا تَلُومُوا إلَّا أَنْفُسَكُمْ بِإِجَابَتِي بِلَا حُجَّةٍ {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] يَعْنِي أَنَا بَرِيءٌ مِنْكُمْ وَمِمَّا اعْتَقَدْتُمْ. (ثُمَّ الْفِسْقُ) يَعْنِي إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَلْبِ الْإِيمَانِ فَيَرْضَى وَيَتَنَزَّلُ إلَى الْفِسْقِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ بَقَاءِ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ أَوْ بِإِصْرَارِ الصَّغِيرَةِ وَلِلْفِسْقِ طَبَقَاتٌ ثَلَاثٌ التَّغَابِي بِارْتِكَابِهَا أَحْيَانًا مُسْتَقْبِحًا لَهَا وَالِانْهِمَاكُ فِي تَعَاطِيهَا وَالْمُثَابَرَةُ عَلَيْهَا مَعَ جُحُودِ قُبْحِهَا وَالثَّالِثُ مِنْ الْكُفْرِ فَالْمُرَادُ الْأَوَّلَانِ (الظَّاهِرُ)

لِأَنَّ أَصْلَ الْفِسْقِ مَعْصِيَةٌ وَمُجَاهَرَتُهُ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى لِتَضَمُّنِهَا عَدَمَ الْمُبَالَاةِ وَاتِّبَاعَ الْغَيْرِ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ أَيْ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي لَا يُعَافُونَ (وَالظُّلْمُ) سَوَاءٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (الْقَاهِرُ) الْغَالِبُ عَلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ (وَأَدْنَاهَا) أَيْ أَدْنَى بُغْيَةِ الشَّيْطَانِ (التَّثْبِيطُ) الْمَنْعُ وَالتَّعْوِيقُ (فِي) فِعْلِ (الْخَيْرَاتِ) وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّأْخِيرِ فَكُلُّ طَاعَةٍ يَظْهَرُ فِيهَا دَوَاعِي الْكَسْلَانِ وَخِلَافُ النَّشَاطِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ (وَالْحَطُّ) أَيْ التَّسَفُّلُ وَالرِّضَا بِالدُّونِ (فِي الْمَرَاتِبِ) الْعَلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ (وَالدَّرَجَاتِ) الْعِلْمِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ إلَى أَنْ يَنْزِلَ إلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَفِعْلِ مَا لَا بَأْسَ بِهِ بِتَحْسِينِ الرُّخَصِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَثْقِيلِ عَزَائِمِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعَلِيَّةِ. (وَلَا يَرْضَى بِهِ) أَيْ الْأَدْنَى (إلَّا عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ غَيْرِهِ) مِنْ السَّلْبِ وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا مُضِرًّا وَخَصْمًا خَفِيًّا وَقَصْدُهُ أَمْرًا عَظِيمًا وَمُصِيبَةً كَبِيرَةً وَلَزِمَ التَّحَرُّزُ وَالتَّحَفُّظُ وَكَأَنَّ النَّفْسَ مُطَاعَةٌ وَمَجْبُولَةٌ عَلَى هَوَاهُ وَمُقِرَّةٌ فِي دَعْوَاهُ وَلَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ مِحَنِهِ وَحِيَلِهِ إلَّا بِالتَّحَصُّنِ وَالِالْتِجَاءِ إلَى اللَّهِ. قَالَ الْمُصَنِّف (نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى) أَيْ نَلْتَجِئُ وَقِيلَ أَسْتَغِيثُ وَقِيلَ أَسْتَعْصِمُ وَقِيلَ أَسْتَهْرُبُ وَفِي الْحَقِيقَةِ دَعَا أَنْ يُعَاوِنَهُ أَيْ أَعِذْنِي مِنْ قَبِيلِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَيْ أَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْإِخْبَارِيِّ مَوْضِعَ الْإِنْشَائِيِّ لَعَلَّ وَجْهَهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ صُورَةِ الْأَمْرِ تَأَدُّبًا ثُمَّ فِي التَّعَوُّذِ إظْهَارُ عَجْزِ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ وَإِثْبَاتُ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَافْتِقَارِهِ إلَيْهِ تَعَالَى بَلْ فِيهِ حَصْرُ الِافْتِقَارِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَالْفِرَارُ إلَى اللَّهِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ حَبِيبَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97] {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ - وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 98 - 200] وَ - {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]- الْآيَاتِ (ثُمَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ) . الظَّاهِرُ الْإِضَافَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ جَمِيعِ شَرِّهِ اعْتِقَادِيًّا أَوْ أَخْلَاقِيًّا أَوْ أَعْمَالِيًّا عَظِيمًا كَالْكُفْرِ صَغِيرًا كَتَرْكِ الْأَوْلَى وَفِعْلِ مَا لَا بَأْسَ فِيهِ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ أَوْ فِي أَوْصَافِهِ فَإِنْ قِيلَ كَثِيرًا مَا نَتَعَوَّذُ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ الْخَلَاصِ مِنْ شَرِّهِ قُلْنَا إنْ لَمْ يَصْدُرْ التَّعَوُّذُ بِشَرْطِهِ كَحُضُورٍ تَامٍّ وَخَشْيَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَتَعَوَّذْ لِعِظَمِ شَرِّهِ أَوْ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ النَّفْسِ لَا مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ قَبُولِ التَّعَوُّذِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتٍ آخَرَ أَوْ عَمَلٍ آخَرَ. وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ شَرْطُهُ سَدُّ سِلَاحِ الشَّيْطَانِ وَمَدَاخِلِهِ فِي الْمَلَكَاتِ الرَّدِيئَةِ وَمُحَافَظَةِ التَّقْوَى وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ اللِّسَانِ رُبَّمَا يَكُونُ آلَةُ الشَّيْطَانِ لِاغْتِرَارِ الذَّاكِرِ بِهِ وَيَذْهَلُ فَيَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ لَكِنْ لَا يَخْلُو فِعْلُهُ عَنْ حِكْمَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ شَرٌّ مَحْضٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِهِ وَتَسْلِيطِهِ عَلَى النَّاسِ قُلْنَا لَا اطِّلَاعَ لَنَا فِي حِكْمَةِ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ تَعَالَى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ تَكْثِيرَ ثَوَابِ الْمُخَالِفِينَ إيَّاهُ لِإِتْعَابِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَهُ إذْ خَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ وَصَلَ مَنْزِلَةَ قَتْلِ نَفْسِهِ الْأَمَارَةِ فَأَرَادَ قَتْلَهَا فَنُودِيَ إلَيْهِ بِأَنَّ وُصُولَك الْمَنَازِلَ وَقَطْعَك الرُّتَبَ الْعَالِيَةَ إنَّمَا هُوَ بِمُجَاهَدَتِهَا وَلِهَذَا لَا ثَوَابَ فِي عِبَادَةِ الْمَلَائِكِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ تَلَذُّذِيٌّ. وَقِيلَ الْحِكْمَةُ اخْتِبَارُ أَوْلِيَائِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ إذْ مَنْ يَتْبَعْ عَدُوَّهُ يَعْنِي الشَّيْطَانَ لَيْسَ بِوَلِيِّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ بَعْضِ مَا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الشِّفَاءِ لِابْنِ قُبْرُسَ عَنْ شَرْحِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ وَأَيْضًا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ مُحَمَّدٍ الشِّهْرِسْتَانِيّ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ إبْلِيسُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ مَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الْكَافِرِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلَّا الْإِثْمُ وَمَا فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ عَوْدِ الْفَائِدَةِ إلَيْهِ تَعَالَى وَمَا يَعُودُ إلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ الثَّوَابِ فَقَادِرٌ عَلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةِ تَكْلِيفٍ وَمَا وَجْهُ تَكْلِيفِهِ إلَيَّ بِسُجُودِ آدَمَ مَعَ تَكْلِيفِهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَا فَائِدَتُهُ مِنْ لَعْنِهِ إيَّايَ بِتَرْكِ السُّجُودِ وَلِي فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ وَمَا وَجْهُ تَمْكِينِهِ إلَيَّ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَوَسْوَسَةِ آدَمَ وَلِمَ سَلَّطَنِي عَلَى بَنِي آدَمَ وَلِمَ أَمْهَلَنِي فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ حِينَ اسْتَمْهَلْته وَلَوْ أَهْلَكَنِي لَخَلَا الْعَالِمُ عَنْ الشُّرُورِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى

مِنْ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ يَا إبْلِيسُ مَا عَرَفْتَنِي لَوْ عَرَفْت لَعَلِمْت أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيَّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِي فَإِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَفِي رِوَايَةِ الشِّهْرِسْتَانِيّ قَالَ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ قُولُوا لَهُ كُلُّ مَا قُلْت مِنْ عَدَمِ تَسْلِيمِك إيَّايَ وَالْحُكْمِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيَّ كُفْرٌ. وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ لَا جَوَابَ غَيْرُ مَا أَجَابَهُ تَعَالَى وَأَقُولُ إنَّمَا أَجَابَ تَعَالَى بِكَذَا لِعِلْمِهِ عَجْزَ إدْرَاكِ فَهْمِ اللَّعِينِ عَنْ تَحْقِيقِ أَجْوِبَةِ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ فَمِنْ قَبِيلِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ كَيْفَ وَالْحِكْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّهَا أَلْبَتَّةَ قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ بَعْضُهَا مِمَّا يَظْهَرُ عَلَيْنَا وَبَعْضُهَا مِمَّا يَخْفَى لَا عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الْمُؤَيَّدِينَ بِنُورٍ مِنْ اللَّهِ وَرَوْحٍ مِنْهُ. وَقَالَ الْبَعْضُ هَذِهِ الشُّبَهُ غَيْرُ بَالِغٍ فِي الْخَفَاءِ وَمَلَالَةُ التَّطْوِيلِ مَانِعٌ مِنْ الذِّكْرِ وَأَقُولُ وَبِاَللَّهِ الْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حِكْمَةُ خَلْقِ الْكَافِرِ هُوَ الْعِبَادَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]- وَعَدَمُ إرَادَةِ عِبَادَتِهِمْ لِعَدَمِ شَرْطِ خَلْقِ عِبَادَتِهِمْ مِنْ صَرْفِ الْقُدْرَةِ إلَى الطَّاعَةِ كَمَا مَرَّ وَالْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ وَهَذَا الصَّرْفُ لَيْسَ مِنْ اللَّهِ، وَتَمَامُهُ سَيُفْهَمُ مِمَّا سَيُذْكَرُ وَفَائِدَةُ التَّكْلِيفِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْإِنْسَانَ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ لَزِمَ الشُّكْرُ وَالْإِنْسَانُ قَاصِرٌ عَنْ كَيْفِيَّتِهِ فَمِنْ كَمَالِ رَأْفَتِهِ بَيَّنَ طُرُقَ الشُّكْرِ بِالتَّكْلِيفَاتِ ثُمَّ إنَّ الْإِنْسَانَ فِيهَا مُطِيعٌ وَعَاصٍ فَلَوْ أَثَابَ الْكُلَّ لَزِمَ عَدَمُ تَفْرِيقِ مَنْ عَبَدَهُ عَمَّنْ يَعْبُدُ عَدُوَّهُ أَيْ الشَّيْطَانَ وَلَوْ عَاقَبَ الْكُلَّ لَزِمَ صُورَةُ ظُلْمٍ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ يَتَجَلَّى لَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْقَهْرِ وَاللُّطْفِ ذَكَرَهُ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ حَدِيثِ لَوْ أَنَّ الْعِبَادَ لَمْ يُذْنِبُوا لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فَفَائِدَةُ التَّكْلِيفِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَبْدِ بِالْإِثَابَةِ وَإِلَى اللَّهِ لَا بِالِاسْتِكْمَالِ وَنَحْوِهِ بَلْ بِإِظْهَارِ صِفَاتِهِ مِنْ نَحْوِ الْكَرَمِ وَالْعَفْوِ وَالْقَهْرِ وَوَجْهُ تَكْلِيفِ اللَّعِينِ إلَى السَّجْدَةِ مَعَ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ هُوَ تَعْظِيمٌ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِإِنْبَائِهِمْ الْأَسْمَاءَ وَتَعْلِيمِهِمْ الْعُلُومَ وَاعْتِرَافَ فَضْلِهِ وَأَدَاءٍ لِحَقِّهِ وَاعْتِذَارٍ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَجْعَلُ فِيهَا الْآيَةَ وَفَائِدَةُ اللَّعْنِ عُرِفَتْ مِمَّا سَبَقَ مِنْ جَزَاءِ عِصْيَانِهِ وَعُقُوبَةِ اعْتِرَاضِهِ وَحُكْمِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَضَمَّنَ حِكَمًا أُخْرَى كَعَدَمِ اغْتِرَارِ الْعَابِدِينَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ بَلْ اللَّائِقُ عَدَمُ الْأَمْنِ وَكَالِاعْتِبَارِ عَنْ حَالِ الشَّيْطَانِ بِسَبَبِ الْعِصْيَانِ وَالِانْزِجَارِ عَنْ الطُّغْيَانِ وَكَإِعْلَامِ ضَرَرِ الْكِبْرِ وَالْبُغْيَانِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَفَائِدَةُ التَّمْكِينِ تَعْظِيمُ أَجْرِ الْعَامِلِينَ بِمَشَاقِّ الْجِهَادِ الْأَعْظَمِ وَاخْتِبَارِ وَلِيِّهِ تَعَالَى وَعَدُوِّهِ وَإِظْهَارِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ مَنْ عَبَدَهُ تَعَالَى فَهُوَ وَلِيُّهُ وَمَنْ عَبَدَ عَدُوَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَدُوُّهُ وَإِظْهَارِ مَظْهَرِيَّةِ عَفَوْهُ وَغُفْرَانِهِ وَإِظْهَارِ شَرَفِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِاسْتِغْفَارِهِ وَرُجُوعِهِ إلَيْهِ تَعَالَى فِي فَوْرِهِ خِلَافَ الشَّيْطَانِ وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَسْلِيطِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ عَلَى أَنَّ فِيهِ تَكْذِيبَ دَعْوَى الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ - {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]- بِمُخَالَفَةِ الصِّدِّيقِينَ وَالْمُخْلَصِينَ. وَأَيْضًا ظَهَرَ وَجْهُ إمْهَالِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةِ بِاسْتِمْهَالِهِ مِمَّا سَبَقَ وَبِهِ يَتَخَرَّجُ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ مَا الْحِكْمَةُ فِي مَوْتِ النَّبِيِّ وَبَقَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّ فِي مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقَدُّمُهُ لِلشَّفَاعَةِ عِنْدَ عَرْضِ أَعْمَالِ أُمَّتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ» قِيلَ وَمِنْ فَوَائِدِهِ فَتْحُ بَابِ الِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْإِثَابَةِ بِحُزْنِ مَوْتِهِ وَتَسْهِيلِ كُلِّ مُصِيبَةٍ بِمُصِيبَتِهِ وَحُصُولِ الرَّحْمَةِ مِنْ اخْتِلَافِ أُمَّتِهِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِلَائِقَةٍ لِلْقَرَارِ بَلْ لِلْفِرَارِ وَلَيْسَتْ بِدَارِ السُّعَدَاءِ بَلْ الْأَشْقِيَاءِ وَأَنَّ الرَّاحَةَ فِي الْعُقْبَى أَعْلَى مِمَّا فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ الدُّنْيَا إنَّمَا تَلِيقُ بِأَهْلِهَا دُونَ أَهْلِهِ تَعَالَى. (وَالْمُؤْمِنُ) الظَّاهِرُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ مُتَنَسِّكًا جَاهِلًا أَوْ غَافِلًا عَالِمًا لَكِنْ يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْجَاهِلِ الْعَامِّيِّ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ (الطَّالِبُ لِلْحَقِّ وَالْبَاقِيَةِ) الظَّاهِرُ الْحَقُّ هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْبَاقِيَةُ الْآخِرَةُ وَيُمْكِنُ الْحَقُّ مُتَابَعَتُهُ الرَّسُولَ وَالْبَاقِيَةُ عَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ وَبُغْيَتَاهُ وَقِيلَ الْحَقُّ مَعْرِفَتُهُ تَعَالَى وَالْبَاقِيَةُ دَارُ الْآخِرَةِ (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ) الْبُغْيَةُ. (الْأُولَى) مِنْ السَّلْبِ وَالْخُلُودِ وَالظُّلْمِ (وَلَا) الْبُغْيَةُ. (الثَّانِيَةُ) مِنْ نَحْوِ التَّثْبِيطِ وَالْحَطِّ فَإِذَا لَمْ يَخْفَيَا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيهِمَا لِأَحَدٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِمَا فَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّف إلَى مَا فِيهِ اشْتِبَاهٌ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَتِمُّ هَذَا وَقَدْ كَانَ فِيهِمَا أُمُورٌ مُفَصَّلَةٌ

وَمَسَائِلُ خَفِيَّةٌ تَشْتَبِهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ. قُلْنَا الْمُرَادُ أَصْلُهُمَا أَوْ جِنْسُهُمَا أَوْ إضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا سَيُذْكَرُ وَكَانَ الرَّاجِحُ عَدَمَ الْخَفَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْكُتُبِ وَأَمَّا مَا سَيَذْكُرُهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبٍ مَا بَلْ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الْكِتَابِ فَكَأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ فَقَطْ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُهُ هُنَا وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْأُولَى الْحَقُّ أَيْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَالثَّانِيَةِ الْبَاقِيَةُ يَعْنِي الدَّارَ الْآخِرَةَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الشُّرُورِ هُوَ الِاسْتِغْرَاقُ فَلَا يَصِحُّ تَفْرِيعٌ فَيُفَرِّطُونَ إلَخْ وَلَوْ أَوَّلَ ذَلِكَ فَلَا يَحْسُنُ قَوْلُهُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ إلَخْ فَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ كَمَا ذَكَرَ فِي أَصْلِ الْمَرَامِ. (وَإِنَّمَا الِاشْتِبَاهُ) هُوَ دُخُولُ الشَّيْءِ فِي شُبْهَةٍ بِعَدَمِ تَمَيُّزِهِ مِنْ أَشْبَاهِهِ. (وَ) كَذَا (الِالْتِبَاسُ) فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا لَبِسَ هَيْئَةَ الْآخَرِ اشْتَبَهَ بِهِ (وَنُفُوذُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُضِيُّ وَبِالْمُهْمَلَةِ التَّمَامُ وَالْفَرَاغُ (وَسْوَاسٌ) اسْمُ مَصْدَرٍ وَالْمَصْدَرُ بِالْكَسْرِ وَالْوَسْوَسَةُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ وَقِيلَ الْحَرَكَةُ وَالْوَسْوَاسُ اسْمُ الشَّيْطَانِ وَالصَّوْتُ الْجَلِيُّ وَحَدِيثُ النَّفْسِ (الْخَنَّاسُ) الَّذِي يَخْنَسُ أَيْ يَتَأَخَّرُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ أَيْ الْمُخْتَفِي عَنْ الْأَعْيُنِ وَقِيلَ يَخْنَسُ مَرَّةً وَيُوَسْوِسُ أُخْرَى وَقِيلَ أَيْ الرَّجَّاعُ وَعَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْكَلْبِ وَقِيلَ كَخُرْطُومِ الْخِنْزِيرِ يَضَعُهُ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ وَيُقَالُ رَأْسُهُ كَرَأْسِ الْحَيَّةِ فِي ثَمَرَةِ الْقَلْبِ يَمِينُهُ وَيُحَدِّثُهُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ (فِي الْجَاهِلِينَ) أَيْ نُفُوذُ الشَّيْطَانِ فِي الَّذِينَ جَهِلُوا عِلْمَ الْحَالِ وَالْأَعْمَالِ (الْمُتَنَسَّكِينَ) أَيْ الْمُتَكَلِّفِينَ فِي الْعِبَادَةِ بِغَايَتِهَا وَالْمُرَادُ الْعِبَادَةُ مَعَ الْجَهْلِ (وَالْعَالَمِينَ الْغَافِلِينَ) عَنْ مُمَاشَاةِ مُقْتَضَى عُلُومِهِمْ بِانْهِمَاكِ الشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالِاغْتِرَارِ بِزَخَارِف الْأَمَانِيِّ الدُّنْيَوِيَّةِ فَتَحْصِيلُهُمْ الْعُلُومَ لِمُجَرَّدِ رُسُومٍ عَادِيَةٍ لِلتَّوَصُّلِ لِأَمْرٍ دُنْيَاوِيٍّ فَيَكُونُ أَصْحَابُهَا مِصْدَاقًا لِحَدِيثِ «إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ» . لِأَنَّ فَسَادَهُمْ سَارَ إلَى الْجُهَلَاءِ فِي التتارخانية عَنْ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا زَلَّ الْعَالِمُ زَلَّ الْعَالَمُ (فِيمَا عَدَاهُمَا) خَيْرٌ لِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا الِاشْتِبَاهُ أَيْ فِيمَا عَدَا الْبُغْيَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ (مِنْ الشُّرُورِ) يَعْنِي فِي الشَّرِّ نَوْعٌ غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ وَهُوَ الْبُغْيَتَانِ وَنَوْعٌ آخَرُ غَيْرُ خَافٍ أَيْضًا عَلَى الْعَالِمِ الْمُسْتَيْقِظِ وَخَافَ عَلَى الْعَالِمِ الْغَافِلِ وَالْجَاهِلِ الْمُتَنَسِّكِ وَهُوَ غَيْرُهُمَا مِمَّا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً لِتَجَانُسِهِ مَعَ الْعِبَادَةِ وَلَوْ بِحَسَبِ الصُّورَةِ فَيَظُنُّهُ الْعِبَادَةَ عِبَادَةً فَيُفَرِّطُ وَالْعَالِمُ فَيُفَرِّطُ فَيَتَشَابَهُ كُلٌّ لِلْعِبَادَةِ يَذْهَلَانِ فَيَدْخُلُهُمَا الشَّيْطَانُ (فَدَلَّاهُمَا) مِنْ التَّدْلِيَةِ بِمَعْنَى الْإِرْسَالِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِطْمَاعُ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ وَالْخُدْعَةُ (بِغُرُورٍ) بِاغْتِرَارِ كَوْنِهِ عِبَادَةً كَانَ الشَّيْطَانُ يُظْهِرُ النُّصْحَ وَيُنْسِي الضُّرَّ مَعَ إبْطَانِ الْغِشِّ فَكَأَنَّهُ حَطَّهُمَا مِنْ مَنْزِلٍ عَالٍ إلَى مَحِلٍّ سَافِلٍ (فَيُفَرِّطُونَ) مِنْ الْإِفْرَاطِ بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ عَنْ الْحَدِّ بِالْجَهْلِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ عِبَادَةٌ فَيُكْثِرُونَ (أَوْ يُفْرِطُونَ) مِنْ التَّفْرِيطِ بِمَعْنَى التَّهَاوُنِ وَالتَّضْيِيعِ إمَّا بِالْغَفْلَةِ بِسَبَبِ تَعَمُّقِ الدُّنْيَا وَإِنْ عَلِمُوا قُبْحَهَا وَإِمَّا بِاعْتِقَادِ كِفَايَةِ الْعِلْمِ الْمُجَرَّدِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ لُزُومِ الْعَمَلِ فَالْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الشَّيْطَانُ فِي الْبُغْيَتَيْنِ قُلْت وَإِنْ دَخَلَ فِيهِمَا لَكِنَّ الْإِنْسَانَ عَارٍ بِدُخُولِهِ فَيُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ. وَأَمَّا فِي هَذِهِ الشُّرُورِ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ بَلْ يُظَنُّ أَنَّهَا مِنْ الرَّحْمَنِ لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ الْغَافِلِ فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ احْتِيَاجِ مُطْلَقِ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ الْمُتَيَقِّظِ إلَى هَذَا الْكِتَابِ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ قُلْنَا نَعَمْ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ لِكَوْنِهِ مَاشِيًا عَلَى مُوجَبِ عِلْمِهِ يَجُوزُ عَدَمُ احْتِيَاجِهِ فِي أَصْلِهِ بَلْ لِتَقْوِيَتِهِ

وَتَثْبِيتِهِ وَأَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ مَا ذَكَرَهُ وَغَيْرُهُمَا كَالتَّبَعِ وَالْجَاهِلُ الْمُطْلَقُ دَاخِلٌ فِي الْبُغْيَتَيْنِ وَلَا نُفُوذَ لِلشَّيْطَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ أَيْضًا. لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ صَرِيحَ كَلَامِهِ فِي الْبُغْيَتَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ سِوَاهُمَا حَظٌّ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُمَا فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ نَوْعُ تَدَافُعٍ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْحَصْرَ فِي الْبُغْيَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِ غَرَضِ الشَّيْطَانِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى تَأْبِيرِ فِعْلِهِ وَيُرَدُّ أَيْضًا أَنَّهُ اعْتَبَرَ دُخُولَ الْعَالِمِ الْغَافِلِ وَالْمُتَنَسِّكِ فِي الْمُؤْمِنِ الطَّالِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ طَلَبَ الْحَقِّ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ وَإِلَى التَّيَقُّظِ فِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنِ الطَّلَبُ إلَخْ مَا مِنْ شَأْنِهِ كَذَلِكَ أَوْ يُرَادُ الْإِجْمَالُ وَفِي الْجُمْلَةِ وَبِالْجُمْلَةِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَخْلُو عَنْ إغْلَاقٍ هُنَا {وَهُمْ يَحْسَبُونَ} [الكهف: 104] أَيْ الْمُتَنَسَّكُونَ وَالْغَافِلُونَ يَظُنُّونَ {أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] أَيْ يَعْتَقِدُونَ حُسْنَهُ فِيمَا عَمِلُوا مِنْ إفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ يَشْكُلُ أَنَّ هَذَا وَإِنْ تَمَّ فِي حَقِّ الْجَاهِلِ الْمُتَنَسِّكِ لَكِنْ لَا يَتِمُّ فِي حَقِّ الْعَالِمِ وَإِنْ غَفَلَ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ عَدَمَ حُسْنِهِ وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا وَالْحَاصِلُ فَإِمَّا لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ أَوْ لَيْسَ لَهُ اعْتِقَادُ حُسْنِهِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ حَسَنًا قُلْت لَعَلَّهُمْ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَخْتَارُونَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَرْجُوحَةَ أَوْ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ اعْتِقَادُ حَقِّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنْ يُظْهِرُونَ الْحَقِّيَّةَ خِلَافَ مَا اعْتَقَدُوا ثُمَّ أَوْرَدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ هَذَا سُوءُ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَدُفِعَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْخُصُوصِ وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ فَجَائِزٌ أَقُولُ سُوءُ الظَّنِّ الْمُحَرَّمِ إمَّا بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ أَوْ الشَّكِّ. وَأَمَّا الْمُجَاهِرُونَ وَكَذَا الَّذِينَ دَلَّ عَلَى سُوءِ حَالِهِمْ الدَّلِيلُ وَلَوْ ظَنًّا غَالِبًا فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]- وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنْ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» (فَأَرَدْت) الظَّاهِرُ تَعْقِيبُ الْفَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَضْمُونِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ لَكِنْ بِمُلَاحَظَةِ مَا تَقَدَّمَ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْوُصُولُ إلَى النِّعَمِ الْأُخْرَوِيَّةِ مَقْصُورًا عَلَى مُتَابَعَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُتَابَعَةُ مُحْتَاجَةٌ إلَى دَفْعِ حِيلَ الشَّيْطَانِ وَدَفْعُهَا فِي الْبُغْيَتَيْنِ هَيِّنٌ لِعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ وَكَانَ صَعْبًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَنَسِّكَ وَالْغَافِلُ لِلِاشْتِبَاهِ وَكَانَ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِمَا وَإِلَى غَيْرِهِمَا لِكَوْنِ صُورَةِ حَالِهِمَا عَلَى الطَّاعَةِ فَأَرَدْت (أَنْ أُصَنِّفَ) مِنْ التَّصْنِيفِ بِمَعْنَى إظْهَارِ صِنْفٍ مِنْ الْعُلُومِ يَجْمَعُ الْمَسَائِلَ قِيلَ هُوَ وَالتَّأْلِيفُ مُتَرَادِفَانِ وَقِيلَ التَّأْلِيفُ أَعَمُّ لِأَنَّهُ إيقَاعُ أُلْفَةٍ بَيْنَ الْمَسَائِلِ وَلَوْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَالتَّصْنِيفُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَمْعِ الصُّنُوفِ أَيْ الْأَنْوَاعِ وَقِيلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيَّة إنَّ التَّصْنِيفَ مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَيَّدَ بِحَدِيثِ أَقُولُ إنْ كَانَ التَّصْنِيفُ بِمَا فِيهِ الِاجْتِهَادُ فَلَهُ وَجْهٌ وَإِنْ مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحَدِيثِ لَا تَقْرِيبَ مِنْ دَلَالَتِهِ (الطَّرِيقَةُ) الظَّاهِرُ طَرِيقَةُ الْمُتَابَعَةِ الْمَذْكُورَةِ (الْمُحَمَّدِيَّةِ) الْمَنْسُوبَةِ إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ الْوُصُولُ إلَى اعْتِقَادِهِ وَأَقْوَالِهِ مَثَلًا فَإِنْ قُلْت الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ عَدَمُ اخْتِصَاصٍ بِأَمْرٍ وَمِنْ تَعَلُّقِ لَفْظِ الْفَاءِ اخْتِصَاصُهُ بِالِاقْتِصَادِ أَيْ مَا بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الطَّرِيقَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالِاقْتِصَادِ لَكِنْ يُرَدُّ أَنَّ الِاقْتِصَادَ إنَّمَا هُوَ بَعْضُ فُصُولٍ مِنْ بَعْضِ أَبْوَابِ هَذَا الْكِتَابِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ مَا فِي هَذَا الْفَصْلِ إنَّمَا هُوَ حُكْمُهُ وَمَاهِيَّتُه. وَأَمَّا مِصْدَاقُ إفْرَادِهِ فَجَمِيعُ مَا فِي الْكِتَابِ وَلَوْ ادِّعَاءً أَوْ إضَافَةً ثُمَّ لَفْظُ مُحَمَّدٍ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي هَلْ هِيَ ثَلَثُمِائَةٍ أَوْ أَلْفٌ أَوْ تِسْعُمِائَةٍ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْعُولٌ مِنْ التَّحْمِيدِ مُبَالَغَةً الْحَمْدُ يُقَالُ فُلَانٌ مَحْمُودٌ إذَا أُثْنِيَ عَلَى جَمِيع خِصَالِهِ وَإِذَا بَلَغَتْ النِّهَايَةَ وَتَكَامَلَتْ يُقَالُ مُحَمَّدٌ فَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ لِبُلُوغِ خِصَالِهِ الْحَمِيدَةِ إلَى غَايَةِ الْكَمَالِ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ إنَّمَا هِيَ مِنْ التَّكْثِيرِ الَّذِي هُوَ بِنَاءُ بَابِهِ لَا مِنْ الصِّيغَةِ (وَأَحْبَبْت أَنْ أُبَيِّنَ) أُوَضِّحَ (السِّيرَةَ) مِنْ سَارَ بِسَيْرٍ بِمَعْنَى الطَّرِيقَةِ أَيْضًا لَكِنْ

الباب الأول الاعتصام بالكتاب والسنة

فِي الصِّيغَةِ إشَارَةٌ إلَى طَرِيقَةِ أَرْبَابِ السُّلُوكِ الَّتِي هِيَ التَّصَوُّفُ فَالْأَوَّلُ عِلْمُ الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي إشَارَةٌ إلَى عِلْمِ الْبَاطِنِ (الْأَحْمَدِيَّةُ) أَيْ الْمَنْسُوبَةُ إلَى أَحْمَدَ يُقَالُ اسْمُهُ فِي الْأَرْضِ مُحَمَّدٌ وَفِي السَّمَاءِ أَحْمَدُ (حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهَا) أَوْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي هِيَ اسْمٌ لِهَذَا الْكِتَابِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَإِنْ دَلَّتْ مُطَابِقَةً عَلَى الْمَعْنَى الْوَصْفِيِّ الَّذِي ذُكِرَ لَكِنْ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى اسْمِ هَذَا الْكِتَابِ كَأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الْعِلْمِيَّةِ وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمَنْقُولِ عَنْهُ ظَاهِرٌ فَالِاسْمُ مُطَابِقٌ لِلْمُسَمَّى (عَمَلُهُ) وَلَوْ عَمَلَ قَلْبٍ وَلِسَانٍ وَإِلَّا فَلَا يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ (كُلُّ سَالِكٍ) كُلُّ مَنْ يَرِدُ سُلُوكَ طَرِيقٍ يُوَصِّلُ إلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِقَائِهِ أَوْ الْجَنَّةِ قَدَّمَ الْعَمَلَ مَعَ كَوْنِهِ مَفْعُولًا عَلَى كُلِّ سَالِكٍ مَعَ كَوْنِهِ فَاعِلًا لِاهْتِمَامِ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامَ الْعَمَلِ يَعْنِي الْغَرَضَ مِنْ التَّصْنِيفِ هُوَ الْعَرْضُ لِيَكُونَ مِيزَانًا مُمَيِّزًا كَمَا يَصِفُهُ لَا شَيْءَ آخَرَ مِنْ أَغْرَاضٍ نَحْوِ الدُّنْيَا (فَيَتَمَيَّزَ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى يَعْرِضَ أَوْ رَفْعٍ جَوَابٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ إذَا عُرِضَ كُلُّ سَالِكٍ عَلَيْهَا فَيَتَمَيَّزُ أَيْ يُمَيَّزُ ذَلِكَ السَّالِكُ (الْمُصِيبُ) فِي عَمَلِهِ (عَنْ الْمُخْطِئِ) لِتَبْيِينِ مَاهِيَّةِ كُلٍّ مِنْ الصَّوَابِ وَالْخَطَإِ وَأَحْكَامِهِمَا فِيهَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ التَّفْسِيرِ بِالْمُطَابَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ هَذَا بِحَسَبِ الدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَالنَّاجِي) مِنْ الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ (مِنْ الْهَالِكِ) فَبِحَسَبِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا قَدَّمَهُمَا عَلَيْهِمَا فَكُلُّ مُصِيبٍ نَاجٍ كَمَا أَنَّ كُلَّ مُخْطِئٍ هَالِكٌ (وَرُتْبَتُهُ) أَيْ الَّذِي اسْمُهُ الطَّرِيقَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ لِإِرَادَةِ الِاسْمِ اسْتِخْدَامًا كَمَا أُشِيرَ وَتَأْنِيثُهُ فِي يَعْرِضُ عَلَيْهَا الْإِرَادَةُ الْمَعْنَى الْوَصْفِيَّ هُنَاكَ وَالْأَوْلَى تَذْكِيرُهُ هُنَاكَ أَيْضًا لَعَلَّ الْغَرَضَ لِكَوْنِهِ حَالَ الْمَعْنَى اُعْتُبِرَ هَذَا الْجَانِبُ (عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ) الظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ مَا تَقَدَّمَ أَنْ يُجْعَلَ الْبَابُ أَرْبَعَةً فِي الِاعْتِقَادِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ نَظَرُهُ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ لَمْ يُرَاعِ وَفْقَ السِّيَاقِ ثُمَّ إنْ أُرِيدَ إرْجَاعُ ضَمِيرِ رُتْبَتِهِ إلَى نَفْسِ الْكِتَابِ فَمِنْ قَبِيلِ تَقْسِيمِ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ وَإِنْ إلَى نَحْوِ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْكِتَابُ فَمِنْ تَقْسِيمِ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ لِأَنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ مُجَرَّدُ تَحْلِيلٍ وَعَلَى الثَّانِي يُحْمَلُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ مَسَائِلِهِ عَلَى الْمُقْسِمِ وَبِالْعَكْسِ (مُتَوَكِّلًا عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ رُتْبَتِهِ أَيْ مُعْتَمَدًا عَلَى مَالِكِ الْمَالِكِينَ وَمَنْ فَسَّرَهُ بِإِلَهِ الْآلِهَةِ لَمْ يَحْسُنْ وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّصْنِيفُ أَمْرًا عَظِيمًا يُسْتَبْعَدُ حُصُولُهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَمُوهِمًا لِلْعَجَبِ رَجَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مُفَوِّضًا حُصُولَهُ إلَيْهِ وَمُشِيرًا إلَى أَنَّ حُصُولَهُ لَيْسَ بِطَاقَتِهِ بَلْ بِتَوْفِيقِهِ تَعَالَى وَمُنَبِّهًا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ عَلَامَةِ النَّجَاحِ فِي النِّهَايَاتِ الرُّجُوعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبِدَايَاتِ وَعَنْ آخِرِ التَّوَكُّلِ هُوَ الِاعْتِصَامُ بِاَللَّهِ تَعَالَى [الْبَابُ الْأَوَّلُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] (الْبَابُ الْأَوَّلُ) قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْفِقْهِيَّةِ الْكِتَابُ مُشْتَمِلٌ لِلْبَابِ وَالْبَابُ لِلْفَصْلِ فَالْكِتَابُ جِنْسُ الْبَابِ نَوْعٌ وَالْفَصْلُ كَالْخَاصَّةِ فَلْيَكُنْ الْجِنْسُ هُنَا مَا يَشْمَلُهُ نَفْسُ الْكِتَابِ كَالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ الِاعْتِصَامُ نَوْعًا مِنْهُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَابَعَةِ مَوْضُوعَاتُهَا الِاعْتِصَامُ أَوْ نَوْعُهُ أَوْ أَعْرَاضُهُ الذَّاتِيَّةُ أَوْ نَوْعُ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ وَمَحْمُولَاتُ الْكُلِّ أَعْرَاضُهُ الذَّاتِيَّةُ أَيْضًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ وَالْمِيزَانِ ثُمَّ الْمَسَائِلُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ نَظَرِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ بَدِيهِيَّةً عِنْدَ الْبَعْضِ وَأَيْضًا تَكُونُ قَطْعِيَّةً وَظَنِّيَّةً وَصُورَةُ الشَّكِّ أَوْ الْوَهْمِ وَلَوْ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ لَا تَكُونُ مَسْأَلَةً لِعَدَمِ التَّصْدِيقِ خِلَافًا لِلْإِمَامِ الرَّازِيّ (فِي الِاعْتِصَامِ) أَيْ الِامْتِنَاعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ غَيْرُ أَوْ كَمَالُ الْعِصْمَةِ إذْ الْحَاصِلُ بِالتَّكْلِيفِ يَكُونُ كَامِلًا عَادَةً فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى لُزُومِ التَّعَبِ وَالْكُلْفَةِ فِي حُصُولِ التَّحَفُّظِ (بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) مِنْ غَوَائِلِ الشَّيْطَانِ وَدَوَاعِي النَّفْسِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمُقَرِّبَة إلَى النِّيرَانِ وَالْمُبْعِدَةِ عَنْ الرِّضْوَانِ لِأَنَّهُمَا حِصْنَانِ حَصِينَانِ لَنْ يَخْسَرَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهِمَا فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ فِي آنٍ مِنْ

الفصل الأول مطلق الاعتصام

الْأَوَانِ (وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْعَادَاتِ السَّيِّئَةِ) فَإِنَّ كُلَّ عَادِيٍّ لَا يُحْتَرَزُ عَنْهُ بَلْ مَا يَلْزَمُ احْتِرَازُهُ هُوَ مَا يَكُونُ سَيِّئَةً لِتَخَالُفِهِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَالْعَطْفُ كَعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ وَالْعَادَةُ أَمْرٌ مُتَكَرِّرٌ أَكْثَرِيٌّ وَالسَّيِّئَةُ الْقَبِيحَةُ الْمُنْكَرَةُ فِي الشَّرْعِ (وَالْبِدَعُ) جَمْعُ بِدْعَةٍ مِنْ الْإِبْدَاعِ بِمَعْنَى الْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ (الْمُحْدَثَةُ) صِفَةُ تَوْضِيحٍ أَوْ تَأْكِيدٍ لِمَقَامِ الِاهْتِمَامِ أَوْ ذَمٍّ لِتَنْفِيرِ الْأَنَامِ إذْ الْمُرَادُ حُدُوثُهُ بَعْدَ سَيِّدِ الْأَنَامِ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا بِمَعْنَى أَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مُحْدَثَةً كَمَا لَا يَكُونُ فِيهِ إشَارَةٌ مِنْ الشَّارِعِ أَصْلًا وَغَيْرَ مُحْدَثَةٍ كَمَا تَكُونُ ذَاتُهَا مُحْدَثَةً لَكِنْ فِيهَا إشَارَةٌ مِنْ الشَّارِعِ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُحْدَثَةً (وَالِاقْتِصَادُ) مِنْ اقْتَصَدَ فِي النَّفَقَةِ إذَا لَمْ يُسْرِفْ وَلَمْ يَقْتُرْ فَيَكُونُ كَمَا عَرَفْت بِمَعْنَى التَّوَسُّطِ وَلَوْ قَدَّمَ الِاقْتِصَادَ عَلَى الْبِدْعَةِ لَكَانَ أَوْلَى إذْ الْبِدْعَةُ تَكُونُ بِالْمُخَالَفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا مِنْ الِاقْتِصَادِ (فِي الْأَعْمَالِ) لَا أَعْلَمُ وَجْهَ تَخْصِيصِ الِاقْتِصَادِ بِالْأَعْمَالِ مَعَ مَرْدُودِيَّةِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ أَيْضًا وَتَعْمِيمُ الْعَمَلِ لِلْجَمِيعِ وَلَوْ سُلِّمَ صِحَّتُهُ فِي نَفْسِهِ لَا يُسَاعِدُ مَا سَيَبْحَثُ عَنْهُ وَدَعْوَى عَدَمِ جَرَيَانِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا تَحَكُّمٌ بَلْ خِلَافُ مَا وَقَعَ كَالْمُعْتَزِلَةِ لِإِفْرَاطِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ أَنْكَرُوا صِفَاتِهِ تَعَالَى (وَالتَّوْسِيطُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِلِاقْتِصَادِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَالِاجْتِنَابُ) عَطْفُ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ (عَنْ الطَّرَفَيْنِ) أَعْنِي (الْإِفْرَاطَ وَالتَّفْرِيطَ) كَمَا عَرَفْت مَعْنَاهُمَا لَا مَا قِيلَ مِنْ مُوجِبِ الْمَلَلِ وَالتَّرْكِ وَلِكَوْنِ الْمَقَامِ مِمَّا يَقْتَضِيه زِيَادَةُ الِاهْتِمَامِ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفُ اسْتِعْمَالَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُسْتَغْنَى بِالْبَعْضِ مِنْهَا عَنْ الْآخَرِ وَإِلَّا فَيَكْفِي الِاكْتِفَاءُ بِمُطْلَقِ الِاعْتِصَامِ وَالِاحْتِرَازِ وَالِاقْتِصَادِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعُ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنَّمَا قَدَّمَ هَذَا الْبَابَ عَلَى الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْجَمِيعِ وَدَلِيلُهُ فَيَكُونُ كَالْمُقَدَّمَةِ أَمَّا الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الِاحْتِرَازُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَقَاصِدِ لَكِنْ هُوَ كَالِاقْتِصَادِ الَّذِي هُوَ كَشَرْطِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ اعْتِدَادُهَا شَرْعًا لَكِنْ يُرَدُّ أَنَّ التَّحَفُّظَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ فِيهِ لِغَيْرِهِ حَظٌّ لِأَنَّهُ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا الْفُقَهَاءَ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ وَكَذَا الْحَدِيثُ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاجْتِهَادِيَّاتِ وَلَيْسَ جَمِيعُ النُّصُوصِ مِنْهَا بَلْ بَعْضُهَا صَرَائِحُ كَالْمُحْكَمَاتِ وَالْمُفَسَّرَاتِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِيهِ خَفَاءٌ كَالْمُشْكِلِ وَالْمُجْمَلِ وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْكُنْهِ وَيَكْفِي الْوَجْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَيَسْتَوِي فِيهَا الْعُلَمَاءُ الْعَامِّيُّ مَعَ الْأَوْحَدِيِّ يَعْنِي الْمُجْتَهِدَ بَلْ تَفَرَّدَ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِيَاسِ فَقَطْ عِنْدَ بَعْضٍ لَعَلَّ الْأَقْرَبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النُّصُوصِ هُنَا لَيْسَ اسْتِخْرَاجَ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً بَلْ الْمَقْصُودُ مَعْرِفَةُ وُجُوهِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ قِيلَ وَمَطَالِعُهَا لِيَكُونَ فِي الْقَبُولِ أَسْرَعَ وَأَنْفَعَ (وَهُوَ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ) [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مُطْلَقُ الِاعْتِصَامِ] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ] (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) يَعْنِي مُطْلَقَ الِاعْتِصَامِ (نَوْعَانِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الِاعْتِصَامِ) أَيْ التَّمَنُّعُ وَالتَّحَفُّظُ فِي جَمِيعِ مَا أُشِيرَ سَابِقًا مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ وَقِيلَ الِاحْتِفَاظُ عَلَى النَّفْسِ وَالدِّينِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ (بِالْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ) فِي التَّوْصِيفِ بِالْكَرَمِ وَالْعَظَمَةِ إشَارَةً إلَى قُوَّةِ رَوَاجِ حُكْمِهِ إلَى جِهَةِ دَلَالَتِهِ وَتَوْضِيحِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ مِنْ الِاحْتِفَاظِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاعْتِصَامِ هُنَا ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ وَفَائِدَتِهِ وَقُوَّةِ حُكْمِهِ وَأَثَرِهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا الْأَوَّلُ (الْآيَاتُ) الدَّالَّةُ عَلَى لُزُومِ الِاعْتِصَامِ مَثَلًا جَمْعُ آيَةٍ فِي الْقَامُوسِ الْآيَةُ الْعَلَامَةُ وَالْعِبْرَةُ وَالْأَمَارَةُ وَمِنْ الْقُرْآنِ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ إلَى انْقِطَاعِهِ وَهَذَا قَرِيبٌ إلَى مَا يُقَالُ الْآيَةُ طَائِفَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. قَالَ الْجَعْبَرِيُّ هِيَ قُرْآنٌ مُرَكَّبٌ مِنْ جُمَلٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا ذُو مَبْدَأٍ وَمَقْطَعٍ وَالصَّحِيحُ طَائِفَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ تَوْقِيفِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ وَلِهَذَا تَرَى كَلَامًا طَوِيلًا ذَا نِسَبٍ كَثِيرَةٍ آيَةٌ وَاحِدَةٌ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ نَحْوِ {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] قِيلَ سُمِّيَ بِالْآيَةِ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ لِلْفَضْلِ وَالصِّدْقِ وَقِيلَ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَتَى بِهَا وَعَلَى عَجْزِ الْمُتَحَدَّى

وَقِيلَ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ عَلَى انْقِطَاعِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا أَوْ رَدٌّ عَلَيْهِ بِصِدْقِهِ عَلَى مَا دُونَ آيَةٍ وَلُزُومُ قِيَاسِيَّتِهَا أَقُولُ وَيَجُوزُ أَيْضًا لِكَوْنِهَا دَلِيلًا عَلَى الْمَسَائِلِ وَالْأَحْكَامِ ثُمَّ جُمْلَةُ الْآيَاتِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا نَظَرُ الْمُصَنِّفِ اثْنَتَا عَشْرَةَ إمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بِحَسَبِ اسْتِقْرَائِهِ أَوْ لِوُضُوحِ دَلَالَتِهِ رَتَّبَهَا عَلَى تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ دُونَ تَرْتِيبِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَقُوَّتِهِ وَلَقَدْ أَعْجَبَ فِي حُسْنِ بِدَايَةِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ مُتَّفِقًا بِبِدَايَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا وَاقْتِدَاءً بِهِ وَتَفَاؤُلًا وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَعَلَا {الم} [البقرة: 1] قِيلَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ فَمُتَشَابِهٌ يُفَوَّضُ عِلْمُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ يَعْلَمُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا وَأَمَّا رَجَاءُ مَعْرِفَةِ الْغَيْرِ فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ فَمُنْقَطِعٌ وَعَلَيْهِ قَوْلُ الصِّدِّيقِ الْأَعْظَمِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوَائِلُ السُّوَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُرُوفُ التَّهَجِّي صَفْوَةُ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فَنُؤْمِنُ بِظَاهِرِهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الشَّعْبِيُّ فَدَعْهَا وَسَلْ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ وَفَائِدَةُ الْإِنْزَالِ اخْتِبَارُ الرَّاسِخِينَ وَالزَّائِغِينَ وَتَمَيُّزُهُمْ أَوْ تَكْثِيرُ أُجُورِهِمْ مِنْ مَشَاقِّهِمْ أَوْ آلَامِهِمْ بِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَى مَعَانِي الْمُتَشَابِهِ وَقِيلَ وَقِيلَ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ هُوَ الْأَصَحُّ وَعَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ الظَّاهِرُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ كُلُّ حَرْفٍ إشَارَةٌ إلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَقِيلَ إنَّهَا صِفَاتُ الْأَفْعَالِ الْأَلِفُ آلَاؤُهُ وَاللَّامُ لُطْفُهُ وَالْمِيمُ مَجْدُهُ وَمُلْكُهُ وَقِيلَ الْأَلِفُ مِنْ لَفْظِ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّامُ مِنْ جَبْرَائِيلَ وَالْمِيمُ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ جَبْرَائِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لِشَرَفِهَا لِكَوْنِهَا أُصُولَ اللُّغَاتِ وَقِيلَ وَقِيلَ لَكِنْ صَحَّحَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ قِيلَ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأَكْثَرِ وَبَعْضُهُمْ كَوْنُهَا تَعْدِيدَ حُرُوفِ التَّهَجِّي لِإِعْلَامِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنْتَظِمٌ مِنْ جِنْسِ مَا يَنْتَظِمُونَ كَلَامَهُمْ وَقَدْ أَعْجَزَهُمْ قِيلَ وَإِلَيْهِ احْتَجَّ أَهْلُ التَّحْقِيقِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا إشَارَةً إلَى الْأَعْمَارِ وَالْآجَالِ وَمُدَّةِ الْفُتُوحِ وَنَحْوِهَا عَلَى حِسَابِ أَبِي جَادٍّ وَإِنْ أُخْرِجَ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَالَ إلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ فَقَدْ رَدَّهُ السُّيُوطِيّ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ وَعَنْ زَجْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - بِكَوْنِهَا سِحْرًا. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْبَاطِلِ عِلْمُ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَالتَّفْصِيلِ فِي التَّفَاسِيرِ وَالْإِتْقَانِ {ذَلِكَ} [البقرة: 2] ذَا اسْمُ إشَارَةٍ وَاللَّامُ لِلْإِشَارَةِ إلَى بُعْدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُوَ الْمُسَمَّى وَالْبُعْدُ مِنْ عُلُوِّ الشَّأْنِ وَأَقْصَى الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ {الْكِتَابُ} [البقرة: 2] أَيْ هَذِهِ السُّوَرُ هُوَ الْكِتَابُ لِكَمَالِهِ فِي الْفَضْلِ فَاللَّامُ عَهْدٌ وَإِنْ جُعِلَ الْمُسَمَّى كُلَّ الْقُرْآنِ فَجِنْسٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْحَقِيقُ بِأَنْ يُخَصَّ بِهِ اسْمُ الْكِتَابِ لِغَايَةِ تَفَوُّقِهِ كَأَنَّ مَا عَدَاهُ خَارِجٌ مِنْ جِنْسِ الْكِتَابِ ثُمَّ إعْرَابُهُ أَنَّ (الم) إنْ كَانَ اسْمًا لِحُرُوفِ التَّهَجِّي فَلَا مَحَلَّ لَهُ مِنْ الْإِعْرَابِ وَقِيلَ لَهُ إعْرَابٌ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلسُّورَةِ مَثَلًا فَلَهُ إعْرَابٌ إمَّا الرَّفْعُ مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ أَوْ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ نَحْو اقْرَأْ أَوْ الْجَرُّ بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّ الْجَلَالَةِ وَذَلِكَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ وَالْكِتَابُ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْأَوَّلِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ أَغْنَى عَنْ الرَّبْطِ وَيَجُوزُ (الم) مُبْتَدَأٌ وَذَلِكَ خَبَرُهُ وَالْكِتَابُ صِفَةٌ لِذَلِكَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَلَوْلَا خَوْفُ الْمَلَالِ لَأَكْمَلَ وُجُوهَ الْإِعْرَابِ {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] خَبَرٌ أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ ل (الم) أَوْ لِذَلِكَ أَوْ حَالٌ لِعَامِلِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَعْنَى لَا يَلِيقُ ارْتِيَابُهُ لِوُضُوحِ بُرْهَانِهِ فَلَا يَضُرُّ ارْتِيَابُ الْمُعَانِدِ وَالْقَاصِرِ وَقِيلَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ {هُدًى} [البقرة: 2] قِيلَ الْأَوْلَى هُنَا دَالٌّ بِلُطْفٍ إلَى مَا يُوصِلُ إلَى الْبُغْيَةِ فَلْنَطْوِ الْكَلَامَ فِي الْمَقَامِ {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] قَدْ عَرَفْت مَعْنَى التَّقْوَى لَكِنْ قِيلَ هُنَا

الِاتِّقَاءُ مِنْ الشِّرْكِ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ شَأْنِهِ الْتِزَامُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ قِيلَ الْمُتَّقُونَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ فَهِدَايَتُهُمْ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ وَأُجِيبَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَا حَصَلَ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَتَخْصِيصُ الْهُدَى بِالْمُتَّقِينَ بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ وَتَسْمِيَةِ الْمَشَارِفِ لِلتَّقْوَى مُتَّقِيًا إيجَازًا وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ وَجْهُ الِاعْتِصَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ إمَّا بِاعْتِبَارِ مَضْمُونِ الْهِدَايَةِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إلَى مَقْصُودِهِ أَعْنِي الْآخِرَةَ الَّتِي عُرِفَ قَدْرُ شَرَفِهَا فِي الدِّيبَاجَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ قَصْرِ الْفَلَاحِ عَلَيْهِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ {وَاعْتَصِمُوا} [آل عمران: 103] أَيْ تَمَسَّكُوا {بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] أَيْ بِكِتَابِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ» . قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ اسْتَعَارَ لَهُ الْحَبْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنْ الرَّدَى كَمَا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْحَبْلِ سَبَبُ السَّلَامَةِ مِنْ التَّرَدِّي وَاسْتَعَارَ لِلْوُثُوقِ بِهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ الِاعْتِصَامُ تَرْشِيحًا لِلْمَجَازِ {جَمِيعًا} [آل عمران: 103] أَيْ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] الْأَنْسَبُ لَا تَبَاعَدُوا عَنْ الْقُرْآنِ وَمِنْهَا فِي الْمَائِدَةِ {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] إسْلَامٌ أَوْ مُحَمَّدٍ {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] أَيْ مُبِينٌ وَمُمَيِّزٌ كُلَّ خَطَأٍ عَنْ صَوَابٍ {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} [المائدة: 16] أَيْ بِالْكِتَابِ وَقِيلَ أَيْ بِالنُّورِ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16] . مَفْعُولَ يَهْدِي {سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16] مَفْعُولَهُ الثَّانِي أَيْ طُرُقَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ بُؤْسٍ وَمِحْنَةٍ فَالْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إلَى تَعَلُّقِ الْمَقَامِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ لَازِمٌ مُوصِلٌ إلَى السَّلَامَةِ وَكُلُّ مَا شَأْنُهُ كَذَا فَالِاعْتِصَامُ لَازِمٌ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْفِعْلِ فَيَلْزَمُ وُجُودُ تَبَعِيَّةِ الرِّضْوَانِ قَبْلَ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْقُرْآنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَهُ وَلَوْ فُرِضَ وُجُودُ تَبَعِيَّةِ الرِّضْوَانِيَّةِ فَهِيَ كَافِيَةٌ فِي السَّلَامَةِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ هُوَ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْقُرْآنِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16] أَيْ مَنْ يُرِيدُ تَبَعِيَّةَ رِضْوَانِهِ فَيَكُونُ حَاصِلُ الْمَعْنَى كُلَّ مَنْ يُرِيدُ تَبَعِيَّةَ الرِّضْوَانِ فَيَتَمَسَّكُ بِالْقُرْآنِ وَكُلُّ مُتَمَسِّكٍ بِهِ فَيَهْدِيهِ إلَى طُرُقِ السَّلَامِ فَافْهَمْ

{وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة: 16] مِنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ الْجَهْلِ إلَى الْعِرْفَانِ أَوْ مِنْ اسْتِحْقَاقِ النِّيرَانِ إلَى دُخُولِ الْجِنَانِ {بِإِذْنِهِ} [المائدة: 16] أَيْ بِإِرَادَتِهِ أَوْ بِتَوْفِيقِهِ {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16] إلَى طَرِيقٍ مُؤَدٍّ إلَى اللَّهِ لَا مَحَالَةَ. قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فَإِنْ قِيلَ الْهِدَايَةُ الْأُولَى مُقَيَّدَةٌ بِتَبَعِيَّةِ الرِّضْوَانِ وَسَبَبِيَّةِ الْقُرْآنِ وَالْهِدَايَةُ الثَّانِيَةُ مُطْلَقَةٌ فَبَيْنَهُمَا نَوْعُ تَنَافٍ وَإِنَّ الثَّانِيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْكِتَابِ فَلَا فَائِدَةَ فِي حَقِّ الِاعْتِصَامِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُكْتَفَى بِالْأُولَى قُلْنَا الْمَعْطُوفُ مُشَارِكٌ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْقَيْدِ قَالَ الْعِصَامُ الْمَعْطُوفُ عَلَى مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ يُشَارِكُهُ فِي الْقَيْدِ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّ الْمُطْلَقَ فِي مِثْلِهِ لَا يَبْعُدَانِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِاتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالْحَادِثَةِ وَيُقِرُّ بِهِ مَا يُقَالُ الْقُرْآنُ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقُرْآنَ فِي الْحُكْمِ وَمِنْهَا آيَةُ الْأَنْعَامِ {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155] يَعْنِي كَثِيرٌ نَفْعُهُ دَائِمٌ خَيْرُهُ جَلِيلٌ قَدْرُهُ {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 155] بِإِتْيَانِ مُوَاجَبِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ {وَاتَّقُوا} [الأنعام: 155] أَيْ اجْتَنِبُوا عَنْ مُخَالَفَتِهِ أَوْ تَحَفَّظُوا بِحُكْمِهِ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] أَيْ رَاجِينَ رَحْمَتَهُ وَقِيلَ لِيَكُنْ الْغَرَضُ بِالتَّقْوَى رَحْمَةَ اللَّهِ وَقِيلَ لِكَيْ تُرْحَمُوا لَكِنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ الْعَرَبِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِمَا فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ أَنَّ مِنْ مَعَانِي لَعَلَّ التَّعْلِيلَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] بَلْ فِي الْإِتْقَانِ عَنْ الْبَغَوِيّ عَنْ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَعَلَّ لِلتَّعْلِيلِ. وَعَنْ ابْنِ مَالِكٍ أَنَّ لَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى كَيْ نَعَمْ الْكَلَامُ بَاقٍ فِي اجْتِمَاعِ اللَّامِ مَعَ كَيْ وَاعْتُذِرَ عَنْهُ بَعْضُ حَوَاشِي الْبَيْضَاوِيِّ لَكِنَّ الْأَصَحَّ التَّرَجِّي لَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَعَالَى بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ وَمِنْهَا آيَةُ يُونُسَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [يونس: 57] الْمُرَادُ قُرَيْشٌ أَوْ الْجِنْسُ وَهُوَ الْأَصَحُّ {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57] أَيْ الْقُرْآنُ وَالْوَعْظُ زَجْرٌ بِتَخْوِيفٍ وَعَنْ الْخَلِيلِ تَذْكِيرُ خَيْرٍ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ أَوْ إنَابَةٌ إلَى إصْلَاحٍ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ كِتَابٌ جَامِعٌ لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ الزَّاجِرَةِ عَنْ الْقَبَائِحِ وَالنَّظَرِيَّةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] مِنْ الشُّكُوكِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ كَالْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ وَالْمَلَكَاتِ الْمُهْلِكَةِ نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ فِي وَجْهِ ذِكْرِ الصَّدْرِ أَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَلْبِ وَغِلَافُهُ وَأَعَزُّ مَوْضِعٍ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] لِأَنَّهُمْ فَازُوا بِكُلِّ خَيْرٍ وَنَجَوْا مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ بِسَبَبِ التَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ فَحَاصِلُ الْآيَةِ الْمُعْتَصِمُ بِالْقُرْآنِ يَتَحَفَّظُ عَنْ كُلِّ مَا يُوجِبُ الْبُؤْسَ وَيَتَوَصَّلُ إلَى كُلِّ نِعْمَةٍ وَثَوَابٍ وَرَحْمَةٍ وَمِنْهَا آيَةُ النَّحْلِ. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] يُقَالُ التِّبْيَانُ مُبَالَغَةٌ مَصْدَرٌ لَعَلَّ لِهَذَا فَسَّرَ الْبَيْضَاوِيُّ بَيَانًا بَلِيغًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ عَلَى التَّفْصِيلِ أَوْ الْإِجْمَالِ بِالْإِحَالَةِ عَلَى السُّنَّةِ أَوْ الْقِيَاسِ انْتَهَى لَعَلَّ الْأَوْلَى أَوْ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُخَصِّصٍ مُعْتَبَرٍ فِي قَوْلِهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ إذْ التَّخْصِيصُ خِلَافُ الْأَصْلِ بَلْ هُنَا خِلَافُ الْوَاقِعِ إذْ الْقُرْآنُ لَا يَقْتَصِرُ بَيَانُهُ عَلَى الدِّينِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ قَوْله تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] . فَإِنْ قِيلَ كَوْنُ الْبَيَانِ بَلِيغًا يُوجِبُ التَّفْصِيلَ فِي الْكُلِّ فَقَوْلُهُ أَوْ الْإِجْمَالِ لَا يُلَائِمُهُ قُلْنَا لَعَلَّ الْأَبْلَغِيَّةَ أَعَمُّ مِنْ التَّفْصِيلِ وَالتَّكْثِيرِ وَإِلَّا فَيَشْكُلُ كَوْنُهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ إذْ بَعْضُ الشَّيْءِ مُبِينٌ بِغَيْرِ الْكِتَابِ كَبَاقِي الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ هَذَا أَقُولُ لِدَوَاعِي رُجُوعِ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ إلَى الْكِتَابِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مُفَسَّرًا وَكَاشِفًا كَالْقِيَاسِ عِنْدَ الْكُلِّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ أَمْثَالِ النُّصُوصِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكْثُرُ مِنْ بَعْدِي الْأَحَادِيثُ الْحَدِيثُ {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى} [النحل: 89] بِالْجَنَّةِ {لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] فَقَطْ

فَإِنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لَا يُهْتَدَى بِهِدَايَتِهِ وَلَوْ فُرِضَ الْعَمَلُ بِأَحْكَامِهِ بِلَا إيمَانٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَوْ عِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالْفُرُوعِ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهُ هَادِيًا وَرَحْمَةً إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَاسْتَمْسَكَ بِمَضْمُونِهِ فَمَنْ يَعْتَصِمُ بِهِ فَلَهُ رَحْمَةٌ وَبُشْرَى وَمِنْهَا آيَةُ الْإِسْرَاءِ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] أَيْ يَهْدِي إلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَصْوَبُ مِنْ نَحْوِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى مَا فَسَّرُوا بِهِ لَكِنْ يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ مَثَلًا لَوْ أُخِذَ مِنْ الشَّرْعِ لَزِمَ الدَّوْرُ الْمَشْهُورُ إذْ الشَّرْعُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعَقْلِ وَأَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَسَائِلُ الِاعْتِقَادِيَّةُ بَعْدَ ثُبُوتِهَا بِالْعَقْلِ لَا بُدَّ مِنْ تَطْبِيقِهَا بِالشَّرْعِ وَإِلَّا لَا تَكُونُ مُعْتَدًّا بِهَا شَرْعًا وَمِنْهَا آيَةُ الْإِسْرَاءِ أَيْضًا {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] أَيْ كُلُّ الْقُرْآنِ شِفَاءٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ كُلَّهُ شِفَاءٌ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ وَمَرَضِ الشَّكِّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ فَقِيلَ فَيُتَبَرَّكُ بِهِ لِدَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْمَكَارِهِ. وَأُيِّدَ بِحَدِيثٍ ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ «مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلَا شَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَقِيلَ شِفَاءٌ لِلْأَمْرَاضِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَمْرَاضِ الْحِسِّيَّةِ لِأَنَّهُ يُدْفَعُ بِقُرْآنِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ وَمِنْ هُنَا قِيلَ لَفْظَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى مَعْنَى بَعْضِ الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِلْمَرَضِ كَالْفَاتِحَةِ وَآيَاتِ الشِّفَاءِ {وَرَحْمَةٌ} [الإسراء: 82] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ {لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] إذْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُ عَذَابًا وَعُقُوبَةً لِعَدَمِ اعْتِصَامِهِمْ بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ أَيْ ثَوَابٌ لَا يَنْقَطِعُ بِتِلَاوَتِهِ {وَلا يَزِيدُ} [الإسراء: 82] الْقُرْآنُ {الظَّالِمِينَ} [الإسراء: 82] الْغَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ {إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82] يَعْنِي يَزِيدُهُمْ خُسْرَانًا لِأَنَّهُ كُلَّمَا تَجَدَّدَ نُزُولُ الْقُرْآنِ أَوْ تَبْلِيغُهُ يَتَجَدَّدُ إنْكَارُهُمْ فَبِتَجَدُّدِ إنْكَارِهِمْ يَتَجَدَّدُ خُسْرَانُهُمْ وَمِنْهَا آيَةُ الْعَنْكَبُوتِ {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} [العنكبوت: 51] يَعْنِي أَيَطْلُبُونَ آيَةً عَلَى صِدْقِك وَلَمْ يَكْفِهِمْ قِيلَ عَنْ الْخَازِنِ هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ قَبْلَهُ {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 27]- {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] يَعْنِي الْقُرْآنَ مُعْجِزَةً كَافِيَةً فِي صِدْقِك عَلَى وَجْهٍ بَيِّنٍ لِدَوَامِهِ أَبَدًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْآيَاتِ أَوْ بِخِلَافِ آيَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت: 51] أَيْ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ آيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ {لَرَحْمَةً} [العنكبوت: 51] عَظِيمَةٌ {وَذِكْرَى} [العنكبوت: 51] تَذْكِرَةٌ {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] لِمَنْ هَمُّهُ الْإِيمَانُ لَا التَّعَنُّتُ فَالْقُرْآنُ كَافٍ لِكُلِّ مَصَالِحَ فَالْعَمَلُ بِمَضْمُونِهِ وَالتَّمَسُّكُ بِمُوجِبِهِ فِي الْوَقَائِعِ وَالْأَحْوَالِ مُوجِبٌ لِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ الْجَنَّةِ وَالرُّؤْيَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ. وَمِنْهَا فِي ص {كِتَابٌ} [ص: 29] أَيْ هَذَا كِتَابٌ {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29] خَيْرٌ كَثِيرٌ وَنَفْعٌ جَلِيلٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْقُرْآنِ بَعْضُهَا مُفَسِّرٌ لِلْبَعْضِ وَأَنَّ الْمُطْلَقَ فِي مِثْلِهِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَقَدْ عَرَفْت الْقَيْدَ فِي الْآيَاتِ وَإِلَّا يَلْزَمَ التَّعَارُضُ مَعَ أَنَّ مَضْمُونَهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِمُوَافِقٍ لِلْوَاقِعِ {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] يَتَفَكَّرُوا آيَاتِهِ الْعَجِيبَةَ وَأَسْرَارَهُ الْغَرِيبَةَ اللَّطِيفَةَ وَقِيلَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29] ذَوُو الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ التَّدَبُّرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ بِمَعْنَى لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ لَا يُدْرَكُ وَالتَّذَكُّرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يُمْكِنُ تَوَصُّلُهُ بِالْعَقْلِ كَذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَأَنْ يُجْعَلَ الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى جِنْسِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَالثَّانِي إلَى الْقِيَاسِ. وَمِنْهَا فِي الزُّمَرِ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]

أَيْ الْقُرْآنَ وَجْهُ الْأَحْسَنِيَّةِ إمَّا لِكَوْنِ نَظْمِهِ مُعْجِزًا وَإِمَّا لِكَوْنِ مَعْنَاهُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَخْبَارِ الْغُيُوبِ وَالْمَاضِينَ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَحْوَالِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] بَدَلٌ مِنْ أَحْسَنَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ أَيْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْإِعْجَازِ وَالصِّحَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَفِي تَصْدِيقِ بَعْضِهِ بَعْضًا آخَرَ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ وَقِيلَ يُشْبِهُ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ يُرَى اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ نَحْوُ {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]- فَالْأُولَى تُفْهِمُ إمْكَانِ الْعَدَالَةِ وَالثَّانِيَةُ تَنْفِيهِ. وَنَحْوُ - {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] مَعَ قَوْله تَعَالَى {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35]- لِأَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ وَنَحْوُ - {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2]- وَغَيْرِهَا وَنَحْوِ اخْتِلَافُ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ وَمَقَادِيرِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَنَحْوِهَا مِنْ وُجُوهِ الْقُرْآنِ الَّتِي يُرْوَى فِيهَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى أَيْضًا - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]- وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذُكِرَ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ قُلْنَا لَا اخْتِلَافَ فِيمَا ذُكِرَ أَصْلًا فَإِنَّ التَّسَاؤُلَ فِي مَوْطِنٍ وَعَدَمِهِ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ مِنْ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ التَّعْدِيلَ فِي تَوْفِيَةِ حُقُوقِ النِّسَاءِ وَعَدَمِهِ فِي الْمَيْلِ الْعَقْلِيِّ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ وَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالْوَجَلِ عِنْدَ خَوْفِ ذَهَابِ الْهُدَى وَالزَّيْغِ وَإِنَّ النَّاسَ سُكَارَى مِنْ الْأَهْوَالِ مَجَازًا وَلَيْسُوا بِسُكَارَى مِنْ الشَّرَابِ حَقِيقَةً. وَقَالَ فِي الْإِتْقَانِ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ الْمَنْفِيُّ عَنْ الْقُرْآنِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الدَّاعِي إلَى التَّنَاقُضِ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ التَّلَاؤُمِ الَّذِي هُوَ تَوَافُقُ الْجَانِبَيْنِ نَحْوُ اخْتِلَافِ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ مَنْفِيٍّ مِنْ الْقُرْآنِ وَبِالْجُمْلَةِ الْمَنْفِيُّ اخْتِلَافٌ بِالذَّاتِ كَالْفَصَاحَةِ وَعَدَمِهَا وَالدَّعْوَةِ إلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالشِّعْرِ وَعَدَمِهِ نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ {مَثَانِيَ} [الزمر: 23] جَمْعُ مَثْنَى أَوْ مُثَنَّى صِفَةُ مُتَشَابِهًا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَنَحْوِهَا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَثَانِي مِنْ التَّثْنِيَةِ أَوْ الثَّنَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُكَرَّرُ قِرَاءَتِهِ وَأَلْفَاظِهِ وَقَصَصِهِ وَمَوَاعِظِهِ أَوْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ أَوْ يُثْنَى فِي التِّلَاوَةِ فَلَا يَمَلُّ أَوْ يَشْمَلُ الْمُزْدَوِجَاتِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَذِكْرِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} [الزمر: 23] وَصْفٌ ثَالِثٌ لِلْكِتَابِ أَيْ تَضْطَرِبُ وَتَرْتَعِدُ {جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] خَوْفًا مِنْ الْعَذَابِ وَتَعْظِيمًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الْخَازِنِ الْمُرَادُ مِنْ الْجُلُودِ الْقُلُوبُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُوَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ وَقِيلَ إنَّ ذِكْرَ الْخَشْيَةِ أَغْنَى عَنْ الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا شَأْنُهَا وَقَرَنَهَا فِي {ثُمَّ تَلِينُ} [الزمر: 23] تَطْمَئِنُّ وَتَسْكُنُ {جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] لِزَوَالِ الْخَشْيَةِ وَمَجِيءِ الرَّجَاءِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ بِالرَّحْمَةِ وَعُمُومِ الْمَغْفِرَةِ وَالْإِطْلَاقِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ أَصْلَ أَمْرِهِ الرَّحْمَةُ وَإِنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ عَلَى غَضَبِهِ وَالتَّعَدِّيَةُ بِإِلَى لِتَضْمِينِ مَعْنَى السُّكُونِ وَالِاطْمِئْنَانِ وَذِكْرِ الْقَلْبِ لِتَقَدُّمِ الْخَشْيَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَوَارِضِهِ وَعَنْ الْخَازِنِ أَيْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ تَقْشَعِرُّ عِنْدَ الْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ جُلُودُ الْخَائِفِينَ وَتَلِينُ عِنْدَ الْوَعْدِ وَالرَّحْمَةِ وَقِيلَ تَقْشَعِرُّ عِنْدَ الْخَوْفِ وَتَلِينُ عِنْدَ الرَّجَاءِ وَعَنْ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ مِنْ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا وَفِي رِوَايَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ. وَقِيلَ السَّائِرُونَ فِي جَلَالِ اللَّهِ إذَا نَظَرُوا إلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا وَإِذَا لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا أَوْ تَقْشَعِرُّ جُلُودُ السَّالِكِينَ عِنْدَ الْقَبْضِ وَتَلِينُ عِنْدَ الْبَسْطِ {ذَلِكَ} [الزمر: 23] أَيْ الْكِتَابُ {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 23] شَرَحَ صَدْرَهُ لِقَبُولِ الْهِدَايَةِ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [الزمر: 23] بِأَنْ يَخْذُلَهُ بِخَلْقِ الضَّلَالَةِ

{فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] يُخْرِجُهُ مِنْ الضَّلَالَةِ فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مَجْبُورًا فِي الضَّلَالَةِ قُلْت قَدْ عَرَفْت أَنَّ عَادَتَهُ تَعَالَى فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَشْرُوطَةٌ بِصَرْفِ الْعَبْدِ قُدْرَتَهُ الَّتِي يَسْتَوِي تَعَلُّقُهَا بِالْجَانِبَيْنِ فَإِنْ قِيلَ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْسُنُ قَوْله تَعَالَى فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَهْدِيَ الشَّخْصُ نَفْسَهُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِأَنْ يَصْرِفَ قُدْرَتَهُ إلَى جَانِبِ الْهِدَايَةِ قُلْنَا إنَّ خَالِقَ الْهِدَايَةِ بَعْدَ هَذَا الصَّرْفِ لَيْسَ غَيْرَهُ تَعَالَى لَا يُقَالُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيْضًا دَاخِلٌ فِي عُمُومِ النَّفْيِ لِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ تَعَالَى كَمَا فِي نَحْوِ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَتَأَمَّلْ. وَمِنْهَا فِي فُصِّلَتْ {وَإِنَّهُ} [فصلت: 41] أَيْ الذِّكْرَ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْآنُ {لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] قَوِيٌّ {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْبَاطِلِ الشَّيْطَانُ وَقِيلَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النُّقْصَانِ وَمِنْ خَلْفِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّيَادَةِ وَقِيلَ لَا يَأْتِيهِ تَكْذِيبُ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَلَا يَجِيءُ بَعْدَهُ نَاسِخٌ وَقِيلَ لَا يَبْطُلُ فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ وَآخِرِهِ {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} [فصلت: 42] أَيْ مَانِعٌ مُعَانِدِيهِ أَنْ يُبَدِّلُوهُ بِأَحْكَامِ مَبَانِيهِ {حَمِيدٍ} [فصلت: 42] مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ بِإِلْهَامِ مَعَانِيهِ أَوْ بِسَبَبِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ يَحْمَدُهُ كُلُّ خَلْقٍ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ ثُمَّ هَذِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً تَدُلُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْثِيرِ الْآيَاتِ وَقَدْ كَفَى وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَإِنْ أُرِيدَ دَلَالَةُ الْمَجْمُوعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا وَاحِدًا لَزِمَ عَدَمُ دَلَالَةِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَطْلُوبِ قَطْعًا وَأَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَطْعُ مِنْ اجْتِمَاعِ الظُّنُونِ وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَنَا قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ إذْ لَا يَكُونُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَعْرِفَتِهِ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ وَإِنَّ الْمَذْهَبَ تَفَاوُتُ الْمَرَاتِبِ فِي الْيَقِينِيَّاتِ كَمَا فِي الظَّنِّيَّاتِ خِلَافًا لِبَعْضٍ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضٌ مِنَّا عَلَى حُصُولِ الْقَطْعِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الظُّنُونِ وَيَجُوزُ كَوْنُ دَلَالَةِ بَعْضِ آيَاتٍ ظَنِّيَّةٍ لِخَفَاءٍ فِي نَفْسِهَا وَإِنْ قَطْعِيَّةً فِي ثُبُوتِهَا وَإِلَّا فَيَلْزَمُ وُرُودُ الْإِشْكَالِ عَلَى الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكُلِّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ وَهُوَ الِاعْتِصَامُ فَمَا فَائِدَةُ هَذِهِ التَّكْرَارَاتِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَوَاضِعُ مُخْتَلِفَةً وَقَدْ عُدَّ تِلْكَ التَّكْرَارَاتُ مِنْ التَّكْرِيرِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِطْنَابِ لِفَوَائِد كَالتَّقْرِيرِ وَمِنْهُ قِيلَ الْكَلَامُ إذَا تَكَرَّرَ تَقَرَّرَ كَالتَّأْكِيدِ وَكَزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى نَفْيِ التُّهْمَةِ لِتَكْمِيلِ قَبُولِ الْكَلَامِ وَكَالتَّعْظِيمِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَكَتَعَدُّدِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَنْ يَكُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَعْضُ غَيْرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْآخَرُ وَهَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ بِالتَّرْدِيدِ كَمُكَرَّرَاتِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْإِتْقَانِ فَافْهَمْ بَقِيَ أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ عَلَى اعْتِصَامِ الْكِتَابِ شَائِبَةَ دَوْرٍ فَعَلَيْك دَفْعُهُ ثُمَّ لَمَّا كَانَ أَدِلَّةُ اعْتِصَامِ الْكِتَابِ نَوْعَيْنِ كِتَابًا وَسُنَّةً وَقَدَّمَ الْكِتَابَ لِأَصَالَتِهِ وَقَطْعِيَّتِهِ ثُبُوتًا وَفَرَغَ مِنْهُ أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي الثَّانِي فَقَالَ (الْأَخْبَارُ) أَيْ النَّبَوِيَّةُ الْخَبَرُ مُرَادِفٌ لِلْحَدِيثِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَقِيلَ الْحَدِيثُ مَا جَاءَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَبَرُ مَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ وَقِيلَ كُلُّ حَدِيثٍ خَبَرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ كَمَا فِي النُّخْبَةِ وَمَا فِي الْأَلْفِيَّةِ الْخَبَرُ هُوَ الْأَثَرُ مُطْلَقًا مَرْفُوعًا أَوْ مَوْقُوفًا أَوْ مَقْطُوعًا فَيُنَاسِبُ الْأَوَّلَ وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَطْلَبِ سَبْعَةَ أَحَادِيثَ الْأَوَّلُ (طك) يَعْنِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادِهِ (عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْخُزَاعِيِّ اسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ عُمَرَ وَعَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَقِيلَ اسْمُهُ كَعْبٌ (أَنَّهُ قَالَ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» عَنْ الْمَشَارِقِ هَذِهِ الْحِكَايَةُ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حِينَ صُدُورِ الْحَدِيثِ عَنْهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْحُدُوثِ لِكَوْنِهِ كَالتَّرْجَمَةِ لَهُ أَقُولُ لَا يَخْفَى عَدَمُ مَدْخَلِيَّتِهِ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى بَلْ الظَّاهِرُ

فِي الْوَجْهِ الْإِشَارَةُ إلَى كَمَالِ تَدَبُّرِ الرَّاوِي وَرَوَيْته فِيمَا رَوَاهُ وَفِيهِ تَأْكِيدُ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِتَكْرِيرِهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَنَى بِهَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِهِ لَعَلَّ مِثْلَهُ حَسَنٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ لِجِنْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَوَائِدِ «فَقَالَ أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» تَحْقِيقُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ إعْرَابًا وَبَيَانًا وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَوْحِيدًا وَفَضْلًا مُحْتَاجٌ إلَى زِيَادَةِ بَسْطٍ حَرَّرْنَاهُ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَالشَّهَادَةُ الْإِخْبَارُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ يَعْنِي بِعِلْمٍ وَيَقِينٍ وَأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا مُقَدَّرٌ وُجُوبًا وَالِاسْتِفْهَامُ إمَّا إنْكَارٌ حَاصِلُهُ تَأْكِيدٌ لِلتَّقْرِيرِ لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إثْبَاتٌ أَوْ تَقْرِيرٌ وَتَثْبِيتٌ وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظُ بَلَى الْمَوْضُوعُ لِإِبْطَالِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] الْمُجَابُ بِبَلَى أَيْ بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا بِخِلَافِ نَعَمْ لِأَنَّهُ لِتَصْدِيقِ الْخَبَرِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ. وَلِهَذَا قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَوْ قَالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا «قَالُوا بَلَى» أَيْ نَشْهَدُ ذَلِكَ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ حُذِفَ اكْتِفَاءً بِلَفْظِ الْجَوَابِ عَنْهُ وَفَائِدَةُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِشَهَادَتِهِمْ لِلْإِشَارَةِ مَعَ مَزِيدِ اهْتِمَامِ مَا يَذْكُرُ وَزِيَادَةِ تَأْكِيدِهِ وَلُزُومِهِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ عِرْفَانُ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ اللَّهِ وَعَدَمِ ضَلَالَةِ مُتَمَسِّكِيهِ. وَمُقْتَضَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ هُوَ تَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ مَا يَذْكُرُهُ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ كَالدَّلِيلِ لِإِمْكَانِهِ وَالثَّانِي لِوُقُوعِهِ يَظْهَرُ بِالتَّدَبُّرِ أَوْ يَقُولُ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ وَبِي فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إلَخْ وَإِنْ آمَنْتُمْ بِرِسَالَتِي فَلَا بُدَّ أَنْ أُخْبِرَ كُمْ مَا هُوَ مِنْ دَوَاعِي الرِّسَالَةِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ، وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ فِي تَقْدِيمِ هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا يُخْبِرُ بِهِ شَيْءٌ شَرِيفُ وَأَمْرٌ مُهِمٌّ يَجِبُ اعْتِنَاؤُهُ لِصُدُورِهِ عَنْ دَوَاعِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ «قَالَ إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ» كَوْنُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ اسْمَ إشَارَةٍ لِتَعْظِيمِهِ وَالْمُنَاسِبُ هُوَ الْكَلَامُ اللَّفْظِيُّ الَّذِي يَبْحَثُ عَنْهُ الْأُصُولُ لَا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الَّذِي يُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ إذْ مَدَارُ اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ هُوَ الْأَوَّلُ أَحَدُ «طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ» الْيَدُ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي كَانَ الْأَسْلَمُ فِيهَا تَفْوِيضَ عِلْمِهَا إلَيْهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ دَأْبُ السَّلَفِ وَكَانَ الْأَحْكَمُ فِيهَا التَّأْوِيلَاتُ الصَّحِيحَةُ دَفْعًا لِمَطَاعِنِ الْجَاهِلِينَ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ الدَّوَانِيُّ فِي الْفَوَائِدِ أَمَّا الصِّفَاتُ الَّتِي تَفَرَّدَ بِإِثْبَاتِهَا الْأَشْعَرِيُّ فَإِحْدَى عَشْرَةَ الْبَقَاءُ وَالْقِدَمُ وَالِاسْتِوَاءُ وَالْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالْعَيْنُ وَالْجَنْبُ وَالرِّجْلُ وَالْيَمِينُ وَالْإِصْبَعُ وَالتَّكْوِينُ وَلَكِنَّ كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا يُوَافِقُهُ لِأَنَّهُ قَالَ يَدُهُ صِفَتُهُ بِلَا كَيْفٍ فَتَأْوِيلُهُ بِنَحْوِ الْقُدْرَةِ وَالنِّعْمَةِ إبْطَالُ الصِّفَةِ. كَذَا فِيمَا نُقِلَ عَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَدُفِعَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ، وَتَأْوِيلُ الْيَدِ عَلَى مَسْلَكِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى مَا فِي الْبَحْرِ إمَّا بِالْمُلْكِ كَمَا فِي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] أَوْ بِالْمِنَّةِ {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] . وَأَيْضًا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَقَعَ تَأْوِيلُ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ لَكِنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ وَالْبَحْرَ صَرَّحَا بِرَدِّهِ فَافْهَمْ «وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ» بِالْعَمَلِ

بِمَضْمُونِهِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى أَحْكَامِهِ وَالْإِتْعَابِ وَالتَّكَلُّفِ فِي اسْتِحْصَالِ مُوَاجَبِهِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى عِلَّتِهِ أَوْ فَائِدَتِهِ لِزِيَادَةِ اهْتِمَامِهِ وَكَمَالِ قُوَّةِ إحْكَامِ أَحْكَامِهِ فَقَالَ «فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلَكُوا» يَعْنِي إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَمْ تَكُونُوا فِي خَطَأٍ وَحِيرَةٍ فِي الدُّنْيَا وَلَنْ تَكُونُوا فِي عُقُوبَةٍ وَحَسْرَةٍ فِي الْآخِرَةِ بَلْ تَكُونُوا فِي تَوْفِيقٍ وَهِدَايَةٍ وَثَوَابٍ وَنِعْمَةٍ، وَجْهُ التَّأْكِيدَيْنِ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي أَمْرِ التَّمَسُّكِ «بَعْدَهُ» أَيْ بَعْدَ التَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَافٍ فِي الْوُصُولِ إلَى كُلِّ الْمَآرِبِ وَالْخَلَاصِ عَنْ كُلِّ الْمَهَالِكِ «أَبَدًا» فِي أَزْمِنَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ أَوْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَامِعٌ مَجَامِعَ أَحْكَامِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ. قِيلَ وَفِي ذِكْرِ الْيَدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُشَاكَلَةُ نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]- وَلَمْ يَقُلْ فَجَازُوهُ لَكِنْ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا جَازَتْ الْمُشَاكَلَةُ مِنْ الْأَوَّلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّانِي وَالظَّاهِرُ فِي مَوَاقِعِ أَمْثِلَتِهِمْ مِنْ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ نَعَمْ عُدَّ فِي الْإِتْقَانِ قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} [الجاثية: 34]- مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُشَاكَلَةِ وَأَنَّ ظَاهِرَ مَفْهُومِ الْمُشَاكَلَةِ مِنْ ذِكْرِ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ هُوَ الْإِطْلَاقُ ثُمَّ الْأَحْسَنُ أَنَّ هُنَا اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً تَشْبِيهَ هَيْئَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِالْأُخْرَى كَذَلِكَ وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ بَلْ كُلِّهَا مَجَازًا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُشَبَّهَ الْقُرْآنُ بِالْحَبْلِ الْمَمْدُودِ مِنْهُ تَعَالَى إلَى الْعِبَادِ، اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَذِكْرُ الطَّرَفِ لَهُ اسْتِعَارَةٌ تَخَيُّلِيَّةٌ قَرِينَةٌ لِلْمَكْنِيَّةِ حَاصِلُهُ أَنَّ مَقْصُودَ الْكُلِّ هُوَ الْوَصْلَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْخَلْقُ فِي طَرِيقِهِ كَالْعُمْيَانِ فَإِنْ أَخَذُوا وَتَمَسَّكُوا بِالْحَبْلِ يَصِلُوا إلَيْهِ وَإِنْ تَرَكُوا ضَلُّوا عَنْ طَرِيقِهِ وَسَقَطُوا فِي مَهَاوِي الْمَهَالِكِ فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ بِالْكِتَابِ قُلْنَا قَالُوا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَانِ إلَى الْكِتَابِ كَمَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فَاعْلَمْهُ ثُمَّ إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَشَارَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ التَّمَسُّكُ وَالرَّبْطُ بِحَسَبِ تِلَاوَتِهِ. الْحَدِيثُ الثَّانِي (حب) . رَوَى ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادِهِ (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) هُوَ ابْنُ مَسْعُود وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَاتَ فِي الْكُوفَةِ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْقُرْآنُ شَافِعٌ» لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَرَافِعُ الدَّرَجَاتِ وَالتَّخْصِيصُ بِمُذْنِبٍ بِلَا تَوْبَةٍ تَقْصِيرٌ. «مُشَفَّعٌ» مَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ فَإِنْ قِيلَ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْقُرْآنِ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ فَهُوَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى وَلَيْسَ أَمْرًا مُغَايِرًا لَهُ وَكَوْنُهُ شَافِعًا إلَيْهِ تَعَالَى يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُغَايِرًا لَهُ تَعَالَى وَإِنْ أُرِيدَ الْكَلَامُ اللَّفْظِيُّ فَهُوَ كَالْعَرَضِ فِي عَدَمِ الْبَقَاءِ وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا يُمْكِنُ انْقِلَابُهُ جَوْهَرًا لِامْتِنَاعِ انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ قُلْنَا أُجِيبَ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الْقُرْآنَ عَلَى صُورَةٍ يَرَاهُ النَّاسُ كَالْأَعْمَالِ عِنْدَ الْمِيزَانِ، ثُمَّ قِيلَ فَلْيَعْتَقِدْ بِإِيمَانِهِ لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ أَقُولُ أَوَّلُ كَلَامِهِ صَرِيحٌ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وَآخِرُهُ فِي امْتِنَاعِهِ وَظَاهِرُهُ يُشْعِرُ فِي كَوْنِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْمُتَشَابِهُ عِنْدَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لَا يَثْبُتُ بِالْآحَادِ إلَّا أَنْ يُمْنَعَ كَوْنُهُ مِنْ الْآحَادِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ هُوَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَفْظًا لَكِنْ لَا يَبْعُدُ تَوَاتُرُهُ مَعْنًى وَلَوْ سَلِمَ فَلَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهِ مَشْهُورَ الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ الْأَعْمَالِ لَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّهُ تَنْظِيرٌ وَتَمْثِيلٌ لِقَبُولِ الْعَمَلِ وَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِنْ الْعَرَضِ جَوْهَرًا بِقَلْبِهِ إلَيْهِ لِتَجَانُسِهِمَا فِي أَصْلِ الْإِمْكَانِ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ جِنْسِهِمَا فَامْتِنَاعُ الِانْقِلَابِ إنْ أُرِيدَ الِانْقِلَابُ الذَّاتِيُّ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَإِنْ بِالْغَيْرِ فَلَيْسَ بِمُضِرٍّ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ثَوَابِهِ شَخْصًا آخَرَ وَيَشْفَعُ وَيَكُونُ الْإِسْنَادُ مَجَازِيًّا لِكَوْنِ قَبُولِ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِخِلْقَتِهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَظِيرُهُ مِثْلُ شَفَاعَةِ سُورَةِ الْمُلْكِ وَآلَم السَّجْدَةِ وَالْبَقَرَةِ وَرَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَسَائِرِ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ وَنَحْوِهَا «وَمَاحِلٌ»

عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ أَيْ سَاعٍ بَلِيغٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ وَيُقَرُّ بِهِ مَا قِيلَ أَيْ خَصْمٌ مُجَادِلٌ. وَعَنْ الْقَامُوسِ مَحَلٌّ بِهِ مُثَلَّثَةُ الْحَاءِ قَادَهُ بِسِعَايَةٍ إلَى السُّلْطَانِ «مُصَدَّقٌ» بِالْبِنَاءِ عَلَى الْمَجْهُولِ يَعْنِي يُصَدِّقُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فِي مُخَاصَمَتِهِ فِي شَفَاعَتِهِ لِقَارِئِهِ وَعَامِلِهِ وَأَيْضًا مُصَدَّقٌ فِي شِكَايَتِهِ لِمَنْ يُضَيِّعُ حَقَّهُ بِعَدَمِ الْعَمَلِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ التَّرْتِيلِ فَيُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ بِالْعَفْوِ أَوْ الرِّفْعَةِ. وَكَذَا شِكَايَتُهُ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الزَّاهِدِيِّ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِالتَّقْصِيرِ فَهُوَ فِي النَّارِ «مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ» بِأَنْ يُقْتَدَى بِهِ بِأَنْ يَعْمَلَ بِأَحْكَامِهِ وَيَتَّعِظَ بِمَوَاعِظِهِ وَيَعْتَبِرَ بِقَصَصِهِ وَأَخْبَارِهِ «قَادَهُ» مِنْ الْقَوْدِ أَيْ أَوْصَلَهُ «إلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ سَاقَهُ إلَى النَّارِ» بِأَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ خَلْفَهُ لِأَنَّهُ الْقَانُونُ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ أَمَامَهُ فَقَدْ بَنَى عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ لَا يَخْفَى مِنْ الْحُسْنِ مَا فِي اسْتِعْمَالِ الْقَوْدِ فِي الْأَوَّلِ وَالسَّوْقِ فِي الثَّانِي لِأَنَّ فِي الْقَوْدِ رِفْقًا وَتَلْطِيفًا وَفِي السَّوْقِ زَجْرًا وَتَشْدِيدًا ثُمَّ الْقَوْدُ يُنَاسِبُ الشَّفَاعَةَ فَمَنْ قُبِلَ فِي حَقِّهِ شَفَاعَتُهُ يَقُودُهُ إلَى الْجَنَّةِ وَالسَّوْقِ إلَى الْخُصُومَةِ فَمَنْ قُبِلَ فِي حَقِّهِ شِكَايَتُهُ يَسُوقُهُ إلَى النَّارِ فَجُمْلَتَا مَنْ جَعَلَهُ اسْتِئْنَافٌ أَوْ تَعْلِيلٌ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَا بَيَانِيَّتَيْنِ فَشَفَاعَتُهُ كِنَايَةٌ عَنْ قَوْدِهِ وَشِكَايَتُهُ كِنَايَةٌ عَنْ سَوْقِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَلِفَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ أَوْ إحْدَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّالِي وَالْأُخْرَى إلَى الْعَامِلِ وَعَدَمِهِمَا (دحك) . رَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادِهِمَا (عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ» مِنْ الْأَحْكَامِ وَالِاتِّعَاظِ وَالِاعْتِبَارِ فَالْأَجْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالْعَمَلِ فَمَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ أَخْذُهُ مِنْ تِلَاوَتِهِ فَلَا يُؤْجَرُ بِهَذَا الْأَجْرِ وَإِنْ أُوجِرَ بِمُطْلَقِ الْأَجْرِ كَمَنْ قَرَأَ بِلَا عَمَلٍ مُطْلَقًا فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْأَجْرِ بِالْعَالِمِ بِمَعْنَاهُ بَلْ بِالْمُجْتَهِدِ إذْ لَا يَعْرِفُ مَعَانِي جَمِيعِهِ إلَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يُؤْجَرُ غَيْرُ الْعَالِمِ أَوْ الْعَالِمُ الْغَيْرُ الْمُجْتَهِدِ قُلْت لَعَلَّ الْمَقْصُودَ مُطْلَقُ الْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ لِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يُشْتَرَطُ أَخْذُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ لَا يَبْعُدُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْحُكْمِ بِالْعُلَمَاءِ وَلَا يُنَافِي مَأْجُورِيَّةَ الْغَيْرِ بِمُطْلَقِهِ كَمَا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «رَكْعَتَانِ مِنْ عَالِمٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً مِنْ غَيْرِ عَالِمٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ «رَكْعَةٌ مِنْ عَالِمٍ بِاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ مِنْ مُتَجَاهِلٍ بِاَللَّهِ» مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي فَضْلِ صَلَاةِ غَيْرِ الْعَالِمِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ إمَّا لِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ وَإِمَّا لِلِاطِّلَاعِ بِمَضْمُونِهِ وَالْعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ وَلَا شُبْهَةَ فِي مَزِيَّةِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ «أُلْبِسَ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مِنْ الْإِلْبَاسِ بِمَعْنَى الْإِكْسَاءِ «وَالِدَاهُ تَاجًا» ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ سَوَاءً كَانَ لَهُمَا دَخْلٌ فِي تَعْلِيمِهِ الْقُرْآنَ وَتَرْبِيَتِهِ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ لَا. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى انْتِفَاعِ الْوَالِدِ بِعِبَادَةِ الْمَوْلُودِ سَوَاءً دَعَا لَهُ أَوْ وَهَبَ ثَوَابَ عَمَلِهِ أَوْ لَا وَإِنْ كَانَ فِي الدُّعَاءِ وَالْهِبَةِ مَزِيَّةٌ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِي الْجَنَّةِ أَوْ قَبْلَهَا الظَّاهِرُ عَدَمُ عُمُومِهِ لِلْجَدِّ وَالْجَدَّةِ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَا لَهُ «ضَوْءُهُ» أَيْ التَّاجِ «أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا» الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ لِضِيَاءِ الشَّمْسِ لَعَلَّهُ يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ كَمَالِ الْحُسْنِ وَالْبَهْجَةِ بِحَيْثُ يَظْهَرُ مَا فِي الْبَيْتِ وَيُرَى مِنْ لَطَافَتِهِ كَالشَّمْسِ فَبِهِ يُعْلَمُ وَجْهُ التَّقْيِيدِ بِبَيْتِ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَضْلُ لِوَالِدَيْهِ تَكْرِمَةً لِلْوَلَدِ وَلِكَوْنِهِمَا سَبَبًا لَهُ. «فَمَا ظَنُّكُمْ بِاَلَّذِي عَمِلَ بِهَذَا» يَعْنِي لَا يَقْدِرُ ظَنُّكُمْ عَلَى إدْرَاكِ إحْسَانِهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِ هَذَا الْعَامِلِ بِالْقُرْآنِ لِغَايَةِ عَظَمَتِهِ وَنِهَايَةِ جَلَالَتِهِ وَالسَّوْقُ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ بِاَلَّذِي قَرَأَ وَعَمِلَ اكْتَفَى بِهِ إمَّا لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ هُوَ الْعَمَلُ أَوْ الْعَمَلُ مِنْ حَيْثُ أَصْلِهِ وَنَفْسِهِ لَا يَكُونُ بِلَا قِرَاءَةٍ سِيَّمَا عَادَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ هَذَا

إشَارَةٌ إلَى الْقُرْآنِ الَّذِي قُرِئَ عَلَى مَا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ أَخَذَ وَصْفَ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الضَّمَائِرِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَاد بِالْقُرْآنِ اسْمًا لِلْمَجْمُوعِ يَعْنِي كُلًّا ذَا أَجْزَاءٍ فَهَذِهِ الْكَرَامَةُ تَقْتَضِي قِرَاءَةَ الْكُلِّ مَعَ عَمَلِهِ حَتَّى إنْ بَقِيَ فَرْدٌ وَاحِدٌ بِلَا قِرَاءَةٍ أَوْ بِلَا عَمَلٍ لَا يَسْتَحِقُّ لَهَا وَإِنْ اسْتَحَقَّ مُطْلَقَهَا وَإِنْ لِلْكُلِّيِّ فَيُمْكِنُ بِالْبَعْضِ إذْ وُجُودُ الْجِنْسِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ بَلْ يُوجَدُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ لَكِنَّ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ تَخْرِيجِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالْحَاكِمِ «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَكْمَلَهُ وَعَمِلَ بِهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا» الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْإِكْمَالَ أَيْ الْأَوَّلَ وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ الْإِكْمَالِ التَّجْوِيدُ وَالتَّرْتِيلُ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَدِيثِ مِنْ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ ظَاهِرٌ بِآخِرِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا إشَارَةً وَعَلَى التَّرْغِيبِ عَلَى تَعْلِيمِ وَلَدِهِ عِبَارَةُ. (طك) رُوِيَ عَنْ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادِهِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) سَادِسٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَهُ مُشَابَهَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ كَانَ خَفِيفَ اللَّحْمِ قَصِيرًا شَدِيدَ الْأُدْمَةِ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ فِي سِنِّ بِضْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «رَضِيتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْد اللَّه يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ» هَاجَرَ إلَى الْحَبَشِ الْهِجْرَتَيْنِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا وَكَانَ صَاحِبَ نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (أَنَّهُ قَالَ «إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ» ) أَيْ ضِيَافَتُهُ فِي الْقَامُوسِ الْمَأْدُبَةُ طَعَامٌ يُصْنَعُ لِدَعْوَةٍ أَوْ عُرْسٍ فَمِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَضِيَافَتِهِ مِنْ قَبِيلِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَالْوَجْهُ الْخَيْرُ وَالْمَنَافِعُ وَقِيلَ مُطْلَقُ الْمَأْدُبَةِ الشَّامِلُ لِلْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ أَقُولُ إلَّا وَجْهَ الْمَنْفَعَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْإِحْسَانِ الْبَاعِثِ إلَى الْأُلْفَةِ وَالْأُنْسِ بِلَا تَعَبٍ وَزَحْمَةٍ «فَاقْبَلُوا مَأْدُبَتَهُ» بِضَمٍّ أَوْ بِفَتْحٍ فِي الدَّالِ «مَا اسْتَطَعْتُمْ» مِقْدَارَ وُسْعِكُمْ وَقُدْرَتِكُمْ بِإِتْيَانِ مَا فِيهَا وَالتَّنَاوُلُ مِنْ حَقَائِقِهَا وَدَقَائِقِهَا وَلَا تَرُدُّوا ضِيَافَتَهُ تَعَالَى فَيَغْضَبُ عَلَيْكُمْ. «إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ» طَرَفُهُ بِيَدِهِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ بِأَيْدِينَا كَمَا عَرَفْتَ آنِفًا وَهُوَ أَيْضًا مِنْ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَالْوَجْهُ الْخَلَاصُ عَنْ الْهَلَاكِ وَالْوُصُولُ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْوَصْلَةُ إلَى اللَّهِ وَثَوَابُهُ لَكِنْ فِي ظَاهِرِ الصِّيغَةِ إشَارَةٌ إلَى احْتِيَاجِ صَرْفِ جَمِيعِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَدْ تَكُونُ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْمُمْكِنَةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْأُصُولِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إتْيَانَ الْغَايَةِ مِنْ النَّوْعَيْنِ حَسْبَمَا شُرِعَ «وَالنُّورُ الْمُبِينُ» الظَّاهِرُ وَالْكَاشِفُ عَنْ أَسْرَارِ عَالِمِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ وَقِيلَ أَيْ هُوَ كَالنُّورِ فِي الدَّلَالَةِ إلَى سُبُلِ الْهُدَى وَلَا يَبْعُدُ كَوْنُهُ نُورًا فِي الْقَبْرِ وَالْقِيَامَةِ أَوْ النُّورُ شَيْءٌ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَى أَكْثَرِ الْمَنَافِعِ الْحِسِّيَّةِ فَكَذَا الْقُرْآنُ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَنَافِعِ الْقُدْسِيَّةِ. «وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ» فَإِنَّهُ يَنْفَعُ لِأَمْرَاضِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَيُزِيلُ مَا اسْتَوْجَبَتْهُ الْحِيَلُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُشْفِي مِنْ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ بِالرُّقْيَةِ الْقَوْلِيَّةِ بَلْ الرَّقْمِيَّةِ «عِصْمَةٌ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ هُوَ عَاصِمٌ وَحَافِظٌ عَنْ السُّقُوطِ فِي مَهَاوِي الْغَوَايَةِ وَالطُّغْيَانِ وَالْوُقُوعِ فِي الضَّلَالَةِ. «لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ» بِأَحْكَامِهِ «وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ» هَذَا كَعَطْفِ

تَفْسِيرٍ لِلتَّمَسُّكِ وَلَا يَبْعُدُ الْعِصْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاعْتِقَادِيَّات وَالنَّجَاةِ إلَى الْعَمَلِيَّاتِ أَوْ الْعِصْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَخْفَى مَا فِي حُسْنِ اسْتِعْمَالِ التَّمَسُّكِ بِالْعِصْمَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ بِالنَّجَاةِ إذْ التَّمَسُّكُ أَقْوَى مِنْ التَّبَعِيَّةِ كَالْعِصْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّجَاةِ «لَا يَزِيغُ» لَا يَمِيلُ الْقُرْآنُ عَنْ الْحَقِّ «فَيُسْتَعْتَبَ» مَنْصُوبٌ بِطَرِيقٍ أَمَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا وَالِاسْتِعْتَابُ طَلَبُ الْعِتَابِ وَعَرَضْته يَعْنِي لَا يَمِيلُ إلَى الْبَاطِلِ حَتَّى يَكُونَ عُرْضَةً لِلْعِتَابِ أَيْ لَا يَعْتِبُ صَاحِبُهُ أَوْ الِاسْتِعْتَابُ طَلَبُ الرِّضَا لَا يَمِيلُ عَنْ الْحَقِّ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى طَلَبِ الرِّضَا مِنْ أَحَدٍ «وَلَا يُعَوَّجُ» يَعْنِي مُسْتَقِيمٌ لَيْسَ فِيهِ انْحِرَافٌ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]- لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بِوَجْهٍ وَعَنْ الْخَازِنِ أَيْ مُنَزَّهًا عَنْ التَّنَاقُضِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - غَيْرَ مُخْتَلِفٍ وَقَدْ سَبَقَ نَوْعٌ مِنْ الْكَلَامِ عَلَيْهِ «فَيُقَوَّمَ» عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّقْوِيمِ بِإِزَالَةِ عِوَجِهِ «وَلَا تَنْقَضِي» أَيْ لَا تَفْنَى وَلَا تَنْتَهِي «عَجَائِبُهُ» يَعْنِي غَرَائِبَهُ وَعَجَائِبَهُ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ قَالَ تَعَالَى {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] . وَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] وَفِي الْإِتْقَانِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَوْ شِئْتُ أَنْ أُوقِرَ سَبْعِينَ بَعِيرًا مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ لَفَعَلْت. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ ذُو شُجُونٍ وَفُنُونٍ وَظُهُورٍ وَبُطُونٍ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَهُ فَمَنْ أَوْغَلَ فِيهِ بِرِفْقٍ نَجَا وَمَنْ أَوْغَلَ فِيهِ بِعُنْفٍ هَوَى انْتَهَى مُلَخَّصًا لَكِنْ يُرَدُّ بِمَا فِيهِ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ» . وَبِرِوَايَةٍ أُخْرَى «إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْهُ حَرْفٌ إلَّا وَلَهُ حَدٌّ وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ» وَفُسِّرَ

الْحَدُّ بِالْمُنْتَهَى إذْ يَقْتَضِي هَذَا النِّهَايَةَ وَذَاكَ عَدَمَهَا إلَّا أَنْ يُرَادَ بِأَحَدِهِمَا عِلْمُهُ تَعَالَى وَبِالْآخَرِ عِلْمُ مَخْلُوقِهِ فِي إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَايَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِبَادِهِ فَهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَيْهِ فَيَكُونُ نُزُولُ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَبَثًا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَلْيُتَأَمَّلْ حَتَّى يَظْهَرَ الْوَجْهُ «وَلَا يَخْلَقُ» . أَيْ لَا يَبْلَى مِنْ خَلِقَ الثَّوْبُ أَيْ بَلِيَ مِنْ بَابِ عَلِمَ يَعْلَمُ «مِنْ كَثْرَةِ التَّرْدَادِ» مِنْ تَكْرَارِ تِلَاوَتِهِ وَاسْتِمَاعِهِ قِيلَ أَيْ لَا يَمَلُّ قَارِئُهُ وَلَا يَسْأَمُ وَقِيلَ لَا يَذْهَبُ رَوْنَقُهُ وَبَهْجَتُهُ كَمَا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ التَّكْرَارُ يَزْدَادُ الْحُسْنُ وَقِيلَ لَا يَتَغَيَّرُ حَرْفُهُ بِكَثْرَةِ التَّكْرَارِ تِلَاوَةً وَتَدْرِيسًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْجُهَلَاءِ وَالْأَعْرَابِ وَالْأَعْجَامِ بَلْ يُرَدُّ الْخَطَأُ إلَى الصَّوَابِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إذَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَأَخْطَأَ أَوْ لَحَنَ أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا كَتَبَهُ الْمَلَكُ كَمَا أُنْزِلَ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ إثَابَةُ الْمُخْطِئِ وَاللَّاحِنِ فِي الْقِرَاءَةِ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَوْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي التَّعْلِيمِ وَإِلَّا فَيُوزَرُ لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَفَاءِ إذْ أَمْرُ التَّكْرَارِ لَا يُفِيدُهُ مُنَاسَبَةَ «اُتْلُوهُ» مِنْ التِّلَاوَةِ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ وَالْأَمْرُ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ لِلْوُجُوبِ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الْفَرْضِ أَوْ مُقَابِلِهِ وَقَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ فِيهِ نَدْبًا لَكِنْ فِي الْبِدَايَةِ لِأَنَّهُ فِي النِّهَايَةِ يَكُونُ وَاجِبًا وَفِي غَيْرِهَا يَكُونُ لِلنَّدَبِ وَالْأَفْضَلُ فِيهِ مِنْ الْمُصْحَفِ لَا مِنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ لِأَنَّ فِي إمْسَاكِ الْمُصْحَفِ عَمَلَ الْيَدِ وَكَذَا فِي حَمْلِهِ وَفِي نَظَرِهِ عَمَلُ الْبَصَرِ وَيُعِينُ عَلَى تَأَمُّلِ مَعَانِيهِ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ يَقْرَءُونَ مِنْ الْمُصْحَفِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَلَاثٌ يَزِدْنَ فِي الْحِفْظِ وَيُذْهِبْنَ الْبَلْغَمَ السِّوَاكُ وَالصَّوْمُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَيُقَالُ النَّظَرُ إلَى الْعُلَمَاءِ وَالْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ كَالنَّظَرِ إلَى الْكَعْبَةِ وَلِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمُصْحَفِ قُوَّةٌ عَجِيبَةٌ مُجَرَّبَةٌ لِحِفْظِ قُوَّةِ الْبَصَرِ وَتَقْوِيَتِهِ وَقَدْ قِيلَ الْخَتْمَةُ مِنْ الْمُصْحَفِ بِسَبْعٍ «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى» . فَإِنْ قِيلَ إنَّ لَفْظَ تَعَالَى إذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْحَدِيثِ فَيَلْزَمُ تَغْيِيرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ بِزِيَادَةِ مَا لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ وَإِنَّهُ لَوْ لَزِمَ إتْيَانُهُ لَأَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا قَالَ الْفُقَهَاءُ بِوُجُوبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] نَحْوَهُ أَيْضًا فَعَلَيْنَا تَعْظِيمُهُ مُطْلَقًا. وَأَمَّا عَدَمُ وُقُوعِهِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ فَلَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَيْنَا كَعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَمَلَةِ خَوَاصِّهِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ التَّعْظِيمُ لَازِمٌ وَلَوْ وَقَعَ ذِكْرُ اسْمِهِ تَعَالَى فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَوْ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ لَا الْفَرْضِ وَكَذَا اسْتِمَاعُهُ فَاعْرِفْهُ. «يَأْجُرُكُمْ» مِنْ الْأَجْرِ وَهُوَ جَزَاءُ الْعَمَلِ وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّلَالَةُ عَلَى كَثْرَةِ الْأَجْرِ لَا التَّجَدُّدِ وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْكَثْرَةِ كَمَا يُصَرِّحُ ذَيْلُ الْحَدِيثِ «عَلَى تِلَاوَةِ كُلِّ حَرْفٍ» مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي أَوْ بِمَعْنَى الْكَلِمَةِ كَمَا فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ أَيْ الْجُنُبِ الْقُرْآنَ حَرْفًا حَرْفًا أَيْ كَلِمَةً كَلِمَةً كَمَا فِي الْحَلَبِيِّ «عَشْرُ» بِسُكُونِ الشِّينِ «حَسَنَاتٍ» يَشْكُلُ أَنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فَمَا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالْقُرْآنِ وَالْجَوَابُ الْحَدِيثُ مُفَسَّرٌ لِبَعْضِ مُتَنَاوِلِ النَّصِّ وَدَافِعٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَةُ الْوَاحِدَةُ نَحْوَ تَمَامِ السُّورَةِ أَوْ الْآيَةِ أَوْ الْكَلِمَةِ عَلَى وَجْهٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَافْهَمْ. وَأَيْضًا يَشْكُلُ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْإِطْلَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُؤْجَرَ بِمُجَرَّدِ مُفْرَدَاتِ تَهَجِّي الْقُرْآنِ بِدُونِ إتْيَانِ كَلِمِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَضْلًا عَنْ الْأَجْرِ إذْ مَسْأَلَةُ إتْيَانِ نَحْوِ الْجَنْبِ يَقْتَضِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْجَرَ بِالْجُزْءِ بِشَرْطِ إتْيَانِ الْكُلِّ فَإِنْ أَتَى بِقَدْرِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنِ فَيُؤْجَرُ بِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ وَإِلَّا فَلَا وَأَيْضًا إنْ أَتَى الْقُرْآنَ بِلَا قَصْدِ الْقُرْآنِيَّةِ كَالِاقْتِبَاسِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْأَجْرِ لِعَدَمِ لُزُومِ التَّعْوِيذِ وَلِجَوَازِ تَغْيِيرِ الْمَعْنَى مُطْلَقًا وَجَوَازِ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ الشُّمُولُ إلَّا أَنْ يُفَسَّرَ مِثْلُهُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ. وَقَدْ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ إلَّا إذَا نَذَرَ. وَفِي الْأَشْبَاهِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا بِالْقَصْدِ فَجُوِّزَ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةُ مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِقَصْدِ الذِّكْرِ «أَمَا» بِفَتْحٍ فَتَخْفِيفٍ قِيلَ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ هِيَ تَحْقِيقٌ لِلْكَلَامِ «إنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ» وَاحِدٌ

«وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» فَيُثَابُ قَائِلُهَا بِثَلَاثِينَ حَسَنَةٍ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَدِيثِ أَنْ يُجْعَلَ كُلٌّ مِنْ نَحْوِ الْقَافِ وَاللَّامِ مِنْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ} [الإخلاص: 1] حَرْفًا وَاحِدًا مُوجِبًا لِعَشْرِ حَسَنَاتٍ فَيَقْتَضِي مُسَمَّى حُرُوفِ التَّهَجِّي وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ كَالصَّرِيحِ فِي إرَادَةِ الْكَلِمَةِ مِنْ لَفْظِ الْحَرْفِ فَإِنَّ الْمُتَلَفِّظَ مِنْ الم هُوَ الِاسْمُ وَاسْمُ كُلِّ كَلِمَةٍ لَا بِمَعْنَى الْحَرْفِ النَّحْوِيِّ فَتَأَمَّلْ فِيهِ حَتَّى يَظْهَرَ مَا فِيهِ. الْخَامِسُ (ت) مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ (عَنْ الْحَارِثِ بْنِ الْأَعْوَرِ) قِيلَ هُوَ مِنْ التَّابِعِينَ وَفِيهِ مَقَالٌ لِلْمُحَدِّثِينَ وَيُؤَيِّدُهُ يَعْنِي كَوْنَهُ مِنْ التَّابِعِينَ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لِمَا فِي آخِرِ مِنْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ «مَرَرْت بِالْمَسْجِدِ» إمَّا مَسْجِدُ النَّبِيِّ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ مُطْلَقُ الْمَسَاجِدِ «فَإِذَا النَّاسُ» فُسِّرَ بِالصَّحَابَةِ «يَخُوضُونَ فِي الْأَحَادِيثِ» فِي الْأَقَاوِيلِ الْبَاطِلَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ خَاضَ الْمَاءَ يَخُوضُهُ خَوْضًا وَخِيَاضًا دَخَلَهُ {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45] أَيْ فِي الْبَاطِلِ انْتَهَى فَأَمَّا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ مَعَ الْخَوْضِ أَوْ مِنْ الْقَرِينَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَا لَا يَعْنِي كَمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَامَةُ إعْرَاضِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ اشْتِغَالُهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ» وَيُقَرِّبُهُ مَا يُفَسَّرُ بِالْأَقْوَالِ الْغَيْرِ الْمُهِمَّةِ مِنْ كَلَامِ الدُّنْيَا. قَالَ الرَّاوِي «فَدَخَلْت عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ تَعْلِيلِيَّةٌ فَالدُّخُولُ لِأَجْلِ الِاشْتِكَاءِ مِنْ كَلَامِ الدُّنْيَا فِي الْمَسْجِدِ وَفَائِدَةُ الِاشْتِكَاءِ إمَّا الْمَنْعُ أَوْ إرَادَةٌ مُفَرَّعَةٌ حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ لِإِيهَامِ الْجَوَازِ مِنْ صَنِيعِهِمْ «فَأَخْبَرْته فَقَالَ أَوَ قَدْ فَعَلُوهَا» أَيْ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الَّتِي هِيَ الْأَحَادِيثُ الْبَاطِلَةُ فِي الْمَسْجِدِ قِيلَ الْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ وَقِيلَ لِلْإِنْكَارِ لَعَلَّ الْأَوْجَهَ لِلتَّعَجُّبِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ تَنْفَعِلُ النَّفْسُ مِنْهُ وَفَائِدَتُهُ التَّحْذِيرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ خَاصَّةِ الْهَمْزَةِ تَقَدُّمَهَا عَلَى الْعَاطِفِ تَنْبِيهًا عَلَى أَصَالَتِهَا فِي التَّصْدِيرِ مِثْلُ {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا} [البقرة: 100]- {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 97]- {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} [يونس: 51]- كَمَا فِي الْإِتْقَانِ فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ أَيْ أَخَاضُوهَا وَقَدْ فَعَلُوهَا «قُلْت نَعَمْ قَالَ أَمَا إنِّي» حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ وَتَنْبِيهٍ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَدَمِ وُقُوعِ التَّصْلِيَةِ فِي كَلَامٍ عَلَى نَوْعِ مُخَالَفَةٍ لِلْقَاعِدَةِ الْمُتَعَهَّدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَافْهَمْ «يَقُولُ» حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ سَمِعَ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ لَا مِنْ فَاعِلِهِ وَإِنْ تَوَهَّمَ وَقِيلَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ «أَلَا إنَّهَا» بِفَتْحٍ وَتَخْفِيفٍ دَالٌّ عَلَى تَحْقِيقِ مَا بَعْدَهَا لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ كَانَتْ لِإِفَادَةِ التَّحْقِيقِ نَحْوُ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} [القيامة: 40]- وَفِي الْإِتْقَانِ لَعَلَّ وَجْهَ التَّأْكِيدِ كَوْنُهَا خِلَافَ مَا يُتَرَقَّبُ نَحْوُ {إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117]- أَوْ كَوْنُهَا خِلَافَ مَا يُعْتَقَدُ قِيلَ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ وَقِيلَ لِلْفِعْلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْ كَلَامِ الدُّنْيَا كَأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ عَلِيٍّ ثُمَّ قَالَ عَنْ ابْنِ هِشَامٍ مَتَى أَمْكَنَ غَيَّرَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِثَالُ الشَّأْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]- وَالْقِصَّةُ {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} [الأنبياء: 97]- وَفَائِدَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى تَعْظِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَتَفْخِيمِهِ بِأَنْ يُذْكَرَ أَوَّلًا مُبْهَمًا ثُمَّ يُفَسَّرُ هَذَا لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ كَأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ عَلِيٍّ إشَارَةٌ إلَى مُصَحِّحِ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إلَى مَا ادَّعَاهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ سِيَّمَا بِمُلَاحَظَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعُمُومِ فِي الْحَدِيثِ فَالظَّاهِرُ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ وَفِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَوَائِدِ وَأَيْضًا يَكُونُ الْمَقَامُ اسْتِدْلَالِيًّا مِنْ قَبِيلِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ حِينَئِذٍ مِنْ أَفْرَادِ مُتَنَاوِلِ عُمُومِ الْحَدِيثِ فَتَدَبَّرْ فِيهِ ( «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ» بِالْكَسْرِ الْحِيرَةُ وَالضَّلَالُ وَالْإِثْمُ وَالْفَضِيحَةُ وَالْإِضْلَالُ وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الْآرَاءِ فِي الْقَامُوسِ وَقِيلَ هِيَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِحَدِيثِ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ تَكَلَّمُوا فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الِافْتِرَاقَاتِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَهَذَا الَّذِي أَتَى لِإِنْكَارِهِ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ «قُلْت» يَعْنِي عَلِيًّا «فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» يَعْنِي سَأَلَ عَلَى سَلَامَةِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ «قَالَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ التَّمَسُّكُ وَالِاعْتِصَامُ بِكِتَابِهِ تَعَالَى سَبَبٌ قَوِيٌّ لِلْخَلَاصِ عَنْ الْفِتَنِ الْمَوْعُودَةِ كُلِّهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ هُوَ هَذَا أَمَّا سَبَبُ

الْخَلَاصِ مِنْ فِتْنَةِ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ فِي الْمَسْجِدِ بِكِتَابِهِ تَعَالَى مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] . قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمُرَادُ مِنْ الْبُيُوتِ جَمِيعُ الْمَسَاجِدِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا عَلَى مَنْ فَسَّرَ الْبُيُوتَ بِالْمَسَاجِدِ الْأَرْبَعَةِ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ قَبَاءَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فَأَمَّا عَلَى الْمُقَايَسَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي جِنْسِ الْعِلَّةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ كَمَالَ رِفْعَةِ عَلِيٍّ فِي الْعِلْمِ يَقْتَضِي مَعْرِفَتَهُ قَبْلَ خَبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا فَائِدَةُ إخْبَارِهِ لِعَلِيٍّ قُلْتُ وَإِنْ سُلِّمَ مَعْرِفَةُ عَلِيٍّ قَبْلَ هَذَا الْإِخْبَارِ لَكِنْ لَا يُسَلَّمُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِيذَانُ لِلْغَيْرِ مِنْ الْحَاضِرِينَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْغَيْرُ ابْتِدَاءً وَعَلِيٌّ حَاضِرٌ فِي الْمَجْلِسِ «فِيهِ» أَيْ فِي الْقُرْآنِ «نَبَأُ» خَبَرُ «مَا قَبْلَكُمْ» مِنْ قَصَصِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلِاعْتِبَارِ فَإِنَّ السَّعِيدَ مِنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ «وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ» مِنْ نَحْوِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَالْمُحَاسَبَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلِانْزِجَارِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالْإِقْدَامِ عَلَى الطَّاعَاتِ «وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ» مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اعْتِقَادِيَّةً أَوْ عَمَلِيَّةً دُنْيَوِيَّةً أَوْ أُخْرَوِيَّةً. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]- «هُوَ» أَيْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى «الْفَصْلُ» أَيْ الْكَامِلُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لَا غَيْرَهُ، يُشِيرُ إلَى قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]- بِمَعْنَى الْفَاصِلِ فَلِلْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ «لَيْسَ بِالْهَزْلِ» لِأَنَّ نُزُولَهُ لَيْسَ بِهَزْلٍ بَلْ بِجِدٍّ كُلِّهِ يُشِيرُ إلَى قَوْله تَعَالَى - {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14]- فُسِّرَ فِيهِ بِالْعَبَثِ أَوْ الْبَاطِلِ أَوْ الْكَذِبِ. «مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ» بَيَانٌ لِمَنْ، وَقَيْدٌ وُقُوعِيٌّ لَا احْتِرَازِيٌّ إذْ لَا يَتْرُكُ عَمَلَ الْقُرْآنِ إلَّا الْجَبَّارُ وَالْجَبَّارُ كُلُّ عَاتٍ وَقَلْبٌ لَا تَدْخُلُهُ الرَّحْمَةُ وَالْقِتَالُ فِي غَيْرِ حَقِّ كَذَا فِي الْقَامُوسِ «قَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى» أَهْلَكَهُ اللَّهُ أَوْ أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ أَوْ قَطَعَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ قَطْعًا بَيِّنًا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْفَاصِلِ الْقَوِيِّ وَالْمَخْرَجِ مِنْ الْفِتْنَةِ لِعَلِيٍّ وَالْجُمْلَةُ إمَّا دُعَاءٌ عَلَيْهِ أَوْ إخْبَارٌ بِمَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا «وَمَنْ ابْتَغَى» أَيْ طَلَبَ «الْهُدَى» الدَّلَالَةَ «فِي غَيْرِهِ» كَالْعَقْلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَكَالْكُتُبِ الْمَنْسُوخَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ «أَضَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى» بِخَلْقِهِ فِيهِ الضَّلَالَةَ أَيْ فِقْدَانُ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ لَا خَالِقَ سِوَاهُ. وَأَمَّا إسْنَادُ الضَّلَالَةِ إلَى الشَّيْطَانِ وَالْأَصْنَامِ فَمَجَازٌ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَأَمَّا بِوَاقِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ فَقِيلَ بِرُجُوعِهَا إلَى الْكِتَابِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ عَدُّ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ كُلًّا مِنْهَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا وَمُقَابِلًا لِلْآخَرِ وَعَدَمُ ثُبُوتِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِالْقُرْآنِ اسْتِقْرَاءٌ وَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ أَيْضًا كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّف وَدَعْوَى عَدَمِ وُقُوفِنَا تَحَكُّمٌ غَيْرُ مُفِيدٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرَ حُجِّيَّةِ الْكُلِّ وَمَأْمُورِيَّتِهِ فَالْعَمَلُ بِالْكُلِّ عَمَلٌ بِالْكِتَابِ «وَهُوَ» أَيْ الْقُرْآنُ «حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ» قِيلَ عَنْ التُّورْبَشَتَّي شَارِحِ الْمَصَابِيحِ الْحَبْلُ يُسْتَعَارُ لِلْوَصْلِ وَلِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى شَيْءٍ وَالْمَعْنَى هُوَ السَّبَبُ الْقَوِيُّ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. «وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ» قِيلَ إعَادَةُ الضَّمِيرِ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّلَذُّذِ بِذِكْرِ مَا يُرْجَعُ إلَيْهِ أَقُولُ الْأَوْجَهُ لِإِفَادَةِ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَصْفِ ذُكِرَ

وَلِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ أَيْ الذِّكْرِ الْمُحْكَمِ الْمَمْنُوعِ مِنْ الْبَاطِلِ وَالنَّسْخِ وَمِنْ تَطَرُّقِ الْخَلَلِ أَوْ الْحَاكِمِ أَيْ الْمَانِعِ عَنْ الْفَسَادِ وَالتَّحْرِيفِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ «وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ» أَيْ الطَّرِيقُ السَّوِيُّ أَيْ طَرِيقُ الْحَقِّ أَوْ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ. كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ «وَهُوَ الَّذِي لَا يَزِيغُ» لَا يَمِيلُ «بِهِ الْأَهْوَاءُ» الْبَاءُ لِلتَّعَدِّيَةِ أَيْ لَا يَمِيلُ بِهِ الْبَطَلَةُ أَوْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْفِرَقُ الضَّالَّةُ عَنْ الْحَقِّ إلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَقَيْدُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِيَّةِ وَتَكَلُّفٌ فِي تَفْسِيرِ الْأَهْوَاءِ بِإِرَادَةِ النَّفْسِ بِمَعْنَى إرَادَةِ النُّفُوسِ وَآرَائِهَا مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ لَا تَزِيغُ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِ عَنْ الْحَقِّ «وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ» يَعْنِي لَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُهُ كَلَامُ أَحَدٍ لِإِعْجَازِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَغْيِيرِهِ وَتَصَرُّفٍ فِيهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ سَوَاءً فِي جَوَاهِرِهِ أَوْ فِي أَوْصَافِهِ لِغَايَةِ ظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]- «وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ» قِيلَ لِأَنَّهُ بَحْرُ الْمَعَانِي فَكُلُّ ظَمَأٍ يُطْلَبُ رِيُّهُ مِنْهُ وَفِيهِ غِذَاءُ الْعُلَمَاءِ وَتَرْبِيَةُ كَمَالِهِمْ الرُّوحَانِيِّ وَقِيلَ هُمْ الَّذِينَ عَرَفُوهُ تَعَالَى بِجَلَالِ ذَاتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَقِيلَ أَيْ الْقُرْآنُ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ لِكَمَالِ لَذَّتِهِ وَنِهَايَةِ حَلَاوَتِهِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَالْبَدَائِعِ الْغَرِيبَةِ وَالْأَسَالِيبِ الْمُسْتَحْسَنَةِ «وَلَا يَخْلَقُ» مِنْ الْبِلَى «مِنْ كَثْرَةِ التَّكْرَارِ» مِنْ تَكْرِيرِ تِلَاوَتِهِ وَمُطَالَعَتِهِ وَكَثْرَةِ مُسْتَعْمَلِيهِ وَمُسْتَمِعِيهِ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ تَكْرِيرُهُ يَزْدَادُ حُسْنُهُ وَبَهْجَتُهُ «وَلَا تَنْقَضِي» أَيْ تَنْتَهِي وَتَنْقَطِعُ «عَجَائِبُهُ» مِنْ الْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ وَالْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَالدَّقَائِقِ اللَّطِيفَةِ لِعَدَمِ انْتِهَائِهَا فِي حَدٍّ. «هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ» أَيْ لَمْ تَعْرِضْ الْجِنُّ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ «إذْ سَمِعَتْهُ» أَيْ وَقْتَ سَمَاعِ الْجِنِّ الْقُرْآنَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ عَنْ الْخَازِنِ هَلْ رَأَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِنَّ نَعَمْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَلَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ. «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَ الشَّيَاطِينُ إلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقِيلَ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالُوا وَمَا ذَاكَ إلَّا مِنْ نَبِيٍّ قَدْ حَدَّثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِنَخْلَةٍ عَامِدًا إلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا وَقَالُوا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَرَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ» . وَعَلَى هَذَا فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْلَمْ بِاسْتِمَاعِهِمْ وَلَا كَلِمِهِمْ وَإِنَّمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا أُوحِيَ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ {قُلْ أُوحِيَ} [الجن: 1] إلَخْ كَذَا قِيلَ وَنُقِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْوَاحِدِيِّ «عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إنَّا لَمْ نَرَ الْجِنَّ فِي لَيْلَةِ الْجِنِّ أَنْفُسِهِمْ لَكِنْ أَرَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ» . وَالظَّاهِرُ مِنْهُ رُؤْيَتُهُمْ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَنْ الْخَازِنِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِنْذَارِ الْجِنِّ فَصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ فَاسْتَتْبَعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَصْحَابَهُ حِينَ ذَهَابِهِ إلَى الْجِنِّ فَطَفِقُوا ثَمَّ وَثَمَّ فِي الثَّالِثَةِ تَبِعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ فَانْطَلَقْنَا إلَى شِعْبِ الْحُجُونِ وَخَطَّ لِي خَطًّا ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ وَلَا أَخْرُجَ فَانْطَلَقَ فَافْتَتَحَ

الْقُرْآنَ وَسَمِعْتُ لَفْظًا شَدِيدًا حَتَّى خِفْت عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ كَثِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى لَمْ أَسْمَعْ صَوْتَهُ فَفَرَغَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْفَجْرِ فَانْطَلَقَ إلَيَّ فَقَالَ لِي نِمْتَ فَقُلْت لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ مِرَارًا أَنْ أَسْتَغِيثَ بِالنَّاسِ حَتَّى سَمِعْتُك تَقْرَعُهُمْ بِعَصَاك تَقُولُ اجْلِسُوا فَقَالَ هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا قُلْت نَعَمْ رِجَالًا سُودًا بِثِيَابٍ بِيضٍ قَالَ أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ سَأَلُونِي الْمَتَاعَ، وَالْمَتَاعُ الزَّادُ فَمَتَّعْتهمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ وَرَوْثَةٍ وَبَعْرَةٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تَغْدِرُهَا النَّاسُ فَقُلْت وَمَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَالَ إنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِلَ وَلَا رَوْثَةً إلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَتْ فَقُلْت سَمِعْت لَغَطًا شَدِيدًا فَقَالَ إنَّ الْجِنَّ بَدَرَتْ فِي قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَهُمْ فَتَحَاكَمُوا إلَيَّ فَقَضَيْت بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» . «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - هُمْ سَبْعَةٌ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ فَجَعَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُسُلًا إلَى قَوْمِهِمْ» وَقَالَ آخَرُونَ تِسْعَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ الْجِنَّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ بِهَا فِي الْهَوَاءِ وَصِنْفٌ عَلَى صُورَةِ الْحَيَّاتِ وَالْكِلَابِ وَصِنْفٌ يَرْحَلُونَ وَيَظْعَنُونَ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْجِنَّ كَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا قَالُوا وَفِي الْجِنِّ مِلَلٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْإِنْسِ فَفِيهِمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ وَعَبَدَةُ الْأَصْنَامِ وَفِي مُسْلِمِيهِمْ مُبْتَدَعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَكُلُّهُمْ مُكَلَّفُونَ «حَتَّى قَالُوا» لِقَوْمِهِمْ لَمَّا رَجَعُوا إلَيْهِمْ « {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] » ذَا عَجَبٍ يُعْجَبُ مِنْهُ لِبَلَاغَتِهِ وَعَدَمِ مُشَابَهَتِهِ بِكَلَامِ أَحَدٍ وَلِغَايَتِهِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ وَدِقَّةِ مَعْنَاهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ. « {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 2] » إلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ « {فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 2] » أَيْ: الْقُرْآنِ «فَمَنْ قَالَ بِهِ» اسْتَدَلَّ بِالْقُرْآنِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ «صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ» بِمَضْمُونِهِ «أُجِرَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ يَعْنِي يُعْطِي اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَجْرًا «وَمَنْ حَكَمَ بِهِ» فِي نَفْسِهِ أَوْ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ «عَدَلَ» فِي حُكْمِهِ «وَمَنْ دَعَا» النَّاسَ «إلَيْهِ» بِالْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ وَالتَّدْرِيسِ أَوْ بِالتَّمَسُّكِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ «هُدِيَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْصَلَهُ «إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» مُعْتَدِلٍ وَهُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ الْمُؤَدِّي إلَى الْجَنَّةِ. السَّادِسُ حَدِيثُ (حك) الْحَاكِمُ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» وَهِيَ حَجَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّنَةِ

الْعَاشِرَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ لِتَوْدِيعِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَصْحَابَهُ فِيهَا إذْ عَاشَ بَعْدَهَا إحْدَى وَثَمَانِينَ لَيْلَةً وَعَنْ تَخْرِيجِ الشَّعْبِيِّ «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ» وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَبِمَكَّةَ أُخْرَى. وَعَنْ السُّيُوطِيّ أَنَّهُ حَجَّ حَجَّةً قَبْلَ فَرْضِيَّتِهِ وَحَجَّةً بَعْدَهَا وَهِيَ الَّتِي وَدَّعَ أَصْحَابَهُ فِيهَا وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَا أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْكَمَالِ إلَّا النُّقْصَانُ وَخَطَبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَرَفَة خُطْبَةً مِنْهَا مَا. (قَالَ «إنَّ الشَّيْطَانَ» أَيْ جِنْسَهُ أَوْ رَئِيسَهُ الْمَعْهُودَ «قَدْ يَئِسَ» مِنْ الْيَأْسِ بِمَعْنَى قَطْعِ الطَّمَعِ «أَنْ يُعْبَدَ» عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ «بِأَرْضِكُمْ» الْمُخَاطَبُونَ هُمْ الصَّحَابَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْأَرْضِ مُطْلَقُ مَا سَكَنُوا مِنْ الدِّيَارِ فَالتَّخْصِيصُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَيْسَ لَهُ مُخَصِّصٌ كَمَا يُوهِمُ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ مَا أُشِيرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]- لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ هُوَ مُطْلَقُ تَبَعِيَّتِهِ كُفْرًا أَوْ غَيْرَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وَإِنْ سَلِمَ انْقِطَاعُ الْكُفْرِ فِي أَرَاضِي الْأَصْحَابِ لَكِنَّهُ لَا يَخْفَى فِي عَدَمِ انْقِطَاعِ الْعِصْيَانِ فِيهِمْ وَتَخْصِيصُهُ بِالشِّرْكِ كَمَا تَوَهَّمَ مَعَ عَدَمِ مُخَصِّصِهِ وَتَخَالُفِهِ لِأَصْلِ جَرَيَانِ الْمُطْلَقِ عَلَى إطْلَاقِهِ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ وَلَكِنْ رَضِيَ إلَخْ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْكَلَامُ بِالنَّظَرِ إلَى خَيْرِ الْقُرُونِ سِيَّمَا بِأَكْثَرِهِمْ وَقَدْ قَالُوا لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَقَلُّ النَّادِرُ ثُمَّ الْوَجْهُ فِي عَدَمِ مَعْبُودِيَّةِ الشَّيْطَانِ إكْمَالُ الدِّينِ بِشَوْكَةِ الْإِسْلَامِ وَمَقْهُورِيَّةِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ مُعِينُ الشَّيْطَانِ «وَلَكِنْ رَضِيَ مِنْكُمْ أَنْ يُطَاعَ» إطَاعَتَكُمْ لَهُ «فِيمَا سِوَى ذَلِكَ» فِي غَيْرِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الَّتِي يَئِسَ. وَالظَّاهِرُ كَمَا أُشِير أَنَّهُ الْكُفْرُ وَالْكَبِيرَةُ لَا الشِّرْكُ فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ «فِيمَا تَحْتَقِرُونَ» إذْ الْمُتَبَادَرُ هُوَ الصَّغِيرَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقَارَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ بَعِيدٌ «مِنْ أَعْمَالِكُمْ» بَدَلٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ مِنْ أَعْمَالِكُمْ بَيَانٌ لِمَا، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا كَبِيرَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لَكِنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا صَغِيرَةً كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]- لَكِنْ يُرَدُّ حِينَئِذٍ أَنَّ اسْتِحْقَارَ الصَّغِيرَةِ وَاسْتِخْفَافَهَا خَطَأٌ عَظِيمٌ فَضْلًا عَنْ الْكَبِيرَةِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا أُرِيدَ هُنَا وَبَيْنَ مَا هُنَالِكَ وَقِيلَ إذَا اُسْتُصْغِرَ ذَنْبٌ فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَإِنْ اُسْتُكْبِرَ فَصَغِيرَةٌ. «فَاحْذَرُوا» مِنْ إطَاعَةِ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ الْمُحْتَقَرِ «إنِّي قَدْ تَرَكْت فِيكُمْ» بَيَانُ سَبَبِ التَّحْذِيرِ يَعْنِي أَنَّ الْحَذَرَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا أَبْقَيْت لَكُمْ «مَا» أَيْ شَيْئًا عَظِيمًا «إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا» لَا تَقَعُونَ فِي الضَّلَالَةِ «أَبَدًا» الدَّوَامُ فِي عَدَمِ الضَّلَالَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالدَّوَامِ بِالِاعْتِصَامِ فَإِنْ قِيلَ لَفْظٌ (إنْ) لِلْإِهْمَالِ فَفِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ فَيَلْزَمُ كِفَايَةُ بَعْضِ الِاعْتِصَامِ فِي دَوَامِ عَدَمِ الضَّلَالَةِ قُلْت لَعَلَّ (إنْ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى إذَا وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا مُهْمَلَاتُ الْعُلُومِ كُلِّيَّاتٌ «كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَطْلَبَ كِفَايَةُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ فَقَطْ وَهَذَا الْكَلَامُ صَرِيحٌ فِي لُزُومِ الْمَجْمُوعِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَظَوَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ بِاسْتِقْلَالِ الْقُرْآنِ فِي الِاعْتِصَامِ وَهَذَا بِلُزُومِ الْمَجْمُوعِ قُلْنَا قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إلَى الْكِتَابِ فَالتَّعَدُّدُ وَالتَّغَايُرُ لَيْسَ إلَّا بِالْأَوْصَافِ وَالِاعْتِبَارِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ بِبَعْضِ تَغْيِيرٍ وَزِيَادَةٍ أَوْرَدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ عَلَى تَخْرِيجِ الْحَاكِمِ بِأَنَّ الْأَوْلَى ذِكْرُهُ تَمَامًا وَشَنَّعَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ عِلْمِ الْمُصَنِّفِ بِأَحْوَالِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَأَحَادِيثُهُ لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ بَلْ مِنْ الْحَوَاشِي وَبَعْضِ الْكُتُبِ وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ الْغَلَطَاتِ وَالْهَذَايَانَاتِ وَدُفِعَ بِأَنَّ الْمُحَدِّثِينَ يُجَوِّزُونَ الِاكْتِفَاءَ بِمُجَرَّدِ مَحَلِّ الِاسْتِشْهَادِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ فِيهِ مُخْتَلِفَةً وَالنَّقْلُ بِالْمَعْنَى جَائِزٌ عِنْدَهُمْ وَأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ الصَّحِيحَةِ أَعْطَاهَا السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ فَالْأَخْذُ مِنْ نَحْوِ الْحَوَاشِي وَالْأَطْرَافِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْغَلَطِ وَالسَّقَطِ وَالْهَذَايَانَاتِ فِرْيَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ وَسُوءِ ظَنٍّ وَافْتِرَاءٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي اقْتِصَارِ الْحَدِيثِ قِيلَ بِمَنْعِهِ مُطْلَقًا وَالْأَكْثَرُ بِجَوَازِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعَالِمَ لَا يَنْقُصُ بِمَا يُغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى وَيُخِلُّهُ وَالْجَاهِلُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُحَافَظَتِهِ وَأَمَّا النَّقْلُ بِالْمَعْنَى فَالْخِلَافُ فِيهِ شَهِيرٌ وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْجَوَازِ وَقِيلَ إنَّمَا يَجُوزُ فِي الْمُفْرَدَاتِ دُونَ الْمُرَكَّبَاتِ. وَقِيلَ وَالتَّفْصِيلُ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ لِابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ وَأَقُولُ تَفْصِيلُ هَذَا الْمَبْحَثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ شَرَفُ الدِّينِ الطِّيبِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّ اخْتِصَارَ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِجَائِزٍ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضٍ وَجَائِزٌ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضٍ مُطْلَقًا قَالَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اُنْقُصْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا شِئْت وَلَا تَزِدْ فِيهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنَّ مِنْ الْعَالِمِ عِنْدَ عَدَمِ تَعَلُّقِ الْمَتْرُوكِ بِالْمَذْكُورِ كَالصِّفَاتِ لَهُ وَفِي الْمَشَارِقِ. وَأَمَّا تَقْطِيعُ الْمُصَنِّف لِلِاحْتِجَاجِ فَهُوَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ كَمَا إذَا أَتَى بِمَسْأَلَةٍ فِي الصَّلَاةِ مِثْلُ مَا يَكُونُ مَحَلَّ اسْتِشْهَادٍ مِنْ بَعْضِ الْحَدِيثِ مَعَ قَطْعِهِ عَنْ بَاقِيهِ وَقَدْ فَعَلَهُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا مَا تُعُقِّبَ عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ الْكَرَاهَةِ فَرَدَّهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ فِي الْعُلُومِ احْتِجَاجًا بِبَعْضِ الْحَدِيثِ كَاسْتِشْهَادِ النَّحْوِيِّينَ وَإِذَا أَتْقَنْت هَذَا عَرَفْت دَفْعَ إيرَادِ الْمُشَنِّعِ عَلَى وَجْهٍ تَحْقِيقِيٍّ لَا عَلَى وَجْهٍ ظَاهِرِيٍّ وَامْتِنَاعِيٍّ كَمَا فِي كَلَامِ الدَّافِعِ. وَأَمَّا سَائِرُ فُحْشِيَّاتِ الْمُشَنِّعِ فَلِوُضُوحِ بُطْلَانِهِ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ضَائِعٌ. وَالسَّابِعُ حَدِيثُ (ت) أَيْ التِّرْمِذِيُّ (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاسْتَظْهَرَهُ» أَيْ حَفِظَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ بِلَا كِتَابٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ جَمَعَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالْحِفْظِ فَيَلْزَمُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْأَجْرِ الْآتِي بِهَذَا الْجَامِعِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ أَقُولُ يَجُوزُ اخْتِصَاصُ هَذَا الْأَجْرِ بِحَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَحَفَظَتِهِ لِمَزِيدِ تَفَهُّمِهِمْ الْمَعْنَى هَذَا لَيْسَ أَجْرَ الْقِرَاءَةِ فَقَطْ بَلْ لَهُ أَتْعَابُ الْحِفْظِ وَمَشَقَّتُهُ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحَالَ ذَلِكَ عَلَى دَلَالَةِ النَّصِّ وَبِالْجُمْلَةِ فَضْلُ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَاضِحُ الْبُرْهَانِ وَلِذَا تَرَى الْفُقَهَاءَ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ حِفْظَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَدْرُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْفَاتِحَةُ مَعَ سُورَةٍ وَاجِبٌ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لِحَافِظِ الْقَدِيمِ: يَحْمِلُ الْمُحَدِّثُ الْقُرْآنَ يَحْمِلُك وَيَحْمِلُنَا وَيَحْفَظُك وَيَحْفَظُنَا ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْحَدِيثِ كَمَالُهُ لَا الْمُطْلَقُ فَهَذَا الْأَجْرُ لِقَارِئِ الْجَمِيعِ وَحَافِظِهِ لَا الْمُطْلَقُ وَلَوْ أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنِ «فَأَحَلَّ حَلَالَهُ» الظَّاهِرُ الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ فَالْمَعْنَى كَانَ قِرَاءَتُهُ لِأَجْلِ اتِّخَاذِ حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ حَلَالًا وَحَرَامًا وَعَمَلُهُ فَيَشْكُلُ بِقِرَاءَةِ الْعَامِّيِّ بَلْ الْخَوَاصُّ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ مِنْ الْفِقْهِ وَيَقْرَءُونَ لِمُجَرَّدِ ثَوَابِ التِّلَاوَةِ بِلَا وُقُوفٍ عَلَى مَعْنَاهُ وَقَصْدِ عَمَلِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُؤْجَرَ بِهَذَا الْأَجْرِ لَعَلَّ ذَلِكَ يَنْدَفِعُ بِبَعْضِ مَا ذُكِرَ آنِفًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَجْرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمَخْصُوصَةِ لَا أَجْرَ مُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ. «وَحَرَّمَ حَرَامَهُ» أَيْ اتَّخَذَ مَا حَرَّمَهُ حَرَامًا وَتَجَنَّبَ عَنْهُ ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إضَافَتَيْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ هُوَ الِاسْتِغْرَاقُ فَلَوْ تَرَكَ حَلَالًا وَاحِدًا أَوْ فَعَلَ حَرَامًا وَاحِدًا لَزِمَ أَنْ لَا يُؤْجَرَ إلَّا أَنْ يُقَالَ

النوع الثاني في الاعتصام بالسنة

مِثْلُ الْأَوَّلِ. أَمَّا الْقَارِئُ إنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَ لَكِنْ لَا بِهَذَا الْأَجْرِ إنْ اعْتَقَدَ وَإِلَّا فَكَافِرٌ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا «أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» بِسَبَبِهِ أَوْ بِشَفَاعَتِهِ «الْجَنَّةَ» هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ قِرَاءَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى كَثِيرٍ فَظَاهِرُ اللَّفْظِ جَانِبُ الْكِفَايَةِ فِي أَصْلِ هَذَا الْأَجْرِ نَعَمْ الْكَثْرَةُ فِي الْقِرَاءَةِ مُؤَثِّرَةٌ فِي قُوَّةِ الْمُسَابَقَةِ إلَى الْجَنَّةِ وَالشَّفَاعَةِ فَإِنْ زِدْتُمْ زِدْنَا لَكِنْ، إنْ حَافَظَ حُدُودَ الْقُرْآنِ وَقْتَ تِلَاوَتِهِ ثُمَّ أَتَى بِمُنَافَاتِهِ هَلْ يُمْحَى مَا كُتِبَ مِنْ الْأَجْرِ الْمَوْعُودِ أَوْ لَا؟ فَقَاعِدَةُ عَدَمِ حُبُوطِ طَاعَةِ الْمُؤْمِنِ بِمَعْصِيَتِهِ يُلَائِمُ الثَّانِي وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ مِثْلُهُ عَلَى الْقُيُودِ وَالشُّرُوطِ بِدَلَالَةِ بَعْضِ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ إذْ الْفِسْقُ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَالُوا إنَّ الِاعْتِبَارَ بِخَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ الِاسْتِمْرَارُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ وَقَدْ يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الدَّالَّةِ عَلَى التَّحَقُّقِ وَتَحَقُّقِهِ وَثَبَاتِهِ إنَّمَا يَكُونُ بِاسْتِمْرَارٍ فَإِنَّ الزَّائِلَ لَيْسَ لَهُ تَحَقُّقٌ «وَشَفَّعَهُ» قَبِلَ شَفَاعَتَهُ «فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» وَهُمْ سُكَّانُ بَيْتِهِ أَبْنَاؤُهُ وَآبَاؤُهُ وَأَزْوَاجُهُ وَكُلُّ مِنْ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ قِبَلِ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ لَا قَوْمُ الْأُمِّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُعَدُّ مِنْ قَوْمِ الْأَبِ لَا مِنْ قَوْمِ الْأُمِّ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ كَمَا نُقِلَ عَنْ وَقْفِ الْفِقْهِيَّةِ لَكِنْ فِي التَّتَارْخَانِيَّة إنْ أُرِيدَ بَيْتُ السُّكْنَى فَهُوَ مَنْ يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ وَإِنَّ بَيْتَ النَّسَبِ فَهُوَ جَمِيعُ أَوْلَادِهِ الْمَعْرُوفِينَ «كُلِّهِمْ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» بِالْمَعَاصِي يَعْنِي بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ الْأَصْلِيِّ لَا مُطْلَقًا فَلَا يَضُرُّ هَذَا الْوُجُوبُ جَوَازَ عَدَمِ تَعْذِيبِهِ تَعَالَى بِمَشِيئَتِهِ فَضْلًا وَعَدَمُ التَّنَافِي بِشَفَاعَةٍ مِنْ الْغَيْرِ. [النَّوْعُ الثَّانِي فِي الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ] لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَوَّلِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ شَرَعَ فِي ثَانِيهِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ (الْآيَاتُ) أَيْ هَذِهِ هِيَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَ آيَةً عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّفِ أَوْ تَعَلَّقَ رَأْيُهُ بِإِتْيَانِهَا فَلَا يَضُرُّ زِيَادَتُهَا فِي نَفْسِهَا مِنْهَا فِي آلِ عِمْرَانَ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31]- نَزَلَتْ حِينَ قَالَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ حُبًّا لَهُ تَعَالَى لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى وَقِيلَ نَزَلَتْ حِينَ قَالَ نَصَارَى نَجْرَانَ هَذَا الْقَوْلَ فِي عِيسَى حُبًّا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لَهُ. وَقِيلَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ حِينَ قَوْلِهِمْ {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]- يَعْنِي نَحْنُ فِي الْمَنْزِلَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبْنَاءِ - وَأَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31]- يَعْنِي إنْ صَدَقْتُمْ فِي دَعْوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ {فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا تَكُونُ بِاتِّبَاعِي فَإِنِّي رَسُولُهُ إلَيْكُمْ وَحُجَّتِي وَاضِحَةٌ لَدَيْكُمْ فَوَجَبَ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ مُتَابَعَتِي فِيمَا آمُرُ وَأُنْهِي قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَحَبَّةُ مَيْلُ النَّفْسِ إلَى الشَّيْءِ لِكَمَالٍ أُدْرِكَ فِيهِ بِحَيْثُ يَحْمِلُهَا عَلَى مَا يُقَرِّبُهَا إلَيْهِ وَالْعَبْدُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْكَمَالَ الْحَقِيقِيَّ لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يَرَاهُ كَمَالًا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَإِلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حُبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إرَادَةَ طَاعَتِهِ وَالرَّغْبَةَ فِيمَا يُقَرِّبُهُ فَلِذَلِكَ فُسِّرَتْ الْمَحَبَّةُ بِإِرَادَةِ الطَّاعَةِ وَجُعِلَتْ الطَّاعَةُ مُسْتَلْزِمَةً لِاتِّبَاعِ الرُّسُلِ فِي عِبَادَتِهِ وَالْحِرْصِ عَلَى مُطَاوَعَتِهِ {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ مَنُوطَةٌ بِاتِّبَاعِي قَالَ فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَبْدَهُ إرَادَتُهُ بِأَنْ يَخُصَّهُ بِالْقُرْبِ وَالْأَحْوَالِ الْعَلِيَّةِ وَقِيلَ هِيَ مَدْحُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِالْجَمِيلِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ قَالَ لِجَبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يَضَعُ لَهُ الْقَبُولَ فِي الْأَرْضِ» . وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ عِنْدَ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَقِيلَ الْمَحَبَّةُ الْمَيْلُ الدَّائِمُ بِالْقَلْبِ الْهَائِمِ وَقِيلَ هِيَ إيثَارُ الْمَحْبُوبِ عَلَى جَمِيعِ الْمَصْحُوبِ وَقِيلَ مُوَافَقَةُ الْحَبِيبِ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَقِيلَ مُوَاطَأَةُ الْقَلْبِ لِمَوَارِدِ الرَّبِّ وَقَالَ الْبِسْطَامِيُّ الْمَحَبَّةُ اسْتِقْلَالُ الْكَثِيرِ مِنْ نَفْسِك وَاسْتِكْثَارُ الْقَلِيلِ مِنْ حَبِيبِك وَقَالَ سَهْلٌ الْحُبُّ مُعَانَقَةُ الطَّاعَةِ وَمُبَايَنَةُ الْمُخَالَفَةِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ

قُدِّسَ سِرُّهُ - سُمِّيَتْ الْمَحَبَّةُ لِأَنَّهَا تَمْحُو مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ هِيَ مَا لَا يَنْقُصُ بِالْجَفَاءِ وَلَا يَزِيدُ بِالْبِرِّ وَقَالَ الْجُنَيْدُ إذَا صَحَّتْ الْمَحَبَّةُ سَقَطَتْ شُرُوطُ الْأَدَبِ وَقَالَ ابْنُ مَسْرُوقٍ رَأَيْت سَحْنُونًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَحَبَّةِ فَتَكَسَّرَتْ قَنَادِيلُ الْمَسْجِدِ وَقِيلَ جَلَسَ الشِّبْلِيُّ فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَقَالَ مَنْ أَنْتُمْ قَالُوا: مُحِبُّوك فَأَقْبَلَ يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ فَفَرُّوا فَقَالَ إنْ ادَّعَيْتُمْ مَحَبَّتِي فَاصْبِرُوا عَلَى بَلَائِي. وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنِّي إذَا اطَّلَعْت عَلَى قَلْبِ عَبْدٍ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ حُبَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَلَأْته مِنْ حُبِّي وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ الْحُبِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً بِلَا حُبٍّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ جَرَتْ مَسْأَلَةٌ فِي الْمَحَبَّةِ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالَ عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ نَاظِرٌ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ أَحْرَقَ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَوِيَّتِهِ وَصَفَا شِرْبُهُ مِنْ وَرْدِ كَأْسِهِ وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاَللَّهِ وَإِنْ سَكَنَ فَهُوَ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ وَمَعَ اللَّهِ فَبَكَى الشُّيُوخُ وَقَالُوا مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ جَبَرَك اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اُعْذُرْنِي فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى شَغَلَتْنِي عَنْ مَحَبَّتِك فَقَالَ يَا مُبَارَكُ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ فَقَدْ أَحَبَّنِي. وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ أَكْثَرُ فَسَادِ الْعَارِفِينَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِسْقِ الْعَارِفِينَ وَخِيَانَةِ الْمُحِبِّينَ وَكَذِبِ الْمُرِيدِينَ وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ فِسْقُ الْعَارِفِينَ إطْلَاقُ الطَّرْفِ وَاللِّسَانِ وَالسَّمْعِ إلَى أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا وَخِيَانَةِ الْمُحِبِّينَ اخْتِيَارُ أَهْوَائِهِمْ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ وَكَذِبِ الْمُرِيدِينَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْخَلْقِ وَرُؤْيَتُهُمْ تَغْلِبُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُؤْيَتِهِ وَالْكُلُّ مِنْ رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] فَيُحْبِبْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ أَيْ يَرْضَ عَنْكُمْ وَيَكْشِفْ الْحُجُبَ عَنْ قُلُوبِكُمْ بِالتَّجَاوُزِ عَمَّا فَرَّطَ مِنْكُمْ فَيُقَرِّبْكُمْ مِنْ جَنَابِ عِزِّهِ وَيُبَوِّئْكُمْ فِي جِوَارِ قُدْسِهِ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَحَبَّةِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ الْمُقَابَلَةِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ فَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَمْ يَتَّبِعْ رَسُولَ اللَّهِ فَهُوَ كَذَّابٌ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] فَحَاصِلُ رَبْطِ الْآيَةِ بِالْمَقْصُودِ الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ تَبَعِيَّةُ الرَّسُولِ، وَتَبَعِيَّتُهُ شَيْءٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَغْفِرَتُهُ وَكُلُّ مَا شَأْنُهُ كَذَا فَهُوَ وَاجِبٌ فَالِاعْتِصَامُ وَاجِبٌ وَقَوْلُهُ غَفُورٌ فِي مَقَامِ الْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ {يَغْفِرْ لَكُمْ} [الأحقاف: 31] وَقَوْلُهُ {رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] لِقَوْلِهِ {يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران: 31] فَمِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {قُلْ} [آل عمران: 32] وَحِينَ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ الْمُنَافِقُ لِأَصْحَابِهِ إنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحِبَّهُ كَمَا أَحَبَّ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَأَنْزَلَ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32] أَجْمِعُوا بَيْنَهُمَا فِي الطَّاعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَإِنَّ طَاعَتَكُمْ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَاعَتُكُمْ لِي. وَأَمَّا أَنْ تُطِيعُونِي وَتَعْصُوا مُحَمَّدًا فَلَنْ أَقْبَلَ مِنْكُمْ نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران: 32] أَيْ عَنْ طَاعَتِهِمَا {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] لَا يَرْضَى عَنْهُمْ وَلَا يَغْفِرُ لَهُمْ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لَا يُحِبُّهُمْ لِقَصْدِ الْعُمُومِ أَوْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّوَلِّيَ كُفْرٌ وَأَنَّ مَحَبَّتَهُ مَخْصُوصَةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ أَقُولُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ دَلِيلِ التَّالِي مَوْضِعَ التَّالِي إذْ الْمَعْنَى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاَللَّهُ لَا يُحِبُّهُمْ لِأَنَّ التَّوَلِّيَ كُفْرٌ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ فَمِنْ قَبِيلِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ الْبَدِيعِيِّ. وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ، أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا وَمَنْ أَبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] لِكَيْ تُرْحَمُوا وَلَا تُعَذَّبُوا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ لَعَلَّ وَعَسَى فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ دَلِيلُ عِزَّةِ التَّوَصُّلِ إلَى مَا جُعِلَ خَبَرًا لَهُ فَلَمْ يَكْفِ فِي الرَّحْمَةِ مُجَرَّدُ طَاعَتِهِ تَعَالَى بَلْ مَجْمُوعُهُمَا وَأَيْضًا فِي آلِ عِمْرَانَ {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 164] الْمَنُّ إمَّا بِمَعْنَى الْإِحْسَانِ وَالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَوْ بِمَعْنَى الِامْتِنَانِ أَوْ التَّنْبِيهِ

وَتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِ مَعَ أَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ عَامَّةٌ لِلْكُلِّ لِزِيَادَةِ انْتِفَاعِهِمْ أَوْ أَنَّ الْبَعْثَةَ وَإِنْ كَانَتْ نِعْمَةً لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا بِحَسَبِ أَصْلِهَا لَكِنْ نِقْمَةً بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَالْخَارِجِ {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] مِنْ جِنْسِهِمْ لِيَسْهُلَ اسْتِئْنَاسُهُمْ وَأُلْفَتُهُمْ وَيُعِينَ عَلَى فَهْمِ كَلَامِهِ وَأَخْذِ حِكْمَتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ جِنْسُهُمَا مُخْتَلِفًا لَرُبَّمَا تَقَعُ الْوَحْشَةُ وَالْمُنَافَرَةُ بَيْنَهُمَا وَأَيْضًا يَسْرُعُ فَهْمُ النُّبُوَّةِ فِي الْمُجَانَسَةِ مِنْ عِلْمِ حَالِهِ فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَقُرِئَ {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] أَيْ أَشْرَفِهِمْ. وَعَنْ الْخَازِنِ وَقِيلَ أَرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ بِالْإِيمَانِ وَالشَّفَقَةِ لَا بِالنَّسَبِ وَمِنْ جِنْسِهِمْ لَيْسَ بِمِلْكٍ وَلَا أَحَدَ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ. وَوَجْهُ مَنِّهِ تَعَالَى بِالرَّسُولِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ دَاعٍ إلَى مَا يُنَجِّيهِمْ مِنْ الْمَخَاوِفِ وَهَادٍ إلَى مَا هُوَ مَحْبُوبُهُمْ بِالذَّاتِ وَوَجْهُ الِامْتِنَانِ بِكَوْنِ الرَّسُولِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ آنِفًا مِنْ سُهُولَةِ فَهْمِ نُبُوَّتِهِ وَأَخْذِ شَرِيعَتِهِ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ فَالِامْتِنَانُ هُنَا بِشَيْئَيْنِ أَصْلِ الرِّسَالَةِ وَالْمُجَانَسَةِ بَلْ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَعْظَمِيَّةِ الْمُجَانَسَةِ فِي الْمِنَّةِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِفَادَةِ فِي الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ هُوَ بِاعْتِبَارِ قَيْدِهِ {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران: 164] لِيَهْدِيَهُمْ إلَى صِرَاطٍ سَوِيٍّ {وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 164] يُطَهِّرُهُمْ مِنْ نَجَسِ الْكُفْرِ وَدَنَسِ الْمَعْصِيَةِ وَوَسَخِ الْخَبَائِثِ وَفُحْشِ الطِّبَاعِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ لَعَلَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ يَعْنِي إنَّمَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ لِيُزَكِّيَهُمْ. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] فُسِّرَ الْكِتَابُ بِالْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ بِالسُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَقِيلَ بِالسُّنَّةِ الَّتِي سَنَّهَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِتَعْلِيمِ الْكِتَابِ نَظْمُهُ وَبِالْحِكْمَةِ مَعَانِيهِ وَأَسْرَارُهُ وَقَدْ عَرَفْت مَعَانِي الْحِكْمَةِ فِي الْخُطْبَةِ {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} [آل عمران: 164] الْبَعْثَةِ {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] لَفِي جَهَالَةٍ وَحِيرَةٍ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَظَاهِرٌ لَا يُرْتَابُ فِيهِ وَإِنْ فِيهِ مُخَفَّفَةٌ وَاللَّامُ فَارِقَةٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ إنْ النَّافِيَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمُقَدَّرُ وُجُوبًا وَبِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ خَبَرُهَا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ حَالٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ اعْتِصَامُ السُّنَّةِ وَالْحَاصِلُ مِنْ الْآيَةِ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ غَايَتُهُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ إذْ زُبْدَتُهُ النَّبِيُّ مَبْعُوثٌ بِتِلَاوَةِ الْآيَاتِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَكُلُّ مَا شَأْنُهُ كَذَا فَالتَّمَسُّكُ بِهِ لَازِمٌ دَلِيلُ الْكُبْرَى أَدِلَّةُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ بِالسُّنَّةِ وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ جُزْءُ الْآيَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَصْوِيرُ الْمَقَامِ هَكَذَا الْحِكْمَةُ يَعْنِي السُّنَّةَ شَيْءٌ بُعِثَ الرَّسُولُ بِتَعْلِيمِهِ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا فَالِاعْتِصَامُ بِهِ لَازِمٌ وَفِي النِّسَاءِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} [النساء: 59] قِيلَ فِي فَرَائِضِهِ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] قِيلَ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ أَقُولُ لَيْسَ الْفَرْضُ مُخْتَصًّا بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا السُّنَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ بَلْ الْفَرْضُ يَحْصُلُ مِنْ السُّنَّةِ أَيْضًا وَالسُّنَّةُ مِنْ الْكِتَابِ أَيْضًا إذْ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِدَلِيلٍ وَفِي تَخْصِيصِ الْأَمْرِ بِالْإِطَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَقِّقِي الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَالشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ فَإِذَا وَجَبَ إطَاعَةُ الرَّسُولِ وَجَبَ الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ لَكِنْ هَذَا ظَاهِرٌ فِي السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ. وَأَمَّا الْفِعْلِيَّةُ وَالسُّكُوتِيَّةُ فَلَعَلَّهَا مُلْحَقَةً بِالْقَوْلِيَّةِ أَوْ الْإِطَاعَةُ عَامَّةٌ لِلْجَمِيعِ تَحْقِيقًا أَوْ تَأْوِيلًا {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ وَأَطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ لَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا فِي الْإِطَاعَةِ بَلْ مُقَيَّدَةٌ وَمَشْرُوطَةٌ بِمُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ لَا مَعْصِيَةَ لِلْخَالِقِ بِأَمْرِ الْمَخْلُوقِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُغَيِّرَ مَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا فَضْلًا عَنْ الْأُضْحِيَّةِ. وَقَدْ نَزَلَتْ فِي أَمِيرِ سَرِيَّةٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَذَا فِي رِوَايَةِ السُّدِّيَّ فِي حَقِّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ بَعَثَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ وَفِيهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَمَّارٍ قَدْ أَسْلَمَ فَأَمَّنَهُ فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَأَخَذَهُ خَالِدٌ فَقَالَ عَمَّارٌ إنِّي أَمَّنْته وَقَدْ أَسْلَمَ فَقَالَ خَالِدٌ تَجَرَّأَ عَلَيَّ وَأَنَا الْأَمِيرُ فَتَنَازَعَا عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَازَ أَمَانَ عَمَّارٍ وَنَهَاهُ أَنْ يَجْرَأَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأَمِيرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ قُلْنَا هَذَا إنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ

الصِّيغَةِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ لِاحْتِجَاجِ الصَّحَابَةِ فِي وَقَائِعَ بِعُمُومِ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي أَسْبَابٍ خَاصَّةٍ. وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي خَصُّوهَا عَلَى أَسْبَابِهَا فَبِدَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ قَالُوا مِنْ فَوَائِدِ أَسْبَابِ النُّزُولِ تَفْسِيرُ النَّصِّ وَبَيَانُ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْآيَةِ بِدُونِ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّتِهَا وَبَيَانِ نُزُولِهَا قُلْت لَعَلَّ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْعِلْمِ بِالسَّبَبِ مُفْضِيًا إلَى الْعِلْمِ بِالْمُسَبَّبِ أَوْ الْمُرَادُ بِالتَّفْسِيرِ هُوَ بِوَجْهٍ مَا لَا عَلَى التَّفْصِيلِ. وَقَدْ عَرَفْت هَاهُنَا أَنَّ التَّفْسِيرَ بِالْعُلَمَاءِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَغَيْرِهِ فَيُمْكِنُ أَنَّهُ حَدِيثٌ أُرْسِلَ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} [النساء: 59] أَنْتُمْ وَأُولُو الْأَمْرِ مِنْكُمْ {فِي شَيْءٍ} [النساء: 59] وَخُصَّ بِأُمُورِ الدِّينِ لَعَلَّ الْأَظْهَرَ تَعْمِيمُهُ بِهِ وَبِأُمُورِ الدُّنْيَا {فَرُدُّوهُ إِلَى} [النساء: 59] كِتَابِ {اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] مَا دَامَ حَيًّا وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ قِيلَ إنْ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ أُخِذَ بِهِ وَإِلَّا فَبِالسُّنَّةِ وَإِلَّا أَيْضًا فَبِاجْتِهَادٍ فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْأَخِيرُ زِيَادَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ قُلْنَا الِاجْتِهَادُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِمُثْبِتِ حُكْمٍ بَلْ مُظْهِرٌ أَنَّ النَّصَّ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ شَامِلٌ لِصُورَةِ الْمَقِيسِ يَعْنِي الْفَرْعَ وَأَنَّ مَوَاضِعَ الْقُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَافْهَمْ {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59] . قِيلَ عَنْ الْخَازِنِ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ وَالْآخِرِ لِمَنْ لَا يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ قُلْت هَذَا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا {ذَلِكَ} [النساء: 59] أَيْ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ {خَيْرٌ} [النساء: 59] مِنْ التَّنَازُعِ {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] أَجْمَلُ مِنْ تَأْوِيلِكُمْ وَحَمْدُ عَاقِبَةٍ وَالْعَاقِبَةُ تُسَمَّى تَأْوِيلًا لِأَنَّهَا مَآلُ الْأَمْرِ. وَفِيهِ إشَارَةٌ لِتَأْيِيدِ مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَتَفْوِيضِهَا إلَى اللَّهِ كَمَا قِيلَ لَكِنْ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ مَعْنَى النِّزَاعِ بِالْمُتَشَابِهَاتِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ النِّزَاعَ فِي الْمُتَشَابِهِ مِنْ إفْرَادِ مُطْلَقِ التَّنَازُعِ الْمُشَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي رَدَّ الْأَمْرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْوَاجِبُ رَدُّ جَمِيعِ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قُلْنَا هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا وَأَنَّ شَأْنَ الْغَيْرِ الْمُتَنَازَعِ أَنْ يَجِيءَ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَخْلُو عَنْ الِاخْتِلَافِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الرَّدِّ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِمَدْلُولِهَا التَّضَمُّنِيِّ مِنْ قَوْلِهِ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. وَمِنْ قَوْلِهِ وَالرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَأَصْلُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَقَدْ أُكِّدَ بِقَوْلِهِ {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [النساء: 59]- بَلْ بِتَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} [النساء: 59] وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَيْضًا {فَلا} [النساء: 65] أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُخَالِفُونَ حُكْمَك ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ وَقَالَ {وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] وَقِيلَ لَفْظَةُ (لَا) مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ أَوْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] أَيْ يَجْعَلُوكَ حَكَمًا كَذَا قِيلَ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَيْ يَرْضَوْا حُكْمَك {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] . أَيْ فِيمَا اُخْتُلِفَ بَيْنَهُمْ مِنْ التَّشَاجُرِ بِمَعْنَى التَّنَازُعِ وَمِنْهُ الشَّجَرُ لِتَدَاخُلِ أَغْصَانِهِ {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] أَيْ شَكًّا وَضِيقًا وَحَذَفَ النُّونَ فِي لَا يَجِدُونَ لِعَطْفِهِ عَلَى يُحَكِّمُوك كَأَنَّ حَاصِلَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِرِضَا حُكْمِ النَّبِيِّ وَعَدَمِ اسْتِصْعَابِهِ فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهِ أَوْ رَضِيَ لَكِنَّهُ اسْتَصْعَبَهُ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مُؤْمِنًا فَالتَّمَسُّكُ وَالِاعْتِصَامُ بِحُكْمِهِ لَازِمٌ وَلَوْ الْتِزَامًا فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ السُّنَّةِ وَاللَّازِمُ مِنْ الدَّلِيلِ السُّنَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِحُكْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يُقَالَ وُجُودُ الْخَاصِّ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْعَامِّ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَايَسَةِ أَوْ دَلَالَةِ النَّصِّ {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] أَيْ يَنْقَادُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِك انْقِيَادًا بِالْخُلُوصِ وَالرِّضَا. وَفِي النِّسَاءِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء: 69] نَزَلَتْ فِي ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلِيلَ

الصَّبْرِ حَتَّى تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ وَعُرِفَ الْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا غَيَّرَ لَوْنَك فَقَالَ مَا بِي مَرَضٌ وَلَا وَجَعٌ إلَّا إنِّي إذَا لَمْ أَرَك اسْتَوْحَشْت وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاك ثُمَّ إنِّي إذَا ذَكَرْت الْآخِرَةَ أَخَافُ أَنْ لَا أَرَاك لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِك أَوْ لِعَدَمِ دُخُولِي الْجَنَّةَ. نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَقِيلَ إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ بَكَى فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا يُبْكِيك فَقَالَ بِاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمَالِي وَوَلَدِي أَذْكُرُك وَأَنَا فِي أَهْلِي فَيَأْخُذُنِي مِثْلُ الْجُنُونِ حَتَّى أَرَاك وَذَكَرْت مَوْتِي وَأَنَّك تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَأَنِّي وَإِنْ دَخَلْت الْجَنَّةَ كُنْت أَدْنَى مَنْزِلَةً فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69] جَمْعُ صِدِّيقٍ فِعِّيلٌ مِنْ أَوْزَانِ الْمُبَالَغَةِ كَثِيرُ الصِّدْقِ وَهُمْ أَتْبَاعٌ خَاصَّةٌ لِلرُّسُلِ حَتَّى لَحِقُوا بِهِمْ وَقِيلَ هُنَا أَفَاضِلُ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نُقِلَ هَذَا عَنْ الْخَازِنِ. وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ كُلُّ مَنْ صَدَقَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُدَاخِلُهُ شَكٌّ وَصَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ فَهُوَ صِدِّيقٌ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُمْ الَّذِينَ صَعِدَتْ نُفُوسُهُمْ تَارَةً بِمَرَاقِي النَّظَرِ فِي الْحِجَجِ وَالْآيَاتِ وَأُخْرَى بِمَعَارِجِ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَاتِ إلَى أَوْجِ الْعِرْفَانِ حَتَّى اطَّلَعُوا عَلَى الْأَشْيَاءِ وَأَخْبَرُوا عَنْهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ {وَالشُّهَدَاءِ} [النساء: 69] مُطْلَقًا وَقِيلَ شُهَدَاءُ أُحُدٍ أَوْ بَدْرٍ {وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] مَنْ اسْتَوَتْ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ فِي الْخَيْرِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُمْ الَّذِينَ صَرَفُوا أَعْمَارَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْوَالَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ وَقِيلَ وَلَك أَنْ تَقُولَ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَارِفُونَ وَهَؤُلَاءِ إنْ بَلَغُوا دَرَجَةَ الْعِيَانِ بِكَمَالِ الْقُرْبِ فَالْأَنْبِيَاءُ وَأَنْ يَقْرُبَ فِي الْجُمْلَةِ فَالصِّدِّيقُونَ وَإِنْ وَقَفُوا فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ فَالْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ الَّذِينَ هُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ وَبِالْأَمَارَاتِ وَالْإِقْنَاعَاتِ الَّتِي تَطْمَئِنُّ بِهَا نُفُوسُهُمْ فَالصَّالِحُونَ فَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ لِلصَّالِحِينَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ فِي الْمَآلِ مُقَلِّدِينَ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهَا مِنْ الْمُقَرَّبِينَ {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ بِمَنْزِلَةِ مَا أَحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا بِمَعْنَى الْجَمْعِ نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ الْحَالِ مِنْ الِارْتِفَاقِ بِمَعْنَى الصُّحْبَةِ. وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ وَحَدُّ الرَّفِيقِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ فِي التَّمْيِيزِ يَنُوبُ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَفِي النِّسَاءِ أَيْضًا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] لِأَنَّ أَمْرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا هُوَ أَمْرُ اللَّهِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرِّسَالَةِ وَالسِّفَارَةِ قَالَ الْحَسَنُ جَعَلَ اللَّهُ طَاعَةَ رَسُولِهِ طَاعَتَهُ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلُّ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْلَمُ بِلَا بَيَانِ كَيْفِيَّةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ قِيلَ فَالِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ عَيْنُ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ فَمَا وَجْهُ عَدِّ أَحَدِهِمَا مُغَايِرًا لِلْآخَرِ بَلْ لَا تَكُونُ السُّنَّةُ مُطْلَقًا دَلِيلًا مُقَابِلًا لِلْكِتَابِ وَقَدْ جَعَلَ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا قُلْنَا نَعَمْ فِي التَّحْقِيقِ كَذَلِكَ لَكِنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى تَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ لَمَّا كَانَ خَفِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا أُضِيفَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ إلَى السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ إطَاعَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَّةٌ لِلْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ وَالتَّقْرِيرِيِّ وَأَيْضًا لِجَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَجِبُ الِاتِّبَاعُ فِيهِ كَالْمُبَاحِ بَلْ لَا يَجُوزُ كَمَا يَكُونُ مِنْ خَوَاصِّهِ وَقَدْ جَوَّزُوا السَّهْلَ وَالزَّلَّةَ قُلْنَا الْأَصْلُ الِاتِّبَاعُ إلَّا بِقَرِينَةِ عَدَمِهِ لَكِنْ فِيهِ زِيَادَةُ كَلَامٍ لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ. وَفِي الْأَعْرَافِ {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] أَيْ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالرَّحْمَةِ إنْ خُصَّ بِأُمُورِ الدُّنْيَا فَظَاهِرٌ وَإِنْ عَمَّ لَهُ وَلِأَمْرِ الْآخِرَةِ فَسَعَةُ الرَّحْمَةِ بِبَيَانِ طَرِيقِ الْحَقِّ كَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَمُكْنَةِ اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَتَسْهِيلِ طَرِيقِهِ كَإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ قِيلَ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ اللَّعِينُ أَنَا دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ فَأَقْنَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {فَسَأَكْتُبُهَا} [الأعراف: 156] فَسَأُثْبِتُهَا فِي الْآخِرَةِ {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156] قِيلَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَافَتِهَا وَلِأَنَّهَا أَشَقُّ عَلَيْهِمْ

{وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156] . فَقَالَتْ الْيَهُودُ هَذِهِ الرَّحْمَةُ لَنَا لِإِيمَانِنَا بِآيَاتِ اللَّهِ يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَإِيتَائِنَا الزَّكَاةَ فَأَخْرَجَهُمْ بِقَوْلِهِ {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ} [الأعراف: 157] رِسَالَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ وَنُبُوَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ وَيُمْكِنُ رِسَالَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ الْوَحْيُ الظَّاهِرُ وَنُبُوَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَحْيِ الْغَيْرِ الْمَتْلُوِّ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ الصِّفَةُ الْعَامَّةُ لَا تَأْتِي بَعْدَ الْخَاصَّةِ. وَالْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} [مريم: 51]- مُجَابٌ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَالٌ لَا صِفَةٌ فَنَقُولُ هُنَا بِعَدَمِ عُمُومِ النَّبِيِّ لِتَرَادُفِهِمَا أَوْ تَسَاوِيهِمَا أَوْ نَقُولُ لَمَّا كَانَ مَقَامُ التَّبَعِيَّةِ أَدْعَى وَأَنْسَبَ لِجِهَةِ الرِّسَالَةِ قَدَّمَ الرَّسُولَ وَقَدْ قَالُوا وَقَدْ يَعْرِضُ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ {الأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ وَالْكِتَابَةُ مِنْ خَوَاصِّهِ الْمُحَرَّمَةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ لِعَدَمِ إيهَامِ اتِّهَامِ أَخْذٍ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَلِاقْتِضَاءِ الْأُسْتَاذِيَّةِ السَّبْقَ عَلَيْهِ فِي الْفَضْلِ وَقِيلَ لِكَوْنِ نَشْأَتِهِ فِي صِغَرِهِ مَعَ أُمِّهِ نُسِبَ إلَيْهَا وَقِيلَ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى أُمِّ الْقُرَى يَعْنِي مَكَّةَ. وَلَعَلَّ الْأَوْجَهَ مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ لِكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْدَأَ الشَّرِيعَةِ وَمَنْشَأَ الْأَحْكَامِ كَانَ كَالْأُمِّ {الَّذِي يَجِدُونَهُ} [الأعراف: 157] أَيْ وَصْفَهُ وَنُبُوَّتَهُ {مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] وَلَكِنَّهُمْ كَتَمُوهُ وَبَدَّلُوهُ حَسَدًا وَخَوْفًا عَلَى زَوَالِ رِيَاسَتِهِمْ وَقَدْ وَقَعُوا عَلَى مَا خَافُوا لِذُلِّهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْت أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ أَجَلْ إنَّهُ مَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ مَا فِي الْقُرْآنِ - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك بِالْمُتَوَكِّلِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ لَا يُجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا وَالصَّخَّابُ الْكَثِيرُ الصِّيَاحِ {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الأعراف: 157] إنْ أُرِيدَ مِنْ الْأَمْرِ الْإِيجَابُ كَمَا هُوَ حَقِيقَتُهُ وَتَبَادُرُهُ فَالْمَعْرُوفُ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ عِصْيَانًا كَالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَأَنَّ نَحْوَ النَّدْبِ فَالْمَعْرُوفُ شَامِلٌ لِكُلِّ الْفَضَائِلِ الْأُوَلِ لِنَيْلِ الثَّوَابِ وَخَلَاصِ الْعِقَابِ وَالثَّانِي لِكَمَالِ الثَّوَابِ وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْمُرَادُ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَثَرٌ وَإِلَّا فَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ ظَاهِرُهُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ وَذَا فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَلَوْ كَانَ بِحَدِيثٍ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا إذْ التَّقْيِيدُ زِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] الْكَلَامُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالْمُنْكَرِ كَالْكَلَامِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْمَعْرُوفِ وَخُصَّ أَيْضًا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ قِيلَ كَانَ عَادَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّفْقَ وَاللِّينَ وَالنُّصْحَ إنْ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَالْعُنْفَ وَالْغِلْظَةَ إنْ لِلْعُمُومِ فَالتَّغْلِيظُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِدْعَةٌ وَإِنْ ظَهَرَ مُنْكَرُهُ إذْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَسْتُرُ أَبْلَغَ الْمُنْكَرِ وَهُوَ الْكُفْرُ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] الَّتِي حُرِّمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ وَغَيْرِهِمَا قِيلَ الطَّيِّبُ هُوَ الْحَلَالُ وَقِيلَ أَخَصُّ مِنْهُ إذْ الْمَالُ الَّذِي أُخِّرَتْ الصَّلَاةُ أَوْ تُرِكَتْ الْجَمَاعَةُ عِنْدَ كَسْبِهِ حَلَالٌ لَيْسَ بِطَيِّبٍ وَنَحْوِهِ {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] أَيْ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ الْأَوَّلُ شَامِلٌ لِكُلِّ الْحَرَامِ بَلْ لَمَّا لَمْ يُشْرَعْ كَالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالرِّيَاءِ وَالرِّشْوَةِ وَقِيلَ كُلُّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ وَتَسْتَقْذِرُهُ النَّفْسُ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي اللَّامِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَهْدُ الْخَارِجِيُّ ثُمَّ الِاسْتِغْرَاقُ وَادَّعَى مَعْهُودِيَّةَ مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ ثُمَّ قَالَ مَنْ أَثْبَتَ بِهِ حَرَامًا جَدِيدًا لَمْ يُصِبْ لِعَدَمِ عُمُومِهِ حَيْثُ تَعَيَّنَ لِعَهْدٍ خَارِجِيٍّ كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّعْرِيضَ عَلَى مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى خُبْثِ الدُّخَّانِ لِاسْتِخْبَاثِ الطَّبْعِ وَاسْتِقْذَارِ النَّفْسِ السَّلِيمَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ صَرِيحُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَرِسَالَتِهِ الْمَوْضُوعَةِ لِإِبَاحَةِ الدُّخَّانِ وَأَقُولُ كَوْنُ الْعَهْدِ أَصْلًا مَشْرُوطٌ بِالْقَرِينَةِ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْقَرِينَةِ لِنَحْوِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَوْ فُرِضَ

فَهْمُ الْقَرِينَةِ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ يَرُدُّهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ وَلَوْ سَلِمَ الْعَهْدُ فِيمَا ادَّعَاهُ لَا شَكَّ فِي قِيَامِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ خَبِيثًا وَهَذَا الْمَعْنَى يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ وَدَعْوَى انْقِرَاضِ الِاجْتِهَادِ أَمْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ {وَيَضَعُ} [الأعراف: 157] أَيْ يُزِيلُ {عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] ثِقَلَهُمْ وَالْمُرَادُ الْعَهْدُ الَّذِي أُخِذَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَكَانَتْ تِلْكَ شَدِيدَةً. نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَعَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ شِدَّةُ الْعِبَادَةِ {وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] مِنْ الْأَفَاعِيلِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ الشَّرَائِعِ كَتَعْيِينِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَحُرْمَةِ الدِّيَةِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ وَقَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَقَرْضِ الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ بِالْمِقْرَاضِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ فِي السَّبْتِ وَعَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْكَنَائِسِ وَتَتَبُّعِ الْعُرُوقِ مِنْ اللَّحْمِ وَإِحْرَاقِ الْغَنَائِمِ وَفَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَصَرْفِ رُبْعِ الْمَالِ لِلزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا تَشْبِيهٌ بِالْغَلِّ فِي مَنْعِ الْفِعْلِ أَوْ بِالْأَغْلَالِ الَّتِي تَجْمَعُ الْيَدَ إلَى الْعُنُقِ وَكَانَتْ هَذِهِ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَاءِ» . {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} [الأعراف: 157] أَيْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَعَزَّرُوهُ} [الأعراف: 157] وَقَّرُوهُ وَعَظَّمُوهُ وَأَصْلُ التَّعْزِيرِ الْمَنْعُ لِمَنْعِهِ عَنْ إعَادَةِ مِثْلِهِ وَهُنَا مَنْعُ الْأَعْدَاءِ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّعْظِيمِ {وَنَصَرُوهُ} [الأعراف: 157] بِالرِّمَاحِ وَالسِّهَامِ وَبِالْأَمْوَالِ أَيْضًا {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157] أَيْ الْقُرْآنَ لِاسْتِنَارَةِ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ بِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعُلُومِ وَالْعِرْفَانِ أَوْ لِظُهُورِ النُّبُوَّةِ بِهِ أَوْ لِظُهُورِ الْأَحْكَامِ مِنْهُ وَيَجُوزُ تَعَلَّقَ مَعَهُ بِاتَّبَعُوا وَالضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] الْفَائِزُونَ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَفِي الْأَعْرَافِ أَيْضًا مُتَّصِلًا بِاَلَّتِي قَبْلَهَا {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] لَا إلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ كَالْأَنْبِيَاءِ السَّالِفَةِ تَصْرِيحٌ فِي كَوْنِهِ مَبْعُوثًا إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 158] . قَوْلُهُ الَّذِي خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ صِفَةٌ لِلْجَلَالَةِ قِيلَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَفَاءِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ الْمُفَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَعَمْ قَدْ يُمْكِنُ فَهْمُ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأعراف: 158] تَأَمَّلْ ثُمَّ إنَّهُ إذَا اخْتَصَّ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي جَمِيعَ الْمُمْكَنَاتِ وَالتَّخْصِيصُ عَلَى حَسَبِ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ اُخْتُصَّ لَهُ أُلُوهِيَّتُهُمَا حَسْبَمَا يُشِيرُ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فَلِذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ {لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف: 158] . قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَا غَيْرُهُ وَفِي قَوْلِهِ {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الأعراف: 158] مَزِيدُ تَقْدِيرٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَنُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَى خَلْقِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَوْنُهُ رَسُولًا بِالْفِعْلِ وَاللَّازِمُ مِمَّا ذُكِرَ كَوْنُهُ رَسُولًا بِالْقُوَّةِ لَا أَنْ يُقَالَ الْمَطْلُوبُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ إثْبَاتُ الْإِمْكَانِ فَقَطْ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَثَابِتٌ بِالْمُعْجِزَةِ وَعَلَيْهِ يَدُورُ تَفْرِيعُ. قَوْلِهِ {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأعراف: 158] التَّفْرِيعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّسُولِ فَمُحْتَاجٌ إلَى التَّأْوِيلِ السَّابِقِ

{النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] آيَاتِهِ أَوْ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ عِيسَى لِخَلْقِهِ يَكُنْ تَعْرِيضًا لِلْيَهُودِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِبَعْضِ نَبِيٍّ لَمْ يُعْتَبَرْ إيمَانُهُ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ التَّكَلُّمِ إلَى الْغَيْبَةِ لِإِجْرَاءِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ إلَّا مَا عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] فِي جَعْلِ رَجَاءِ الِاهْتِدَاءِ إثْرَ الْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَّقَهُ وَلَمْ يُتَابِعْهُ فِي الْتِزَامِ شَرْعِهِ فَهُوَ يُعَدُّ فِي الضَّلَالَةِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَفِي الْأَنْبِيَاءِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ أَيْ ذُو رَحْمَةٍ أَوْ مُبَالِغٌ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى كَأَنِّي عَيْنُهَا لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا النَّفْعُ وَذَاتُهُ كَذَلِكَ فَالْمَعْنَى مَا أَنَا إلَّا ذُو رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ أَهْدَاهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِمْ فَمَنْ قَبِلَ هِدَايَتَهُ أَفْلَحَ وَنَجَا وَمَنْ أَبَى خَابَ وَخَسِرَ. وَقَالَ أَيْضًا فِي شَرْحِ حَدِيثِ «إنَّمَا بُعِثْت رَحْمَةً وَلَمْ أُبْعَثْ عَذَابًا» لِأَنَّهُ غُشِيَ بِالرَّحْمَةِ وَاسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ رَحْمَةً وَمَفْزَعًا وَمَأْمَنًا فَالْعَذَابُ لَمْ يُقْصَدْ مِنْ بِعْثَتِهِ ثُمَّ إنَّهُ قِيلَ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بَلْ الثَّانِي أَيْضًا. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ عَامٌّ لِلْكَافِرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ وَرَفْعِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ وَالِاسْتِئْصَالِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ التَّفْتَازَانِيِّ مَعَ الْخَيَالِيِّ كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْفَرِيقَيْنِ لِبَيَانِهِ لَهُمَا طَرِيقَ الْحَقِّ لَكِنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَهْتَدِ بِهِدَايَتِهِ وَقَالَ فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ عَنْ السَّمَرْقَنْدِيِّ يَعْنِي لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقِيلَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ أَقُولُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ ظَاهِرِ صِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ مَعَ عَدَمِ الْعَهْدِ وَدَلِيلِ الْجِنْسِ فَيَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ كَمَا فِي الشِّفَاءِ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَلْ أَصَابَك مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ قَالَ نَعَمْ كُنْت أَخْشَى الْعَاقِبَةَ فَأَمِنْت لِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] » وَيَشْمَلُ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا فِي الْمَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيَّة أَنَّ قَبُولَ تَوْبَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا هُوَ بِتَوَسُّلِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتِشْفَاعَهُ بِرُوحِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ وَكَتَبَهُ عَلَى أَعْلَى عَتَبَةِ أَبْوَابِ الْجِنَانِ. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ أَرَادَ التَّنَاوُلَ بِحَوَّاءَ وَقْتَ النِّكَاحِ مَنَعَهُ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمَهْرِ فَقَالَ مَهْرُهَا أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَشْرَ مَرَّاتٍ فَفَعَلَ فَحَلَّتْ لَهُ وَإِنَّ أُمَمَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مُشَفَّعُونَ بِشَفَاعَتِهِ الْعُظْمَى وَرَحْمَةُ الْأُمَّةِ رَحْمَةٌ لِنَبِيِّهِمْ كَذَا قِيلَ وَقِيلَ كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ أَهْلَ الْعَرَصَاتِ حِينَ اشْتِدَادِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ فِي الْعَرَقِ يَسْتَشْفِعُونَ مِنْ كُلِّ نَبِيٍّ فَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ مِنْ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا غَيْرُ فَيَنْتَفِعُ مِنْ تِلْكَ الشَّفَاعَةِ كُلُّ ذِي رُوحٍ حَتَّى الدَّوَابُّ وَالْحَشَرَاتُ وَالْجِنُّ وَالْكُفَّارُ وَقِيلَ كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلشَّيَاطِينِ نَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عُيِّنَ مَلَكٌ عَلَى إبْلِيسَ يَضْرِبُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً لَا يَنْقَطِعُ أَلَمُ كُلِّ ضَرْبَةٍ إلَى الْأُخْرَى فَعِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتَغَاثَ إنِّي مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ فَلَا تَحْرِمْنِي مِنْ رَحْمَتِك عَلَى وَعْدِك فَخَلَصَ مِنْهُ بِحُرْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ أَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً لِنَحْوِ الدَّوَابِّ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ رُفِعَ الْقَحْطُ الْعَظِيمُ الَّذِي وَقَعَ فِي سَنَةِ وِلَادَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِسَبَبِ وِلَادَتِهِ وَأَيْضًا كُلَّمَا وَقَعَ قَحْطٌ يَنْدَفِعُ بِدُعَائِهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْأَفْلَاكِ فَلِمَا قِيلَ فِي بَعْضِ حِكْمَةِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ بِسَبَبِ اسْتِشْرَافِ الْأَفْلَاكِ مِنْ قُدُومِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَأَمَّا كَوْنُهُ لِلْأَرْضِ فَلِمَنْعِ الْعَذَابِ عَلَى الْأَرْضِ بِسَبَبِ الْعِصْيَانِ الَّذِي كَانَ يَقَعُ بِمِثْلِهِ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَفِي النُّورِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] فَإِنْ قِيلَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا تَعَيَّنَ رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ الضَّمِيرُ لِلَّهِ أَوْ لِلرَّسُولِ بِلَا تَرْجِيحِ جَانِبِ الرَّسُولِ وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَأَنَّهُ كَالْمُشْتَرَكِ فِي تَزَاحُمِ الْمَعَانِي فَلَا يُحْتَجُّ بِلَا تَرْجِيحٍ قُلْنَا قَالَ فِي التَّلْوِيحِ أَيْضًا الْعِبَادَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَإِنْ قِيلَ الْمَطْلُوبُ مُطْلَقُ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاللَّازِمُ مِنْ هَذِهِ

الْآيَةِ هُوَ الْوُجُوبُ الْمَفْهُومُ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ لَا غَيْرِهِ مِنْ النَّدْبِ وَالسُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ إذْ الْفِتْنَةُ وَالْعَذَابُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ وَالنَّدْبِ قُلْنَا يَجُوزُ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمَطْلُوبِ أَوْ الْخَاصِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَامَّ قِيلَ لَفْظَةُ عَنْ صِلَةٌ أَيْ زَائِدَةٌ لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] فِي الدُّنْيَا مَفْعُولُ يَحْذَرُ أَيْ لِئَلَّا يُصِيبَهُمْ بَلَاءٌ أَوْ مِحْنَةٌ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْوَلَدِ أَوْ عُقُوبَةٌ أَوْ زَلَازِلُ وَأَهْوَالٌ وَتَسْلِيطُ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ إسْبَاغُ النِّعَمِ اسْتِدْرَاجًا أَوْ قَسْوَةُ الْقَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ أَوْ طَبْعُ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَكْرَارُ الْمُنْكَرِ كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ نَحْوُ الْقَحْطِ وَالْغَلَاءِ وَحَبْسِ الْمَطَرِ وَتَسْلِيطِ الْمَضَرَّاتِ كَالْجَرَادِ وَنَحْوِهَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] مُؤْلِمٌ وَجِيعٌ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ هُوَ الْقَتْلُ. وَفِي الْأَحْزَابِ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ} [الأحزاب: 21] اللَّامُ تَوْطِئَةُ قَسَمٍ أَيْ وَاَللَّهِ قِيلَ الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ {فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] أَيْ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ أَيْ اقْتَدُوا بِهِ اقْتِدَاءً حَسَنًا بِنَصْرِ دِينِهِ وَعَدَمِ تَخَلُّفِهِ وَصَبْرِ شَدَائِدِهِ كَنَفْسِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذْ كُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ وَجُرِحَ وَجْهُهُ وَقُتِلَ عَمُّهُ وَأُوذِيَ بِضُرُوبٍ مِنْ الْأَذَى فَصَبَرَ وَسَامَحَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَافْعَلُوا أَنْتُمْ كَذَلِكَ أَيْضًا وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ قَالَهُ الْخَازِنُ {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} [الأحزاب: 21] قِيلَ بَدَلٌ مِنْ لَكُمْ لَعَلَّ الْأَوْجَهَ صِلَةٌ لِحَسَنَةٍ أَوْ صِفَةٌ لَهَا كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ وَلِقَاؤُهُ قِيلَ أَوْ يَخَافُونَ حِسَابَهُ {وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21] أَيْ نَعِيمَ الْآخِرَةِ أَوْ يَخْشَى يَوْمَ الْبَعْثِ الَّذِي فِيهِ الْجَزَاءُ {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْقَلْبِ أَوْ بِهِمَا فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَفِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَقَرَنَ بِالرَّجَاءِ كَثْرَةَ الذِّكْرِ الْمُؤَدِّيَةِ لِمُلَازَمَةِ الطَّاعَةِ فَإِنَّ الْمُؤْتَسِيَ بِالرَّسُولِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إمَّا بِحَسَبِ الْأَمْرِ الْمُفَادِ الْمَذْكُورِ أَوْ مِنْ إشَارَةِ قَوْلِهِ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ إلَخْ فَحَاصِلُ التَّوْجِيهِ مَثَلًا الِاقْتِدَاءُ الْحَسَنُ بِرَسُولِ اللَّهِ اعْتِصَامٌ بِالسُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءُ وَاجِبٌ فَيُنْتَجُ مِنْ الشَّكْلِ الثَّالِثِ الِاعْتِصَامُ وَاجِبٌ أَمَّا الصُّغْرَى فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا الْكُبْرَى فَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أَمْرَ اقْتَدُوا اقْتِدَاءً حَسَنًا وَأَمْرَ اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ. وَقِسْ عَلَيْهِ وَجْهَ الْأَمْرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَفِي الْأَحْزَابِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ أَوْ لِلْخَلْقِ كَافَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ شَاهِدًا لِوَحْدَانِيِّتِنَا {وَمُبَشِّرًا} [الأحزاب: 45] بِرَحْمَتِنَا أَوْ لِلْمُحْسِنِينَ بِرِضَانَا أَوْ لِمَنْ آمَنَ بِالْجَنَّةِ {وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] لِمَنْ كَذَّبَ بِالنَّارِ أَوْ بِنِقْمَتِنَا أَوْ لِلْعُصَاةِ بِعِقَابِنَا {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 46] إلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوْ دَاعِيًا الْخَلْقَ إلَى بَابِ اللَّهِ {بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 46] بِأَمْرِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ أَوْ بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ بِإِذْنِهِ أَوْ بِتَيْسِيرِ الدَّعْوَةِ إيذَانًا بِأَنَّهُ أَمْرٌ صَعْبٌ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمَعُونَةٍ مِنْ جَنَابِ قُدْسِهِ لِأَنَّ دَعْوَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ إلَى التَّوْحِيدِ أَمْرٌ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] أَيْ كِتَابًا مُبِينًا أَيْ ذَا سِرَاجٍ مُنِيرٍ وَقِيلَ وَسِرَاجًا حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ لِحَضْرَتِنَا أَوْ هَدْيًا لَهُمْ إلَى أَنْوَارِ الْأُنْسِ مُنِيرًا عَلَيْهِمْ ظُلُمَاتِ النَّفْسِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مُنِيرًا يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ وَتُقْتَبَسُ مِنْ نُورِهِ أَنْوَارُ الْبَصَائِرِ. وَعَنْ الْخَازِنِ إنَّمَا سَمَّاهُ سِرَاجًا مُنِيرًا لِأَنَّهُ جَلَا بِهِ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَاهْتَدَى بِهِ الضَّالُّونَ كَمَا يُجْلَى ظَلَامُ اللَّيْلِ بِالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ وَقِيلَ أَيْ أَمَدَّ اللَّهُ بِنُورِ نُبُوَّتِهِ نُورَ الْبَصَائِرِ كَمَا يُمَدُّ بِنُورِ السِّرَاجِ نُورُ الْإِبْصَارِ وَصَفَهُ بِالْإِنَارَةِ لِأَنَّ مِنْ السِّرَاجِ مَا لَا يُضِيءُ لِفُتُورِهِ قِيلَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهِ بِالسِّرَاجِ مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ أَنْوَرُ هُوَ أَنَّ نُورَ الشَّمْسِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ وَنُورُ السِّرَاجِ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْوَارٌ كَثِيرَةٌ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الشَّمْسِ وَأَيْضًا أَنْوَارُ النُّجُومِ عَلَى رَأْيِ الْبَعْضِ فَقِيلَ فِي الْوَجْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السِّرَاجِ هُوَ الشَّمْسُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى

{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] . أَقُولُ إنَّ اسْتِفَادَةَ نُورِ الْقَمَرِ مِنْ الشَّمْسِ قَوْلٌ فَلْسَفِيٌّ لَا ثُبُوتَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَوْ سُلِّمَ فَثُبُوتُهُ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ يَعْرِفُ بُرُوجَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَتَقَارُبَهُمَا وَتَقَابُلَهُمَا وَهَذَا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَأَكْثَرُ مُخَاطَبَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى مُقْتَضَى فَهْمِ الْكُلِّ أَوْ الْأَكْثَرِ وَالْمُفْرَدُ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَبِهِ تَبَيَّنَ فَسَادُ حَالِ أَنْوَارِ النُّجُومِ فَإِنَّهُ لَا إمْكَانَ لِكَوْنِهَا مِنْ الْحَدَثَاتِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْحُكْمِيَّةِ وَالْمِيزَانِيَّةِ ثُمَّ يُرْجَعُ الْكَلَامُ بَعْدَ تَسْلِيمِ مَا أَرَادَ مِنْ الْمَرَامِ إلَى وَجْهِ تَعْبِيرِهِ عَنْ الشَّمْسِ بِالسِّرَاجِ ثُمَّ أَقُولُ لَعَلَّ الْوَجْهَ الْوَجِيهَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالسِّرَاجِ هُوَ الْقُرْبِيَّةُ وَسُهُولَةُ الْأَخْذِ وَاخْتِصَاصُهُ لِلْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ وَهُوَ الْمُؤْمِنُونَ وَإِيقَادُهُ وَقْتَ قَصْدِ الِانْتِفَاعِ وَنَحْوِهَا وَفِي الْأَحْزَابِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] يَعِيشُ فِي الدُّنْيَا حَمِيدًا. وَفِي الْآخِرَةِ سَعِيدًا يَعْنِي يَظْفَرُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَفِي الْحَشْرِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] فَسَّرُوا بِمَالِ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] مِنْ الْغُلُولِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الِاعْتِصَامُ الْمُطْلَقُ وَتَفْسِيرُ الْمُفَسِّرِينَ يَخْتَصُّ بِنَحْوِ الْغَنِيمَةِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ إمَّا تَخْصِيصُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ إرَادَةُ تَعْمِيمِ الْمُصَنِّفِ فَتَأَمَّلْ حَتَّى يَظْهَرَ لَك وَجْهُ الْمُصَنِّفِ أَوْ نَقُولَ الدَّلَالَةُ حَاصِلَةٌ بِمُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 7] فَإِنَّهُ فُسِّرَ بِمُطْلَقِ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَكَذَا قَوْلُهُ {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] لِمَنْ خَالَفَهُ مُطْلَقًا فَهَذِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ آيَةً لِلِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ. (وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ) الدَّالَّةُ عَلَيْهِ أَيْضًا عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّفِ وَاخْتِيَارِهِ فَعِشْرُونَ حَدِيثًا وَهِيَ قَوْلُهُ (الْإِخْبَارُ) الْأَوَّلُ (د) مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (عَنْ الْعِرْبَاضِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (بْنِ سَارِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ» أَيْ نَفْسَ يَوْمٍ أَوْ لَفْظَةُ ذَاتَ مُقْحَمَةٌ لِتَحْسِينِ اللَّفْظِ وَالتَّأْكِيدِ أَوْ مِنْ إضَافَةِ الْمُسَمَّى إلَى اسْمِهِ مِثْلُ ذَاتَ مَرَّةٍ وَمُؤَنَّثُ ذُو أَصْلُهَا ذَوِي فَحُذِفَتْ الْيَاءُ مِنْهُ فَبَقِيَ ذُو وَعُوِّضَ التَّاءُ عَنْهَا فَصَارَتْ ذَوَتْ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ أَلْفًا فَصَارَ ذَاتَ وَقَدْ قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَةِ وَالْوَصْفِيَّةِ وَأُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ الْمُسْتَقِلَّةِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي النِّسْبَةِ إلَيْهَا ذَاتِيٌّ بِإِثْبَاتِ التَّاءِ. وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَهُوِيَّتِه وَعَلَى مَا يُقَابِلُ الْوَصْفَ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ النَّفْسِ وَالشَّيْءِ وَلِذَا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَذَا فِي الْمَوَاهِبِ «ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا» قِيلَ نَقْلًا عَنْ الْمَوَاهِبِ فِي وَجْهِ لَفْظِ ثُمَّ إنَّ الْإِقْبَالَ بَعْدَ الْأَذْكَارِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَبَادَرَ فِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمَسْنُونُ الْمُتَوَارَثُ مِنْ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّحْمِيدَاتِ وَالتَّكْبِيرَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْبَالَ لَيْسَ بَعْدَهَا بَلْ عِنْدَهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ بِمَعْنَى الْفَاءِ. كَمَا نُقِلَ عَنْ الْكُوفِيِّينَ أَوْ مُقْحَمٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْأَخْفَشِ أَوْ لَيْسَ لَهُ هُنَا مُهْلَةٌ كَمَا فِي نَحْوِ {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ} [السجدة: 7 - 8]- فَتَأَمَّلَ «بِوَجْهِهِ» حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ «فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً» عَظِيمَةً «بَلِيغَةً» أَيْ مُجْتَهِدًا غَيْرَ قَاصِرٍ فِيهَا أَوْ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ فَصِيحٍ أَوْ مَوْعِظَةٍ تَامَّةٍ كَامِلَةٍ أَوْ بِكَلَامٍ مُطَابِقٍ لِمُقْتَضَى الْحَالِ مَعَ فَصَاحَتِهِ «ذَرَفَتْ فِيهَا الْعُيُونُ» سَالَ دَمْعُهَا مِنْ الْبُكَاءِ وَقِيلَ لَفْظُ فِي هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ

كَمَا فِي حَدِيثِ «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ» . «وَوَجِلَتْ» بِكَسْرِ الْجِيمِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ «مِنْهَا» تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْضًا «الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ» مِنْ الْحَاضِرِينَ لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ خِلَافَ عَادَتِهِ «يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ» الْمَوْعِظَةَ «مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ» أَيْ كَمَوْعِظَةِ مُوَدِّعٍ أَوْ هِيَ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ لِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ حِينَ إرَادَةِ السَّفَرِ بِنَصَائِحَ يُحْتَاجُ إلَيْهَا غَايَةَ الِاحْتِيَاجِ فَرْطًا لِحُبِّهِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَضِلَّ بَعْدَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ صَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ مُوَدِّعٍ لِهَوَاهُ مُوَدِّعٍ لِعُمْرِهِ وَسَائِرٌ إلَى مَوْلَاهُ وَقِيلَ يَعْنِي صَلِّ صَلَاةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ بَعْدَهُ فَيُصَلِّي بِاسْتِفْرَاغٍ فِي إحْكَامِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يَسْتَفْرِغَ جَهْدَهُ فِي إفَادَةِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ وَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّخْوِيفُ وَالتَّشْدِيدُ أَحْيَانًا «فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا» أَيْ تُوصِينَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْعَهْدُ الْوَصِيَّةُ «قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي آخَرَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ «وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» لِوُلَاةِ الْأُمُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] يُقَالُ فُلَانٌ سَمِعَ مِنْ فُلَانٍ أَيْ امْتَثَلَ «وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا» يَعْنِي وَلَوْ كَانَ أَمِيرُكُمْ حَقِيرًا ذَلِيلًا كَالْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ يَجِبُ عَلَيْكُمْ الطَّاعَةُ لَكِنْ هَذَا إنْ كَانَ أَمْرُهُ عَلَى نَهْجِ الشَّرْعِ وَإِلَّا فَلَا طَاعَةَ لِلْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِإِطَاعَةِ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ إنْ عَلَى الشَّرْعِ فَبِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّرْعِ فَإِنْ أَدَّى عِصْيَانُهُ إلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ فَيُطِيعُ فِيهِ أَيْضًا إذْ الضَّرَرُ الْأَخَفُّ يُرْتَكَبُ لِلْخَلَاصِ مِنْ الضَّرَرِ الْأَشَدِّ وَالْأَعْظَمِ وَكَذَا فِي كُلِّ مَفْسَدَتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ أَمَرَ بِهِ الْإِمَامُ لِمَصْلَحَةٍ دَاعِيَةٍ لِذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ إتْيَانُهُ وَأَيْضًا لَا يُلَائِمُ لِجَوَابِ الْمُجِيبِ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِ «فَإِنَّهُ» أَيْ الشَّأْنَ «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا» . الظَّاهِرُ مِنْ السِّيَاقِ أَيْ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ كَمَا فِي عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَمِنْ السِّيَاقِ أَيْ فِي مُطْلَقِ الْأُمُورِ كَخِلَافِيَّاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ مَا قَالَ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ «فَعَلَيْكُمْ» أَيْ الْزَمُوا «بِسُنَّتِي» . الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُطْلَقِ وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إلَّا أَنْ يُقَالَ نَفْهَمُ الْمُطْلَقَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ الْمُقَيَّدُ خَاصٌّ وَالْمُطْلَقُ عَامٌّ فَالتَّقْرِيبُ تَامٌّ فَافْهَمْ «وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ» أَيْ خُلَفَائِي فِي الْقَامُوسِ الْخَلِيفَةُ السُّلْطَانُ الْأَعْظَمُ. وَعَنْ الرَّاغِبِ الْخِلَافَةُ النِّيَابَةُ عَنْ الْغَيْرِ لِغَيْبَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ أَوْ مَوْتِهِ أَوْ عَجْزِهِ أَوْ تَشْرِيفِ الْمُسْتَخْلَفِ وَعَلَى الْأَخِيرِ اسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ وَالْمُرَادُ الْخِلَافَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً» الَّتِي انْتَهَتْ بِشَهَادَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَمَا قِيلَ مِنْ تَجْوِيزِ مَنْ بَعْدَهُمْ إنْ سَارُوا سِيرَتَهُمْ مِنْ الْأَوْصَافِ الْآتِيَةِ فَكَالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ إذْ بَعْضُ الْحَدِيثِ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ الْآخَرَ عَلَى أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ «ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ» . وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَقَدْ يُزَادُ «عَضُوضًا» يَأْبَى عَنْ ذَلِكَ وَأَيْضًا لَا يُلَائِمُ ذَيْلَ هَذَا الْحَدِيثِ

فَإِنْ قِيلَ الْمَرْجِعُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ إلَى السُّنَّةِ فَقَطْ بَلْ مَجْمُوعُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ أَقُولُ لَعَلَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ شُمُولِ السُّنَّةِ بِهَا وَلَوْ مَجَازًا أَيْ بِطَرِيقَتَيْ وَلَوْ قِيَاسًا. «الرَّاشِدِينَ» الرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ «الْمَهْدِيِّينَ» صِيغَةُ مَفْعُولٍ قِيلَ أَيْ هَدَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَاهْتَدَوْا لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إشَارَةٌ إلَى عِلَّةِ أَمْرِ السَّابِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُلَفَاءِ وَتَمْهِيدٌ لِبَعْضِ الْأَمْرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ «تَمَسَّكُوا بِهَا» أَيْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ السُّنَّتَيْنِ كَأَنَّهُ تَكْرِيرٌ لِزِيَادَةِ تَثْبِيتٍ وَتَأْكِيدٍ لِصُعُوبَةِ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ خُصُوصًا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ وَفِي إفْرَادِ الضَّمِيرِ إشَارَةٌ إلَى رُجُوعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إلَى سُنَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَخْذِهَا مِنْهَا لَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَإِنْ قِيلَ اتِّخَاذُ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إمَّا لِكَوْنِهِمْ خُلَفَاءَ أَوْ لِكَوْنِهِمْ رَاشِدِينَ أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا فَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ عَدَمُ الِاتِّخَاذِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَ خِلَافَتِهِمْ وَأَيْضًا يَجْرِي فِي سَائِرِ الْخُلَفَاءِ وَعَلَى الثَّانِي يَقْتَضِي اتِّخَاذَ سُنَّةِ كُلِّ مَنْ كَانَ رَاشِدًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً. وَعَلَى الثَّالِثِ لَمْ يَقُلْ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ بَلْ كَلَامُهُمْ فِي مُطْلَقِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ صَحَابِيٍّ وَصَحَابِيٍّ نَعَمْ قَدْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِجْمَاعِ إجْمَاعُهُمْ لَكِنَّهُ خِلَافُ الصَّحِيحِ وَلَوْ خُصَّ بِأُمُورِ الْخِلَافَةِ كَالسِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ أَوْ تَدْبِيرِ نِظَامِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ لَا يُلَائِمُ السِّيَاقَ وَالسِّيَاقَ قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُهُمَا مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ أَوْ سُنَّةٍ لِرَسُولٍ إشَارَةٌ إلَى الدِّينِيِّ وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إلَى الْعَادِيِّ وَالْوَصْفَانِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تَبَعِيَّتَهُمْ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِهِمْ عَلَى الرُّشْدِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَبَعْدُ فِيهِ تَأَمُّلٌ. «وَعَضُّوا عَلَيْهَا» أَيْ مُطْلَقِ السُّنَّةِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَى تَيْنِك السَّنَتَيْنِ ( «بِالنَّوَاجِذِ» هِيَ أَقْصَى الْأَضْرَاسِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَوْ هِيَ الْأَنْيَابُ أَوْ الَّتِي تَلِي الْأَنْيَابَ أَوْ هِيَ الْأَضْرَاسُ كُلُّهَا جَمْعُ نَاجِذَةٍ وَالنَّجْذُ شِدَّةُ الْعَضِّ بِهَا كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَهُوَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الِاسْتِمْسَاكِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى غَايَةِ إتْعَابِ الْمُسْتَمْسِكِ بِالسُّنَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَالْمُجَاهِدِينَ مَعَ الْمُخَالِفِينَ وَتَصْعُبُ كَلِمَةُ الْحَقِّ وَيَتْعَبُ فِي الْحَلَالِ قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ كَمَا هُوَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الْأُصُولِ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الدَّلَالَةَ إنَّمَا هِيَ لِلْخُلَفَاءِ لَا الصَّحَابِيِّ وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ وُجُوبَ التَّقْلِيدِ وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ مَعْلُومِيَّةِ خِلَافِهِمْ وَوِفَاقِهِمْ. وَأَمَّا عِنْدَ مَعْلُومِيَّةِ خِلَافِهِمْ فَلَا يَجِبُ إجْمَاعًا وَأَمَّا عِنْدَ مَعْلُومِيَّةِ عَدَمِ خِلَافِهِمْ فَيَجِبُ إجْمَاعًا نَعَمْ قَالُوا كُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ» أَيْ اتَّقُوا وَاحْذَرُوا الْأَخْذَ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّنَّتَيْنِ مِنْ الْأُمُورِ الْحَادِثَةِ الَّتِي لَا إشَارَةَ لَهَا بِالْإِذْنِ مِنْ الشَّارِعِ وَسَيُفَصِّلُ. «فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» هَذَا شَكْلٌ أَوَّلٌ مَذْكُورُ الْمُقَدَّمَتَيْنِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مُبَاحًا وَوَاجِبًا وَمُسْتَحَبًّا وَالتَّخْصِيصُ بِالدِّينِ لَيْسَ بِمُفِيدٍ إذْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ إنَّمَا هِيَ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَفَائِدَتُهُ إنَّمَا تَظْهَرُ لَا الْعَادِيَّاتُ أَقُولُ سَيُوَضِّحُهُ الْمُصَنِّفُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِإِذْنٍ مِنْ الشَّارِعِ فَلَا بِدْعَةَ مُطْلَقًا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» قِيلَ عَنْ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ عَامٌّ خَصَّهُ

حَدِيثُ «فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَحَدِيثُ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» فَاَلَّذِي اجْتَمَعَ عَلَى حَسَنِهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَأَوْهُ حَسَنًا لَيْسَ بِضَلَالَةٍ بَلْ مَثُوبَةٌ كَصَلَاةِ الْقَدْرِ بِالْجَمَاعَةِ وَالتَّصْلِيَةِ وَالتَّرْضِيَةِ

حَالَ الْخُطْبَةِ وَالْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ وَدَوَرَانِ الصُّوفِيَّةِ. وَالذِّكْرِ عِنْدَ الْجِنَازَةِ وَالْعَرَائِسِ وَالسُّؤَالِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالذَّبْحِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَاتِّخَاذِ الطَّعَامِ لِرُوحِ الْمَيِّتِ فِي الْأَيَّامِ الْمُعْتَادَةِ عِنْدَ النَّاسِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي أَصْلِهِ وَمُثَابٌ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ ثُمَّ قَالَ فَنَهْيُ الْمُصَنِّفِ فِتْنَةً فِي الدِّينِ ثُمَّ أُجِيبَ عَنْ تَفَاصِيلِ كُلِّ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ أَقُولُ بِإِجْمَالِ يُقْنَعُ بِهِ عَنْ التَّفْصِيلِ وَهُوَ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ حَمَلُوهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْكَامِلِ وَالْأُمَّةِ الْكَامِلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَاعِدَةُ انْصِرَافِ الْمُطْلَقِ إلَى الْكَمَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُمَّةَ الْكَامِلَةَ وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ عَلَى مَنْعٍ وَخِلَافٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَلِذَا كَانَ دَلِيلُ الْمُقَلِّدِ هُوَ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ لَا النُّصُوصُ إذْ اسْتَخْرَجَ الْأَحْكَامَ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا مَنْصِبُ الْمُجْتَهِدِ وَقَدْ قَالُوا إذَا تَعَارَضَ النَّصُّ وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ إذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ النَّصِّ اجْتِهَادِيًّا وَلَهُ مُعَارِضٌ قَوِيٌّ وَتَأْوِيلٌ وَتَخْصِيصٌ وَنَاسِخٌ وَغَيْرُهَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْمُجْتَهِدُ وَأَنَّ ذَلِكَ كَالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ إذْ الْمَنْعُ عَنْ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ صَرِيحٌ فِي الْفِقْهِيَّةِ. (د ت) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ الْمِقْدَادِ) بْنِ مَعْدِي كَرِبَ وَهُوَ الشَّهِيرُ بِابْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ ثُمَّ قِيلَ هُوَ بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ

بَيْنَهُمَا أَلِفٌ لَكِنْ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ عَنْ التُّحْفَةِ وَأَيْضًا عَنْ التَّنْقِيحِ آخِرُهُ مِيمٌ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَلَا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ. «إنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ» أَيْ تَنَبَّهُوا وَتَحَقَّقُوا إنِّي أُعْطِيت الْقُرْآنَ مِنْ الْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ «وَمِثْلَهُ مَعَهُ» أَيْ وَأُوتِيت مِثْلَ الْقُرْآنِ مَعَهُ يَعْنِي آتَانِيَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَهُ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْإِيتَاءِ هُوَ الْوَحْيُ فَالْقُرْآنُ الْوَحْيُ الْمَتْلُوُّ وَالسُّنَّةُ بِأَنْوَاعِهَا وَلَوْ حَدِيثًا قُدْسِيًّا بَلْ قِيَاسُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْيٌ غَيْرُ مَتْلُوٍّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]-. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «كَانَ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ يُعَلِّمُهُ إيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ» فَالْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ الِاتِّحَادُ فِي مُطْلَقِ الْوَحْيِ لَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ إذْ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ صِفَةً لَهُ تَعَالَى مُعْجِزٌ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ أَيْضًا مُعْجِزًا مَعْنًى وَدَالًّا قَطْعِيًّا فَمَضْمُونُ الْحَدِيثِ قَطْعِيٌّ كَالْقُرْآنِ وَلِهَذَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْحَدِيثِ إنْ ثَبَتَتْ حَدِيثِيَّتُهُ فَلَا يَشْكُلُ بِنَحْوِ مَا يُخَصُّ بِالْقُرْآنِ مِنْ جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَثَوَابِ التِّلَاوَةِ وَحُرْمَةِ مَسِّ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ. «أَلَا يُوشِكُ» بِالْكَسْرِ مُضَارِعٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ مِنْ أَوْشَكَ يُوشِكُ إيشَاكًا إذَا قَرُبَ وَالْمَعْنَى يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ «رَجُلٌ» اسْمُ يُوشِكُ وَخَبَرُهُ يَقُولُ قِيلَ التَّرْكِيبُ لِلنُّدْرَةِ «شَبْعَانَ» صِفَتُهُ مِنْ الشِّبَعِ ضِدُّ الْجُوعِ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَغْرُورِ الْغَافِلِ الْمُنْهَمِكِ بِشَهْوَتِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِالشِّبَعِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ الْحَامِلُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْدُودِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّ الشِّبَعَ سَبَبُ الْحَمَاقَةِ وَالْغَفْلَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَشْبَعْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي الشِّفَاءِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «لَمْ يَمْتَلِئْ جَوْفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِبَعًا قَطُّ» «عَلَى أَرِيكَتِهِ» . فِي الْقَامُوسِ الْأَرِيكَةُ كَسَفِينَةٍ، سَرِيرٌ فِي حَجَلَةٍ، أَوْ كُلُّ مَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ مِنْ سَرِيرٍ وَمِنَصَّةٍ وَفِرَاشٍ، أَوْ سَرِيرٌ مُتَّخَذٌ مُزَيَّنٌ فِي قُبَّةٍ أَوْ بَيْتٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَرِيرٌ فَهُوَ حَجَلَةٌ، جَمْعُهُ أَرَائِكُ انْتَهَى. فَالْمَعْنَى أَلَا يَقْرُبُ رَجُلٌ صَاحِبُ عَيْشٍ وَافِرٍ وَرَفَاهِيَةٍ جَالِسًا عَلَى تَخْتِهِ وَكُرْسِيِّهِ أَنْ «يَقُولَ» بِطَرِيقِ الْوَعْظِ أَوْ لِاحْتِجَاجِ بَعْضِ أَغْرَاضِهِ «عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ» فَقَطْ أَيْ لَا تَلْتَفِتُوا إلَى غَيْرِهِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالسِّيَاقُ. «فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ» أَيْ اتَّخِذُوهُ وَاحْكُمُوا بِحِلِّهِ «وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» اعْتَقِدُوا حُرْمَتَهُ حَاصِلُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ الْغَافِلُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي أَخْذِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَيُرِيدُ الْمَنْعَ عَنْ أَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ أَيْ السُّنَّةِ وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ مِنْهُ إذْ تُؤْخَذُ الْأَحْكَامُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِهِ كَالسُّنَّةِ وَلِهَذَا رَدَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ» يُرِيدُ نَفْسَهُ أَيْ وَإِنَّ مَا حَرَّمْت لَعَلَّ إظْهَارَهُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِلْإِشَارَةِ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ إذْ مُلَاحَظَةُ عِنْوَانِ الرِّسَالَةِ يَجْعَلُ الْحُكْمَ ضَرُورِيًّا «كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» يَعْنِي الْأَحْكَامَ

الْمَدْلُولَةَ مِنْ الْكِتَابِ كَالْأَحْكَامِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ السُّنَّةِ فِي لُزُومِ الِاتِّبَاعِ وَإِيجَابِ الْعَمَلِ بِلَا تَفَاوُتٍ بَلْ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ عَيْنُهَا وَالْمُغَايَرَةُ لَيْسَ إلَّا فِي الظَّاهِرِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الرَّجُلُ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ مُصِيبًا وَقَدْ رَدَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت نَعَمْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْقَائِلِ كَذَلِكَ بَلْ مُرَادُهُ نَفْيُ الْمُرَاجَعَةِ بِالسُّنَّةِ وَالِاكْتِفَاءُ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ كَافِلًا لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَكِنْ لَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ عَلَى فَهْمِهِ غَيْرِ الْمُؤَيَّدِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِأَنْوَارِ الْوَحْيِ وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِجَانِبِ الْحُرْمَةِ مَعَ أَنَّ جَانِبَ الْحِلِّ كَذَلِكَ إمَّا لِعِظَمِ خَطَرِ جَانِبِ الْحُرْمَةِ أَوْ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ فِيهَا لِمَجْبُولِيَّةِ النَّفْسِ عَلَى حُبِّ الْهَوَى أَوْ يُرَادُ تَعْمِيمُ الْحُرْمَةِ عَلَى مَا بِوَاسِطَةِ تَرْكِ الْمَشْرُوعَاتِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ مِنْ الْحُرْمَةِ مُطْلَقُ الْمَنْعِ لِيَشْمَلَ نَحْوَ الْكَرَاهَةِ بَلْ تَرْكُ الْأَوْلَى وَأَيْضًا نَحْوُ السُّنَنِ بَلْ الْآدَابِ فَتَأَمَّلْ. «أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ» أَيْ أَكْلُهُ لَا اسْتِعْمَالُهُ وَالتَّقْيِيدُ بِالْأَهْلِيِّ لِأَنَّ الْوَحْشِيَّ حَلَالٌ وَالْأَهْلِيُّ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ هَذَا قِيلَ النَّهْيُ وَقَعَ يَوْمَ خَيْبَرَ هَذَا تَعْدَادٌ لِبَعْضِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ وَدَلَّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْقَصْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ لَيْسَ لِلِانْحِصَارِ فِيمَا ذُكِرَ بَلْ لَعَلَّهُ لِخُصُوصِيَّةٍ اقْتَضَتْهُ الْوَاقِعَةُ وَالْحَادِثَةُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِوُرُودِ الْحَدِيثِ وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا فِي الْأَدِلَّةِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد «أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ حُمُرِكَ» فَقِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلِفُ الْأَسَانِيدِ وَلَوْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاضْطِرَارِ وَقِيلَ عَلَى ثَمَنِهَا وَأُجْرَتِهَا وَأَقُولُ حَدِيثُ الْحُرْمَةِ صَحِيحٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ بَلْ قَرِيبٌ إلَى الْمَشْهُورِ بِالْمَعْنَى فَلَا يُتَوَهَّمُ التَّعَارُضُ «وَلَا» يَحِلُّ أَكْلُ «كُلِّ ذِي نَابٍ» إذْ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ صِفَةُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ لَا الْأَعْيَانِ «مِنْ السِّبَاعِ» النَّابُ هُوَ السِّنُّ خَلْفَ الرُّبَاعِيَّةِ الْمُرَادُ سَبْعٌ يَصِيدُ بِسِنِّهِ لَعَلَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ تَعْدَادَ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِلَّا فَيَحْرُمُ أَيْضًا كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَكَذَا حَشَرَاتُ الْأَرْضِ كَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْعَقْرَبِ فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَعْرِضُ بَيَانٍ وَمَوْضِعُ تَعْدَادٍ قَالُوا كُلٌّ مِنْهُمَا يُفِيدُ الْحَصْرَ قُلْنَا لَا يُعْمَلُ بِالْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ فِي الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]- الْآيَةَ فَمَا لَا يُذْكَرُ فِي الْآيَةِ لَا يَكُونُ مُحَرَّمًا وَذُو النَّابِ وَالْمِخْلَبِ لَا يُذْكَرَانِ فِيهَا وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ لَكِنْ يُرَدُّ مِنْ طَرَفِ مَالِكٍ مُوجِبُ الْآيَةِ الْحَصْرَ عَلَى الْمَذْكُورِ فَالزِّيَادَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّهُ نُسِخَ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يُفِيدُ الْحَرَامَ الْقَطْعِيَّ بَلْ مَا أَفَادَهُ ظَنِّيٌّ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْكَرَاهَةِ لَعَلَّك لَا تَجِدُ مُخَلِّصًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِادِّعَاءِ شُهْرَةِ الْحَدِيثِ وَلَوْ مَعْنًى وَقَدْ قَالُوا الزِّيَادَةُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ إذْ يُمْكِنُ شُهْرَتُهُ إذْ فِي الزَّيْلَعِيِّ عَنْ مُسْلِمٍ وَابْنِ دَاوُد وَجَمَاعَةٍ أُخَرَ. وَعَنْ الْبُخَارِيِّ وَعَنْ النَّوَوِيِّ أَيْضًا وَغَيْرِهِمْ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ رِوَايَةُ النَّهْيِ عَنْ ذِي نَابٍ وَمِخْلَبٍ. لَكِنْ دَعْوَى الشُّهْرَةِ أَيْضًا فِي مِثْلِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيّ وَالْبَغْلِ وَالْيَرْبُوعِ وَابْنِ عُرْسٍ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ وَنَحْوِهَا بَعِيدٌ إلَّا أَنْ يُدَّعَى الْقِيَاسُ فِي بَعْضِهَا وَدَلَالَةُ النَّصِّ فِي بَعْضِهَا

«وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهَدٍ» أَيْ ذِمِّيٍّ إذْ سَبَقَ مَعَهُ عَهْدُ عِصْمَةِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَاللُّقَطَةُ مَالٌ أُخِذَ مِنْ الْأَرْضِ لِلرَّدِّ إلَى صَاحِبِهِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْفِقْهِيَّةِ وَبِعُمُومِ هَذِهِ الْعِلَّةِ يَدْخُلُ فِيهِ مَالُ الْمُسْتَأْمَنِ وَالتَّقْيِيدِ بِالذِّمَّةِ مَعَ إنَّ الْمُسْلِمَ كَذَلِكَ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِيهِ أَوْ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مَظَانُّ إبَاحَةِ مَالِهِ أَوْ لَأَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً ثُمَّ حُكْمُ أَخْذِ اللُّقَطَةِ الْوُجُوبُ إنْ خِيفَ الضَّيَاعُ وَإِلَّا فَمُسْتَحَبٌّ وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ بِالطَّمَعِ فَالْأَفْضَلُ تَرْكُهَا وَحُكْمُ الرَّدِّ إلَى صَاحِبِهَا الْوُجُوبُ أَيْضًا إنْ أُقِيمَ بُرْهَانٌ وَإِنْ ذَكَرَ عَلَامَةً فَقَطْ فَيَجُوزُ بِلَا وُجُوبٍ وَحُكْمُ حِفْظِهَا حُكْمُ أَمَانَةٍ فَلَا يُضْمَنُ بِلَا تَعَدٍّ إنْ أَشْهَدَ. «إلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا» أَيْ اللُّقَطَةِ «صَاحِبُهَا» لِحَقَارَتِهَا كَتَمْرَةٍ وَقِشْرِ الرُّمَّانِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا وَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَهَا أَبَاحَ لِكُلِّ مَنْ أَخَذَهَا فَيَحِلُّ «وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ» أَيْ صَارَ ضَيْفًا عِنْدَهُمْ «فَعَلَيْهِمْ» بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ إنْ مُضْطَرًّا وَإِلَّا فَنُدِبَ «أَنْ يَقْرُوهُ» يُضَيِّفُوهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ قَرَيْت الضَّيْفَ إذَا أَحْسَنْته فَإِنْ لَمْ يُحْسِنُوهُ فَلَهُ أَخْذٌ قَدْرِهِ الْمُتَعَارَفِ فِي مِثْلِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا مِنْ الضِّيَافَةِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يُصْرَفُ مِنْ ثَمَنِ طَعَامٍ يُشْبِعُهُ لَيْلَتَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ فَالضَّيْفُ يَسْتَحِقُّ لِذَاتِهِ فَالْمَنْعُ ظُلْمٌ لِعَدَمِ إعْطَاءِ حَقِّهِ لَكِنْ يُعْطَى بَدَلُهُ بَعْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لَا يَضْمَنُ إذْ هُوَ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبِالْجُمْلَةِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الضَّرُورَةِ وَقِيلَ مُخْتَصٌّ بِأَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَ «وَلَهُ» أَيْ يَجُوزُ لَهُ «أَنْ يُعْقِبَهُمْ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَالْعُقْبَى جَزَاءُ الْأَمْرِ فَالْمَعْنَى أَنْ يُجَازِيَهُمْ عَلَى مَنْعِهِمْ حَقَّهُ. «بِمِثْلِ قِرَاهُ» أَيْ يَأْخُذُ مِثْلَ ضِيَافَتِهِ عَلَى قَدْرِ اضْطِرَارِهِ وَقِيلَ مُخْتَصٌّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِفَقْرِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ كَمَا عَرَفْت وَلَوْ لَمْ أَكُنْ رَأَيْت عَامَّةَ شُرَّاحِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا النَّهْجِ لَقُلْت فِي شَرْحِهِ وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا كَمَا مَرَّ أَنْ يَقْرُوهُ بِالضِّيَافَةِ وَسَائِرِ مَحَاوِيجِ الضَّيْفِ وَلَهُ أَيْ لِلضَّيْفِ يَجِبُ أَوْ يَنْدُبُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ أَيْ يُكَافِئَهُمْ وَيُقَابِلَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ أَيْ ضِيَافَتِهِ وَإِكْرَامِهِ عَلَى وَفْقِ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]-. (دت) أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا أُلْفِيَنَّ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ

وَكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ لَا أَجِدَنَّ «أَحَدَكُمْ» مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِأَجِد «مُتَّكِئًا» أَيْ مُعْتَمِدًا مَفْعُولُهُ الثَّانِي «عَلَى أَرِيكَتِهِ» سَرِيرِهِ «يَأْتِيهِ» جُمَلٌ حَالِيَّةٌ مِنْ الْفَاعِلِ أَيْ يَصِلُ إلَيْهِ «أَمْرِي» أَيْ شَأْنِي «مِمَّا أَمَرْت بِهِ أَوْ نَهَيْت عَنْهُ» صِيغَتَا مَعْلُومٌ أَوْ مَجْهُولٌ عَلَى طَرِيقِ الْخِلَافَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ لَا بَيَانٌ لِأَمْرِي «فَيَقُولَ» مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ فِي جَوَابِ النَّهْيِ أَوْ النَّفْيِ. «لَا أَدْرِي» أَيْ أَمْرَ الرَّسُولِ يَعْنِي لَا أَعْرِفُ أَمْرَ الرَّسُولِ الَّذِي لَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى مُرِيدًا قَصْرَ الْعَمَلِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ «وَمَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَا» . إذْ مَعْنَاهُ مَا الْتَزَمْنَا تَبَعِيَّتَهُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ لَا غَيْرُ كَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَحَاصِلُ الْحَدِيثِ لَا تَقْصُرُوا الْمُتَابَعَةَ عَلَى الْكِتَابِ بَلْ أَجْمَعُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُنَّتِي وَفِيهِ أَمْرٌ أَكِيدٌ بِمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى إذَا وَصَلَ إلَيْكُمْ أَمْرِي أَوْ نَهْيِي وَلَمْ يُوجَدْ فِي صَرِيحِ كِتَابِ اللَّهِ فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَقُولُوا لَا نَتَّبِعُ لِأَنَّ مَا لَزِمَنَا تَبَعِيَّتُهُ إنَّمَا هُوَ مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَالِاسْتِشْهَادُ مِنْ لُزُومِ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ حَاصِلٌ بِمَا ذُكِرَ فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]- قُلْت هَذَا عَلَى وَفْقِ مَا عَدُّوا السُّنَّةَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مُقَابِلًا لِلْكِتَابِ وَإِلَّا فَالْجَمِيعُ رَاجِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى الْكِتَابِ وَقَدْ عَرَفْت مِمَّا مَرَّ فِي مَحَلِّهِ جَوَازَ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ عِنْدَنَا فَتَأَمَّلْ (د) . (عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ يُكَنَّى أَبَا نَجِيحٍ سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ «قَامَ فِينَا» خَطِيبًا «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ» فِي خُطْبَتِهِ «أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ» حَالَ كَوْنِهِ «مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَظُنُّ» تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِيَحْسَب بِمُرَادِفِهِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ بَدَلَ كُلٍّ لَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ فِي مِثْلِهِ لَا يُعْتَبَرُ الْقُيُودُ وَالْمُتَعَلِّقَاتُ بَعْدَ تَمَامِ أَصْلِ الْجُمْلَةِ بِنَفْسِ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ أَوْ يُعْتَبَرُ قَيْدُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ وَإِلَّا فَلَا تَتَّحِدُ الْجُمْلَتَانِ فَلَا يَظْهَرُ صِحَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا فَتَأَمَّلْ. «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا» وَكَذَا لَمْ يُحِلَّ اكْتَفَى بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ الْتِزَامًا أَوْ عَلَى طَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ أَوْ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا وَاكْتَفَى بِعَدَمِ الْحُرْمَةِ لَكِنْ ذَكَرَ عَدَمَ الْحِلِّ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَمَ الْحُرْمَةِ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّ إلَخْ فَكَأَنَّهُ كَانَ كَالِاحْتِبَاكِ. «إلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ» حَاصِلُهُ لَا تَظُنُّوا انْحِصَارَ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَحْصُلُ مِنْ سُنَّتِي مُمَاثِلًا لِمَا فِي الْقُرْآنِ بَلْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ. «أَلَا وَإِنِّي قَدْ أَمَرْت وَوَعَظْت وَنَهَيْت» عَلَى صِيَغِ الْمَعْلُومِ «عَنْ أَشْيَاءَ» قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ تَقْرِيرًا أَوْ سُكُوتًا فَهَذَا تَعْلِيلٌ أَوْ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ السَّابِقِ مِنْ عَدَمِ انْحِصَارِ الْأَحْكَامِ بِالْقُرْآنِ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْوَهْمِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَوْ الْمُبَيِّنَ نَفْيُ انْحِصَارِ الْحُرْمَةِ بِالْقُرْآنِ وَصَرِيحِ الْعِلَّةِ أَوْ الْبَيَانِ لَيْسَ عَلَى وَفْقِهِ بَلْ زَائِدٌ عَلَيْهِ بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ أَمَرْت وَوَعَظْت إذْ الْحُرْمَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ النَّهْيِ فَالدَّلِيلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ مُسْتَدْرَكَةٍ وَالْبَيَانُ لَيْسَ عَنْ الْمُبَيَّنِ فَمَدْفُوعٌ بِمَا أُشِيرَ آنِفًا إذْ الْمَطْلُوبُ عَامٌّ لِلْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ بَلْ قَرِينَةٌ لِلْعُمُومِ فَيَخْرُجُ لَك تَأْيِيدٌ لِمَا ذُكِرَ هُنَالِكَ. وَأَمَّا الْوَعْظُ أَيْ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ وَالتَّبْشِيرُ وَالْإِنْذَارُ فَإِنَّمَا هُوَ لِتَرْوِيجِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ «أَنَّهَا» أَيْ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا أَمْرِي وَنَهْيِي وَوَعْظِي

الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ «مِثْلُ الْقُرْآنِ» فِي الْكَمِّ وَالْعَدَدِ أَوْ فِي الْقُوَّةِ لَكِنْ لَا يَحْسُنُ مَعَ قَوْلِهِ «أَوْ أَكْثَرَ» إلَّا أَنْ تُؤَوَّلَ كَثْرَةُ الْقُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلْمِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ الْخَفَاءُ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ وَالْوُضُوحُ فِي دَلَالَةِ السُّنَّةِ أَكْثَرُ. وَأَمَّا مَا قِيلَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْقُرْآنِ فِي صِفَةِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فَإِنْ أَرَادَ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ فَنُسَلِّمُ ذَلِكَ إذْ الْقُرْآنُ كُلُّهُ ثَابِتٌ تَوَاتُرًا وَالْحَدِيثُ يَعِزُّ فِيهِ التَّوَاتُرُ اللَّفْظِيُّ أَوْ يَنْعَدِمُ عَلَى أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِنْ أُوجِدَ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ لَكِنْ لَا يُفِيدُ إذْ الْكَلَامُ فِي ذَاتِ الْحَدِيثِ لَا فِي سَنَدِهِ وَطَرِيقِهِ وَإِنْ أَرَادَ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ إذْ قَدْ عَرَفْت فِيمَا مَرَّ وَفِي مَحَلِّهِ أَنَّ السُّنَّةَ تَكُونُ نَاسِخَةً لِلْقُرْآنِ نَعَمْ يُرَجَّحُ الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا لَكِنْ هُوَ كَلَامٌ آخَرُ لَا يَضُرُّ الْمَقْصُودُ هُنَا وَبِمَا ذُكِرَ هُنَالِكَ أَمْكَنَ لَك أَنْ تَقُولَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقُوَّةِ وَالْأَكْثَرِيَّةُ فِي الْعَدَدِ فَإِنْ قِيلَ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مُعَارَضٌ بِمِثْلِ حَدِيثِ «فَإِذَا رُوِيَ عَنِّي حَدِيثٌ فَأَعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ» . وَحَدِيثُ الْبَيْهَقِيّ «إنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي فَمَا آتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ عَنِّي» . وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهَا تَكُونُ بَعْدِي رُوَاةٌ يَرْوُونَ عَنِّي الْحَدِيثَ فَأَعْرِضُوا حَدِيثَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ فَمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ فَحَدِّثُوهُ وَمَا لَمْ يُوَافِقْ الْقُرْآنَ فَلَا تَأْخُذُوا بِهِ» قُلْت قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ أَنَّ مِثْلَهَا مَحْمُولٌ عَلَى حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مَوْضُوعَاتِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي نَعْرِفُ بِهَا كَوْنَ الْحَدِيثِ مَوْضُوعًا مُخَالَفَتُهُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ. وَلِهَذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ قَطْعِيًّا كَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ وَالْحَدِيثُ ظَنِّيًّا ثُبُوتًا كَخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ دَلَالَةً كَالْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ بِاعْتِبَارِ الْخَفَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُصُولِيَّةِ وَنَحْوِهَا وَبَقِيَ أَنَّهُ قِيلَ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ لِابْنِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ لِأَنَّ عِلْمَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُكَاشَفَاتِهِ كَانَ يَزِيدُ لَحْظَةً فَلَمَّا رَأَى زِيَادَةَ عِلْمِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ أَنَّهَا مِثْلُ الْقُرْآنِ قَالَ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ أَكْثَرَ أَيْ بَلْ أَكْثَرَ أَقُولُ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْحُكْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ لَا عَنْ عِلْمٍ فَلَا يُنَاسِبُ مَنْصِبَهُ الْعَالِيَ نَعَمْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهُ {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]- {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]- فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ ثُمَّ التَّحْقِيقُ فِي الْأَحَادِيثِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْقُرْآنِ إنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَبِحَسَبِ نَظَرِ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا بِحَسَبِ التَّحْقِيقِ فَهِيَ مُفَسِّرَاتٌ لِخَفَاءِ الْقُرْآنِ، وَاطِّلَاعُهَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ هُوَ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَأَمَّا الْغَيْرُ وَإِنْ وَلِيًّا صَاحِبَ كَشْفٍ أَوْ عَالِمًا صَاحِبَ اجْتِهَادٍ فَلَا يَصِلُ إلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ كَمَا أُشِيرَ سَابِقًا «وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى» بِالْكَسْرِ «لَمْ يُحِلَّ» مِنْ الْإِحْلَالِ «لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ» مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَذَا غَيْرُهُمَا كَالْمُشْرِكِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ لِاشْتِرَاكِ الْعِلَّةِ الْمُشَارَةِ فِي قَوْلِهِ إذَا أَعْطَوْكُمْ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مُطْلَقُ الذِّمِّيِّ بِعُمُومِ الْمَجَازِ بِتِلْكَ الْقَرِينَةِ «إلَّا بِإِذْنٍ» . قِيلَ عَنْ عَلِيٍّ الْقَارِيّ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ إلَّا بِإِذْنِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ «وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ» أَيْ بِلَا إذْنٍ أَيْضًا لَعَلَّهُ تَرَكَهُ لِانْفِهَامِهِ مِنْ الْقَيْدِ السَّابِقِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إيذَاءٌ بِهِمْ وَإِيذَاؤُهُمْ لِقَبُولِ الْجِزْيَةِ كَإِيذَاءِ الْمُسْلِمِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِذِمِّيٍّ يَا كَافِرُ يَأْثَمُ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ وَيَلْزَمُهُ التَّعْزِيرُ كَمَا فِي الْفَتَاوَى فَأَمْكَنَ لَك أَنْ تُرِيدَ بِهَا النَّهْيَ عَنْ مُطْلَقِ مَا يُؤْذِيهِمْ إذْ قَدْ يَنْتَقِلُ مِنْ عُمُومِ الْعِلَّةِ إلَى عُمُومِ الْحُكْمِ وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَّا لِاقْتِضَاءِ حَادِثَةٍ خَاصَّةٍ فِي وُرُودِ الْحَدِيثِ أَوْ لِابْتِلَاءِ الْخَلْقِ فِي زَمَانِهِ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ أُمِرْنَا فِي الشَّرْعِ بِأُمُورٍ مَعَهُمْ يَلْزَمُ فِيهَا الْأَذَى بِهِمْ كَعَدَمِ إرْكَابِهِمْ دَابَّةً إلَّا حِمَارَ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِ إلْبَاسِ الْعَمَائِمِ وَالْإِنْزَالِ فِي الْمَجَامِعِ وَالتَّضْيِيقِ فِي الْمُرُورِ وَنَحْوِهَا الْمُفَصَّلَةِ فِي الْفِقْهِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِهَانَةِ وَالْخُصُومَةِ قُلْت لَعَلَّ مِثْلَ هَذَا ثَابِتٌ بِأَدِلَّةٍ خِلَافَ الْقِيَاسِ أَوْ أَنَّ ثُبُوتَ الْأَذَى الشَّرْعِيِّ

فِي جِنْسِ مَا ذُكِرَ مَمْنُوعٌ «إذَا أَعْطَوْكُمْ الَّذِي عَلَيْهِمْ» مِنْ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ فَإِنَّهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ فِي حُرْمَةِ دِمَائِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ رَاجِعٌ إلَى مَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ وَمَا قِيلَ فِي الْأُصُولِيَّةِ مِنْ أَنَّ نَحْوَ الِاسْتِثْنَاءِ وَكَذَا الشَّرْطُ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخِيرَةِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَيْسَ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ بَلْ فِي الظُّهُورِ. قَالَ فِي التَّلْوِيحِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ رَدِّهِ إلَى الْجَمِيعِ وَإِلَى الْأَخِيرَةِ خَاصَّةً وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الظُّهُورِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْجَمِيعِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى التَّوَقُّفِ وَبَعْضُهُمْ إلَى التَّفْصِيلِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْأَخِيرَةِ. وَأَمَّا إذَا أَبَوْا عَنْهَا فَلَا تُنْقَضُ ذِمَّتُهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَتُؤْخَذُ جَبْرًا وَأَمَّا لَوْ أَبَوْا عَنْ قَبُولِهَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ كَمَا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ مُطْلَقًا فَتَجْرِي فِيهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَمَا قِيلَ أَنَّهُ إذَا أَبَوْا بَطَلَتْ ذِمَّتُهُمْ فِي قَوْلٍ فَلَيْسَ بِحَسَنٍ (م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَسِنُّهُ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَا رَوَى عَنْ الْحَدِيثِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا خَطَبَ» فِي الْجَمْعِيَّةِ جُمُعَةً أَوْ عِيدًا أَوْ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الْوَقَائِعِ مُطْلَقًا. وَفِي بَعْضِ الْأُصُولِيَّةِ " إنَّ " كَانَ إذَا أُطْلِقَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ لِلدَّوَامِ أَوْ الْكَثْرَةِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّأْنَ فِيهِ الْعُرْفُ فَإِنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَصْدُقَ وَلَوْ عَلَى مَرَّةٍ أَقُولُ الْأَصْلُ فِي " كَانَ " هُوَ الِاسْتِمْرَارُ سِيَّمَا إذَا قُرِنَ بِقَرِينَةِ الِاسْتِمْرَارِ كَلَفْظِ إذَا فِي إذَا خَطَبَ سِيَّمَا فِي الْخَطَابِيَّةِ كَمَا فِي كُتُبِ الْمَعَانِي وَلِهَذَا قَدْ يُقَالُ أَنَّ إذَا سُوِّرَ لِلْكُلِّيَّةِ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ إنَّ إذَا قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِمْرَارِ فِي الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبِلَةِ نَحْوُ {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 14]- وَبِالْجُمْلَةِ الْمُتَبَادَرُ فِي أَمْثَالِهِ هُوَ الْكُلِّيَّةُ أَوْ الْأَكْثَرُ «احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ» الظَّاهِرُ حُدُوثُ الِاحْمِرَارِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْوَقْتِ لَا احْمِرَارُهُمَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي هُوَ غَلَبَةُ الِاحْمِرَارِ عَلَى بَيَاضِ عَيْنَيْهِ كَمَا تُوُهِّمَ وَذَا لِكَمَالِ شَجَاعَتِهِ فِي تَبْلِيغِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى. «وَعَلَا صَوْتُهُ» لِتَنْفِيذِ دَعْوَتِهِ إلَى الْجَوَانِبِ «وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ» لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ خَالَفَ زَوَاجِرَهُ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ عِيَاضٍ هَذَا شَأْنُ الْمُنْذِرِ الْمَخُوفِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِنَهْيٍ خُولِفَ فِيهِ شَرْعُهُ «كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ» مُخَوِّفُهُمْ أَيْ كَمَنْ يُنْذِرُ قَوْمًا مِنْ جَيْشٍ عَظِيمٍ قَصَدُوا الْإِغَارَةَ عَلَيْهِمْ «يَقُولُ» حَالَ كَوْنِهِ يَقُولُ أَوْ صِفَةُ مُنْذِرٍ «صَبَّحَكُمْ» بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أَدْرَكَكُمْ الْعَدُوُّ فِي الصُّبْحِ «وَمَسَّاكُمْ» أَتَاكُمْ وَقْتَ الْمَسَاءِ. فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الطِّيبِيِّ شَبَّهَ فِي خُطْبَتِهِ وَإِنْذَارِهِ بِقُرْبِ الْقِيَامَةِ وَتَهَالُكِ النَّاسِ بِحَالِ مَنْ يُنْذِرُ قَوْمَهُ عِنْدَ غَفْلَتِهِمْ بِجَيْشٍ قَرِيبٍ يَقْصِدُ الْإِحَاطَةَ بِهِمْ بَغْتَةً بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَكَمَا أَنَّ الْمُنْذِرَ مِنْ كَمَالِ غَيْرَتِهِ يَرْفَعُ صَوْتَهُ وَتَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ عَلَى تَغَافُلِهِمْ وَفِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْخَطِيبِ فِي أَمْرِ الْخُطْبَةِ أَنْ يَحْمَرَّ عَيْنُهُ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ وَيُحَرِّكَ كَلَامَهُ وَعَنْ النَّوَوِيِّ وَلَعَلَّ اشْتِدَادَ غَضَبِهِ كَانَ عِنْدَ إنْذَارِهِ أَمْرًا عَظِيمًا وَعَنْ الْمَطَامِحِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إغْلَاظِ الْعَالِمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ وَالْوَاعِظِ عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَشِدَّةِ التَّخْوِيفِ أَقُولُ هَذَا عِنْدَ أَمَارَةِ الرَّدِّ وَشِدَّةِ الْإِصْرَارِ أَوْ لِبَيَانِ مُطْلَقِ الْجَوَازِ وَإِلَّا فَالرِّفْقُ وَاللِّينُ شَرْطٌ «وَيَقُولُ بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَةُ» أَيْ الْقِيَامَةُ «كَهَاتَيْنِ» فِي شِدَّةِ الْقُرْبِ وَبَيْنَ الرَّاوِي الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ بِقَوْلِهِ. «وَيَقْرُنُ» أَيْ يَجْمَعُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيُفَرَّقُ مِنْ التَّفْرِيقِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْوَاوِ وَاَلَّذِي لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ أَنَا وَالسَّاعَةُ وَلِلثَّانِي أَيْضًا وَجْهٌ وَالْمُعْتَمَدُ فِي مِثْلِهِ عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَةِ لَا مَسَاغَ لِلدِّرَايَةِ فِيهِ «بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى بَقَاءِ شَرِيعَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِلَى عَدَمِ تَخَلُّلِ شَرِيعَةٍ أُخْرَى لِعَدَمِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا أَنَّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ

مِقْدَارُ فَضْلِ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ. أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ بَلْ إلَيْهِ إشَارَةٌ وَتَنْبِيهٌ بِالْمُرَادِ «وَيَقُولُ» فِي الْخُطْبَةِ «أَمَّا بَعْدُ» قَدْ عَرَفْت فِي الدِّيبَاجَةِ أَنَّهُ فَصْلُ خِطَابٍ يُؤْتَى بِهِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا بَعْدَ مَقْصُودٌ فِي الْكَلَامِ وَمَا قَبْلَهُ كَتَمْهِيدٍ لِمَا بَعْدَهُ. «فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ» أَيْ كُلِّ حَدِيثٍ وَكَلَامٍ مِمَّا يُتَحَدَّثُ بِهِ «كِتَابُ اللَّهِ» الْقُرْآنُ وَقَدْ عَرَفْت وَجْهَ خَيْرِيَّتِهِ نَظْمًا وَمَعْنًى ( «وَخَيْرَ الْهَدْيِ» بِفَتْحِ الْهَاءِ جَمْعُ هَدِيَّةٍ بِمَعْنَى سِيرَةِ كَالْخَلْقِ «هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ) الْمُرَادُ مِنْ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ سُنَّتُهُ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا قَالَ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَقِيلَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْهُدَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الدَّالِ بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالدَّلَالَةِ إلَى الْخَيْرِ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي خَيْرِيَّةَ هِدَايَةِ الْحَدِيثِ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ تَأَمَّلْ. «وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا إشَارَةٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى إذْنِهَا أَوْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ بَلْ بَعْدَ التَّابِعِينَ فَهَذَا كَعَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ شَرَّ الْأُمُورِ فَمَا وُجِدَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا أَوْ قَوْلًا أَوْ تَقْرِيرًا أَوْ سُكُوتًا فَخَيْرُهَا «وَكُلَّ مُحْدَثٍ» أَيْ فِي الْعِبَادَةِ كَمَا فُهِمَ آنِفًا «بِدْعَةٌ» قَبِيحَةٌ عَلَى خِلَافِ الْمِلَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ «وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» خِلَافُ طَرِيقِ السُّنَّةِ. وَبِمَا حُرِّرَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بِنَحْوِ تَدْوِينِ عُلُومِ الشَّرْعِ وَآلَاتِهَا وَبِنَاءِ الْمَنَارَةِ وَالْمَدْرَسَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ مُرَخَّصَةٌ وَمَأْذُونَةٌ مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ كَمَا يُفَصَّلُ فِي مَحَلِّهِ (تَنْبِيهٌ) : نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْقَيِّمِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْمِنْبَرِ وَالْبَعِيرِ وَلَا يَفْتَتِحُ إلَّا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَفْتَتِحُ فِي خُطْبَةِ الِاسْتِسْقَاءِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَكَثِيرًا مَا يَخْطُبُ بِالْقُرْآنِ وَيَخْطُبُ عِنْدَ كُلِّ حَاجَةٍ وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ الْعَارِضَةُ أَطْوَلَ مِنْ الرَّاتِبَةِ. (خ) يَعْنِي خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ نِسْبَةً إلَى بُخَارَى بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وُلِدَ فِيهَا وَصَارَ كَالْعَلَمِ لَهُ وَلِكِتَابِهِ وَيُقَالُ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ وَإِتْقَانِهِ وَفَهْمِ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَحِدَّةِ ذِهْنِهِ وَدِقَّةِ نَظَرِهِ وَوُفُورِ فِقْهِهِ وَكَمَالِ زُهْدِهِ وَغَايَةِ وَرَعِهِ وَكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى طُرُقِ الْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ كَانَ فِي حِفْظِهِ مِائَةُ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ غَيْرُ صَحِيحٍ مِمَّا يُطْلِقُ السَّلَفُ عَلَيْهِ حَدِيثًا وَفِي صِبَاهُ كَانَ فِي حِفْظِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ حَدِيثٍ وَبِنَظَرٍ وَاحِدٍ يَحْفَظُ مَا فِي الْكِتَابِ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ لَوْ قَدَرْت أَنْ أَزِيدَ مِنْ عُمْرِي فِي عُمْرِ الْبُخَارِيِّ لَفَعَلْت قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيِّ كُنْت بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَرَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ يَا أَبَا زَيْدٍ إلَى مَتَى تَدْرُسُ كِتَابَ الشَّافِعِيِّ وَلَا تَدْرُسُ كِتَابِي قُلْت وَمَا كِتَابُك قَالَ جَامِعُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ أَنَّهُ أُلْهِمَ طَلَبَ الْحَدِيثِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ وَلَمَّا بَلَغَ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً رَدَّ عَلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ غَلَطًا وَفِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَفِظَ كُتُبَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعٌ وَعَرَفَ كَلَامَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ارْتَحَلَ لِلْحَدِيثِ إلَى الشَّامِ وَمِصْرَ مَرَّتَيْنِ وَإِلَى الْبَصْرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْحِجَازِ بِلَا إحْصَاءٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ مَا وَضَعْت فِي صَحِيحِي حَدِيثًا إلَّا بَعْدَ غُسْلٍ وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ وَصَنَّفْته فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَجَعَلْته حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ

تَعَالَى وَصَنَّفْته فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا أَدْخَلْت فِيهِ حَدِيثًا إلَّا بِاسْتِخَارَةٍ وَرَكْعَتَيْنِ فَيَتَيَقَّنُ صِحَّتَهُ. وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ مَا قُرِئَ فِي شِدَّةٍ إلَّا فُرِجَتْ وَمَا رُكِبَ بِهِ فِي مَرْكَبٍ فَغَرِقَ وَأَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَلَقَدْ دَعَا لِقَارِئِهِ وَيُسْتَسْقَى بِقِرَاءَتِهِ قِيلَ وَهُوَ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضٍ أَنَّهُ قَرَأَ الْبُخَارِيَّ لِمُهِمَّاتٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ مَرَّةً وَقَضَى حَاجَاتِهِ وَعَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ دَائِمُ التَّصَدُّقِ لِلْفُقَرَاءِ وَالطَّلَبَةِ وَهُوَ نَفْسُهُ يَقْنَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِلَوْزَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَقِيلَ لَمْ يَأْكُلْ الْإِدَامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قِيلَ أَرْسَلَ إلَيْهِ الْأَمِيرُ نَائِبُ الْخِلَافَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ يَتَلَطَّفُ مَعَهُ وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالصَّحِيحِ وَيُحَدِّثَهُمْ فِي قَصْرِهِ فَامْتَنَعَ وَقَالَ لِرَسُولِهِ قُلْ لَهُ إنِّي لَا أُذِلُّ الْعِلْمَ وَلَا أَحْمِلُهُ إلَى أَبْوَابِ السَّلَاطِينِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَلْيَحْضُرْنِي فِي مَسْجِدِي وَقَالَ الْعِلْمُ يُؤْتَى وَلَا يَأْتِي فَرَاسِلْهُ أَنْ يَعْقِدَ مَجْلِسًا لِأَوْلَادِهِ وَلَا يَحْضُرُ غَيْرُهُمْ فَامْتَنَعَ أَيْضًا وَقَالَ لَا يَسَعُنِي أَنْ أَخُصَّ بِالسَّمَاعِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ فَاسْتَعَانَ الْأَمِيرُ بِعُلَمَاءِ بُخَارَى عَلَيْهِ حَتَّى تَكَلَّمُوا فِي مَذْهَبِهِ فَنُفِيَ عَنْ الْبَلَدِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ أَرِنِي مَا قَصَدُونِي بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ فَلَمْ يَأْتِ شَهْرٌ إلَّا أَرْكَبُوا الْأَمِيرَ عَلَى الْحِمَار فَنُودِيَ عَلَيْهِ وَحُبِسَ إلَى أَنْ مَاتَ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ سَاعَدَهُ إلَّا وَابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ شَدِيدَةٍ وَتُوُفِّيَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ بِسَمَرْقَنْدَ بِلَا وَلَدٍ ذُكِرَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً وَلَمَّا وُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ فَاحَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ كَالْمِسْكِ وَكَانَ يَتَوَارَدُ النَّاسُ مُدَّةً لِأَخْذِ تُرَابِهِ الْكُلُّ مُلَخَّصٌ مِنْ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِعَلِيٍّ الْقَارِيّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي» ظَاهِرُ الْإِضَافَةِ الظَّاهِرَةِ فِي الِاسْتِشْرَافِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ وَبِهِ يَتِمُّ الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ الِاسْتِشْهَادُ لِلِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ خِلَافًا لِمَنْ رَجَّحَ جَانِبَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ بِشَهَادَةِ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا حِينَئِذٍ دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ حِينَئِذٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ لِكَوْنِهِ مُتَّصِلًا أَيْضًا. «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ مُطْلَقًا فَافْهَمْ «إلَّا مَنْ أَبَى» امْتَنَعَ عَنْ الْجَنَّةِ إمَّا بِتَرْكِ الطَّاعَةِ أَوْ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ فَعَلَى الْأَوَّلِ الِامْتِنَاعُ عَنْ الدُّخُولِ الْأَوَّلِيِّ وَعَلَى الثَّانِي هُوَ الْمُطْلَقُ أَوْ عَلَى الْأَوَّلِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ زِيَادَةُ تَغْلِيظٍ وَزَجْرٍ عَنْ الْمَعَاصِي لِإِيهَامِ ظَاهِرِ الصِّيغَةِ حِرْمَانَ صَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ عَنْ الْجَنَّةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي لَفْظِ الْإِبَاءِ ذِكْرٌ لِمُسَبِّبٍ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ إذْ الْإِبَاءُ مُسَبَّبٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِبَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ هُوَ الِارْتِدَادُ عَلَى أَنْ يُرَادَ مَنْ أَطَاعَنِي دَامَ فِي الْإِيمَانِ بِي «قِيلَ» تَعَجُّبًا مَنْ هَذَا الْآبِي «وَمَنْ أَبَى» عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ يَعْنِي نَعْرِفُ مَنْ يَدْخُلُ وَمَنْ أَبَى مِنْهَا. «قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي» بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ «دَخَلَ الْجَنَّةَ» مَعَ السَّابِقِينَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ مُطْلَقًا «وَمَنْ عَصَانِي» بِعَدَمِ التَّصْدِيقِ أَوْ بِارْتِكَابِ الْمُنْكَرِ «فَقَدْ أَبَى» عَنْ الدُّخُولِ الْأَوَّلِيِّ أَوْ الْمُطْلَقِ عَلَى حَسَبِ إرَادَةِ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ أَوْ الدَّعْوَةِ. قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الطِّيبِيِّ وَحَقُّ الْجَوَابِ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى فَعَدَلَ إلَى مَا ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوا ذَاكَ وَلَا هَذَا إذْ التَّقْدِيرُ مَنْ أَطَاعَنِي وَتَمَسَّكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَزَالَ عَنْ الصَّوَابِ وَضَلَّ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ دَخَلَ النَّارَ فَوَضَعَ أَبَى مَوْضِعَهُ وَضْعًا لِلسَّبَبِ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ وَهَذَا قَرِيبٌ إلَى مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ الْقَارِيّ أَنَّ الْعُدُولَ لِإِرَادَةِ التَّفْصِيلِ أَقُولُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ فِي الْجَوَابِ إشَارَةً إلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِ السَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مَجْمُوعِهِمَا لَا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنَّ مَعْرِفَةَ السَّائِلِ الْأُمَّةَ الدَّاخِلَةَ فِي الْجَنَّةِ كُلًّا مَعْرِفَةٌ إمَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ سَبَبَ الدُّخُولِ فَأَجَابَ أَنَّ سَبَبَهُ هُوَ طَاعَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْكِتَابَ أَيْ الْقُرْآنَ كَافٍ فِي الدُّخُولِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى السُّنَّةِ فَأَجَابَ بِمَا تَرَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ إنَّمَا يَتِمُّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ مِنْ إطَاعَةِ الرَّسُولِ حَاصِلُ التَّقْرِيرِ مَثَلًا الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ إطَاعَةً لِلرَّسُولِ وَإِطَاعَةُ الرَّسُولِ مُوجِبَةٌ وَلَوْ عَادِيَّةً لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا فَوَاجِبٌ

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ الْمَرْمُوزُ لَهُ بِقَوْلِهِ (حك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) هُوَ سَعِيدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيِّ الْخُدْرِيِّ كَانَ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ الْعُلَمَاءِ الْفُضَلَاءِ وَأَوَّلِ مُشَاهَدِهِ الْخَنْدَقِ وَغَزَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَرَوَى أَلْفًا وَمِائَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا» . قِيلَ الطَّيِّبُ هُوَ الْحَلَالُ وَقِيلَ أَخَصُّ مِنْهُ إذْ الْحَلَالُ يَصْدُقُ عَلَى مَا فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ دُونَ الطَّيِّبِ وَمَثَّلَ بِأَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي أَخَّرَ فِيهِ الصَّلَاةَ أَوْ تَرَكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ الزَّرْعَ الَّذِي حَمَلَ الْبَقَرُ فِيهِ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَكَذَا مُطْلَقُ تَحْمِيلِ الدَّابَّةِ أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي أَخَّرَ أَدَاءَهُ عَنْ وَقْتِهِ سِيَّمَا بَعْدَ طَلَبِ دَائِنِهِ حَلَالٌ لَيْسَ بِطَيِّبٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. «عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ أَوْسٍ أَنَّهَا بَعَثَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَدَحِ لَبَنٍ عِنْدَ فِطْرِهِ فَرَدَّ عَلَيْهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَنَّى لَك هَذَا قَالَتْ مِنْ شَاةٍ لِي قَالَ أَنَّى لَك الشَّاةُ قَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْ مَالِي فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَتْ الرُّسُلُ أَنْ لَا تَأْكُلَ إلَّا طَيِّبًا وَلَا تَعْمَلَ إلَّا صَالِحًا» . «وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ» أَيْ جَعَلَ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ ظَرْفًا مُسْتَوْعَبًا لِعَمَلِهِ فَلَا يَخْرُجُ دَقِيقَةٌ مِنْ عَمَلِهِ عَنْ السُّنَّةِ بِلَا ابْتِدَاعٍ قَالَ الْمُنَاوِيُّ نَكَّرَهَا أَيْ السُّنَّةَ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ سُنَّةٍ وَرَدَتْ فِيهِ «وَأَمِنَ النَّاسُ» أَيْ كُلُّ النَّاسِ وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ ذِمِّيًّا لَعَلَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مَنْ يَلْزَمُ أَذَاهُ لِانْزِجَارِ مَعَاصِيهِ وَإِجْرَاءِ لَوَازِمِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ «بَوَائِقَهُ» مَفْعُولُ أَمِنَ جَمْعُ بَائِقَةٍ بِمَعْنَى الدَّاهِيَةِ الْمُرَادُ الشُّرُورُ كَالظُّلْمِ وَالْإِيذَاءِ وَالْغِشِّ. وَعَنْ الطِّيبِيِّ تَنْكِيرُ سُنَّةٍ لِإِرَادَةِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ بِحَسَبِ إفْرَادِهِ وَفَائِدَتُهُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ وَرَدَتْ فِيهِ سُنَّةٌ يَنْبَغِي رِعَايَتُهَا حَتَّى قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِي ظَاهِرِهِ مِنْ بَحْثٍ أُصُولِيٍّ وَأَيْضًا مَا فِي وَجْهِ دَلَالَةِ لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. «دَخَلَ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا عَادِيًّا وَتَفَضُّلِيًّا بِلَا إيجَابٍ بِلَا عَذَابٍ فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ ظَرْفَ جَمِيعِ عَمَلِهِ كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ فِي الطَّاعَةِ فَكَانَ مِنْ السَّابِقِينَ إلَى الْجَنَّةِ إذْ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا لَا يَكْتَسِبُ خَطِيئَةً مُبْعِدَةً فَالتَّقْيِيدُ بِأَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ يَقْتَرِفْ سَيِّئَةً وَلَمْ يَتْرُكْ فَرْضًا إلَّا إنْ تَابَ وَإِلَّا فَهُوَ فِي خَطَرِ الْمَشِيئَةِ ذُهُولٌ عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَسِرُّهُ نَعَمْ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالسُّنَّةِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُعَذَّبُ أَوْ يُعْفَى «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا فِي أُمَّتِك الْيَوْمَ كَثِيرٌ» لِكَوْنِهِمْ خَيْرَ الْقُرُونِ وَلِسُطُوعِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَلِعَدَمِ حُدُوثِ الْبِدَعِ. «قَالَ وَسَيَكُونُ فِي قَوْمٍ بَعْدِي» لَمْ يَقُلْ وَكَثِيرٌ مِنْ بَعْدِي لِقِلَّتِهِمْ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» وَأَيْضًا الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ فِي قَوْمٍ يُشْعِرُ بِذَلِكَ فَتَنْكِيرُ قَوْمٍ لِلتَّقْلِيلِ وَقِيلَ لِلتَّعْظِيمِ فَإِنْ قِيلَ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِاكْتِفَاءِ سِينِ سَيَكُونُ أَوْ قَوْلُهُ بَعْدِي قُلْت لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِشَارَةِ إلَى اسْتِمْرَارِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا يُؤَيِّدُهُ نَصُّ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ إنَّ خِطَابَهُ تَعَالَى بِمِثْلِهِ فِي الْقُرْآنِ عَامٌّ لِلْحَاضِرِينَ وَقْتَ النُّزُولِ وَلِلْغَائِبِينَ الْمَوْجُودِينَ بَعْدَهُ إمَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالتَّغْلِيبِ قِيلَ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ فَلَا يَخْتَصُّ بِالْقَرْنِ الْأَوَّلِ بَلْ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ انْتَهَى. (هق) (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَمَسَّكَ» أَيْ اعْتَصَمَ وَتَحَفَّظَ «بِسُنَّتِي» اعْتِقَادًا وَفِعْلًا وَقَوْلًا لَفْظُ السُّنَّةِ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ فَيَشْمَلُ الْهَدْيَ وَالرَّوَاتِبَ وَالزَّائِدَ وَالظَّاهِرُ إضَافَتُهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ إذْ لَا قَرِينَةَ لِلْعَهْدِ وَلَا دَلِيلَ لِلْجِنْسِ فَالْأَجْرُ الْمَوْعُودُ إنَّمَا هُوَ لِإِتْيَانِ الْجَمِيعِ إذْ قَدْرُ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ نَعَمْ قَوْلُهُ «عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي» يُلَائِمُ اخْتِصَاصَهُ بِسُنَّةٍ يُوجِبُ تَرْكُهَا الْفَسَادَ إلَّا إنْ اتَّسَعَ فِي الْفَسَادِ وَيَعُمُّ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْبِدَعِ إلَى ارْتِكَابِ مَكْرُوهٍ وَلَوْ تَنْزِيهًا أَوْ تَرْكِ أَوْلَى فَتَأَمَّلْ

«فَلَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ» مَقْتُولٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِإِعْزَازِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ لِأَنَّ إتْيَانَ السُّنَّةِ حِينَئِذٍ كَالْمُجَاهِدِ الْمُقَاتِلِ فِي الْغُزَاةِ وَالصَّبْرِ عَلَى إتْيَانِ السُّنَّةِ أَشَقُّ مِنْ الصَّبْرِ فِي الْمَعْرَكَةِ إذْ الْبَلِيَّةُ إذَا عَمَّتْ طَابَتْ وَإِذَا خَصَّتْ أَتْعَبَتْ وَشَقَّتْ وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ إنَّ جِهَادَ النَّفْسِ هُوَ الْجِهَادُ الْأَعْظَمُ وَفِي الْحَدِيثِ إنَّ «خَيْرَ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا وَأَجْرُكُمْ بِقَدْرِ تَعَبِكُمْ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَمْسِكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ اخْتِلَافِ أُمَّتِي كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» . وَقَالَ «حِفْظُ الدِّينِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَالْجَمْرِ فِي الْيَدَيْنِ إنْ وَضَعَهُ طَفِئَ وَإِنْ أَمْسَكَهُ احْتَرَقَ» كَمَا حَرَّرَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي خواجه زَادَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَعَنْ الْمَوَاهِبِ: وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْمُجَاهَدَةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْمَأْلُوفِ وَفِيهِ قَهْرُ النَّفْسِ وَالْمُحَارَبَةُ لَهَا وَالْجِهَادُ مَعَهَا جِهَادٌ أَكْبَرُ دِيَةُ مَقْتُولِ الْخَلْقِ أَلْفُ دِينَارٍ ... وَدِيَةُ مَقْتُولِ الْحَقِّ رُؤْيَةُ الْغَفَّارِ ثُمَّ أَقُولُ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمِائَةِ هُوَ بَيَانُ قَدْرِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ لَا الْحَصْرِ بِهِ بَلْ قَدْ يَزِيدُ وَقَدْ لَا يَبْلُغُ عَلَى حَسَبِ تَمَسُّكِ الْمُتَمَسِّكِ وَحَالِهِ إذْ التَّمَسُّكُ يَقْتَضِي زَمَانًا مُتَمَادِيًا بِتَمَادِي الْعُمْرِ فَرُبَّ نَفْسٍ يَقْتُلُهَا صَاحِبُهَا كَثِيرًا وَرُبَّ نَفْسٍ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ أَقَلُّ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مَنْ تَمَسَّكَ بِالسُّنَّةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَإِلَّا فَالْمُبْتَدِعُ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ آخِرًا ثُمَّ قَالَ عَنْ الْبِسْطَامِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ هَمَمْت أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ كِفَايَةَ مُؤْنَةِ الطَّعَامِ ثُمَّ قُلْت كَيْفَ يَجُوزُ لِي أَنْ أَسْأَلَ مَا لَمْ يَسْأَلْهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَعَنْ الدَّارَانِيِّ رُبَّمَا وَقَعَ فِي قَلْبِي نُكْتَةٌ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ أَيَّامًا فَلَا أَقْبَلُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَعَنْ الْجُنَيْدِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَنْ الْخَلْقِ إلَّا عَلَى مَنْ اقْتَفَى أَثَرَ الْمُصْطَفَى. وَعَنْ ابْنِ قِوَامٍ اسْتَأْذَنْت شَيْخِي فِي الْمُضِيِّ لِوَالِدِي فَأَذِنَ وَقَالَ سَيَحْدُثُ لَك اللَّيْلَةَ أَمْرٌ عَجِيبٌ فَاثْبُتْ وَلَا تَجْزَعْ فَخَرَجْت فَسَمِعْت صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَإِذَا أَنْوَارٌ مُتَسَلْسِلَةٌ فَالْتَفَتَ عَلَى ظَهْرِي حَتَّى أَحْسَسْت بِبَرْدِهَا فَرَجَعْت فَأَخْبَرْت الشَّيْخَ فَقَالَ هَذِهِ سِلْسِلَةُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ صَحَابِيٌّ مَاتَ فِي وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الدِّينَ» هُوَ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ وَضْعٌ إلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودِ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ بِالذَّاتِ «بَدَأَ» بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَيْ ابْتَدَأَ أَوْ بَدَا بِالْأَلِفِ أَيْ ظَهَرَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ بَدَا الْأَمْرُ بُدُوًّا مِثْلُ قَعَدَ قُعُودًا أَيْ ظَهَرَ وَأَبْدَيْته أَظْهَرْته «غَرِيبًا» مُسْتَغْرَبًا يَسْتَغْرِبُ أَحْكَامَهُ كُلُّ أَحَدٍ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ وَائْتِلَافٍ بِهِ أَوْ هُوَ كَرَجُلٍ غَرِيبٍ لَا أَنِيسَ لَهُ وَلَا صَاحِبَ وَلَا حَافِظَ لَهُ وَلَا حَامِيَ يُوَاسِي أُمُورَهُ وَيَسْعَى فِي مَصَالِحِهِ «وَيَرْجِعُ غَرِيبًا» وَيَعُودُ إلَى الْغُرْبَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَقِلُّ صَاحِبُهُ وَيَكْثُرُ مُخَالِفُهُ وَلَا يُوجَدُ نَاصِرُهُ بَلْ يُهَانُ آتِيهِ وَعَامِلُهُ فَيَصِيرُ كَالْمُسْلِمِ بَيْنَ الْكَافِرِ كَمَا فِي أَوَّلِهِ. «فَطُوبَى» فُعْلَى مِنْ الطِّيبِ قَلَبُوا الْيَاءَ وَاوًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا وَيُفَسَّرُ بِالْجَنَّةِ وَالْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ وَالسَّلَامَةِ السَّرْمَدِيَّةِ وَالْخَصْلَةِ الْحَسَنَةِ وَغَايَةِ الْأُمْنِيَّةِ وَبِاسْمِ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ «لِلْغُرَبَاءِ» جَمْعُ غَرِيبٍ هُوَ شَخْصٌ مُفَارِقٌ عَنْ وَطَنِهِ وَالْمُرَادُ هُنَا مَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ» ضِدُّ الْإِفْسَادِ «مَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ» الْعَوَامُّ الَّذِينَ رَضُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ بِإِيثَارِهِمْ مَا يَفْنَى مِنْ النِّعَمِ الْعَاجِلَةِ عَلَى مَا يَبْقَى مِنْ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ

الْآجِلَةِ. «مِنْ بَعْدِي» مُتَعَلِّقٌ بِأَفْسَدَ «مِنْ سُنَّتِي» بَيَانٌ لِ " مَا "، وَالْإِصْلَاحُ إمَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالنَّصَائِحِ الْحَسَنَةِ وَالْمَوَاعِظِ الْمُسْتَحْسَنَةِ أَوْ بِالْعَمَلِ عَلَى السُّنَّةِ مُخَالِفًا لِجُمْهُورِ الْمُخَالِفِينَ أَوْ بِتَصْنِيفِ كُتُبٍ أَوْ تَدْرِيسِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِ دِينٍ وَفُسِّرَ الْغُرَبَاءُ فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» . قَالَ شَارِحُهُ وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ يُبْغِضُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ» وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا رَأَيْت الْعَالِمَ كَثِيرَ الْأَصْدِقَاءِ فَمُخْتَلِطٌ لِأَنَّهُ لَوْ نَطَقَ بِالْحَقِّ لَأَبْغَضُوهُ (م) مُسْلِمٌ (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) هُوَ الْحَارِثِيُّ الْأَنْصَارِيُّ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا لِصِغَرِ سِنِّهِ وَشَهِدَ أُحُدًا وَأَكْثَرُ الْمَشَاهِدِ وَأَصَابَهُ سَهْمٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا أَشْهَدُ لَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَانْتَقَضَتْ جِرَاحَتُهُ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَلَهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَقِيلَ مَاتَ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتُمْ أَعْلَمُ» أَكْثَرُ عِلْمًا «بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِكُمْ بِذَلِكَ وَعَدَمِ اشْتِغَالِي لِعَدَمِ قَدْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَقُ بِهِ نَقْصٌ بَلْ يَزِيدُ كَمَالًا إذْ الدُّنْيَا مَعَ مَا فِيهَا مَلْعُونَةٌ إلَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِلْمُ نَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ. وَعِنْدَ وُقُوعِ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ هَكَذَا زَادَ الْمُنَاوِيُّ عَلَيْهِ مُشْعِرًا بِكَوْنِهِ حَدِيثًا هَكَذَا «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ مِنِّي وَأَنَا أَعْلَمُ بِأَمْرِ أُخْرَاكُمْ مِنْكُمْ» فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا لِإِنْقَاذِ الْخَلَائِقِ مِنْ الشَّقَاوَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَفَوْزِهِمْ بِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ قَالَ بَعْضُهُمْ فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَإِنْ كَانُوا أَحْذَقَ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْوَحْيِ وَالدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ أَشْرَحُ النَّاسِ قُلُوبًا مِنْ جِهَةِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَجَمِيعُ مَا يُشَرِّعُونَهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ وَلَيْسَ لِلْأَفْكَارِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ» فِعْلًا أَوْ كَفًّا أَوْ مُطَابَقَةً وَالْتِزَامًا إذْ النَّهْيُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَمْرِ فَمَعْنَى لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ اُكْفُفْ عَنْهُ لَا يَخْفَى أَنَّ لَفْظَ شَيْءٍ نَكِرَةٌ فِي الْمُثْبَتِ فَخَاصٌّ وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ إذْ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ إذَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَخُذُوهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يَعُمُّ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ إذْ الظَّرْفُ الْمُسْتَقِرُّ صِفَةٌ لِشَيْءٍ وَالْمُتَكَلِّمُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ فَالنَّبِيُّ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ «فَخُذُوا بِهِ» تَمَسَّكُوا وَاعْتَصِمُوا بِهِ فَالِاسْتِشْهَادُ حَاصِلٌ بِهِ. (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ» أَيْ إيمَانًا كَامِلًا وَنَفْيُ اسْمِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى نَفْيِ كَمَالِهِ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ وَيُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إذْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا مَنْ لَا يُحِبُّ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ «حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ» أَيْ مَيْلُهُ وَمَحَبَّتُهُ «تَبَعًا» تَابِعًا «لِمَا جِئْت بِهِ» مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الشَّرَائِعِ فَلَا يَخْتَارُ شَيْئًا بِلَا إذْنٍ شُرِعَ فَيَجْعَلُ هَوَاهُ تَابِعًا لِلشَّرْعِ وَلَا يَجْعَلُ الشَّرْعَ تَابِعًا لِهَوَاهُ (خ م) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «وَاَللَّهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي» فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقَاضِي إمَّا أُمَّةُ دَعْوَةٍ فَيَشْمَلُ الْكَافِرَ أَوْ أُمَّةُ إجَابَةٍ فَيَخُصُّ بِالْمِلَلِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَعَنْ الطِّيبِيِّ فِي التَّعَدِّيَةِ بِلَفْظِ عَلَى إشَارَةٌ إلَى غَلَبَةِ الْهَلَاكِ «كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ» مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ. وَعَنْ بَعْضِ شُرَّاحِ التِّرْمِذِيِّ الْكَافُ فِي كَمَا اسْمِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ يَضْحَكْنَ عَنْ كَالْبَرَدِ بِمَعْنَى مِثْلُ وَمَحَلُّهُ مِنْ الْإِعْرَابِ رُفِعَ لِأَنَّهُ فَاعِلُ لَيَأْتِيَن أَيْ مِثْلُ الَّذِي أَتَى «حَذْوَ» بِالنَّصْبِ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يَحْذُونَهُمْ حَذْوَ «النَّعْلِ» الْحَذْوُ الْقَطْعُ وَالتَّقْدِيرُ يُقَالُ حَذَوْت النَّعْلَ

«بِالنَّعْلِ» إذَا قَدَرَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى صَاحِبَتِهَا لِتَكُونَا عَلَى السَّوَاءِ وَالْمَعْنَى لَيَأْتِيَن عَلَى أُمَّتِي مُخَالَفَةٌ مِثْلُ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي أَتَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ فَتَكُونُ هَذِهِ الْأُمَّةُ تَابِعَةً آثَارَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِيمَا عَمِلُوا بِهِ فِي أَدْيَانِهِمْ وَأَحْدَثُوا فِيهَا مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ. «حَتَّى» لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَقِيلَ ابْتِدَائِيَّةٌ «إنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى» زَنَى «أُمَّهُ عَلَانِيَةً» جِهَارًا فَهَذَا غَايَةٌ فِي الْمَعْصِيَةِ وَنِهَايَةٌ فِي الْفَضَاحَةِ وَالْقَبَاحَةِ وَقِيلَ الْمُرَادُ زَوْجَةُ الْأَبِ مُطْلَقًا أَوْ مُطْلَقُ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الْمَصِيرُ إلَى الْمَجَازِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ وَالْمُتَعَذِّرُ هُنَا هُوَ الْمَجَازُ إذْ الْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْفَصَاحَةِ كَمَا عَرَفْت «لَكَانَ» اللَّامُ جَوَابٌ لِأَنَّ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى لَوْ كَمَا أَنَّ لَوْ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الطِّيبِيِّ. «مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ» وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي أُمَّتِي ( «وَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً» بِالْكَسْرِ الشَّرِيعَةُ وَالدِّينُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَعَنْ الطِّيبِيِّ ثُمَّ اتَّسَعَتْ فِي الشَّرَائِعِ الْبَاطِلَةِ فَقِيلَ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ «وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي» الظَّاهِرُ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ وَيَحْتَمِلُ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ عَدَمُ مُلَاءَمَةِ آخِرِ الْحَدِيثِ وَقِيلَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنَّ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ أَكْثَرُ افْتِرَاقًا فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَدُّ عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ كَثْرَةُ الْأُصُولِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَإِنْ أُرِيدَ كَثْرَةُ الْفُرُوعِ فَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَقَدْ أَوْرَدَ بِهِ عَلَيْهِ وَأُجِيبَ أَنَّ الْمُرَادَ الْفُرُوعُ لَكِنْ يَكْفِي بُلُوغُهُ إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَإِنْ تَجَاوَزَ فِي بَعْضِ حِينٍ آخَرَ «عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً» فَإِنْ قِيلَ تَفَرُّقُ بَنِي إسْرَائِيلَ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ وَتَفَرُّقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ فَكَيْفَ أَمْرُ الْمُمَاثَلَةِ وَقَدْ قَالَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ قُلْت لَعَلَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا لَا يَرْضَى عَنْهُ فَقَطْ كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً فَقَدْرُ جَمِيعِ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى قَدْرِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. «كُلُّهُمْ فِي النَّارِ» بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ وَإِنْ جَازَ عَدَمُ الدُّخُولِ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى عَفْوُهُ أَوْ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ فَيَكُونُ لِلتَّطْهِيرِ فَلَا يُخَلَّدُ وَإِنْ أُرِيدَ الدَّعْوَةُ فَالنَّارُ لِلتَّكْفِيرِ فَيُخَلَّدُ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ مِنْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ مَنْ يَكْفُرُ كَالْمُجَسِّمَةِ وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ تَفْصِيلَهُ فَيَلْزَمُ إمَّا أَنْ يُقَالَ إنْ بَلَغَ ابْتِدَاعُهُ إلَى الْكُفْرِ فَخَارِجٌ عَنْ الْإِجَابَةِ أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْ النَّارِ هُوَ الْمُطْلَقُ خُلُودًا وُجُوبًا أَوْ دُخُولًا جَوَازًا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ هَذَا مَعَ كَوْنِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَحْمَةً كَمَا حَدِيثُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» . قُلْت الْمُرَادُ مِنْ الْأُمَّةِ الْمُجْتَهِدُ وَلَا اجْتِهَادَ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ فِي وَلَوْ سَلِمَ الِاخْتِلَافُ فَالْمُرَادُ فِي الْفُرُوعِ وَالْأَحْكَامِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ تَفْسِيرِ الْقَاضِي وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْبَيْهَقِيّ «اخْتِلَافُ أَصْحَابِي لَكُمْ رَحْمَةٌ» وَلَا شَكَّ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ لَيْسَ إلَّا فِي الْأَحْكَامِ كَمَا نُقِلَ عَنْ السَّمْهُودِيِّ وَقِيلَ الْمُرَادُ الِاخْتِلَافُ فِي الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا خُصُوصَ لِلْأُمَّةِ بَلْ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَعَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْمَنَاصِبِ وَالدَّرَجَاتِ وَرُدَّ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الِاخْتِلَافِ فَإِنْ قُلْت ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]- شَامِلٌ لِلْكُلِّ أَقُولُ يَجِبُ تَوْفِيقُ النُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ مَا أَمْكَنَ عَلَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا الْمُرَادُ هُوَ الِاخْتِلَافُ عَلَى الرُّسُلِ وَأَيَّدُوا بِحَدِيثِ «إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ كَثْرَةِ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ اخْتِلَافَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْفُرُوعِ مَغْفُورٌ لِمَنْ أَخْطَأَ بَلْ لَهُ أَجْرٌ وَلِلْمُصِيبِ أَجْرَانِ إلَّا أَنْ يُقَصِّرَ فِي الِاجْتِهَادِ بِأَنْ يُخْطِئَ مَعَ بَيِّنَةِ الْحَقِّ. فَإِنْ قِيلَ كَوْنُ اخْتِلَافِ الْأُمَّةِ رَحْمَةً مُنَافٍ لِمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَنَّ مَنْ قَلَّدَ مُجْتَهِدًا مُعَيَّنًا لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ عَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْآمِدِيِّ مَنْ عَمِلَ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ إمَامٍ لَيْسَ لَهُ الْعَمَلُ فِيهَا بِقَوْلِ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا قُلْت قَالَ الْمُنَاوِيُّ إنْ أَرَادَ الِاتِّفَاقَ الْأُصُولِيَّ فَلَا يَلْزَمُ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ وَالْكَلَامُ فِيهِ وَإِلَّا فَمَرْدُودٌ وَزَعْمُ الِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ أَوْ مَفْرُوضٌ فِيمَا لَوْ بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ الْأَوَّلِ مَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ حَقِيقَتِهِ ثُمَّ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الِانْتِقَالِ أَحْوَالٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَعْتَقِدَ بِهِ مَذْهَبَ الْغَيْرِ فَيَجُوزُ عَمَلُهُ بِالرَّاجِحِ الثَّانِي أَنْ لَا يَعْتَقِدَ رُجْحَانَ شَيْءٍ فَيَجُوزُ الثَّالِثُ أَنْ يَقْصِدَ الرُّخْصَةَ فِيمَا يَحْتَاجُهُ لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ أَوْ ضَرُورَةٍ أَرْهَقَتْهُ فَيَجُوزُ الرَّابِعُ أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ

التَّرَخُّصِ فَيَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لِهَوَاهُ لَا لِدِينٍ الْخَامِسُ أَنْ يَكْثُرَ ذَلِكَ وَيَجْعَلَ اتِّبَاعَ الرُّخَصِ دَيْدَنَهُ فَيَمْتَنِعُ لِمَا ذُكِرَ وَلِزِيَادَةِ فُحْشِهِ السَّادِسُ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ مُمْتَنِعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَمْتَنِعُ السَّابِعُ أَنْ يَعْمَلَ بِتَقْلِيدِ الْأَوَّلِ كَحَنَفِيٍّ يَدَّعِي شُفْعَةَ جِوَارٍ فَيَأْخُذُهَا بِمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيُرِيدُ تَقْلِيدَ الشَّافِعِيِّ فَيَمْتَنِعُ لِخَطَئِهِ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ مُكَلَّفٌ وَكَلَامُ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ مَصْلَحَةً دِينِيَّةً فَلَا يُمْنَعُ فِي الِانْتِقَالِ ثُمَّ قَالَ وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى مَنْعِ الِانْتِقَالِ مُطْلَقًا قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْمُنْتَقِلُ بِاجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ آثِمٌ وَيُعَزَّرُ وَبِدُونِهَا أَوْلَى وَقَدْ انْتَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ لِغَيْرِهِ كَالطَّحَاوِيِّ مِنْ الشَّافِعِيِّ إلَى الْحَنَفِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ مِنْ الْحَنَفِيِّ إلَى الشَّافِعِيِّ. وَتَمَامُهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَهُ لَكِنْ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّهُ لَا نَصَّ لِأَحَدٍ فِي تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ مُعَيَّنٍ فَلِكُلٍّ أَنْ يُقَلِّدَ فِي أَيِّ مَسْأَلَةٍ لِأَيِّ مُجْتَهِدٍ وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ إذَا عَمِلَ الْعَامِّيُّ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ اتِّفَاقًا. وَأَمَّا فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ الْمُخْتَارُ جَوَازُهُ «إلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» قِيلَ إنْ أُرِيدَ مِنْ الِافْتِرَاقِ فِي الِاعْتِقَادِ فَقَطْ فَالْمُسْتَثْنَاةُ لَا تَدْخُلُ النَّارَ أَصْلًا مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَإِنْ جَازَ دُخُولُهَا النَّارَ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ وَإِنْ أُرِيدَ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ الْعَمَلِ كَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى إنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً إلَخْ فَلَا تَدْخُلُ النَّارَ أَصْلًا مُطْلَقًا أَقُولُ وَمِنْ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ عَدَمُ الْعَمَلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي النُّصُوصِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلْيُتَأَمَّلْ. «قَالُوا مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا» أَيْ مِلَّةُ «أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» وَهِيَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ فَإِنْ قِيلَ كُلُّ فِرْقَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قُلْنَا ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالدَّعْوَى بَلْ بِتَطْبِيقِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَانِنَا إنَّمَا يُمْكِنُ بِمُطَابَقَةِ صِحَاحِ الْأَحَادِيثِ كَكُتُبِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي أُجْمِعَ عَلَى وَثَاقَتِهَا كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ فَإِنْ قِيلَ فَمَا حَالُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ قُلْنَا لِاتِّحَادِ أُصُولِهِمَا لَمْ يُعَدَّ مُخَالَفَةً مُعْتَدَّةً إذْ خِلَافُ كُلِّ فِرْقَةٍ لَا يُوجِبُ تَضْلِيلَ الْأُخْرَى وَلَا تَفْسِيقَهَا فَعُدَّتَا مِلَّةً وَاحِدَةً. وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الْفَرْعِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ كَثْرَةَ اخْتِلَافٍ صُورَةً لَكِنْ مُجْتَمِعَةً فِي عَدَمِ مُخَالَفَةِ الْكُلِّ كِتَابًا نَصًّا وَلَا سُنَّةً قَائِمَةً وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا صَحِيحًا عِنْدَهُ وَأَنَّ الْكُلَّ صَارِفٌ غَايَةَ جَهْدِهِ وَكَمَالَ وُسْعِهِ فِي إصَابَةِ السُّنَّةِ وَإِنْ أَخْطَأَ بَعْضٌ لِقُوَّةِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ وَلِهَذَا يُعْذَرُ وَيُعْفَى بَلْ يُؤْجَرُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ عَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُؤَلِّفُ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ (ت) التِّرْمِذِيُّ. «عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» خَادِمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِي يَا بُنَيَّ» تَصْغِيرُ ابْنٍ النِّدَاءُ لِلْإِكْرَامِ وَالْإِشْفَاقِ «إنْ قَدَرْت» إنْ اسْتَطَعْت وَالْمُرَادُ صَرْفُ غَايَةِ الْجَهْدِ «أَنْ تُصْبِحَ» أَيْ فِي صُبْحِ كُلِّ عُمْرِك «وَتُمْسِيَ» كَذَلِكَ. «وَ» الْحَالُ ( «لَيْسَ فِي قَلْبِك غِشٌّ» بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنْ غَشَّهُ لَمْ يُمْحِضْهُ النُّصْحُ أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلَافَ مَا أَضْمَرَ مِنْ الْقَامُوسِ «لِأَحَدٍ» التَّنْكِيرُ لِلتَّكْثِيرِ فَيَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَالْمُوَافِقَ وَالْمُخَالِفَ وَغَيْرَهَا وَقِيلَ الْإِنْسَانُ وَغَيْرُهُ فَفِيهِ نَظَرٌ «فَافْعَلْ» أَيْ اسْتِمْرَارُ عَدَمِ الْغِشِّ فِي الْقَلْبِ لِيَطْهُرَ الْقَلْبُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ بِالدَّنَسِ. «ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّ» تَكْرِيرُ النِّدَاءِ مَعَ تَصْغِيرِ الِابْنِ لِلِاسْتِشْفَاقِ وَأَنَّ مَنْ يُخْبِرُ بِهِ مِنْ آثَارِ الشَّفَقَةِ «وَذَلِكَ» أَيْ دَوَامُ بَرَاءَةِ الْقَلْبِ مِنْ الْغِشِّ «مِنْ سُنَّتِي» بَعْضِ سُنَّتِي. «وَمَنْ أَحَبَّ سُنَّتِي» وَالْمَحَبَّةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا فَدَعْوَى الْمَحَبَّةِ بِلَا إتْيَانٍ دَعْوَى دَلَّ الْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِهَا إلَّا لِمَانِعٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيَكُونُ الْمَقَامُ اسْتِدْلَالِيًّا كَالْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ وَالْحَدِيثُ الْمُعَادُ الْمُعَرَّفُ عَيْنُ الْأَوَّلِ أَصْلٌ قَدْ يَعْدِلُ عَنْهُ وَلَوْ سَلِمَ فَيَشْتَمِلُ الْكُلَّ أَيْضًا إمَّا بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ. «فَقَدْ أَحَبَّنِي» لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحِبَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُمْكِنُ مَحَبَّةُ سُنَّتِهِ فَمَحَبَّةُ السُّنَّةِ إنَّمَا تَنْشَأُ عَنْ مَحَبَّةِ صَاحِبِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَحَبَّةَ السُّنَّةِ وَسِيلَةٌ إلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِهَا فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ كَمَالُ مَحَبَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلْيُوَاظِبْ عَلَى سُنَّتِهِ فَيَحْصُلُ مَحَبَّتُهُ بِالِاضْطِرَارِ كَمَا قَالَ الْمَشَايِخُ

إنَّ طَرِيقَ اسْتِحْصَالِ مَحَبَّتِهِ تَعَالَى هُوَ ذِكْرُهُ فَبِكَثْرَةِ الذِّكْرِ تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ الْإِلَهِيَّةُ. نُقِلَ عَنْ مَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيِّ وَمِنْ عَلَامَاتِ مَحَبَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحَبَّةُ سُنَّتِهِ وَقِرَاءَةُ حَدِيثِهِ فَإِنَّ مَنْ دَخَلَتْ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ إذَا سَمِعَ كَلِمَةً مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشَرَّبَتْهَا رُوحُهُ وَقَلْبُهُ وَنَفْسُهُ فَتَعُمُّهُ تِلْكَ الْكَلِمَةُ وَتَشْمَلُهُ فَتَصِيرُ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنْهُ وَكُلُّ ذَرَّةٍ مِنْهُ بَصَرًا فَيَسْمَعُ الْكُلَّ بِالْكُلِّ وَيُبْصِرُ الْكُلَّ بِالْكُلِّ حِينَئِذٍ يَسْتَنِيرُ الْقَلْبُ وَيَشْرَقُ سِرُّهُ وَتَتَلَاطَمُ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ التَّحْقِيقِ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ وَيَرْتَوِي بِرِيِّ عَطْفِ مَحْبُوبِهِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَرْوَى لِقَلْبِهِ مِنْ عَطْفِهِ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ أَشَدُّ لِلْهَيْبَةِ وَحَرِيقِهِ مِنْ إعْرَاضِهِ عَنْهُ وَلِهَذَا كَانَ عَذَابُ أَهْلِ النَّارِ بِاحْتِجَابِ رَبِّهِمْ أَشَدَّ مِنْ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ كَمَا أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ بِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرِضَاهُ وَإِقْبَالِهِ أَعْظَمُ النَّعِيمِ الْجُسْمَانِيِّ. قِيلَ عَنْ وَابْنِ مَالِكٍ فِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّ فِي مَحَبَّةِ سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سُنَّتِهِ مَحَبَّةٌ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ مَحَبَّةِ السُّنَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَكْفِي فِي مَحَبَّتِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَجَزِّئَةٍ فَالْوَاحِدَةُ تَسْتَلْزِمُ الْكُلَّ وَإِلَّا فَكَاذِبَةٌ «وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» لِأَنَّ «الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» كَمَا فِي الْحَدِيثِ. وَفِي آخَرَ «مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حُشِرَ مَعَهُمْ» وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ اتِّحَادِيَّةَ الدَّرَجَةِ الْمُفَادَةِ مِنْ الْمَعِيَّةِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ الْمُرَادُ هُوَ التَّقَارُبُ وَقِيلَ لَيْسَ الْمَعِيَّةُ فِي الْمَنْزِلَةِ مُرَادَةً بَلْ الْمُرَادُ اطِّلَاعُهُ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَاشِفٌ عَنْهُ مَعَ كَيْنُونَةِ كُلٍّ فِي مَنْزِلَتِهِ. عَنْ النَّوَوِيِّ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ فِيهِ فَضْلُ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُمْ إذْ لَوْ عَمِلَهُ لَكَانَ مِنْهُمْ انْتَهَى أَقُولُ وَسَيُصَرِّحُ الْمُصَنِّفُ بِنَحْوِهِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ شَرْطِيَّةِ تَمَامِ الْعَمَلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ التَّعْلِيلُ فَيَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ عَدَمُ إتْيَانِ الْمُحِبِّ مَا يَكْرَهُهُ الْمَحْبُوبُ وَمِنْ جُمْلَتِهِ إتْيَانُ عَمَلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى تَمَامِ قَدْرٍ وَإِلَّا فَدَعْوَى الْمَحَبَّةِ تَحَكُّمٌ وَكَذِبٌ (دز) إنْ بِزَايٍ مُعْجَمَةٍ فَالرَّمْزُ لِأَبِي دَاوُد وَالْبَزَّارِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَإِنْ بِرَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَلِلدَّارِمِيِّ وَهُوَ الْأَكْثَرُ لَكِنْ حَقِيقَةُ الْحَقِّيَّةِ إنَّمَا تَظْهَرُ بِالْوِجْدَانِ فِي أَيِّهِمَا أَوْ فِي كِلَيْهِمَا (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَا جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ الَّذِي هُوَ ابْنُ أُخْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ إنَّا نَسْمَعُ أَحَادِيثَ» أَيْ أَخْبَارَ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ. «مِنْ يَهُودَ» قِيلَ عَنْ الصَّاغَانِيِّ هُوَ ابْنُ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي الْإِتْقَانِ مُعَرَّبٌ أَعْجَمِيٌّ مَنْسُوبُونَ إلَى يَهُودِ بْنِ يَعْقُوبَ وَهُمْ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْآنَ أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَفْظَةُ يَهُودُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَبِيلَةِ. وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ الْأَصْلُ فِي يَهُودَ وَمَجُوسٍ أَنْ يُسْتَعْمَلَ بِغَيْرِ لَامِ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُمَا عَلَمَانِ خَاصَّانِ لِقَبِيلَتَيْنِ انْتَهَى لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ «تُعْجِبُنَا» صِفَةُ أَحَادِيثَ أَوْ حَالٌ مِنْهَا أَيْ تَرَى تِلْكَ الْأَحَادِيثَ لَنَا حَسَنًا، لَعَلَّهُ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ «أَفَتَرَى» أَيْ أَفَتُجِيزُ مِنْ الرَّأْيِ وَمِمَّا عُدَّ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْعَاطِفِ تَنْبِيهًا عَلَى أَصَالَتِهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ مِثْلُ {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] كَمَا فِي الْإِتْقَانِ ثُمَّ الْعَطْفُ هَلْ هُوَ عَلَى مَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ أَوْ قَبْلَهَا فِيهِ خِلَافٌ أَيْ أَتَأْذَنُ لَنَا فَتَرَى ثُمَّ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ فِي أَمْثَالِهِ زَائِدٌ لِاسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى بَعْدَ إسْقَاطِهِ. «أَنْ نَكْتُبَ» مِنْ الْكِتَابَةِ قِيلَ أَيْ نَجْمَعَ «بَعْضَهَا» لِلِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ «فَقَالَ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ» أَيْ مُتَحَيِّرُونَ وَيُقَالُ لِلْوُقُوعِ فِي الشَّيْءِ بِقِلَّةِ مُبَالَاةٍ «كَمَا تَهَوَّكَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» جَمْعُ نَصْرَانِيٍّ وَهُمْ يَزْعُمُونَ الْآنَ أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ

عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ قِيلَ فِي تَهَوُّكِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَا سَبَقَ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِنْ مَضْمُونِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ تَفَرُّقِهِمَا إلَى الْفِرَقِ الْكَثِيرَةِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّهَوُّكِ مِنْ جِنْسِ عَدَمِ الْقَنَاعَةِ بِمَا فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ الْكِتَابِ وَأَنَّ التَّهَوُّكَ لَا يُلَائِمُ التَّفَرُّقَ بَلْ مُوجِبُ التَّفَرُّقِ هُوَ الْقَطْعُ وَالْحُكْمُ لَا الشَّكُّ وَالْحِيرَةُ وَاعْلَمْ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَطْ وَالْجَوَابُ النَّبَوِيُّ وَقَعَ لِلْجَمْعِ وَأَنَّ مَا اسْتَجَازَهُ عُمَرُ إنْ وَافَقَ الْقُرْآنَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تُعْجِبُنَا فَكَيْفَ التَّشْبِيهُ بِتَهَوُّكِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِنْ خَالَفَ فَكَيْفَ تُتَصَوَّرُ الِاسْتِجَازَةُ مِنْ عُمَرَ وَأَنَّ السُّؤَالَ بِمُجَرَّدِ الْيَهُودِ وَزِيدَ فِي الْجَوَابِ النَّصَارَى وَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي كُتُبِ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ كَالْغَزَالِيِّ النَّقْلُ عَنْ الْإِنْجِيلِ وَالْإِسْرَائِيلِيَّات مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ أَقُولُ لَعَلَّ الْأَوَّلَ أَنَّ السَّائِل وَإِنْ كَانَ عُمَرُ فَقَطْ لَكِنَّ سَامِعَ الْحَدِيثِ مِنْ الْيَهُودِ هُوَ الْجَمَاعَةُ كَمَا يُؤَيِّدُهُ صِيَغُ نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ وَيَجُوزُ حُضُورُ جَمَاعَةٍ عِنْدَ سُؤَالِ عُمَرَ وَلَعَلَّ الثَّانِيَ لِخَوْفِ السِّرَايَةِ إلَى الْغَيْرِ الْمَشْرُوعِ لِلتَّجَانُسِ وَلِخَوْفِ سِرَايَةِ الْأَخْذِ وَالْكِتَابَةِ لِلضُّعَفَاءِ وَالْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَمْيِيزِ مَا وَافَقَ شَرْعَنَا مِمَّا لَا يُوَافِقُهُ وَإِنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْسَانَ الْمِلَّةِ الْمَنْسُوخَةِ الَّتِي لَبَّسُوا فِي أَكْثَرِهَا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْأُلْفَةَ وَالْأُنْسَ وَاتِّخَاذَ الْوِلَايَةِ لِعَدُوِّ اللَّه وَعَدُوِّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ الْمَيْلُ إلَى الْمَرْجُوحِ الضَّعِيفِ الْقَاصِرِ عِنْدَ وُجُودِ الرَّاجِحِ الْقَوِيِّ التَّامِّ الْكَامِلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ التَّعْبِيرُ فِي الْجَوَابِ النَّبَوِيِّ وَلَعَلَّ الثَّالِثَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْكَارِ وَسَدِّ طُرُقِ الِاحْتِمَالِ وَأَمَّا الرَّابِعُ فَإِمَّا يُحْمَلُ الْمَنْعُ عَلَى أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ فَبَعْدَ التَّقْوَى وَالتَّكَامُلِ لَا ضَرَرَ فِي أَخْذِ الْأَحَادِيثِ الْمُوَافِقَةِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ لَكِنْ هَذَا مُحْتَاجٌ إلَى الرِّوَايَةِ إذْ لَا يُفِيدُ الدِّرَايَةَ وَإِمَّا يُرَدُّ عَلَى مَنْ أَتَى ذَلِكَ وَإِمَّا الْحَمْلُ عَلَى تَخْصِيصِ الْمَنْعِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَالنَّقْلِ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ دُونَ الْأَحْكَامِ فَبَعِيدٌ مُخَالِفٌ لِلْإِطْلَاقِ وَلَا يُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَاعِدَةُ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. «لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا» أَيْ بِمَعَانِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُعْجِبُكُمْ أَوْ بِبَدَلِهَا وَقِيلَ أَيْ بِالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ بِعَوْنِ الْمَقَامِ «بَيْضَاءَ» أَيْ نَقِيَّةً خَالِيَةً عَنْ التَّحْرِيفِ وَمَحْفُوظَةً عَنْ التَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَمَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الَّتِي تُعْجِبُكُمْ وَقِيلَ أَيْ مُنِيرَةٌ مُشْرِقَةٌ بِأَلْفَاظٍ فَصِيحَةٍ وَمَعَانٍ وَاضِحَةٍ وَقِيلَ سَالِمَةً عَنْ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ «نَقِيَّةً» خَالِصَةً مِنْ شَوْبِ الْخَفَاءِ وَالِالْتِبَاسِ خِلَافُ أَهْلِ الْكِتَابِ قِيلَ هُنَا نَقْلًا عَنْ الْمَوَاهِبِ الْفَتْحِيَّةِ فَإِذَا نَهَى عُمَرُ عَنْ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ كَوْنِهِ كِتَابًا إلَهِيًّا فَالنَّهْيُ عَنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ أَحَقُّ. وَقَدْ غَلَبَ الِاشْتِغَالُ بِجَهَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَسَمَّوْهَا حِكْمَةً وَجَهَّلُوا مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْكَمَلَةُ وَيَعْكُفُونَ عَلَى دِرَاسَتِهَا وَلَا تَكَادُ تَلْقَى أَحَدًا مِنْهُمْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا حَدِيثًا هُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُسَمُّوا سُفَهَاءَ إذْ هُمْ أَعْدَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَهُمْ أَضَرُّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى انْتَهَى مُلَخَّصًا وَسَيُفَصَّلُ عِنْدَ تَصْرِيحِ الْمُصَنِّفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. «وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ» أَيْ مَا جَازَ لَهُ «إلَّا اتِّبَاعِي» إذْ هُوَ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ نُوَّابُهُ وَأَنَّ شَرِيعَتَهُ مَنْسُوخَةٌ كَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا أَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُتَابَعَتِهِمْ إيَّاهُ إنْ لَقِيَهُمْ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

لَمَّا رَأَى صِفَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَحْمَدِيَّةِ فِي التَّوْرَاةِ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْهَا فَمُجَاسَرَةُ أَمْرٍ عَظِيمٍ إذْ قَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِعَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ نَبِيِّ أُمَّةٍ نَبِيَّ آخَرَ وَإِنْ الْأُمَّةَ وَلَوْ وَلِيًّا مُقَرَّبًا لَنْ تَبْلُغَ دَرَجَةَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ لِلْكَلِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَسْتَكْمِلَ بِالْأُمِّيَّةِ وَيَسْأَلُ ذَلِكَ وَلَوْ صَحَّ سَنَدُهُ فَيَلْزَمُ تَأْوِيلُهُ أَوْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا لَا يَجُوزُ ثُبُوتُ الْمُتَشَابِهِ بِالْآحَادِ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى الْمَنْعِ عَنْ النَّظَرِ فِي مُطْلَقِ سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَلَوْ بِنِيَّةِ الِانْتِصَاحِ لِكَوْنِهَا مَشْحُونَةً بِالتَّحْرِيفَاتِ وَلِهَذَا جَوَّزَ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءَ بِهَا إذَا خَلَتْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ عَلْوَانَ الْحَمَوِيِّ لَا حُرْمَةَ لِلْكُتُبِ الْمَنْسُوخَةِ وَلَا يَجُوزُ الْإِيمَانُ بِالْمُحَرَّفِ بَلْ بَالَغَ بَعْضٌ إلَى أَنْ جَوَّزَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالتَّوْرَاةِ فِي أَيْدِي الْيَهُودِ وَفِيهِ نَظَرٌ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ تَحْرِيفُهُ بِالْكُفْرِيَّاتِ انْتَهَى. وَعَنْ شَمْسِ الدِّينِ الْمَيْدَانِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ وَاجِبُ الِاحْتِرَامِ وَالشَّكُّ الطَّارِئُ لَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الِاحْتِرَامَ بَلْ الْمُحَرَّفُ أَقَلُّهَا وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ لَعَلَّ لِهَذَا كُرِهَ قِرَاءَةُ التَّوْرَاةِ لِلْجُنُبِ احْتِرَامًا وَقِيلَ عَنْ بَعْضٍ أَنَّهُ دَخَلَ الْكَنِيسَةَ وَاسْتَهَانَ التَّوْرَاةَ حَتَّى بَصَقَ فِيهَا ثُمَّ لَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْكُبُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ حَتَّى مَاتَ أَقْبَحَ مَيْتَةٍ حَتَّى أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ إهَانَةُ تِلْكَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَنْسُوخَةِ وَلَا قِرَاءَتُهَا وَلَا مُطَالَعَتُهَا (حذر) أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبَزَّارُ. (عَنْ مُجَاهِدٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بْنِ جَبْرٍ التَّابِعِيِّ (أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي سَفَرٍ فَمَرَّ بِمَكَانٍ فَحَادَ» بِالْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ أَعْرَضَ وَمَالَ «عَنْهُ» أَيْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ حَادَ يَحِيدُ إذَا مَالَ وَأَعْرَضَ عَنْ الشَّيْءِ «فَسُئِلَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «لِمَ فَعَلْت ذَلِكَ» الْإِعْرَاضَ «قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ» اتِّبَاعًا لَهُ وَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَمِثْلُ هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِيَّةِ يُقَالُ لَهَا السُّنَّةُ الزَّائِدَةُ قِيلَ لَا حَرَجَ فِي فِعْلِ هَذِهِ السُّنَّةِ بَلْ فِعْلُهَا حَسَنٌ وَتَرْكُهَا مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ كَكَوْنِ تَرْكِ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ قَرِيبًا إلَى الْحَرَامِ وَمُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتِي» . كَذَا فِي التَّوْضِيحِ وَالتَّلْوِيحِ فَمَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ تَرْكَ سُنَّةِ الْهُدَى يُوجِبُ كَرَاهَةً كَالْجَمَاعَةِ لَا تَرْكَ سُنَّةِ الزَّوَائِدِ كَسِيَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ لَا مُطْلَقِ الْكَرَاهَةِ وَإِنْ أَوْهَمَهُ إطْلَاقُ النَّفْيِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ التَّنْزِيهِيَّ مَا لَا يُمْنَعُ عَنْ فِعْلِهِ لَكِنْ تَرْكُهُ أَوْلَى فَكُلُّ شَيْءٍ تَرْكُهُ أَوْلَى فَتَنْزِيهٌ فَفِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ فَإِنْ قِيلَ مَحَلُّ الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْأَثَرِ إمَّا مِنْ حَيْثُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ حَيْثُ مُتَابَعَةُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَالْأَوَّلُ قَالُوا إنَّ فِعْلَهُ الْمُطْلَقَ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عِنْدَ بَعْضٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ أَوْ زَلَّةٌ وَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ الْإِبَاحَةُ وَعِنْدَ الْبَعْضِ الِاتِّبَاعُ وَظَاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ السُّنَنِ الزَّوَائِدِ لَا يُوجِبُ الِاتِّبَاعَ فَلَا يُفِيدُ لُزُومَ الِاعْتِصَامِ وَالتَّمَسُّكَ عَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ فَلَا يَصْلُحُ لَأَنْ يُحْتَجَّ بِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ إتْيَانَ صَحَابِيٍّ سُنَّةً مِنْ الزَّوَائِدِ لَا يُوجِبُ إتْيَانَ الْغَيْرِ لَا فِي حَقِّ هَذَا الْمَحَلِّ وَلَا فِي الْجَمِيعِ وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَسْأَلَةِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ كَالْبَرْذَعِيِّ وَالرَّازِيِّ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ كَالْكَرْخِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ إلَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ قُلْنَا لَعَلَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ الِاعْتِصَامِ الشَّامِلِ لِلْأَوْلَى وَهَذَا الْأَثَرُ دَلِيلٌ لَهُ بِحَسَبِ هَذَا الِاعْتِبَارِ وَتَحْرِيضٌ عَلَى اتِّبَاعِ مُطْلَقِ السُّنَّةِ (ز) الْبَزَّارُ. «عَنْ) عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ عُمَرَ» - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَانَ شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي شَجَرَةً بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَيَقِيلُ تَحْتَهَا» مِنْ الْقَيْلُولَةِ أَيْ يَنَامُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَقْتَ قَيْلُولَةٍ وَالنَّوْمُ فِي هَذَا الْوَقْتِ نُدِبَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ وَبِالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ»

أَيْ مِنْ التَّهَجُّدِ وَنَحْوِهِ مِنْ ذِكْرٍ وَقِرَاءَةٍ فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ اسْتَقْبَلَتْ السَّهَرَ بِنَشَاطٍ وَقُوَّةِ انْبِسَاطٍ فَوَجْهُ النَّدْبِ هُوَ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ فَنَوْمُ الْعَالِمِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجَاهِلِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ «وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ» الظَّاهِرُ مِنْ كَانَ هُوَ الْكَثْرَةُ «يَفْعَلُ ذَلِكَ» وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ السُّنَّةِ الْعَادِيَّةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَمَا سَمِعْت الِاهْتِمَامُ وَالِالْتِزَامُ عَلَى إتْيَانِ جَمِيعِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى مُتَابَعَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَرُوِيَ عَنْ الْبَيْهَقِيّ «أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ إذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا أَجْدَرُ أَنْ لَا يَزِيدَ فِيهِ وَلَا يُنْقِصَ مِنْهُ وَيَتَّبِعَ لِأَوَامِرِهِ مِنْ ابْنِ عُمَرَ» فِي حَدِيثٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَتَّبِعُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآثَارَهُ وَحَالَهُ وَيَهْتَمُّ بِهِ حَتَّى كَانَ قَدْ خِيفَ عَلَى عَقْلِهِ مِنْ اهْتِمَامِهِ بِذَلِكَ (م) مُسْلِمٌ. (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَغِبَ» أَعْرَضَ «عَنْ سُنَّتِي» لِاتِّبَاعِ هَوًى وَمَيْلِ نَفْسٍ وَتَرْجِيحِ بَاطِلٍ وَإِيثَارِ لَذَّةٍ فَانِيَةٍ عَاجِلَةٍ عَلَى بَاقِيَةٍ آجِلَةٍ دَائِمَةٍ وَالسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ وَالسِّيرَةُ أَقْوَالًا أَوْ أَفْعَالًا «فَلَيْسَ مِنِّي» أَيْ مِنْ مِلَّتِي وَدِينِي أَوْ مِنْ أُمَّتِي الْكَامِلَةِ أَوْ فَلَيْسَ لَهُ شَفَاعَةٌ مِنِّي قِيلَ فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهَا مُعْتَقِدًا لَهَا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ فَاسِقٌ وَإِنْ لَمْ يَرَهَا حَقًّا وَتَهَاوَنَ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ لَا يَخْفَى أَنَّ تَارِكَ السُّنَّةِ مُعْتَقِدًا سُنِّيَّتَهَا لَا يَكُونُ فَاسِقًا لَا سِيَّمَا السُّنَّةَ الْمُطْلَقَةَ الشَّامِلَةَ لِلزَّوَائِدِ وَأَنَّ مُعْتَقِدَ عَدَمِ حَقِّيَّةِ السُّنَّةِ إنَّمَا يَكْفُرُ إنْ مُتَوَاتِرًا فَلَعَلَّ الْكُفْرَ إمَّا فِي التَّوَاتُرِ مُطْلَقًا أَوْ فِي الِاسْتِهَانَةِ وَالِاسْتِحْقَارِ إنْ اعْتَرَفَ سُنِّيَّتَهَا ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ السُّنَّةِ إمَّا مَا ثَبَتَ بِمُطْلَقِ السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِمَعْنَى مُطْلَقِ النَّدْبِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُقَابِلِ لِلْوُجُوبِ وَنَحْوِهِ وَالظَّاهِرُ الْمُطْلَقُ الشَّامِل لَهُمَا (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ آخِرُهُ وَبِعَلَامَةِ وَاوٍ بَعْدَ رَاءٍ عُمَرَ فِي بَعْضِهَا فَعَلَى الثَّانِي يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَلَى الْأَوَّلِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ عَمَلٍ» خَيْرًا وَشَرًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا «شِرَّةٌ» بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ نَشَاطٌ وَرَغْبَةٌ وَالظَّاهِرُ الْمُرَادُ الشَّوْقُ وَالنَّشَاطُ فِي قَصْدِ الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ التَّرْجِيحُ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ الدَّاعِي لِإِتْيَانِهِ. «وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ» بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فُتُورٌ وَضَعْفٌ وَسُكُونٌ بَعْدَ حِدَّةٍ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ غَلَبَ نَشَاطُهُ إلَى شَيْءٍ مُطْلَقًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَضْعُفَ مِنْهُ لِعَدَمِ عِلْمٍ وَغَفْلَةٍ لِمَا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ فَلَوْ عَلِمَ كَمَالًا وَلَوْ شَرًّا وَضُرًّا فِي نَفْسِهِ أَقْبَلْت عَلَيْهِ وَأَقْدَمْت وَلَا تَنْدَفِعُ بِدُونِ رَأْيِ وَجْهٍ مِنْ النَّقْصِ. «فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ» أَيْ فُتُورُهُ «إلَى سُنَّتِي» بِتَرْكِ الْإِقْبَالِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالِاشْتِغَالِ إلَى السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ «فَقَدْ اهْتَدَى» يَعْنِي مَنْ كَانَ فُتُورُهُ عَنْ كُلِّ أَعْمَالٍ لِلدُّخُولِ إلَى السُّنَّةِ أَوْ كَانَ ضَعْفُهُ وَعِيُّهُ لِأَجْلِ كَوْنِ حَالِهِ وَعَمَلِهِ مِنْ سُنَّةٍ إلَى سُنَّةٍ فَقَدْ اهْتَدَى أَيْ فَازَ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ «وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ» أَيْ فُتُورُهُ وَضَعْفُ طَلَبِهِ مِنْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ «إلَى غَيْرِ ذَلِكَ» أَيْ غَيْرِ السُّنَّةِ كَالْبِدْعَةِ فَقَدْ هَلَكَ بِالضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْحَسْرَةِ فِي الْآخِرَةِ. (طك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (حب) وَابْنُ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ فَالْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ (حك) وَالْحَاكِمُ (عَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سِتَّةٌ» صَحَّ كَوْنُهَا مُبْتَدَأً لِوَصْفٍ مُقَدَّرٍ أَوْ لِمُضَافٍ إلَيْهِ «لَعَنْتُهُمْ»

اللَّعْنُ الطَّرْدُ وَالْبُعْدُ عَنْ الرَّحْمَةِ ضِدُّ الرَّحْمَةِ «وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ» فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَا وَاوٍ. فَقَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْقَاضِي لَمْ يَعْطِفْهُ عَلَى جُمْلَةِ مَا قَبْلَهُ إمَّا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَمَا قَبْلَهُ خَبَرٌ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عِبَارَةً عَمَّا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى بِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ هِيَ لَعْنَةُ رَسُولِهِ وَبِالْعَكْسِ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ اللَّعْنُ عَلَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ كَإِبْلِيسَ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَلْعَنْهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُمْ كَمَا فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» . وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا» وَفِيهِ أَيْضًا «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «إنَّ الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتْ اللَّعْنَةُ إلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إلَى الَّذِي لَعَنَ إنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ وَإِلَّا رَجَعَتْ إلَى قَائِلِهَا» هَذَا الْمُعَيَّنِ وَأَمَّا لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ لِأَصْحَابِ الْمَعَاصِي فَجَائِزٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]- وَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْته أَوْ سَبَبْته فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا» وَفِي رِوَايَةٍ «أَوْ جَلَدْته فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً» وَنَحْوَهُمَا فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَكَذَا السَّبُّ وَاللَّعْنُ لِحَدِيثِ «فَأَيَّمَا أَحَدٍ دَعَوْت عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ فَاجْعَلْهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً» فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الدُّعَاءُ عَلَى أَحَدٍ بِلَا اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُجِيبَ تَارَةً يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ أَهْلًا فِي الظَّاهِرِ وَتَارَةً أَنَّ نَحْوَ السَّبِّ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ جَارٍ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ تَرِبَتْ يَمِينُك وَلَا كَبُرَتْ سِنُّك فَيُخَافُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إجَابَتِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِيهَامِ فَيَتَدَارَكُ بِدَعْوَةٍ نَحْوِ الْقُرْبَةِ وَالْكَفَّارَةِ «وَ» لَعَنَ «كُلُّ نَبِيٍّ» وَقَدْ كَانَ شَأْنُهُمْ «مُجَابُ الدَّعْوَةِ» لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُجَابٌ لَا بَعْضٌ مِنْهُمْ فَالْوَصْفُ لَا لِلتَّخْصِيصِ بَلْ نَحْوُ التَّوْضِيحِ فَمَا قِيلَ إنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ عَطْفٌ عَلَى سِتَّةٌ لَعَنْتهمْ أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَعَنْتهمْ وَلَا يَصِحُّ عَطْفُ كُلُّ عَلَى فَاعِلِ لَعَنْتهمْ وَمُجَابُ صِفَةٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ كَوْنُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ مُجَابِ الدَّعْوَةِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا قِيلَ قَوْلُهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إمَّا إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَإِمَّا إنْشَاءُ اللَّعْنِ أَيْ الدُّعَاءِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْوَاوُ اسْتِئْنَافٌ وَيُنَاسِبُهُ الْإِخْبَارُ بَعْدَهُ بِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُجَابُ الدَّعْوَةِ وَقَوْلُهُ كُلُّ نَبِيٍّ إمَّا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَعَنْتهمْ أَوْ عَطْفٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ مُجَابُ الدَّعْوَةِ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ الْأَوَّلُ مِنْ السِّتَّةِ «الزَّائِدُ» الَّذِي زَادَ «فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» يَعْنِي الْقُرْآنَ مَا لَيْسَ مِنْهُ نَظْمًا أَوْ خَطًّا أَوْ مَعْنًى أَوْ كَيْفِيَّةً وَأَدَاءً كُلُّ ذَلِكَ عَمْدًا وَكَذَا إدْخَالُ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً أَوْ اكْتِفَاءً وَأَمَّا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ بِالسُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْكِتَابِ وَمَأْخُوذَةٌ مِنْهُ أَوْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى كَوْنِ كُلٍّ مِنْهَا حُجَّةً وَيَدْخُلُ فِيهِ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ غَيْرِ مُحَافَظٍ فِيهِ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ وَلَوَازِمَ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ» وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِأَحَدٍ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَدِيبًا مُتَّسِعًا فِي مَعْرِفَةِ الْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ إلَّا بِرِوَايَةٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ جَامِعًا لِلْعُلُومِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُفَسِّرُ إلَيْهَا كَاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ وَعُلُومِ الْبَيَانِ وَالْقِرَاءَاتِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالْقَصَصِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْفِقْهِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُبَيِّنَةِ لِتَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبْهَمِ وَالْخَامِسَ عَشَرَ عِلْمُ الْمَوْهِبَةِ الَّذِي يُورِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثُ «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» وَسَيُفَصَّلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ مَعْنَى الزِّيَادَةِ هُوَ التَّأْوِيلُ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ لِتَرْوِيجِ هَوَاهُ وَبِدْعَتِهِ وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَيُحْتَمَلُ سِيَاقُهُ وَسِيَاقُهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ فَمُرَخَّصٌ

«وَ» الثَّانِي «الْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ» تَعَالَى وَقَضَائِهِ أَيْ مُنْكِرُهُ مِنْ كَذَّبَ بِالْأَمْرِ تَكْذِيبًا أَنْكَرَهُ كَالْقَدَرِيَّةِ الْمُنْكِرِينَ كَوْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِقَضَائِهِ تَعَالَى بَلْ يَقُولُونَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ بِدُونِ مَدْخَلٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ» كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» الْحَدِيثَ. «وَ» الثَّالِثُ «الْمُتَسَلِّطُ» مِنْ التَّسْلِيطِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ وَالسَّلِيطُ الشَّدِيدُ وَاللِّسَانُ الطَّوِيلُ وَالطَّوِيلُ اللِّسَانِ وَقَدْ سَلُطَ كَكَرُمَ وَسَمِعَ سَلَاطَةً وَسُلُوطَةً بِالضَّمِّ كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمَعْنَى الْمُطْلِقُ قَهْرَهُ وَقُدْرَتَهُ أَوْ الْمُطْلِقُ لِسَانَهُ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ «عَلَى أُمَّتِي» الْإِجَابَةِ وَالْمُعَاهَدِينَ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ «بِالْجَبَرُوتِ» بِالْبَاطِلِ وَالْغُرُورِ هُوَ فَعَلُوتٌ مِنْ الْجَبْرِ لِلْمُبَالَغَةِ كَالْعَظَمُوتِ مِنْ الْعَظَمَةِ أَيْ الَّذِي يَتَسَلَّطُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ الظَّلَمَةِ وَالْجَبَابِرَةِ «لِيُذِلَّ مَنْ أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى» بِعِلْمٍ أَوْ دِينٍ أَوْ صَلَاحٍ بِدُنْيَا كَمَالٍ حَلَالٍ وَصَنْعَةٍ وَحُسْنِ خُلُقٍ «وَيُعِزَّ مَنْ أَذَلَّ اللَّهُ» تَعَالَى بِنَحْوِ الْجَهْلِ وَالْفِسْقِ وَالْفَسَادِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ «وَ» الرَّابِعُ «الْمُسْتَحِلُّ» الْمُسْتَبِيحُ «لِحَرَمِ اللَّهِ» بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ حَرَمِ مَكَّةَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَضَمُّ الْحَاءِ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ حُرْمَةٍ تَصْحِيفٌ يَعْنِي مَنْ فَعَلَ فِي حَرَمِ اللَّهِ مَا يَحْرُمُ فِعْلُهُ كَاصْطِيَادٍ وَنَحْوِهِ وَاسْتَغْرَبَهُ الْمُنَاوِيُّ وَقَالَ إنَّ الضَّمَّ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَعَمَّ قَالَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ كَمَا قَالَ وَلَمْ يَثْبُتْ كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ لِلْمُنَاوِيِّ لَكِنْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُسْتَحِلُّ حُرْمَةَ اللَّهِ وَفَسَّرَهُ أَيْ يَسْتَحِلُّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَيَعْتَقِدُ حِلَّهُ فَلِذَلِكَ كَافِرٌ ثُمَّ مِقْدَارُ حَرَمِ مَكَّةَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ وَمِنْ الْجَانِبِ الثَّانِي اثْنَا عَشَرَ مِيلًا وَمِنْ الثَّالِثِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَمِنْ الرَّابِعِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَذَكَرَ أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ أُخْرِجَ مِنْ الْجَنَّةِ وَلَهُ ضَوْءٌ فَكُلُّ مَوْضِعٍ بَلَغَ ضَوْءُهُ كَانَ حَرَمًا مُحْتَرَمًا فَوَجَبَ تَعْظِيمُهُ أَبْلَغَ وَجْهٍ «وَ» الْخَامِسُ «الْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي» بِالْكَسْرِ نَسْلُ الرَّجُلِ وَرَهْطُهُ أَوْ عَشِيرَتُهُ الْأَدْنَوْنَ مِمَّنْ مَضَى وَمَنْ سَيَأْتِي قِيلَ وَالْمَعْنَى مِنْ ذُرِّيَّتِي وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِي الثَّابِتِ نَسَبُهُمْ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ أَوْ الشُّهْرَةِ أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ كَأَنْ صَارَ وَاقِعَةً شَرْعِيَّةً وَثَبَتَتْ بِالْبَيِّنَةِ وَإِلَّا فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الظَّنِّ «مَا» قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ ظَنًّا «حَرَّمَ اللَّهُ» . أَيْ حَكَمَ اللَّهُ بِحُرْمَتِهِ يَعْنِي مَنْ فَعَلَ بِأَقَارِبِي مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ مِنْ إيذَائِهِمْ أَوْ تَرْكِ

تَعْظِيمِهِمْ فَإِنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَكَافِرٌ خَصَّهُمَا بِاللَّعْنِ لِتَأْكِيدِ حَقِّ الْحَرَمِ وَالْعِتْرَةِ وَعِظَمِ قَدْرِهِمَا بِإِضَافَتِهِمَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَذَا الْمُنَاوِيُّ وَقِيلَ يَدْخُلُ فِيهِ الْقَاذِفُ لَهُمْ وَالشَّاتِمُ وَاَلَّذِي ظَنَّ بِهِمْ سُوءًا أَوْ اغْتَابَهُمْ أَوْ ظَلَمَهُمْ وَغَيْرَهَا فَإِثْمُهُ أَبْلَغُ مِنْ إثْمِ مَنْ فَعَلَ بِغَيْرِهِمْ حَيْثُ تَأَذَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَذَاهُمْ وَلِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ مَرْجِعُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ قِبَلِهِمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] «وَ» السَّادِسُ «التَّارِكُ لِسُنَّتِي» الَّذِي يَتْرُكُ سُنَّتِي. قَالَ الْمُنَاوِيِّ بِأَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ تَرَكَ بَعْضَهَا اسْتِخْفَافًا أَوْ قِلَّةَ احْتِفَالٍ بِهَا وَالْمُرَادُ بِاللَّعْنِ الْإِبْعَادُ عَنْ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ فَإِنَّ مَنْ قَامَ فِي مَعْصِيَتِهِ بَعِيدٌ عَنْهُمَا. وَقِيلَ نَقْلًا عَنْ التَّوْفِيقِ الَّذِي يَتْرُكُ سُنَنَ الْهُدَى عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَرَغْبَةً عَنْهَا وَاسْتِخْفَافًا فَهُوَ مَلْعُونٌ فَيَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَالْعِتَابَ وَقِيلَ يَكْفُرُ فَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ انْتَهَى يُشِيرُ كَلَامُ الْمُنَاوِيِّ إلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ سُنَّةٍ لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً مُوجِبَةً لِلْإِبْعَادِ عَنْ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَظَاهِرٌ أَنَّ تَرْكَ سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ مُوجِبٌ لِإِبْعَادِ خَيْرٍ مَنُوطٍ بِتِلْكَ السُّنَّةِ وَكَذَا الرَّحْمَةُ وَإِنْ تَرَكَ السُّنَّةَ اسْتِخْفَافًا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كُفْرٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِبْعَادِ عَنْ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ مَا يَعُمُّ الْكُفْرَ وَبِهِ يَظْهَرُ الْمَنْقُولُ عَنْ التَّوْفِيقِ إذْ اسْتِخْفَافُ السُّنَّةِ بِلَا تَأْوِيلٍ كُفْرٌ وَالْكَلَامُ فِيمَا أُقِرَّتْ سُنِّيَّتُهُ. وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ إذْ مَا كَانَ ثُبُوتُهَا قَطْعًا كَالتَّوَاتُرِ فَمُنْكِرُهَا كَافِرٌ وَمَا كَانَ ثُبُوتُهَا شُهْرَةً فَمُفَسَّقٌ وَمَا كَانَ آحَادًا فَإِنْ وُجِدَتْ شُرُوطُ الرِّوَايَةِ مِنْ نَحْوِ الْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْمَعْرُوفِ فِيهِ فَمُلْحَقٌ بِالشُّهْرَةِ وَإِلَّا فَلَا يُوجِبُ الْعِقَابَ وَالْعِتَابَ فَلْيُتَأَمَّلْ (خ م) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ» إيمَانًا كَامِلًا كَمَا نُقِلَ عَنْ فَتْحِ الْبَارِي أَوْ إيمَانًا صَحِيحًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ الْمُرَادُ بِنَفْيِهِ نَفْيُ بُلُوغِ حَقِيقَتِهِ وَنِهَايَتِهِ مِنْ قَبِيلِ خَبَرِ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» «أَحَدُكُمْ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَخُصُّوا بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُمْ الْمَوْجُودُونَ إذْ ذَاكَ وَالْحُكْمُ عَامٌّ «حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ» غَايَةً لِنَفْيِ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَمَنْ كَمُلَ إيمَانُهُ عَلِمَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِتَرْجِيحِ حُبِّهِ عَلَى حُبِّ كُلٍّ «مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» وَلَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ» الْمَقْصُودُ قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ وَتَقْدِيمُ الْوَلَدِ لِمَزِيدِ الشَّفَقَةِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ وَالِدٌ وَلَا عَكْسَ وَتَخْصِيصُهُمَا لِأَنَّهُمَا أَعَزُّ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ بَلْ عِنْدَ الْبَعْضِ وَمِنْ نَفْسِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ النَّفْسَ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَشَمِلَ لَفْظُ الْوَالِدِ الْأُمَّ أَوْ لِلدَّلَالَةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ عَنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِالْآخَرِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ قَوْلُهُ «وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» حُبًّا اخْتِيَارِيًّا إيثَارًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ رُجْحَانَهُ مِنْ حُبِّهِ احْتِرَامًا وَإِجْلَالًا وَإِنْ كَانَ حُبُّ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ مَرْكُوزًا فِي غَرِيزَتِهِ فَسَقَطَ اسْتِشْكَالُهُ بِأَنَّ الْمَحَبَّةَ أَمْرٌ غَرِيزِيٌّ لَا يَدْخُلُهُ الِاخْتِيَارُ فَكَيْفَ يُكَلَّفُ بِهِ إذْ الْمُرَادُ حُبُّ الِاخْتِيَارِ الْمُسْتَنِدُ إلَى الْإِيمَانِ فَمَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُؤْثِرَ رِضَايَ عَلَى هَوَى وَالِدَيْهِ وَأَوْلَادِهِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَمَحَبَّةُ الرَّسُولِ إرَادَةُ طَاعَتِهِ وَتَرْكُ مُخَالَفَتِهِ وَهُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ أَصْنَافَ الْمَحَبَّةِ الثَّلَاثَةِ مَحَبَّةُ إجْلَالٍ كَمَحَبَّةِ الْوَالِدِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَحَبَّةُ رَحْمَةٍ وَإِشْفَاقٍ كَمَحَبَّةِ الْوَلَدِ وَمَحَبَّةُ مُشَاكَلَةٍ كَمَحَبَّةِ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةً رَاجِحَةً عَلَى ذَلِكَ كَمَحَبَّةِ النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَشَاهِدُ صِدْقِ ذَلِكَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي رِضَا الْمَحْبُوبِ وَإِيثَارُهُ عَلَى كُلِّ مَصْحُوبٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِي الْحَدِيثِ تَلْمِيحٌ إلَى قَضِيَّةِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَالْمُطْمَئِنَّةِ فَمَنْ رَجَّحَ جَانِبَ الْمُطْمَئِنَّةِ كَانَ حُبُّهُ لِنَبِيِّهِ رَاجِحًا وَمَنْ رَجَّحَ الْأَمَّارَةَ كَانَ بِالْعَكْسِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ أَحَبَّ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِمَعْنَى

الفصل الثاني في بيان البدع

مَفْعُولٍ وَهُوَ مَعَ كَثْرَتِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ بِقَوْلِهِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ الْفَصْلُ بِأَجْنَبِيٍّ مَعَ أَنَّ الظَّرْفَ يُتَوَسَّعُ فِيهِ كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنَاوِيِّ قِيلَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْفَضْلِ فَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِتَحْقِيقِ إنَافَةِ قَدْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْزِلَتِهِ عَلَى كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدٍ وَمُحْسِنٍ وَمُفَضِّلٍ وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ هَذَا وَاعْتَقَدَ سِوَاهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَكَيْفَ وَقَدْ اسْتَنْقَذَنَا مِنْ النَّارِ وَهَدَانَا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمِنْ مَحَبَّتِهِ نُصْرَةُ سُنَّتِهِ وَالذَّبُّ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَإِجْلَالُهَا. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي بَيَان الْبِدَعِ] (الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْبِدَعِ) جَمْعُ بِدْعَةٍ خِلَافُ السُّنَّةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا وَقَوْلًا وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالُوا الْبِدْعَةُ فِي الشَّرِيعَةِ إحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي

عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ الْبِدْعَةُ مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ. وَعَنْ الْهَرَوِيِّ الْبِدْعَةُ الرَّأْيُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ سَنَدٌ ظَاهِرٌ أَوْ خَفِيٌّ مُسْتَنْبَطٌ وَقِيلَ عَنْ الْفِقْهِيَّةِ الْبِدْعَةُ الْمَمْنُوعَةُ مَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِسُنَّةٍ أَوْ لِحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ سُنَّةٍ فَالْبِدْعَةُ الْحَسَنَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَصْلٍ وَسَنَدٍ ظَاهِرٍ أَوْ خَفِيٍّ أَوْ مُسْتَنْبَطٍ قِيلَ عَنْ حَوَاشِي الْمُصَنِّفِ أَقْبَحُ الْبِدَعِ عَشَرَةٌ أَوَّلُهَا

تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ بِالْأُجْرَةِ سِيَّمَا بِغَلَّةِ النُّقُودِ فَإِنَّ وَقْفَهَا بَاطِلٌ وَكَذَا الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ وَالصَّلَاةُ وَمِنْهُ التَّسْبِيحُ وَنَحْوُهُ لِتَرْوِيجِ الْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْقِرَاءَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِسُؤَالِ الْمَالِ وَثَانِيهَا طَعَامُ الْمَيِّتِ وَإِيقَادُ الشُّمُوعِ فِي الْمَقَابِرِ وَالْجَهْرُ بِالذِّكْرِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَالْعَرُوسِ وَنَحْوِهِمَا وَالْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ وَتَزْيِينُهُ وَالْبَيْتُوتَةُ عِنْدَهُ ثَالِثُهَا الْجَمَاعَةُ فِي النَّفْلِ وَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ وَالْبَرَاءَةِ وَالْقَدْرِ وَالتَّسْبِيحِ بِالْجَمَاعَةِ. رَابِعُهَا تَرْكُ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَالسُّرْعَةُ وَالنَّقْرُ نَقْرَ الْغُرَابِ. خَامِسُهَا مُسَابَقَةُ الْإِمَامِ وَمُخَالَفَتُهُ سَادِسُهَا عَدَمُ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ. سَابِعُهَا التَّغَنِّي وَسَمَاعُ الْغِنَاءِ وَمِنْهُ اللَّحْنُ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ وَالرَّقْصُ وَالِاضْطِرَابُ. ثَامِنُهَا التَّصْلِيَةُ وَالتَّرْضِيَةُ وَالتَّأْمِينُ وَنَحْوُهَا عِنْدَ الْخُطْبَةِ تَاسِعُهَا التَّصَدُّقُ عَلَى الْمُسْرِفِ وَالسَّائِلِ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّلَاعُبُ وَاتِّخَاذُ الطَّعَامِ لِلرَّقْصِ وَخَتْمُ الْقُرْآنِ أَوْ لِلشُّهْرَةِ وَالرِّيَاءِ عَاشِرُهَا اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ وَتَوْحِيدُهُنَّ بِالْجَهْرِ وَخَلْوَتُهُنَّ فِي بَيْتِ أَجْنَبِيٍّ لِلتَّهْنِئَةِ وَالتَّعْزِيَةِ وَالْعِيَادَةِ وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالدَّعْوَةِ إذَا كَانَتْ لِلْأَجْنَبِيِّ وَقِرَائَتِهِنَّ مَوْلِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَهْرِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الرِّجَالُ مِنْ خَارِجِ الْبَيْتِ خُصُوصًا لِذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالشَّوَابِّ مَعَ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ انْتَهَى قِيلَ عَلَيْهِ إنَّهَا مِنْ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ لِصُدُورِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الدِّينِ فَضَالٌّ وَمُضِلٌّ مَنْ اسْتَقْبَحَهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ مُسْتَحْسَنَاتِ الشَّرْعِ فَتَكُونُ حَسَنَةً مُثَابًا عَلَيْهَا وَتَارِكُهَا مَحْرُومٌ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت جَوَابَهُ فِيمَا سَبَقَ، وَنِسْبَتُهَا إلَى نَحْوِ الصَّحَابَةِ افْتِرَاءٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيَانٍ كَيْفَ وَلَوْ صَدَرَتْ عَنْهُمْ لَكَانَتْ سُنَّةً لَا بِدْعَةً وَهُوَ مُعْتَرَفٌ بِبِدْعِيَّتِهَا وَقَدْ نَقَلَ فِي بِدْعِيَّةِ كُلٍّ عَنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمَشَايِخِ مَا لَا يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ وَلَا يَسُوغُ إنْكَارُهُ (الْأَخْبَارُ) الدَّالَّةُ عَلَى إنْكَارِ الْبِدَعِ سِتَّةٌ الْأَوَّلُ. (خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحْدَثَ» اخْتَرَعَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ «فِي أَمْرِنَا» شَأْنِنَا وَدِينِنَا «هَذَا» الْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ وَلِكَمَالِ اسْتِحْضَارِهِ وَشَرَفِ مَنْزِلَتِهِ وَلِقُوَّةِ ظُهُورِهِ كَالْمَحْسُوسِ «مَا» اعْتِقَادًا أَوْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ حَالًا أَوْ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا وَمَعْنَى الْإِحْدَاثِ لِرَجَاءِ الثَّوَابِ «لَيْسَ مِنْهُ» أَيْ رَأْيًا لَيْسَ لَهُ فِي الْكِتَابِ عَاضِدٌ ظَاهِرٌ أَوْ خَفِيٌّ مَلْفُوظٌ أَوْ مُسْتَنْبَطٌ (فَهُوَ رَدٌّ) أَيْ مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِيهِ تَلْوِيحٌ بِأَنَّ دِينَنَا قَدْ كَمُلَ وَظَهَرَ

كَضَوْءِ الشَّمْسِ بِشَهَادَةِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ بِمَرْضِيَّةٍ. وَأَمَّا مَا شَهِدَ لَهُ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ فَمَقْبُولٌ كَبِنَاءِ نَحْوِ رِبَاطٍ وَمَدَارِسَ وَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْدُودٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ قَاعِدَتِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ يَنْبَغِي حِفْظُهُ لِإِبْطَالِ الْمُنْكَرَاتِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ وَلِذَا قِيلَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نِصْفَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يَتَرَكَّبُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَالْمَطْلُوبُ بِالدَّلِيلِ إمَّا بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيِهِ، وَالْحَدِيثُ مُقَدِّمَةٌ كُبْرَى فِي إثْبَاتِ كُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَنَفْيِهِ؛ لِأَنَّ مَنْطُوقَهُ مُقَدِّمَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي كُلِّ دَلِيلٍ نَافِي الْحُكْمِ كَأَنْ يُقَالَ فِي الْوُضُوءِ بِمَاءٍ نَجِسٍ هَذَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ رَدٌّ فَهَذَا الْعَمَلُ رَدٌّ فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ ثَابِتَةٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأُولَى وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّرْعِ فَصَحِيحٌ فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ ثَابِتَةٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْأُولَى فِيهَا النِّزَاعُ فَلَوْ وُجِدَ حَدِيثٌ يَكُونُ مُقَدِّمَةً أُولَى فِي إثْبَاتِ كُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَنَفْيِهِ لَا يَسْتَقِلُّ الْحَدِيثُ بِجَمِيعِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ لَكِنْ الثَّانِي لَمْ يُوجَدْ فَحَدِيثُنَا نِصْفُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَفِيهِ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ مَا فِي الْبَاطِنِ وَأَنَّ الصُّلْحَ الْفَاسِدَ مَنْقُوضٌ وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ رَدِّ الْبِدْعَةِ فِي نَحْوِ الْعَادَاتِ (وَفِي رِوَايَةٍ) عَنْ عَائِشَةَ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا» أَيْ شَرْعُنَا «فَهُوَ رَدٌّ» (خ) الْبُخَارِيُّ (عَنْ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ (الزُّهْرِيِّ) الْمُنْتَسِبِ لِبَنِي زُهْرَةَ الَّذِينَ مِنْهُمْ أُمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ (قَالَ دَخَلْت عَلَى أَنَسٍ وَهُوَ يَبْكِي فَقُلْت مَا يَبْكِيك قَالَ لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْت) أَدْرَكْته فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ) أَيْ جِنْسَهَا أَوْ صُورَتَهَا (وَ) الْحَالُ أَنَّ (هَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيِّعَتْ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ بِنَحْوِ تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا وَتَرْكِ تَعْدِيلِهَا وَعَدَمِ رِعَايَةِ آدَابِهَا وَأَرْكَانِهَا وَخُشُوعِهَا وَحُضُورِهَا وَتَرْكِ جَمَاعَتِهَا وَبِالْجُمْلَةِ عَدَمُ إتْيَانِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى إظْهَارِ التَّأَسُّفِ وَالْحُزْنِ عِنْدَ انْتِهَاك حُرُمَاتِ الشَّرْعِ وَفِيهِ عَدَمُ تَعْيِينِ أَحَدٍ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَتَعْمِيمُ الْإِنْكَارِ وَسَتْرُ قَبَائِحِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعَيَّنِينَ فَإِنَّ بُكَاءَهُ إنَّمَا هُوَ لِرُؤْيَتِهِ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ وَلَمْ يُعَيِّنْهُمْ. (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ أُمَّةٍ» جَمَاعَةٍ «ابْتَدَعَتْ» اسْتَحْدَثَتْ «بَعْدَ» زَمَانِ «نَبِيِّهَا فِي دِينِهَا بِدْعَةً» أَيْ بِدْعَةً مَمْنُوعَةً فِي الْإِطْلَاقِ، وَالتَّنْكِيرُ إشَارَةٌ إلَى شُمُولِ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ اعْتِقَادًا وَفِعْلًا وَخُلُقًا وَقَوْلًا إذْ النَّكِرَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَتْ بِعَامَّةٍ عِنْدَنَا لَكِنَّهَا مُطْلَقَةٌ، وَالْمُطْلَقُ جَارٍ عَلَى إطْلَاقِهِ. «إلَّا أَضَاعَتْ» تِلْكَ الْأُمَّةُ أَيْ أَذَهَبَتْ وَتَرَكَتْ «مِثْلَهَا مِنْ السُّنَّةِ» إذْ فِعْلُ الْبِدْعَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِ السُّنَّةِ لَعَلَّ السُّنَّةَ عَامٌّ لِمُطْلَقِ الشَّرْعِيَّاتِ فَخِلَافُ الْفِعْلِ الْبِدْعَةُ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ نَدْبٌ فَالْبِدْعَةُ مُفَوِّتٌ لِمَا ذُكِرَ أَوْ أَنَّ فِعْلَ الْبِدْعَةِ يُقَسِّي الْقَلْبَ فَصَاحِبُهُ يَتَجَاسَرُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُنْكَرِ قِيلَ السُّنَّةُ الضَّائِعَةُ بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ كَالصَّلَاةِ مَعَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ وَتَرْكِ فِكْرِ الْقَلْبِ عِنْدَ التِّجَارَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]- (طب عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَجَبَ» سَتَرَ وَمَنَعَ

«التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ» إمَّا بِصَرْفِ أَصْلِ التَّوْبَةِ أَوْ بِصَرْفِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا كَالْقَلْعِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَالنَّدَمِ وَالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ وَأَكْثَرُهَا بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ بِدْعَتَهُ إلَى أَنْ يَرَى حَسَنَةً «حَتَّى يَدَعَ» يَتْرُكَ «بِدْعَتَهُ» بِسَبَبِ نُورٍ قَذَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ قِيلَ وَلِهَذَا كُلَّمَا أَرَادَ تَوْبَةً مَنَعَ مَانِعٌ فَلَا يَتَيَسَّرُ لِاحْتِجَابِ التَّوْبَةِ مِنْ تِلْكَ الْبِدْعَةِ قِيلَ هَذِهِ مَا فِي الِاعْتِقَادِ (مج) ابْنِ مَاجَهْ. (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَبَى اللَّهُ» أَيْ كَرِهَ وَامْتَنَعَ لِقُوَّةِ قُبْحِ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهَا شَرْعُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَحُكْمُ الشَّيْطَانِ «أَنْ يَقْبَلَ» قَبُولَ إثَابَةٍ وَرِضًا أَوْ قَبُولَ كَمَالٍ عَلَى رُتْبَةِ الْبِدْعَةِ «عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ» الظَّاهِرُ مُطْلَقُ الْعَمَلِ لَا عَمَلُهُ الَّذِي هُوَ الْبِدْعَةُ وَلَوْ عَلَى طَرِيقِ طَاعَةٍ لِحَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا الَّذِي يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ إذْ النُّصُوصُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَالْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ هِيَ الْمَذْمُومَةُ كَمَا يُفَصَّلُ مِنْ الْمُصَنِّفِ «حَتَّى» إلَى أَنْ «يَدَعَ» يَتْرُكَ «بِدْعَتَهُ» بِالنَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إلَى مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ خَوْفًا مِنْ قَهْرِ اللَّهِ أَوْ طَمَعًا فِي ثَوَابِ اللَّهِ أَوْ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاتِهِ لَا خَوْفًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ أَوْ عَدَمِ قُدْرَتِهِ إيَّاهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِصْرَارِ الْبَاطِنِيِّ عَلَى تِلْكَ الْبِدْعَةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3] وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ كَمَا أَنَّ عَمَلَ الْمُبْتَدِعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَذَنْبُهُ غَيْرُ مَغْفُورٍ ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى سَلَامَةِ الْعَقِيدَةِ وَالتَّنْفِيرُ عَنْ مُلَازَمَةِ الْبِدْعَةِ وَمُجَالَسَةِ أَهْلِهَا وَالْكَلَامُ فِي بِدْعَةٍ غَيْرِ مُكَفِّرَةٍ. وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الْمُكَفِّرَةُ كَمُنْكِرِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَالْمُجَسِّمِ وَالْكَوْنِ فِي مَكَان وَالِاتِّصَالِ بِالْعَالَمِ وَالِانْفِصَالِ عَنْهُ فَلَا يُوصَفُ عَمَلُهُ بِقَبُولٍ وَرَدٍّ. (مَجَّ عَنْ حُذَيْفَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَهُوَ ابْنُ الْيَمَانِ الصَّحَابِيُّ ابْنُ الصَّحَابِيِّ شَهِدَ هُوَ وَأَبُوهُ أُحُدًا وَهُوَ صَاحِبُ سِرِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَعُرِفَ بِصَاحِبِ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَ فِي حَقِّهِ «مَا حَدَّثَكُمْ حُذَيْفَةُ فَصَدِّقُوهُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ يَوْمٍ أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ يَوْمٍ آتِي أَهْلِي فَلَا أَجِدُ عِنْدَ هُمْ طَعَامًا وَيَقُولُونَ مَا نَقْدِرُ عَلَى قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ. وَقَالَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَنْجُو فِيهِ إلَّا مَنْ دَعَا بِدُعَاءٍ كَدُعَاءِ الْغَرِيقِ وَقَالَ وَإِيَّاكُمْ وَمُوَافَقَةَ الْفِتَنِ قِيلَ وَمَا هَذِهِ قَالَ أَبْوَابُ الْأُمَرَاءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ. وَقَالَ أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمْ الْخُشُوعُ وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ وَقَالَ الْمُنَافِقُ مَنْ يَصِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ وَقَالَ «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ لِي لِسَانًا ذَرِبًا عَلَى أَهْلِي قَدْ خَشِيت أَنْ يُدْخِلَنِي النَّارَ قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» وَقَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ لَوْلَا أَنِّي أَرَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ الدُّنْيَا وَأَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ الْآخِرَةِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِهِ اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي كُنْت أُحِبُّ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى وَأُحِبُّ الذِّلَّةَ عَلَى الْعِزِّ وَأُحِبُّ الْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ حَبِيبٌ أَيْ الْمَوْتُ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ لَا أَفْلَحَ مِنْ نَدِمَ وَجَزِعَ حُذَيْفَةُ جَزَعًا شَدِيدًا حِينَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا فَقِيلَ مَا يُبْكِيك قَالَ مَا أَبْكِي أَسَفًا عَلَى الدُّنْيَا بَلْ الْمَوْتُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَكِنْ مَا أَدْرِي عَلَى مَا أُقْدِمُ عَلَى رِضًا أَمْ عَلَى سَخَطٍ مَاتَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَأَوْصَى ابْنَيْهِ صَفْوَانَ وَسَعِيدًا أَنْ يُبَايِعَا عَلِيًّا فَفَعَلَا وَقَاتَلَا مَعَهُ وَقُتِلَا مَعَهُ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى» وَالْمُرَادُ بِالْقَبُولِ الْإِثَابَةُ قِيلَ رِفْعَةُ شَأْنِ الْعَمَلِ وَإِنْ قَلِيلًا أَوْ مُبَاهَاةُ الْمَلَائِكَةِ بِهِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ فِي الدُّنْيَا بِمَقَامَاتِ الْكَشْفِ الْإِلَهِيِّ وَفِي الْآخِرَةِ بِالرُّؤْيَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، أَقُولُ هَذَا يُنَاسِبُ الْقَبُولَ الْكَامِلَ «لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ» يَقْتَضِي ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ الشُّمُولَ لِمَا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِطْلَاقِ الْكَمَالُ وَادَّعَى الْكَمَالَ فِي الْعِبَادَةِ كَالِاعْتِقَادِ أَوْ يُرَادُ الشُّمُولُ وَادَّعَى أَنَّ الْعَادَةَ إذَا لَمْ تُقَارَنْ بِإِذْنِ الشَّارِعِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ لَكِنْ يَنْبَغِي حِينَئِذٍ أَنْ يَجْعَلَ الْقَبُولَ كُلِّيًّا مُشَكِّكًا «صَوْمًا وَلَا حَجًّا» سَوَاءٌ كَانَا فَرِيضَتَيْنِ أَوْ نَفَلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْبِدْعَةَ مُوَصِّلَةٌ إلَى الْكُفْرِ فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ

الْقَبُولِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي مُطْلَقِ الْبِدْعَةِ، وَإِنْ لَمْ تُوَصِّلْ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ فِي الصَّوْمِ وَالْحَجِّ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ الْبِدْعَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. قُلْت: الصِّحَّةُ غَيْرُ الْقَبُولِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ عَمَلٍ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ قَبُولُهُ كَالصَّلَاةِ بِلَا تَعْدِيلِ أَرْكَانٍ صَحِيحَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ قَبُولَ حُسْنٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] «وَلَا عُمْرَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا صَرْفًا» قِيلَ نَفْلًا وَقِيلَ انْصِرَافًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ أَيْ تَوْبَةً قَالَ فِي الْقَامُوسِ الصَّرْفُ التَّوْبَةُ «وَلَا عَدْلًا» الْعَدَالَةُ ضِدُّ الْجَوْرِ وَقِيلَ الْفِدْيَةُ أَوْ الْفَرِيضَةُ أَوْ الصَّرْفُ الْوَزْنُ وَالْعَدْلُ الْكَيْلُ أَوْ الصَّرْفُ الِاكْتِسَابُ وَالْعَدْلُ الْجَزَاءُ أَوْ الْحِيلَةُ وَحَاصِلُ الْمَعْنَى لَا يَقْبَلُ عَمَلًا مِنْ الطَّاعَاتِ مَا دَامَ عَلَى بِدْعَتِهِ وَتَخْصِيصُ هَذِهِ بِالذِّكْرِ لِقُوَّةِ صُعُوبَتِهَا بِالنَّفْسِ فَيُفْهَمُ الْغَيْرُ بِالْأَوْلَى كَذَا قِيلَ لَكِنْ يَشْكُلُ بِالصَّلَاةِ لِشَرَفِهَا فِي ذَاتِهَا وَإِتْعَابِهَا فِي أَدَائِهَا الْكَامِلِ «يَخْرُجُ» لِتَرْجِيحِ هَوَى نَفْسِهِ وَإِيثَارِ حُكْمِ شَيْطَانِهِ عَلَى رِضَا رَحْمَانِهِ وَأَمْرِ نَبِيِّهِ «مِنْ الْإِسْلَامِ» أَيْ الْكَامِلِ أَوْ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ أَيْ مِنْ تَسْلِيمِهِ أَمْرَ شَرِيعَتِهِ كَمَا يَخْرُجُ مُطْلَقُ الْعُصَاةِ مِنْ انْقِيَادِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الْإِسْلَامُ مَا بِالْجَوَارِحِ وَالْإِيمَانُ مَا بِالْقَلْبِ فَلَا يُنَافِي إيمَانَهُ إذْ قَدْ يُوجَدُ الْإِيمَانُ بِدُونِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ بَعْضٍ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْبِدْعَةِ كَمَالُهَا الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ «كَمَا يُخْرَجُ الشَّعْرُ مِنْ الْعَجِينِ» ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْخَفَاءَ، وَالْبِدْعَةُ الْمُكَفِّرَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْإِسْلَامِ قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّهُ خَفِيَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُبْتَدِعِ إذْ عِنْدَهُ هِيَ طَاعَةٌ أَوْ إصَابَةٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا نُسَلِّمُ اقْتِضَاءَهُ الْخَفَاءَ بَلْ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِعَدَمِ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي الْمُبْتَدِعِ، فَإِنَّ الشَّعْرَةَ إذَا جُذِبَتْ مِنْ الْعَجِينِ لَا يَعْلَقُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْعَجِينِ (وَقَدْ سَبَقَ) فِي نَوْعِ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ (حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ وَ) حَدِيثُ (جَابِرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْمُشْتَمِلَانِ عَلَى قَوْلِهِ «كُلُّ مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا هُوَ التَّمْهِيدُ لِلسُّؤَالِ الْآتِي أَخَّرَهُ هُنَا لِطُولِهِ مَعَ عَدَمِ مُنَاسَبَةِ فَصْلِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمُرْتَبِطَةِ عَنْ بَعْضٍ (فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ التَّطْبِيقُ بَيْنَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» قِيلَ الْأَوْلَى وَكُلُّ بِدْعَةٍ بِالْوَاوِ لِيُنَبِّه عَلَى أَنَّهُ بَعْضُ الْحَدِيثِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَرَكَهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقٍ لَهُ بِوُرُودِ الْإِشْكَالِ (وَبَيْنَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ) الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ الْعَهْدِ وَدَلِيلِ الْجِنْسِ فَالْمُتَبَادَرُ هُنَا الِاسْتِغْرَاقُ وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّفَاقَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُ الْإِجْمَاعَ وَلَا يُتَوَهَّمُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَالْحَدِيثِ سِيَّمَا خَبَرُ الْوَاحِدِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى التَّوْفِيقِ وَالتَّطْبِيقِ بَلْ قَالُوا فِي مُطْلَقِ تَعَارُضِ الْحَدِيثِ مَعَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ يُقَدَّمُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ إذْ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى التَّأْوِيلِ أَوْ التَّخْصِيصِ أَوْ الضَّعِيفِ أَوْ الْمَنْسُوخِ بِخِلَافِهَا فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ أَقُولُ الْمُتَبَادَرُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا إجْمَاعَ وَيَجُوزُ إرْجَاعُ حَاصِلِ الْإِشْكَالِ إلَى أَنْ يُقَالَ هَذَا الْحَدِيثُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ. (إنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً) وَأَمَّا صَلَاحِيَّةُ الْمُبَاحِ لِمَا فِيهِ ضَلَالَةٌ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَلَى عَنْ الْعَوَارِضِ وَطَبْعُهُ لَا يَكُونُ ضَلَالَةً فَيَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَ الْمُبَاحِ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ فَبَعْضُ الْمُبَاحِ ضَلَالَةٌ فَهَذَا خُلْفٌ وَكَذَا غَيْرُهُ (كَاسْتِعْمَالِ الْمُنْخُلِ) لِنَخْلِ الدَّقِيقِ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيَجُوزُ أَنْ تُفْتَحَ خَاؤُهُ مَا يُنْخَلُ بِهِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ قِيلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ إنَّهُ مِنْ النَّوَادِرِ إذْ قِيَاسُ اسْمِ الْآلَةِ الْكَسْرُ (وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَكْلِ لُبِّ الْحِنْطَةِ) بِإِزَالَةِ قِشْرِهَا بِالْمُنْخُلِ. وَفِي التَّقْيِيدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَأْكُلُونَ اللُّبَّ لَكِنْ نَادِرٌ لَيْسَ بِمُوَاظَبَةٍ إذْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّوَايَاتِ كَمَا فِي الْأُصُولِ وَفِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ مَفْهُومُ التَّصْنِيفِ حُجَّةٌ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ فِي خَبَرِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَكْلُ لُبِّ الْحِنْطَةِ (وَالشِّبَعُ مِنْهُ)

أَيْ مِنْ أَكْلِ اللُّبِّ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيه وَسُكُونِهِ مَصْدَرُ شَبِعَ امْتَلَأَ وَفِي الشِّرْعَةِ أَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ الشِّبَعُ وَهَذِهِ الْمَنَاخِلُ وَلَمْ يُرَ نَبِيُّنَا يَأْكُلُ نَقِيًّا أَيْ مَا نُقِّيَ دَقِيقُهُ وَفِي شَرْحِهِ كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ فَتَأَمَّلْ (وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً كَبِنَاءِ الْمَنَارَةِ) الْمِئْذَنَةِ مَوْضِحِ الْأَذَانِ. وَفِي الْقَامُوسِ الْمِئْذَنَةُ بِالْكَسْرِ مَوْضِعُ الْأَذَانِ أَوْ الْمَنَارَةُ أَوْ الصَّوْمَعَةُ (وَالْمَدَارِسِ) جَمْعُ مَدْرَسَةٍ مَوْضِعُ الدِّرَاسَةِ أَيْ الْقِرَاءَةِ (وَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ) أَيْ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مَبَادِئِهَا وَإِلَّا فَحَرَامٌ، وَإِنْ وُجِدَ فِي عَصْرِ السَّلَفِ، وَإِنْ فِي يَدِ الْغَيْرِ كَكُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ أَقُولُ وَاَلَّذِي يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ تَصْنِيفَ الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ فِي زَمَانِنَا مِنْ قَبِيلِ الْوَاجِبِ (بَلْ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً) يُوجِبُ تَرْكُهَا الْإِثْمَ (كَنَظْمِ الدَّلَائِلِ) أَيْ تَرْتِيبِهَا فَمِنْ قَبِيلِ التَّصْنِيفِ أَيْضًا تَأَمَّلْ. الظَّاهِرُ الدَّلَائِلُ الْكَلَامِيَّةُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (لِرَدِّ شُبَهِ الْمَلَاحِدَةِ) جَمْعُ مُلْحِدٍ مِنْ الْإِلْحَادِ وَهُوَ الْمَيْلُ وَالْعُدُولُ عَنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ (وَنَحْوِهِمْ) لِنَحْوِ الْفَلَاسِفَةِ وَقِيلَ الْمَلَاحِدَةُ مُنْكِرُو الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ وَنَحْوِهِمْ ظَاهِرٌ. . (قُلْنَا لِلْبِدْعَةِ مَعْنًى لُغَوِيٌّ عَامٌّ هُوَ الْمُحْدَثُ) فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ (مُطْلَقًا) إنْ أُرِيدَ مِنْ الْإِطْلَاقِ مَا بَعْدَ الرَّسُولِ فَلَا يَكُونُ لُغَوِيًّا، وَإِنْ أَعَمُّ فَلَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ يَعْنُونَ بِهَا إلَخْ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ قَوْلَهُ لُغَوِيٌّ وَيَجْعَلُ هَذَا الْمَعْنَى الْعَامَّ وَالْخَاصَّ مِنْ الشَّرْعِيِّ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ قَرِيبُ الشَّيْءِ مَعْدُودًا مِنْهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَرِيبٌ إلَى اللُّغَوِيِّ (عَادَةً أَوْ عِبَادَةً) لَعَلَّ الْأَوْلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ عِبَادَةً أَوْ عَادَةً (؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ مِنْ الِابْتِدَاعِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ مُشْتَقٍّ مِنْ الِابْتِدَاعِ مَصْدَرُ ابْتَدَعَ وَفِيهِ كَلَامٌ مِنْ وُجُوهٍ فَتَأَمَّلْ (بِمَعْنَى الْإِحْدَاثِ كَالرِّفْعَةِ) لِلشَّرَفِ وَالْعُلُوِّ (مِنْ الِارْتِفَاعِ وَالْخِلْفَةِ مِنْ الِاخْتِلَافِ) فِي الْقَامُوسِ الْخِلْفَةُ بِالْكَسْرِ مِنْ الِاخْتِلَافِ أَيْ التَّرَدُّدُ (وَهَذِهِ) الْبِدْعَةُ الْعَامَّةُ (هِيَ الْمَقْسَمُ فِي عِبَارَةِ الْفُقَهَاءِ) لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ تَخَاطُبَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ تَخَاطُبُ الشَّرْعِ أَوْ اصْطِلَاحُهُمْ الْخَاصُّ وَاللُّغَوِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَارْجِعْ لِمَا ذُكِرَ آنِفًا (يَعْنُونَ بِهَا) أَيْ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الْمَذْكُورِ (مَا أُحْدِثَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ) زَمَانِ النَّبِيِّ وَصَحَابَتِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» كَذَا قِيلَ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُؤْتَى بِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» بَلْ لَا يَتِمُّ بِهِ أَيْضًا لِمَا فِي الشِّرْعَةِ حَاصِلُهُ أَنَّ الْبِدْعَةَ مَا حَدَثَ بَعْدَ تَبَعِ التَّابِعِينَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَعْنَى الْإِضَافِيُّ أَيْ الشَّامِلُ لِلْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ (مُطْلَقًا) عِبَادَةً أَوْ عَادَةً (وَمَعْنَى شَرْعِيٌّ) مَأْخُوذٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ يَتَبَادَرَ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ الشَّرْعِ فَهُوَ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ وَحَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلَوْ تَعَدَّدَ مَعْنَى لَفْظٍ شَرْعِيٍّ فَأَيُّهُ أَشْهُرُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ مَجَازٌ (خَاصٌّ) بِالدِّينِ وَالْعِبَادَةِ. (وَ) هُوَ قَوْلُهُ (هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الدِّينِ) زِيَادَةً مُسْتَقِلَّةً كَصَلَاةِ الرَّغَائِبِ بِالْجَمَاعَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ كَزِيَادَةِ انْحِنَاءِ الرَّأْسِ فِي الرُّكُوعِ (أَوْ النُّقْصَانُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الدِّينِ أَصَالَةً أَوْ تَبَعِيَّةً أَيْضًا

(الْحَادِثَانِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ) أَيْ زَمَانِهِمْ وَأَيْضًا زَمَانُ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ لَعَلَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّغْلِيبِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ وَلَا يَبْعُدُ الْحَمْلُ عَلَى الدَّلَالَةِ (بِغَيْرِ إذْنٍ) مِنْ (الشَّارِعِ) فِي ذَيْنِك الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ (لَا قَوْلًا وَفِعْلًا) بِأَنْ يَفْعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَلَا صَرِيحًا) بِقَوْلِهِ (وَلَا إشَارَةً) كَمَا فِيهِ إعَانَةٌ لِلدِّينِ (فَلَا تَتَنَاوَلُ) الْبِدْعَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ (الْعَادَاتِ أَصْلًا) الْعَادَةُ مَا يُقْصَدُ فِيهِ غَرَضٌ دُنْيَوِيٌّ كَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ الْمُخْتَرَعَةِ الْآنَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِخَارِجَةٍ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ إذْ لَا يَخْلُو فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ قُلْنَا لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الدِّينِ هُوَ الْأَحْكَامُ الْمَخْصُوصَةُ بِالْعِبَادَاتِ اعْتِقَادِيَّةً أَوْ عَمَلِيَّةً، فَإِنْ قِيلَ: النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَمَا الصَّارِفُ عَنْ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى الْخَاصِّ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ هَذَا الْمَعْنَى شَرْعِيًّا فَظَاهِرُ النُّصُوصِ هُوَ الْخُصُوصُ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ (بَلْ تَقْتَصِرُ) فِي الشَّرْعِ الْيَوْمَ (عَلَى بَعْضِ الِاعْتِقَادَاتِ) أَيْ أَكْثَرِهَا، فَإِنَّ الْبَعْضَ، وَإِنْ أَوْهَمَ الْقِلَّةَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهَا لَكِنْ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي ضِمْنِ الْكَثْرَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]- بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ - {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]- فَإِنَّ اعْتِقَادَ السُّنَّةِ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ الْحَدِيثُ (وَبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ) إنْ كَانَا بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ لَا عَنْ دَلِيلٍ فَالزِّيَادَةُ أَوْ النُّقْصَانُ الْوَاقِعَانِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ لِكَوْنِهِمَا عَنْ دَلِيلٍ وَلَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ لَا يُعَدَّانِ بِدْعَةً كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ بِرُكُوعَيْنِ وَسُجُودَيْنِ وَفَاتِحَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيِّ. فَالْبِدْعَةُ مَا كَانَ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ كَزِيَادَةٍ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى التَّثْلِيثِ إنْ اُعْتُقِدَ عِبَادَةً فَبِدْعَةٌ، وَإِنْ وَسْوَسَةً فَمَكْرُوهٌ وَغَسْلِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ لِاحْتِمَالِ النَّجَاسَةِ كَذَلِكَ (فَهَذِهِ) الْبِدْعَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا الْعَادِيَةُ (هِيَ مُرَادُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) مِنْ قَوْلِهِ «فَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» فَحَاصِلُهُ أَنْ يُرَادَ مِنْ كُلِّ بِدْعَةٍ فِي الشَّرْعِ حَالَ عَدَمِ إعَانَتِهَا عَلَى الطَّاعَةِ ضَلَالَةٌ (بِدَلِيلِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَتَنَاوَلُ. (قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِيمَا سَبَقَ «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْبِدْعَةُ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَقَرِينَةٍ فِي تَخَاطُبِ الشَّرْعِ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَنْصِبَ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنًى شَرْعِيًّا لَا عَلَى عَدَمِ التَّنَاوُلِ وَأَنَّ الْعَادِيَّاتِ مِنْ أَفَاعِيلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ سُنَّةُ الزَّوَائِدِ فَكَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ تَنَاوُلِ الْعَادِيَّاتِ وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ مَجِيئَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هِيَ لَلدِّينِ لَا لِلدُّنْيَا فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْعَادِيَّاتِ سُنَّةً مُخَالِفَةً لِلْفِقْهِ وَالْأُصُولِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ السُّنَّةِ هُنَا الْكَامِلَةُ بِجَعْلِ الْإِضَافَةِ لِلْعَهْدِ بِمَعْنَى الْفَرْدِ الْكَامِلِ عَلَى مَا يُقَالُ: إنَّ الشَّيْءَ إذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا يُصْرَفُ إلَى الْكَمَالِ أَوْ بِقَرِينَةِ «عَلَيْكُمْ» فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ وَالْمُنَاسِبُ لِلُّزُومِ هُوَ سُنَّةُ الْهُدَى لَا الزَّوَائِدُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ شَامِلٌ لِمَا بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إلَى انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ بَلْ إلَى انْقِرَاضِ التَّابِعِينَ أَوْ تَبَعِ التَّابِعِينَ فَلَا تَقْرِيبَ فِي دَلَالَةِ هَذَا الدَّلِيلِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُسْتَقِلًّا فِي الدَّلَالَةِ بَلْ مَعَ مَا بَعْدَهُ أَوْ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جُزْءِ الْمَدْلُولِ لَا عَلَى تَمَامِهِ فَافْهَمْ. «وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ» لَعَلَّ وَجْهَ دَلَالَةِ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إرَادَةُ عَدَمِ شُمُولِ السُّنَّةِ هُنَا إلَى الْعَادِيَّاتِ إمَّا بِقَرِينَةِ لَفْظِ عَلَيْكُمْ الظَّاهِرُ فِي اللُّزُومِ أَوْ بِكَوْنِ السُّنَّةِ الدِّينِيَّةِ هِيَ الْكَمَالَ وَثَانِيَتُهُمَا مَا نُقِلَ عَنْ الْفَتَاوَى الْبَزْدَوِيَّةِ أَنَّ الْبِدْعَةَ الْمَمْنُوعَةَ مَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِسُنَّةٍ أَوْ لِحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ سُنَّةٍ فَنَقُولُ

أنواع البدعة وأحكامها

الْعَادِيَّاتُ لَيْسَ بِمُخَالَفَةٍ لِلسُّنَّةِ، وَالْبِدْعَةُ مَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِلسُّنَّةِ فَلَا تَتَنَاوَلُ الْبِدْعَةُ، وَالضَّلَالَةُ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْعَادِيَّاتِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا حَدَثَ بَعْدَ الرَّسُولِ حِينَ الْخُلَفَاءِ فَفِيهِ تَأَمَّلْ. (وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» ؛ لِأَنَّ بِعْثَتِي إنَّمَا هِيَ لِلدِّينِ لَا لِلدُّنْيَا فَأَنْتُمْ لَا تَتَوَقَّفُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا عَلَيَّ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْإِذْنِ إلَى مَا يَحْدُثُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا فَلَا تَكُونُ الْعَادِيَّاتُ مَمْنُوعَةً فَلَا تَتَنَاوَلُ إلَيْهَا. (وَقَوْلُهُ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا» أَيْ شَرْعِنَا وَدِينِنَا هَذَا «مَا لَيْسَ مِنْهُ» صَرَاحَةً أَوْ إيمَاءً أَوْ إشَارَةً بِأَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ «فَهُوَ رَدٌّ» فَمَا يَكُونُ مُحْدَثًا فِي غَيْرِ أَمْرِ الدِّينِ لَيْسَ بِرَدٍّ وَمَا لَا يَكُونُ مَرْدُودًا لَا يَكُونُ بِدْعَةً لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالِفِ وَذَا لَيْسَ بِجَائِزٍ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ لَا بِالْمَفْهُومِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ فِي غَيْرِ الدِّينِ لَيْسَ بِضَلَالٍ ثُمَّ حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَفُهِمَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَ الْبِدْعَةِ لَيْسَ بِضَلَالَةٍ فَتَنَاقَضَا وَحَاصِلُ الْجَوَابِ الْبِدْعَةُ فِي الْحَدِيثِ شَرْعِيَّةٌ. وَفِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ لُغَوِيَّةٌ فَمَوْضُوعَا الْقَضِيَّتَيْنِ لَيْسَا بِمُتَّحِدَيْنِ، وَقَدْ شَرَطَ فِي التَّنَاقُضِ اتِّحَادَهُمَا ثُمَّ قَوْلُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إلَخْ إشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ الْحَدِيثِ الشَّرْعِيَّةَ وَلَمْ يُشِرْ إلَى قَرِينَةِ إرَادَةِ اللُّغَوِيِّ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ إمَّا لِكَوْنِ بَقَائِهِ عَلَى الْأَصْلِ اللُّغَوِيِّ أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَصْبِ الْعَيْنِ فِي الْمَقَامِ. [أَنْوَاعِ الْبِدْعَةِ وَأَحْكَامِهَا] (وَالْبِدْعَةُ فِي الِاعْتِقَادِ) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَتِمَّةِ الْجَوَابِ السَّابِقِ بَلْ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ يُرَادُ بِهِ تَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْبِدْعَةِ وَأَحْكَامِهَا وَتَفَاوُتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَوْ حُمِلَ إلَى جَوَابٍ آخَرَ أَوْ إلَى تَفْصِيلِ الْجَوَابِ السَّابِقِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ فَتَدَبَّرْ (هِيَ الْمُتَبَادَرَةُ مِنْ إطْلَاقِ الْبِدْعَةِ) لِكَوْنِهِ كَمَالَهَا وَعِظَمَ مَفْسَدَتِهَا أَوْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِيهِ لِوُفُورِ دَوَاعِي الْمُكَالَمَةِ مَعَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ (وَ) إطْلَاقِ (الْمُبْتَدَعِ وَالْهَوَى وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ) يُقَالُ لِلْفِرَقِ الضَّالَّةِ أَهْلُ الْهَوَى فَالْمُتَبَادَرُ عِنْدَ إطْلَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا هِيَ الْبِدْعَةُ فِي الِاعْتِقَادِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْبِدْعَةَ الْمَذْمُومَةَ بِلِسَانِ الْأَحَادِيثِ سِيَّمَا الْبِدْعَةُ فِي قَوْلِهِ «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» مُطْلَقَةٌ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَتَنَاوَلَ الْبِدْعَةَ فِي الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الشُّمُولُ وَدَعْوَى عَدَمِ قَصْدِيَّةِ الشُّمُولِ يُنَافِي السِّيَاقَ وَالسِّيَاقُ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا» لَا سِيَّمَا رِوَايَةُ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا» تَفْسِيرًا لِبَعْضٍ آخَرَ (فَبَعْضُهَا كُفْرٌ) الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ أَيْ عَطْفِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ لَعَلَّ الْأَوْلَى تَرْكُهَا وَاسْتِئْنَافُهَا. وَالْكُفْرُ كَاعْتِقَادِ الْجِسْمِيَّةِ كَسَائِرِ الْأَجْسَامِ وَالتَّفْصِيلِ فِيمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ وَالتَّمْثِيلُ بِنَحْوِ عَدَمِ عِلْمِهِ تَعَالَى الْجُزْئِيَّاتِ وَجُحُودِ الْحَشْرِ الْجُسْمَانِيِّ وَالْحُكْمِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ إذْ نَحْوُهَا مَذَاهِبُ الْفَلَاسِفَةِ فَاعْتِقَادَاتٌ بَاطِلَةٌ لَيْسَتْ بِمُحْدَثَةٍ بَلْ قَدِيمَةٌ إذْ أَرْبَابُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ سَابِقَةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ إلَّا أَنْ يُرَادَ ظُهُورُهَا وَشُيُوعُهَا (وَبَعْضُهَا لَيْسَتْ بِهِ) أَيْ بِكُفْرٍ كَإِنْكَارِ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ (وَلَكِنَّهَا أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرَةٍ فِي الْعَمَلِ) فِي كَبَائِرِ الْعَمَلِ إمَّا لِاعْتِقَادِ حَقِّيَّةَ الِاعْتِقَادِيَّاتِ دُون الْعَمَلِيَّاتِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ أُصُولًا وَأُمَّهَاتٍ لِلْعَمَلِيَّاتِ وَقِيلَ لِتَمَكُّنِهَا فِي النَّفْسِ بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا ثُمَّ قِيلَ: وَالصَّحِيحُ وُرُودُ وَعِيدٍ شَدِيدٍ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]- (حَتَّى الْقَتْلَ وَالزِّنَا) وَهُمَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ لِصُدُورِهِمَا عَنْ الْمُؤْمِنِ مُعْتَقِدًا بِحُرْمَتِهِمَا وَلَا يُتَصَوَّرُ مِثْلُهُ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ (وَلَيْسَ فَوْقَهَا) أَيْ الْبِدْعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ (إلَّا الْكُفْرُ) ، وَإِنْ تَفَاوَتَ أَفْرَادُهَا فِي أَنْفُسِهَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَعَمَلُهُ وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا كَمَا سَبَقَ لِاعْتِقَادِهِ الْبِدْعَةَ

طَاعَةً، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكْفُرُ هَذَا الْبَعْضُ، وَقَدْ قَالُوا وَلَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُمْ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا بِقَلْبِهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الْعَلَّامَةَ الْعَضُدَ قَالَ وَلَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إلَّا بِمَا فِيهِ نَفْيُ الصَّانِعِ الْقَادِرِ أَوْ بِمَا فِيهِ شِرْكٌ أَوْ إنْكَارُ النُّبُوَّةِ أَوْ إنْكَارُ مَا عُلِمَ مَجِيءُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ ضَرُورَةً أَوْ إنْكَارُ أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ قَطْعًا أَوْ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ أَيْ الْمُجْمَعِ حُرْمَتُهَا قَطْعًا. وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَالْقَائِلُ بِهِ مُبْتَدِعٌ وَنُقِلَ عَنْ حَاشِيَةِ حَسَنٍ جَلَبِيٍّ عَلَى شَرْحِ الْمَوَاقِفِ عَدَمُ الْإِكْفَارِ إنَّمَا هُوَ فِي الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى مَا هِيَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ وَنَحْوِهِمَا وَاخْتَلَفُوا فِي أُصُولٍ سِوَاهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ الْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا نِزَاعَ فِي إكْفَارِ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الطَّاعَاتِ طُولَ عُمْرِهِ بِاعْتِقَادِ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ كَاعْتِقَادِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ (وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ) وَهُوَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ (فِيهِ) أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ (لَيْسَ بِعُذْرٍ) شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ فِي الْأُصُولِ وَالْعَقَائِدِ يُعَاقَبُ بَلْ يُضَلَّلُ أَوْ يَكْفُرُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْلِ كَافٍ فِيهِ دُونَ الْفَرْعِ وَلِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَاحِدٌ إجْمَاعًا وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْيَقِينُ الْحَاصِلُ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الْكَلَامِيَّةِ إذَا لَمْ يُوجِبْ تَكْفِيرَ الْمُخَالِفِ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْإِثْمِ وَتَحْقِيقُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ لَا حَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ كَذَا فِي التَّلْوِيحِ فَإِنْ قُلْت يُشْعِرُ هَذَا الْقَوْلُ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعَقَائِدِ، وَالِاعْتِقَادِيَّاتُ إنَّمَا تَكُونُ قَطْعِيَّةً وَحُكْمُ الِاعْتِقَادِ وَأَثَرُهُ إنَّمَا هُوَ ظَنٌّ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ تَفْرِيعِهِ اخْتِصَاصُهُ بِالْفَرْعِيِّ إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَعْرِفُ عِلْمَ الْفِقْهِ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ الشَّرْعِيِّ هُوَ الْفَرْعِيُّ إذْ الِاعْتِقَادِيُّ أَصْلِيٌّ وَعَقْلِيٌّ قُلْنَا قَدْ يُوجَدُ فِي الْكَلَامِيَّةِ مَسَائِلُ ظَنِّيَّةٌ أَيْضًا وَمَسَائِلُ الْكَلَامِ شَرْعِيَّةٌ أَيْضًا لِكَوْنِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَكْثَرُهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي أَصْلِهَا ابْتِدَاءً وَجَمِيعُهَا لَازِمٌ تَطْبِيقُهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ انْتِهَاءً وَإِلَّا لَا تَكُونُ مُعْتَدَّةً بِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقُ الِاسْتِدْلَالِ (بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَعْمَالِ) ، فَإِنَّ الْمُخْطِئَ فِيهِ مَعْذُورٌ بَلْ مُثَابٌ نِصْفَ الْمُصِيبِ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا بَذْلُ الْوُسْعِ، وَقَدْ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَنَلْ الْحَقَّ لِخَفَاءِ دَلِيلِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْحَقِّ بَيَّنَّا وَإِلَّا فَالْخَطَأُ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَتَرْكِ مُبَالَغَةِ اجْتِهَادِهِ فَيُعَاقَبُ (وَضِدُّ هَذِهِ الْبِدْعَةِ) الِاعْتِقَادِيَّةِ (اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ) النَّبَوِيَّةِ (وَالْجَمَاعَةِ) الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ كَثِيرٌ إلَى سِتَّةٍ وَخَمْسِينَ عَلَى تَخْرِيجِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَكِنَّ الِاتِّحَادَ أَكْثَرُ أُصُولِهِمَا وَعَدَمُ تَضْلِيلِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ لَمْ يَعُدْ كُلٌّ مُقَابِلًا لِلْآخَرِ (وَالْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَةِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْبِدْعَةُ فِي الِاعْتِقَادِ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا (وَإِنْ كَانَتْ دُونَهَا) الِاعْتِقَادِيَّةُ قِيلَ: لِأَنَّهَا تَنْجِيسُ مَوْضِعِ نَظَرِ الْحَقِّ، وَالْعَمَلِيَّةُ تَنْجِيسُ مَنْظَرِ الْخَلْقِ كَمَا وَرَدَ «أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» (لَكِنَّهَا أَيْضًا مُنْكَرٌ وَضَلَالَةٌ) بَلْ فَوْقَ سَائِرِ الْمَعَاصِي لِاعْتِقَادِ صَاحِبِهَا كَوْنَهَا طَاعَةً (لَا سِيَّمَا إذَا صَادَمَتْ) أَيْ زَاحَمَتْ وَدَافَعَتْ (سُنَّةً مُؤَكَّدَةً) قِيلَ بِأَنْ كَانَ الشُّغْلُ بِهَا مَانِعًا مِنْ السُّنَّةِ وَقِيلَ بِأَنْ لَا يَكُونَ حُصُولُهَا إلَّا بِتَرْكِ السُّنَّةِ كَتَرْكِ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِسُنِّيَّتِهِ. قَالَ الْمَوْلَى خَوَاجَهْ زَادَهْ وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمُصَادَمَةِ

فَعِنْدَنَا مُنْكَرٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ أَقُولُ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَا سِيَّمَا لَكِنْ عَرَفْت مَا نُقِلَ عَنْ الْبَزْدَوِيَّةِ أَنَّ الْبِدْعَةَ الْمَمْنُوعَةَ مَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِسُنَّةٍ أَوْ لِحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ سُنَّةٍ وَسَمِعْت الْحَصْرَ مِنْ حَدِيثِ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ (وَمُقَابِلُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ) الْعِبَادِيَّةِ (سُنَّةُ الْهُدَى) الرَّشَادِ وَالدَّلَالَةِ (وَهِيَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ) دُونَ الْعَادَةِ (مَعَ التَّرْكِ أَحْيَانًا) لِئَلَّا يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْأُمَّةِ لَا كَسْلَانًا وَإِلَّا فَلَا شَكَّ فِي فَضْلِ الْمُدَاوَمَةِ بِلَا تَرْكٍ وَاللَّائِقُ بِحَالِ النَّبِيِّ أَنْ لَا يَتْرُكَ مَا هُوَ أَفْضَلُ وَهَذَا قَرِيبٌ إلَى مَا يُقَالُ الْفِعْلُ الَّذِي دَامَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ تَرْكَ هَذِهِ السُّنَّةِ أَحْيَانًا سُنَّةٌ (وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى تَارِكِهِ) الظَّاهِرُ إنْكَارُ تَوَعُّدٍ، فَإِنْ دَامَ وَأَنْكَرَ عَلَى تَارِكِهِ فَوَاجِبٌ (كَالِاعْتِكَافِ) هُوَ لُغَةً اللُّبْثُ وَالدَّوَامُ وَشَرْعًا لُبْثُ رَجُلٍ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ فِي بَيْتِهَا بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ فَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْمَنْذُورِ وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَمُسْتَحَبٌّ فِيمَا سِوَاهُ وَاعْلَمْ أَنَّ سُنَّةَ الْهُدَى مُكَمِّلَةٌ لِلدِّينِ وَتَارِكُهَا مُسِيءٌ يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ كَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فَلَوْ تَرَكَهَا قَوْمٌ عُوقِبُوا أَوْ أَهْلُ قَرْيَةٍ أَوْ أَهْلُ بَلْدَةٍ وَأَصَرُّوا قُوتِلُوا وَأَمَّا سُنَّةُ الزَّوَائِدِ فَتَارِكُهَا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ كَتَطْوِيلِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَسِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لِبَاسِهِ كَالْبَيَاضِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَتَقْدِيمِ الْيُمْنَى فِي الدُّخُولِ (وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَةِ) بِأَنْ لَا يَقْصِدَ بِهَا عِبَادَةً وَلَا طَلَبَ ثَوَابٍ (كَالْمُنْخُلِ) وَكَذَا الْمِلْعَقَةُ لِلْأَكْلِ (فَلَيْسَ فِعْلُهَا ضَلَالَةً بَلْ تَرْكُهُ أَوْلَى) فَأَرْبَابُ الْوَرَعِ يَجْعَلُونَهَا كَالْمُحَرَّمِ إلَّا بِضَرُورَةٍ (فَتَرْكُهَا أَوْلَى) ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الطُّمَأْنِينَةَ عَلَى النِّعَمِ الْفَانِيَةِ وَالنِّسْيَانَ عَمَّا يُوجِبُ الْأُلْفَةَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ هُنَا وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْتُتْنَ وَالْقَهْوَةِ وَالصَّوَابُ عَدَمُ حُرْمَتِهِمَا وَكَرَاهَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْبِدَعِ الْعَادِيَّةِ فَمَنْ حَرَّمَهُمَا لَزِمَهُ حُرْمَةُ الْبِدَعِ الْعَادِيَّةِ وَأَمْرُ السُّلْطَانِ وَنَهْيُهُ إنَّمَا يُعْتَبَرَانِ إذَا وَافَقَا الشَّرْعَ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ وَهَوَاهُ انْتَهَى. أَقُولُ أَمَّا الْقَهْوَةُ فَلَعَلَّهَا لَيْسَ عَنْهَا مَنْعٌ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهَا أَوْلَى سِيَّمَا إصْرَارُهُ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الِاتِّفَاقِ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهَا بَعْضُ خِلَافٍ وَلَوْ ضَعِيفًا وَأَمَّا الدُّخَانُ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ لَكِنْ لَعَلَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي كَرَاهَتِهِ لِكَثْرَةِ اخْتِلَافٍ وَفَتْوَى مِنْ الَّذِينَ يُوثَقُ بِعِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَالسُّلْطَانُ إذَا نَهَى عَنْ أَمْرٍ مُبَاحٍ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ يَجِبُ تَبَعِيَّتُهُ فَضْلًا عَمَّا فِيهِ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَانَ أَدْنَى دَرَجَةِ خِلَافِهِمْ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ. وَقَالَ فِي التَّلْوِيحِ الْمُحَرَّمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَسَيُفَصَّلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَحَلِّهِ (وَضِدُّهَا) ضِدُّ الْبِدَعِ الْعَادِيَّةِ (السُّنَّةُ الزَّائِدَةُ) ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِتَكْمِيلِ الدِّينِ خِلَافُ سُنَّةِ الْهُدَى، فَإِنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلدِّينِ كَمَا عَرَفْت (وَهِيَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِنْسِ الْعَادَةِ كَالِابْتِدَاءِ بِالْيَمِينِ) مِنْ الْيَدِ وَالرِّجْلِ (فِي الْأَفْعَالِ الشَّرِيفَةِ) غَيْرِ الْخَسِيسَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» وَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ التَّبَرُّكُ بِاسْمِ الْيَمِينِ لِإِضَافَةِ الْخَيْرِ إلَيْهَا وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَفِيهِ الْيُمْنُ بِمَعْنَى الْبَرَكَةِ فَمِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ فَفِي الْيَمِينِ احْتِرَامٌ لَا يُسْتَعْمَلُ بِلَا ضَرُورَةٍ فِي الْأَقْذَارِ وَفِي خَسِيسِ الْأَعْمَالِ فَلِذَا نُهِيَ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ وَمَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَفِيهِ نَدْبُ الْبُدَاءَةِ بِشِقِّ الرَّأْسِ الْأَيْمَنِ فِي التَّرَجُّلِ وَالْغُسْلِ وَالْحَلْقِ وَلَا يُقَالُ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِزَالَةِ فَيُبْدَأُ بِالْأَيْسَرِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ وَالتَّزْيِينِ وَالْبُدَاءَةِ بِالرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي التَّنَعُّلِ وَفِي إزَالَتِهَا بِالْيُسْرَى وَالْبُدَاءَةِ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي الْوُضُوءِ وَبِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فِي الْغُسْلِ وَنُدِبَ الصَّلَاةُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَمَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَفِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَمَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزْيِينِ يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ انْتَهَى. (وَبِالْيَسَارِ فِي الْخَسِيسَةِ) مِثْلُ الدُّخُولِ فِي الْخَلَاءِ وَالْحَمَّامِ وَالِاسْتِنْجَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالِامْتِخَاطِ وَنَزْعِ الثَّوْبِ وَالنِّعَالِ وَمَسِّ الذَّكَرِ فَعِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ

بِالْحَجَرِ يَأْخُذُ ذَكَرَهُ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ حَجَرًا (فَهِيَ) أَيْ السُّنَّةُ الزَّائِدَةُ (مُسْتَحَبَّةٌ) نُقِلَ عَنْ الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ أَنَّ الْأَدَبَ وَالْمُسْتَحَبَّ وَالنَّافِلَةَ مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مَرَّة وَتُسَمَّى سُنَّةٌ أَيْضًا. وَعَنْ شَرْحِ دُرَرِ الْبِحَارِ الْمُسْتَحَبُّ أَدْوَنُ مِنْ السُّنَّةِ وَأَعْلَى مِنْ الْأَدَبِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَعْضَ الْأَدَبِ عَنْ الْمُسْتَحَبِّ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمُسْتَحَبُّ عَلَى السُّنَّةِ (فَظَهَرَ أَنَّ) (الْبِدْعَةَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ) وَهُوَ اللُّغَوِيُّ (ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ) (مُرَتَّبَةٍ فِي الْقُبْحِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي الْقُبْحِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مُرَتَّبَةٌ فَأَعْظَمُ الْقُبْحِ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ فَالْعِبَادِيَّةِ فَالْعَادِيَّةِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْقُبْحَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الشَّرْعِيِّ، وَاللُّغَوِيُّ مُقَابِلٌ لِلشَّرْعِيِّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقُبْحُ فِي اللُّغَوِيِّ سِيَّمَا الْعَادِيَّةُ فِي مَادَّةِ الِافْتِرَاقِ مِنْ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ آنِفًا بِعَدَمِ ضَلَالَةِ تَرْكِ الْعَادِيَّةِ بَلْ بِكَوْنِهَا تَرْكٌ أَوْلَى وَمَا لَا ضَلَالَةَ فِيهِ لَا قُبْحَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ سِيَّمَا عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وُجُودَ الْقُبْحِ فِي غَيْرِ الشَّرْعِيِّ وَإِطْلَاقُ الْقُبْحِ فِي الْعَادِيَّةِ تَجَوُّزٌ إذْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ ثَلَاثَةٌ صِفَةُ الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ وَمُلَائَمَةُ الْغَرَضِ وَمُنَافَرَتُهُ، وَالثَّالِثُ تَعَلُّقُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَاجِلًا وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ آجِلًا وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَقَامِ فَتَرْكُ الْعَادِيَّةِ، وَإِنْ أَوْجَبَ الثَّوَابَ لَكِنَّ فِعْلَهَا لَا يُوجِبُ الْعِقَابَ نَقَلَ شَارِحُ الْمَشَارِقِ الْبِدْعَةُ خَمْسَةٌ وَاجِبَةٌ كَنَظْمِ الدَّلَائِلِ وَمَنْدُوبَةٌ كَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ وَمُبَاحَةٌ كَالتَّبَسُّطِ بِأَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ عِنْدَ ضِيَافَةِ الْإِخْوَانِ وَمَكْرُوهَةٌ وَحَرَامٌ وَهُمَا ظَاهِرَانِ (فَإِذَا عَلِمْت هَذِهِ) الْمَذْكُورَاتِ (فَالْمَنَارَةُ) إنَّمَا كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً مَعَ كَوْنِهَا بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهَا (عَوْنٌ لِإِعْلَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ) لِلنَّاسِ (الْمُرَادُ) صِفَةٌ لِلْإِعْلَامِ (مِنْ الْأَذَانِ وَالْمَدَارِسُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ عَوْنٌ (وَتَصْنِيفُ الْكُتُبِ) شَرْعِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ وَفَرْعِيَّةٌ وَآلَةٌ لَهُمَا كَعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ (عَوْنٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّبْلِيغِ) الْوَاجِبَيْنِ فَعَوْنُهُمَا لَا أَقَلَّ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ. . (وَرَدُّ الْمُبْتَدِعَةِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ نَهْيٌ (بِنَظْمِ) أَيْ تَرْتِيبِ (الدَّلَائِلِ) الْعَقْلِيَّةِ أَوْ النَّقْلِيَّةِ صَالِحَةً لِتَحْقِيقِ الْمَسَائِلِ (نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَبٌّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ دَفْعٌ وَمَنْعٌ وَطَرْدٌ وَرَدْعٌ وَزَجْرٌ (عَنْ الدِّينِ) وَهَذَا وَاجِبٌ فَالرَّدُّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الْوَاجِبِ وَاجِبٌ (فَكُلُّ مَأْذُونٍ فِيهِ) نَتِيجَةٌ لِقَوْلِهِ فَالْمَنَارَةُ وَمَعْطُوفَاتُهَا تَقْرِيرُهُ الْمَنَارَةُ عَوْنٌ لِإِعْلَامِ الْوَقْتِ وَعَوْنُ إعْلَامِ الْوَقْتِ مَأْذُونٌ فِيهِ فَالْمَنَارَةُ مَأْذُونٌ فِيهِ وَالْبِدْعَةُ لَا تَكُونُ مَأْذُونًا فَيَنْتِجُ مِنْ الشَّكْلِ الثَّانِي الْمَنَارَةُ لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ (بَلْ مَأْمُورٌ بِهِ) نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا لَعَلَّ الْأَمْرَ مُفَادٌ مِنْ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ نَحْوُ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقِيلَ مِنْ نَحْوِ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] ؛ لِأَنَّ نَحْوَ بِنَاءِ الْمَنَارَةِ مِنْ جُمْلَةِ مُحَافَظَةِ الصَّلَوَاتِ (وَعَدَمُ وُقُوعِهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ مِنْ أَنَّ مَا يَكُونُ عَوْنًا لِلْخَيْرِ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ لَعَلَّ الْأَوَّلَ إضَافِيٌّ شَامِلٌ لِلْقَرْنِ الثَّانِي بَلْ الثَّالِثِ (إمَّا لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ) لِقُوَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ لَا يَحْتَاجُونَ لِلْإِعْلَامِ وَلِقُوَّةِ ذَكَائِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَحُصُولِ السَّمَاعِ مِنْ الرَّسُولِ لَا يَحْتَاجُونَ لِمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وَبِسُهُولَةِ مُرَاجَعَةِ الثِّقَاتِ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ اسْتَغْنَوْا عَنْ تَصْنِيفِ الْكُتُبِ وَبِقِلَّةِ الْمُخَالِفِينَ عَنْ نَظْمِ الدَّلَائِلِ (أَوْ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ بِ) سَبَبِ (عَدَمِ الْمَالِ) فِي نَحْوِ الْمَنَارَةِ وَالْمَدَارِسِ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الدُّنْيَا (أَوْ لِعَدَمِ التَّفَرُّغِ لَهُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَهَمِّ) كَالْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ بَلْ النَّفْسِ وَنِظَامِ الْمُسْلِمِينَ

(أَوْ لِنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ دَوَاعِي التَّرْكِ مِنْ وُجُودِ النَّافِي وَانْتِفَاءِ الْمُوجِبِ (وَلَوْ تَتَبَّعْت كُلَّ مَا قِيلَ فِيهِ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ) اعْتِقَادًا أَوْ عَمَلًا قَوْلًا أَوْ خُلُقًا (مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ) إذْ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَادَةِ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَمَا مَرَّ (وَجَدْته مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ) جَانِبِ (الشَّارِعِ) إلَهًا أَوْ رَسُولًا بَلْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا (إشَارَةً) أَيْ طَرِيقَ إشَارَةِ النَّصِّ (أَوْ دَلَالَةً) بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ، وَإِشَارَةُ النَّصِّ مَعْنًى ثَبَتَ بِالنَّظْمِ لَكِنَّ مَنْ غَيَّرَ سُوقَ النَّظْمِ لَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مُلْكِهِمْ إلَى الْكُفَّارِ وَلَمْ يُسَقْ لِهَذَا بَلْ سَوْقُهُ لِإِيجَابِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَعْمَلْ بِهَذِهِ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ مَا ثَبَتَ مِنْ النَّظْمِ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فِي حَقِّ حُرْمَةِ الضَّرْبِ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْأَذَى، فَإِنْ قِيلَ: فَلَمْ يَذْكُرْ الْعِبَارَةَ وَالِاقْتِضَاءَ مَعَ أَنَّهُمَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَدِلَّةِ قُلْنَا: الْعِبَارَةُ لِكَوْنِهَا مَعْنًى مَقْصُودًا مِنْ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ لَا يُتَوَهَّمُ بِدْعِيَّتُهُ لِوُضُوحِهِ وَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِاحْتِيَاجِ الْكَلَامِ إلَيْهِ مِنْ اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ فَلَعَلَّ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ التَّرَاخِي لَكِنْ فِيهِ تَأَمَّلْ قِيلَ: وَمِنْ قَبِيلِ مَا أُذِنَ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ مَا اُسْتُحْدِثَ مِنْ الْمَقَامَاتِ الْأَرْبَعَةِ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَحْدُثْ مِنْهَا ضَرَرٌ فَبِدْعَةٌ حَسَنَةٌ مُسَمَّاةٌ بِالسُّنَّةِ بِإِشَارَةِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً أَيْ أَبْدَعَ وَأَحْدَثَ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» فَيَدْخُلُ فِي السُّنَّةِ كُلُّ بِدْعَةٍ حَسَنَةٍ. وَعَنْ النَّوَوِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَنِّ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ وَتَحْرِيمِ الْأُمُورِ السَّيِّئَةِ وَأَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَذَا وِزْرُ السَّيِّئَةِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ أَدْبَارَ الْمَكْتُوبَاتِ فَكَثِيرٌ فِيهَا أَقَاوِيلُ الْفُقَهَاءِ فَعَنْ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ لِلْعَادَةِ وَلَا يَجُوزُ الْمَنْعُ. وَعَنْ فَتَاوَى بُرْهَانِ الدِّينِ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ لِكِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ جَهْرًا وَمُخَافَتَةً. وَعَنْ فَتَاوَى السَّعْدِيِّ لَا يُكْرَهُ. وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَالْقُنْيَةِ وَالْأَشْبَاهِ الِاشْتِغَالُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَمِنْ الْأَوْقَاتِ الْمَأْثُورَةِ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ إذْ وَرَدَ أَدْعِيَةٌ كَثِيرَةٌ أَعْقَابَ الصَّلَوَاتِ عَنْ سَيِّدِ السَّادَاتِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَأَكْمَلُ التَّحِيَّاتِ. وَفِي التتارخانية أَيْضًا وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ لِأَجْلِ الْمُهِمَّاتِ مُخَافَتَةً وَجَهْرًا مَعَ الْجَمْعِ مَكْرُوهَةٌ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي بَدِيعِ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا انْتَهَى. وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ أَوْلَى مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَفِي هَامِشِ الْوَسِيلَةِ وَفِي كِتَابِ الثَّوَابِ لِأَبِي الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَطَاءٍ. قَالَ: إذَا أَرَدْت حَاجَةً فَاقْرَأْ الْفَاتِحَةَ حَتَّى تَخْتِمَهَا تُقْضَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى وَهَذَا أَصْلٌ لِمَا تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَحُصُولِ الْمُهِمَّاتِ كَمَا فِي مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِي انْتَهَى. وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْجَوَازِ لِكَثْرَةِ قَائِلِهِ، وَإِنَّ الْبِدْعَةَ الْمَمْنُوعَةَ مَا لَا يَكُونُ لَهَا إذْنُ إشَارَةٍ وَدَلَالَةٍ وَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ سُورَةُ تَعْلِيمِ طَرِيقِ الدُّعَاءِ وَسُورَةُ الْمَسْأَلَةِ وَسُورَةٌ نَزَلَتْ لِبَيَانِ طَرِيقِ الْأَفْضَلِ مِنْ الدُّعَاءِ فَأَفْضَلُ الْأَدْعِيَةِ إنَّمَا يَلِيقُ وَيَجْرِي فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ فَلَا كَلَامَ فِي أَصْلِ قِرَاءَتِهَا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي جَهْرِهَا سِيَّمَا مَعَ الْجَمْعِ وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ وَأَمَّا الْجَمْعُ مَعَ الْمُخَافَتَةِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ قَوْلُ الْإِمَامِ بَعْدَ سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ الْفَاتِحَةُ يَعْنِي يَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ: اقْرَءُوا الْفَاتِحَةَ فَيَقْرَءُونَ مَعَ الْجَمَاعَةِ سَوَاءٌ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ أَوْ فِي أَعْقَابِ مُطْلَقِ الدَّعَوَاتِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ فَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَوْلَوِيَّةُ التَّرْكِ؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْإِمَامِ الدُّعَاءُ وَوَظِيفَةَ الْمُؤْتَمِّ وَالْجَمَاعَةِ التَّأْمِينُ لَكِنْ فِي رِسَالَةِ الْمَوْلَى عَالِمٍ مُحَمَّدٍ نَدْبِيَّةُ ذَلِكَ نَقْلًا عَنْ نَصِّ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهِ لَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ إنْ صَحَّ أَنَّ الْفَضْلَ وَرَدَ فِي حَقِّ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَاللَّائِقُ أَنْ يَقْرَأَ كُلٌّ عَلَى انْفِرَادِهِ

لِيَنَالَ بِذَلِكَ الْفَضْلَ أَوْ أَنَّ التَّحْمِيدَ فِي آخِرِ الدُّعَاءِ مَنْدُوبٌ وَأَفْضَلُ التَّحْمِيدِ الْفَاتِحَةُ (ثُمَّ اعْلَمْ) الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إلَى رُتْبَةِ ضَرَرِ الْبِدْعَةِ حَيْثُ يَجْزِمُ عَلَى السُّنَّةِ بَلْ الْوَاجِبُ (أَنَّ فِعْلَ الْبِدْعَةِ) الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ مَا لَا يَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْبِدْعَةَ الِاعْتِقَادِيَّةَ أَضَرُّ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ قَطْعًا (أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ) إذْ الْغَالِبُ فِي الْبِدَعِ بِاعْتِقَادِ الطَّاعَةِ وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَقِيلَ الْبِدْعَةُ سَارِيَةٌ وَالتَّرْكُ لَا فَفِيهِ خَفَاءٌ هَذَا إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ تَرْكَ السُّنَّةِ طَاعَةً وَإِلَّا فَبِدْعَةٌ أَيْضًا مِثْلُهَا بَلْ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا (بِدَلِيلِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا إذَا تُرُدِّدَ) الظَّاهِرُ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِي شَيْءٍ) وَلَوْ اعْتِقَادِيًّا (بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً وَبِدْعَةً فَتَرْكُهُ لَازِمٌ) عَنْ مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ مَا تُرُدِّدَ فِيهِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْبِدْعَةِ يَأْتِي بِهِ احْتِيَاطًا وَمَا تُرُدِّدَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةِ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ لَازِمٌ وَأَدَاءُ السُّنَّةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ. قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ يَرْجِعُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ غَالِبًا ؛ لِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّرْعِ بِالْمُنْهَيَاتِ أَشَدُّ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ وَرُوِيَ «لَتَرْكُ ذَرَّةٍ مِمَّا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» وَمِنْ ثَمَّةَ جَوَّزَ تَرْكَ الْوَاجِبِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ دُونَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ خُصُوصًا فِي الْكَبَائِرِ. . (وَأَمَّا تَرْكُ الْوَاجِبِ هَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ فَفِيهِ اشْتِبَاهٌ) لِفَوَاتِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ دُونَ الْبِدْعَةِ وَلِاعْتِقَادِ أَنَّهَا طَاعَةٌ بِخِلَافِ تَرْكِ الْوَاجِبِ (حَيْثُ صَرَّحُوا فِيمَنْ تَرَدَّدَ فِي شَيْءٍ بَيْنَ كَوْنِهِ بِدْعَةً وَوَاجِبًا) بِأَنْ تَعَارَضَ بِلَا مُرَجِّحٍ (أَنَّهُ يَفْعَلُهُ) فَيُرَجِّحُ جَانِبَ الْوُجُوبِ فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالْفَرْضِ فَالْفِعْلُ لَازِمٌ كَمَا إذَا شَكَّ فِي حَقِّ الْفَجْرِ فِي الْوَقْتِ أَنَّهُ صَلَّاهَا أَمْ لَا. (وَفِي الْخُلَاصَةِ مَسْأَلَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ) هُوَ كَوْنُ تَرْكِ الْبِدْعَةِ مُقَدَّمًا عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ (حَيْثُ قَالَ إذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ هَلْ صَلَّاهَا أَمْ لَا إنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا) لِيَخْرُجَ مِنْ عُهْدَتِهَا بِيَقِينٍ كَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ (وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ ثُمَّ شَكَّ لَا شَيْءَ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الشَّكِّ يَعْنِي لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَلَّى فِي الْوَقْتِ كَانَ قَضَاءُ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِدْعَةً، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ فَتَرْجِيحُ جَانِبِ عَدَمِ الْقَضَاءِ تَرْجِيحُ احْتِمَالِ الْبِدْعَةِ عَلَى الْوَاجِبِ فَفِي الْوَقْتِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوُجُوبِ عَلَى الْبِدْعَةِ إذْ إعَادَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا فِي الْوَقْتِ بِدْعَةٌ وَالصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ يُصَلِّهَا فَإِتْيَانُهَا فِي الْوَقْتِ وَاجِبٌ فَمَسْأَلَةُ الْخُلَاصَةِ تَصْلُحُ مِثَالًا لَهُمَا لَعَلَّ لُزُومَ الْإِعَادَةِ

فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ الْغَالِبَ شَغْلُ الذِّمَّةِ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا فَلَعَلَّهُ أَخَّرَهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَأَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَعَدَمُ لُزُومِ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْوَقْتِ وَلَا يَتْرُكَهَا وَكَانَ الْأَصْلُ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ فَلَعَلَّهُ قَدْ جَعَلَ ذِمَّتَهُ بَرِيئَةً عَنْ الشُّغْلِ ثُمَّ يُرَدُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْبِدْعَةِ بَلْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْبِدْعَةِ إذْ قَضَاءُ صَلَاةٍ لَمْ تُصَلَّ فَرْضٌ قَطْعِيٌّ لَا وَاجِبٌ ظَنِّيٌّ وَالْأَصْلُ فِيهِ رِعَايَةُ جَانِبِ الْفَرْضِ أَلْبَتَّةَ فَتَأَمَّلْ حَتَّى يَظْهَرَ الْوَجْهُ. (وَلَوْ كَانَ الشَّكُّ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ) وَالنَّفَلُ بَعْدَهَا مَكْرُوهٌ فَلَوْ أَعَادَهَا فِي الْوَقْتِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَفْلًا مَكْرُوهًا فَيُؤْتَى فِي الْوَقْتِ بِصَلَاةٍ لَا تَصِحُّ نَفْلًا وَتَصِحُّ فَرْضًا وَلَوْ مَعَ كَرَاهَتِهِ (يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى) لَعَلَّ تَعْيِينَ الْأُولَى اتِّفَاقِيٌّ إذْ لَوْ كَانَ التَّعْيِينُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى فَكَذَلِكَ (وَالثَّالِثَةِ وَلَا يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ) أَصْلًا وَأَلَّا تَصِحَّ نَفْلًا وَالْمَقْصُودُ عَدَمُ صِحَّتِهَا نَفْلًا وَالْقِرَاءَةُ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ فَرْضٌ (وَالرَّابِعَةِ) لِئَلَّا يَصِحَّ نَفْلًا فَيَقَعُ فِي كَرَاهَةٍ (انْتَهَى) . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي ثِنْتَيْ مُطْلَقِ رَبَاعِيَةِ الْفَرْضِ فَرْضٌ بِلَا تَعْيِينِ رَكْعَةٍ وَرَكْعَةٍ وَالْقِرَاءَةُ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ فَرْضٌ فَالصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ تَصِحُّ فَرْضًا لَا نَفْلًا، فَإِنْ قِيلَ إنْ وَقَعَ أَنَّهُ صَلَّى فَرْضَ الْوَقْتِ أَوَّلًا فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ تَكُونُ نَفْلًا، وَقَدْ أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ فَيَلْزَمُ قَضَاؤُهُ قُلْنَا إنَّمَا يَلْزَمُ قَضَاءُ النَّفْلِ إذَا شَرَعَ قَصْدًا وَهُنَا كَانَ شُرُوعُهُ ظَنًّا فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ (وَتَعْيِينُ الْأَوَّلِيَّيْنِ لِلْقِرَاءَةِ فِي الْفَرْضِ وَاجِبٌ) لَا بِمَعْنَى الْفَرْضِ فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إنْ سَهْوًا وَيُوجِبُ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ إنْ قَصْدًا (وَقَدْ أُمِرَ بِتَرْكِهِ) أَيْ بِتَرْكِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ (حَذَرًا عَنْ احْتِمَالِ وُقُوعِ النَّفْلِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ) مُحَرَّرَةٌ فِي الْفِقْهِيَّةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» وَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ صَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ قِيلَ إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ لِاشْتِغَالِهِ عَنْهَا بِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْبِدْعَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ حَيْثُ تَرَكَ الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ تَعْيِينُ أُولَى الْفَرْضِ لِلْقِرَاءَةِ لِئَلَّا تَقَعَ الْبِدْعَةُ الَّتِي هِيَ النَّفَلُ بَعْدَ الْعَصْرِ يَشْكُلُ أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ هُنَا لَيْسَ لِلْبِدْعَةِ فَقَطْ بَلْ لِأَجْلِ مَجْمُوعِ الْبِدْعَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْمَقْصُودُ مَا يَكُونُ لِلْبِدْعَةِ فَقَطْ كَمَا يُشْعِرُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَحَمْلُ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْبَيَانِ لِلْبِدْعَةِ أَوْ عِلَّةٍ لَهَا بَعِيدًا لَا أَنْ يَحْمِلَ بَيَانًا لِنَوْعِ الْبِدْعَةِ وَأَنَّ الْبِدْعَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا فِي النَّفْلِ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَكَذَا الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْفَرْضِ فَمَا وَجْهُ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا هِيَ لِلْوَصْفِ وَالتَّضَمُّنِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهَا وَجَمِيعِهَا (فَالتَّطْبِيقُ) بَيْنَ مَا صَرَّحُوا مِنْ تَرْجِيحِ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ مَا فُهِمَ مِنْ الْخُلَاصَةِ مِنْ تَرْجِيحِ تَرْكِ الْبِدْعَةِ فَالْقَوْلُ أَيْ التَّطْبِيقُ الْمَطْلُوبُ مِنْ السَّائِلِ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ التَّطْبِيقُ قَالَ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ خَطَأٌ ظَاهِرٌ (إمَّا بِحَمْلِ الْبِدْعَةِ) الَّتِي رَجَحَ عَلَيْهَا الْوَاجِبُ (عَلَى مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ) بَلْ بِعُمُومِهِ بِأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ فَتَقْدِيمُ الْبِدْعَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْخُلَاصَةِ لِوُرُودِ النَّهْي عَنْهُ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ وَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ الْمَذْكُورُ آنِفًا لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُنَاسِبُ الشَّافِعِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِإِفَادَةِ الْعَامِّ الظَّنَّ لَا الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلِينَ بِإِفَادَةِ الْعَامِّ الْقَطْعَ كَالْخَاصِّ يَعْنِي لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فِي إفَادَةِ الْعُمُومِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا كَانَ عُمُومُهُ مُجْمَعًا وَمُخْتَلَفًا (أَوْ) بِحَمْلِ (الْوَاجِبِ) الَّذِي رَجَحَ عَلَى الْبِدْعَةِ (عَلَى مَعْنَى الْفَرْضِ) الْقَطْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمُتَبَادَرِ لِكَوْنِهِ مَجَازِيًّا. قِيلَ وَلِهَذَا قَالُوا: لَمْ يُكْرَهْ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ؛ لِأَنَّهَا فَرَائِضُ لَا يَخْفَى مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَمْلَيْنِ مِنْ التَّدَافُعِ إذْ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا تَقَدُّمُ الْبِدْعَةِ سَوَاءٌ نُهِيَ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ أَوْ لَا عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْفَرْضِ، وَقَدْ فُهِمَ مِنْ الْأَوَّلِ

تَقَدُّمُ الْوَاجِبِ عَلَى الْبِدْعَةِ الَّتِي لَمْ يَنْهَ عَنْهَا بِخُصُوصِهَا (أَوْ) بِحَمْلِ (الْوَاجِبِ) الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْفَرْضِ (عَلَى) الْوَاجِبِ (الْمُسْتَقِلِّ) مَعْمُولُ الْحَمْلِ كَالْوَتْرِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ (لَا الضِّمْنِيِّ) ؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِقْلَالِهِ أَقْوَى مِنْ الضِّمْنِيِّ كَتَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي الْفَرْضِ وَلِهَذَا يَنْجَبِرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فِيهِ دُونَ الِاسْتِقْلَالِيِّ (أَوْ بِالْحَمْلِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ) عَنْ الْمُجْتَهِدِ إمَّا عَنْ وَاحِدٍ أَوْ إحْدَاهُمَا عَنْ مُجْتَهِدٍ وَأُخْرَاهُمَا عَنْ آخَرَ (وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) قِيلَ يُؤْتَى بِهَذَا فِي آخِرِ كَلَامٍ يُرَى فِيهِ أَثَرُ الضَّعْفِ لَعَلَّ مِنْ وَجْهِ الضَّعْفِ مَا ذُكِرَ وَأُشِيرَ إلَيْهِ آنِفًا مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فِي الْقَطْعِ وَفِي كَوْنِ حَمْلِ الْوَاجِبِ عَلَى الْفَرْضِ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ بِلَا قَرِينَةٍ وَأَيْضًا الْأَصْلُ فِي الْمُطْلَقُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَحَمْلُ الْوَاجِبِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ مُطْلَقٌ وَالْحَمْلُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يُلَائِمُهُ تَعْبِيرٌ صَرَّحُوا حَيْثُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ الِاتِّفَاقُ. وَأَنَا أَقُولُ دَلَالَةُ مَسْأَلَةِ الْخُلَاصَةِ عَلَى خِلَافِهِ خَفِيَّةٌ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ أَيْضًا (فَإِنْ قِيلَ مَا قَدْ سَبَقَ) مِنْ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ حَاصِلُهُ التَّقْسِيمُ الْمَفْهُومُ مِمَّا سَبَقَ لَيْسَ بِحَاصِرٍ إذْ الْمُقَسَّمُ يَعْنِي أَمْرَ الدِّينِ شَامِلٌ لِلْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَلَمْ يَذْكُرَا فِي الْأَقْسَامِ بَلْ يَلْزَمُ كَوْنُهُمَا بِدْعَةً، وَالْفُقَهَاءُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ أَرْبَعَةٌ، وَإِنْ شِئْت قُلْت فِي الْحَاصِلِ أَمَّا هَذَا التَّقْسِيمُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَوْ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ لَكِنَّ التَّالِيَ بَاطِلٌ إذْ لَا يُمْكِنُ بُطْلَانُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فَالْمُقَدَّمُ أَيْ عَدَمُ صِحَّةِ التَّقْسِيمِ حَقٌّ فَفِي الْحَقِيقِيَّةِ نَقْضٌ أَوْ مُعَارَضَةٌ لِلْقِسْمَةِ الْمَذْكُورَةِ (دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَافِيَانِ فِي أَمْرِ الدِّينِ) لَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّا سَبَقَ لُزُومُهُمَا لَا كِفَايَتُهُمَا، فَإِنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِي غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الانفهام بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَذَا مُجْمَعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الرِّوَايَاتِ وَلِذَا قَالَ فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ لِلْعَلَّامَةِ الطَّرْطُوسِيِّ. وَمَفْهُومُ التَّصْنِيفِ حُجَّةٌ وَكَذَا فِي الْأُصُولِيَّةِ وَيَدَّعِي أَيْضًا وُجُودَ الدَّلَالَةِ فِي الْمَفْهُومِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ يُقَالُ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ إفْرَادِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كِفَايَتُهُمَا (وَ) دَلَّ مَا سَبَقَ أَيْضًا عَلَى (أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِأَحَدِهِمَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ) وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ لَيْسَا مِمَّا تَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا (فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ) وَكَذَا أَهْلُ الْأُصُولِ (الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَرْبَعَةٌ) أَقُولُ بَعْدَ مُلَاحَظَةِ الْبِدْعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا سَبَقَ لَا يُتَوَجَّهُ هَذَا السُّؤَالُ إلَّا إذَا أُخِذَ فِيهَا إذْنُ الشَّارِعِ مُطْلَقًا وَلَوْ إشَارَةً، وَالْإِذْنُ فِي الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ بَلْ حَاصِلُ الْجَوَابِ رَاجِعٌ إلَى هَذَا فَلَعَلَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ فِي وَضْعِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ هُوَ التَّمْهِيدُ عَلَى رَدِّ الْمُتَصَوِّفَةِ وَيَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ. (قُلْنَا لَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ سَنَدٍ مِنْ أَحَدِهِمَا حَالًّا أَوْ مَآلًا عَلَى الصَّحِيحِ) هَذَا قَيْدٌ لِقَوْلِهِ مَآلًا وَإِشَارَةٌ إلَى الِاخْتِلَافِ وَإِلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي جَوَازِ أَنْ يَكُونَ سَنَدُ الْإِجْمَاعِ قِيَاسًا وَظَاهِرٌ أَنَّ الْقِيَاسَ رَاجِعٌ إلَى الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَ) لَا بُدَّ (لِلْقِيَاسِ مِنْ أَصْلٍ ثَابِتٍ بِأَحَدِهِمَا) أَيْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَإِنَّهُ مُظْهِرٌ) لِلْحُكْمِ (لَا مُثْبِتٌ) فَلَا بُدَّ مِنْ مُثْبِتٍ وَهُوَ أَصْلُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

(فَمَرْجِعُ الْأَحْكَامِ وَمُثْبِتُهَا اثْنَانِ فِي الْحَقِيقَةِ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِنَاءُ الْإِجْمَاعِ عَلَى السَّنَدِ وَالسَّنَدُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَزِمَ رُجُوعُهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَيْضًا إذَا كَانَ أَصْلُ الْقِيَاسِ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَيَرْجِعُ إلَيْهِمَا وَأَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ بَلْ مُظْهِرٌ فَالْمُثْبِتُ الْحَقِيقِيُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَالْقِيَاسُ مُظْهِرٌ شَارِحٌ وَمُفَسِّرٌ مُبَيِّنٌ وَجْهَ الثُّبُوتِ فَقَوْلُهُ فِي الْحَقِيقَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ كَوْنَهَا دَلِيلَيْنِ صُورِيٌّ مَحْضٌ إذْ الدَّلِيلُ الْحَقِيقِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إمَّا الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ لَكِنْ يُرَدُّ أَنَّ حَاصِلَهُ فِي الْإِجْمَاعِ رُجُوعُهُ إلَى سَنَدِهِ. وَالْأَصْلُ فِي سَنَدِ الْإِجْمَاعِ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا وَالْأَصْلُ فِي الْإِجْمَاعِ الْقَطْعُ فَكَيْفَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لَمْ يُنْسَبْ الْحُكْمُ إلَى السَّنَدِ أَيْ الْكِتَابِ مَثَلًا كَسَائِرِ مَا نُسِبَ إلَى الْكِتَابِ، فَإِنْ قِيلَ: السَّنَدُ ظَنِّيٌّ وَالْقَطْعُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَنَقُولُ كَيْفَ يَصِحُّ الرُّجُوعُ وَالْحَالُ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْحُكْمِ هُوَ قَطْعِيَّتُهُ لَا ظَنِّيَّتُهُ، وَقَدْ يَكُونُ السَّنَدُ قَطْعِيًّا أَيْضًا وَلَوْ قُلْتُمْ الْإِجْمَاعُ مُبَيِّنٌ لِوَجْهِ دَلَالَةِ السَّنَدِ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ قُلْنَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَبَيْنَهُ بَلْ الظَّاهِرُ حِينَئِذٍ كَوْنُهُمَا مُظْهِرَيْنِ أَوْ مُثْبِتَيْنِ وَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ لَعَلَّ حَلَّ هَذَا الْبَحْثِ يُعْلَمُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا أَدِلَّةً أُخَرَ رَاجِعَةٌ أَيْضًا إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَشَرَائِع مَنْ قَبْلَنَا وَمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ وَالْعُرْفِ وَالتَّعَامُلِ وَالِاسْتِصْحَابِ وَالتَّحَرِّي وَالْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ وَالْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْقُرْعَةِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْأُصُولِيَّةِ كَالْمِرْآةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ رَاجِعَةٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْأَرْبَعَةُ رَاجِعَةٌ إلَى اثْنَيْنِ بَلْ ثَانِي الِاثْنَيْنِ يَعْنِي السُّنَّةَ رَاجِعٌ إلَى أَوَّلِهِمَا أَيْ الْكِتَابِ إذْ السُّنَّةُ أَيْضًا شَرْحٌ وَبَيَانٌ لِلْكِتَابِ فَحِينَئِذٍ يَشْكُلُ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الدَّلِيلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَاللَّازِمُ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْكِتَابِ، وَإِنْ أُرِيدَ الدَّلِيلُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فَاللَّازِمُ اعْتِبَارُ الْجَمِيعِ وَهُمْ اعْتَبَرُوا الْأَرْبَعَةَ (فَظَهَرَ مِنْ هَذَا) أَيْ مِنْ أَدِلَّةِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ هُوَ الْأَرْبَعَةُ الرَّاجِعَةُ إلَى اثْنَيْنِ (أَنَّ مَا يَدَّعِيه بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ) وَهُمْ الْمُتَشَقْشِقَةُ مِنْهُمْ يَعْنِي يُظْهِرُونَ الصَّفْوَةَ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا لِعَدَمِ إتْيَانِهِمْ عَلَى قَوَاعِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فِي زَمَانِنَا) وَهُوَ عَصْرُ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ سَنَةُ تِسْعِمِائَةٍ (إذَا أُنْكِرَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (عَلَيْهِمْ بَعْضُ أُمُورِهِمْ) الْأُولَى فِي مَقَامِ الْمُبَالَغَةِ تَرَكَ لَفْظَ الْبَعْضِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَهُ (الْمُخَالِفُ) صِفَةً لِلْبَعْضِ (لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ) إجْمَاعًا أَوْ مُجْتَهَدًا فِيهِ يَعْنِي خِلَافِيًّا فَلَوْ وَافَقَ بِاجْتِهَادِ مُجْتَهِدٍ مَا، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَنْ عَدَاهُ لَا يَكُونُ مُنْكِرًا فَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِمُجْتَهِدٍ أَنْ يَرُدَّ مُجْتَهِدًا آخَرَ فِي مَحَلِّ خِلَافِهِمَا فَكَذَا مُقَلِّدُوهُمَا فَلَا يَعْتَرِضُ حَنَفِيٌّ عَلَى شَافِعِيٍّ بِأَكْلِ الضَّبِّ وَمَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَلَا شَافِعِيٌّ عَلَى حَنَفِيٍّ بِشُرْبِ نَبِيذٍ غَيْرِ مُسْكِرٍ لَكِنَّ هَذَا إنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّأْوِيلِ أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّهُ قَدْ فَصَّلَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ مَنْ قَلَّدَ الْمُجْتَهِدَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ جَوَّزَ هَلْ يَلْزَمُ الِانْتِقَالُ فِي الْكُلِّ أَوْ يَجُوزُ فِي الْبَعْضِ مَعَ عَدَمِ الِانْتِقَالِ فِي الْبَاقِي (أَنَّ حُرْمَةَ ذَلِكَ) مَفْعُولُ يَدَّعِي أَيْ حُرْمَةَ مَا أَنْكَرَ إنَّمَا هُوَ (فِي الْعِلْمِ الظَّاهِرِ) فَحُرْمَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الظَّاهِرِ أَيْ أَرْبَابِ الشَّرِيعَةِ (وَأَنَّا) مَعْشَرُ الصُّوفِيَّةِ (أَصْحَابُ الْعِلْمِ الْبَاطِنِ) الْمُسَمَّى بِالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ وَهُوَ عِلْمُ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَةُ أَحْوَالِهِ (وَإِنَّهُ) أَيْ مَا أُنْكِرَ (حَلَالٌ فِيهِ) فِي الْبَاطِنِ فَيَعْتَقِدُونَ الْحِلَّ الْقَطْعِيَّ فِيمَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ قَطْعًا فَكُفْرٌ صَرِيحٌ فَاعِلُهُ وَرَاضِيه وَلَوْ كَانَ مَا حَرَّمَ الشَّرْعُ غَيْرَ قَطْعِيٍّ بَلْ ظَنِّيٌّ فَلَا يُكَفَّرُ بَلْ يُفَسَّقُ أَوْ يُضَلَّلُ أَوْ يُجَهَّلُ (وَإِنَّكُمْ) وَفِي بَعْض النُّسَخِ وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ الظَّاهِرِ وَأَرْبَابَ الشَّرِيعَةِ (تَأْخُذُونَ) عَمَلكُمْ بَلْ اعْتِقَادُكُمْ (مِنْ الْكِتَابِ) الْقُرْآنِ (وَأَنَّا نَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِهِ) أَيْ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ ظُهُورُهُ فِي يَدِ (مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مَنَامًا أَوْ يَقَظَةً أَوْ حَالًا فَعِنْدَهُمْ الرُّؤْيَا وَالْإِلْهَامُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى قَطْعِيَّاتِ الْكِتَابِ وَسَيُصَرِّحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ مُطْلَقًا فَضْلًا عَنْ الْقَطْعِيِّ (فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا مَسْأَلَةٌ

اسْتَفْتَيْنَاهَا مِنْهُ) أَيْ طَلَبْنَا فَتْوَاهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَإِنْ حَصَلَ) مِنْ فَتْوَاهُ (قَنَاعَةٌ فِيهَا) نَعْمَلْ (وَإِلَّا رَجَعْنَا) فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ (إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالذَّاتِ) إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّا نَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْنَا مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فَيُمْكِنُ لَنَا الرُّجُوعُ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى فِي أَيِّ وَقْتٍ (فَنَأْخُذُ مِنْهُ) عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا كُفْرٌ أَيْضًا اعْلَمْ إنَّمَا ادَّعَوْا مِنْ أَخْذِ الْفَتْوَى مِنْ النَّبِيِّ أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا بِمُقْتَضَى عَالَمِ الْمِثَالِ الَّذِي أَثْبَتُوهُ أَوْ بِمُقْتَضَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ الْحِسِّيِّ الْخَارِجِيِّ، فَالْأَوَّلُ إنَّمَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ وَرَحْمَانِيَّتُهُ بِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ كُلُّ وَقَائِعَ وَوَارِدَاتٍ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ فَوَسَاوِسُ شَيْطَانِيَّةٌ كَمَا هُوَ عِنْدَ مُحَقِّقِي الصُّوفِيَّةِ فَتَرْكُ قَطْعِيَّاتِ الشَّرْعِ بِتَرْجِيحِ الْوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِيَّةِ كُفْرٌ عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: أَعْنِي رُؤْيَةَ شَخْصِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً بِعَيْنِ الرَّأْسِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَرُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِ الرَّأْسِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْأَوَّلُ عَقْلِيٌّ إذْ الْمَوْتَى مَا دَامُوا كَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَأَمَّا الثَّانِي فَمُمْتَنِعٌ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ وَجَائِزٌ عِنْدَ بَعْضِ غَيْرِهِمْ وَعِنْدَ الْمُجَوِّزِ هَلْ كَانَ وُقُوعُهُ أَوَّلًا قِيلَ نَعَمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مَرَّةً وَقِيلَ لَا فَدَعْوَى وُقُوعِ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ تَعَالَى سِيَّمَا كُلَّمَا أَرَادُوا رُؤْيَتَهُ عَزَّ وَجَلَّ خَرْقُ إجْمَاعٍ وَتَفْضِيلٍ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ فَكُفْرٌ وَلَوْ فُرِضَ جَوَازُهُ عَلَى سَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ فَمَا نَقَلُوا عَنْهُ تَعَالَى أَوْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خِلَافَ شَرِيعَتِهِ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ ذَلِكَ إمَّا بِالنَّسْخِ أَوْ بِنِسْيَانِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلُ مُخَالِفٌ لِخَبَرِ الْكِتَابِ الْقَطْعِيِّ بِتَأْيِيدِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ إلَى الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي إثْبَاتُ جَهْلٍ لَهُ تَعَالَى وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ أَيْضًا ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ الْفَاضِلُ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ» . وَقَالَ جَمْعٌ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ بَلْ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا حَقِيقَةً، وَقَدْ نَصَّ عَلَى إمْكَانِ رُؤْيَتِهِ بَلْ وُقُوعُهَا أَعْلَامٌ مِنْهُمْ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ يَلْزَمُ كَوْنُ الرَّائِي صَحَابِيًّا رُدَّ بِأَنَّ الصَّحَابِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ بِالرُّؤْيَةِ الْمُتَعَارَفَةِ، وَكَذَا عَنْ رِسَالَةِ السُّيُوطِيّ. وَعَنْ شَرْحِ الشَّمَائِلِ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا دَاعِيَ إلَى التَّخْصِيصِ بِرُؤْيَةِ الْمِثَالِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيٌّ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ وَيَسِيرُ حَيْثُ شَاءَ فِي الْأَرْضِ وَالْمَلَكُوتِ وَكَوْنِهِ غَيْبًا عَنْ الْأَبْصَارِ كَغَيْبِ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي الْمُنَاوِيِّ أَيْضًا قَالَ الْحُجَّةُ وَلَيْسَ رَائِيهِ يَرَى بَدَنَهُ بَلْ مِثَالًا صَارَ آلَةً لِتَأْدِي الْمَعْنَى وَالْآلَةُ تَكُونُ حَقِيقَةً وَخَيَالِيَّةً وَالنَّفْسُ غَيْرُ الْمِثَالِ الْمُتَخَيَّلِ فَمَا رَآهُ مِنْ الشَّكْلِ لَيْسَ رُوحَ النَّبِيِّ وَلَا شَخْصَهُ بَلْ مِثَالُهُ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّاذِلِيُّ لَوْ حُجِبَ عَنِّي طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا عَدَدْت نَفْسِي وَكَانَ بَعْضُهُمْ إذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ حَتَّى أَعْرِضَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَطْرُقُ ثُمَّ يَقُولُ قَالَ كَذَا فَيَكُونُ كَمَا أَخْبَرَ لَا يَتَخَلَّفُ (وَإِنَّا بِالْخَلْوَةِ) بِالْوَحْشَةِ عَنْ الْخَلْقِ (وَهِمَّةِ شَيْخِنَا) الَّذِي يُرَبِّينَا وَيُرْشِدُنَا وَيَتَصَرَّفُ فِينَا (نَصِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى) بِالْمَعْرِفَةِ الْكَامِلَةِ أَوْ بِالرُّؤْيَةِ الْعَيَانِيَّةِ (فَتَنْكَشِفُ لَنَا الْعُلُومُ) إلْهَامًا ضَرُورِيًّا أَوْ بِأَخْذِنَا مِنْهُ (فَلَا نَحْتَاجُ إلَى الْكِتَابِ) الْقُرْآنِ أَوْ مُطْلَقِ كُتُبِ الْعِلْمِ (وَالْمُطَالَعَةِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَى الْأُسْتَاذِ) قِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ فِي الْعِلْمِ وَبِالْمُعْجَمَةِ فِي الصِّنَاعَاتِ وَيُخَالِفُهُ مَا نُقِلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ خَطِّ ابْنِ الْكَمَالِ أَنَّ أُسْتَاذَ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ أَعْجَمِيٌّ وَأَصْلُهُ است وآذواست بِالْفَارِسِيَّةِ هُوَ الْكِتَابُ وَآذَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بِالْفَارِسِيِّ بِمَعْنَى الصَّاحِبِ كَأَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَرَادُوا بِانْكِشَافِ الْعُلُومِ انْكِشَافَهَا عَلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالشَّرْعَ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى مُرَاجَعَتِهَا فَلَمْ تُجْرِهِ عَادَتُهُ تَعَالَى، وَإِنْ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِحِكْمَةِ إنْزَالِ الْكِتَابِ وَإِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَبِيُّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِطَلَبِ الْعِلْمِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ تَحْصِيلِ عِلْمِ الْحَالِ فَكُفْرٌ وَضَلَالَةٌ نَعَمْ قَدْ يُمْكِنُ ذَلِكَ لَكِنْ

يَلْزَمُ تَطْبِيقُهُ بِالشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَادُوا عَلَى وَجْهٍ يُخَالِفُ الشَّرْعَ أَوْ أَعَمَّ وَاعْتَقَدُوا حَقِّيَّتَهُ أَوْ رُجْحَانَهُ عَلَى الْكِتَابِ فَكُفْرٌ مَحْضٌ وَاعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ إنْكَارَ طَرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ كَيْفَ وَهُوَ سَبِيلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ فَكَمَالُ الْإِنْسَانِ إنَّمَا يَكُونُ بِجَمْعِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لَكِنَّ الْبَاطِنَ كَالْمَقْصُودِ لِذَاتِهِ وَالظَّاهِرَ كَشَرْطٍ فَهُمَا كَالْجَنَاحَيْنِ لِلطَّائِرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ اسْتَأْذَنْت مِنْهُ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ عَلَى الْقَصْرِ عَلَى الْبَاطِنِ لَا فَإِنَّهُمَا جَنَاحَانِ يُطَارُ بِهِمَا إلَى أَعَالِي مَقَاصِدِ النَّجَاحِ وَالْخَلْوَةُ وَهِمَّةُ الشَّيْخِ الْكَامِلِ الْجَامِعِ رِيَاسَتَيْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَهُمَا تَأْثِيرَاتٌ فِي الْوُصُولِ وَالِانْكِشَافِ لَكِنْ لَيْسَا عَلَى نَهْجِ مَا ادَّعَوْا بَلْ عَلَى نَهْجِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا إذْ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَسَاوِسُ وَغَوَائِلُ لَا عُلُومٌ وَمَعَارِفُ (وَأَنَّ الْوُصُولَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ إلَّا بِرَفْضِ) تَرْكِ (الْعِلْمِ الظَّاهِرِ) الْمَعْلُومِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (وَ) رَفْضِ (الشَّرْعِ) كَعَطْفِ تَفْسِيرٍ، فَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّا نَتْرُكُ الشَّرْعَ لِحُصُولِ الْوُصُولِ إلَى حَقَائِقِ الشَّرْعِ بِدُونِ مُرَاجَعَةٍ إلَيْهِ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ يُوجِبُ نَفْيَ حِكْمَةِ الْبَعْثَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَعَبَثِيَّةَ وَضْعِ الشَّرَائِعِ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَإِنْ أَرَادُوا تَرْكَ الشَّرْعِ لِلِاشْتِغَالِ بِمُرَاقَبَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلِاسْتِيعَابِ الْأَوْقَاتِ فِي شُهُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَيْضًا كُفْرٌ إذْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ سُقُوطِ التَّكْلِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَجْلِ الْمُرَاقَبَةِ نَعَمْ الْمُرَاقَبَةُ الْمَذْكُورَةُ وَمُطَالَعَةُ جَلَالِهِ تَعَالَى وَجَمَالِهِ أَحْسَنُ الْمَحَاسِنِ لَكِنْ بَعْدَ مُحَافَظَاتِ حَقَائِقِ الشَّرْعِ وَدَقَائِقِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عُلُومَنَا وَأَعْمَالَنَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَعْدِنِ الرِّسَالَةِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ صَحَّ لَنَقَلَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ الْتَزَمُوا بَيَانَ أَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَشَاعَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُمْ أُمَنَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَيْفَ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي يَلْزَمُ إعْلَانُهَا وَنَشْرُهَا (وَإِنَّا لَوْ كُنَّا عَلَى الْبَاطِلِ) كَمَا زَعَمَ أَهْلُ الظَّاهِرِ (لَمَا حَصَلَ لَنَا) مِنْ اللَّهِ (تِلْكَ الْحَالَاتُ السَّنِيَّةُ) الرَّفِيعَةُ الْمُضِيئَةُ مِنْ حَلِّ مُشْكِلَاتِهِمْ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمُرَاجَعَةِ إلَى اللَّهِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَنَاعَةِ بِالنَّبِيِّ وَعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْعُلُومِ بِالْخَلْوَةِ وَهِمَّةِ الشَّيْخِ (وَالْكَرَامَاتِ الْعَلِيَّةِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْأَنْوَارِ) الْمَلَكُوتِيَّةِ (وَرُؤْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِبَارِ) مَنَامًا أَوْ يَقَظَةً بِقُوَّةِ الْمُجَاهَدَةِ وَخَرْقِ الْحُجُبِ الْمَادِّيَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْوُصُولِ إلَى الْقُدْسِيَّةِ الرَّحْمَانِيَّةِ. قُلْنَا كُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ شُهُودَ أَنْوَارِهِ وَرُؤْيَةَ أَنْبِيَائِهِ لِمُرْتَكِبِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَبَاطِيلِ، وَقَدْ جَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْأَحْوَالَ نَتَائِجَ صَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ عَلَى قَوَانِينِ الشَّرِيعَةِ وَثَمَرَاتِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَنْ يَصِلَ أَحَدٌ إلَى الثَّمَرَةِ بِدُونِ الشَّجَرَةِ فَالثَّمَرَةُ بِدُونِ الشَّجَرَةِ مُحَالٌ كَمَا أَنَّ الشَّجَرَةَ بِدُونِ الثَّمَرَةِ عَبَثٌ وَخِلَافٌ وَوَبَالٌ وَلِذَا اتَّفَقَ الْمَشَايِخُ عَلَى أَنَّ الْأَحْوَالَ مَوَارِيثُ الْأَعْمَالِ وَلَا يَرِثُ الْأَحْوَالَ إلَّا مَنْ صَحَّحَ الْأَعْمَالَ فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَاتِ اللَّدُنْيَّةِ إنَّمَا تَنْكَشِفُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى مُتَابَعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُسُوخِ الْأَقْدَامِ فِي دَقَائِقِ الْمُتَابَعَةِ وَحَقَائِقِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى التَّقْوَى وَالْمُجَانَبَةِ عَنْ فِتَنِ الْهَوَى فَعُلُومُهُمْ لَدُنْيَّةٌ وَأَرْوَاحُهُمْ عَرْشِيَّةٌ. وَإِنْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمْ فَرْشِيَّةً فَهُمْ كَائِنُونَ بَائِنُونَ قَرِيبُونَ غَرِيبُونَ ثُمَّ نَقُولُ: إنَّ مَنْ رَوَاهُ شَيْطَانٌ مَكْرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعَدَمِ اسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى الشَّرْعِ وَالشَّيْطَانُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقُولَ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَشَكَّلْ بِشَكْلِهِ الشَّرِيفِ وَلَوْ سَلِمَ فَالرُّؤْيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قِيلَ (وَأَنَّا إذَا صَدَرَ مِنَّا مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ نُبِّهْنَا) عَلَى الْمَفْعُولِ (فِي النَّوْمِ بِالرُّؤْيَا فَنَعْرِفُ بِهَا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ وَالْحُرْمَةَ وَالْحِلَّ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ وَالشَّرِيعَةِ. وَقَدْ حَصَرُوا الْوُصُولَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرَفْضِهِ آنِفًا فَهَذَا تَنَاقُضٌ كَقَوْلِهِمْ نَأْخُذُ الْفَتْوَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ هَذَا التَّنْبِيهِ الرُّؤْيَائِيِّ إيجَابُ

تَنَافٍ وَكَقَوْلِهِمْ: بَعْضُ أُمُورِنَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ آنِفًا بَعْضُ أُمُورِهِمْ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ مَعَ الْمُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُنْفَهِمَةِ مِنْ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِمْ وَالْوُصُولُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ هِيَ كُلُّ أُمُورِنَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَأَنَّ مَا نَبَّهَ فِي النَّوْمِ أَمْرٌ خَيَّالِيٌّ حُجِّيَّتُهُ ضَعِيفَةٌ وَارْتِكَابُ الْحُجَجِ الضَّعِيفَةِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقَطْعِيَّةِ الْقَوِيمَةِ. وَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِزَعْمِهِمْ فَتَرْجِيحُ مَرْجُوحٍ وَارْتِكَابُ مُحَالٍ أَيْضًا (وَأَنَّ مَا فَعَلْنَا مِمَّا قُلْتُمْ إنَّهُ حَرَامٌ لَمْ نُنْهَ) لِلْمَفْعُولِ (عَنْهُ فِي الْمَنَامِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ حَلَالٌ) ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا صَدَرَ عَنَّا أَمْرٌ مَمْنُوعٌ نُبِّهْنَا فِي الْمَنَامِ وَلَا شَكَّ أَنَّ صِحَّةَ هَذِهِ الْمُقَدَّمَةِ إمَّا مِنْ الشَّرْعِ وَهُوَ مُنْتَفٍ ظَاهِرًا أَوْ مِنْ الْعَقْلِ وَلَا عَقْلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ ثُمَّ نَقُولُ أَوَّلًا إنَّ مَا ادَّعَوْا مِنْ الْمَنَامِ كَذِبٌ بَحْتٌ وَلَوْ سَلَّمَ، فَإِنَّهُ خَيَالَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَوَسَاوِسُ نَفْسَانِيَّةٌ لِرَفْضِهِمْ حُدُودَهُ تَعَالَى. نَعَمْ قَدْ يُنَبِّهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ خَوَاصِّ عِبَادِهِ وَخُلَّصِ أَوْلِيَائِهِ عَلَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مَنَامًا أَوْ يَقَظَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ أَنَّهُ إذَا تَنَاوَلَ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ تَحَرَّكَ فِيهِ إصْبَعُهُ. وَعَنْ الْبَعْضِ يَشُمُّ رَائِحَةً كَرِيهَةً وَفِي حَلَّ الرُّمُوزِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى الْخَضِرَ فَقَالَ هَلْ رَأَيْت أَحَدًا فَوْقَك قَالَ نَعَمْ كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ يَرْوِي الْأَحَادِيثَ وَالنَّاسُ يَزْدَحِمُونَ وَرَأَيْت شَابًّا مِنْ بَعِيدٍ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ فَقُلْت لَهُ لَمْ لَا تَأْخُذْ الْأَحَادِيثَ فَقَالَ إنَّهُ يَرْوِي وَأَنَا لَسْت بِغَائِبٍ عَنْ اللَّهِ فَقُلْت لَهُ إنْ كُنْت صَادِقًا فَمَنْ أَنَا فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْخَضِرُ فَعَلِمْت أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَمْ أَعْرِفْهُمْ وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ الْكَتَّانِيِّ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ شَيْخًا دَخَلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ فَجَاءَ عِنْدِي وَقَالَ لِي لِمَ لَا تَسْمَعُ أَحَادِيثَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَقُلْت إنِّي أَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يُحَدِّثُنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَقَالَ هَلْ لَك حُجَّةٌ قُلْت حُجَّتِي أَنَّك الْخَضِرُ قَالَ الْخَضِرُ فَعَلِمْت أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا أَعْرِفُهُمْ، فَإِنَّهُ عَرَفَنِي وَأَنَا مَا عَرَفْته (وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التُّرَّهَاتِ) جَمْعُ تُرَّهَةٍ الْأَبَاطِيلُ (كُلُّهُ) لَا بَعْضُهُ (إلْحَادٌ) مَيْلٌ وَعُدُولٌ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (وَضَلَالٌ) إعْرَاضٌ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ إنَّ فِي قَوْلِهِ إنَّ مَا يَدَّعِيه بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ (إذْ فِيهِ) أَيْ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَقَالَاتِ (ازْدِرَاءٌ لِلشَّرِيعَةِ) أَيْ احْتِقَارُهَا (الْحَنِيفِيَّةِ) الْمَائِلَةِ عَنْ الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ الْمِلَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي لَا حَرَجَ فِيهَا وَلَا ضِيقَ عَلَى النَّاسِ. وَفِي الْمُغْرِبِ الْحَنِيفُ الْمَائِلُ عَنْ كُلِّ دِينٍ

بَاطِلٍ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ. وَفِي الْقَامُوسِ الْحَنَفُ مُحَرَّكَةٌ، الِاسْتِقَامَةُ، وَالْحَنِيفُ الصَّحِيحُ الْمَيْلُ إلَى الْإِسْلَامِ الثَّابِتُ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ الْقَيِّمِ جَمَعَ بَيْنَ كَوْنِهَا حَنِيفِيَّةً وَسَمْحَةً لِكَوْنِهَا حَنِيفِيَّةً فِي التَّوْحِيدِ سَمْحَةً فِي الْعَمَلِ، وَوَجْهُ الِازْدِرَاءِ اسْتِلْزَامُ عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لِلْأَخْذِ مِنْ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِي الْمَنَامِ (وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ) كَعَطْفِ أَحَدِ اللَّازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ هَذَا بِقَوْلِهِمْ نَصِلُ بِالْخَلْوَةِ وَهِمَّةِ الشَّيْخِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى الْكِتَابِ وَالْقِرَاءَةِ (وَعَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمَا) هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ الْوُصُولُ لَا يَكُونُ إلَّا بِرَفْضِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ (وَتَجْوِيزِ الْخَطَأِ) ضِدُّ الصَّوَابِ خُصَّ هَذَا بِأَلْفَاظٍ كَمَا خُصَّ قَوْلُهُ (وَالْبُطْلَانِ) بِالْمَعَانِي (فِيهِمَا) أَيْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَوْ كُنَّا عَلَى الْبَاطِلِ إلَخْ. (وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى) مِنْ ذَلِكَ (فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الْبَاطِلَةِ الْإِنْكَارُ عَلَى قَائِلِهِ) إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِنْكَارِ إمَّا بِالنُّصْحِ اللَّيِّنِ أَوْ الْغِلْظَةِ أَوْ الضَّرْبِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَبِالْقَلْبِ كَمَا فِي سَائِرِ نَهْيِ الْمُنْكَرِ (وَالْجَزْمِ بِبُطْلَانِ مَقَالِهِ بِلَا شَكٍّ وَلَا تَرَدُّدٍ وَلَا تَوَقُّفٍ وَلَا تَلَبُّثٍ) بِلَا لُبْثٍ وَلَا تَأْخِيرٍ هَذِهِ تَأْكِيدَاتٌ لِكَمَالِ الِاهْتِمَامِ وَلِدَفْعِ وَهْمِ الِاعْتِقَادِ بِظَوَاهِرِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ الْخَوَارِقِ الَّتِي اسْتَدْرَجَهُمْ اللَّهُ بِهَا كَمَا نُقِلَ عَنْ كَثِيرِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُسَاعِدُهُ الشَّرْعُ فَهُوَ بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ وَكُلُّ صُوفِيٍّ لَا يُجَاهِدُ فِي مُحَافَظَتِهِ فَمَفْتُونٌ جَاهِلٌ إذَا رَأَيْت مَنْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ أَوْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَلَيْسَ مُطَابِقًا لِلشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ فَلَا تُصَدِّقْهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذْ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ سِوَى الشَّرِيعَةِ فَكُلُّ مُخَالِفٍ مِنْ فَرِيقٍ فَهُوَ غَرِيقٌ أَوْ حَرِيقٌ (وَإِلَّا) إنْ لَمْ يُنْكِرْ أَوْ أَنْكَرَ لَكِنْ بِالشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِنْكَارِ بِدُونِ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ لَيْسَ بِمُفِيدٍ (فَهُوَ) مَحْسُوبٌ (مِنْ جُمْلَتِهِمْ) أَوْ مُلْحَقٌ بِهِمْ فَعَدَمُ الْإِنْكَارِ مَعَ الْجَزْمِ بِلَا شَكٍّ لَا يَجْعَلُهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَإِنْ حُسِبَ مِنْهُمْ مِنْ حَيْثُ أَصْلُ التَّفْسِيقِ إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْإِنْكَارِ هَذَا لَكِنْ قَوْلُهُ (فَيُحْكَمُ بِالزَّنْدَقَةِ) لَا يُلَائِمُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَتَخْصِيصُ ضَمِيرِ (عَلَيْهِمْ) بِالْقَائِلِينَ دُونَ تَارِكِي الْإِنْكَارِ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْإِنْكَارُ أَعَمَّ إلَى الْإِنْكَارِ الْقَلْبِيِّ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ الزِّنْدِيقُ بِالْكَسْرِ مِنْ الثَّنَوِيَّةِ أَوْ الْقَائِلُ بِالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ أَوْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَلَا بِالرُّبُوبِيَّةِ

أَوْ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ أَوْ هُوَ مُعَرَّبُ زَنْ دِينِ أَيْ دِينِ الْمَرْأَةِ. وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ مَنْ لَا يُوَحِّدُ. وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ مُلْحِدٌ وَدَهْرِيٌّ. وَعَنْ ابْنِ دُرَيْدٍ مُعَرَّبُ زنده أَيْ مَنْ يَقُولُ بِدَوَامِ الدَّهْرِ. وَعَنْ الْمَوَاهِبِ مَنْ لَا يَتَقَيَّدُ بِدِينٍ. وَعَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى هُمْ قَائِلُونَ بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِ لَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِمَعْنًى فِي شَيْءٍ آخَرَ أَيْ بِلَا عَلَاقَةٍ. فَلَوْ قَالَ تُبْت يَجُوزُ مَعْنًى غَيْرُ التَّوْبَةِ فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَفِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ الْبَاطِنِيَّةِ قَائِلُونَ بِبَاطِنِ الْكِتَابِ دُونَ ظَاهِرِهِ لِقَصْدِ إبْطَالِ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ الزِّنْدِيقُ الْمُنَافِقُ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ أَقَاوِيلَهُمْ هَذِهِ، وَإِنْ كَانَتْ كُفْرًا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهَا لَيْسَتْ زَنْدَقَةً بِشَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي مَعْنَى مَنْ لَا يَتَقَيَّدُ بِدِينٍ مُبَالَغَةً أَوْ مَجَازًا وَبِهِ تَضْمَحِلُّ وَتَنْدَفِعُ الشُّبْهَةُ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ مُطْلَقًا وَالزِّنْدِيقُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مُطْلَقًا كَمَا نُقِلَ عَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى وَفِي كِتَابِ الْحَصْرِ مِنْ قَاضِي خَانْ وَبَعْدَ الْأَخْذِ فِي سِيَرِ قَاضِي خَانْ لَا وَقَبْلَ الْأَخْذِ تُقْبَلُ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَفِي أَصَحِّ أَقْوَالِ الشَّافِعِيَّةِ الْقَبُولُ مُطْلَقًا ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُفْتَرَيَاتٌ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُ وَلِذَا كَانَ مَوْتُهُ بِأَمَارَاتِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ بِمَا لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ. وَهَذَا مِنْ خُبْثِ الْبَاطِلِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَعَدِّ نَفْسِهِ مُسْتَقِلًّا فِي إصْلَاحِ الْعَالَمِ وَمُبَارَزَةِ مُعَادَاةِ اللَّهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» وَرُدَّ أَنَّهُ افْتِرَاءٌ عَلَى مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَى قَائِلِهِ بِبُطْلَانِ مَقَالِهِ وَقِيلَ إنِّي سَمِعْت مِنْ بَعْضِ تَلَامِذَةِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الثِّقَاتِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَ نَزْعِ رُوحِهِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ وَقِرَاءَةِ الْإِخْلَاصِ وقَوْله تَعَالَى - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} [الكهف: 107]- الْآيَةُ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى حُسْنِ حَالِهِ جَمِيعُ مُصَنَّفَاتِهِ وَأَقُولُ أَيْضًا وَتَوَاتُرُ حُسْنِ أَخْلَاقِهِ وَأَحْوَالِهِ فَالْكَلَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ أَقُولُ: إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ مَنْ يَقُولُ جِنْسَ هَذِهِ الْأَبَاطِيلِ فَتَعَصُّبٌ مَحْضٌ، وَإِنْكَارٌ لِلْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُتَوَاتِرَاتِ إذْ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ حِسًّا أَوْ تَوَاتُرًا وَأَنَّهُ إنْ ادَّعَى عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يُوجَدُوا فِي مَحَلٍّ لَا يَبْلُغُهُ اسْتِقْرَاءُ الْمَوْرِدِ عَلَيْهِ وَوَصَلَ إلَى الْمُصَنِّفِ عِلْمُهُ وَأَنَّ النَّاقِصَ فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ مَنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ لَكِنَّ مَنْ شَنَّعَ عَلَيْهِمْ الْمُصَنِّفُ لَيْسُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ أَيْضًا إذْ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَعْيِينُهُمْ وَالْجَزْمُ عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَى مُعَيَّنٍ بِغَيْرِ مَا أَخْبَرَهُ الصَّادِقُ لَيْسَ بِجَائِزٍ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ عَدَمُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْفُحْشِيَّاتِ إنَّمَا كَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْإِنْكَارُ عَدَمُ الرِّضَا عَلَى الْقَضَاءِ فَكُفْرٌ مُوجِبٌ لِعَبَثِيَّةِ بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْكَارُ وُجُوبِ نَهْيِ الْمُنْكَرِ وَأَيُّ كَلَامٍ يَدُلُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى عَدِّ نَفْسِهِ مُصْلِحًا لِلْعَالَمِ بَلْ فِيهِ إظْهَارُ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ، وَإِنْكَارُ أَشْنَعِ مُنْكَرَاتِ اللَّهِ تَعَالَى (وَقَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ) مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ كَالنَّسَفِيِّ (بِأَنَّ الْإِلْهَامَ) يُقَالُ أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا لَقَّنَهُ إيَّاهُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ وَقِيلَ مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ الْأَسْرَارِ. وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ هُوَ إلْقَاءُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ بِطَرِيقِ الْفَيْضِ وَفِي تَعْرِيفَاتِ السَّيِّدِ الشَّرِيفِ وَقِيلَ الْإِلْهَامُ مَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ مِنْ عِلْمٍ وَهُوَ يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِآيَةٍ وَلَا نَظَرٍ فِي حُجَّةٍ (لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَحْكَامِ) لَعَلَّ تَقْيِيدَهُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ وَفِي اخْتِيَارِ الْمَعْرِفَةِ دُونَ الْعِلْمِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ عِلْمًا جُزْئِيًّا وَلَوْ ظَنًّا فَضْلًا عَنْ الْعِلْمِ الْكُلِّيِّ الْقَطْعِيِّ. قَالَ الشَّرِيفُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إلَّا عِنْدَ الصُّوفِيِّينَ لَعَلَّ مُرَادَهُ عِنْدَ بَعْضِ الصُّوفِيِّينَ. وَفِي بَعْضِ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى نَفْسِهِ لَعَلَّ الْأَوْلَى التَّفْصِيلُ أَنَّهُ إنْ مِنْ النَّبِيِّ فَحُجَّةٌ لَهُ وَلَنَا، وَإِنْ مِنْ الْوَلِيِّ فَحُجَّةٌ لَهُ لَا لَنَا، وَإِنْ مِنْ الْعَوَامّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لَا لَهُ وَلَا لَنَا. وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ أَنَّ الْإِلْهَامَ لَيْسَ سَبَبًا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ لِعَامَّةِ الْخَلْقِ وَيَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، وَقَدْ وَرَدَ الْقَوْلُ بِهِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ

حُكِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ فَيَجِبُ حَمْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَرِدُ عَلَى الضَّمَائِرِ إنْ مِنْ الْمَلَكِ فَإِلْهَامٌ، وَإِنْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَخَاطِرٌ حَقٌّ، وَإِنْ مِنْ الشَّيْطَانِ فَوَسْوَاسٌ، وَإِنْ مِنْ النَّفْسِ فَهَوَاجِسُ أَوْ حَدِيثُ النَّفْسِ كَمَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَفِي حَلِّ الرُّمُوزِ أَيْضًا وَعَلَامَةُ كُلِّ قِسْمٍ فَمَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْعِلْمِ أَيْ الظَّاهِرِ فَمِنْ الْمَلَكِ وَلِذَا قِيلَ كُلُّ خَاطِرٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ ظَاهِرٌ فَبَاطِلٌ وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعَاصِي فَمِنْ الشَّيْطَانِ وَمَا يَدُلُّ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَاسْتِشْعَارِ الْكِبْرِ وَسَائِرِ مَا هُوَ مِنْ أَوْصَافِ النَّفْسِ فَمِنْ النَّفْسِ وَالْفَرْقُ الْمَنْقُولُ عَنْ الْجُنَيْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ أَصَرَّ وَاسْتَمَرَّ إلَى حُصُولِ الزَّلَّةِ فَحَدِيثُ نَفْسٍ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَطَلَبَ زَلَّةً أُخْرَى فَوَسْوَسَةٌ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ اتَّفَقُوا أَنَّ آكِلَ الْحَرَامِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ. وَعَنْ الدَّقَّاقِ وَكَذَا مَنْ كَانَ قُوتُهُ مَعْلُومًا وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ خَاطِرِ الْحَقِّ وَالْمَلَكِ أَنَّ الْأَوَّلَ الْعَبْدُ لَا يُخَالِفُهُ أَصْلًا وَالثَّانِي قَدْ يُخَالِفُهُ وَبِمَا ذُكِرَ عَرَفْت أَنَّ الْإِلْهَامَ إنَّمَا يُوجَدُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْخُذْ عِلْمَهُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَوَسْوَسَةٌ أَوْ هَوَاجِسُ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِلْهَامَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ طَرِيقًا صَحِيحًا لِفَهْمِ مَعَانِيهِمَا وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ الْفِقْهِيِّ وَإِلَّا فَوَسْوَسَةٌ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْوَحْيِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّي الَّذِي مِنْ قَبِيلِ الْإِلْهَامِ فَقِيلَ كُفْرٌ مُوجِبٌ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَمْ يَكُنْ الْخَضِرُ مَأْمُورًا بِمُتَابَعَتِهِ (وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَا فِي الْمَنَامِ) فِي عَدَمِ كَوْنِهَا مِنْ أَسْبَابِ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ الرُّؤْيَا كَالْبُشْرَى مُخْتَصَّةٌ غَالِبًا بِشَيْءٍ مَحْبُوبٍ يُرَى مَنَامًا وَقِيلَ هِيَ كَالرُّؤْيَةِ أَلْفُ تَأْنِيثٍ مَكَانُ تَائِهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُرَى نَوْمًا وَيَقَظَةً فَإِدْرَاكُ الْيَقَظَةِ رُؤْيَةٌ وَإِدْرَاكُ النَّوْمِ رُؤْيَا ثُمَّ الرُّؤْيَا خَيَالٌ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ ضِدُّ الْإِدْرَاكِ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَنَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَبِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ كَوْنِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَعَمَلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا قَبْلَ الْوَحْي وَأُجِيبَ أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَامَّةِ الْخَلْقِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ إنْكَارَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِنَاءً عَلَى إنْكَارِهِمْ الْحَوَاسَّ الْبَاطِنَةَ مُطْلَقًا فَلَا قَائِلَ فِي إثْبَاتِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَدُفِعَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ أَقُولُ: يَئُولُ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ إلَى أَنْ تَكُونَ خَيَالًا بَاطِلًا فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ إطْلَاقِ نَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ» الْحَدِيثُ وَفِي رِوَايَةٍ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» وَأَيْضًا حَدِيثُ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ» وَحَدِيثُ «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ» وَحَدِيثُ «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الْعَبْدَ رَبُّهُ فِي الْمَنَامِ» وَحَدِيثُ «يَنْقَطِعُ الْوَحْيُ وَلَا تَنْقَطِعُ الْمُبَشِّرَاتُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ الَّتِي يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ» . وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخَوَارِقِ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَامَةِ يَرُدُّهُ مَا فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ مَنَامَاتٌ صَادِقَةٌ كَمَنَامِ الْمَلِكِ الَّذِي رَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ وَمَنَامِ عَاتِكَةَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ كَافِرَةٌ وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ الْمُوَافِقَ لِلنُّصُوصِ وَالْمُنَاسِبَ لِمَا تَشْهَدُ بِهِ التَّجَارِبُ مَا قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ: النَّاسُ فِي الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّ رُؤْيَاهُمْ صِدْقٌ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى التَّعْبِيرِ وَالصَّالِحُونَ غَالِبُ رُؤْيَاهُمْ صِدْقٌ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْبِيرِ وَمَنْ سِوَاهُمْ فِي رُؤْيَاهُمْ الصِّدْقَ وَالْأَضْغَاثَ، وَهُمْ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ مَسْتُورُونَ الْغَالِبُ اسْتِوَاءُ الْحَالِ وَفَسَقَةٌ الْغَالِبُ هُوَ الْأَضْغَاثُ. وَقَدْ تَصْدُقُ وَكُفَّارٌ يَنْدُرُ صِدْقُهُمْ قَالَهُ الْمُهَلَّبِ انْتَهَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي تَحَصَّلَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ مِنْ الرُّؤْيَا إذْ الصِّدْقُ هُوَ الْعِلْمُ فَخِلَافٌ صَرِيحٌ لِتَصْرِيحِ الْمُصَنِّفِ فَالْكَلَامُ هُنَا كَالْكَلَامِ فِي الْإِلْهَامِ فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُمَا حُجَّتَيْنِ مُقَابِلَتَيْنِ لِوَاحِدٍ مِنْ

الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ جَازَ كَوْنُهُمَا فِي تَأْيِيدِ شَيْءٍ مِنْهُمَا وَتِبْيَانًا وَتَوْضِيحًا وَتَعْيِينَ احْتِمَالٍ لَهُمَا وَنَحْوَهَا فَيَبْطُلُ احْتِجَاجُهُمْ بِهِمَا مُعَارِضًا وَمُقَابِلًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا سَبَبُ الرُّؤْيَا فَفِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ سَبَبَ الرُّؤْيَا إذَا نَامَ الْإِنْسَانُ سَطَعَ نُورُ النَّفْسِ حَتَّى يَجُولَ فِي الدُّنْيَا وَيَصْعَدَ إلَى الْمَلَكُوتِ فَيُعَايِنُ الْأَشْيَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَعْدِنِهِ، فَإِنْ وَجَدَ مُهْلَةً عَرَضَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ يَسْتَوْدِعُ الْحَافِظَةَ وَفِي الْعَالِمِ يَخْرُجُ النَّفْسُ وَيَبْقَى الرُّوحُ عِنْدَ النَّوْمِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَخْرُجُ الرُّوحُ وَيَبْقَى شُعَاعُهُ فِي الْجَسَدِ فَبِذَلِكَ يَرَى الرُّؤْيَا وَيُقَالُ أَرْوَاحُ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ تَلْتَقِي فِي الْمَنَامَاتِ فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَفْهُومُ مِنْ مُحَاكَاةِ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ تَوَجُّهَ النَّفْسِ فِي الْيَقَظَةِ إلَى الْمَحْسُوسَاتِ مَانِعٌ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَعْقُولَاتِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْمَانِعُ بِالنَّوْمِ تَسْتَعِدُّ النَّفْسُ بِالِاتِّصَالِ بِالْجَوَاهِرِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّذِي ارْتَسَمَ فِيهَا جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ إنَّ لِلرُّؤْيَا مَلَكًا يُقَالُ لَهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا فَعِنْدَ الْيَقَظَةِ تُعْدَمُ الْمُنَاسَبَةُ وَعِنْدَ النَّوْمِ تَحْصُلُ الْمُنَاسَبَةُ مَعَ ذَلِكَ الْمَلَكِ فَيَنْطَبِعُ فِي النَّفْسِ مِنْ الْمَلَكِ مَا أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ وَالْإِلْهَامَاتِ الْفَائِضَةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ وَأَمَّا الْكَاذِبَةُ فَإِمَّا بِسَبَبِ تَخَيُّلٍ فَاسِدٍ فِي الْيَقَظَةِ أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ أَوْ امْتِلَاءٍ أَوْ لِأَمْرَاضٍ ثُمَّ قِيلَ الرُّؤْيَا إمَّا صَادِقَةٌ وَهِيَ أَيْضًا ثَلَاثٌ تَبْشِيرٌ يُبَشِّرُهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا بِمَا يُسِرُّهُ مِنْ الْأُخْرَوِيِّ أَوْ الدُّنْيَوِيِّ وَتَحْذِيرٌ يُخَوِّفُهُ بِمَا يُبْعِدُ عَنْ الطَّاعَةِ وَيُقَرِّبُ إلَى الْمَعْصِيَةِ وَإِلْهَامٌ يُلْهِمُهُ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ كَالْحَجِّ وَالتَّهَجُّدِ وَإِمَّا كَاذِبَةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ رُؤْيَا هِمَّةٍ وَهِيَ مَا تَخَيَّلَهَا فِي الْيَقَظَةِ فَلَيْسَ لَهَا اعْتِبَارٌ وَرُؤْيَا عِلَّةٍ نَاشِئَةٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ فَلَيْسَ لَهَا اعْتِبَارٌ أَيْضًا وَرُؤْيَا شَيْطَانٍ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ فَلَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ أَيْضًا (خُصُوصًا) أَيْ أَخَصُّهُمَا (إذَا خَالَفَا كِتَابَ الْعَلِيمِ الْعَلَّامِ) جِيءَ بِالْوَصْفِ الثَّانِي إشَارَةً إلَى جَهْلِهِمْ وَتَعْرِيضًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي رَدِّهِمْ (أَوْ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) وَجْهُ التَّرَقِّي أَنَّهُمَا حِينَ الْمُخَالَفَةِ لَا يَكُونَانِ إلْهَامًا بَلْ وَسْوَسَةً شَيْطَانِيَّةً وَرُؤْيَا كَاذِبَةً عَلَى نَهْجِ مَا فُصِّلَ. وَأَمَّا إذَا وَافَقَا إيَّاهُمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَا حُجَّةً لِصَاحِبَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا حُجَّةً لِغَيْرِهِمَا ثُمَّ لَمَّا أَوْرَدَ فِي رَدِّهِمْ الْأَدِلَّةَ الْقَطْعِيَّةَ الْبُرْهَانِيَّةَ أَرَادَ أَنْ يُورِدَ الْأَدِلَّةَ الْجَدَلِيَّةَ وَالْخَطَّابِيَّةَ الْإِقْنَاعِيَّةَ وَهِيَ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ ادَّعَوْا لِأَتْبَاعِهِمْ وَمُقَلِّدِيهِمْ. فَقَالَ (وَقَدْ قَالَ) كَأَنَّهُ يَقُولُ إنَّ أَدِلَّتَهُمْ فِيمَا ادَّعَوْا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْفُحْشِيَّاتِ إمَّا إلْهَامٌ وَمَنَامٌ أَوْ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِمَا عَرَفْت وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِمَا سَتَعْرِفُ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ الْمُنَافِيَةِ لِدَعْوَاهُمْ (سَيِّدُ) مِنْ السِّيَادَةِ (الطَّائِفَةِ الصُّوفِيَّةِ) قَالُوا فِي اشْتِقَاقِهِ وَنِسْبَتِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُ أَيْ الصُّوفِيَّ مِنْ الصَّفَاءِ سُمُّوا بِهَا لِصَفَاءِ أَسْرَارِهِمْ وَبَقَاءِ آثَارِهِمْ. قَالَ بِشْرٌ الْحَافِيُّ الصُّوفِيُّ مَنْ صَفَا قَلْبُهُ الثَّانِي مِنْ الصَّفِّ لِكَوْنِهِمْ مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: مِنْ الصُّفَّةِ لِقُرْبِهِمْ بِأَصْحَابِ الصُّفَّةِ أَيْ صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الرَّابِعُ: مِنْ الصُّوفِ لِلُبْسِهِمْ الصُّوفَ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الدُّنْيَا وَخَرَجُوا عَنْ الْأَوْطَانِ وَهَجَرُوا الْإِخْوَانَ وَسَاحُوا فِي الْبِلَادِ وَأَجَاعُوا الْأَكْبَادَ وَأَتْعَبُوا الْأَجْسَادَ وَلِهَذَا وَصَفَهُمْ السَّقَطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ أَكْلَهُمْ أَكْلُ الْمَرْضَى وَنَوْمَهُمْ نَوْمُ الْغَرْقَى. وَالْخَامِسُ: مِنْ الصَّفْوَةِ قَالَ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ: الْكُلُّ ضَعِيفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ سِوَى الرَّابِعِ وَلِهَذَا قَالَ الْقُشَيْرِيُّ لَا يَشْهَدُ لِهَذَا الِاسْمِ مِنْ حَدِيثِ الْعَرَبِيَّةِ قِيَاسٌ وَلَا اشْتِقَاقٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَاللَّقَبِ ثُمَّ قَالَ وَالنِّسْبَةُ إلَى الصُّوفِ مُسْتَقِيمَةٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَخْتَصُّوا بِلُبْسِ الصُّوفِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الصُّوفَ مِنْ لِبَاسِ الْأَنْبِيَاءِ وَزِيِّ الْأَوْلِيَاءِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَدْرَكْت سَبْعِينَ بَدْرِيًّا مَا كَانَ لِبَاسُهُمْ إلَّا الصُّوفَ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَلْبَسُ الصُّوفَ» وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الصُّوفِيِّ فَقَالَ مِنْ لَبِسَ الصُّوفَ وَأُطْعِمَ الْهَوَى ذَوْقَ الْجَفَا وَكَانَتْ الدُّنْيَا مِنْهُ فِي الْقَفَا وَسَلَكَ مِنْهَاجَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا كَلَامُهُمْ وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْمَلَالِ لَأَوْرَدْنَا عَلَى كُلِّ مَا يُمْكِنُ إيرَادُهُ (وَإِمَامُ أَرْبَابِ) أَصْحَابِ (الطَّرِيقَةِ) أَيْ طَرِيقَةِ كَمَالِ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِقَادًا وَأَخْلَاقًا وَأَعْمَالًا وَسِيرَةً وَلَوْ عَادِيَّةً إلَى أَنْ تَرَكُوا الْأَغْيَارَ لِقَصْرِهِمْ النَّظَرَ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَجَعَلَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مَعَادِنَ أَسْرَارِهِ وَخَصَّهُمْ مِنْ الْعَالَمِينَ بِطَوَالِعِ أَنْوَارِهِ صَفَّاهُمْ اللَّهُ مِنْ كُدُورَاتِ الْأَرْكَانِ وَرَقَّاهُمْ إلَى الْمَلَكُوتِ

مِنْ الْأَكْوَانِ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى فَهُمْ أَقْوَامٌ فَهِمُوا عَنْ اللَّهِ وَطَرَحُوا مَا سِوَى اللَّهِ وَسَارُوا إلَى اللَّهِ خَرَقَتْ الْحُجُبَ كُلَّهَا أَنْوَارُهُمْ وَجَالَتْ حَوْلَ سُرَادِقِ الْعَرْشِ أَسْرَارُهُمْ أَجْسَادٌ رُوحَانِيُّونَ وَأَجْسَادٌ رَبَّانِيُّونَ وَأَرْضِيُّونَ سَمَاوِيُّونَ غُيَّبٌ حُضَّارٌ مُلُوكٌ تَحْتَ أَطْمَارٍ لِلَّهِ تَحْتَ قِبَابِ الْعِزِّ طَائِفَةٌ ... أَخْفَاهُمْ فِي رِدَاءِ الْعِزِّ إجْلَالًا هُمْ السَّلَاطِينُ فِي أَطْمَارِ مَسْكَنَةٍ ... جَرُّوا عَلَى فَلَكِ الْخَضْرَاءِ أَذْيَالًا غُبْرٌ مُلَابِسُهُمْ شَمٌّ مَعَاطِسُهُمْ ... اسْتَعْبَدُوا مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ أَقْيَالًا قُلُوبُهُمْ عَرْشِيَّةٌ وَأَبْدَانُهُمْ عَنْ الْخَلْقِ وَحْشِيَّةٌ أَرْوَاحُهُمْ فِي الْمَلَكُوتِ طَيَّارَةٌ وَأَشْبَاحُهُمْ فِي الْمُلْكِ سَيَّارَةٌ - {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] وَ {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] (وَالْحَقِيقَةُ) هِيَ عِنْدَهُمْ الْمَقْصُودُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِمُشَاهَدَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالْتِزَامِ الشَّرَائِعِ الْحَقِيَةِ وَاهْتِمَامِ دَقَائِقِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ إلَى أَنْ يَسْتَغْرِقَ فِي بَحْرِ التَّوْحِيدِ وَالْعُرْفَانِ بِحَيْثُ تَضْمَحِلُّ ذَاتُهُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتُهُ فِي صِفَاتِهِ وَيَغِيبُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَلَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَهَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْفَنَاءَ فِي التَّوْحِيدِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ الْحَدِيثُ الْإِلَهِيُّ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي بِهِ يَسْمَعُ وَبَصَرَهُ الَّذِي بِهِ يُبْصِرُ وَحِينَئِذٍ رُبَّمَا تَصْدُرُ عَنْهُ عِبَارَاتٌ تُشْعِرُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ لِقُصُورِ الْعِبَارَةِ عَنْ بَيَانِ تِلْكَ الْحَالِ وَتَعَذُّرِ الْكَشْفِ عَنْهَا بِالْمَقَالِ وَنَحْنُ عَلَى سَاحِلِ بَحْرِ التَّمَنِّي نَغْتَرِفُ مِنْ بَحْرِ التَّوْحِيدِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَنَعْتَرِفُ بِأَنَّ الطَّرِيقَ فِي الْعِيَانِ دُونَ الْبُرْهَانِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. كَذَا فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ لِلْمُحَقِّقِ التَّفْتَازَانِيِّ ثُمَّ إنَّ لَهُمْ اصْطِلَاحَاتٍ وَفُرُوقًا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ لَا يَتَحَمَّلُهَا الْمَقَامُ (جُنَيْدٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْجُنَيْدُ (الْبَغْدَادِيُّ) أَصْلُهُ مِنْ نَهَاوَنْدَ وَمَنْشَأُهُ وَمَوْلِدُهُ الْعِرَاقُ وَأَبُوهُ بَيَّاعُ الزُّجَاجِ وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَكَانَ فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ أَخَذَ الطَّرِيقَ مِنْ خَالِهِ السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ وَهُوَ عَنْ الْكَرْخِيِّ عَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ كَذَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّة (عَلَيْهِ رَحْمَةُ الْهَادِي) الدُّعَاءُ بِالرَّحْمَةِ هُوَ الْأَدَبُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَشَايِخِ (الطُّرُقُ) أَيْ السُّبُلُ الْمُوصِلَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ (كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ) أَيْ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ يُرِيدُ السُّلُوكَ وَالْوُصُولَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوُفُورِ الْحُجُبِ وَكُثُورِ الْمَوَانِعِ (إلَّا عَلَى مَنْ اقْتَفَى) أَيْ مَنْ اتَّبَعَ (أَثَرَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِأَنْ سَارَ كَسَيْرِهِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ مَسْدُودَةً بَلْ تَكُونُ مَفْتُوحَةً مُوصِلَةً إلَى جَانِبِ الْقُدْسِ. (وَقَالَ) أَيْضًا (مَنْ لَمْ يَحْفَظْ الْقُرْآنَ) أَيْ لَمْ يَرْعَ حُدُودَهُ وَلَمْ يَلْتَزِمْ أَحْكَامَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالْقَوْلُ أَيْ مَعَ التَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ لَا يَخْلُو عَنْ قُصُورٍ نَعَمْ لَوْ أُرِيدَ مَا يَعُمُّ تِلَاوَتَهُ وَإِتْيَانَ أَحْكَامِهِ لَكَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةً (وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ) وَلَمْ يَجْمَعْ مَحَاوِيَهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْ وَلَمْ يَجْمَعْ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْحَدِيثِ أَيْ مُطْلَقَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْفَرْضُ اللَّازِمُ فِعْلُهُ (لَا يُقْتَدَى بِهِ) ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ عَلَى كِتَابٍ وَسُنَّةٍ فَلَيْسَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَّ هَذَا} [الأنعام: 153] أَيْ مَا فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - {صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]- الْآيَةُ (فِي هَذَا الْأَمْرِ) أَيْ الْوُصُولِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِلِاقْتِدَاءِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَكِنْ لَا يَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ لِجَوَازِ فَيْضِهِ تَعَالَى لِجَاهِلٍ أُمِّيٍّ مَحْضٍ بِالتَّجَلِّيَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ عَلَى وَجْهٍ يَتَكَلَّمُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ إلَى أَنْ تَتَحَيَّرَ بِهِ

الْعُقُولُ. وَقَدْ وُجِدَ بِمِثْلِهِ كَثِيرٌ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ وَلِيًّا لَكِنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُرْشِدًا إذْ الْإِرْشَادُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (؛ لِأَنَّ عِلْمَنَا) فِي الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ (وَمَذْهَبَنَا) فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ (هَذَا) الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ (مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ أَمْرًا سِوَاهُمَا وَإِلَّا لَكَانَ إنْزَالُ الْكُتُبِ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ عَبَثًا لَغْوًا فَدَلَّ كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَدًّا عَلَيْهِمْ فِي حَصْرِهِمْ الْوُصُولَ فِي رَفْضِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ وَالشَّرْعِ اللَّذَيْنِ أُخِذَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَفِي دَعْوَى رُؤْيَةِ الْأَنْوَارِ وَتَنْبِيهِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ بِالرُّؤْيَا وَوَجْهُ الرَّدِّ حَصْرُ الْوُصُولِ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفْيُ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يَحْفَظُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَتَقْيِيدُ الْوُصُولِ وَالْحَقُّ الْقَوِيمُ بِهِمَا وَتَصْوِيرُ الرَّدِّ أَنَّ مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ أَنَّ الْوُصُولَ إنَّمَا يَكُونُ بِرَفْضِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَنْ ادَّعَيْتُمْ تَقْلِيدَهُمْ وَسَلَّمْتُمْ صِدْقَهُمْ مِنْ الْمَشَايِخِ الْعِظَامِ كَالْجُنَيْدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكُلِّ مَنْ شَأْنُهُ كَذَا فَبَاطِلٌ فَالْكُبْرَى ظَاهِرَةٌ. وَأَمَّا الصُّغْرَى، فَإِنَّ الْوُصُولَ شَيْءٌ وَرَدَ فِي حَقِّهِ عَنْ الْجُنَيْدِ الْحَصْرُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَا فَلَا يَكُونُ بِرَفْضِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّسُولِ فَهَذَا فِي قُوَّةِ الصُّغْرَى وَعَلَيْهِ فَقِسْ ثُمَّ لَازِمٌ عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَ بَعْضَ اللَّطَائِفِ الْجُنَيْدِيَّةِ عَلَى مَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ مَا أُخِذَ التَّصَوُّفُ عَنْ الْقِيلِ وَالْقَال وَلَكِنْ عَنْ الْجُوعِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا وَقَطْعِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالْمُسْتَحْسِنَات وَقَوْلُهُ إنْ أَمْكَنَك أَنْ لَا تَكُونَ آلَةَ بَيْتِك إلَّا خَزَفًا فَافْعَلْ وَقَوْلُهُ لَوْ أَقْبَلَ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ أَلْفَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً كَانَ الَّذِي فَاتَهُ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَهُ. وَقَوْلُهُ وَعِلْمُنَا هَذَا مُشَيَّدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ لَهُ مِمَّنْ اسْتَفَدْت هَذَا الْعِلْمَ فَقَالَ مِنْ جُلُوسِي بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً تَحْتَ تِلْكَ الدَّرَجَةِ وَأَوْمَأَ إلَى دَرَجَةٍ فِي دَارِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْعَطُوفِيُّ كُنْت عِنْدَ الْجُنَيْدِ حِين مَاتَ خَتَمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ سَبْعِينَ آيَةً ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ حَيْثُ مَدَحَ الْمُتَصَوِّفَةَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِمْ، وَقَدْ حَكَمَ بِالْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ عَلَيْهِمْ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت غَرَضَ الْمُصَنِّفِ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ حَكَمَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِمْ بِإِلْحَادٍ هُمْ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا الْوِلَايَةَ وَالْوُصُولَ فِي مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْتَزَمُوا مُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَجَعَلُوا الْإِتْيَانَ بِهِمَا مِنْ الْحُجُبِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْوُصُولِ وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ قَدَّسَ أَسْرَارَهُمْ بِفَرْطِ تَجَنُّبٍ عَنْ مُحْتَمَلَاتِ أَمْثَالِهَا فَضْلًا عَنْ يَقِينِيَّاتِهَا. (وَقَالَ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ خَالُ الْجُنَيْدِ وَأُسْتَاذُهُ وَتِلْمِيذُ مَعْرُوفِ الْكَرْخِيِّ أَوْحَدُ زَمَانِهِ فِي الْوَرَعِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَعُلُومِ التَّوْحِيدِ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ كَانَ يَتَّجِرُ فِي السُّوقِ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ فَجَاءَ مَعْرُوفٌ يَوْمًا وَمَعَهُ صَبِيٌّ يَتِيمٌ فَقَالَ: اُكْسُ هَذَا الْيَتِيمَ فَكَسَاهُ فَفَرِحَ بِهِ وَقَالَ بَغَّضَ اللَّهُ إلَيْكَ الدُّنْيَا قَالَ فَقُمْت مِنْ الْحَانُوتِ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ مِنْ بَرَكَاتِ مَعْرُوفٍ وَفِيهِ عَنْ الْجُنَيْدِ مَا رَأَيْت أَعْبَدَ مِنْ السَّرِيِّ أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانٌ وَتِسْعُونَ حِجَّةً أَيْ سَنَةً مَا رُئِيَ مُضْطَجِعًا إلَّا فِي عِلَّةِ الْمَوْتِ. وَفِيهِ عَنْ السَّرِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً فِي الِاسْتِغْفَارِ لِقَوْلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ مَرَّةً قِيلَ لَهُ وَكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ وَقَعَ بِبَغْدَادَ حَرِيقٌ فَاسْتَقْبَلَنِي وَاحِدٌ فَقَالَ بَقِيَ حَانُوتُك فَقُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ حَيْثُ أَرَدْت لِنَفْسِي خَيْرًا مِمَّا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ سُئِلَ مِنْهُ عَنْ أَكْثَرِ طُرُقِ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَا تَسْأَلْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا تَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ مَعَك شَيْءٌ تُعْطِي أَحَدًا. وَفِي أَخْبَارِ الْأَخْيَارِ سُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ حَالِهِ حِينَ عِيَادَتِهِ فَقَالَ كَيْفَ أَشْكُو إلَى طَبِيبِي مَا بِي وَاَلَّذِي بِي أَصَابَنِي مِنْ طَبِيبِي وَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي فَقَالَ إيَّاكَ وَصُحْبَةَ الْأَشْرَارِ وَأَنْ تَنْقَطِعَ عَنْ رَبِّك بِصُحْبَةِ الْأَخْيَارِ وَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ غُفِرَ لِي وَلِمَنْ صَلَّى عَلَيَّ فَقِيلَ أَنَا مِمَّنْ حَضَرَ جِنَازَتَك فَأَخْرَجَ وَرَقًا فَلَمْ يَرَ فِيهِ اسْمِي فَقُلْت بَلَى قَدْ حَضَرْت فَنَظَرَ، فَإِذَا اسْمِيّ فِي الْحَاشِيَةِ. (التَّصَوُّفُ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ وَهُوَ) أَيْ الصُّوفِيُّ الْمَدْلُولُ مِنْ التَّصَوُّفِ (الَّذِي لَا يُطْفِئُ نُورُ مَعْرِفَتِهِ) فَاعِلُ يُطْفِئُ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا النُّورِ نَحْوُ

غَلَبَةِ الشُّهُودِ وَشِدَّةِ الْحُضُورِ وَكَمَالِ الْفِنَاءِ عَلَيْهِ (نُورَ وَرَعِهِ) بِالْتِزَامِ عَزَائِمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ الشُّبُهَاتِ إلَى مَا تَرْكُهُ أَوْلَى وَيَأْتِي الْفَضَائِلَ كُلَّهَا إلَى مَا كَانَ إتْيَانُهُ أَوْلَى. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ الْوَرَعُ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الْوَرَعُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَمَنْ قَالَ بِتَرْكِ الْعُلُومِ الظَّاهِرَةِ وَتَرْكِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَجْلِ الْوُصُولِ فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُ مَعْرِفَتِهِ نُورَ وَرَعِهِ (وَلَا يَتَكَلَّمُ بِبَاطِنٍ فِي عِلْمٍ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكِتَابِ) أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ التَّصَوُّفِ بِمَا يُخَالِفُهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، فَإِنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَالْعَدْلُ عَنْهَا إلَى مَعَانٍ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْبَاطِنِ إلْحَادٌ كَمَا فِي عَقَائِدِ النَّسَفِيِّ فَفِي كَلَامِ حَضْرَةِ الشَّيْخِ رَدٌّ لِأَهْلِ الْبَاطِنِ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِهِ سُمِّيَتْ بَاطِنِيَّةً لِادِّعَائِهِمْ أَنَّ النُّصُوصَ لَيْسَتْ عَلَى ظَوَاهِرِهَا بَلْ لَهَا بَاطِنٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ نَفْيُ الشَّرِيعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ بُطْلَانُ إشَارَاتِ الْمَشَايِخِ وَلِطَائِفِهَا الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعَانٍ عَرَبِيَّةٍ وَخِلَافُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ قُلْت فَلَعَلَّك لَوْ تَأَمَّلْتَ مَا ذُكِرَ لَأَمْكَنَ فَهْمُك جَوَابَهُ إذْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَانِيَ بَاطِنَةٍ لَكِنْ مُلْتَزَمُ انْطِبَاقِهَا بِظَوَاهِر الْقُرْآنِ وَلِهَذَا قَالَ هِيَ إشَارَاتٌ خَفِيَّةٌ وَدَقَائِقُ تَنْكَشِفُ عَلَى أَرْبَابِ السُّلُوكِ يُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُرَادَةِ فَهِيَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَمَحْضِ الْعِرْفَانِ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْمَشَايِخِ مِمَّا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ كَقَوْلِ الْعَارِفِ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ سُبْحَانِي مَا أَعْظَمَ شَأْنِي وَنَحْوِهِ فَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الْوَجْدِ وَالسُّكْرِ أَوْ عَلَى تَأْوِيلٍ صَحِيحٍ ذَكَرُوهُ فِي مَحَلِّهِ وَمَعَ هَذَا لَوْ صَدَرَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَوَامّ لَخُطِّئَ بَلْ كُفِّرَ. (وَ) الثَّالِثُ (لَا تَحْمِلُهُ الْكَرَامَاتُ عَلَى هَتْكِ) هَدْمِ حُرْمَةِ (مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى) قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ كَرَامَةً بَلْ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا كَمَا سَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ الْقُرْبُ تَزْدَادُ الْخَشْيَةُ. قَالَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ رَدًّا لِمُدَّعَاهُمْ، وَقَدْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَشَايِخُهُمْ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ وَالِاسْتِقَامَةَ وَالتَّقْوَى أَوْلَى مِنْ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ وَمَزِيدَةٌ لِلْقُرْبِ وَالْقَبُولِ وَعَدَمُهَا سَبَبٌ لِلْبُعْدِ وَالطَّرْدِ، وَالْكَرَامَاتُ لَيْسَتْ مَأْمُورَةً وَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ مَحْذُورًا بَلْ تَرْكُهَا أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهَا وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إظْهَارَ الْكَرَامَةِ مِمَّا حِيضَ الرِّجَالُ فِي مَنْعِهِ مِنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى مَعَ إشْعَارِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَيْسَ بِرَجُلٍ لِدَنَاءَةِ هِمَّتِهِ وَرِضَاهُ بِالْأَدْنَى. وَقَالَ هَذَا الْعَارِفُ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ لَوْ أَنَّ عَارِفًا دَخَلَ بُسْتَانًا فِيهِ أَشْجَارٌ وَعَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ طَيْرٌ يَقُولُ لَهُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا وَلَيَّ اللَّهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَزِيدَ الْخَوْفُ إذْ لَوْ لَمْ يَخَفْ لَكَانَ مَمْكُورًا قِيلَ لِسُلْطَانِ الْعَارِفِينَ: إنَّ فُلَانًا يَمْشِي إلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ فَقَالَ الشَّيْطَانُ يَمْشِي فِي سَاعَةٍ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ: إنَّ فُلَانًا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ قَالَ: الذُّبَابُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَقِيلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فُلَانًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ: السَّمَكُ كَذَلِكَ. وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُدْسِيَّةِ لِزَيْنِ الدِّينِ الْحَافِيِّ وَجَمِيعُ الْمُرْشِدِينَ يُنَفِّرُونَ الْمُرِيدَ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الْكَرَامَاتِ الْعَيَانِيَّةِ وَيُجِيبُونَ طَلَبَهُ لِلْحَقِّ وَالْمَيْلُ إلَيْهَا مِنْ هَوَسِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا أَلَا تَرَى أَنَّ سُلْطَانَ الْعَارِفِينَ أَبَا يَزِيدَ قَدَّسَ سِرَّهُ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ حَيْثُ قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ عَلَى مَا نُقِلَ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ مِنْ قُوتِ الْقُلُوبِ اللَّهُمَّ إنَّ قَوْمًا طَلَبُوك فَأَعْطَيْتَهُمْ الْمَشْيَ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوك فَأَعْطَيْتَهُمْ طَيَّ الْأَرْضِ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوك فَأَعْطَيْتَهُمْ كُنُوزَ الْأَرْضِ فَانْقَلَبَتْ لَهُمْ الْأَعْيَانُ فَرَضُوا بِذَلِكَ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَدَّ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ مَقَامًا مِنْ مَقَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ اُنْظُرْ إلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ وَقُوَّةِ قَلْبِهِ لَمْ يَرْضَ إلَّا رِضَاهُ وَوَصْلَهُ. وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا حَفْصٍ الْحَدَّادَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ الصَّحَارِي لَوْ كَانَ هُنَا شَاةٌ ذَبَحْنَاهَا، فَإِذَا ظَهَرَ ظَبْيٌ مِنْ الْبَرِّيَّة وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ الشَّيْخِ فَفَرِحُوا جَمِيعًا وَحَزِنَ وَبَكَى الشَّيْخُ فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: إعْطَاءُ الْمُرَادِ إخْرَاجٌ مِنْ الْبَابِ وَلَوْ لَمْ يُعْطِ

مُرَادَاتَ فِرْعَوْنَ لَمَا أَصَرَّ عَلَى دَعْوَاهُ الْبَاطِلَةِ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَ الظَّبْيِ كَذَا فِي حَلِّ الرُّمُوزِ. (وَقَالَ) سُلْطَانُ الْعَارِفِينَ (أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) هُوَ طَيْفُورُ بْنُ عِيسَى الْبِسْطَامِيُّ كَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا أَسْلَمَ وَكَانُوا ثَلَاثَةَ إخْوَةٍ آدَم وَطَيْفُورٌ وَعَلِيٌّ كُلُّهُمْ كَانُوا زُهَّادًا مَاتَ سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَقِيلَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ (لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ قُمْ بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ) نَرَى إذَا كَانَ صَالِحًا نَزُورُهُ وَهُوَ أَمْرٌ اسْتِحْبَابِيٌّ وَنَسْتَفِيدُ وَإِلَّا فَتَنْقَطِعُ شُبْهَتُهُ فِي صِدْقِ شُهْرَتِهِ وَعَدَمِهِ (إلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ شَهَرَ) بِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَاعِلِ (نَفْسَهُ بِالْوِلَايَةِ) فِي هَذَا التَّعْبِيرِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ اعْتِقَادِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ إذْ تَشْهِيرُ النَّفْسِ بِالِاخْتِيَارِ مَذْمُومٌ فَيَنْدَفِعُ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اعْتِقَادٌ فَكَيْفَ يَذْهَبُ إلَى زِيَارَتِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِقَطْعِ الشُّبْهَةِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ سُوءَ ظَنٍّ إلَّا أَنْ يُقَالَ الظَّنُّ مَا يَكُونُ بِالرُّجْحَانِ وَالشُّبْهَةُ فِي التَّسَاوِي بَلْ فِي الْمَرْجُوحِ وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا تَجَسُّسُ الْعَيْبِ وَاسْتِكْشَافُهُ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ لَيْسَ تَعْيِيرًا وَلَا تَذْلِيلًا وَلَا غِيبَةً أَيْضًا كَذَلِكَ. (وَكَانَ رَجُلًا مَقْصُودًا) يَقْصِدُهُ النَّاسُ بِالزِّيَارَةِ وَاسْتِجْلَابِ الدَّعْوَةِ وَأَخْذِ الْهِمَّةِ (مَشْهُورًا بِالزُّهْدِ) بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَتْرِكِ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ (فَمَضَيْنَا إلَيْهِ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ) هَذَا الْقَيْدُ كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ (وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ) ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ (رَمَى بُزَاقَهُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ) أَيْ جِهَتَهَا وَأَصْلُهُ وِجَاهَ قُلِبَتْ الْوَاوُ تَاءً جَوَازًا وَوِجَاهُ الشَّيْءِ جِهَتُهُ (فَانْصَرَفَ أَبُو يَزِيدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّ الْبُزَاقَ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَجَانِبِ الْيَمِينِ بَلْ نَفْسُ الْمَسْجِدِ أَيْضًا، فَإِنْ قِيلَ السَّلَامُ وَاجِبٌ وَذَلِكَ تَرْكُ أَدَبٍ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَهَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ إلَخْ فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْوَاجِبُ لِتَرْكِ الْأَدَبِ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُرَادِ مِنْ كَوْنِ لَفْظِ الْأَدَبِ هُنَا مَا ظَنَنْته وَكَوْنُ رَمْيِ الْبُزَاقِ إلَيْهَا بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ يَعْنِي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَدَبًا عِنْدَ الْعَوَامّ يَكُونُ مُحَرَّمًا عِنْدَ الْخَوَاصِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيمِ لِمَنْ مَعَهُ وَلِمَنْ سَمِعَهُ لِحِفْظِ احْتِرَامِ حُدُودِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَقَالَ هَذَا رَجُلٌ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أَيْ لَمْ يَأْمَنْهُ اللَّهُ تَعَالَى (عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْهِ آدَابَ الشَّرِيعَةِ. (فَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُونًا) مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى (عَلَى مَا يَدَّعِيه) مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ الرُّخَصُ كَالْمُحَرَّمِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ فَيَجْتَنِبُونَ عَمَّا قِيلَ فِيهِ لَا بَأْسَ كَمَا عَنْ الْحَرَامِ الْقَطْعِيِّ وَيَلْتَزِمُونَ مَا إتْيَانُهُ أَوْلَى وَأَفْضَلُ كَالْوَاجِبِ الْقَطْعِيِّ إلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِنْ قِيلَ الْوِلَايَةُ لَا تُوجِبُ الْعِصْمَةَ وَأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ بَلْ الْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاحِ كَالسَّهْوِ وَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ عِنْدَهُمْ كَالْوَاجِبِ وَلَوْ سَلِمَ كُلُّ ذَلِكَ لَلَزِمَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَبِّهَ ذَلِكَ الرَّجُلَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ الْأَدَبِ قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي جَنْبِهِ شَيْءٌ آخَرُ كَحُبِّ الرِّيَاسَةِ

وَقَصْدِ تَشْهِيرِ نَفْسِهِ وَلَعَلَّهُ فَهِمَهُ مِنْ هَيْئَتِهِ وَقَرَائِنِهِ وَأَنَّهُ لَوْ تَقَيَّدَ وَالْتَزَمَ عَلَى مُحَافَظَتِهِ لَمْ يَقَعْ فِي الْخَطَأِ كَمَا قِيلَ فِي سَبِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَطَأً سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ هَيْئَتَهُ مِنْ نَحْوِ الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ وَكَوْنِهِ زَمَانَ تَزَاحُمِ الْمُسْتَرْشِدِينَ والمستأدبين. وَقَدْ يُخَرَّجُ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْنَا أَوَّلًا مِنْ جَوَازِ كَوْنِهِ تَعْلِيمًا لِلْآدَابِ لِمَنْ مَعَهُ أَوْ سَمِعَهُ وَفِعْلُهُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى آكَدِ وَجْهٍ إذْ لَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ يَسْمَعُ هَذَا الصَّنِيعَ مِنْ حَضْرَةِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقِيلَ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ وَحَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاحِ لَمْ يَنْسِبْهُ إلَى الْإِثْمِ وَالْفِسْقِ وَالْكَرَاهَةِ فَفِيهِ خَفَاءٌ. (وَقَالَ لَوْ نَظَرْتُمْ إلَى رَجُلٍ) أَيْ عَلِمْتُمْ إنْسَانًا وَلَوْ امْرَأَةً (وَقَدْ أُعْطِيَ مِنْ) (الْكَرَامَاتِ) مِنْ الْخَوَارِقِ كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَطَيِّ الْمَسَافَةِ (حَتَّى تَرَبَّعَ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ) وَتَعْتَقِدُوا وِلَايَتَهُ وَقُرْبَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] وَاسْتِهْزَاءً مِنْهُ وَاَللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (حَتَّى تَنْظُرُوا) تَعْلَمُوا (كَيْفَ تَجِدُونَهُ) بِلَا تَجَسُّسٍ وَالْوِجْدَانُ أَعَمُّ مِمَّا هُوَ بِالْوَاسِطَةِ كَخَبَرِ عَدْلٍ أَوْ خَبَرِ عُدُولٍ خِلَافًا لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ إلَّا بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ (عِنْدَ الْأَمْرِ) الْإِلَهِيِّ وَلَوْ لِلْأَدَبِ (وَالنَّهْيِ) كَذَلِكَ (وَحِفْظِ الْحُدُودِ) الَّتِي حَدَّهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَفِي إيرَادِ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَفْرَادِ فَتَرْكُ الْوَاحِدِ مُخِلٌّ بِالْمَقْصُودِ وَفِي إيثَارِ الْجَمْعِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَنْوَاعِ أَيْضًا فَكَمَا يَشْمَلُ الْوَاجِبَاتِ يَشْمَلُ الْمَنْدُوبَاتِ إلَى مَا فِيهِ الِاحْتِيَاطُ وَالْأَوْلَى وَكَذَا فِي جَانِبِ (وَأَدَاءِ) وَهُوَ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا لَزِمَ فِي (الشَّرِيعَةِ) كَعَطْفِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ إطْنَابٌ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ قَالُوا يُرَاعَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ إلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ فِي إتْيَانِ الْأَوْلَى وَالْأَحْوَطِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ بَلْ يَجْتَهِدُ أَنْ يَأْتِيَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ يَجُوزُ خَطَؤُهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى حَقِّيَّةَ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ فَيَجْتَهِدُ فِي إتْيَانِ الْعَمَلِ عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الْخِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمِنْ مَقَالِ هَذَا الشَّيْخِ عَلَى مَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ قَوْلُهُ حِينَ سُئِلَ بِأَيِّ شَيْءٍ وَجَدْت هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ بِبَطْنٍ جَائِعٍ وَبَدَنٍ عَارٍ. وَقَوْلُهُ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ الْأَكْلِ وَمُؤْنَةَ النِّسَاءِ ثُمَّ قُلْت كَيْفَ يَجُوزُ لِي أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى هَذَا وَلَمْ يَسْأَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أَسْأَلْهُ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ كَفَانِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ حَتَّى لَا أُبَالِيَ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَوْ حَائِطٌ. (وَقَالَ أَبُو سَلْمَانَ الدَّارَانِيُّ) نِسْبَةً

إلَى دَارَيَّا قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ مَاتَ سَنَةَ خَمْسَ عَشَرَةَ وَمِائَتَيْنِ (رُبَّمَا تَقَعُ) بِطَرِيقِ الْفَيْضِ (فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ) الدَّقِيقَةُ مِنْ غَوَامِضِ الْأَسْرَارِ وَمُنَازَلَاتِ الْأَخْيَارِ وَتَجَلِّيَاتِ الْأَنْوَارِ (مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ) أَيْ الصُّوفِيَّةِ جَمْعُ نُكْتَةٍ مِنْ النُّكَتِ وَهُوَ أَنْ يَنْكُتَ فِي الْأَرْضِ بِقَضِيبٍ أَيْ يَضْرِبُ فَيُؤَثِّرُ فِيهَا وَالنُّكْتَةُ كَالنُّقْطَةِ كَمَا فِي الْجَوْهَرِيِّ وَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَنْكُتُ فِي الْقَلْبِ أَيْ تُؤَثِّرُ فِيهِ بِلُطْفِ بَلَاغَتِهَا (أَيَّامًا) الظَّاهِرُ التَّنْوِينُ لِلتَّكْثِيرِ (فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ قَلْبِي (إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ) ثِقَتَيْنِ (مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) بَيَانٌ لِلشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُمَا عَدْلَانِ مُطْلَقًا أَوْ عَدْلُ الْكِتَابِ مَا يَكُونُ تَوَاتُرًا دُونَ قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ وَكَانَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْخَفَاءِ وَعَدْلُ السُّنَّةِ هُوَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ دُونَ الضَّعِيفَةِ. وَقِيلَ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ وَيُسْتَحَبُّ الْعَمَلُ فِي الْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا أَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِعَدَمِ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ إذْ الْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَأَوْرَدَ الْعَلَّامَةُ الدَّوَانِيُّ أَنَّ مَآلَ الْفَضَائِلِ رَاجِعٌ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدٍ كَالْجَوَازِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ نَحْوِ الِاسْتِحْبَابِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ جَوَازُ رِوَايَةِ الضَّعِيفِ فِيمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ فِي فَضِيلَةِ شَيْءٍ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُحَقِّقُ هَذَا إرَادَةَ مَعْنًى مِنْ لَفْظٍ لَا يَتَحَمَّلُهُ عَلَى أَنَّ رِوَايَتَهُ فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ بِالصَّحِيحِ جَائِزَةٌ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى ضَعْفِهِ، وَالتَّعْوِيلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَحْتَمِلْ لِلْحَظْرِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ وَيُسْتَحَبُّ لِلْأَمْنِ مِنْ الْحَظْرِ وَرَجَاءِ النَّفْعِ فَعُمِلَ بِالِاحْتِيَاطِ ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّقْلِ أَيْضًا صَرِيحُ الرَّدِّ لَهُمْ فِي أَنَّهُمْ ادَّعَوْا مُتَارَكَةَ الشَّرِيعَةِ فِي الْوُصُولِ وَمِمَّا نُقِلَ عَنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِيَ فِي لَيْلِهِ وَمَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِيَ فِي نَهَارِهِ وَمَنْ صَدَقَ فِي تَرْكِ شَهْوَةٍ ذَهَبَ اللَّهُ بِهَا مِنْ قَلْبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَ قَلْبًا تَرَكَ شَهْوَةً لَهُ وَأَيْضًا إذَا سَكَنَتْ الدُّنْيَا الْقَلْبَ تَرَحَّلَتْ مِنْهُ الْآخِرَةُ. وَقَالَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خِلَافُ هَوَى النَّفْسِ وَقَالَ لِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمٌ وَعِلْمُ الْخِذْلَانِ تَرْكُ الْبُكَاءِ وَلِكُلِّ شَيْءٍ ضِدٌّ وَضِدُّ نُورِ الْقَلْبِ شِبَعُ الْبَطْنِ وَكُلُّ مَا شَغَلَك عَنْ اللَّهِ مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَهُوَ عَلَيْك شُؤْمٌ. (وَقَالَ) أَبُو الْفَيْضِ (ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) اسْمُهُ ثَوْبَانُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَذُو النُّونِ بِمَعْنَى صَاحِبِ الْحُوتِ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهُ ضَاعَ مِنْ أَهْلِ سَفِينَةٍ جَوْهَرٌ نَفِيسٌ فَأُسْنِدَ إلَيْهِ سَرِقَتُهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِحَلِفِهِ فَلَمَّا اُضْطُرَّ تَوَجَّهَ سَاعَةً فَأَتَى حُوتٌ مِنْ الْبَحْرِ بِذَلِكَ الْجَوْهَرِ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ (وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَابَعَةُ حَبِيبِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ (فِي أَخْلَاقِهِ) ، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَخْلَاقِ. قَالَ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ تَفْصِيلِ خُلُقِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَأَفْعَالِهِ) عِبَادَةً أَوْ عَادَةً دُونَ الْخَوَاصِّ وَالزَّلَّاتِ وَالْخَطَأِ إنْ وُجِدَتْ (وَأَوَامِرِهِ) فِعْلًا أَوْ تَرْكًا قَطْعًا أَوْ ظَنًّا (وَسُنَّتِهِ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ مَتْلُوًّا أَوْ غَيْرَ مَتْلُوٍّ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، فَإِنَّهُ مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى - {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]-، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ صِدْقِ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ قَالَ تَعَالَى - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]- قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي الْمَوَاهِبِ مَحَبَّةُ اللَّهِ إمَّا فَرْضٌ هُوَ مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ الْمَنَاهِي فَمَنْ وَقَعَ فِي مُحَرَّمٍ فَلِتَقْصِيرِهِ فِي مَحَبَّتِهِ تَعَالَى حَيْثُ قَدَّمَ هَوَى نَفْسِهِ عَلَى رِضَا رَبِّهِ، وَالتَّقْصِيرُ يَكُونُ مِنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا فَيُورِثُ شُغْلُهَا الْغَفْلَةَ وَإِمَّا نَدْبٌ هُوَ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى النَّوَافِلِ وَيَجْتَنِبَ الْوُقُوعَ فِي الشُّبُهَاتِ. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِيمَا يَرْوِي عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ» فَاسْتُشْكِلَ بِحَدِيثِ «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ» الْحَدِيثُ حَيْثُ كَانَتْ

النَّوَافِلُ مُنْتِجَةَ الْمَحَبَّةِ دُونَ الْفَرَائِضِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَكَوْنِ النَّوَافِلِ مُكَمِّلَةً لَهَا أَوْ بِأَنَّ النَّوَافِلَ لِمُجَرَّدِ الْمَحَبَّةِ وَالْفَرَائِضَ لِخَوْفِ الْعِقَابِ، فَإِنْ قِيلَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مُرْتَكِبَ مَعْصِيَةٍ سِيَّمَا كَبِيرَةً لَيْسَ لَهُ مَحَبَّةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ لُعِنَ شَارِبُ خَمْرٍ لَا تَلْعَنُوهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قُلْنَا الْعَلَامَةُ لَيْسَتْ بِدَلِيلٍ مُسْتَلْزِمٍ بَلْ قَدْ تَتَخَلَّفُ أَوْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُتَابَعَةِ مَثَلًا عَلَامَةً كَوْنُ تَرْكِ الْمُتَابَعَةِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِ الْمَحَبَّةِ أَوْ الْمُرَادُ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ وَمِنْ الْحِكْمَةِ الشَّرِيفَةِ مَدَارُ الْكَلَامِ عَلَى أَرْبَعٍ حُبُّ الْجَلِيلِ وَبُغْضُ الْقَلِيلِ وَاتِّبَاعُ التَّنْزِيلِ وَخَوْفُ التَّحْوِيلِ وَمِنْهَا لَا تَسْكُنُ الْحِكْمَةُ مَعِدَةً مُلِئَتْ طَعَامًا وَمِنْهَا تَوْبَةُ الْعَوَامّ مِنْ الذُّنُوبِ وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ مِنْ الْغَفْلَةِ. (وَقَالَ) أَبُو نَصْرٍ (بِشْرٌ الْحَافِيُّ) أَصْلُهُ مِنْ مَرٍّ وَسَكَنَ بِبَغْدَادَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي يَا بِشْرُ هَلْ تَدْرِي بِمَ رَفَعَك اللَّهُ تَعَالَى» فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ «مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِك» قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرِّفْعَةَ بَيْنَ الْأَقْرَانِ لَا عَلَى الْأَعْلَى فَطَلَبُهُ مِنْ الْإِفْرَاطِ «قُلْت لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» أَيْ لَا أَعْرِفُ سَبَبَ الرِّفْعَةِ. «قَالَ» رَفَعَك اللَّهُ «بِاتِّبَاعِك لِسُنَّتِي وَخِدْمَتِك» بِرُوحِك وَقَوْلِك وَجَسَدِك وَبِتَأْوِيلِ مَا يُرَى خَطَأٌ مِنْهُمْ وَبِتَحَمُّلِ أَذَاهُمْ وَزِيَارَتِهِمْ لِاسْتِفَاضَةِ أَنْوَارِهِمْ «لِلصَّالِحِينَ» وَالصَّالِحُ مَنْ يَقُومُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ حَسَبَ الطَّاقَةِ، فَإِنَّ خِدْمَتَهُمْ مِنْ مَحَبَّتِهِمْ وَمَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حُشِرَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ وَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت» وَعَنْ الشَّيْخِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَلَمْ أَزِلَّ أَبَدًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أُجَاهِدُ الْفُقَهَاءَ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ السَّادَةِ حَقَّ الْجِهَادِ وَأَذُبُّ عَنْهُمْ وَأَحْمِي وَبِهَذَا فَتَحَ لِي وَمَنْ ذَمَّهُمْ، فَإِنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي جَهْلِهِ وَلَا يُفْلِحُ أَبَدًا (وَنَصِيحَتِك لِإِخْوَانِك) الْمُسْلِمِينَ تَقْيِيدُهُ بِالْإِخْوَانِ إشَارَةٌ إلَى تَقَوِّي سَبَبِ النَّصِيحَةِ وَإِلَى الِاهْتِمَامِ فِيهَا (وَمَحَبَّتِك لِأَصْحَابِي) كُلِّهِمْ مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ السُّكُوتِ عَمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْحُرُوبِ وَالْمُخَاصَمَاتِ. (وَأَهْلِ بَيْتِي) أَيْ ذُرِّيَّتِي وَأَقْرِبَائِي مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ وَأَوْلَادِ الْعَبَّاسِ وَحَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (وَهُوَ) هَذَا الْمَجْمُوعُ (الَّذِي بَلَّغَك) وَأَوْصَلَك (مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ) مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، فَإِنْ قِيلَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّقْلِ كَمَا عَرَفْت إلْزَامُ هَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ نَفَوْا فِي الْوُصُولِ الِاحْتِيَاجَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ حَصَرُوهُ بِرَفْضِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ السُّنَّةُ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ آنِفًا أَنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعْرِفَةِ وَأَنَّهَا وِجْدَانِيَّةٌ لَا تَصْلُحُ إلْزَامًا لِلْغَيْرِ قُلْنَا إنَّهُ جَوَابٌ إلْزَامِيٌّ لَا تَحْقِيقِيٌّ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مِنْ الْحُجَجِ وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقَامِ الْبُرْهَانِيِّ وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خِطَابِيًّا وَأَيْضًا إذَا أَتْقَنْت مَا فَصَّلْنَا سَابِقًا لَا تَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ قِيلَ إنَّهُ اشْتَهَى الْبَاقِلَاءَ سِنِينَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك فَقَالَ غَفَرَ لِي رَبِّي وَقَالَ كُلْ يَا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ وَاشْرَبْ يَا مَنْ لَمْ يَشْرَبْ وَرُوِيَ عَنْهُ إنِّي لَأَشْتَهِي الشِّوَاءَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا صَفَا لِي ثَمَنُهُ وَقِيلَ لَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ تَأْكُلُ فَقَالَ أَذْكُرُ الْعَاقِبَةَ فَأَجْعَلُهَا إدَامِي. وَقَالَ بِشْرٌ لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الْآخِرَةِ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَهُ النَّاسُ (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ) أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى (الْخَرَّازُ) مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (كُلُّ بَاطِنٍ) أَيْ عِلْمٍ بَاطِنٍ وَهُوَ التَّصَوُّفُ

(يُخَالِفُهُ ظَاهِرٌ) عِلْمٌ ظَاهِرٌ هُوَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَهُوَ بَاطِلٌ) ؛ لِأَنَّهُ وَسْوَسَةٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَزَخْرَفَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ فَادِّعَاؤُهُمْ بِأَنَّ الْوُصُولَ مُحْتَاجٌ إلَى رَفْضِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ وَنَحْوُهُ مُسْتَنِدًا إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْلَافِ لَغْوٌ بَاطِلٌ صِرْفٌ (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ) الْبَلْخِيّ ثُمَّ السَّمَرْقَنْدِيُّ مَاتَ سَنَةَ تِسْعَ عَشَرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (ذَهَابُ الْإِسْلَامِ) انْطِمَاسُ رَوْنَقِهِ وَاسْتِتَارُ أَنْوَارِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى إلَّا اسْمُهُ وَصَيْرُورَتُهُ طَبِيعَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ شَرِيعَةً فَلَمْ يَحْكُمْ الرَّجُلُ إلَّا بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ بِرَأْيِهِ وَعَقْلِهِ (مِنْ) أَجْلِ أُمُورٍ (أَرْبَعَةٍ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا الْعِلْمَ إلَّا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ الْعَوَامّ وَيَتَوَسَّلُوا إلَى جَمْعِ الدُّنْيَا مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ (وَيَعْمَلُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ الصُّوفِيَّةُ الْجُهَّالُ فَتَكُونُ عِبَادَتُهُمْ بِمُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ أَوْ بِمَا رَأَوْا مِنْ النَّاسِ عُلَمَاءَ أَوْ لَا (وَلَا يَتَعَلَّمُونَ) مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْكُتُبِ (مَا يَعْمَلُونَ) بِهِ مِنْ عِلْمِ الْحَالِ (وَالنَّاسَ) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (مِنْ التَّعَلُّمِ يَمْنَعُونَ) بِتَخْوِيفِ مُجَاهِرٍ أَوْ بِتَزْيِينِ مَا يُضَادُّهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا أَوْ بِإِرَاءَةِ كَسْلَانٍ الْعِلْمَ تَرْوِيجًا لِسِلْعَتِهِمْ الْكَاسِدَةِ فِي الدِّينِ وَتَلْبِيسًا لِطَرِيقِ الصَّالِحِينَ حُبًّا لِلْعَاجِلَةِ وَفِدَاءً لِلْآجِلَةِ وَقِيلَ هُمْ الْمُتَزَيُّونَ بِزِيِّ الْمَشَايِخِ الْفَاسِدُونَ الْمُفْسِدُونَ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعِلْمَ فِي الْمَوَاضِعِ الْعِلْمُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَالْمُخَالَفَةُ مُؤَثِّرَةٌ فِي ذَهَابِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ يَلْتَزِمُونَ تَرْكَهُ بَلْ شَرَطُوهُ فِي الْوُصُولِ (كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ كَلَامِ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَيْ مِنْ كَلَامٍ هُوَ لَفْظُ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ (إلَى هُنَا مَنْقُولٌ مِنْ رِسَالَةِ) الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى رُكْنُ الْإِسْلَامِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هَوَازِنَ. (الْقُشَيْرِيُّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيلَ هِيَ رِسَالَةٌ كَتَبَهَا إلَى جَمَاعَةِ الصُّوفِيَّةِ بِبُلْدَانِ الْإِسْلَامِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (اُنْظُرْ) بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ وَاتْرُكْ التَّعَصُّبَ وَالِاعْتِسَافَ (أَيُّهَا الْعَاقِلُ الطَّالِبُ لِلْحَقِّ) الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ (إنَّ هَؤُلَاءِ) السَّادَةَ الْمَذْكُورِينَ الْجُنَيْدِيَّ وَالسَّرِيَّ وَأَبَا يَزِيدَ وَأَبَا سُلَيْمَانَ وَذَا النُّونِ وَبِشْرًا الْحَافِيَّ وَأَبَا سَعِيدٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ كُلَّهُمْ (عُظَمَاءُ مَشَايِخُ عُلَمَاءُ الطَّرِيقَةِ وَكُبَرَاءُ أَرْبَابِ السُّلُوكِ) فِي السُّيُورِ الْمَعْهُودَةِ (إلَى) مَعْرِفَةِ (اللَّهِ) وَأَنْوَارِ تَجَلِّيَاتِهِ. (وَالْحَقِيقَةِ) وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ السُّلُوكِ أَيْ الْوُصُولِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُشَاهَدَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالتَّجَلِّيَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَارْتِفَاعِ الْحُجُبِ مِنْ الْبَيْنِ (وَكُلُّهُمْ) مَعَ سَائِرِهِمْ لَا الْمَذْكُورُونَ هُنَا فَقَطْ فَالضَّمِيرُ لِمُطْلَقِ الْمَشَايِخِ فِي ضِمْنِ هَذَا الْمُقَيَّدِ (يُعَظِّمُونَ الشَّرِيعَةَ الشَّرِيفَةَ) بِكَمَالِ الِاهْتِمَامِ فِي إتْيَانِ حَقَائِقِهَا وَغَايَةِ الْمُرَاعَاةِ فِي دَقَائِقِهَا إلَى أَنْ يَجْعَلُوا رُخَصَهَا كَالْمُحَرَّمَاتِ وَعَزَائِمَهَا كَالْوَاجِبَاتِ فَضْلًا عَنْ تَرْكِ الْأَوْلَى وَإِتْيَانِ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ كَيْفَ وَهُمْ جَعَلُوا الشَّرِيعَةَ لِلْوُصُولِ إلَى مَقَاصِدِهِمْ مَبَادِئَ أَصْلِيَّةً وَمُقَدَّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ وَبِذَلِكَ وَصَلُوا إلَى مَقَامَاتِهِمْ بَلْ فِي حَالِ غَلَبَةِ وُجْدِهِمْ وَحَالِهِمْ أَكْثَرُهُمْ مَحْفُوظُونَ مِنْ اللَّهِ عَنْ تَرْكِ آدَابِ الشَّرِيعَةِ مَعَ شِدَّةِ حَالَتِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ شَيْءٌ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ أَصْلًا وَهَذَا مَقَامُ دَوْلَةِ السَّلْطَنَةِ الْبَايَزِيدِيَّةِ كَانَ مَغْلُوبًا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَأَزْمِنَةُ الْعِبَادَاتِ عَادَ إلَى حَالِهِ، وَإِذَا أَدَّى لَوَازِمَ الشَّرِيعَةِ عَادَ إلَى الْغَلَبَةِ وَهَذَا بِبَرَكَةِ صِحَّةِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مَغْلُوبًا دَائِمًا كَالْمَجَانِينِ فَمَعْذُورُونَ. (وَيَبْنُونَ عُلُومَهُمْ الْبَاطِنَةَ) الْمُفَاضَةَ عَلَيْهِمْ بِالْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ وَالْإِلْهَامِ

الرُّوحَانِيِّ (عَلَى السِّيرَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ) وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ بِمَعْنَى الْأَسْبَقِ فِي كَوْنِهَا مَحْمُودَةً (وَالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ) الَّتِي لَا عِوَجَ فِيهَا وَلَا أَمْتَ عَلَى وَجْهٍ لَوْ جَمَعَ الْحُكَمَاءُ حِكْمَتَهُمْ وَالْعُلَمَاءُ عِلْمَهُمْ؛ لَأَنْ يَجِدُوا فِيهِمْ مُغَايَرَةً لِلشَّرِيعَةِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا خِلَافًا لِهَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ، فَإِنَّ حَالَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ مَا عَرَفْت وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ مَعَ كَمَالِ مُخَالَفَتِهِمْ وَفَرْطِ الْتِزَامِ مُتَارَكَةِ سِيرَتِهِمْ ادَّعَوْا مُتَابَعَتَهُمْ وَأَخْذَ طَرِيقَتِهِمْ مِنْهُمْ مُحْتَجِّينَ بِهِمْ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ وَهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ لِمَا عَرَفْت مِنْ تَفَاصِيلِ سِيرَتِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ (فَلَا يَغُرَّنَّكَ) إذَا عَرَفْت حَقِيقَةَ الْحَقِّ مِنْ تَمَسُّكَاتِ الْمَشَايِخِ بَلْ وَمِنْ لُزُومِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَغُرَّنَّكَ (طَامَّاتُ) جَمْعُ طَامَّةٍ دَاهِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَفُسِّرَ هُنَا بِالْأُمُورِ الْمُضِرَّةِ فِي الدِّينِ (الْجُهَّالِ الْمُتَنَسِّكِينَ) الْمُتَعَبِّدِينَ بِلَا عِلْمٍ وَالْمُتَنَسِّكُ مُظْهِرُ النُّسُكِ أَيْ الْعِبَادَةِ (وَشَطْحُهُمْ) أَيْ مُجَاوَزَتُهُمْ الْحُدُودَ بِالْإِفْرَاطِ قِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُوَلَّدِينَ وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقَامُوسِ وَالْمِصْبَاحِ (الْفَاسِدِينَ) فِي أَنْفُسِهِمْ (الْمُفْسِدِينَ) لِغَيْرِهِمْ (الضَّالِّينَ) لِخُرُوجِهِمْ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ (الْمُضِلِّينَ) لِغَيْرِهِمْ الْأَوَّلُ مُنَاسِبٌ لِلْأَوَّلِ. وَالثَّانِي لِلثَّانِي (بَعْدَ أَنْ كَانُوا زَائِغِينَ) مَائِلِينَ (عَنْ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ) إلَى الْبَاطِلِ وَالْعَاطِلِ الْحَدِيثِ وَالْقَدِيمِ (وَمَائِلِينَ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ خَارِجِينَ عَنْ مَنَاهِجِ) الْمَنْهَجُ هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ (عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ) الَّتِي كَانَ الْكُلُّ مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِهَا (وَمَارِقِينَ) خَارِجِينَ (عَنْ مَسَالِكِ مَشَايِخِ الطَّرِيقَةِ) النَّبَوِيَّةِ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ وَتَرْكِهِمْ التَّحَصُّنَ بِحُصُونِهَا الْمَنِيعَةِ لِاعْتِكَافِهِمْ عَلَى أَصْنَامِ الْأَوْهَامِ لِافْتِتَانِهِمْ بِوَحْيِ الشَّيْطَانِ لَا يَخْفَى أَنَّ كَلِمَاتِ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا تَخْلُو عَمَّا يُسْتَغْنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ لَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الذَّمِّ وَالتَّنْفِيرِ لِتَحَسُّنِ الْمُبَالَغَاتِ وَالتَّأْكِيدَاتِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي التَّفْرِيعِ بِحَسَبِ الذَّوْقِ وَالسَّوْقِ أَنْ يُقَالَ بَدَلُ فَلَا يَغُرَّنَّكَ أَوْ فِي ضِمْنِهِ وَمَعِيَّتِهِ نَحْوُ أَنْ يُقَالَ فَظَهَرَ بُطْلَانُ مَقَالِهِمْ وَامْتِنَاعُ مُدَّعَاهُمْ لَا سِيَّمَا أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِصَلَاحِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَيُسَلِّمُونَ كَلِمَاتِهِمْ وَيَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُمْ وَيُظْهِرُونَ مُعَادَاةَ مُخَالِفِيهِمْ. (فَالْوَيْلُ) الْعُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ أَوْ حُلُولُ الشَّرِّ أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أَوْ دُعَاءٌ يُدْعَى بِهِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ لِقُوَّةِ الْقَبَائِحِ وَشِدَّةِ الْفَضَائِحِ (كُلُّ الْوَيْلِ لَهُمْ) إنْ دَامُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِلَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ إمَّا إخْبَارٌ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِمَّا إنْشَاءٌ بِالدُّعَاءِ بِالثُّبُورِ فَيَلْزَمُ الدُّعَاءُ بِالسُّوءِ وَاللَّائِقُ هُوَ الدُّعَاءُ بِإِصْلَاحِهِمْ وَحُسْنِ حَالِهِمْ قُلْنَا عَدَمُ جَوَازِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إنْ كَانَ فِي شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَقَوْلِك: كُلُّ كَافِرٍ فِي النَّارِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى - {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88]- الْآيَةُ كَمَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي وَصَايَاهُ التُّرْكِيَّةِ (وَلِمَنْ تَبِعَهُمْ) ؛ لِأَنَّ شَبِيهَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ فَضْلًا عَمَّنْ يَلْحَقُ بِهِمْ (أَوْ حَسَّنَ) مِنْ التَّحْسِينِ (أَمْرَهُمْ) مِنْ تِلْكَ الْفُحْشِيَّاتِ وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَسَّنُوا بِالْجَمْعِ لَيْسَ بِحَسَنٍ؛ لِأَنَّ تَحْسِينَ الْمَعَاصِي وَرِضَاهَا مَعْصِيَةٌ بَلْ قَدْ يَكْفُرُ (فَهُمْ) مَعَ اتِّبَاعِهِمْ (قُطَّاعُ طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى) لَا سُلَّاكُ طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى (عَلَى الْعَابِدِينَ) بِمَنْعِهِمْ مُرِيدَ سُلُوكِ الطَّرِيقِ عَنْ السُّلُوكِ فِي طَرِيقِ اللَّهِ بِسِهَامِ الْوَسَاوِسِ وَأَسْلِحَةِ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَوْهَامِ. (يُلْبِسُونَ) مِنْ اللَّبْسِ بِمَعْنَى الْخَلْطِ

الفصل الثالث الاقتصاد في العمل

(الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) اقْتِبَاسٌ مِنْ بَعْضِ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفِيهِ أَبْلَغُ وَآكَدُ رَدٍّ وَالْمَعْنَى يَخْلِطُونَ الْحَقَّ الْمُنَزَّلَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي يَخْتَرِعُونَهُ وَيَكْتُبُونَهُ حَتَّى يَشْتَبِهَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَوْ يَجْعَلُونَ الْحَقَّ مُلْتَبِسًا بِسَبَبِ الْبَاطِلِ الَّذِي يُحْدِثُهُ هَوَاهُمْ وَيُلْهِمُهُ شَيْطَانُهُمْ (وَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) يَعْنِي يُلْبِسُونَ الْحَقَّ لِمَنْ سَمِعَهُ وَيُخْفُونَهُ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْهُ وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ اسْتِقْبَاحَ اللَّبْسِ لِمَا يَصْحَبُهُ مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ وَتَكْرِيرِ الْحَقِّ إمَّا لِأَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ أَوْ لِزِيَادَةِ تَقْبِيحِ حَالِهِمْ فِي التَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْحَقِّ (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَنَّهُ الْحَقُّ الْقَاطِعُ الظَّاهِرُ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا تَسْهِيلَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ وَحَصْرَ الْكَمَالِ لَدَيْهِمْ مِنْ سَخَافَةِ الْعُقُولِ وَإِضَاعَةِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ ثُمَّ قِيلَ لَقَدْ أَحْسَنَ الْمُصَنِّفُ فِي عَدَمِ التَّعْيِينِ فِي طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ إذْ الْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ وَلَا يَجُوزُ سُوءُ الظَّنِّ فِي مُعَيَّنٍ بَلْ اللَّائِقُ التَّأْوِيلُ سَتْرًا لِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ وَلَا التَّجَسُّسُ عَنْ عَوْرَاتِهِمْ بَلْ اللَّازِمُ هُوَ النُّصْحُ فَلَا يُوجَدُ فِي زَمَانِنَا وَبِلَادِنَا بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ عُلَمَاءُ زَمَانِنَا مِنْ تَخْصِيصِ الْكَلَامِ بِالْمَقَاصِدِ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى رُءُوسِ الْأَنَامِ مَعَ التَّجَسُّسِ وَسُوءِ الظَّنِّ مَعَ اعْتِقَادِ ذَلِكَ طَاعَةً وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الْآثَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْكَلِمَاتِ الرَّدِيئَةِ الْبَعِيدَةِ عَنْ الْأَفْهَامِ. أَقُولُ: هَذَا مُوجِبٌ لِتَعَطُّلِ أَبْوَابِ التَّعْزِيرِ وَالْحُدُودِ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ وَسَدِّ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَكَيْفَ يُؤَوَّلُ كَلَامٌ هُوَ صَرِيحٌ بَلْ مُحْكَمٌ فِي الْخَطَأِ وَأَنَّ زَمَانَهُ قَرِيبٌ إلَى زَمَانِنَا وَبَلَدَهُ دِمَشْقُ الشَّامِ، وَقَدْ شَاهَدْنَا فِيهِ مِنْ مُتَصَوِّفَتِهِمْ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ بَلْ يَجِبُ مَنْعُهُ عَنْ الْقَادِرِ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ الِاقْتِصَادِ فِي الْعَمَلِ] [الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ] (الْفَصْلُ الثَّالِثُ) آخِرُ فُصُولِ الْبَابِ الْأَوَّلِ (فِي الِاقْتِصَادِ) أَيْ التَّوَسُّطِ بِلَا إفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ (فِي الْعَمَلِ) بِالْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ (الْآيَاتُ) أَيْ هَذِهِ هِيَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ فِي الْبَقَرَةِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ} [البقرة: 185] أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ {الْيُسْرَ} [البقرة: 185] أَيْ السُّهُولَةَ وَالتَّسْهِيلُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهِيَ إبَاحَةُ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ. أَقُولُ: الْمَفْهُومُ مِنْ الْآيَةِ إرَادَةُ اللَّهِ التَّخْفِيفَ فِي كُلِّ مَا شُقَّ فِيهِ وَلِذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ وَخَرَّجُوا عَلَيْهَا رُخَصَ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ فِي الْعِبَادَاتِ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَالْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْعُسْرِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأَشْبَاهِ {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] لِأَنَّهُ لَا يُشَدِّدُ وَلَا يُضَيِّقُ قَالَ الشَّعْبِيُّ إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْك أَمْرَانِ أَيْسَرُهُمَا أَقْرَبُهُمَا لِلْحَقِّ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا فِي الْمَسْجِدِ يُطِيلُ الصَّلَاةَ فَأَتَاهُ فَأَخَذَ بِمَنْكِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْيُسْرَ وَكَرِهَ لَهُمْ الْعُسْرَ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» وَمِنْهَا آيَةُ النِّسَاءِ {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] فَلِذَلِكَ شَرَعَ لَكُمْ الشَّرِيعَةَ السَّمْحَةَ السَّهْلَةَ وَرَخَّصَ لَكُمْ فِي الْمَضَايِقِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] وَلِهَذَا لَمْ يُثْقِلْ عَلَيْنَا كَمَا ثَقُلَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْعُفُ عَنْ الصَّبْرِ عَنْ الْجِمَاعِ وَلَا يَصْبِرُ عَنْهُنَّ وَلِذَلِكَ أَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَعَنْ الْبَغَوِيّ أَيْ خَلَقَهُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم: 54] وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ لَا يَصْبِرُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَلَا يَتَحَمَّلُ مَشَاقَّ الطَّاعَاتِ. وَقِيلَ أَيْ ضَعِيفُ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ إلَّا مَنْ أُيِّدَ بِنُورِ الْيَقِينِ وَمِنْهَا آيَةُ الْمَائِدَةِ {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] ضِيقٍ فِي الدِّينِ

بَلْ جَعَلَهُ وَاسِعًا وَمِنْهَا فِي الْمَائِدَةِ أَيْضًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الطَّيِّبَاتُ اللَّذِيذَاتُ الَّتِي تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ وَتَمِيلُ إلَيْهَا الْقُلُوبُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَزَمُوا أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْمَطَاعِمَ الطَّيِّبَةَ وَالْمَشَارِبَ اللَّذِيذَةَ وَأَنْ يَصُومُوا النَّهَارَ وَيَقُومُوا اللَّيْلَ وَيَخُصُّوا أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ {وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] لَا تُجَاوِزُوا الْحَلَالَ إلَى الْحَرَامِ وَقِيلَ بِالْإِسْرَافِ فِي الطَّيِّبَاتِ {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] كَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ إطْنَابِيٌّ وَمِنْهَا آيَةُ الْأَعْرَافِ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] يَعْنِي قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي خَلَقَهَا لِعِبَادِهِ أَنْ تَتَزَيَّنُوا بِهَا وَتَلْبَسُوهَا فِي الطَّوَافِ وَغَيْرِهِ وَخَصَّ بَعْضٌ الزِّينَةَ بِاللِّبَاسِ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ وَعَمَّمَهَا بَعْضُهُمْ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الزِّينَةِ فَلَوْلَا تَخْصِيصُ هَذَا الْعَامِّ مِنْ سَائِرِ النُّصُوصِ لَدَخَلَ تَحْتَهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْحُلِيِّ مِنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ. {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] فُسِّرَ الطَّيِّبُ هُنَا بِكُلِّ مَا يُسْتَلَذُّ وَيُشْتَهَى مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ إلَّا مَا وَرَدَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهِ. قِيلَ فِي هَذَا دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى إبَاحَةِ نَحْوِ الْقَهْوَةِ وَالصَّنَمْ مِمَّا تَسْتَلِذُّ بِهِ بَعْضُ الطَّبَائِعِ وَتَجِدُ لَهُ نَفْعًا وَلَيْسَ بِمُسْكِرٍ وَلَيْسَ فِي حُرْمَتِهِ نَصُّ آيَةٍ وَحَدِيثٍ وَقِيَاسٍ وَقَدْ أَشَرْنَا قَبْلُ أَقُولُ وَقَدْ أَشَرْنَا أَيْضًا قَبْلُ كَرَاهَةِ رَدْ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ وَالْفَتَاوَى الْفِقْهِيَّةُ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَأَنْوَاعِ التَّجَمُّلَاتِ الْإِبَاحَةُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي مَنْ لِلْإِنْكَارِ انْتَهَى أَقُولُ تَقْيِيدُ الرِّزْقِ بِالطَّيِّبَاتِ لَيْسَ بِمُلَائِمٍ عَلَى إطْلَاقِ ذَلِكَ وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعَانِي الزِّينَةِ مَا يُنَافِي الْإِطْلَاقَ لِمَا ثَبَتَ حِلُّهُ شَرْعًا وَلَوْ سَلِمَ فَظَاهِرُ الصِّيغَةِ هُوَ الْعُمُومُ لَا التَّخْصِيصُ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ وَدَعْوَى انْحِصَارِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ بِمَا عَدَّ بَعِيدٌ إلَّا أَنْ يُبْنَى الْبَيَانُ عَلَى التَّمْثِيلِ أَوْ عَلَى مَا يَكُونُ أَكْثَرِيًّا لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ التَّحْرِيمُ وَلِذَا صَارَ الْأَصْلُ فِي النِّكَاحِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِلضَّرُورَةِ وَجُعِلَ {مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] بَيَانًا لِلْجَمِيعِ لَا لِلْأَخِيرِ فَقَطْ يَخْرُجُ الْمُلَابِسُ وَالتَّجَمُّلَاتُ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الرِّزْقِ غَيْرُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ ثُمَّ أَقُولُ تَفْصِيلُ مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ أَنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ كَالْكَرْخِيِّ وَفِي الْأَشْبَاهِ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَنَسَبَ الشَّافِعِيَّةُ كَوْنَهُ حُرْمَةً إلَّا بِدَلِيلِ الْإِبَاحَةِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْحَظْرُ ثُمَّ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْأَصْلُ فِيهَا التَّوَقُّفُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حُكْمٍ لَكِنَّا لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ وَيَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا مَا أَشْكَلَ حَالُهُ كَالْحَيَوَانِ الْمُشْكِلِ أَمْرُهُ وَالنَّبَاتِ الْمَجْهُولِ سُمِّيَّتُهُ وَالنَّهْرِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَمْلُوكِيَّتُهُ وَإِبَاحَتُهُ {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32] بِالْأَصَالَةِ أَوْ بِالِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لَهُمْ، وَالْكَفَرَةُ وَإِنْ شَارَكُوهُمْ فِيهَا فَتَبَعٌ {خَالِصَةً} [الأعراف: 32] بِالرَّفْعِ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] ظَرْفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَشْتَرِكُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ فِي الدُّنْيَا وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَهِيَ رَاجِعٌ إلَى الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا

الأدلة من السنة على الاقتصاد في الطاعة

وَيَخْتَصُّ بِهِمَا الْمُؤْمِنُ فِي الْقِيَامَةِ كَذَا رُوِيَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَنْ الْخَازِنِ قِيلَ مَعْنَاهُ خَالِصَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ التَّكْدِيرِ وَالتَّنْغِيصِ وَالْغَمِّ خِلَافُ الدُّنْيَا {كَذَلِكَ} [الأعراف: 32] التَّبْيِينُ وَالتَّفْصِيلُ {نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] الدَّالَّةُ عَلَى الْأَحْكَامِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ كَتَفْصِيلِنَا هَذَا الْحُكْمَ تَفْصِيلُ سَائِرِ الْأَحْكَامِ لَهُمْ وَمِنْهَا آيَةُ ( {طه} [طه: 1] قِيلَ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا صَلَّى رَفَعَ رِجْلًا وَوَضَعَ أُخْرَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى طَه أَيْ طَأْ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْك جَمِيعًا» فَمَعْنَى {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] أَيْ لِتُصَلِّيَ عَلَى إحْدَى رِجْلَيْك فَيَشُقَّ عَلَيْك وَقِيلَ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى إذَا شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَامَ عَلَى إحْدَى رِجْلَيْهِ وَرَفَعَ الْأُخْرَى فَنَزَلَ طَه أَيْ طَأْ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْك» . وَعَنْ الزَّجَّاجِ مَعْنَاهُ بِالْعَجَمِيَّةِ يَا رَجُلُ لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ بِسَائِرِ الْخِطَابَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ إذْ كُلَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ حَبِيبَهُ فِي الْقُرْآنِ خَاطَبَهُ بِمَا يُشْعِرُ بِالْمَدْحِ وَقِيلَ قَسَمٌ بِطَوْلِهِ وَهِدَايَتِهِ وَقِيلَ الطَّاءُ افْتِتَاحُ اسْمِهِ طَاهِرٌ وَالْهَاءُ اسْمُهُ هَادِي أَيْ أَنْتَ طَاهِرٌ بِنَا هَادٍ إلَيْنَا وَقِيلَ يَا إنْسَانُ قِبْطِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ أَوْ لُغَةُ عك مِنْ الْعَرَبِيَّةِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ طُوبَى لِمَنْ اهْتَدَى بِك وَجَعَلَك السَّبِيلَ إلَيْنَا وَعَنْ ابْنِ عَطَاءٍ {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] أَيْ لِتَتْعَبَ فِي خِدْمَتِنَا. وَمِنْهَا آيَةُ الْحَجِّ ( {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] مِنْ ضِيقٍ فَجَعَلَ لِلْمُسَافِرِ الْإِفْطَارَ وَقَصْرَ الصَّلَاةِ وَالْقُعُودَ فِي الصَّلَاةِ لِلْعَاجِزِ وَالْإِيمَاءَ أَيْضًا لِعَاجِزِ الْقُعُودِ وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ رَفْعِ الْحَرَجِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَعَلَ الْكَفَّارَاتِ مَخْرَجًا مِنْ الذَّنْبِ إمَّا بِالتَّوْبَةِ أَوْ بِالْقِصَاصِ أَوْ بِرَدِّ الْمَظْلِمَةِ أَوْ بِنَوْعِ كَفَّارَةٍ وَقِيلَ هُوَ أَخْذُ الْيَقِينِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَعْنِي حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ وَقِيلَ إبَاحَةُ الرُّخَصِ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَإِفْطَارِ الصَّائِمِ لِنَحْوِ الْمَرَضِ وَقِيلَ هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الذُّنُوبِ بِنَحْوِ الْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ حَرَجٍ أَيْ ضِيقٍ بِتَكْلِيفِ مَا يَشْتَدُّ بِهِ الْقِيَامُ عَلَيْكُمْ [الْأَدِلَّةُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ] وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ مِنْ السُّنَّةِ فَهِيَ (الْأَخْبَارُ) وَهِيَ عَشَرَةُ أَحَادِيثَ (خ م) رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا (عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ «جَاءَ رَهْطٌ» جَمَاعَةٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَمَا فِيهِمْ امْرَأَةٌ

وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَجَمْعُهُ أَرْهُطٌ وَأَرَاهِطُ وَأَرَاهِيطُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَفِي ابْنِ مَالِكٍ هُمْ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَعَنْ ثَعْلَبٍ الرَّهْطُ وَالْقَوْمُ وَالنَّفَرُ وَالْمَعْشَرُ وَالْعِتْرَةُ بِمَعْنًى إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي زَوْجَاتِهِ فَالزَّوْجُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ الزَّوْجُ الْبَعْلُ وَالزَّوْجَةُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْبُيُوتَ جَمْعُ كَثْرَةٍ وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ قِلَّةٍ فَيَتَنَافَيَانِ وَيُشِيرُ أَيْضًا إلَى أَنَّ الْبُيُوتَ بِمَعْنَى أَبْيَاتٍ جَمْعُ قِلَّةٍ اسْتِعَارَةٌ وَلَمْ يَعْكِسْ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ تِسْعٌ وَلَمْ يُجَاوِزْ هَذَا الْعَدَدَ قَبْلَ مَوْتِهِ إلَّا إنْ غَلَبَ عَلَى السَّرَارِيِّ وَفِيهِ بُعْدٌ انْتَهَى نَقْلًا عَنْ الْمَوَاهِبِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ أَيْضًا وَالْوَجْهَ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ «يَسْأَلُونَ عَنْ» كَيْفِيَّةِ «عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» إذْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى سِرِّ الرَّجُلِ فِي الْغَالِبِ إلَّا زَوْجَتُهُ اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ وَجْهُ سُؤَالِهِمْ هُوَ اقْتِدَاؤُهُمْ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنْ مَا يُشْرَعُ لَهُمْ فِيهِ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا جَرَمَ يُنَبِّئُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا يُرِيدُ إخْفَاءَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ إظْهَارُهُ بَلْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ الْخَوَاصِّ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَلَزِمَ إظْهَارُهُ لَهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]- وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمْ لِلِاسْتِفْصَالِ وَلِنَحْوِ التَّثْبِيتِ وَالتَّأْكِيدِ وَيَجُوزُ أَنَّهُ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ بَعْضُ عَمَلِهِ فَيُرِيدُونَ بِهِ دَفْعَ اشْتِبَاهِهِمْ «فَلَمَّا أُخْبِرُوا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَاتِ هَذَا إمَّا مَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ أَوْ كَوْنِ أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحَارِمَ لِلْمُؤْمِنِينَ إذْ الْمَحْرَمُ مَنْ يَكُونُ نِكَاحُهَا حَرَامًا عَلَى التَّأْبِيدِ وَأَزْوَاجُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَحْرَمٌ مُؤَبَّدٌ لِلْكُلِّ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ «كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا» أَيْ عَدُّوهَا قَلِيلَةً لِظَنِّهِمْ الْكَثْرَةَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَرَائِنِ آثَارِهِ وَسَائِرِ أَوْضَاعِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ وَجَّهُوا قِلَّتَهَا مِنْهُ «قَالُوا» فِيمَا بَيْنَهُمْ قِيلَ عَنْ ابْنِ مَالِكٍ وَإِنَّمَا قَلَّلَهَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحْمَةً وَشَفَقَةً عَلَى أُمَّتِهِ لِئَلَّا يَلْحَقَهُمْ ضَرَرٌ وَمَشَقَّةٌ بِالِاقْتِدَاءِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِآخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ لِأَوَّلِهِ هَذَا أَيْضًا عَلَى أَنَّ إيجَابَ الِاقْتِدَاءِ الْمَشَقَّةَ فِيمَا يَكُونُ الِاقْتِدَاءُ فِيهِ وَاجِبًا لَا فِي مُطْلَقِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ فِعْلُهُ الْمُطْلَقُ مُبَاحٌ لَهُ وَلَنَا اتِّبَاعُهُ كَمَا عِنْدَ الْجَصَّاصِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَاجِبٌ لَهُ وَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَلْ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ مُبَاحٌ لَهُ وَلَيْسَ لَنَا اتِّبَاعُهُ وَالْكُلُّ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِ كَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ بَعْضٍ. «فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَيْ لَا تُقَاسُ نُفُوسُنَا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالظُّلُمَاتِ الهيولانية، الْمُنْطَبِعَةُ بِالْأَهْوَاءِ الْمَادِّيَّةِ عَلَى نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ الْمَعْصُومَةِ بِالْأَنْوَارِ اللَّاهُوتِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ فَإِنَّهُ «قَدْ غُفِرَ لَهُ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «مَا» أَيْ الْجَمِيعُ الَّذِي «تَقَدَّمَ» فِي ابْتِدَاءِ عُمْرِهِ «مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» . فَإِنْ قِيلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ عِصْيَانٌ وَالْمَغْفِرَةُ تُوجِبُ وُجُودَ الْعِصْيَانِ إذْ الْمَعْدُومُ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمَغْفِرَةُ. قُلْنَا ذَلِكَ عَنْ الْكَبِيرَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا عِنْدَ بَعْضٍ وَإِنْ خَصَّ بَعْضٌ الْعَمْدَ، وَأَمَّا عَنْ الصَّغَائِرِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ عَمْدًا، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ فِي السَّهْوِ نَعَمْ نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ نَفْيُ عَمْدِ الصَّغَائِرِ أَيْضًا وَالْإِجْمَاعُ عَلَى امْتِنَاعِ صَغِيرَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْخِسَّةِ مُنَافِيَةٍ لِلْفَطَانَةِ فَظَهَرَ جَوَازُ صُدُورِ الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضٍ أَوْ فِي السَّهْوِ عِنْدَ آخَرَ بَلْ الْكَبِيرَةُ فِي السَّهْوِ عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ جِنْسَ هَذَا الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الذُّهُولِ مِنْ مَوَاجِبِ رِفْعَةِ مَقَامِهِ وَانْكِشَافِ

عَظَمَتِهِ تَعَالَى لَهُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» «قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ» كُلَّهُ «أَبَدًا» مُدَّةَ عُمْرِي فَلَا أَنَامُ أَصْلًا - {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6]- وَأَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ؛ لِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَأَقْرَبِ الْقُرُبَاتِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ قُرَّةَ عَيْنِ الْحَبِيبِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِمَادَ الدِّينِ وَعُرْوَةَ الْإِسْلَامِ وَأَفْضَلَ الْأَعْمَالِ. «وَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ» كُلَّهُ إلَّا الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّةَ «وَلَا أُفْطِرُ» لِقَهْرِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَعْدَى عَدُوِّ اللَّهِ وَلِئَلَّا تَقْدُمَ عَلَى الْمَعَاصِي وَتَتَجَاسَرَ عَلَى الْهَوَى وَتُوقِعَ صَاحِبَهَا فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ وَهَلَكَةٍ إذْ كُلُّ مَفْسَدَةٍ صَادِرَةٌ عَنْ النَّاسِ لَيْسَ إلَّا مِنْ طَرَفِهَا لَكِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ صَوْمُ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَذَا أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُهُ» لَكِنْ فِي مِنَحِ الْغَفَّارِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا قَالَ الْمُخْتَارُ أَفْضَلِيَّةُ صَوْمِ الدَّهْرِ وَلِذَا سَلَكَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَتَأَمَّلْ. «وَقَالَ الْآخَرُ وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ» مِنْ الْعُزْلَةِ «وَلَا أَتَزَوَّجُ» وَلَا أَتَسَرَّى «أَبَدًا» مُدَّةَ عُمْرِي لِئَلَّا أَشْتَغِلَ بِخِدْمَتِهِنَّ وَبِخِدْمَتِهِنَّ يَحْصُلُ التَّعَلُّقُ بِالدُّنْيَا وَالتَّبَعُّدُ عَنْ الطَّاعَاتِ «فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ» عَلَى عَادَةِ مَجِيئِهِ لِبَيْتِهِ الشَّرِيفِ. وَأَمَّا الْمَجِيءُ لِبُلُوغِ الْخَبَرِ وَكَوْنِهِ لِتَوَاضُعِهِ كَمَا قِيلَ فَبَعِيدٌ «فَقَالَ» كَأَنَّهُ مُعَاتِبًا لَهُمْ لِجَرَاءَتِهِمْ بِمُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا اسْتِئْذَانٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالزَّمَانُ أَوَانُ تَوَارُدِ الْوَحْيِ وَقَدْ كَانَتْ النُّصُوصُ نَاطِقَةً بِعَدَمِ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ وَرَفْعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ «أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» كِنَايَةٌ عَمَّا الْتَزَمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْجَوَابَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ بَلْ لِلتَّقْرِيعِ كَمَا أُشِيرَ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَلْزَمُ الْجَوَابُ. وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ مُسَارَعَةَ بَيَانِ الْحَقِّ «أَمَا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ بَعْدَهُ الْقَسَمُ «وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ» أَكْثَرُكُمْ خَشْيَةً «لِلَّهِ تَعَالَى» وَالْخَشْيَةُ خَوْفٌ مَعَ هَيْبَةٍ وَإِجْلَالٍ وَمُتَابَعَةٍ لِلْعِلْمِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى تَزْدَادُ الْخَشْيَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَخْشَاهُمْ «وَأَتْقَاكُمْ» أَيْ أَشَدُّكُمْ تَقْوَى وَأَكْثَرُكُمْ طَاعَةً «لَهُ» عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ الطَّاعَةَ شُكْرٌ لِلنِّعْمَةِ وَنِعْمَتُهُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَأَوْفَرُ مِمَّا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ - {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]- الْآيَةُ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» فَكَيْفَ تَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ بِأَنِّي أَقَلُّ أَعْمَالًا وَأَدْنَى طَاعَاتٍ وَتَعْتَذِرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ مِنْ ذَنْبِي، فَإِنْ قِيلَ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَلَّذِي أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ مَأْمُونُونَ مِنْ النِّيرَانِ وَسُوءِ الْخَاتِمَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ كَيْفَ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِهِ هَذَا «إنِّي لَأَخْشَاكُمْ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَا أَخْوَفُكُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ» «وَأُوحِيَ إلَى دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا دَاوُد خِفْنِي كَمَا تَخَافُ السَّبُعَ الضَّارِيَ» . وَقَالَ الصِّدِّيقُ الْأَعْظَمُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرَّةً يَا لَيْتَنِي كُنْت هَذِهِ التَّبِنَةَ وَقَالَ أُخْرَى لَيْتَنِي لَمْ أَكُ شَيْئًا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَدِدْت أَنِّي كَبْشٌ فَيَذْبَحَنِي أَهْلِي فَيَأْكُلُونَ لَحْمِي. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -

يَا لَيْتَنِي كُنْت وَرَقَةً مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَهِيَ مِمَّنْ شَهِدَ لَهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّهَا زَوْجَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ إنْبَاءٌ عَنْ الْخَوْفِ فَكَيْفَ وَجْهُهُ. قُلْنَا الْخَوْفُ قِسْمَانِ: خَوْفُ الْعَاقِبَةِ وَخَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْحَقِّ وَاَلَّذِي زَالَ عَنْ الْمَأْمُونِينَ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا خَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّعْظِيمِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْعِرْفَانِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ فَخَوْفُهُ أَكْمَلُ وَأَعْلَى وَمِنْ هَذَا ظَهَرَ كَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْوَفَ وَأَخْشَى مِنْ الْكُلِّ إذْ عِرْفَانُهُ أَكْمَلُ مِنْ الْكُلِّ فَخَوْفُهُ أَعْظَمُ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخَوْفِ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ وَاحْتِرَاقُهُ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الِاسْتِقْبَالِ. ثُمَّ الْمَكْرُوهُ ثَلَاثَةٌ إمَّا بِتَبَدُّلِ الْإِيمَانِ بِالْكُفْرِ فَخَوْفُ الْخَاتِمَةِ وَإِمَّا بِدُخُولِ النَّارِ مَعَ بَقَاءِ الْإِيمَانِ فَخَوْفُ الْعَذَابِ وَإِمَّا بِحَطِّ رُتْبَةٍ مِنْ رُتَبِهِ وَرَدِّهِ إلَى مَرْتَبَةٍ أَدْنَى فَخَوْفُ النُّقْصَانِ وَوَرَاءَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قِسْمٌ آخَرُ أَعْلَى مِنْ الْكُلِّ هُوَ خَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتُهُ فَكُلُّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْخَوْفُ إلَى أَنْ يَنْسَى الْكُلَّ وَبِهَذَا ظَهَرَ سِرُّ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا أَخْوَفُكُمْ مِنْ اللَّهِ» ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْخَوْفِ عَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فَاَلَّذِينَ بُشِّرُوا بِالْجَنَّةِ مَأْمُونُونَ مِنْ خَوْفِ الْعَاقِبَةِ، وَأَمَّا خَوْفُ النُّقْصَانِ فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَأْمُونِينَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ إلَّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَأْمُونِينَ مِنْ خَوْفِ النُّقْصَانِ بِفِعْلِ حَسَنَةٍ هِيَ سَيِّئَةٌ فِي مَرَاتِبِهِمْ كَمَا قِيلَ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ حَتَّى إنَّ الِالْتِفَاتَ إلَى الْمَرْتَبَةِ أَيْضًا ذَنْبٌ عِنْدَهُمْ فَيَخَافُونَ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْضًا خَوْفُ الْإِجْلَالِ لِكَمَالِهِمْ فِي عِرْفَانِ الْأَوْلِيَاءِ. وَأَمَّا خَوْفُ التَّعْذِيبِ فَنَفَوْهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّسَاوِي مَعَ سَائِرِ النَّاسِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَهُمْ خَوْفَ الْإِجْلَالِ وَخَوْفَ النُّقْصَانِ دُونَ خَوْفِ الْعَاقِبَةِ قَطْعًا وَخَوْفَ التَّعْذِيبِ أَيْضًا «وَلَكِنِّي أَصُومُ» تَارَةً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ؛ لِأَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ فَيَقُولُ هَلْ عِنْدَكُنَّ الْيَوْمَ غَدَاءٌ، فَإِذَا قَالُوا لَا قَالَ إنِّي صَائِمٌ» وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] «وَأُفْطِرُ» تَارَةً كَمَا وَرَدَ عَنْ أُسَامَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ فَيُقَالُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ فَيُقَالُ لَا يَصُومُ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ. وَعَنْ أَنَسٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْطِرُ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ ثُمَّ يَصُومَ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاَللَّهِ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا وَاَللَّهِ لَا يَصُومُ» كَذَا نُقِلَ عَنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ «وَأُصَلِّي» فِي لَيْلَةٍ «وَأَرْقُدُ» أَيْ أَنَامُ عَنْ التَّهَجُّدِ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى أَوْ أُصَلِّي بَعْضًا مِنْ اللَّيْلِ وَأَرْقُدُ الْبَعْضَ الْآخَرَ وَلَا أُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ وَإِلَّا تَوَضَّأَ» وَخَرَجَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ يُصَلِّي وَيَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى حَتَّى يُصْبِحَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ «وَأَتَزَوَّجُ» أَعْقِدُ أَوْ أَطَأُ «النِّسَاءَ» ، فَإِنَّ النِّكَاحَ سُنَّةٌ حَالَ الِاعْتِدَالِ وَوَاجِبٌ عِنْدَ التَّوَقَانِ أَيْ الشَّوْقِ الْقَوِيِّ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا عِنْدَ خَوْفِ عَدَمِ إقَامَةِ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا فِي الدُّرَرِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ عَلَى مَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّجْ الْحَرَائِرَ» وَلِهَذَا بَلَغَ زَوْجَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى إحْدَى عَشَرَةَ وَقِيلَ بَلْ أَزْيَدُ مِنْهَا سِتٌّ مِنْ قُرَيْشٍ خَدِيجَةُ عَائِشَةُ حَفْصَةُ أُمُّ حَبِيبَةَ أُمُّ سَلَمَةَ سَوْدَةُ وَأَرْبَعٌ عَرَبِيَّاتٌ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ مَيْمُونَةَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ جُوَيْرِيَةُ وَوَاحِدَةٌ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَمَاتَ عَنْهُ اثْنَتَانِ خَدِيجَةُ وَزَيْنَبُ أُمُّ الْمَسَاكِينِ وَمَاتَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تِسْعٍ، وَأَمَّا سَرَائِرُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرْبَعٌ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ وَرَيْحَانَةُ بِنْتُ سَمْعُونٍ وَأُخْرَى وَهَبَتْهَا لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَأُخْرَى أَصَابَهَا فِي بَعْضِ السَّبْيِ وَتَمَامُهُ فِي مَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيِّ وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ النِّكَاحَ أَمْرٌ مَحْبُوبٌ وَشَيْءٌ مَرْغُوبٌ لَا يَجُوزُ لَوْمُهُ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَأَلْفُ جَارِيَةٍ وَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً أُخْرَى فَلَامَهُ رَجُلٌ يَخَافُ

عَلَيْهِ الْكُفْرَ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ بَعْدَ نَقْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَكَابِرِ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَا لَوْ لَامَهُ أَحَدٌ عِنْدَ إرَادَةِ تَزَوُّجِ مَا فَوْقَ امْرَأَةٍ قَالَ تَعَالَى {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] ثُمَّ اُخْتُلِفَ أَنَّ النِّكَاحَ عِبَادَةٌ أَوْ لَا بَلْ تَضْيِيعُ عِبَادَةٍ فَيَشْكُلُ عَلَيْهِ أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ الْمَنْعُ فِيمَا دُونَ الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِثْبَاتُ عِنْدَ الِاسْتِحْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ أَثْقَلِ السُّنَنِ مَحْمَلًا وَأَصْعَبِ الْحُقُوقِ قَضَاءً وَأَعَمِّ الْأُمُورِ نَفْعًا وَأَجْزَلِ الْقَضَايَا أَجْرًا، فَإِنَّهُ بِمَوْضُوعِهِ لِلدِّينِ تَحْصِينٌ وَلِلْخَلْقِ تَحْسِينٌ وَفِيهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْمُعَرَّضَةِ لِلْآفَاتِ وَجَلْبٌ لِلْغِنَى وَالرِّزْقِ وَتَكْثِيرُ مَوَادِّ أَهْلِ التَّوْحِيدِ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ «فَمَنْ رَغِبَ» أَيْ أَعْرَضَ وَتَرَكَ يُقَالُ رَغِبَ عَنْهُ إذَا لَمْ يُرِدْهُ وَرَغِبَ فِيهِ أَرَادَهُ وَرَغِبَ إلَيْهِ تَوَجَّهَ إلَيْهِ وَبَابُهُ عَلِمَ «عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» إنْ كَانَ التَّرْكُ لِغَيْرِ اسْتِهَانَةٍ وَاسْتِحْقَارٍ فَمَعْنَى لَيْسَ مِنِّي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِي فِي شَرِيعَتِي، وَإِنْ لِأَجْلِ الِاسْتِخْفَافِ فَالْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ الْمُصَدِّقِ بِي، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْفُرُ، فَإِنْ قِيلَ: مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مُنَافٍ لِحَاصِلِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ نَحْوُ حَدِيثِ شِفَاءِ عِيَاضٍ «وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفِرَاشِ وَلَخَرَجْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إلَى اللَّهِ لَوَدِدْت أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ» وَرُوِيَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ نَفْسِهِ وَهُوَ أَصَحُّ. وَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ يُطِيقُ» قُلْنَا لَا يَخْفَى أَنَّ نَحْوَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا تُوجِبُ اسْتِغْرَاقَ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَاسْتِيعَابَ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَايَتُهَا غَلَبَةُ جَانِبِ الطَّاعَاتِ وَالِاهْتِمَامُ بِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ مَقْصُودِ هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ عَيْنُهُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا مِنْ الْخَوَاصِّ وَأَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ وَعَمَّنْ تَبِعَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ قِيلَ كَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ مَا خَفَّفَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} [المزمل: 20] وَكَذَا قَوْلُهُ - {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2]- وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّهْيِ مَرْتَبَةُ إضْرَارِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْمَطِيَّةُ وَمَرْتَبَةُ تَفْوِيتِ حَقِّ الْغَيْرِ وَإِلَّا فَتَرْكُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَالِانْقِطَاعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَاعُدُ لِعِبَادَتِهِ فَمَمْدُوحٌ مَرْغُوبٌ إلَيْهِ. وَقَدْ يُقَالُ الْعِبَادَاتُ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى حَسَبِ الْعَابِدِينَ إذْ الْعَوَامُّ لَيْسُوا بِمُكَلَّفِينَ بِعِبَادَاتِ الْخَوَاصِّ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَرْتَبَةِ " حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ (وَزَادَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ. «وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا آكُلُ اللَّحْمَ» خ م " عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّهُ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قِيلَ لَمْ يَقُلْ فَعَلَ لِمَا فِي الصُّنْعِ مِنْ الْإِحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّرَوِّي وَالْفِكْرِ «شَيْئًا» قِيلَ لَعَلَّهُ مِنْ الْمَآكِلِ اللَّذِيذَةِ أَقُولُ ذَلِكَ إمَّا مِنْ كَوْنِ تَنْكِيرِ شَيْئًا لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ تَنَزُّهِ الْقَوْمِ أَوْ مِنْ تَعَلُّقِ الصُّنْعِ بِهِ «وَرَخَّصَ فِيهِ» أَيْ فِي الشَّيْءِ أَيْ حَكَمَ بِالرُّخْصَةِ تَخْفِيفًا وَلِرَفْعِ الْحَرَجِ «فَتَنَزُّهٌ» أَيْ امْتَنَعَ «عَنْهُ» أَيْ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي صَنَعَهُ وَرَخَّصَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَوْمٌ» مِنْ الصَّحَابَةِ إيثَارًا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَمَنْعًا لِلنَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا وَهَوَاهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّحَابَةِ الِامْتِنَاعُ عَمَّا صَنَعَهُ وَرَخَّصَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أُمِرُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَنُهُوا عَنْ مُخَالَفَتِهِ قُلْنَا لَعَلَّهُمْ ظَنُّوا الْعَزِيمَةَ فِيمَا فَعَلُوهُ كَمَا يُؤَيِّدُهُ لَفْظُ رَخَّصَ مِنْ الرَّاوِي، وَإِنْ لَمْ يُلَائِمْهُ ظَاهِرُ مَا سَيَذْكُرُ. وَأَمَّا

الْجَوَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ وَمَغْفُورٌ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَلَا يُلَائِمُهُ لَفْظُ رَخَّصَ إذْ ذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَهُ لِلْغَيْرِ «فَبَلَغَ ذَلِكَ» التَّنَزُّهُ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قِيلَ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ «فَخَطَبَ» مِنْ الْخُطْبَةِ غَيْرَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ بَلْ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ «فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى» عَلَى عَادَتِهِ فِي ابْتِدَاءِ خُطْبَتِهِ بَلْ فِي مُطْلَقِ أَمْرٍ ذِي شَأْنٍ «ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ» الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ التَّوْبِيخِيِّ وَالْبَالُ الْحَالُ وَالتَّنْكِيرُ لِعَدَمِ التَّفْضِيحِ وَالتَّعْيِيرِ تَجَنُّبًا عَنْ الذَّمِّ «يَتَنَزَّهُونَ» يَتَبَاعَدُونَ «عَنْ الشَّيْءِ» قِيلَ اللَّامُ زَائِدَةٌ «الَّذِي أَصْنَعُهُ» وَالْحَالُ أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِمْ وَأَوْضَاعِهِمْ مَأْخُوذٌ مِنِّي وَأَنَّهُمْ مُلْتَزِمُونَ بِتَبَعِيَّتِي «فَوَاَللَّهِ» الْقَسَمُ لِأَمَارَةِ الْإِنْكَارِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى مَضْمُونِ الْحُكْمِ «إنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاَللَّهِ» وَصِفَاتِهِ «وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» هُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ إذْ كُلَّمَا كَثُرَ الْعِلْمُ كَثُرَتْ الْخَشْيَةُ قِيلَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي مِثْلِهِ فِيهِ حَثٌّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّهْيِ عَنْ التَّعَمُّقِ فِي الْعِبَادَةِ وَذَمِّ التَّنَزُّهِ عَنْ الْمُبَاحِ شَكًّا فِي إبَاحَتِهِ وَفِيهِ الْغَضَبُ مِنْ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُنْتَهِكُ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا بَاطِلًا وَفِيهِ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ بِإِرْسَالِ التَّعْزِيرِ وَالْإِنْكَارِ فِي الْجَمْعِ وَلَا يَتَعَيَّنُ فَاعِلُهُ فَيُقَالُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ وَنَحْوُهُ. وَفِيهِ أَنَّ الْقُرْبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ بِهِ وَشِدَّةِ خَشْيَتِهِ. (خ د) الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ صَحَابِيٌّ ( «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخَى» فِعْلٌ مَاضٍ مِنْ الْإِخَاءِ أَيْ جَعَلَ بَعْضَهُمْ أَخًا لِبَعْضٍ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَعَقَدُوا عَقْدَ الْمُؤَاخَاةِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي دَارِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقِيلَ فِي الْمَسْجِدِ كَتَبُوا فِيهِ كِتَابًا عَلَى أَنْ يَتَوَارَثُوا بَعْدَ الْمَوْتِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَكَانُوا تِسْعِينَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَانَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]

- فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَلِكَ وَقِيلَ الْمُؤَاخَاةُ مَرَّةً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَمَرَّةً بَعْدَهَا فِي الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبَيْن طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَبَيْن عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَيْن حَمْزَةَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ آخَيْت بَيْنَ أَصْحَابِك فَمَنْ أَخِي قَالَ أَنَا أَخُوك وَفِي رِوَايَةٍ أَنْتَ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَذَا نُقِلَ عَنْ تَارِيخِ الْخَمْسِ فِي أَنْفَسِ النَّفْسِ «بَيْنَ سَلْمَانَ» الْفَارِسِيِّ «وَ» بَيْنَ «أَبِي الدَّرْدَاءِ» الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ» فِيهِ نَدْبُ التَّزَاوُرِ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ وَالْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ فِي الْمَصَابِيحِ. عَنْ مُعَاذٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي وَالْمُتَجَالِسِينَ فِي وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِي وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِي» «فَرَأَى» أَيْ سَلْمَانُ (أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً) لَابِسَةً ثِيَابَ الْبِذْلَةِ الْخَلِقَةِ قِيلَ نَظَرُهُ إنَّمَا هُوَ إلَى ثِيَابِهَا لَا بَدَنِهَا أَوْ لَا عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ رَأَى عِلْمِيَّةً أَقْوَالٌ الْأَقْرَبُ هُوَ أَنَّ مَدَارَ الْمَنْعِ هُوَ الشَّهْوَةُ أَوْ أَنَّهَا عَجُوزٌ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهَا مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْغَضِّ وَالْحِجَابِ بَعِيدٌ «فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُك» مَا وَجْهُ لُبْسِك تِلْكَ الْبِذْلَةَ الْخَلِقَةَ «فَقَالَتْ أَخُوك أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا» يَعْنِي أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ الدُّنْيَا وَلَا يَجْمَعُ شَيْئًا مِنْ حُطَامِهَا وَلَيْسَ لَهُ مَيْلٌ وَلَذَّةٌ فِيهَا. «فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ» مَنْزِلَهُ «فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا» لِيُضِيفَهُ وَقَدَّمَهُ إلَيْهِ «فَقَالَ» أَبُو الدَّرْدَاءِ «لَهُ كُلْ» يَعْنِي وَحْدَك «، فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ» سَلْمَانُ «مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ» مَعِي «فَأَكَلَ» مَعَهُ إكْرَامًا لِضَيْفِهِ وَتَطْيِيبًا لِخَاطِرِهِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ أَجْرًا بَلْ مُضَاعَفٌ لِلثَّوَابِ لِنَيْلِهِ ثَوَابَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ وَثَوَابُ قَضَائِهِ بَعْدَهُ وَتَطْيِيبُ خَاطِرِ أَخِيهِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابِيَّةُ الْأَكْلِ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ لَعَلَّ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَكُونَ مَوْضِعَ وِفَاقٍ. «فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ» لِقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ بِلَا نَوْمٍ أَصْلًا وَقِيلَ لِلتَّهَجُّدِ أَقُولُ التَّهَجُّدُ مَا يَكُونُ بَعْدَ النَّوْمِ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ «فَقَالَ» سَلْمَانُ «نَمْ» عَلَى وَزْنِ كَمْ أَمْرٌ حَاضِرٌ مِنْ النَّوْمِ «فَنَامَ» امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ مُرَاعَاةً لِحُقُوقِ الْأُخُوَّةِ «ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ» مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ «نَمْ فَنَامَ فَلَمَّا كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ» عِنْدَ ثُلُثِهِ الْأَخِيرِ وَقِيلَ نِصْفُهُ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِكَوْنِهِ مَعْنَى الْآخِرِ وَلِمُوَافَقَتِهِ لِبَعْضِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ سِيَّمَا السَّحَرِ كَمَا يَأْتِي. «قَالَ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ» لِلتَّهَجُّدِ كَيْفَ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ «رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا الْعَبْدُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْتُهُمَا عَلَيْهِمْ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِقِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّ خِيَارَ أُمَّتِي لَا يَنَامُونَ» وَفِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَشَدُّ لَذَّةً مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يُشْبِهُ نَعِيمَ الْجَنَّةِ إلَّا مَا يَجِدُ أَهْلُ التَّمَلُّقِ فِي قُلُوبِهِمْ بِاللَّيْلِ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ ثَوَابٌ عَاجِلٌ لِأَهْلِ اللَّيْلِ، وَفِي حَقِّ قِيَامِ اللَّيْلِ وَرَدَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] وَقَوْلُهُ - {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]- الْآيَاتُ وَقَوْلُهُ - {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]- «فَقَامَا وَصَلَّيَا» التَّهَجُّدَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَقِيلَ اثْنَتَيْنِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ قِيلَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ «السَّاعَةُ الَّتِي

فِي اللَّيْلِ وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي يُنَادِي فِيهَا الْمُنَادِي مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ» الْحَدِيثُ وَهِيَ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَفِيهَا يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَيْ النُّزُولَ الْمَعْنَوِيَّ وَتَمَامُهُ هُنَاكَ. «فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إنَّ لِرَبِّك» لِكَوْنِهِ رَبَّاك وَأَكْمَلَك وَلِذَا اخْتَارَهُ دُونَ إنَّ لِلَّهِ «عَلَيْك حَقًّا» مِنْ الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا «، وَإِنَّ لِنَفْسِك» الَّتِي هِيَ مَطِيَّتُك فِي تَحْمِيلِ أَحْمَالِ الْعِبَادَاتِ «عَلَيْك حَقًّا» إذْ الرَّاكِبُ يَحْفَظُ مَرْكَبَهُ فَيَلْزَمُ أَدَاءُ ذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنَامِ عَلَى قَدْرِ دَفْعِ الضَّرُورَةِ فَلِإِحْيَاءِ حَقِّ اللَّهِ يَقُومُ فِي اللَّيْلِ وَلِإِحْيَاءِ حَقِّ النَّفْسِ يَنَامُ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُبَاحَاتِ التَّقَوِّيَ لِلطَّاعَاتِ حَتَّى تَكُونَ لَهُ أَجْرًا وَثَوَابًا «، وَإِنَّ لِأَهْلِك» زَوْجَتِك وَأَوْلَادِك وَأَقْرِبَائِك اللَّوَاتِي تَلْزَمُ مُؤْنَتُهَا عَلَيْك وَيَكُونُ حُسْنُ مَعَاشِك بِهَا وَانْتِظَامُ حَالِك عَلَيْهَا فَيَلْزَمُ أَدَاءُ مُؤَنِهِمْ وَالْبِرُّ إلَيْهِمْ وَإِصْلَاحُ أُمُورِهِمْ وَالْمُوَاسَاةُ لَهُمْ «عَلَيْك حَقًّا» وَكَذَا صِلَةُ الرَّحِمِ وَالْحَقُّ مُتَفَاوِتٌ وَمُشَكَّكٌ مِنْ الْوَاجِبِ إلَى الْأَوْلَى «فَأَعْطِ» وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا إذْ الْأَمْرُ تَابِعٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ «كُلَّ ذِي حَقٍّ» مِنْ الثَّلَاثَةِ «حَقَّهُ» الَّذِي عَيَّنَهُ الشَّرْعُ فَلَا تَظْلِمْهُ بِمَنْعِهِ فَيُعَاقِبَكَ اللَّهُ. «فَأَتَى» أَبُو الدَّرْدَاءِ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ» أَيْ قِصَّتَهُ مَعَ سَلْمَانَ «لَهُ» لَعَلَّ ذَلِكَ إمَّا لِدَفْعِ نَحْوِ شَكٍّ فِي خَاطِرِهِ مِنْ صَنِيعِ سَلْمَانَ لِإِيهَامِهِ الْمَنْعَ عَنْ الْخَيْرِ وَلِظَوَاهِرِ بَعْضِ الْآثَارِ فِي عُمُومِ الْقِيَامِ وَإِمَّا لِتَأْكِيدٍ وَتَثْبِيتٍ مِنْ حَيْثُ الِاهْتِمَامُ أَوْ أَنَّهُ يَقْرُبُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَزَمَانُ النُّبُوَّةِ سِيَّمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ فِيهِ اجْتِهَادٌ سِيَّمَا مِنْ الْأُمَّةِ أَوْ أَنَّ صَنِيعَ سَلْمَانَ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ يَطْلُبُ الْيَقِينَ. «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَ سَلْمَانُ» إذْ عِلْمُ سَلْمَانَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِتَقَدُّمِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَلِقُرْبِهِ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى قَالَ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ» دُونَ أَبِي الدَّرْدَاءِ. فَحَاصِلُ الِاحْتِجَاجِ هُوَ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَلْمَانَ فِي مَنْعِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي إرَادَتِهِ الْإِفْرَاطَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ مَحَلُّ الِاحْتِجَاجِ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ بَحْثٌ أُصُولِيٌّ فَافْهَمْ وَفِيهِ أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثُّ الْإِخْوَانِ فِي الدِّينِ عَلَى نُصْحِ بَعْضٍ لِبَعْضٍ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَوُجُوبِ الِانْقِيَادِ فِي الْخَيْرِ وَاسْتِحْبَابِ انْقِيَادِ الْأَصَاغِرِ لِلْأَكَابِرِ وَإِنْ فَهِمَ الْحَقَّ فِي جَانِبِ نَفْسِهِ، وَفِيهَا الْحَثُّ عَلَى مُؤَاخَاةِ الْإِخْوَانِ الصَّالِحِينَ وَنَدْبِ ضِيَافَةِ الْمَزُورِ لِلزَّائِرِ بَلْ نَدْبِيَّةُ خِدْمَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ حَاصِلُ هَذَا الْأَثَرِ مَنْعُ سَلْمَانَ عَنْ تَمَامِ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ إحْيَاءُ كُلِّ اللَّيَالِيِ طَرِيقُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ تَجَرَّدُوا لِلْعِبَادَاتِ وَتَلَذَّذُوا بِالْمُنَاجَاةِ قَالَ فِي الْعَوَارِفِ قِيَامُ كُلِّ اللَّيْلِ طَرِيقُ أَكْثَرِ التَّابِعِينَ وَفِي الْأَشْبَاهِ كَانَ دَأْبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ عَنْ سَائِرِ الْمَشَايِخِ. قُلْنَا: لَعَلَّ أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ مُخْتَصٌّ بِحَالِ الِابْتِدَاءِ وَبِمَنْ تَضَرَّرَ بِالزِّيَادَةِ وَعَادَاتُ السَّلَفِ بِحَالِ الِانْتِهَاءِ لِعَدَمِ تَضَرُّرِهِمْ بَلْ صَارَ السَّهَرُ وَالطَّاعَةُ كَالْغِذَاءِ لَهُمْ كَمَا قِيلَ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ وَلِكُلِّ مَيْدَانٍ رِجَالٌ فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمًا لِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِظَنِّ اعْتِقَادِ نَحْوِ الْوُجُوبِ. (خ س) الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ» أَيْ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ إمَّا بِكَوْنِ لَامِ الْمَسْجِدِ لِلْعَهْدِ أَيْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ أَوْ بِقَوْلِهِ السَّارِيَتَيْنِ أَوْ أَنَّ زَيْنَبَ لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ فِي مَكَّةَ فَلَا يُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ «، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ» أَيْ أُسْطُوَانَتَيْنِ مِنْ أُسْطُوَانَاتِ الْمَسْجِدِ

«فَقَالَ مَا هَذَا الْحَبْلُ» إمَّا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ أَوْ حَقِيقَةُ اسْتِفْهَامٍ يُسْأَلُ عَنْ سَبَبِهِ «قَالُوا» أَيْ الْعَارِفُونَ حَالُ الْحَبْلِ « (حَبْلٌ لِزَيْنَبِ) بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَبَطَتْهُ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عِنْدَ الْفُتُورِ وَالضَّعْفِ فِي الصَّلَاةِ لِكَمَالِ حِرْصِهَا وَقُوَّةِ اهْتِمَامِهَا بِالصَّلَاةِ وَالْعِبَادَاتِ (فَإِذَا فَتَرَتْ) » مِنْ الْفُتُورِ بِمَعْنَى الضَّعْفِ «تَعَلَّقَتْ بِهِ» لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ السُّقُوطِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عِنْدَ إرَادَةِ الْقِيَامِ يَشْكُلُ أَنَّ صَلَاةَ النِّسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَتْ بِجَيِّدَةٍ وَأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ الْمُجِيبِينَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ مَحَارِمِهَا وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْهُمْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَعْرَفَ بِحَالِهَا مِنْهُمْ فَتَأَمَّلْ كُلَّ ذَلِكَ حَتَّى يَظْهَرَ الْوَجْهُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ. «فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا» أَيْ لَا يُفْعَلُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً أَيْ لَا تَفْعَلِي يَا زَيْنَبُ «حُلُّوهُ» أَيْ الْحَبْلَ وَاطْرَحُوهُ «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ» أَيْ أَحَدٌ مِنْ شَأْنِهِ الصَّلَاةُ مُطْلَقًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَمَنْ خَصَّهَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ لَعَلَّهُ تَبَادَرَ مِنْ الْفُتُورِ؛ إذْ أَكْثَرُ الْفُتُورِ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ أَوَانَ النَّوْمِ وَأَنَّ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ لِكَثْرَةِ فَضْلِهِ؛ لِأَنَّ {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6]- لَكِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالتَّقْيِيدُ تَغْيِيرٌ بَلْ تَبْدِيلٌ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ بِلَا تَعَذُّرٍ «نَشَاطَهُ» أَيْ حَالَ نَشَاطِهِ أَوْ عَلَى قَدْرِ نَشَاطِهِ إذْ لَا تَكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ عَدَمُ الطَّاقَةِ عَلَى حَالِهِ سِيَّمَا الْفَضَائِلِ «، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ» أَيْ لِيُؤَخِّرْ إلَى أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ الْفُتُورُ الظَّاهِرُ فَلْيَقْعُدْ عَنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَلْيَشْتَغِلْ بِطَاعَةٍ أُخْرَى؛ إذْ السَّآمَةُ وَالْفُتُورُ لَا يَكُونُ بِكُلِّ عَمَلٍ مَثَلًا إنْ حَصَلَ فُتُورٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَلْيَنْتَقِلْ إلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ سَائِرِ الْأَذْكَارِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْفَضَائِلِ. وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ بَلْ الرَّوَاتِبُ سِيَّمَا الْمُؤَكَّدَاتِ لَا يَقْعُدُ عَنْهَا لِلْفُتُورِ بَلْ لِفُتُورٍ بِالْكُلِّيَّةِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَأْخِيرِهِ بِوَقْتٍ يَزُولُ فِيهِ ذَلِكَ الْكَسَلُ مَعَ بَقَاءِ وَقْتِهِ وَيُعْلَمُ مِنْهُ حَالُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ إمَّا بِالْأَوْلَوِيَّةِ يَعْنِي دَلَالَةَ النَّصِّ أَوْ بِالْمُقَايَسَةِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا رُوِيَ فِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُنَاسِبُهُ مَا رُوِيَ فِي الْمُجْتَبَى وَالْخَانِيَّةِ وَجَامِعِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ تُكْرَهُ لَهُ التَّرَاوِيحُ. انْتَهَى. لَعَلَّ الْمُرَادَ حَالَ غَلَبَةِ النَّوْمِ فَيَدْفَعُ نَوْمَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَأْتِي التَّرَاوِيحَ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ صَنِيعَ النَّبِيِّ هَذَا مِنْ الْمَنْعِ وَالْحَلِّ وَالتَّعْلِيلِ وَالتَّأْكِيدِ يَقْتَضِي كَوْنَ النَّهْيِ لِلْحُرْمَةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اسْتِغْرَاقُ الْأَوْقَاتِ بِالطَّاعَاتِ وَاسْتِيعَابُ الْأَحْوَالِ بِالْعِبَادَاتِ بَلْ إتْعَابُ النَّفْسِ وَقَهْرُهَا بِأَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمَشَايِخِ السَّادَاتِ حَرَامًا صِرْفًا وَهُوَ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يَخْفَى وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْبِدَايَةِ لِتَعَسُّرِهِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا لِلْمَشَايِخِ حَالَ النِّهَايَةِ لِعَدَمِ الْإِتْعَابِ لِرَسْخِ الْعِبَادَاتِ وَلِكَوْنِهَا كَالطَّبِيعَاتِ بَعِيدٌ غَايَةَ الْبُعْدِ؛ لِأَنَّ بِدَايَةَ مَنْ تَنَوَّرَ بِأَنْوَارِ النُّبُوَّةِ سِيَّمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ أَعْلَى مِنْ نِهَايَاتِ الْغَيْرِ وَلَوْ سَلِمَ فَأَيْنَ تُتَصَوَّرُ الْحُرْمَةُ الَّتِي تُوجِبُ الْعُقُوبَةَ. أَقُولُ النَّهْيُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِذَاتِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ مُجَاوِرٍ إلَّا وَصْفًا لَازِمًا فَصَحِيحٌ مَكْرُوهٌ لَا بَاطِلٌ لَعَلَّ وَجْهَ النَّهْيِ هُوَ الْمَشَقَّةُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فَلَا يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ النَّهْيَ فِي مِثْلِهِ هُوَ الْإِرْشَادُ بِعَدَمِ لُزُومِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّشْرِيعِ فَلَوْ قَرَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ لَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ الْوُجُوبُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ فِي فِعْلِ الرَّسُولِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ كَيْفِيَّتَهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ

وَالنَّدْبِ وَتَقْرِيرُهُ كَفِعْلِهِ بَعْدُ فَتَأَمَّلْ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَالْأُمُورِ الصَّعْبَةِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ عَلَيْكُمْ مَرْحَمَةً مِنْ الشَّارِعِ كَصَوْمِ الدَّهْرِ وَإِحْيَاءِ كُلِّ اللَّيْلِ كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَالِكٍ لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ سَبَقَ إشَارَتُهُ «فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» بِالنَّصْبِ جَوَابُ النَّهْيِ أَيْ يُضَيِّقَ اللَّهُ الْأَمْرَ الَّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ وَالْتَزَمْتُمُوهُ قِيلَ: لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّوَافِلِ مُلْزِمٌ بِهَا وَمُوجِبٌ لِإِتْمَامِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ إذْ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ مِمَّا لَزِمَ بِشُرُوعِهِ بَلْ مُطْلَقٌ بَلْ مُخَالِفٌ لَهُ جِنْسًا وَالْأَقْرَبُ مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ التَّشْدِيدَ مُوَصِّلٌ لِلْمَلَالَةِ وَالْكَسَلِ، وَقَدْ ذَمَّهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُكَلَّفَ لَمَّا وَضَعَ عَلَى نَفْسِهِ مَا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْحَمَةً أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مُجَازَاةً لِعَدَمِ قَبُولِ الْمُكَلَّفِ صَدَقَتَهُ تَعَالَى «، فَإِنَّ قَوْمًا» كَانُوا قَبْلَكُمْ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى هَذَا أَوْلَى مِنْ التَّخْصِيصِ بِقَوْمِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» بِالْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الصَّعْبَةِ مُطْلَقًا، وَالتَّخْصِيصُ بِالتَّفْسِيرِ هُنَا بِبَقَرَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ حِينَ سَأَلُوا عَنْ لَوْنِهَا وَسِنِّهَا وَغَيْرِهِمَا كَمَا تَوَهَّمَ مُنَافٍ لِلسَّوْقِ «فَشَدَّدَ» أَيْ اللَّهُ أَوْ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ «عَلَيْهِمْ» بِإِيجَابِ مَا تَكَلَّفُوا بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ أَتَوْا بَعْدَهُ أَنْقَصَ مِنْهُ لَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ لِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهَلْ هَذَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إطْلَاقِ الْكَلَامِ أَوْ بِالِاسْتِمْرَارِ وَالتَّكْرَارِ وَبِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا «فَتِلْكَ» الطَّائِفَةُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَوْجُودِينَ «بَقَايَاهُمْ» بَقَايَا الْأَوَّلِينَ ( «فِي الصَّوَامِعِ» فِي الْقَامُوسِ صَوْمَعَةٌ كَجَوْهَرَةٍ بَيْتُ النَّصَارَى لَعَلَّهُ هُنَا بِمَعْنَى عُمُومِ الْمَجَازِ الشَّامِلِ لِلْيَهُودِ أَيْضًا إذْ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لَفْظِ الدِّيَارِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ هُوَ الْعُمُومُ وَالْإِطْلَاقُ «وَالدِّيَارُ» جَمْعُ دَارٍ ( «رَهْبَانِيَّةً» قِيلَ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعِبَادَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ النَّاسِ مَنْسُوبَةً إلَى الرَّهْبَانِ وَهُوَ الْمَبَالِغُ فِي الْخَوْفِ مِنْ رَهِبَ كَالْخَشْيَانِ مِنْ خَشِيَ وَقُرِئَتْ بِالضَّمِّ كَأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى الرُّهْبَانِ وَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ «ابْتَدَعُوهَا» اخْتَرَعُوهَا وَأَحْدَثُوهَا فِي التَّعْبِيرِ إشَارَةٌ إلَى الذَّمِّ إذْ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُبْتَدَعَ ضَلَالَةٌ نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَهِيَ تُرْهِبُهُمْ فِي الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ وَالْغَيْرَانِ وَالدِّيَرَةِ فَارِّينَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَحَمَّلُوا أَنْفُسَهُمْ الْمَشَاقَّ فِي الْعِبَادَةِ الزَّائِدَةِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ وَاسْتِعْمَالِ الْخَشِنِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ بِالتَّقَلُّلِ مِنْ ذَلِكَ «مَا كَتَبْنَاهَا» مَا فَرَضْنَا الرَّهْبَانِيَّةَ «عَلَيْهِمْ» . فَإِنْ قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْفَرْضِيَّةِ نَفْيُ مُطْلَقِ الطَّاعَةِ فَيَجُوزُ بَقَاؤُهَا عَلَى نَحْوِ الِاسْتِحْبَابِ قُلْنَا هَذَا عَمَلٌ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَالْحَنَفِيَّةُ لَيْسُوا بِقَائِلِي ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ شُرُوطِهِ عِنْدَ مُثْبِتِهِ أَنْ لَا يُرَدَّ لِوَقْعَةٍ وَحَادِثَةٍ خَاصَّةٍ، وَقَدْ كَانَ هَذَا لِلْوَقْعَةِ الْخَاصَّةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْفَرْضِ غَيْرُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَشْهُورِ نَحْوُ قَدَّرْنَا كَوْنَهَا طَاعَةً

(خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ هَذَا الدِّينَ» الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ «يُسْرٌ» ضِدُّ الْعُسْرِ بِمَعْنَى السُّهُولَةِ فِيهِ تَلْمِيحٌ إلَى قَوْله تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] وَإِشَارَةٌ إلَى حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» ؛ لِأَنَّ هَذَا الدِّينَ رُفِعَ فِيهِ التَّكَالِيفُ الشَّاقَّةُ مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ وَلِهَذَا. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ النَّقِيَّةِ الْبَيْضَاءِ» ( «وَلَنْ يُشَادَّ» مِنْ التَّشْدِيدِ بِمَعْنَى الْمُغَالَبَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ «الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ» لَفْظُ أَحَدٍ فَاعِلٌ وَالدِّينَ مَفْعُولٌ لِيُشَادَّ ( «فَسَدِّدُوا» أَيْ قَوِّمُوا مِنْ سَدَّدَهُ تَسْدِيدًا قَوَّمَهُ وَقِيلَ مِنْ السَّدَادِ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ الصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ أَيْ فَوَسِّطُوا فِي الْأُمُورِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ «وَقَارِبُوا» قِيلَ أَيْ إلَى السَّدَادِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ قَارِبُوا إلَى اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِذَلِكَ التَّسْدِيدِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ «وَأَبْشِرُوا» بِالْقَبُولِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِالثَّوَابِ مِنْهُ وَبِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِالْإِفْرَاطِ فِي الطَّاعَاتِ «وَاسْتَعِينُوا» عَلَى أَعْمَالِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ ( «بِالْغَدْوَةِ» هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَنْزِلِ بُكْرَةً وَفِي الْقَامُوسِ هِيَ نَفْسُ الْبُكْرَةِ أَوْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ ( «وَالرَّوْحَةِ» مِنْ الرَّوَاحِ وَهُوَ الْعَشِيُّ أَوْ مِنْ الزَّوَالِ إلَى اللَّيْلِ وَرُحْنَا رَوَاحًا سِرْنَا فِيهِ أَوْ عَمِلْنَا كَذَا فِي الْقَامُوسِ «وَ» اسْتَعِينُوا أَيْضًا ( «بِشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ» بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَقِيلَ السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ. وَالْمَعْنَى عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ اعْمَلُوا آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَاسْتَرِيحُوا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لَكِنَّ الْأَقْرَبَ مَا يُقَالُ إنَّهُ تَشْبِيهُ حَالِ مَنْ أَرَادَ سَفَرَ الْآخِرَةِ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ سَفَرَ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ كَمَا يَسْتَعِينُ فِي سَفَرِهِ بِالذَّهَابِ وَقْتَ الْغَدْوَةِ وَالرَّوَاحِ وَآخِرَ اللَّيْلِ كَذَلِكَ يَسْتَعِينُ مَنْ أَرَادَ سَفَرَ الْآخِرَةِ بِالْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَالِاسْتِرَاحَةِ فِي غَيْرِهَا، فَإِنَّ «الْمُنْبِتَ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» . وَعَنْ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ يَعْنِي اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ وَقْتَ نَشَاطِكُمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ بِحَيْثُ تَسْتَلِذُّونَ الْعِبَادَةَ وَلَا تَسْأَمُوا تَبْلُغُوا مَقْصُودَكُمْ (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ» مِنْ الِاقْتِصَادِ وَالتَّوَسُّطِ نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِفِعْلٍ وَاجِبِ الْحَذْفِ نَحْوُ الْزَمُوا «تَبْلُغُوا» مَجْزُومٌ بِالْأَمْرِ الْمَحْذُوفِ أَوْ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ أَيْ إنْ تَلْزَمُوا الْقَصْدَ تَبْلُغُوا آمَالَكُمْ وَتَصِلُوا إلَى مُرَادَاتِكُمْ أَوْ تَبْلُغُوا رِضَا رَبِّكُمْ وَقَبُولِ أَعْمَالِكُمْ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «عَلَيْكُمْ

بِالْقَصْدِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَمَا جَاوَزَ التَّوَسُّطَ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفَضِيلَةِ وَقَالَ حَكِيمٌ لِلْإِسْكَنْدَرِ أَيُّهَا الْمَلِكُ عَلَيْك بِالِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَيْبٌ وَالنُّقْصَانَ عَجْزٌ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ فِي الدِّينِ أَيْ الْغُلُوَّ فِيهِ وَادِّعَاءَ طَلَبِ أَقْصَى غَايَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَهُ سَهْلًا» الْحَدِيثُ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبْغِضُ الْمُتَعَمِّقِينَ» وَالصَّحَابَةُ أَقَلُّ الْأُمَّةِ تَكَلُّفًا خَيْرُ النَّاسِ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ ارْتَفَعُوا عَنْ تَقْصِيرِ الْمُرْتَفِقِينَ وَلَمْ يَلْحَقُوا بِغُلُوِّ الْمُعْتَدِينَ وَقِيلَ كَتَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي (زطب حب) الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى» عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (رُخَصُهُ) جَمْعُ رُخْصَةٍ هِيَ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ مِنْ صُعُوبَةٍ إلَى سُهُولَةٍ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَصَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا لِلْمَرِيضِ وَفِي التَّلْوِيحِ اسْمٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ. وَعَنْ الْمِيزَانِ اسْمٌ لِمَا يُغَيِّرُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ إلَى تَخْفِيفٍ تَرْفِيهًا وَتَوْسِعَةً عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ وَفِي الْمِرْآةِ الرُّخْصَةُ أَرْبَعٌ ثِنْتَانِ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَثِنْتَانِ مِنْ الْمَجَازِ وَالتَّفْصِيلُ هُنَاكَ وَقِيلَ مَا تُغَيِّرُ مِنْ عُسْرٍ إلَى يُسْرٍ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ رُخْصَةُ الْمُكْرَهِ وَرُخْصَةُ الْمُسَافِرِ وَرُخْصَةُ الْإِسْقَاطِ وَهِيَ مَا وُضِعَ عَنَّا مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الْكَائِنَةِ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَرُخْصَةُ الْمُضْطَرِّ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ كَمَا فِي الْأُصُولِ وَأَسْبَابُ التَّخْفِيفِ سَبْعَةٌ السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَالنَّقْضُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأَشْبَاهِ ( «كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» جَمْعُ عَزِيمَةٍ مِنْ عَزَمَ عَلَى الْأَمْرِ أَرَادَ فِعْلَهُ وَقَطَعَ عَلَيْهِ أَوْ جَدَّ فِيهِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَفِي الْأُصُولِ هِيَ مَا شُرِعَ ابْتِدَاءً غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ الرُّخْصَةُ ضِدُّ الْعَزِيمَةِ وَالْعَزِيمَةُ مَطْلُوبَاتُهُ تَعَالَى الْوَاجِبَةُ، فَإِنَّ أَمْرَهُ تَعَالَى فِي الرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ وَاحِدٌ فَلَيْسَ الْوُضُوءُ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ فِي مَحَلِّهِ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي كَوْنِهِمَا مَطْلُوبَيْنِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا تَقْرِيبَ فِي دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ يَعْنِي الِاقْتِصَادَ وَلَعَلَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الرُّخْصَةَ مُطْلَقُ الْخِفَّةِ فِي الْأَعْمَالِ كَالْجَوَازِ الْأَصْلِيِّ وَالْعَزِيمَةُ هِيَ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ فِي الْأَعْمَالِ كَالِاحْتِيَاطِ وَالْإِتْيَانِ بِالْأَوْلَى، وَإِنْ شِئْت قُلْت الْعَزِيمَةُ طَرِيقُ أَرْبَابِ التَّقْوَى وَالرُّخْصَةُ طَرِيقُ أَرْبَابِ الْفَتْوَى كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ وَغَسْلِ الرِّجْلِ عَزِيمَةٌ وَالْعَمَلُ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ عَزِيمَةٌ وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ رُخْصَةٌ. فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ تَسَاوِي الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ صَرَّحُوا بِتَفَاوُتِهِمَا قُلْنَا قَدْ قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ أَقْوَى فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْمَحَبَّةِ فِي الْمُشَبَّهِ أَصْلُهَا وَفِي الْمُشَبَّهِ بِهِ زِيَادَتُهَا؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ كُلِّيٌّ مُشَكَّكٌ لَا مُتَوَاطِئٌ وَيَرِدُ أَيْضًا أَنَّ تَمَامَ التَّقْرِيبِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا أُرِيدَ مِنْ الرُّخْصَةِ نَحْوُ مَعْنَى الِاقْتِصَادِ أَيْ التَّوَسُّطِ فِي الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ بَلْ يُوهِمُ كَوْنَ الْعَزِيمَةِ الْإِفْرَاطَ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَسْأَلَةُ كَوْنُ الْإِفْرَاطِ مَذْمُومًا، وَقَدْ صَرَّحَتْ كَوْنَهَا مَحْبُوبَةً لَهُ تَعَالَى بَلْ عَلَى وَجْهِ الْأَبْلَغِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَفَاوُتِ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ كَوْنَ الرُّخْصَةِ مَحْبُوبَةً لِلْعَوَامِّ وَكَوْنَ الْعَزِيمَةِ مَحْبُوبَةً لِلْخَوَاصِّ فَلَوْ أَتَى الْعَوَامُّ الْعَزِيمَةَ ابْتِدَاءً لَمْ تَكُنْ مَحْبُوبَةً كَالْعَكْسِ، فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ فَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى صَلَاحِيَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَخَفَّ الْأَعْمَالِ أَيْ الْقَلِيلَةَ الْحَاصِلَةَ بِلَا تَكَلُّفٍ وَجِدٍّ كَثِيرٍ فِي أَوَانِ الِابْتِدَاءِ كَمَا يُحِبُّ

التَّعَمُّقَ وَالْكَثِيرَ فِي الِانْتِهَاءِ وَالْأَوَّلُ لِلْعَوَامِّ وَالثَّانِي لِلْخَوَاصِّ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَقْرُبُ مَا قَالَ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا أَشْبَهَهُ كَانَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ مُشَابَهَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَيَزْجُرُ أَصْحَابَهُ عَنْ التَّبَتُّلِ وَالتَّرَهُّبِ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْعَمَلُ بِالْأَخَفِّ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ غَيْرَ مَا قَلَّدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَاصِلُهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ جَائِزَةٌ وَإِلَّا لَا خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَازَ. وَعَنْ السُّبْكِيّ فِي الْعَمَلِ بِأَخَفِّ مَذْهَبٍ غَيْرَ مَا قَلَّدَهُ إنْ لِضَرُورَةٍ جَائِزٌ، وَإِنْ لِمُجَرَّدِ التَّرْخِيصِ لَيْسَ بِجَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ، وَإِنْ أَكْثَرَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَكُونَ دَيْدَنَهُ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ وَزِيَادَةِ فُحْشِهِ انْتَهَى (حَدّ زطط خز) الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ. (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ» تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ «وَتَعَالَى» ارْتَفَعَ عَنْ إدْرَاكِ الْعُقُولِ «يُحِبُّ» الْمَحَبَّةُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ رِضَاهُ الْكَامِلِ «أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ» كَمَا لَا يَرْضَى «أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» بِالرَّفْعِ نَائِبُ الْفَاعِلِ كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ بَلْ كَرَاهَةٌ (وَفِي رِوَايَةِ خز) ابْنُ خُزَيْمَةَ «كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُتْرَكَ مَعْصِيَتُهُ» بَدَلٌ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى إلَى آخِرِهِ فَإِنْ قُلْت إنَّ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ سِيَّمَا عِنْدَ تَدَاعِي الشَّهْوَةِ مَعَ الْفُرْصَةِ زَائِدٌ فِي الْفَضْلِ مِنْ إتْيَانِ مُطْلَقِ الطَّاعَةِ وَأَيْضًا كَرَاهَتُهُ تَعَالَى الْمَعْصِيَةَ أَقْوَى مِنْ مَحَبَّتِهِ الطَّاعَةَ فَكَيْفَ التَّشْبِيهُ الْمُوجِبُ لِلتَّشَارُكِ بَيْنَهُمَا قُلْت قَدْ سَمِعْت أَقْوَوِيَّةَ وَجْهِ الشَّبَهِ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ. (ططك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ط طك بِفَصْلِ الطَّاءِ عَنْ الطَّاءِ وَفُسِّرَ بِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) اسْمُهُ عُوَيْمِرٌ وَقِيلَ هُوَ لَقَبُهُ وَاسْمُهُ عَامِرٌ وَقِيلَ عُمَيْرٌ وَقِيلَ عُمَرُ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ شَهِدَ بَدْرًا أَوْ لَا مَعَ الِاتِّفَاقِ أَنَّهُ شَهِدَ مَشَاهِدَ كَثِيرَةً مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. (وَوَاثِلَةِ بْنِ الْأَسْقَعِ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ» يَرْضَى «أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ» أَيْ سَتْرَهُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ عِقَابِهِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فَيَنْبَغِي اسْتِعْمَالُ الرُّخْصَةِ فِي مَوَاضِعِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ سِيَّمَا لِعَالِمٍ يُقْتَدَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى مَنْدُوبٍ وَلَمْ يَعْمَلْ بِالرُّخْصَةِ أَصَابَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ فَكَيْفَ بِمَنْ أَصَرَّ عَلَى بِدْعَةٍ فَيَنْبَغِي الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَعَلَّ مُرَادَهُ الِاسْتِعْمَالُ أَحْيَانًا كَمَا قِيلَ إنَّهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْعَزِيمَةِ أَبَدًا وَإِلَّا فَلَا شَكَّ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْعَزِيمَةِ. وَأَنَا أَقُولُ إنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ مُؤَوَّلٌ وَمُقَيَّدٌ بِالِاحْتِيَاجِ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْعَزِيمَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَرَدِّ مَنْ لَا يَرَاهُ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ عِنْدَ عَدَمِهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الرُّخْصَةَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَحُرْمَةِ الْفِعْلِ فَالسَّابِقُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ وُرُودَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِمُجَرَّدِ بَيَانِ الْجَوَازِ لِدَفْعِ وَهْمِ الْحُرْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ فَالْمَعْنَى يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخْصَتُهُ يَعْنِي يَرْضَى وَيَتْرُكُ مُؤَاخَذَتَهُ، وَإِنْ قَامَ دَلِيلُ حُرْمَتِهِ بِنَاءً عَلَى عُذْرِ عَبْدِهِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ الْمَطْلُوبِ هُنَا وَلَوْ أُرِيدَ نَفْيُ الْإِفْرَاطِ الْحَاصِلِ مِنْ عَزِيمَةِ الْعَمَلِ كَإِتْيَانِ أَرْبَعٍ لِلْمُسَافِرِ وَصَوْمِهِ وَقِيَامِ الْمَرِيضِ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِتْعَابِ فَلَوْ سُلِّمَ كَوْنُ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِفْرَاطَ الْمَنْفِيَّ فِي مَطْلُوبِ هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ. (خ م عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ مُتَعَبِّدًا حَافِظًا مُجْتَهِدًا أَحَدَ الْعَبَادِلَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ لَمَّا مَاتَ الْعَبَادِلَةُ صَارَ الْعِلْمُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ إلَى الْمَوَالِي وَكَانَ يُفْتِي فِي الصَّحَابَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ «كُنْت يَوْمًا مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَيْتِهِ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَنْ مَعَنَا فِي الْبَيْتِ قُلْت مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ جَبْرَائِيلُ قُلْت السَّلَامُ عَلَيْك يَا جَبْرَائِيلُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْك وَقَالَ حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْفَ مَثَلٍ وَقَالَ لَوْ تَعْلَمُونَ حَقَّ الْعِلْمِ لَسَجَدْتُمْ حَتَّى تَنْقَصِفَ ظُهُورُكُمْ وَلَصَرَخْتُمْ حَتَّى تَنْقَطِعَ أَصْوَاتُكُمْ وَقَالَ: لَأَنْ أَدْمَعَ دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ» . وَسُئِلَ أَبُوهُ عَمْرٌو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا الْغَيُّ فَقَالَ طَاعَةُ الْمُفْسِدِ وَعِصْيَانُ الْمُرْشِدِ وَمَا الْبَلَهُ فَقَالَ عَمَى الْقَلْبِ وَسُرْعَةُ النِّسْيَانِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةَ مَاءٍ بَاعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَهَنَّمَ شَوْطَ فَرَسٍ. وَعَنْ إسْمَاعِيلَ كُنْت فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَلْقَةٍ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ عَمْرٍو فَمَرَّ بِنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى إذَا فَرَغُوا رَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ صَوْتَهُ فَقَالَ وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى أَهْلِ السَّمَاءِ هُوَ هَذَا الْمَاشِي مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً مُنْذُ لَيَالِيِ صِفِّينَ وَلَأَنْ يَرْضَى عَنِّي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ بَعْدَ الْغَدِ لَأَعْتَذِرُ فَذَهَبَا وَاسْتَأْذَنَ أَبُو سَعِيدٍ فَدَخَلَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ لِعَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَذِنَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْأَمْسِ فَقَالَ الْحُسَيْنُ أَمَا عَلِمْت يَا عَبْدَ اللَّهِ أَنِّي أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى أَهْلِ السَّمَاءِ فَمَا حَمَلَك أَنَّ قَاتَلْتَنِي وَأَبِي يَوْمَ صِفِّينَ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي قَالَ أَجَلْ لَكِنْ «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلِّ وَنَمْ وَصُمْ وَأَفْطِرْ وَأَطِعْ أَبَاك عَمْرًا» فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ صِفِّينَ أَقْسَمَ عَلَيَّ أَبِي فَخَرَجْت وَاَللَّهِ مَا كَثَّرْت لَهُمْ سَوَادًا وَلَا سَلَلْت سَيْفًا وَلَا طَعَنْتُ بِرُمْحٍ وَلَا رَمَيْتُ بِسَهْمٍ أَسْلَمَ قَبْلَ أَبِيهِ تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَقِيلَ بِمَكَّةَ وَقِيلَ بِمِصْرَ وَقِيلَ بِفِلَسْطِينَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَبُوهُ أَكْبَرُ مِنْهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. «أَنَّهُ قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَيْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ فَحَذَفَ الْفَاعِلَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ نَفْسُ الْفِعْلِ يَعْنِي الْخَبَرَ «أَنِّي أَقُولُ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ» الظَّاهِرُ جَمِيعُ النَّهَارِ لِعَدَمِ الْعَهْدِ وَدَلِيلُ الْجِنْسِ بَلْ السَّوْقِ وَجَوَابُ النَّبِيِّ قَرِينَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَقَالَ أَهْلُ الْبَيَانِ اللَّامُ فِي الْخِطَابِيَّاتِ لِلِاسْتِغْرَاقِ «وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ» أَيْ جَمِيعَ اللَّيَالِي كَمَا عَرَفْت «مَا عِشْتُ» أَيْ مُدَّةَ حَيَاتِي قِيلَ بِاضْطِرَابِ هَذَا الْحَدِيثِ وَدُفِعَ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَتَبَّعَ اخْتِلَافَهُ يَظْهَرُ دَوْرُهُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا نَذْرٌ بِاسْتِغْرَاقِ الْعُمْرِ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ عَلَى طَرِيقِ الْجَزْمِ وَظَاهِرٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ مَوَانِعَ مُوجِبَةٍ لِلْعَجْزِ عَنْهُ فَكَيْفَ يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا النَّذْرِ قُلْت: إنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ بِمَعْنَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَأَنَّ النَّذْرَ مُلْحَقٌ بِالْيَمِينِ وَإِمْكَانُ الْبِرِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ الْمَدْيُونُ وَقْتًا عَلَى الْأَدَاءِ وَلَمْ يَلْقَ رَبَّ الدَّيْنِ بَرَّ وَيُعْذَرُ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ قَالَ فِي التتارخانية لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَأْتِ مِنْ قِبَلِهِ. «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» لِعَبْدِ اللَّهِ «أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ فَقُلْت» يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ «لَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي» أَيْ أَفْدِيكَ بِهِمَا هَذَا مَثَلٌ يُقَالُ عِنْدَ إظْهَارِ زِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ أَوْ دُعَاءٌ لَعَلَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ بِطُولِ الْعُمْرِ أَوْ بِالْخَلَاصِ عَنْ جَمِيعِ الْمَضَارِّ «قَدْ قُلْته» أَيْ ذَلِكَ الْخَبَرَ النَّذْرَ الْمَذْكُورَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ» إتْيَانُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ إطَالَةِ الْكَلَامِ مَعَ الْأَحِبَّاءِ لِلِاسْتِلْذَاذِ. «قَالَ: فَإِنَّكَ» لَعَلَّ الْفَاءَ تَعْلِيلِيَّةٌ يَعْنِي إنْ نَذَرْت بِذَلِكَ، فَإِنَّك «لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ» أَيْ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ لَا الْمُمْكِنَةِ وَلَا تَكْلِيفَ فِي مِثْلِهِ وَلَوْ نَدْبًا إلَّا بِالْمُيَسَّرَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ مِنْ أَقْدَمِهِمْ إسْلَامًا وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا وَأَوْفَرِهِمْ وَرَعًا وَأَقْوَاهُمْ صُحْبَةً فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ وَيَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا النَّذْرِ قُلْنَا يَجُوزُ وُرُودُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ شُيُوعُ

هَذَا الْحُكْمِ أَوْ يَفْهَمُ مِنْ عُمُومِ النُّصُوصِ جَوَازَ الِاسْتِيعَابِ أَوْ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَهِمَهُ عَلَى بَقَاءِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ شَرِيعَةً لَنَا وَلَمْ يَقِفْ عَلَى دَلِيلِ الْإِنْكَارِ وَالنَّسْخِ وَيَجُوزُ أَنْ يَفْهَمَ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ هَذَا الْإِفْرَاطِ فِي الطَّاعَةِ نَفْيَ التَّكْلِيفِ اللُّزُومِيِّ لَا النَّدْبِيِّ ثُمَّ وَجْهُ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَحْمِلَ الْأَفْعَالَ الشَّاقَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِعَبْدِ اللَّهِ وَالْمَطْلُوبُ لِلْجَمِيعِ قُلْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» وَأَنَّهُ قَدْ يَنْتَقِلُ مِنْ عُمُومِ الْعِلَّةِ إلَى عُمُومِ الْحُكْمِ وَلَا شَكَّ فِي عُمُومِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ لِلْجَمِيعِ «فَصُمْ» أَيْ تَارَةً لِحَقِّ مَوْلَاك وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ «وَأَفْطِرْ» تَارَةً لِحَقِّ نَفْسِك وَعِرْفَانِ نِعْمَةِ رَبِّك وَإِرْفَاقِ نَفْسِك؛ لِأَنَّهَا مَطِيَّتُك وَلِتَقْوَى إلَى طَاعَةِ رَبِّك لَا لِهَوَى نَفْسِك وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ صُمْ فِي الْأَيَّامِ الْمَأْثُورَةِ لِفَضْلِهَا كَصَوْمِ دَاوُد وَأَيَّامِ الْبِيضِ كَمَا سَيُشَارُ إلَيْهِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ صَوْمِ الدَّهْرِ. وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ رَجَّحَهُ عَلَى صَوْمِ دَاوُد لَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يَصُومُ» وَمِثْلُهُ خَبَرُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «وَنَمْ» لِاسْتِرَاحَةِ نَفْسِك؛ لَأَنْ تَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّك «وَقُمْ» لِلتَّهَجُّدِ وَلِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] الْآيَةُ وَيُحْتَمَلُ نَمْ يَعْنِي كُلَّ بَعْضِ اللَّيَالِيِ وَقُمْ أَيْضًا بَعْضَ اللَّيَالِيِ لَا كُلَّ جَمِيعِ اللَّيَالِيِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ إقَامَةَ كُلِّ اللَّيْلَةِ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ وَالْمَدَارُ عِنْدَنَا هُوَ التَّيْسِيرُ وَالنَّشَاطُ؛ لِأَنَّ أَمْرَنَا عَلَى التَّوَسُّطِ وَالِاقْتِصَادِ وَالرِّفْقِ وَالْمُطَاقِ. «وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ» أَيْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الظَّاهِرُ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ لَا لِلْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَتُهُ «ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» رُوِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هِيَ أَيَّامُ الْبِيضِ. وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَوَّلُ الشَّهْرِ وَأَوْسَطُهُ وَآخِرُهُ وَيُقَالُ أَبْهَمَ الثَّلَاثَةَ لِكِفَايَةِ أَيِّ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ وَقِيلَ مِنْ أَوَّلِهِ وَقِيلَ مِنْ آخِرِهِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» فَالثَّلَاثَةُ مُعَادِلَةٌ لِلشَّهْرِ «وَذَلِكَ» الثَّلَاثَةُ «مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» يَشْكُلُ إنْ أُرِيدَ تَضْعِيفَ الثَّلَاثَةِ مَعَ تَضْعِيفِ الدَّهْرِ فَالْمُمَاثَلَةُ مُنْتَفِيَةٌ إذْ كُلُّ يَوْمٍ دَهْرٌ فَحَسَنَتُهُ أَيْضًا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ هَذَا التَّضْعِيفَ مُخْتَصٌّ بِهَذَا النَّصِّ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الدَّهْرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يُخَصَّصُ عُمُومُ نَصِّ الْقُرْآنِ وَدَعْوَى أَنَّ صِيَامَ الدَّهْرِ لَا يَكُونُ حَسَنَةً لِمِثْلِ هَذَا النَّهْيِ وَلَوْ كَانَ حَسَنَةً لَا يَكُونُ ثَوَابُهَا مُضَاعَفًا بِالْعَشَرَةِ صَعُبَ سِيَّمَا بِمُلَاحَظَةِ مَا سَمِعْت مِنْ الْفُقَهَاءِ فَلْيُتَأَمَّلْ. «قُلْت» يَعْنِي «عَبْدَ اللَّهِ» الْمَذْكُورَ «، فَإِنِّي أُطِيقُ» مِنْ الطَّاقَةِ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ «أَفْضَلُ» أَيْ أَكْثَرُ أَوْ مَا يَزِيدُ فَضْلُهُ «مِنْ ذَلِكَ قَالَ» لَهُ «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «صُمْ يَوْمَيْنِ وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» «قُلْت» يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ: «فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا» وَهُوَ صَوْمُ دَاوُد الْمُشَارُ إلَيْهِ بِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ أَخِي دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ وَمَأْمُونٌ مِنْ تَفْوِيتِ بَعْضِ الْحُقُوقِ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ بَعْدَ تَحْدِيدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَظِيفَتَهُ لَيْسَ إلَّا مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ قُلْت لَعَلَّهُ فَهِمَ الْإِذْنَ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالِاسْتِطَاعَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يُوهِمُ تَكْذِيبَ النَّبِيِّ فِي قَوْلِهِ لَا تَسْتَطِيعُ وَرَدَّهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ بَلْ حِكَايَةِ حَالِهِ وَأَنَّ جَرَيَانَ التَّكْذِيبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ «فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» وَعَلَى نَبِيِّنَا قِيلَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ إنَّمَا أَحَالَهُ عَلَى صَوْمِ دَاوُد وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ أَعْبَدَ النَّاسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ - {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]- أَيْ صَاحِبُ قُوَّةٍ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْأَوَّابُ الرَّجَّاعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي تَأْثِيرِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الِاعْتِيَادِ تَعَبٌ، وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا وَلِأَنَّ الِاعْتِيَادَ عَلَى الدَّوَاءِ يُبْطِلُ أَثَرَهُ، وَإِذَا مَرِضَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَلِأَنَّ

الْعَبْدَ فِيهِ بَيْنَ صَبْرِ يَوْمٍ وَشُكْرِ يَوْمٍ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُرِضَتْ عَلَيَّ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَكُنُوزِ الْأَرْضِ فَرَدَدْتُهَا فَقُلْتُ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا أَحْمَدُكَ إذَا شَبِعْتُ وَأَتَضَرَّعُ إلَيْك إذَا جُعْتُ» «وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ» ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَسِّطٌ بِلَا إفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ وَلِأَنَّهُ عَدَالَةٌ لَيْسَ فِيهِ جَوْرٌ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الطَّاعَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ قُوَّةِ الْبَدَنِ وَمَشَقَّةَ الطَّاعَةِ. (وَفِي رِوَايَةٍ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ» اُسْتُشْكِلَ بِنَحْوِ حَدِيثِ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ» وَحَدِيثُ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَعْبَانُ» لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَفْضِيلَ صَوْمِ دَاوُد بِاعْتِبَارِ الطَّرِيقَةِ وَالْحَدِيثُ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ فَطَرِيقَةُ دَاوُد فِي الْمُحَرَّمِ أَفْضَلُ مِنْ طَرِيقَتِهِ فِي غَيْرِهِ كَذَا وَفَّقَ جَمْعٌ وَضُعِّفَ وَوُفِّقَ الْحَدِيثَانِ بِأَنَّ حَدِيثَ شَعْبَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ فَضْلَ الْمُحَرَّمِ أَوْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَفْضَلُ اسْتِقْلَالًا وَشَعْبَانُ أَفْضَلُ تَبَعًا لِرَمَضَان ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ نَفْلًا الْمُحَرَّمُ ثُمَّ رَجَبٌ ثُمَّ بَقِيَّةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثُمَّ شَعْبَانُ وَلَا يُعَارِضُهُ «إكْثَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَوْمَهُ دُونَ شَهْرٍ» ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَلِمَهُ آخِرًا وَلَعَلَّهُ لِعَارِضٍ انْتَهَى «قُلْت» أَيْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» لِاعْتِمَادِهِ عَلَى قُوَّةِ نَفْسِهِ رَغْبَةً لِلطَّاعَاتِ وَحِرْصًا عَلَيْهَا «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى رِوَايَةِ " أَفْضَلُ الصِّيَامِ " مُطَابَقَةً وَعَلَى رِوَايَةِ " أَعْدَلُ الصِّيَامِ " الْتِزَامًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْتَهَى فِي الْفَضْلِ وَلَا فَرْدَ مِنْ الصَّوْمِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ إذْ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَكَذَا أَفْضَلُ الَّذِي بِمَعْنَى الْفَرْدِ السَّابِقِ وَعَبْدُ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَكَيْفَ يُعِيدُ هَذَا الْكَلَامَ قُلْنَا لِحِرْصِهِ عَلَى الطَّاعَةِ يُحْمَلُ الِاسْتِغْرَاقُ عَلَى نَحْوِ الِادِّعَائِيِّ وَالْإِضَافِيِّ كَمَا هُوَ حَالُ الْخَطَّابِيِّ أَوْ لَعَلَّهُ يُفْهَمُ مِنْ نَصٍّ آخَرَ أَفْضَلِيَّةُ الزِّيَادَةِ وَصَوْمُ الدَّهْرِ وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى فَضْلِ السَّرْدِ وَحَمَلُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِعَبْدِ اللَّهِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ وَأُيِّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَنْهَ حَمْزَةُ عَنْ السَّرْدِ (وَزَادَ فِي رِوَايَةِ «فَإِنَّ لِجَسَدِك عَلَيْك حَقًّا» فَيَلْزَمُ عَلَيْك إعْطَاؤُهُ مِنْ تَقْوِيَتِهِ وَتَنْمِيَتِهِ فَتَقُومُ بِأَعْمَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. «، وَإِنَّ لِزَوْجِك» أَيْ زَوْجَتِك، وَقَدْ سَمِعْت إطْلَاقَ لَفْظِ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ زَوْجُ الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] «عَلَيْك حَقًّا» بِالْوَطْءِ لِتُحْصِنَهَا عَنْ الزِّنَا وَلَأَنْ تَقُومَ فِي نَحْوِ نَفَقَتِهَا وَلِرَجَاءِ وَلَدٍ صَالِحٍ هُوَ نَتِيجَةُ التَّزَوُّجِ وَفَائِدَتُهُ ( «، وَإِنَّ لِزَوْرِك» بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ جَمْعُ زَائِرٍ كَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ قَالَ فِي الْقَامُوسِ الزَّوْرُ الزَّائِرُ وَالزَّائِرُونَ يُشِيرُ إلَى اسْتِوَاءِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. «عَلَيْك حَقًّا» بِالْخِدْمَةِ وَالْإِكْرَامِ وَالتَّأْنِيسِ بِالضِّيَافَةِ وَالْأَكْلِ مَعَهُ، فَإِنْ قِيلَ يُمْكِنُ لِعَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ هُنَا إنِّي أُؤَدِّي هَذِهِ الْحُقُوقَ وَأَفْعَلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قُلْنَا الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا شُرِعَ حُكْمٌ بِعِلَّةٍ فَلَا يَنْتَفِي ذَلِكَ الْحُكْمُ بِانْتِفَاءِ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَأَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تُشْرَعُ لِجِنْسِ الْحُكْمِ لَا لِشَخْصِهِ كَرُخْصَةِ السَّفَرِ لَا تَزُولُ بِزَوَالِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ. (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَلَمْ أُخْبَرْ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «أَنَّك تَصُومُ الدَّهْرَ» إلَّا الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّةَ «وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ» قِيلَ كُلُّهُ فَفِيهِ نَظَرٌ «كُلَّ لَيْلَةٍ» بِلَا نَوْمٍ أَصْلًا الظَّاهِرُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَيْسَ

كُلُّهَا فِي الصَّلَاةِ كَمَا حُمِلَ «فَقُلْت بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ» هَذَا الْخَبَرُ خَبَرٌ آخَرُ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا فَفِيمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ الْوَاقِعِ هُوَ النَّذْرُ لَا الْفِعْلُ وَأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ الْقِيَامُ لَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَهُنَا فِعْلُ الصَّوْمِ وَالْقِرَاءَةِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ مَا يُقَرِّبُ إلَى الشَّيْءِ سِيَّمَا بِتَدَاعِي أَسْبَابِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ وُقُوعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَإِنَّ قِيَامَهُ كَأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقِرَاءَةِ. «وَأَنِّي لَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ» أَيْ بِكُلٍّ مِنْ صَوْمِ الدَّهْرِ وَقِيَامِ كُلِّ اللَّيْلِ «إلَّا خَيْرًا» تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِتْيَانِ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَاسْتِغْرَاقِ عُمْرِي فِي ذَلِكَ لَا شَيْئًا مِمَّا لَا يُحْمَدُ شَرْعًا كَالرِّيَاءِ وَجَلْبِ الدُّنْيَا وَمَدْحِ الْخَلْقِ «وَفِيهَا» أَيْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ «قَالَ» لِعَبْدِ اللَّهِ «وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ» أَيْ الْخَتْمَ «فِي كُلِّ شَهْرٍ» نُقِلَ عَنْ الْقُنْيَةِ فِي حَقِّ الْخَتْمِ أَقْوَالٌ وَالْأَحْسَنُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً. «قَالَ» عَبْدُ اللَّهِ «قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنَا أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ» أَيْ سَبْعَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا «لَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ إلَى طَرَفَيْهِ فَلَا يَنْقُصُ مِنْ الشُّهُورِ وَلَا يُزَادُ عَلَى السَّبْعِ وَيَخْتِمُ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَرَاتِبِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَنَشَاطِهِ وَيُؤَيِّدُهُ زِيَادَةُ قَوْلِهِ «اقْرَأْ فِي كُلِّ عِشْرِينَ» . وَفِي أُخْرَى «اقْرَأْ فِي كُلِّ عَشْرَةٍ» فَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ لِكَوْنِ الْقُبْحِ مِنْ الْغَيْرِ كَمَا عَلَيْهِ كَثِيرُونَ وَقَالَ بَعْضٌ هَذَا النَّهْيِ لِلرِّفْقِ وَخَوْفِ الِانْقِطَاعِ فَاخْتَارَ بَعْضٌ فِي الْخَتْمِ خَمْسًا وَآخَرُ سِتًّا وَآخَرُ يَخْتِمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَفِي الْإِتْقَانِ أَكْثَرُ مَا وَرَدَ الْخَتْمُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَمَانِ مَرَّاتٍ أَرْبَعٌ فِي اللَّيْلِ وَأَرْبَعٌ فِي النَّهَارِ ثُمَّ الْخَتْمُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعًا ثُمَّ ثَلَاثًا ثُمَّ خَتْمَتَيْنِ ثُمَّ خَتْمَةً وَحَسُنَ بَعْضُ الْخَتْمِ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ وَكُرِهَ فِي الْأَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ لِحَدِيثٍ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد «لَا تَقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ لَا دَلَالَةَ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ حَزْمٍ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْفَهْمِ تَحْرِيمُ الْقِرَاءَةِ أَقُولُ لَوْ جُعِلَ الْحَدِيثُ الثَّانِي مُفَسِّرًا وَبَيَانًا لَهُ يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلْكَرَاهَةِ، وَإِنْ لَمْ تُمْكِنْ حُجِّيَّتُهُ لِلْحُرْمَةِ إمَّا لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ أَوْ لِكَوْنِ قُبْحِهِ لِمَعْنًى فِي الْغَيْرِ وَمُجَاوِرٌ وَلَا وَصْفٌ لَازِمٌ، فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ مَا كَثُرَ مِنْ الْخَيْرِ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِحَدِيثِ «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» قُلْنَا قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ فِي حَدِيثٍ مُتَعَلِّقٍ بِفَضْلِ الذِّكْرِ عَنْ الشَّيْخِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَدْرِ التَّعَبِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ بَلْ يُؤْجِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَمَلٍ قَلِيلٍ مَا يُؤْجِرُ عَلَى كَثِيرٍ، فَإِنَّ الثَّوَابَ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَاوُتِ الرُّتْبَةِ فِي الشَّرَفِ. وَأَمَّا حَدِيثُ «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ مِنْ الشَّارِعِ انْتَهَى. ثُمَّ أَقُولُ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُظَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَقْوِيَائِهِمْ هُوَ السَّبْعُ وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرٍ وَبَعْضُهُمْ فِي شَهْرَيْنِ. وَعَنْ بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْقُصَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُؤَدِّي بِذَلِكَ حَقَّ الْقُرْآنِ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ التَّأْخِيرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ بِلَا عُذْرٍ وَعَنْ أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ عَلَى تَحْصِيلِ رِعَايَةِ آدَابِ الْقِرَاءَةِ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى وَتَأَمُّلِ الْحَقَائِقِ وَاعْتِبَارِ الدَّقَائِقِ وَكَذَا عَلَى قَدْرِ الِاشْتِغَالِ بِنَحْوِ نَشْرِ الْعِلْمِ وَفَصْلِ الْحُكُومَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَبِالْجُمْلَةِ اخْتِيَارُ الْبَعْضِ السَّبْعَ لِكَوْنِهِ أَوْسَطَ الرِّوَايَاتِ. «قَالَ» أَيْ عَبْدُ اللَّهِ «فَشَدَّدْت» بِالتَّشْدِيدِ فُسِّرَ بِضَيَّقْتُ عَلَى نَفْسِي «فَشَدَّدَ» أَيْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَيَّ وَ» قَدْ كَانَ «قَالَ لِي» قِيلَ اللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّك لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرُك» قِيلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْغَيْبِ بِطَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ قِيلَ يَعْنِي فَتَعْجِزَ عَنْ الْكَثْرَةِ هَذِهِ فَيَنْقُصُ رَجَاؤُك لِنُقْصَانِ عَمَلِك فَيَنْقُصُ قَدْرُك عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ تَصِيرُ الْأَعْمَالُ الْكَثِيرَةُ عَادَةً فَلَا تُثَابُ كَثِيرًا لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ وَالْإِتْعَابِ. «قَالَ» عَبْدُ اللَّهِ «فَصِرْت إلَى» السِّنِّ «الَّذِي قَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا كَبِرْتُ

وَدِدْت» أَحْبَبْتُ «أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» الظَّاهِرُ مِنْ الرُّخْصَةِ هُوَ صَوْمُ دَاوُد وَالْخَتْمُ فِي سَبْعٍ بِقَرِينَةِ عَدَمِ قَنَاعَتِهِ بِالْمَرَاتِبِ الْأُوَلِ فَيَضْعُفُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ وَالْخَتْمِ فِي الشَّهْرِ بِقَرِينَةِ الْخِفَّةِ، فَإِنَّهُمَا أَخَفُّ الْكُلِّ، فَإِنْ قِيلَ تَشْرِيعُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَيْسَ إلَّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَتَعْيِينُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ بِلَا تَوَقُّفٍ إلَى الْوَحْيِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ قُلْنَا قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ تَفْوِيضَهُ تَعَالَى بَعْضَ الْأَحْكَامِ إلَى رَأْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَائِزٌ عِنْدَ الْبَعْضِ وَيَجُوزُ فَهْمُهُ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ الْغَيْرُ وَيَجُوزُ بِإِلْهَامٍ وَوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ كَإِخْبَارِ جَبْرَائِيلَ قَبْلُ أَوْ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِلُزُومِ عِبَادَةٍ نَافِلَةٍ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ لَوْ تَرَكَهَا يَكُونُ مُعَاقَبًا. وَالظَّاهِرُ عَدَمُهُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ عِبَادَةٍ دَامَ عَلَيْهَا فِي صِغَرِهِ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّهِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْمَوَانِعِ هَذَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ «وَدِدْت» بِمَعْنَى تَمَنَّيْتُ إذْ كَمَا يَكُونُ الْوُدُّ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّمَنِّي كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَأْتِي بِآخِرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ صَوْمِ دَاوُد وَالْخَتْمِ فِي السَّبْعِ وَعِنْدَ كِبَرِ السِّنِّ وَضَعْفِ الْقُوَى تَمَنَّى أَوَّلَ مَا رَخَّصَهُ لَهُ مِنْ نَحْوِ صَوْمِ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مَثَلًا وَمَا قِيلَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَفْضَلَ مِنْ صِيَامِ الدَّهْرِ وَقِيَامِ كُلِّ اللَّيْلِ فَمُخَالِفٌ «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ صَحَابِيٍّ مُخَالَفَةُ النَّبِيِّ وَكَيْفَ يُطْلِقُ عَلَيْهِ الْأَفْضَلِيَّةَ وَأَنَّهُ رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ نَصٍّ، وَقَدْ قَالَ «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» . (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «لَا صَامَ» صَوْمًا يُوجِبُ كَثْرَةَ ثَوَابٍ كَمَا يَظُنُّهُ الْآتِي فَالتَّفْسِيرُ بِأَنَّهُ لَا ثَوَابَ لِفِعْلِهِ أَيْ صِيَامِهِ أَصْلًا كَالتَّعْلِيلِ بِالْكَرَاهَةِ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ إذْ مَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ سِوَى الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ مُثَابٌ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَضْلًا عَنْ الْمَشَايِخِ تَرْجِيحُ صَوْمِ الدَّهْرِ عَلَى صَوْمِ دَاوُد «مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» أَيْ غَيْرَ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ فَهَذَا كَعَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَالْمُخَصِّصُ هُوَ الشَّرْعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْ هَذَا الْحُكْمُ شَيْئًا مُعْتَدًّا إذْ لَا يُرِيدُ عَبْدُ اللَّهِ شُمُولَ صَوْمِهِ لِتِلْكَ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَكُنْ مُقَابِلًا لِغَرَضِ عَبْدِ اللَّهِ بَلْ يَكُونُ مُوَافِقًا مَعَهُ فَظَهَرَ بُطْلَانُ جَعْلِ الْمَذَمَّةِ مِنْ شُمُولِ الصَّوْمِ لِلْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ. وَأَيْضًا هُوَ إخْرَاجُ الْكَلَامِ مِنْ ذَوْقِ السَّوْقِ لَقَدْ أَصَابَ مَنْ قَالَ هَذَا بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْخَلْقِ لِلْإِشْفَاقِ وَلِلتَّقَوِّي عَلَى الْجِهَادِ وَالطَّاعَةِ وَإِلَّا فَمَنْ لَا يَلْحَقُهُ ضَعْفٌ وَفُتُورٌ وَلَا يُؤَدِّي إلَى فَوْتِ حَقٍّ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعٌ أَقُولُ بَلْ لَهُ فَضْلٌ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ وَلِشُمُولِ نَحْوِ حَدِيثٍ وَأَنَّ أَمْرِي «ثَلَاثًا» كَرَّرَ هَذَا الْقَوْلَ ثَلَاثًا تَأْكِيدًا وَرَغْمًا لِلْمُخَالِفِ وَجْهُ التَّأْكِيدِ دَفْعُ تَوَهُّمٍ نَاشِئٍ مِنْ كَثْرَةِ الثَّوَابِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْعَمَلِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ حِينَ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ الْأَبَدِ» يَعْنِي لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ بِالِاعْتِيَادِ لَيْسَ لَهُ صَوْمٌ وَلِوُجُودِ صُورَةِ الصَّوْمِ لَيْسَ لَهُ إفْطَارٌ. وَنُقِلَ عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ وَيُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ أَوْ يَصِيرُ طَبْعًا لَهُ وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ ثُمَّ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَإِلَّا فَعَنْ الصَّحِيحَيْنِ قَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو «وَأَنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ شِئْتَ فَصُمْ» فَقَرَّرَهُ خُصُوصًا فِي السَّفَرِ فَحَمْزَةُ وَأَيْضًا أَبُو طَلْحَةَ وَعَائِشَةُ وَخَلَائِقُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَرَدُوا الصَّوْمَ فَيَلْزَمُ تَأْوِيلُ مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ إمَّا بِفَوْتِ حَقٍّ أَوْ إيجَابِ ضَرَرٍ أَوْ لِشُمُولِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ إنْ أَمْكَنَ. قَالَ فِي شَرْحِ الشَّرْعِيَّةِ كَانَ يَصُومُهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ) عَنْهُ «وَكَانَ» عَبْدُ اللَّهِ «يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ» أَيْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَوْلَادِهِ «السُّبْعَ» بِضَمٍّ فَسُكُونٍ «مِنْ الْقُرْآنِ» وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْهُ «بِالنَّهَارِ» يُكَرِّرُهُ عَلَيْهِ لِيَحْفَظَهُ «وَاَلَّذِي يَقْرَأُهُ» مِنْ السُّبْعِ

الْمَذْكُورِ «يَعْرِضُهُ مِنْ اللَّيْلِ» فُسِّرَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ «لِيَكُونَ» الْمَقْرُوءُ «أَخَفَّ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ» ؛ لِأَنَّهُ تَكَرَّرَ فِي النَّهَارِ لِتَسْهُلَ الْقِرَاءَةُ فِي لَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ إنَّمَا هِيَ بِظَهْرِ الْقَلْبِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ السَّابِقِ «فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ» «، وَإِذَا أَرَادَ» عَبْدُ اللَّهِ «أَنْ يَتَقَوَّى» عِنْدَ ضَعْفِهِ بِكَثْرَةِ الصِّيَامِ «أَفْطَرَ أَيَّامًا» لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ امْتِثَالًا بِالْأَمْرِ السَّابِقِ «وَأَحْصَى» ضَبَطَ وَعَدَّدَ مِقْدَارَ إفْطَارِهِ مِنْ الْأَيَّامِ «وَصَامَ مِثْلَهُنَّ» لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا حُدِّدَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَرَاتِبِ بَلْ اللَّائِقُ لَهُ الْتِزَامُ مَا عَيَّنَهُ آخِرًا مِنْ صِيَامِ دَاوُد إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَيَّامًا وَمِنْ قَوْلِهِ مِثْلُهُنَّ صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ بِضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مُرَادُهُ وَإِلَّا فَلَا يَتِمُّ أَيْضًا قَوْلُهُ «كَرَاهَةَ» إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَرِهَ «أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا» مِنْ الْحَسَنَةِ الَّتِي «فَارَقَ عَلَيْهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» يَعْنِي عَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَفِي أُخْرَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ» لِعَبْدِ اللَّهِ «إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ» فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَرِفْعَةِ الدَّرَجَةِ «صِيَامُ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ» النَّافِلَةِ «صَلَاةُ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ «كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ» مُطْلَقًا بِلَا تَعْيِينِ شَرْطٍ مِنْهُ «وَيَقُومُ ثُلُثَهُ» مِنْ بَعْدِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَوْ قَبْلَهُ «وَيَنَامُ سُدُسَهُ» بَقِيَّةَ النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ أَوَّلِهِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ نَوْمِهِ الثُّلُثَيْنِ وَقِيَامُهُ الثُّلُثُ وَيُحْتَمَلُ تَقْدِيمَ الْقِيَامِ أَوْ تَأْخِيرَهُ أَوْ تَارَةً وَتَارَةً فَأَعْطَى حَقَّ الْجَسَدِ وَحَقَّ الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ لَا فُتُورَ وَلَا مَلَلَ فِي نَفْسِ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ هَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ فَالتَّقْيِيدُ بِلَا قَرِينَةٍ وَلَا دَلِيلٍ خِلَافُ الْأَصْلِ. لَكِنْ فِي الْإِحْيَاءِ وَقَعَ تَقْيِيدُ هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي قِيَامِ دَاوُد وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَنَامُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ وَالسُّدُسَ الْأَخِيرَ وَيَقُومُ الثُّلُثَ مِنْ النِّصْفِ الْأَخِيرِ إذْ نَوْمُ آخِرِ اللَّيْلِ مُسْتَحَبٌّ لِإِذْهَابِ النُّعَاسِ وَصُفْرَةِ الْوَجْهِ وَمَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا وَأَنَّ نَوْمَ هَذَا الْوَقْتِ سَبَبُ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ مِنْ وَرَاءِ حُجُبِ الْغَيْبِ لِأَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَفِيهِ تَقَوِّي لِأَوْرَادِ أَوَّلِ النَّهَارِ لَعَلَّ ذَلِكَ التَّعْيِينَ مَضْمُونُ أَثَرٍ آخَرَ وَصَلَ إلَيْهِ وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَنَسْخٌ لَيْسَ بِجَائِزٍ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا حِكَايَةً عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ لِإِحْيَاءِ كُلِّ اللَّيْلِ لِتَجَرُّدِهِمْ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَذُّذِهِمْ بِالْمُنَاجَاةِ إلَى أَنْ صَارَتْ غِذَاءً لَهُمْ وَحَيَاةً وَهُوَ دَأْبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ وَصَلَّى الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا حَكَى أَبُو يُوسُفَ كَمَا فُهِمَ مِنْ الْأَشْبَاهِ وَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَاَلَّذِي سَبَقَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ يَقْتَضِي كَوْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ وَأَوْرَعِهِمْ مُؤَخَّرًا عَنْ الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ الْمَيْدَانِ كَمَا أُشِيرَ فَالْوَجْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لِأَجْلِ تَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنْ الْكُلِّ فَالصَّنَائِعُ إنَّمَا هِيَ لِلْإِرْشَادِ لَا لِلْإِيجَابِ وَلَا الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ «وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا» حَاصِلُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ حَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى إتْيَانِ دَوَامِ الصِّيَامِ وَإِتْمَامِ اللَّيَالِي

بِالْقِيَامِ فَمَنَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَرَخَّصَ لَهُ وَعَمِلَ بِرُخْصَتِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحِنْثَ إنَّمَا يَلِيقُ عِنْدَ كَوْنِ الْيَمِينِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَعَدَمِ التَّكَلُّمِ مَعَ الْأَبِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَرَأَى خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ وَإِتْمَامَ قِيَامِ اللَّيْلِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ قُلْنَا لَعَلَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالْمَعْصِيَةِ بَلْ يَجْرِي بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ وَتَمْثِيلُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ وَيُشْعِرُهُ لَفْظُ خَيْرًا مِنْهَا فِي الْحَدِيثِ وَيُؤَيِّدُهُ تَفْسِيرُ الْمُنَاوِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ بِقَوْلِهِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَفْضَلُ إلَى آخِرِهِ فَالْكَلَامُ مَعَ الْأَفْضَلِيَّةِ هَيِّنٌ بِمُلَاحَظَةِ مَا سَبَقَ بَقِيَ أَنَّ ظَوَاهِرَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ إنَّمَا يَنْفِي جَانِبَ الْإِفْرَاطِ وَالْمَطْلُوبِ أَيْ الِاقْتِصَادُ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِنَفْيِ جَانِبِ التَّفْرِيطِ أَيْضًا فَلَا تَقْرِيبَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ نَفْيَ التَّفْرِيطِ مَعْلُومٌ مِنْ عَامَّةِ كُتُبِ الشَّرْعِ وَأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فِي نَفْسِ هَذَا الْجَانِبِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى بَيَانِهِ فَمَا يَلْتَزِمُ إثْبَاتُهُ هُوَ جَانِبُ نَفْيِ الْإِفْرَاطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ) أَيْ هَذِهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ الِاقْتِصَادِ لَعَلَّ هَذَا إمَّا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ أَوْ مُرَاعَاةٌ لِمَرْتَبَةِ الْخَوَاصِّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَرْتَبَةِ الْعَوَامّ بِتَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ أَوْ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٌ بِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْأَدِلَّةِ وَظَائِفُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَوَظِيفَتُهُ لَيْسَ إلَّا أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ وَمِنْهُ يُعْلَمُ تَقْدِيمُ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّهَا كَالْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَبَادِئِ لِأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ الَّتِي هِيَ كَالنَّتَائِجِ. (قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ) شَرْحِ الْمُخْتَارِ لِمُصَنِّفِهِ (لَا تَجُوزُ الرِّيَاضَةُ بِتَقْلِيلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَضْعُفَ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ) ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ إلَى مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ مُؤَدِّيَةٍ إلَى مَضَرَّةٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الرِّيَاضَةَ أَيْ تَعْلِيمَ النَّفْسِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ غَايَتُهَا دَرْكُ فَضِيلَةٍ مَنْدُوبَةٍ فَلَوْ بُولِغَتْ إلَى أَنْ تَضْعُفَ الْقُوَى وَيَطْرَأَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى قِيَامِ الصَّلَاةِ مَثَلًا لَأَدَّتْ إلَى تَعْطِيلِ ذَلِكَ الْفَرْضِ، وَأَمَّا تَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْجِزُ وَلَا يُضْعِفُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ فَأَمْرٌ اسْتِحْبَابِيٌّ يَقْوَى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ. «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» «لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَا مُعَاذُ» «إنَّ نَفْسَك» اُخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ النَّفْسِ اخْتِلَافًا عَظِيمًا لَكِنْ لَعَلَّ الْمُرَادَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ هَذَا الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ بِشَرْطِ حُلُولِ الرُّوحِ بِهِ وَهِيَ الَّتِي يُعَبِّرُ كُلُّ أَحَدٍ عَنْهَا بِقَوْلِهِ أَنَا وَهِيَ الْمُكَلَّفَةُ بِالتَّكْلِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ «مَطِيَّتُك» الْمَطِيَّةُ دَابَّةٌ تَمْطُو أَيْ تُسْرِعُ فِي سَيْرِهَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْوُجُودِ بِهَا وَأَنْتَ تَحْمِلُ الطَّاعَةَ عَلَيْهَا وَهِيَ عَامِلَةٌ لَك فِي مَصَالِحِك الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْك رِعَايَتُهَا وَصِيَانَتُهَا بِمَا يُقَوِّيهَا، فَإِنْ لَمْ تُرَاعَ خَرِبَ الْبَدَنُ وَفَسَدَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحِلُّ بِهِ رُوحُهُ فَتَهْلَكَ «فَارْفِقْ بِهَا» بِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا وَبِمُحَافَظَةِ مَا يُوجِبُ اسْتِمْرَارَهَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهَا لَا عَلَى قَدْرِ وَرَاءِ حَاجَتِهَا «وَلَيْسَ مِنْ الرِّفْقِ أَنْ تُجِيعَهَا» مِنْ الْجُوعِ وَذَلِكَ بِتَتَابُعِ الصِّيَامِ مَثَلًا «وَتُذِيبَهَا» مِنْ أَذَابَ يُذِيبُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِهَا لَا مُطْلَقَ الْإِجَاعَةِ وَفِي الْعَطْفِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ إذْ الْإِذَابَةُ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي الْمُبَالَغَةِ وَأَنَّ أَصْلَ الْجُوعِ مَمْدُوحٌ وَإِدَامَةَ الشِّبَعِ مَذْمُومَةٌ فَالْمُرَادُ التَّوَسُّطُ وَالِاقْتِصَادُ (لِأَنَّ تَرْكَ الْعِبَادَاتِ لَا يَجُوزُ) مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا (فَكَذَا مَا يُفْضِي إلَيْهِ) أَصْلُهَا أَوْ كَمَالُهَا، وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْفِقْهِيَّةِ

أَنَّ الْأَكْلَ مِقْدَارُ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ فَرْضٌ. وَقَالَ فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيُّ الْأَكْلُ إمَّا فَرْضٌ أَنَّ مِنْ الْحَلَالِ قَدْرُ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ وَيَتَقَوَّى لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَيُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُؤْجِرُ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ يَرْفَعُهَا الْعَبْدُ إلَى فَمِهِ» وَإِمَّا مَنْدُوبٌ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَلِيَسْهُلَ الصَّوْمُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» وَإِمَّا مُبَاحٌ لَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ تَقَوِّي الْبَدَنِ فَيُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَإِمَّا حَرَامٌ إنْ فَوْقَ الشِّبَعِ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ وَالْإِسْرَافِ وَإِمْرَاضِ الْبَدَنِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مَلَأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ الْبَطْنِ» وَقَالَ «أَطْوَلُ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ أَكْلًا فِي الدُّنْيَا» إلَّا لِتَطْيِيبِ الْمُسَافِرِ وَلِصَوْمِ الْغَدِ وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ بِلَا إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ وَلَا يَسْتَدِيمُ الشِّبَعَ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَشْبَعُ مِنْ الشَّعِيرِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ فَلَا يَأْكُلُ إلَّا مِنْهُ أَوْ يَخْلِطُ بُرًّا بِالشَّعِيرِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ الْبَيْعُ بِالْأَجَلِ وَالْمُقَارَضَةُ وَخَلْطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ دُونَ الْبَيْعِ» وَلَا يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْإِسْرَافِ وَاتِّخَاذِ أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ وَالْبَاجَّاتِ، وَوَضْعُ الْخُبْزِ عَلَى الْمَائِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ سَرَفٌ إلَّا إذَا قَصَدَ أَنْ يُضَيِّفَ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا. (وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا) أَيْ فِي الِاخْتِيَارِ (الْكَسْبُ) أَيْ تَحْصِيلُ أُمُورِ الْمَعَاشِ (أَنْوَاعٌ) أَرْبَعَةٌ (فَرْضٌ) يُثَابُ فَاعِلُهُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مَعَ إمْكَانِهِ وَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ لِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ. قَالَ تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (وَهُوَ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ) فَسَّرَ الْكِفَايَةَ فِي الأسروشنية بِكِفَايَةِ يَوْمِهِ (لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ) مِمَّنْ وَجَبَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ كَنَفَقَةِ قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَمَالِيكِ (وَقَضَاءِ دُيُونِهِ) وَلَوْ مَاتَ بِلَا قَضَاءٍ وَلَا تَعْطِيلِ كَسْبٍ وَفِي نِيَّتِهِ الْأَدَاءُ لَا يَأْثَمُ قَالَ فِي أَوَائِلِ زَكَاةِ الْبَزَّازِيَّةِ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ إنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الْأَدَاءُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَطْلُ وَنُقِلَ عَنْ الِاخْتِيَارِ وَجَامِعِ الْفَتَاوَى وَوَقَعَ فِي الأسروشنية بِأَنَّ الرُّسُلَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَكْتَسِبُونَ وَيَأْكُلُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ فَآدَمُ زَرَعَ بُرًّا وَسَقَاهُ وَحَصَدَهُ وَدَاسَهُ وَطَحَنَهُ وَعَجَنَهُ وَخَبَزَهُ فَأَكَلَهُ وَنُوحٌ نَجَّارٌ وَزَكَرِيَّا كَذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ بَزَّازٌ وَدَاوُد يَصْنَعُ الدُّرُوعَ وَسُلَيْمَانُ يَصْنَعُ الْمَكَاتِلَ مِنْ الْخُوصِ وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَعَى الْغَنَمَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ بَزَّازًا وَعُمَرُ يَعْمَلُ فِي الْأَدِيمِ وَعُثْمَانُ تَاجِرًا وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ، فَإِنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ قِيلَ كُلُّ قَادِرٍ يَتْرُكُ الِاكْتِسَابَ، فَإِنَّ مَا يَأْكُلُهُ مِنْ دِينِهِ ثُمَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَسْبِ فَكَسْبُهُ السُّؤَالُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَسْأَلْ فَمَاتَ أَثِمَ لِتَرْكِهِ الْفَرْضَ وَلَا يَزِيدُ عَلَى قُوتِ يَوْمٍ كَمَا فِي حَاشِيَةِ خَوَاجَهْ زَادَهْ (ثُمَّ قَالَ) فِي الِاخْتِيَارِ تَوْسِيطُهُ إمَّا لِكَوْنِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ مُتَأَخِّرًا عَنْ السَّابِقِ أَوْ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ فِيمَا بَعْدَهُ الْعُمْدَةَ مِنْ نَقْلِ الْكَلَامِ (فَإِنْ تَرَكَ الِاكْتِسَابَ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ مِقْدَارَ الْكِفَايَةِ (وَسِعَهُ) أَيْ جَازَ لَهُ التَّرْكُ جَوَابٌ أَنَّ لِحُصُولِ الْفَرْضِ بِدُونِهِ فَيَحْسُنُ لَهُ حِينَئِذٍ الِاشْتِغَالُ بِوَظَائِف الْعِبَادَاتِ وَالتَّفَرُّغِ عَنْ الْكَسْبِ لِاكْتِسَابِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ الْكَسْبُ لِأَجْلِ التَّصَدُّقِ أَفْضَلُ أَوْ التَّفَرُّغُ لِلطَّاعَةِ بَعْدَ حُصُولِ قَدْرِ الْوَاجِبِ قَالَ فِي التتارخانية جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ الزِّرَاعَةُ أَفْضَلُ وَقِيلَ التِّجَارَةُ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْمُنْتَقَى أَفْضَلُ الْكَسْبِ الْجِهَادُ ثُمَّ التِّجَارَةُ ثُمَّ الْحِرَاثَةُ ثُمَّ الصِّنَاعَةُ وَفِي الْخُلَاصَةِ وَالْأَوْرَعُ أَنْ لَا يُجِيبَ دَعْوَةَ الَّذِي أَخَذَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً وَدَفَعَ عَلَى هَذَا وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَأْكُلَ طَعَامَهَا؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - انْتَهَى فَالْأَوْرَعُ أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ إذْ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ إلَّا بِضَرُورَةٍ إذْ الْخِلَافُ رُخْصَةٌ وَتُرْتَكَبُ الرُّخْصَةُ بِتَرْكِ الْعَزِيمَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. (وَقَالَ: وَإِنْ اكْتَسَبَ مَا يَدَّخِرُهُ) يُبْقِيهِ (لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ) إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَيَجْعَلُهُ ذُخْرًا وَمُعَدًّا لِلَوَازِمِهِ الْآتِيَةِ (فَهُوَ فِي سَعَةٍ)

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي وُسْعَةٍ (فَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ قُوتَ عِيَالِهِ سَنَةً» الظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ الْفَاءِ دَاخِلٌ عَلَى الْعِلَّةِ فَحِينَئِذٍ يُرَادُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْإِدْخَارُ وَاللَّازِمُ مِنْ الْحَدِيثِ الْإِدْخَارُ الْخَاصُّ فَلَا تَقْرِيبَ نَعَمْ الْخَاصُّ يَسْتَلْزِمُ الْعَامَّ قِيلَ لَكِنْ كَانَ لَا يَبْقَى لَهُمْ بَلْ يُنْفِقُهُ حَتَّى رَهَنَ دِرْعَهُ فِيمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ وَمَاتَ وَهِيَ رَهْنٌ فِيهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ الِادِّخَارِ هُوَ الْإِبْقَاءُ إلَى سَنَةٍ، وَإِنْ صَدَقَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَعُرُوضِ الْإِنْفَاقِ فِي سَنَةٍ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَقِيلَ ادِّخَارُ السَّنَةِ لِلْمُتَأَهِّلِ وَإِلَّا فَالِادِّخَارُ فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ لِغَيْرِ الْمُتَأَهِّلِ وَفَوْقَ السَّنَةِ لِلْمُتَأَهِّلِ مُخَالَفَةً لِلسُّنَّةِ وَمُنَافٍ لِلتَّوَكُّلِ وَهَذَا كَمَا تَرَى تَقْيِيدٌ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ فَلَا يَكْفِيهِ الدِّرَايَةُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الرِّوَايَةِ قِيلَ عَنْ الْمُنَاوِيِّ مَذْهَبُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُرْمَةُ ادِّخَارِ الْمَالِ عَلَى مَا زَادَ عَلَى حَاجَتِهِ وَأَرُدُّ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْمُبْتَغَى مِنْ إبَاحَةِ الْكَسْبِ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّنَعُّمِ حَتَّى الْبُنْيَانِ وَنَقْشِ الْحِيطَانِ وَشِرَاءِ السَّرَارِي وَالْغِلْمَانِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ عَلَى الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِمُوَجَّهٍ وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَى أَنَّ الصَّرْفَ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ أَحْوَجِ الْحَاجَاتِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ لَا مَا يَكُونُ لِنَحْوِ التَّفَاخُرِ وَالتَّلَهِّي مِمَّا لَا يُقَارِنُ أَغْرَاضًا حَمِيدَةً ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ الِاخْتِيَارِ كَوْنُ هَذَا الِادِّخَارِ مِنْ قَبِيلِ فَرْضِ الْكَسْبِ وَهُوَ بَعِيدٌ فَافْهَمْ. وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ ثُمَّ قَرَأَ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل: 20] . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا تَعَفُّفًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى عِيَالِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ يُحْشَرُ مَعَ الصِّدِّيقِينَ» (وَمُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ الْمَذْكُورِ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ (لِيُوَاسِيَ بِهِ) أَيْ بِالزَّائِدِ (فَقِيرًا) سَوَاءٌ كَانَ لَهُ دُونَ نِصَابٍ أَوْ لَا كَالْمِسْكِينِ (أَوْ لِيُجَازِيَ بِهِ قَرِيبًا) مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَهِيَ مِمَّا عُدَّ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ (فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ) كَالصَّلَاةِ وَالْأَوْرَادِ وَالتِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ مَالٍ ضَمِنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عُلُوِّ كَرَمِهِ قَالَ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] كَمَا فِي الْأُصُولِيَّةِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَازَاةَ الْقَرِيبِ عَلَى مَا فُسِّرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ فَكَيْفَ يُعَدُّ مِنْ قِسْمِ الْمُسْتَحَبِّ. فَإِنْ أُرِيدَ مَا لَمْ يَبْلُغْ إلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُوبِ فَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْأَقْرِبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ الْمُسَاوَاةُ بَلْ رُجْحَانُ مُوَاسَاةِ مُطْلَقِ الْفَقِيرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ كَلِمَةُ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] بِمَعْنَى بَلْ يُجَازَى قَرِيبًا فَيَكُونُ تَرَقِّيًا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَقِيرًا عَامًّا لِلْكُلِّ وَالْقَرِيبُ مِنْ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ شَامِلًا لِلْقَرَابَةِ النَّسَبِيَّةِ وَالْوُدِّيَّةِ فَيُشَارُ إلَى مَا اُسْتُحِبَّ مِنْ تَعْوِيضِ الْهَدِيَّةِ بِمُمَاثِلٍ لَهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ «مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ» (لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ) تُقْصَرُ عَلَيْهِ يَشْكُلُ بِنَحْوِ السُّنَّةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُقْتَدَى فِيهَا، فَإِنَّ لَهُ فِيهَا أَجْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي الْحَدِيثِ. وَأَيْضًا بِالْعِلْمِ وَرَاءَ عِلْمِ الْحَالِ، فَإِنَّهُ مِنْ نَفْلِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يَخُصُّهُ نَعَمْ يَتَبَادَرُ فِي الْإِطْلَاقِ الْعِبَادَةُ إلَى غَيْرِ الْعِلْمِ فِي الْعُرْفِ (وَمَنْفَعَةُ الْكَسْبِ لَهُ) أَيْ الْكَاسِبِ (وَلِغَيْرِهِ) لَا يَخْفَى أَنَّ نَفْعَ الْكَاسِبِ لِنَفْسِهِ أَنَّ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورِيِّ فَوَاجِبٌ، وَإِنْ زَائِدٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ لِلتَّلَهِّي وَالتَّبَاهِي فَحَرَامٌ، وَإِنْ لِلتَّنَعُّمِ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ فَمُبَاحٌ فَالْمَنْفَعَةُ الْمُعْتَدَّةُ فِي زِيَادَةِ الْكَسْبِ لَيْسَ إلَّا مَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ وَلَا شَكَّ عَلَى هَذَا أَنَّ نَفْعَ الْعِبَادَةِ لِنَفْسِهِ وَنَفْعَ الزِّيَادَةِ مُخْتَصٌّ بِغَيْرِهِ فَالظَّاهِرُ رُجْحَانُ مَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ أَمْرٌ دِينِيٌّ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرَ كَوْنِهِ طَاعَةً وَالزِّيَادَةُ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ وَعَادِيٌّ قَدْ يُقْصَدُ لِغَيْرِ الطَّاعَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُسْنَ الَّذِي مِنْ جِنْسِ الدِّينِ رَاجِحٌ عَلَى الَّذِي مِنْ جِنْسِ الْعَادَةِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

«خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» فَمُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ فَقِيرٌ يُعْطِي جَهْدَهُ» عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِنَصٍّ فِيمَا حَمَلَهُ مِنْ النَّفْعِ بَلْ كَمَا يَعُمُّ الْإِحْسَانَ الْمَالِيَّ يَعُمُّ الدِّينِيَّ. وَقَدْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَنَافِعُ الدِّينِ أَشْرَفُ قَدْرًا وَأَبْقَى نَفْعًا، وَقَدْ قَالَ عَنْ الْمِيزَانِ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَاهٍ وَعَنْ ابْنِ عَدِيٍّ لَهُ مَنَاكِيرُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ أَنَّهُ هَلْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَفْضَلُ أَوْ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ فَذَهَبَ بَعْضٌ إلَى الثَّانِي وَبَعْضٌ إلَى الْأَوَّلِ وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ وَالتَّفْصِيلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَيْضًا فِي التتارخانية عَنْ السِّرَاجِيَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلًا وَاحِدًا وَصَنِيعُ صَاحِبِ الِاخْتِيَارِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي عِنْدَهُ هُوَ الْمُخْتَارَ وَفِي التتارخانية وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَسْبِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِهِ عَلَى قَصْدِ الْإِنْفَاقِ. وَعَنْ بُسْتَانِ أَبِي اللَّيْثِ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ أَفْضَلُ وَالِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ مَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضٍ وَمَا رُوِيَ مِنْ اكْتِسَابِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ التَّحِيَّةُ وَالتَّسْلِيمَةُ فَمَحْمُولٌ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ وَالْكَلَامُ فِيهَا وَرَاءَهُ وَثَالِثُ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ الْمُبَاحِ كَسْبُ الزِّيَادَةِ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّنَعُّمِ كَبِنَاءِ الْبُنْيَانِ وَشِرَاءِ الْغِلْمَانِ وَرَابِعُهَا مَكْرُوهٌ الْجَمْعُ لِلتَّفَاخُرِ وَالْبَطَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ عَلَى مَا فِي الِاخْتِيَارِ هَذَا مَا سَمَّاهُ فِي مُلْتَقَى الْأَبْحُرِ حَرَامًا؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ مَحَلُّ الِاسْتِشْهَادِ مِنْ كَلَامِ الِاخْتِيَارِ بِمَوَاضِعَ؛ لِأَنَّ الرِّيَاضَةَ لِأَجْلِ الطَّاعَاتِ إلَى رُتْبَةِ صَوْمِ الْوِصَالِ إفْرَاطٌ، وَقَدْ نَفَاهَا بِقَوْلِهِ لَا تَجُوزُ الرِّيَاضَةُ إلَخْ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْكَسْبِ مُطْلَقًا لِأَجْلِ التَّقَاعُدِ لِلطَّاعَةِ إفْرَاطٌ أَيْضًا، وَقَدْ أَشَارَ إلَى نَفْيِهِ بِقَوْلِهِ الْكَسْبُ أَنْوَاعٌ فَرْضٌ إلَخْ وَلِأَنَّ الْكَسْبَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ رُخْصَةٌ وَأَشَارَ إلَيْهَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كَسَبَ مَا يَدَّخِرُ إلَخْ، فَإِنْ تَفَطَّنْت مِمَّا ذُكِرَ عَرَفْت وَجْهَ تَوْسِيطِ الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ. وَقَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَيْضًا فِي النَّوْعِ الِاسْتِحْبَابُ رُخْصَةٌ كَمَا لَا يَخْفَى (وَقَالَ فِي التتارخانية يُكْرَهُ) قِيلَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ إذْ هِيَ الْمَحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْكَرَاهَةَ الْوَاقِعَةَ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ تَحْرِيمِيَّةٌ وَفِي الصَّلَاةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَنْزِيهِيَّةٌ كَمَا فِي حَاشِيَةِ أَخِي حَلَبِيٍّ فِي كِتَابِ الْكَرَاهَةِ (أَنْ يَجْتَمِعَ قَوْمٌ) مِنْ النَّاسِ (فَيَعْتَزِلُونَ فِي مَوْضِعٍ) قِيلَ الظَّاهِرُ فَيَعْتَزِلُوا بِلَا نُونٍ فَإِلْحَاقُ النُّونِ سَهْوٌ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِطْفٍ عَلَى يَجْتَمِعُ بَلْ هُوَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَعْطُوفُهُ يَمْتَنِعُونَ وَيَفْرُغُونَ بِالنُّونِ (وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ الطَّيِّبَاتِ) مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكِحِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ أَبَاحَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَوَجَبَهُمْ (يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى) بِالْأَوْرَادِ وَالْأَذْكَارِ وَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ (فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (وَيُفْرِغُونَ) مِنْ التَّفْرِيغِ (أَنْفُسَهُمْ لِذَلِكَ) الْعِبَادَةِ

لَيْلًا وَنَهَارًا بَلْ سِنِينَ وَدُهُورًا (وَكَسْبُ الْحَلَالِ) الَّذِي لَهُ حَظٌّ إلَى الْفَرْضِيَّةِ (وَلُزُومُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ) فِي الْمَكْتُوبَاتِ (فِي الْأَمْصَارِ) فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ (أَحَبُّ وَأَلْزَمُ) لِوُجُوبِهِ وَافْتِرَاضِهِ وَلِاسْتِحْبَابِهِ أَيْضًا (انْتَهَى) لَا يَخْفَى أَنَّ كَلِمَةَ أَحَبُّ وَأَلْزَمُ تُوجِبُ أَنْ يُوجَدَ أَصْلُ الْمَحَبَّةِ وَاللُّزُومِ فِي خِلَافِهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْكَرَاهَةُ فِيمَا يَكُونُ لَهُ حُسْنٌ شَرْعِيٌّ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ بِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ أَوْ لِإِيذَانِ كَوْنِ مَا ذُكِرَ مُبَالَغًا فِي الْمَحَبَّةِ وَكَامِلًا قَوِيًّا فِي اللُّزُومِ يَعْنِي قَوِيَ فِي الْمَحَبَّةِ وَقَوِيَ فِي اللُّزُومِ فَاعْرِفْهُ وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ لَيْسَ بِخِلَافٍ فِي كَلَامِ التتارخانية فَإِنْ قِيلَ دَلَالَةُ هَذَا الْكَلَامِ بِالْمَطْلُوبِ أَقْوَى مِمَّا فِي كَلَامِ الِاخْتِيَارِ فَلِمَ قَدَّمَهُ عَلَيْهِ قُلْنَا: لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لِمُصَنِّفِهِ صَاحِبِ الْمُخْتَارِ أَحَدُ الْمُتُونِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَى وَثَاقَتِهَا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ وَأَنَّ الشُّرُوحَ مُقَدَّمَةٌ فِي الْوَثَاقَةِ عَلَى الْفَتَاوَى كَمَا أَنَّ الْمُتُونَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الشُّرُوحِ كَمَا فِي الْفِقْهِيَّةِ (فَإِنْ قُلْت يُعَارِضُ مَا ذَكَرْت) هُنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الْفُقَهَاءِ مِنْ مَنْعِ الرِّيَاضَةِ وَكَثْرَةِ الْمُجَاهَدَةِ (مَا نُقِلَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مَفْعُولُ يُعَارِضُ أَوْ فَاعِلُهُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ نَحْوًا وَالثَّانِي أُصُولًا وَآدَابًا بَلْ لُغَةً أَيْضًا فَافْهَمْ (عَنْ السَّلَفِ) الصَّالِحِينَ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّلَفِ هُنَا لَيْسَ مَا يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الْخَلَفِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إلَى الْحَلْوَانِيِّ عَلَى مَا قِيلَ بَلْ مُطْلَقٌ مِنْ تَقْدِيمٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ (وَمِنْ شِدَّةِ الرِّيَاضَاتِ) بِتَقْلِيلِ الْأَكْلِ وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ كَانَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُفْطِرُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَفِي رَمَضَانَ إلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَكَانَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يُفْطِرُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ. وَأَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ أَكَلَ أَكْلَتَيْنِ مِنْ بَصْرَةَ إلَى مَكَّةَ. وَأَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ يَقُولُ الرَّبَّانِيُّ يَأْكُلُ مَرَّةً فِي أَرْبَعِينَ وَالصَّمَدَانِيُّ فِي ثَمَانِينَ يَوْمًا وَفِي قُوتِ الْقُلُوبِ وَالْإِحْيَاءِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَطْوِي سِتَّةً أَيَّامٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ يَطْوِي سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَدْهَمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَحَجَّاجِ بْنِ فَرَاصَةَ وَحَفْصٍ الْعَابِدِ الْمِصِّيصِيِّ وَالْمُسْتَلِمِ بْنِ سَعِيدٍ وَسُلَيْمَانَ الْخَوَّاصِ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَصَلَ طَيُّهُمْ إلَى ثَلَاثِينَ. وَرُوِيَ أَنَّ سَهْلُ بْنُ عَبْدَ اللَّهِ اقْتَاتَ بِثُلُثِ دِرْهَمٍ فِي ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ (وَ) مِنْ (كَثْرَةِ الْمُجَاهَدَاتِ) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ إنَّ أَصْلَ الْمُجَاهَدَةِ فَطْمُ النَّفْسِ عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ وَحَمْلُهَا عَلَى خِلَافِ هَوَاهَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ. وَقَالَ حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيم بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ قَالَ مَا بِتُّ تَحْتَ سَقْفٍ وَلَا فِي مَوْضِعِ عُلُوٍّ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَكُنْت أَشْتَهِي فِي أَوْقَاتٍ أَنْ أَتَنَاوَلَ شُبْعَةَ عَدَسٍ فَلَمْ يَتَّفِقْ لِي. وَعَنْ السَّرِيِّ أَنَّ نَفْسِي تُطَالِبُنِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَنْ أَغْمِسَ جَزَرَةً فِي دِبْسٍ فَمَا أُطْعِمْتُهَا وَقِيلَ إنَّ عِصَامَ بْنَ يُوسُفَ الْبَلْخِيّ وَجَّهَ شَيْئًا إلَى حَاتِمٍ الْأَصَمِّ فَقِيلَ لَهُ لِمَ قَبِلْته فَقَالَ وَجَدْت فِي أَخْذِهِ ذُلِّي وَعِزَّهُ وَفِي رَدِّي عِزِّي وَذُلَّهُ فَاخْتَرْت عِزَّهُ عَلَى عِزِّي وَذُلِّي عَلَى ذُلِّهِ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ عَلَى التَّجْرِيدِ فَقَالَ جَرِّدْ أَوَّلًا قَلْبَك عَنْ السَّهْوِ وَلِسَانَك عَنْ اللَّغْوِ وَنَفْسَك عَنْ اللَّهْوِ ثُمَّ اُسْلُكْ حَيْثُ شِئْت (وَ) مِنْ (الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَاتِ) كَمَا نُقِلَ أَنَّ جُنَيْدًا يَدْخُلُ كُلَّ يَوْمٍ حَانُوتَهُ وَيُسْبِلُ السِّتْرَ وَيُصَلِّي أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ ثُمَّ يَعُودُ إلَى بَيْتِهِ. وَعَنْ كِتَابِ حُسْنِ التَّنْبِيهِ أَنَّ أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ وَاَللَّهِ لَأَعْبُدَنَّ اللَّهَ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ لَيْلَةً يَقْطَعُهَا قَائِمًا، وَلَيْلَةً يَقْطَعُهَا سَاجِدًا، وَلَيْلَةً رَاكِعًا. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ رُبَّمَا كُنْت أَقْرَأُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِي فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ مَرَّةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَرُبَّمَا كُنْت أَقْرَأُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَرُبَّمَا كُنْت أُصَلِّي مِنْ الْغَدَاةِ إلَى الْعَصْرِ أَلْفَ رَكْعَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ لَا يَخْلُو لِسَانُهُ عَنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ فَيَوْمًا جَلَسَ عِنْدَ الْحَلَّاقِ لِيَقُصَّ شَارِبَهُ فَقَالَ الْحَلَّاقُ لَا تُحَرِّكْ شَفَتَك قَالَ: لَأَنْ يَقْطَعَ مِنْهَا قِطْعَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيَّ حِينٌ بِلَا ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ قَالَ شَرِيكٌ كُنْت مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَنَةً فَمَا رَأَيْته وَضَعَ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ وَقَالَ مِسْعَرٌ جَسَسْت أَبَا حَنِيفَةَ

وَقْتَ دُخُولِ النَّاسِ مَضَاجِعَهُمْ فَخَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَاشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى السَّهَرِ وَأَلْقَيْت حَصَيَاتٍ فِي نَعْلَيْهِ وَرَجَعْت فَعِنْدَ قُرْبِ الصُّبْحِ رَجَعْت فَوَجَدْته فِي مَكَانِهِ يَدْعُو وَيَبْكِي وَنَظَرْت نَعْلَيْهِ وَالْحَصَيَاتُ بَاقِيَةٌ فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَدَّى وِرْدَهُ ثُمَّ شَرَعَ فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ جَلَسَ لَهَا إلَى الْعَصْرِ ثُمَّ إلَى الْمَغْرِبِ فَلَمَّا صَلَّاهَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَأَفْطَرَ وَجَدَّدَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ إلَى أَنْ أَخَذَ النَّاسُ مَضْجَعَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَامَ إلَى الْفَجْرِ ثُمَّ إلَى الظُّهْرِ كَالْأَمْسِ قَالَ فَلَازَمْته إلَى أَنْ عَلِمْت أَنَّهُ عَادَتُهُ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَمَا رَأَيْته بِالنَّهَارِ مُفْطِرًا وَلَا بِاللَّيْلِ نَائِمًا وَلَكِنْ فِي أَيَّامِ التَّعْطِيلِ فِي الضَّحْوَةِ يَأْخُذُ نَوْمَةً خَفِيفَةً. قَالَ مِسْعَرٌ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَازَمْت مَجْلِسَهُ وَمَسْجِدَهُ حَتَّى رَوَى أَبُو مُعَاذٍ أَنَّ مِسْعَرًا مَاتَ فِي مَسْجِدِ أَبِي حَنِيفَةَ سَاجِدًا. وَعَنْ أَبِي الْجَمَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَا رَأَيْته لَيْلَةً وَضَعَ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَفْعَلُ قَيْلُولَةً تَارَةً (كَصِيَامِ الدَّهْرِ) أَيْ جَمِيعِ الْعُمْرِ سِوَى الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ (وَ) صِيَامِ (الْوِصَالِ) أَيْ مُتَابَعَةِ الْأَيَّامِ بِلَا إفْطَارٍ بَيْنَهَا، وَقَدْ سَمِعْت آنِفًا الْوَاصِلِينَ وَمُدَّةَ وِصَالِهِمْ كَوِصَالِ أَبِي بَكْرٍ إلَى السِّتَّةِ وَوِصَال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ إلَى السَّبْعَةِ. (وَالْقِيَامُ فِي كُلِّ اللَّيَالِي) وَأَيْضًا كَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حَفِظْت الْقُرْآنَ وَأَنَا ابْنُ سِتِّ سِنِينَ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكُنْت أَصُومُ الدَّهْرَ وَقُوتِي خُبْزُ الشَّعِيرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ عَزَمْت أَنْ أَطْوِيَ ثَلَاثَةَ لَيَالٍ ثُمَّ أُفْطِرَ لَيْلَةً ثُمَّ خَمْسًا ثُمَّ سَبْعًا ثُمَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَمَكَثْت عَلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ خَرَجْت أَسِيحُ فِي الْأَرْضِ سِنِينَ ثُمَّ رَجَعْت إلَى تُسْتَرَ وَكُنْت أَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ كَذَا فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ. وَفِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ كَانَ يُحْيِي اللَّيَالِيَ كُلَّهَا مِنْ التَّابِعِينَ وَتَبَعِ التَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَعَلْقَمَةَ وَحَمَّادٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَفُضَيْلٍ وَطَاوُسٍ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ بَكَّارَ وَابْنِ عَاصِمٍ وَأَبِي جَابِرٍ وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَيَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ وَابْنِ الْمِنْهَالِ كَانُوا كُلُّهُمْ لَا يَضَعُونَ جَنْبَهُمْ عَلَى الْفِرَاشِ فِي اللَّيَالِيِ وَيُصَلُّونَ الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ فَيَكُونُ قِيَامُهُمْ غِذَاءَ رُوحِهِمْ وَحَيَاةَ قُلُوبِهِمْ وَصِيَانَةَ حَوَاسِّهِمْ وَلِسَانِهِمْ عَنْ التَّعْطِيلِ إلَى أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ وَالسَّهَرُ لَذِيذَةً وَالنَّوْمُ مَعْصِيَةً وَقَطِيعَةً عَنْ رَبِّهِمْ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد أَنَّ السَّلَفَ إذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً طَوَى فِرَاشَهُ وَلَمْ يَضَعْ فِي جَنْبِهِ فِي اللَّيَالِيِ إلَّا بِقَيْلُولَةٍ بَعْدَ صَلَاةِ الضُّحَى وَكَذَا مِنْ النِّسْوَانِ لَا تُعَدُّ كَرَابِعَةَ وَمَيْمُونَةَ الزِّنْجِيَّةِ. وَعَنْ عَلِيٍّ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ وِرْدًا بِاللَّيْلِ وَهُوَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ فَرُبَّمَا يَخْتِمُهُ فِي رَكْعَتَيْنِ وَرُبَّمَا يَخْتِمُهُ فِي جَمِيعِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ خَتَمَهُ قَبْلَ تَمَامِ اللَّيْلِ يَدْعُو وَيُنَاجِي وَيَبْكِي إلَى وَقْتِ الْفَجْرِ وَعَامَّةُ نَهَارِهِ فِي الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ صَائِمًا وَاَللَّهِ لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ فِي وَرَعِهِ وَدِينِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَفِي قَاضِي خَانْ وَخِزَانَةِ الْمُفْتِينَ يَخْتِمُ فِي كُلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ إحْدَى وَسِتِّينَ خَتْمَةً ثَلَاثِينَ فِي أَيَّامِهِ وَثَلَاثِينَ فِي لَيَالِيهِ وَوَاحِدَةً فِي التَّرَاوِيحِ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ نُعَيْمٍ كُلَّمَا أَتَيْت مَسْجِدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْلًا أَسْمَعُ وُقُوعَ دُمُوعِهِ عَلَى الْحَصِيرِ كَأَنَّهُ يُمْطِرُ السَّقْفَ. وَعَنْ الْفَرَائِدِ شَرْحِ الْكَنْزِ صَلَّى أَبُو حَنِيفَةَ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَعَامَّةُ لَيْلِهِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ يُسْمَعُ بُكَاؤُهُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى يَرْحَمَهُ جِيرَانُهُ وَأَنَّهُ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ سَبْعَةَ آلَافِ مَرَّةً (وَالِاجْتِنَابُ عَنْ الشُّبُهَاتِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُشْتَهَيَاتُ أَيْ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ مَا تَمَنَّتْ نَفْسِي مِنْ الشَّهَوَاتِ إلَّا مَرَّةً تَمَنَّتْ خُبْزًا وَبَيْضًا وَأَنَا فِي سَفْرَةٍ فَعَدَلْت إلَى قَرْيَةٍ فَأَخَذَنِي أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَقَالُوا إنَّهُ مِنْ اللُّصُوصِ فَضَرَبُونِي سَبْعِينَ دِرَّةً ثُمَّ عَرَفُونِي فَاعْتَذَرُوا فَحَمَلَنِي وَاحِدٌ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَدَّمَ إلَيَّ خُبْزًا وَبَيْضًا فَقُلْت لِنَفْسِي كُلِّي بَعْدَ سَبْعِينَ دُرَّةً. وَفِيهِ أَيْضًا اشْتَهَى أَبُو الْخَيْرِ الْعَسْقَلَانِيُّ

السَّمَكَ سِنِينَ ثُمَّ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعٍ حَلَالٍ فَلَمَّا مَدَّ إلَيْهِ يَدَهُ لِيَأْكُلَ أَخَذَتْ شَوْكَةٌ مِنْ عِظَامِهِ أُصْبُعَهُ فَذَهَبَتْ فِي ذَلِكَ يَدُهُ فَقَالَ يَا رَبِّ هَذَا لِمَنْ مَدَّ يَدَهُ بِشَهْوَةٍ إلَى حَلَالٍ فَكَيْفَ بِمَنْ مَدَّ إلَى حَرَامٍ وَفِي بَابِ الْوَرَعِ مِنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ بَابًا مِنْ الْحَرَامِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَفِيهِ أَيْضًا قِيلَ إنَّ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ مَكَثَ بِالْبَصْرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ تَمْرِ الْبَصْرَةِ وَلَا مِنْ رُطَبِهَا حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَذُقْهُ قَالَ يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ هَذَا بَطْنِي مَا نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا زَادَ فِيكُمْ وَيُقَالُ جَاءَتْ أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِيِّ إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَتْ إنَّا نَغْزِلُ عَلَى سُطُوحِنَا بِشُعْلَةِ الْمَلِكِ هَلْ يَجُوزُ لَنَا الْغَزْلُ فِي شُعَاعِهَا. وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا الْمَشَاعِلُ الظَّاهِرِيَّةُ فَقَالَ مَنْ أَنْتِ عَافَاك اللَّهُ قَالَتْ أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِيِّ فَبَكَى أَحْمَدُ وَقَالَ مِنْ بَيْتِكُمْ يَخْرُجُ الْوَرَعُ الصَّادِقُ لَا تَغْزِلِي فِي شُعَاعِهَا وَرَهَنَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ سَطْلًا لَهُ عِنْدَ بَقَّالٍ فَلَمَّا أَرَادَ فِكَاكَهُ أَخْرَجَ الْبَقَّالُ إلَيْهِ سَطْلَيْنِ وَقَالَ خُذْ أَيَّهُمَا لَك فَقَالَ أَشَكْلَ سَطْلِي فَهُوَ لَك وَالدَّرَاهِمُ لَك فَقَالَ الْبَقَّالُ سَطْلُك هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَدْت اخْتِبَارَك فَلَمْ يَأْخُذْ وَكَانَ رَجُلٌ يَكْتُبُ رُقْعَةً فِي بَيْتٍ بِكِرَاءٍ فَأَرَادَ أَنْ يُتَرِّبَ الْكِتَابَ مِنْ جِدَارِ الْبَيْتِ فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الْبَيْتَ بِالْكِرَاءِ ثُمَّ إنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ لَا حَظْرَ لِهَذَا فَتَرَّبَ الْكِتَابَ فَسَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ سَيَعْلَمُ الْمُسْتَخِفُّ بِالتُّرَابْ مَا يَلْقَاهُ غَدًا مِنْ طُولِ الْحِسَابْ. وَقِيلَ رَجَعَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ مَرْوَ إلَى الشَّامِ فِي قَلَمٍ اسْتَعَارَهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ. وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ لَا يَنَامُ مُضْطَجِعًا وَلَا يَأْكُلُ سَمِينًا وَلَا يَشْرَبُ بَارِدًا سِتِّينَ سَنَةً فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَمَا مَاتَ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك فَقَالَ خَيْرًا غَيْرَ أَنِّي مَحْبُوسٌ عَنْ الْجَنَّةِ بِإِبْرَةٍ اسْتَعَرْتهَا فَلَمْ أَرُدَّهَا وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يُجَاوِرُ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ فَقِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى دُهْنِ السِّرَاجِ فَيُطَالِعُ كِتَابَهُ بِضِيَاءِ الْقَمَرِ وَالْقَنَادِيلُ تُضِيءُ إلَى الْفَجْرِ قِيلَ لَهُ لَوْ نَظَرْت بِضِيَاءِ الْقَنَادِيلِ لَوَضَحَ الْخَطُّ وَالنَّظَرُ بِضِيَاءِ الْقَمَرِ يُنْقِصُ نُورَ بَصَرِك فَقَالَ الْقِنْدِيلُ لِلْكَعْبَةِ لَا لِمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ فَالنَّظَرُ الْمُفَرِّقُ لِلْبَصَرِ مِنْ الْمُبَاحِ خَيْرٌ مِنْ النَّظَرِ الْمَزِيدِ نُورُهُ مِنْ غَيْرِهِ (وَالطَّيِّبَاتِ) مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَسَاكِنِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ السَّادَاتِ (وَالْخَتْمِ) عُطِفَ عَلَى الِاجْتِنَابِ أَوْ صِيَامِ الدَّهْرِ (فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بَلْ مَرَّاتٍ) كَثِيرَةً كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَيْضًا فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقَسْطَلَّانِيِّ أَخْبَرَنِي الْبُرْهَانُ بْنُ شَرِيفٍ أَنَّهُ يَخْتِمُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ خَتْمَةً وَالنَّجْمُ الْأَصْبَهَانِيُّ رَأَى رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ خَتَمَ فِي شَوْطٍ وَأُسْبُوعٍ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِيُّ خَتَمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ خَتْمَتَيْنِ وَأَخْبَرَنَا عَنْ الْمَرْصَفِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ فِي أَيَّامِ سُلُوكِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ خَتْمٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ خَتْمٍ كُلَّ دَرَجَةٍ أَلْفُ خَتْمٍ وَهَذَا لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا بِفَيْضٍ رَبَّانِيٍّ وَمَدَدٍ رَحْمَانِيٍّ انْتَهَى. قِيلَ وَلَا يُسْتَبْعَدُ هَذَا عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ غَلَبَتْ رُوحَانِيَّاتُهُمْ عَلَى جُسْمَانِيَّاتهمْ وَالرُّوحُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ - وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - ثُمَّ نَقُولُ حَاصِلُ سُؤَالِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتِ عَنْ السَّلَفِ مُعَارِضَةٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعَارُضَ لَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ فَلَا يُقَالُ الْقِيَاسُ مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ وَلِلْإِجْمَاعِ بَلْ ثُبُوتُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي كَوْنَ تِلْكَ الْمَنْقُولَاتِ مُحَرَّمَاتٍ وَارْتِكَابُ مَنْهِيَّاتٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ التَّعْبِيرُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْسَارِ نَحْوُ أَنْ يُقَالَ فَبَعْدَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ مَا وَجْهُ مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَوْ يُقَالَ لَيْسَ النُّصُوصُ وَالْأَدِلَّةُ كَمَا فُهِمَتْ وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ إلَّا أَنْ يُقَالَ التَّعَارُضُ هُنَا تَجَوُّزٌ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ فَتَأَمَّلْ. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِجَعْلِ تَصْوِيرِ السُّؤَالِ هَكَذَا: دَلِيلُكُمْ وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ لُزُومِ الِاقْتِصَادِ وَلَكِنْ عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْإِفْرَاطِ مِنْ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ لَمَا فَعَلُوا وَالِاجْتِرَاءُ عَلَى جَهَالَتِهِمْ أَوْ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِ عِلْمِهِمْ لَيْسَ بِجَائِزٍ بَعِيدٌ عَنْ الْإِنْصَافِ (قُلْنَا) فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ (أَوَّلًا) . فَإِنْ قِيلَ: إنَّ أَوَّلًا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ دَلِيلُ الْأُولَى وَالْأَوَائِلِ فَمَا وَجْهُ تَنْوِينِهِ قُلْنَا إنَّهُ هُنَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى قَبْلُ وَهُوَ حِينَئِذٍ مُنْصَرِفٌ وَلَا وَصْفِيَّةَ لَهُ أَصْلًا، وَإِذَا جَعَلْته صِفَةً لَمْ تَصْرِفْهُ تَقُولُ لَقِيتُهُ عَامًا

أَوَّلَ أَيْ قَبْلَ الْجَوَابَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ (لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْوَحْيِ) ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالظَّاهِرُ مَتْلُوًّا أَوْ غَيْرَ مَتْلُوٍّ فَتَأَمَّلْ فِيهِ (وَغَيْرُهُ) أَيْ وَبَيْنَ غَيْرَ الْوَحْيِ كَالْمَنْقُولِ الْمَذْكُورِ عَنْ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى التَّعَارُضِ عَلَى التَّمَاثُلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ (حَتَّى نَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ) بَلْ اللَّازِمُ فِيهِ الْأَخْذُ بِالْأَقْوَى وَتَرْكُ الْأَضْعَفِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ (فَعَلَيْك الْأَخْذَ بِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) وَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِإِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا بِغَيْرِهِ كَالسَّلَفِ لَكِنْ يُرَادُ أَنَّا سِيَّمَا الْمُقَلَّدِينَ مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ الْأَعْلَمِ وَالْأَوْرَعِ وَأَنَّهُ قَدْ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ دَلِيلَ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ إلَّا قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ وَكَذَا فِعْلُهُ كَمَا فِي الْأُصُولِ. وَأَمَّا النُّصُوصُ فَمُخْتَصَّةٌ بِالْمُجْتَهِدِ وَقُرِّرَ أَيْضًا إذَا تَخَالَفَ النَّصُّ مَعَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ يُقَدَّمُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لِجَوَازِ كَوْنِ النَّصِّ مُؤَوَّلًا أَوْ مُخَصَّصًا أَوْ مَنْسُوخًا يَعْرِفُهَا الْمُجْتَهِدُ دُونَ الْمُقَلِّدِ وَأَنَّ هَذَا يُورِثُ تَضْلِيلَ السَّلَفِ وَسُوءَ الظَّنِّ بِهِمْ فَلَعَلَّهُ لَمَّا ذُكِرَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ رَدَّ الْجَوَابَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيَكُونَانِ تَسْلِيمِيَّيْنِ. (وَثَانِيًا أَنَّا نَمْنَعُ صِحَّةَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ إذَا لَمْ يَقَعْ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الْأُمُورِ الْمَنْقُولَةِ (بَحْثٌ) طَلَبٌ وَتَفَحُّصٌ (وَتَفْتِيشٌ) يُوجِبُ صِحَّةَ الصَّدَرِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ كَالتَّوَاتُرِ وَالشُّهْرَةِ وَالْوَاحِدُ بِشُرُوطِ الرِّوَايَةِ مِنْ نَحْوِ الْعَدْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَدِ (بَلْ أَكْثَرِهَا خَالٍ عَنْ) أَصْلِ (السَّنَدِ) فَضْلًا عَنْ وَصْفِهِ كَالْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ فِيهِ تَلْقِينًا بِالْجَوَابِ إذْ تَقَيُّدُ الْأَكْثَرِيَّةِ يَقْتَضِي اعْتِرَافَ مَسْأَلَةِ الْخَصْمِ فِي جَانِبِ الْأَقَلِّ وَهُوَ يَكْفِي لَهُ فَالتَّفْسِيرُ أَنَّ بَعْضَهَا أَيْ الْأَقَلَّ مُشْتَمِلٌ لِلسَّنَدِ الصَّحِيحِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ (بِخِلَافِ الْكِتَابِ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ كُلُّهُ (وَالْأَخْبَارُ النَّبَوِيَّةُ) أَيْ الْمَذْكُورَةُ هُنَا فَلَا يَضُرُّهُ وُجُودُ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ بَلْ الْمَوْضُوعَةُ أَنْفُسُهَا وَأَنَّ الْمَذْكُورَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُتُبٍ صَحِيحَةٍ مُتَعَاضِدَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ بَلْ لِكَوْنِ مَآلِ مَعَانِيهَا رَاجِعًا إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ يَرْتَقِي إلَى الْمَشْهُورِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى فَيُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ وَلَا يَضُرُّ عَدَمَ مَعْلُومِيَّةِ وُجُودِ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ فِي بَعْضِهَا بَلْ غَايَتُهَا بَيَانَاتٌ وَتَفْسِيرَاتٌ لِمُجْمَلَاتِ الْكِتَابِ وَخَفَايَاتِهَا. (فَلَا مُسَاوَاةَ فِي النَّقْلِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ) هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ إمْكَانِ التَّعَارُضِ بَيْنَ أَصْلِ الْوَحْيِ وَبَيْنَ أَصْلِ الْمَنْقُولِ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا فَلَا يُرَدُّ أَنَّهُ يُوهِمُ صِحَّةَ التَّعَارُضِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا سَنَدًا لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ لِبَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ السَّلَفِيَّةِ سَنَدًا صَحِيحًا كَمِثْلِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ آنِفًا بِقَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهَا خَالٍ عَنْ السَّنَدِ نَعَمْ التَّعَاضُدُ الْمَعْنَوِيُّ بَاقٍ فِي الْأَخْبَارِ دُونَ الْمَنْقُولَاتِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ الْجَوَابِ الثَّانِي رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ صُدُورِ تِلْكَ الْمَنْقُولَاتِ مِنْهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ عَدَمُ التَّوَاتُرِ بَلْ الشُّهْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَشْخَاصِهِمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَوْعِهِمْ إذْ التَّوَاتُرُ الْمَعْنِيُّ ظَاهِرٌ فِي جِنْسِهِمْ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ أَيْضًا مُؤَدٍّ إلَى ارْتِفَاعِ الْأَمْنِ وَالِاعْتِمَادِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى الْكُتُبِ سِيَّمَا الْمُعْتَبَرَةِ كَقَاضِي خان وَالرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَأَيْضًا حَاصِلُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ إبْقَاءُ الْمَنْعِ وَعَدَمُ الْجَوَازِ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّقَيُّدِ وَالِاهْتِمَامِ بِاسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ فِي عِبَادَةِ الْمَعْبُودِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْ الثَّقَلَيْنِ إلَّا لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ الْإِنْصَافِ بَلْ ظَاهِرُ بَعْضِ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] ، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . وَبَعْضُ صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ مِنْ «إيثَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثْرَةَ الْجُوعِ عَلَى نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَرْبِطَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ وَقِيَامَهُ اللَّيْلَ إلَى أَنْ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إلَى أَنْ انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى أَنْ تَشَقَّقَتْ قَدَمَاهُ» يَقْتَضِي وُقُوعَ ذَلِكَ أَيْضًا وَبِمَا حُرِّرَ تَبَيَّنَ التَّعَارُضُ الْحَقِيقِيُّ بَيْنَ النُّصُوصِ فَلَعَلَّ الْأَوْلَى التَّوْفِيقُ بِنَحْوِ أَنْ يُقَالَ الْمَنْعُ لِلْمُبْتَدِئِينَ الَّذِينَ إذَا أَتَوْا تِلْكَ الْكَثْرَةَ فِي الِابْتِدَاءِ لَزِمَ إلْقَاءُ أَنْفُسِهِمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَالْجَوَازُ لِلْمُنْتَهِينَ الَّذِينَ صَارَتْ تِلْكَ الْكَثْرَةُ لَهُمْ كَالْغِذَاءِ بِلَذَّةٍ بِلَا ثَقْلَةٍ وَكُلْفَةٍ فَلَعَلَّ

لِذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْجَوَابَ الثَّانِيَ تَسْلِيمِيًّا وَجَعَلَ مَدَارَ التَّسْلِيمِ جِنْسَ مَا ذُكِرَ فَافْهَمْ. (وَثَالِثًا أَنَّ الْمَنْعَ عَنْ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ مُعَلَّلٌ) فِي الشَّرْعِ (بِعِلَّتَيْنِ) إحْدَاهُمَا (لَمِّيَّةٌ) اعْلَمْ أَنَّ الْبُرْهَانَ إمَّا لَمِّيٌّ إنْ كَانَ الِاسْتِدْلَال مِنْ الْعِلَّةِ إلَى الْمَعْلُولِ وَإِمَّا إنِّيٌّ إنْ كَانَ الْمَعْلُولُ إلَى الْعِلَّةِ، وَإِنْ شِئْت قُلْت إنْ كَانَ الْوَسَطُ عِلَّةً فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ فَلَمِّيٌّ، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّهْنِ دُونَ الْخَارِجِ فَإِنِّيٌّ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالنَّارِ عَلَى الدُّخَانِ فِي اللَّمِّيِّ وَبِالدُّخَانِ عَلَى النَّارِ فِي الْإِنِّيِّ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَ (هِيَ الْإِفْضَاءُ) أَيْ الْإِيصَالُ (إلَى إهْلَاكِ النَّفْسِ) الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، فَإِنَّ التَّشْدِيدَاتِ الصَّعْبَةَ رُبَّمَا تُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي دَوَامِ تَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَدَوَامِ السَّهَرِ (أَوْ إضَاعَةِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ) عَلَيْهِ (لِلْغَيْرِ) وَهُوَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ عِيَالِهِ وَأَوْلَادِهِ (أَوْ تَرْكِ الْعِبَادَةِ) لِضَعْفِ الْبَدَنِ وَفَسَادِ الْبِنْيَةِ فَمَا يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ فَحَرَامٌ (أَوْ تَرْكِ مُدَاوَمَتِهَا) كَتَرْكِ مُدَاوَمَةِ الْجَمَاعَةِ لِضَعْفِ الْبَدَنِ النَّاشِئِ مِنْ إفْرَاطِ الْعِبَادَةِ. (وَ) ثَانِيَتُهُمَا (آنِيَةٌ) ، وَقَدْ عُرِفَتْ آنِفًا (هِيَ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرْسِلَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فَلِذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا وَمِنْ رَحْمَتِهِ وَشَفَقَتِهِ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى جُمْلَةِ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ بَلْ كَانَ حَرِيصًا فِي هِدَايَتِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ وَمِنْ رَحْمَتِهِ وَشَفَقَتِهِ طَلَبُ خِفَّةِ الصَّلَوَاتِ مِنْ خَمْسِينَ إلَى خَمْسٍ وَكَانَ يَغْضَبُ مِنْ سُؤَالِ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ مَخَافَةَ نُزُولِ مَشْرُوعِيَّتِهَا قَائِلًا اُتْرُكُونِي مَا تَرَكَتْكُمْ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] . قَالَ «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (وَ) هُوَ (مُؤَيَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقْوَى) أَيْ يَقْدِرُ (عَلَى مَا) مِنْ الطَّاعَاتِ الشَّاقَّةِ (لَا يَقْوَى عَلَيْهِ آحَادُ الْأُمَّةِ) إذْ شَأْنُ مَنْ كَانَ مُؤَيَّدًا مِنْ عِنْدِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَّلَ لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا وَجَمَعَ لَهُ الْفَضَائِلَ الدِّينِيَّةَ كُلَّهَا نَسَقًا فَإِنْ قِيلَ التَّحَمُّلُ بِالْمَشَاقِّ الْبَدَنِيَّةِ وَلَوْ لِلْعِبَادَةِ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ حَتَّى يَصِحَّ تَفْرِيعُهُ عَلَيْهِ قُلْت حَاصِلُ ذَلِكَ الْجَوَابُ رَاجِعٌ إلَى مُقَاسَاةِ مِحَنِ الطَّاعَةِ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ لُزُومِ الْقُوَّةِ الْبَدَنِيَّةِ كُلُّ مَا يُكْمِلُ بِهِ عَادَةً وَيُعَدُّ مِنْ كَمَالِ الْإِنْسَانِ عُرْفًا فَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الشِّفَاءِ (وَأَنَّهُ أَخْشَى النَّاسِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَتْقَاهُمْ) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] (وَأَعْلَمُهُمْ بِاَللَّهِ) ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ (فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْبُخْلُ) ؛ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ نَافِيَةٌ لَهُ (وَتَرْكُ النُّصْحِ) كَأَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِلْبُخْلِ وَأَنَّ مُوجِبَ كَوْنِهِ رَحْمَةً أَنْ يُوَضِّحَ كُلَّ مَا يَنْفَعُ لِلْأُمَّةِ (وَلَا التَّوَانِي) أَيْ الضَّعْفُ وَالْفُتُورُ فِي إتْيَانِهِ وَتَبْلِيغِهِ لَكَانَ تَقَوِّيهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا التَّكَاسُلُ) ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ خَشْيَةٌ رَبَّانِيَّةٌ لَا يَتَكَاسَلُ فِي طَرِيقِهِ سِيَّمَا مَنْ كَانَ لَهُ وُسْعٌ وَتَقْوَى فَالتَّوَانِي مِمَّنْ لَهُ ضَعْفٌ فِي ذَاتِهِ وَالتَّكَاسُلُ مِمَّنْ

لَيْسَ لَهُ ضَعْفٌ بَلْ لَهُ قُوَّةٌ وَلَكِنْ يَتَكَاسَلُ فَلَيْسَ عَطْفًا لَهُ كَمَا تَوَهَّمَ. (وَلَا الْجَهْلُ) لَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُمْ سِيَّمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمْ كَالْإِفْرَاطِ فِي الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ فَلَا يُتَصَوَّرُ لَهُ الْجَهْلُ (فِي أَمْرِ الدِّينِ) الظَّاهِرُ مَعْنَى كَوْنِهِ قَيْدًا لِلْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ لَفْظًا كَوْنُهُ قَيْدًا لِلْأَخِيرِ فَقَطْ وَأَيْضًا هَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِقَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ الْقَيْدَ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ هَلْ لِلْمُجْتَمِعِ أَوْ لِلْأَخِيرِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ (فَلَوْ كَانَ فِي الْعِبَادَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى طَرِيقٌ) مَوْصُولٌ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ غَيْرَ مَا) أَيْ طَرِيقٍ (هُوَ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِيهِ) فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ (لَفَعَلَهُ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَوْ بَيَّنَهُ وَحَثَّ) أَغْرَى وَحَرَّضَ (عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ هَادِي الْأُمَّةِ وَمُبَلِّغُ الْأَمَانَةِ وَنَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (فَنَجْزِمُ قَطْعًا أَنَّ) جَمِيعَ (مَا هُوَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا وَأَحْوَالًا (وَأَفْضَلُ) عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَنْفَعُ) لِلْعَابِدِ (وَأَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ لِلْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْأَخِيرِ فَقَطْ وَلَوْ خُصَّ بِذَلِكَ فَلَا يَخْلُو عَنْ وَجْهٍ إذْ الْكُلُّ رَاجِعٌ إلَى رِضَاهُ تَعَالَى وَمُعْظَمُ مَقْصُودِ الْمُتَصَوِّفَةِ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَأَمَّلْ. هَذَا ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ أَوْ بَيَّنَهُ إنْ أَرَادَ الْبَيَانَ التَّفْصِيلِيَّ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ عَمَلٍ شَرْعِيٍّ وَأَنَّ الْإِجْمَالِيَّ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ صُدُورِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ ظَاهِرٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . وَقَوْلِهِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، وَقَوْلِهِ {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَامَةُ إعْرَاضِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِهِ اشْتِغَالُهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَأَنَّ امْرَأً لَوْ أَذْهَبَ سَاعَةً مِنْ عُمْرِهِ إلَى غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ لَجَدِيرٌ أَنْ تَطُولَ حَسْرَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَوْلُهُ لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا وَنَحْوُهَا بَيَانٌ إجْمَالِيٌّ لِجَمِيعِ مَا أَتَى بِهِ السَّلَفُ مِمَّا عُدَّ إفْرَاطًا فَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ لَيْسَ غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ عَلَى خُصُوصِهِ وَتَفْصِيلِهِ بَيَانٌ نَبَوِيٌّ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَابَ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ النَّبَوِيَّةِ وَإِشَارَاتِهَا وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ التَّجَاوُزُ عَنْ التَّجْدِيدِ النَّبَوِيِّ وَكُلُّهُمْ صَالِحُونَ وَأَكْثَرُهُمْ مُجْتَهِدُونَ وَهُمْ الْعَارِفُونَ مَعَانِيَ النُّصُوصِ وَالْمُرَادَ الْحَقِيقِيَّ مِنْهَا وَفِيهِمْ صَحَابِيٌّ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِ مَنْ بَعْدَهُمْ إيَّاهُمْ فِيمَا شَاعَ وَسَكَتُوا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقِيلِ إذَا لَمْ يَرِدْ إنْكَارٌ مِمَّنْ فِي قَرْنِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ تَابِعِيٌّ وَالتَّابِعِيُّ كَالصَّحَابِيِّ إنْ ظَهَرَ فِي عَصْرِهِمْ عَلَى اخْتِيَارِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَتَصْحِيحِ بَعْضِهِمْ. وَمَذْهَبُ إمَامِنَا أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى وُجُوبُ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ عَلَى الْأَعْلَمِ مِنْهُ وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِمْ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالْإِمَامِ كَمَا سَمِعْت سَابِقًا لَعَلَّ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَتَمَشَّى بِجِنْسِ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ التَّوْفِيقِ بِحَالِ الِابْتِدَاءِ كَمَا لِلْعَوَامِّ وَحَالِ الِانْتِهَاءِ كَمَا لِلْخَوَّاصِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ» ، فَإِذَا قَالُوهُ لَا يُنْكِرُهُ إلَّا أَهْلُ الْغُرَّةِ بِاَللَّهِ فُسِّرَ أَهْلُ الْغُرَّةِ بِالْعُلَمَاءِ الظَّاهِرِيَّةِ وَمَا اعْتَذَرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ فَيُحْمَلُ مَا رُوِيَ إلَخْ فَسَتَعْرِفُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ قِيلَ إشَارَةً إلَى تَعْرِيضِ الْمُصَنِّفِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا مِقْدَارُ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الظَّاهِرِ مِنْ سِيرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَمَّا سِيرَتُهُ الْخَاصَّةُ الْبَاطِنَةُ فَأَسَرَّهَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَوَاصِّ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهَا الْعُلُومُ الْمَخْزُونَةُ وَالْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ الْمَكْنُونَةُ. وَقَالَ «فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: وَعَلَّمَنِي عُلُومًا شَتَّى فَعِلْمٌ أَخَذَ عَلَيَّ كِتْمَانَهُ وَعِلْمٌ خَيَّرَنِي فِيهِ وَعِلْمٌ أَمَرَنِي بِتَبْلِيغِهِ» الْحَدِيثُ فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالْعِلْمِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وِعَاءَيْنِ مِنْ الْعِلْمِ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْته، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ

بَثَثْته لَقُطِعَ مِنِّي هَذِهِ الْبُلْعُومُ أَيْ الْحُلْقُومُ أَيْ لَقُتِلَ إلَى آخِرِ مَا قَالَ مِنْ كَلِمِهِ الطِّوَالِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَيْسَ بِصَدَدِ نَفْيِ عِلْمِ الْبَاطِنِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُقِرٌّ بِأَهْلِهِ وَمُعْتَرِفٌ بِهِ كَيْفَ، وَقَدْ عَظَّمَهُمْ فِيمَا سَبَقَ حِينَ احْتَجَّ بِكَلِمَاتِهِمْ وَفِيمَا سَيَأْتِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَفِي هُنَا تَمَّ الْأَجْوِبَةُ ثُمَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ كَأَنَّهُ قَالَ الِاقْتِصَادُ شَيْءٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالْأَخْبَارُ وَأَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا فَثَابِتٌ أَوْ لَازِمٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَارَضَ عَلَيْهِ السَّائِلُ بِقَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مُعَارَضٌ بِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا فَلَيْسَ بِثَابِتٍ. وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ بِمَنْعِ التَّعَارُضِ أَوَّلًا بِاسْتِنَادِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَبَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ بِمَنْعِ صِحَّةِ النَّقْلِ عَنْ السَّلَفِ ثَانِيًا بِاسْتِنَادِ عَدَمِ التَّفَحُّصِ وَخُلُوِّ الْأَكْثَرِ عَنْ الْأَسَانِيدِ فَالْأَوَّلُ مَنَعَ وُجُودَ أَصْلِ التَّعَارُضِ وَالثَّانِي بِالتَّرْجِيحِ وَلَعَلَّ الْجَوَابَ الثَّالِثَ مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْمُدَّعَى بِالدَّلِيلِ وَلَعَلَّك تَقُولُ مُعَارَضَةٌ عَلَى الْمُعَارَضَةِ كَمَا جَوَّزَ فِي مَحَلِّهَا تَقْرِيرَ اللَّمِّيِّ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ الِاقْتِصَادُ لَأَفْضَى إلَى هَلَاكِ النَّفْسِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ وَتَقْرِيرُ الْإِنِّيِّ لَوْ كَانَ الثَّابِتُ شَرْعًا غَيْرَ الِاقْتِصَادِ لَبَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ فَلَيْسَ أَيْضًا أَوْ تَقُولُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ مُفْضٍ إلَى الْهَلَاكِ فَلَيْسَ بِثَابِتٍ أَوْ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ أَمْرٌ لَمْ يُبَيِّنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ بِثَابِتٍ. وَوَجْهُ كَوْنِ الْأَوَّلِ لَمِّيًّا أَنَّهُ عِلَّةٌ فِي الْخَارِجِ وَالذِّهْنِ مَعًا وَالثَّانِي إنِّيًّا أَنَّهُ عِلَّةٌ فِي الذِّهْنِ فَقَطْ إذَا لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ وَجْهُ عَدَمِ فِعْلِهِ وَبَيَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَتَأَمَّلْ وَلَمَّا لَزِمَ مِنْ الْجَوَابِ تَخْطِئَةُ السَّلَفِ أَشَارَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْهُمْ بِتَأْوِيلِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ فَقَالَ (فَيُحْمَلُ) بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ صِيغَةُ مَجْهُولٍ وَبِالنُّونِ مَعْلُومٌ. (مَا رُوِيَ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ التَّشْدِيدَ إمَّا مُدَاوَاةً) مِنْ الدَّوَاءِ (لِأَمْرَاضِ الْقُلُوبِ) ؛ لِأَنَّ لِلْقُلُوبِ مَرَضًا كَمَا لِلْأَجْسَامِ وَكَمَا أَنَّ الْأَمْرَاضَ الْجِسْمِيَّةَ تُدَاوَى كَذَلِكَ الْقَلْبِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَبْدَأُ كُلِّ مَكَارِهٍ مِنْ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَالْقَبَائِحِ الْأَرْكَانِيَّةِ الْجَارِحِيَّةِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْغَفَلَاتِ وَالْغُرُورِ وَالِاشْتِغَالِ بِاكْتِسَابِ الْفَانِيَاتِ وَعَاجِلَاتِ السُّرُورِ فَمُعَالَجَةُ ذَلِكَ بِدَوَاءِ الْأَضْدَادِ مِنْ الصِّيَامِ عَلَى الدَّوَامِ وَالصَّلَاةِ سِيَّمَا فِي دَوَامِ الْقِيَامِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يُوجِبُ كَالْمُنَاكَحَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ صَرِيحٌ فِي صُدُورِ تِلْكَ التَّشْدِيدَاتِ مِنْ السَّلَفِ وَمَآلُ الْأَجْوِبَةِ عَلَى عَدَمِهِ إذْ الْكَلَامُ عَلَى اعْتِقَادِ حُسْنِ السَّلَفِ فَمَنْ يَعْتَقِدُ حُسْنَهُمْ لَا يَنْسُبُهُمْ إلَى فِعْلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ عَدَمُ جَوَازِ الصُّدُورِ مَا يَكُونُ بِلَا تَأْوِيلٍ وَمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مَا بِتَأْوِيلٍ فَلَا تَعَارُضَ لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ. (أَوْ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ عَادَةً لَهُمْ) بِكَثْرَةِ التَّكْرَارِ وَدَوَامِ الِاسْتِمْرَارِ لَكِنْ يَرُدُّهُ حَدِيثُ «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» مَعَ أَنَّ شَأْنَ السَّلَفِ الْتِزَامُ إتْيَانِ الْأَفْضَلِ (وَطَبْعًا) أَيْ كَطَبْعٍ بِلَا تَكَلُّفٍ (كَغِذَاءٍ لِلصَّحِيحِ) فِي أَنَّ صَحِيحَ الْبَدَنِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْغِذَاءِ لِإِبْقَاءِ صِحَّتِهِ وَدَوَامِ رُوحِهِ (فَيَتَلَذَّذُونَ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَالْعَارِفُ قَدْ يَأْنَسُ بِالْعِبَادَاتِ فَيَسْتَلِذُّ فَيَكُونُ الْمَنْعُ أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ مَا أَخَافُ مِنْ الْمَوْتِ إلَّا مِنْ حَيْلُولَتِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَقَالَ آخَرُ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي قُوَّةَ الصَّلَاةِ فِي الْقَبْرِ انْتَهَى لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ مَا أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ أَنَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَدْخَلْت ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ لَحْدَهُ وَمَعِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ فَلَمَّا سَاوَيْنَا عَلَيْهِ اللَّبِنَ سَقَطَتْ لَبِنَةٌ، فَإِذَا أَنَا بِهِ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ. وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَشَدُّ لَذَّةً مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ وَعَنْ بَعْضٍ لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ إلَّا حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ ثَوَابٌ عَاجِلٌ لَهُمْ. وَعَنْ ابْنِ بَكَّارَ أَنَّهُ قَالَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَحْزَنَنِي إلَّا طُلُوعُ الْفَجْرِ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ كَيْفَ أَنْتَ بِاللَّيْلِ قَالَ مَا رَاعَيْته قَطُّ يُرِينِي وَجْهَهُ وَمَا تَأَمَّلْته كَذَا فِي الْعَوَارِفِ (بِلَا إضَاعَةِ حَقٍّ) لَهُ تَعَالَى وَلِعَبْدِهِ كَمَا مَرَّ (وَلَا تَرَكَ) (مُدَاوَمَةَ) الْعِبَادَاتِ اللَّازِمَةِ كَالْجَمَاعَةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ (وَلَا اعْتِقَادَ أَنَّهُ) أَيْ التَّشْدِيدُ (أَفْضَلُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الْبَشَرِ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الِاقْتِصَادِ وَالتَّوَسُّطِ (أَوْ) أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي (قَالَهُ)

بَلْ شَأْنُهُمْ اسْتِقْصَارُ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ دَائِمًا وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ تِلْكَ الطَّاعَاتِ أَحْقَرَ مِنْ الْكُلِّ بِالذُّنُوبِ وَالتَّقْصِيرَاتِ. كَمَا حُكِيَ عَنْ خَوَاجَهْ بَهَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ النَّقْشَبَنْدِيِّ قَدَّسَ سِرَّهُ الْعَزِيزُ أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ الْكَرَامَةِ أَيُّ كَرَامَةٍ أَعْظَمُ مِنْ الْمَشْيِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ هَذِهِ الذُّنُوبِ الْكَثِيرَةِ وَسَتَسْمَعُ مِنْ الْمُصَنِّفِ بَعْضَ اسْتِحْقَارِ أَنْفُسِهِمْ لَا يَخْفَى أَنَّ سِيَاقَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَنَّهُمْ أَحِقَّاءٌ وَمِنْ الْيَقِينِ الْقَطْعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ بِحَقٍّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْحَقِيقَةُ مَعَ غَيْرِيَّةِ مَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ إنْ أُخِذَ مِنْ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ مَا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَّا فَيَكُونُ رَأْيًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَحَسَنًا عَقْلِيًّا وَتَقْيِيدًا لِمُطْلَقَاتِ النُّصُوصِ فَلَا يَكُونُونَ عَلَى حَقٍّ وَأَيْضًا يَجُوزُ لِكُلٍّ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فَلَا تَبْقَى فَائِدَةٌ مِنْ مَنْعِ هَذَا التَّشْدِيدِ وَتَخْصِيصِ الْمَنْعِ بِغَيْرِ هَذَا التَّأْوِيلِ بَعِيدٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النُّصُوصَ وَالْأَخْبَارَ بِتَعَاضُدِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ مُفَسِّرَاتٌ فَلَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرْعِ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاقْتِصَادِ هُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَوْلَى لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّهُمْ طَائِفَةٌ الْتَزَمُوا جَانِبَ الْعَزِيمَةِ وَالِاحْتِيَاطِ نَحْوُ الْوَاجِبِ وَالْحَمْلِ عَلَى عَدَمِ عِرْفَانِهِمْ جَانِبَ الْأَوْلَى أَصْعَبُ كَيْفَ وَأَكْثَرُهُمْ مُجْتَهِدٌ وَجَمِيعُهُمْ فِي قُرْبِ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى صَنِيعِهِمْ عَلَائِمُ قَبُولِ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ نَحْوِ الْكَرَامَاتِ الْعِيَانِيَّةِ، وَالْقَوْلُ أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مُخَالَفَاتِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ مَعَ بَعْضٍ لَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ أَيْضًا وَبِالْجُمْلَةِ أَنِّي لَمْ أَجِدْ فِي الْمَقَامِ شَيْئًا غَيْرَ قُصُورِ فَهْمِي حَقِيقَةَ الْمَرَامِ (وَأَمَّا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ بَلَغَ الدَّرَجَةَ الْعُلْيَا مِنْ الْكَمَالِ) الْمُمْكِنِ لِلْبَشَرِ بِعِنَايَةٍ مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى قِيلَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا كَمَا يَدُلُّ تَفَرُّغُهُ فِي غَارِ حِرَاءَ - {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8]- وَيُوَاصِلُ فِي صِيَامِهِ وَيُبَالِغُ فِي قِيَامِهِ وَلَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ بِكَثْرَةِ عِبَادَةٍ أَصْلًا فَتَأَمَّلْ مَا فِيهِ (وَهِيَ) أَيْ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا (أَنْ لَا يَمْنَعَ عَنْ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ) إلَى عَالِمِ الْقُدْسِ وَالنُّورِ (بِشَيْءٍ) مِنْ الْعَوَائِقِ الْجِسْمِيَّةِ وَالشَّوَاغِلِ الْبَشَرِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ (لَا التَّكَلُّمِ مَعَ الْخَلْقِ وَلَا الْأَكْلِ وَلَا الشَّرَابِ وَلَا النَّوْمِ وَلَا مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ) مِنْ اللَّمْسِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ (وَتَكُونُ الْخُلْطَةُ) مَعَ الْخَلْقِ (وَالْعُزْلَةُ) مِنْ الْخَلْقِ عِنْدَهُ (سَوَاءً) . قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ أَكَابِرِ الصُّوفِيَّةِ الْخَلْوَةُ فِي الْجَلْوَةِ وَالْعُزْلَةُ فِي الْخُلْطَةِ وَالصُّوفِيُّ كَائِنٌ بَائِنٌ وَغَرِيبٌ قَرِيبٌ وَعَرْشِيٌّ فَرْشِيٌّ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِاشْتِغَالِ هَذِهِ الْحِسِّيَّاتِ لَا يَغِيبُ وَلَا يُذْهِلُ عَنْ مُطَالَعَةِ جَلَالِ اللَّهِ وَجَمَالِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] ، فَإِنْ قِيلَ الذِّهْنُ بَسِيطٌ لَا يَتَعَلَّقُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِأَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]- قُلْنَا قَالُوا يَتَيَسَّرُ التَّوَجُّهُ التَّامُّ دَفْعَةً إلَى شَيْئَيْنِ لِلْمُجَرَّدِينَ عَنْ الْعَوَائِقِ الْبَشَرِيَّةِ وَلِذَوِي النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ الْقَوِيَّةِ. وَلِهَذَا «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدَبِّرُ أَمْرَ الْجَيْشِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ» مَعَ حُضُورِ الصَّلَاةِ وَخُشُوعِهَا وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «ذَكَرْت وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ تِبْرًا عِنْدَنَا فَكَرِهْت أَنْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ» وَفِي شَرْحِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَقَسَمْتُهُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ بِغَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ لَا يُنْقِصُ كَمَالَهَا وَأَنَّ النِّيَّةَ فِيهَا إلَى شَيْءٍ

جَائِرٍ لَيْسَتْ بِمُضِرَّةٍ (فَاقْتِصَارُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ) فِي التَّقْيِيدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاقْتِصَادَ إنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَةِ الْبَاطِنِيَّةِ فَلَا يَغِيبُ عَنْهَا وَلَا يَنْفَكُّ بِحَالٍ أَصْلًا (لِكَوْنِهَا أَفْضَلَ) فِي التَّفْرِيعِ خَفَاءٌ سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِهِ (وَلِأُمَّتِهِ) إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ تَشْدِيدَ الْعِبَادَاتِ لَمَّا كَانَ لِاسْتِحْصَالِ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ عِنْدَ الْخُلْطَةِ وَكَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِدُونِ التَّشْدِيدِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَاقْتِصَارُهُ إلَى آخِرِهِ لَا يَخْفَى مَعَ بُعْدِهِ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخُلَفَاءَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّتِهِ إذْ لَيْسَ لَهُمْ الْمُفَرَّعُ عَلَيْهِ، وَإِنَّ مِنْ الْأُمَّةِ السَّلَفُ فَيُورَثُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْأَفْضَلَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ (وَتَلَذُّذُهُ) مِنْ اللَّذَّةِ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ الذَّوْقُ الصَّحِيحُ عِنْدَ التَّجَرُّدِ التَّامِّ وَالِاتِّصَالِ بِعَالَمِ الْقُدْسِ وَالنُّورِ فِي حَالَةِ تَرْكِ الْمَحْسُوسَاتِ الظُّلْمَانِيَّةِ وَالْمَأْنُوسَاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَقَطْعِ الْخَوَاطِرِ الْوَهْمِيَّةِ وَالْخَيَالِيَّةِ (- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَائِمٌ) فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ (لَا يَخْتَصُّ بِالْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ) يَعْنِي لَا يَخْتَصُّ حُصُولُهُ بِالْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهَا كَمَا هُوَ كَذَلِكَ لِلْأُمَّةِ، فَإِنَّ تَلَذُّذَهُمْ بِالْعِبَادَاتِ أَوْ عِنْدَهَا فَافْهَمْ. وَفِي التَّعْبِيرِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ لَذَّتَهُ كَمَا كَانَتْ عِنْدَ الطَّاعَةِ الظَّاهِرَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْخُلُوِّ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ الْآفَاقِيَّةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ تَوَجُّهِهِ فَبِالْأَوْلَى الْعِبَادَاتُ فَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ عَلَى التَّفْرِيعِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْمُلَازَمَةِ عَلَى طَرِيقِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَلَذُّذَهُ بِشُهُودِ التَّجَلِّي فِي دَوَامِ التَّرَقِّي وَعَلَيْهِ قَدْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَى الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا يُسْتَقْصَرُ مَا دُونَهَا وَيَجِدُهُ غَيْنًا أَيْ حِجَابًا. (وَقَدْ بَلَغَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى لَعَلَّ فَائِدَةَ هَذَا النَّقْلِ تَوْضِيحُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ التَّشْدِيدَ فِي الْعِبَادَاتِ إنَّمَا هُوَ لِاسْتِحْصَالِ رُتْبَةِ مَلَكَةِ الطَّبِيعَةِ وَدَوَامِ التَّوَجُّهِ إلَى جَانِبِ الْقُدْسِ وَعِنْدَ الْحُصُولِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ يُشْعِرُ ذَلِكَ بِتَسَاوِي حَالِ النَّبِيِّ مَعَ الْوَلِيِّ وَلَنْ يَبْلُغَ أَعْلَى دَرَجَةِ وَلِيٍّ أَكْمَلَ إلَى أَدْنَى دَرَجَةِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قُلْت لَيْسَ بِتَمْثِيلٍ بَلْ تَنْظِيرٌ أَوْ بِحَسَبِ الْجِنْسِ لَا بِحَسَبِ التَّسَاوِي فِي النَّوْعِ وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ النَّصِّ يَعْنِي إذَا كَانَ حَالُ الْوَالِي فِي تَرْكِ التَّكَلُّفِ عِنْدَ بُلُوغِ الْكَمَالِ كَذَلِكَ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ فَيَنْدَفِعَ مَا يُتَوَهَّمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ كَوْنُهُ تَنْظِيرًا لِلُزُومِ قُوَّةِ الْحُكْمِ فِي التَّنْظِيرِ إذْ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَافْهَمْ (إلَى حَيْثُ كَانَ لَهُ حَظٌّ) نَصِيبٌ (مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ) أَيْ جِنْسِهَا كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ الْحَظِّ بِمَعْنَى الْحِصَّةِ وَمِنْ الظَّاهِرَةِ فِي التَّبْعِيضِ، فَإِنَّهُ بَعْضٌ مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِتْمَامِهِ وَبِهِ يَظْهَرُ ضَعْفُ مَا يُقَالُ: إنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الَّتِي بَلَغَ إلَيْهَا هِيَ دَرَجَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَنْهُ. فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ (حَتَّى قَالَ مَنْ رَآنِي الْآنَ صَارَ زِنْدِيقًا) ؛ لِأَنَّ هَذَا الْآنَ آنُ النِّهَايَةِ وَزَمَانُ الْوِصَالَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِأَنْوَارِ الْجَبَرُوتِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ بَلْ هُوَ غَايَةُ عِلْمِ الْعُلَمَاءِ وَنِهَايَةُ حِكْمَةِ الْحُكَمَاءِ فَسَائِرُهُ جَمِيعًا كَالْمَبَادِئِ الْمُوَصِّلَةِ وَالْمُقَدِّمَاتِ الْمُنْتِجَةِ لَهُ فَعِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالنَّوَافِلِ هُوَ الْبُلُوغُ إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَعِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا تَرَكَ الْفَضَائِلَ فَيَظُنُّ بَعْضُ الْقَاصِرِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ إيَّاهُ عَدَمَهَا فَيَتْرُكُهَا اقْتِدَاءً بِهِ وَالْحَالُ أَنَّ تَرْكَهُ لِاشْتِغَالِ بَاطِنِهِ بِمَا هُوَ أَكْمَلُ وَأَشْرَفُ مِنْهُ كَمَا حَكَى عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ الشَّلَبِيِّ. قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ بِفَتْحِ بَابِ الْإِفَادَةِ لِنَفْعِ أَصْحَابِ الِاسْتِفَادَةِ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَحُضُورُ قَلْبِي فِي اسْتِغْرَاقِ نُورِ رَبِّي خَيْرٌ مِنْ عُلُومِ

الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ قَالَ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ زُبْدَةُ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالسَّائِرُ كَالْعَارِضِ فَاقْصِدْ بِالْمَقْصِدِ الْأَقْصَى وَالْمُسْنَدِ الْأَعْلَى وَالْمَقَامِ الْأَسْنَى وَالْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلزِّيَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى انْتَهَى فَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ يَقْصِرُ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَةَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ لِاشْتِغَالِهِ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الشُّهُودُ وَالْحُضُورُ بِاَللَّهِ فَيَتْرُكُ بَعْضَ الْقَاصِرِينَ مَا تَرَكَهُ اقْتِدَاءً بِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَيَصِيرُ زِنْدِيقًا أَيْ كَزِنْدِيقٍ فِي عَدَمِ مُبَالَاةِ الْفَضَائِلِ وَالنَّوَافِلِ فَمِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَزَيْدٍ أَسَدٌ وَقِيلَ لِتَرْكِهِ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَةَ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِدِينِ اللَّهِ فَيَكْفُرُ فَيَكُونُ زِنْدِيقًا حَقِيقَةً وَأَنْتَ تَعْلَمُ فَسَادَهُ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ إكْفَارُ كُلِّ تَارِكِي الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ سِيَّمَا الْفَضَائِلِ. (وَمَنْ رَآنِي قَبْلُ) أَيْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى هَذَا الْمَقَامِ وَهُوَ زَمَانُ كَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ لِخُلُوِّ الْبَاطِنِ مِنْ لَمَعَاتِ الْبَوَارِقِ الْإِلَهِيَّةِ (صَارَ صِدِّيقًا) لِاقْتِدَائِهِ بِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ فِي الطَّاعَاتِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَقَامِ الصِّدِّيقِينَ، فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ صَعِدَتْ نُفُوسُهُمْ تَارَةً بِمَرَاقِي النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ وَأُخْرَى بِمَعَارِجِ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَاتِ أَوْجَ الْعِرْفَانِ حَتَّى اطَّلَعُوا عَلَى الْأَشْيَاءِ وَأَخْبَرُوا عَنْهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. (حَيْثُ كَانَ فِي نِهَايَةٍ يَقْتَصِرُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ) الْمُؤَكَّدِ وَيَتْرُكُ سَائِرَ الْفَضَائِلِ وَالنَّوَافِلِ (وَيَأْكُلُ) يَعْنِي لَا يَدُومُ بِالصِّيَامِ (وَيَشْرَبُ وَيَنَامُ) بِلَا إحْيَاءِ اللَّيَالِيِ بِالصَّلَوَاتِ وَالتَّهَجُّدَاتِ كَمَا هِيَ وَظَائِفُ أَوَّلِ الْحَالَاتِ (كَالْعَوَامِّ) مِنْ حَيْثُ ظَاهِرُهُ وَلِذَا قِيلَ لَا يَضُرُّ الْعَارِفَ قِلَّةُ الْعَمَلِ إذْ يَكُونُ سَيْرُهُ قَلْبِيًّا وَلَا تَظُنَّنَّ هُنَا سُقُوطَ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ إلْحَادٌ وَكُفْرٌ بِلَا كَلَامٍ بَلْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ مُتَارَكَتَهُمْ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْفَضَائِلِ لَا الْوَاجِبَاتِ وَلَا السُّنَنِ وَعَرَفْت أَيْضًا أَنَّ مُتَارَكَتَهُمْ الْفَضَائِلَ لَيْسَ لِاعْتِقَادِهِمْ عَدَمَ النَّفْعِ وَلَا الْكَسَلَ بَلْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْأَكْمَلِ مِنْهَا وَلِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا. (وَفِي بِدَايَتِهِ يَجْتَهِدُ) غَايَةَ الِاجْتِهَادِ (وَيَرْتَاضُ) بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ (فَمَنْ رَأَى اجْتِهَادَهُ يَجْتَهِدُ كَاجْتِهَادِهِ حَتَّى يَصِيرَ صِدِّيقًا وَمَنْ رَآهُ فِي نِهَايَتِهِ) النِّهَايَةُ إضَافَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَنْ يَنْتَهِيَ مُنْتَهَاهُ فِيهَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ بَلْ فِي الْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ أَيْضًا (يُنْكِرُهَا الِاجْتِهَادُ) بِالْفَضَائِلِ الظَّاهِرَةِ (وَالطَّرِيقَةُ أَصْلًا) مِنْ أَصْلِهَا الْمَأْخُوذَةُ عَنْ صَدْرِ السَّعَادَةِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةِ بِأَسَانِيدِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَعْدَلِ الْأَسَانِيدِ وَأَزْكَاهَا (فَيُخَافُ عَلَيْهِ الْكُفْرُ)

نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ حَاشِيَةٌ هُنَا كَمَا أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ الطَّرِيقَةَ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ الطَّرِيقَةَ وَأَهْلَهَا حَتَّى يَرَى مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِي مُلَازَمَةِ إنْكَارِ الطَّرِيقِ بَلْ اللَّازِمُ إنْكَارُ الِاجْتِهَادِ فِي الْفَضَائِلِ فَقَطْ وَوَجْهُ خَوْفِ الْكُفْرَانِ عَلَى إنْكَارِ أَصْلِهَا وَإِلَّا فَلَا وَوَجْهُ الْخَوْفِ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَا ثَبَتَ تَوَاتُرٌ وَلَا مَعْنًى أَوْ مَشْهُورًا فَيَخَافُ عَلَيْهِ مَا يَخَافُ فَتَأَمَّلْ. وَقِيلَ فِي الْوَجْهِ يَعْنِي أَنَّ تَرْكَهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِخْفَافِ بِهَا أَوْ بِأَهْلِهَا بِسَبَبِهَا قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ كُفْرٌ. وَعَنْ التَّتِمَّةِ مَنْ أَهَانَ الشَّرِيعَةَ أَوْ الْمَسَائِلَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا كَفَرَ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ أَوَّلُ حَالِ الشَّيْخِ هُوَ التَّشْدِيدَ فِي الطَّاعَاتِ وَكَانَ الْمُقْتَدِي بِهِ صِدِّيقًا يَلْزَمُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ تِلْكَ إتْيَانُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ وَالْكَلَامُ عَلَى مَنْعِهِ فَيَلْزَمُ إثْبَاتُ مَا نُفِيَ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَا أُثْبِتَ هُنَا لَيْسَ بِبَالِغٍ إلَى مَرْتَبَةِ مَا نُفِيَ بَعِيدٌ يَظْهَرُ بِمُلَاحَظَةِ سَوْقِ الْكَلَامِ. (وَلَوْ تَأَمَّلْت فِيمَا كَتَبْنَا سَابِقًا) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاقْتِصَادِ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ وَقَالَ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إلَى هُنَا (وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ) عَنْ السَّلَفِ فِي حَقِّ التَّشْدِيدَاتِ (حَقَّ التَّأَمُّلِ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لَتَأَمَّلْت أَيْ التَّأَمُّلَ الصَّادِقَ (وَجَدْت فِي أَكْثَرِهَا) أَيْ أَكْثَرِ الْمَكْتُوبَةِ عَنْهُمْ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَكْثَرُهُمَا أَيْ أَكْثَرُ الْمَكْتُوبِ وَالْمَنْقُولِ (إشَارَةً إلَى هَذَا) أَيْ الْجَوَابِ الثَّالِثِ أَمَّا الْإِشَارَةُ إلَى الْجَوَابِ اللَّمِّيِّ فَكَأَكْثَرِ الْآيَاتِ إذْ عَدَمُ إرَادَةِ الْعُسْرِ مِنْ اللَّهِ وَإِرَادَةُ الْيُسْرِ وَعَدَمُ الْحَرَجِ يَقْرُبُ؛ لَأَنْ يَكُونَ عَنْ هِلَالِ النَّفْسِ وَإِضَاعَةِ الْحَقِّ وَتَرْكِ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا إلَى الْأَنِيِّ فَكَأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ؛ لِأَنَّهَا مُنْبِئَةٌ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْ تَصَوَّرَ أَوْلَى وَأَنْفَعَ مِنْهُ لَفَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ جَعَلَ الْإِشَارَةَ إلَى مُجَاهَدَتِهِمْ فِي بِدَايَتِهِمْ لِلتَّمَكُّنِ الْمَذْكُورِ فَقَدْ ذَهِلَ عَمَّا قَصَدَ فِي الْمَقَامِ مَعَ أَنَّ التَّفْرِيعَ الْآتِيَ بِقَوْلِهِ (فَيَخْلُو مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ) لَيْسَ بِحَسَنٍ جَيِّدٍ (مِنْ التَّشْدِيدِ عَنْ الْعِلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُمْ فِي هَذَا التَّشْدِيدِ لَا يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يُضَيِّعُونَ حَقًّا لِأَحَدٍ وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَهُ لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْأَخِيرِ. (وَهَذَا) أَيْ الْجَوَابُ الثَّالِثُ إذًا لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَسْتَقِيمَانِ عَلَى هَذَا وَلِذَا أُشِيرَ هُنَالِكَ إلَى التَّسْلِيمِ فِيهَا (وَهُوَ الْمَحْمَلُ الصَّحِيحُ وَالْحَقُّ الصَّرِيحُ) لَعَلَّ الْمَحْمَلَ الْأَلْيَقَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ أَنَّ تِلْكَ النُّصُوصَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَوَامّ وَمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ حَالَ الْخَوَاصِّ وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي الشَّرْعِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ وَلَدُهَا فِي تَرْبِيَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ فَيَوْمًا جَاءَتْ لِرُؤْيَةِ وَلَدِهَا، فَإِذَا هُوَ عَلَى حَصِيرٍ يَأْكُلُ رَغِيفَ شَعِيرٍ بِجَرِيشِ الْمِلْحِ ثُمَّ زَارَتْ الشَّيْخَ فَرَأَتْهُ عَلَى فُرُشٍ نَفِيسَةِ يَأْكُلُ خُبْزًا لَطِيفًا وَدَجَاجًا فَصَاحَتْ ابْنِي يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَهُوَ عَلَى الْحَصِيرِ وَأَنْتَ تَأْكُلُ الدَّجَاجَ فَنَظَرَ الشَّيْخُ إلَى ذَلِكَ الدَّجَاجِ وَقَالَ قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَادَ حَيًّا فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ إذَا صَارَ ابْنُك لِهَذَا الْمَقَامِ فَلْيَأْكُلْ مَا أَرَادَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَحْوَالَهُمْ مِنْ بَابِ خَرْقِ الْعَادَةِ لَا مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ لِالْتِحَاقِهِمْ بِالْمَكُوتِيَّةِ يَسْتَغْنُونَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُوتِيَّةُ لِتَغَذِّيهِمْ بِالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وباستغراقاتهم فِي لَذَّةِ وِصَالِ رَبِّهِمْ وَبِخَوْفِهِمْ مِنْ عَظَمَةِ رَبِّهِمْ يَذْهَبُ عَنْهُمْ الْجُوعُ كَمَا أَنَّ شَخْصًا يَطْرُقُهُ فَرَحٌ فَيَذْهَبُ عَنْهُ الْجُوعُ إذَا كَانَ حَالُهُمْ عَلَى مَا عَرَفْت سِيَّمَا قَضِيَّةِ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ مِنْهُمْ. (فَلَا تُفْرِطْ) مِنْ الْإِفْرَاطِ كَمَا فِي حَالِ بِدَايَتِهِمْ، فَإِنَّ مَا يُرَى مِنْ الْإِفْرَاطِ الظَّاهِرِيِّ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّ لَهُ مَحْمَلًا صَحِيحًا

الباب الثاني في الأمور المهمة في الشريعة المحمدية

(فِي حَقِّهِمْ وَلَا تُفَرِّطْ) مِنْ التَّفْرِيطِ يَعْنِي لَا تَحْمِلُهُمْ عَلَى تَفْرِيطٍ وَتَقْصِيرٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ حِينَ رَأَيْت مِنْهُمْ مَا يَسْتَدْعِي ذَلِكَ كَمَا فِي حَالِ نِهَايَتِهِمْ وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِفْرَاطِ هُوَ الْمَدْحُ الْبَالِغُ إلَى رُتْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالتَّفْرِيطُ هُوَ الِاحْتِقَارُ وَالِاسْتِهَانَةُ وَالْمَذَمَّةُ حَيًّا وَمَيِّتًا وَقِيلَ التَّقْصِيرُ فِي أَدَاءِ أَحَقِّهِمْ. وَعَنْ أَفْضَلِ الدِّينِ لَوْ أَنَّ إنْسَانًا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِجَمِيعِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ لَمْ يَنْفَعْهُ حُسْنُ الظَّنِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ خَوَاجَهْ عَبْدِ الْخَالِقِ الْعَجْدَوَانِيِّ إيَّاكَ وَأَنْ تَطْعَنَ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْمَشَايِخِ، فَإِنَّ طَاعِنَهُمْ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مُعَادَاةَ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ كُفْرٌ (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) يُشِيرُ إلَى الِاقْتِصَادِ أَوْ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ سَبِيلًا مَسْلَكًا ذَا حَظٍّ مِنْهُمَا فَلَا تَفْرُغْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاصِرَ النَّظَرِ عَنْ الْآخَرِ (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) أَيْ الِاقْتِصَادِ أَوْ جَمِيعِ مَا فِي الْكِتَابِ (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِنَا فِي إرَادَةِ أَفْعَالِنَا وَقِيلَ لِقُصُورِ عُقُولِنَا وَضَعْفِ مَعْقُولِنَا (لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. [الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةُ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَصْحِيحِ الِاعْتِقَادِ] (الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ) أَيْ الْحَرِيَّةُ لَأَنْ يُهْتَمَّ فِي شَأْنِهَا لِأَنَّهَا تُوقِعُ الْهَمَّ أَيْ الْحُزْنَ عَلَى فَوَاتِهَا أَوْ الْحَرِيَّةُ أَنْ تُفْعَلَ بِالْهِمَّةِ وَالْعَزِيمَةِ (فِي الشَّرِيعَةِ) الشَّرْعُ فِي اللُّغَةِ الْإِظْهَارُ وَفِي الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ اللَّهِ وَيُرَادِفُهُ الشَّرِيعَةُ وَالدِّينُ لِأَنَّ تِلْكَ شَرْعٌ بِاعْتِبَارِ الْإِظْهَارِ وَشَرِيعَةٌ بِاعْتِبَارِ انْتِفَاعِ النَّاسِ كَانْتِفَاعِهِمْ بِشَرِيعَةِ الْمَاءِ وَدِينٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تُطَاعُ أَوْ يُجَازَى بِهَا فِي التَّلْوِيحِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَعْهُودَةُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفِي قَوْلِهِ (الْمُحَمَّدِيَّةُ) تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا أَوْ تَجْرِيدٌ فِي لَفْظِ الشَّرِيعَةِ أَوْ نَحْوُ تَأْكِيدٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةَ تَوْضِيحٍ أَوْ مَدْحٍ إلَّا أَنْ لَا يَجْعَلَ لَفْظَ النَّبِيِّ فِي مَاهِيَّةِ الشَّرِيعَةِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْفَرْدِ الْكَامِلِ الَّذِي هُوَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ بَعِيدٌ ثُمَّ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ مُحَمَّدٍ فِي النِّسْبَةِ إيهَامٌ إلَى كَوْنِ شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - زِيَادَةَ مَحْمُودٍ وَمَمْدُوحٍ وَمِنْ جُمْلَتِهِ قِلَّةُ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَةُ الْفَضِيلَةِ فِي قِلَّةِ الْعَمَلِ لِكَوْنِ شَرِيعَتِهِ عَلَى الِاقْتِصَادِ بِلَا إصْرٍ وَإِغْلَالٍ وَإِفْرَاطٍ (وَهِيَ) أَيْ الْأُمُورُ الْمُهِمَّةُ (ثَلَاثَةٌ) قِيلَ: الْأَوْلَى ثَلَاثٌ لَعَلَّ وَجْهَ الْأَوْلَوِيَّةِ التَّطَابُقُ فِي التَّأْنِيثِ لَكِنْ يَدْفَعُهُ مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ اسْمَ الْعَدَدِ تَابِعٌ لِمُفْرَدِ مَوْصُوفِهِ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ التَّطَابُقِ فِيمَا لَا يَكُونُ الْخَبَرُ مُشْتَقًّا مَطْلُوبُ الْبَيَانِ (نُبَيِّنُ كُلًّا مِنْهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِمَدَدِهِ وَهِدَايَتِهِ إذَا لَمْ يُعِنْكَ اللَّهُ فِيمَا تَرُومُهُ ... فَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ إلَيْهِ سَبِيلُ فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرْشِدْك فِي كُلِّ مَسْلَكٍ ... ضَلَلْت وَلَوْ أَنَّ السَّمَاءَ دَلِيلُ (فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ) مَصْدَرُ وَحْدٍ. (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) (فِي تَصْحِيحِ الِاعْتِقَادِ وَتَطْبِيقِهِ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ) أَيْ أَصْحَابِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ أَيْ التَّمَسُّكِ بِهَا

(وَالْجَمَاعَةِ) أَيْ جَمَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَهُمْ الْأَصْحَابُ وَالتَّابِعُونَ وَهُمْ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْمُشَارُ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً قِيلَ: وَمَنْ هُمْ قَالَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ: الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ وَهُمْ الْأَشَاعِرَةُ لَعَلَّ مُرَادَهُ إمَّا تَغْلِيبَ أَوْ عُمُومَ مَجَازٍ أَوْ ادِّعَاءَ اتِّحَادِهِمْ مَعَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الَّذِينَ تَابَعُوا فِي الْأُصُولِ كَالْحَنَفِيَّةِ إلَى عَلَمِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَجْهُ كَوْنِهِمْ فِرْقَةً نَاجِيَةً الْتِزَامُهُمْ كَمَالَ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ بِلَا تَجَاوُزٍ عَنْ ظَاهِرِ نَصٍّ بِلَا ضَرُورَةٍ وَلَا اسْتِرْسَالٍ إلَى عَقْلٍ خِلَافًا لِمُخَالِفِيهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الدَّوَانِيُّ. وَفِي أَوَائِلِ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ مِنْ التتارخانية عَنْ الْمُضْمَرَاتِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ إذَا أَحَبَّ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ وَقَضَى حَوَائِجَهُ وَغَفَرَ لَهُ الذُّنُوبَ وَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَرَاءَةً مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةً مِنْ النِّفَاقِ. وَفِي خَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا عَشْرَةَ حَسَنَاتٍ وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ» وَتَمَامُهُ مَعَ تَفْصِيلِهِ هُنَالِكَ (وَجُمْلَتُهُ) أَيْ جُمْلَةُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ مِمَّا يَكُونُ ضَرُورِيًّا بِحَيْثُ يَكُونُ عَدَمُهُ كُفْرًا أَوْ ضَلَالَةً فَإِنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا جَمِيعُ هَذِهِ الْأُصُولِ أَوْ جُمْلَتُهُ إجْمَالُهُ بِمَعْنَى أَنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا هُوَ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا تَفْصِيلَاتُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَتَفَاصِيلُ مَذْهَبِهِمْ لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَلَا يَتَحَمَّلُ ذِكْرَهَا كِتَابُنَا فَالْمَذْكُورُ هُنَا تَفْصِيلُ الْأُصُولِ وَإِجْمَالُ الْكُلِّ (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ) الْمُتَبَادَرُ وَحْدَةٌ ذَاتِيَّةٌ وَإِنْ شِئْت قُلْت: مُطْلَقًا أَيْ ذَاتِيَّةٌ أَوْ وَصْفِيَّةٌ وَفِي تَصْدِيرِهِ بِأَنَّ الْمُؤْذِنَةَ بِالتَّحْقِيقِ وَالدَّالَّةَ عَلَيْهِ إشَارَةٌ إلَى لُزُومِ الِاطِّلَاعِ وَالْعِرْفَانِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ وَالْيَقِينِ فِي كَوْنِهِ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِاعْتِبَارِ إيمَانِ الْمُقَلِّدِ عِنْدَنَا وَقَدْ يَعْتَبِرُ بَعْضُهُمْ جَوَازَ 7 الظَّنِّ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ فَيَدْفَعُ بِإِرَادَةِ كَمَالِ الْمَذْهَبِ فَإِنْ قِيلَ: كَلِمَةُ أَحَدٍ أَكْمَلُ مِنْ الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْإِتْقَانِ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ وَمُخْتَصٌّ بِوَصْفِ اللَّهِ دُونَ كَلِمَةِ وَاحِدٍ كَمَا نَقَلَ هُوَ عَنْ مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ لِلرَّاغِبِ فَلِمَ اخْتَارَ وَاحِدًا عَلَى أَحَدٍ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ أَحَدًا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ أَكْثَرِيًّا وَهُنَا إثْبَاتٌ وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ فَتَجُوزُ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِوُجُودِهِ تَعَالَى ثُمَّ يُجْرِيَ عَلَيْهِ سَائِرَ صِفَاتِهِ وَلَعَلَّهُ اكْتَفَى بِالدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ إذْ الْوَحْدَانِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْوُجُودَ وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَفِي بِتَصْرِيحِهِ لِأَنَّهُ بَدِيهِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَإِلَى جَمِيعِ مُخَالِفِينَا خِلَافًا مُعْتَدًّا بِهِ وَأَنَا أَقُولُ: لَقَدْ أَعْجَبُ فِي ابْتِدَائِهِ حَيْثُ افْتَتَحَ ذَلِكَ الْمَبْحَثَ بِمَضْمُونِ افْتِتَاحِ الْإِيمَانِ مِنْ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ التَّوْحِيدِيَّةِ ثُمَّ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ تَعَالَى وَاحِدًا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمُفَسَّرُ بِأَنَّهُ إثْبَاتُ وُجُودِ فَرْدٍ وَاحِدٍ لِلْوَاجِبِ وَامْتِنَاعُ فَرْدٍ آخَرَ مِنْهُ

فَقَوْلُنَا اللَّهُ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا الْوَاجِبُ الذَّاتِيُّ وَاحِدٌ مُطَابَقَةً وَعَلَى قَوْلِك الْوَاجِبُ الذَّاتِيُّ يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُهُ الْتِزَامًا تَأَمَّلْ ثُمَّ بُرْهَانُ تَوْحِيدِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ الْوَاجِبُ فَوُقُوعُ الْمُمْكِنُ إمَّا بِهِمَا جَمِيعًا فَنَقْصٌ لَهُمَا أَوْ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَتَوَارُدٌ أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَتَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ضِدِّ مَا قَصَدَهُ الْآخَرُ فَعَجْزٌ وَإِنْ تَمَكَّنَ فَإِنْ وَقَعَا لَزِمَ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ وَإِلَّا لَزِمَ عَجْزُهُمَا أَوْ عَجْزُ أَحَدِهِمَا وَلِأَنَّهُمَا إنْ اتَّفَقَا عَلَى كُلِّ مَقْدُورٍ فَالتَّوَارُدُ وَإِلَّا فَالتَّمَانُعُ وَالنُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ كَثِيرَةٌ وقَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] إشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ التَّمَانُعِ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ بَعْدَمَا قَالَ أَنَّ بُرْهَانَ التَّمَانُعِ مُشَارٌ إلَيْهِ بِتِلْكَ الْآيَةِ وَقُرِّرَ التَّمَانُعُ بِوَجْهٍ آخَرَ حَاصِلُهُ رَاجِعٌ إلَى بَعْضِ مَا ذُكِرَ هُنَا وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] حُجَّةٌ إقْنَاعِيَّةٌ وَالْمُلَازَمَةُ عَادِيَّةٌ عَلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْخَطَابِيَّاتِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِوُجُودِ التَّمَانُعِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْفَسَادُ بِالْفِعْلِ فَلَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ لِجَوَازِ الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ وَإِنْ أُرِيدَ إمْكَانُ الْفَسَادِ فَلَا نُسَلِّمُ بُطْلَانَ التَّالِي لِشَهَادَةِ النُّصُوصِ عَلَى خَرَابِ الْعَالَمِ وَفَنَائِهِ. وَقَالَ حَفِيدُ الْعَلَّامَةِ الْمَرْقُومِ وَصَرَّحَ بِإِقْنَاعِيَّةِ الْمُلَازَمَةِ الْعَلَّامَةُ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ وَالشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي التَّدْبِيرَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إلْجَامِ الْعَوَامّ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَحْصُلَ التَّصْدِيقُ بِالْأَدِلَّةِ الْخَطَابِيَّةِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْمُحَاوَرَاتِ وَهُوَ مُفِيدٌ فِي حَقِّ الْأَكْثَرِينَ تَصْدِيقًا بِبَادِئِ الرَّأْيِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَاطِنُ مَشْحُونًا بِالتَّعَصُّبِ وَالْمُجَادَلَةِ وَأَكْثَرُ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء: 22] الْآيَةَ فَكُلُّ مَنْ لَا تُشَوَّشُ فِطْرَتُهُ يَسْبِقُ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ إلَى فَهْمِ تَصْدِيقٍ جَازِمٍ بِوَحْدَانِيِّتِهِ تَعَالَى لَكِنْ لَوْ تَشَوَّشَ لَجَادَلَ بِجَوَازِ تَوَافُقِ الصَّانِعَيْنِ وَتَعَاوُنِهِمَا عَلَى التَّدْبِيرِ فَيَعْسُرُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاصِرِينَ ثُمَّ قَالَ الْحَفِيدُ: وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] أَيْ بِالْبُرْهَانِ وَالْخَطَابَةِ وَالْجَدَلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُلَازَمَةَ الظَّاهِرَةَ مِنْ الْآيَةِ إقْنَاعِيَّةٌ وَلَا يَشُكُّ فِيهِ مُنْصِفٌ لَكِنْ أَشَارَ فِي ذَلِكَ إلَى بُرْهَانِ التَّوْحِيد إلَى آخِرِ مَا قَالَ أَقُولُ: يُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ سَوْقَ تِلْكَ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَ مَقَامِهَا جَدَلِيًّا يُقْصَدُ بِهِ إلْزَامُ الْخَصْمِ لَا بُرْهَانِيًّا يُقْصَدُ بِهِ تَحْقِيقُ الْحَقِّ وَالْمَقَامِ وَأَنَّ مَقَامَ هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامُ الْمُخَاطَبَةِ مَعَ عَوَامِّ الْجَهَلَةِ وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى اطِّلَاعِ الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ بَلْ اللَّائِقُ فِي إرْشَادِهِمْ الْمُقَدِّمَاتُ الْخَطَابِيَّةُ اللَّائِقَةُ بِفَهْمِهِمْ لِكَوْنِ عُقُولِهِمْ قَاصِرَةً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى فَهْمِ الْبُرْهَانِيِّ وَيَعْجِزُونَ عَنْ اطِّلَاعِهِ ثُمَّ أَقُولُ: قَوْلُ الْعَلَّامَةِ فِي سَنَدِ مَنْعِ الْمُلَازَمَةِ بِجَوَازِ الِاتِّفَاقِ مَعَ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ بِجَوَازِ تَوَافُقِ الصَّانِعَيْنِ يَرِدُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ النِّظَامُ بِمَجْمُوعِهِمَا فَنَقْصٌ لَهُمَا وَإِنْ مِنْهُمَا فَتَوَارُدٌ أَوْ تَحْصِيلٌ أَوْ وُجُودُ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِوُجُودَيْنِ، وَإِنْ بِوَاحِدٍ فَقَطْ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الْآخَرِ فَتَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ مَعَ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنْ الْآخَرِ إنْ مُمْتَنِعًا فَعَجْزٌ وَإِنْ مُمْكِنًا فَإِنْ وُجِدَ إرَادَتُهُمَا فَاجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَإِلَّا فَعَجْزُهُمَا أَوْ عَجْزُ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً بُرْهَانِيَّةً لَا إقْنَاعِيَّةً ثُمَّ قَالَ الْحَفِيدُ: جَعَلَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ هَذِهِ الْحُجَّةَ قَطْعِيَّةً وَبَالَغَ فِي الرَّدِّ وَالتَّخْطِئَةِ لِمَنْ جَعَلَهَا إقْنَاعِيَّةً وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنْ تَشَبَّثَ بِكَلَامِهِمْ بَعْضُ الْجَهَلَةِ وَالطَّلَبَةِ فَتَفَوَّهَ فِي حَقِّ التَّفْتَازَانِيِّ بِالْكَلِمَةِ الْوَقِيحَةِ وَالْمَقَالَةِ الْقَبِيحَةِ وَالْتَمَسَ مِنْ سُلْطَانِ الزَّمَانِ مُعِينِ الدِّينِ شَاهِرْ خَ بَهَادِرْ سُلْطَانْ أَنْ يَعْقِدَ مَجْلِسًا مَمْلُوءًا بِفُحُولِ الْأَمَاثِلِ الْكَمَلَةِ وَنَحَارِيرِ الْأَفَاضِلِ الْمُكَمَّلَةِ لِيُظْهِرَ أَنَّ تِلْكَ الْعَقِيدَةَ بَاطِلَةٌ فَمَاتَ قُبَيْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَجْأَةً وَمِيتَةً جَاهِلِيَّةً فِي الْقَاذُورَاتِ وَعُدَّ ذَلِكَ كَرَامَةً دَالَّةً عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ الْعَلَّامَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ فِي شَرْحَيْهِ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْمَقَاصِدِ أَنَّ مَنْطُوقَ الْآيَةِ إقْنَاعِيٌّ وَإِشَارَتَهَا عَلَى أَنَّهَا بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ وَتَقْرِيرُهُ يُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِمَا كَمَا أَشَرْنَا سَابِقًا وَلَا يَرُدُّهُ مَا فِي التَّهْذِيبِ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ إشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ التَّمَانُعِ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدَّلِيلِ هُوَ الْبُرْهَانُ فَإِذَنْ مَنْطُوقُ الْآيَةِ لَيْسَ بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ لِأَنَّ

التَّمَانُعَ قَطْعِيٌّ وَمَنْطُوقَهَا لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ بَلْ الْقَطْعِيُّ إشَارَتُهَا الَّتِي هِيَ التَّمَانُعُ ثُمَّ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ فِي رِسَالَتِنَا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَفِي حَاشِيَتِنَا عَلَى تَفْسِيرِ الْإِخْلَاصِ لِأَبِي عَلِيٍّ سِينَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ) لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ أَيْ الْمُمَاثَلَةَ إمَّا بِالِاتِّحَادِ فِي النَّوْعِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍ وَفِي كَوْنِهِمَا إنْسَانًا فَظَاهِرٌ إذْ الْإِمْكَانُ وَالْوُجُوبُ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ وَإِمَّا بِصَلَاحِيَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِمَا يَصْلُحُ لَهُ الْآخَرُ فَلِأَنَّ أَوْصَافَهُ تَعَالَى أَعْلَى وَأَجَلُّ مِمَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِحَيْثُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ الْمُشَابَهَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَلَا شَيْءَ يُسَاوِيهِ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ. (لَيْسَ بِجِسْمٍ) لِأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْجُزْءِ وَالِاحْتِيَاجُ دَلِيلُ الْإِمْكَانِ (وَلَا عَرَضٍ) لِأَنَّهُ مَا يَفْتَقِرُ إلَى مَحَلٍّ يُقَوِّمُهُ فَيَكُونُ مُمْكِنًا (وَلَا جَوْهَرٍ) وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ فَجُزْءٌ لِلْجِسْمِ وَمُتَحَيِّزٌ فَيَكُونُ مُمْكِنًا وَأَمَّا عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ فَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُمْكِنِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ إذَا أُرِيدَ بِالْجِسْمِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ وَبِالْجَوْهَرِ الْمَوْجُودُ لَا فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُهُمَا لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ (وَلَا مُصَوَّرٍ) أَيْ ذِي صُورَةٍ مِثْلِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ (وَلَا مُتَنَاهٍ) أَيْ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَقَادِيرِ وَالْأَعْدَادِ (وَلَا مُتَحَيِّزٍ) لِأَنَّ الْحَيِّزَ هُوَ الْفَرَاغُ الْمُتَوَهَّمُ الَّذِي يَشْغَلُهُ شَيْءٌ مُمْتَدٌّ أَوْ غَيْرُ مُمْتَدٍّ فَلَوْ تَحَيَّزَ فَإِمَّا فِي الْأَزَلِ فَيَلْزَمُ قِدَمُ الْحَيِّزِ أَوْ لَا فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ احْتِيَاجُهُ إلَى الْحَيِّزِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ احْتِيَاجُهُ إلَى الْحَيِّزِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا (وَلَا يَطْعَمُ) شَيْئًا مِنْ الْمَطْعُومَاتِ (وَلَا يَشْرَبُ) شَيْئًا مِنْ الْمَشْرُوبَاتِ لِأَنَّهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ وَمُوجِبٌ لِلِاحْتِيَاجِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] (لَمْ يَلِدْ) لِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّدَ عَنْهُ غَيْرُهُ لَكَانَ مُمَاثِلًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي نَوْعِهِمَا وَقَدْ نَفَى ذَلِكَ قَبْلُ آنِفًا (وَلَمْ يُولَدْ) لِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّدَ عَنْ مِثْلِهِ لَجَرَتْ الْمُمَاثَلَةُ أَيْضًا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) فِي النَّوْعِ وَالْجِنْسِ كَمَا فِي الشَّخْصِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا فِي قُوَّةِ دَلِيلٍ لِمَا سَبَقَ لِأَنَّ نَفْيَ التَّسَاوِي مُطْلَقًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوَالِدِيَّةِ وَالْمَوْلُودِيَّة وَنَحْوِهِمَا

وَالْكُلُّ فِي الْحَقِيقَةِ كَالتَّفْصِيلِ لِلتَّوْحِيدِ (وَلَا يَتَمَكَّنُ بِمَكَانِ) لِأَنَّ التَّمَكُّنَ عِبَارَةٌ عَنْ نُفُوذِ بُعْدٍ فِي بُعْدٍ آخَرَ مُتَوَهَّمٍ أَوْ مُتَحَقَّقٍ يُسَمُّونَهُ الْمَكَانَ وَالْبُعْدُ عِبَارَةٌ عَنْ امْتِدَادٍ قَائِمٍ بِالْجِسْمِ أَوْ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُودِ الْخَلَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْمِقْدَارِ وَالِامْتِدَادِ لِاسْتِلْزَامِهِ التَّجَزِّي وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَكَان لَزِمَ قِدَمُ الْمَكَانِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ افْتِقَارُهُ إلَيْهِ وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ مُمْكِنٌ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْوَاجِبِ مُمْكِنًا وَأَيْضًا يَلْزَمُ كَوْنُهُ جَوْهَرًا وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُتَحَيِّزٌ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ وَدُفِعَ بِأَنَّهُ بَدَاهَةُ الْوَهْمِ لَا بَدَاهَةُ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْوَهْمَ فِي غَيْرِ الْمَحْسُوسَاتِ لَيْسَ بِمَقْبُولٍ وَأَمَّا النُّصُوصُ الظَّوَاهِرُ فِي التَّجَسُّمِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمَكَانِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] . قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ إنَّهَا ظَوَاهِرُ ظَنِّيَّةٌ لَا تُعَارِضُ الْيَقِينِيَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الْمَكَانِ فَلَزِمَ أَنَّهَا مُتَشَابِهَاتٌ فَنُفَوِّضُ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَوْ نُؤَوِّلُهَا بِنَحْوِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْعَرْشِ {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] أَيْ أَمْرُ رَبِّك وَإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أَيْ يَرْتَضِيهِ (وَلَا يُجْرَى عَلَيْهِ زَمَانٌ) لِأَنَّ الزَّمَانَ مُتَجَدِّدٌ يُقَدَّرُ بِهِ مُتَجَدِّدٌ آخَرُ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُمَا لِأَنَّ التَّجَدُّدَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْقَدِيمِ وَكَذَا الْمِقْدَارُ (وَلَيْسَ لَهُ جِهَةٌ مِنْ الْجِهَاتِ السِّتِّ وَلَا هُوَ فِي جِهَةٍ مِنْهَا) وَهِيَ فَوْقُ تَحْتُ وَيَمِينُ وَيَسَارُ وَقُدَّامُ وَخَلْفُ وَالْجِهَةُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ نَفْسُ الْمَكَانِ بِإِضَافَةِ جِسْمٍ آخَرَ إلَيْهِ فَإِذَا انْتَفَتْ الْجِسْمِيَّةُ وَالْمَكَانِيَّةُ تَنْتَفِي الْجِهَةُ لِأَنَّهَا مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فِي جِهَةٍ أَوْ زَمَانٍ لَزِمَ قِدَمُ الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ وَلِأَنَّهُ أَمَارَةُ الْإِمْكَانِ لِلِافْتِقَارِ إلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَا ذَكَرْت أَنَّ الْجِهَةَ رَاجِعَةٌ إلَى الْمَكَانِ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِهِ بَعْدَهُ قُلْت: الْوَجْهُ زِيَادَةُ التَّوْضِيحِ فِي بَابِ التَّنْزِيهِ وَتَصْرِيحُ الرَّدِّ وَتَأْكِيدُهُ لِلْمُخَالِفِ كَمَا ذَكَرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ

(وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ) كَاللُّطْفِ وَالْأَصْلَحِ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا فَلَا يَجِبُ إثَابَةُ الْمُطِيعِ وَعُقُوبَةُ الْعَاصِي وَإِلَّا لَمَا خَلَقَ الْكَافِرَ الْفَقِيرَ الْمُعَذَّبَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَمَا يَسْتَحِقُّ اللَّهُ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ فِي إضَافَةِ الْخَيْرَاتِ لِكَوْنِهِمَا أَدَاءً لِلْوَاجِبِ وَلَمَا كَانَ لِسُؤَالِ الْعِصْمَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَكَشْفِ الضَّرَرِ وَنَحْوِهَا مَعْنًى لِأَنَّ مَا لَمْ يُفْعَلْ فِي حَقِّ كُلِّ مَفْسَدَةٍ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَرْكُهَا وَالتَّفْصِيلُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ ثُمَّ الْوَاجِبُ إمَّا مَا يَكُونُ تَرْكُهُ مُخِلًّا بِالْحِكْمَةِ أَوْ مَا يَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ الذَّمَّ أَوْ مَا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فِعْلَهُ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّا نَعْلَمُ إجْمَالًا أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ عَلَى حِكْمَةٍ وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمُنَا وَكَذَا الثَّانِي لِأَنَّهُ مَالِكٌ الْكُلَّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الذَّمُّ فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَكَذَا الثَّالِثُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ التَّرْكُ جَائِزًا فَإِطْلَاقُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ وَمُوهِمٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمَمْنُوعَيْنِ السَّابِقَيْنِ. وَفِي شَرْحِ الطَّوَالِعِ ثَوَابُ الْمُطِيعِ فَضْلٌ وَدَلِيلُهُ الطَّاعَةُ وَعِقَابُ الْعُصَاةِ عَدْلٌ وَدَلِيلُهُ الْعِصْيَانُ. (وَلَا يَحِلُّ فِيهِ حَادِثٌ) وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَحِلُّ فِي حَادِثٍ فَلَعَلَّهُ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ وَإِنْ صُحِّحَ بِتَكَلُّفٍ. قَالَ الشَّرِيفُ الْعَلَّامَةُ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ تَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَوْ كَانَ حَادِثًا لَكَانَ خَالِيًا عَنْهُ فِي الْأَزَلِ وَالْخُلُوُّ عَنْ صِفَةِ الْكَمَالِ نَقْصٌ وَأُورِدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَا يَتَحَمَّلُ الْمَقَامُ إيرَادَهُ. وَقَالَ فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ تَغَيُّرٌ وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْأَزَلِ فَيَلْزَمُ الِانْقِلَابُ وَيُوجِبُ زَوَالَ ضِدِّهِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ الْحَوَادِثِ. وَأَمَّا الِاتِّصَافُ بِمَا لَهُ تَعَلُّقٌ حَادِثٌ أَوْ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ السُّلُوبِ وَالْإِضَافَاتِ وَالْأَحْوَالِ فَلَيْسَ مِنْ الْمُتَنَازَعِ انْتَهَى (حَكِيمٌ) وَصْفُ مُبَالَغَةٍ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ أَوْ بِمَعْنَى الْمُتْقِنِ أَوْ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْيَافِعِيِّ أَوْ بِمَعْنَى عَالِمِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَمَعْرِفَةِ لَوَازِمِهَا وَخَوَاصِّهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَوْ وَاضِعِ كُلٍّ مَوْضِعَهُ الْحَرِيَّ فَقَوْلُهُ (لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إلَّا بِحِكْمَةٍ) كَالتَّفْسِيرِ لَهُ أَوْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لِهَذَا قِيلَ عَنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ الْحِكْمَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ وَإِيجَادُهَا عَلَى غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَمِنْ الْإِنْسَانِ مَعْرِفَةُ الْمَوْجُودَاتِ وَفِعْلُ الْخَيْرَاتِ. لَعَلَّ هَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا قِيلَ: إنَّهُ إتْقَانٌ لِلصُّنْعِ فِي الْقَامُوسِ وَأَحْكَمَهُ أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ عَنْ الْفَسَادِ ثُمَّ قِيلَ: اُخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ الْحِكْمَةِ وَالسَّفَهِ فَعِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الْحِكْمَةُ مَالَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَالسَّفَهُ ضِدُّهُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ هِيَ مَا وَقَعَ عَلَى قَصْدِ فَاعِلِهِ وَهُوَ ضِدُّهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ هِيَ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ ضِدُّهُ أَيْضًا ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْفِعْلِ مَا يَعُمُّ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ المضدراعي الْحِكْمَةُ فِيمَا خَلَقَ أَوَأَمَرَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ لَيْسَتْ بِبَاعِثٍ عَلَى فِعْلِهِ وَإِلَّا يَلْزَمُ كَوْنُ فِعْلِهِ تَعَالَى مُعَلَّلًا بِالْأَغْرَاضِ وَقَدْ أُبْطِلَ فِي مَحَلِّهِ وَالنُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ فِي ذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] مُعَلَّلَةٌ بِتِلْكَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ خِلَافًا لِلْأَشَاعِرَةِ. وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ بَعْضَ أَفْعَالِهِ سِيَّمَا الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ

مُعَلَّلٌ بِالْحِكَمِ دُونَ بَعْضٍ أُورِدَ عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ فَمُنْتَفٍ فِي الْكُلِّ وَإِنْ أُرِيدَ تَرْتِيبُ الْحِكْمَةِ عَلَى أَفْعَالِهِ فَالْكُلُّ كَذَا غَايَتُهُ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَظْهَرُ إلَّا عَلَى الرَّاسِخِينَ الْمُؤَيَّدِينَ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ مُرَادَ هَذَا الشَّارِحِ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِنَا فَلَا يُنَافِي كَوْنَ الْجَمِيعِ مُعَلَّلًا بِالْحِكَمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَفَائِدَةٍ) أَيْ عَاقِبَةٍ حَمِيدَةٍ تَرْجِعُ إلَى عِبَادِهِ وَأَمَّا نَحْوُ الْكُفْرِ وَسَائِرِ الشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ فَخَلْقُهُ تَعَالَى لَا يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهَا كَمَا مَرَّ آنِفًا (فَعَّالٌ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ (لِمَا يَشَاءُ) فَمُرَادُهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ إرَادَتِهِ لِلُزُومِ الْعَجْزِ (بِلَا إيجَابٍ) لِسَبْقِهِ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ كَأَنَّ فِيهِ رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ وَاجِبَةٌ فَاَللَّهُ يُرِيدُ وُقُوعَهَا وَيَكْرَهُ تَرْكَهَا وَإِنْ حَرَامًا يُرِيدُ تَرْكَهَا وَيَكْرَهُ وُقُوعَهَا وَتَمَامُهُ فِي شَرْحِ الْعَضُدِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْمُبَالَغَةَ أَنْ يَثْبُتَ لِلشَّيْءِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي نَفْسِهِ وَصِفَتُهُ تَعَالَى مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْكَمَالِ فَلَا تُمْكِنُ الْمُبَالَغَةُ وَأَيْضًا إنَّمَا تُتَصَوَّرُ الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَةٍ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى قُلْت: أَجَابَ عَنْهُ فِي الْإِتْقَانِ عَنْ الْبُرْهَانِ الرَّشِيدِيِّ كُلُّ الْمُبَالَغَةِ فِي صِفَتِهِ تَعَالَى مَجَازٌ فَاسْتَحْسَنَهُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ. وَعَنْ الزَّرْكَشِيّ التَّحْقِيقُ أَنَّ صِيَغَ الْمُبَالَغَةِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَا تَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْفِعْلِ وَالثَّانِي بِحَسَبِ تَعْدَادِ الْمَفْعُولَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَدُّدَهَا لَا يُوجِبُ لِلْفِعْلِ زِيَادَةً إذْ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ قَدْ يَقَعُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ تَنْزِلُ صِفَاتُهُ تَعَالَى وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي حُكْمِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ تَكْرَارُ حِكْمَةِ التَّنْبِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرَائِعِ. (مُنَزَّهٌ) مُبْعَدٌ وَمُبَرَّأٌ (عَنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ) الَّتِي تُوجِبُ انْحِطَاطًا فِي مَرَاتِبِ الْأُلُوهِيَّةِ كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ وَنَحْوِهَا نَقَلَ الدَّوَانِيُّ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ كَوْنَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مُجْمَعًا عَلَيْهَا (كُلِّهَا) لِأَنَّ لَهُ الْكَمَالَ الْمُطْلَقَ وَمُسْتَغْنٍ عَنْ غَيْرِهِ مَعَ افْتِقَارِ الْكُلِّ إلَيْهِ (مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ) فَكُلُّ مَا اتَّصَفَ بِهِ فَكَمَالٌ بَلْ كُلُّ كَمَالٍ صِفَةٌ لَهُ (كُلِّهَا وَلَيْسَ لَهُ كَمَالٌ مُتَوَقَّعٌ) أَيْ مُنْتَظَرٌ لِلُزُومِ النَّقْصِ فِي الْأَزَلِ وَلِلُزُومِ كَوْنِهِ مَحَلَّ الْحَوَادِثِ فِيمَا لَا يُزَالُ (قَدِيمٌ) أَيْ لَا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الثَّانِي إذْ لَوْ كَانَ حَادِثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ لَكَانَ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ ضَرُورَةً ثُمَّ قَالَ: الْقِدَمُ الزَّمَانِيُّ عَدَمُ الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْعَدَمِ فَالْقِدَمُ هُنَا هُوَ الْقِدَمُ الزَّمَانِيُّ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مَعْنَى الْقِدَمِ الزَّمَانِيِّ فَمَا قِيلَ هُنَا الْمُرَادُ مِنْ الْقِدَمِ سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ عَلَى الْوُجُودِ وَهُوَ لَيْسَ بِقِدَمٍ زَمَانِيٍّ وَالْقِدَمُ الزَّمَانِيُّ مُرُورُ الْأَزْمِنَةِ عَلَى الشَّيْءِ مَعَ بَقَائِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ بِوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ مُقَابِلَ الْقِدَمِ الزَّمَانِيِّ هُوَ الْقِدَمُ الذَّاتِيُّ الْمُفَسَّرُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى غَيْرِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْفَلَاسِفَةِ. قَالَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ انْقِسَامِ كُلٍّ مِنْ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ إلَى الذَّاتِيِّ وَالزَّمَانِيِّ رَفْضُ كَثِيرٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَا ذَكَرَهُ إمَّا مَعْنَى مَجَازِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ أَوْ اصْطِلَاحٌ لِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِينَ (أَزَلِيٌّ) الْأَزَلُ هُوَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ فِي أَزْمِنَةٍ مُقَدَّرَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ فِي جَانِبِ الْمَاضِي كَمَا أَنَّ الْأَبَدَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ فِي أَزْمِنَةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي جَانِبِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا فِي

التَّعْرِيفَاتِ فَإِنْ قِيلَ: فَالزَّمَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَفْهُومِ الْأَزَلِيِّ وَالْأَبَدِيِّ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِزَمَانِيٍّ قُلْنَا: كَمَا يُقَالُ عَلَى الزَّمَانِيِّ يُقَالُ عَلَى غَيْرِ الزَّمَانِيِّ لِأَنَّهُ قِيلَ: الْأَزَلِيُّ يَكُونُ لَهُ نِهَايَةٌ وَلَا يَكُونُ لَهُ بِدَايَةٌ وَالْأَبَدِيُّ عَكْسُهُ وَقِيلَ: عَنْ زُبْدَةِ الْحَقَائِقِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَزَلِيَّةَ شَيْءٌ مَاضٍ فَقَدْ أَخْطَأَ فَاحِشًا فَإِنَّهُ لَا مَاضِيَ وَلَا مُسْتَقْبَلَ فِيهَا بَلْ هِيَ مُحِيطَةٌ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَالْمَاضِي وَقِيلَ: هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَزَلِيِّ وَالْقَدِيمِ أَنَّ الْأَوَّلَ شَامِلٌ لِلْعَدَمِ. وَالثَّانِيَ مُخْتَصٌّ بِالْوُجُودِ فَلَعَلَّ كَوْنَهُ قَدِيمًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَكَوْنَهُ أَزَلِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى صِفَاتِهِ الْإِضَافِيَّةِ وَالنِّسْبِيَّةِ فَمَنْ قَالَ إنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى نَفْسِيَّةٌ وَسَلْبِيَّةٌ وَغَيْرُهُمَا قَدِيمَةٌ لَمْ يَفْهَمْ الْفَرْقَ أَوْ لَمْ يَرْضَ أَوْ تَجَوَّزَ (أَبَدِيٌّ) عَرَفْت آنِفًا مَعْنَاهُ. (لَهُ صِفَاتٌ) جَمْعُ صِفَةٍ أَصْلُهَا وَصْفٌ فَحُذِفَتْ الْوَاوُ وَعُوِّضَ عَنْهَا التَّاءُ وَالْمُرَادُ هُنَا هُوَ مَبَادِئُ الْمُشْتَقَّاتِ لَا أَنْفُسُهَا كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَا الْعَالِمِ وَالْقَادِرِ وَأَنْكَرَهَا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَائِلِينَ بِأَنَّهَا عَيْنُ ذَاتِهِ تَعَالَى تَحَاشِيًا عَنْ تَكْثِيرِ الْقُدَمَاءِ وَالْوَاجِبَاتِ وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمُحَالَ تَكَثُّرُ الْقُدَمَاءِ بِالذَّاتِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ (قَدِيمَةٌ) لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ تَعَالَى خِلَافًا لِلْكَرَامِيَّةِ قَالَ الْعَلَّامَةُ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ تَعَالَى قَدِيمٌ بِصِفَاتِهِ وَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِالْقُدَمَاءِ لِئَلَّا يَذْهَبَ الْوَهْمُ إلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهَا قَائِمٌ بِذَاتِهِ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ (قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ) كَالتَّوْضِيحِ وَالتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَأْخُوذٌ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ أَوْ لِرَدِّ بَعْضِ الْمُخَالِفِينَ كَالْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ وَالْكَلَامُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ تَعَالَى كَاللَّوْحِ وَشَجَرَةِ مُوسَى وَفُؤَادِ جَبْرَائِيلَ وَلَهُ إرَادَةٌ حَادِثَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: وَلَمَّا تَمَسَّكَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ إبْطَالَ التَّوْحِيدِ لِمَا أَنَّهَا مَوْجُودَاتٌ قَدِيمَةٌ مُغَايِرَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ قِدَمُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ إلَى آخِرِهِ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ (لَا) تِلْكَ الصِّفَةِ (هُوَ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْنِي لَيْسَتْ عَيْنَ ذَاتِهِ (وَلَا غَيْرُهُ) غَيْرُ ذَاتِهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُ قِدَمُ الْغَيْرِ وَلَا تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ أَمَّا نَفْيُ الْعَيْنِيَّةِ فَلِأَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ قَبِيلِ الْعَرَضِ وَالذَّاتَ مِنْ قَبِيلِ الْجَوْهَرِ يَعْنِي شَبِيهَةً فِي الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ وَعَدَمِهِ فَعَدَمُ الْعَيْنِيَّةِ بَدِيهِيَّةٌ وَأَنَّ الصِّفَاتِ مُحْتَاجَةٌ إلَى الذَّاتِ فَمُمْكِنَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَالذَّاتُ وَاجِبَةٌ مُسْتَغْنِيَةٌ وَالْوَاجِبُ لَا يَكُونُ عَيْنَ الْمُمْكِنِ. وَقِيلَ: وَرَدَتْ النُّصُوصُ بِالِاشْتِقَاقِ نَحْوَ عَالِمٍ وَقَادِرٍ وَكَوْنُ الشَّيْءِ عَالِمًا مُعَلَّلٌ بِقِيَامِ الْعِلْمِ فِي الشَّاهِدِ فَكَذَا فِي الْغَائِبِ وَأُورِدَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِقْهِيٌّ وَقِيَاسُ غَائِبٍ عَلَى شَاهِدٍ مَعَ الْفَارِقِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ فِي الشَّاهِدِ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ وَتُعْدَمُ بِخِلَافِ الْغَائِبِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ أَنَّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ وَالْحَدِّ وَالشَّرْطِ فِي الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ لَا يَضُرُّ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ عِلَّةَ كَوْنِ الشَّيْءِ عَالِمًا فِي الشَّاهِدِ هُوَ الْعِلْمُ فَكَذَا فِي الْغَائِبِ وَأَيْضًا حَدُّ الْعَالِمِ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ سَوَاءٌ فِي الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ وَشَرْطُ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ عَلَى شَيْءٍ ثُبُوتُ أَصْلِهِ فِي الْغَائِبِ وَالشَّاهِدِ وَأَمَّا نَفْيُ الْغَيْرِيَّةِ فَبِأَنَّ الْعُرْفَ وَاللُّغَةَ وَالشَّرْعَ يَشْهَدُ بِأَنَّ الصِّفَةَ وَالْمَوْصُوفَ لَيْسَا بِغِيَرَيْنِ كَالْكُلِّ وَالْجُزْءِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ فِي الظَّاهِرِ وَجَمْعٌ بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ الْحَقِيقَةِ قُلْنَا: أُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ الْغَيْرَ مَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ فِي التَّصَوُّرِ، وَالْعَيْنَ مَا يَتَّحِدُ فِي الْمَفْهُومِ بِلَا تَفَاوُتٍ فَيُمْكِنُ الْوَاسِطَةُ بِأَنْ لَا يَتَّحِدَا فِي الْمَفْهُومِ وَلَا يُوجَدَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ فَالصِّفَةُ مَعَ الذَّاتِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَيُمْكِنُ أَنَّ نَفْيَ الْعَيْنِيَّةِ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ وَنَفْيَ الْغَيْرِيَّةِ بِحَسَبِ الْوُجُودِ كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ فَلَا تَنَاقُضَ لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ وَإِيرَادُ الدَّوَانِيّ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمُشْتَقَّاتِ وَالْكَلَامُ فِي مَبَادِئَهَا وَلَا يَصِحُّ فِيهَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ إذْ الْعِلْمُ مَثَلًا لَيْسَ عَيْنَ ذَاتِهِ تَعَالَى مَفْهُومًا وَيَمْتَنِعُ وُجُودُهُ بِدُونِهِ وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ: إنَّهَا عَيْنُ الذَّاتِ إذَا نُظِرَ إلَيْهَا مِنْ جَانِبِ الذَّاتِ وَغَيْرُ الذَّاتِ إذَا نُظِرَ مِنْ جَانِبِ انْقِسَامِ الْوُجُودِ إلَى الْأَقْسَامِ وَوَضَحَ بِمِثَالٍ أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي نَفْسِهَا وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ

وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَمْسَةِ ضِعْفٌ وَإِلَى الْعِشْرِينَ نِصْفٌ وَإِلَى ثَلَاثِينَ ثُلُثٌ وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الدَّائِرَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَاحِدَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَكَثِيرَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ إذْ يَقْتَضِي كَوْنَ الصِّفَاتِ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ وَالذَّاتِ أَيْضًا مُتَّحِدَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالتَّغَايُرُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَسَامِي وَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ (هِيَ) أَيْ الصِّفَاتُ الْكَامِلَةُ الْقَدِيمَةُ ثَمَانٍ (الْحَيَاةُ) صِفَةٌ تُوجِبُ صِحَّةَ الْعِلْمِ لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ وَإِجْمَاعِ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ وَلِأَنَّ الْخُلُوَّ عَنْهَا نَقْصٌ وَمَا يُقَالُ: إنَّهَا اعْتِدَالُ الْمِزَاجِ وَتَأْثِيرُ الْحَاسَّةِ فَمَمْنُوعٌ (وَالْعِلْمُ) صِفَةٌ تَنْكَشِفُ بِهَا الْمَعْلُومَاتُ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهَا مَوْجُودَةً أَوْ مَعْدُومَةً مُمْتَنِعَةً أَوْ مُمْكِنَةً قَدِيمَةً أَوْ حَادِثَةً مُتَنَاهِيَةً أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ جُزْئِيَّةً أَوْ كُلِّيَّةً مَادِّيَّةً أَوْ مُجَرَّدَةً قَالَ الْخَيَالِيُّ: فَإِنَّ لِلْعِلْمِ تَعَلُّقَاتٍ قَدِيمَةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ بِالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَزَلِيَّاتِ وَالْمُتَجَدِّدَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا سَتَتَجَدَّدُ وَتَعَلُّقَاتٌ حَادِثَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ بِالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَجَدِّدَاتِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِهَا الْآنَ أَوْ قَبْلُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُدُوثِ التَّعَلُّقِ حُدُوثُ الْعِلْمِ أَمَّا دَلِيلُ الْعِلْمِ فَإِمَّا سَمْعِيٌّ نَحْوُ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] وَإِمَّا عَقْلِيٌّ لِاسْتِنَادِ الْعَالَمِ إلَيْهِ مَعَ إتْقَانِهِ وَإِحْكَامِهِ وَانْتِظَامِهِ وَمِنْ الْبَيِّنِ دَلَالَةُ الْأَفْعَالِ الْمُتْقَنَةِ عَلَى عِلْمِ فَاعِلِهَا وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي الْبَدَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ وَفِي نَفْسِهِ وَجَدَ دَقَائِقَ حِكَمٍ تَدُلُّ عَلَى حِكْمَةِ صَانِعِهَا وَعِلْمِهِ الْكَامِلِ وَأُورِدَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَدْ يَصْدُرُ عَنْهُ أَفْعَالٌ مُتْقَنَةٌ كَبُيُوتِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ تَعَالَى إذْ لَا مُؤَثِّرَ غَيْرُهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ عَدَمَ عِلْمِ الْحَيَوَانِ مَمْنُوعٌ بَلْ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى عِلْمِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي} [النحل: 68] الْآيَةَ (وَالْقُدْرَةُ) صِفَةٌ تُؤَثِّرُ فِي الْمَقْدُورَاتِ بِجَعْلِهَا مُمْكِنَةَ الْوُجُودِ مِنْ الْفَاعِلِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهَا فَتَعَلُّقَاتُ الْقُدْرَةِ كُلُّهَا قَدِيمَةٌ وَعِنْدَنَا فِي التَّكْوِينِ فَقَدِيمَةٌ أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَعَلَّقَتْ فِي الْأَزَلِ بِوُجُودِ الْمَقْدُورِ فِيمَا لَا يُزَالُ وَحَادِثَةٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ: الْقُدْرَةُ صِحَّةُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لَعَلَّ هَذَا مَذْهَبُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ بَلْ لَهَا تَعَلُّقٌ مَحْضٌ بِلَا تَأْثِيرٍ لِلْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ كَمَالٌ وَضِدَّهَا أَعْنِي الْعَجْزَ نَقْصٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ (وَالسَّمْعُ) صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْمُوعَاتِ (وَالْبَصَرُ) صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُبْصَرَاتِ فَيُدْرِكُ بِلَا طَرِيقِ تَخَيُّلٍ وَتَأْثِيرِ حَاسَّةٍ وَوُصُولِ هَوَاءٍ لِلْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الظَّاهِرَةِ فِي كَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ زَائِدَتَيْنِ وَالصَّرْفُ عَنْ الظَّوَاهِرِ بِلَا صَارِفٍ لَيْسَ بِجَائِزٍ فَلَا يَكُونَانِ رَاجِعَيْنِ إلَى الْعِلْمِ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ كَمَا زَعَمَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَالْكَعْبِيُّ وَحُسَيْنٌ الْبَصْرِيُّ قِيلَ: وَالْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فَتَكُونُ الْمَسْمُوعَاتُ وَالْمُبْصَرَاتُ كَمَا هُمَا مُتَعَلِّقُ عِلْمِهِ مُتَعَلِّقَ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَإِثْبَاتُهُمَا تَكْثِيرُ الْقُدَمَاءِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَالْأَصْلُ تَقْلِيلُهَا قُلْنَا: قَالَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِمَا آمَنَّا بِذَلِكَ وَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ بِالْآلَتَيْنِ الْمَعْرُوفَتَيْنِ وَاعْتَرَفْنَا بِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا لِقُصُورِنَا وَنُقْصَانِنَا (وَالْإِرَادَةُ) صِفَةٌ تُوجِبُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الْمَقْدُورَيْنِ بِالْوُقُوعِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ نِسْبَةُ الْقُدْرَةِ إلَى الضِّدَّيْنِ سَوَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْعِلْمُ لِتَبَعِيَّتِهِ لِلْمَعْلُومِ فَتَعَيَّنَ صِفَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْإِرَادَةُ وَشَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ مِنْهَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَلَوْ شُرُورًا وَمَعَاصِيَ كَالْكُفْرِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْإِرَادَةُ كَالْقُدْرَةِ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُمْكِنَاتِ لَكِنَّ الْقُدْرَةَ تَعُمُّ الْمَعْدُومَاتِ وَالْمَوْجُودَاتِ وَالْإِرَادَةُ تُخَصُّ بِالْمَوْجُودَاتِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَمُتَعَلِّقٌ شَامِلٌ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ كَالْمُمْكِنَاتِ (وَالتَّكْوِينُ) صِفَةٌ قَدِيمَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ وَيُفَسَّرُ بِإِخْرَاجِ الْمَعْدُومِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ وَالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَنَحْوِهَا هَذَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ إطْبَاقَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ وَمُكَوِّنٌ وَإِطْلَاقَ الْمُشْتَقِّ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ مُمْتَنِعٌ فَالْمَأْخَذُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَهِيَ غَيْرُ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ أَثَرَ الْقُدْرَةِ صِحَّةُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُجُودَ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ التَّكْوِينُ صِفَةٌ حَادِثَةٌ

عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْإِضَافَاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الْعَقْلِيَّةِ يُعْقَلُ مَنْ تَعَلُّقِ الْمُؤَثِّرِ وَلَيْسَ سِوَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ وَإِنْ كَانَتْ نِسْبَتُهَا إلَى وُجُودِ الْمُكَوِّنِ وَعَدَمِهِ عَلَى السَّوَاءِ لَكِنْ مَعَ انْضِمَامِ الْإِرَادَةِ يَتَخَصَّصُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ أَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَثَرُ التَّكْوِينِ هُوَ الْوُقُوعُ بِالْفِعْلِ بَعْدَ هَذَا التَّرْجِيحِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَثَرَ الْقُدْرَةِ هُوَ كَالْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ وَأَثَرَ الْإِرَادَةِ كَالْإِمْكَانِ الِاسْتِعْدَادِي وَالتَّكْوِينُ كَالْإِمْكَانِ الْوُقُوعِيِّ أَوْ نَقُولُ: فَكَمَا كَانَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ صِفَتَيْنِ زَائِدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الِانْكِشَافُ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ بِسَبَبِ الْعِلْمِ لِوُرُودِ السَّمْعِ غَايَتُهُ عَدَمُ الْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِقُصُورِ الْأَدِلَّةِ فَلْيَكُنْ التَّكْوِينُ كَذَلِكَ لِوُرُودِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ فَهُوَ جَوَابُنَا وَقَالَ الْمَوْلَى الْخَيَالِيُّ فِي إثْبَاتِ التَّكْوِينِ أَنَّ التَّكْوِينَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي نَجِدُهُ فِي الْفَاعِلِ وَبِهِ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَرْتَبِطُ بِالْمَفْعُولِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمُوجِبَ أَيْضًا بَلْ نَقُولُ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ صِفَةً أُخْرَى انْتَهَى فَإِذَا وُجِدَ التَّكْوِينُ عِنْدَ عَدَمِهَا فَلْيُوجَدْ فِي الْكُلِّ وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا مَذْهَبًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّرْزِيقِ وَالتَّصْوِيرِ وَالْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْأَفْعَالِ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَزَلِيَّةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ عُلَمَاءِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَكْثِيرٌ لِلْقُدَمَاءِ جِدًّا فَالْمَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ عَدَمُ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْهَا وَرُجُوعُ الْكُلِّ إلَى التَّكْوِينِ وَالْكَثْرَةِ فِي التَّعَلُّقَاتِ وَوُجُودُ الْكُلِّ صِفَةً. (وَ) الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ (الْكَلَامُ) صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى مُنَافِيَةٌ لِلسُّكُوتِ وَالْآفَةِ عَبَّرَ عَنْهَا بِالنَّظْمِ الْمُسَمَّى بِالْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ هِيَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِيِّ وَغَيْرُ الْعِلْمِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يُخْبِرُ عَمَّا مَا لَا يَعْلَمُ وَغَيْرُ الْإِرَادَةِ إذْ قَدْ يَأْمُرُ غَيْرَ مَا أَرَادَهُ كَمَا تَقُولُ: إنَّ لِنَفْسِي كَلَامًا. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي زَوَّرْت فِي نَفْسِي مَقَالَةً بِإِجْمَاعِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَوَاتُرٌ إلَيْنَا وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلِأَنَّ ضِدَّهُ فِي الْحَيِّ نَقْصٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَعْدَمَا اُتُّفِقَ عَلَى وُجُودِ صِفَةِ الْكَلَامِ اخْتَلَفُوا عَلَى أَرْبَعٍ فَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ قَدِيمٌ وَلَيْسَ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ بَلْ هُوَ الْمَعْنَى وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَدِيمٌ أَيْضًا لَكِنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ إلَى أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِقِدَمِ الْجِلْدِ وَالْغِلَافِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ وَحَادِثٌ لَكِنْ لَيْسَ بِقَائِمٍ بِذَاتِهِ تَعَالَى بَلْ بِالْغَيْرِ كَاللَّوْحِ وَفُؤَادِ جَبْرَائِيلَ وَالنَّبِيِّ وَشَجَرَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعِنْدَ الْكَرَّامِيَّةِ مُرَكَّبٌ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَحَادِثٌ لَكِنْ قَائِمٌ بِهِ تَعَالَى فَعَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ وَالْمُعْتَزِلَةَ مُتَّحِدَانِ فِي حُدُوثِ اللَّفْظِيِّ وَمُفْتَرِقَانِ فِي إثْبَاتِ النَّفْسِيِّ وَعَدَمِهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَعِنْدَ صَاحِبِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ الْكَلَامَ اللَّفْظِيَّ قَدِيمٌ كَالنَّفْسِيِّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ فَالْكَلَامُ عِنْدَهُ أَمْرٌ شَامِلٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا لَزِمَ عَدَمُ تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ كَلَامِيَّةَ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَعَدَمُ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّحَدِّي وَعَدَمُ قِرَاءَةِ الْجُنُبِ وَمَسِّ الْمُحْدِثِ قَالَ شَارِحُ الْمَوَاقِفِ: وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى قَوَاعِدِ الْمِلَّةِ قِيلَ: حَاصِلُهُ هُوَ الْعِبَارَاتُ الْمَنْظُومَةُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ أَصْوَاتٌ غَيْرُ قَارَّةٍ وَسَيَّالَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْقِدَمُ وَالْقِيَامُ بِهِ تَعَالَى لَعَلَّ هَذَا قَرِيبٌ إلَى مَا أُورِدَ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ كَلَامَهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ أَمْرًا آخَرَ يُمَاثِلُهُ أَقُولُ: لَعَلَّ الْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ تَفْوِيضُ الْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سَبَقَ (الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ) اللَّفْظِيَّةِ وَالرَّقْمِيَّةِ (وَالْأَصْوَاتِ) وَهَذَا عَلَى مَا اُشْتُهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى وَفْقِ مَا نُقِلَ عَنْ الْمُقْرِي عَنْ ابْنِ مَرْزُوقٍ أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ الْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَيُرَادُ أَيْضًا الْمَقْرُوءُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِهِ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ حَادِثٌ لَعَلَّ هَذَا هُوَ الْقُرْآنُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّ لِتَعَلُّقِ غَرَضِهِمْ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ إلَيْهِ وَمِثْلُهُ نُقِلَ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ

صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ آنِفًا كَمَا يَرُدُّ عَلَى مَسْلَكِ صَاحِبِ الْمَوَاقِفِ مِنْ كَوْنِ النَّظْمِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ تَعَالَى قِيَامَ الْأَعْرَاضِ السَّيَّالَةِ بِهِ تَعَالَى وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَرَتِّبٍ وَالتَّرْتِيبُ فِينَا لِقُصُورِ الْأَدِلَّةِ قِيلَ: هُوَ سَفْسَطَةٌ وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ: الْكَلَامُ لَيْسَ كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَذَاهِبِ بَلْ هُوَ كَلِمَاتٌ رَتَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ بِصِفَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ التَّأْلِيفِ وَالتَّرْتِيبِ فَالْكَلِمَاتُ لَا تَعَاقُبَ لَهَا فِي الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ بَلْ التَّعَاقُبُ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ كَلَامٌ لَفْظِيٌّ ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْوَجْهُ سَالِمٌ مِمَّا لَزِمَ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْمَنْقُولَةِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ لَفْظًا حَادِثًا اعْتِرَافٌ بِحُدُوثِهِ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُفِيدُ قِدَمُهُ فِي الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ إذْ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ قَدِيمٌ فِي الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَأَنَّ الْعِلْمَ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ وَالْمَعْلُومُ هُوَ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ قِدَمُ الْعِلْمِ مَعَ حُدُوثِ الْمَعْلُومِ وَالْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ الْحَادِثَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى هُنَا وَبِالْجُمْلَةِ الْمَذَاهِبُ فِينَا ثَلَاثَةٌ: الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ لَا اللَّفْظِيُّ لِقُدَمَاءِ الْأَشَاعِرَةِ وَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لِصَاحِبِ الْمَوَاقِفِ وَالْكَلِمَاتُ الْمُرَتَّبَةُ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ التَّأْلِيفِ وَالتَّرْتِيبِ لِلدَّوَّانِيِّ لَعَلَّ الْأَقْرَبَ مَا قَرَّرَ بِهِ شَارِحُ الْمَوَاقِفِ آنِفًا فَتَأَمَّلْ قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَمَّا صَرَّحَ بِأَزَلِيَّةِ الْكَلَامِ حَاوَلَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أَيْضًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الْقَدِيمِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى النَّظْمِ الْمَتْلُوِّ الْحَادِثِ فَقَالَ (وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ) فِي إتْيَانِ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِئَلَّا يَسْبِقَ إلَى الْفَهْمِ قِدَمُ الْمُؤَلَّفِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَلَمْ يَقُلْ غَيْرُ حَادِثٍ تَنْبِيهًا عَلَى اتِّحَادِهِمَا وَقَصْدًا إلَى جَرْيِ الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ حَدِيثِ «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ» إلَى آخِرِ مَا قَالَ لَكِنْ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مَوْضُوعَاتِهِ عَنْ الصَّاغَانِيِّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَعَنْ السَّخَاوِيِّ بِجَمِيعِ طُرُقِهِ بَاطِلٌ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَأَمَّا حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ وَعَنْ شَبَابَةَ وَعَنْ ابْنِ مَرْيَمَ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كَافِرٌ وَعَنْ مَالِكٍ يُوجَعُ ضَرْبًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ زِنْدِيقٌ وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كَافِرٌ وَكَذَا مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَعَنْ وَكِيعٍ يُسْتَتَابُ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ يُضْرَبُ عُنُقُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - تَنَاظَرَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ اسْتَقَرَّ رَأْيُهُمَا عَلَى الْكُفْرِ لَكِنْ نُقِلَ عَنْ الْأُصُولِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّتْمِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ ضَالٌّ وَمُبْتَدِعٌ لَا كَافِرٌ (وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى) فِي الْيَقَظَةِ (بِالْأَبْصَارِ) جَمْعُ بَصَرٍ وَهُوَ حِسُّ الْعَيْنِ وَمِنْ الْقَلْبِ نَظَرُهُ وَخَاطِرُهُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ بِمَعْنَى

الِانْكِشَافِ التَّامِّ بِالْبَصَرِ (جَائِزَةٌ فِي الْعَقْلِ) بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ إذَا خُلِّيَ وَنَفْسَهُ لَمْ يَحْكُمْ بِامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ مَا لَمْ يَقُمْ لَهُ بُرْهَانٌ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لِأَنَّ الْأَصْلَ قِيَامُ الْبُرْهَانِ عَلَى وُجُودِهِ لَا عَلَى عَدَمِهِ هَذَا ضَرُورِيٌّ وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ إمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ لَيْسَ إلَّا الْوُجُودُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَاجِبِ إذْ الْحُدُوثُ أَوْ الْإِمْكَانُ عَدَمِيٌّ وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَدَمِ فِي الْعِلِّيَّةِ وَالْوُجُودُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّانِعِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ حَتَّى الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْعُلُومِ يَجُوزُ رُؤْيَتُهَا لِلْوُجُودِ وَأَمَّا سَمْعًا فَلِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَلَبَ الرُّؤْيَةَ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَهَا عَلَى الْمُمْكِنِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ وَالْقَوْلُ أَنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ أَوْ رُؤْيَةَ آيَةٍ أَوْ لِأَجْلِ الْقَوْمِ أَوْ لِزِيَادَةِ الطُّمَأْنِينَةِ بِالِامْتِنَاعِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ كَمَا فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَى فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ: لَا وَقِيلَ نَعَمْ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةً حَقِيقَةً وَحُكِيَ الْقَوْلُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ لَكِنَّ مُعْظَمَهُمْ شَرَطُوا مِنْ غَيْرِ كَيْفِيَّةٍ وَجِهَةٍ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَلَا خَفَاءَ أَنَّهَا نَوْعُ مُشَاهَدَةٍ تَكُونُ بِالْقَلْبِ دُونَ الْعَيْنِ وَفِي بَعْضِ حَوَاشِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: رَأَيْت رَبِّي فِي الْمَنَامِ أَلْفَ مَرَّةٍ فَقُلْت إنِّي أَخَافُ مِنْ زَوَالِ الْإِيمَانِ فَأَمَرَنِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِهَذَا التَّسْبِيحِ بَيْنَ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَفَرِيضَتِهِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ أَسْأَلُك أَنْ تُحْيِيَ قَلْبِي بِنُورِ مَعْرِفَتِك أَبَدًا يَا اللَّهُ يَا اللَّهُ يَا اللَّهُ يَا بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يَزِيدَ رَأَيْت رَبِّي فِي الْمَنَامِ فَقُلْت: كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْكَ؟ فَقَالَ: اُتْرُكْ نَفْسَك. وَفِي الْخُلَاصَةِ وَفِي الْبَزَّازِيِّ جَوَّزَهَا رُكْنُ الْإِسْلَامِ الصَّفَّارُ وَأَكْثَرُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَلَمْ يُجَوِّزْهَا أَكْثَرُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ وَمُحَقِّقِي بُخَارَى حَتَّى قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ مُدَّعِيهَا أَشَرُّ مِنْ عَابِدِ الْوَثَنِ إذْ الْمَرْئِيُّ خَيَالٌ وَمِثَالٌ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْهُ لَكِنْ أَوَّلَ بَعْضُهُمْ مُرَادَهُمْ فَجَعَلُوا الْقَوْلَيْنِ مُتَّحِدَيْنِ كَمَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ (وَاجِبَةٌ) غَيْرُ مُخْتَلَفٍ وُقُوعَهَا (بِالنَّقْلِ) يَعْنِي بِالنَّقْلِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْكَذِبُ وَخُلْفُ الْوَعْدِ مُحَالَانِ عَلَى الشَّارِعِ (فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ) وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِعَيْنِ الرَّأْسِ عَلَى رِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنْ كِبَارِ الْأَصْحَابِ خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ أَيْضًا. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ أَنَّهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ثُمَّ صَحَّحَ كَوْنَ الرُّؤْيَةِ بِالْفُؤَادِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] حَيْثُ أُضِيفَ إلَى الْفُؤَادِ ثُمَّ الرُّؤْيَةُ بِالْآخِرَةِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْجَنَّةِ بَلْ فِي الْعَرَصَاتِ أَيْضًا كَمَا فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ وَقِيلَ بَلْ فِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ نَزْعِ الرُّوحِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى فِي الْجَنَّةِ أَبَدًا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ لَكِنْ فِي التَّذْكِرَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَرَوْنَهُ فِي الْقِيَامَةِ مَرَّةً لِازْدِيَادِ الْعُقُوبَةِ لِفَوْتِ فُرْصَةِ مِثْلِ هَذِهِ اللَّذَّةِ وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]- وَحَدِيثِ «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ (فَيُرَى لَا فِي مَكَان وَلَا عَلَى جِهَةٍ) مِنْ الْجِهَاتِ السِّتِّ (مِنْ مُقَابَلَةٍ وَاتِّصَالِ شُعَاعٍ) مِنْ بَصَرِ الرَّائِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَثُبُوتِ مَسَافَةٍ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّائِي لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ

مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ وَأَنَّهُ إذَا كَانَتْ رُؤْيَتُهُ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةً مُطَابِقَةً لِلْوَاقِعِ إذْ الْوَاقِعُ خِلَافُهُ كَمَا عُلِمَ فِي التَّنْزِيهَاتِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي رُؤْيَةِ النِّسَاءِ هَلْ لَا يَرَيْنَهُ أَصْلًا لِقِصَرِهِنَّ فِي الْقِيَامِ وَلِعَدَمِ تَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ أَوْ يَرَيْنَهُ مُطْلَقًا لِعُمُومِ النُّصُوصِ أَوْ يَرَيْنَهُ فِي الْأَعْيَادِ فَقَطْ لِكَوْنِ تَجَلِّيهِ تَعَالَى فِيهَا عَامًّا قِيلَ وَبِهِ جَزَمَ السُّيُوطِيّ أَقُولُ أَكْثَرُ أَحْكَامِ النِّسَاءِ مُشْتَرَكٌ بِأَدِلَّةِ الرِّجَالِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَعَلَى الِاشْتِرَاكِ وَأَنَّ بِمِثْلِهِ لَا يَخُصُّ الْعَامَّ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ} [الزخرف: 71] وَلَيْسَ أَشْهَى مِنْ الرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَفِي مُؤْمِنِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا اسْتِوَاؤُهُمْ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَفِي صُرَّةِ الْفَتَاوَى عَنْ صَاحِبِ الْمِنَحِ أَنَّ الْأَرْجَحَ نَعَمْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ وَتَابَعَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَالْبُلْقِينِيُّ وَإِنْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ كَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِعَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ عَلَى مَا فِي الصُّرَّةِ أَيْضًا عَنْ فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ وَقِيلَ: إنَّ الرُّؤْيَةَ ثَوَابُ الْأَعْمَالِ وَمِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ لِأَعْمَالِهِمْ ثَوَابٌ فَلَيْسَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَقِيلَ: لَا يَرَوْنَ سِوَى جَبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ كَمَا نُقِلَ عَنْ كَثِيرِ الْعِبَادِ وَتَوَقَّفَ بَعْضٌ وَأَمَّا الْجِنُّ فَفِي الْفَتَاوَى الصَّيْرَفِيَّةِ أَيْضًا عَنْ الْمِنَحِ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ وَيَمِيلُ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَيْضًا وَعَنْ الْجَلَالِ الْبُلْقِينِيِّ الْقَوْلُ بِرُؤْيَتِهِمْ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ وَكَذَا عَنْ السُّيُوطِيّ يَحْصُلُ لَهُمْ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَوْقِفِ مَعَ سَائِرِ الْخَلْقِ وَفِي الْجَنَّةِ

فِي وَقْتٍ مَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ تَسَاوِيهِمْ مَعَ الْإِنْسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ. (وَالْعَالَمُ) بِفَتْحِ اللَّامِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ الصَّانِعُ فَالصِّفَاتُ لَيْسَتْ مِنْ الْعَالَمِ لِعَدَمِ عَيْنِ الذَّاتِ وَأَمَّا مَا يُقَالُ عَالَمُ الذَّاتِ وَعَالَمُ الصِّفَاتِ فَتَجَوُّزٌ أَوْ اصْطِلَاحُ الْمُتَصَوِّفَةِ (بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ) مِنْ السَّمَوَاتِ وَمَا فِيهَا وَالْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا (وَصِفَاتِهِ) كَالْأَعْرَاضِ وَالتَّرْكِيبِ وَالْبَسَاطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَلَوْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ) مُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ إنْسَانًا (خَيْرَهَا وَشَرَّهَا) خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ (حَادِثٌ) مُخْرَجٌ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا فَوُجِدَ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَدَلِيلُهُ الْمَشْهُورُ هُوَ التَّغَيُّرُ يَعْنِي الْعَالَمُ حَادِثٌ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ لَكِنْ قَالَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِي: الْعَالَمُ إمَّا أَعْيَانٌ أَوْ أَعْرَاضٌ وَالْكُلُّ حَادِثٌ أَمَّا الْأَعْرَاضُ فَبَعْضُهَا بِالْمُشَاهَدَةِ كَالْحَرَكَةِ بَعْدَ السُّكُونِ وَالضَّوْءِ بَعْدَ الظُّلْمَةِ وَالسَّوَادِ بَعْدَ الْبَيَاضِ وَبَعْضُهَا بِالدَّلِيلِ وَهُوَ طَرَيَان الْعَدَمِ كَمَا فِي أَضْدَادِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْأَعْيَانُ فَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَكُلُّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ إلَى آخِرِ مَا فَصَّلَهُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ إيجَادِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَالْخَلْقُ التَّقْدِيرُ وَالْخَالِقُ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى الْمُبْدِعُ لِلشَّيْءِ الْمُخْتَرِعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ فَالْمَعْنَى بِإِيجَادِ ذَاتِ وَاجِبِ وُجُودِهِ بِحَيْثُ لَهُ اسْتِغْنَاءٌ مُطْلَقٌ عَنْ الْكُلِّ (لَا خَالِقَ غَيْرُهُ) إذْ يَجِبُ كَوْنُ مُحْدِثِ الْعَالَمِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَإِلَّا يَلْزَمُ تَرَجُّحُ الْمُسَاوِي إذْ لَا تَفَاوُتَ فِي الْإِمْكَانِ الْأَصْلِيِّ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فَلَوْ تَعَيَّنَ بَعْضُهَا لِلْعِلِّيَّةِ بِلَا سَبَبٍ خَارِجٍ يَلْزَمُ وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ خَارِجٍ عَنْ الْإِمْكَانِ فَهُوَ الْوَاجِبُ وَأَيْضًا عَرَفْت فِيمَا مَرَّ مَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِهَذَا مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَعَرَفْت مَا قِيلَ: أَنَّهَا إقْنَاعِيَّةٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ. وَأَيْضًا أَشَارَ إلَى كَوْنِهَا بُرْهَانِيَّةً الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ وقَوْله تَعَالَى - {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]- (وَتَقْدِيرِهِ) عُطِفَ عَلَى مَدْخُولِ الْبَاءِ فِي بِخَلْقِ اللَّهِ قِيلَ: عَنْ الصِّحَاحِ التَّقْدِيرُ وَالْقَدَرُ بِالتَّحْرِيكِ وَبِالسُّكُونِ هُوَ مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ. وَقَالَ السَّعْدُ: هُوَ تَحْدِيدُ كُلِّ مَخْلُوقٍ بِحَدِّهِ الَّذِي يُوجَدُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَنَفْعٍ وَضَرٍّ وَمَا يَحْوِيهِ مِنْ زَمَانٍ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ (وَعِلْمِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] وَقَدْ عَرَفْت دَلَالَةَ الْأَفْعَالِ الْمُتْقَنَةِ عَلَى عِلْمِ خَالِقِهَا (وَإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ) وَهُوَ حُكْمُهُ الْأَزَلِيُّ بِكُلِّ مَا قَدَّرَهُ فِي الْأَزَلِ. وَفِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ قَضَاءَهُ تَعَالَى هُوَ إرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يُزَالُ وَقَدَرَهُ إيجَادُهُ إيَّاهَا عَلَى قَدَرٍ مَخْصُوصٍ وَتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ

فِي ذَوَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا وَقَدْ يَكُونُ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ فَتَكُونُ الْوَاجِبَاتُ بِالْقَدَرِ دُونَ الْبَاقِي وَقَدْ يُرَادُ بِهِمَا التَّبْيِينُ وَالْإِعْلَامُ. وَنُقِلَ عَنْ النِّهَايَةِ الْجَزْرِيَّةِ الْقَدَرُ مَا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَكَمَ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ وَالْقَضَاءُ الْخَلْقُ فَالْقَدَرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَسَاسِ وَالْقَضَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ وَعَنْ أَوَّلِ الْأَصْفَهَانِيِّ الْقَضَاءُ وُجُودُ الْمُمْكِنَاتِ فِي اللَّوْحِ مُجْمَلَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ وَالْقَدَرِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْأَعْيَانِ بَعْدَ حُصُولِ شَرَائِطِهَا مُفَصَّلَةً وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَقِيلَ: مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ قَضَاءٌ وَمِنْ تَحْدِيدِهِ وَتَعْيِينِهِ قَدَرٌ. (وَلِلْعِبَادِ) أَيْ الْمُكَلَّفِينَ (اخْتِيَارَاتٌ) ضِدُّ الِاضْطِرَارِ وَالْجَبْرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِيَارُ لِلْعِبَادِ مَوْجُودًا وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لِلُزُومِ الْجَبْرِ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ الْمُثْبَتِ هُنَا الْوُجُودُ النَّفْسِيُّ الْأَمْرِيُّ وَمِنْ الْمَنْفِيِّ هُوَ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ كَمَا سَيُشِيرُ إلَيْهِمَا الْمُصَنِّفُ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى إثْبَاتِ الْحَالِ أَيْ اللَّا مَوْجُودٍ وَاللَّا مَعْدُومٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُثْبَتُ أَصْلُ الِاخْتِيَارِ الْجُزْئِيِّ وَمَبْدَأُ الْمَوْجُودِ فِي الْمُكَلَّفِ وَالْمَنْفِيُّ هُوَ ذَلِكَ الِاخْتِيَارُ الْجُزْئِيُّ (لِأَفْعَالِهِمْ) يَعْنِي بَعْضَ أَفْعَالِهِمْ وَهُوَ الْغَيْرُ الِاضْطِرَارِيَّةُ وَالِاتِّفَاقِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا ثَوَابٌ وَعِقَابٌ اعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ تَرْكُهُ فَاضْطِرَارِيٌّ وَإِنْ جَازَ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ عَلَيْهِ فَإِنْ بِمُرَجِّحٍ فَاخْتِيَارِيٌّ وَإِلَّا فَاتِّفَاقِيٌّ وَالِاضْطِرَارِيُّ وَالِاتِّفَاقِيُّ لَا يُوصَفَانِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فَإِنْ قِيلَ: فَفِعْلُهُ الِاخْتِيَارِيُّ إنْ لَمْ يُقَارَنْ بِاخْتِيَارِهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ مِنْ خَلْقِ الْعَبْدِ فِعْلَهُ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارَانِ تَامَّيْنِ فَيَلْزَمُ التَّوَارُدُ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ النَّقْصُ وَالْعَجْزُ وَالِافْتِقَارُ لَهُ تَعَالَى إلَى الْغَيْرِ قُلْنَا: إنَّمَا يَلْزَمُ الْعَجْزُ وَالنَّقْصُ لَوْ لَمْ يُقَدَّرُ إيجَادُهُ عِنْدَ إرَادَةِ اسْتِقْلَالِهِ وَإِذَا كَانَ مَعِيَّةُ إرَادَةِ الْعَبْدِ مِنْ جَانِبِهِ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّوَارُدَ قِيلَ: جَائِزٌ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ لَعَلَّك بِمُلَاحَظَةِ ذَلِكَ وَاسْتِيقَانِهِ تَنْجُو مِنْ أَكْثَرِ الشُّبَهِ الْمُورَدَةِ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى تَكْثِيرِ الْكَلَامِ فَافْهَمْ فَإِنَّهُ مِنْ مَزَالِقِ أَقْدَامِ الْأَقْوَامِ وَسَيُفَصَّلُ فِي مَحَلِّهِ الْآخَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِنْعَامُ. قَالَ الْمَوْلَى الْخَيَالِيُّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ إمَّا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْ الْعَبْدِ أَصْلًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ أَوْ بِلَا تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَوْ قُدْرَةُ الْعَبْدِ فَقَطْ بِلَا إيجَابٍ وَلَا اضْطِرَارٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْ بِالْإِيجَابِ وَامْتِنَاعِ التَّخَلُّفِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَوْ مَجْمُوعُ الْقُدْرَتَيْنِ عَلَى أَنْ تُؤَثِّرَا فِي أَصْلِ الْفِعْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأُسْتَاذِ أَوْ عَلَى أَنْ تُؤَثِّرَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ فِي وَصْفِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ مَوْصُوفًا بِمِثْلِ كَوْنِهِ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي وَالْمَقْصُودُ أَنَّ لِلْعَبْدِ فِعْلًا يُنْسَبُ إلَى قُدْرَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ جُزْءَ الْمُؤَثِّرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأُسْتَاذِ أَوْ مَدَارًا مَحْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ مِنْ الْمَذَاهِبِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْأَدِلَّةِ لَا يَجْرِي إلَّا فِي الْمُكَلَّفِ فَلِذَلِكَ خَصُّوا الْعِبَادَ بِالذِّكْرِ (بِهَا يُثَابُونَ) إنْ كَانَتْ طَاعَةً عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالُ أَسْبَابًا عَادِيَّةً لَا أَصْلِيَّةً إذْ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ إنَّمَا هُوَ بِجَعْلِهِ تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ فَالْأَعْمَالُ لَا تُوجِبُ الْجَنَّةَ كَمَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ (وَعَلَيْهَا يُعَاقَبُونَ) إنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً

(وَالْحَسَنُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مُتَعَلِّقَ الْمَدْحِ فِي الْعَاجِلِ وَالثَّوَابِ فِي الْآجِلِ وَالْأَحْسَنُ هُوَ مَا لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ لِيَشْمَلَ الْمُبَاحَ (بِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ إرَادَتِهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ (وَمَحَبَّتِهِ وَالْقَبِيحُ مِنْهَا) وَهُوَ مَا يَكُونُ مُتَعَلِّقَ الذَّمِّ فِي الْعَاجِلِ وَالْعِقَابِ فِي الْآجِلِ (لَيْسَ بِهِمَا) أَيْ بِالرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ بَلْ بِغَضَبِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَخِذْلَانِهِ لِاعْتِرَاضِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]- وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَشِيئَةَ وَالتَّقْدِيرَ تَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ وَالْأَمْرَ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْحَسَنِ دُونَ الْقَبِيحِ (وَالثَّوَابُ) مَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ مِنْ اللَّهِ وَالشَّفَاعَةُ مِنْ الرَّسُولِ وَقِيلَ: هُوَ إعْطَاءُ مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ وَيُفَسَّرُ بِالْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا (فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ كَرَمٌ وَإِحْسَانٌ مِنْ اللَّهِ لَا بِاسْتِحْقَاقٍ مِنْ الْعِبَادِ لِأَنَّهَا كَيْفَ تُسْتَحَقُّ وَعِبَادَتُهَا إنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَفِي بِشُكْرِ أَقَلِّ قَلِيلٍ مِنْ نِعَمِهِ فَكَيْفَ تُسْتَحَقُّ عِوَضًا عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِمِثْلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]- وَقَوْلِهِ - {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: 110]- وَقَوْلِهِ - {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]- أُجِيبُ عَنْهُ أَنَّ الْبَاءَ فِي الْآيَاتِ لَيْسَتْ لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ بَلْ لِلْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ فَيَجُوزُ التَّخَلُّفُ إذْ الْمُعْطَى بِعِوَضٍ قَدْ يُعْطَى لَا بِعِوَضٍ خِلَافَ السَّبَبِيَّةِ وَأَنَّ الْجَنَّةَ مِيرَاثُ الْأَعْمَالِ ظَاهِرًا وَإِنْ تَفَضُّلًا حَقِيقَةً وَقِيلَ: نَفْسُ الدُّخُولِ تَفَضُّلِيٌّ وَنَقْلُ الْمَرَاتِبِ بِالْأَعْمَالِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ نَحْوَ الْحَدِيثِ نَفْيُ الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ وَالْعَقْلِيِّ وَإِثْبَاتُ الْآيَاتِ عَلَى مُقْتَضَى الْوَعْدِ وَالْعَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْعِقَابُ) لِلْعُصَاةِ (عَدْلٌ) أَيْ لَيْسَ بِظُلْمٍ وَجَوْرٍ (مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ) مِنْ الْغَيْرِ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (وَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِ) تَعَالَى لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْعُمْدَةِ لِمُصَنِّفِهِ تَخْلِيدُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ وَتَخْلِيدُ الْكَافِرِينَ فِي الْجَنَّةِ ظُلْمٌ لِأَنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَالْإِسَاءَةُ فِي حَقِّ الْمُحْسِنِينَ وَالْإِنْعَامُ وَالْإِكْرَامُ فِي الْمُسِيءِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَانَ ظُلْمًا وَذَا يَسْتَحِيلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ إنَّمَا جَازَ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالتَّصَرُّفُ عَلَى غَيْرِ قَضِيَّةِ الْحِكْمَةِ يَكُونُ سَفَهًا وَأَيْضًا عَدَّ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي انْفَرَدَتْ الْمَاتُرِيدِيَّةُ عَنْ الْأَشَاعِرَةِ بِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَتَنْعِيمُ الْكَافِرِ عَقْلًا لِكَوْنِهِمَا خِلَافَ الْحِكْمَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ جَعَلَ الْحِكْمَةَ مِنْ طَرَفِهِ فَهَذَا الِامْتِنَاعُ امْتِنَاعٌ بِالْغَيْرِ فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ هَذَا الْوُجُوبِ وُجُوبًا ذَاتِيًّا الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَالْحَمْلُ عَلَى الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ بِجَائِزٍ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ نَفْيِ الْوُجُوبِ هُوَ مُطْلَقُهُ كَمَا حَقَّقَهُ الدَّوَانِيُّ (وَلَا اسْتِحْقَاقَ مِنْ الْعَبْدِ) وَقَدْ عَرَفْت وَجْهَهُ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ أَيْضًا طَاعَةُ الْعَبْدِ وَإِنْ كَثُرَتْ لَا تَفِي بِبَعْضِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ عِوَضٍ

عَلَيْهَا (وَالِاسْتِطَاعَةُ) تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا مَا يَكُونُ (مَعَ الْفِعْلِ) لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْفِعْلِ وَلَوْ عَادِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَمْتَنِعُ التَّخَلُّفُ أَوْ جُزْءٌ أَخِيرٌ لِلْعِلَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ عَرَضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَيَوَانِ يَفْعَلُ بِهِ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ عِلَّةً أَوْ شَرْطًا وَالْعَرَضُ مُقَارِنٌ لِلْفِعْلِ زَمَانًا لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَحَاصِلُ الِاسْتِطَاعَةِ هِيَ صِفَةٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ عِنْدَ قَصْدِ اكْتِسَابِ الْفِعْلِ بَعْدَ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ قَصَدَ فِعْلَ الْخَيْرِ خَلَقَ اللَّهُ قُدْرَةَ فِعْلِ الْخَيْرِ وَكَذَا فِي الشَّرِّ فَكَانَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِقُدْرَةِ فِعْلِ الْخَيْرِ فَيَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَلِهَذَا ذَمَّ الْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، وَالتَّفْصِيلُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْقَصْدِ هُوَ صَرْفٌ فَالِاسْتِطَاعَةُ صِفَةٌ لِلْعَبْدِ حَاصِلَةٌ عِنْدَ صَرْفِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ، لَعَلَّ هُنَا أُمُورًا أَرْبَعَةً مُرَتَّبَةً الْإِرَادَةَ الْكُلِّيَّةَ الصَّالِحَةَ لَأَنْ تَتَعَلَّقَ بِكُلِّ مَقْدُورٍ فِي ذَاتِهَا ثُمَّ سَلَامَةَ الْأَسْبَابِ ثُمَّ صَرْفَ الْعَبْدِ هَذِهِ الْإِرَادَةَ إلَى فِعْلٍ مُعَيَّنٍ بِجَعْلِهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْفِعْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ بِلَا تَقَدُّمٍ وَلَا تَأَخُّرٍ فَهَذَا الصَّرْفُ سَبَبٌ لَأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ هَذِهِ الْقُدْرَةَ أَيْ الِاسْتِطَاعَةَ هَذَا الَّذِي فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ إثْبَاتِ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ وَمَا فَائِدَةُ كَوْنِهَا مَعَ الْفِعْلِ قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ مَا حَاصِلُهُ إثْبَاتُ أَصْلِ الِاسْتِطَاعَةِ لِنَفْيِ الْجَبْرِ وَإِثْبَاتُ الْمَعِيَّةِ لِنَفْيِ خَلْقِ الْعَبْدِ فِعْلَهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ مُسْتَطِيعًا مِنْ نَفْسِهِ قَبْلَ الْفِعْلِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْفِعْلِ وَكَلَامُ السَّعْدِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْقُدْرَةَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا بَقَاءَ لَهُ فَلَوْ كَانَتْ قَبْلَ الْفِعْلِ لَزِمَ وُقُوعُهُ بِلَا اسْتِطَاعَةٍ وَأَوْرَدَ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ هَذَا الصَّرْفُ مِنْ اللَّهِ فَالْجَبْرُ لَازِمٌ وَلِصُعُوبَةِ ذَلِكَ أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى الْمُنَاظِرِينَ وَدُفِعَ بِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُوجِدَ اللَّهُ الْقُدْرَةَ فِي الْعَبْدِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي تَأْثِيرِ فِعْلِهِ ثُمَّ قِيلَ: الْأَوْلَى طَرِيقَةُ تَرْكِ الْمُنَاظَرَةِ، لَعَلَّ ذَلِكَ لِلُزُومِ إثْبَاتِ التَّأْثِيرِ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ لَا يَقُولُ بِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي الْخَارِجِ وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا خُلِقَ بِتَرْجِيحِ الْعَبْدِ أَحَدَ الْمَقْدُورَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّرْجِيحَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ وَتَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ التَّوْضِيحِ لَعَلَّكَ سَتَسْمَعُ مَا يُوَضِّحُ الْمَقَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِنْعَامُ (وَتُطْلَقُ) الِاسْتِطَاعَةُ (عَلَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ) وَالْجَوَارِحِ كَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]- وَهَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مِنْ طَرَفِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ فَأَجَابَ بِأَنَّ هُنَا اسْتِطَاعَةً أُخْرَى مُقَدَّمَةً عَلَى الْفِعْلِ وَهِيَ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ (وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ) مِنْ اللَّهِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي (تَعْتَمِدُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي قَبْلَ الْفِعْلِ لَا الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي مَعَ الْفِعْلِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَجْزُ فَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُقَدَّمَةُ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ وَالْمَعِيَّةُ لِمَدْخَلِيَّةِ الْعَبْدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. قَالَ الْخَيَالِيُّ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ سَلَامَةَ الْأَسْبَابِ مَنَاطُ خَلْقِ اللَّهِ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عِنْدَ الْقَصْدِ بِالْفِعْلِ فَبَعْدَ السَّلَامَةِ لَا حَاجَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ إلَّا إلَى الْقَصْدِ (وَلَا يُكَلَّفُ الْعَبْدُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ) أَيْ طَاقَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِمَعْنَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]- اعْلَمْ أَنَّ مَا لَا يُطَاقُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: مَا يَمْتَنِعُ فِي نَفْسِهِ كَشَرِيكِ الْبَارِي عَزَّ اسْمُهُ: فَلَا يَجُوزُ وَلَا يَقَعُ تَكْلِيفُهُ اتِّفَاقًا وَمَا يُمْكِنُ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُمْكِنُ فِي الْعَبْدِ عَادَةً كَخَلْقِ الْأَجْسَامِ فَلَا يَقَعُ اتِّفَاقًا وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لَا عِنْدَنَا وَالثَّالِثَةِ مَا يُمْكِنُ مِنْ الْعَبْدِ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِعَدَمِهِ عِلْمُهُ تَعَالَى وَإِرَادَتُهُ وَخَبَرُهُ نَحْوَ - {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]- فَيَجُوزُ وَيَقَعُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِمَّا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ هَذَا الثَّالِثُ مِمَّا لَا يُطَاقُ لِإِمْكَانِهِ لِنَوْعِ الْعَبْدِ وَإِمَّا يُرَادُ مِنْ عَدَمِ الْوُسْعِ بِالنَّظَرِ إلَى نَوْعِ الْعَبْدِ أَوْ يُرَادُ كَمَالُ عَدَمِ الْوُسْعِ (وَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ) فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ فِيهِ قَالَ الْخَيَالِيُّ: وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَجَازَ أَنْ يَمُوتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنْ لَا يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِامْتِدَادِ الْعُمُرِ وَلَا بِالْمَوْتِ بَدَلَ الْقَتْلِ وَعُلِّلَ بِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْقَتْلِ لَا قَطْعَ بِوُجُودِ الْأَجَلِ وَلَا بِعَدَمِهِ، فَلَا قَطْعَ بِالْمَوْتِ وَلَا بِالْحَيَاةِ خِلَافًا لِلْعَلَّافِ فِي الْجَزْمِ بِالْمَوْتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَقُولُ: إذَا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ لِلْمَوْتِ مُعَيَّنًا فَلَا يَجُوزُ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ بِالْمَوْتِ لَوْلَا الْقَتْلُ وَإِلَّا يَلْزَمُ تَبْدِيلُ الْقَوْلِ وَانْقِلَابُ الْعِلْمِ جَهْلًا وَلَوْ بُنِيَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْأَجَلِ الْمُبْرَمِ وَالْمُعَلَّقِ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ عُمُرَهُ أَرْبَعِينَ مَعَ الْقَتْلِ وَسِتِّينَ بِدُونِهِ فَلَا تَبَدُّلَ وَتَغَيُّرَ فِي نَفْسِهِ وَفِي عِلْمِهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ كَوْنَ عَبْدِهِ مَقْتُولًا فِيمَا لَا يُزَالُ وَكَوْنَ عُمُرِهِ أَرْبَعِينَ مَثَلًا وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ قَبْلَ الْأَجَلِ وَالْقَاتِلُ قَطَعَ أَجَلَهُ وَلَوْلَا الْقَتْلُ يَمْتَدُّ عُمُرُهُ إلَى الْأَجَلِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49]- وَالنُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَالتَّأْوِيلُ خِلَافٌ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ وَاحْتَجَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْأَحَادِيثِ الظَّاهِرَةِ فِي كَوْنِ بَعْضِ الطَّاعَةِ يُزِيدُ الْعُمُرَ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَيِّتًا بِأَجَلِهِ لَمَا اسْتَحَقَّ الْقَاتِلُ ذَمًّا وَعِقَابًا وَقِصَاصًا وَأُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ هَذِهِ الطَّاعَةَ لَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا وَيَكُونُ عُمُرُهُ سَبْعِينَ سَنَةً فَنُسِبَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ إلَى تِلْكَ الطَّاعَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فَضْلَ عُمُرِهِ الْقَلِيلِ بِهَذِهِ الطَّاعَةِ كَفَضْلِ الْعُمُرِ الْكَثِيرِ بِدُونِ تِلْكَ الطَّاعَةِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ لِلْقَاتِلِ مَدْخَلًا فِي مَوْتِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى الْقَتْلَ فِي الْمَقْتُولِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الضَّرْبُ مَثَلًا وَأَنَّهُ تَعَبُّدٌ لَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةُ عِلَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ (وَالْأَجَلُ وَاحِدٌ) خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ فِي أَنَّ لِلْمَقْتُولِ أَجَلَيْنِ قَتْلٌ وَمَوْتٌ وَلَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَعَاشَ إلَى أَجَلِ الْمَوْتِ وَلِلْفَلَاسِفَةِ فِي أَنَّ لِلْحَيَوَانِ أَجَلًا طَبِيعِيًّا وَهُوَ وَقْتُ مَوْتِهِ لِتَحَلُّلِ الرُّطُوبَةِ وَانْطِفَاءِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّتَيْنِ

وَأَجَلًا اخْتِرَامِيًّا بِحَسَبِ الْآفَاتِ وَالْأَمْرَاضِ. (وَالْحَرَامُ) وَهُوَ مَا نُصَّ أَوْ أُجْمِعَ عَلَى مَنْعِ تَنَاوُلِ عَيْنِهِ أَوْ جِنْسِهِ أَوْ وَرَدَ فِيهِ حَدٌّ أَوْ تَعْزِيرٌ أَوْ وَعِيدٌ شَدِيدٌ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ مَضَرَّةً خَفِيَّةً كَالزِّنَا وَمُذَكَّى الْمَجُوسِ أَوْ جَبَلِيَّةً كَالسُّمِّ وَالْخَمْرِ فَلَوْ ضَرَّ الْعَسَلُ كَمَا لِلْأَمْزِجَةِ الْحَارَّةِ حُرِّمَ وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ حِلًّا وَحُرْمَةً يَرْجِعُ إلَى الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ مِنْ الْعَرَبِ فَمَا اسْتَخْبَثُوهُ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا لَا فَحَلَالٌ كَذَا عَنْ شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ لِلَّقَانِيِّ (رِزْقٌ) فِي اللُّغَةِ الْحَظُّ الْمُعْطَى وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَطَاءِ وَقِيلَ: هُوَ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالْكَسْرِ اسْمٌ وَفِي الْعُرْفِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْحَيَوَانُ وَقَدْ يُرَادُ بِالتَّغَذِّي وَغَيْرِهِ وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِلُزُومِ كَوْنِ الْعَوَارِيِّ زِرْقًا وَيَلْزَمُ أَكْلُ شَخْصٍ رِزْقَ غَيْرِهِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الرِّزْقَ اسْمٌ لِمَا يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْحَيَوَانِ فَيَأْكُلُهُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا (وَكُلٌّ يَسْتَوْفِي رِزْقَ نَفْسِهِ وَلَا يَأْكُلُ أَحَدٌ رِزْقَ غَيْرِهِ وَلَا غَيْرُهُ رِزْقَهُ) وَبِالْجُمْلَةِ لِلرِّزْقِ مَعْنَيَانِ: خَاصٌّ بِالْمَأْكُولِ وَعَامٌّ لِمُطْلَقِ الِانْتِفَاعِ وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]- لَعَلَّ الْخَاصَّ شَامِلٌ لِلْحَرَامِ وَهُوَ الْمَرَامُ هُنَا وَالْعَامُّ خَاصٌّ بِالْمِلْكِ الْحَلَالِ وَمِنْ هُنَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ نِزَاعُ الْمُعْتَزِلِيِّ فِي أَنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ لَفْظِيًّا إذْ هُوَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَخِيرِ. (وَعَذَابُ الْقَبْرِ) التَّخْصِيصُ بِالْقَبْرِ إمَّا عَلَى الْغَالِبِ أَوْ يُرَادُ مِنْ الْقَبْرِ مُطْلَقُ الْبَرْزَخِ وَإِلَّا فَالْغَرِيقُ فِي الْمَاءِ وَالْمَصْلُوبُ وَالْمُحَرَّقْ إلَى إنْ كَانَ رَمَادًا وَالْمَأْكُولُ لِلْحَيَوَانِ وَنَحْوِهَا مُعَذَّبٌ إنْ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّتِهِ فَقِيلَ: عَنْ النِّهَايَةِ يُعَذَّبُ بِلَا حَيَاةٍ إذْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي ثُبُوتِ الْأَلَمِ وَقِيلَ: بِحَيَاةٍ فَقِيلَ: يُجْعَلُ الرُّوحُ فِي جَسَدِهِ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فَيَجْلِسُ وَيُسْأَلُ وَقِيلَ: السُّؤَالُ لِلرُّوحِ فَقَطْ وَقِيلَ: يَدْخُلُ الرُّوحُ فِي جَسَدِهِ إلَى صَدْرِهِ وَقِيلَ: يَدْخُلُ بَيْنَ كَفَنِهِ وَجَسَدِهِ وَجَاءَ فِي كُلِّ ذَلِكَ آثَارٌ وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَرَّ بِأَصْلِهِ وَلَا يُشْتَغَلَ بِكَيْفِيَّتِهِ وَقِيلَ: الْأَصَحُّ مَحَلُّ الْعَذَابِ الرُّوحُ وَالْبَدَنُ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَذَا فِي النَّعِيمِ - قَالَ الْعَلَّامَةُ الثَّانِي فِي التَّهْذِيبِ وَبِالْجُمْلَةِ فَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الدِّينِ هُوَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ نَوْعَ حَيَاةٍ قَدْرَ مَا يَتَأَلَّمُ وَيَتَلَذَّذُ وَهَلْ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ إلَيْهِ أَوْ بِالْحَالَةِ الَّتِي يُسَمَّى زَوَالُهَا مَوْتًا، فِيهِ تَرَدُّدٌ. وَقَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ الْعَذَابُ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ (لِلْكَافِرِينَ) أَيْ كُلِّهِمْ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْجَمْعِ مَعَ اللَّامِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَهْدِ الِاسْتِغْرَاقُ. قَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ يُرْفَعُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَشَهْرِ رَمَضَانَ بِحُرْمَةِ هَذَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رُفِعَ عَنْهُمْ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا بِحُرْمَتِهِ (وَلِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ) فَغَيْرُ الْعَاصِي يَعْنِي الْمُطِيعَ وَبَعْضُ الْعُصَاةِ وَهُمْ مَنْ لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى تَعْذِيبَهُمْ لِأَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ لَا يُعَذَّبُ بَلْ يُنَعَّمُ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ هُنَا لَكِنْ فِي الْبَحْرِ إنَّ الْمُطِيعَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَذَابٌ لَكِنْ لَهُ ضَغْطَةٌ فَيَجِدُ هَوْلَ ذَلِكَ وَخَوْفَهُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «كَيْفَ حَالُك عِنْدَ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ ثُمَّ قَالَ يَا حُمَيْرَاءُ إنَّ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ لِلْمُؤْمِنِ كَغَمْزِ الْأُمِّ رِجْلَ وَلَدِهَا بِيَدِهَا وَسُؤَالَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْإِثْمِدِ لِلْعَيْنِ إذَا رَمِدَتْ» وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كَيْفَ حَالُك إذَا أَتَاك فَتَّانَا الْقَبْرِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَا أَكُونُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَيَكُونُ مَعِي عَقْلِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ فَقَالَ عُمَرُ: إذًا لَا أُبَالِي وَالْعَذَابُ لِلْعَاصِي وَالضَّغْطَةُ لِلْمُطِيعِ يَزُولُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهُ ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَتَهُ يَكُونُ الْعَذَابُ وَالضَّغْطَةُ سَاعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَزُولُ وَلَا يَرْجِعُ أَيْضًا» انْتَهَى مُلَخَّصًا لَعَلَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَإِلَّا فَالْعُمُومُ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ وَقِيلَ: هَذَا الْعَذَابُ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ إكْرَامًا لَأَنْ يَنْتَهِيَ عَذَابُهُمْ فِي الْقَبْرِ وَالْأَصَحُّ الْعُمُومُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْعَذَابِ وَكَذَا التَّنْعِيمُ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ مَعْنًى - {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]- {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25] {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ - يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 46 - 170] «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» . «إذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مَلَكَانِ» الْحَدِيثَ وَبِالْجُمْلَةِ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ. لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ النُّصُوصِ عَلَى عَذَابِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ كُلًّا وَبَعْضًا لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ إلَّا أَنْ يُدَّعَى دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَافْهَمْ.

(وَتَنْعِيمُ أَهْلِ الطَّاعَةِ فِيهِ) أَيْ الْقَبْرِ (بِمَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُرِيدُهُ) مِنْ أَنْوَاعِ الْأَلْطَافِ وَأَصْنَافِ الْإِحْسَانِ عَلَى حَسَبِ صَلَاحِ الْمُؤْمِنِ وَعَلَى رُتْبَةِ اسْتِحْقَاقِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» . قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَهَذَا يَعْنِي ذِكْرُ التَّنْعِيمِ أَوْلَى مِمَّا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى إثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِيهِ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْقُبُورِ كُفَّارٌ وَعُصَاةٌ فَالتَّعْذِيبُ بِالذِّكْرِ أَجْدَرُ ثُمَّ إنَّهُ هَلْ يَكْفُرُ جَاحِدُ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى كَالتَّتَارْخَانِيَّةِ يَكْفُرُ وَفِي بَعْضِهَا كَالصَّيْرَفِيَّةِ لَا يَكْفُرُ وَهُوَ مُشْكِلٌ مَعَ دَعْوَى تَوَاتُرِ أَحَادِيثِهَا كَمَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ. قَالَ الدَّوَانِيُّ: الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ هُنَا بَالِغَةٌ إلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ وَكَذَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لِلسَّعْدِ وَقَدْ سَمِعْتَ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا (وَسُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ مَنْ رَآهُ لِعَدَمِ شَبَهِهِ بِخَلْقٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْحَيَوَانِ لِأَنَّهُمَا أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ

فَإِنَّهُ جَعَلَهُمَا نَكِرَةً لِلْمُؤْمِنِ لِيُبَصِّرَهُ وَيُثَبِّتَهُ وَعَذَابًا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا كَذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ بَلْ بِالنَّظْرَةِ الْحَسَنَةِ. نُقِلَ عَنْ الْعِصَامِ النَّكِيرُ أَهْيَبُ مِنْ الْمُنْكَرِ لِدَلَالَةِ الصِّيغَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا جِنْسَانِ وَإِلَّا فَفِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَّفِقُ أَمْوَاتٌ بِأَطْرَافِ الْعَالَمِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْأَلَا الْجَمِيعَ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي تَنْكِيرِهِمَا الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا، لَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْأُخْرَوِيَّةِ كُلِّهَا إنَّمَا هِيَ بِالسَّمْعِ وَلَا مَدْخَلَ لِلدِّرَايَةِ فِيهَا فَإِنَّ أَحْكَامَ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ لَا تُقَاسُ عَلَى أَحْوَالِ الْمِلْكِ وَالنَّاسُوتِ فَإِنَّهَا تَعْجَزُ الْعُقُولُ عَنْ الْوُصُولِ بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ حَقِيقَةَ أُمُورِ الْآخِرَةِ مُلْحَقَةٌ بِالْمُتَشَابِهَاتِ ثُمَّ إنَّ السُّؤَالَ هَلْ يَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصِّبْيَانِ نَقَلَ التَّفْتَازَانِيُّ عَنْ السَّيِّدِ أَبِي شُجَاعٍ أَنَّهُ نَعَمْ وَقِيلَ: لَا يُسْأَلُ الْأَنْبِيَاءُ وَلَكِنْ يُسْأَلُ الصِّبْيَانُ لِحِكْمَةِ فَاعِلِهِ وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ أَيْضًا كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الدَّوَانِيُّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَالْآخَرِ نَكِيرٌ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْت تَقُولُ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَيَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولَانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك تَقُولُ هَذَا ثُمَّ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ذِرَاعٍ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إلَّا حِبُّ أَهْلِهِ إلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فَيَقُولُ سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُمْ، لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك تَقُولُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ فَلَا يَزَالُ فِيهِ مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» . (وَالْبَعْثُ) وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ الْمَوْتَى مِنْ الْقُبُورِ بِإِعَادَةِ الْبَدَنِ الْمَعْدُومِ بِعَيْنِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَيْ أَكْثَرِهِمْ وَبِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَهُمْ يَرَوْنَ امْتِنَاعَ إعَادَةِ الْمَعْدُومِ كَالْفَلَاسِفَةِ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ حَشْرَ الْأَجْسَادِ بِالْإِعَادَةِ بَعْدَ الِانْعِدَامِ أَوْ بِالْجَمْعِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَأَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي الْبَعْثِ خَمْسَةٌ ثُبُوتُ الْجُسْمَانِيِّ فَقَطْ لِأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ النَّافِينَ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَثُبُوتُ الرُّوحَانِيِّ فَقَطْ لِلْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَلِّهِينَ وَثُبُوتُهُمَا مَعًا لِأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ وَعَدَمُ شَيْءٍ مِنْهُمَا لِقُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الطَّبِيعِيِّينَ وَالتَّوَقُّفُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِجَالِينُوسَ وَدَلِيلُ أَهْلِ الْحَقِّ إجْمَاعُ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ الْمُتَكَثِّرَةُ الظَّاهِرَةُ بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى - {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16]- {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]- نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْإِنْصَافَ عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ إيمَانِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ إنْكَارِ الْحَشْرِ فَالْمُنْكِرُ كَافِرٌ قَطْعًا. (وَالْوَزْنُ) هُوَ مُسَاوَاةُ شَيْءٍ بِآخَرَ بِآلَةٍ مَخْصُوصَةٍ هِيَ الْمِيزَانُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَقَادِيرُ الْأَعْمَالِ وَالْعَقْلُ قَاصِرٌ عَنْ إدْرَاكِ كَيْفِيَّتِهِ فَنُؤْمِنُ بِهِ وَنُفَوِّضُ كَيْفِيَّتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ وَقِيلَ: تُجْعَلُ الْحَسَنَاتُ أَجْسَامًا نُورَانِيَّةً وَالسَّيِّئَاتُ ظُلْمَانِيَّةً وَقِيلَ: يُوزَنُ الْعَبْدُ مَعَ عَمَلِهِ مَرَّةً بِالْخَيْرِ وَمَرَّةً بِشَرِّهِ وَالْحِكْمَةُ فِي الْوَزْنِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِتَفَاصِيلِ أَعْمَالِ عِبَادِهِ إظْهَارُ فَضَائِلِ الْمُطِيعِينَ وَمَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِحِ الْعُصَاةِ وَمَثَالِبِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْعَرَصَاتِ تَتْمِيمًا لِمَسَرَّةِ الْأَوَّلِينَ وَحَسْرَةِ الْآخِرِينَ وَإِظْهَارُ كَمَالِ عَدَالَتِهِ تَحَاشِيًا عَنْ صُورَةِ الظُّلْمِ فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الْعُصَاةِ لِمَا يُعَذَّبُونَ بِهِ وَمِثْلُهُ فَائِدَةُ الْحِسَابِ وَشَهَادَةِ الْأَعْضَاءِ وَكُتُبِ الْمَلَائِكَةِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ الْمِيزَانُ وَاحِدٌ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ وَسَاقَانِ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ - {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47]- لِلِاسْتِعْظَامِ قَالَ فِي الْبَحْرِ قَدْ يُذْكَرُ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]- وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ وَمَحَلُّ الْمِيزَانِ وَكَذَا الْحِسَابُ. قَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ عَلَى الصِّرَاطِ بِشَهَادَةِ ظَوَاهِرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ لَكِنَّ الْمُتَبَادِرَ هُوَ الْعَرَصَاتُ قَبْلَ السَّوْقِ إلَى الصِّرَاطِ، وَزَمَانُهُ قِيلَ: قَبْلَ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ بِإِشَارَةِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ التَّعَيُّنِ. (وَالْكِتَابُ) الَّذِي كَتَبَهُ الْحَفَظَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْعِصْيَانِ يُؤْتَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَيْمَانِهِمْ وَلِلْكُفَّارِ بِشَمَائِلِهِمْ وَوَرَاءِ ظُهُورِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]- الْآيَةُ وَكَيْفِيَّةُ كِتَابَةِ الْحَفَظَةِ عَنْ الضَّحَّاكِ لِكُلِّ يَوْمٍ يَنْزِلُ مَلَكَانِ مَعَ صَحِيفَتَيْنِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ لِسَانُكَ قَلَمُهُمَا وَرِيقُكَ مِدَادُهُمَا وَبَدَنُك كِتَابُهُمَا. قَالَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مَلَكَانِ بِاللَّيْلِ وَمَلَكَانِ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِلُ مَلَكُ النَّهَارِ وَيَذْهَبُ مَلَكُ اللَّيْلِ فَإِنْ قِيلَ: الْمُؤْمِنُ الْفَاسِقُ كَيْفَ يُعْطَى كِتَابُهُ قُلْنَا: الْمَشْهُورُ بِجَانِبِ الْيَمِينِ وَقِيلَ: بِالشِّمَالِ وَقِيلَ: بِالتَّوَقُّفِ وَقِيلَ: الْفَاسِقُ بِالشِّمَالِ وَالْكَافِرُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. (وَالسُّؤَالُ) لَا سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَتَّى يُتَوَهَّمَ التَّكْرَارُ بَلْ سُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقِيَامَةِ حِينَ الْحِسَابِ قِيلَ: اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا السُّؤَالِ أَيْ الْحِسَابِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَحَدِهَا بِعِلْمِهِمْ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ عُلُومًا ضَرُورِيَّةً بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ ثَوَابًا وَعِقَابًا وَثَانِيهَا بِإِيتَاءِ كُتُبِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَثَالِثِهَا بِأَنْ يُكَلِّمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ أَعْمَالِهِمْ وَمَا لَهَا مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ نُقِلَ عَنْ الْفَخْرِ أَيْضًا إمَّا بِأَنْ يُسْمِعَهُمْ كَلَامَهُ الْقَدِيمَ أَوْ يُسْمِعَ عِبَادَهُ صَوْتًا يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ فِي بَحْرِ النَّسَفِيِّ لَيْسَ لِلْأَنْبِيَاءِ حِسَابٌ وَلَا عَذَابُ الْقَبْرِ وَلَا سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَكَذَلِكَ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةُ يَعْنِي حِسَابَ الْمُنَاقَشَةِ الَّذِي بِطَرِيقِ لِمَ فَعَلْت كَذَا وَأَمَّا حِسَابُ الْعَرْضِ الَّذِي هُوَ فَعَلْتَ كَذَا وَعَفَوْتُ عَنْك فَثَابِتٌ لَهُمْ لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَهُمْ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ كَمَا يُشِيرُ إلَى قَوْله تَعَالَى - {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون: 102]- {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] . (وَالْحَوْضُ) جِسْمٌ مَخْصُوصٌ طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ يَصُبُّ فِيهِ مِيزَابَانِ فِي الْجَنَّةِ كَذَا نُقِلَ عَنْ اللَّقَانِيِّ. وَفِي الْمُنَاوِيِّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ إلَّا صَالِحًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّ حَوْضَهُ ضَرْعُ نَاقَتِهِ قَالَ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ يَشْهَدُ فَهَذَا لَمْ يَخْتَصَّ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا اُشْتُهِرَ مِنْ الِاخْتِصَاصِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكَوْثَرِ الَّذِي يُصَبُّ مِنْ مَائِهِ فِي حَوْضِهِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ أَكْثَرُ مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا» فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُشْرَبَ بَعْدَ مَرَّةً وَاحِدَةً لِعَدَمِ الظَّمَأِ وَالْعَطَشِ بَعْدَ

شُرْبِهِ أَبَدًا قُلْنَا: قَالَ فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ: لَا تَنْحَصِرُ فَائِدَةُ الشُّرْبِ عَلَى دَفْعِ الْعَطَشِ بَلْ يَشْرَبُ لِنَحْوِ التَّلَذُّذِ وَالتَّغَذِّي. وَقَالَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي السَّعْدِيَّةِ: يَجُوزُ لِلشُّرْبِ نَفْعٌ آخَرُ غَيْرُهُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ وَقُدِّرَ لَهُ دُخُولُ النَّارِ لَا يُعَذَّبُ فِيهَا بِالظَّمَأِ أَبَدًا وَقِيلَ: هُوَ اثْنَانِ، فِي الْقِيَامَةِ وَفِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: رَأْسُهُ فِي الْجَنَّةِ وَأَسْفَلُهُ يَكُونُ حَوْضًا فِي الْعَرَصَاتِ وَقِيلَ: مَا فِي الْعَرَصَاتِ هُوَ مَا فِي الْجَنَّةِ يُنْقَلُ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْعَرَصَاتِ ثُمَّ مِنْ الْعَرَصَاتِ إلَى الْجَنَّةِ. وَفِي الْخَبَرِ «يُؤْتَى بِعَالِمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فَيُرْسِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ جَبْرَائِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى شَطِّ حَوْضِهِ يَسْقِي أُمَّتَهُ بِالْأَوَانِي فَيَسْقِي الْعَالِمَ بِكَفَّيْهِ وَيَقُولُ: كَانَ يَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ حِينَ يَشْتَغِلُ النَّاسُ بِالتِّجَارَةِ» . (وَالصِّرَاطُ) جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ يَرِدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71]- «لَا طَرِيقَ لِلْجَنَّةِ إلَّا عَلَيْهِ وَالنَّبِيُّ قَائِمٌ عَلَيْهِ قَائِلًا يَا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ وَالنَّاسُ فِي جَوَازِهِ مُتَفَاوِتُونَ عَلَى حَسَبِ إيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَمِنْهُمْ كَالرِّيحِ وَمِنْهُمْ كَالْجَوَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَرُّ مِنْ رِجْلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَبُّ عَلَى وَجْهِهِ» وَرُوِيَ أَيْضًا «يَكُونُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَعَلَى بَعْضٍ مِثْلُ الْوَادِي الْوَاسِعِ بَلْ بَعْضٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ وَلَا يَعْلَمُهُ» . وَفِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ أَفْوَاجٌ الْمُرْسَلُونَ ثُمَّ النَّبِيُّونَ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ثُمَّ الْمُحْسِنُونَ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ الْعَارِفُونَ وَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ الْمَكْبُوبُ لِوَجْهِهِ وَمِنْهُمْ الْمَحْبُوسُ فِي الْأَعْرَافِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرُوا عَنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُ عَلَى مِائَةِ عَامٍ وَآخَرُ عَلَى أَلْفِ عَامٍ إلَى آخِرِ مَا قَالَ وَعَنْ أَبِي الْفَرَجِ الْجَوْزِيِّ أَكْثَرُ مَنْ يَزِلُّ عَلَيْهِ النِّسَاءُ (وَشَفَاعَةُ) فِي اللُّغَةِ الْوَسِيلَةُ وَالطَّلَبُ وَفِي الْعُرْفِ سُؤَالُ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ مِنْ الشَّفْعِ ضِدُّ الْوَتْرِ كَأَنَّ الشَّافِعَ ضَمَّ سُؤَالَهُ إلَى سُؤَالِ الْمَشْفُوعِ لَهُ كَذَا نُقِلَ عَنْ اللَّقَانِيِّ (الرُّسُلِ) قِيلَ: وَلَوْ رُسُلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَالْأَخْيَارِ) لِدَفْعِ الْعَذَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ عَلَى إجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثٌ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالشُّهَدَاءُ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ: لَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ أَفْنَوْا نَفَائِسَ أَوْقَاتِهِمْ فِي الْعِلْمِ لِلْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ بِهِ أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِوِلَايَةِ مَقَامِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِالشَّفَاعَةِ جَزَاءً وِفَاقًا وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48]- وقَوْله تَعَالَى - {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]- فَأُجِيبُ بِأَنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالْكُفَّارِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَدِلَّةَ الْمُثْبِتِينَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]- وَقَوْلُهُ - {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]- وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» وقَوْله تَعَالَى - {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [طه: 109]- وقَوْله تَعَالَى - {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]- عَلَى طَرِيقِ الْإِشَارَةِ وَأَدِلَّةُ النَّفْيِ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِبَارَةَ تُرَجَّحُ عَلَى الْإِشَارَةِ وَأَيْضًا أَدِلَّةُ النَّفْيِ نُصُوصٌ أَوْ مُفَسِّرَاتٌ وَأَدِلَّةُ الْإِثْبَاتِ مُؤَوِّلَاتٌ أَوْ ظَوَاهِرُ وَقَدْ قُرِّرَ أَيْضًا رُجْحَانُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يُعَارِضُ نَصَّ الْقُرْآنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَنَالُ شَفَاعَتِي أَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» فَمُقْتَضَى جَمْعِ الْأَدِلَّةِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ بِحَمْلِ النَّفْيِ عَلَى نَحْوِ الْكَبِيرَةِ، وَالْإِثْبَاتِ لِلصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقُولُ: الْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ عِنْدَ عَدَمِ الْجَمْعِ وَالتَّوْفِيقِ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ خَبَرُ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا

احْتَمَلَ النَّصُّ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ صَاحِب النِّهَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْمُؤَيَّدَ بِالْحُجَّةِ الْقَطْعِيَّةِ يَصِحُّ إضَافَةُ الْغَرَضِ إلَيْهِ وَإِنْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِأَنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ يُضَافُ إلَى ذَلِكَ الْقَطْعِيِّ لَكِنْ دُفِعَ بِأَنَّ مِنْ الْمُقَرَّرَاتِ صِحَّةَ إضَافَةِ الْحُكْمِ الْمُبَيِّنِ إلَى الْبَيَانِ أَيِّ بَيَانٍ كَانَ وَبِالْجُمْلَةِ يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْكِتَابِ وَإِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُبَيِّنِ لَهُ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ دَفْعِ احْتِمَالِهِ الْقَادِحِ فِي مُفَسَّرِيَّتِهِ أَوْ مُحَكَّمِيَّتِهِ فَاحْفَظْ هَذِهِ اللَّطَائِفَ النَّفِيسَةَ تَنْفَعُك فِي الْمَوَاضِعِ الصَّعْبَةِ وَبِالْجُمْلَةِ يَصِحُّ إضَافَةُ شَفَاعَةِ الْكَبِيرَةِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا حَدِيثُ لَا يَنَالُ فَبَعْدَ مَا أَشَارَ النَّسَفِيُّ إلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ قَالَ: مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِحْلَالِ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي أُمَّتِي لَا تُلَائِمُهُ (لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَغَيْرِهِمْ) كَأَهْلِ الصَّغَائِرِ وَلِرِفْعَةِ الدَّرَجَةِ، وَأَعْظَمُ الشَّفَاعَاتِ شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ عَنْ الْغَيْرِ: هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُشَفَّعٌ فِي جَمِيعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إلَّا أَنَّ شَفَاعَتَهُ لِلْكُفَّارِ لِتَعْجِيلِ فَصْلِ الْقَضَاءِ فَيُخَفِّفُ عَنْهُمْ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِلْعَفْوِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فَشَفَاعَتُهُ عَامَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]- وَلَا يُرَدُّ مَطْلُوبُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]- وَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ: اشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ» وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَرْضَى إلَّا بِإِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ مِنْ النَّارِ هَذَا هُوَ الشَّفَاعَةُ الْكُبْرَى الَّتِي خَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ بِهَا. قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي مَوَاهِبِهِ الشَّفَاعَةُ خَمْسٌ وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ اللَّقَانِيِّ بِبَعْضِ زِيَادَةِ قُيُودِهَا، الْأَوَّلُ فِي الْإِرَاحَةِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ أَعْظَمُهَا وَأَعْمَلُهَا. الثَّانِي فِي إدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّالِثُ: فِيمَنْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ. الرَّابِعُ: فِي إخْرَاجِ مَنْ دَخَلَ النَّارَ. الْخَامِسُ: فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَنُقِلَ عَنْ السُّيُوطِيّ زِيَادَةُ سَادِسَةٍ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَمَّنْ اسْتَحَقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ فِي حَقِّ أَبِي طَالِبٍ «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ» وَفِي شِفَاءِ الْقَاضِي «أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحْفَظُك وَيَنْصُرُك وَيُبْغِضُ لَك فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنْ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إلَى ضَحْضَاحٍ» وَزَادَ فِي الْمَوَاهِبِ سَابِعَةً وَهِيَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ. (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ الْمَوْجُودَتَانِ الْآنَ) لِأَنَّ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ فِي بَيَانِهِمَا أَشْهَرُ مِنْ أَنْ لَا تَخْفَى وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلِقِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُمَا مَرَّةً لَا يُحْكَمُ عَلَى عَدَمِهِمَا مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَإِلَّا صَحَّ عَدَمُ تَعَيُّنِ مَكَانِهِمَا. قَالَ الدَّوَانِيُّ: وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَتَحْتَ

الْعَرْشِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 14] {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15]- وَأَنَّ النَّارَ تَحْتَ الْأَرْضِينَ وَعَنْ شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَالْحَقُّ تَفْوِيضُ عِلْمِهِمَا إلَى الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ. وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ هِرَقْلَ كَتَبَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا مُحَمَّدُ أَرَأَيْت جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ فَأَيْنَ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ» (الْبَاقِيَتَانِ لَا تَفْنَيَانِ وَلَا) يَفْنَى (أَهْلُهُمَا) لِأَنَّهُمْ مُؤَبَّدُونَ مُخَلَّدُونَ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88]- فَهَلَاكٌ لَحْظِيٌّ لَا يَضُرُّنَا وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ الْعَضُدِيَّةِ لِلدَّوَّانِيِّ قَالَ أَيْضًا فِيهِ عَنْ الْجَاحِظِ وَعَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيِّ أَنَّ الْخُلُودَ لِلْكَافِرِ الْمُعَانِدِ وَأَمَّا الْمُبَالِغُ فِي الِاجْتِهَادِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَإِنْ لَمْ يَهْتَدِ فَلَا يَخْلُدْ إذْ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ وَ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وَفِي الْمُنْقِذِ لِلْإِمَامِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ كَلَامٌ يَقْرَبُ مِنْهُ بَعْضَ الْقُرْبِ انْتَهَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ وَصَلَ إلَيْهِ الشَّرْعُ فَلَهُ تَقْصِيرٌ وَوُسْعٌ وَإِلَّا فَرَاجِعٌ إلَى مَسْأَلَةِ زَمَانِ الْفَتْرَةِ وَشَاهِقِ الْجَبَلِ وَأَمَّا أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ الدَّوَانِيُّ هُمْ فِي النَّارِ وَقِيلَ: مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ عَلَى تَقْدِيرِ بُلُوغِهِ فَفِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ عَلِمَهُ عَلَى خِلَافِهِ فَفِي النَّارِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ هُمْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ خُدَّامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: فِي الْأَعْرَافِ، لَعَلَّ الصَّحِيحَ التَّوَقُّفُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ أَدِلَّةَ كُلٍّ لَا تُفِيدُ الظَّنَّ فَضْلًا عَنْ الْقَطْعِ فَمَا ذَكَرُوا إمَّا بِالرَّأْيِ أَوْ الْقِيَاسِ أَوْ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَخْبَارِ الْوَاهِيَةِ وَمَسْأَلَةُ أُصُولِ الدِّينِ لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِمَّنْ يَنْقَطِعُ الْعُذْرُ دُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا نُقِلَ عَنْ التوربشتي فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ. (وَالْمِعْرَاجُ) وَهُوَ السُّلَّمُ وَالْمِصْعَدُ وَعَرَجَ عُرُوجًا ارْتَقَى كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الِانْتِقَالِ صُعُودًا حَتَّى يَشْمَلَ الْإِسْرَاءَ فَإِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَعْلَى مِنْ مَكَّةَ كَمَا قَالُوا (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَإِنْ قِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ الْمِعْرَاجِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ مُطْلَقًا حُجَّةٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ اتِّفَاقًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَحَمْلُ الْإِضَافَةِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَعِيدٌ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ عَدَمِ كَوْنِ الْمِعْرَاجِ مِنْ خَوَاصِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُرَادُ الْمِعْرَاجُ الثَّابِتُ عِنْدَنَا وَمِعْرَاجُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَنَا وَلَوْ بِطَرِيقِ آحَادٍ صَحِيحٍ (فِي الْيَقَظَةِ) ضِدُّ الْمَنَامِ وَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ رُؤْيَا صَالِحَةٌ وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَا فُقِدَ جَسَدُ مُحَمَّدٍ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الرُّؤْيَا بِالْعَيْنِ وَمَا فَقَدَ جَسَدُهُ رُوحَهُ بَلْ بِجَمِيعِهِمَا أَوْ الْمِعْرَاجُ تَكَرَّرَ مَرَّةً بِشَخْصِهِ وَمَرَّةً بِرُوحِ جَسَدِهِ (بِشَخْصِهِ) صُورَتِهِ الْجُسْمَانِيَّةِ لَا بِالرُّوحِ فَقَطْ كَمَا زُعِمَ (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أَيْ مِنْ حَطِيمِهِ أَوْ مِنْ حَجَرِهِ عَلَى شَكِّ رُوَاتِهِ كَمَا نُقِلَ الْحَدِيثُ فِي الْمَوَاهِبِ عَنْ الْبُخَارِيِّ (إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصْفُهُ بِالْأَقْصَى قِيلَ: لِبُعْدِهِ عَنْ مَكَّةَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ وَرَاءَهُ مَسْجِدٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ أَقْصَى فِي الْفَضْلِ حِينَئِذٍ بَلْ الْآنِ وَلَوْ إضَافِيًّا لِأَنَّ أَفْضَلَ الْمَسَاجِدِ الْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ وَلَوْ كَانَ الْأَفْضَلُ فِيهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ هَذَا الْقَدْرُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ فَمُنْكِرُهُ كَافِرٌ (ثُمَّ) مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (إلَى السَّمَاءِ) أَيْ جَمِيعِ السَّمَاءِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ جِنْسِهَا لِيَشْمَلَ السَّبْعَ بَلْ التِّسْعَ وَلَوْ مَجَازًا هَذَا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَمُنْكِرُهُ مُبْتَدِعٌ وَدَعْوَى امْتِنَاعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فَمَا يُمْكِنُ لِلْبَعْضِ مُمْكِنٌ لِلْبَاقِي (ثُمَّ إلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعُلَى) كَالْعَرْشِ

وَالْكُرْسِيِّ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَقَامِ قَابَ قَوْسَيْنِ، أَبْهَمَهُ لِكَثْرَتِهِ أَوْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْأُمُورِ الْمُفَخَّمَةِ هَذَا بِطَرِيقِ الْآحَادِ كَمَا هُوَ عِنْدَ التَّفْتَازَانِيِّ وَوَقْتُ الْمِعْرَاجِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَقِيلَ: بِخَمْسِ سِنِينَ وَقِيلَ وَقِيلَ. وَفِي الْمَوَاهِبِ

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِسْرَاءِ هَلْ هُوَ وَاحِدٌ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ يَقَظَةً أَوْ مَنَامًا أَوْ إسْرَاءَانِ فِي لَيْلَةٍ مَرَّةً بِرُوحِهِ وَبَدَنِهِ يَقَظَةً وَمَرَّةً مَنَامًا أَوْ يَقَظَةً بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ مَنَامًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْعَرْشِ أَوْ هِيَ أَرْبَعَةُ إسْرَاءَاتٍ ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ إسْرَاءٌ وَاحِدٌ بِمَجْمُوعِ رُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنْ قِيلَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ أَوْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَوْ لَيْلَةُ الْمِيلَادِ الشَّرِيفِ. قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ أَفْضَلُ فِي عَمَلِ الْأُمَّةِ إذْ عَمَلُهَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ثَمَانِينَ سَنَةً وَلَمْ يُرْوَ فِي عَمَلِ الْإِسْرَاءِ وَفَضْلِهَا خَبَرٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ وَأَمَّا لَيْلَةُ مَوْلِدِهِ فَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ فَأَفْضَلُ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مُخْتَصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَيْلَةُ الْمِيلَادِ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ مُشَرَّفَةٌ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَهَذِهِ مُشَرَّفَةٌ بِظُهُورِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَيْلَةُ الْمَوْلِدِ لَيْلَةُ ظُهُورِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ مُعْطَاةٌ لَهُ. (وَ) جَمِيعُ (مَا أَخْبَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَشْرَاطِ) جَمْعُ شَرَطٍ بِالتَّحْرِيكِ أَيْ الْعَلَامَةُ (السَّاعَةِ) أَيْ الْقِيَامَةِ (مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ) فِي الْمُنَاوِيِّ وَهُوَ مَهْدِيُّ الْيَهُودِ وَيَنْتَظِرُونَهُ كَمَا يَنْتَظِرُ الْمُؤْمِنُ الْمَهْدِيَّ. وَنُقِلَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ رَجُلٌ طَوِيلٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ مَطْمُوسٌ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ مَعَهُ جَبَلٌ مِنْ خُبْزٍ وَجَبَلٌ مِنْ أَجْنَاسِ الْفَوَاكِهِ، وَأَرْبَابُ الْمَلَاهِي جَمِيعًا يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالطُّبُولِ وَالْعِيدَانِ وَالْمَعَازِفِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا تَبِعَهُ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. وَمِنْ أَمَارَاتِ خُرُوجِهِ أَنْ يَهُبَّ رِيحٌ كَرِيحِ عَادٍ وَيَسْمَعُونَ صَيْحَةً عَظِيمَةً وَذَلِكَ عِنْدَ تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَكَثْرَةِ الزِّنَا وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَرُكُوبِ الْعُلَمَاءِ إلَى الظَّلَمَةِ وَالتَّرَدُّدِ إلَى أَبْوَابِ الْمُلُوكِ، وَيَخْرُجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مِنْ قَرْيَةٍ تُسَمَّى سَرَابَادِينَ أَوْ مَدِينَةِ الْأَهْوَازِ أَوْ مَدِينَةِ أَصْبَهَانَ وَيَخْرُجُ عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ السَّحَابَ بِيَدِهِ وَيَخُوضُ الْبَحْرَ إلَى كَعْبِهِ وَيَسْتَظِلُّ فِي أُذُنِ حِمَارِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَطْلُعُ الشَّمْسُ يَوْمًا حَمْرَاءَ وَيَوْمًا صَفْرَاءَ وَيَوْمًا سَوْدَاءَ ثُمَّ يَصِلُ الْمَهْدِيُّ وَعَسْكَرُهُ إلَى الدَّجَّالِ فَيَلْقَاهُ وَيَقْتُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَيَنْهَزِمُ الدَّجَّالُ ثُمَّ يَهْبِطُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ مُتَعَمِّمٌ بِعِمَامَةٍ خَضْرَاءَ مُتَقَلِّدٌ بِسَيْفٍ رَاكِبٍ عَلَى فَرَسٍ وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ فَيَأْتِي إلَيْهِ فَيَطْعَنُهُ بِهَا فَيَقْتُلُهُ. (وَ) خُرُوجِ (دَابَّةِ الْأَرْضِ) هِيَ دَابَّةٌ رَأْسُهَا رَأْسُ ثَوْرٍ وَعَيْنُهَا عَيْنُ خِنْزِيرٍ وَأُذُنُهَا أُذُنُ فِيلٍ وَقَرْنُهَا قَرْنُ إيَّلٍ وَصَدْرُهَا صَدْرُ أَسَدٍ وَلَوْنُهَا لَوْنُ نَمِرٍ وَخَاصِرَتُهَا خَاصِرَةُ هِرَّةٍ وَذَنَبُهَا ذَنَبُ كَبْشٍ وَقَوَائِمُهَا قَوَائِمُ بَعِيرٍ بَيْنَ كُلِّ مِفْصَلَيْنِ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّحَابَ وَرِجْلَاهَا فِي الْأَرْضِ وَتَذْهَبُ سَائِحَةً فِي الْأَرْضِ لَا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ وَلَا يَعْجِزُهَا هَارِبٌ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَعَصَا مُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَسِمُ الرَّجُلَ فِي وَجْهِهِ فَيُعْرَفُ الْكَافِرُ مِنْ الْمُؤْمِنِ. (وَ) خُرُوجِ (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) وَهُمَا أُمَّتَانِ مُضِرَّتَانِ كَافِرَتَانِ مِنْ نَسْلِ يَافِثِ بْنِ نُوحٍ وَالْقَوْلُ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ مَنِيِّ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُخْتَلِطِ بِالتُّرَابِ عَنْ الْمُنَاوِيِّ أَنَّهُ غَرِيبٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَحْكِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَاب وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ أُمَّةً مِنْهُمْ آمَنُوا فَتَرَكَهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ حِينَ بَنَى السَّدَّ بِإِرْمِينِيَّةَ فَتَرَكَهُمْ فَسُمُّوا بِالتُّرْكِ وَيُقَالُ: أَنَّهُمْ تِسْعَةُ أَعْشَارِ بَنِي آدَمَ وَثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، مِنْهُمْ مَنْ طُولُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَمِنْهُمْ مَنْ طُولُهُ وَعَرْضُهُ سَوَاءٌ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَرِشُ أُذُنَهُ وَيَلْتَحِفُ بِالْأُخْرَى يَشْرَبُونَ أَنْهَارَ الْمَشْرِقِ وَبُحَيْرَةَ طَبَرِيَّةَ لَا يَمُرُّونَ بِفِيلٍ وَلَا وُحُوشٍ إلَّا أَكَلُوهَا وَعِنْدَ انْتِهَائِهِمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَقُولُونَ: قَتَلْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ فَيَرْمُونَ سِهَامَهُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ سِهَامَهُمْ مَخْضُوبَةً فَيَدْعُو اللَّهَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيُهْلِكُهُمْ اللَّهُ فِي أَدْنَى سَاعَةٍ وَلَا يُتَحَمَّلُ نَتِنُ جِيَفِهِمْ فَتَطْرَحُهُمْ طُيُورٌ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِدَعْوَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَفْصِيلُهُ فِي شَرْحِ

الْمَصَابِيح لِابْنِ مَلِكٍ. (وَنُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ السَّمَاءِ) إلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ أَنَّهَا مَنَارَةُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ وَيُبْطِلُ الْجِزْيَةَ وَحَوَارِيُّوهُ أَصْحَابُ الْكَهْفِ وَيُقَرِّرُ أُمُورَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَيَتَزَوَّجُ وَيُولَدُ لَهُ وَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَيُدْفَنُ فِي رَوْضَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي رِسَالَةِ إعْلَامِ نُزُولِ عِيسَى لِلسُّيُوطِيِّ حَاصِلُهُ إنْ قُلْت هَلْ عَمَلُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِتَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ قُلْت: لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ لِمُجْتَهِدٍ فَضْلًا عَنْ تَقْلِيدِ نَبِيٍّ لِمُجْتَهِدٍ فَإِمَّا بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ يَعْلَمُونَ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَسْتَخْرِجَ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ مِنْ الْقُرْآنِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى الْأَحَادِيثِ، وَإِمَّا بِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ بَقَائِهِ عَلَى نُبُوَّتِهِ مَعْدُودٌ فِي أُمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَاخِلٌ فِي زُمْرَةِ صَحَابَتِهِ وَقَدْ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُخَالِفُ الْإِنْجِيلَ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ السُّبْكِيُّ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُ نَبِيِّ أُمَّةٍ نَبِيَّ أُخْرَى وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْأُمِّيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَقْتَضِي الْمَعْدُودِيَّةُ الْحَقِيقَةَ بَلْ الْمُرَادُ تَجَوُّزٌ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، نَعَمْ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُعَبَّرَ بِمَا يُوهِمُ مَا لَا يَجُوزُ وَإِمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشَافَهَةً وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيُّ. وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَالْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ خَبَرٌ غَرِيبٌ (وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا) فَيَمْتَنِعُ قَبُولُ التَّوْبَةِ قِيلَ فِي وَجْهِهِ أَنَّ النَّاسَ حِينَئِذٍ كَالْيَائِسِينَ الْمُحْتَضَرِينَ فَكَمَا لَا يُقْبَلُ إيمَانُ الْيَأْسِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ التَّوْبَةُ وَقِيلَ عَنْ اللَّقَانِيِّ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ مُحَاجَّةِ نُمْرُودَ فَإِنَّ الْمَلَاحِدَةَ وَالْمُنَجِّمِينَ أَنْكَرُوا إمْكَانَ إتْيَانِ الشَّمْسِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَلَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ عَلَى النُّمْرُودِ فَيُرِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قُوَّةَ قُدْرَتِهِ قَبْلُ وَكَذَا حِكْمَةُ سَائِرِ آيَاتِهِ وَقِيلَ: عَنْ إخْرَاجِ أَبِي نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ فِي الْفِتَنِ يَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ هَذَا الطُّلُوعِ مِائَةٌ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ: عَنْ التَّوْفِيقِ أَوَّلُ هَذِهِ الْآيَاتِ الطُّلُوعُ وَالدَّابَّةُ تَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ ضُحًى وَلَا نَصَّ فِي تَرْتِيبِ الْغَيْرِ. وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدَ الْغِفَارِيِّ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا أَيْ السَّاعَةَ لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ فَذَكَرَ الدُّخَّانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلَاثَ خَسُوفَاتٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إلَى مَحْشَرِهِمْ» وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي هَذِهِ الْأَشْرَاطِ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَقَدْ رُوِيَ أَحَادِيثُ فِي تَفَاصِيلِهَا انْتَهَى. (وَنَحْوِ ذَلِكَ) كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ وَكَرَفْعِ الْقُرْآنِ مِنْ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ وَهَدْمِ الْكَعْبَةِ هَذِهِ هِيَ الْأَشْرَاطُ الْكُبْرَى. وَأَمَّا الصُّغْرَى فَمَا فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ «مِنْ رَفْعِ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَفُشُوِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَذَهَابِ الرِّجَالِ وَبَقَاءِ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةٍ قَيِّمٌ وَاحِدٌ» وَأَيْضًا فِي الْحَدِيثِ «مِنْهَا كَثْرَةُ الْمَسَاجِدِ وَقِلَّةُ الْجَمَاعَةِ وَتَطْوِيلُ الْأَبْنِيَةِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَكَثْرَةُ الْغِيبَةِ وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِمَارَةُ الْأَشْرَارِ وَاشْتِغَالُ الرِّجَالِ بِالرِّجَالِ وَتَجْصِيصُ الْقُبُورِ وَتَشَرُّفُ الْفَاسِقِ وَضَعْفُ الْمُؤْمِنِ وَبَيْعُ الْحُكْمِ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ وَاتِّخَاذُ الْقُرْآنِ مَكْسَبَةً وَمَزَامِيرَ» وَنَحْوُهَا (كُلُّهُ حَقٌّ) أَيْ كُلُّ

وَاحِدٍ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ لَا الْمَجْمُوعُ، مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ لَا يُقَالُ: إنْ أُرِيدَ مِنْ الْحَقِّ الْقَطْعِيِّ الَّذِي مُنْكِرُهُ كَافِرٌ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى نَحْوِ الْأَشْرَاطِ وَأَنَّ الظَّنِّيَّ الَّذِي مُنْكِرُهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يُضَلَّلُ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى نَحْوِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِنْ أُرِيدَ مَجْمُوعُهُمَا فَلَا يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ لِجَمِيعِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِأَنَّا نَقُولُ بِإِرَادَةِ عُمُومِ الْمَجَازِ نَحْوَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَقِّ وَمُطْلَقُ الثَّابِتِ (تَتْمِيمٌ) لَازِمٌ عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَ حَاصِلَ رِسَالَةِ.

النَّجْمِ مُحَمَّدٍ الْغَيْطِيِّ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْوَالِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ تَارِكًا أَسْئِلَتَهَا مَعَ أَسَانِيدِهَا وَمُكْتَفِيًا بِمَقْصُودِ أَجْوِبَتِهَا وَذَلِكَ اثْنَا عَشَر أَمْرًا (1) الشُّهَدَاءُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ بِالْحَيَاةِ الْجَسَدِيَّةِ لَا بِالرُّوحِ فَقَطْ إكْرَامًا لَا احْتِيَاجًا وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ الْبَدَنِ بِالْفِعْلِ، فَالْعِلْمُ وَالسَّمَاعُ كَسَائِرِ الْإِدْرَاكَاتِ ثَابِتٌ لِجَمِيعِ الْمَوْتَى (2) يَعْرِفُونَ الزُّوَّارَ وَيَسْمَعُونَ نِدَاءَهُمْ وَيَرُدُّونَ سَلَامَهُمْ قِيلَ: مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَبِيَوْمٍ قَبْلَهُ وَبِيَوْمٍ بَعْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الزَّائِرُ وَاقِفًا عَلَى الْقَبْرِ أَوْ عَلَى قَرِيبِهِ أَوْ بَعِيدًا بِطَرَفِ الْجَبَّانَةِ (3) وَهُمْ يَتَزَاوَرُونَ وَلَوْ مَعَ تَبَاعُدِ الْأَمْكِنَةِ لَكِنَّ الْمُعَذَّبَةَ مَحْبُوسَةٌ مَشْغُولَةٌ (4) يَأْنَسُونَ بِالزَّائِرِ وَيَفْرَحُونَ بِزِيَارَتِهِ بِلَا تَوْقِيتٍ فِي ذَلِكَ (5) وَيَعْتِبُونَ عَلَى مَنْ لَمْ يَزُرْهُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ تَأْتِي مَنَازِلَ الْأَحْيَاءِ وَيَعْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ وَيَتَأَلَّمُونَ بِإِسَاءَتِهِمْ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ تَارَةً بِعَرْضِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ وَأُخْرَى بِالِاسْتِخْبَارِ عَمَّنْ مَاتَ بَعْدَهُمْ وَقَدْ وَرَدَ عَرْضُ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَيَفْرَحُونَ بِالْحَسَنَاتِ وَيَحْزَنُونَ بِالسَّيِّئَاتِ (6) يَتَأَلَّمُونَ بِشِكَايَةِ الْحَيِّ مِنْ أَحَدٍ ظُلْمًا وَأَذِيَّةً (7) الْأَرْوَاحُ مُرْسَلَةٌ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَأَرْوَاحُ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَفْنِيَةِ قُبُورِهِمْ قِيلَ: هَذَا أَصَحُّ وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ فِي قَبْرِهِ وَمِنْهُمْ مِنْ يُحْبَسُ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَصِلْ رُوحُهُ إلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَبَعْضٌ فِي نَهْرِ الدَّمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ (8) عَدَمُ سُؤَالِ الْقَبْرِ مُخْتَصٌّ بِشُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ وَقِيلَ: بِالْعُمُومِ جَمِيعًا (9) أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَزَوَّجُونَ فِي الْآخِرَةِ كَالْبَنَاتِ اللَّوَاتِي مِتْنَ أَبْكَارًا (10) يُعَذَّبُونَ بِالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ (11) بِنَاءُ الْبَيْتِ أَوْ الْقُبَّةِ أَوْ نَحْوِهِمَا مَكْرُوهٌ (12) أَنَّ أَحَدَ الصَّدِيقَيْنِ إذَا أَذْنَبَ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً تَنْقَلِبُ صَدَاقَتُهُمَا عَدَاوَةٌ. (وَالْكَبِيرَةُ) قِيلَ: عَنْ أَبِي الْبَقَاءِ هِيَ مِنْ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ يُذْكَرُ الْمَوْصُوفُ مَعَهَا، وَالْأَقْرَبُ

أَنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ حَدًّا أَوْ صَرَّحَ بِالْوَعِيدِ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: قَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهَا فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهَا تِسْعٌ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ وَالزِّنَا وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ وَالسِّحْرُ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ وَزَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَكْلَ الرِّبَا وَزَادَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - السَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ انْتَهَى - وَأَقُولُ وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْإِيَاسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَالْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الرُّجُوعَ إلَى الْأَعْرَابِيَّةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ اسْتِحْلَالَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتَكُمْ، مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلَاءِ الْكَبَائِرَ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ إلَّا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ فِي دَارٍ مَصَارِعُ أَبْوَابِهَا مِنْ ذَهَبٍ. زَادَ الدَّوَانِيُّ عَنْ الرُّويَانِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ اللِّوَاطَةَ وَأَخْذَ الْمَالِ غَصْبًا قِيمَتُهُ دِينَارٌ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَالْإِفْطَارَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَقَطْعَ الرَّحِمِ وَالْخِيَانَةَ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَتَقْدِيمَ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا وَضَرْبَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْدًا وَسَبَّ الصَّحَابَةِ وَكِتْمَانَ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ وَالْقِيَادَةَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالسِّعَايَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَمَنْعَ الزَّكَاةِ وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَنِسْيَانَ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ وَإِحْرَاقَ الْحَيَوَانِ وَامْتِنَاعَ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِهَانَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ، وَالظِّهَارَ وَأَكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ - فَإِنْ قِيلَ: أَنَّ الْعَدَدَ الْوَاقِعَ فِي كُلِّ رِوَايَةٍ سِيَّمَا مَا صَرَّحَ فِيهَا بِنَحْوِ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ يَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِمَا وَقَعَ فِيهِ فَكَيْفَ التَّطْبِيقُ بَيْنَهُمَا - قُلْنَا: قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْقَاضِي: لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ عَدَدُ الْكَبَائِرِ هُنَا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ سَبْعًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ لَا يُفِيدُ الْحَصْرَ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي النَّصِّ لَا يَرِدُ ابْتِدَاءً. وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَصَعْبٌ إذْ مَفْهُومُ اللَّقَبِ وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ وَاقِعٌ لَيْسَ لَهُمَا مِنْ دَافِعٍ وَأَيْضًا إذَا ثَبَتَ مَا قِيلَ: أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا فَالْإِشْكَالُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مَعًا إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَفْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمَنْطُوقَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ كُلِّ حَدِيثٍ لِوَاقِعَةٍ أَوْ جَوَابٍ لِحَادِثَةٍ - فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَرَفْنَا مِمَّا ذَكَرْت أَنَّ بَعْضَهَا بِالْأَحَادِيثِ وَبَعْضَهَا بِغَيْرِهَا كَمَا نَقَلَ الدَّوَانِيُّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الرَّأْيُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ - قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ كُلُّ ذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ مِنْ أَحَادِيثَ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا وَعَدَمُ وِجْدَانِنَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ مُطْلَقًا وَيَجُوزُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ نَصُّ كُلِّ عَامٍّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَفْرَادِهِ وَمِصْدَاقِهِ (لَا تُخْرِجُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْإِيمَانِ) وَلَوْ مُصِرًّا عَلَيْهَا لِبَقَاءِ التَّصْدِيقِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ فَإِنْ قِيلَ: وَكَذَا عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ قُلْنَا: مُرَادُهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ مُجَاهِرٍ وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ بِكَافِرٍ مُطْلَقًا (وَلَا تُدْخِلُهُ فِي الْكُفْرِ) خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا الْمُذْنِبُ كَافِرٌ (وَلَا تُخَلِّدُهُ) أَيْ الْكَبِيرَةُ (فِي النَّارِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْإِحْسَانِ وقَوْله تَعَالَى - {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]- خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ هَذَا إنْ قُدِّرَ لَهُ الدُّخُولُ إذْ يَجُوزُ لِبَعْضٍ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَصْلًا لِأَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. (وَلَا تُحْبِطُ طَاعَتَهُ)

أَيْ لَا تُبْطِلُ طَاعَتَهُ قَالَ بَعْضُ الْأَسَاتِذَةِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حُبُوطَ لِطَاعَةِ الْمُؤْمِنِ بِمَعْصِيَتِهِ وَلَا لِمَعْصِيَتِهِ بِطَاعَتِهِ وَمَنْ قَالَ بِحَبْطِ الْأَقَلِّ بِالْأَكْثَرِ كَأَبِي هَاشِمٍ أَوْ بِدُونِهِ كَأَبِي عَلِيٍّ فَقَدْ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ الْحَبْطِ وَالْإِبْطَالِ هُوَ الِانْتِفَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْمُؤْمِنُ الْمُذْنِبُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ فَلَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا يَكُونُ الْمُخَالِفُ مُخْتَصًّا بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ الْخَوَارِجُ تُكَفِّرُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَتْلِ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ لِارْتِكَابِهِ كَبِيرَةً وَأَيْضًا نَعَمْ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْطُ لَكِنْ ضَرَرُ الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا مَعَ الْإِيمَانِ مُتَحَقِّقٌ كَتَحَقُّقِ نَفْعِ الطَّاعَةِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ (وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ) بِمَحْضِ عَدْلِهِ (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لَعَلَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ الْكُفْرِ مَجَازًا بِذِكْرِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةِ الْعَامِّ أَوْ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مُرَادٌ بِالْمُقَايَسَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ فَافْهَمْ وَقِيلَ: هُنَا وَلَوْ نَبِيَّنَا، بِدَلِيلِ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] أَقُولُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ بَلْ فَرْضُ مُحَالٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ هُوَ التَّعْرِيضُ. قَالَ فِي الْإِتْقَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ خِطَابُ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى - {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} [يونس: 94]- حَاشَاهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الشَّكِّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّعْرِيضُ بِالْكُفَّارِ فَحَاشَا ثُمَّ حَاشَا مِنْ احْتِمَالِ صُدُورِ الشَّكِّ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَدَمُ جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا عَقْلًا فَقِيلَ: يَجُوزُ وَقِيلَ: لَا لِاسْتِلْزَامِهِ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ وَالْحِكْمَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّفْرِقَةِ وَالْكُفْرُ نِهَايَةٌ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ وَكَذَا وَكَذَا وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ مُتَضَمِّنًا لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ كَمَا فِي خَلْقِ الْكُفْرِ وَالشُّرُورِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بِنَحْوِ إحْسَانٍ لِلْمُحْسِنِ وَبِلَا إحْسَانٍ لِلْمُسِيءِ وَنِهَايَةُ الْكَرَمِ تَقْتَضِي الْعَفْوَ عَنْ نِهَايَةِ الْجِنَايَةِ (وَيَغْفِرُ) بِفَضْلِهِ وَلُطْفِهِ (مَا دُونَ ذَلِكَ) أَيْ الشِّرْكِ أَيْ مُطْلَقِ الْكُفْرِ (لِمَنْ يَشَاءُ) مِنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَلَوْ بِلَا تَوْبَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَمَا لَا يَجِبُ الثَّوَابُ عَلَى الطَّاعَةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ فِي الْكَبِيرَةِ بِلَا تَوْبَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ وَأَوْعَدَ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ بِالْعِقَابِ فَلَوْ لَمْ يُعَاقِبْ لَزِمَ الْخُلْفُ فِي وَعِيدِهِ وَالْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ عُمُومِ الْوَعِيدِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ دُونَ الْوُجُوبِ أُورِدَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ جَوَازُ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ وَهُمَا مُحَالَانِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمْكَانُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَدُفِعَ بِأَنَّهُمَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي تَشْمَلُهَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرُدَّ بِأَنَّهُمَا نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ فَلَا تَشْمَلُهُمَا الْقُدْرَةُ كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ أَقُولُ: إنَّ النَّقْصَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى وَأَمَّا فِي نَفْسِهِ فَمُمْكِنٌ وَإِنْ مُمْتَنِعًا فِي ذَاتِهِ كَانَ صُدُورُهُ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى مُحَالًا فَالْمُحَالُ إنَّمَا هُوَ مُحَالٌ بِالْغَيْرِ لَا مُحَالٌ ذَاتِيٌّ وَالْمُحَالُ بِالْغَيْرِ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ ثُمَّ قِيلَ: الْجَوَابُ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ مُطْلَقَاتِ النُّصُوصِ مُقَيَّدَاتٌ وَمُفَسَّرَاتٌ بِقُيُودِ مُقَيِّدَاتِهَا فَتُقَيَّدُ الْوَعِيدَاتُ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ الْعَفْوِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]- مَثَلًا وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إنْشَاءُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا الْإِخْبَارُ وَأُجِيبُ أَيْضًا بِحَمْلِ نُصُوصِ

الْوَعِيدِ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَا الْوُقُوعِ وَالِاسْتِيجَابِ أَوْ عَلَى اعْتِقَادِ الْحِلِّ أَوْ بِحَمْلِ النَّصِّ عَلَى صُدُورِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ مِنْ الْكَافِرِ بِقَرِينَةِ نُزُولِهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي سَبَبِ نُزُولِ - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]- الْآيَةُ وَاعْلَمْ أَنَّ خُلْفَ الْوَعْدِ لَيْسَ بِجَائِزٍ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْكَرَمِ وَحَقُّ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ إحْسَانًا وَأَمَّا خُلْفُ الْوَعِيدِ فَظَاهِرُ مَا فِي بَحْرِ النَّسَفِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَجَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ وَعِيدِهِ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ وَأَنْ يَغْفِرَ وَلَا يُعَاقِبَ. وَحَاصِلُ مَا نَقَلَ الدَّوَانِيُّ عَنْ الْوَسِيطِ لِلْوَاحِدِيِّ جَوَازُهُ لِمَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلِهِ ثَوَابًا فَهُوَ مُنَجَّزٌ لَهُ وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلِهِ عِقَابًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ ذَلِكَ عَيْبًا بَلْ كَرَمًا وَفَضْلًا بَلْ هُوَ مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَ كُلٍّ كَمَا قَالَ الْمَوْصِلِيُّ إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أَنْجَزَ وَعْدَهُ ... وَإِنْ أَوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُهُ ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ بِقَوْلِهِ إنَّ الْوَعْدَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَخْلُفُ وَالْوَعِيدُ حَقُّهُ عَلَى الْعِبَادِ فَإِنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَأَوْلَاهُمَا الْعَفْوُ وَالْكَرَمُ لِأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: الْمُحَقِّقُونَ عَلَى خِلَافِهِ كَيْفَ وَهُوَ تَبْدِيلٌ لِلْقَوْلِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] وَقَالَ الْخَيَالِيُّ: بَلْ كَذِبٌ مُنْتَفٍ بِالْإِجْمَاعِ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ مُرَادَهُمْ الْكَرِيمُ إذَا أَخْبَرَ بِالْوَعِيدِ فَاللَّائِقُ بِشَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى إخْبَارُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْوَعْدِ فَلَا كَذِبَ وَلَا تَبْدِيلَ انْتَهَى وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْبَعْضِ أَنَّهُ لَا كَذِبَ فِي الْمُسْتَقِلِّ وَإِنْ أُورِدَ عَلَيْهِ وَحَاصِلُ كَلَامِ الدَّوَانِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِخُلْفٍ لِأَنَّ نُصُوصَ الْوَعِيدِ إمَّا إنْشَاءُ تَهْدِيدٍ أَوْ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ أَيْ الْمُذْنِبُ الْمَغْفُورُ بِالدَّلَائِلِ الْمُفَصَّلَةِ أَوْ بَيَانٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ لَا الْوُقُوعِ فَحَاصِلُ كَلَامِ الدَّوَانِيِّ هُوَ الْجَوَازُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقِ الْخُلْفِ (وَيَجُوزُ الْعِقَابُ عَلَى الصَّغِيرَةِ) . قَالَ الْخَيَالِيُّ: مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِالْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ لِعَدَمِ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فَلِإِثْبَاتِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الدَّعْوَى مَعَ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُهُ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى. وَأَدِلَّةُ الشَّارِحِ قَوْله تَعَالَى - {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]- لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ جَوَازِ الْعِقَابِ وقَوْله تَعَالَى - {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]- وَالْإِحْصَاءُ إنَّمَا يَكُونُ لِلسُّؤَالِ وَالْمُجَازَاةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَغْفِرْ الصَّغِيرَ وَلَمْ يَقَعْ الْعَذَابُ عَلَيْهَا فَأَيْنَ يَظْهَرُ كَوْنُهَا عِصْيَانًا وَأَيْضًا الْمُجَازَاةُ عَيْنُ وُقُوعِ الْعِقَابِ وَأَنَّ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]- يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَتَأَمَّلْ عَلَى مِثْلِ مَا ذَكَرَ (وَلَوْ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ) وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]- فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكُفْرِ إذْ الْكَبِيرَةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ الْكُفْرُ لِكَمَالِهِ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَمَالِ وَبِهِ تَنْدَفِعُ شُبْهَةُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّعْذِيبِ (وَالْعَفْوُ) أَيْ تَرْكِ الْعُقُوبَةِ وَالسَّتْرُ عَلَيْهِ (عَنْ الْكَبِيرَةِ وَلَوْ بِلَا تَوْبَةٍ) قِيلَ: إنَّ الْكَبِيرَةَ كُفْرٌ فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا مَقْبُولَةٌ قَطْعًا وَإِنْ مِنْ غَيْرِهَا فَمَرْجُوَّةٌ أَقُولُ: ظَاهِرُ النُّصُوصِ هُوَ الْقَطْعُ مُطْلَقًا بِلَا تَفْرِقَةٍ إلَّا إذَا لَمْ تُقَارَنْ بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا ثُمَّ وَجْهُ الْعَفْوِ بِلَا تَوْبَةٍ أَنَّ الْعِقَابَ حَقُّهُ تَعَالَى فَلَهُ إسْقَاطُهُ وَيَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ مِثْلُ {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ - وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 25 - 15] إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا (وَاَللَّهُ تَعَالَى يُجِيبُ الدَّعَوَاتِ) وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ عِنْدَ بَعْضٍ (وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ مَشْرُوطٌ بِالطَّلَبِ وَالثَّانِي وَلَوْ بِلَا طَلَبٍ (تَفَضُّلًا) عَلَى عِبَادِهِ لَا وُجُوبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]- {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة: 186]

- {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ» . «الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ» لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ شَرَائِطَ قَبُولِ الدُّعَاءِ الْمُحَرَّرَةَ فِي كُتُبِ الْعُلَمَاءِ كَالْحِصْنِ لِلْجَزَرِيِّ وَيَنْفِي مَوَانِعَهُ الْمُقَرَّرَةَ فِي أَلْسِنَتِهِمْ وَيُقَارِنُ فِي أَوْقَاتِ قَبُولِهِ بَلْ فِي أَمْكِنَتِهِ حَتَّى يَكُونَ فِي مَظِنَّةِ الْقَبُولِ وَحَيِّزِهِ. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا نَفْعَ لِلدُّعَاءِ قَدْ كَانَ مَا هُوَ كَائِنٌ وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ وَأُجِيبُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُهْدُوا إلَى مَوْتَاكُمْ الدُّعَاءَ وَالصَّدَقَةَ» اعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ يُسَهِّلُ الْقَضَاءَ الْمُبْرَمَ وَيَدْفَعُ نَفْسَ الْقَضَاءِ الْمُعَلَّقَ نَزَلَ أَوْ تَهَيَّأَ لِلنُّزُولِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ تَغْيِيرَ قَضَائِهِ تَعَالَى مُمْتَنِعٌ فَالسَّعْيُ لِدَفْعِهِ بِنَحْوِ الدُّعَاءِ مِنْ عَدَمِ اعْتِرَافِ قَضَائِهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ» قُلْت: إنَّ الدُّعَاءَ أَيْضًا مِنْ قَضَائِهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْمُسَبَّبُ مَعَ سَبَبِهِ مِنْ قَضَائِهِ تَعَالَى فَاَللَّهُ تَعَالَى قَضَى بِكَوْنِ الدُّعَاءِ سَبَبًا مُزِيلًا. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ» وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَيَسْتَعْمِلُ الْعَبْدُ الْحَذَرَ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ وَأَدْوِيَةِ الْأَمْرَاضِ إلَى آخِرِهِ فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ عَلَيْهِ خِلَافَ قَضَائِهِ وَعِلْمِهِ أَوْ كَانَ قَضَاءً مُبْرَمًا فَلَا يَنْفَعُ قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْعُهُ مُؤَخَّرًا إلَى الْآخِرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُ تَعَالَى عَنْ الدُّعَاءِ الْمَرْعِيِّ شَرَائِطُهُ وَالْمَنْفِيُّ مَوَانِعُهُ وَلَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ عَلَى قَاعِدَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ فَإِنْ قِيلَ: رُبَّ مُضْطَرٍّ وَضَرِيرٍ عَاجِزٍ يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ الْقَبُولِ طُولَ عُمُرِهِ. قُلْنَا يَخْرُجُ لَهُ الْجَوَابُ مِمَّا ذَكَرْنَا وَأَنَّ بَعْضَ الْمُسْتَجَابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَفِيًّا بِحَيْثُ لَوْلَاهُ لَتَظْهَرُ الْمَخَاوِفُ وَالْمَكَارِهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا فِي حَقِّ شَيْءٍ آخَرَ أَنْفَعَ لَهُ وَأَنْ يَكُونَ وَقْتُهُ بَعِيدًا فَيَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ وَقَدْ قُبِلَ لَكِنْ ظَهَرَ أَثَرُهُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ كَمَا قِيلَ: فِي اسْتِجَابَةِ دُعَاءِ نُوحٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ ظَهَرَ أَثَرُهُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَاضْمَحَلَّ بِهِ الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْله تَعَالَى - {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]- أَنَّ لَفْظَةَ كُلٍّ تَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالِاسْتِغْرَاقَ وَرُبَّ شَخْصٍ يَدْعُو كَثِيرًا وَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْقَبُولِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى مَا يُقَالُ أَنَّهُ يُعْطِي كُلَّ سُؤَالٍ لَكِنَّ الْبَعْضَ لَا يَصِلُ لِلْمَوَانِعِ وَالْحَجْبِ لِعَدَمِ الْقَابِلِيَّةِ وَبِلَا احْتِيَاجٍ إلَى تَخْصِيصِ خِطَابِهِ - مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ مُعْظَمَ الْأَدْعِيَةِ وَأَكْثَرَهَا لِدَفْعِ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى اللَّهِ قُلْنَا: وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الزُّهَّادِ إلَى أَفْضَلِيَّةِ تَرْكِ الدُّعَاءِ اسْتِسْلَامًا لِلْقَضَاءِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ

الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ الْفَتَاوَى أَفْضَلِيَّةُ الدُّعَاءِ واستحبابيته كَمَا نُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَنَا أَقُولُ: الْمُنَافِي لِلصَّبْرِ هُوَ التَّضَجُّرُ وَالتَّشَكِّي وَعَدَمُ تَحَمُّلِ الْمِحَنِ لَا الْمُبَاشَرَةُ لِلسَّبَبِ الْعَادِيِّ مِنْهُ تَعَالَى وَأَيْضًا صَرَّحَ بِعَدَمِ تَنَافِي التَّشَبُّثِ بِالْأَسْبَابِ الْوَهْمِيَّةِ لِلتَّوَكُّلِ كَالْكَيِّ بِهَذَا الشَّرْطِ فَضْلًا عَنْ الظَّنِّيَّةِ بَلْ الْقَطْعِيَّةِ وَبِالْجُمْلَةِ الْمُبَاشَرَةُ لِلْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ ظَنِّيَّةً بَلْ وَهْمِيَّةً لَا تُنَافِي التَّوَكُّلَ وَأَمَّا إجَابَةُ دَعْوَةِ الْكَافِرِ فَمَنَعَهَا الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14]- وَلِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ. وَالصَّحِيحُ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَنَا هُوَ الْجَوَازُ لِحَدِيثِ «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ» وَلِأَنَّهُ تَعَالَى حِينَ قَالَ إبْلِيسُ - {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف: 15]- فَأَجَابَ دُعَاءَهُ وَظَاهِرُ مَا فِي التتارخانية هُوَ الْإِطْلَاقُ وَصَرَّحَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الْأَمَالِي بِأَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقْبَلُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا قِيلَ: وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي تَوْفِيقِ النُّصُوصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَاحِدٌ) قَالَ فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَبِالْعَكْسِ وَأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ وَمَرْجِعُهُمَا إلَى الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ لَكِنْ لِتَغْيِيرِ مَفْهُومِهِمَا قَدْ يَتَعَاطَفَانِ مِثْلُ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35]- {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] وَلِإِطْلَاقِ الْإِسْلَامِ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ الظَّاهِرِ، قَدْ ثَبَتَ مَعَ الْإِسْلَامِ نَفْيُ الْإِيمَانِ مِثْلُ - {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]- وَلِكَوْنِ السُّؤَالِ عَنْ مُتَعَلِّقِ الْإِيمَانِ وَعَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ» إلَى آخِرِهِ «وَالْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» إلَى آخِرِهِ. (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْوَاحِدُ (تَصْدِيقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَالتَّصْدِيقُ إدْرَاكُ الْحُكْمِ أَيْ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّا وُقُوعٍ يَعْنِي الْجُزْءَ الْأَخِيرَ لِلْقَضِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ التَّفْتَازَانِيِّ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّصْدِيقُ اللُّغَوِيُّ وَالْمِيزَانِيُّ وَالْإِيمَانِيُّ لَا مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلِ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]- وَقَوْلُهُ - {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18]- وَقَوْلُهُ - {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]- لَكِنْ أَوْرَدَ بِأَنَّ عَدَمَ إيمَانِهِمْ لِنَحْوِ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ لِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ رُكْنٍ آخَرَ لِلْإِيمَانِ أَوْ لِعَدَمِ شَرْطِهِ كَالْإِقْرَارِ شَطْرًا أَوْ شَرْطًا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ أَوْ لِإِنْكَارِ مَا عَلِمَهُ أَوْ لِإِنْكَارِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُعْتَقَدَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْإِذْعَانُ فِي الْمِيزَانِيِّ وَكَانَ عِلْمًا مُجَرَّدًا لَزِمَ عَدَمُ كَوْنِ الْإِيمَانِ الِاسْتِدْلَالِيِّ إيمَانًا إذْ اللَّازِمُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ حِينَئِذٍ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِلَا قَبُولٍ وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ مَعَ الْقَبُولِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ رَئِيسِهِمْ ابْنِ سِينَا اعْتِبَارُ الْقَبُولِ فِي التَّصْدِيقِ فَمَا يُقَالُ فِي الْجَوَابِ الْعِلْمُ الْمُجَرَّدُ نَتِيجَةُ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ التَّسْلِيمُ وَالرِّضَا يَعْنِي الْقَبُولَ تَكَلُّفٌ بَارِدٌ وَخِلَافُ نَصِّ رَئِيسِهِمْ وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ مِنْ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ مَكَانَ التَّصْدِيقِ فَالْمُرَادُ هُوَ الْعِلْمُ التَّصْدِيقِيُّ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ نَقْلٌ وَلِهَذَا يَمْتَثِلُونَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَاسْتِفْسَارٍ وَإِنَّمَا خَصَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ مَخْصُوصَةٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ نُقِلَ إلَى مَعْنًى آخَرَ لَمَا جَازَ الْخِطَابُ بِلَا بَيَانٍ وَبَيَانُ التَّفْسِيرِ فِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ تَأَخُّرُهُ فَإِنْ قِيلَ: التَّصْدِيقُ قِسْمٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ فِي مُخْتَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ مَأْمُورًا وَالْمَأْمُورُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا قُلْنَا: قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ بَلْ أَنْ يَصِحَّ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِهِ وَكَسْبِهِ بِالِاخْتِيَارِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ كَيْفِيَّةً كَالْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَغَيْرِهِمَا كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَغَايَتُهُ كَوْنُ التَّصْدِيقِ حَاصِلًا بِالِاخْتِيَارِ وَمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ وَأَمَّا أَنَّهُ مَعْنًى غَيْرُ مَا جُعِلَ فِي الْمَنْطِقِ مُقَابِلًا لِلتَّصَوُّرِ وَفُسِّرَ بكر ويدن فَلَا فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اُعْتُبِرَ الِاخْتِيَارُ فِي التَّصْدِيقِ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ إيمَانُ نَحْوِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ لَزِمَهُ التَّصْدِيقُ ضَرُورَةً بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْمُعْجِزَةِ قُلْنَا: إمَّا مُكْتَسِبٌ بِالِاخْتِيَارِ

غَايَتُهُ لَا يَعْلَمُ كَسْبَهُ أَوْ مَأْمُورٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَحْصِيلِهِ بِالِاخْتِيَارِ (فِي جَمِيعِ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا خَفِيَ كَالِاجْتِهَادِيَّاتِ (مَجِيئُهُ بِهِ) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فُسِّرَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ بِقَوْلِهِ اُشْتُهِرَ كَوْنُهُ مِنْ الدِّينِ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ الْعَامَّةُ بِلَا افْتِقَارٍ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ كَوُجُودِ الصَّانِعِ وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَيَكْفِي الْإِجْمَالُ فِيمَا لُوحِظَ إجْمَالًا فَلَا يَنْحَطُّ عَنْ دَرَجَةِ الْإِيمَانِ التَّفْصِيلِيِّ وَيُشْتَرَطُ التَّفْصِيلُ فِيمَا لُوحِظَ تَفْصِيلًا حَتَّى لَوْ لَمْ يُصَدِّقْ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عِنْدَ السُّؤَالِ كَانَ كَافِرًا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَوْ جَهِلَ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ (وَالْإِقْرَارُ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْجَمِيعِ بِاللِّسَانِ حَقِيقَةً لِلْقَادِرِ أَوْ حُكْمًا لِلْعَاجِزِ كَالْأَخْرَسِ اعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ أَنَّ الْإِيمَانَ هَلْ هُوَ مِنْ الْمَاهِيَّاتِ الْبَسِيطَةِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ فَقَطْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَلَمِ الْهُدَى أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ لَعَلَّ هَذَا مَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إلَى أَنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا وَعَبَّرَ عَنْهُ حَفِيدُهُ هُوَ مُخْتَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ إقْرَارٌ بِلَا تَرْكٍ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ فَمُسْلِمٌ أَوْ مِنْ الْمُرَكَّبَةِ وَحِينَئِذٍ إمَّا ثُنَائِيَّةٌ أَعْنِي التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ وَلَوْ مَرَّةً وَخَفِيَّةً وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي بَحْرِ النَّسَفِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ حَفِيدٌ السَّعْدُ: مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ لَكِنْ قَالَ فِي الْأُصُولِ التَّصْدِيقُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ قَدْ يَحْتَمِلُهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ وَأَمَّا فِي حَالِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ فَالتَّصْدِيقُ بَاقٍ فِي الْقَلْبِ غَايَتُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ وَأَنَّ الْمُحَقَّقَ الَّذِي لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ نَافِيهِ فَهُوَ بَاقٍ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ هُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَإِمَّا ثُلَاثِيَّةً وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِالْجِنَانِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ. قَالَ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ: هُوَ مَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَيَتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ لَعَلَّ مُرَادَهُمْ مِنْ الْعَمَلِ غَيْرُ النَّوَافِلِ فَمَنْ أَخَلَّ بِالِاعْتِقَادِ فَمُنَافِقٌ وَبِالْإِقْرَارِ فَكَافِرٌ وَبِالْأَعْمَالِ فَفَاسِقٌ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ جُزْءٌ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ الْمُنَجِّي لَا مِنْ أَصْلِهِ كَمَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ (وَالْأَعْمَالُ خَارِجَةٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ) لَا عَنْ كَمَالِهِ كَمَا عَرَفْت خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ الدَّوَانِيُّ: هُنَا احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ إمَّا جُزْءٌ مُقَوِّمٌ لِلْإِيمَانِ عَلَى أَنْ يُعْدَمَ بِعَدَمِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا جُزْءٌ مُكَمِّلٌ وَمُحَسِّنٌ لَا يُعْدَمُ بِعَدَمِهَا كَأَغْصَانِ الشَّجَرِ وَهُوَ

مَذْهَبُ السَّلَفِ فَالْإِيمَانُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّصْدِيقِ فَقَطْ وَبَيْنَ مَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَإِمَّا خَارِجَةٌ عَنْ الْإِيمَانِ لَكِنْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْإِيمَانِ مَجَازًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي إلَّا بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَإِمَّا خَارِجَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ مَنْ يَقُولُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْخَوَارِجِ ثُمَّ هُنَا مَذَاهِبُ أُخَرَ فَإِنَّهُ عِنْدَ الشِّيعَةِ الْمَعْرِفَةُ فَقَطْ وَعِنْدَ النَّظَّامِيَّةِ التَّسْلِيمُ فَقَطْ بِخَبَرِ إنْسَانٍ وَعِنْدَ الْكَرَّامِيَّةِ مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ بِدُونِ التَّصْدِيقِ وَعِنْدَ الرَّقَاشِيِّ هُوَ الْإِقْرَارُ فَقَطْ بِشَرْطِ الْمَعْرِفَةِ وَبِشَرْطِ التَّصْدِيقِ عِنْدَ الْقَطَّانِ فَجُمْلَةُ الْأَقْوَالِ تَحْقِيقًا وَاعْتِبَارًا أَحَدَ عَشَرَ لِأَنَّهُ إمَّا بَسِيطٌ وَهُوَ سَبْعَةٌ التَّصْدِيقُ فَقَطْ وَالْإِقْرَارُ فَقَطْ بِلَا شَرْطٍ وَبِشَرْطِ الْمَعْرِفَةِ وَبِشَرْطِ التَّصْدِيقِ وَالْأَعْمَالُ فَقَطْ وَالْمَعْرِفَةُ فَقَطْ وَالتَّسْلِيمُ فَقَطْ وَإِمَّا ثُنَائِيٌّ وَهُوَ اثْنَانِ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَكَوْنُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ التَّصْدِيقِ فَقَطْ وَبَيْنَ مَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَإِمَّا ثُلَاثِيٌّ وَهُوَ اثْنَانِ أَيْضًا التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ جُزْءًا مِنْ أَصْلِهِ أَوْ مِنْ كَمَالِهِ نُقِلَ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ هَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ الْكَلِمَةُ فَإِذَا قَالَهَا حَكَمْنَا بِإِيمَانِهِ اتِّفَاقًا وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ خَارِجَةً عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ (فَلَا يَزِيدُ) حَقِيقَتُهُ بِالطَّاعَاتِ (وَلَا يَنْقُصُ) بِالْمَعَاصِي فَهَذَا فَرْعُ خُرُوجِ الْأَعْمَالِ عَنْ مَاهِيَّتِه كَمَا نُقِلَ عَنْ الرَّازِيّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلتَّصْدِيقِ الْبَالِغِ حَدَّ الْجَزْمِ وَالْإِذْعَانِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ احْتِمَالَ النَّقِيضِ وَالتَّصْدِيقُ الْيَقِينِيُّ لَا يَحْتَمِلُهُ وَأَنَّ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ تَقْتَضِي نُقْصَانَ الْكُفْرِ وَنُقْصَانُهُ زِيَادَةَ الْكُفْرِ وَهُوَ مُحَالٌ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ وَالْحَقُّ قَبُولُ التَّصْدِيقِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ كَإِيمَانِ النَّبِيِّ وَأُمَّتِهِ وَإِيمَانِ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُقَلِّدِ بَلْ إيمَانِ الْوَاصِلِ بِالْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وَقَدْ قَسَّمُوا الْيَقِينَ إلَى حَقِّ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَعِلْمِ الْيَقِينِ لَكِنَّ الشَّرِيفَ الْعَلَّامَةَ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ الْعَضُدُ عَلَى إرَادَةِ بَيَانِ مُرَادِهِ صَرَّحَ بِعَدَمِ التَّفَاوُت قُوَّةً وَضَعْفًا فِي الْيَقِينِيَّاتِ بِخِلَافِ الظُّنُونِ وَالسَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ كَوْنُهُ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عِنْدَهُمْ فَرْعُ دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِي الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ عَرَفْت التَّحْقِيقَ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ أَصْلِهِ بَلْ مِنْ كَمَالِهِ وَكَوْنُهَا جُزْءًا مِنْ الْكَمَالِ لَيْسَ مَنْفِيًّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَلْ هُوَ مُتَّفَقٌ فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَرَّحَ إمَامُنَا الْأَعْظَمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ إيمَانُ أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمَنِ بِهِ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ فَمُرَادُ الْإِمَامِ مِنْ عَدَمِ الزِّيَادَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمَنِ بِهِ لَا مِنْ قُوَّةِ ذَاتِهِ وَضَعْفِهِ وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ ذِكْرُ لُزُومِ الْجَزْمِ الْيَقِينِيِّ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّيَّاتِ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَلِمَا نُقِلَ عَنْ صَاحِبِ النِّهَايَةِ الْأَصْلُ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ الْحَقُّ الْيَقِينِيُّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُخَالِفُهُ بَاطِلًا يَقِينًا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ - {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]- وَقَوْلِهِ - {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]- وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ الَّذِي يَخْطِرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ بِالْبَالِ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ وَأَنَّ الْإِيمَانَ التَّقْلِيدِيَّ رَاجِعٌ إلَى

الظَّنِّ حَقِيقَةً. وَفِي شَرْحِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ الِاعْتِقَادُ الْمَشْهُورُ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ وَمُرَادُهُ مِنْهُ أَنَّهُ الرَّاجِعُ إلَى الظَّنِّ وَلَا نِزَاعَ فِي كِفَايَةِ الظَّنِّ فِي بَعْضِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَصِفَةِ التَّكْوِينِ وَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بَلْ إثْبَاتِ صِفَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهَا وَأَيْضًا جَعَلُوا التَّصْدِيقَ الْإِيمَانِيَّ وَالْمِيزَانِيَّ مُتَّحِدَيْنِ وَالْمِيزَانِيُّ شَامِلٌ لِلظَّنِّ أَيْضًا وَأَنَّ اللَّازِمَ لِلِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ قَدْ يَكُونُ ظَنًّا فَلْيُتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ. (وَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَنْ وُجِدَا) التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ (فِيهِ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا) لِتَحَقُّقِ الْإِيمَانِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِأَنْ كَانَ شَاكًّا أَوْ مُتَرَدِّدًا أَوْ خَالِي الذِّهْنِ لَكَانَ كَافِرًا وَمَنْ شَكَّ فِي إيمَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ (وَلَا يَنْبَغِي) أَيْ لَا يَلِيقُ بَلْ يَجُوزُ (أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْعُقُودِ فَيَرْفَعُ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ لِلتَّأَدُّبِ أَوْ التَّبَرُّكِ وَالْإِحَالَةِ إلَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ أَوْ لِلشَّكِّ فِي عَاقِبَتِهِ أَوْ التَّبَرِّي مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَالْإِعْجَابِ بِحَالِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ لَكِنْ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِإِيهَامِ الشَّكِّ وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّقَاءِ مَوَاضِعِ التُّهَمِ. وَبِالْجُمْلَةِ نِزَاعُ الْفَرِيقَيْنِ رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ (وَالْإِيمَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى) أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ (مَخْلُوقٌ) كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ (كَسْبِيٌّ) أَيْ حَاصِلٌ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ بِالِاخْتِيَارِ كَصَرْفِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَقَدْ عَرَفْت حَالَ مَا يَحْصُلُ بِالضَّرُورَةِ (وَأَمَّا) الْإِيمَانُ (بِمَعْنَى هِدَايَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ إلَى مَعْرِفَتِهِ) بِلَا كَيْفٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ (فَغَيْرُ مَخْلُوقٍ) لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ التَّكْوِينِ وَهُوَ قَدِيمٌ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ قِيلَ: عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَكَذَا عَكْسُهُ. قَالَ النَّسَفِيُّ الْإِيمَانُ فِعْلُ الْعَبْدِ بِهِدَايَةِ الرَّبِّ فَمَا مِنْ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَمَا مِنْ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ (وَإِيمَانُ الْمُقَلِّدِ) لِلْغَيْرِ كَالْآبَاءِ وَأَفْوَاهِ الرِّجَالِ فِي الْأَسْوَاقِ بِلَا اسْتِدْلَالٍ. قَالَ فِي التتارخانية الْمُقَلِّدُ هُوَ الَّذِي اعْتَقَدَ جَمِيعَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بِلَا دَلِيلٍ (صَحِيحٌ) عِنْدَنَا إنْ كَانَ مُصِيبًا جَازَ مَا فِي الْحَالِ وَإِنْ احْتَمَلَ نَقِيضَهُ فِي الْمَآلِ لَكِنْ عِنْدَ خُطُورِ ذَلِكَ النَّقِيضِ بِنَحْوِ تَشْكِيكِ الْمُشَكِّكِ يَكْفُرُ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ قِيلَ: وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِي الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَنُسِبَ إلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ وَلِذَا قِيلَ: الْمُقَلِّدُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ أَصْلًا وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي قَوْله تَعَالَى - {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} [البقرة: 170]- قُوَّةُ هَذِهِ الْآيَةِ تُعْطِي إبْطَالَ التَّقْلِيدِ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى إبْطَالِهِ فِي الْعَقَائِدِ وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ لَا ضَالَّ أَضَلَّ مِنْ الْمُقَلِّدِ وَعَنْ الْقَاضِي أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي التَّوْحِيدِ أَقُولُ حُكِيَ عَنْ الزَّرْكَشِيّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ صِحَّةَ إيمَانِ الْمُقَلِّدِ وَعَنْ ابْنِ نَاجِيٍّ وَأَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ نِسْبَةُ الصِّحَّةِ إلَى الْجُمْهُورِ قِيلَ: إنَّ عَلَيْهِ مُحَقِّقِي أَهْلِ السُّنَّةِ وَقِيلَ: الِاتِّفَاقُ عَلَى قَبُولِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى قَبُولِهِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]

- وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَدَخَلَ مَسْجِدَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ» وَأَنَّ الْإِيمَانَ مُطْلَقُ التَّصْدِيقِ لَا التَّصْدِيقُ الْمُقَيَّدُ بِحُصُولِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - يَكْتَفُونَ بِالْإِقْرَارِ وَالِانْقِيَادِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ طَلَبُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَيْفَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ تَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ وَظَاهِرُ عَدَمِ حُصُولِ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا ذَكَرَ الدَّوَانِيُّ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَنْفِي صِحَّةَ أَصْلِ الْإِيمَانِ بَلْ يَنْفِي كَمَالَهُ وَيُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا كَمَا هُوَ الْمُلْتَزَمُ هُنَا وَأَيْضًا عَدَمُ الصِّحَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِإِكْفَارِ جَمِيعِ الْعَوَامّ وَارْتِدَادِهِمْ وَحُرْمَةِ ذَبِيحَتِهِمْ وَأَنْكِحَتِهِمْ ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ مُرَادَ النَّافِينَ نَفْيُ الصِّحَّةِ الْكَامِلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إثْمٌ وَمُرَادُ الْمُصَحِّحِينَ هُوَ أَصْلُ الْجَوَازِ وَإِنْ كَانَ آثِمًا وَبِهِ تَنْدَفِعُ شُبْهَةُ أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ (وَلَكِنَّهُ) أَيْ الْمُقَلِّدَ (آثِمٌ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ) لِتَرْكِهِ النَّظَرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ فِي عَقَائِدِهِ أَجْمَعَ السَّلَفُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ شَرْعًا. وَقَالَ الدَّوَانِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50]- {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]- إلَى آخِرِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ مَا يُقَالُ: إنَّهُ لَيْسَ بِآثِمٍ أَصْلًا وَأَمَّا مَا يُقَالُ: إنَّ الْإِثْمَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ لَهُ أَهْلِيَّةُ فَهْمِ النَّظَرِ فَلَعَلَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ بِمُلَاحَظَةِ قَاعِدَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَالْقُشَيْرِيِّ وَالْعَارِفِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَابْنِ رَشِيدٍ وَجَمَاعَةٍ غَيْرِ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ فَقَطْ لَعَلَّ مُرَادَهُمْ نَفْيُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُحَرَّرَةِ بِتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَرِعَايَةِ شَرَائِطِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ تَفْصِيلًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَيْنًا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كِفَايَةً وَإِلَّا فَإِمَّا يَلْزَمُ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ أَوْ جَهَالَةُ مُدَّعِي الْإِجْمَاعِ فَالنَّظَرُ نَحْوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَا ذُكِرَ وَالْآخَرَ أَنْ يَحْصُلَ إجْمَالُ النَّظَرِ وَمَآلُهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَقْرِيرِهِ عِنْدَ السُّؤَالِ بِعِبَارَةٍ مُهَذَّبَةٍ كَالِانْتِقَالِ مِنْ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ. قِيلَ: هَذَا حَاصِلٌ لِأَكْثَرِ الْعَوَامّ حَتَّى الصِّبْيَانِ وَهَذَا قَرِيبٌ لِمَا فِي التتارخانية الْإِيمَانُ بِالتَّفْصِيلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ إذَا آمَنَ فِي الْجُمْلَةِ كَفَى وَفِيهِ عَنْ النَّوَازِلِ إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعِبَارَةَ وَهُوَ بِحَالٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ قَرَّرَ الْمُعْتَقِدَاتِ وَقَالَ: كُنْت عَرَفْت أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا كَانَ مُؤْمِنًا وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَا دِينَ لَهُ وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَيُجَدِّدُ نِكَاحَهُ وَفِيهِ أَيْضًا وَإِذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ كَلِمَاتِ الْإِيمَانِ وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لَا دِينَ لَهُ وَإِذَا آمَنَ جَدَّدَ نِكَاحَهُ وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَعَلِمَ جَمِيعَ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفَسِّرُهَا وَلَكِنْ يَتَعَقَّلُ أَمْرَ مَعَاشِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ وَفَارَقَ امْرَأَتَهُ وَلَا يَرِثُ مِنْ أَبَوَيْهِ وَنُقِلَ عَنْ الكواشي عَنْ الْفَتَاوَى لَا يَصِحُّ نِكَاحُ بَالِغَةٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى وَصْفِ الْإِيمَانِ بِوَلَدْ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَوْ بِمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَلَوْ بَلَغَتْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ نِكَاحُهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ وَهَذِهِ بَلْوَى عَظِيمَةٌ وَلَهَا كَثْرَةُ عُمُومٍ وَالنَّاسُ عَنْهَا غَافِلُونَ انْتَهَى فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْت مُنَافٍ لِمَا فِي بَعْضِ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ تَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَنِسْبَةِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ وَنِسْبَةِ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ وَحُرْمَةِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ إلَى طَائِفَةٍ قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا بَلْ يُؤَيِّدُهُ إذْ مَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ إثْمًا. قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَأَثَرُ الْأَقْدَامِ عَلَى الْمَسِيرِ فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ هَلَّا تَدُلَّانِ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ حِينَ سُئِلَ: بِمَ عَرَفْت رَبَّك؟ عَرَفْت بِوَارِدَاتٍ تَعْجِزُ النَّفْسُ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: - عَلَى آبَائِهِ الْكِرَامِ وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَفْت اللَّهَ تَعَالَى بِنَقْضِ الْعَزَائِمِ وَفَسْخِ الْهِمَمِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ عَقَائِدِ الْعَضُدِ. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ تَرْكَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاكْتِفَاءَ بِالتَّقْلِيدِ وَإِنْ جَازَ فِي أَصْلِهِ لَكِنْ

قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ خَطَرِ الزَّوَالِ إذْ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِمُجَرَّدِ تَشْكِيكِ الْمُشَكِّكِ سِيَّمَا عِنْدَ ضَعْفِ الْعَقْلِ بِقُوَّةِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَقُوَّةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْ زَوَالِ الْإِيمَانِ أَعَاذَنَا اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (وَفِي) (إرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ إنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْخَلْقِ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ وَقَدْ يُشْتَرَطُ فِي الرَّسُولِ الْكِتَابُ بِخِلَافِ النَّبِيِّ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ قَالَ فِي الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ بَيَانُ عَدَدِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى عَدَدٍ فِي التَّسْمِيَةِ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ مِائَتَا أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا» وَقِيلَ: الرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ وَأَوْرَدَ بِأَنَّ الْكُتُبَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَصْحَابُهَا مُتَعَيِّنَةٌ غَيْرُ بَالِغَةٍ إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ تَعْيِينِهِمْ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْأَصَحُّ عَدَمُ قَصْرِ الْكُتُبِ بِهَذَا الْمَبْلَغِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ تَكْرَارُ النُّزُولِ وَقِيلَ: الْخِلَافُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ أَرْبَعَةٌ تَبَايُنٌ وَتَوَافُقٌ وَعُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ وَعُمُومٌ مُطْلَقٌ. (بِالْمُعْجِزَاتِ) جَمْعُ مُعْجِزَةٍ أَمْرٌ يَظْهَرُ بِخِلَافِ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ عِنْدَ تَحَدِّي الْمُنْكِرِينَ عَلَى وَجْهٍ يَعْجِزُ الْمُنْكِرُونَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (وَالْكُتُبِ) الْإِلَهِيَّةِ مُدَوَّنَةً أَوْ صُحُفًا (الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ) أَيْ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اخْتِيَارِ جَانِبِ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ (وَمِنْ الْبَشَرِ إلَى) سَائِرِ (الْبَشَرِ) أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ (حِكْمَةٌ) مَصْلَحَةٌ وَمَنْفَعَةٌ وَعَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ الْحِكْمَةُ بِالْكَسْرِ الْعَدْلُ وَالْعِلْمُ وَأَحْكَمَهُ أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ عَنْ الْفَسَادِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (بَالِغَةٌ) عَظِيمَةٌ كَامِلَةٌ كَعَدَمِ التَّنَافُرِ وَحُسْنِ الِائْتِلَافِ وَالْإِلْفُ وَالْأُنْسُ بَيْنَ التَّجَانُسِ دُونَ التَّخَالُفِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بَيْنَ أَصْنَافِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ فَضْلًا عَنْ الْمُخَالِفِ فِي الْجِنْسِ فَإِنْ قِيلَ: الرُّسُلُ مِنْ الْبَشَرِ لَيْسَ إلَى الْبَشَرِ فَقَطْ بَلْ إلَى الْجِنِّ أَيْضًا بَلْ نَقُولُ: الرُّسُلُ لَيْسَتْ مِنْ الْبَشَرِ فَقَطْ بَلْ مِنْ الْجِنِّ كَمَا قِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى - {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]- بُعِثَ إلَى كُلٍّ مِنْ الثَّقَلَيْنِ رُسُلٌ مِنْ جِنْسِهِمْ قُلْنَا: لَعَلَّ فِي لَفْظِ الْبَشَرِ الثَّانِي تَغْلِيبًا أَوْ أَنَّ الْجِنَّ مَفْهُومٌ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ أَوْ الِاكْتِفَاءِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ وَجْهُ الْحِكْمَةِ وَكَوْنُ الرُّسُلِ مِنْ الْجِنِّ لَيْسَ بِمُعْتَدٍّ بِهِ أَشَارَ إلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ عِنْدَ تِلْكَ الْآيَةِ لَعَلَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ لِرَدِّ مَنْ يَجْعَلُ الْإِرْسَالَ مُمْتَنِعًا كَالسَّمْنِيَّةِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَمَنْ يَجْعَلُهُ مُمْكِنًا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ كَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلِتَقْرِيرِ كَوْنِ الْإِرْسَالِ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا بِمَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ قَضِيَّةَ الْحِكْمَةِ تَقْتَضِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ. كَمَا ذَكَرَ التَّفْتَازَانِيُّ فَالتَّخْصِيصُ لِمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الْعِيَانِ يُدْرِكُهُ كُلٌّ بِالْبَيَانِ وَمِنْ شَرَائِطِ النُّبُوَّةِ كَمَالُ الْعَقْلِ وَقُوَّةُ الرَّأْيِ وَالسَّلَامَةُ عَمَّا يُنَفِّرُ الطَّبِيعَةَ السَّلِيمَةَ أَوْ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَحِكْمَةِ الْبِعْثَةِ كَمَا فِي تَهْذِيبِ الْكَلَامِ وَبِهِ يَبْطُلُ إفْرَاطُ مَا نُقِلَ فِي مَرَضِ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ نَفْرَةِ قَوْمِهِ وَقَرَابَتِهِ إلَى أَنْ أَخْرَجُوهُ مِنْ مَحَلَّتِهِ وَيَقْرَبُ إلَى ذَلِكَ مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ وَالتَّبْلِيغُ وَالْفَطَانَةُ. (وَهُمْ) الْأَنْبِيَاءُ (مُبَرَّءُونَ) مِنْ الْبَرَاءَةِ أَيْ النَّزَاهَةِ يَعْنِي مُطَهَّرُونَ

(عَنْ الْكُفْرِ) بِأَنْوَاعِهِ جَلِيًّا وَخَفِيًّا (وَالْكَذِبِ) عَمْدًا بِالْإِجْمَاعِ وَسَهْوًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ (مُطْلَقًا) قَيْدٌ لَهُمَا أَيْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا كَمَا قِيلَ: فَيُرَدُّ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّ امْتِنَاعَ الْكَذِبِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لِأَنَّ وَجْهَ الِامْتِنَاعِ مُنَافَاةُ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَ إمَّا قَيْدٌ لِلْكُفْرِ فَقَطْ أَوْ لِلْكَذِبِ فَقَطْ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِطْلَاقِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ فِي بَابِ التَّبْلِيغِ أَوْ التَّبْلِيغِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ يَحْتَاجُ إلَى التَّقْيِيدِ بِالْعَمْدِ. (وَعَنْ الْكَبَائِرِ) وَلَوْ سَهْوًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ خِلَافًا لِصَاحِبِ الْمَوَاقِفِ فَإِنَّهُ قَالَ: صُدُورُهَا سَهْوًا وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ فِي التَّأْوِيلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَالتَّفْتَازَانِي قَيَّدَ بِالتَّعَمُّدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلًا وَاحِدًا فِي تَهْذِيبِهِ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (وَالصَّغَائِرِ الْمُنَفِّرَةِ) أَيْ الصَّغِيرَةِ الَّتِي يَنْفِرُ عَنْهَا طِبَاعُ غَيْرِهِمْ (كَسَرِقَةِ) بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ أَوْ بِفَتْحٍ أَوْ كَسْرٍ وَسُكُونٍ (لُقْمَةٍ) مِنْ الطَّعَامِ الْمُرَادُ مِنْ السَّرِقَةِ لَيْسَ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَخْذِ مُكَلَّفٍ خُفْيَةً قَدْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً إلَخْ بَلْ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ خُفْيَةً (وَتَطْفِيفِ) بَخْسِ وَتَنْقِيصِ (حَبَّةٍ) مِنْ حُبُوبِ الْبِيَاعَاتِ وَإِنَّمَا تُنَفِّرُ الطَّبْعَ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْضًا أَيْ عَمْدًا وَسَهْوًا خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ تَجْوِيزِهِ سَهْوًا لَكِنْ بِشَرْطِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. (وَ) مِنْ (تَعَمُّدِ الصَّغَائِرِ غَيْرِهَا) أَيْ الْمُنَفِّرَةِ (بَعْدَ الْبِعْثَةِ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا اخْتَارَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ مِنْ قَوْلِهِ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَتَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ فَتَأَمَّلْ فَفِي التَّقْيِيدِ بِالْعَمْدِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ الصَّغَائِرِ سَهْوًا كَمَا قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْوَحْيِ. وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ صُدُورِ الْكَبِيرَةِ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ بِامْتِنَاعِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَلَوْ قَبْلَ الْوَحْيِ وَكَذَا الْمُعْتَزِلَةُ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ مُوجِبًا لِلنَّفْرَةِ كَزِنَا الْأُمَّهَاتِ فِي الْكَبِيرَةِ وَأَنَّ مُوجِبًا لِلْخِسَّةِ فِي الصَّغِيرَةِ فَمُمْتَنِعٌ وَلَوْ قَبْلَ الْوَحْيِ. قَالَ الدَّوَانِيُّ: وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْ الصَّغَائِرِ عَمْدًا وَالْكَبَائِرِ مُطْلَقًا بَعْدَ الْبِعْثَةِ فَمَا نُقِلَ مِنْ الْكَذِبِ وَالْمَعْصِيَةِ إنْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَمَرْدُودٌ وَإِنْ بِالتَّوَاتُرِ فَمُؤَوَّلٌ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى السَّهْوِ أَوْ تَرْكِ الْأَوْلَى أَوْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ كُلُّهُ عَلَى نَهْجِ مَا فِي الْكَلَامِيَّةِ ثُمَّ لَا عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَ إجْمَالَ مَا فِي شِفَاءِ الْقَاضِي عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْحَظْرِ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ أَمَّا الِاعْتِقَادِيَّاتُ فَهُمْ فِي أَعْلَى مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْيَقِينِ بِذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ فَيَمْتَنِعُ الْجَهْلُ وَالشَّكُّ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فَلَيْسَ لِلشَّكِّ فِي إحْيَاءِ الْمَوْتَى بَلْ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ فَالْعِلْمُ الْأَوَّلُ بِوُقُوعِهِ وَالثَّانِي بِكَيْفِيَّتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ أَوْ لِاخْتِبَارِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ أَوْ لِأَنَّ الْيَقِينَ يَقْبَلُ الْقُوَّةَ وَالضَّعْفَ فَيَزِيدُ التَّرَقِّي مِنْ مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْيَقِينِ إلَى مَرْتَبَةِ عَيْنِ الْيَقِينِ أَوْ لِإِرَاءَةِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ إلْزَامًا أَوْ الْمُرَادُ أَقْدِرْنِي عَلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى أَوْ أَرَى صُورَةَ الشَّكِّ مَعَ الْيَقِينِ تَوَاضُعًا وَتَأَدُّبًا لِازْدِيَادِ الْقُرْبِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} [يونس: 94]- فَلَيْسَ لِوُجُودِ الشَّكِّ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بَلْ الْمُرَادُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلشَّاكِّ إنْ كُنْت فِي شَكٍّ إلَى آخِرِهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} [يونس: 104] الْآيَةُ وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ مِنْ قَبِيلِ - {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]- الْآيَةُ وَقِيلَ وَقِيلَ وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» فَلَيْسَ لِلرَّيْبِ وَوَسْوَسَةِ الْقَلْبِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ الْغَيْنِ ذُهُولُ الْقَلْبِ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ وَمُدَاوَمَةِ الذِّكْرِ لِاشْتِغَالِهِ بِأَدَاءِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ مَعَ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهِ هَذَا وَإِنْ كَانَ طَاعَةُ رَبِّهِ لَكِنْ تَفَرُّدُهُ بِرَبِّهِ أَعْلَى مِنْهُ فَيَعُدُّهُ نَقْصًا فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِأُمَّتِهِ أَوْ لِتَعْلِيمِهِمْ أَوْ لِإِعْلَامِ طَرِيقِ عَدَمِ الْأَمْنِ أَوْ لِمُجَرَّدِ الْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]- وَلِنُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]- لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْجَهْلِ لَهُمَا بِصِفَتِهِ تَعَالَى فِي هَاتَيْنِ بَلْ الْمُرَادُ هُوَ الْوَعْظُ بِعَدَمِ التَّشْبِيهِ فِي الْأُمُورِ بِسِمَاتِ الْجَاهِلِينَ وَقِيلَ: الْخِطَابُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَالصَّوَابُ أَيْضًا عِصْمَتُهُمْ عَنْ الْجَهْلِ بِذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مُنْذُ وُلِدُوا وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ نِسْبَةَ كُفْرٍ إلَى نَبِيٍّ مَعَ قُوَّةِ مُعَادَاتِهِمْ وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ - هَذَا رَبِّي - فَقِيلَ: فِي سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ وَابْتِدَاءِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَقَبْلَ تَكْلِيفِ الشَّرْعِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ هَذَا رَبِّي عَلَى الْإِنْكَارِ وَعَنْ الزَّجَّاجِ هَذَا رَبِّي عَلَى قَوْلِكُمْ وَمُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا قَالَهُ تَبْكِيتًا وَإِلْزَامًا وَتَوْبِيخًا اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِمْ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} [الضحى: 7]- فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُوَ الْكُفْرُ بَلْ بِمَعْنَى الضَّالِّ أَيْ الْغَائِبِ عَنْ النُّبُوَّةِ أَوْ وَجَدَك بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالِ فَعَصَمَك أَوْ ضَالًّا عَنْ شَرِيعَتِك أَيْ لَا تَعْرِفُهَا فَهَدَاك إلَيْهَا بِالْوَحْيِ مَتْلُوًّا أَوْ غَيْرَ مَتْلُوٍّ أَوْ الضَّلَالُ الْحِيرَةُ الَّتِي فِي غَارِ حِرَاءٍ وَالْهِدَايَةُ هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ أَوْ لَا تَعْرِفُ الْحَقَّ إلَّا مُجْمَلًا فَهَدَاك إلَيْهِ مُفَصَّلًا أَوْ ضَالًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَهَدَاك إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ الْمَعْنَى وَوَجَدَك هَادِيًا فَهَدَى بِك ضَالًّا وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ {وَوَجَدَكَ ضَالا} [الضحى: 7]- عَنْ مَحَبَّتِي لَك فِي الْأَزَلِ أَيْ لَا تَعْرِفُهَا فَمَنَنْت عَلَيْك بِمَحَبَّتِي بِمَعْرِفَتِي وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَوَجَدَك ضَالٌّ - بِالرَّفْعِ - فَهَدَى - أَيْ اهْتَدَى أَوْ الضَّالُّ بِمَعْنَى الْمُحِبِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95]- يَعْنِي مُحِبًّا لِمَعْرِفَتِي وَعَنْ الْجُنَيْدِ أَيْ وَجَدَك مُتَحَيِّرًا فِي بَيَانِ مَا أُنْزِلَ إلَيْك فَهَدَاك لِبَيَانِهِ وَقِيلَ: ضَالًّا أَيْ لَمْ يَعْرِفْ نُبُوَّتَك أَحَدٌ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى: 52]- فَعَنْ السَّمَرْقَنْدِيِّ أَيْ لَا تَعْرِفُ قَبْلَ الْوَحْيِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَلَا دَعْوَةَ الْخَلْقِ إلَى الْإِيمَانِ وَقَالَ الْقَاضِي وَلَا الْإِيمَانُ أَيْ الْفَرَائِضُ وَالْأَحْكَامُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ أَذَى الشَّيْطَانِ بِجِسْمِهِمْ وَعَنْ وَسْوَسَتِهِ بِقَلْبِهِمْ وَلِذَا. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَكِنَّهُ تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَسْلَمُ» بِالضَّمِّ أَيْ فَأَسْلَمُ أَنَا مِنْهُ وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَسْلَمَ» يَعْنِي صَارَ مُسْلِمًا وَفِي رِوَايَةٍ «فَاسْتَسْلَمَ» فَإِذَا كَانَ حَالُ الْمُسَلَّطِ كَذَا فَحَالُ الْغَيْرِ أَوْلَى وَلِعَجْزِ اللَّعِينِ عَنْ أَذَاهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسَبَّبَ بِالتَّوَسُّطِ فِي مَجِيئِهِ عَلَى قُرَيْشٍ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ

النَّجْدِيِّ لِلْمُشَاوَرَةِ مَعَهُمْ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَحَفِظَهُ تَعَالَى بِخَبَرِ جَبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَنْزَلَ قَوْله تَعَالَى - {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30]- إلَى قَوْلِهِ - {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]- وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: 200]- الْآيَةُ فَقِيلَ: أَيْ يَسْتَخِفَّنَّكَ يَعْنِي يُزْعِجَنَّكَ وَيَحْمِلُك عَلَى الْخِفَّةِ وَيُزِيلُ حِلْمَك غَضَبٌ يَحْمِلُك عَلَى تَرْكِ الْإِعْرَاضِ مَثَلًا عَنْهُمْ - {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]- وَلَا تُطِعْ مَنْ سِوَاهُ وَقِيلَ: يَنْزَغَنَّكَ يُغْرِيَنَّكَ وَيُحَرِّكَنَّكَ وَالنَّزْغُ أَدْنَى الْوَسْوَسَةِ فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى تَحَرَّكَ عَلَيْهِ الْغَضَبُ عَلَى عَدُوِّهِ أَوْ رَامَ الشَّيْطَانُ مِنْ إغْرَائِهِ وَخَوَاطِرُ أَدْنَى وَسَاوِسِهِ مَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَبِيلٌ إلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ فَيُكْفَى أَمْرُهُ فَيَكُونُ سَبَبَ تَمَامِ عِصْمَتِهِ إذْ لَمْ يُسَلَّطْ بِأَكْثَرَ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهُ وَلَمْ يُجْعَلْ لَهُ قُدْرَةً عَلَيْهِ وَأَمَّا أَقْوَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَّا فِي بَابِ التَّبْلِيغِ فَمَعْصُومٌ عَمْدًا إجْمَاعًا أَوْ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ غَلَطًا أَيْ خَطَأً وَأَمَّا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَكَذَا أَيْضًا مَعْصُومٌ عَلَى الْخِلَافِ عَمْدًا وَنِسْيَانًا وَخَطَأً حَالَ رِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَجِدِّهِ وَمَزْحِهِ وَصِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ - وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ يَقُولُ «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعَصْرِ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصَرْت الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيت؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَا قَصَرْت الصَّلَاةَ وَلَا نَسِيت» فَأَخْبَرَ بِنَفْيِ الْحَالَيْنِ وَقَدْ كَانَ أَحَدَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَا يَتَوَجَّهُ شَيْءٌ عَلَى مَنْ جَوَّزَ الْوَهْمَ وَالْغَفْلَةَ فِي غَيْرِ بَابِ التَّبْلِيغِ وَإِنْ زَيَّفَ. وَقِيلَ: أَنَّهُ عَامِدٌ لِصُورَةِ النِّسْيَانِ لِتَعْلِيمِ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْقَصْرِ وَحَقِيقَةِ النِّسْيَانِ لَكِنْ مِثْلُ هَذَا الْقَصْدِ لِأَجْلِ مِثْلِ إعْلَامِ تَشْرِيعِ هَذَا الْحُكْمِ بَعِيدٌ وَقِيلَ: نَفْيُ النِّسْيَانِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ بِحَسَبِ نَفْيِ السَّلَامِ وَإِنْ ثَبَتَ السَّهْوُ فِي الْعَدَدِ أَوْ النَّفْيِ بِحَسَبِ مَجْمُوعِ الْقَصْرِ وَالنِّسْيَانِ يَعْنِي لَمْ يَجْمَعْ الْقَصْرُ وَالنِّسْيَانُ أَوْ الْمَنْفِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ النِّسْيَانُ لَا السَّهْوُ فَالْوَاقِعُ هُوَ السَّهْوُ لَا النِّسْيَانُ لِأَنَّ النِّسْيَانَ غَفْلَةٌ وَآفَةٌ وَالسَّهْوَ شَغْلٌ فَيَسْهُو فِي صَلَاتِهِ وَلَا يَغْفُلُ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَشَامِلَةٌ لِلْأَقْوَالِ الْغَيْرِ التَّبْلِيغِيَّةِ فَهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْفَوَاحِشِ وَالْكَبَائِرِ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي عِصْمَتِهِمْ اخْتِيَارًا أَوْ بِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي - وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَ الْمُحَقِّقُونَ كَالْكَبَائِرِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لِتَنَافِي الِاتِّبَاعِ الْمُطْلَقِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ بِلَا حَاجَةَ إلَى قَرِينَةٍ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ الِاتِّبَاعَ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَالْحَظْرُ وَالْكَرَاهَةُ مُنَافٍ لِلتَّبَعِيَّةِ وَأَمَّا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي صُدُورِ مُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُهَا كَيْفَ وَتَصَوُّرُ الْمَسْأَلَةِ كَالْمُمْتَنِعِ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ فَرْعُ الشَّرْعِ وَلَا شَرْعَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي تَعَبُّدِ نَبِيِّنَا قَبْلَ الشَّرْعِ هَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِشَرْعٍ أَمْ لَا وَأَمَّا السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ فِي التَّبْلِيغِ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ فَكَالْأَقْوَالِ فِي الِامْتِنَاعِ عِنْدَ الْإسْفَرايِينِيّ لِمُنَافَاتِهِ التَّبَعِيَّةَ الْمَأْمُورَةَ أَيْضًا وَأَحَادِيثُ السَّهْوِ مُؤَوَّلَةٌ وَجَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَعَنْ النَّوَوِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ السَّهْوَ فِي الْأَفْعَالِ لِعَدَمِ كَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَةِ لَا يُنَافِيهَا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيت فَذَكِّرُونِي» وَأَنَّ ذَلِكَ دَاعِيًا إلَى تَقْرِيرِ شَرْعٍ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنْسَى لِأَسُنَّ» بَلْ قَدْ رُوِيَ «لَسْت أَنْسَى وَلَكِنْ أُنْسَى لِأَسُنَّ» فَمِنْ بَابِ تَمَامِ النِّعْمَةِ لَا النَّقْصِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ تَقْرِيرِهِمْ عَلَى هَذَا السَّهْوِ وَالْغَلَطِ بَلْ يُنَبَّهُ فَوْرًا. وَأَمَّا فِي غَيْرِ التَّبْلِيغِ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ مِمَّا يُوجِبُ التَّبَعِيَّةَ فَالْأَكْثَرُ عَلَى الْجَوَازِ لِلِاشْتِغَالِ بِأَحْوَالِ الْإِنْذَارِ وَالتَّكْلِيفِ وَمُحَافَظَةِ الْأُمَّةِ وَلَكِنْ بِلَا تَكْرَارٍ وَدَوَامٍ بَلْ بِالنُّدْرَةِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً أَوْ مِائَةَ مَرَّةً» وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَصْحَابِ عِلْمِ الْقُلُوبِ وَالْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ مَنْعُ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَالْغَفَلَاتِ وَالْفَتَرَاتِ مُطْلَقًا عَلَى تَأْوِيلِ مِثْلِ آثَارِ السَّهْوِ السَّابِقَةِ كَحِكْمَةِ بَيَانِ حُكْمِ مِثْلِ هَذِهِ

الْوَقْعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ أَبْلَغُ مِنْ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ أَرْفَعُ لِلِاحْتِمَالِ أَوْ أَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ فِي الْفِعْلِ جَائِزٌ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَدَمِ تَنَافِي الْمُعْجِزَةِ دُونَ الْقَوْلِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِنْ نَسِيت فَذَكِّرُونِي» كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى جَوَازِ الصَّغَائِرِ مِنْ ظَوَاهِرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مُفْضٍ إلَى جَوَازِ الْكَبِيرَةِ وَخَرْقِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ مِمَّا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَخْلُو عَنْ تَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ فِي مُقْتَضَاهُ وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَكُلُّ مَا احْتَجُّوهُ مُتَأَوَّلٌ أَمَّا قَوْله تَعَالَى - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]- فَقِيلَ: الْمُتَقَدِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَالْمُتَأَخِّرُ هُوَ الْعِصْمَةُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: أُمَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: مَا بِسَهْوٍ وَغَفْلَةٍ وَتَأْوِيلُهُ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيك آدَمَ وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِك وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى - {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد: 19]- وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ. وَقِيلَ: ذَنْبُك مَغْفُورٌ لَوْ كَانَ فِيك ذَنْبٌ وَلَا يَقْتَضِي هَذَا وُجُودَ الذَّنْبِ وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ تَبْرِئَةُ الْعُيُوبِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2]- فَقِيلَ: مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِك قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: حَفِظْنَاك قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنْ الذُّنُوبِ لِئَلَّا يَثْقُلَ عَلَيْك أَعْبَاءُ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: مَا أَثْقَلَ ظَهْرَهُ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَقِيلَ: حَطَطْنَا عَنْك ثِقَلَ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقِيلَ: ثِقَلَ شَغْلِ سِرِّك وَحِيرَتِك وَطَلَبِ شَرِيعَتِك حَتَّى شَرَعْنَا ذَلِكَ لَك وَقِيلَ: الْوِزْرُ الشَّيْءُ الَّذِي صَدَرَ مِنْ النَّبِيِّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَحُرِّمَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا وَاهْتَمَّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَقُلَ عَلَيْهِ مِنْ كَمَالِ خَشْيَتِهِ أَوْ الشَّيْءُ الَّذِي لَوْ صَدَرَ لَكَانَ ذَنْبًا أَوْ ثِقَلُ الرِّسَالَةِ أَوْ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]- فَأَمْرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ نَهْيٌ حَتَّى يُعَدَّ ذَنْبًا فَغَلِطَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمُعَاتَبَةِ فَعَفَا لَيْسَ بِمَعْنَى غَفَرَ بَلْ بِمَعْنَى لَمْ يُلْزِمْك ذَنْبًا أَيْ وَضَعَ عَنْك شَيْئًا لَوْ لَمْ يُوضَعْ لَكَانَ ذَنْبًا وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ مِثْلُ أَعَزَّك اللَّهُ وَعَنْ السَّمَرْقَنْدِيِّ أَيْ عَافَاكَ اللَّهُ مِنْ الْمُعَافَاةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى فِي أَسَارَى بَدْرٍ - {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67]- الْآيَتَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ ذَنْبٍ بَلْ تَكْرِيمٌ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ حِلِّ الْغَنَائِمِ بِمَعْنَى مَا كَانَ هَذَا الشَّيْءُ لِغَيْرِك مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حُلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلِي» وَالْخِطَابُ فِي تُرِيدُونَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا مُجَرَّدَ اسْتِكْثَارِ الدُّنْيَا وَإِنْ اسْتَعَانُوا بِهَا عَلَى الْعُقْبَى لِكَوْنِهِ أَدْنَى مِنْ تَارِكِي الدُّنْيَا لَا لِلنَّبِيِّ وَأَشْرَافِ أَصْحَابِهِ وَمَعْنَى - {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68]- لَوْ لَمْ يَسْبِقْ مِنِّي عَدَمُ الْعَذَابِ بِلَا نَهْيٍ لَعَذَّبْتُكُمْ وَقِيلَ: لَوْ لَمْ يَسْبِقْ إيمَانُكُمْ بِالْكِتَابِ يَعْنِي الْقُرْآنَ لَعُوقِبْتُمْ أَوْ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ فِي اللَّوْحِ عَدَمُ حِلِّ الْغَنَائِمِ لَعُوقِبْتُمْ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]- الْآيَاتِ فَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ ذَنْبٍ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ إعْلَامُ عَدَمِ تَزَكِّي الْمُتَصَدِّي لَهُ وَأَنَّ الْأَوْلَى إقْبَالُ الْأَعْمَى وَتَصَدِّيهِ وَاسْتِئْلَافُهُ لِلْكَافِرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ بَلْ تَبْلِيغٌ وَطَاعَةٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ عَبَسَ وَتَوَلَّى الْكَافِرُ وَأَمَّا قِصَّةُ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَوْلُهُ - {فَأَكَلا} [طه: 121]- بَعْدَ قَوْلِهِ - {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]- وَتَصْرِيحُهُ بِالْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]- أَيْ جَهِلَ وَقِيلَ: أَخْطَأَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ بِعُذْرِهِ بِقَوْلِهِ {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ نَسِيَ عَدَاوَةَ إبْلِيسَ لَهُ وَمَا عَهِدَ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117]- الْآيَةَ قِيلَ: نَسِيَ ذَلِكَ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمَا وَقِيلَ: نَسِيَ ذَلِكَ بِمَا أَظْهَرَ الشَّيْطَانُ مِنْ النَّصِيحَةِ وَالْحَلِفِ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ كَاذِبًا وَقِيلَ: الْأَكْلُ عِنْدَ السُّكْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَصْفِهِ تَعَالَى خَمْرَ الْجَنَّةِ بِعَدَمِ السُّكْرِ وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ الَّذِي حَاصِلُهُ كَتَرْكِ الْأَوْلَى وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُونُسَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]- عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِلْزَامِ الظُّلْمِ تَقَدُّمَ الذَّنْبِ فَالظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَوَضْعُ حُبِّ غَيْرِ رَبِّهِ فِي صَدْرِهِ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ بَلْ عَدَّ الصُّوفِيَّةُ الْغَفْلَةَ عَنْ اللَّهِ وَإِرَادَةَ مَا سِوَاهُ ظُلْمًا أَوْ خُرُوجِهِ عَنْ قَوْمِهِ بِلَا إذْنِهِ أَوْ لِضَعْفِهِ عَنْ تَحَمُّلِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ أَوْ لِدُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ وَأَمَّا قِصَّةُ دَاوُد مَعَ أُورْيَا فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهَا خَبَرٌ صَحِيحٌ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ حَدَّثَكُمْ بِحَدِيثِ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى

مَا يَرْوِيهِ الْقَصَّاصُ جُلِدَ تِسْعُمِائَةٍ وَسِتِّينَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] إلَى قَوْلِهِ {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] وَقَوْلُهُ أَوَّابٌ فَتَنَّاهُ أَيْ اخْتَبَرْنَاهُ وَأَوَّابٌ أَيْ مُطِيعٌ وَإِنَّمَا الصَّادِرُ مِنْ دَاوُد قَوْلُهُ لِأُورْيَا تَلْوِيحًا انْزِلْ لِي عَنْ امْرَأَتِك أَيْ طَلِّقْهَا وَأَكْفِلْنِيهَا أَيْ أَعْطِنِيهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِ فَأَنْكَرَهُ تَعَالَى لِكَوْنِهِ شَغْلًا بِالدُّنْيَا وَتَرْكًا لِلْأَوْلَى وَقِيلَ: خَطَبَهَا عَلَى خِطْبَتِهِ وَقِيلَ: هُوَ مَحَبَّةُ الْقَلْبِ فَقَطْ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ دَاوُد أَرْسَلَ أوريا فِي الْمَهَالِكِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِيُقْتَلَ فَيَتَزَوَّجُ زَوْجَتَهُ لَا يَصْدُرُ مِنْ أَهْلِ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ بَعْضِ أَعْلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَمَّا قِصَّةُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِخْوَتِهِ فَلَيْسَ عَلَى يُوسُفَ تَعَقُّبٌ وَلَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّةُ إخْوَتِهِ بَلْ هُمْ صِغَارٌ عِنْدَ هَذَا الْوَقْتِ وقَوْله تَعَالَى - {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]- الْهَمُّ عِنْدَ كَثِيرٍ لَيْسَ فِيهِ مُؤَاخَذَةٌ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» وَالتَّحْقِيقُ إنْ تَوَطَّنَ الْهَمُّ فِي النَّفْسِ فَسَيِّئَةٌ وَإِلَّا فَلَا. وَهَمُّ يُوسُفَ مِنْ عَدَمِ التَّوَطُّنِ وَقَوْلُهُ - {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]- أَيْ مِنْ هَذَا الْهَمِّ أَوْ لِلتَّوَاضُعِ أَوْ الِاعْتِرَافِ لِتَزْكِيَتِهِ قِيلَ: لِعَدَمِ صُدُورِ الْهَمِّ كَمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَمَّا خَبَرُ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ قَتِيلِهِ وَوَكْزِهِ فَقَبْلُ النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْقَتْلَ بَلْ أَرَادَ دَفْعَ ظُلْمِهِ وَقَوْلُهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَقَوْلُهُ ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ بِلَا إذْنٍ وَأَمْرٍ وَقَوْلُهُ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] الْمُرَادُ ابْتِلَاؤُهُ مَعَ فِرْعَوْنَ أَوْ إلْقَاؤُهُ فِي التَّابُوتِ وَالْيَمِّ أَيْ الْبَحْرِ وَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جَاءَهُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا» الْحَدِيثَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ مَلَكًا وَقَدْ أَرَادَ إهْلَاكَهُ عَلَى صُورَةِ إنْسَانٍ ثُمَّ بَعْدَ عِلْمِهِ اسْتَسْلَمَهُ وَهَذَا أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ وَأَمَّا قِصَّةُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا حُكِيَ مِنْ ذَنْبِهِ وَقَوْلُهُ - {وَلَقَدْ فَتَنَّا} [ص: 34]- أَيْ ابْتَلَيْنَاهُ وَابْتِلَاؤُهُ مَا حُكِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ» فَقِيلَ: الشِّقُّ الْجَسَدُ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ وَهِيَ عُقُوبَةٌ وَمِحْنَةٌ وَقِيلَ: ذَنْبُهُ حِرْصُهُ عَلَى جِنْسِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْكَامِلَ لَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: عَدَمُ اسْتِثْنَائِهِ وَقِيلَ: عُقُوبَتُهُ سَلْبُ مُلْكِهِ وَذَنْبُهُ مَحَبَّتُهُ كَوْنَ الْحَقِّ لِأَصْهَارِهِ عَلَى خَصْمِهِمْ وَقِيلَ: أُخِذَ بِذَنْبٍ اكْتَسَبَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ بِغَيْرِ اطِّلَاعِهِ وَرُدَّ بِعَدَمِ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبِ الْغَيْرِ وَدُفِعَ بِجَوَازِ تَقْصِيرِهِ فِي أَمْرِهِنَّ بِنَحْوِ تَأْخِيرِ صَلَاةٍ أَوْ نِيَاحَةٍ مَكْرُوهَةٍ لَا نَحْوَ فِعْلِ فَاحِشَةٍ وَإِلَّا فَسَبٌّ وَأَذِيَّةٌ وَمُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] . وَحُكِيَ عَنْ الْأَنْطَاكِيِّ أَنَّ الشَّيَاطِينَ مَثَّلُوا لِبَعْضِ نِسْوَانِهِ صُورَةَ أَبِيهَا فَعَبَدَتْهَا فَأُخْبِرَ فَكَسَرَ الصُّورَةَ وَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى فَلَاةٍ تَائِبًا وَلَا يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الْأَخْبَارِيُّونَ مِنْ تَشْبِيهِ الشَّيْطَانِ وَتَسَلُّطِهِ عَلَى مُلْكِهِ وَالْجَوْرِ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّسَلُّطِ الشَّيْطَانِيِّ وَقَوْلُهُ - {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]- لَيْسَ لِغِيرَةِ الدُّنْيَا بَلْ لِعَدَمِ تَسَلُّطِ أَحَدٍ عَلَيْهِ أَوْ لِيَكُونَ لَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ كَمَا يَكُونَ لِكُلِّ نَبِيٍّ خَاصَّةً كَلِينِ الْحَدِيدِ لِأَبِيهِ دَاوُد وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَإِلا تَغْفِرْ لِي} [هود: 47]- الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] فَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ ذَنْبٍ وَطَلَبُ ابْنِهِ لِفَهْمِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَأَهْلَكَ} [هود: 40]- مُطْلَقُ الْأَهْلِ أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كُفْرَ ابْنِهِ فَعَاتَبَهُ تَعَالَى فِي هَذَا الطَّلَبِ لِكَوْنِهِ بِلَا إذْنٍ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ ابْنَهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى نَجَاتَهُ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ أَكْثَرَ خَوْفِهِمْ هُوَ خَوْفُ الْعَظَمَةِ وَالْمَهَابَةِ الَّتِي هِيَ مَقَامُ قُوَّةِ الْقُرْبِ وَالْمَعْرِفَةِ وَإِنَّ أَكْثَرَ خَوْفِهِمْ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُبَاحَةِ لِكَوْنِهَا مَيْلًا إلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا الْجِنْسِ يُحْمَلُ اعْتِرَافُ الْأَنْبِيَاءِ بِالذُّنُوبِ وَتَوْبَتُهُمْ وَبُكَاؤُهُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ الْجَهْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ عَقْلًا وَإِجْمَاعًا وَقَبْلَهَا سَمْعًا وَنَقْلًا وَعَنْ الْجَهْلِ فِي الْأُمُورِ التَّبْلِيغِيَّةِ قَطْعًا وَشَرْعًا وَعَقْلًا وَعَنْ الْكَذِبِ وَخُلْفِ الْقَوْلِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ قَصْدًا

وَغَيْرَ قَصْدٍ شَرْعًا وَإِجْمَاعًا نَظَرًا وَبُرْهَانًا وَقَبْلَ النُّبُوَّةِ قَطْعًا وَعَنْ الْكَبَائِرِ إجْمَاعًا وَعَنْ الصَّغَائِرِ تَحْقِيقًا وَعَنْ اسْتِدَامَةِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ تَدْقِيقًا وَاسْتِمْرَارِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ حَالَ غَضَبٍ وَرِضًا وَجِدٍّ وَمَزْحٍ. (وَأَوَّلُهُمْ) أَيْ الْأَنْبِيَاءُ (آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) نُبُوَّتُهُ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ حَتَّى يَكْفُرَ جَاحِدُهَا كَبَعْضِ الْبَرَاهِمَةِ وَكَالسُّمَنِيَّةِ وَأَكْثَرُ الْبَرَاهِمَةِ فِي مُطْلَقِ النُّبُوَّةِ وَبَعْضُ الْبَرَاهِمَةِ يَقْصِرُ النُّبُوَّةَ عَلَى آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَطْ وَالصَّابِئِيَّةَ عَلَى شِيثٍ وَإِدْرِيسَ فَقَطْ وَالْيَهُودُ عَلَى مُوسَى فَقَطْ وَجُمْهُورُ الْيَهُودِ وَالْمَجُوس وَالنَّصَارَى يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْضُ الْيَهُودِ يَقْصِرُ رِسَالَتَهُ عَلَى الْعَرَبِ فَقَطْ (وَآخِرُهُمْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]- «وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» (وَأَفْضَلُهُمْ) لِقَوْلِهِ - {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]- وَقَدْ تَقَدَّمَ (مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا يُعْرَفُ يَقِينًا عَدَدُهُمْ) وَإِنْ عُرِفَ ظَنًّا لِكَوْنِ دَلِيلِهِ خَبَرُ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ وَفِي رِوَايَةٍ مِائَتَا أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مَعَ عَدَمِ مَعْلُومِيَّةِ وُجُودِ شَرَائِطِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْعَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُقْتَصَرَ عَلَى عَدَدٍ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]- وَلَا يُؤْمَنُ فِي ذِكْرِ الْعَدَدِ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ أَوْ يُخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِيهِمْ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ اشْتِمَالِ خَبَرِ الْوَاحِدِ شَرَائِطَ الرِّوَايَةِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ خُصُوصًا إذَا اشْتَمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَةٍ

وَكَانَ الْقَوْلُ بِمُوجِبِهِ مِمَّا يُفْضِي إلَى مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ الْكِتَابِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ. (وَلَا تَبْطُلُ رِسَالَتُهُمْ بِمَوْتِهِمْ) وَلِهَذَا كَانَتْ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةً لَنَا إذَا قَصَّهَا الشَّارِعُ بِلَا نَسْخٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةً لِرَسُولِنَا أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا كَأَبِي مَنْصُورٍ وَأَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْعَزْلَ وَالْإِبْطَالَ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ شَرِيعَةً لِمُتَعَدِّدٍ ابْتِدَاءً وَاسْتِقْلَالًا وَأَنَّ نُبُوَّتَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّتِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّةِ نَبِيٍّ مِنْ بَعْدِهِمْ وَحُجَّتُهُمْ قَائِمَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُمَّتِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَإِنْ انْقَطَعَ تَكَالِيفُهُمْ فَكَمَا أَنَّ النُّبُوَّةَ وَكَذَا الْوِلَايَةُ لَا تَنْعَزِلُ بِالنَّوْمِ فَكَذَا بِالْمَوْتِ وَقِيلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ بُطْلَانُ الرِّسَالَةِ بِالْمَوْتِ وَإِنْ بَقِيَ حُكْمُهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ عَدَمِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ زَمَانَيْنِ وَأَنَّ الرِّسَالَةَ عَرَضٌ وَرُدَّ بِظُهُورِ دَوَامِ بَعْضِ الْأَعْرَاضِ كَالْأَلْوَانِ عَلَى أَنَّ الشَّرْعِيَّاتِ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ الْجَوَاهِرِ، لَعَلَّ الْحَقَّ فِي الْإِيرَادِ أَنَّ مَوْتَهُمْ كَنَوْمِهِمْ فَكَمَا لَا تَبْطُلُ بِالنَّوْمِ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَحَدِيثُ عَدَمِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ كَمَا لَا يَضُرُّ بِالنَّوْمِ لَا يَضُرُّ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ مَوْتَهُمْ صُورِيٌّ بَلْ لَا يَمُوتُونَ أَبَدًا وَلِذَا أَجْسَادُهُمْ الشَّرِيفَةُ لَا تَبْلَى وَقِيلَ: الرِّسَالَةُ قَائِمَةٌ بِأَرْوَاحِهِمْ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فَتَبْقَى بِبَقَائِهَا لَعَلَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَخْذِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَقَاوِيلِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَقَدْ كَانَ الْأَصَحُّ غَيْرَ هَذَا فِي مَحَلِّهِ. (وَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ) الظَّاهِرُ الشُّمُولُ لِلنَّبِيِّ وَالرَّسُولِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهُ التَّفْصِيلِ سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْلِيمُ آدَمَ لَهُمْ الْأَسْمَاءَ وقَوْله تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]- وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ وَأَنَّ طَاعَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى قَهْرِ دَوَاعِي النَّفْسِ أَشَقُّ وَعِبَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مُوجِبِ طِبَاعِهِمْ وَالْأَشَقُّ أَفْضَلُ قَالَ الْخَيَالِيُّ فَإِنْ قُلْت لِلْمَلَائِكَةِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ الْبَشَرِ صِفَاتٌ فَاضِلَةٌ يَضْمَحِلُّ فَضْلُ الْعَمَلِ فِي حَقِّهَا قُلْت: هَذَا الِادِّعَاءُ مِمَّا لَمْ يُقْبَلْ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعِنْدَ بَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ أَرْوَاحٌ مُجَرَّدَةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنْ مَوَادِّ الشُّرُورِ كَظُلُمَاتِ الْهُيُولِيِّ قَوِيَّةٌ عَلَى الْأَفْعَالِ الْعَجِيبَةِ وَلِأَنَّهُمْ مُعَلِّمُو الْأَنْبِيَاءِ وَلِإِطْرَادِ الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} [البقرة: 285] الْآيَةَ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] فَإِنَّ

أَهْلَ اللِّسَانِ يَفْهَمُ مِنْهُ التَّرَقِّي عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْجَوَابُ عَنْ الْكُلِّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ) تَعَالَى يَسْتَغْرِقُونَ بِعِبَادَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ لَا أَبْنَاؤُهُ كَمَا زَعَمَ الْكَفَرَةُ (مُكَرَّمُونَ) لِأَنَّهُمْ كِرَامٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ (وَلَا يَسْبِقُونَهُ) تَعَالَى (بِالْقَوْلِ) يَعْنِي لَا يَتَجَاوَزُونَ أَمْرَهُ فَقَوْلُهُ (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) كَالتَّفْسِيرِ لَهُ وَيَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ إذْ مَفْهُومُ كُلٍّ يُؤَكِّدُ مَنْطُوقَ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ (وَلَا يُوصَفُونَ بِمَعْصِيَةٍ) كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ كَالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي الشِّفَاءِ وَاتَّفَقُوا أَنَّ حُكْمَ مُرْسَلِيهِمْ حُكْمُ النَّبِيِّينَ فِي الْعِصْمَةِ. وَأَمَّا فِي غَيْرِ مُرْسَلِيهِمْ فَقِيلَ: بِعِصْمَتِهِمْ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6]- {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165] {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 166]- و {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16] وَقِيلَ: بِجَوَازِ ذَلِكَ وَالصَّوَابُ عِصْمَةُ الْجَمِيعِ فَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ مِنْ تَرْجِيحِ كَوْنِ إبْلِيسَ مِنْ الْمَلَكِ وَمَا فِي بَحْرِ النَّسَفِيِّ مِنْ أَنَّهُ فِي الْمَلَائِكَةِ كَافِرٌ مُعَذَّبٌ كَإِبْلِيسَ وَعَاصٍ غَيْرُ كَافِرٍ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ خِلَافُ الصَّوَابِ. قَالَ الدَّوَانِيُّ الْأَكْثَرُ أَنَّ إبْلِيسَ لَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى - {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]- وَأَسَانِيدُ قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ لَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. وَقَالَ فِي الشِّفَاءِ لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ لَا صَحِيحٌ وَلَا سَقِيمٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَمْرٌ يُعْلَمُ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَإِنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ وَالتَّعْذِيبُ الْمَفْهُومُ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاتَبَةِ كَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى السَّهْوِ وَتَعْلِيمِ السِّحْرِ لَيْسَ بِكُفْرٍ كَاعْتِقَادِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ وَهُوَ تَفْرِيقُ مُعْجِزَةِ النَّبِيِّ عَنْ سِحْرِ الْمُتَنَبِّي لِشُيُوعِ السِّحْرِ بَيْنَهُمْ، فَقِصَّةُ الزُّهْرَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُحَالًا فِي الْعَقْلِ مَأْخُوذَةٌ عَنْ الْيَهُودِ (وَلَا بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ) إذْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ نَقْلٌ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى مُقَدِّمَةِ كُلِّ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ يَجِبُ نَفْيُهُ وَهَذَا وَإِنْ جَائِزًا فِي فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ لَكِنْ. قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ وَقُوَّتِهِ وَأَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ سَمْعًا وَعَقْلًا كَمَا يَجْرِي فِي جَانِبِ النَّفْيِ يَجْرِي فِي جَانِبِ إثْبَاتِهِ وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ وَالتَّكْوِينِ لَا مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ وَالتَّوْلِيدِ (وَلَا) يُوصَفُونَ (بِأَكْلٍ وَلَا بِشُرْبٍ وَلَوَازِمِهِمَا) مِنْ الْبَوْلِ وَالتَّغَوُّطِ وَالْمُخَاطِ وَالرِّيحِ وَنَحْوِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ بَلْ السَّقَمِ.

وَالضَّعْفِ وَإِنَّمَا قُوتُهُمْ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ عَنْ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «إنَّ طَعَامَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ الدَّجَّالِ طَعَامُ الْمَلَائِكَةِ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ يَوْمَئِذٍ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْجُوعَ» (وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ) أَيْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِمْ فِي تَبْلِيغِ أَحْكَامِهِ إلَيْهِمْ أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْإِنْسِ مِنْ حَدِيثِ التَّدْبِيرِ لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي السُّعُودِ أَنَّ مُدَبِّرَ الْأُمُورِ غَيْرُ الْمُقَرَّبِينَ حَيْثُ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شَأْنُهُمْ الِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ وَهُمْ الْقَلِيلُونَ الْمُقَرَّبُونَ، وَقِسْمٌ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ حَسْبَمَا جَرَى عَلَيْهِ قَلَمُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَهُمْ الْمُدَبِّرَاتُ أَمْرًا وَمِنْهُمْ سَمَاوِيَّةٌ وَمِنْهُمْ أَرْضِيَّةٌ وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ (أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ) هُمْ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَلَوْ أَوْلِيَاءَ وَصِدِّيقِينَ وَشُهَدَاءَ (الَّذِينَ هُمْ) وَصْفٌ لِعَامَّةِ الْبَشَرِ (أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْمَلَائِكَةِ) كَالْحَفَظَةِ وَالْمُوَكَّلِينَ بِالْأَرْزَاقِ وَالْأَمْطَارِ وَقَيَّدَ عَامَّةَ الْبَشَرِ فِي التتارخانية بِالْمُتَّقِينَ وَعِنْدَ بَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ عَامَّةُ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ كَرُسُلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى رُسُلِ الْبَشَرِ وَعَنْ شَرْحِ الصَّحَائِفِ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِحَسَبِ نَفْسِهِ النَّاطِقَةِ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ فَأَفْعَالُهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ كَأَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ إذَا صَفَا عَنْ الْكُدُورَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَبِحَسَبِ بَدَنِهِ آلَةٌ لِاكْتِسَابِ الْكَمَالَاتِ فَكَمَالُهُ بِصُدُورِهِ مَعَ الْعَوَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ وَمَنْعُ الْأَضْدَادِ الْعُنْصُرِيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ كَمَالِ الْمَلَائِكَةِ لِخُلُوِّهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الشَّوَائِبِ. (وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ) جَمْعُ وَلِيٍّ مِنْ الْوِلَايَةِ إمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ بِمَعْنَى الْمَنْصُورِ لِنُصْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ بِدَوَامِ الطَّاعَاتِ أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِنُصْرَتِهِ نَفْسَهُ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ أَوْ مِنْ الْوَلِيِّ بِمَعْنَى الْقُرْبِ أَوْ ضِدِّ الْعَدُوِّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَالْعَلِيمِ بِمَعْنَى مَنْ تَوَالَتْ طَاعَاتُهُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ مَعْصِيَةٍ أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْجَرِيحِ لِكَوْنِهِ مَحْفُوظًا دَائِمًا بِطَاعَتِهِ تَعَالَى وَالْوَلِيُّ هُنَا إنْسَانٌ عَارِفٌ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ حَسْبَمَا مَا يُمْكِنُ الْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنِبُ عَنْ الْمَعَاصِي الْمُعْرِضُ عَنْ الِانْهِمَاكِ فِي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ اعْلَمْ أَنَّ الْخَوَارِقَ ثَمَانِيَةٌ مُعْجِزَةٌ وَكَرَامَةٌ وَإِعَانَةٌ وَإِهَانَةٌ وَسِحْرٌ وَابْتِلَاءٌ وَإِصَابَةُ عَيْنٍ وَإِرْهَاصٌ وَالْكَرَامَةُ أَمْرُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ يَظْهَرُ عَلَى يَدِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي الْعَارِفِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ الْمُتَوَجِّهِ بِكُلِّيَّةِ قَلْبِهِ إلَى جَنَابِ قُدْسِهِ غَيْرَ مَقْرُونٍ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَفَوَائِدُ الْقُيُودِ غَيْرُ خَافِيَةٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنَّا وَالْمُعْتَزِلَةُ يُنْكِرُونَ الْكَرَامَاتِ لِلُزُومِ الِاشْتِبَاهِ بِالْمُعْجِزَةِ فَيَنْسَدُّ بَابُ إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَرُدَّ بِأَنَّهَا تَمْتَازُ بِعَدَمِ مُقَارَنَةِ التَّحَدِّي وَبِأَنَّهَا مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ وَمِنْ فُرُوقِهِمَا أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ مَأْمُورٌ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ دُونَ الْوَلِيِّ بَلْ يَجِبُ سَتْرُهَا وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ يَقْطَعُ صَاحِبُهَا بِكَوْنِهَا مُعْجِزَةً دُونَ الْكَرَامَةِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا مَكْرًا وَقِيلَ: شَرَائِطُ الْمُعْجِزَةِ كُلًّا أَوْ كَثْرَةً شَرَائِطُ لِلْكَرَامَةِ إلَّا دَعْوَى النُّبُوَّةِ ثُمَّ الْكَرَامَةُ قَدْ تَكُونُ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا وَقَدْ تَكُونُ إلْجَائِيًّا وَلَا يَجُوزُ إظْهَارُهَا بِاخْتِيَارِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهَا وَهَلْ يَجُوزُ عِلْمُ الْوَلِيِّ بِكَوْنِهِ وَلِيًّا قِيلَ: لَا لِاسْتِلْزَامِ الْأَمْنِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ الْأَصَحُّ نَعَمْ لِبَقَاءِ خَوْفِ الْخَاتِمَةِ وَخَوْفِ الْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ وَقِيلَ: بِبَقَاءِ الْكَرَامَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ الِانْعِزَالِ عَنْ الْوِلَايَةِ بِالْمَوْتِ كَالنَّبِيِّ. وَقِيلَ: لَا لِظَاهِرِ نَحْوِ حَدِيثِ «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثُ نُقِلَ عَنْ الزَّيْلَعِيِّ وَيَجُوزُ التَّوَسُّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِغَاثَةُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ وَالْكَرَامَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِمْ وَعَنْ الرَّمْلِيِّ أَيْضًا بِعَدَمِ انْقِطَاعِ الْكَرَامَةِ بِالْمَوْتِ وَعَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَلَا يُنْكِرُ الْكَرَامَةَ وَلَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَّا رَافِضِيٌّ وَعَنْ الْأُجْهُورِيِّ الْوَلِيُّ فِي الدُّنْيَا كَالسَّيْفِ فِي غِمْدِهِ فَإِذَا مَاتَ تَجَرَّدَ مِنْهُ فَيَكُونُ أَقْوَى فِي التَّصَرُّفِ كَذَا نُقِلَ عَنْ نُورِ الْهِدَايَةِ لِأَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ (حَقٌّ)

لِثُبُوتِهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْحِكَايَاتِ أَمَّا الْكِتَابُ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ آصَفِ بْنِ بَرْخِيَا - {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40]- أَحْضَرَ عَرْشَ بِلْقِيسَ مِنْ مَسَافَةٍ كَثِيرَةٍ قَبْلَ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (مِنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِي الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ) وَلِإِمْكَانِ ذَلِكَ. قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي وَجْهِ ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِ غَرْبِيَّةٍ كَانَ زَوْجُهَا شَرْقِيًّا لِثُبُوتِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ عَنْ الزَّعْفَرَانِيِّ وَهُوَ يَحْكِي عَنْ ابْنِ مُقَاتِلٍ مِنْ كُفْرِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ رُئِيَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِالْكُوفَةِ وَبِمَكَّةَ لَكِنَّهُ عِنْدِي لَيْسَ بِكُفْرٍ بَلْ جَهْلٌ وَكُفْرٌ أَيْضًا مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ إذْ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مُعْجِزَاتِ الْكِبَارِ مُخْتَصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ فَلَوْ جَازَ لِغَيْرِهِمْ لَمْ يَبْقَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ فَلَيْسَ بِمَرْضِيٍّ مُطْلَقًا لِمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ فِي كَلَامِ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى مَا يَدُلُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ. وَأَيْضًا فِي صُرَّةِ الْفَتَاوَى الْإِنْصَافُ مَا ذَكَرَهُ النَّسَفِيُّ حِينَ سُئِلَ عَمَّا يُحْكَى أَنَّ الْكَعْبَةَ تَزُورُ وَاحِدًا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَقَالَ نَقْضُ الْعَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَامَةِ لِأَهْلِ الْوِلَايَةِ جَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْمَقَاصِدِ انْتَهَى وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ زِيَارَةَ الْكَعْبَةِ مَعَ كَوْنِهَا أَعْظَمَ إذَا جَازَ فَبِالْأَوْلَى فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ وَأَقُولُ إنَّ كَرَامَةَ الْوَلِيِّ مُعْجِزَةٌ لِنَبِيِّهِ وَإِنَّ السَّابِقَ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّهُ لَا تُوجِبُ الْعَظَمَةُ فِي الْخَارِقِ التَّفَوُّقَ فِي الْفَضْلِ وَالسَّبَقِيَّةَ فِي الشَّرَفِ لَعَلَّ وَجْهَ الْإِكْفَارِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ مَزِيَّةَ رُتْبَةِ هَذَا الْوَلِيِّ عَلَى النَّبِيِّ كَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ جُهَلَاءِ الصُّوفِيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنْ فَتَاوَى ابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فِي بَلْدَةٍ وَكَانَ صَاحِبَ خُطْوَةٍ فَحَضَرَ مَطْلَعًا آخَرَ لَمْ تَغْرُبْ فِيهِ بَعْدَمَا صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْبَلَدِ الْأَوَّلِ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا (وَظُهُورِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) كَمَا فِي قِصَّة مَرْيَمَ - {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37]- الْآيَةَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ فِي النُّبُوَّةِ فَلَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ. وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ قَالَ لِي رَاهِبٌ هَاتِ مَا عِنْدَك فَقَدْ جُعْنَا فَقُلْت: إلَهِي لَا تَفْضَحْنِي مَعَ هَذَا الْكَافِرِ فَرَأَيْت طَبَقًا عَلَيْهِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَشِوَاءٌ وَرُطَبٌ وَكُوزٌ فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا وَمَشَيْنَا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: يَا رَاهِبُ هَاتِ مَا عِنْدَكَ انْتَهَتْ النَّوْبَةُ إلَيْكَ فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ وَدَعَا فَإِذَا بِطَبَقَيْنِ عَلَيْهِمَا أَضْعَافُ مَا كَانَ عَلَى طَبَقِي فَتَحَيَّرْتُ وَتَغَيَّرْتُ وَأَبَيْتُ أَنْ آكُلَ فَأَلَحَّ عَلَيَّ وَلَمْ أُجِبْهُ فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي أُبَشِّرُكَ بِبِشَارَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَحَلَّ الزُّنَّارَ وَالْأُخْرَى إنِّي قُلْتُ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ خَطِيرًا عِنْدَكَ فَافْتَحْ عَلَيَّ بِهَذَا فَفَتَحَ قَالَ فَأَكَلْنَا وَمَشَيْنَا وَحَجَّ ثُمَّ مَاتَ فِي مَكَّةَ. (وَاللِّبَاسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ) وَعَنْ ابْنِ بَشْكُوَالٍ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ رَأَى جَعْفَرًا الصَّادِقَ صَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَاسْتَغَاثَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرَى فَنَزَلَتْ سَلَّةٌ فِيهَا عِنَبٌ وَدَرَجَانِ مِنْ الْقَمِيصِ (وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ) قِيلَ: كَمَا

نُقِلَ عَنْ جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ وَلُقْمَانَ السَّرَخْسِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَيُقِرُّ بِهِ مَا فِي الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْوَاسِطِيِّ قَالَ: انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ وَبَقِيت أَنَا وَامْرَأَتِي عَلَى لَوْحٍ وَقَدْ وَلَدَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ صَبِيَّةً فَصَاحَتْ بِي وَقَالَتْ: يَقْتُلُنِي الْعَطَشُ فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْهَوَاءِ جَالِسٌ وَفِي يَدِهِ سِلْسِلَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِيهَا كُوزٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ وَقَالَ: هَاكِ اشْرَبَا قَالَ: فَأَخَذْت الْكُوزَ وَشَرِبْنَا مِنْهُ فَإِذَا هُوَ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَأَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ عَبْدٌ لِمَوْلَاكَ فَقُلْت: بِمَ وَصَلْت إلَى هَذَا؟ فَقَالَ: تَرَكْت هَوَايَ لِمَرْضَاتِهِ فَأَجْلَسَنِي فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ غَابَ عَنِّي (وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ) كَبِشْرٍ الْحَافِيِّ يَعْبُرُ عَلَى الدِّجْلَةِ وَيَضَعُ سَجَّادَتَهُ وَيُصَلِّي عَلَيْهَا كَمَا فِي الْقُشَيْرِيِّ أَيْضًا. (وَكَلَامِ الْجَمَادِ وَالْعَجْمَاءِ) كَالْبَهِيمَةِ وَالطَّيْرِ وَكَتَسْبِيحِ الْقَصْعَةِ بَيْنَ يَدَيْ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ وَكَتَكَلُّمِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَكَشِكَايَةِ بَقَرَةٍ حُمِلَ عَلَيْهَا حِمْلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا إنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِرَسُولِهَا مُعْجِزَةً) مِنْ الْخَوَارِقِ لِلْأَوْلِيَاءِ كَرُؤْيَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ بِنَهَاوَنْدَ وَقَدْ هَجَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ فَقَالَ: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ الْجَبَلَ وَسَمِعَ سَارِيَةُ كَلَامَهُ وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَكَجَرَيَانِ النِّيلِ بِكِتَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْكِتَابَةُ " إنْ كُنْت تَجْرِي بِأَمْرِك فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِك وَإِنْ كُنْت تَجْرِي بِأَمْرِ اللَّهِ فَاجْرِ " فَلَمَّا أَلْقَى إلَيْهِ الْمَكْتُوبَ جَرَى بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْآنِ وَكَإِلْصَاقِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَدَ الْأَسْوَدِ الَّذِي قُطِعَتْ يَدُهُ فَالْتَصَقَتْ وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ. وَقِيلَ: أَرَادَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ فَأَبَوْا إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُمْ دِينَارًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّهُمْ قَدْ سَأَلُونِي مَا لَيْسَ عِنْدِي فَصَارَ الرَّمْلُ دَنَانِيرَ. وَقِيلَ: إنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ بِالْبَصْرَةِ فَاشْتَرَى حَبِيبٌ الْعَجَمِيُّ طَعَامًا بِالنَّسِيئَةِ وَفَرَّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَخَاطَ كِيسًا وَجَعَلَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَلَمَّا جَاءُوا يَتَقَاضَوْنَهُ أَخَذَهُ فَإِذَا هُوَ مَمْلُوءٌ دَرَاهِمُ فَقَضَى مِنْهَا دُيُونَهُمْ. وَعَنْ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ شَكَا أَصْحَابُهُ مِنْ الْعَطَشِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَإِذَا عَيْنٌ مِنْ زُلَالٍ وَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَنَاوَلَتْهُ قَدَحًا مِنْ زُجَاجٍ أَبْيَضَ وَمَا زَالَ الْقَدَحُ مَعَنَا إلَى مَكَّةَ. وَفِي حَلِّ الرُّمُوزِ تَكَلَّمَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ يَوْمًا فِي الذِّكْرِ فَقَالَ إنَّ ذَاكِرَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَوْ هَمَّ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى لَفَعَلَ وَمَسَحَ يَدَهُ عَلَى عَلِيلٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَبَرِئَ. وَمِنْ الْكَرَامَاتِ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: دَخَلْت الدَّارَ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ دَخَلْت بِغَيْرِ إذْنِي فَقَالَ أَخُوك الْخَضِرُ فَقُلْت لَهُ اُدْعُ اللَّهَ لِي فَقَالَ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْك طَاعَتَهُ فَقُلْت زِدْنِي فَقَالَ وَيَسَّرَهَا عَلَيْك. وَمِنْهَا: أَنَّ فُضَيْلًا كَانَ عَلَى جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ هَذَا الْجَبَلَ أَنْ يَمِيدَ لَمَادَ فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ فَقَالَ اُسْكُنْ لَمْ أُرِدْك بِهَذَا فَسَكَنَ الْجَبَلُ وَمِنْهَا: أَنَّ جَابِرًا الرَّحَبِيَّ قَالَ إنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الرَّحْبَةِ عَلَى إنْكَارِ الْكَرَامَاتِ فَرَكِبْت الْأَسَدَ يَوْمًا وَدَخَلْت الرَّحْبَةَ وَقُلْت أَيْنَ الَّذِينَ

يُكَذِّبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَمِنْهَا أَنَّ حَبِيبًا الْعَجَمِيَّ يُرَى بِالْبَصْرَةِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيُرَى يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْكِتَّانِيَّ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ رَجُلٌ وَقَالَ: يَا شَيْخُ لِمَ لَا تَجْلِسْ مَجْلِسَ مَنْ يَرْوِي الْأَحَادِيثَ، قُلْت عَمَّنْ يَرْوِي؟ قَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت إنَّ قَلْبِي يُحَدِّثُنِي عَنْ رَبِّي، فَقَالَ الرَّجُلُ لَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ. قَالَ الشَّيْخُ حُجَّتِي هِيَ أَنْتَ الْخَضِرُ. قَالَ الْخَضِرُ: فَعَلِمْت أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا أَعْرِفُهُمْ فَإِنَّهُ عَرَفَنِي وَمَا أَنَا عَرَفْتُهُ وَمِنْهَا: أَنَّ إبْرَاهِيمَ الرَّقِّيِّ قَالَ: قَصَدْت التِّبْيَانِيَّ مُسَلِّمًا عَلَيْهِ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ لَكِنْ لَا كَمَا يَنْبَغِي فَقُلْت فِي نَفْسِي ضَاعَ سَفَرِي فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ خَرَجْت لِلطَّهَارَةِ فَقَصَدَنِي سَبُعٌ فَفَرَرْت إلَيْهِ وَقُلْت لَهُ قَصَدَنِي الْأَسَدُ فَخَرَجَ وَصَاحَ عَلَى الْأَسَدِ قَائِلًا أَلَمْ أَقُلْ لَا تَتَعَرَّضْ لِضِيفَانِي فَتَمَلَّقَ لَهُ الْأَسَدُ وَتَنَحَّى عَنْ الطَّرِيقِ ثُمَّ تَطَهَّرْت وَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ اشْتَغَلْتُمْ بِتَقْوِيمِ الظَّاهِرِ فَخِفْتُمْ الْأَسَدَ وَنَحْنُ اشْتَغَلْنَا بِتَقْوِيمِ الْقَلْبِ فَخِفْنَا الْأَسَدَ لَا يَخْفَى مَا فِيهَا مِنْ الْمَحْمَلِ الصَّحِيحِ وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَالَ: حَمَلْت إلَى رَجُلٍ فَقِيرٍ أَسْوَدَ يَسْكُنُ فِي خَرِبَةِ الْجِدَارِ فِي عَبَّادَانِ شَيْئًا فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيَّ بَصَرُهُ تَبَسَّمَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ فَرَأَيْت الْأَرْضَ كُلَّهَا ذَهَبًا تَلْمَعُ ثُمَّ قَالَ هَاتِ مَا مَعَك فَنَاوَلْتُهُ وَهَالَنِي أَمْرُهُ فَفَرَرْت وَمِنْهَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ أَيْضًا. وَفِي الْمُنَاوِيِّ الْكَبِيرِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قِيلَ: كَانَ لِجَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ فَصٌّ فَوَقَعَ يَوْمًا فِي الدِّجْلَةِ وَكَانَ عِنْدَهُ دُعَاءٌ مُجَرَّبٌ لِلضَّالَّةِ فَدَعَا بِهِ فَوَجَدَ الْفَصَّ فِي وَسَطِ أَوْرَاقٍ عِنْدَ أَبِي نَصْرٍ السِّرَاجِ وَالدُّعَاءُ يَا جَامِعَ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ اجْمَعْ عَلَيَّ ضَالَّتِي وَمِنْهَا: هَجَمَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ أَسَدٌ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشَيْبَانَ الرَّاعِي فَقَالَ سُفْيَانُ أَمَا تَرَى هَذَا السَّبُعَ فَقَالَ: لَا تَخَفْ فَأَخَذَ شَيْبَانُ رَأْسَهُ فَعَرَكَهَا فَبَصْبَصَ وَحَرَّكَ ذَنَبَهُ فَقَالَ سُفْيَانُ مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ فَقَالَ: لَوْلَا مَخَافَةُ الشُّهْرَةِ لَوَضَعْت زَادِي عَلَى ظَهْرِهِ إلَى مَكَّةَ عَامَّةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ كَمَا أُشِيرُ وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ فَصْلِ الْخِطَابِ لِخَوَاجَهْ مُحَمَّدٍ بَارْسَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ تَلَامِذَةِ حَضْرَةِ الْجُنَيْدِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - يَدْخُلُ الدِّجْلَةَ لِأَجْلِ الْغُسْلِ فَيَرَى نَفْسَهُ فِي دِيَارِ الْهِنْدِ فَيَتَزَوَّجُ وَيَحْصُلُ لَهُ أَوْلَادٌ فَيَدْخُلُ الْمَاءَ مَرَّةً أُخْرَى فَيَجِدُ نَفْسَهُ فِي سَاحِلِ الدِّجْلَةِ فَيَلْبَسُ ثِيَابَهُ وَيَجِيءُ زَاوِيَتَهُ وَأَصْحَابُهُ يَتَوَضَّئُونَ الْوُضُوءَ. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ السَّمْنَانِيِّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - قَالَ: أَكْثَرُ أَوْقَاتِي يَمُرُّ عَلَيَّ إنِّي بَعْدَ أَدَاءِ أَوْرَادِي بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ أَتَوَجَّهُ وَأَنْخَلِعُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ دَاخِلًا فِي عَالَمٍ آخَرَ وَأَكُونُ فِيهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً مُتَعَبِّدًا وَمُسْتَغْرِقًا فِي عِبَادَتِهِ تَعَالَى كُلُّ سَنَتِهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا أُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمِهَا خَمْسًا وَأَصُومُ شَهْرًا فِي كُلِّ سَنَتِهَا فَعِنْدَ فَرَاغِي مِنْ تَوَجُّهِي أَرْفَعُ رَأْسِي فَالشَّمْسُ إمَّا طَالِعَةٌ أَوْ يَكُونُ وَقْتَ الْإِشْرَاقِ وَفَهْمُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُمْكِنُ إلَّا لِأَهْلِ الْبَاطِنِ كَمِعْرَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ خَوَاجَهْ مُحَمَّدٌ بَارْسَا فَعِنْدَ وُصُولِ السَّالِكِ إلَى هَذَا يَعْبُدُ اللَّهَ فِي نَفَسٍ مِقْدَارَ أَلْفِ سَنَةٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ بِالتَّجْوِيدِ وَالتَّرْتِيلِ مَا بَيْنَ وَضْعِ قَدَمَيْهِ فِي الرِّكَابِ. وَفِي مَجَالِسِ الرُّومِيِّ: لَدَغَ عَقْرَبٌ جَبِينَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ فَقَصَدَ التَّلَامِذَةُ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُمْ لِتَجْرِبَةِ أَنَّهُ هَلْ هُوَ مِنْ مِصْدَاقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لُحُومُ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ» فَضَعُفَ سَاعَةً فَسَاعَةً حَتَّى مَاتَ حُكِيَ أَنَّ خُلَفَاءَ بَغْدَادَ يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ الرُّومِ فَجَمَعَ قَيْصَرُ عُلَمَاءَهُ فَاسْتَشَارَ مَعَهُمْ فَأَرْسَلَ إلَى بَغْدَادَ فَلْتَتَبَاحَثُ عُلَمَاؤُنَا مَعَ عُلَمَائِكُمْ فَإِنْ غَلَبْنَا فَاعْطُوَا لَنَا الْجِزْيَةَ وَإِلَّا فَنَحْنُ عَلَى الرَّسْمِ الْقَدِيمِ فَجَمَعَ أَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ أَحْبَارِهِمْ فَأَرْسَلَهُمْ وَأَنْزَلَهُمْ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ الدِّجْلَةِ فَبَعْدَ اسْتِرَاحَتِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَلَسَ عُلَمَاءُ الرُّومِ بِطَرَفٍ وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِطَرَفٍ فَتَبَاحَثُوا فَكَثُرَ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَرُفِعَ الصِّيَاحُ وَالْأَصْوَاتُ إلَى أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فَنَادَى الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنْ اخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْ أَعْلَمِكُمْ لِوَاحِدٍ مِنَّا لِيَسْتَمِعَ الْبَوَاقِي وَلَمْ يُمْكِنْ أَيْضًا فَقَامَ الشَّافِعِيُّ وَرَفَعَ سَجَّادَتَهُ عَلَى كَتِفِهِ قَائِلًا فَلْيَحْضُرْ أَحَدُكُمْ حَتَّى نَتَكَلَّمَ مُنْفَرِدًا وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ وَبَسَطَ سَجَّادَتَهُ عَلَيْهِ وَقَعَدَ عَلَيْهَا فَتَحَيَّرُوا وَفِيهِمْ رُهْبَانٌ مُرْتَاضٌ يَدَّعِي الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيَ عَلَى الْمَاءِ

فَكَلَّفُوهُ عَلَيْهِ وَقَامَ وَمَشَى عَلَيْهِ خُطْوَتَيْنِ وَغَرِقَ فِي الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَجِدْهُ الْغَوَّاصُ فَلَمَّا رَآهُ الْأَحْبَارُ أَسْلَمُوا لِلَّهِ فَسَمِعَ قَيْصَرُ وَشَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَنَا لَاضْمَحَلَّ دِينُنَا ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عِصْمَةُ الْوَلِيِّ كَمَا تَجِبُ عِصْمَةُ النَّبِيِّ لَكِنَّ عِصْمَتَهُ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا لَا تَصْدُرُ عَنْهُ زَلَّةٌ أَصْلًا وَلَا امْتِنَاعَ مِنْ صُدُورِهَا وَقِيلَ لِلْجُنَيْدِ هَلْ يَزْنِي الْعَارِفُ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ. وَقَالَ {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] (وَلَا يَبْلُغُ) أَيْ لَا يَصِلُ الْوَلِيُّ (دَرَجَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) قَالَ الْقُشَيْرِيُّ لِلْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ قَالَ مَا حَصَلَ لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمِثْلِ زِقٍّ فِيهِ عَسَلٌ تَرْشَحُ مِنْهُ قَطْرَةٌ فَتِلْكَ الْقَطْرَةُ مِثْلُ مَا لِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا فِي الظَّرْفِ مِثْلُ مَا لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ النَّبِيَّ مَعْصُومٌ عَنْ الذَّنْبِ وَخَوْفِ الْخَاتِمَةِ وَمُكَرَّمٌ بِالْوَحْيِ فَمَا جَوَّزَهُ بَعْضُ الْكَرَّامِيَّةِ مِنْ تَفْضِيلِ الْوَلِيِّ كُفْرٌ نَعَمْ قَدْ يَتَرَدَّدُ بِأَنَّ جِهَةَ الْوِلَايَةِ مِنْ النَّبِيِّ أَفْضَلُ أَوْ جِهَةَ نُبُوَّتِهِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ. وَمَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ بِتَعَلُّمِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ الْخَضِرِ وَلَا شَكَّ فِي فَضْلِ الْمُعَلِّمِ فَأُجِيبُ: أَوَّلًا بِكَوْنِ الْخَضِرِ نَبِيًّا، وَثَانِيًا بِأَنَّهُ ابْتِلَاءٌ لِمُوسَى وَلَوْ سَلِمَ فَيُمْنَعُ فَضْلُ الْمُعَلِّمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ قَدْ يَكُونُ الْمُتَعَلِّمُ أَفْضَلَ، وَثَالِثًا بِمَنْعِ كَوْنِ مُوسَى هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ نَبِيًّا لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَقُولُونَ هُوَ مُوسَى بْنُ مَاثَانَ لَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ (وَلَا) يَصِلُ الْوَلِيُّ أَيْضًا فِي مَقَامِ الْقُرْبِ (إلَى حَيْثُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ) بِالْمَعْرُوفِ (وَالنَّهْيُ) لِعُمُومِ الْخَطَابِيَّاتِ

وَلِلْإِجْمَاعِ وَقَالَ بَعْضُ الْإِبَاحِيِّينَ إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ غَايَةَ الْحُبِّ سَقَطَ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَلَا تُدْخِلُهُ الْكَبِيرَةُ النَّارَ. وَبَعْضُهُمْ ذَهَبَ إلَى سُقُوطِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُ هِيَ التَّفَكُّرُ فَهَذَا كُفْرٌ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَبَعْضُهُمْ ذَهَبَ إلَى إبَاحَةِ نَحْوِ مَالِ الْغَيْرِ وَكُلِّ النِّسَاءِ فَعِنْدَ الِاحْتِيَاجِ يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ مَالِ الْغَيْرِ وَنِسَائِهِ، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ الْإِبَاحَةَ بِنِسْوَةِ الْغَيْرِ، وَبَعْضُهُمْ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ إذَا فَعَلَ الْكَبَائِرَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَبَعْضُهُمْ عَمَّ إلَى كُلِّ مَا اشْتَهَى وَالتَّفْصِيلُ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ. (وَأَفْضَلُهُمْ) أَيْ الْأَوْلِيَاءِ بِمَعْنَى الْأَكْثَرِ ثَوَابًا بِمَا كَسَبَ مِنْ الْخَيْرِ لَا أَنَّهُ أَعْلَمُ وَأَشْرَفُ نَسَبًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يُنَافِي رُجْحَانَ الْغَيْرِ فِي آحَادِ الْفَضَائِلِ الْأُخَرِ وَلَا فِي مَجْمُوعِ الْفَضَائِلِ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ (أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَبِي قُحَافَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاسْمُ أُمِّهِ أُمُّ الْخَيْرِ سَلْمَى بِنْتُ صَخْرٍ مَاتَتْ مُسْلِمَةً وَاسْتُدِلَّ عَلَى فَضْلِهِ فِي الْمَوَاقِفِ بِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: قَوْله تَعَالَى {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17 - 18] وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ فَهُوَ أَتْقَى فَهُوَ أَكْرَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ثَانِيهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» وَالْمُقْتَدَى بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُقْتَدِي. وَثَالِثُهَا: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَى رَجُلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ» . رَابِعُهَا: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ هُمَا سَيِّدَا كُهُولِ الْجَنَّةِ مَا خَلَا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» . خَامِسُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا يَنْبَغِي لِقَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ» . سَادِسُهَا: تَقْدِيمُهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ وَقَوْلُهُ «يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا أَبَا بَكْرٍ» حِينَ تَقَدَّمَ عُمَرُ فِي الصَّلَاةِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. سَابِعُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ» . ثَامِنُهَا: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا دُونَ رَبِّي لَاتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ هُوَ شَرِيكِي فِي دِينِي وَصَاحِبِي الَّذِي أَوْجَبْت لَهُ صُحْبَتِي فِي الْغَارِ وَخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي» . تَاسِعُهَا: «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَأَيْنَ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَصَدَّقَنِي وَآمَنَ وَزَوَّجَنِي ابْنَتَهُ وَجَهَّزَنِي بِمَالِهِ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَجَاهَدَ مَعِي سَاعَةَ الْحُزْنِ» . عَاشِرُهَا قَوْلُ عَلِيٍّ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ وَذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَبَكَى وَقَالَ وَدِدْت أَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ مِثْلُ عَمَلِهِ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِهِ وَلَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيِهِ أَمَّا اللَّيْلَةُ فَلَيْلَةُ الْغَارِ فَدَخَلَ قَبْلَهُ

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَأَنْ يُخَلِّيَ الْمُؤْذِيَاتِ وَشَقَّ أَزَارَهُ وَسَدَّ بِشُقُوقِهِ الثُّقُوبَ فَبَقِيَ ثُقْبَانِ فَأَلْقَمَهُمَا رِجْلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَوَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهِ وَنَامَ فَلُدِغَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِجْلِهِ مِنْ الْحُجْرِ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ فَسَقَطَتْ دُمُوعُهُ عَلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَالَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ قَالَ: لُدِغْتُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي فَتَفَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَهَبَ مَا يَجِدُهُ ثُمَّ انْتَقَضَ عَلَيْهِ قِيلَ: وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ فَارْتَدَّتْ فِيهِ الْعَرَبُ وَامْتَنَعَتْ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَقَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا لَجَاهَدْتُهُمْ عَلَيْهِ فَقُلْت: تَأَلَّفْ وَارْفُقْ بِهِمْ فَقَالَ: أَجَبَّارٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَخَوَّارٌ فِي الْإِسْلَامِ إنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ الْوَحْيُ وَتَمَّ الدِّينُ أَيَنْقُصُ وَأَنَا حَيٌّ. وَزَادَ أَنَسٌ فِي حَدِيثِ الْغَارِ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَبَا بَكْرٍ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اسْتَجَابَ لَكَ» . (ثُمَّ) (عُمَرُ الْفَارُوقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لِكَوْنِهِ فَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِرَأْيِهِ الصَّائِبِ وَلِظُهُورِ الْإِسْلَامِ يَوْمَ إسْلَامِهِ وَلِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» ، أَوْ لِنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى رَأْيِهِ غَالِبًا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمَرُ مَعِي وَأَنَا مَعَهُ وَالْحَقُّ بَعْدِي مَعَ عُمَرَ حَيْثُ كَانَ» ، أَوْ لِقَتْلِهِ مُنَافِقًا لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْمَشَارِقِ عَنْ الْبُخَارِيِّ «قَدْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلِّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ وَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ» وَالْمُكَلِّمُونَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا فِي شَرْحِهِ وَفِيهِ أَيْضًا قِيلَ: لَهُ فَضَائِلُ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ... إلَّا عَلَى أَكْمَهَ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ» . «وَعَنْ عُمَرَ اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةٍ فَأَذِنَ لِي وَقَالَ: لَا تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِك أَوْ قَالَ: أَشْرِكْنَا يَا أَخِي فِي دُعَائِك» وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» . وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَشَدُّ أُمَّتِي فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عُمَرُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي حَدِيثِ «لَوْ كَانَ بَعْدِي» إلَخْ فِيهِ إبَانَةُ مَا فِي عُمَرَ مِنْ فَضْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَرُتْبَةِ قُرْبِهِ مِنْهُمْ. فَلَوْ كَانَتْ النُّبُوَّةُ بِالْأَوْصَافِ الْمُكْتَسَبَةِ لَا بِالْفَضْلِ الْإِلَهِيِّ لَكَانَ نَبِيًّا لِجَمْعِهِ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْأَنْبِيَاءِ كَقُوَّتِهِ فِي دِينِ اللَّهِ وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الدُّنْيَا مَعَ تَمَكُّنِهِ ثُمَّ قَالَ وَخَصَّ عُمَرَ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ إيذَانًا بِأَنَّ النُّبُوَّةَ بِالِاصْطِفَاءِ لَا بِالْأَسْبَابِ ذَكَرَهُ الْكَلَابَاذِيُّ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا وَوَقَعَ لَهُ بَعْدَهُ عِدَّةُ إصَابَاتٍ انْتَهَى. (ثُمَّ) (عُثْمَانُ) كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ذُو النُّورَيْنِ) لِجَمْعِهِ بَيْنَ النُّورَيْنِ بِنْتَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُقَيَّةَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَأُمِّ كُلْثُومٍ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْأُولَى وَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالثَّانِيَةُ لَمْ تَلِدْ لَهُ وَحِينَ مَوْتِهَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ كَانَتْ عِنْدَنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْتُهَا عُثْمَانَ» . وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ «لَوْ كَانَ لِي أَرْبَعُونَ ابْنَةً زَوَّجْتُهُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ» . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيَدْخُلَنَّ بِشَفَاعَةِ عُثْمَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا كُلُّهُمْ قَدْ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ» . وَفِي الْمَشَارِقِ عَلَى تَخْرِيجِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَلَا أَسْتَحْيِي مِمَّنْ تَسْتَحِيُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُ» مِنْهُ يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ. قَالَ شَارِحُهُ: الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِحْيَاءِ التَّوْقِيرُ وَالتَّعْظِيمُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لِكُلِّ نَبِيٍّ خَلِيلٌ فِي أُمَّتِهِ وَإِنَّ خَلِيلِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ أَيْضًا «لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَرَفِيقِي فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» وَعَنْ جَابِرٍ «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجِنَازَةِ رَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَاك تَرَكْت الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ هَذَا قَالَ: إنَّهُ يُبْغِضُ عُثْمَانَ فَأَبْغَضَهُ اللَّهُ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوَّجْت فَاطِمَةَ خَيْرًا مِنْ زَوْجِي قَالَ: زَوَّجْتُك مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ قَالَ: وَأَزِيدُك لَوْ قَدْ دَخَلْت الْجَنَّةَ فَرَأَيْت مَنْزِلَهُ لَمْ تَرِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي يَعْلُوهُ فِي مَنْزِلِهِ» . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «اللَّهُمَّ قَدْ رَضِيت عَنْ عُثْمَانَ فَارْضَ عَنْهُ» (ثُمَّ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى) لِارْتِضَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ خَلِيفَةً فِي الْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ

فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَالَ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» أَوْ لِارْتِضَاءِ النَّبِيِّ أَفْعَالَهُ أَوْ لِأُخُوَّتِهِ وَصُحْبَتِهِ وَفَضَائِلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ الْمَوَاقِفِ بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: آيَةُ الْمُبَاهَلَةِ {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْفُسِ عَلِيٌّ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلِيًّا إلَى هَذَا الْمَقَامِ. ثَانِيهَا: خَبَرُ الطَّيْرِ «حِينَ أُهْدِيَ إلَيْهِ طَائِرٌ مَشْوِيٌّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِك إلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ فَأَتَى عَلِيٌّ وَأَكَلَ مَعَهُ» . ثَالِثُهَا: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الثُّدَيَّةِ يَقْتُلُهُ خَيْرُ الْخَلْقِ» وَقَدْ قَتَلَهُ عَلِيٌّ. رَابِعُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخِي وَوَزِيرِي وَخَيْرُ مَنْ أَتْرُكُهُ بَعْدِي يَقْضِي دَيْنِي وَيُنَجِّزُ وَعْدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ» . خَامِسُهَا: «قَوْلُهُ لِفَاطِمَةَ أَمَا تَرْضِينَ أَنِّي زَوَّجْتُك مِنْ خَيْرِ أُمَّتِي» . سَادِسُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ مَنْ أَتْرُكُهُ بَعْدِي عَلِيٌّ» . سَابِعُهَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ وَسَيِّدُ الْعَرَبِ وَعَلِيٌّ سَيِّدُ الْعَرَبِ» . ثَامِنُهَا: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَاخْتَارَ مِنْهُمْ أَبَاك فَاتَّخَذَهُ نَبِيًّا ثُمَّ اطَّلَعَ ثَانِيَةً وَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَعْلَك» أَيْ زَوْجَك. تَاسِعُهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا آخَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ اتَّخَذَهُ أَخًا لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وَفَضْلِهِ. عَاشِرُهَا: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَمَا بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَى خَيْبَرَ فَرَجَعَا مُنْهَزِمَيْنِ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ الْيَوْمَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَرَّارًا غَيْرَ فَرَّارٍ وَأَعْطَاهَا عَلِيًّا» . حَادِيَ عَشَرَهَا: قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ النَّبِيِّ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] وَالْمُرَادُ بِصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ كَمَا نَقَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. ثَانِيَ عَشَرَهَا: قَوْلُهُ «- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى آدَمَ فِي عِلْمِهِ وَإِلَى نُوحٍ فِي تَقْوَاهُ وَإِلَى إبْرَاهِيمَ فِي حِلْمِهِ وَإِلَى مُوسَى فِي هَيْبَتِهِ وَإِلَى عِيسَى فِي عِبَادَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ» ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَمَالَاتٍ يَكَادُ أَنْ لَا تَجْتَمِعَ فِي غَيْرِهِ نَحْوَ كَوْنِهِ أَعْلَمَ النَّاسِ وَأَحْرَصَهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ وَكَانَ فِي صِغَرِهِ فِي حِجْرِهِ وَفِي كِبَرِهِ خَتَنًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَأَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ نَهَاهُ عَلِيٌّ عَنْ رَجْمِ مَنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَرَجْمِ الْحَامِلَةِ: لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ. وَإِنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَكَذَا الْمُتَصَوِّفَةُ فِي تَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَئِيسُ الْمُفَسِّرِينَ تِلْمِيذُهُ وَعِلْمُهُ وَفَصَاحَتُهُ وَفِقْهُهُ فِي الدَّرَجَةِ الْقُصْوَى، وَأَنَّهُ أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا مَعَ اتِّسَاعِ أَبْوَابِ الدُّنْيَا وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الدُّنْيَا، وَتَخَشَّنَ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ حَتَّى قَالَ لِلدُّنْيَا طَلَّقْتُك ثَلَاثًا وَأَنَّهُ أَكْرَمُ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ حَتَّى يُؤْثِرَ الْمَحَاوِيجَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، حَتَّى تَصَدَّقَ فِي الصَّلَاةِ بِخَاتَمِهِ وَتَصَدَّقَ فِي لَيَالِيِ صِيَامِهِ الْمَنْذُورِ بِمَا كَانَ فُطُورَهُ وَنَزَلَ فِيهِ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] وَأَنَّهُ أَشْجَعُ النَّاسِ فِي الْحُرُوبِ حَتَّى «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْأَحْزَابِ لَضَرْبَةُ عَلِيٍّ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» . وَتَوَاتَرَتْ وَقْعَتُهُ فِي خَيْبَرَ وَغَيْرِهِ وَأَنَّهُ اُشْتُهِرَ حُسْنُ خُلُقِهِ وَمَزِيدُ قُوَّتِهِ فِي بَدَنِهِ حَتَّى قَلَعَ بَابَ خَيْبَرَ بِيَدِهِ «وَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ جَعَلْتَنِي خَلِيفَةً لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» الْحَدِيثَ. «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ شَكَوْا مِنْ عَلِيٍّ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ مَا تُرِيدُونَ عَلِيًّا ثَلَاثًا إنَّ عَلِيًّا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِذًا بِيَدِ عَلِيٍّ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُ وَلِيِّي وَأَنَا وَلِيُّكَ» . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: إنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتَا فِي كِفَّةٍ ثُمَّ وُضِعَ إيمَانُ عَلِيٍّ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ لَرَجَحَ إيمَانُ عَلِيٍّ» وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا مِنِّي أَوْ مِثْلَ نَفْسِي فَلَيَضْرِبَنَّ أَعْنَاقَكُمْ إلَى آخِرِهِ قَالَ عُمَرُ مَا تَمَنَّيْت الْإِمَارَةَ إلَّا يَوْمَئِذٍ فَالْتَفَتَ إلَى عَلِيٍّ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ هُوَ

هَذَا هُوَ هَذَا» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ احْتِضَارِهِ اُدْعُوا إلَيَّ حَبِيبِي فَدَعَوْت لَهُ أَبَا بَكْرٍ فَنَظَرَ إلَيْهِ وَقَالَ اُدْعُوا إلَيَّ حَبِيبِي فَدَعَوْا لَهُ عُمَرَ فَنَظَرَ إلَيْهِ فَقَالَ: اُدْعُوا إلَيَّ حَبِيبِي فَقُلْت: وَيْلُكُمْ اُدْعُوا عَلِيًّا فَلَمَّا رَآهُ أَفْرَدَ الثَّوْبَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلَمْ يَزَلْ مُحْتَضِنَهُ حَتَّى قُبِضَ وَيَدُهُ عَلَيْهِ» . وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ مَنَاقِبَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَارِجَةٌ عَنْ طَوْقِ الْقَلَمِ وَإِحَاطَةِ الْبَيَانِ وَلِهَذَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: الْإِنْصَافُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْأَفْضَلِيَّةِ كَثْرَةُ مَا يَعُدُّهُ ذَوُو الْعُقُولِ مِنْ الْفَضَائِلِ فَلَا يَتَوَقَّفُ فِي أَفْضَلِيَّةِ عَلِيٍّ لَكِنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا جَاءَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْفَضَائِلِ مَا جَاءَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى مَا ذُكِرَ يَلْزَمُ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَى الْكُلِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ. قُلْنَا: قَدْ أُجِيبَ فِي الْمَوَاقِفِ عَنْ أَكْثَرِ مَا ذُكِرَ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ عَلِيٍّ لَكِنَّ الْكَثْرَةَ لَا تُفِيدُ الظَّنَّ فَضْلًا عَنْ الْقَطْعِ وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ أَيْضًا وَالنُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ لِتَعَارُضِهَا لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ مَعَ أَنَّ الْمَطْلَبَ لِكَوْنِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّاتِ لَا مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ يَقِينِيٌّ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ بِأَسْرِهَا آحَادٌ مَعَ كَوْنِهَا مُتَعَارِضَةً وَأَنَّ الثَّوَابَ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَهُ أَنْ لَا يُثِيبَ الْمُطِيعَ وَيُثِيبَ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ لَكِنْ وَجَدْنَا السَّلَفَ فِي تَرْتِيبِ الْفَضْلِ هَكَذَا فَلَوْ لَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ لَمَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُمْ وَتَفْوِيضُ الْحَقِّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي شَرْحِهِ أَيْضًا قَدْ تَكُونُ فَضِيلَةٌ وَاحِدَةٌ أَرْجَحَ مِنْ فَضَائِلَ كَثِيرَةٍ فَلَا جَزْمَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ كَثْرَةِ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ السَّلَفُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَفْضِيلِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ وَقَالَ الدَّوَانِيُّ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ التَّوَقُّفُ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ ثُمَّ قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ وَالْإِنْصَافُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فَالِلتَّوَقُّفِ فِيهِ جِهَةٌ وَإِنْ أُرِيدَ كَثْرَةُ مَا يَعُدُّهُ ذَوُو الْعُقُولِ مِنْ الْفَضَائِلِ فَلَا وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كَثْرَةَ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالنَّظَرِ وَخَبَرُ الرَّسُولِ آحَادٌ مَعَ كَوْنِهَا مُتَعَارِضَةً وَرُبَّ عَمَلٍ قَلِيلٍ يَكْثُرُ ثَوَابُهُ مِنْ أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ. (وَخِلَافَتُهُمْ) أَيْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ (عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَيْضًا) كَمَا فِي تَرْتِيبِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ شَرْطُ الْأَفْضَلِيَّةِ فِي الْإِمَامَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَكِنْ يُشِيرُ إلَى كَوْنِ ذَلِكَ أَوْلَى بِدُونِ وُجُوبٍ وَهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ بِلَا نَصٍّ خِلَافًا لِلْبَكْرِيَّةِ فِي أَبِي بَكْرٍ وَالشِّيعَةِ فِي عَلِيٍّ (ثُمَّ) بَعْدَهُمْ فِي الْفَضْلِ (سَائِرُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ وَأَفْضَلُهُمْ الْأَرْبَعَةُ

عَلَى التَّرْتِيبِ ثُمَّ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةُ ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ ثُمَّ أَهْلُ أُحُدٍ ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ثُمَّ أَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ (وَنَكُفُّ) أَلْسِنَتَنَا وَقُلُوبَنَا. (عَنْ ذِكْرِهِمْ إلَّا بِخَيْرٍ) فَلَا نَذْكُرُ مَا يُوهِمُ ذَمَّهُمْ وَمَا يُشْعِرُ بِمُسَاوِيهِمْ فَضْلًا عَنْ تَصْرِيحِ ذَلِكَ لِلْأَوَامِرِ بِتَعْظِيمِهِمْ وَالنَّهْيِ وَالتَّهْدِيدِ فِي بُغْضِهِمْ فَلَيْسَ عَلَيْنَا إلَّا حُبُّهُمْ وَتَوْقِيرُهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُذْكَرَ قِصَصُ نَحْوِ صِفِّينَ وَالْجَمَلِ بَلْ الْمَدَارُ عَلَى اسْتِلْزَامِ الشَّيْنِ فِي طَرَفٍ مَا وَلَا ضَرُورَةَ دَاعِيَةٌ لِلذِّكْرِ وَلِهَذَا تَرَاهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا فِي كُتُبِهِمْ وَمَنْ ذَكَرَهَا إمَّا بِمُلَاحَظَةِ التَّأْوِيلِ أَوْ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لِنَفْيِ مَا زَادُوا وَأَفْرَطُوا قَالُوا: إنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْمُخَاصَمَاتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ لَا يُؤَاخَذُ بَلْ يُؤْجَرُ نِصْفُ مَا لِلْمُصِيبِ. قَالَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ مِنْ الْخُلَاصَةِ اللَّعْنُ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ وَكَذَا عَلَى الْحَجَّاجِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الزَّاهِدِ الصَّفَارِيِّ يَحْكِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَا تَلْعَنُوا مُعَاوِيَةَ وَلَا بَأْسَ بِاللَّعْنِ عَلَى يَزِيدَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى وَنُقِلَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ جَوَازُ لَعْنِهِ لِكُفْرِهِ بِأَمْرِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اللَّعْنِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ أَوْ أَجَازَ وَرَضِيَ بِهِ وَالْحَقُّ أَنَّ رِضَا يَزِيدَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَاسْتِبْشَارَهُ بِذَلِكَ وَإِهَانَةَ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَتْ تَفَاصِيلُهُ آحَادًا فَنَحْنُ لَا نَتَوَقَّفُ فِي شَأْنِهِ بَلْ فِي إيمَانِهِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْصَارِهِ وَأَعْوَانِهِ انْتَهَى لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَتْلِ أَوْ الْأَمْرِ بِلَا اسْتِحْلَالٍ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِ فِي إيجَابِ الْكُفْرِ تَحَكُّمٌ وَاسْتِلْزَامُ إهَانَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ بِمَعْلُومٍ وَلَوْ سَلِمَ الِاسْتِلْزَامُ فَالْأَكْثَرُ أَنَّ لُزُومَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِكُفْرٍ بَلْ الْكُفْرُ الْتِزَامُ الْكُفْرِ وَلَوْ سَلِمَ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ اللُّزُومِ بَيِّنًا بَلْ بِمَعْنَى الْأَخَصِّ وَلَوْ سَلِمَ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ تَائِبًا بَعْدَهُ. وَقَدْ قَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى مُعَيَّنٍ غَيْرُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ كَأَبِي لَهَبٍ وَأَبِي جَهْلٍ لَعَلَّ هَذَا لَمْ يُكَفِّرْ قَاتِلَ عُثْمَانَ مَعَ كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْحُسَيْنِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِكْفَارَ إنَّمَا هُوَ لِاسْتِحْلَالِهِ الْخَمْرَ وَقَوْلُهُ إنْ لَمْ نَشْرَبْ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ فَلْنَشْرَبْ عَلَى دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَلِقَوْلِهِ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ فِي دِيوَانِهِ الْمَنْحُوسِ رَأْسُهُ الشَّرِيفُ الطَّيِّبُ الْمُبَارَكُ لِمَ لَمْ تُخَلِّصْك مَا اغْتَرَرْت عَلَيْهِمْ مِنْ أَبَوَيْك وَجَدِّك فَالْآنَ انْطَفَأَتْ حَرَارَتِي الْحَاصِلَةُ مِنْ قَتْلِ أَبِيك سَبْطِي فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَنَحْوُهُ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ ثُبُوتُهُ فَلَعَلَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ ذَهَبَ السَّلَفُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْخَلَفِ عَلَى عَدَمِ لَعْنِهِ لَكِنْ إنْ صَدَرَ جِنْسُ مَا ذُكِرَ مِنْهُ وَدَامَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتُبْ فَنُكَفِّرْهُ أَلْبَتَّةَ وَإِلَّا فَلَا نُكَفِّرُهُ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ عَلِمَ صُدُورَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ تَوْبَتُهُ فَمُقْتَضَى قَاعِدَةِ الِاسْتِصْحَابِ نَعَمْ وَمُقْتَضَى عَدَمِ جَوَازِ تَعْيِينِ اللَّعْنِ كَمَا مَرَّ آنِفًا لَا فَلَعَلَّ الْأَسْلَمَ هُوَ التَّوَقُّفُ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ

عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَزَالُ أَمْرُ أُمَّتِي قَائِمًا بِالْقِسْطِ حَتَّى يَكُونَ أَوَّلُ مِنْ نَثْلِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ» قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ: الْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّ مُعَاوِيَةَ وَكَذَا فِي فَضَائِلِهِ وَذَمِّ يَزِيدَ مَوْضُوعَةٌ. (وَنَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِلْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ) بَشَّرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ وَهُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ. قِيلَ: عَنْ الْكَرْمَانِيِّ فِي وَجْهِ التَّخْصِيصِ بِالْعَشَرَةِ مَعَ أَنَّ الْمَحْكُومَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَكْثَرُ كَمَا سَيُذْكَرُ إمَّا لِكَوْنِ تَبْشِيرِهِمْ دُفْعَةً أَوْ لِوُقُوعِهِ بِلَفْظِ الْبِشَارَةِ أَوْ لِأَنَّ التَّعْيِينَ بَعْدَهُ لَا يُنَافِي مَا عَدَاهُ وَأَقُولُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ شُيُوعَ ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ تَبْشِيرِ مَنْ سِوَاهُمْ (وَفَاطِمَةُ) بِنْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لِنَحْوِ مَا رَوَى خُزَيْمَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي أَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَ بِي إلَى بَابِ فَاطِمَةَ لِلْعِيَادَةِ عِنْدَ مَرَضِهَا فَاسْتَأْذَنَ قَالَتْ: نَعَمْ يَا أَبَتَاهُ فَوَاَللَّهِ مَا عَلَيَّ إلَّا عَبَاءَةٌ فَقَالَ لَهَا اصْنَعِي بِهَا كَذَا وَكَذَا فَعَلَّمَهَا كَيْفَ تَسْتَتِرُ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا عَلَى رَأْسِي خِمَارٌ فَأَخَذَ خَلْقَ مُلَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ اخْتَمِرِي بِهَا ثُمَّ أَذِنْت فَدَخَلَا فَقَالَ: كَيْفَ نَجِدُك يَا بُنَيَّةُ فَقَالَتْ: إنِّي وَجِعَةٌ وَأَنَّهُ لِيَزِيدَنِي أَنَّهُ مَا لِي طَعَامٌ آكُلُهُ قَالَ: يَا بُنَيَّةُ أَمَا تَرْضِينَ أَنَّكِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ قَالَتْ: يَا أَبَتِ فَأَيْنَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ قَالَ: تِلْكَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا وَأَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِك أَمَا وَاَللَّهِ زَوَّجْتُك سَيِّدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَمَا إنَّهَا سَيِّدَةُ النِّسَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -» وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَبِيهَا (وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَعَنْ أَبَوَيْهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ خُزَيْمَةَ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «شَبَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَمْسَةٌ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ» وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنَ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» . «وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا» (وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُمِّ فَاطِمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ» وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «سَيِّدَاتُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثٌ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أَوَّلُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ إسْلَامًا» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ أَيْ وَمَرْيَمُ وَيُحْتَمَلُ عَائِشَةُ وَفِيهِ أَيْضًا «سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ مَرْيَمُ وَفَاطِمَةُ وَخَدِيجَةُ وَآسِيَةُ» . وَفِي شَرْحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ فَالظَّاهِرُ مَرَاتِبُ الْفَضْلِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ تَفْضِيلُ فَاطِمَةَ عَلَى خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَصَايَاهُ صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ عَائِشَةَ بَعْدَ خَدِيجَةَ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَظَاهِرٌ فِي تَفْضِيلِ خَدِيجَةَ عَلَى عَائِشَةَ. وَكَلَامُ بَدْءِ الْأَمَالِي صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ عَائِشَةَ عَلَى فَاطِمَةَ بِخُصُوصِهَا وَوُجِّهَ بِكَثْرَةِ رِوَايَتِهَا وَدِرَايَتِهَا وَبِمَعِيَّتِهَا بِالنَّبِيِّ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ: بِتَفْضِيلِ فَاطِمَةَ عَلَى عَائِشَةَ لِكَوْنِهَا جُزْءَ النَّبِيِّ أَقُولُ: مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ فَاطِمَةَ إذْ لَا مَسَاغَ لِلدِّرَايَةِ هُنَا وَالرِّوَايَةُ مُقْتَضِيَةٌ قُوَّةَ هَذَا الْجَانِبِ كَمَا سُمِعَتْ أَخْبَارُ فَاطِمَةَ. وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَلَى تَفْضِيلِ عَائِشَةَ بِنَحْوِ حَدِيثِ «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ بِاللَّحْمِ» وَحَدِيثِ «فَضْلُ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ كَفَضْلِ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ» فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي رُجْحَانَهَا عَلَى فَاطِمَةَ لِقُوَّةِ أَدِلَّةِ فَاطِمَةَ ثُبُوتًا وَدَلَالَةً نَعَمْ إنَّ تَفْضِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهِ أَقْدَمَ وَأَعْلَمَ وَأَوْثَقَ وَأَوْرَعَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَهُ دَلِيلٌ رَاجِحٌ غَايَتُهُ عَدَمُ اطِّلَاعِنَا وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُجُودِ. اعْلَمْ

أَنَّهُ قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ فِي عَقَائِدِهِ: وَأَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَأَهْلُ غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ الدَّوَانِيُّ وَقَدْ عَدَّ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّحِيحِ وَقَدْ سَمِعْنَا مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ مُسْتَجَابٌ وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ انْتَهَى ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ تَقْدِيمِهِ تَفْضِيلُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ لَكِنَّ صَرِيحَ كَلَامِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِي تَرْتِيبِ تَفْضِيلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ ثُمَّ بَاقِي الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ ثُمَّ أَهْلِ بَدْرٍ ثُمَّ أَهْلِ أُحُدٍ ثُمَّ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ثُمَّ مَنْ لَازَمَ النَّبِيَّ وَقُتِلَ تَحْتَ لِوَائِهِ لَكِنْ مَا قَالُوا مِنْ أَنَّ أَعْدَادَ أَهْلِ بَدْرِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَمَا عَدَّهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لَيْسَ بِبَالِغٍ إلَى هَذَا الْمَبْلَغِ إذْ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الصَّحِيحِ هُوَ هَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْقُرَشِيُّ خَلَّفَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى ابْنَتِهِ وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفُ الْقُرَشِيِّ، حَارِثَةُ بْنُ رَبِيعٍ الْأَنْصَارِيُّ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ كَانَ فِي النَّظَّارَةِ، حَبِيبُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، خُنَيْسُ بْنُ حَذَافَةَ السَّهْمِيُّ، رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ رِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَبُو لُبَابَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ الْقُرَشِيُّ، زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ، أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ، سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الزُّهْرِيُّ، سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ الْقُرَشِيُّ، سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ، سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ، ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ الْقُرَشِيُّ، عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيُّ، عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، عُتْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنَزِيُّ، عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ قَتَادَةُ بْنُ نُعْمَانَ الْأَنْصَارِيُّ، مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، مُعَوِّذُ ابْنُ عَفْرَاءَ، وَأَخُوهُ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَبُو السَّيِّدِ الْأَنْصَارِيُّ، مِسْطَحُ بْنُ أَثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ مُرَادَةُ بْنُ رَبِيعٍ الْأَنْصَارِيُّ، مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، مِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ الْأَنْصَارِيُّ وَأَمَّا أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَقِيلَ: أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَقِيلَ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَقِيلَ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ وَقِيلَ: أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ (لَا) نَشْهَدُ (لِغَيْرِهِمْ بِعَيْنِهِ) وَأَمَّا بِلَا تَعْيِينٍ نَحْوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ فَنَشْهَدُ بِهِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ زَيْدًا مُؤْمِنٌ وَقَدْ ذَكَرْت أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ فَيُنْتَجُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ زَيْدٌ فِي الْجَنَّةِ أَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ الْمُؤْمِنِ فِي الصُّغْرَى مَا يَكُونُ حَالًّا وَفِي الْكُبْرَى مَا فِي الْمَآلِ وَالْخَاتِمَةِ فَإِنْ قِيلَ: فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الشَّخْصُ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَيُنْتَجُ هَذَا الْمُعَيَّنُ فِي الْجَنَّةِ فَنَقُولُ بَعْدَ تَسْلِيمِ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى لَا نُسَلِّمُ الصُّغْرَى إذْ كَوْنُ الْمُرَادِ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ الْمَلْفُوظُ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ إذْ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ مَا فِي الْفُؤَادِ وَلَا يُعْلَمُ حَالُ الْفُؤَادِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ شُرُوطٌ كَالتَّوَجُّهِ التَّامِّ إلَى عَالَمِ الْقُدْسِ وَالْإِعْرَاضِ التَّامِّ عَنْ مُيُولَاتِ عَالَمِ الرِّجْسِ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَدَوَاعِي الْهَوَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا فِي الْخَاتِمَةِ مِنْ أَهْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَالًّا وَمَآلًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَتَّى نُوَدِّعَ الدُّنْيَا غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إلَيْهَا وَمُحِبِّينَ لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (ثُمَّ) بَعْدَ الصَّحَابَةِ الْأَفْضَلُ (التَّابِعُونَ) لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ تَابِعُ التَّابِعِينَ» مِنْهُمْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ لِاجْتِمَاعِهِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَنَحْوِهِمْ. (وَالْمُسْلِمُونَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ) نَصْبِ (إمَامٍ) سُلْطَانٍ لِأَنَّ مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ الْقُرْآنُ وَلِتَوَقُّفِ أَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ كَالْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَلِذَا قَدَّمَ الْأَصْحَابُ نَصْبَهُ عَلَى دَفْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ

(قَادِرٍ عَلَى تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ) الشَّرْعِيَّةِ بِشَوْكَتِهِ وَعِلْمِهِ (مُسْلِمٍ) لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ (حُرٍّ) لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ (مُكَلَّفٍ) عَاقِلٍ بَالِغٍ وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ الصَّبِيُّ لَكِنَّهُ فِي الِاسْمِ فَقَطْ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ. وَفِي الرَّسْمِ وَزِيرُهُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ فَلَا تَقْلِيدَ لِلْقَضَاءِ مِنْهُ وَتَوْكِيلُ إمَامِ الْجُمُعَةِ (ظَاهِرٍ) لِيُرْجَعَ إلَيْهِ وَقْتَ الْحَاجَةِ كَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ وَإِحْقَاقِ الْحُقُوقِ وَقَهْرِ الْمُتَغَلِّبَةِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَسَدِّ الثُّغُورِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ (وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلَا مَعْصُومًا) لِامْتِنَاعِهِ عَادَةً فِي الْأُمَّةِ (وَلَا أَفْضَلَ زَمَانِهِ) لِأَنَّ مَنْصِبَ الْخِلَافَةِ هُوَ تَدْبِيرُ الْمَمْلَكَةِ وَالْمُحَارَسَةُ وَذَلِكَ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْأَفْضَلِ وَكَثِيرًا مَا فِي الْمَفْضُولِ

(وَلَا يَنْعَزِلُ بِفِسْقٍ وَجَوْرٍ) أَيْ ظُلْمٍ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَتِهِ فِي الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ وَإِنْ ظَالِمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ. وَفِي قَاضِي خَانْ أُمِرْنَا بِإِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْر إذْ عَزْلُ الظَّالِمِ وَنَصْبُ الْعَادِلِ مُفْضٍ إلَى فَسَادَاتٍ وَسَفْكِ دِمَاءٍ وَفِتَنٍ كَثِيرَةٍ وَلِذَا كَانَ السَّلَفُ يَنْقَادُونَ لِأَوَامِرِ فَسَقَةِ الْأُمَرَاءِ وَظَلَمَتِهِمْ وَيُقِيمُونَ الْجُمُعَةَ وَالْأَعْيَادَ بِإِذْنِهِمْ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لَا تَسُبُّوا الْأَئِمَّةَ وَادْعُوا اللَّهَ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ فَإِنَّ صَلَاحَهُمْ لَكُمْ صَلَاحٌ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ إذْ بِهِمْ حِرَاسَةُ الدِّينِ وَسِيَاسَةُ الدُّنْيَا وَحِفْظُ مَنَاهِجِ الْمُسْلِمِينَ وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ الْعَمَلِ وَلِذَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: لَوْ كَانَ لِي دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ مَا صَيَّرْتُهَا إلَّا فِي الْإِمَامِ لِأَنِّي لَوْ جَعَلْتُهَا لِنَفْسِي لَمْ تُجَاوِزْنِي وَلَوْ لَهُ كَانَتْ لِلْعِبَادِ وَالْبِلَادِ وَسُئِلَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَك اللَّهُ أَقْبَلُ لَك وَاحِدًا فَقَطْ مِنْ الدُّعَاءِ لِمَ تَصْرِفُهُ قَالَ لِدُعَاءِ الْأُمَرَاءِ وَمِنْ حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «لَا تَسُبُّوا السُّلْطَانَ فَإِنَّهُ فَيْءٌ» أَيْ ظِلُّ «اللَّهِ فِي أَرْضِهِ» . (وَتَجُوزُ) (الصَّلَاةُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ صَالِحٍ فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِالْحَجَّاجِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا لَكِنَّ أَصْلَ الْجَوَازِ لَا يُنَافِي كَرَاهَةَ إمَامَةِ الْفَاسِقِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ وَتُكْرَهُ إمَامَةُ الْفَاسِقِ رَجُلَانِ فِي الْعِفَّةِ وَالصَّلَاحِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْرَأُ فَقَدَّمَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ الْآخَرَ فَقَدْ أَسَاءُوا وَتُكْرَهُ إمَامَةُ الْمَفْضُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْفَاضِلِ إنْ كَرِهَ الْقَوْمُ إمَامَتَهُ خِلَافًا لِلرَّوَافِضِ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مَعَ أَنَّهَا مِنْ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ رَدًّا لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ وَجَعَلَهَا مِنْ الْأُصُولِ (وَيُصَلَّى عَلَيْهِ) . (وَيَجُوزُ) (الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ) (فِي الْحَضَرِ) يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ نَقْضِ الْوُضُوءِ (وَالسَّفَرِ) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا كَذَلِكَ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى

كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَقَدْ أَثْبَتَ مَشَايِخُنَا كَوْنَ أَخْبَارِهِ مَشْهُورَةً وَالزِّيَادَةُ بِهِ جَائِزَةٌ بَلْ قِيلَ: مِنْ قَبِيلِ مُتَوَاتِرِ الْمَعْنَى حَتَّى قَالَ الْكَرْخِيُّ: أَخَافُ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ. وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقَالَ: أَنْ تُحِبَّ الشَّيْخَيْنِ وَلَا تَطْعَنَ فِي الْخَتَنَيْنِ وَتَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَفِي غَيْرِهِ تَفْضِيلُ الشَّيْخَيْنِ وَتَوْقِيرُ الْخَتَنَيْنِ وَتَعْظِيمُ الْقِبْلَتَيْنِ وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَتَيْنِ وَإِثْبَاتُ الْقَدَرَيْنِ وَعِلْمُ الْمَقْرُونَيْنِ وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامَيْنِ وَالصَّلَاةُ خَلْفَ الْإِمَامَيْنِ. (وَلَا يَحْرُمُ) (نَبِيذُ الْجَرِّ) جَمْعُ جَرَّةٍ وَهِيَ إنَاءٌ مِنْ فَخَّارٍ وَنَبِيذُهَا بِأَنْ يُلْقِيَ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ فَتَجْذِبَ حَلَاوَتَهُمَا إلَى الْمَاءِ (إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا) فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَ ذَلِكَ وَالتَّفْضِيلُ فِي أَشْرِبَةِ الْفِقْهِيَّةِ. (وَفِي) (دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ لِلْأَمْوَاتِ وَصَدَقَتِهِمْ عَنْهُمْ) (نَفْعٌ لَهُمْ) فِي الْبَحْرِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ قُرْآنًا أَوْ ذِكْرًا أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَوْ طَوَافًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْحَجِّ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَيَكْفِيَك صَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَمَا ذَكَرَهَا مِنْ حَدِيثِ «إنَّ الْعَالِمَ وَالْمُتَعَلِّمَ إذَا مَرَّا عَلَى قَرْيَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ الْعَذَابَ عَنْ مَقْبَرَةِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» مُفْتَرًى لِمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ فَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ الْحَافِظِ الْجَلَالِ: لَا أَصْلَ لَهُ وَنَقَلَ عَنْ شَرْحِ الصُّدُورِ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ عَنْ الْغَيْرِ أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ لِلْقَارِئِ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ الِاسْتِمَاعِ وَلِذَلِكَ تَلْحَقُهُ الرَّحْمَةُ وَلَا يَبْعُدُ فِي كَرَمِ اللَّهِ أَنْ يَلْحَقَهُ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ وَالِاسْتِمَاعِ مَعًا وَيَلْحَقُهُ ثَوَابُ مَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ.

(وَفَضْلُ الْأَمَاكِنِ حَقٌّ) ثَابِتٌ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» وَإِنَّ شَرَفَهَا إنَّمَا هُوَ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِشَرَفِ الْمَكِينِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ «وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ وَأَيُّ الْبِقَاعِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَسَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَقَالَ لَهُ: سَلْ رَبَّك فَسَأَلَهُ فَقَالَ: خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدِ وَشَرُّ الْبِقَاعِ الْأَسْوَاقُ» قَالَ فِي الدُّرِّ مُحْتَجًّا بِهَذَا الْأَثَر أَنْ لَا أَدْرِيَ مِنْ الْكَمَال. وَفِي أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ كُلِّ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ الْجَهَالَةِ. (وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ الْعَقْلِ) لِأَنَّ الْعَقْلَ كَالْوَسِيلَةِ وَالْعِلْمَ كَالْمَقْصُودِ وَأَنَّ مَسْلُوبَ الْعَقْلِ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِمُجَرَّدِ تَبَعِيَّةِ

الدَّارِ أَوْ الْوَالِدَيْنِ أَوْ الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَمَّا الْجَهْلُ سِيَّمَا لِذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مَعَ وُجُودِ الْعَقْلِ فَكُفْرٌ وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]- خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ لَعَلَّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ وَقِيلَ عَنْ الْعَيْنِيِّ بِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْعَقْلُ عِنْدَ بَعْضٍ، وَقِيلَ: الْعَقْلُ بَعْضُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَقِيلَ: هُوَ قُوَّةٌ يُمَيِّزُ بِهَا مِنْ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ فَافْهَمْ. (وَأَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ لَا يُدْرَى أَهُمْ فِي الْجَنَّةِ) لِتَبَعِيَّةِ الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَوْ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ (أَمْ فِي النَّارِ) لِتَبَعِيَّةِ الْوَالِدَيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَعَدَمُ الدِّرَايَةِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ أَحَدُ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي تَوَقَّفَ فِيهَا قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ: تَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ثَمَانٍ أَوَّلُهَا سُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ ثَانِيهَا الْكَلْبُ مَتَى يَكُونُ مُعَلَّمًا ثَالِثُهَا الْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ أَمْ الْأَنْبِيَاءُ رَابِعُهَا أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ أَمْ فِي النَّارِ خَامِسُهَا فِي الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَالْبَقَرِ الْجَلَّالَةِ وَالْغَنَمِ مَتَى يَطِيبُ لَحْمُهُمْ سَادِسُهَا مَتَى وَقْتُ الْخِتَانِ سَابِعُهَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى ثَامِنُهَا تَفْسِيرُ الدَّهْرِ وَقَدْ يُزَادُ عَلَى هَذِهِ وَقَدْ يَنْقُصُ وَنُقِلَ عَنْ التَّوْشِيحِ لِلسُّيُوطِيِّ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ أَيْضًا أَوَّلُهَا فِي الْجَنَّةِ ثَانِيهَا خُدَّامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثَالِثُهَا فِي بَرْزَخٍ بَيْنَ النَّارِ وَالْجَنَّةِ رَابِعُهَا فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى خَامِسُهَا يُمْتَحَنُونَ فِي الْآخِرَةِ سَادِسُهَا يَصِيرُونَ تُرَابًا سَابِعُهَا فِي النَّارِ ثَامِنُهَا الْوَقْفُ لَكِنَّ الدَّوَانِيَّ نَقَلَ عَنْ النَّوَوِيِّ الصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا بِلَا ذَنْبٍ لَعَلَّ لِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ فِي النَّارِ بِلَا عَذَابٍ، لَعَلَّ الصَّحِيحَ هُوَ التَّوَقُّفُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا أَهْلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمْ فِي النَّارِ حِينَ سَأَلَتْهُ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ أَطْفَالِهَا الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ سَمِعَتْ عَدَمَ الْعَذَابِ بِلَا ذَنْبٍ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . (وَلِلْكَفَرَةِ حَفَظَةٌ) جَمْعُ حَافِظٍ لِحِفْظِهِمْ وَضَبْطِهِمْ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]- وَقَوْلِهِ - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]- وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُمْ حَفَظَةٌ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ قُلْنَا: مِنْ جُمْلَةِ الْفَائِدَةِ إظْهَارُ كَمَالِ الْعَدَالَةِ وَالتَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ وَإِكْمَالُ السَّآمَةِ وَالْمَلَامَةِ وَإِنَّ ذَلِكَ رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ نَصٍّ وَاحْتِجَاجٌ فِي الْمَطْلَبِ النَّقْلِيِّ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَحَمْلُ النُّصُوصِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَاجِبٌ إنْ وَقَعَتْ فِي أَمْرٍ مُمْكِنٍ وَلَا شَكَّ فِي إمْكَانِ ذَلِكَ (وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ) لِأَنَّ الشَّيْءَ ثَابِتٌ وَالْمَعْدُومَ لَيْسَ بِثَابِتٍ

خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ إذْ الْمُمْكِنُ الْمَعْدُومُ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ عِنْدَهُمْ فَالْمُمْتَنِعُ لَيْسَ بِشَيْءٍ اتِّفَاقًا لَعَلَّ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ يَصْدُقُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُسَاوِيًا لِلْإِمْكَانِ الْعَامِّ وَيَقْسِمُونَ الشَّيْءَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَمُمْتَنِعٍ فَمَعْنَى الشَّيْءِ عِنْدَهُمْ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ وَيُخْبَرَ بِهِ. وَعَلَى مَا نُقِلَ عَنْ مُفْرَدَاتِ الرَّاغِبِ شُمُولُهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَمُطْلَقِ الْمَعْدُومِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الشَّائِي فَيَنْدَفِعُ مَا أُورِدَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ كَوْنِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الَّتِي يَجُوزُ إطْلَاقُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجْهُ الدَّفْعِ التَّرَادُفُ بِالْمُرِيدِ وَالْجَوَابُ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ يُرَدُّ بِنَحْوِ {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ} [البقرة: 15] بِهِمْ لِعَدَمِ إطْلَاقِ نَحْوِ الْمُسْتَهْزِئِ عَلَيْهِ تَعَالَى فَتَأَمَّلْ اعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهِ مَعْنًى حَقِيقِيًّا وَإِلَّا فَنَحْنُ قَائِلُونَ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدُومِ مَجَازًا. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]- {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل: 40] بِالْمَجَازِ الْأَوْلَى مَثَلًا فَيَضْمَحِلُّ احْتِجَاجُ الْمُعْتَزِلَةِ لَعَلَّ هَذَا حَاصِلُ مَا أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَكُونُ مَوْجُودًا حِينَ حُصُولِهِ أَوْ لِغَايَةِ تَحَقُّقِهِ كَالْمُحَقَّقِ فِي الْحَالِ أَوْ أَنَّهُ مُحَقَّقٌ فِي الْحَالِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى لَكِنْ يَرِدُ أَنَّ الْأَصْلَ كَوْنُهُ مَعْنًى حَقِيقِيًّا وَالْمَجَازُ خِلَافُهُ. فَإِنْ أُرِيدَ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ أَوْ كُتُبِهِمْ وَأَنَّ الِاصْطِلَاحِيَّةَ فَيُعْلَمُ بِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِلَا قَرِينَةٍ فَافْهَمْ قِيلَ: فَائِدَةُ الْخِلَافِ لُزُومُ قِدَمِ الْأَشْيَاءِ وَتَعْطِيلُ الصَّانِعِ عِنْدَ كَوْنِ الْمَعْدُومِ شَيْئًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ والأفلاكية. (وَالسِّحْرُ) عَنْ الْمُنَاوِيِّ هُوَ إتْيَانُ نَفْسٍ شِرِّيرَةٍ بِخَارِقٍ عَنْ مُزَاوَلَةِ مُحَرَّمٍ إمَّا كُفْرٌ أَوْ كَبِيرَةٌ قِيلَ هُوَ خَمْسَةٌ فِي الْمَشْهُورِ: النِّيرِنْجُ، لِرُقْيَةِ الحلقطيرات الشَّعْبَذَةُ، الطَّلْسَمُ (وَاقِعٌ) كَوُقُوعِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قِيلَ إنَّهُ اسْتَمَرَّ إلَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى نَزَلَ الْمُعَوِّذَتَانِ كَمَا سَبَقَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّوَافِضِ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى الْأَوْهَامِ، وَالْخَيَالَاتِ بِلَا حَقِيقَةٍ لَهُ وَلَنَا الْكِتَابُ النَّاطِقُ بِأَنَّهُ مِمَّا يُتَعَلَّمُ وَمِمَّا يُكَفِّرُ، وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَالسُّنَّةُ كَسِحْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْإِجْمَاعُ قَبْلَ الْمُخَالِفِ. (وَإِصَابَةُ الْعَيْنِ جَائِزَةٌ) ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ نَحْوَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَيْنُ حَقٌّ تَسْتَنْزِلُ الْحَالِقَ» أَيْ الْجَبَلَ الْعَالِيَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقٌ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» يَعْنِي لَوْ أَمْكَنَ زَوَالُ شَيْءٍ وَفَنَاؤُهُ قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ

«وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْتَسِلُوا» خِطَابٌ لِلْعَائِنِ يَعْنِي إذَا طَلَب الْمَعْيُونُ مِمَّنْ يَتَّهِمُ أَنَّهُ عَائِنٌ غَسْلَ أَطْرَافِهِ وَمَا تَحْتَ إزَارِهِ لِيَصُبَّ غُسَالَتَهُ عَلَيْهِ فَلْيَفْعَلْ الْعَائِنُ ذَلِكَ نَدْبًا وَقِيلَ وُجُوبًا؛ لِأَنَّ تِرْيَاقَ سَمِّ الْحَيَّةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ لَحْمِهَا يُؤْخَذُ عِلَاجُ ذَلِكَ مِنْهُ فَفِي الِاغْتِسَالِ إطْفَاءٌ لِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَا يَنْفَعُ ذَلِكَ لِلْمُنْكِرِ وَلَا لِمَنْ يَفْعَلُ لِلتَّجْرِبَةِ قَالَ الْحُكَمَاءُ فِي وَجْهِهِ إنَّ الْقُوَّةَ السُّمَيَّةَ تَنْبَعِثُ مِنْ عَيْنِ الْعَائِنِ إلَى الْمُعِينِ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَيَهْلَكُ، وَقِيلَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَبْعَثَ جَوَاهِرَ لَطِيفَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ إلَى الْمُعَيَّنِ فَيَهْلِكُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَفْهُومُ مِنْ حَدِيثِ: «الْعَيْنُ حَقٌّ يَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ، وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ» أَنَّ السَّبَبَ إعْجَابُ الشَّيْطَانِ بِلَا رُجُوعٍ إلَى اللَّهِ وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ بِغَفْلَتِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (تَنْبِيهٌ) نُقِلَ عَنْ بَعْضٍ مَنْعُ الْعَائِنِ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ وَلُزُومِ بَيْتِهِ كَالْمَجْذُومِ بَلْ أَوْلَى وَنَفَقَةُ الْفَقِيرِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ مُتَعَيَّنٌ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ تَصْرِيحٌ بِخِلَافِهِ وَفُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ رَتَّبُوا وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ بِهَا أَقُولُ وَلَا يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ سِيَّمَا حَدِيثُ «الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ» . (فَائِدَةٌ) أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِأَنَّ سَعِيدًا النَّاجِيَّ قَالَ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا حِينَ قِيلَ لَهُ: احْفَظْ نَاقَتَك مِنْ فُلَانٍ الْعَائِنِ فَعَانَهَا فَاضْطَرَبَتْ فَأُخْبِرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ حَبْسٌ حَابِسٌ وَشِهَابٌ قَابِسٌ رَدَدْت عَيْنَ الْعَائِنِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحَبِّ النَّاسِ إلَيْهِ، وَعَلَى كَبِدِهِ وَكُلْوَتَيْهِ رَشِيقٌ، وَفِي مَالِهِ يَلِيقُ {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] الْآيَةَ. فَخَرَجَتْ حَدَقَتَا الْعَائِنِ وَسَلِمَتْ النَّاقَةُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَشُرُوحِهَا مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ وَقِيلَ: «حِينَ أَصَابَتْ الْعَيْنُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَّمَ جَبْرَائِيلُ النَّبِيَّ التَّعْوِيذَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَهِيَ: اللَّهُمَّ ذَا السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ، وَالْمَنِّ الْقَدِيمِ، وَالْكَلِمَاتِ التَّامَّاتِ، وَالدَّعَوَاتِ الْمُسْتَجَابَاتِ عَافِ الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنَ مِنْ أَنْفُسِ الْجِنِّ وَأَعْيُنِ الْإِنْسِ فَقَالَهَا لَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَا يَلْعَبَانِ» . وَفِي الشِّرْعَةِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ بِتَسْوِيدِ حُفْرَةِ ذَقَنِ صَبِيٍّ مَلِيحٍ، وَفِيهِ عَنْهُ أَيْضًا أَمَرَ الْعَائِنَ بِالْغُسْلِ أَوْ الْوُضُوءِ لِيَغْتَسِلَ بِهِ الْمُعَيَّنُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة مِنْ نَصْبِ عِظَامِ الرُّءُوسِ فِي الْمَزَارِعِ، وَالْكُرُومِ لِيَتَعَلَّقَ عَلَيْهَا نَظَرُ الْعَائِنِ ابْتِدَاءً فَتَنْكَسِرُ سَوْرَةُ عَيْنِهِ. وَفِي الشِّرْعَةِ أَيْضًا: وَالسُّنَّةُ لِمَنْ خَافَ مِنْ نَفْسِهِ إصَابَةَ عَيْنِهِ أَنْ يَقُولَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ تُبَارِكَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ بَارَكَ اللَّهُ فِيك وَعَلَيْك. (وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ) مِنْ الِاجْتِهَادِ وَظَاهِرُ كَلَامِ التَّفْتَازَانِيِّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ جَرَيَانُ الِاجْتِهَادِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالشَّرْعِيَّاتِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْفَرْعِيَّةِ. وَفِي التَّلْوِيحِ عَدَمُ شُمُولُهُ إلَى الْأُصُولِ، وَالْعَقَائِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا بِمُنَاسِبِ كُلٍّ مِنْ الْفَنَّيْنِ (مُصِيبٌ ابْتِدَاءً) أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْحُكْمِ هَذَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُخْتَارُ. وَعِنْدَ الْبَعْضِ قِيلَ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ أَبِي مَنْصُورٍ مُصِيبٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَقَوْلُهُ (بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ) يَكُونُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: ابْتِدَاءً لِبَذْلِ تَمَامِ وُسْعِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَرَعْيِ شَرَائِطِهِ، وَمِنْ هُنَا لَا يُعَاتَبُ الْمُخْطِئُ بَلْ مَأْجُورٌ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الصَّوَابِ بَيِّنًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَحْكُمُ عَلَى أَنَّك إنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» (وَقَدْ يُخْطِئُ فِي الِانْتِهَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ) كَالتَّفْسِيرِ لِلِانْتِهَاءِ (لِأَنَّ الْحَقَّ) عِنْدَ اللَّهِ (وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ) لَا مَا أَدَّى

إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَانَ مَيْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَيْهِ حَتَّى يَلْزَمَ إصَابَةُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَيَتَعَدَّدُ الْحَقُّ هَذَا فِي الْفُرُوعِ، وَأَمَّا فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ فَالْحَقُّ وَاحِدٌ إجْمَاعًا فَيُعَاتَبُ الْمُخْطِئُ بَلْ يُكَفَّرُ أَوْ يُضَلَّلُ. وَفِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْمُصَفَّى إذَا سُئِلْنَا مَذْهَبُنَا مَعَ مُخَالِفِينَا فَنُجِيبُ أَنَّ مَذْهَبَنَا صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَمَذْهَبُ مُخَالِفِينَا خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مُنَافٍ لِاحْتِمَالِ الْخَطَأِ وَأَمَّا إذَا سُئِلْنَا فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ فَيَجِبُ أَنَّ نَقُولَ: الْحَقُّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَالْبَاطِلُ مَا عَلَيْهِ خُصُومُنَا كَمَا قَرَّرَ الْمُصَنِّفُ فِي وَصَايَاهُ التُّرْكِيَّةِ لَعَلَّك عَرَفْتَ حُكْمَ الِانْتِقَالِ مِنْ تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ إلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ. (وَالنُّصُوصُ) كِتَابًا أَوْ سَنَةً (تُحْمَلُ) بِالضَّرُورَةِ (عَلَى ظَوَاهِرِهَا) الْمَفْهُومَةِ لُغَةً أَوْ اصْطِلَاحًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا إذَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ (إنْ أَمْكَنَتْ) كَاَلَّتِي تُشْعِرُ ظَوَاهِرُهَا بِالْجِسْمِيَّةِ، وَالْجِهَةِ كَمَسْلَكِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْمُتَشَابِهِ (وَالْعُدُولُ عَنْهَا) عَنْ الظَّوَاهِرِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ (إلَى مَعَانٍ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْبَاطِنِ) الْمُسَمَّاةِ بِالْبَاطِنِيَّةِ، وَالْمَلَاحِدَةِ كُفْرٌ كَمَا سَيَأْتِي خَبَرُ الْكُلِّ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: لِكَوْنِهِ تَكْذِيبًا لِلنَّبِيِّ فِيمَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِالضَّرُورَةِ وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَمَعَ ذَلِكَ فِيهَا إشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إلَى دَقَائِقَ تَنْكَشِفُ عَلَى أَرْبَابِ السُّلُوكِ يُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُرَادَةِ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَمَحْضِ الْعِرْفَانِ انْتَهَى. (وَرَدُّ النُّصُوصِ) لَعَلَّ إظْهَارَهُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِمُغَايَرَةِ مَا سَبَقَ إذْ هُوَ بِمَعْنَى مُطْلَقِ النَّظْمِ الشَّامِلِ لِلْكُلِّ، وَالظَّاهِرُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُتَّضِحِ الْمَعْنَى الشَّامِلِ لِلْمُحْكَمِ، وَالْمُفَسَّرِ، وَالظَّاهِرِ، وَالنَّصِّ الْمُقَابِلِ لِلْمَذْكُورَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْقَطْعِيَّةُ ثُبُوتًا كَعَامَّةِ الْقُرْآنِ وَمُتَوَاتَرِ الْأَحَادِيثِ وَلَوْ مَعْنًى وَدَلَالَةً كَمَا ذُكِرَ آنِفًا فَتَأَمَّلْ فِيهِ. (وَاسْتِحْلَالُ الْمَعْصِيَةِ) صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ظَاهِرَةُ الْإِطْلَاقِ لَكِنَّ الدَّوَانِيَّ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِ تَحْرِيمِهَا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَالْحُرْمَةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَكَذَا لَوْ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَلَمْ يَشْتَهِرْ إلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ فَجَعَلَ مَدَارَ الْكُفْرِ هُوَ الضَّرُورِيَّاتُ الدِّينِيَّةُ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ بَعْضِ الْفَتَاوَى مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ حَرَامًا لَعَيْنِهِ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَعَيْنِهِ وَإِنْ ثَابِتًا بِقَطْعِيٍّ أَوْ ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ لَكِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَلَيْسَ بِكُفْرٍ. وَعِنْدَ الْبَعْضِ إنْ عُلِمَتْ حُرْمَتُهُ بِقَطْعِيٍّ وَلَوْ حَرَامًا لِغَيْرِهِ فَكُفْرٌ، وَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ مَا رُوِيَ عَنْ السَّرَخْسِيِّ وَوَقَعَ فِي التتارخانية مُشِيرًا إلَى عِلَّتِهِ بِإِنْكَارِ النَّصِّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَلَّ وَطْءَ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ يَكْفُرُ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْأَوَّلِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ عَدَمِ الْكُفْرِ لِكَوْنِ حُرْمَتِهِ مِنْ الْغَيْرِ وَهُوَ الْأَذَى وَإِلَى الثَّانِي يَمِيلُ كَلَامُ الْعَلَّامَةِ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ حَيْثُ قَالَ: كَوْنُ الِاسْتِحْلَالِ كُفْرًا بِاسْتِلْزَامِهِ التَّكْذِيبَ الْمُنَافِيَ لِلتَّصْدِيقِ.

(وَالِاسْتِخْفَافِ بِالشَّرِيعَةِ) كُفْرٌ أَيْضًا أَيْ تَخْفِيفُهَا وَكَذَا اسْتِهْزَاؤُهَا وَفُسِّرَ بِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِأَحْكَامِهَا وَإِهَانَتِهَا وَاحْتِقَارِهَا، وَنَقَلَ عَنْ الْبَحْرِ الرَّائِقِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا غَيْرَ نَاوٍ لِلْقَضَاءِ وَغَيْرَ خَائِفٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ يَكْفُرُ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ يَرْتَكِبُ صَغِيرَةً فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ تُبْ فَقَالَ " مِنْ جه كردم تَأْتُو بِهِ مي با يدكردن " يَكْفُرُ. (وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (وَالْأَمْنُ مِنْ عَذَابِهِ وَسَخَطِهِ) أَيْ غَضَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ. (وَتَصْدِيقُ الْكَاهِنِ) أَيْ الْمُخْبِرِ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ (فِيمَا يُخْبِرُهُ مِنْ الْغَيْبِ كُلُّهُ كُفْرٌ) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ، وَالْعُدُولُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» ، وَالْكَاهِنُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَعَنْ النَّوَوِيِّ الْكِهَانَةُ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ: لِلْإِنْسَانِ وَلِيٌّ يُخْبِرُهُ بِمَا يَسْتَرِقُ مِنْ السَّمْعِ مِنْ السَّمَاءِ هَذَا بَطَلَ بِبَعْثِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّانِي: أَنْ يُخْبِرَهُ بِمَا يَطْرَأُ أَوْ يَكُونُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَمَا خَفِيَ عَنْهُ مِمَّا قَرُبَ أَوْ بَعُدَ أَنْكَرَهُمَا الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِادِّعَاءِ الِاسْتِحَالَةِ الثَّالِثُ: الْمُنَجِّمُونَ، وَالْكَذِبُ فِيهِ أَغْلَبُ وَمِنْهُ الْعَرَّافَةُ اسْتِدْلَالٌ بِالْأَسْبَابِ، وَالْمُقَدِّمَاتِ كُلُّهَا كِهَانَةٌ، وَالشَّرْعُ أَكْذَبَ الْكُلَّ انْتَهَى. لَا يَخْفَى خَفَاءُ الْكُفْرِ فِي الْكِهَانَةِ عَلَى هَذِهِ التَّفَاسِيرِ، وَأَيْضًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ حُجِبَتْ عَنْهُ التَّوْبَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَإِنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ كَفَرَ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ إنْ صَدَّقَ فِي دَعْوَاهُ الْغَيْبَ يَكْفُرُ حَقِيقَةً وَإِلَّا فَكُفْرَانُ نِعْمَةٍ لَا يَخْفَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْن الْحَقِيقَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ نَعَمْ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ إتْيَانُ الْكَاهِنِ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ حَتَّى فِي السَّابِقَةِ قَالَ فِي السِّفْرِ الثَّانِي مِنْ التَّوْرَاةِ لَا تَتْبَعُوا الْعَرَّافِينَ، وَالْقَافَةِ وَلَا تَنْطَلِقُوا إلَيْهِمْ وَلَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ لِئَلَّا تُنَجَّسُوا بِهِمْ. وَفِي السِّفْرِ الثَّالِثِ: مَنْ تَبِعَهُمْ وَضَلَّ بِهِمْ أُنْزِلُ بِهِ غَضَبِي وَأُهْلِكُهُ مِنْ شَعْبِهِ انْتَهَى، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ السَّعْدِ الِاسْتِدْلَال بِالْأَمَارَةِ عِنْدَ إمْكَانِهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ يُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْفَتَاوَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هَالَّةِ الْقَمَرِ يَكُونُ مَطَرٌ مُدَّعِيًا عِلْمَ الْغَيْبِ لَا بِعَلَامَةٍ كُفْرٌ. قَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِلَّهِ عَادَةً جَمِيلَةً فِي تَكْذِيبِ الْمُنَجِّمِينَ» وَقَدْ قِيلَ الْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ، وَالْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ، وَالسَّاحِرُ كَالْكَافِرِ فِي النَّارِ، لَعَلَّ الْكُفْرَ إنَّمَا هُوَ فِي التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ لَا الِاعْتِقَادِ عَلَى الشَّكِّ بَلْ الظَّاهِرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ فِي التتارخانية) كَأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ الْإِثْبَاتُ أَرَادَ بَيَانَ أَحْكَامِهَا مِنْ حَيْثُ النَّفْيُ، وَالْإِنْكَارُ (مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ صِفَةٍ) الظَّاهِرُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ كَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ (مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) خِلَافًا لِلْكَرَامِيَّةِ فِي حُدُوثِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ (فَهُوَ كَافِرٌ) لِإِثْبَاتِ النَّقْصِ لَهُ تَعَالَى

لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ تَعَالَى مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ خُلُوَّهُ تَعَالَى عَنْ الْكَمَالِ فِي الْأَزَلِ إذْ كُلُّ صِفَةٍ لَهُ تَعَالَى كَمَالٌ لَهُ (وَفِيهَا) أَيْ فِي التتارخانية (سُئِلَ) أَيْ مُصَنِّفُهَا (عَنْ قَوْمٍ ذَات باري جَلَّتْ قُدْرَتُهُ مَحَلَّ حَوَادِثِ ميكويند) أَيْ يَقُولُونَ بِأَنَّ ذَاتَ الْبَارِي مَحَلٌّ لِلْحَوَادِثِ (مَا حُكْمُهُمْ) . (قَالَ) فِي الْجَوَابِ (كافرشوند) أَيْ صَارُوا كَافِرِينَ (بِي شك) بِلَا شَكٍّ إذْ عَدَمُ كَوْنِهِ تَعَالَى مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ ثَابِتٌ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ (وَفِيهَا سُئِلَ عَنْ) (مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ) أَيْ ذَاتُهُ عَيْنُ عِلْمِهِ (وَلَا يَقُولُ لَهُ الْعِلْمُ قَادِرٌ بِذَاتِهِ وَلَا يَقُولُ لَهُ الْقُدْرَةُ) وَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِهِ (وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ) وَكَذَا الْفَلَاسِفَةُ إذْ عِنْدَهُمَا أَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِهِ تَعَالَى عَيْنُ ذَاتِهِ (هَلْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ أَمْ لَا قَالَ يُحْكَمُ) بِكُفْرِهِمْ (لِأَنَّهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ) (وَمَنْ نَفَى الصِّفَاتِ فَهُوَ كَافِرٌ) أَقُولُ إنَّمَا يَلْزَمُ الْكُفْرُ لَوْ كَانَ إنْكَارُهُمْ أَصْلَهَا وَأَثَرَهَا. وَأَمَّا لَوْ كَانَ إنْكَارُهُمْ إيَّاهَا مَعَ إثْبَاتِ نَتَائِجِهَا وَغَايَاتِهَا فَلِزُومُ الْكُفْرِ قَابِلٌ لِلْكَلَامِ إذْ عِنْدَهُمْ أَنَّ الذَّاتَ كَافٍ فِي الِانْكِشَافِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى أَمْرٍ آخَرَ بَلْ مُرَادُهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْكَمَالِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الدَّوَانِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ زِيَادَةِ الصِّفَاتِ وَعَدَمِ زِيَادَتِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا تَكْفِيرُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بَلْ إنَّمَا يُدْرَكُ أَمْثَالُهَا بِالْكَشْفِ وَمَنْ أَسْنَدَ إلَى غَيْرِ الْكَشْفِ فَعَلَى اعْتِقَادِهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْفِكْرِيِّ فَلَا بَأْسَ فِي اعْتِقَادِ أَحَدِ طَرَفَيْ النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ انْتَهَى فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهَا. (وَفِيهَا إنْ) (اعْتَقَدَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى رِجْلًا) (وَهِيَ الْجَارِحَةُ) الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلْجِسْمِيَّةِ قَيَّدَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ إذْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إطْلَاقُ الْقَدَمِ عَلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَطْلُبُ النَّارُ الزِّيَادَةَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ» فَقِيلَ لِلتَّعْظِيمِ وَقِيلَ وَقِيلَ. (يَكْفُرُ وَفِيهَا وَمَنْ) (قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ) الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَكَانَ لَهَا طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ (فَهُوَ مُبْتَدِعٌ) لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ وَلِإِيهَامِهِ الْجِسْمَ الْمَنْفِيَّ (وَلَيْسَ بِكَافِرٍ) ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَعْنَى الذَّاتِ أَوْ النَّفْسِ أَوْ الشَّيْءِ وَإِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ تَعَالَى جَائِزٌ وَهَذَا إنَّمَا لَا يَكُونُ كُفْرًا إذَا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ خَوَاصِّ الْجِسْمِ كَالْحَيِّزِ، وَالْجِهَةِ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى إلَّا اسْمُ الْجِسْمِ وَإِلَّا فَكُفْرٌ أَيْضًا. (وَفِيهَا وَمَنْ) (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ فِي السَّمَاءِ) (إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَكَانَ كَفَرَ) لِاسْتِلْزَامِهِ احْتِيَاجَهُ تَعَالَى إلَى السَّمَاءِ، وَقِدَمِهِ إذْ قِدَمُ الْمُتَمَكِّنِ يَسْتَلْزِمُ

قِدَمَ مَكَانِهِ (وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ الْحِكَايَةِ عَمَّا جَاءَ فِي ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ) ؛ لِأَنَّ بَاطِنَهَا يَسْتَحِيلُ كَوْنُهَا حَقِيقَةً سَمَاءً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» (لَا يَكْفُرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ) مِنْ السَّمَاءِ وَمِنْ الْحِكَايَةِ (يَكْفُرُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ) فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِائَةُ احْتِمَالٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ كُفْرٌ وَوَاحِدٌ لَيْسَ بِكُفْرٍ فَحَمْلُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ عَلَى جَانِبِ عَدَمِ الْكُفْرِ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ شَيْءٌ عَظِيمٌ فَمَهْمَا أَمْكَنَ لَا يُحْمَلُ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ بَلْ بِالْقُوَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدِ قُوَّةٌ غَالِبَةٌ عَلَى تِلْكَ الْكَثْرَةِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ لَفْظَ السَّمَاءِ صَرِيحٌ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ فَعِنْدَ إطْلَاقِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ وَإِنَّمَا الِاحْتِيَاجُ عِنْدَ كَوْنِهِ خَفِيًّا وَكِنَايَةً فَقُوَّةُ

هَذَا الِاحْتِمَالِ بِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ. (وَفِي التَّحْبِيرِ) بِالْفَوْقِيَّةِ فَالْمُهْمَلَةِ فَالْمُوَحَّدَةِ فَالتَّحْتِيَّةِ اسْمُ كِتَابٍ (وَهُوَ) أَيْ الْكُفْرُ (الْأَصَحُّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي التَّجَسُّمِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا، يَشْكُلُ ذَلِكَ بِمَا قَالُوا: إنَّهُ لَا يُفْتَى بِالْكُفْرِ فِي مَسْأَلَةٍ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهَا كُفْرًا، وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ الْأَصَحُّ أَنَّ وَرَاءَهُ قَوْلًا آخَرَ صَحِيحًا وَهَذَا أَصَحُّ مِنْهُ. قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ وَلَا يُفْتَى بِتَكْفِيرِ مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ خِلَافٌ وَلَوْ رِوَايَةً ضَعِيفَةً وَنُقِلَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ عَنْ الطَّحَاوِيِّ لَا يُكَفَّرُ مُسْلِمٌ مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ الرِّدَّةُ إذْ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ لَا يُبَادِرَ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهُ يُقْضَى بِصِحَّةِ إسْلَامِ الْمُكْرَهِ. وَعَنْ النَّوَوِيِّ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ إخْوَانَهُ عَلَى مَحَامِلَ حَسَنَةٍ فِي كُلِّ نُقْصَانٍ إلَى السَّبْعِينَ وَحَاصِلُ مَا نُقِلَ عَنْ السُّبْكِيّ لَا يُجْتَرَأُ عَلَى إكْفَارِ مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إذْ التَّكْفِيرُ أَمْرٌ هَائِلٌ عَظِيمُ الْخَطَرِ كَالْحُكْمِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَإِبَاحَةِ الدَّمِ، وَالْمَالِ، وَحُرْمَةِ النِّكَاحِ وَعَدَمِ إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَيًّا وَمَيِّتًا ثُمَّ إكْفَارُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَغَيْرِهَا فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ لِكَثْرَةِ الشِّعَابِ وَاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ وَتَفَاوُتِ الدَّوَاعِي وَخَفَاءِ التَّأْوِيلِ وَفَرْقِ الْأَلْفَاظِ الْمُؤَوَّلَةِ عَنْ غَيْرِهَا وَطُرُقِ التَّأْوِيلِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ وَأَنْوَاعِ الْمَجَازَاتِ، وَالِاسْتِعَارَاتِ، وَوُجُوهِ الْكِنَايَاتِ فَالتَّكْفِيرُ لَيْسَ إلَّا لِمَنْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ عَلَى وَجْهٍ يَنْسَدُّ بِهِ أَبْوَابُ التَّأْوِيلِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ لَا يُفْتَى بِتَكْفِيرِ مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ اخْتِلَافٌ وَلَوْ رِوَايَةً ضَعِيفَةً فَأَكْثَرُ أَلْفَاظِ التَّكْفِيرِ لَا يُفْتَى بِهَا، وَقَدْ أَلْزَمْت نَفْسِي أَنْ لَا أُفْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْهَا انْتَهَى. قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ: وَلَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إلَّا بِمَا فِيهِ نَفْيُ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ أَوْ بِشِرْكٍ أَوْ إنْكَارِ مَا عُلِمَ مَجِيئَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ ضَرُورَةً أَوْ إنْكَارِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ كَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ. قَالَ الشَّارِحُ الشَّرِيفُ أَيْ الَّتِي أُجْمِعَ عَلَى حُرْمَتِهَا وَكَانَتْ مِمَّا عُلِمَ ضَرُورَةً وَإِلَّا فَإِنْ إجْمَاعًا ظَنًّا فَلَا كُفْرَ وَإِنْ قَطْعِيًّا فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ ثُمَّ قَالَ مُصَنِّفُهُ وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَالْقَائِلُ بِهِ مُبْتَدِعٌ غَيْرُ كَافِرٍ وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ خِلَافٌ هُوَ خَارِجٌ عَنْ فَنِّنَا هَذَا انْتَهَى. وَنَقَلَ الدَّوَانِيُّ عَنْ أَوَّلِ شَرْحِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ جَمِيعَ مَا كَفَّرَ بِهِ الْفُقَهَاءُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ مَا ذُكِرَ انْتَهَى فَعَلَى هَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ فَنِّنَا فَافْهَمْ. (وَفِيهَا) أَيْ التتارخانية (لَوْ قَالَ: إنَّهُ مَكَانِي) أَيْ لَا مَكَانَ (زتو) أَوْ مِنْك وَالْخِطَابُ لَهُ تَعَالَى (خَالِي) يَعْنِي لَيْسَ مَكَانٌ خَالٍ مِنْك (نه تو) مَا أَنْتَ (در هيج مكاني) أَيْ فِي مَكَان وَاحِدٍ (فَهَذَا كُفْرٌ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ نِسْبَةَ الْمَكَانِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. قِيلَ رَأَيْت فِي حَوَاشِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ أَنَّ هَذَا مِصْرَاعٌ مِنْ غَزْلٍ يُتَغَنَّى بِهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَتَغَنَّوْنِ فِي مَجَالِسِ عُلَمَاءِ الزَّمَانِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَالْفُقَهَاءُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّهُ كُفْرٌ انْتَهَى. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى مَا فُصِّلَ آنِفًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُكَفَّرَ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ نَفْيُهُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ إثْبَاتِهِ نَحْوُ شُمُولِ عِلْمِهِ وَأَثَرِ قُدْرَتِهِ وَدُخُولِهِ تَحْتَ تَصَرُّفِ حُكْمِهِ لَعَلَّ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَصْرِيحِ الْقَائِلِ بِعَدَمِ إرَادَةِ نَحْوِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ وَتَصْرِيحِهِ بِإِرَادَةِ ظَاهِرِهِ أَوْ بِإِثْبَاتِ خَوَاصِّهِ وَلَوَازِمِهِ (وَفِيهَا رَجُلٌ) . (قَالَ عِلْم خِدَا) أَيْ اللَّهُ (دِرْهَمه مَكَانِي هُسَّتْ) مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَكَان (هَذَا خَطَأٌ) ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ فِي الْمَكَانِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَالَمِ فِيهِ إذْ وُجُودُ الصِّفَةِ فِي مَحَلٍّ فَرْعُ وُجُودِ الْمَوْصُوفِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ يَشْكُلُ ذَلِكَ بِمَا فِي حَاشِيَةِ الْخَيَالِيِّ عَنْ الْغَيْرِ أَنَّ اللُّزُومَ غَيْرُ الِالْتِزَامِ وَلَا كُفْرَ إلَّا بِالِالْتِزَامِ وَيُجَابُ بِمَا أَجَابَ هُوَ أَنَّ لُزُومَ الْكُفْرِ الْمَعْلُومِ كُفْرٌ أَيْضًا وَلِذَا. قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ مَنْ يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ انْتَهَى ظَاهِرُهُ أَنَّ الْجَهْلَ عُذْرٌ، لَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّ الْمَبْنِيَّ أَنَّ اللُّزُومَ إنْ بَيَّنَّا لَا سِيَّمَا بِمَعْنَى الْأَخَصِّ فَكُفْرٌ وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَمُحِيطٌ بِهَا، لَعَلَّ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عِنْدَ هَذَا

الظَّاهِرِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الَّذِي اعْتَبَرْت هُوَ مَعْنًى مَجَازِيٌّ وَمَا اعْتَبَرُوهُ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ فَكَيْفَ يَكُونُ ظَاهِرًا قُلْت: لَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ حَقِيقَةٍ ظَاهِرًا أَوْ لَا كُلُّ مَجَازٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فَإِنَّ صُدُورَ ذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ حَقِيقَتِهِ بَلْ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَةِ نَحْوِ ذَلِكَ الْمَجَازِ وَقَدْ عَرَفْت قَرِيبًا عَدَمَ إكْفَارِ مُسْلِمٍ مَا لَمْ تَنْسَدَّ أَبْوَابُ التَّأْوِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْمَعْقُولِ أَيْضًا لَا يَنْبَغِي تَخْطِئَةُ كَلَامٍ يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ وَلَوْ بِاحْتِمَالٍ ضَعِيفٍ. (وَفِي النِّصَابِ) أَيْ كِتَابِ نِصَابِ الِاحْتِسَابِ (وَالصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ شَيْءٍ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى) ؛ لِأَنَّهُ مِصْدَاقُ قَوْله تَعَالَى - {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]- لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا السَّوْقِ إنْ أَرَادَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِالْعِبَارَةِ الْأُولَى كَفَرَ لَا بِالثَّانِيَةِ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّ الْقَائِلَ عِنْدَ قَصْدِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ لَيْسَ يَكْفُرُ أَلْبَتَّةَ لِتَحَمُّلِ اللَّفْظِ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ. (وَفِيهَا) (رَجُلٌ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْفَوْقِ أَوْ بِالتَّحْتِ) (فَهَذَا تَشْبِيهٌ) أَيْ بِالْأَجْسَامِ فَتَجْسِيمٌ (وَكُفْرٌ) لَعَلَّهُ إنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ الْفَوْقِ هُوَ الْعُلُوُّ، وَالرِّفْعَةُ، وَالْقَهْرُ، وَالْغَلَبَةُ فَلَا يَكْفُرُ بَلْ يَنْبَغِي إجْرَاءُ التَّفْصِيلِ السَّابِقِ مِنْ إرَادَةِ حِكَايَةِ مَا فِي الْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] . (وَفِيهَا) (رَجُلٌ قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلًا لَا حِكْمَةَ فِيهِ) (يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالسَّفَهِ) وَالْعَبَثِ إذْ كُلُّ فِعْلٍ خَالٍ عَنْ الْمَصْلَحَةِ، وَالْفَائِدَةِ فَهُوَ عَبَثٌ (وَهُوَ كُفْرٌ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى الْحِكْمَةَ فِيمَا خَلَقَ وَأَمَرَ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا حِكْمَةُ بَعْضِ أَفْعَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ يَشْكُلُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ وُجُوبُ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ فِي وُقُوعِ فِعْلٍ بِلَا حِكْمَةٍ لَبَعُدَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ فَتَأَمَّلْ. (وَفِيهَا: وَلَوْ) (قَالَ خداي بود) أَيْ كَانَ اللَّهُ (وَهَيْج نبود) وَمَا كَانَ شَيْءٌ (وَبِأَشَدْ) أَيْ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا (وَهِيج نباشد) أَيْ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَصْلًا (فَقَدْ قِيلَ الشَّطْرُ الثَّانِي) وَهُوَ وَيَكُونُ اللَّهُ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَصْلًا (مِنْ كَلَامِ الْمَلَاحِدَةِ) الْكَافِرِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِبَاطِنِ الْقُرْآنِ فَقَطْ دُونَ ظَاهِرِهِ لِغَرَضِ إبْطَالِ الشَّرَائِعِ كَمَا فُهِمَ مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هُمْ الْبَاطِنِيَّةُ الَّذِينَ سُمُّوا بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ لَكِنْ ظَاهِرُهُ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ ظَنَّهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحُورِ الْعِينِ لِلْفَنَاءِ) يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَاحِدَةُ هُمْ الْجَهْمِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ، وَالنَّارِ وَفَنَاءِ أَهْلِهِمَا. (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الظَّنُّ (كُفْرٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ) ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ (وَخَطَأٌ عَظِيمٌ) لَيْسَ بِكُفْرٍ (عِنْدَ الْبَعْضِ) لَكِنْ يُخَافُ مِنْهُ الْكُفْرُ لِاحْتِمَالِ حِكَايَةِ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] . قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي هُنَا ثَلَاثَةُ

أَشْيَاءَ: الْكُفْرُ فَيَحْبَطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ وَيُجَدِّدُ إيمَانَهُ وَنِكَاحَهُ وَمَا فِيهِ خَوْفُ الْكُفْرِ فَيُجَدِّدُ الْإِيمَانَ، وَالنِّكَاحَ وَمَا فِيهِ خَطَأٌ عَظِيمٌ فَيَسْتَغْفِرُ فَقَطْ. (وَفِيهَا) (مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَامَةَ) الظَّاهِرُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ لِقَوْلِهِ (أَوْ الْجَنَّةَ أَوْ النَّارَ أَوْ الْمِيزَانَ أَوْ الْحِسَابَ أَوْ الصِّرَاطَ أَوْ الصَّحَائِفَ الْمَكْتُوبَةَ) مِنْ الْحَفَظَةِ فِي الدُّنْيَا (فِيهَا أَعْمَالَ الْعِبَادِ) الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُمْ (يَكْفُرُ) لِإِنْكَارِ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ ضَرُورَةً كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا. (وَفِيهَا) أَيْ التتارخانية أَيْضًا (وَمَنْ) (قَالَ: إنَّ الْمِيزَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدْلِ فَقَطْ) لَيْسَ وَرَاءَهُ مِيزَانٌ حَقِيقِيٌّ (وَلَا يَكُونُ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ) (فَهُوَ مُبْتَدِعٌ) لِحَمْلِ النُّصُوصِ عَلَى خِلَافِ تَبَادُرِهَا، وَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَتَبَادُرِهَا بِلَا دَاعٍ (وَلَيْسَ بِكَافِرٍ) لِاحْتِمَالِ النُّصُوصِ وَلَوْ ضَعِيفًا وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْوَاهِيَ يَكُونُ مَدَارًا لِلْخَلَاصِ عَنْ الْكُفْرِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَشْكُلُ بِمَا سَبَقَ مِنْ الْمُنْصِفِ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ إلَى مَعَانٍ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْبَاطِلِ كُفْرٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ فَرْقٌ بَيْنَ مَا ادَّعُوا وَبَيْنَ هَذَا إذْ الْأَوَّلُ مُؤَدٍّ إلَى إبْطَالِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْكَارِ الْقِيَامَةِ، وَالثَّانِي عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَامَةِ وَإِبْقَاءِ الشَّرِيعَةِ. (وَفِيهَا وَمَنْ) (أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ) (فَهُوَ مُبْتَدِعٌ) ؛ لِأَنَّ أَدِلَّتَهُ إمَّا مُحْتَمَلَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ فَلَا قَطْعَ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ أَخْبَارَ آحَادٍ فَلَا يَخْلُو عَنْ الِاحْتِمَالِ أَيْضًا وَلَا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِ الْمُحْتَمَلِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَتَهْذِيبِ الْكَمَالِ وَشَرْحِ الْعَقَائِدِ مِنْ التَّصْرِيحِ أَنَّ أَحَادِيثَ عَذَابِ الْقَبْرِ بَالِغَةٌ إلَى التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، وَأَيْضًا قَالُوا بِأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ بِالْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدًا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ فَلَا يَضُرُّ وُقُوعُ الْخِلَافِ لِتَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ إذْ الِاخْتِلَافُ اللَّاحِقُ لَا يَضُرُّ الْإِجْمَاعَ السَّابِقَ بَلْ نَفْسُ الْخِلَافِ سَاقِطٌ لِكَوْنِهِ خَرْقَ إجْمَاعٍ وَخَرْقُ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ. فَأَقُولُ وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَاعِدَةُ هُوَ كُفْرُ إنْكَارِ عَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورَاتِ الدِّينِيَّةِ يَعْرِفُهُ الْعَامِّيُّ، وَالْخَاصِّيُّ وَاحْتِمَالُ ظَوَاهِرِ بَعْضِ النُّصُوصِ عَلَى عَدَمِ الْعَذَابِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56]- فَمَعَ كَوْنِهِ مُجَابًا فِي مَحَلِّهِ مُرْتَفِعٌ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ قِيلَ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ لِلْكِتَابِ مَعَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ لِلْآحَادِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ وَقِيلَ أَيْضًا إنَّ جَمِيعَ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْمُوَافِقَةِ لِلْكِتَابِ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ فَيَنْتَظِمُ بِهَا الِاسْتِدْلَال عَلَى الْفَرْضِيَّةِ مُطَّرِدًا فَاحْفَظْهَا فَتَنْفَعْك فِي مَوَاضِعَ شَتَّى. (وَمَنْ أَنْكَرَ شَفَاعَةَ الشَّافِعِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (فَهُوَ كَافِرٌ) ظَاهِرُهُ سَوَاءً كَانَتْ لِلْأَنْبِيَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الصُّلَحَاءِ إذْ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ ظَاهِرٌ فِي الْإِفْرَادِيِّ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مُطْلَقُ الشَّفَاعَةِ إجْمَالًا بِلَا تَفْصِيلٍ أَوْ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا فِي مُطْلَقِ الْقِيَامَةِ، وَإِلَّا فَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ فِي بَعْضِ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ وَأَيْضًا الْمُرَادُ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى خِلَافِ الْمُعْتَزِلَةِ لِكَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ الدَّلِيلِ. قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: بَلْ الْأَحَادِيثُ فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى وَلَكِنْ يَنْبَغِي احْتِمَالُ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48]- وَقَوْلُهُ - {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]-، وَالِاحْتِمَالُ وَلَوْ ضَعِيفًا يُؤَثِّرُ فِي عَدَمِ الْكُفْرِ كَمَا مَرَّ مِرَارًا وَمَا أَتَوْهُ فِي بَيَانِهِمَا وَنَحْوِهِمَا مَمْنُوعٌ قَطْعِيَّتُهُ حَتَّى تَكُونَا مُفَسَّرَتَيْنِ بَلْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ بَيَانِهِمَا ظَنِّيًّا فَتَكُونَانِ مُؤَوَّلَتَيْنِ، نَعَمْ تَوَاتُرُ الْأَحَادِيثِ الْقَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ رَاجِحٌ عَلَى ظَنِّيِّ الدَّلَالَةِ مِنْ الْكِتَابِ أَقُولُ لَعَلَّ الْأَقْرَبَ الِاسْتِمْسَاكُ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ. (وَفِيهَا وَمَنْ) (قَالَ بِتَخْلِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ) الَّذِينَ مَاتُوا بِلَا تَوْبَةٍ (فِي النَّار) كَالْمُعْتَزِلَةِ (فَهُوَ مُبْتَدِعٌ) لَيْسَ بِكَافِرٍ لِاحْتِمَالِ ظَوَاهِرِ بَعْضِ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] الْآيَةَ - وَلَوْ احْتِمَالًا فَاسِدًا لِتَعَارُضِ أَدِلَّةٍ أَقْوَى مِنْهَا كَمَا فُصِّلَ فِي مَحَلِّهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ التَّفْتَازَانِيِّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ قَطْعِيَّةُ عَدَمِ التَّخْلِيدِ فَافْهَمْ. (وَفِيهَا وَلَوْ) (أَنْكَرَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى) (بَعْدَ الدُّخُولِ) لَعَلَّ قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا فِي الْقِيَامَةِ وَإِنْ ثَبَتَتْ الرُّؤْيَةُ لَكِنْ بِالْآحَادِ فَلَا يَكْفُرُ (فِي الْجَنَّةِ يَكْفُرُ) لِثُبُوتِهَا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ

وَأَشْكَلَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْهُ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ عَدَمِ إكْفَارِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَبَيْنَ إكْفَارِ مُحِيلِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِمَا مُتَعَذَّرٌ أَقُول قَدْ سَمِعْتَ الْمَنْقُولَ عَنْ الْمَوَاقِفِ وَعَرَفْتَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَمْثَالَ مَا ذُكِرَ دَاخِلٌ فِي أَحَدِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ وَسَلِمَ مِنْ الْمَنَافِي أَوْ مَا دَامُوا فِي كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِرِعَايَةِ شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ وَنَفْيِ مُنَافِيهَا. (وَكَذَا لَوْ قَالَ لَا أَعْرِفُ عَذَابَ الْقَبْرِ فَهُوَ كَافِرٌ) نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِهِ مُبْتَدِعًا فَيُحْمَلُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ لَا يَخْفَى فِي إبَاءِ سَوْقِ الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ وَقِيلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا يَكْفُرُ عِنْدَ قَوْلِهِ لَا أَعْرِفُ الشَّرْعَ لِمَنْ قَالَ: أَمْرُ الشَّرْعِ كَذَا لِلِاسْتِخْفَافِ لَا خَفَاءَ فِي بُعْدِهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ السَّوْقَ فِي مِثْلِهِ يَأْبَى عَنْ الْبِنَاءِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَعَبَّرَ بِنَحْوِ قِيلَ أَوْ بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُنَا مَسْأَلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ بِمُرْتَبِطَةٍ بِشَيْءٍ آخَرَ يُفَادُ مِنْهُ نَحْوَ الِاسْتِخْفَافِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ رَاجِعٌ إلَى الْقَيْدِ فَقَطْ دُون الْمُقَيَّدِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْعَذَابَ فِي نَفْسِهِ وَاقِعٌ لَكِنِّي لَا أَعْرِفُهُ فَيَسْتَلْزِمُ اسْتِحْقَارَ عَذَابِهِ أَوْ اسْتِهْزَاءَهُ لَمْ يَبْعُدْ غَايَةَ بُعْدٍ. (وَفِيهَا يَجِبُ إكْفَارُ) (الْقَدَرِيَّةِ) إمَّا فِرْقَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَشَعِّبَةٌ إلَى إحْدَى عَشْرَةَ أَوْ نَوْعٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ (فِي نَفْيِهِمْ كَوْنَ الشَّرِّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى) بَلْ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ لِلشَّيْطَانِ أَوْ لِلْعَبْدِ وَأَمَّا لَوْ قَالُوا التَّقْدِيرُ مِنْ اللَّهِ، وَالتَّحْرِيكُ، وَالتَّسَبُّبُ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ أَوْ الشَّيْطَانِ أَوْ أَرَادُوا التَّحَاشِيَ عَنْ نِسْبَةِ الشَّرِّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَأَدُّبًا مُعْتَقِدًا خَلْقَهُ تَعَالَى فَلَا يَكْفُرُونَ بَلْ لَا يَضِلُّونَ لَكِنْ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ تَمَسُّكَهُمْ إذَا كَانَ ظَاهِرًا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]- فَلَا أَقَلُّ مِنْ مُحْتَمَلِ النَّصِّ، وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ عَدَمُ الْكُفْرِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ أَدِلَّةَ شُمُولِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْوِينُهُ عَقْلًا وَنَقْلًا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَاحْتِمَالُ تَمَسُّكِهِمْ مِنْ النَّصِّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ (وَفِي دَعْوَاهُمْ) أَيْ الْقَدَرِيَّةِ (إنَّ كُلَّ فَاعِلٍ) مِنْ الْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا (خَالِقٌ فِعْلَ نَفْسِهِ) دُونَ اللَّهِ تَعَالَى إذْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْجَوَاهِرِ. وَأَمَّا الْأَعْرَاضُ فَتُحْدِثُهَا الْأَجْسَامُ إمَّا إيجَابًا كَحَرْقِ النَّارِ أَوْ اخْتِيَارًا كَحَرَكَةِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ أَجْلِ إسْنَادِهِمْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا إلَى قُدْرَةِ الْعِبَادِ سُمُّوا بِالْقَدَرِيَّةِ وَهُمْ الَّذِينَ أَشَارَ إلَيْهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «الْقَدَرِيَّةِ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» وَقَوْلِهِ: «هُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ» كَمَا فِي الْمَوَاقِفِ وَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْمَجُوسَ يَنْسُبُونَ الْكَوَائِنَ إلَى إلَهَيْنِ يَزْدَانُ فَاعِلُ الْخَيْرِ وَأُهْرِمَنْ فَاعِلُ الشَّرِّ نُقِلَ عَنْ مِنْهَاجِ الزَّمَخْشَرِيِّ الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ، وَالْمَعْصِيَةُ مِنْ الْعَبْدِ وَاَللَّهُ بَرِيءٌ مِنْهَا فَعَلَى مَا ذُكِرَ يَلْزَمُ إكْفَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. (وَفِيهَا يَجِبُ إكْفَارُ الْكَيْسَانِيَّةِ) صِنْفٌ مِنْ الشِّيعَةِ أَوْ مِنْ الرَّوَافِضِ (فِي إجَازَتِهِمْ الْبَدَاءَ) بِالْفَتْحِ، وَالْمَدِّ بِمَعْنَى ظُهُورِ الرَّأْيِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ (عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) لِاسْتِلْزَامِ الْجَهْلِ بَلْ النَّدَمُ وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ تُجَوِّزْ الْيَهُودُ نَسْخَ الشَّرَائِعِ لَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ لُزُومِ الْكُفْرِ كُفْرًا، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ اللُّزُومُ بَيِّنًا فَلَيْسَ بِكُفْرٍ ابْتِدَاءً. (وَيَجِبُ إكْفَارُ الرَّوَافِضِ فِي قَوْلِهِمْ: بِرَجْعِ الْأَمْوَاتِ إلَى الدُّنْيَا)

وَقَوْلِهِمْ (بِتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ) أَيْ مِنْ جَسَدٍ إلَى جَسَدٍ عَلَى الْأَبَدِ (وَانْتِقَالِ رُوحِ الْإِلَهِ إلَى الْأَئِمَّةِ) الِاثْنَا عَشَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ - وَهُمْ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ وَزَيْنُ الْعَابِدِينَ وَمُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَمُوسَى الْكَاظِمُ وَعَلِيٌّ الرِّضَا وَمُحَمَّدٌ التَّقِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّقِيُّ، وَالْحَسَنُ الْعَسْكَرِيُّ وَمُحَمَّدُ الْمُنْتَظَرُ الْمَهْدِيُّ (وَأَنَّ الْأَئِمَّةَ) الْمَذْكُورِينَ عِنْدَهُمْ (آلِهَةٌ) لِحُلُولِ الْإِلَهِ فِيهِمْ، وَلَا شَكَّ فِي اسْتِلْزَامِهِ إنْكَارَ الْقِيَامَةِ وَاعْتِقَادَ الْحُلُولِ فِيهِ تَعَالَى (وَبِقَوْلِهِمْ بِخُرُوجِ إمَامٍ بَاطِنٍ) اخْتَفَى مِنْ الشُّرُورِ، وَالطُّغْيَانِ لِفَسَادِ الزَّمَانِ سَيَخْرُجُ عِنْدَ صَلَاحِ الزَّمَانِ (وَتَعْطِيلِهِمْ الْأَمْرَ، وَالنَّهْيَ) وَلِعَدَمِ شَرْعِيَّةِ أَحْكَامِهِمْ أَصْلًا (إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ الْبَاطِنُ) قَالُوا الْإِمَامَةُ مَنْصُوصَةٌ لِعَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ إلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُمْ عَلَى ابْنِهِ مُوسَى الْكَاظِمِ فَعَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا فَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّقِيِّ فَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّكِيِّ فَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُنْتَظَرُ خُرُوجُهُ، وَالْمَخْفِيُّ الْمَذْكُورُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ كُفْرًا (وَبِقَوْلِهِمْ) أَيْ الرَّافِضَةِ (أَنَّ جَبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غَلِطَ فِي الْوَحْيِ إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) فَالنَّبِيُّ حَقِيقَةً هُوَ عَلِيٌّ وَيَلْعَنُونَ صَاحِبَ رِيشٍ يَعْنِي جَبْرَائِيلَ وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ عَلِيٍّ شَرِيكًا فِي النُّبُوَّةِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مَعَ مُوسَى (وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ خَارِجُونَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامُهُمْ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ) . (وَيَجِبُ إكْفَارُ الْخَوَارِجِ) الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ إطَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُمْ أَوَّلُ فِرْقَةٍ تَفَرَّقَتْ فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ كَانُوا فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَلَمَّا وَقَعَ التَّحْكِيمُ تَبَرَّءُوا مِنْ عَلِيٍّ فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ ابْنَ مَسْعُودٍ لِإِزَالَةِ شُبْهَتِهِمْ فَقَبِلَ الْبَعْضُ وَأَصَرَّ الْآخَرُونَ فَقَتَلَهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفَرَّ الْبَاقُونَ وَانْضَمَّ إلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ وَقَتَلُوا الْعِبَادَ وَغَلَبُوا عَلَى بَعْضِ الْبِقَاعِ، وَالْقِلَاعِ فَمَذَاهِبُهُمْ: خُلُودُ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ فِي النَّارِ وَإِكْفَارُ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ثُمَّ دَسُّوا عَلَى قَتْلِ عَلِيٍّ فِي الْكُوفَةِ وَقَتْلِ مُعَاوِيَةَ فِي الشَّامِ وَقَتْلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي مِصْرَ وَعَيَّنُوا لِقَتْلِ عَلِيٍّ ابْنَ مُلْجِمٍ فَضَرَبَهُ بِسَيْفٍ مَسْمُومٍ وَقْتَ الصُّبْحِ وَهُوَ يَؤُمُّ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ

ثُمَّ هَزَمَهُمْ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَقَاتَلَهُمْ فِي خِلَافَةِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ وَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبٌ تَعَاضَدَتْ شَوْكَتُهُمْ فَأَضَرُّوا الْعِبَادَ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ الْحَجَّاجُ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ وَامْتَدَّ الْحَرْبُ إلَى نَحْوِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْغَلَبَةُ فِي الْأَكْثَرِ لِلْخَوَارِجِ مَعَ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يُقَصِّرْ فِي الْإِمْدَادِ إلَى أَنْ انْهَزَمُوا فَانْقَطَعَ شَرُّهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَوَّلُ ظُهُورِهِمْ أَوَاخِرُ صِفِّينَ وَآخِرُ مُدَّتِهِمْ أَوَاخِرُ مُدَّةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ (فِي إكْفَارِهِمْ جَمِيعَ الْأُمَّةِ) الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرْضَوْا أَفْعَالَهُمْ. (وَفِي إكْفَارِهِمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) وَابْنَ عَبَّاسٍ وَمَنْ قَعَدَ عَنْ الْقِتَالِ مَعَهُمْ، وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ وَأَبَاحُوا قَتْلَ صِبْيَانِ مُخَالِفِيهِمْ وَنِسْوَانِهِمْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِكَوْنِ أَوَّلِهِمْ عِنْدَ وَقْعَةِ التَّحْكِيمِ فِي صِفِّينَ، لَعَلَّ أَوَّلَهُمْ عِنْدَ وَقْعَةِ عُثْمَانَ حِين خَرَجُوا عَلَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَوْقَعُوا حَرْبَ الدَّارِ إلَى شَهَادَةِ عُثْمَانَ كَمَا قِيلَ، لَعَلَّ تَخْصِيصَهُمْ بِمَا ذُكِرَ قِصَّةُ حَرْبِ الْجَمَلِ إذْ أَرْبَابُ الرَّأْيِ فِي تِلْكَ الْحَرْبِ هُمْ هَؤُلَاءِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، لَعَلَّ وَجْهَ الْإِكْفَارِ بِإِكْفَارِهِمْ هَذَا اسْتِلْزَامُ إنْكَارِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ مُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ إكْفَارَ مُسْلِمٍ مُطْلَقًا، وَالرِّضَا بِكُفْرِهِ كُفْرٌ وَهَذَا مُشْتَرَكٌ فِي الْجَمِيعِ نَعَمْ إنَّ الْكُفْرَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَهُنَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ. (وَيَجِبُ إكْفَارُ الْيَزِيدِيَّةِ) فِرْقَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ أَصْحَابُ يَزِيدَ بْنِ أُنَيْسَةَ (فِي انْتِظَارِ نَبِيٍّ مِنْ الْعَجَمِ يَنْسَخُ مِلَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) بِكِتَابٍ يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى دِينِ الصَّابِئَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَجْهُ الْكُفْرِ وَاضِحٌ إذْ كَوْنُهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَبَقَاءُ شَرِيعَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثَابِتٌ بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ بَلْ مِنْ الضَّرُورَاتِ الدِّينِيَّةِ. (وَيَجِبُ إكْفَارُ النَّجَّارِيَّةِ) أَصْحَابُ حُسَيْنِ بْنِ النَّجَّارِ (فِي نَفْيِهِمْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) كَالْمُعْتَزِلَةِ فَالْكَلَامُ كَالْكَلَامِ (وَفِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ جِسْمٌ إذَا كُتِبَ) فَكَاغِدٌ وَحِبْرٌ (وَعَرَضٌ إذَا قُرِئَ) لِاسْتِلْزَامِهِ حُدُوثَ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ تَعَالَى مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ. (وَفِيهَا) أَيْ التتارخانية (وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي) (إكْفَارِ الْمُجْبِرَةِ) أَيْ الْجَبْرِيَّةِ بِقَوْلِهِمْ يَكُونُ الْعَبْدُ مَجْبُورًا فِي أَفْعَالِهِ فَيَكُونُ فِعْلُ الْعَبْدِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ فَقَطْ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْ الْعَبْدِ أَصْلًا خِلَافَ الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ فِعْلِ الْعَبْدِ بِخَلْقِ الْعَبْدِ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَأَهْلُ الْحَقِّ مُتَوَسِّطٌ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحِلِّهِ (فَمِنْهُمْ مَنْ أَكْفَرَهُمْ) لِاسْتِلْزَامِهِ إبْطَالَ قَاعِدَةِ التَّكْلِيفِ وَكَوْنَ تَكْلِيفِهِ سَفَهًا (وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى إكْفَارَهُمْ)

لِاحْتِمَالِ بَعْضِ النُّصُوصِ وَتَأْوِيلِهِ نَحْوَ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: 18] وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلًا بَاطِلًا (وَالصَّوَابُ إكْفَارُ مَنْ لَمْ يَرَ) أَيْ لَمْ يَعْتَقِدْ (لِلْعَبْدِ فِعْلًا أَصْلًا) لِاسْتِلْزَامِهِ كَوْنَ تَكْلِيفَاتِ الشَّرْعِ كَتَكْلِيفِ الْجَمَادِ. (وَيَجِبُ إكْفَارُ مَعْمَرٍ) مِنْ الْقَدَرِيَّةِ (فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ الْجَسَدِ) ، وَالْإِنْسَانُ هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ، وَالْحَيَوَانُ جِسْمٌ نَامٍ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ، وَالْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ قِيلَ هَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ كَوْنِ الْجَسَدِ مُكَلَّفًا وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَطْعِيِّ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا فَيَسْتَلْزِمُ إنْكَارَ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ أَقُولُ النَّصُّ عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُكَلَّفًا لَا عَلَى كَوْنِ الْجَسَدِ مُكَلَّفًا وَلَا عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ جَسَدًا فَيَجُوزُ كَوْنُ غَيْرِ الْجَسَدِ إنْسَانًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ، وَالرَّاغِبِ، وَالصُّوفِيَّةِ الْمُكَاشِفِينَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَلَوْ سَلِمَ مَنْصُوصُ التَّكْلِيفِ لِلْبَدَنِ أَعْنِي الْجَسَدَ فَيَجُوزُ لِكَوْنِهِ مُتَعَلَّقَ الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِنْسَانُ هُوَ الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ. وَعِنْدَ الرَّاوَنْدِيِّ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْقَلْبِ، وَعِنْدَ النَّظَّامِ جِسْمٌ لَطِيفٌ سَارٍ فِي الْبَدَنِ بَاقٍ مِنْ أَوَّلِ الْعُمْرِ إلَى آخِرِهِ - وَقِيلَ قُوَّةٌ فِي الدِّمَاغِ مَبْدَأٌ لِلْحِسِّ، وَالْحَرَكَةِ وَقِيلَ قُوَّةٌ لِلْقَلْبِ مَبْدَأٌ لِلْحَيَاةِ فِي الْبَدَنِ وَقِيلَ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيُّ ثَلَاثُ قُوًى فِي الدِّمَاغِ هِيَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ، وَفِي الْقَلْبِ هِيَ النَّفْسُ الْغَضَبِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالنَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَفِي الْكَبِدِ هِيَ النَّفْسُ النَّبَاتِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ التَّغَذِّي الْمُسَمَّاةُ بِالشَّهْوَانِيَّةِ، وَهِيَ الْأَخْلَاطُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعْتَدِلَةُ، وَقِيلَ هِيَ الْمِزَاجُ وَاعْتِدَالُ الْأَخْلَاطِ وَقِيلَ هِيَ الدَّمُ الْمُعْتَدِلُ وَقِيلَ هِيَ الْهَوَاءُ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْمَوَاقِفِ بَعْدَمَا عَدَّ مَا ذَكَرَ وَأَشَارَ إلَى غَيْرِهِ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَأَيْضًا صَرَّحَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ آرَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ جِسْمٌ لَطِيفٌ سَارٍ فِي الْبَدَنِ لَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَتَحَلَّلُ لَعَلَّهُ مَا نُسِبَ إلَى النَّظَّامِ وَحَاصِلُ رِسَالَةِ ابْنِ الْكَمَالِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَإِبْطَالُ كَوْنِ الْإِنْسَانِ هَذَا الْهَيْكَلَ الْمَخْصُوصَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذُكِرَ يُوجِبُ عَدَمَ الْكُفْرِ (وَأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ مُخْتَارٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَرِّكٍ وَلَا سَاكِنٍ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوْصَافِ الْجَائِزَةِ عَلَى الْأَجْسَامِ) مِنْ الْكِبَرِ، وَالصِّغَرِ، وَالطُّولِ، وَالْقِصَرِ، وَالِاتِّصَالِ، وَالِانْفِصَالِ وَغَيْرِهَا قِيلَ فِي وَجْهِ الْكُفْرِ هُوَ إثْبَاتُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْأُلُوهِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ إلَّا مِنْ خَوَاصِّ الْوَاجِبِ، لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا رَاجِعٌ إلَى كَوْنِهِ جَوْهَرًا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى إسْلَامِهِمْ. وَقِيلَ إنَّ فَاعِلَ الشُّرُورِ هُوَ الْجِسْمُ الْمُتَحَرِّكُ، وَالسَّاكِنُ، وَالْمُؤَاخَذُ بِالْعَذَابِ فِي ذَلِكَ هُوَ الْإِنْسَانُ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ تَعْذِيبُ غَيْرِ فَاعِلِ الشَّرِّ وَهُوَ ظُلْمٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ إنَّمَا يَلْزَمُ الظُّلْمُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ وَرَابِطَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقٌ كَمَا مَرَّ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ وَقِيلَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَوْنَ امْتِثَالِ التَّكَالِيفِ بِمُجَرَّدٍ نَحْوَ التَّفَكُّرِ بِدُونِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَهَذَا يَقْتَضِي إلْغَاءَ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ كُفْرٌ وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ التَّجَرُّدَ لَا يُوجِبُ وَلَا يُنَافِي مَا أَوْجَبَهُ عَلَى أَنَّك قَدْ عَرَفْت مِنْ جَوَازِ كِفَايَةِ نَحْوَ التَّعَلُّقِ، لَعَلَّ وَجْهَ الْكُفْرِ لَيْسَ مَا ذُكِرَ هُنَا فَقَطْ بَلْ لَهُمْ كَلَامٌ آخَرُ اقْتَضَى مَجْمُوعُهُ الْكُفْرَ وَمَا ذُكِرَ هُنَا بَعْضُ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَيَجِبُ إكْفَارُ قَوْمٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَى شَيْئًا وَلَا يُرَى) فَإِنَّ الْأَوَّلَ إنْكَارٌ لِصِفَةِ الْبَصَرِ أَوْ الْعِلْمِ، وَالثَّانِي لِكَوْنِهِ تَعَالَى مَرْئِيًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] وَقَالَ {أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وَقَالَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] الْآيَةَ لَعَلَّ الْكُفْرَ بِمَجْمُوعِ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْأَوَّلِ عَلَى عَدَمِ التَّأْوِيلِ بِالرُّجُوعِ إلَى صِفَةِ

الْعِلْمِ وَإِلَّا فَالْأَشَاعِرَةُ قَائِلُونَ بِعَدَمِ صِفَةِ السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ عَلَى مَا قِيلَ. (وَيَجِبُ إكْفَارُ الشَّيْطَانِيَّةِ الطَّارِقِ) قِيلَ الصَّوَابُ شَيْطَانُ الطَّارِقِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَقَبُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ رَأْسِ النُّعْمَانِيَّةِ مِنْ فِرَقِ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ وَقِيلَ مِنْ الشِّيعَةِ (فِي قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ شَيْئًا إلَّا إذَا أَرَادَهُ وَقَدَّرَهُ) فَمَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ كَذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَجَمِيعِ الْمُمْتَنِعَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ حَالَ عَدَمِهَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَهُ تَعَالَى فَيَلْزَمُ الْجَهْلُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. (وَفِيهَا مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ جَهْمٍ) ابْنِ صَفْوَانَ عَنْ حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ قَالَ لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا وَاَللَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَأَنَّ عِلْمَهُ حَادِثٌ لَا فِي مَحَلٍّ وَأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّ الْجَنَّةَ، وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ انْتَهَى. فَلَا تَكْرَارَ كَمَا تُوُهِّمَ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِ بِالْمُجْبِرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْمَقَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ بَلْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَقَالِ قِيلَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَكَانَ فَصِيحَ اللِّسَانِ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ، وَيُجَالِسُ الدَّهْرِيَّةَ وَيَقُولُ الرَّبُّ هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ فَقُتِلَ عَلَى بِدْعَتِهِ بِأَصْبَهَانَ قِيلَ فَاسْوَدَّ وَجْهُهُ لَكِنْ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أُسْنِدَ إلَى الْجَهْمِيَّةِ كَلِمَاتٌ أُخَرَ نَحْوَ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ بِكُلِّ مَكَان لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]- وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِلَا اعْتِبَارِ إقْرَارٍ (فَهُوَ خَارِجٌ عِنْدَنَا مِنْ الدِّينِ فَلَا نُصَلِّي عَلَيْهِ وَلَا نَتْبَعُ جِنَازَتَهُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَيِّتِ وَبِالْكَسْرِ نَعْشٌ وَعَلَيْهِ الْمَيِّتُ، وَقِيلَ اسْمٌ لِهَذَا بِالْفَتْحِ أَيْضًا وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ قِيلَ ذُكِرَ جَهْمٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ عَجِبْت لِشَيْطَانٍ إلَى النَّاسِ دَاعِيًا إلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمَ. (وَأَمَّا صِنْفُ) (الْقَدَرِيَّةِ) مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ النَّافِينَ لِلْقَدَرِ (يَرُدُّونَ الْعِلْمَ) لَهُ تَعَالَى (فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا) خَارِجُونَ عَنْ الدِّينِ (وَتَفْسِيرُ رَدِّ الْعِلْمِ) أَيْ بَيَانُهُ (أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ عِنْدَ كَوْنِهِ) أَيْ عِنْدَ وُجُودِهِ (وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ) يُوجَدُ (عِنْدَ كَوْنِهِ) وُجُودِهِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا سَبَقَ. (وَأَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ) لَمْ يُوجَدْ (فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَكُونَ فَهَؤُلَاءِ) الظَّاهِرُ كُلُّ مَا ذَكَرَ هُنَا لَا الْأَخِيرُ فَقَطْ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ وَحُكْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ (كُفَّارٌ لَا نَتَزَوَّجُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَلَا نُزَوِّجُهُمْ) لِلُزُومِ إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ عَلَيْهِمْ (وَلَا نَتْبَعُ جِنَازَتَهُمْ) . (وَأَمَّا) (الْمُرْجِئَةُ فَإِنَّ ضَرْبًا مِنْهُمْ يَقُولُونَ نُرْجِئُ) أَيْ نَكِلُ (أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافِرِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى) خِلَافَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فِي النَّارِ عَلَى مُقْتَضَى

خَبَرِهِ وَوَعْدِهِ بِلَا إيجَابٍ (فَيَقُولُونَ الْأَمْرُ) مِنْ الْعَفْوِ، وَالتَّعْذِيبِ (فِيهِمْ) فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافِرِينَ (مُفَوَّضٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّهُ (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) كَمَا هُوَ عِنْدَنَا فِي الذُّنُوبِ غَيْرِ الشِّرْكِ (وَالْكَافِرِينَ) وَقَدْ امْتَنَعَ بِالنُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ مَغْفِرَةُ الْكَافِرِ وَاَللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) مُؤْمِنًا وَلَوْ صَالِحًا أَوْ كَافِرًا، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ أَشَارَ إلَى دَلِيلِهِمْ عَلَى حُكْمِهِمْ بِقَوْلِهِ (وَيَقُولُونَ لَهُ تَعَالَى الْآخِرَةُ، وَالْأُولَى) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل: 13] فَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فَهَذَا (كَمَا نَرَى) نَعْتَقِدُ (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا) بِالْفَقْرِ، وَالْمَرَضِ، وَالْمَصَائِبِ (وَيُنَعِّمُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْكَافِرِينَ) بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ وَضُرُوبِ الْإِحْسَانِ كُلِّهَا اسْتِدْرَاجًا وَمَقْتًا (وَذَلِكَ) أَيْ فِعْلُهُ مَعَ الْفَرِيقَيْنِ (عَدْلٌ فَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ) فَيَجُوزُ تَنْعِيمُهُ لِلْكَافِرِ وَتَعْذِيبُهُ لِلْمُؤْمِنِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ يَمْتَنِعُ تَنْعِيمُ الْكَافِرِ فِي الْآخِرَةِ نَصَّا وَإِجْمَاعًا وَكَذَا تَعْذِيبُ مُطْلَقِ الْمُؤْمِنِ خُلُودًا، وَالْمُؤْمِنُ الْمُطِيعُ أَصْلًا عَلَى مُقْتَضَى وَعْدِهِ وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يَجُوزُ خُلْفُ الْوَعْدِ مِنْهُ تَعَالَى (فَيُسَوُّونَ حُكْمَ الْآخِرَةِ، وَالْأُولَى) فِي الْمُؤْمِنِ، وَالْكَافِرِ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَالْمُؤَاخَذَةِ (فَهَؤُلَاءِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ (وَهُمْ كُفَّارٌ) لِتَسْوِيَتِهِمْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَيَلْزَمُهُمْ عَدَمُ نَفْعِ الْإِيمَانِ، وَالطَّاعَةِ وَعَدَمُ ضَرَرِ الْكُفْرِ، وَالْفِسْقِ. (وَكَذَلِكَ) فِي الْإِكْفَارِ (الضَّرْبُ الْآخَرُ مِنْهُمْ) (الَّذِينَ يَقُولُونَ حَسَنَاتُنَا مَقْبُولَةٌ وَسَيِّئَاتُنَا مَغْفُورَةٌ) فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لَا يُفِيدُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ (وَالْأَعْمَالُ) الَّتِي اعْتَقَدْنَا فِي شَرِيعَتِنَا قَالُوا (لَيْسَتْ بِفَرَائِضَ) بَلْ كُلُّهَا نَوَافِلُ فَالْعَبْدُ مُخَيَّرٌ فِي إتْيَانِهَا (وَلَا يُقِرُّونَ) مِنْ الْإِقْرَارِ (بِفَرَائِضِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ) كَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ (وَيَقُولُونَ هَذِهِ) كُلُّ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ (فَضَائِلُ مَنْ عَمِلَ بِهَا فَحَسَنٌ) يُثَابُ عَلَيْهِ (وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) مِنْ الْعَذَابِ، وَالْعِقَابِ (فَهَؤُلَاءِ أَيْضًا كُفَّارٌ) لِإِنْكَارِهِمْ النُّصُوصَ الْقَطْعِيَّةَ. (وَأَمَّا) (الْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا نَتَوَلَّى) لَا نَتَّخِذُ أَوْلِيَاءَ (الْمُؤْمِنِينَ الْمُذْنِبِينَ وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ) (فَهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعَةُ) مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ فَالْأَوْلَى فَهَؤُلَاءِ

هُمْ الْمُبْتَدِعَةُ أَوْ مُبْتَدِعَةٌ (وَلَا تُخْرِجُهُمْ بِدْعَتُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْكُفْرِ) أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ إذْ ظَاهِرُهُ هُوَ الْبُغْضُ فِي اللَّهِ لِعِصْيَانِهِ بَلْ اللَّائِقُ عَدَمُ اتِّخَاذِ الْفُسَّاقِ أَوْلِيَاءَ وَأَنْ يَعْرِضَ كُلَّ الْإِعْرَاضِ كَمَا يَعْرِضُ عَنْ الْكُفَّارِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ بَعِيدٌ عَنْ ظَاهِرِهِ وَتَأْوِيلٌ لِجَلْبِ مَفْسَدَةٍ، وَالتَّأْوِيلُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ. (وَأَمَّا) (الْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ نُرْجِئُ) أَيْ نُفَوِّضُ (أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا نُنْزِلُهُمْ) أَيْ لَا نَحْكُمُ بِأَنَّ لَهُمْ (جَنَّةً وَلَا نَارًا وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ وَنَتَوَلَّاهُمْ) الظَّاهِرُ وَلَوْ فُسَّاقًا (فِي الدِّينِ فَهُمْ عَلَى السُّنَّةِ) فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَيْضًا الْإِعْرَاضُ عَنْ الْفَسَقَةِ، وَالظَّلَمَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ هَذَا بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ (فَالْزَمْ قَوْلَهُمْ، وَخُذْ بِهِ) صِيغَتَا أَمْرٍ. (وَأَمَّا) (الْخَوَارِجُ) (فَمَنْ لَمْ يَرُدَّ قَوْلَهُمْ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (وَكَانَ خَطَؤُهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ) بِصَرْفٍ عَنْ ظَاهِرِهِ (يَتَأَوَّلُونَ أَنَّ الْأَعْمَالَ) أَيْ الصَّالِحَةَ (إيمَانٌ يَقُولُونَ إنَّ الصَّلَاةَ إيمَانٌ وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ، وَالطَّاعَاتِ) وَلَوْ نَوَافِلُ (فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وَكَذَا سَائِرُ مَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِالضَّرُورَةِ (وَ) أَتَى بِفِعْلِ (جَمِيعِ الطَّاعَاتِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الطَّاعَاتِ) الْمَفْرُوضَةِ (كَفَرَ) لِفَقْدِ الْكُلِّ بِفَقْدِ جُزْئِهِ، وَمِنْ الطَّاعَاتِ تَرْكُ الْمَعَاصِي. وَأَمَّا النَّوَافِلُ فَلَعَلَّهَا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُكَمِّلَةِ (وَيَقُولُونَ الزَّانِي يَكْفُرُ حِينَ يَزْنِي وَشَارِبُ الْخَمْرِ يَكْفُرُ حِينَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ) أَخْذًا بِظَوَاهِرِ نَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَ «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» (وَكَذَا يَقُولُونَ فِي جَمِيعِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ حِينَ فِعْلِهِ (يُكَفِّرُونَ النَّاسَ) أَيْ الْمُسْلِمِينَ (بِتَرْكِ الْعَمَلِ) مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ (فَهَؤُلَاءِ تَأَوَّلُوا) الْأَخْبَارَ الشَّرْعِيَّةَ (وَأَخْطَئُوا) فِي تَأْوِيلِهِمْ (فَهُمْ مُبْتَدِعَةٌ) لَيْسُوا بِكَافِرِينَ لِكَوْنِ إكْفَارِهِمْ اغْتِرَارًا بِظَاهِرِ النَّصِّ لَا بِمُجَرَّدِ هَوًى لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا قَالُوا: إنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تُكَفِّرُنَا فَنُكَفِّرُهُمْ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِكَافِرٍ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ مِنْ الظَّنِّيِّ الَّذِي لَا يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ (فَإِيَّاكَ وَقَوْلَهُمْ) وَتَبَاعَدْ وَاحْذَرْ عَنْهُ (وَلَا تَقُلْ بِقَوْلِهِمْ وَاجْتَنِبْهُمْ وَاحْذَرْهُمْ وَفَارِقْهُمْ وَخَالِفْهُمْ) إذْ حَالُ الْمُتَسَنِّنِ مَعَ الْمُبْتَدِعَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَتَأَمَّلْ

مَا سَبَقَ. (وَأَمَّا) (مَنْ لَمْ يَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ) مِنْ الرَّوَافِضِ، وَالشِّيعَةِ وَيَرَوْنَ الْمَسْحَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ عُرْيَانَةً (فَقَدْ رَغِبَ) أَعْرَضَ (عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عِنْدَنَا مُبْتَدِعٌ) إنْ مُتَأَوِّلًا وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ إنْ مُنْكِرًا لِكَوْنِ ثُبُوتِهِ قَرِيبًا إلَى التَّوَاتُرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ يُنْكِرُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَيَكْفُرُ إنْ كَرَاهَةً لَهَا، وَقِيلَ إنْ كَسَلًا أَيْضًا (فَلَا تَتَّخِذْهُ إمَامًا فِي صَلَاتِك) فَإِنْ قِيلَ الْمُبْتَدِعُ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَقَدْ قَرَّرَ جَوَازَ إمَامَةِ الْفَاسِقِ قُلْنَا النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ فَإِنَّ إمَامَتَهُ وَإِنْ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا لَكِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ وَقَدْ أُشِيرَ آنِفًا أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلِ عُرْيَانَةً فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ أَوْ لِاحْتِمَالِ مَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهُ وَحَمْلُ الْبِدْعَةِ عَلَى الْكُفْرِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ بَعِيدٌ عَنْ حَلَاوَةِ السَّوْقِ (وَلَا تُوَقِّرْهُ) التَّوْقِيرُ التَّعْظِيمُ (وَلَا تَخْتَلِفْ إلَيْهِ) لَا تَرَدُّدٌ وَلَا تَخْتَلِطُ إلَيْهِ (فَإِنَّهُ صَاحِبُ بِدْعَتِهِ) وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ مِمَّنْ يَجِبُ إهَانَتُهُ وَبُغْضُهُ. قَالَ فِي الشِّرْعَةِ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُفَاتَحَةِ الْقَدَرِيَّةِ بِالسَّلَامِ أَيْ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَنَهَى عَنْ عِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ وَشُهُودِ مَوْتَاهُمْ وَنَهَى عَنْ اسْتِمَاعِ كَلَامِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ أَجْمَعِينَ فَإِنْ قَدَرْت عَلَى زَجْرِهِمْ بِأَشَدِّ الْقَوْلِ وَإِهَانَتِهِمْ بِأَبْلَغِ الْإِذْلَالِ فَافْعَلْ فَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ انْتَهَرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا، وَمَنْ أَهَانَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ آمَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ» (انْتَهَى) كَلَامُ التتارخانية. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ جُمْلَةَ مُعْتَقَدَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَوَاضِعَ لُزُومِ الْكُفْرِ، وَالْإِكْفَارِ مِنْ فِرَقِ الْمُخَالِفِينَ نَبَّهَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَظَّمَ الْخَطَرَ فِي عَدَمِ الِاسْتِيقَانِ مُحْتَجًّا بِشَوَاهِدَ تَصْلُحُ لِلِاعْتِبَارِ وَتَدْعُو لِلِانْزِجَارِ فَقَالَ (فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ) إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى (بِالْجِدِّ) أَيْ الِاجْتِهَادِ وَكَثْرَةِ السَّعْيِ (وَالتَّشْمِيرِ) عَنْ الْمِصْبَاحِ فِي الْأَصْلِ الِاجْتِهَادُ مَعَ السُّرْعَةِ (فِي تَحْصِيلِ الْيَقِينِ) بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ دُونَ التَّقْلِيدِ أَوْ بِالنَّظَرِ الْفَاسِدِ صُورَةً أَوْ مَادَّةً (بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَالْإِذْعَانِ لَهُ) لِلْمَذْهَبِ الْمَذْكُورِ (وَغَايَةِ التَّيَقُّظِ) مِنْ غَبَاوَةِ الذُّهُولِ (وَالتَّنَبُّهِ) مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ (، وَالتَّضَرُّعِ) أَيْ التَّوَسُّلِ كَمَا قِيلَ. (وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّ الْأَمْرَ صَعْبٌ، وَالْخَطَرَ عَظِيمٌ، وَالنَّفْعَ جَسِيمٌ مَعَ عَدَمِ طَاقَةِ الْقُوَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا فِيهِ (حَتَّى لَا تَزِلَّ) مِنْ الزَّلَلِ هُوَ الْخَطَأُ (قَدَمُك) الْمَعْنَوِيَّةُ (وَلَا يَزُولَ اعْتِقَادُك) الْحَقَّ (بِإِضْلَالِ مُضِلٍّ) مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ (وَتَشْكِيكِ مُشَكِّكٍ) بِإِرَادَةِ شُبَهٍ فِي صُوَرِ أَدِلَّةٍ فَإِنَّ الْأَقْوَامَ بَعْدَمَا اهْتَدَوْا فِي حَقِّ الْمَقَامِ أَزَلُّوا فِي هَذَا الْبَابِ الْأَقْدَامَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (فَإِنِّي قَدْ سَمِعْت) بِالذَّاتِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ بِقَدْرِ التَّحْقِيقِيَّةِ أَوْ بِوَاسِطَةٍ وَهِيَ

الْمُتَعَارَفَةُ الْغَالِبَةُ هَذَا يَصْلُحُ شَاهِدًا مُؤَبَّدًا لِمَا ذَكَرَهُ وَأَنَّ مَا ذَكَرَ لَيْسَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ بَلْ مِنْ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ. (عَنْ بَعْضِ مُتَصَوِّفَةِ) أَيْ مُظْهِرِ الصَّفْوَةِ وَلَيْسَ لَهُ صَفْوَةٌ أَوْ هُمْ مُتَصَوِّفَةٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَعِنْدَ تَابِعِيهِمْ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ الْإِطْلَاقُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَالْكَوْنِ وَإِلَّا فَإِطْلَاقُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ افْتِرَاءٌ مَحْضٌ وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الْمُتَنَاوِلِ (زَمَانِنَا) وَهُوَ عَصْرُ التِّسْعِمِائَةِ لَكِنَّ وَفَاتَهُ إحْدَى وَثَمَانِينَ وَتِسْعَمِائَةٍ لَيْسَ هَذَا غِيبَةً بَلْ تَنْفِيرٌ لِلْغَيْرِ وَإِظْهَارُ بُغْضٍ فِي اللَّهِ (حُكِيَ عَنْ شَيْخِهِ) الْمُتَبَادَرُ بِلَا وَاسِطَةٍ (أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَقْرِبَائِهِ) نَسَبًا أَوْ صِهْرًا أَوْ خِدْمَةً وَتَرَدُّدًا بِالشَّيْخِ (يَرَى اللَّهَ) الظَّاهِرُ بِهِمَّةِ الشَّيْخِ (كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) بِنَظَرِ الْعَيْنِ يَعْنِي عَيْنَ الرَّأْسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ. (وَأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ كَوْنِهِ كَلِيمَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ) وَحَمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَبْقَ لِلْإِنْكَارِ مَجَالٌ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كُنَّا نَتَرَاءَى اللَّهَ تَعَالَى ثَمَّةَ أَيْ نَطْلُبُ رُؤْيَتَهُ الْقَلْبِيَّةَ بِحُضُورِ شُهُودِهِ ثَمَّةَ وَإِنَّ الْكَشْفَ، وَالتَّجَلِّيَ بِالْبَصِيرَةِ مُمْكِنٌ بَلْ وَاقِعٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَاطِنُ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ «إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَصِلُهُ إلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ» (وَقِيلَ لَهُ) مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] حِين طَلَبَ مُوسَى بِقَوْلِهِ {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فَهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: رُؤْيَةُ الْبَصَرِ مِنْ مُوسَى وَمِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَرُؤْيَةُ الْبَصِيرَةِ مِنْهَا أَوْ الْبَصَرِ مِنْ مُوسَى، وَالْبَصِيرَةِ مِنْ الْوَاحِدِ، وَالْعَكْسُ فَالظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْبَصَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ وَكَذَا الْبَصَرُ مِنْ جَانِبِ الْوَاحِدِ، وَالْبَصِيرَةُ مِنْ جَانِبِ مُوسَى. وَأَمَّا الْبَصِيرَةُ مِنْ الْوَاحِدِ، وَالْبَصَرُ مِنْ مُوسَى فَالظَّاهِرُ لَيْسَ بِكُفْرٍ لَكِنْ يَأْبَى عَنْهُ صَنِيعُ سَوْقِ ذَلِكَ الْمُتَصَوِّفِ وَإِنْ احْتَمَلَ فِي نَفْسِهِ وَأَمَّا الْبَصِيرَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَا يُجَابِهُ تَفْصِيلُ غَيْرِ النَّبِيِّ عَلَى النَّبِيِّ فَكُفْرٌ أَيْضًا (وَهَذَا الْكَلَامُ رُبَّمَا يَسْمَعُهُ الْغَافِلُ) إمَّا لِعَدَمِ عِلْمِ أَحْوَالِهِ تَعَالَى وَأَحْوَالِ النَّبِيِّ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ لِعَدَمِ تَوَجُّهِهِ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ (بَغْتَةً) مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَأَمُّلٍ يَعْنِي غَفْلَةً وَفَجْأَةً (فَيَظُنُّ أَنَّهُ صَحِيحٌ) ، وَالظَّنُّ خَطَأٌ فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُ مِنْ الِاعْتِقَادِ (أَوْ يَشُكُّ) فِي صِحَّتِهِ وَسَبَبُهُ الْغَالِبُ لِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُدَّعِي الْقَائِلِ. (وَهَذَا) ، وَالْحَالُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ (تَفْضِيلٌ لِغَيْرِ النَّبِيِّ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) الَّذِي هُوَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ (بَلْ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ) أَمَّا عَلَى مُوسَى؛ لِأَنَّهُ نَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ مَا لَمْ يَنَلْهُ مُوسَى مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ مَعَ قُوَّةِ حِرْصِهِ وَطَلَبِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا رُؤْيَةُ اللَّهِ وَإِنْ تَيَسَّرَ كَانَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ اخْتِلَافِيٌّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ (فَإِنَّ) (رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى) بِالْبَصَرِ (أَعْلَى الْمَرَاتِبِ) لَا مَرْتَبَةَ فَوْقَهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُوجَدُ بِالْقُرْبِ الْكَامِلِ إلَيْهِ تَعَالَى (وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا) ؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ فَانٍ، وَالْحَقَّ بَاقٍ وَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي. وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ فَالْعَيْنُ بَاقٍ أَيْضًا فَيَرَى الْبَاقِيَ بِالْبَاقِي كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ الشَّيْخِ عَلْوَانَ فَكَذَبَ مُدَّعِي الرُّؤْيَةَ هُنَا بِمَا كَادَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ لَا سِيَّمَا مِمَّنْ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا بِالْأَوْهَامِ غَيْرَ مُتَخَلِّقٍ وَلَا مُتَحَقِّقٍ بِقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَفِسْقُهُ لِكَذِبِهِ وَافْتِرَائِهِ وَاضِحٌ انْتَهَى. (سِوَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ)

وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ هَلْ هُوَ بِالْبَصَرِ أَوْ بِالْبَصِيرَةِ عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِ كِبَارِ الْأَصْحَابِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِعَيْنِ الرَّأْسِ وَتَصْحِيحُ التَّفْتَازَانِيِّ تَصْحِيحٌ بِالْفُؤَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ. (وَقَدْ عَرَفْت فِيمَا سَبَقَ) فِي أَوَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ (أَنَّ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ) (الْوَلِيَّ) مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَوْ فِي أَعْلَى دَرَجَةِ الْقُرْبِ (لَا يَبْلُغُ دَرَجَةَ النَّبِيِّ) سِيَّمَا الرَّسُولُ خُصُوصًا أُولِي الْعَزْمِ قَالُوا: إنَّ آخِرَ مَقَامَاتِ الْوَلَايَةِ أَوَّلُ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ وَآخِرَ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ أَوَّلُ دَرَجَاتِ النَّبَوِيَّةِ وَآخِرَهَا أَوَّلُ دَرَجَاتِ الرِّسَالَةِ وَآخِرَهَا أَوَّلُ دَرَجَاتِ أُولِي الْعَزْمِ الَّذِينَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ لَمْ يَظْفَرْ بِالرُّؤْيَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ (فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا) إذْ مُقْتَضَى تِلْكَ الدَّعْوَى التَّجَاوُزُ لِمَرْتَبَةِ مُوسَى صَرِيحًا وَلِمَرَاتِبِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الْتِزَامًا أَوْ دَلَالَةً. رُوِيَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى رُؤْيَةَ مَقَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهُ إنَّكَ لَا تُطِيقُ؛ لِأَنَّ نُورَك ضَعِيفٌ فَأَلَحَّ فِي السُّؤَالِ. قَالَ أَبُو يَزِيدَ فَفَتَحَ لِي مِنْ ذَلِكَ خُرْمَ إبْرَةٍ فَلَمْ أُطِقْ الثُّبُوتَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاحْتَرَقْت هَذَا قَوْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ قِيلَ قُرِّرَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِهِ وَلَوْ احْتِمَالًا ضَعِيفًا فَالْبَصَرُ مِنْ جَانِبِ مُوسَى. وَالْبَصِيرَةُ مِنْ جَانِبِ الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ السَّوْقُ لَيْسَ بِكُفْرٍ كَمَا أُشِيرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْفَضْلَ كَمَا رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْمَشَايِخِ قِيلَ لَهُ لِمَ لَا تَمْشِي إلَى أَبِي يَزِيدَ فَتَرَاهُ فَقَالَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَأَيْت اللَّهَ وَأَغْنَانِي عَنْ أَبِي يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ لَأَنْ تَرَى أَبَا يَزِيدَ مَرَّةً خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَرَى اللَّهَ أَلْفَ مَرَّةٍ ثُمَّ اتَّفَقَ لَهُ بَعْدَ زَمَانٍ رُؤْيَةُ أَبِي يَزِيدَ فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمَرِيدُ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَقِيلَ لِأَبِي يَزِيدَ عَنْهُ فَقَالَ كَانَ الْحَقُّ عِنْدَهُ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرُنَا أَعْظَمُ مِنْ قَدْرِهِ فَمَعْرِفَتُنَا بِاَللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَمَّا رَآنَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصِيرَتِهِ فَرَأَى الْحَقَّ عَلَى قَدْرِنَا لَا عَلَى قَدْرِهِ فَلَمْ يُطِقْ فَمَاتَ. وَعَنْ الْإِحْيَاءِ قَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: يَا غُلَامُ اذْهَبْ عِنْدَ أَبِي يَزِيدَ فَقَالَ لَيْسَ لِي عِنْدَهُ حَاجَةٌ لِأَنِّي أَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَقَالَ الشَّيْخُ لَأَنْ تَرَى أَبَا يَزِيدَ مَرَّةً أَحْسَنُ مِنْ أَنْ تَرَى اللَّهَ سَبْعِينَ مَرَّةً قُلْنَا فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ وَإِنَّ مُوسَى مَعَ كَوْنِهِ كَلِيمًا إلَى آخِرِهِ يَقْطَعُ عِرْقَ هَذَا الِاحْتِمَالِ إذْ هُوَ نَصٌّ فِي التَّفْضِيلِ وَآبٍ عَنْ التَّأْوِيلِ وَأَنَّ رُؤْيَةَ الْوَاحِدِ الْمَذْكُورِ كَالْغُلَامِ الْمَذْكُورِ تَارَةً لَا تَقْتَضِي عَدَمَ رُؤْيَةِ أَبِي يَزِيدَ أَوْ قِلَّتَهَا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَهُ مُسْتَغْرِقٌ فِي لُجَّةِ بَحْرِ أَنْوَارِ الْقُدْسِ، وَالْمُشَاهَدَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَمَا قِيلَ جَوَابًا عَنْ تَخْطِئَةِ الْمُصَنِّفِ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَصَوِّفِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنْ مُوسَى، وَالْمُثْبَتَةُ لِلْوَاحِدِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَقْرِبَاءِ الشَّيْخِ هُمَا الرُّؤْيَةُ بِالْبَصِيرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ نَيْلَ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بِحُكْمِ الْوِرَاثَةِ لِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلرُّؤْيَةِ أَتَمُّ مِنْهَا لِلنَّبِيِّ فَالرُّؤْيَةُ الْقَلْبِيَّةُ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا مُوسَى بَعْدَ طَلَبِهَا يَجُوزُ أَنْ يَنَالَهَا وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِسَبَبِ اقْتِبَاسِهِ مِنْ مِشْكَاةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ يَا رَبِّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى وَصْفَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَأُيِّدَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَقَامَ نَبِيِّنَا جَامِعٌ لِمَقَامَاتِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ عُلُومِهِمْ فَوَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ يَعْلَمُ مَا لَمْ يَعْلَمْ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ بِحُكْمِ وِرَاثَتِهِ وَأَنَّ التَّقَدُّمَ فِي الْعِلْمِ، وَالسَّبْقَ فِيهِ لَا يَقْتَضِي السَّبْقَ فِي الْفَضْلِ كَهُدْهُدِ سُلَيْمَانَ {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] . وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مَعَ سَبْقِ مُوسَى فِي الْفَضْلِ بِلَا شَكٍّ قَدْ سَبَقَ الْخَضِرُ فِي الْعِلْمِ حَتَّى قَالَ مُوسَى {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] الْآيَاتِ فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ وَعُذْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ ذَلِكَ الْمُتَصَوِّفِ إذْ مَقَامُ الرُّؤْيَةِ الْفُؤَادِيَّةِ كَالْبَصَرِيَّةِ يَقْتَضِي الْقُرْبِيَّةَ، وَالْأَفْضَلِيَّةُ لَيْسَتْ إلَّا بِالْأَقْرَبِيَّةِ فَيَلْزَمُهُ تَفْضِيلُ الْأُمَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ لُزُومًا بَيِّنًا فَيَلْزَمُهُ نَفْيُ مَا أَثْبَتَهُ صَرِيحًا بِقَوْلِهِ لَا يَقْتَضِي السَّبْقَ فِي الْفَضْلِ وَقِيَاسُهُ عَلَى الْعِلْمِ قِيَاسٌ فِقْهِيٌّ مَعَ الْفَارِقِ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْهُدْهُدِ لَيْسَ بِعِلْمٍ بَلْ خَبَرٍ عَمَّا يَرَاهُ وَلَمْ يَرَهُ سُلَيْمَانُ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْخَضِرِ فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْخَضِرِ أَعْلَمَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ كَوْنُهُ أَعْلَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مُوسَى أَعْلَمُ

فِي أُمُورِ النُّبُوَّةِ، وَالْخَضِرُ أَعْلَمُ بِأُمُورٍ أُخَرَ، وَالْفَضْلُ إنَّمَا هُوَ بِعِلْمِ النُّبُوَّةِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَمْرِ نَبِيٍّ آخَرَ وَإِنْ ضَعُفَ، وَقِيلَ أَيْضًا إنَّمَا مَجِيءُ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْخَضِرِ لِلتَّأْدِيبِ لَا لِلتَّعَلُّمِ. وَقَالَ بَعْضٌ إنَّ مُوسَى هَذَا غَيْرُ مَنْ كَانَ نَبِيًّا وَأَنْتَ تَعْلَمُ سَخَافَةَ بَاقِي كَلَامِهِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى إيرَادِ كَلَامٍ لِإِبْطَالِ مَرَامِهِ وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو مَجْمُوعُ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ لِحَاقِ شَيْنٍ وَازْدِرَاءٍ وَعَنْ التَّنْزِيلِ، وَالنَّقْصِ عَنْ الرُّتْبَةِ الْعَلِيَّةِ لِمُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَقَدْ ذَكَرَ) الشَّرِيفُ الْعَلَّامَةُ (فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ وَ) ذَكَرَ السَّعْدُ الْعَلَّامَةُ فِي (شَرْحِ الْمَقَاصِدِ) فِي التَّرْتِيبِ إيمَاءً إلَى تَفْضِيلِ الشَّرِيفِ عَلَى السَّعْدِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى عَكْسِهِ (أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ) بَلْ نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّ الْوَلَايَةَ أَعْلَى مِنْ النُّبُوَّةِ فَقِيلَ فِي بَيَانِ مُرَادِهِ عَنْ الْمَعَارِفِ الْجَامِي إنَّ جِهَةَ وِلَايَةِ نَبِيٍّ أَعْلَى مِنْ جِهَةِ نُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ إذْ كُلُّ نَبِيٍّ لَا يَكُونُ نَبِيًّا مَا لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا إذْ الْوَلَايَةُ كَسْبِيَّةٌ، وَالنُّبُوَّةُ وَهْبِيَّةٌ، وَالْكَسْبِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَهْبِيَّةِ بَلْ قِيلَ إنَّ النُّبُوَّةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِالتَّهَيُّؤِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا وَذَلِكَ بِإِكْمَالِ الْوَلَايَةِ وَإِتْمَامِهَا فَدَرَجَةُ جِهَةِ الْوَلَايَةِ قُبَيْلَ وُقُوعِ النُّبُوَّةِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ دَرَجَاتِ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ كُلِّهَا إذْ وَلَايَتُهُمْ لَنْ تَعُدَّهُمْ إلَى النُّبُوَّةِ فَافْهَمْ. (وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ أَنَّ تَفْضِيلَ الْوَلِيِّ عَلَى النَّبِيِّ) فَضْلًا عَنْ الرَّسُولِ (كُفْرٌ وَضَلَالٌ) أَشَارَ إلَى عِلَّتِهِ بِقَوْلِهِ (كَيْفَ وَهُوَ تَحْقِيرٌ لِلنَّبِيِّ) هَذَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ (وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ) دَلِيلٌ نَقْلِيٌّ وَإِطْلَاقُ الْإِجْمَاعِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَمَالُهُ الَّذِي هُوَ الْقَطْعِيُّ دَلَالَةً وَثُبُوتًا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْبَزَّازِيُّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ الْأَصْلُ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَمَالِ الْخَالِي عَنْ الْعَوَارِضِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْجَوَازِ. (وَسَمِعْت عَنْ بَعْضِ الْخَلْوَتِيَّةِ) الصُّوفِيَّةُ قِيلَ الْقِيَاسُ خَلْوِيٌّ، وَالْخَلْوَتِيَّةُ مِنْ الْغَلَطِ الْمَشْهُورِ يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ بِالتَّقْيِيدِ بِالْبَعْضِ إلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْخَلْوَتِيَّةِ لَيْسُوا بِقَائِلِينَ بِجِنْسِ هَذِهِ الْفُحْشِيَّاتِ فَالذَّمُّ مُخْتَصٌّ بِالْبَعْضِ لَا بِالْكُلِّ (أَنَّ مَا عَدَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَبْلُغُوا) فِي مَقَامِ الْكَشْفِ، وَالشُّهُودِ (مَرْتَبَةَ الِاسْمِ السَّابِعِ) الَّذِي وَقَعَ فِي تَرْتِيبِهِمْ (بَلْ وَقَفُوا فِي السَّادِسِ، وَلَمْ يَتَجَاوَزُهُ وَإِنَّا) مَعَاشِرَ الصُّوفِيَّةِ أَوْ الْخَلْوَتِيَّةِ (قَدْ جَاوَزْنَاهُ) أَيْ السَّادِسَ بِالْوُصُولِ إلَى السَّابِعِ وَثُبُوتُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إمَّا بِدَعْوَى الْكَشْفِ أَوْ بِادِّعَاءِ آثَارٍ وَأَخْبَارٍ أَوْ إشَارَةِ قُرْآنٍ. (وَهَذَا) الْكَلَامُ (مِثْلُ الْأَوَّلِ) فِي كَوْنِهِ كُفْرًا وَضَلَالًا وَتَحْقِيرًا، وَخَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَوْقَ ذَلِكَ الِاسْمِ مِنْ أَطْوَارِ الْوَلَايَةِ لَا مِنْ مَقَامَاتِ النُّبُوَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْوَلِيِّ بِوِرَاثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمَ وَلَايَةٍ لَا يَحْصُلُ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَقَامِ وَلَايَتِهِمْ، وَإِنْ حَصَلَ فِي مَقَامِ نُبُوَّاتِهِمْ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ كَمَا مَرَّ قَرِيبًا وَعَرَفْت أَيْضًا أَنَّ وَلَايَةَ كُلِّ نَبِيٍّ فِي الْكَمَالِ فَوْقَ وَلَايَةِ كُلِّ وَلِيٍّ وَأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ ذَلِكَ هُوَ الْإِطْلَاقُ لَا التَّفْصِيلُ وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْوَاهِي لَوْ كَانَ مَدَارًا لِلْخَلَاصِ عَنْ الْكُفْرِ لَمْ يَبْقَ لِمَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الرِّدَّةِ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ مَحَلٌّ يَقَعُ بَلْ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الْغَيْرِ الْوَاقِعَةِ أَصْلًا هَذَا وَلَوْ حَمَلَ مُرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّا قَدْ جَاوَزْنَا يَعْنِي جَاوَزْنَا مَعَ نَبِيِّنَا، وَالْمُتَجَاوِزُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ نَبِيُّنَا وَكَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَجْمُوعِ بِسَبَبِ وُجُودِهِ فِي بَعْضِ أَجْزَائِهِ لَأَمْكَنَ عَدَمُ الْكُفْرِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ أَيْضًا. (وَقَالَ) أَيْ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْخَلْوَتِيَّةِ (إنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْإِرْشَادِ) إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأَصْحَابِ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَإِنَّا نَتَجَاوَزُ مَرْتَبَةَ الْأَصْحَابِ) أَيْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَمَا قِيلَ إنَّ الْإِرْشَادَ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ وَفَضْلِ الصِّدِّيقِ عَلَى الْجَمِيعِ إنَّمَا هُوَ بِجِهَةِ غَيْرِ الْعِلْمِ فَمَزِيَّةُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ لَا تُوجِبُ مَزِيَّةَ فَضْلِهِ عَلَيْهِ كَبَابِ مَدِينَةِ الْعِلْمِ مَعَ كَوْنِهِ أَعْلَمَ مِنْ الصِّدِّيقِ كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ فَلَا يُخْفَى مَا فِيهِ مِنْ السَّخَافَةِ إذْ دَعْوَاهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْإِرْشَادِ كَانَ بِأَمْرٍ غَيْرِ الْعِلْمِ كَتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ وَتَجْلِيَةِ الرُّوحِ، وَالْوُصُولِ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْقُرْبِ الْإِلَهِيِّ. وَالْقَوْلُ حِكَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ قَالَ قَدْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَوَامِّ الصَّحَابَةِ، وَالْكَلَامُ مَعَ أَخَصِّ خَوَاصِّهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَتَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَحَمُّلِ الْمَقَامِ وَاحْتِمَالِ الْكَلَامِ لَا عِنْدَ تَدَاعِي الْقَرَائِنِ عَلَى سَدِّ التَّأْوِيل. (وَهَذَا) فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ (قَدْحٌ فِي أَفْضَلِ الْأَوْلِيَاءِ) لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ (وَطَعْنٌ فِي أَفَاضِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ) عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَوَّلُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَمَدْلُولٍ مُطَابِقِيٍّ، وَالثَّانِي بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَالْتِزَامِيٍّ (بَلْ) طَعْنٌ (فِي سَيِّدِنَا وَسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ رَسُولِ اللَّهِ وَحَبِيبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاسْتِلْزَامِ هَذَا الْكَلَامِ دَعْوَى الْمُسَاوَاةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبُلُوغِ إلَى مَرْتَبَةِ الِاسْمِ السَّابِعِ. وَقِيلَ لِاسْتِلْزَامِهِ كَذِبَ النَّبِيِّ فِي خَبَرِهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ وَالصَّحَابِيَّ أَفْضَلُ مِمَّنْ سِوَاهُمْ (وَقَدْ خَرَّجَ خ م عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ عِمْرَانَ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فِي الْإِسْلَامِ وَغَزَا مَعَهُ غَزَوَاتٍ وَمِنْ فُضَلَاءِ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَى أَنْ اكْتَوَى لِمَرَضٍ فَانْقَطَعَ تَسْلِيمُهُمْ فَأَبَى عَنْ الِاكْتِوَاءِ فَأَعَادُوا السَّلَامَ لَكِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْدَمُ مِنْهُ سَادِسُ الْإِسْلَامِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَجَمِيعَ الْمَشَاهِدِ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبُ وِسَادِهِ وَسِوَاكِهِ وَنَعْلَيْهِ، وَأَفْقَهُ الصَّحَابَةِ وَأَعْلَمُهُمْ وَأَزْهَدُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ تَرَدُّدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى عُدَّ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَرِوَايَتُهُ ثَمَانُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا، وَرِوَايَةُ عِمْرَانَ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» أَيْ عَصْرِي مِنْ الِاقْتِرَانِ يَعْنِي أَصْحَابِي أَوْ مَنْ رَآنِي أَوْ مَنْ كَانَ حَيًّا فِي عَهْدِي وَمُدَّتُهُمْ مِنْ الْبَعْثِ نَحْوَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً سُمِّيَتْ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ قَرْنًا لِتَقَدُّمِهَا الَّتِي بَعْدَهَا كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ وَقِيلَ الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً أَوْ عَشْرٌ أَوْ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ أَوْ خَمْسُونَ أَوْ سِتُّونَ أَوْ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ أَوْ مِائَةٌ أَوْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغُلَامٍ عِشْ قَرْنًا فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ» كَذَا فِي الْقَامُوسِ انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا أَقَلُّهَا «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» أَيْ يَقْرَبُونَ مِنْهُمْ وَهُمْ التَّابِعُونَ وَهُمْ مِنْ مِائَةٍ إلَى نَحْو تِسْعِينَ «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ وَهُمْ إلَى حُدُودِ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ ثُمَّ ظَهَرَتْ الْبِدَعُ وَأَطْلَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَلْسِنَتَهَا وَرَفَعَتْ الْفَلَاسِفَةُ رُءُوسَهَا وَلَمْ يَزَلْ الْأَمْرُ فِي نَقْصٍ إلَى الْآنَ ( «ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» يَظْهَرُ وَيَشِيعُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «، وَالْقَرْنُ الرَّابِعُ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ شَيْئًا فَلَا تَعْتَمِدُوا أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ» إذْ شَأْنُ الْكَذِبِ عَدَمُ الِاعْتِمَادِ، وَالِاغْتِنَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّ غَالِبَهَا بِدَعٌ وَضَلَالَاتٌ وَقَدْ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ كَمَا فِي حَدِيثٍ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ»

الْحَدِيثَ. لَعَلَّ الْحُكْمَ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَغْلَبِ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ وَإِلَّا فَمَا ظَهَرَ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ كَزَمَانِ يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ الرَّابِعِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ الْمُجْمَعِ عَلَى اسْتِقَامَتِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَشْكُلُ عَلَى الْحَدِيثِ ثُمَّ إنَّمَا كَانَ قَرْنُهُ خَيْرَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ حِينَ كَفَرَ النَّاسُ وَصَدَّقُوهُ حِينَ كَذَّبُوهُ وَنَصَرُوهُ حِين خَذَلُوهُ وَجَاهَدُوا وَآوَوْا وَنَصَرُوا وَتَنَوَّرُوا بِأَنْوَارِ النُّبُوَّةِ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إتْيَانِ الْحَدِيثِ إثْبَاتُ لُزُومِ الْقَدْحِ فِي سَيِّدِنَا مِنْ حَيْثُ لُزُومُ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ وَإِثْبَاتُ كَوْنِ الصَّحَابَةِ أَفَاضِلَ الْأُمَّةِ إذْ الْخَيْرِيَّةُ فِي قَرْنِهِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْفَضْلِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَتْ الْأَفْضَلِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْرَادِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي زَمَنِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ أَنْفَقَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِسَبَبِهِ لَا يَعْدِلُهُ فِي الْفَضْلِ أَحَدٌ بَعْدَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَلَا يَتِمُّ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذَلِكَ فَمَحَلُّ بَحْثٍ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ التَّابِعِيُّ الْكَبِيرُ الْمُجْمَعُ عَلَى جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا يُرِيدُ الصَّحَابَةَ كُنَّا فِي جَنْبِهِمْ لُصُوصًا (وَخَرَجَ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا « (أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِمْ) ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِيهِ بَدَلُ فِيهِمْ وَهُمْ الصَّحَابَةُ. (ثُمَّ الثَّانِي) التَّابِعُونَ (ثُمَّ الثَّالِثُ) » أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ (وَخَرَّجَا) أَيْ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ خَرَّجَا خ م فَالظَّاهِرُ مِنْ سَهْوِ النَّاسِخِ وَإِنْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ فَأَخَذَهُ (عَنْ) أَبِي سَعِيدٍ (الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» ، وَفِي الْمَشَارِقِ عَلَى رَمْزِ مُسْلِمٍ فَقَطْ عَلَى تَكْرَارِ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ تَكْرَارُهُ لِلتَّأْكِيدِ وَلِغَايَةِ قُبْحِ سَبِّهِمْ قَالَ الْجُمْهُورُ مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يُعَزَّرُ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يُقْتَلُ. وَفِي فَتَاوَى أَبِي السُّعُودِ فِيمَنْ اسْتَفْتَى عَنْ سَبِّ مُعَاوِيَةَ وَطَعْنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَجَابَ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَالْحَبْسِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَى أَنْ يُظْهِرَ سِيمَاءَ الصَّلَاحِ، وَالتَّوْبَةَ الصَّادِقَةَ «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ» أَيْ كُلَّ أَحَدٍ مِنْكُمْ «لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا» يَعْنِي لَوْ تَصَدَّقَ ذَهَبًا مِقْدَارَ جَبَلِ أُحَدٍ ( «مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ» بِضَمِّ الْمِيم. وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا رُبْعُ الصَّاعِ ( «وَلَا نَصِيفُهُ» وَهُوَ لُغَةٌ فِي النِّصْفِ كَالْخَمِيسِ فِي الْخَمْسِ وَقِيلَ النَّصِيفُ مِكْيَالٌ أَيْضًا دُونَ الْمُدِّ يَعْنِي تَصَدُّقُ قَدْرَ الْمُدِّ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَصَدُّقِ ذَهَبٍ مِثْلِ أُحُدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ إنْفَاقَهُمْ بِصِدْقِ النِّيَّةِ وَمَزِيدِ الْإِخْلَاصِ مَعَ مَا كَانُوا فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ وَكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إلَى نُصْرَةِ الدَّيْنِ وَهَذَا مَعْدُومٌ بِعَدَمِهِمْ وَكَذَا سَائِرُ طَاعَاتِهِمْ. فَإِنْ قُلْت الْمُخَاطَبُونَ إنْ كَانُوا الصَّحَابَةَ فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ كَانُوا مَنْ بَعْدَهُمْ فَهُمْ غَيْرُ مَوْجُودِينَ قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ مِنْ الْعَوَامّ الَّذِينَ لَمْ يُصَاحِبُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُفْهَمُ مِنْهُ خِطَابُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْخِطَابَ يُوجِبُ الرُّؤْيَةَ، وَالرُّؤْيَةُ تُوجِبُ الصُّحْبَةَ فَيَرْجِعُ إلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ الَّذِي حُكِمَ فِيهِ بِعَدَمِ الِاسْتِقَامَةِ وَكَذَا مَا أُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِعَوَامِّ الصَّحَابَةِ أَوْ مَعَ صِغَارِ الصَّحَابَةِ أَوْ مَعَ الَّذِينَ سَيُوجَدُونَ وَأَكْثَرُ الشَّرَائِعِ عَلَى هَذَا النَّهْجِ وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ «كَانَ

بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَيْنَ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - شَيْءٌ فَسَبَّهُ خَالِدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَسُبُّوا» . إلَى آخِرِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ خَالِدًا مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ حَتَّى سَمَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيْفَ اللَّهِ وَسَيْفَ الْأَرْضِ وَبَعَثَهُ فِي سَرَايَا وَشَهِدَ مَعَهُ غَزَوَاتِ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَتَبُوكَ وَحَجَّةَ الْوَدَاعِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ مُتَأَخِّرُو الصَّحَابَةِ وَعَوَامُّهُمْ مَعَ مُطْلَقِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَمِنْ الصَّحَابَةِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَمَنْ نَزَلَ فِي فَضْلِهِمْ وَتَبْرِئَتِهِمْ الْقُرْآنُ كَأَهْلِ بَدْرٍ بِقَرِينَةِ سَبَبِ وُرُودِ الْحَدِيثِ فَتَأَمَّلْ. (وَخَرَّجَ ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «اللَّهَ اللَّهَ فِي» حَقِّ «أَصْحَابِي» أَيْ: اتَّقُوا اللَّهَ فِيهِمْ وَلَا تَلْمِزُوهُمْ بِسُوءٍ أَوْ اُذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِمْ وَفِي تَعْظِيمِهِمْ، وَالتَّكْرِيرُ لِلْإِيذَانِ بِمَزِيدِ الْحَثِّ عَلَى الْكَفِّ عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِمُقْتَضٍ فَلَا يُنْظَرُ إلَى الْمُخَالَفَاتِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَالْحُرُوبِ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ الْحَمِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فِي نُصْرَةِ الْأَحْكَامِ. ( «لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا» بِمُعْجَمَةٍ هَدَفًا تَرْمُوهُمْ بِقَبِيحِ الْكَلَامِ فَتَشْبِيهٌ بَلِيغٌ «مِنْ بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أُحِبُّهُمْ» أَيْ فَبِسَبَبِ حُبِّي لَهُ أَوْ حُبِّي إيَّاهُمْ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا أَحَبَّ جَمِيعَ مَنْ يُحِبُّهُ ذَلِكَ «وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي» فَبِسَبَبِ بُغْضِهِ إيَّايَ «أَبْغَضُهُمْ» يَعْنِي إنَّمَا أَبْغَضُهُمْ لِبُغْضِهِ إيَّايَ «وَمَنْ آذَاهُمْ» بِمُطْلَقِ مَا يَسُؤْهُمْ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فَإِنَّ الْأَمْوَاتَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ الْأَحْيَاءُ. «فَقَدْ آذَانِي» فَإِنَّ الْحَبِيبَ يَتَأَذَّى بِمَا يَتَأَذَّى بِهِ حَبِيبُهُ وَبِإِذَائِهِ «وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ تَعَالَى» ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الرَّسُولِ تَعْظِيمُ مُرْسِلِهِ وَكَذَا أَذَاهُ «وَمَنْ آذَى اللَّهَ تَعَالَى فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» أَيْ يُسْرِعَ انْتِزَاعِ رُوحِهِ أَخْذَةَ غَضْبَانَ مُنْتَقِمٍ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ جَبَّارٍ قَهَّارٍ - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]- هَذَا عُدَّ مِنْ بَاهِرِ مُعْجِزَاتِهِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنْ ظُهُورِ الْبِدَعِ وَإِيذَاءِ الْبَعْضِ لِحُبِّ بَعْضٍ آخَرَ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (تَتِمَّةٌ) اُخْتُلِفَ فِي سَابِّ الصَّحَابَةِ فَقَالَ عِيَاضٌ قَالَ الْجُمْهُورُ يُعَزَّرُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ يُقْتَلُ وَخَصَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ذَلِكَ بِالشَّيْخَيْنِ، وَالْحَسَنَيْنِ فَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَجْهَيْنِ، وَقَوَّاهُ السُّبْكِيُّ فِيمَنْ كَفَّرَ الشَّيْخَيْنِ وَمَنْ كَفَّرَ مَنْ صَرَّحَ الْمُصْطَفَى بِإِيمَانِهِ أَوْ تَبْشِيرِهِ بِالْجَنَّةِ وَأَطْلَقَ الْجُمْهُورُ التَّعْزِيرَ انْتَهَى. قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: سَبُّ الشَّيْخَيْنِ وَلَعْنُهُمَا كُفْرٌ وَتَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا ابْتِدَاعٌ وَكُلُّ كَافِرٍ تَابَ فَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ إلَّا الْكَافِرَ بِسَبِّ نَبِيٍّ أَوْ بِسَبِّ الشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا (وَخَرَّجَ ت عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - « (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) أَيْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا» أَوْ قَالَ لَهُمَا ( «هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ» جَمْعُ كَهْلٍ مَنْ خَطَّهُ الشَّيْبُ أَوْ مَنْ جَاوَزَ الثَّلَاثِينَ وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ إلَى إحْدَى وَخَمْسِينَ «أَهْلِ الْجَنَّةِ» وَجْهُ الْكُهُولَةِ إمَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمَا كَهْلَيْنِ عِنْدَ وُرُودِ هَذَا الْأَثَرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَا عَلَيْهِ عِنْدَ خُرُوجِهِمَا مِنْ الدُّنْيَا كَمَا قِيلَ أَوْ كَمَا أَنَّ الْكُهُولَةَ أَمْرٌ وَسَطٌ بَيْنَ الشَّبَابِ، وَالشَّيْبِ كَذَلِكَ فَضْلُهُمَا مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ فَضْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِلَّا فَأَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ أَبْنَاءُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى سَمْتِ آدَمَ وَصُورَةِ يُوسُفَ وَقَلْبِ أَيُّوبَ وَلَوْ سِقْطًا أَوْ شَيْخًا هَرَمًا فَانِيًا. «مِنْ الْأَوَّلِينَ» بَيَانٌ لِلْكُهُولِ «وَالْآخِرِينَ

إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِمَا عَلَى أَوْلِيَاءِ جَمِيعِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَلَوْ هُمْ مِمَّا اُخْتُلِفَ فِي نُبُوَّتِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ نُبُوَّتِهِمْ وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعِهِ بِمَا يُشْعِرُ فَضْلَهُ فَافْهَمْ (وَخَرَّجَ ت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَلَهُ وَزِيرَانِ» الْوَزِيرُ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَيَحْمِلُ الثِّقَلَ وَيُعِينُ بِالرَّأْيِ «مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَوَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَجَبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» . «وَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَعَلَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِرُتْبَةِ الشَّرَفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَوَاقِي إذْ حَاصِلُ الْوَزَارَةِ التَّبَعِيَّةُ، وَالْإِعَانَةُ فَإِعَانَةُ أَبِي بَكْرٍ بِكَوْنِهِ سَابِقًا فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَعْيَانِ كِبَارِ الْأَصْحَابِ أَسْلَمُوا بِإِشَارَتِهِ وَإِعَانَةُ عُمَرَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَهُمَا كَانَا خَلِيفَةً بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعَانَةُ جَبْرَائِيلَ ظَاهِرَةٌ. وَأَمَّا إعَانَةُ مِيكَائِيلَ فَلَعَلَّهُ فِي الْإِعَانَةِ فِي الْحُرُوبِ عِنْدَ إمْدَادِهِ تَعَالَى بِالْمَلَائِكَةِ أَوْ يُقَالُ هُمَا وِزَارَتُهُمَا فِي مَصَالِحِ الْمَلَكُوتِ، وَالْجَبَرُوتِ يَعْنِي فِي الْأُمُورِ الَّتِي بَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَوِزَارَةُ الْعُمُرَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أُمَّتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَخَرَّجَ خ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ) بْنِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ غَيْرِ فَاطِمَةَ مِنْ جَارِيَةٍ أَخَذَهَا عَلِيٌّ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ جَمَاعَةِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَيُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ الْأَكْبَرُ وَلِابْنٍ آخَرَ مُحَمَّدٌ الْأَوْسَطُ وَلِآخَرَ لَهُ مُحَمَّدٌ الْأَصْغَرُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ بِاسْمِ مُحَمَّدٍ لَعَلَّ لِغَايَةِ الْفَضْلِ فِي اسْمِ مُحَمَّدٍ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ طَعَنَهُ بَعْضُهُمْ. وَيُقَالُ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ الْوَلَدِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَتِسْعَ عَشْرَةَ أُنْثَى (قُلْت لِأَبِي) يَعْنِي عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْت ثُمَّ مَنْ قَالَ عُمَرُ وَخَشِيت أَنْ أَقُولَ ثُمَّ مَنْ فَيَقُولَ عُثْمَانُ قُلْت ثُمَّ أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا إلَّا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) وَقَعَتْ الرِّوَايَةُ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ هَكَذَا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ عُمَرُ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ عُثْمَانُ قَالَ ثُمَّ مَنْ فَسَكَتَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَقَالَ لَوْ شِئْت لَأَنْبَأْتُكُمْ بِالرَّابِعِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَنْتَ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَبُوك امْرُؤٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا سَكَتَ لِئَلَّا يُرِدْ مَدْحَ نَفْسِهِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي تَفْصِيلِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْآخِرِينَ مَعَ كَوْنِ الْأَكْثَرِ، وَالْأَصَحِّ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَى وَفْقِ هَذَا التَّرْتِيبِ. (وَخَرَّجَ ت عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَنْبَغِي لِقَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ» ؛ لِأَنَّ مَدَارَ الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ فَمَنْ هُوَ أَفْضَلُ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ كَمَا فَصَّلْت فِي الْفِقْهِيَّةِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ مِنْهُ الْإِمَامَةُ بِمَعْنَى الْخِلَافَةِ فَإِنْ قِيلَ قَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ فَيَلْزَمُ تَقْدِيمُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِمَامَةِ قُلْت قَرَّرَ فِيهِ أَيْضًا تَخْصِيصَ الْعَامِّ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ إذْ لَفْظُ قَوْمٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ

الْعُمُومُ فَلَا إشْكَالَ أَصْلًا ثُمَّ إنَّهُ لِهَذَا عَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِمَامَةِ فِي مَرَضِهِ فَلَمَّا أَمَّ عُمَرُ وَصَلَّى بِالنَّاسِ أَعَادُوا صَلَاتَهُمْ بِإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّهُ «لَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُ بِلَالٌ إلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ غَائِبٌ وَعُمَرُ فِي النَّاسِ فَقُلْت يَا عُمَرُ قُمْ فَصَلِّ بِالنَّاسِ فَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَوْتَهُ قَالَ فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، فَبَعَثَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِهِمْ عُمَرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «حِينَ سَمِعَ صَوْتَ عُمَرَ خَرَجَ حَتَّى أَطْلَعَ رَأْسَهُ مِنْ حُجْرَتِهِ ثُمَّ قَالَ لَا لَا لَا لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ يَقُولُ ذَلِكَ مُغْضَبًا» . وَفِي بَحْرِ الْكَلَامِ فِي بَحْثِ الْخِلَافَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ الْمُشَاوَرَةِ ظَنَنْت أَنَّ عَلِيًّا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَأَرَدْت أَنْ أُتَابِعَ فَقَامَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ قُمْ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ: فَمَنْ ذَا الَّذِي يُؤَخِّرُك عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ خَلِيفَةً وَلَمْ يَأْمُرْنِي، وَقَالَ مُرْ أَبَا بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ رَضِينَا لِأَمْرِ دُنْيَانَا مَا رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمْرِ دِينِنَا. (وَخَرَّجَ ت عَنْهَا أَيْضًا) عَائِشَةُ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا) لَهُ سِيَادَةٌ عَلَيْنَا (وَخَيْرُنَا) أَكْثَرُ خَيْرًا مِنَّا (وَأَحَبُّنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) تَعَلَّقَ الظَّرْفُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ عَلَى التَّنَازُعِ مَعَ نِسْبِيَّةِ الثَّانِي وَجْهُ الْخَيْرِيَّةِ وَتَفَاصِيلُ الْأَحْبِيَةِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَبَكَى، وَقَالَ وَدِدْت أَنَّ عَمَلِي كُلَّهُ مِثْلُ عَمَلِهِ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِهِ وَلَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ لَيَالِيهِ يُرِيدُ لَيْلَةَ الْغَارِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ فَمَا تَقَدَّمَ حِينَ ارْتِدَادِ الْعَرَبِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلَّ الِاحْتِجَاجَ بِنَحْوِ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ لَا سِيَّمَا عِنْدَ سُكُوتِ الْبَاقِينَ يَكُونُ إجْمَاعًا أَوْ أَنَّهُ كَتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَتَعْدِيلِهَا. (وَخَرَّجَ ت عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ بَعْدَ انْتِقَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَبَعْدَ إخْوَانِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يُتَوَهَّمُ تَفْضِيلُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الِاحْتِجَاجِ عَلَى فَضْلِ الصَّحَابَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا بِالْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ بِأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فَقَالَ. (وَقَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة لَوْ) (قَالَ) قَائِلٌ (عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَمْ يَكُونُوا أَصْحَابًا) (لَا يَكْفُرُ) ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ

إنْكَارَ نَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَالْقَوْلُ فِي التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ صُحْبَتِهِمْ بِالتَّوَاتُرِ بَلْ بِالْآحَادِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ إذْ لَوْ سَلَّمَ عَدَمَ التَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ فَثُبُوتُ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ قَطْعِيٌّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِي مَثَلًا (وَيَسْتَحِقُّ اللَّعْنَةَ) لِابْتِدَاعِهِ، وَكَذِبِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] فَهَذَا اللَّعْنُ لَيْسَ مَا يَقْتَضِيهِ الْكُفْرُ (وَلَوْ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصَّحَابَةِ كَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ صَاحِبًا) الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الصَّحَابَةِ (بِقَوْلِهِ {إِذْ يَقُولُ} [التوبة: 40] أَيْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40] أَيْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] . قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَلَعُوا فَوْقَ الْغَارِ فَأَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا ظَنُّك بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» فَأَعْمَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَرَوْهُ، يَشْكُلُ بِأَنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ مِنْ الصَّاحِبِ هَذَا أَبَا بَكْرٍ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ، وَالْكُفْرُ يَقْتَضِي الْقَطْعِيَّةَ إذْ إنْكَارُ مَا يَكُونُ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ مِنْهُ. (وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ) لِظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ (وَمَنْ أَنْكَرَ إمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (فَهُوَ كَافِرٌ فِي الصَّحِيحِ) قِيلَ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خِلَافِ أَحَدٍ يُعْتَدُّ بِهِ وَقِيلَ لِنِسْبَةِ الْأُمَّةِ إلَى الضَّلَالَةِ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الضَّلَالَةِ لِحَدِيثِ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» يَشْكُلُ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْكُفْرَ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِجْمَاعِ الَّذِي وَقَعَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَلَوْ سُلِّمَ فَسَنَدُهُ الْقِيَاسُ عَلَى إمَامَتِهِ فِي الصَّلَاةِ نَصًّا وَقُرِّرَ أَيْضًا بِعَدَمِ الْكُفْرِ فِي الْإِجْمَاعِ الَّذِي سَنَدُهُ الْقِيَاسُ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي إكْفَارِ مُنْكِرِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ كُفْرٌ مُطْلَقًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَلَيْسَ بِكُفْرٍ مُطْلَقًا وَكُفْرٌ فِي نَحْوِ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ فِي كَوْنِهِ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَعَدَمِهِ فِي غَيْرِهَا قِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ فَتَأَمَّلْ وَيَشْكُلُ عَلَى الثَّانِي بِأَنَّ إنْكَارَ الْحَدِيثِ إنَّمَا يَكُونُ كُفْرًا إنْ مُتَوَاتِرًا، وَتَوَاتُرُ هَذَا الْحَدِيثِ مَمْنُوعٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْإِنْكَارُ عَلَى مَا بَعْدَ إقْرَارِ حَدِيثِيَّتِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا احْتِمَالٌ وَلَا كُفْرَ مَعَ الِاحْتِمَالِ (وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ خِلَافَةَ عُمَرَ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ) قِيلَ لِإِنْكَارِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ أَيْضًا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ آنِفًا مَعَ عَدَمِ الِانْدِفَاعِ بِدَفْعِ مَا ذُكِرَ آنِفًا فَافْهَمْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إنْ اتَّحَدَ حُكْمُهُمَا فِي الْكُفْرِ، وَالْأُضْحِيَّةِ فَالْأَوْلَى جَمْعُهُمَا إذْ الْفَصْلُ الْوَاحِدُ أَوْلَى مِنْ الْفَصْلَيْنِ (انْتَهَى) ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ نَقْلَ الْمُصَنِّفِ هُنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَالْآثَارَ وَأَقْوَالَ الْفُقَهَاءِ لِأَجْلِ إثْبَاتِ مُدَّعَاهُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا قَدْحٌ فِي أَفْضَلِ الْأَوْلِيَاءِ إلَى آخِرِهِ فَإِذَا تَفَطَّنْت وَجَدْت عَدَمَ تَمَامِيَّةِ التَّقْرِيبِ فِي بَعْضِهَا وَعَدَمَ التَّقْرِيبِ أَصْلًا فِي بَعْضِهَا نَعَمْ يُمْكِنُ التَّقْرِيبُ لَكِنْ بِتَأْوِيلٍ خَفِيٍّ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ، وَأَمَّا مُنْكِرُ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَمُبْتَدِعٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَعَنْ جَمِيعِ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (تَذْنِيبٌ) لِلْمَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ بَيْنَ إمَامَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَثَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَمِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ، وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا جَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي رِسَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَبَعْضُ الْأَسَاتِذَةِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ مَعَ بَعْضٍ آخَرَ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ. قَالَ جُمْهُورُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ: الْأَوَّلُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَاجِبٌ عَقْلًا لَا شَرْعًا. الثَّانِي وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَبْعَثْ لِلنَّاسِ رَسُولًا لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ تَعَالَى. الثَّالِثُ: وَأَنَّهُ يُعْرَفُ الصَّانِعُ بِصِفَاتِهِ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ. الرَّابِعُ: وَأَنَّ الْوُجُودَ وَالْوَاجِبَ عَيْنُ الذَّاتِ فِي التَّحْقِيقِ. الْخَامِسُ: وَأَنَّ حُسْنَ بَعْضِ الْأُمُورِ وَقُبْحَهُ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ. السَّادِسُ: وَأَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا رَاجِعَةٌ إلَى صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ هِيَ التَّكْوِينُ وَهُوَ مَبْدَأُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ فَالْفِعْلِيَّةُ كَالذَّاتِيَّةِ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا اعْتِبَارِيَّةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى. السَّابِعُ: وَكُلُّ صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ وَاجِبَةِ الْوُجُودِ لَيْسَتْ بِمُمْكِنَةٍ. الثَّامِنُ: وَأَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ مِنْ نَحْوِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الرَّازِقِ لَهَا أَسْمَاءٌ غَيْرُ الْقُدْرَةِ بِلَا رُجُوعٍ إلَيْهَا بَلْ إلَى التَّكْوِينِ. التَّاسِعُ: وَأَنَّ التَّكْوِينَ لَيْسَ عَيْنَ الْمُكَوَّنِ. الْعَاشِرُ: وَأَنَّ الْبَقَاءَ لَيْسَ صِفَةً زَائِدَةً. الْحَادِيَ عَشَرَ: وَالسَّمْعُ

وَالْبَصَرُ صِفَتَانِ غَيْرُ الْعِلْمِ بِالْمَسْمُوعِ، وَالْمُبْصَرِ. الثَّانِي عَشَرَ: وَأَنَّ إدْرَاكَ الْمَشْمُومِ، وَالْمَذُوقِ، وَالْمَلْمُوسِ لَيْسَ صِفَةً غَيْرَ الْعِلْمِ فِي شَأْنِهِ تَعَالَى. الثَّالِثَ عَشَرَ: وَأَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْحِكَمِ، وَالْمَصَالِحِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: وَأَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الرِّضَا، وَالْمَحَبَّةَ. الْخَامِسَ عَشَرَ: اللَّهُ مُتَكَلِّمٌ فِي الْأَزَلِ لَا مُكَلِّمٌ فِي الْأَزَلِ. السَّادِسَ عَشَرَ: وَأَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ. السَّابِعَ عَشَرَ: وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ الْأَزَلِيُّ بِالْمَعْدُومِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: وَأَنَّ وُجُودَ الْأَشْيَاءِ بِالْإِيجَادِ لَا بِخِطَابِ كُنْ. وَعَنْ الْبَزْدَوِيِّ هُوَ بِالْخِطَابِ، وَالْإِيجَادِ مَعًا. التَّاسِعَ عَشَرَ: وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا. الْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ لَا يَجُوزُ حَالًا وَاسْتِقْبَالًا. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الشَّقِيَّ فِي الْحَالِ قَدْ يَسْعَدُ وَبِالْعَكْسِ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ تَعَلُّقُ الرُّؤْيَةِ بِكُلِّ مَوْجُودٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَلُّقُ السَّمَاعِ بِكُلِّ مَوْجُودٍ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَسْمَعْ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ بَلْ سَمِعَ كَلَامًا مُؤَلَّفًا مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَتَنْعِيمُ الْكَافِرِ عَقْلًا لِمُخَالَفَةِ الْحِكْمَةِ وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَكَذَا تَخْلِيدُ الْمُؤْمِنِ فِي النَّارِ وَتَخْلِيدُ الْكَافِرِ فِي الْجَنَّةِ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَى فِي الْمَنَامِ وَإِنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى خِلَافِهَا بَلْ أَوَّلُوا كَلَامَ الشَّيْخِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَأَنَّهُ لَيْسَ الرُّؤْيَا خَيَالًا بَاطِلًا بَلْ نَوْعُ مُشَاهَدَةٍ لِلرُّوحِ تَحْقِيقِيَّةً أَوْ بِمِثَالِهِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا الْعَبْدُ الطَّاعَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا الْمَعْصِيَةَ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْقُدْرَةُ الْوَاحِدَةُ صَالِحَةً لِلضِّدَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الْعِلْمَ الْوَاحِدَ يَتَعَلَّقُ بِمَعْلُومَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. الثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ مَوْتِهِمْ أَيْضًا أَنْبِيَاءُ حَقِيقَةً. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْوَحْيِ أَوْ الرَّأْيِ أَوْ الِاجْتِهَادِ وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي تَفْصِيلِهِ. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ إيمَانَ الْمُقَلِّدِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْإِيمَانِ الِاسْتِدْلَالِيِّ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بَلْ يَكْفِي الِابْتِنَاءُ عَلَى قَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّهُ لَيْسَ الِاسْمُ غَيْرَ الْمُسَمَّى بَلْ عَيْنُهُ. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ الْحِكْمَةَ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ، وَالسَّفَهُ عَلَى ضِدِّهِ لَا مَا وَقَعَ عَلَى قَصْدِ فَاعِلِهِ وَضِدِّهِ وَلَا مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْفَاعِلِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَضِدِّهِ. السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: وَفِعْلُ الْعَبْدِ يُسَمَّى كَسْبًا لَا خَلْقًا أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا. السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَفِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى يُسَمَّى خَلْقًا لَا كَسْبًا فَهُوَ أَيْضًا كَمَا تَرَى. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: وَاسْمُ الْفِعْلِ يَشْمَلُهُمَا عَلَى سَبِيلٍ بِلَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي خَلْقِ اللَّهِ وَمَجَازًا فِي كَسْبِ الْعَبْدِ. التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ مَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْآلَةِ فَخَلْقٌ وَبِالْآلَةِ فَكَسْبٌ وَقِيلَ مَا يَجُوزُ تَفَرُّدُ الْقَادِرِ بِهِ فَخَلْقٌ وَمَا لَا فَكَسْبٌ. الْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ إحْسَاسَ الشَّيْءِ بِإِحْدَى الْحَوَاسِّ لَيْسَ عِلْمًا بِهِ بَلْ هُوَ آلَةٌ لَهُ. الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطُ النُّبُوَّةِ. الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ الْأَلَمِ عَقِيبَ الضَّرْبِ وَمِنْ الِانْكِسَارِ عَقِيبَ الْكَسْرِ لَيْسَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ لِاسْتِحَالَةِ اكْتِسَابِ مَا لَيْسَ بِقَائِمٍ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ. الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ إفَادَةَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ بِمَجْمُوعِ الْكَسْبِ وَالْخَلْقِ لَا بِالْخَلْقِ فَقَطْ. الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي فِعْلِهِ لَا أَنَّ لَهُ قُدْرَةً غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ الْعِلَلَ وَالْأَسْبَابَ مِثْلُ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ مُؤَثِّرَةٌ حَقِيقَةً لَا عَادِيَةً فِيمَا يَبْدُو مِنْهَا مِنْ الْآثَارِ. السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَقْدُورٌ وَاحِدٌ بَيْنَ قُدْرَةِ قَادِرَيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَيْضًا. السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا جُثْمَانِيٍّ بَلْ هِيَ أُمُورٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الْمَادَّةِ. الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّهُ يَعْرِفُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ

بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الْعِلْمَ بِهِ إمَّا بِلَا كَسْبٍ كَوُجُوبِ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ وَحُرْمَةِ الْكَذِبِ الضَّارِّ وَإِمَّا مَعَ الْكَسْبِ بِالنَّظَرِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَقَدْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ. التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَأَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى بَاقِيَةٌ بِبَقَاءٍ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الصِّفَةِ. الْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْمُشَارَكَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ. الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ جِنْسٌ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِهِ مِنْ الْمُشَابَهَةِ، وَالْمُضَاهَاةِ، وَالْمُسَاوَاةِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ جَائِزٌ، وَفِيهِ كَلَامٌ. الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: تُؤَوَّلُ الْمُشَابِهَاتُ إجْمَالًا وَيُفَوَّضُ تَفْصِيلُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ حُكْمَ الْمُتَشَابِهَاتِ انْقِطَاعُ رَجَاءِ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ. الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْقَضَاءَ، وَالْقَدَرَ غَيْرُ الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ. الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِكُفْرِ مَنْ يَقُولُ النَّبِيُّ يَعْلَمُ الْغَيْبَ. السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، وَالْحَقُّ وَاحِدٌ. السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الدَّلِيلَ اللَّفْظِيَّ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ إنْ تَوَارَدَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ عَدَمِ صَارِفٍ. الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْمَحَبَّةَ بِمَعْنَى الِاسْتِحْمَادِ لَا مُطْلَقِ إرَادَةٍ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الطَّاعَةِ. التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ يَنْعَمُ الْكَافِرُ فِي الدُّنْيَا. السِّتُّونَ: وَأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْكَافِرُ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ. الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنْ الصَّغَائِرِ عَمْدًا وَمِنْ الْكَبَائِرِ مُطْلَقًا. الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّهُ يَصِحُّ إمَامَةُ الْمَفْضُولِ. الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْمَوْتَ فَسَادُ بِنْيَةِ الْحَيَوَانِ لَا عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَوْ عَرْضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تُعَادُ. الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ تَوْبَةَ الْيَأْسِ مَقْبُولَةٌ. السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ مَا لَا يُقْبَلُ حُسْنُهُ أَوْ قُبْحُهُ السُّقُوطُ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ. السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ مَدْلُولَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيمَا يُدْرَكُ عَقْلًا وَعِنْدَ الْبَعْضِ مُطْلَقًا لِحِكْمَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي. الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْإِقْرَارَ جُزْءُ الْإِيمَانِ وَإِنْ شَرْطًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَالْأَشَاعِرَةِ. التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: وَإِنْ بَلَغَ فِي شَاهِقِ الْجَبَلِ وَلَمْ تَصِلْ إلَيْهِ الدَّعْوَةُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِالصَّانِعِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ الْأَعْمَالِ بِحَسَبِ وُجُودِهِ وَوَحْدَتِهِ وَاتِّصَافِهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ وَكَوْنِهِ مُحْدِثَ الْعَالَمِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. السَّبْعُونَ: وَأَنَّ الْعَقْلَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي إدْرَاكِ بَعْضِ الشَّرْعِيَّاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ. الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: وَأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْحَالَ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ. الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: وَأَنَّ إرْسَالَ الرُّسُلِ وَاجِبٌ بِمَعْنَى لِيَاقَةِ الْحِكْمَةِ فَقِيلَ فَنِزَاعٌ لَفْظًا. الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: وَالِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ. أَقُولُ فِيهِ شَيْءٌ يَظْهَرُ بِالرُّجُوعِ إلَى شَرْحِ الْعَقَائِدِ نَعَمْ قَدْ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ هَذَا مَا يَحْضُرُ لَنَا مِنْ كُتُبِهِمْ إنْ كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَكَانَ بَعْضُ مَا ذُكِرَ رَاجِعًا إلَى بَعْضٍ آخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. (تَذْيِيلٌ) لَا عَلَيْنَا أَنْ نُشِيرَ إلَى أَقَاوِيلِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ إجْمَاعًا أَيْضًا لَأَنْ يُحْتَرَزَ عَنْهَا لِكَثْرَةِ اخْتِلَاطِهِمْ فِي الشَّرْعِيَّاتِ قَالُوا: الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَعَالَى يَتَّصِفُ بِاللَّذَّةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَالثَّانِي وَأَنَّهُ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ فَمَعْنَى قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ إنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَفْعَلْ لَا بِمَعْنَى يَصِحُّ الْفِعْلُ، وَالتَّرْكُ. الثَّالِثُ: وَأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْهُيُولِيّ وَالصُّورَةِ لَا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْفَرْدَةِ. الرَّابِعُ: وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ. الْخَامِسُ: وَأَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ بِهُيُولَاهَا وَصُوَرِهَا النَّوْعِيَّةِ نَوْعًا وَشَخْصًا. السَّادِسُ: وَأَنَّ الْعَنَاصِرَ قَدِيمَةٌ بِهُيُولَاهَا وَصُوَرِهَا النَّوْعِيَّةِ جِنْسًا لَا نَوْعًا وَلَا شَخْصًا. السَّابِعُ: وَأَنَّ بُطْلَانَ التَّسَلْسُلِ مَخْصُوصٌ بِالْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ الْمُرَتَّبَةِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي الْوُجُودِ لَا أَنَّهُ مُحَالٌ مُطْلَقًا. الثَّامِنُ وَأَنَّ السَّبْقَ مُنْحَصِرٌ فِي خَمْسٍ لَا سَادِسَ. التَّاسِعُ: لَا عَالَمَ وَرَاءَ الْعَالَمِ. الْعَاشِرُ: وَالْخَلَاءُ مُحَالٌ. الْحَادِيَ عَشَرَ: وَالْمَكَانُ لَيْسَ بِبُعْدٍ مَوْهُومٍ بَلْ هُوَ السَّطْحُ الْبَاطِنُ مِنْ الْحَاوِي الْمُمَاسِّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنْ الْمُحَوِّي. الثَّانِي عَشَرَ: وَالْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ ثَابِتٌ. الثَّالِثَ عَشَرَ: وَالْمَقُولَاتُ الْعَشْرُ مَوْجُودَاتٌ

خَارِجِيَّةٌ نَوْعًا أَوْ شَخْصًا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ. الرَّابِعَ عَشَرَ: وَالْمُجَرَّدَاتُ ثَابِتَةٌ. الْخَامِسَ عَشَرَ: وَحَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ مُجَرَّدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ. السَّادِسَ عَشَرَ: وَالْجَوَاهِرُ خَمْسَةٌ الْهُيُولِيّ، وَالصُّورَةُ، وَالْجِسْمُ الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا، وَالْعُقُولُ، وَالنُّفُوسُ. السَّابِعَ عَشَرَ: وَالْجِنُّ، وَالشَّيَاطِينِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ إلَّا بِمُفَارَقَةِ النُّفُوسِ الْخَيِّرَةِ، وَالشِّرِّيرَةِ عَنْ أَبْدَانِهِمْ. الثَّامِنَ عَشَرَ، وَأَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الذَّاتِ فِي الْوَاجِبِ زَائِدٌ فِي الْمُمْكِنِ لَا أَنَّهُ زَائِدٌ فِي الْكُلِّ. التَّاسِعَ عَشَرَ وَأَنَّ إعَادَةَ الْمَعْدُومِ بِعَيْنِهِ مُمْتَنِعٌ. الْعِشْرُونَ، وَالْحَادِثُ مُفْتَقِرٌ إلَى مَادَّةٍ وَمُدَّةٍ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: وَالْحَشْرُ الْجُسْمَانِيُّ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: وَالْمَعَادُ رُوحَانِيٌّ فَقَطْ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: وَقِيَامُ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ جَائِزٌ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَالْجَوْهَرُ لَا يَقْتَضِي التَّحَيُّزَ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الْأَجْسَادَ الْبَسِيطَةَ الطِّبَاعِ مُتَّصِلَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا هِيَ عِنْدَ الْحِسِّ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِي الثُّبُوتِ الْأَعْرَاضُ، وَالْأَحْوَالُ الْمُكْتَسَبَةُ بِالرِّيَاضَاتِ، وَالْمُجَاهَدَاتِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَالِانْقِطَاعَاتِ، وَالِاسْتِعْدَادُ الذَّاتِيُّ مِنْ صَفَاءِ الْجَوْهَرِ وَذَكَاءِ الْفِطْرَةِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَأَنَّ الْمَقَادِيرَ أَيْ الْجِسْمَ التَّعَلُّمِيَّ، وَالسَّطْحَ، وَالْخَطَّ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْجِسْمِيَّةِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: وَالْحَوَادِثُ الَّتِي لَا أَوَّلَ لَهَا ثَابِتَةٌ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَحَيَاتُهُ تَعَالَى صِحَّةُ اتِّصَافِهِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ حَيٌّ لَا حَيَاةَ لَهُ. الثَّلَاثُونَ: وَكَوْنُهُ سَمِيعًا وَبَصِيرًا وَهُوَ عِلْمُهُ تَعَالَى بِالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْمُبْصِرَاتِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: وَالْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ ثَابِتَةٌ فِي الْحَيَوَانِ. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: وَالْقَضَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا يَنْبَغِي سُمُوًّا بِالْعِنَايَةِ. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: وَالْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ الْمَوْجُودَاتِ إلَى الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ بِأَسْبَابِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي الْقَضَاءِ. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ أَوْ نَفْسُ الْفَلَكِ الْأَعْظَمِ. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: وَالْعِلْمُ حُصُولُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ. السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ حُصُولَ الضَّرُورِيَّاتِ فِينَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّوَجُّهِ، وَالْإِحْسَاسِ وَغَيْرِهِمَا. السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَالْحَوَادِثُ الْأَرْضِيَّةُ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْأَوْضَاعِ الْفَلَكِيَّةِ. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: وَحُصُولُ الْعِلْمِ عَقِيبَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ إعْدَادِيٌّ فَالنَّظَرُ يُعِدُّ الذِّهْنَ، وَالنَّتِيجَةُ تُفِيضُ عَلَيْهِ. التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: وَأَنَّ التَّعَيُّنَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. الْأَرْبَعُونَ: وَالسَّبَبُ الْمُحْوِجُ فِي الْمُمْكِنِ إلَى الْعِلَّةِ هُوَ الْإِمْكَانُ لَا الْحُدُوثُ. الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَأَنَّ الْوَحْدَةَ، وَالْكَثْرَةَ أَمْرَانِ مَوْجُودَانِ. الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ وَمَعْنَى الْجَوْهَرِ مَاهِيَّةٌ إذَا وُجِدَتْ كَانَتْ لَا فِي مَوْضُوعٍ. الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ، وَالْعَرْضُ مَاهِيَّةٌ إذَا وُجِدَتْ كَانَتْ فِي مَوْضُوعٍ. الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَالْمَوْجُودَاتُ فِي الْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَالْإِمْكَانُ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ. السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ، وَالْوَاحِدُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ. السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَعَدَمُ الْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ الْمَعْلُولِ. الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَكُلٌّ مِنْ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ يَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ مُرَجَّحَةٍ. التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: وَيَجِبُ الْإِبْصَارُ عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ بِشُرُوطِهِ وَكَذَا سَائِرُهَا، وَالْأَعْرَاضُ النِّسْبِيَّةُ كُلُّهَا مَوْجُودَاتٌ خَارِجِيَّةٌ. الْخَمْسُونَ: وَصِفَاتُهُ تَعَالَى عَيْنُ ذَاتِهِ. الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ قُدْرَةُ الْعَبْدِ بِالْإِيجَابِ وَامْتِنَاعُ التَّخَلُّفِ. الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ بَلْ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ. الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: وَالنَّفْسُ لَا تُدْرِكُ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَادِّيَّةَ بِالذَّاتِ. الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّ لِلْحَيَوَانِ أَجَلًا طَبِيعِيًّا عِنْدَ تَحَلُّلِ الرُّطُوبَةِ وَانْطِفَاءِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّتَيْنِ وَأَجَلًا احْتِرَامِيًّا بِحَسَبِ الْآفَاتِ، وَالْأَمْرَاضِ. الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ رُسُلِ الْبَشَرِ بَلْ الْمَلَائِكَةُ مُطْلَقًا أَفْضَلُ مِنْ الْبَشَرِ مُطْلَقًا. السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعْلَمُ ذَاتُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُعْلَمُ غَيْرُهُ فَقَطْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُعْلَمُ غَيْرُ الْمُتَنَاهِي. السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَالْخَرْقُ، وَالِالْتِئَامُ لِلْفُلْكِ مُمْتَنِعٌ. الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ اللَّهِ غَيْرُ

الفصل الثاني في العلوم المقصودة لغيرها

الْعَقْلِ الْأَوَّلِ. التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: وَأَنَّهُ يَجُوزُ قِيَامُ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ. السِّتُّونَ: وَأَنَّ الْأَبْعَادَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْوُجُودَ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ بَيْنَ الْمَوْجُودَاتِ. الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: وَأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فِي مُنْقِذِ الضَّلَالِ مَجْمُوعُ مَا غَلِطُوا فِيهِ رَاجِعٌ إلَى عِشْرِينَ أَصْلًا يَجِبُ التَّكْفِيرُ فِي ثَلَاثَةٍ، وَالتَّبْدِيعُ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ وَلِإِبْطَالِ مَذْهَبِهِمْ صَنَّفْنَا التَّهَافُتُ وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ إنْكَارُ الْحَشْرِ الْجُسْمَانِيِّ، وَنَفْيُ عِلْمِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُمْ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَقَدْ أَوَّلَ الدَّوَانِيُّ مُحْتَجًّا بِالْغَيْرِ تَخْلِيصًا عَنْ الْكُفْرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْعُلُومِ الْمَقْصُودَةِ لِغَيْرِهَا] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْمَأْمُورِ بِهَا] [الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَرْضُ الْعَيْنِ] (الْفَصْلُ الثَّانِي) مِنْ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ لِلْبَابِ الثَّانِي مِنْ أَبْوَابِ الْكِتَابِ الثَّلَاثَةِ (فِي الْعُلُومِ الْمَقْصُودَةِ لِغَيْرِهَا) يَعْنِي لَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ نَفْسُهُ كَالِاعْتِقَادِيَّاتِ بَلْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ غَيْرِهِ كَالْفِقْهِ (وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مَأْمُورٌ بِهَا وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا وَمَنْدُوبٌ إلَيْهَا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْمَأْمُورِ بِهَا) بِالْأَمْرِ الْإِيجَابِيِّ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ (وَهُوَ صِنْفَانِ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي) الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ (فَرْضُ الْعَيْنِ) يَعْنِي تُفْرَضُ عَلَى أَعْيَانِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِذَا عُلِمَ الْبَعْضُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ. لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْفَرْضِ مَا يَشْمَلُ الْوَاجِبَ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْضَ مَا يَكُونُ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ مَعَ مَنْعِهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ. وَاجِبُ وَالْوَاجِبِ مَا يَكُونُ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ أَيْضًا لَكِنْ كَانَ مَنْعُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَالْأَوَّلُ لَازِمٌ عِلْمًا وَعَمَلًا حَتَّى يَكْفُرَ جَاحِدُهُ، وَالثَّانِي لَازِمٌ عَمَلًا لَا عِلْمًا فَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ بَلْ يَفْسُقُ إنْ اسْتَخَفَّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَمَّا إنْ مُؤَوَّلًا فَلَا وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُمَا إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَاجِبُ عَلَى مَا يَعُمُّ الْفَرْضَ.، وَالْوَاجِبُ بِمَعْنَى مَا يَكُونُ فِعْلُهُ أَوْلَى مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَالسُّنَّةُ مَا يَكُونُ فِعْلُهُ أَوْلَى بِلَا مَنْعٍ عَنْ تَرْكِهِ مَعَ كَوْنِهِ طَرِيقَةً مَسْلُوكَةً فِي الدِّينِ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالنَّفَلُ مَا هُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْمَنْعِ أَيْضًا لَكِنْ بِلَا طَرِيقَةٍ مَسْلُوكَةٍ، وَالسُّنَّةُ إمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَهَدْيٌ يُوجِبُ تَرْكُهُ كَرَاهَةً كَالْجَمَاعَةِ، وَالْأَذَانِ وَإِمَّا فِي الْعَادَاتِ فَزَوَائِدُ كَسَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ فَفِعْلُهُ فَضِيلَةٌ لَا كَرَاهَةَ فِي تَرْكِهِ وَقَدْ تُطْلَقُ السُّنَّةُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَسُنَّةِ الْعُمُرَيْنِ، وَالنَّفَلُ دُونَ سُنَّةِ الزَّوَائِدِ.، وَالْحَرَامُ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى مَعَ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ.، وَالْمَكْرُوهُ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ الْفِعْلِ بِلَا مَنْعٍ قَطْعِيٍّ عَنْ الْفِعْلِ.، وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَيَا أَيْ الْفِعْلُ، وَالتَّرْكُ. وَالْحَرَامُ يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ إنْ تَشَهَّى وَمَنَعَ مَعَ الْفُرْصَةِ. وَالْمَكْرُوهُ التَّحْرِيمِيُّ إلَى الْحُرْمَةِ أَقْرَبُ، وَالتَّنْزِيهِيُّ إلَى الْحِلِّ أَقْرَبُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ حَرَامٌ لَكِنْ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ (وَهُوَ عِلْمُ الْحَالِ) الضَّمِيرُ إلَى الْفَرْضِ فِي ضِمْنِ الْفُرُوضِ. (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا} [النحل: 43] أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَالْبَاطِنِيَّةِ {أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] أَيْ الْعِلْمِ {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَالْأَصْلُ فِي الْمُطْلَقِ حَمْلُهُ عَلَى الْكَمَالِ فَكَمَالُ الْوُجُوبِ هُوَ الْفَرْضُ فَيُفْرَضُ عَلَى غَيْرِ الْعَالِمِ طَلَبُ الْعِلْمِ مِنْ الْعَالِمِ

وَفَرْضِيَّةُ الطَّلَبِ تَابِعَةٌ لِفَرْضِيَّةِ الْمَطْلُوبِ فَعِلْمُ الْحَالِ فَرْضٌ أَوْ يُقَالُ الْمَطْلُوبُ طَلَبُ عِلْمِ الْحَالِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ لَكِنْ إنَّمَا يَثْبُتُ الْفَرْضُ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الذِّكْرِ هُوَ الْعِلْمُ قَطْعًا وَمِنْ الْعِلْمِ عِلْمُ الْحَالِ قَطْعًا أَيْضًا وَكِلَاهُمَا مَحَلُّ عِنَايَةٍ فَافْهَمْ. (وَخَرَّجَ مَجَّ) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ تَبَايَنَتْ الْأَقْوَالُ وَتَنَاقَضَتْ الْآرَاءُ فِي هَذَا الْعِلْمِ الْمَفْرُوضِ عَلَى نَحْوِ عِشْرِينَ قَوْلًا وَكُلُّ فِرْقَةٍ تُقِيمُ عَلَى عِلْمِهَا وَكُلٌّ لِكُلٍّ مُعَارِضٌ وَبَعْضٌ لِبَعْضٍ مُنَاقِضٌ وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ قَوْلُ الْقَاضِي مَا لَا مَنْدُوحَةَ عَنْ تَعَلُّمِهِ كَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ وَنُبُوَّةِ رُسُلِهِ وَكَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ فَرْضُ عَيْنٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمُرَادُ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْمَعَارِفُ الْقَلْبِيَّةُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ بَلْ قَدْ يَكُونُ حِجَابًا مَانِعًا مِنْهُ وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْمُجَاهَدَةِ فَجَاهِدْ تُشَاهِدْ ثُمَّ أَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ بِمَا يَشْرَحُ الصُّدُورَ وَيَمْلَأُ الْقَلْبَ مِنْ النُّورِ ثُمَّ قَالَ عَنْ السُّهْرَوَرْدِيّ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعِلْمِ قِيلَ عِلْمُ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ آفَاتِ النَّفْسِ وَخَدْعِ النَّفْسِ وَغُرُورِهَا وَشَهَوَاتِهَا يُخَرِّبُ مَبَانِيَ الْإِخْلَاصِ فَعِلْمُهُ فَرْضٌ. وَقِيلَ مَعْرِفَةُ الْخَوَاطِرِ مِنْ لَمَّةِ الْمَلَكِ وَمِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ وَقِيلَ عِلْمُ نَحْوِ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ وَقِيلَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَقِيلَ عِلْمُ الْبَاطِنِ وَهُوَ مَا يَزْدَادُ بِهِ الْعَبْدُ يَقِينًا وَهُوَ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْأَوْلِيَاءُ فَهُمْ وَارِثُو الْمُصْطَفَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: الْعِلْمُ الْمَفْرُوضُ ثَلَاثَةٌ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَعِلْمُ السِّرِّ أَيْ الْقَلْبِ وَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. ثُمَّ قَالَ أَيْضًا عَنْ الْغَزَالِيِّ اخْتَلَفُوا وَتَجَاذَبُوا فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ فَالْمُتَكَلِّمُ يُحْمَلُ عَلَى عِلْمِ الْكَلَامِ، وَالْفَقِيهُ عَلَى الْفِقْهِ، وَالْمُفَسِّرُ، وَالْمُحَدِّثُ عَلَيْهِمَا، وَالنَّحْوِيُّ عَلَى عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ إذْ الشَّرْعُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] . فَلَا بُدَّ مِنْ إتْقَانِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَالتَّحْقِيقِ حَمَلَهُ عَلَى مَا يَعُمُّ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِ الشَّرْعِ انْتَهَى. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ الْعُلُومُ الَّتِي هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ ثَلَاثَةٌ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ مِقْدَارُ مَا يُعْرَفُ بِهِ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى وَتَصْدِيقُ نَبِيِّهِ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمُ الْأَخْلَاقِ مِقْدَارُ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ وَإِخْلَاصُ عَمَلِهِ وَإِصْلَاحُهُ. وَعِلْمُ الْفِقْهِ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ لَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ فِي إرَادَةِ هَذَا الْمَقَامِ، وَآخِرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرُ، وَاللُّؤْلُؤُ، وَالذَّهَبُ فَقَالَ شَارِحُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِاسْتِعْدَادٍ وَلَهُ أَهْلٌ فَإِذَا وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَقَدْ ظَلَمَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِيهِ أَيْضًا زَادَ قَوْلُهُ «وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ» قَالَ شَارِحُهُ حِكْمَتُهُ أَنَّ صَلَاحَ الْعَالَمِ مَنُوطٌ بِالْعَالِمِ وَتَمَامُهُ فِيهِ (وَقَالَ فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ) قِيلَ صَاحِبُهُ تِلْمِيذُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَمِنْ أَفَاضِلِ تَلَامِذَتِهِ (وَيُفْتَرَضُ) (عَلَى الْمُسْلِمِ طَلَبُ مَا) عَلِمَ (يَقَعُ لَهُ فِي حَالِهِ) فِعْلًا

وَتَرْكًا بَلْ اعْتِقَادًا (فِي أَيِّ حَالٍ كَانَ) سَفَرًا وَحَضَرًا صِحَّةً وَمَرَضًا فِي أَمْرِ الدِّيَانَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ (فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ) أَيْ الْمُسْلِمِ (مِنْ الصَّلَوَاتِ) الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَةِ، وَالْجُمُعَةِ (فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ عِلْمُ مَا يَقَعُ لَهُ فِي صَلَاتِهِ بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّي بِهِ فَرْضَ الصَّلَاةِ) فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي شَرَائِطِهَا صِحَّةً وَفَسَادًا إذْ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ وَاجِبٌ (وَيَجِبُ) مِنْ الْوُجُوبِ مُقَابِلُ الْفَرْضِ (عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّي بِهِ الْوَاجِبَ) إذْ الْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (لِأَنَّ) عِلْمَ (مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ) (يَكُونُ فَرْضًا وَ) عِلْمُ (مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ) (يَكُونُ وَاجِبًا) الْأَوَّلُ دَلِيلٌ لِلْأَوَّلِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي فَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ عِلْمَ السُّنَّةِ سُنَّةٌ، وَالْمُسْتَحَبُّ مُسْتَحَبٌّ (وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ) قَدْرَ نِصَابٍ فَارِغٍ عَنْ دَيْنِهِ وَحَوَائِجِهِ (وَالْحَجُّ إنْ وَجَبَ) الظَّاهِرُ هُنَا إنْ فُرِضَ (عَلَيْهِ) فَمَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُهُمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِلْمُهُمَا وَكَذَا سَائِرُهَا فَلَا يَجِبُ عِلْمُهُمَا عَلَى الْفَقِيرِ (وَكَذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ إنْ كَانَ يَتَّجِرُ) أَيْ مِنْ أَهْلِ التِّجَارَةِ فَيَجِبُ عَلَى التَّاجِرِ أَنْ يَعْلَمَ أَحْكَامَ الْبُيُوعِ صِحَّةً وَنَفَاذًا وَفَسَادًا وَبُطْلَانًا حِلًّا وَحُرْمَةً وَرِبًا وَغَيْرِهَا. قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ السِّرَاجِيَّةِ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَحْكَامَ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ (انْتَهَى) كَلَامُ تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ أَوْ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَكِنْ بَعْدَ كَلَامٍ آخَرَ وَإِلَّا فَالْقَطْعُ مَعَ كَلِمَةٍ ثُمَّ لَيْسَ بِحَسَنٍ. (وَكُلُّ مَنْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ) نَحْوُ الْإِجَارَةِ، وَالْمُزَارَعَةِ، وَالْمُسَاقَاةِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ (وَالْحِرَفِ) جَمْعُ حِرْفَةٍ بِمَعْنَى الصَّنْعَةِ (يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ عَنْ الْحَرَامِ فِيهِ) أَيْ عِلْمٌ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ. وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَحْفَظْ كِتَابَ الْبُيُوعِ وَكَانَ التُّجَّارُ فِي الْقَدِيمِ إذَا سَافَرُوا اسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ فَقِيهًا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ. وَعَنْ أَئِمَّةِ خُوَارِزْمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلتَّاجِرِ مِنْ فَقِيهٍ صَدِيقٍ (وَكَذَلِكَ) تَوْسِيطٌ لِلْمُغَايَرَةِ فِيمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ (يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ عِلْمُ أَحْوَالِ الْقَلْبِ مِنْ التَّوَكُّلِ) تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى اللَّهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ تَعَالَى قِيلَ هُوَ السُّكُوتُ تَحْتَ أَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْإِنَابَةِ) الرُّجُوعِ إلَيْهِ تَعَالَى (وَالْخَشْيَةِ) الْخَوْفِ بِسَبَبِ الْمَعْرِفَةِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَأَعْرَفُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً»

(وَالرِّضَا) عَنْهُ تَعَالَى فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ بِأَنْ يُسِرَّ فِي الْقَلْبِ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ النَّوَازِلِ (فَإِنَّهُ) أَيْ الْمُسْلِمُ (وَاقِعٌ) مُدَّةَ عُمُرِهِ (فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ انْتَهَى ثُمَّ قَالَ) فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ (وَكَذَلِكَ) الْحُكْمُ (فِي سَائِرِ الْأَخْلَاقِ نَحْوُ الْجُودِ، وَالْبُخْلِ، وَالْجُبْنِ) بِضَمِّ الْجِيمِ الْخَوْفُ فِي مَعَارِكِ الْخَوْفِ (وَالْجَرَاءَةِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ ضِدُّ الْجُبْنِ (وَالتَّكَبُّرِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَالْعِفَّةِ) التَّعَفُّفِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ (وَالْإِسْرَافِ) أَيْ الْخُرُوجِ عَنْ حَدِّ الْوَسَطِ، وَالِاعْتِدَالِ (وَ) ضِدِّهِ (التَّقْتِيرِ) أَيْ التَّقْلِيلِ (وَغَيْرِهَا) مِنْ الْأَخْلَاقِ حَمِيدَةً أَوْ ذَمِيمَةً (فَإِنَّ الْكِبَرَ، وَالْبُخْلَ، وَالْجُبْنَ، وَالْإِسْرَافَ حَرَامٌ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا إلَّا بِعِلْمِهَا، وَعِلْمِ مَا يُضَادُّهَا) مِمَّا ذُكِرَ حَتَّى يَكُونَ الْمُكَلَّفُ تَارِكَهَا بِقَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُجَاهَدَةً مِنْهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُجَاهَدَةَ فِي النَّفْسِ عِبَادَةٌ وَلَا تَحْصُلُ لِأَحَدٍ إلَّا بِالْعِلْمِ وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ (فَيُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ عِلْمُهَا) لِيُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضَهَا. قِيلَ عَنْ الشَّاذِلِيِّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتَوَغَّلْ فِي عِلْمِنَا هَذَا مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ (انْتَهَى) كَلَامُ تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ أُورِدَ عَلَى قَوْلِهِ فَيُفْتَرَضُ أَنَّ اللَّازِمَ هُوَ الْوُجُوبُ لَا الِافْتِرَاضُ لِثُبُوتِهِ بِالِاجْتِهَادِ فَظَنِّيٌّ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ إلَّا أَنْ يُرَادَ التَّجَوُّزُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الثَّوَابِ بِالْإِتْيَانِ، وَالْعِقَابِ بِالتَّرْكِ. أَقُولُ يُقَالُ لِلْوَاجِبِ فَرْضًا عَمَلِيًّا بَلْ قَدْ تَرَى الْأُصُولِيِّينَ يُطْلِقُونَ الْفَرْضَ عَلَى الْوَاجِبِ كَالْعَكْسِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ ثُبُوتِهِ بِالِاجْتِهَادِ مَمْنُوعٌ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا بِالنَّظَرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ فَهْمُهُ بِالْمُجْتَهِدِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ لَا يَلْزَمُ ظَنِّيَّتُهُ بَلْ يَجُوزُ كَوْنُهُ قَطْعِيًّا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ (حَاصِلُهُ) كَلَامُ تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ كُلُّهُ (أَنَّ الْعِلْمَ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ فَإِنْ كَانَ) الْمَعْلُومُ (فَرْضًا أَوْ حَرَامًا فَفَرْضٌ) أَيْ فَالْعِلْمُ بِهِ فَرْضٌ لِلِامْتِثَالِ فِي الْأَوَّلِ، وَالِاجْتِنَابِ فِي الثَّانِي (وَإِنْ وَاجِبًا أَوْ مَكْرُوهًا فَوَاجِبٌ) أَيْ فَتَعَلُّمُهُ وَاجِبٌ لِلْإِقْدَامِ فِي الْأَوَّلِ، وَالْكَفِّ فِي الثَّانِي هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ وُجُوبَ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ تَرْكِهِ وَحُرْمَةُ الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِهِ. قَالَ فِي التَّلْوِيحِ هَذَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ النِّزَاعُ فِيهِ (وَإِنْ) كَانَ الْمَعْلُومُ (سُنَّةً) فَتَعَلُّمُهُ (سُنَّةٌ وَإِنْ نَفْلًا فَنَفْلٌ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ) فِي الْفَرْضِ، وَالْحَرَامُ فَرْضٌ، وَفِي الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَفِي السُّنَّةِ سُنَّةٌ، وَفِي النَّفْلِ نَفْلٌ وَإِنْ مَكْرُوهًا فَمَنْدُوبٌ. قَالَ الْعَضُدُ الْعَلَّامَةُ فِي عَقَائِدِهِ: وَشَرْطُ وُجُوبِهِ وَنَدْبِهِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْفِتْنَةِ. قَالَ الدَّوَانِيُّ: فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ لَمْ يَجِبْ وَلَمْ يُنْدَبْ بَلْ رُبَّمَا كَانَ حَرَامًا بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَحْضُرَ الْمُنْكَرَ وَيَعْتَزِلَ فِي بَيْتِهِ لِئَلَّا يَرَاهُ وَلَا يَخْرُجُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا تَلْزَمُ الْهِجْرَةُ إلَّا إذَا كَانَ عُرْضَةً لِلْفَسَادِ. ثُمَّ قَالَ الْعَلَّامَةُ أَيْضًا: وَأَنْ يَظُنَّ قَبُولَهُ فَقَالَ الدَّوَانِيُّ أَيْضًا: وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ قَبُولَهُ لَمْ يَجِبْ سَوَاءٌ ظَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ أَوْ شَكَّ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ. وَفِي الْأَخِيرِ تَأَمُّلٌ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لِعَدَمِ ظَنِّ الْقَبُولِ وَلَمْ يَخَفْ الْفِتْنَةَ فَيُسْتَحَبُّ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ (غَيْرَ أَنَّهُمَا) أَيْ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ (عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ وَعِلْمُ الْحَالِ عَلَى سَبِيلِ الْعَيْنِ، وَمِنْهُ اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ وَ)

الصنف الثاني في فرض الكفاية

كَذَلِكَ (تَنْوِيرُهُ) أَيْ إنَارَتُهُ (بِالِاسْتِدْلَالِ لِلْخُرُوجِ عَنْ التَّقْلِيدِ) ، وَالتَّقْلِيدُ وَإِنْ جَائِزًا عِنْدَنَا لَكِنْ يُؤْثَمُ قَالَ فِي الْأُصُولِ لَا تَقْلِيدَ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ عِنْدَنَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَعْرِفَةِ بِالصَّانِعِ وَإِنْ جَائِزًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ وَوَاجِبًا عِنْدَ طَائِفَةٍ كَمَا فِي زُبْدَةِ الْوُصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ لَكِنْ كَوْنُ عِلْمِ الْحَالِ سِيَّمَا مَا فِي مُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ فُرُوضِ الْعَيْنِ عَلَى إطْلَاقِهِ مَنْظُورٌ فِيهِ لَا سِيَّمَا مَا يَجِبُ تَنْوِيرُهُ إذْ سَيُسْمَعُ مِنْ الصِّنْفِ كَوْنُ ذَلِكَ عَلَى الْكِفَايَةِ. قَالَ الدَّوَانِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ تَفْصِيلُ الدَّلَائِلِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الشُّبْهَةِ وَإِلْزَامِ الْمُعَانِدِينَ وَإِرْشَادِ الْمُسْتَرْشِدِينَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ حَدٍّ مِنْ الْمَسَافَةِ الْقُصْوَى مِنْ شَخْصٍ مُتَّصِفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيُسَمَّى الْمَنْصُوبُ بِالذَّبِّ وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ إخْلَاءُ الْمَسَافَةِ الْقُصْوَى عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ إخْلَاءُ مَسَافَةِ الْعَدْوَى عَنْ الْعَالِمِ بِظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، وَالْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْعَامَّةُ وَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكَى مِنْ زَمَانٍ انْطَمَسَ فِيهِ مَعَالِمُ الْعِلْمِ، وَالْفَضْلِ وَعَمَرَ فِيهِ مَرَابِطُ الْجَهْلِ وَتَصَدَّى لِرِيَاسَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالتَّمَيُّزِ مَنْ عُرِّيَ عَنْ الْعِلْمِ، وَالتَّمَيُّزِ مُتَوَسِّلًا فِي ذَلِكَ بِالْحَوْمِ حَوْلَ الظُّلْمَةِ ثُمَّ قَالَ مَا قَالَ. [الصِّنْفُ الثَّانِي فِي فَرْضُ الْكِفَايَةِ] (الصِّنْفُ الثَّانِي) مِنْ صِنْفَيْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ (فِي) عُلُومٍ هِيَ (فَرْضُ الْكِفَايَةِ) بِحَيْثُ إذَا عَلِمَهَا الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَإِذَا تَرَكَ الْكُلُّ أَثِمُوا. قَالَ حَفِيدٌ السَّعْدُ فِي أُنْمُوذَجِ الْعُلُومِ: الْقِيَامُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْعَيْنِ. وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ: إنَّ قِيَاسَ مَا ذَكَرُوهُ يَقْتَضِي تَفْضِيلَ سُنَّةِ الْكِفَايَةِ كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَابْتِدَاءِ السَّلَامِ عَلَى سُنَّةِ الْعَيْنِ. ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ جَعْلَ التَّشْمِيتَ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَجَعَلَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلَ مِنْ الْمَفْرُوضَةِ بَعِيدٌ وَأَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْعَيْنِ يُشْعِرُ بِشَرَفِهِ يُرَدُّ عَلَيْهِ: إنَّ تَرْكَ الْوَاحِدِ وَاحِدَةً مِنْ الْمَفْرُوضَةِ لَيْسَ كَتَرْكِ الْعَامَّةِ صَلَاةَ جِنَازَةٍ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ الشَّنَاعَةَ فِي هَذَا أَكْثَرُ. وَقِيلَ أَيْضًا: إنَّ مَا فُرِضَ حَقًّا لِلنَّفْسِ فَقَطْ فَأَهَمُّ عِنْدَهَا، وَأَشَقُّ فَأَفْضَلُ وَمَا فُرِضَ لِلْعَامَّةِ، وَالْآتِي وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالْأَمْرُ إذَا عَمَّ خَفَّ وَإِذَا خَصَّ ثَقُلَ. وَعَنْ الْعَيْنِيِّ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْكِفَايَةَ لِإِسْقَاطِ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ وَبِالتَّرْكِ يَعْصِي كُلُّ الْأُمَّةِ كَانَ أَفْضَلَ (وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ غَيْرِهِ أَعْنِي الْفِقْهَ كُلَّهُ) وَرَاءَ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ قَدْرِ عِلْمِ الْحَالِ فَلَوْ تَرَكَ قَوْلَهُ كُلَّهُ لَكَانَ أَوْلَى لِإِيهَامِهِ شُمُولَ هَذَا النَّوْعِ وَهُوَ فَرْضٌ وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ الْفِقْهِ مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْأُصُولِيِّ مِنْ عِلْمِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا عَنْ دَلِيلِهَا وَأَبْقَى لَفْظَ الْكُلِّ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَبْعُدْ. وَأَيْضًا لَوْ جَعَلَ ذَلِكَ قَيْدًا لِقَوْلِهِ بِحَالِ غَيْرِهِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ أَيْضًا لَعَلَّ وَجْهَ التَّأْكِيدِ الشُّمُولُ إلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفِقْهِ عِبَادَاتٌ وَمُعَامَلَاتٌ وَدِيَانَاتٌ (وَعِلْمَ التَّفْسِيرِ) أَيْ مَعَانِي الْقُرْآنِ (وَالْحَدِيثِ) مَعَانِي أَقْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ مُخَالِفٍ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ بِمَعْنًى غَيْرِ مُرَادٍ أَوْ ظُهُورِ شُبْهَةٍ لِشَخْصٍ فَيَحْتَاجُ إلَى حَلِّهِ يَشْكُلُ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ إنَّمَا تَتَيَسَّرُ لِلْمُجْتَهِدِ، وَالْمُجْتَهِدُ فِي زَمَانِنَا مُنْقَرِضٌ وَقَدْ أَغْنَى عَنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَانِنَا عِلْمُ الْكَلَامِ، وَالْفِقْهِ وَأَنَّ أَدِلَّةَ الْمُقَلِّدِ لَيْسَتْ إلَّا قَوْلَ الْمُجْتَهَدِ. وَلِهَذَا إذَا ظَهَرَ التَّعَارُضُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَبَيْنَ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَيُقَدَّمُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ لِلْمُجْتَهِدِ فَلَعَلَّ لِتِلْكَ الْآيَةِ مَثَلًا مُعَارِضًا أَوْ مُخَصَّصًا أَوْ تَأْوِيلًا أَوْ نَاسِخًا اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ وَلَمْ تَطَّلِعْ أَنْتَ (وَالْأُصُولِيِّينَ) بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ أَيْ عِلْمِ الْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ مُبْتَدِعٍ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ مُشَكِّكٍ فِي الْفِقْهِ يَشْكُلُ أَيْضًا أَنَّ الْأُصُولَ مُخْتَصٌّ بِالْمُجْتَهِدِ وَأَنَّ أَثَرَهُ هُوَ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْفَقِيهِ وَقَدْ عَرَفْت انْقِرَاضَهُ وَعَدَمَ إمْكَانِهِ فِي زَمَانِنَا. وَقَدْ قِيلَ بِانْقِرَاضِ الِاجْتِهَادِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ إلَّا أَنْ يُدَّعَى عَدَمُ انْقِرَاضِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمَذْهَبِ بِجَوَازِ تَحَرِّي الِاجْتِهَادِ وَلَوْ مَذْهَبًا مَرْجُوحًا (وَالْقِرَاءَةُ) الظَّاهِرُ بِجَمِيعِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْمَشْهُورَةِ بَلْ الْآحَادُ، وَالشُّذُوذُ لِئَلَّا يَلْزَمَ نَفْيُ قُرْآنِيَّةِ مَا كَانَ قُرْآنًا

وَإِثْبَاتُ الْقُرْآنِيَّةِ فِيمَا لَا يَكُونُ قُرْآنًا. قَالَ الْجَعْبَرِيُّ نَقْلُ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِأَنَّهَا أَبْعَاضُ الْقُرْآنِ وَقَدْ كَانَ كُلُّ الْقُرْآنِ فَرْضَ كِفَايَةٍ فَبَعْضُهُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَأَمَّا قِرَاءَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي قَدْرِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَفَرْضُ عَيْنٍ. وَقِيلَ وَمِنْ عِلْمِ الْقِرَاءَةِ: عِلْمُ التَّجْوِيدِ لَكِنْ نُقِلَ عَنْ الْجَزَرِيِّ وَعَلِيٍّ الْقَارِي وَتَسْهِيلِ التَّجْوِيدِ أَنَّ أَخْذَ الْقُرْآنِ بِالتَّجْوِيدِ عَنْ فَمِ الْمُحْسِنِ الْحَاذِقِ فَرْضُ عَيْنٍ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ أَيْضًا (وَأَمَّا) عِلْمُ (الْحِسَابِ) (فَمُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ) أَيْ الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا فَصَّلَهُ بِكَلِمَةِ أَمَّا لِعَدَمِ الْجَزْمِ فِيهِ قَطْعًا لِعَدَمِ الرِّوَايَةِ عَنْ الْأَئِمَّةِ نَصًّا بَلْ إنَّمَا خَرَّجَهُ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ رَأْيًا بَلْ تَقْرِيبًا (خُصُوصًا) أَيْ أَخُصُّ خُصُوصًا (الْفَرَائِضَ) بِمُشَارَكَةِ الْغَيْرِ فِي أَصْلِ الِاحْتِيَاجِ كَأَمْوَالِ الزَّكَاةِ، وَالدِّيَاتِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالْوَصَايَا (فَلِذَا قَالُوا هُوَ رُبْعُ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ الْفَرَائِضِ) ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَالْحِسَابَ نِصْفُ الْفَرَائِضِ، وَنِصْفُ النِّصْفِ رُبْعٌ (فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ) الْحِسَابُ (فَرْضَ كِفَايَةٍ) إذْ عِلْمُ الْفَرَائِضِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَتَرْتِيبُ دَلِيلِهِ أَنَّ الْحِسَابَ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِلْمُ الْفَرَائِضِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَكُلُّ شَيْءٍ شَأْنُهُ كَذَا فَفَرْضُ كِفَايَةٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْفَرَائِضُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ أَصْلِ الْحِسَابِ الْمُتَدَاوَلِ فِي أَفْوَاهِ الْعَوَامّ بِلَا مُرَاجَعَةٍ إلَى قَوَاعِدِ عِلْمِ الْحِسَابِ كَمَا تَرَى كَثِيرًا يُحَصِّلُونَهُ بِلَا مَعْرِفَةِ عِلْمِ الْحِسَابِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا فِي أَثْنَاءِ مَبَاحِثِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ سِيَّمَا الْمُنَاسَخَةُ مِنْ نَحْوِ التَّمَاثُلِ وَالتَّدَاخُلِ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْحِسَابِ، وَالْفَرْضِيَّةُ فِي الْحِسَابِ لَا بِحَسَبِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ بَلْ بِمُطْلَقِهِ وَلَوْ وُجِدَ فِي ضِمْنِ أَقَلَّ أَجْزَائِهِ (وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِهِ) أَيْ بِكَوْنِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ (فِي الْإِحْيَاءِ) . فَإِنْ قِيلَ الْغَزَالِيُّ مِنْ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ مَسَائِلِ الْحَنَفِيَّةِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ الْمَطْلُوبُ. قُلْنَا لَعَلَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ قَاعِدَتِنَا وَنَهْجِ قِيَاسِنَا أَوْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَقَعْ فِيهَا نَصُّ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يُخَالِفْ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ أَنْ يَعْمَلَ بِمَذْهَبِ مُخَالِفِينَا لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فِي مُنْقِذِ الضَّلَالِ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ الرِّيَاضَيَّ مِنْ الْفَلْسَفِيَّةِ تَعَلَّقَ بِعِلْمِ الْحِسَابِ، وَالْهَنْدَسَةِ وَعِلْمِ هَيْئَةِ الْعَالَمِ وَلَيْسَ يَتَعَلَّقُ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَكِنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ آفَتَانِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ وَجَزَمَ فِي الْأَشْبَاهِ بِحُرْمَةِ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ عَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالدِّينِ مَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَاتِهِ وَبِكَوْنِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ بِالنَّظَرِ إلَى تَوَقُّفِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ عَلَيْهِ فَتُطْرَقُ الْآفَةُ مِنْ أَمْرٍ عَرَضِيٍّ لَا يَضُرُّ (وَأَمَّا) (عُلُومُ الْعَرَبِيَّةِ) وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ: عِلْمًا النَّحْوُ، وَالصَّرْفُ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانُ، وَاللُّغَةُ، وَالِاشْتِقَاقُ، وَالْعَرُوضُ، وَالْقَافِيَةُ وَهَذِهِ الثَّمَانِيَةُ أُصُولٌ، وَالْبَاقِيَةُ فُرُوعٌ وَهُوَ عِلْمُ: الْخَطِّ، وَقَرِيضُ الشِّعْرِ، وَالْإِنْشَاءُ، وَالْمُحَاضَرَاتُ، وَالتَّوَارِيخُ (فَفِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ) لِأَبِي اللَّيْثِ (اعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ لَهَا فَضْلٌ عَلَى سَائِرِ الْأَلْسِنَةِ) . وَقَالَ بَعْضُ الْأَسَاتِذَةِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أُصُولِ اللُّغَاتِ. قِيلَ: سَبْعَةٌ الصِّينُ، وَالْهِنْدُ، وَالسُّودَانُ، وَالرُّومُ، وَالتُّرْكُ، وَالْعَرَبُ وَلَمْ يَذْكُرْ السَّابِعَةَ وَلَعَلَّهَا السُّرْيَانِيَّةُ لُغَةُ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ وَكُلُّ هَذِهِ اللُّغَاتِ قَدْ عَلَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَأَمَّا الْعَرَبِيَّةُ فَلَهَا مَزِيَّةٌ عَلَى بَاقِيهَا حَتَّى يُكْرَهَ التَّكَلُّمُ بِغَيْرِهَا لِمَنْ يُحْسِنُهَا. قِيلَ عَنْ الْمُبْتَغَى: لِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْعَرَبِيَّةُ، وَالْفَارِسِيَّةُ وَقَدْ يُزَادُ الدُّرِّيَّةُ. وَقِيلَ النَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَبَعْدَهُ فِيهَا بِالْعَرَبِيَّةِ. أَقُولُ نُقِلَ عَنْ الْكَافِي كَمَا فِي الْمُبْتَغَى وَأَيْضًا عَنْ الدَّيْلَمِيِّ إذَا أَرَادَ أَمْرًا فِيهِ لِينٌ أَوْحَى بِهِ إلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ بِالْفَارِسِيَّةِ. قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ وَكِلَاهُمَا مَوْضُوعٌ فَإِنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ مَرْفُوعٍ «أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ فَإِنِّي عَرَبِيٌّ وَكَلَامُ اللَّهِ عَرَبِيٌّ وَلِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ كَانَ آدَم لَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا إلَّا بِهِ فَلَمَّا أُهْبِطَ تَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ. أَقُولُ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَنْفِي عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْفَارِسِيَّةَ

النوع الثاني العلوم المنهي عنها

إذْ لَا نَصَّ فِي كَوْنِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ وَلِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَيْضًا فِي كَوْنِ اللَّامِ فِي الْجَنَّةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَلَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فَلَا بُدَّ فِي النَّفْيِ مِنْ رِوَايَةٍ صَرِيحَةٍ إذْ لَا يَكْفِي الدِّرَايَةُ فِي مِثْلِهِ سِيَّمَا فِي مُقَابَلَةِ الْكَافِي، وَالْمُبْتَغَى، وَالدَّيْلَمِيِّ (فَمَنْ تَعَلَّمَهَا أَوْ عَلَّمَهَا غَيْرَهُ فَهُوَ مَأْجُورٌ) كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة بَعْدَمَا عَدَّ الْعَرَبِيَّةَ كُلَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ (لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] وَقَالَ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] (فَمَنْ تَعَلَّمَهَا) أَيْ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ (فَإِنَّهُ يَفْهَمُ بِهَا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ) أَيْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وَتَخْصِيصٍ وَمُقَايَسَةٍ كَأَقْسَامِهِ مِنْ الظَّاهِرِ، وَالنَّصِّ، وَالْمُفَسَّرِ، وَالْمُحْكَمِ وَنَحْوِهَا أَوْ مَعْنَاهُ الَّذِي يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا دَلِيلٍ دَالٍّ عَلَى خِلَافِهِ وَصَارِفٍ يُصْرَفُ عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ اجْتِهَادِيَّةٍ وَقَوَاعِدَ اسْتِنْبَاطِيَّةٍ وَبَاطِنُ الْقُرْآنِ إمَّا خِلَافُ مَا أُشِيرَ آنِفًا وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِأَقْسَامِهِ الْخَفِيَّةِ كَالْخَفِيِّ، وَالْمُشْكِلِ، وَالْمُجْمَلِ، وَالْكِنَايَةِ وَنَحْوِهَا فَمَعْرِفَتُهُ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى عُلُومٍ أُخَرَ وَلِهَذَا اخْتَصَّ مَعْرِفَتُهُ بِالْمُجْتَهِدِ. وَأَمَّا مَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَلِكُلِّ حَرْفٍ مَطْلَعٌ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مَرْفُوعًا «الْقُرْآنُ تَحْتَ الْعَرْشِ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ بَلَغَ وُجُوهَ الظَّهْرِ، وَالْبَطْنِ خَمْسًا» مَذْكُورٌ فِي الْإِتْقَانِ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ الْقُرْآنَ ذُو شُجُونٍ وَفُنُونٍ وَظُهُورٍ وَبُطُونٍ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَبْلُغُ غَايَتُهُ» الْحَدِيثَ. قَالَ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ وَأَمَّا مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَمَعَ ذَلِكَ فِيهَا إشَارَاتٌ خَفِيَّةٌ إلَى دَقَائِقَ تَنْكَشِفُ عَلَى أَرْبَابِ السُّلُوكِ يُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُرَادَةِ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَمَحْضِ الْعِرْفَانِ وَلَيْسَ مِنْهُ مَا ادَّعَاهُ الْبَاطِنِيَّةُ (وَمَعَانِي الْأَخْبَارِ) النَّبَوِيَّةِ (انْتَهَى) كَلَامُ بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ كَوْنُ الْعَرَبِيَّةِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَاللَّازِمُ مِنْ الدَّلِيلِ أَيْ مَا نُقِلَ مِنْ الْبُسْتَانِ هُوَ الْفَضْلُ، وَالْفَضْلُ الْمُطْلَقُ أَعَمُّ، وَالْعَامُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْخَاصَّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ إلَّا أَنْ يُدَّعَى انْفِهَامُ الْوُجُوبِ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ إلَى آخِرِهِ وَمِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ بِهَا إلَى آخِرِهِ وَمَفْهُومُ التَّصْنِيفِ حُجَّةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ (وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ أَعْنِي أَنَّ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الْفَرْضِ فَرْضٌ وَكَذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ) مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهِ وَاجِبٍ (وَغَيْرِهِ) مِنْ نَحْوِ السُّنَّةِ، وَالْمُسْتَحَبِّ (كَوْنُهَا فُرُوضَ كِفَايَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ) أَيْ الْعُلُومَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ فَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ مِنْ حَيْثُ أَصْلُهُ وَاعْتِبَارُهُ أَوْ اعْتِبَارُهُ فَقَطْ، وَالْفِقْهُ فَالْأَوَّلُ لِتَصْحِيحِ الْإِيمَانِ، وَالثَّانِي لِأَعْمَالِ الْأَرْكَانِ وَلَا شَكَّ فِي فَرْضِيَّتِهِمَا (مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا) أَيْ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَيْ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ عَرَبِيٌّ لَا يَخْفَى أَنَّ اللَّازِمَ مِنْ الدَّلِيلِ كَوْنُهَا فَرْضَ عَيْنٍ، وَالْمَطْلُوبُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَلَا تَقْرِيبَ أَوْ أَنَّ هَذَا مُحْتَاجٌ إلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى فَافْهَمْ تُرْشِدْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [النَّوْعُ الثَّانِي الْعُلُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا] (النَّوْعُ الثَّانِي) مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْعُلُومِ (فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ) سَوَاءٌ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ أَوْ لِمُحَافَظَةِ عَقَائِدِ أَهْلِ الْحَقِّ كَمَا عِنْدَ ظُهُورِ مُعَانِدٍ مُكَابِرٍ يَقْصِدُ الْإِلْحَادَ (مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ) كَالتَّعَمُّقِ فِيهِ

، وَالتَّشَبُّثِ بِأَذْيَالِ الْفَلَاسِفَةِ (وَ) مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ (عِلْمِ النُّجُومِ) كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَقَدْ قَالَ (فِي حَقِّهِ) فِي الْخُلَاصَةِ (تَعَلُّمُ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ فِيهِ) أَيْ التَّعَمُّقِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ (وَالْمُنَاظَرَةِ) أَيْ الْمُجَادَلَةِ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ (وَرَاءَ قَدْرِ الْحَاجَةِ) مِنْ حَيْثُ تَصْحِيحُ الِاعْتِقَادِ وَرَدُّ شُبْهَةِ الْخَصْمِ (مَنْهِيٌّ عَنْهُ) يَشْكُلُ بِمَا فِي الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ أَنَّ النَّظَرَ أَيْ الْفِكْرَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَبِمَا فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50] {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]- وَأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبٌ وَمُطْلَقٌ وَمُتَوَقِّفٌ عَلَى النَّظَرِ وَمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ وَاجِبٌ. ثُمَّ قَالَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ التَّصْدِيقُ بِوُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى الْكَمَالِيَّةِ، وَالثُّبُوتِيَّةِ، وَالسَّلْبِيَّةِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَدْرَ الطَّاقَةِ لَا يُحَدُّ بِقَدْرِ حَاجَةٍ بَلْ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ الْكُلِّ. (وَقَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ) (وَدَفْعُ الْخَصْمِ) أَيْ خَصْمِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَعَامَّةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَالْفَلَاسِفَةِ (وَإِثْبَاتُ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ) (يَحْتَاجُ إلَيْهِ) سَوَاءٌ كَانَ الْخَصْمُ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ أَوْ لَا لِاحْتِمَالِ ظُهُورِهِ بَغْتَةً كَأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ الْخُلَاصَةِ قَدْرَ الْحَاجَةِ فَقَدْرُ الْحَاجَةِ بِدَفْعِ الْخَصْمِ وَإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ (والتتارخانية) وَعِبَارَتُهَا. (وَفِي النَّوَازِلِ قَالَ أَبُو نَصْرٍ: بَلَغَنِي أَنَّ حَمَّادَ بْنَ أَبِي حَنِيفَةَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (كَانَ يَتَكَلَّمُ) بِالْمُنَاظَرَةِ، وَالْمُجَادَلَةِ (فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ) أَبُوهُ (أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ) عَلَى طَرِيقِ الْعَرْضِ، وَالِاسْتِفْسَارِ لَا عَلَى طَرِيقِ الرَّدِّ، وَالْمُنَاقَشَةِ (قَدْ رَأَيْتُك تَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ) أَيْ فِي الْمُنَاظَرَةِ فِي الْكَلَامِ وَإِلَّا فَلَا تَحْسُنُ الْمُقَابَلَةُ (فَمَا بَالَك تَنْهَانِي عَنْهُ) يَعْنِي إنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّا قَدْ رَأَيْنَاك تَتَكَلَّمُ وَإِنَّ شَأْنَ مِثْلِنَا الِاقْتِدَاءُ بِك وَأَنْتَ تَمْنَعُنَا فَمَا وَجْهُ مَنْعِك أَوْ كَيْفَ تَمْنَعُنَا، وَأَنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. (قَالَ لَهُ يَا بُنَيَّ) تَصْغِيرُ الِابْنِ لِلِاسْتِشْفَاقِ (كُنَّا نَتَكَلَّمُ) أَيْ بِالْمُنَاظَرَةِ كَمَا عَرَفَتْ (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا) مَعَ مَنْ نَاظَرَنَا مَعَهُ عَلَى غَايَةِ التَّحَفُّظِ وَنِهَايَةِ التَّحَرُّزِ حَتَّى (كَأَنَّ الطَّيْرَ عَلَى رَأْسِنَا) قِيلَ مَثَلٌ لِكَمَالِ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَالتَّدَبُّرِ فِيهَا لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْهَلَكَةِ وَشَيْءٍ مِنْ خَطَرِهِ كَقَصْدِ تَغْلِيطِ الْخَصْمِ وَتَخْجِيلِهِ، وَالتَّفَوُّقِ عَلَيْهِ وَإِيقَاعِ الزَّلَّةِ عَلَيْهِ (مَخَافَةَ أَنْ نَزِلَّ) مِنْ الزَّلَلِ أَيْ نَقَعَ فِي الزَّلَلِ، وَالْخَطَأِ لِعِظَمِ خَطَئِهِ وَهُوَ الْكُفْرُ (وَأَنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ الْيَوْمَ وَكُلُّ وَاحِدٍ) مِنْكُمْ (يُرِيدُ أَنْ يَزِلَّ صَاحِبُهُ) لِيَغْلِبَ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ (وَإِذَا أَرَادَ) أَحَدُكُمْ (أَنْ يَزِلَّ صَاحِبُهُ فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَكْفُرَ) مِنْ التَّكْفِيرِ (صَاحِبُهُ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ الْمُنَاظَرَةُ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ وَأُمَّهَاتِهِ وَإِلَّا فَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَوَاصِّ، وَالْفَضَائِلِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النِّزَاعُ، وَالْغَلَبَةُ إلَى نَحْوِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْعَقَائِدِ لَيْسَ كُلُّهُ كُفْرًا فَإِزْلَالُ الْخَصْمِ فِي هَذَا الْجِنْسِ لَيْسَ بِكُفْرٍ لِعَدَمِ الرِّضَا بِالْكُفْرِ (وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ صَاحِبَهُ فَقَدْ كَفَرَ قَبْلَ أَنْ يَكْفُرَ صَاحِبُهُ) لِرِضَاهُ بِكُفْرِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الرِّضَا عِنْدَنَا وَجَعَلَ عِلَّةَ الْكُفْرِ شَيْئًا حَاصِلًا فِي الْإِرَادَةِ غَيْرَ الرِّضَا بَعِيدٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْإِرَادَةُ غَيْرُ مُنْفَكَّةٍ عَنْ الرِّضَا لَكِنْ لَوْ كَانَ الْخَصْمُ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى سِيَّمَا مِمَّنْ وَصَلَ هَوَاهُ إلَى الْكُفْرِ وَظَهَرَ تَعَنُّتُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ إزْلَالَهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ بَلْ إعَانَةَ دِينٍ وَغَيْرَةً بَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمُقَدِّمَاتِ السَّفْسَطِيَّةِ، وَالْمَبَادِئِ الشُّعَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ إلْزَامِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْجَدَلِيَّةِ بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ حَضْرَةِ الْإِمَامِ

- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُشْكِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الصَّلَاحِ لَازِمٌ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنَّهُ كَيْفَ يُقَدَّمُ حَمَّادٌ وَيَجْهَلُ عَلَى مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُجْتَهِدِينَ بَلْ عُدَّ هُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمْ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إكْفَارُ حَمَّادٍ مَعَ جَمِيعِ مَنْ نَاظَرَ مَعَهُ. إذْ حَاصِلُ مَا ذُكِرَ أَنْتُمْ فِي مُنَاظَرَتِكُمْ فِي الْكَلَامِ مُرِيدُونَ كُفْرَ أَصْحَابِكُمْ وَكُلُّ مَرِيدٍ ذَلِكَ كَافِرٌ فَأَنْتُمْ فِي مُنَاظَرَتِكُمْ كَافِرُونَ. أَقُولُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْإِمَامِ بِنَاءً عَلَى فَهْمِهِ ذَلِكَ مِنْ الْقَرَائِنِ وَعَلَى طَرِيقِ النَّصِيحَةِ لِكَمَالِ الشَّفَقَةِ. وَقَوْلُهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ يُرِيدُ إلَى آخِرِهِ قَضِيَّةٌ مُمْكِنَةٌ لَا فِعْلِيَّةٌ أَيْ لَا يَأْمَنُ مِنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ بَلْ يَتَوَقَّعُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ الْحَافِظِ) الظَّاهِرِ حَافِظِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَتْنًا وَإِسْنَادًا وَهُوَ غَيْرُ أَبِي اللَّيْثِ الْفَقِيهِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَمَرْقَنْدِيًّا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَهُوَ كَانَ بِسَمَرْقَنْدَ) مِنْ بُلْدَانِ بُخَارَى (مُقَدَّمَاتٌ فِي الزَّمَانِ عَلَى الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ) الْمَشْهُورِ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْبُسْتَانِ. (قَالَ) (مَنْ اشْتَغَلَ بِالْكَلَامِ) عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَرْضِيٍّ وَوَرَاءَ حَاجَةٍ تَوْفِيقًا لِكَلَامِهِمْ وَإِلَّا فَتَنَاقَضَ (مُحِيَ) بِالْمَفْعُولِ (اسْمُهُ) أَيْ نَفْسُهُ (مِنْ دَفْتَرِ الْعُلَمَاءِ) لِكُفْرِهِ أَوْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَدِّ بِهَا لِفِسْقِهِ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا تَجُوزُ إمَامَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَطَاءَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ وَإِنْ اعْتَقَدُوا كَوْنَهُ عَالِمًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِعَالَمٍ كَمَا فِي الْبَزَّازِيِّ. (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ يُكْرَهُ الْخَوْضُ فِي الْكَلَامِ مَا لَمْ تَقَعْ شُبْهَةٌ) لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ يَجِبُ حَلُّهَا لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ مَنْعِ حَمَّادٍ هُوَ الْحُرْمَةُ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ فَهِيَ نَفْسُ الْحَرَامِ أَوْ قَرِيبَةٌ أَوْ يُحْمَلُ نَهْيُ حَمَّادٍ عَلَى التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فَإِنَّ النَّهْيَ كَمَا يَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّنْزِيهِ كَمَا فِي الْأُصُولِ (فَإِذَا وَقَعَتْ شُبْهَةٌ وَجَبَتْ إزَالَتُهَا) لَا يَخْفَى أَنَّ إزَالَتَهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى رُسُوخِ الْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ وَحُضُورِ مُقَدَّمَاتِهَا وَمَبَادِئِهَا لَدَيْهَا وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلِاشْتِغَالِ إلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الِاشْتِغَالِ الْخَوْضُ بَعْدَ الْحُصُولِ، وَالدَّوَامِ، وَالتَّكْرَارِ بِلَا دَاعٍ (كَمَنْ يَكُونُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ يَنْبَغِي) يَجِبُ عَلَيْهِ (أَنْ لَا يُوقِعَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ) عَقْلًا وَشَرْعًا أَمَّا شَرْعًا فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى. {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . (فَإِنْ وَقَعَ) فِي الْبَحْرِ (وَجَبَ عَلَيْنَا) شَرْعًا (إخْرَاجُهُ) مِنْ الْبَحْرِ قَالَ الْمُحَشِّي شَبَّهَ عِلْمَ الْكَلَامِ بِالْبَحْرِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبًا سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ الدُّنْيَوِيِّ وَقِيلَ فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الشُّبْهَةِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ أَوْ اطَّلَعَ أَنَّهَا فِي غَيْرِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ رَفْعُهَا وَإِزَالَتُهَا (انْتَهَى) كَلَامُ التَّتَارْخَانِيَّة. (أَقُولُ أَفَادَ) أَيْ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ لِلْإِمَامِ (أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ) كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَجَبَ عَلَيْنَا إزَالَتُهَا وَقَوْلُهُ: وَإِنْ وَقَعَ وَجَبَ عَلَيْنَا إخْرَاجُهُ. قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة الِاشْتِغَالُ بِالْكَلَامِ بِدْعَةٌ وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِي عِنْدَ السَّلَف لَكِنْ بِحُكْمِ ضَرُورَةِ دَفْعِ شُبْهَةِ الْمُبْتَدِعَةِ كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ إثْبَاتُ قَدْرِ النَّهْيِ وَرَاءَ الْحَاجَةِ وَيَقْتَضِي هَذَا كَوْنَ الْمَقْصُودِ إثْبَاتَ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ بَلْ بَابُهُ قَدْ تَقَدَّمَ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا اسْتِطْرَادِيٌّ. وَأَمَّا الْمَقْصُودُ مِنْ النُّقُولِ أَعْنِي إثْبَاتَ قَدْرِ الْمَنْهِيِّ فَوَاضِحٌ صَرَاحَةً وَإِشَارَةً وَكِنَايَةً مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّصْرِيحِ بِالذِّكْرِ لَكِنْ لَا يَدْفَعُ الْأَوْلَوِيَّةَ كَمَا لَا يَخْفَى (لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ أَوْ يَتَعَلَّمَهُ إلَّا كُلُّ ذَكِيٍّ) فَطِنٍ لَبِيبٍ قَادِرٍ عَلَى تَمْيِيزِ الْقَوِيِّ مِنْ الضَّعِيفِ، وَالْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ سِيَّمَا عِنْدَ وُرُودِ شُبَهِ الْخُصُومِ عَلَى صُوَرِ الْأَدِلَّةِ الْبُرْهَانِيَّةِ (مُتَدَيِّنٍ) لَا يَظْهَرُ لِهَذَا الْقَيْدِ فَائِدَةٌ مُعْتَدَّةٌ بِهَا (مُجِدٍّ) صَاحِبِ جِدٍّ وَسَعْيٍ لِغُمُوضَةِ أَسْرَارِهِ

وَإِغْلَاقِ حَقَائِقِهِ (وَإِلَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْمَيْلُ إلَى الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ) مِنْ الْفِرَقِ النَّارِيَّةِ الْهَوَائِيَّةِ لِعَدَمِ رُسُوخِ قَوَاعِدِ الدِّينِ لِعَدَمِ الذَّكَاءِ أَوْ لِعَدَمِ الْجِدِّ أَوْ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ، وَالْمُبَالَاةِ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ مِنْ عَدَمِ الدِّيَانَةِ فَافْهَمْ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْمُحَاكِمَةِ بَيْنَ ذَمِّ الْكَلَامِ وَمَدْحِهِ فَمَمْدُوحٌ لِلْأَذْكِيَاءِ إلَى أَنْ يَكُونَ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَمَذْمُومٌ لِلْأَغْبِيَاءِ الْمَذْكُورَةِ إلَى أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فِيمَا ذُكِرَ حَصَلَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا سَبَقَ مِنْ الْمُصَنِّفِ صَرِيحًا وَمَا أُشِيرَ فِي ضِمْنِهِ أَيْضًا مِنْ الْمَنْعِ. وَمَا نُقِلَ فِي نَحْوِ الدُّرَرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ مُلَاقَاةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ خَيْرٌ مِنْ مُلَاقَاتِهِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فَمَا ظَنُّك بِالْكَلَامِ الْمَخْلُوطِ بِأَبَاطِيلِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي زَمَانِنَا وَنَقَلَ الْغَيْرُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي الْكَلَامِ لَفَرُّوا مِنْهُ كَالْأَسَدِ. وَعَنْهُ أَيْضًا لَمُلَاقَاةُ الرَّجُلِ رَبَّهُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ مُلَاقَاتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ. وَعَنْ أَبِي لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ وَلَا إمْسَاكُهَا لِكَوْنِهَا مَشْحُونَةً بِالشِّرْكِ، وَالضَّلَالِ وَلِإِيرَاثِ الشُّكُوكِ، وَالْأَوْهَامِ فِي عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا كُتُبُ الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاعْتِزَالِ دُونَ مَا صَنَّفَهُ بَعْدَهُ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا لِمَا قَبْلَهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُكْرَهُ الْخَوْضُ فِي الْكَلَامِ مَا لَمْ تَقَعْ شُبْهَةٌ فَيَجِبُ وَلَوْ بِالْمُنَاظَرَةِ لِدَفْعِهَا، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ وَقَدْ سَمِعْت عَنْ الْبَزَّازِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ إمَامَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَوْ بِحَقٍّ وَنَحْوُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِهَا لِلْغَبِيِّ، وَالْمُتَعَصِّبِ فِي الدِّينِ، وَالْقَاصِرِ عَنْ تَحْصِيلِ الْيَقِينِ، وَالْقَاصِدِ لِإِفْسَادِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَائِضِ فِيمَا لَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ مِنْ غَوَامِضِ الْمُتَفَلْسِفِينَ وَإِلَّا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ عَمَّا هُوَ أَصْلُ الْوَاجِبَاتِ وَأَسَاسُ الشَّرْعِيَّاتِ. وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ عِلْمَ الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ أَشْرَفُ جَمِيعِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ وَمَوْضُوعُهُ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ وَأَدِلَّتُهُ قَطْعِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ وَمَأْخَذُهُ كِتَابٌ وَسُنَّةٌ وَغَايَتُهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَغَايَةُ غَايَتِهِ الْفَوْزُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمَوَاقِفِ. (وَأَمَّا) (الثَّانِي) وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ النُّجُومِ (فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا) الْحَدِيثُ إنْ أُضِيفَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرْفُوعٌ وَإِلَى الصَّحَابِيِّ فَمَوْقُوفٌ وَإِلَى التَّابِعِيِّ فَمَقْطُوعٌ فَالْمَرْفُوعُ أَقْوَى الْكُلِّ وَلِذَا صَرَّحَ بِرَفْعِهِ «مَنْ اقْتَبَسَ» أَيْ اسْتَفَادَ وَتَعَلَّمَ «عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ» فُسِّرَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النُّجُومِ إذْ هُوَ عِلْمٌ وَاسِعٌ وَمِنْهُ الْأَحْكَامُ بِإِخْبَارِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَالْإِخْبَارِ عَمَّا سَيَأْتِي وَمَعْرِفَةِ الْمَسْرُوقَاتِ، وَالْكُنُوزِ، وَالدَّفَائِنِ وَأَعْمَارِ الرِّجَالِ، وَالْقَحْطِ، وَالْغَلَاءِ، وَالْخِصْبِ، وَالرَّخَاءِ، وَالْأَمْنِ، وَالسَّلَامَةِ، وَالْفِتَنِ، وَالْمَصَائِبِ وَنَحْوِهَا وَقَدْ كَذَّبَ كُلَّهُ الشَّرْعُ. «اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ» أَيْ قِطْعَةً مِنْهُ وَقَدْ سَبَقَ قَالَ الْمُنَاوِيُّ النَّجَّامَةُ تَدْعُو إلَى الْكِهَانَةِ، وَالْمُنَجِّمُ كَاهِنٌ، وَالْكَاهِنُ سَاحِرٌ، وَالسَّاحِرُ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ فِي النَّارِ «زَادَ مَا زَادَ» كُلَّمَا زَادَ مِنْ النُّجُومِ زَادَ لَهُ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ إثْمِ السَّاحِرِ أَوْ زَادَ اقْتِبَاسَ شُعَبِ السِّحْرِ مَا زَادَ اقْتِبَاسُ عِلْمِ النُّجُومِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَعَلَّمُوا مِنْ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ ثُمَّ انْتَهُوا» . قُلْنَا التَّوْفِيقُ مُشَارٌ بِقَوْلِهِ «ثُمَّ انْتَهُوا» وَمِنْ قَوْلِهِ «مِنْ السِّحْرِ» فَمَا لَا يُفْضِي إلَى نَحْوِ السِّحْرِ الْمَمْنُوعِ شَرْعًا فَخَارِجٌ عَنْ النَّهْيِ وَمِنْهُ مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي الْبَحْرِ، وَالْبَرِّ سِيَّمَا لِلْمُسَافِرِ وَلِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ. وَتَحْقِيقُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ النُّجُومَ قِسْمَانِ الْأَوَّلُ تَبْيِينٌ يُبَيِّنُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَالسَّابِقِ مِنْ الْيَوْمِ، وَالْبَاقِي إلَى الْغُرُوبِ فَجَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهَذَا مَحْمَلُ حَدِيثِ تَعَلَّمُوا، وَالثَّانِي تَأْثِيرٌ وَهُوَ بَاطِلٌ وَمُحَرَّمٌ

قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَهُوَ مَحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ. (فَائِدَةٌ) كَانَ يَكْتُمُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ النُّجُومَ، وَالطِّبَّ عَنْ أَوْلَادِهِمْ لِئَلَّا يَتَقَرَّبُوا بِهِمَا إلَى الْمَطَالِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ الدَّنِيَّةِ فَيَضْمَحِلَّ دِينُهُمْ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ. (وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ وَتَعَلُّمُ عِلْمِ النُّجُومِ قَدْرَ مَا يُعْلَمُ بِهِ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ، وَالْقِبْلَةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالزِّيَادَةُ حَرَامٌ انْتَهَى) لِإِفْضَائِهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَوَادِثِ وَاطِّلَاعِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ. قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَتَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]- أَيْ جَعَلْنَا النُّجُومَ سَبَبًا لِكَذِبِ الْمُنَجِّمِينَ أُطْلِقَ اسْمُ الشَّيْطَانِ عَلَى النَّجْمِ وَسُمِّيَ هَذَيَانُهُ رَجْمًا مِنْ رَجْمِ الْغَيْبِ. (وَفِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ وَلَوْ تَعَلَّمَ مَنْ عَلِمَ النُّجُومَ مِقْدَارَ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَأَمْرَ الْحِسَابِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِقْدَارُ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْحِسَابَ فَقَطْ (فَلَا بَأْسَ بِهِ) فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَا لَا بَأْسَ فِيهِ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى وَقَدْ سَمِعْت الْأَمْرَ النَّبَوِيَّ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ «تَعَلَّمُوا مِنْ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ» . وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَهْتَدِي بِهِ. قُلْنَا الْأَمْرُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى مُطْلَقِ الْإِذْنِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ لَا بَأْسَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ كَلَا جُنَاحَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا فَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا بَأْسَ وَلَا جُنَاحَ وَاحِدٌ وَبِمَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالسُّنَّةِ كَمَا فِي قَوْلِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ لِلصَّائِمِ وَبِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقُشَّ الْمَسْجِدَ بِالْجَصِّ وَمَاءِ الذَّهَبِ أَيْ لَا أَجْرَ وَلَا إثْمَ وَبِمَعْنَى تَرْكِ الْأَوْلَى أَيْ الْمُسْتَحَبِّ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْبَأْسَ الشِّدَّةُ وَبِمَعْنَى لَا يَجُوزُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ أَيْ لَا يَجُوزُ لَكِنَّ الشَّائِعَ فِيمَا تَرَكَهُ أَوْلَى وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْكِفَايَةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ الشَّائِعِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِالنَّادِرِ. وَلِهَذَا يُقَالُ الْمُفْرَدُ يُلْحَقُ بِالْأَعَمِّ، وَالْأَغْلَبِ فِي الْعُرْفِ، وَاللُّغَةِ نَعَمْ قَدْ يُعْدَلُ عَنْ الْأُصُولِ، وَالْقَوَاعِدِ بِالْعَوَارِضِ، وَالْمَوَانِعِ (وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ (إذَا تَعَلَّمَ مِقْدَارَ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَأَمْرَ الْحِسَابِ انْتَهَى، وَفِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ عِلْمَ النُّجُومِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْرِضُ الْقَلْبَ وَيُوهِنُ الِاعْتِقَادَ بِتَأْثِيرِ غَيْرِهِ تَعَالَى وَبِاعْتِقَادِ الْغَيْبِ وَنَحْوِهِمَا (فَتَعَلُّمُهُ حَرَامٌ) وَكَذَا تَعْلِيمُهُ (لِأَنَّهُ يَضُرُّ) بِدِينِهِ. قَالَ الْمُحَشِّي عِلْمُ الْحَالِ غِذَاءٌ وَعِلْمُ الْكَلَامِ دَوَاءٌ وَعِلْمُ النُّجُومِ مَرَضٌ وَسُمٌّ وَاجِبُ الِاحْتِرَازِ (وَلَا يَنْفَعُ، وَالْهَرَبُ مِنْ قَضَائِهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ انْتَهَى) إشَارَةً إلَى رَدِّ مَا اعْتَقَدُوا مِنْ فَوَائِدِ النُّجُومِ لِأَنَّهُ إذَا عُلِمَ وُقُوعُ زَلْزَلَةٍ فِي أَرْضِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا يُحْتَرَزُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنْ تِلْكَ الْأَرْضِ فَيَنْجُو وَإِذَا عُلِمَ انْهِزَامُ هَذَا الْعَسْكَرِ وَكَوْنِهِمْ قَتْلَى لَا يَحْضُرُ وَيَنْجُو مِنْ الْهَلَاكِ وَهَكَذَا غَرَقُ سَفِينَةٍ وَإِحْرَاقُ دَارٍ وَنَحْوِهَا وَعَدَمُ إمْكَانِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ» لَا يُقَالُ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِصِحَّةِ مَا ادَّعَوْا مِنْ اطِّلَاعِ الْكَوَائِنِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ الْكَلَامُ عَلَى الْفَرْضِ، وَالتَّنْزِيلُ لَا عَلَى الْوُقُوعِ، وَالتَّحْقِيقِ لَكِنَّ ذَلِكَ جَازَ فِي نَحْوِ الصَّدَقَةِ، وَالْبِرِّ، وَالدُّعَاءِ، وَالصِّلَةِ وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُعَلَّقَةٍ عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ الْعُمْرَ إلَّا الْبِرُّ» فَارْجِعْ تَظْفَرْ بِفَوَائِدَ بَلْ نَفَائِسَ مِنْ دَقَائِقِ الْكَلَامِيَّةِ (أَقُولُ) تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ مَنْعًا وَمَسَاغًا (فَمَا هُوَ الْحَرَامُ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ) بِالْحُكْمِ بِأَنَّهُ يَقَعُ كَذَا وَيُولَدُ كَذَا وَيَهْلِكُ بِكَذَا وَهَكَذَا (كَقَوْلِهِمْ إذَا وَقَعَ كُسُوفٌ أَوْ خُسُوفٌ أَوْ زَلْزَلَةٌ أَوْ نَحْوُهَا) كَانْتِثَارِ الْكَوَاكِبِ، وَالرَّعْدِ، وَالْبَرْقِ وَشِدَّةِ الرِّيَاحِ

(فِي زَمَانِ كَذَا سَيَقَعُ كَذَا) مِنْ خِصْبٍ وَرَخَاءٍ وَقَحْطٍ وَغَلَاءٍ وَوَبَاءٍ وَمَوْتِ كِبَارٍ وَحَرْبٍ وَأَمْنٍ وَكَثْرَةِ أَمْطَارٍ لَكِنْ تَقَدَّمَ مِنْ شَرْحِ الْعَقَائِدِ إنْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَلَامَةِ، وَالتَّجْرِبَةِ فَلَيْسَ بِحَظْرٍ. قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هَالَةِ الْقَمَرِ: يَكُونُ مَطَرٌ مُدَّعِيًا عِلْمَ الْغَيْبِ لَا بِعَلَامَةٍ كُفْرٌ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ أَمْرٌ تَفَرَّدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى لَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِلْعِبَادِ إلَّا بِإِعْلَامٍ مِنْهُ وَإِلْهَامٍ بِطَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ أَوْ الْكَرَامَةِ وَإِرْشَادٍ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ فِيمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا الْبَابِ مَا فِي أُنْمُوذَجِ حَفِيدٍ السَّعْدِ السِّحْرُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ إذَا أَقَرَّ أَنَّ سِحْرَهُ يَقْتُلُ غَالِبًا وَالدِّيَةُ إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ كَذَلِكَ. (وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ، وَالْمَوَاقِيتِ فَتَحْصُلُ بِالْعِلْمِ الْمُسَمَّى بِالْهَيْئَةِ) فَالْعِلْمُ عَلَى ذَلِكَ بِالْآلَاتِ الْمُتَدَاوَلَةِ كَالْإِسْطِرْلَابِ وَلَوْحِ رُبْعِ الْجَيْبِ وَذَاتِ الْكُرْسِيِّ وَنَحْوِهَا مِنْ الْهَيْئَةِ فِي الْأَصْلِ. وَإِنْ أَفْرَدُوهَا بِالِاسْتِقْلَالِ فِي زَمَانِنَا كَنِسْبَةِ الْفَرَائِضِ إلَى الْفِقْهِ (فَلَمَّا كَانَا) أَيْ الْقِبْلَةُ، وَالْوَقْتُ (شَرْطَيْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَزِمَ مَعْرِفَتُهُمَا بِالتَّحَرِّي) هُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْأُخْرَى أَيْ الْأُولَى (وَالْأَمَارَاتِ) أَيْ الْعَلَامَاتِ (وَهَذَا الْعِلْمُ) أَيْ الْهَيْئَةُ لَا بِتَمَامِهِ بَلْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْأَمْرِ (مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ التَّحَرِّي، وَالْمَعْرِفَةِ) يَشْكُلُ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ إنْ شَرْعِيًّا أَيْ مَعْلُومًا بِالشَّرْعِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، وَلَوْ سُلِّمَ لَزِمَ تَعَيُّنُ وُجُوبِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا يَذْكُرُهُ الْآنَ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ كَمَا تَقْتَضِيهِ قَاعِدَةُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الشَّرْعِيَّيْنِ نَعَمْ قَدْ ذَكَرَ الْعَضُدُ فِي مُخْتَصَرِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تُؤْخَذُ لَا مِنْ الشَّرْعِ كَالتَّمَاثُلِ، وَالتَّحَالُفِ وَإِنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ قَدْ ثَبَتَا عِنْدَنَا كَمَا عَرَفْت فِي مَحَلِّهِ (فَجَازَ الِاشْتِغَالُ بِهِ) وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ لَا بَأْسَ بِهِ فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ مَا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ لَا الِاسْتِدْلَالِ ابْتِدَاءً بِرَأْيِهِ فِي اسْتِخْرَاجِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ حَتَّى يَرُدَّ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّ ذَلِكَ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجُوزُ تَحَرِّي الِاجْتِهَادِ لَا يَبْعُدُ اجْتِهَادُ الْمُصَنِّفِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ. وَلِمَا وُجِّهَ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْوَاجِبِ فَوَاجِبٌ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَأَمَّا أَنْ يَجِبَ) النُّجُومُ (فَلَا إذْ لَا انْحِصَارَ لِلْأَسْبَابِ فِيهِ) أَيْ فِي النُّجُومِ الْحَاصِلِ فِي ضِمْنِ الْهَيْئَةِ يَشْكُلُ أَنَّ مُطْلَقَ السَّبَبِ كَالْعَامِّ وَلَا وُجُودَ لِلْعَامِّ إلَّا فِي ضِمْنِ الْخَاصِّ فَإِذَا كَانَ الْمُطْلَقُ وَاجِبًا فَفِي ضِمْنِ أَيْ أَفْرَادِهِ تَحَقُّقٌ كَانَ الْوَاجِبُ ذَلِكَ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَاَلَّذِي يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُكَلِّفْ تَحْصِيلَ هَذَا السَّبَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِلْحَرَجِ، وَالْعُسْرِ فِي ذَلِكَ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ بَلْ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ التَّحَرِّي فَلَوْ أَتَى الْمُكَلَّفُ مِنْ عِنْدِهِ حُصُولُهُمَا أَيْ الْقِبْلَةِ، وَالْوَقْتِ لَا يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ بَلْ يُجَوِّزُهُ لَكِنْ يُرَدُّ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ السَّلَفِ وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِمْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ بِدْعَةً فِي الْعِبَادَةِ فَتَأَمَّلْ (وَ) إنَّهُ (لَا يَلْزَمُ الْيَقِينُ فِيهِمَا) فِي الْقِبْلَةِ، وَالْوَقْتِ حَتَّى يَجِبَ فَظَاهِرُهُ الِاعْتِرَافُ بِحُصُولِ الْقَطْعِ بِالنُّجُومِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَثَبَتَ ابْتِدَاءُ رَمَضَانَ وَاخْتِتَامُهُ بِالنُّجُومِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا فِي هَذَا وَمَا فِي ذَلِكَ تَحَكُّمٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْفَرْضِ، وَالتَّنْزِيلِ (بَلْ يَكْفِي الظَّنُّ) فِي اسْتِحْصَالِ نَحْوِهِمَا لِلْحَرَجِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُهُ الْآتِي لَكِنْ هَذَا إنَّمَا يَدْفَعُ الْفَرْضِيَّةَ لَا الْوُجُوبَ. وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَ فِيهَا فَضِيلَةٌ وَاسْتِحْبَابٌ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ بَلْ مَا فِيهَا هُوَ أَصْلُ الْجَوَازِ (وَأَنَّهُ) أَيْ الْهَيْئَةَ (يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاءٍ) كِيَاسَةٍ (وَقُوَّةِ حَدْسٍ وَخَيَالٍ وَجَدٍّ كَثِيرٍ) فَفِيهِ حَرَجٌ (فَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ إذْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَدْفَعُ الْوُجُوبَ عَيْنًا لَا الْمُطْلَقَ فَيَجُوزُ الْوُجُوبُ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا فِي الْمَقْصِدِ وَبَيْنَ مَا فِي الْأَسْبَابِ، وَالشَّرَائِطِ وَأَنْ يَعْسُرَ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْ يُوجَدَ شَخْصٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُسْتَخْبَرُ مِنْهُ عَنْهُمَا (وَأَيْضًا تَحْتَاجُ مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ بِالْهَيْئَةِ إلَى مَعْرِفَةِ عَرْضِ كُلِّ بَلَدٍ وَطُولِهِ)

هُمَا مَعْرُوفَانِ عِنْدَهُمْ وَمُحَرَّرَانِ فِي كُتُبِهِمْ (وَلَا نُمَكِّنُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةَ إلَّا بِتَقْلِيدِ مَنْ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ) لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْحَصْرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ مَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَدَاوَلِ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَلَا شَكَّ فِي تَدَاوُلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ بَيْنَ الْإِسْلَامِيِّينَ بَلْ الثِّقَةُ مِنْهُمْ وَإِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِ الْمُسْتَخْرَجِ فَهُمْ ادَّعَوْا كَوْنَ عِلْمِهِمْ فِي الْأَصْلِ شَرِيعَةً مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَانْتِهَاءِ سِلْسِلَتِهِمْ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَقِيلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَقِيلَ إلَى لُقْمَانَ وَقِيلَ إلَى إدْرِيسَ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ عِنْدَهُمْ هُرْمُسُ الْحَكِيمُ حَتَّى ادَّعَوْا أَنَّ هَذِهِ الْآلَاتِ النُّجُومِيَّةَ أَوَّلُ مَنْ اسْتَخْرَجَهَا هُوَ هُرْمُسُ. قَالَ فِي الْفَوَائِحِ الْمِسْكِيَّةِ إنَّ هُرْمُسَ صَعِدَ إلَى فُلْكِ زُحَلَ وَدَارَ مَعَهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً حَتَّى شَاهَدَ جَمِيعَ أَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ فَنَزَلَ إلَى الْأَرْضِ فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِعِلْمِ النُّجُومِ. وَقَالَ فِي بَعْضِ حَوَاشِي حِكْمَةِ الْعَيْنِ إنَّ أَصْلَ الْحِكْمَةِ وَحَيٌّ إلَهِيٌّ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ إنَّمَا هُوَ بِتَلَاحُقِ الْأَفْكَارِ وَتَكَاثُرِ الْآرَاءِ (فَلَا يُوجِبُ الْعَمَلَ) لَا يَخْفَى أَنَّ اللَّازِمَ مِمَّا ذَكَرَهُ وَمَهَّدَهُ عَدَمُ جَوَازِ الْعَمَلِ لَا عَدَمُ الْوُجُوبِ وَصَرْفُ النَّفْيِ إلَى الْقَيْدِ، وَالْمُقَيَّدِ مَعًا أَيْ لَا يَجُوزُ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافُ الْأَصْلِ فِي الْأَصْلِ فَنَفْيُ مَا أُثْبِتَ أَوْلَى يَعْنِي يُنَافِي تَقْرِيبَ الدَّلِيلِ. حَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَقَامِ مَعَ طُولِهِ بِالْكَلَامِ أَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ كَوْنِ النُّجُومِ لَا بَأْسَ كَمَا فِي كَلَامِ الْخُلَاصَةِ، وَالْبُسْتَانِ وَبَيْنَ حُرْمَتِهِ كَمَا فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَكَلَامُ تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَكَوْنُهُ لَا بَأْسَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ وَوَقْتِ الصَّلَاةِ. (وَأَمَّا سَائِرُ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ) عِلْمُ الْفَلَاسِفَةِ هُوَ اسْتِكْمَالُ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ أَوْ هُوَ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (فَالْمَنْطِقُ) الْمُعَرَّفُ بِآلَةٍ قَانُونِيَّةٍ تَعْصِمُ مُرَاعَتُهَا الذِّهْنَ عَنْ الْخَطَأِ فِي الْفِكْرِ وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ الْقَرِيحَةِ هُوَ أَرِسْطُو وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ جَعْلُهُمْ جُزْءًا مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ مَثَلًا عَلَى وَجْهِ الْمَبْدَئِيَّةِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمٌ مَبْدَأً لِعِلْمٍ آخَرَ وَذَاكَ غَيْرٌ لِذَلِكَ كَمَا سَتَسْمَعُ (دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ) إذْ أَصْلُ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَالِاسْتِدْلَالِ الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَنْطِقِ إذْ حَاصِلُهُ اسْتِحْصَالُ الْمَجْهُولَاتِ بِالْمَعْلُومَاتِ فَيَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ. اعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي الْمَنْطِقِ قَالَ بَعْضُهُمْ بِالْحُرْمَةِ وَبَعْضُهُمْ بِعَدَمِهَا بَلْ بِوُجُوبِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ فِي الْأَشْبَاهِ عِلْمُ الْفَلْسَفَةِ حَرَامٌ وَدَخَلَ فِيهِ الْمَنْطِقُ. وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ حَرَامٌ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْ الْمَدَارِسِ وَسَجْنِهِمْ وَكَفِّ شَرِّهِمْ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرْعِيَّةِ مُنْكَرٌ بَشِيعٌ. وَفِي أُنْمُوذَجِ حَفِيدٍ السَّعْدِ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعِلْمِ الْمُحْتَرَمِ حَتَّى يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِكُتُبِهِ وَمِثْلُهُ ذَكَرَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مَوْرِدًا الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْوَرَقِ الْخَالِي عَنْ الْخَطِّ وَيَجُوزُ إهَانَتُهُ فِي الشَّرْعِ. وَعَنْ الْإِسْنَوِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ، وَنُقِلَ عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَكَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَعَنْ قُوتِ الْقُلُوبِ أَنَّ الْجُهَّالَ جَعَلُوا أَصْحَابَ الْمَنْطِقِ عُلَمَاءَ. وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ أَنَّهُ تَضْيِيعُ الْعُمْرِ. وَعَنْ شَرْحِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ لِعَلِيٍّ الْقَارِي أَيْضًا عَنْ السُّيُوطِيّ: أَنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَبَرِينَ كَابْنِ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيِّ. وَعَنْ الْقَزْوِينِيِّ: رَجَعَ الْغَزَالِيُّ إلَى تَحْرِيمِهِ بَعْدَمَا أَثْنَى عَلَيْهِ. وَعَنْ السَّلَفِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ مُشْتَغِلِهِ. وَفِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ: الْقَوْلُ بِتَصْرِيحٍ كَثِيرٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِالْحُرْمَةِ لِكَوْنِهِ تَضْيِيعَ الْعُمْرِ وَلِإِفْضَائِهِ

إلَى مَيْلِ سَائِرِ الْفَلْسَفَةِ فَمَنْ قِيلَ سَدُّ الذَّرَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنَافِي الشَّرْعِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي أُنْمُوذَجِ الْحَفِيدِ أَيْضًا عَنْ الْغَزَالِيِّ: أَنَّ الْمَنْطِقَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَوَّاهُ الشَّيْخُ السُّبْكِيُّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيقَةِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا فِي الْمُسْتَصْفَى: الْمَنْطِقُ مُقَدِّمَةٌ لِكُلِّ الْعُلُومِ، وَمَنْ لَا يُحِيطُ بِهَا لَا ثِقَةَ بِعُلُومِهِ. وَفِي مُنْقِذِ الضَّلَالِ لَهُ أَيْضًا: الْمَنْطِقُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالدِّينِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. ثُمَّ فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ هُنَاكَ لُزُومُهُ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْآفَةُ مِنْ إهْمَالِهِ فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ بَعْدَمَا حَصَّلُوهُ إلَى أَنْ يُفِيدَ الْيَقِينَ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا فِي أَوَّلِ الْمُنْتَقَى مَدْحُهُ الْمَنْطِقَ. وَفِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ سَمَّاهُ: " مِعْيَارَ الْعُلُومِ " وَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِهِ لَا ثِقَةَ بِعِلْمِهِ، وَالْعَلَّامَةُ الْقُطْبُ حَكَى عَنْ الْعُلَمَاءِ الْحُكْمَ بِمُطْلَقِ وُجُوبِهِ، وَالْعَلَّامَةُ الشَّرِيفُ بَعْدَمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي مُطْلَقِ وُجُوبِهِ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ بِعَيْنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ لِتَوَقُّفِ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَوْ بِكِفَايَةِ فَرْضِيَّتِهِ لِتَوَقُّفِ شِعَارِ الدِّينِ عَلَيْهِ. وَفِي شَرْحِ حَدِيثِ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لِابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ صَرَّحَ بِجَوَازِهِ بَلْ بِلُزُومِهِ. وَفِي الْحَدِيقَةِ: عَنْ الْقَرَافِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ الْمَنْطِقُ شَرْطٌ لِلِاجْتِهَادِ، وَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ مَتَى جَهِلَهُ سُلِبَ عَنْهُ اسْمُ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ: يَنْبَغِي تَقْدِيمُ الِاشْتِغَالِ بِهِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْفِقْهِ لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَنْطِقَ مُجَرَّدُ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مَادَّةٍ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ هَذِهِ الْمَادَّةَ مِنْ الشَّرْعِيَّةِ لِيَكُونَ كَدُّهُ فِي الشَّرْعِيَّةِ وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي لَا يَطْرُقُهُ الْعَيْبُ إلَّا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ أَحْسَنُ الْعُلُومِ وَأَنْفَعُهَا فِي كُلِّ بَحْثٍ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ فَجَاهِلٌ. وَفِي إتْقَانِ السُّيُوطِيّ: الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحِجَجِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَالْقَوَاعِدِ الْجَدَلِيَّةِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الصَّرَاحَةِ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ عِنْدَ مَنْ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأُصُولِ، وَصَرِيحُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ جُزْءٌ مِنْ الْكَلَامِ وَأَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ جَعَلَ الْمَنْطِقَ تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ مَبَادِئَ كَلَامِيَّةً لِلْأُصُولِ وَمَشَى عَلَيْهِ شُرَّاحُهُ وَمُحَشِّيهِ كَالْعَضُدِ، وَالْأَبْهَرِيِّ، وَالسَّعْدِ، وَالشَّرِيفِ وَغَيْرِهِمْ وَصَنَّفَ فِي الْمَنْطِقِ كُتُبًا وَرَسَائِلَ خَلْقٌ لَا يُحْصَى مِنْ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَحِيلُ الْعَقْلُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْجَهَالَةِ، وَالْغَوَايَةِ، وَالْمُكَابَرَةِ وَنِسْبَةُ حَالِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى الضَّلَالَةِ سَتُبَيَّنُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» ثُمَّ الْمُحَاكَمَةُ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ الشَّارِحُ الْحَمَوِيُّ لِلْأَشْبَاهِ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحُرْمَةِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَمْ أَرَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا حُرْمَةَ الْمَنْطِقِ فَلَا بُدَّ لِلْمُصَنِّفِ مِنْ النَّقْلِ. أَقُولُ لَعَلَّ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى حُكْمَ الْفُقَهَاءِ بِحُرْمَةِ الْفَلْسَفَةِ وَكَانَ الْمَنْطِقُ جُزْءًا مِنْ الْفَلْسَفَةِ عِنْدَهُ حُكِمَ بِحُرْمَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَيْسَ كُلُّ الْفَلْسَفَةِ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ كَأَثَرِ الْإِلَهِيَّاتِ، وَالطَّلَبِ وَبَعْضِ النُّجُومِ وَنَحْوِهَا. ثُمَّ قَالَ عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: الْمُحَرَّمُ مَنْطِقُ الْفَلَاسِفَةِ. وَأَمَّا مَنْطِقُ الْإِسْلَامِيِّينَ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي الشَّرْعَ فَلَا يَحْرُمُ وَنَحْوُهُ حُكِيَ فِي الْحَدِيقَةِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مَا يُلْتَزَمُ فِيهِ نَفْيُ الشَّرْعِيَّاتِ وَهُوَ مَحْمَلُ أَقْوَالِ نَحْوِ ابْنِ الصَّلَاحِ. وَأَمَّا الْمَنْطِقُ الْمُتَدَاوَلُ الْيَوْمَ بَيْنَ كِبَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ الظَّاهِرُ إعَانَتُهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَمَعَاذَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْكِرَهُ نَحْوُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَلَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْمَنْطِقِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ وَكَفَى حُجَّةً عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَفَوَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ الْعَارِفِ مَعَ عَارِفِهِ. وَفَصَّلَ الْقَوْلَ أَنَّهُ كَسَيْفِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا يُنْكَرُ فِي أَصْلِهِ إلَّا أَنْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ. أَقُولُ وَمِثْلُهُ عُرِفَ آنِفًا مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الْمُنْقِذِ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْ أَصْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَحَلِّهِ أَوْ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَعَلَّ مَنْعَ السَّلَفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا شَاهَدُوا فِي زَمَانِهِمْ مِنْ جَعْلِهِمْ الْمَنْطِقَ آلَةً لِتَرْوِيجِ الْفَلْسَفِيَّاتِ، وَلِهَجْرِ الشَّرْعِيَّاتِ لِأَنَّهُ أَوَانُ أَوَّلِ تَرْجَمَةِ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِيَّةِ إلَى الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يَدُلُّ قَصَصُهُمْ وَحِكَايَةُ أَحْوَالِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ فِي أَصْلِهِ، وَالذَّمُّ إنَّمَا يَتَطَرَّقُ مِنْ عَوَارِضِهِ فَالْمُثْبِتُونَ نَظَرُوا إلَى ذَاتِهِ وَإِعَانَتِهِ لِلْأُصُولِ، وَالْفُرُوعِ حَتَّى جَعَلُوهُ مَبَادِئَ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْكَلَامِ، وَالْأُصُولِ، وَالنَّافُونَ نَظَرُوا إلَى عَوَارِضِهِ مِنْ نَحْوِ التَّعَصُّبِ وَإِلْزَامِ الْمُوَحَّدِ أَوْ كَثْرَةِ تَوَغُّلٍ تُوجِبُ هَجْرَ الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا

الْمَنْطِقُ مَبَادِئٌ فَلْيُسْرَعْ مِنْهُ إلَى الْمَقَاصِدِ فَنَفَوْهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ حَرَامٌ أَلْبَتَّةَ بَلْ الْمَقَاصِدُ الشَّرْعِيَّةُ أَيْضًا قَدْ تَحْرُمُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعَوَارِضِ كَالتَّعَلُّمِ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيَأْكُلَ أَمْوَالَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَسْتَخْدِمَ الْفُقَرَاءَ وَيَتَقَرَّبَ إلَى الْأُمَرَاءِ كَمَا ذَكَرَ الْحَمَوِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَبِمَا ذَكَرْنَا وَشَيَّدْنَا أَمْكَنَ لَك دَفْعُ مَا أُورِدَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ مِنْ الْخَيَالَاتِ، وَالْأَوْهَامِ مِنْ مَنْعِ كَوْنِ الْمَنْطِقِ قِسْمَيْنِ. أَقُولُ وَقَدْ أَشَرْنَا أَنَّ تَعَدُّدَهُ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ وَحَالِ مُسْتَعْمَلِهِ، وَمَنْ مَنْعَ عَدَمَ ضَرَرِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَيْفَ وَعَامَّةُ فِرَقِ الضَّلَالَةِ بِسَبَبِ تَشَبُّثِ هَذَا الْعِلْمِ أَفْسَدُوا هَذَا الدِّينَ الْقَوِيمَ. أَقُولُ لَيْسَ إفْسَادُهُمْ بِمُجَرَّدِ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ بَلْ بِمَوَادِّهَا وَلَوْ سَلَّمَ فَتَخَلَّصَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَغَلَبَتْهُمْ عَلَيْهِمْ إنَّمَا هُوَ بِتَمَيُّزِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ مِنْ الْفَاسِدِ وَذَلِكَ بِهَذَا الْعِلْمِ وَمَنْ مَنَعَ كَوْنَهُ شَرْطًا لِلِاجْتِهَادِ بِالِاسْتِنَادِ أَنَّ الصَّحَابَةَ مُجْتَهِدُونَ وَلَيْسُوا بِعَارِفِي هَذَيَانَاتِ الْمَنَاطِقَةِ كَيْفَ وَهُوَ يُفْضِي إلَى أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ كُفْرٌ لِتَحْقِيرِ عِلْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ الْأَحْكَامِ مُعَلَّلَةً بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ. أَقُولُ: مُرَاعَاةُ الْمَنْطِقِ حَاصِلٌ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ لَكِنْ لِقُوَّةِ ذَكَائِهِمْ وَجِيَادَةِ طِبَاعِهِمْ اسْتَغْنَوْا عَنْ تَفْصِيلِهِ كَعِلْمِ الْأُصُولِ بِالْإِجْمَالِ مَعَ عَدَمِ تَفْصِيلِهِ عِنْدَهُمْ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ عِلْمٌ آلِيٌّ لَيْسَ فِيهِ مَادَّةٌ قَصْدِيَّةٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اسْتِلْزَامُ مُتَارَكَةِ الشَّرْعِيَّاتِ بِكَوْنِ الْعِلَلِ هِيَ الْعَقْلِيَّاتُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْجَهْلِيَّاتِ وَأَنَّهُ هَلْ يُتَصَوَّرُ لُزُومُ أَخْذِ الْمُجْتَهِدِ أَحْوَالَ اجْتِهَادِهِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي اجْتِهَادِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ عَرَفْته كَمَا عَرَفْت حَالَ نِسْبَتِهِ إلَى الْكُفْرِ وَمَا اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ فَإِذَا عَرَفْت حَالَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ فَلَعَلَّك قَدَرْت أَنْ تَعْرِفَ بِوَاقِيَ وَهْمِيَّاتِهِ السَّاقِطَةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاشْتِغَالُ بِتَمَامِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الْمَلَالَ وَقَسْوَةَ الْبَالَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ. (وَعِلْمُ الْهَنْدَسَةِ) عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ خَوَاصُّ الْمَقَادِيرِ مِنْ الْخَطِّ، وَالسَّطْحِ، وَالْجِسْمِ التَّعْلِيمِيِّ (مُبَاحٌ) كَسَائِرِ الرِّيَاضِيَّاتِ كَالْحِسَابِ، وَالْهَيْئَةِ لِعَدَمِ التَّعَلُّقِ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَكِنْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: تَوَلَّدَتْ مِنْهُ آفَتَانِ. الْأُولَى: النَّاظِرُ إلَيْهَا يَرَى وُضُوحَهَا فَيَحْسُنُ عِنْدَهُ اعْتِقَادُ عَامَّةِ الْفَلْسَفَةِ فَيَدْعُوهُ إلَى اعْتِقَادِ كُفْرِيَّاتِهِمْ وَإِلَى تَقْلِيدِهِمْ فِيهَا. وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ فِي اعْتِقَادٍ أَنَّ الدِّينَ يَنْتَصِرُ بِإِنْكَارِ جَمِيعِ عُلُومِهِمْ فَإِذَا رَأَى ظُهُورَ دَلَالَتِهَا يَزُولُ اعْتِقَادُهُ بِالدِّينِ بَلْ رُبَّمَا يَعْتَقِدُ بِنَاءَ الدِّينِ عَلَى الْجَهْلِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوْلَى عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى هَاتَيْنِ الْآفَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ نَظَرُهُ إلَى أَصْلِهَا دُونَ عَوَارِضِهَا (وَالْإِلَهِيَّاتُ) أَيْ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ (مَا يُخَالِفُ مِنْهَا الشَّرْعُ) كَمَا يُخَالِفُ الْكَلَامِيَّةُ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَى الْكُفْرِ أَوْ لَا كَمَا سَبَقَ التَّفْصِيلُ قَرِيبًا (فَجَهْلٌ مُرَكَّبٌ) لِعَدَمِ خَارِجٍ يُطَابِقُ النِّسْبَةَ إذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا (لَا يَجُوزُ تَحْصِيلُهُ وَلَا النَّظَرُ) التَّأَمُّلُ فِيهِ (الْأَعْلَى وَجْهُ الرَّدِّ) وَذَلِكَ لِلْمُنْتَهِي الذَّكِيِّ الْقَادِرِ لَا الْمُبْتَدِئِ الْغَبِيِّ الْعَاجِزِ لَكِنْ ظَاهِرُ التتارخانية الْمَنْعُ عَنْ إطْلَاقِ عِلْمِ الْفَلْسَفَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ قُبَيْلَ الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَفِي الثَّلَاثِينَ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ مَعَ زِيَادَةِ الْهَنْدَسَةِ فِيهِ وَضَمِّهَا إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا عِلْمُ الْفَلَاسِفَةِ، وَالْهَنْدَسَةِ بَعِيدٌ مِنْ عِلْمِ الْآخِرَةِ اسْتِخْرَاجُ ذَلِكَ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ نَعَمْ قَالَ هُنَاكَ أَيْضًا تَعْلِيمُ الْمَعَاصِي لِيَجْتَنِبَ عَنْهَا جَائِزٌ (وَقَدْ اسْتَقْصَى) الرَّدَّ (فِي) عِلْمِ (الْكَلَامِ) وَلِذَا جَعَلَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُهُ هَذَا الْمَقَامُ (وَمَا يُوَافِقُهُ فَدَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ أَيْضًا) فَمُسْتَغْنًى عَنْهَا. أَقُولُ دَعْوَى الدُّخُولِ مُشْكِلٌ إذْ الْكَلَامُ مُلْتَزَمٌ أَخْذُهُ مِنْ الشَّرْعِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْإِلَهِيَّاتِ بَلْ الْتِزَامُ عَدَمُ الْأَخْذِ مِنْ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الدُّخُولُ، وَقَدْ انْتَفَى الْحُسْنُ، وَالْقُبْحُ الْعَقْلِيَّانِ عِنْدَنَا نَعَمْ إنَّ أُصُولَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ لَا تَحْصُلُ مِنْ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَكِنْ بِحَسَبِ تَطْبِيقِهَا إلَيْهِ انْتِهَاءً إلَّا أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ الصُّورَةِ وَأَنَّهُ يُشْعِرُ جَوَازَ تَوَغُّلِ هَذِهِ الْإِلَهِيَّاتِ وَاسْتِحْصَالِهَا. (وَالطَّبِيعِيَّاتُ مَا خَالَفَ مِنْهَا الشَّرْعَ) هُوَ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَجْسَامِ عَالَمِ السَّمَوَاتِ وَكَوَاكِبِهَا وَمَا تَحْتَهَا مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُفْرَدَةِ، وَالْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ

نَحْوُ نِسْبَةِ تَأْثِيرِ الْأَشْيَاءِ إلَى بَعْضِ الطَّبَائِعِ، وَالْمُؤَثِّرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْإِلَهِيَّاتِ وَقَدْ عَرَفْت حَالَهَا) فِي الرَّدِّ. (وَمَا لَمْ يُخَالِفْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ) قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُنْقِذِ مَا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ مِنْهَا كَالطِّبِّ فَلَا يُمْنَعُ. أَقُولُ لَكِنْ هِيَ لِعَدَمِ ثَمَرَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا كَالْعَبَثِ لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَدِّ فِي اسْتِحْصَالِهَا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْحَقَ بِتَضْيِيعِ الْعُمْرِ. (وَأَمَّا السِّحْرُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ (، وَالنِّيرَنْجَاتُ) وَيُقَالُ لَهَا الشَّعْبَذَةُ أَيْضًا فُسِّرَ بِأَنَّهُ عِلْمٌ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِعْدَادَاتٍ تَقْدِرُ بِهَا النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ عَلَى ظُهُورِ التَّأْثِيرِ فِي الْعَنَاصِرِ (وَنَحْوِهِمَا مِنْ الشُّرُورِ، وَالْمَعَاصِي فَيَجُوزُ تَعَلُّمُهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْهَا) لَا لِلرَّغْبَةِ فِيهَا (كَمَا قِيلَ عَرَفْت الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ) أَيْ لِتَحَفُّظِهِ، وَالِاحْتِرَازِ عَنْهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الدَّلِيلَ يَخْتَصُّ بِمَا تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ وَسِيلَةً لِاحْتِرَازِهِ، وَالْمَطْلُوبُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَدَعْوَى كَوْنِ الْكُلِّ كَذَلِكَ بَعِيدٌ (وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّرَّ وَيَجْهَلْهُ يَقَعُ فِيهِ) لِعَدَمِ عِلْمِهِ، وَالْتِبَاسِهِ بِالْخَيْرِ لَا يُقَالُ الْمَعْرِفَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ بَلْ التَّقْلِيدُ كَافٍ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ التَّعَلُّمِ هُوَ التَّفْصِيلُ فَلَا تَقْرِيبَ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ لَيْسَ كَالْإِجْمَالِ إذْ التَّفْصِيلُ كَالْكُنْهِ، وَالْإِجْمَالُ كَالْوَجْهِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا نَعَمْ إنَّ أَصْلَ التَّوَقِّي حَاصِلٌ بِالْإِجْمَالِ لَعَلَّ تَحْقِيقَ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِجَوَازِ ظُهُورِ سَاحِرٍ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ بِالْخَوَارِقِ السِّحْرِيَّةِ إذْ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَصَّلُ بِالتَّفْصِيلِ لَكِنَّ السَّابِقَ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ مَظَانِّ ظُهُورِ مِثْلِ هَذَا الْمُدَّعِي وَإِلَّا فَمَا يَكُونُ فِي نُدْرَةٍ سِيَّمَا فِي غَايَتِهَا لَا يَكُونُ مَدَارًا لِتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ. (وَأَمَّا) (الْمُنَاظَرَةُ) أَيْ الْمُبَاحَثَةُ (وَالْحِيلَةُ فِيهَا فَفِي الْخُلَاصَةِ التَّمْوِيهُ) فُسِّرَ بِالتَّكَلُّمِ بِكَلَامٍ مُزَخْرَفٍ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ (وَالْحِيلَةُ فِي الْمُنَاظَرَةِ) بِالْمُقَدِّمَاتِ الْجَدَلِيَّةِ، وَالْخَطَابِيَّةِ بَلْ الشَّبِيهُ، وَالسَّفْسَطِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ عِنْدَهُ بَلْ وَلَمْ يُطَابِقْ لِلْوَاقِعِ (إنْ) (تَكَلَّمَ) مُخَاطِبُك مَعَك (مُتَعَلِّمًا) مُرِيدًا أَخْذَ عِلْمٍ مِنْك أَيْ مُسْتَفِيدًا (مُسْتَرْشِدًا) طَالِبَ رُشْدٍ (أَوْ) لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّمًا وَلَكِنْ كَانَ (تَكَلَّمَ عَلَى الْإِنْصَافِ) عَلَى قَصْدِ إظْهَارِ الصَّوَابِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَرْقٌ بَيْنَ ظُهُورِ الْحَقِّ مِنْهُ وَمِنْ خَصْمِهِ (بِلَا تَعَنُّتٍ) مُعَانَدَةً وَمُكَابَرَةً (يُكْرَهُ) التَّمْوِيهُ، وَالْحِيلَةُ مِنْك لِلُزُومِ كَوْنِك مُبْطِلًا وَمُعَانِدًا وَمُلَبِّسًا لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ فَالْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِيَّةٍ (وَكَذَا) يُكْرَهُ (إذَا) (تَكَلَّمَ) خَصْمُك (غَيْرَ مُسْتَرْشِدٍ لَكِنْ عَلَى الْإِنْصَافِ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ تَكْرَارٌ بِقَوْلِهِ أَوْ إنْ تَكَلَّمَ إلَّا أَنْ يُحْمَلُ لَفْظَةُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ (بِلَا تَعَنُّتٍ) بِلَا قَصْدِ إيقَاعِ زَلَّةِ خَصْمِهِ (فَإِنْ تَكَلَّمَ مَعَ مَنْ يُرِيدُ التَّعَنُّتَ) أَيْ مُجَرَّدَ التَّفَوُّقِ وَإِذْلَالَ الْخَصْمِ (وَيُرِيدُ أَنْ يَطْرَحَهُ لَا يُكْرَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَحْتَالَ كُلَّ حِيلَةٍ لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ) ضَرَرَهُ وَيَظْهَرَ فَسَادُهُ (لِأَنَّ الْحِيلَةَ لِدَفْعِ التَّعَنُّتِ مَشْرُوعَةٌ) لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا لَعَلَّ إنْ كَانَ قَصْدُ ذَلِكَ الْمُعَانِدِ الْإِلْحَادَ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُمْكِنْ بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ فَالْحِيلَةُ وَاجِبَةٌ وَإِلَّا فَتَرْكُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ إظْهَارَ الصَّوَابِ لَيْسَ بِمُفِيدٍ شَيْئًا وَلَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ فِي الْآدَابِ. (قَالَ) فِي الْخُلَاصَةِ (وَسَمِعْت الْقَاضِيَ الْإِمَامَ) قِيلَ قَاضِي خَانْ (يَقُولُ إنْ أَرَادَ) الْمُنَاظِرُ (تَخْجِيلَ الْخَصْمِ

النوع الثالث العلوم المندوب إليها

يَكْفُرُ) أَيْ إيقَاعَهُ فِي الْخَجْلَةِ لَعَلَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالِاعْتِقَادِيَّاتِ الضَّرُورِيَّةِ لِاسْتِلْزَامِهِ رِضَا كُفْرِ غَيْرِهِ. (قَالَ) أَيْ فِي الْخُلَاصَةِ (رَأَيْت فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَعِنْدِي لَا يَكْفُرُ إلَّا أَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرَ) لَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْكُفْرِ كُفْرًا، وَالْأَوَّلُ عَلَى كُفْرِهِ أَوْ الْأَوَّلُ فِي ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَهَذَا فِي مَحَلٍّ فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ وَأَمَّا التَّخْجِيلُ فِي غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ فَالظَّاهِرُ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ (انْتَهَى) أَقُولُ قَرِيبٌ إلَيْهِ مَا فِي التتارخانية (، وَالْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا) عَصْرُ التِّسْعِمِائَةِ (أَنْ يُنَاظِرَ أَحَدًا إذْ قَلَّمَا يُوجَدُ مَنْ يُرِيدُ إظْهَارَ الصَّوَابِ) لَيْسَ هَذَا سُوءُ ظَنٍّ بَلْ بِمُشَاهَدَةٍ وَتَجْرِبَةٍ، وَالْأَصْلُ فِي اجْتِمَاعِ الْمَفْسَدَةِ، وَالْمَصْلَحَةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْمَفْسَدَةِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ وَقَدْ كَانَتْ الْكَثْرَةُ هُنَا فِي جَانِبِ الْمَفْسَدَةِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا رَاجِعٌ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ فَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَنَا. قُلْنَا بَلْ مِنْ قَبِيلِ إلْحَاقِ الْمُفْرَدِ بِالْأَعَمِّ، وَالْأَغْلَبِ وَإِنَّ الْأَصْلَ فِي وَضْعِ الْأَحْكَامِ هُوَ الشُّيُوعُ، وَالْكَثْرَةُ لَا الْقِلَّةُ، وَالنُّدْرَةُ وَعَنْ بَحْرِ الْكَلَامِ الْمُنَاظَرَةُ فِي الدِّينِ جَائِزَةٌ إلَّا لِمُرَاءٍ وَقَاصِدِ طَلَبِ جَاهٍ وَثَنَاءٍ وَإِرَادَةِ دُنْيَا لَكِنْ عِنْدَ عِلْمِهِ بِمَحْمُودِيَّةِ قَصْدِهِ فَجَائِزٌ بَلْ قَدْ يَجِبُ. [النَّوْعُ الثَّالِثُ الْعُلُومِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا] (النَّوْعُ الثَّالِثُ) مِنْ الْعُلُومِ الثَّلَاثَةِ (فِي الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا وَهِيَ مَعْرِفَةُ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَنَوَافِلِهَا) الْمُرَادُ الْجِنْسُ وَإِلَّا فَبَيَانُ جَمِيعِ الْفَضَائِلِ، وَالنَّوَافِلِ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ هُنَا لَا يُمْكِنُ فِي ذَاتِهِ عَادَةً (وَسُنَنِهَا) الظَّاهِرُ فِي مُقَابَلَةِ مُطْلَقِ الْفَضَائِلِ هِيَ الْمُؤَكَّدَةُ وَإِنْ عَمَّمَ وَمِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَنْدُوبِ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ بِمَعْنَى الْمُسْتَحَبِّ بَلْ الْعَامِّ إلَى السُّنَّةِ وَلَوْ عُمُومَ مَجَازٍ إذْ قَوْلُهُ: سُنَنُهَا عَطْفٌ عَلَى فَضَائِلِ أَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِي بَيَانِ الْعُلُومِ الْمَنْدُوبَةِ لَكِنَّ الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ (وَمَكْرُوهَاتِهَا) بَاقٍ إذْ عِنْوَانُ هَذَا النَّوْعِ لِلْمَنْدُوبَةِ، وَالْمَكْرُوهَاتُ لَيْسَتْ بِمَنْدُوبَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَفُرُوضِ الْكِفَايَةِ) فَيَجُوزُ بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ إذْ مُطْلَقُ مَا يَكُونُ فِعْلُهُ أَوْلَى فِي مَعْنَى النَّدْبِ شَامِلٌ لِلْكُلِّ لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ (فِيمَا وَجَدَ الْقَائِمُ بِهَا) أَيْ عِنْدَ إتْيَانِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ قِيلَ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى فُرُوضًا بَعْدُ وَلَا يُثَابُ فَاعِلُهَا ثَوَابَ الْفَرْضِ بَعْدَ إتْيَانِ مَنْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِإِتْيَانِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ نَفْلًا فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ (وَالتَّعَمُّقِ) فِيهَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَضَائِلُ الْأَعْمَالِ (وَالتَّوَغُّلِ) أَيْ الْإِكْثَارُ (فِي أَدِلَّةِ فُرُوضِ الْعَيْنِ، وَالْكِفَايَةِ وَوُجُوهِهِمَا) . قَالَ الْمُحَشِّي قِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ بَلْ مُبَاحٌ لِكَوْنِهِ شُغْلًا بِمَا لَا يُهِمُّ لَا يَخْفَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَيْسَتْ كَمَعْرِفَتِهِ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ (وَمِنْهَا) مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَعْنِي الْمَنْدُوبَ (الطِّبُّ قَالَ فِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ) عِلْمِ (الطِّبِّ) عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَحْوَالُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ وَمِزَاجٍ وَأَخْلَاطٍ (مِقْدَارَ مَا يَمْتَنِعُ بِهِ عَمَّا يَضُرُّ بِبَدَنِهِ) مِنْ الْمَأْكَلِ، وَالْمُشْرَبِ، وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَلْبَسِ (انْتَهَى) . قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ: عِلْمُ الطِّبِّ أَكْثَرُ الْعُلُومِ احْتِيَاجًا إلَى التَّفْصِيلِ إذْ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِشَيْءٍ قَدْ يَكُونُ دَاءً لِآخَرَ فِي مَرَضٍ وَاحِدٍ وَمَا يَكُونُ دَوَاءً لِوَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ قَدْ يَكُونُ دَاءً فِي أُخْرَى وَيَخْتَلِفُ الدَّوَاءُ بِاخْتِلَافِ السِّنِّ، وَالْفُصُولِ، وَالْغِذَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْأَمْكِنَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَا يَجِبُ) الطِّبُّ أَقُولُ فِي التتارخانية إنَّ عِلْمَ الطِّبِّ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ فِي الْبَلَدِ بِذَلِكَ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ وَأَمَّا تَعَمُّقُهُ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ انْتَهَى وَمِثْلُهُ نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ

لَكِنْ فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيُّ بِالنَّدْبِ أَيْضًا لَعَلَّ اخْتِيَارَ الْمُصَنِّفِ جَانِبَ عَدَمِ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ التَّدَاوِي لَا يَجِبُ) . وَأَشَارَ إلَى دَلِيلِهِ بِقَوْلِهِ (قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ) : لِئَلَّا يَلْزَمَ اسْتِدْلَالُ الْمُقَلِّدِ ابْتِدَاءً فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ الَّذِي هُوَ مَنْصِبُ الْمُجْتَهِدِ وَلِئَلَّا يَلْزَمَ الرَّأْيُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ بِمِثْلِ مَا فِي التتارخانية (رَجُلٌ اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ) أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِ غَائِطِهِ (أَوْ رَمِدَتْ عَيْنَاهُ) مَثَلًا (فَلَمْ يُعَالَجْ) مَعَ إمْكَانِ الْمُعَالَجَةِ (حَتَّى أَضْعَفَهُ) دَاؤُهُ. (وَمَاتَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ) فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ آثِمًا (وَفَرْقٌ) الظَّاهِرُ بِالتَّنْوِينِ (بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا صَامَ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ قَادِرٌ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَكْلَ مِقْدَارُ قُوَّتِهِ فَرْضُ) عَيْنٍ (لِأَنَّ فِيهِ شِبَعًا بِيَقِينٍ) يَعْنِي أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ هَاهُنَا تَابِعَةٌ لِقَطْعِيَّةِ الدَّوَاءِ فَإِنَّ الشِّبَعَ يَقِينٌ (فَإِذَا تَرَكَ الْأَكْلَ كَانَ مُتْلِفًا لِنَفْسِهِ) مَعَ قُدْرَتِهِ (وَلَا كَذَلِكَ الْمُعَالَجَةُ لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِالْمُعَالَجَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ) لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ الْحُسْنِ الْعَقْلِيِّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّعْلِيلِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَثَرُهُ قَطْعِيًّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ثُمَّ قَوْلُهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَيْ عِلْمًا قَطْعِيًّا لَا مُطْلَقًا إذْ الظَّنُّ مِنْ أَقْسَامِ مُطْلَقِ الْعِلْمِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» إذْ الشَّرْطِيَّةُ لُزُومِيَّةٌ لَا اتِّفَاقِيَّةٌ، وَاللُّزُومُ يَقْتَضِي عَدَمَ الِانْفِكَاكِ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَبْعُدُ حَمْلُ كَلِمَةِ " إذَا " عَلَى الْكُلِّيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثٌ آخَرُ «مَا مِنْ دَاءٍ إلَّا وَلَهُ دَوَاءٌ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلَّا أَنْزَلَ لَهُ الشِّفَاءَ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» ، وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا تَخَلُّفُ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ فَمِنْ جَهْلِ الطَّبِيبِ كَمَا أُشِيرَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً» هَذِهِ الْكَلِمَةُ صَادِقَةُ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهَا خَبَرٌ مِنْ الصَّادِقِ الْبَشِيرِ عَنْ الْخَالِقِ الْقَدِيرِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ فَالدَّاءُ وَالدَّوَاءُ خَلْقُهُ، وَالشِّفَاءُ، وَالْهَلَاكُ فِعْلُهُ وَرَبْطُ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ حِكْمَتُهُ وَحُكْمُهُ فَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرٍ لَا مَعْدِلَ عَنْهُ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَدَمُ الْقَطْعِ لَيْسَ فِي ذَاتِهِ بَلْ فِي إصَابَةِ الْحَكِيمِ، وَالطَّبِيبِ كَمَا أُشِيرَ فَالظَّنُّ فِي طَرِيقِ شَيْءٍ قَطْعِيٍّ مَانِعٌ عَنْ الْقَطْعِ كَآحَادِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ مَتْنَ الْحَدِيثِ وَإِنْ قَطْعِيًّا لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ لِظَنٍّ فِي سَنَدِهِ فَتَأَمَّلْ مَا فِيهِ أَيْضًا. (وَقَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَرْبَعِينَ فَصْلًا (اعْلَمْ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُزِيلَةَ لِلضَّرَرِ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ، وَالصُّورِيَّ أَوْ الِاعْتِقَادِيَّ وَإِلَّا فَالْمَوْهُومَاتُ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ أَسْبَابًا مُزِيلَةً (تَنْقَسِمُ إلَى مَقْطُوعٍ بِهِ) بِالتَّجْرِبَةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْمُشَاهَدَةِ الْيَقِينِيَّةِ (كَالْمَاءِ الْمُزِيلِ لِضَرَرِ الْعَطَشِ) أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَزُولُ الْعَطَشُ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَالْبِطِّيخِ وَكَذَا قَوْلُهُ. (وَالْخُبْزُ الْمُزِيلُ لِضَرَرِ الْجُوعِ) فَلَا يَضُرُّ دَفْعُهُ بِشَيْءٍ آخَرَ حَتَّى تَنْتَقِضَ الْقَطْعِيَّةُ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ وَكَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ لَيْسَا مِنْ مَقْصُودِنَا بَلْ إتْيَانُهُمَا لِإِتْمَامِ الْمَنْقُولِ مَعَ تَضَمُّنِهِ فَائِدَةَ تَوْضِيحِ الْقِسْمِ الْمَقْصُودِ وَزِيَادَةِ تَنْبِيهٍ (وَإِلَى مَظْنُونٍ) لِاحْتِمَالِ التَّخَلُّفِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا

(كَالْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ وَشُرْبِ الْمُسْهِلِ وَسَائِرِ أَسْبَابِ الطِّبِّ أَعْنِي مُعَالَجَةَ الْبُرُودَةِ بِالْحَرَارَةِ، وَالْحَرَارَةِ بِالْبُرُودَةِ وَهِيَ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ فِي الطِّبِّ) إذْ جِنْسُ مَا ذُكِرَ مُجَرَّدُ سَبَبٍ ظَاهِرِيٍّ لَا حَقِيقِيٍّ إذْ ذَلِكَ تَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ تَعَالَى لَا طَبْعُ مَا ذُكِرَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ (وَإِلَى مَوْهُومٍ) أَيْ جَانِبُ التَّخَلُّفِ رَاجِحٌ، وَجَانِبُ النَّفْعِ مَرْجُوحٌ قَلِيلٌ (كَالْكَيِّ) بِالنَّارِ كَمَا قِيلَ: آخَرُ الطِّبِّ أَوْ الدَّوَاءِ الْكَيُّ أَيْ أَضْعَفُهُ فَغَيْرُهُ مِنْ الْمُعَالَجَاتِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ. (وَالرُّقْيَةُ) بِالضَّمِّ الْعُوذَةُ، وَالتَّعْوِيذَاتُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونَانِ مِنْ الْمَوْهُومَةِ وَقَدْ صَحَّا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا سِيَّمَا الرُّقْيَةُ فِعْلًا كَمَا فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اشْتَكَى إنْسَانٌ أَيْ مَرِضَ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» أَوْ قَوْلًا كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «ضَعْ يَدَك عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ مِنْ جَسَدِك، وَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاَللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ «اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ» قَالَهُ حِينَ رَأَى جَارِيَةً وَمِثْلَهَا فِي غَايَةِ كَثْرَةٍ. كَمَا فِي الْمَشَارِقِ، وَالْحِصْنِ لَا سِيَّمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَوَامِرِ الْوُجُوبُ وَلَا أَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ مِنْ اسْتِحْبَابِ تَرْكِهِمَا. قُلْت الْمُرَادُ بَعْضُهُمَا كَمَا سَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُلُوا} [البقرة: 57] وَقَوْلُهُ {فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] بَلْ لِلْإِذْنِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] لَمَّا ذَكَرَ أَقْسَامَ الْأَسْبَابِ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَهَا فَقَالَ عَلَى طَرِيقِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ. (أَمَّا الْمَقْطُوعُ بِهِ) وَهُوَ أَوَّلُ الثَّلَاثَةِ (فَلَيْسَ تَرْكُهُ مِنْ التَّوَكُّلِ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (بَلْ تَرْكُهُ حَرَامٌ عِنْدَ خَوْفِ الْمَوْتِ) مِنْ الْعَطَشِ أَوْ الْجُوعِ لِظُهُورِ التَّهْلُكَةِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا قَطْعِيًّا. (وَأَمَّا الْمَوْهُومُ) ثَالِثُ الْأَقْسَامِ (فَشَرْطُ التَّوَكُّلِ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (تَرْكُهُ إذْ بِهِ) أَيْ بِتَرْكِ هَذَا الْقِسْمِ الْمَوْهُومِ (وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَوَكِّلِينَ وَذَلِكَ فِي حَدِيثٍ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ أُرِيت» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ أَرَانِي اللَّهُ تَعَالَى «الْأُمَمَ» أُمَمَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ «بِالْمَوْسِمِ» فِي مَوْسِمِ مِنًى. «فَرَأَيْت أُمَّتِي» أُمَّةَ إجَابَةٍ لَا أُمَّةَ دَعْوَةٍ «قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ، وَالْجَبَلَ فَأَعْجَبَنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئَاتُهُمْ فَقِيلَ» مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى «لِي أَرَضِيت؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ» أَيْ حِسَابِ الْمُنَاقَشَةِ إمَّا عَلَى مُوجِبِ قُوَّةِ اكْتِسَابِهِمْ الصَّالِحَاتِ وَمُتَارَكَةِ الزَّائِلَاتِ الْفَانِيَاتِ أَوْ بِفَضْلِهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً أَوْ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ «قِيلَ» مِنْ الصَّحَابَةِ «مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ» الْغَرَضُ مِنْ السُّؤَالِ مَعْرِفَةُ سَبَبِ هَذَا الدُّخُولِ حَتَّى يُحَصِّلَهُ بَلْ غَرَضُ هَذَا الْحَاكِي - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ ذَلِكَ. «قَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ» لَا يَتَدَاوُونَ بِالْكَيِّ «وَلَا يَسْتَرْقُونَ» لَا يَتَدَاوُونَ بِالرُّقْيَةِ «وَلَا يَتَطَيَّرُونَ» لَا يَتَشَاءَمُونَ ضِدُّ التَّفَاؤُلِ «وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» يُقْصِرُونَ

تَوَكُّلَهُمْ وَاعْتِمَادَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ الَّذِي رَبَّاهُمْ بِالْإِيجَادِ وَسَائِرِ الْكَمَالَاتِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُمْ بِيَدِهِ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِ التَّوَكُّلِ وَقُوَّةِ أَثَرِهِ يَعْنِي إنَّمَا لَمْ يَفْعَلُوا نَحْوَ مَا ذُكِرَ لِكَمَالِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ تَعَالَى فَقَرِيبٌ أَنَّ مِنْ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ حَالَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَالْأَشْيَاءِ قَصْرُ التَّوَكُّلِ عَلَى رَبِّهِمْ وَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا بَعْضٌ مِنْ تَنَاوُلَاتِهِ فَيَلْتَزِمُونَ الْإِعْرَاضَ عَنْ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ غَيْرِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ هُوَ الْمَانِعُ الدَّافِعُ، وَالضَّارُّ النَّافِعُ لَا غَيْرُ فَيَقْصُرُونَ نَظَرَهُمْ إلَى طَاعَاتِ اللَّهِ وَمُلَاحَظَةِ جَلَالِهِ وَيَسْتَغْرِقُونَ فِي أَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدُسِ، وَالْمَلَكُوتِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُجَازَاةِ الْعَلِيَّةِ لَا يَتَحَصَّلُ بِسُهُولَةٍ فَإِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ التَّعَبِ عَادَةً نَعَمْ سَاحَةُ الْفَضْلِ، وَالْكَرَمِ لَا نِهَايَةَ لَهَا أَوْ نَقُولُ فِيمَا عُدَّ هُنَا تَذْكِيرًا لِمَا عَدَاهُ فَإِنَّ مَا ذُكِرَ إنَّمَا وَقَعَ تَمْثِيلًا أَوْ اكْتِفَاءً وَدَلَالَةً لَا حَصْرًا نَعَمْ إنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ قَدْ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْأَجْرِ الْجَزِيلِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ هَذَا لَكِنْ يَشْكُلُ بِوُقُوعِ الْكَيِّ فِي الصَّحَابَةِ بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِالطِّبِّ كُلِّهِ، وَالرُّقْيَةِ النَّبَوِيَّةِ فَتَأَمَّلْ، وَانْظُرْ. «فَقَامَ عُكَّاشَةُ» بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ» لَا بُدَّ مِنْ تَفْرِيقِ الدُّعَاءِ مِنْ التَّعَوُّذِ الَّذِي هُوَ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ بَلْ ظَاهِرُ مُطْلَقِ الدُّعَاءِ كَالْمُنَافِي لِكَمَالِ التَّوَكُّلِ فَالِاسْتِدْعَاءُ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَنَفْسِ الدُّعَاءِ مُشْكِلٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَبَيْنَ الْعَادِيَّةِ، وَالْبَدَنِيَّةِ بَعِيدٌ، وَالْجَوَابُ بِأَنَّ مُنَافَاةَ التَّوَكُّلِ عِنْدَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ السَّبَبِ مِنْهُ تَعَالَى. وَأَمَّا عِنْدَ الِاعْتِرَافِ فَمِنْ التَّوَكُّلِ وَأَنَّ الْمُنَافَاةَ فِي التَّعَمُّقِ فِي الْأَسْبَابِ لَا فِي الْإِطْلَاقِ لَا تُغْنِي حَقَّ الْغَنَاءِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ دُعَاءِ النَّبِيِّ وَغَيْرِهِ إذْ دُعَاءُ النَّبِيِّ لَا يُرَدُّ فَمِنْ الْقَطْعِيِّ فَتَأَمَّلْ «فَقَالَ اللَّهُمَّ: اجْعَلْهُ مِنْهُمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ اُدْعُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبَقَك بِهَا» بِهَذِهِ الْفِعْلَةِ أَوْ الْخَصْلَةِ «عُكَّاشَةُ» كَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْأَحْكَمِ أَيْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ إذْ هُوَ تَلَقٍّ بِغَيْرِ مَا يُتَرَقَّبُ وَيُتَطَلَّبُ. قِيلَ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِعَدَمِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِكَوْنِ السَّائِلِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ. أَقُولُ لَعَلَّ الْأَوْجَهَ عَدَمُ تَحَمُّلِ حَالِ هَذَا السَّائِلِ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْعَوَامّ وَيُؤَيِّدُهُ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ أَوْ؛ لِأَنَّ سُؤَالَهُ بِمُجَرَّدِ قَرِيحَتِهِ، وَالثَّانِي بِمُقَايَسَتِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَاقْتِدَائِهِ وَمُتَابَعَتِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَفَ مِنْ الثَّانِي عَدَمَ صِدْقِ رَغْبَتِهِ بَلْ بِمُجَرَّدِ لَفْظِهِ وَظَاهِرِهِ، وَعَرَفَ مِنْ الْأَوَّلِ صَفَاءَ بَاطِنِهِ، وَسَلَامَةَ صَدْرِهِ كَمَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيِّ مَا وَصَلْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقِيَامِ لَيْلٍ وَلَا صِيَامِ نَهَارٍ وَلَا دِرَاسَةِ عِلْمٍ وَلَكِنْ وَصَلْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَرَمِ، وَالتَّوَاضُعِ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ. (وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَوَكِّلِينَ بِتَرْكِ الْكَيِّ، وَالرُّقْيَةِ، وَالتَّطَيُّرِ وَأَقْوَاهَا الْكَيُّ) فَإِنَّهُ قَرِيبٌ إلَى مُجَانَسَةِ الطِّبِّ الَّذِي هُوَ مِنْ الظَّنِّيِّ فَهُوَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْوَهْمِيَّةِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِي أَهَمِّيَّةِ التَّرْكِ (ثُمَّ الرُّقْيَةُ) وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَتْ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا وَوَرَدَ بِهَا آثَارٌ (وَالطِّيَرَةُ آخِرُ دَرَجَاتِهَا) وَلِهَذَا كَانَ مَمْنُوعًا فِي الشَّرْعِ (وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا) عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. (وَالِاتِّكَالُ إلَيْهَا) وَإِنْ اعْتَقَدَ التَّأْثِيرَ الْحَقِيقِيَّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (غَايَةُ التَّعَمُّقِ فِي مُلَاحَظَةِ الْأَسْبَابِ) الظَّاهِرَةِ الْعَادِيَّةِ فَلَيْسَ بِمَمْدُوحٍ بَلْ تَرْكُهُ أَوْلَى يُمْكِنُ فَهْمُ هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ تَرْتِيبِ الْحَدِيثِ إمَّا مِنْ لَفْظَةِ الْوَاوِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَنُسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ مَجَازًا عِنْدَنَا أَوْ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ التَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوَاقِعِ كَمَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ عَلَى سُنِّيَّةِ التَّرْتِيبِ ثُمَّ التَّعَمُّقُ مُنَاقِضٌ لِلتَّوَكُّلِ فَحَاصِلُ الْمَقَامِ التَّشَبُّثُ بِالْأَسْبَابِ الْوَهْمِيَّةِ تَعَمُّقٌ، وَالتَّعَمُّقُ مُنَاقِضٌ لِلتَّوَكُّلِ هَذَا لَكِنْ يَسْبِقُ إلَى الْخَاطِرِ الْفَاتِرِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ السَّبَبِ الْوَهْمِيِّ مَا يَكُونُ سَبَبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَيَكُونُ ضَعِيفًا أَوْ يَكُونُ تَأْثِيرُهُ نَادِرًا فَالطِّيَرَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ

أَهْلُ الْمَعْقُولِ فِي الْمُغَالَطَةِ مِنْ الْكَوَاذِبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالْكَيُّ، وَالرُّقْيَةُ لَيْسَا كَذَلِكَ بَلْ عَدُّ الطِّيَرَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ وَلَوْ اعْتِقَادًا لَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الطِّيَرَةِ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَالْمَذَاهِبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يَقْتَضِي الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ. (وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ وَهِيَ الْمَظْنُونَةُ كَالْمُدَاوَاةِ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ) كَالْأَدْوِيَةِ، وَالْمُعَالَجَةِ (فَفِعْلُهُ لَيْسَ مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ بِخِلَافِ الْمَوْهُومِ) لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا كَانَ عَلَى الْأَعَمِّ، وَالْأَغْلَبِ وَإِلَّا فَقَدْ يُوجَدُ الْمَظْنُونُ فِيمَا عُدَّ مِنْ الْوَهْمِيَّاتِ وَقَدْ يُوجَدُ الْمَوْهُومُ فِيمَا عُدَّ مِنْ الْمَظْنُونَاتِ عَلَى مَا تَشْهَدُ بِهِ التَّجْرِبَةُ (وَتَرْكُهُ لَيْسَ مَحْظُورًا) مَمْنُوعًا (بِخِلَافِ الْمَقْطُوعِ بِهِ) فَإِنَّ تَرْكَهُ حَرَامٌ عِنْدَ إفْضَائِهِ إلَى الْمَوْتِ، وَالْمَكْرُوهِ عِنْدَ إضْعَافِهِ (بَلْ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ) أَيْ حَالِ خَوْفِ الِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مِنْ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ وَحَالِ التَّعَمُّقِ كَمَا سَبَقَ وَيَأْتِي أَيْضًا. (وَفِي حَقِّ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ) لَعَلَّ صَاحِبَ كَمَالِ التَّوَكُّلِ مِنْ الْخَوَاصِّ قِيلَ لِعَدَمِ إقْبَالِ طَبْعِهِ عَلَيْهِ كَمَا فِي أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قِيلَ لَهُ نَدْعُو لَك طَبِيبًا فَقَالَ قَدْ رَآنِي الطَّبِيبُ كَمَا فِي الْعِمَادِيِّ (فَهُوَ) أَيْ الْمَظْنُونُ (عَلَى دَرَجَةٍ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ) الْفِعْلِ، وَالتَّرْكِ، وَقِيلَ: الْحِلُّ، وَالْحُرْمَةُ (انْتَهَى) كَلَامُ فُصُولِ الْعِمَادِيِّ. ثُمَّ إنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّبِيبِ عَادِلًا وَفَاسِقًا بَلْ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بَعْدَ أَنْ سَبَقَ ظَنُّ الْمَرِيضِ إلَى صِدْقِهِ وَحَذَاقَتِهِ إذْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْكَافِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّورِ قَبْلَ قَوْلِ كَافِرٍ وَلَوْ مَجُوسِيًّا شَرَيْت اللَّحْمَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مِنْ مَجُوسِيٍّ. وَفِي الْكَنْزِ يُقْبَلُ قَوْلُ الْكَافِرِ فِي الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّ الْحِلَّ، وَالْحُرْمَةَ مِنْ الدِّيَانَاتِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْكَافِرِ فِيهَا وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مَا يَكُونُ فِي ضِمْنِ الْمُعَامَلَاتِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ الْمَنْعِ عَنْ التَّطْبِيبِ بِالْكَافِرِ فَعَلَى مَنْ يُوجِبُ وَهَنَ اعْتِقَادِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: (أَقُولُ) قَالَ الْمُحَشِّي لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ عِمَادِ الدِّينِ مُشْعِرًا بِوُجُوبِ تَرْكِ الْكَيِّ، وَالرُّقْيَةِ وَأَمْثَالِهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ شَرْطٌ لِلتَّوَكُّلِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَكُّلِ فِي كِتَابِهِ مَعَ أَنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ مُبَاحٌ بَيْنَ الْمُصَنِّفِ مُرَادُهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْخَبْطُ، وَالزَّلَّةُ أَقُولُ قَوْلُهُ مَعَ أَنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ مُبَاحٌ مُشْكِلٌ بِالطِّيَرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ الْوَهْمِيَّاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ (مُرَادُهُ) فُصُولُ الْعِمَادِيِّ (بِالتَّوَكُّلِ) عِنْدَ قَوْلِهِ. وَأَمَّا الْمَوْهُومُ فَشَرْطُ التَّوَكُّلِ تَرْكُهُ إلَى آخِرِهِ وَعِنْدَ قَوْلِهِ فَفِعْلُهُ لَيْسَ مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ بِخِلَافِ الْمَوْهُومِ مُطَابَقَةً، وَالْتِزَامًا أَوْ مَفْهُومًا (كَمَالُهُ إذْ أَصْلُهُ) أَيْ التَّوَكُّلِ (فَرْضُ) عَيْنٍ (وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنْ لَا خَالِقَ) فِي الْوُجُودِ (وَلَا مُؤَثِّرَ فِي شَيْءٍ) كَالْأَدْوِيَةِ (إلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَالشِّفَاءُ لَيْسَ إلَّا مِنْهُ تَعَالَى وَأَنَّهُ جَرَتْ عَادَتُهُ تَعَالَى عَلَى رَبْطِ الْمُسَبِّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ) بِدُونِ أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً عَقْلِيَّةً عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَالنَّارِ لِلْحَرَارَةِ، وَالشِّبَعِ لِلْأَكْلِ. (فَالتَّشَبُّثُ بِالْأَسْبَابِ) الْعَادِيَّةِ (عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ لَا يُنَاقِضُ هَذَا التَّوَكُّلَ) الْفَرْضُ الَّذِي هُوَ

أَصْلُ التَّوَكُّلِ وَإِنْ مُنَاقِضًا لِكَمَالِهِ فِي حَقِّ الْمُوهِمِ مُطْلَقًا، وَفِي حَقِّ الْمَظْنُونِ حَالَ التَّعَمُّقِ (مَظْنُونَةً أَوْ مَوْهُومَةً) كَالْمَقْطُوعَةِ (وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ هَذَا) أَيْ كَوْنَ التَّأْثِيرِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْ الدَّوَاءِ فَالْمَظْنُونُ بَلْ الْمُتَيَقَّنُ مُنَاقِضٌ لِهَذَا التَّوَكُّلِ أَيْضًا) كَالْمَوْهُومِ إذْ الْكُلُّ مُسَاوٍ حِينَئِذٍ بَلْ فِيهِ خَوْفُ كُفْرٍ لِكَوْنِهِ شِرْكًا فِي الْخَالِقِيَّةِ كَالدَّهْرِيَّةِ، وَالطِّبَاعِيَّةِ. قِيلَ: إنْ اعْتَقَدَ كَوْنَهُ مُؤَثِّرًا بِذَاتِهِ فَكُفْرٌ وَإِنْ بِجَعْلِهِ تَعَالَى فِيهِ فَفِسْقٌ إذْ الْمُؤَثِّرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً تَأَمَّلْ (وَأَمَّا كَمَالُ التَّوَكُّلِ فَالِاعْتِمَادُ، وَالِاتِّكَالُ) مِنْ التَّوَكُّلِ (عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا اسْتِقْصَاءٍ) طَلَبِ الْقُصْوَى، وَالْغَايَةِ (وَلَا تَعَمُّقٍ) تَوَغُّلٍ (فِي مُلَاحَظَةِ الْأَسْبَابِ) إلَى أَنْ يَضْعُفَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يَذْهَلَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ بَلْ مَكْرُوهٌ فَيَلْزَمُ أَنَّ تَقْسِيمَ فُصُولِ الْعِمَادِيِّ إمَّا لَيْسَ بِحَاصِرٍ أَوْ مُسْتَلْزِمٍ لِتَدَاخُلِ الْأَقْسَامِ كَمَا لَا يَخْفَى. (فَهَذَا مُسْتَحَبٌّ) لِوُرُودِ جِنْسِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَأْثِيرِ الظَّنِّ فَهَذَا الِاسْتِحْبَابُ أَيْ النَّدْبُ كَالنَّتِيجَةِ لِهَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ مَعَ طُولِهِمَا أَعْنِي كَلَامَ فُصُولِ الْعِمَادِيِّ وَكَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: أَقُولُ (يُنَاقِضُهُ التَّشَبُّثُ) التَّمَسُّكُ (بِالسَّبَبِ الْمَوْهُومِ) فِي الِاسْتِحْبَابِيِّ وَعَدَمِهَا لَا فِي أَصْلِ الْجَوَازِ وَلَا فِي أَصْلِ التَّوَكُّلِ كَمَا عَرَفْت (فَتَرْكُ الْكَيِّ، وَالرَّقْيِ وَأَمْثَالِهِمَا) مِنْ الْمَوْهُومِ (مُسْتَحَبٌّ) لِلْكَمَالِ (وَلَا وَاجِبَ) لِعَدَمِ تَنَافِيهِ لِأَصْلِ التَّوَكُّلِ. ثُمَّ أَقُول هَذَا هُوَ الْكَلَامُ عَلَى مُرَادِ الْمُصَنِّفِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا هُوَ الْمُوجِبَةُ الْكُلِّيَّةُ أَيْ كُلُّ الطِّبِّ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ سَابِقًا وَمِنْهَا الطِّبُّ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْعِمَادِيَّةِ نَقِيضُهُ ظَاهِرًا وَضِدُّهُ احْتِمَالًا إذْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهِ هُوَ السَّالِبَةُ الْجُزْئِيَّةُ بَعْضَ الطِّبِّ لَيْسَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالًا بَعْضُ الطِّبِّ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَهَذَا ضِدٌّ لِلْمُوجِبَةِ الْكُلِّيَّةِ كَكَوْنِ السَّابِقَةِ الْجُزْئِيَّةِ نَقِيضُهَا فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُصَنِّفِ دَفْعُ هَذَا الْمَحْذُورِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ إلَى نَقْلِ كَلَامِ الْعِمَادِيِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَقُولُ مُرَادُهُ إلَى آخِرِهِ إنَّمَا يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ تَرْكِ الْمَوْهُومِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ لَا اسْتِحْبَابَ فِعْلِ الْمَظْنُونِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ لَعَلَّ أَنَّ تَحْقِيقَهُ أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَ الْعِمَادِيِّ فَفِعْلُهُ لَيْسَ مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ أَيْ التَّوَكُّلِ الْكَامِلِ بَلْ مُجَامِعٌ لَهُ، وَالْمُجَامَعُ لِلتَّوَكُّلِ الْكَامِلِ لَا أَقَلَّ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ وَيَجْعَلُ قَرِينَةَ ذَلِكَ مَظْنُونِيَّةً مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ أَوْ تَصْرِيحِ الْقَوْمِ بِنَدْبِيَّةِ الطِّبِّ هَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ، وَالْعَوَارِضِ وَأَمَّا عِنْدَ الْعَوَارِضِ فَقَدْ يَكُونُ التَّرْكُ أَفْضَلَ أَيْ النَّدْبُ يَكُونُ فِي جَانِبِ التَّرْكِ فَلَا تَعَارُضَ وَلَا عَدَمَ تَقْرِيبٍ. (قَالَ فِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ) حَاصِلُهُ إثْبَاتُ جَوَازِ الرَّقْيِ، وَالْكَيِّ، وَالتَّدَاوِي وَإِبَاحَتُهَا لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمَسُّ بِأَصْلِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ نَدْبِيَّةُ الطِّبِّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْإِبَاحَةِ النَّدْبُ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْجَوَازُ جُزْءُ النَّدْبِ فَالْمُرَادُ إثْبَاتُ جُزْءِ الْمَطْلُوبِ لِإِتْمَامِهِ، وَالْكَلَامُ فِي الرَّقْيِ، وَالْكَيِّ لِإِتْمَامِ الْمَنْقُولِ بِلَفْظِهِ مَعَ تَضَمُّنِهَا فَوَائِدَ مُنَاسِبَةٍ لِلْمَقَامِ. وَقَالَ الْمُحَشِّي جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَارِدٍ عَلَى قَوْلِهِ بِجَوَازِ الرُّقْيَةِ فَهُوَ كَمَا تَرَى اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَطْلُوبِ الْأَوْلَى. وَأَمَّا التَّطَفُّلِيُّ فَلَا يَحْسُنُ هَذَا التَّطْوِيلُ لِأَجْلِهِ (وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي النَّهْيِ) نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ أَيْ عَنْ التَّدَاوِي، وَالرَّقْيِ أَقُولُ فِي الرَّقْيِ عَلَى الصَّرَاحَةِ، وَالتَّدَاوِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْإِشَارَةِ وَكَذَا الْكَيُّ فَالْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ الِاكْتِفَاءِ (فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ أَلَا يَرَى إلَى مَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

نَهَى عَنْ الرَّقْيِ وَكَانَ عِنْدَ آلِ» أَهْلِ «عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رُقْيَةً يَرْقُونَ بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَضُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا إنَّك نَهَيْت عَنْ الرَّقْيِ فَقَالَ مَا أَرَى بِهِ» الْآنَ «بَأْسًا مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّهْيَ) فِي السَّابِقِ (عَنْ) الرَّقْيِ (الَّذِي يَرَى) يَعْتَقِدُ (الْعَافِيَةَ فِي الدَّوَاءِ) بِتَأْثِيرِهِ (مِنْ نَفْسِهِ) نَفْسِ الدَّوَاءِ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى. (وَأَمَّا إذَا عَرَفَ أَنَّ الْعَافِيَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّوَاءُ سَبَبٌ لَا بَأْسَ بِهِ) . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ نُهِيَ عَنْ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمِ، وَالتُّوَلَةِ الرَّقْيُ الْمَنْهِيُّ مَا يُزْعَمُ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِنِّ وَمَا يَرْكَنُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ الشَّيَاطِينِ، وَالِاسْتِعَانَةِ مِنْهُمْ، وَالتَّعَوُّذِ مِنْ مَرَدَتِهِمْ. وَأَمَّا الرُّقْيَةُ بِالْقُرْآنِ وَبِالْأَسْمَاءِ فَجَائِزَةٌ قَدْ مَرَّ غَيْرُ مَرَّةٍ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: هَذَا الرَّقْيُ هُوَ الطِّبُّ الرُّوحَانِيُّ أَنَّ عَلَى لِسَانِ الْأَبْرَارِ حَصَلَ الشِّفَاءُ فَلَمَّا عَزَّ ذَلِكَ فَزِعَ النَّاسُ إلَى الطِّبِّ الْجُسْمَانِيِّ انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ الْمُحَشِّي الرَّقْي جَائِزٌ إنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا كَالْإِقْسَامِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَالْأَلْفَاظِ الْغَيْرِ الْمَفْهُومَةِ الْمَعَانِي مِثْلُ: آهَيَّا وشراهيا. أَقُولُ إنْ أَخَذَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ كَالْغَزَالِيِّ وَبَعْضِ ثِقَاتِ الصُّوفِيَّةِ. فَالظَّاهِرُ لَا مَنْعَ حِينَئِذٍ عَلَى حَمْلِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَعْنَاهُ كَمَا قِيلَ مَعْنَى آهيا وشراهيا يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ كَمَا يُقَالُ مَعْنَى جَبْرَائِيلَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ الْأَمْرُ النَّبَوِيُّ آنِفًا مِنْ قَوْلِهِ فَلْيَفْعَلْ فِي جَوَابِ الرَّقْيِ لَا أَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ وَقَدْ اُخْتُصَّ بِالطِّبِّ سَابِقًا وَأَيْضًا. قَالَ فِي الشِّرْعَةِ وَمِنْ السُّنَنِ أَنْ يُسْتَشْفَى بِالذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْقُرْآنِ، وَالْفَاتِحَةِ، وَقَدْ كَثُرَتْ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا الْبَابِ. فَحَاصِلُ الْإِشْكَالِ إنْ أُرِيدَ مِنْ الرَّقْيِ مَا اُعْتُقِدَ تَأْثِيرُهُ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى أَوْ مَا لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ فَحَرَامٌ وَإِلَّا فَنَدْبٌ أَوْ سُنَّةٌ وَقَدْ نَفَيْتُمْ ذَلِكَ. وَنُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ الرُّقَى فِي حَدِيثِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ مَا هِيَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَالْمَجْهُولَةِ الْمَعْنَى. وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ الْآيَاتِ وَمَفْهُومَةُ الْمَعَانِي فَسُنَّةٌ وَنَقَلَ الْبَعْضُ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الرَّقْيِ بِهَا. وَعَنْ الْمَازِرِيِّ جَمِيعُ الرُّقَى جَائِزٌ فِيمَا ذُكِرَ. وَأَمَّا رُقَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَوَّزَهَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْمُوَطَّإِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِلْيَهُودِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْقِي عَائِشَةَ ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرِهَهَا مَالِكٌ لِعَدَمِ الْأَمْنِ بَقِيَ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى النَّسْخِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا عِنْدَ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ كَمَا ذُكِرَ فَلَا قَالَ فِي الْإِتْقَانِ إنَّمَا يَرْجِعُ مِنْ النَّسْخِ إلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ عَنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ ثُمَّ قَالَ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ عَوَامِّ الْمُفَسِّرِينَ بَلْ وَلَا اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ

مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ صَحِيحٍ وَلَا مُعَارَضَةِ بَيِّنَةٍ مَعَ عِلْمِ تَارِيخٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يُجْتَرَأُ عَلَيْهِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَلَا حُجَّةٍ. (وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ فِي الْإِبَاحَةِ) أَيْ إبَاحَةِ مُطْلَقِ الدَّوَاءِ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ فِي الْآثَارِ، وَالظَّاهِرُ فِي مَوَاضِعَ وُقُوعُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ الْفِعْلِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ التَّتَبُّعُ وَيَدُلُّ قَوْلُهُ (أَلَا يَرَى) إلَى آخِرِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى النَّدْبِ أَوْ السُّنَّةِ فَتَأَمَّلْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ» غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اُسْتُشْهِدَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ عَمُّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَرَضِي اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ «دَاوَى» مِنْ الدَّوَاءِ «جُرْحَهُ بِعَظْمٍ قَدْ بَلِيَ» لِيَقْطَعَ دَمَهُ قِيلَ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ دَاوَاهُ بِحَصِيرٍ أَحْرَقَهُ وَكَبَسَ بِهِ مَحَلَّ الْجُرْحِ فَأَمْسَكَ الدَّمُ وَفِعْلُهُ سُنَّةٌ يُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي فِعْلِهِ. وَاحْتِمَالُ الزَّلَّةِ بَعِيدٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَنُبِّهَ وَمَنَعَ عَنْ الرِّوَايَةِ بِلَا نَكِيرٍ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ. (وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ» الَّذِينَ نَصَرُوا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُهَاجِرِينَ بِالدِّيَارِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْمُحَارَبَةِ مَعَ أَعْدَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ «رُمِيَ» عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ ( «فِي أَكْحَلِهِ» قِيلَ عَنْ الْقَامُوسِ وَهُوَ عِرْقٌ فِي الْيَدِ أَوْ هُوَ عِرْقُ الْحَيَاةِ وَلَا تَقُلْ عِرْقُ الْأَكْحَلِ «بِمِشْقَصٍ» كَمِنْبَرٍ نَصْلٍ عَرِيضٍ «فَأَمَرَ بِهِ» أَيْ الرَّجُلِ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُوِيَ» بِالنَّارِ فَثَبَتَ أَنَّ الْكَيَّ مَأْمُورٌ بِهِ. قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «نَهَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْكَيِّ» وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ نَهْيَ تَنْزِيهٍ إنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ وَأَمَّا عِنْدَ تَعَيُّنِهِ فَلَا يُكْرَهُ فَقَدْ «كَوَى النَّبِيُّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ الَّذِي اهْتَزَّ بِمَوْتِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ الْمَخْصُوصَ بِأَنَّهُ أَقْرَأُ الْأُمَّةِ» وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ مِثْلَ سَعْدٍ وَأُبَيُّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ وَصَفَهُمْ النَّبِيُّ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تُسَلِّمُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَلَمَّا اكْتَوَى انْقَطَعَ التَّسْلِيمُ فَلَمَّا تَرَكَهُ عَادَ إلَيْهِ فَلَعَلَّهُ لِإِمْكَانِ الْغَيْرِ. (وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْقِي» نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ «بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ» . قَالَ الْمُحَشِّي أَيْ قَرَأَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «ثُمَّ مَسَحَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ، فَقَالَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بَرِئَ مِنْ الْآفَاتِ» (وَالْآثَارُ فِيهِ) أَيْ تَدَاوِي النَّبِيِّ وَرُقْيَتِهِ (أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى) كَمَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأَحَادِيثِ كَالْحِصْنِ الْحَصِينِ، وَالطِّبِّ النَّبَوِيِّ الَّذِي أُحِيلَ إلَيْهِ فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ، وَذُكِرَ هُنَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمَجْرُوحِ أَوْ الْعَلِيلِ وَيَقُولُ حَالَ الْمَسْحِ: بِاسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» . قَالَ الْجُمْهُورُ جُمْلَةُ الْأَرْضِ وَقِيلَ أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِرِقَّتِهَا، وَالرِّيقَةُ أَقَلُّ مِنْ الرِّيقِ (انْتَهَى) كَلَامُ الْبُسْتَانِ

(ثُمَّ إنْ عُدَّ الْكَيُّ) كَمَا عُدَّ فِي الْعِمَادِيِّ هَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ إشَارَةً إلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْإِشْكَالِ عَلَيْهِ. حَاصِلُهُ تَحْرِيرُ مُرَادِهِ بِالْبَعْضِيَّةِ لَكِنْ حِينَئِذٍ يَضْمَحِلُّ التَّقْسِيمُ فَإِمَّا لَا يَحْسُنُ فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي قِسْمَتِهِ (مِنْ الْمَوْهُومِ لَيْسَ بِيَقِينٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَظْنُونِ بَلْ مِنْ الْمُتَيَقَّنِ) تَجْرِبَةً أَوْ شَرْعًا (فَلِذَا) أَيْ فَلِكَوْنِهِ مِنْ الْمُتَيَقَّنِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ (أُمِرَ) فِي الشَّرْعِ (بِالْحَسْمِ) حَسَمَهُ يَحْسِمُهُ فَانْحَسَمَ قَطَعَهُ بِالدَّوَاءِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ) أَوْ رِجْلِهِ (لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْهَلَاكِ) لَكِنْ كَوْنُ أَمْرِ الْحَسْمِ فِي الشَّرْعِ دَالًّا عَلَى الْيَقِينِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ كَيْفَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَاقْطَعُوا وَاحْسِمُوا» وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ بَلْ آحَادٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ، وَادِّعَاءُ الْإِجْمَاعِ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ سَنَدًا لَهُ بَعِيدٌ، إذْ الْحَسْمُ نَدْبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيُرَادُ بِالْمُتَيَقَّنِ فِعْلًا لَا اعْتِقَادًا. (وَعَدُّ التَّطَيُّرِ مِنْ الْمَوْهُومِ يُوهِمُ الْجَوَازَ) بَلْ يَدُلُّ لِقَوْلِهِ (كَقَرِينَيْهِ) أَيْ الْكَيِّ، وَالرُّقْيَةِ (بَلْ هُوَ حَرَامٌ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ كُفْرًا) لِنِسْبَةِ التَّأْثِيرِ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى (ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ) قِيلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ صَاحَتْ الطَّيْرُ فَقَالَ رَجُلٌ يَمُوتُ الْمَرِيضُ أَوْ خَرَجَ إلَى السَّفَرِ فَرَجَعَ لِصِيَاحِ الْعَقْعَقِ كُفْرٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ لَا وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا نَقَلَ عَنْ عُمْدَةِ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّفَاؤُلِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي مَنْعِ الطَّيْرَةِ كَثِيرَةٌ نَحْوُ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ وَلَا غُولَ» وَنَحْوُ «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» (فَظَهَرَ أَنَّ الطِّبَّ لَيْسَ بِفَرْضٍ) وَلَا وَاجِبٍ (بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا) وَقَدْ سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» . عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدَّوَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الْخَلَفِ. قَالَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صِحَّةُ عِلْمِ الطِّبِّ وَجَوَازُهُ وَاسْتِحْبَابُهُ وَرَدٌّ لِمُنْكِرِ التَّدَاوِي كَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَ الْكُلِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالتَّدَاوِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ. وَيُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمِثْلُهُ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ وَقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَالتَّجَنُّبِ عَنْ التَّهْلُكَةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ مَعَ أَنَّ الْأَجَلَ وَاحِدٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ. (وَقَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِحْيَاءِ إنَّهُ) أَيْ الطِّبُّ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) لَعَلَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى فَائِدَةِ لَفْظِ عِنْدَنَا آنِفًا لَكِنْ قَدْ سَمِعْت سَابِقًا كَوْنَهُ كَذَلِكَ عِنْدَنَا أَيْضًا أَيْ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة. (تَفْرِيعٌ) نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مَحْمُودَةٌ إلَّا بِعَوَارِضَ خَارِجَةٍ، وَالْكَلَامُ بِهَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ، وَالْمُشَاغَبَاتِ وَنَقْلِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي أَكْثَرُهَا تُرَّهَاتٌ وَغَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالدِّينِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَمِنْ الْبِدَعِ فَالْآنَ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لِدَفْعِ مُبْتَدَعٍ مُخَاصِمٍ.، وَالْعُلُومُ الْغَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ مَحْمُودَةً كَالطِّبِّ لِحَاجَةِ بَقَاءِ الْأَبَدَانِ، وَالْحِسَابِ لِلْمُعَامَلَاتِ وَقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ، وَالْفِلَاحَةِ، وَالْحِيَاكَةِ وَسَائِرِ أُصُولِ الصِّنَاعَاتِ لِحَاجَةِ بَقَاءِ الْبِنْيَةِ أَيْضًا فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. وَأَمَّا التَّعَمُّقُ فِي دَقَائِقِ الْحِسَابِ، وَالطِّبِّ مَثَلًا فَفَضِيلَةٌ لَا فَرْضِيَّةٌ أَوْ مَذْمُومَةٌ كَالسِّحْرِ، وَالطَّلْسَمَاتِ وَعِلْمِ الشَّعْبَذَةِ، وَالتَّلْبِيسَاتِ وَإِمَّا مُبَاحٌ كَعِلْمِ الْأَشْعَارِ الَّتِي لَا سُخْفَ فِيهَا، وَالتَّوَارِيخِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. وَأَمَّا الْفَلْسَفَةُ فَالْهَنْدَسَةُ، وَالْحِسَابُ فَمُبَاحَانِ إلَّا إذَا خِيفَ التَّجَاوُزُ إلَى عُلُومٍ مَذْمُومَةٍ. وَالْمَنْطِقُ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ، وَالْإِلَهِيَّاتِ فَمَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ وَمَا لَا يُوَافِقُ فَإِمَّا كُفْرٌ أَوْ بِدْعَةٌ، وَالطَّبِيعِيَّاتُ بَعْضُهَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَجَهْلٌ وَبَعْضُهَا بَحْثٌ عَنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ فَشَبِيهٌ بِنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ وَيَقْرَبُ إلَيْهِ كَلَامٌ فِي مُنْقِذِ الضُّلَّالِ كَمَا أُشِيرَ سَابِقًا وَتَمَامُ تَفْصِيلِهِ يُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ. وَفِي التتارخانية بَعْدَمَا نَقَلَ مَا ذُكِرَ عَنْ الْإِحْيَاءِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ وَأُصُولَ

الْفِقْهِ وَأُصُولَ الْحَدِيثِ وَتَفَاصِيلَ الْفِقْهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَكَذَا عِلْمُ الْقِرَاءَةِ، وَالتَّجْوِيدِ وَعِلْمُ الْحَدِيثِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْكَلَامُ بِدْعَةٌ فِي زَمَانِ السَّلَفِ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي زَمَانِنَا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْمُخَالِفِ وَعِلْمُ الشَّعْرِ، وَالنِّيرَنْجَاتُ، وَالطَّلْسَمَاتُ وَعِلْمُ النُّجُومِ وَنَحْوُهَا غَيْرُ مَحْمُودٍ، وَكَذَا أَنْسَابُ الْعَرَبِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْمُكَاشَفَةِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمُجَاهَدَةِ مُقَدِّمَةً لِلْهِدَايَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . وَفِي الْمُنْقِذِ لِلْغَزَالِيِّ عَلِمْت يَقِينًا أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمْ السَّالِكُونَ بِطُرُقِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً وَسِيرَتَهُمْ أَحْسَنُ السَّيْرِ وَطَرِيقَتَهُمْ أَحْسَنَ الطُّرُقِ لَوْ جُمِعَ عَقْلُ الْعُقَلَاءِ وَحِكْمَةُ الْحُكَمَاءِ وَعِلْمُ الْوَاقِفِينَ عَلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ لِيُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ سِيرَتِهِمْ وَيُبَدِّلُوهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَجْدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا، فَإِنَّ جَمِيعَ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَمَاذَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي طَرِيقَةٍ أَوَّلُ شَرْطِهَا طَهَارَةُ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَمِفْتَاحُهَا: اسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَآخِرُهَا الْفَنَاءُ فِي اللَّهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَطُولُ الْكَلَامُ بِذِكْرِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «عِلْمُ الْبَاطِنِ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَةٌ مِنْ حِكَمِ اللَّهِ يَقْذِفُهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ عِلْمُ الْبَاطِنِ عِلْمُ الْمُكَاشَفَةِ وَذَلِكَ غَايَةُ الْعُلُومِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهُ يُخَافُ عَلَيْهِ سُوءٌ الْخَاتِمَةِ وَأَدْنَاهُ التَّصْدِيقُ بِهِ وَتَسْلِيمُهُ لِأَهْلِهِ وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الْخَفِيُّ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ» انْتَهَى. وَفِي الْأَشْبَاهِ: الْعِلْمُ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِدِينِهِ فَرْضُ عَيْنٍ وَبِمَا زَادَ عَلَيْهِ لِنَفْعِ غَيْرِهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَالتَّبَحُّرُ فِي الْفِقْهِ مَنْدُوبٌ كَعِلْمِ الْقَلْبِ وَعِلْمُ الْفَلْسَفَةِ، وَالشَّعْبَذَةِ، وَالتَّنْجِيمِ، وَالرَّمَلِ وَعُلُومُ الطَّبَائِعِيِّينَ حَرَامٌ وَأَشْعَارُ الْمُوَلِّدِينَ مِنْ الْغَزْلِ، وَالْبَطَالَةِ حَرَامٌ، وَالْأَشْعَارُ الَّتِي لَا سُخْفَ فِيهَا مُبَاحٌ إلَى آخِرِهِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ قَدْرُ مَا يُعْلَمُ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ، وَالْقِبْلَةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالزِّيَادَةُ حَرَامٌ فَإِذَا عُرِفَتْ الْعُلُومُ وَمَرَاتِبُهَا. (فَإِذَا فَرَغَ السَّالِكُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ وَوُجِدَ مَنْ يَقُومُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ) مِنْ يُحَصِّلُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مِنْ الْغَيْرِ (فَحَصَّلَهُ) أَيْ فَرْضَ الْكِفَايَةِ (أَيْضًا) كَفَرْضِ الْعَيْنِ (فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ) فَيَتَفَرَّغُ لَهَا وَيَنْقَطِعُ عَمَّا سِوَاهَا وَيَسْتَوْعِبُ أَوْقَاتَهَا بِطَاعَةِ مَوْلَاهُ كَمَا هُوَ طَرِيقُ الْمُتَصَوِّفَةِ لَا سِيَّمَا الْوَاصِلِينَ إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ (وَإِنْ شَاءَ أَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ) كَمَا سَبَقَ كَمَا هُوَ الْمُجْتَهِدِينَ وَكَافَّةِ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ (فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ) لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ التَّفْضِيلِ، وَالِاخْتِيَارِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِ الْفَضْلِ وَإِنْ أَوْهَمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى رُتْبَةِ الْفَضْلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ هَلْ الْعِلْمُ أَفْضَلُ أَوْ الْعَمَلُ. فَاخْتَارَ أَهْلُ الظَّاهِرِ الْأَوَّلَ لِمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ. وَأَهْلُ الْبَاطِنِ الثَّانِيَ إذْ جَمِيعُ الْعُلُومِ مُقَدِّمَاتٌ، وَالْأَعْمَالُ نَتَائِجُ وَثَمَرَاتٌ فَلَوْلَا الْعَمَلُ لَا يُصَارُ إلَى الْعِلْمِ وَلِكَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ، وَالْأَحَادِيثِ أَمَّا الْآيَاتُ فَنَحْوُ {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى - فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: 39 - 110] {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]- {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82]- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} [الكهف: 107]- {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60]- {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَنَحْوُ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» الْحَدِيثَ. «وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» . وَعَنْ الْحَسَنِ يَقُولُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَاقْتَسِمُوهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِكُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ وَغَيْرُهَا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي النَّصَائِحِ الْوَلَدِيَّةِ: الْعِلْمُ الْمُجَرَّدُ لَا يُؤْخَذُ بِالْيَدِ فَلَوْ قَرَأَ رَجُلٌ مِائَةَ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَتَعَلَّمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا لَا تُفِيدُهُ إلَّا بِالْعَمَلِ وَلَوْ قَرَأْت الْعِلْمَ مِائَةَ سَنَةٍ وَجَمَعْت أَلْفَ كِتَابٍ لَا تَكُونُ مُسْتَعِدًّا لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالْعَمَلِ. وَرُئِيَ الْجُنَيْدُ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ طَاحَتْ الْعِبَارَاتُ وَفَنِيَتْ الْإِشَارَاتُ مَا نَفَعَنَا إلَّا رَكْعَتَانِ رَكَعْنَاهُمَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَأُيِّدَ بِالْأَمْثَالِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ النُّصُوصِ، وَالْآثَارِ. وَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ: لَمَّا اسْتَوْصَى مُوسَى مِنْ الْخَضِرِ حِينَ الْمُفَارِقَةِ قَالَ لَا تَطْلُبْ الْعِلْمَ لِتُحَدِّثَ بِهِ وَاطْلُبْهُ لِتَعْمَلَ بِهِ

وَاسْتَدْعَى قَالَ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْك طَاعَتَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّفْلِ مِنْهُمَا، وَالْفَرْضِ مِنْهُمَا لِمَنْ أَتَى بِهِمَا (الْآيَاتُ) أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ أَوْ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ هِيَ مَا سَيَذْكُرُ. اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ قَالَ بَعْضٌ الْمَذْكُورُ مُبْتَدَأٌ، وَالْمَحْذُوفُ خَبَرٌ إذْ الْمُبْتَدَأُ ذَاتٌ وَأَصْلٌ، وَالْخَبَرُ وَصْفٌ تَابِعٌ لَهُ قَالَ بَعْضٌ عَكْسَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِفَادَةِ هُوَ الْخَبَرُ وَرُجِّحَ هَذَا كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] أَيْ أَمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ أَوْ صَبْرٌ جَمِيلٌ أَجْمَلُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ فَضْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْأَدِلَّةِ هُوَ فَضْلُ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمَلِ كَمَا سَيَظْهَرُ بَلْ بَعْضُهَا لَا يُخَصُّ بِالْعِلْمِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ أَيْضًا كَمَا سَيَظْهَرُ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ كَوْنَ الْمَطْلُوبِ مُطْلَقَ الْفَضْلِ أَوْ تُؤَوَّلُ الْأَدِلَّةُ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الْفَضْلِ الْإِضَافِيِّ وَلَوْ خِلَافَ الظَّاهِرِ ثُمَّ الْآيَاتُ إحْدَى عَشَرَةَ الْأُولَى مِنْ الْبَقَرَةِ. {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] لَمَّا فَهِمَ الْمَلَائِكَةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]- فَضْلَ الْخَلِيفَةِ عَلَيْهِمْ تَعَجَّبُوا وَاسْتَعْظَمُوا. وَأَجَابَ تَعَالَى أَوَّلًا إجْمَالًا بِقَوْلِهِ {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وَثَانِيًا تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} [البقرة: 31] حَاصِلُهُ رَاجِعٌ إلَى بَيَانِ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ عِلْمِ الْخَلِيفَةِ يَعْنِي مَا لَا يَعْلَمُونَ فَضْلَ آدَمَ عَلَيْهِمْ إلَى أَنْ سَجَدُوا لَهُ بِالْعِلْمِ فَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ فَضْلُ الْعِلْمِ وَشَرَفِهِ لَكِنْ فِي نَفْسِهِ لَا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَمَلِ كَمَا نَبَّهَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ بِمَحْضِ فَضْلِهِ تَعَالَى لَا بِكَسْبِهِ وَإِتْعَابِهِ الَّذِي هُوَ مَدَارُ الْفَضْلِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْإِسْنَادِ وَكَوْنُ التَّعْلِيمِ عَلَى خَلُقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ كَمَا سَيُشَارُ إلَيْهِ فَمَا وَجْهُ التَّفْضِيلِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ تَوَقُّفِ الْفَضْلِ عَلَى مَدْخَلِيَّةِ الْفَاضِلِ فِي حُصُولِ الْفَضْلِ قَالُوا: إنَّ إفَاضَةَ الْعِلْمِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى اسْتِعْدَادِ الْمُتَعَلِّمِ لِقَبُولِ الْفَيْضِ وَتَلَقِّيه مِنْ جِهَتِهِ كَمَا قَالُوا أَيْضًا تَأْثِيرُ الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِعْدَادِ الْعِلَّةِ الْقَابِلِيَّةِ. قَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَبِهِ يَظْهَرُ أَحَقِّيَّتَهُ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُمْ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّ جِبِلَّتَهُمْ غَيْرُ مُسْتَعِدَّةٍ لِإِحَاطَةِ تَفَاصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَادِّيَّةِ. ثُمَّ هَذَا التَّعْلِيمُ بِخَلْقِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَالْإِلْهَامِ فِي قَلْبِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي رَوْعِهِ مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاصِّهَا وَأَسْمَائِهَا وَأُصُولِ الْعُلُومِ وَقَوَانِينِ الصِّنَاعَاتِ وَكَيْفِيَّةِ آلَاتِهَا كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْقَصْعَةَ قِيلَ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ فَاللُّغَاتُ الْمُتَخَالِفَةُ فِي أَوْلَادِهِ كُلِّهَا إنَّمَا أُخِذَتْ عَنْهُ وَقِيلَ اسْمَ كُلِّ مَا كَانَ وَسَيَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة: 31] الضَّمِيرُ لِلْمُسَمَّيَاتِ الْمَدْلُولَةِ ضِمْنًا أَوْ الْتِزَامًا. وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ وَكَذَا جَانِبُ الذُّكُورِ قِيلَ مَعْنَى الْعَرْضِ: الْإِظْهَارُ {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} [البقرة: 31] أَخْبِرُونِي {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة: 31] الْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ كَمَا فِي {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة: 23] تَبْكِيتًا لَهُمْ فِيمَا اعْتَقَدُوا مِنْ اسْتِحْقَاقِهِمْ الْخِلَافَةَ وَإِظْهَارًا لِحِكْمَةِ إيثَارِ الْخِلَافَةِ لِآدَمَ مِنْ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ فَأَوْلَى بِالْخِلَافَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، وَالتَّصَرُّفَ الَّذِي تَقْتَضِيه الْخِلَافَةُ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْخَلِيفَةِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ زَمَانِهِ نَعَمْ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ لَا يُنَافِي الْأَوْلَوِيَّةَ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] فِي اعْتِقَادِ أَنَّكُمْ أَحِقَّاءُ لِلْخِلَافَةِ مِنْ الْخَلِيفَةِ الْمَوْعُودِ عَلَى مَا لَزِمَ مَقَالُهُمْ {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] اعْتِرَافٌ بِعَجْزِهِمْ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ سُؤَالَهُمْ لَيْسَ سُؤَالَ اعْتِرَاضٍ بَلْ اسْتِفْسَارٌ وَبَيَانٌ لِفَضْلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارٌ لِشُكْرِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَمُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ بِتَفْوِيضِ الْعِلْمِ كُلِّهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} [البقرة: 32] فِيهِ تَحْقِيقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] {الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] كُلُّ فِعْلِك عَلَى حِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ

فَمِنْ جُمْلَةِ عِلْمِهِ اسْتِحْقَاقُ آدَمَ بِالْخِلَافَةِ. وَمِنْ جُمْلَةِ حِكْمَتِهِ جَعْلُ آدَمَ خَلِيفَةً وَتَعْلِيمُهُ مَا هُوَ قَابِلٌ اسْتِعْدَادَهُ لِجَمِيعِ الْعُلُومِ كَمَا عَرَفْت {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ} [البقرة: 33] أَعْلِمْهُمْ وَأَخْبِرْهُمْ {بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] الَّتِي عَجَزُوا عَنْ عِلْمِهَا وَاعْتَرَفُوا بِتَقَاصُرِهِمْ عَنْ بُلُوغِ مَرْتَبَتِهَا {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] فِي إيثَارِ الْفَاءِ إيذَانٌ بِمُسَارَعَةِ الْإِخْبَارِ، وَالْإِظْهَارِ مَوْضِعَ الْإِضْمَارِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِشَأْنِ الْأَسْمَاءِ وَلِإِيذَانِ كَوْنِ خَبَرِ آدَمَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} [البقرة: 33] تَقْرِيرٌ لِمَا مَرَّ مِنْ الْجَوَابِ الْإِجْمَالِيِّ وَاسْتِحْضَارٌ لَهُ {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 33] . قَالَ أَبُو السُّعُودِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَمُ فِيهِ مِنْ دَوَاعِي الْخِلَافَةِ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْهَا وَهُوَ الَّذِي عَايَنْتُمُوهُ {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة: 33] مِنْ قَوْلِكُمْ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] مِنْ كَتْمِ إبْلِيسَ الْكُفْرَ وَقِيلَ الْكَتْمُ قَوْلُهُمْ لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ خَلْقًا أَفْضَلَ مِنَّا أَوْ كَتْمِ إبْلِيسُ التَّكَبُّرَ فَمِنْ قَبِيلِ بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا، وَالْقَاتِلُ وَاحِدٌ. قَالَ أَبُو السُّعُودِ قَالُوا فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِ الْإِنْسَانِ وَمَزِيَّةِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَأَنَّهُ مَنَاطُ الْخِلَافَةِ وَأَنَّ إطْلَاقَ التَّعْلِيمِ جَائِزٌ دُونَ الْمُعَلِّمِ وَأَنَّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَأَنَّ عُلُومَ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا لَاتَهُمُّ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ خِلَافًا لِلْحُكَمَاءِ وَأَنَّ آدَمَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ بِالْعِلْمِ وَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي. وَالثَّانِيَةُ مِنْ الْبَقَرَةِ أَيْضًا {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} [البقرة: 269] تَحْقِيقُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانِ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ الْعِلْمُ النَّافِعُ الْمُؤَدِّي إلَى الْعَمَلِ كَمَا فِي الْجَلَالَيْنِ لَا يَخْفَى عَدَمُ التَّقْرِيبِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَكِنْ عَنْ مُجَاهِدٍ هِيَ الْقُرْآنُ، وَالْعِلْمُ، وَالْفِقْهُ. وَعَنْ النَّخَعِيِّ مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ وَفَهْمُهَا. وَعَنْ الضَّحَّاكِ الْقُرْآنُ وَفَهْمُهُ وَكَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَذَا عَنْ الْمُفَسِّرِينَ. وَعَنْ الْخَازِنِ حَاصِلُ الْأَقْوَالِ الْعِلْمُ، وَالْإِصَابَةُ فِيهِ لَعَلَّ الْإِصَابَةَ فِيهِ هُوَ الْعَمَلُ وَقِيلَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّي وَقِيلَ إشْهَادُ الْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَقِيلَ تَجْرِيدُ السِّرِّ لِوُرُودِ الْإِلْهَامِ وَقِيلَ النُّورُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِلْهَامِ، وَالْوَسْوَاسِ وَقِيلَ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ الْخَشْيَةُ وَقِيلَ الْوَرَعُ وَقِيلَ وَقِيلَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ كَمَا مَرَّ عَنْ التَّلْوِيحِ وَلَوْ سُلِّمَ فَالدَّلَالَةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ بِنَفْسِهِ، وَالْمَطْلُوبُ فَضْلُهُ عَلَى الْعَمَلِ {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] يَتَزَايَدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَالثَّالِثَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران: 7] الْمُتَشَابِهِ {إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] الَّذِينَ تَمَكَّنُوا وَثَبَتُوا فِي الْعِلْمِ. وَعَنْ مَالِكٍ الْعَالِمُ الْعَامِلُ بِمَا عَلِمَ الْمُتَّبِعُ لَهُ وَقِيلَ الرَّاسِخُ بِأَرْبَعَةٍ التَّقْوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَاضُعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَالزُّهْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، وَالْمُجَاهَدَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ لَعَلَّ دَلَالَتَهَا عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْوَقْفِ أَوْ لَا يَعْنِي عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ وَإِنْ كَانَ عَلَى عَدَمِ الْوَقْفِ أَبْلَغُ وَكَانَ الْوَقْفُ لِلْأَكْثَرِ إذْ الْمُقَامُ مَدْحُهُمْ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مَدْحُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّائِغِينَ فَلَا يَقْتَضِي الْفَضْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَعَمْ قَدْ يُفْهَمُ الْإِطْلَاقُ مِنْ قَوْلِهِ فِي آخَرِ الْآيَةِ - {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة: 269]- عَنْ الْخَازِنِ ثَنَاءٌ مِنْ اللَّهِ لِقَائِلِي {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] . وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: مَدْحٌ لِلرَّاسِخِينَ بِجَوْدَةِ الذِّهْنِ، وَحُسْنِ النَّظَرِ إلَى آخِرِهِ فَالْأُولَى إتْمَامُ الْآيَةِ. وَالرَّابِعَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ} [آل عمران: 18] قِيلَ مَعْنَى شَهَادَةِ اللَّهِ إخْبَارُهُ وَمَعْنَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمُؤْمِنِينَ إقْرَارُهُمْ {وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] الْأَنْبِيَاءُ. وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ وَعَنْ مُقَاتِلٍ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَعَنْ السُّدِّيَّ وَالْكَلْبِيِّ يَعْنِي عُلَمَاءَ الْمُؤْمِنِينَ فَالِاحْتِجَاجُ صَرِيحٌ فِي الْأَخِيرِ مُطَابَقَةً وَعَلَى الْبَوَاقِي دَلَالَةٌ أَوْ مُقَايَسَةً أَوْ إشَارَةً لَكِنْ عَلَى الْأَوَّلِ مَحَلُّ خَفَاءٍ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] مُقِيمًا بِالْعَدْلِ فِي قَسْمِهِ وَحُكْمِهِ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ مِنْ اللَّهِ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا. وَعَنْ الْبَغَوِيّ أَيْ قَائِمًا بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ. قَالَ فِي التتارخانية بَعْدَمَا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ بَدَأَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ وَثَلَّثَ بِأَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْخَامِسَةُ فِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] جَمْعُ: رَبَّانِيٍّ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ، وَالنُّونِ وَهُوَ الْكَامِلُ فِي الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ أَيْ مُعَلِّمِينَ وَقِيلَ: فُقَهَاءَ عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ، وَالنِّسْبَةُ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى عِلْمِ الرَّبِّ أَيْ الشَّرِيعَةِ، وَالصِّفَاتِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الَّذِي يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ. وَعَنْ عَطَاءٍ عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ نُصَحَاءَ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ. وَقِيلَ الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْأَحْبَارِ، وَالْأَحْبَارُ فَوْقَ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ الَّذِينَ جَمَعُوا مَعَ الْعِلْمِ الْبَصَارَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ. وَعَنْ الْمُبَرِّدِ هُمْ مُرَبُّو الْعِلْمِ بِالْقِيَامِ بِهِ وَبِالتَّعْلِيمِ. وَعَنْ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُونُوا مُسْتَمِعِينَ بِسَمْعِ الْقُلُوبِ وَنَاظِرِينَ بِأَعْيُنِ الْغُيُوبِ. وَعَنْ الْجُنَيْدِ أَخْرَجَهُمْ عَنْ الْكَوْنِ جُمْلَةً وَجَذَبَهُمْ إلَى الْحَقِّ إشَارَةً. وَعَنْ الشِّبْلِيِّ الرَّبَّانِيُّ مَنْ يَأْخُذُ الْعِلْمَ مِنْ الْحَقِّ لَا مِنْ الْخَلْقِ وَلَا يَرْجِعُ فِي بَيَانِهِ إلَّا إلَى الرَّبِّ وَقِيلَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَا أَيْضًا عَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ كَمَا تَرَى {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُعَلِّمِينَ الْكِتَابَ وَدَارِسِينَ لَهُ فَإِنَّ فَائِدَةَ التَّعْلِيمِ، وَالتَّعَلُّمِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، وَالْخَيْرِ لِلِاعْتِقَادِ، وَالْعَمَلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَقِيلَ كُونُوا مُعَلِّمِينَ النَّاسَ بِعِلْمِكُمْ وَدَرْسِكُمْ أَيْ عَلِّمُوا النَّاسَ وَبَيِّنُوا لَهُمْ. وَعَنْ الْخَازِنِ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ عَالِمِينَ وَمُعَلِّمِينَ وَبِسَبَبِ دِرَاسَتِكُمْ الْكِتَابَ فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ، وَالتَّعَلُّمَ، وَالدِّرَاسَةَ يُوجِبُ كَوْنَ الْإِنْسَانِ رَبَّانِيًّا فَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، وَالتَّعْلِيمِ لَا بِهَذَا الْمَقْصُودِ ضَاعَ عِلْمُهُ وَخَابَ سَعْيُهُ. وَالسَّادِسُ فِي طَه {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] سَلْ اللَّهَ تَعَالَى زِيَادَةَ الْعِلْمِ بَدَلَ الِاسْتِعْجَالِ فِي تَلَقِّي الْوَحْيِ مِنْ جَبْرَائِيلَ فَإِنَّ مَا أُوحِيَ إلَيْك تَنَالُهُ لَا مَحَالَةَ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. قِيلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَلَبِ زِيَادَةِ شَيْءٍ إلَّا فِي الْعِلْمِ. وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عِلْمًا أَيْ حِفْظًا وَقِيلَ قُرْآنًا وَقِيلَ أَدَبًا أَوْ صَبْرًا عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْجِهَادِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَيْ عَالِمًا بِك جَاهِلًا بِمَا سِوَاك. وَالسَّابِعَةُ فِي الْعَنْكَبُوتِ {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} [العنكبوت: 43] الْأَشْبَاهُ يَعْنِي أَمْثَالَ الْقُرْآنِ الَّتِي شَبَّهَ بِهَا أَحْوَالَ كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِكُفَّارِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ نُقِلَ

عَنْ الْخَازِنِ {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت: 43] تَسْهِيلًا لِأَفْهَامِهِمْ {وَمَا يَعْقِلُهَا} [العنكبوت: 43] وَمَا يُدْرِكُ فَائِدَةَ ضَرْبِهَا {إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] الَّذِينَ يَتَدَبَّرُونَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا يَنْبَغِي. وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ الْعَالِمُ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبَ سُخْطَهُ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إذَا قَصُرَ فَهْمُ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى الْعُلَمَاءِ لَزِمَ ضَرُورَةُ مَدْحِهِمْ وَشَرَفِهِمْ لَكِنْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ فَقَطْ بَلْ مَعَ الْعَمَلِ، وَالْكَلَامُ فِي الْأَوَّلِ. وَالثَّامِنَةُ فِي الرُّومِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الروم: 22] فِي اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ {لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] لَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ ذِي عِلْمٍ إنْسٍ وَجِنٍّ. وَالتَّاسِعَةُ فِي فَاطِرِ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] إذْ الْخَشْيَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِمَعْرِفَةِ الْمَخْشِيِّ وَصِفَاتِهِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ ازْدَادَتْ الْخَشْيَةُ. وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ» وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصْرُ الْفَاعِلِيَّةِ وَلَوْ أَخَّرَ لَانْعَكَسَ الْأَمْرُ. وَقُرِئَ بِرَفْعِ اسْمِ اللَّهِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّعْظِيمِ فَإِنَّ الْمُعَظَّمَ يَكُونُ مَهِيبًا كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْ إنَّمَا يَخَافُنِي مَنْ عَلِمَ جَبَرُوتِي وَعِزَّتِي وَسُلْطَانِي. وَعَنْ مَسْرُوقٍ كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا. وَعَنْ الرُّبَيِّعِ مِنْ لَمْ يَخْشَ اللَّهَ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَعَنْ حَاشِيَةِ شَيْخْ زَادَهْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى حَصْرِ الْخَشْيَةِ بِالْعُلَمَاءِ لِدَلَالَةِ إنَّمَا عَلَى الْحَصْرِ وَآيَةِ {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ وَكَوْنُهَا لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ يُنَافِي كَوْنَهَا لِغَيْرِهِمْ فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أَهْلٌ إلَّا الْعُلَمَاءُ. وَقِيلَ إذَا كَانَتْ الْخَشْيَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ أَيْ الْخَشْيَةُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ أَيْ الْعِلْمُ فَالْعِلْمُ مَا يَكُون سَبَبًا لِلْخَشْيَةِ، وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ وَإِنْ عَدُّوهُ عِلْمًا. قِيلَ وَمَا يُقَالُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ فِي الْعُلَمَاءِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ فِيهِ خَشْيَةٌ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ مَأْخَذَ الِاشْتِقَاقِ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ وَذَكَرَ الْخَشْيَةَ؛ لِأَنَّهَا مِلَاكُ الْأُمُورِ إذْ الْخَشْيَةُ جَالِبَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ وَعَدَمُهَا لِكُلِّ مَكْرُوهٍ قَالُوا الرِّعَةُ، وَالْفِقْهُ، وَالِاسْتِقَامَةُ، وَالتُّقَى كُلُّهَا مُسَخَّرَةٌ لِلْخَشْيَةِ فَمَنْ رُزِقَ لَهُ الْخَشْيَةُ مَلَكَ كُلَّ شَيْءٍ فَإِذَا حُصِرَ ذَلِكَ بِالْعُلَمَاءِ لَزِمَ اخْتِصَاصُ الْفَضْلِ بِهِمْ ضَرُورَةً. وَالْعَاشِرَةُ فِي الزُّمَرِ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] بَلْ الْعَالِمُونَ فَائِقَةٌ لِمَزِيدِ فَضْلِهِمْ بِسَبَبِ عِلْمِهِمْ هَذِهِ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَا تَدُلُّ كَمَا فِي السَّوَابِقِ عَلَى الْفَضْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمَلِ إذْ الْكَلَامُ فِي الْعَالِمِ الْمُتَفَرِّغِ لِلْعُلُومِ الْمَنْدُوبَةِ، وَالْعَامِلِ الْمُتَقَاعِدِ لِأَجْلِ فَضَائِلِ الْعِبَادَاتِ فَتَأَمَّلْ. وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي الْمُجَادَلَةِ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة: 11] قَالَ الْقَاضِي بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ فِي الدُّنْيَا وَإِيوَائِهِمْ غُرَفَ الْجِنَانِ فِي الْآخِرَةِ {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] يَرْفَعُ الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ خَاصَّةً

دَرَجَاتٍ بِمَا جَمَعُوا مِنْ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ فَإِنَّ الْعِلْمَ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِهِ يَقْتَضِي الْعَمَلَ الْمَقْرُونَ بِهِ مَزِيدَ رِفْعَةٍ وَلِذَلِكَ يُقْتَدَى بِالْعَالِمِ فِي أَفْعَالِهِ وَلَا يُقْتَدَى بِغَيْرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ» فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَهَذِهِ أَيْضًا كَمَا تَرَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُتَبَادَرُ إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي نِسْبَةِ الْعِلْمِ مَعَ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُؤَوَّلَاتٌ أَوْ مُفَسَّرَاتٌ بِالْأَحَادِيثِ وَلِذَا أَوْرَدَ بَعْدَهَا الْأَخْبَارَ فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ الدَّلَالَةُ بِحَسَبِ الْمَجْمُوعِ أَمْكَنَ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ سِيَّمَا لَوْ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ ظَنِّيًّا. قَالَ فِي التتارخانية آثَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لِلْعُلَمَاءِ دَرَجَاتٌ فَوْقَ الْمُؤْمِنِينَ تِسْعُ مِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْن كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ الْآيَاتُ أَيْضًا عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ كَمَا فِي التتارخانية {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] يَعْنِي الْعِلْمَ {خَلَقَ الإِنْسَانَ} [الرحمن: 3] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص: 80] . {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . رَدَّ حُكْمَهُ فِي الْوَقَائِعِ إلَى اسْتِنْبَاطِهِمْ فَالْحَقُّ رَتَّبَهُمْ بِرُتْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كَشْفِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] . وَالْمُرَادُ التَّعْلِيمُ، وَالْإِرْشَادُ {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33]- {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125]- وَغَيْرُهَا (الْأَخْبَارُ) الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ (دت) أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ) يَوْمَئِذٍ (بِدِمَشْقَ) الشَّامِ. (فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَا أَقْدَمَك) مَا سَبَبُ قُدُومِك (يَا أَخِي قَالَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّك تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ) لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ (أَمَا جِئْت لِحَاجَةٍ) غَيْرِ هَذَا (قَالَ لَا قَالَ أَمَا قَدِمْت لِتِجَارَةٍ) السُّؤَالُ وَتَكْرِيرُهُ لِلِاسْتِعْظَامِ لِكَوْنِهِ خِلَافَ الْعَادَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ أَوْ إعْلَامِ غَيْرِهِ فِي الْمَجْلِسِ إظْهَارًا لِشَرَفِ الْأَمْرِ، وَالْجَائِيّ (قَالَ لَا قَالَ) الرَّجُلُ (مَا جِئْت إلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ) أَبُو الدَّرْدَاءِ (فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا» مُدَّةَ سَفَرٍ أَوْ لَا وَلَوْ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ أَوْ قَرْيَةٍ وَلَوْ خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ «يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا» نَكَّرَهُ لِيَشْمَلَ كُلَّ عِلْمٍ وَآلَتِهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا أَيْ حَالَ كَوْنِهِ طَالِبًا فِي سُلُوكِهِ عِلْمًا شَرْعِيًّا قَصْدِيًّا أَوْ آلِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ. «سَلَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» أَيْ بِذَلِكَ الْعَبْدِ «طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ»

لِلتَّسَبُّبِ بِهَا وَقُوَّةِ إيصَالِهِ لِوُفُورِ الْأَجْرِ «وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ» الْحَفَظَةَ أَوْ مُطْلَقَ الْمَلَائِكَةِ «لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا» إكْرَامًا أَيْ تَوَاضُعًا أَوْ تَبَرُّكًا مِنْ الْمَسِّ أَوْ لِإِلْهَامِ عِلْمٍ أَوْ كُلِّ خَيْرٍ فَيَفِرُّ الشَّيْطَانُ لِمُضَادَّتِهِ بِالْمَلَكِ أَوْ تَعَطُّفًا أَوْ تَلَطُّفًا أَوْ دَفْعَ سُوءٍ «رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ» أَوْ لِإِيصَالِهِ إلَى مَقْصُودٍ أَوْ تَزَاحُمًا لِلزِّيَارَةِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ «وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» مَلَائِكَةٌ أَوْ حَيَوَانَاتٌ بَلْ النَّبَاتُ، وَالْجَمَادُ كَمَا قِيلَ لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ مَنْ الْحَقِيقَةُ فِي أُولِي الْعِلْمِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ - {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]- وَلَا يُلَائِمُ الْغَايَةَ فِي قَوْلِهِ. «حَتَّى الْحِيتَانُ» جَمْعُ حُوتٍ السَّمَكُ «فِي الْمَاءِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ» . فَإِنْ قِيلَ إنَّ اسْتِغْفَارَ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجَمِ، وَالْجَمَادَاتِ غَيْرُ مَعْقُولٍ يَعْنِي خِلَافَ الْقِيَاسِ، وَالرَّاوِي هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ بِالرِّوَايَةِ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ الْوَاحِدِ، الْوَارِدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ إذْ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ. قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ عَدَمِ مَعْرُوفِيَّةِ الرَّأْيِ بِالرِّوَايَةِ لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ خِلَافَ الْقِيَاسِ بَلْ الْقِيَاسُ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَثَابِتٌ وَأَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا مَا لَمْ يَصْرِفْهَا صَارِفٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ خَبَرًا ضَعِيفًا. وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْفَضَائِلِ تَثْبُتُ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يُنْطِقَ كُلَّ شَيْءٍ فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِعَدَدِ كُلٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ اسْتِغْفَارَةً مُسْتَجَابَةً لَكِنْ يَشْكُلُ بِنَحْوِ الْكُفَّارِ بَلْ الْفُسَّاقِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَعَدَمُ اسْتِغْفَارِهِمْ ظَاهِرٌ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ بِشَهَادَةِ الْعَقْلِ أَوْ الْحِسِّ أَوْ الْعَادَةِ وَحِينَئِذٍ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي ثُمَّ اسْتِغْفَارُ الْبَوَاقِي وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ لَكِنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الْعُمُومِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ نَحْوَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ وَجْهُ اسْتِغْفَارِهِمْ تَنَفُّعُهُمْ مِنْ بَرَكَةِ عِلْمِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُفِيضُ الْخَيْرَ، وَالرَّحْمَةَ عَلَى الْكُلِّ بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ وَبَرَكَةِ ثَمَرَتِهِ مِنْ الْعَمَلِ وَاكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ وَهَذَا أَقْرَبُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمُنَاوِيِّ أَنَّ حِكْمَتَهُ أَنَّ صَلَاحَ الْعَالَمِ مَنُوطٌ بِالْعَالِمِ إذْ بِالْعِلْمِ أَنَّ الطَّيْرَ لَا يُؤْذَى وَلَا يُقْتَلُ إلَّا لِأَكْلِهِ وَلَا يُذْبَحُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا يُعَذَّبُ طَيْرٌ وَلَا غَيْرُهُ بِجُوعٍ وَلَا ظَمَأٍ إلَى آخَرِ مَا قَالَ «وَفَضْلُ الْعَالِمِ» الْعَامِلِ «عَلَى الْعَابِدِ» الْمُتَفَرِّغِ لِلْعِبَادَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَلَمْ يَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ مِنْ نَحْوِ التَّعْلِيمِ، وَالتَّدْرِيسِ، وَالْإِفْتَاءِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوَعْظِ وَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ وَمُطَالَعَتِهَا وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا يُقَالُ أَيْ الْعَامِلُ بِلَا عِلْمٍ إذْ حِينَئِذٍ لَا فَضْلَ لَهُ أَصْلًا «كَفَضْلِ الْقَمَرِ» لَيْلَةَ الْبَدْرِ «عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ» فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي أَنْفُسِهَا أَنْوَارًا لَكِنَّهَا عِنْدَ نُورِ الْقَمَرِ سِيَّمَا عِنْدَ الْبَدْرِ كَالْمُضْمَحِلِّ بَلْ أَكْثَرُهَا مُضْمَحِلٌّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي تَشْبِيهِ الْعَالِمِ بِالْقَمَرِ إشَارَةٌ إلَى تَعَدِّي الْعِلْمِ إلَى الْغَيْرِ وَانْتِفَاعِ الْعَالِمِ بِعِلْمِهِ إذَا عَلَّمَهُ كَمَا أَنَّهُ فِي تَشْبِيهِ الْعَابِدِ بِالنُّجُومِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ نَفْعِهِ لِلْغَيْرِ وَكَمَا أَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ يُسْتَفَادُ نُورُ الْعَالِمِ مِنْ النَّيْرِ الْأَعْظَمِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَإِنَّ «الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْأَقْرَبِ وَأَقْرَبُ الْأُمَّةِ فِي نِسْبَةِ الدِّينِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ

الدُّنْيَا وَأَقْبَلُوا عَلَى الْآخِرَةِ وَكَانُوا بَدَلًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فَازُوا بِالْحُسْنَيَيْنِ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ وَحَازُوا الْفَضِيلَتَيْنِ الْكَمَالَ، وَالتَّكْمِيلَ وَهُوَ الْمِيرَاثُ الْأَكْبَرُ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إنَّمَا يُوَرَّثُونَ مِيرَاثَ الدُّنْيَا، وَالرُّسُلُ إنَّمَا يُوَرِّثُونَ وَرَثَتَهُمْ الْحِكَمَ الرَّبَّانِيَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا رُتْبَةَ فَوْقَ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ فَلَا شَرَفَ فَوْقَ شَرَفِ وَارِثِ تِلْكَ الرُّتْبَةِ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «الْعُلَمَاءُ مَصَابِيحُ الْأَرْضِ وَخُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِي وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْكَشَّافِ لِمُدَانَاتِهِمْ لَهُمْ فِي الشَّرَفِ، وَالْمَنْزِلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَلْقُوا بِمَا بُعِثُوا مِنْ أَجْلِهِ. وَعَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ أَحْوَالُهُمْ الْكِتْمَانُ لَوْ قُطِّعُوا إرْبًا إرْبًا مَا عُرِفَ مَا عِنْدَهُمْ. ثُمَّ قَالَ (فَائِدَةٌ) سُئِلَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ عَمَّا اُشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ مِنْ حَدِيثِ: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ» فَقَالَ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا اسْتِنَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَيُغْنِي عَنْهُ «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ انْتَهَى لَعَلَّ مَعْنَى يُغْنِي يُنَافِي إذْ الْخُصُوصُ يُنَافِي الْعُمُومَ وَيَحْتَمِلُ يُغْنِي يَعْنِي لَا يُبْقِي حَاجَةً لِقُرْبِ مَضْمُونِهِ مِنْهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَحِينَئِذٍ يَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ نَقْلِ الْمَعْنَى. وَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ الدَّمِيرِيِّ، وَالْعَسْقَلَانِيِّ، وَالزَّرْكَشِيِّ لَا أَصْلَ لَهُ وَسَكَتَ عَنْهُ السُّيُوطِيّ فَمَا فِي نَحْوِ شَرْحِ الشِّرْعَةِ مِنْ تَصْحِيحِهِ بِالرُّؤْيَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إذْ غَايَتُهُ الْإِلْهَامُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعْرِفَةِ سِيَّمَا وَقَعَ تَصْرِيحٌ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ «إنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ» أَيْ تَعَلَّمَهُ «فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ» نَصِيبٍ «وَافِرٍ» كَثِيرٍ زَائِدٍ فِي الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهَا لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْفَضَائِلِ، وَالْكَمَالَاتِ النَّفِيسَةِ وَلَا يَنْتَقِلُ الشَّيْءُ إلَى الْوَارِثِ إلَّا بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمَوْرُوثِ. عَنْ الْغَزَالِيِّ: الْعَالِمُ لَا يَكُونُ وَارِثًا لِنَبِيِّهِ إلَّا إذَا اطَّلَعَ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إلَّا دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الْوَارِثِ، وَالْمَوْرُوثِ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ (طب) طَبَرَانِيٌّ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْفِقْهُ» الْمُصْطَلَحُ الْمُعَرَّفُ عِنْدَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ بِمَعْرِفَةِ النَّفْسِ بِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا وَعِنْدَ بَعْضٍ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ فَيَدْخُلُ جَمِيعُ مَبَادِئِ الْفِقْهِ الَّتِي عُدَّتْ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ «وَأَفْضَلُ الدِّينِ» الْإِسْلَامُ وَهُوَ وَضْعٌ إلَهِيٌّ سَائِقٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودَ إلَى الْخَيْرِ بِالذَّاتِ وَيَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَالْعَمَلِيَّاتِ، وَقَدْ يُخَصُّ بِالْفُرُوعِ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا هَذَا الْمَخْصُوصُ ( «الْوَرَعُ» تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ وَيُفَسَّرُ بِتَرْكِ الشُّبُهَاتِ (طط) طَبَرَانِيٌّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «قَلِيلُ الْعِلْمِ» الشَّرْعِيِّ الْمَقْرُونِ بِالْعَمَلِ «خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ» فَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ صَاحِبُ فَضِيلَتَيْنِ، وَالْعَامِلَ صَاحِبُ فَضِيلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّ الْعِلْمَ مُتَعَدٍّ، وَالْعَمَلَ قَاصِرٌ وَإِنَّ الْعِبَادَةَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ لَا تَخْلُو عَنْ قُصُورٍ وَخَلَلٍ وَإِنَّ عِبَادَةَ الْعَالِمِ مَعَ تَيَقُّنِ مَنَافِعِهَا وَتَحَقُّقِ غَايَتِهَا وَلِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمُصَحِّحُ لِلْعِبَادَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «قَلِيلُ الْفِقْهِ» وَفِي أُخْرَى «قَلِيلُ التَّوْفِيقِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «قَلِيلُ الْعَمَلِ يَنْفَعُ مَعَ الْعِلْمِ وَكَثِيرُ الْعَمَلِ لَا يَنْفَعُ مَعَ الْجَهْلِ» فَبِهَذَا الْحَدِيثِ يُعْلَمُ عِلَّةُ حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا (طط) طَبَرَانِيٌّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ» لِرِضَاهُ تَعَالَى إمَّا لِلتَّعْلِيمِ أَوْ الْعَمَلِ «لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ إلَّا دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تَبْلُغَ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهَا وَهْبِيَّةٌ إلَهِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهَا بِالْكَسْبِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ نَبِيًّا وَاحِدًا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ (طك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ» الَّذِينَ مَشَوْا عَلَى مُوجِبِ عُلُومِهِمْ وَرَاعَوْا حُقُوقَهُ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ» الَّذِي وَسِعَ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضَ بِلَا كَيْفِيَّةِ لَوَازِمِ الْجِسْمِيَّةِ لَعَلَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ إظْهَارِ كَمَالِ عَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ «لِفَصْلِ عِبَادِهِ» لَعَلَّ ذَلِكَ وَقْتَ الْمُحَاسَبَةِ وَوَضْعِ مِيزَانِ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ «إنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي» الْإِضَافَةُ لِتَعْظِيمِ الْمُضَافِ «وَحِلْمِي» أَيْ تَخَلُّفَكُمْ بِأَخْلَاقِي كَمَا وَرَدَ «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ» . وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ خُلُقٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ خُلُقًا مَنْ أَتَاهُ بِخُلُقٍ مِنْهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» «فِيكُمْ إلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ» جَمِيعَ ذُنُوبِكُمْ فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِلتَّعْمِيمِ الظَّاهِرِ فِي مِثْلِ الصَّغَائِرِ «وَلَا أُبَالِي» لِقُوَّةِ شَرَفِ الْعِلْمِ يَعْنِي لَا أَجْعَلُ فِي جَوْفِهِ الْعِلْمَ إلَّا لَأَنْ أَغْفِرَ لَهُ. قِيلَ فِي إضَافَةِ الْعِلْمِ، وَالْحِلْمِ إلَيْهِ تَعَالَى إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الشَّرَفَ إنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ بِهِ وَإِلَّا لَا يُنْسَبَانِ إلَيْهِ تَعَالَى. وَعَنْ الْمُنْذِرِيِّ لِيَنْظُرَ هَذِهِ الْإِضَافَةُ وَلَا يُغْتَرَّ بِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ. وَعَنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَمْعِنْ هَذِهِ الْإِضَافَةَ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلْمُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْعَمَلِ، وَالْإِخْلَاصِ (صف) الْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُجَاءُ» مُضَارِعٌ

مَجْهُولٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ «بِالْعَالِمِ وَالْعَابِدِ يُقَالُ لِلْعَابِدِ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ» ابْتِدَاءً بَلْ قَبْلَ الْحِسَابِ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «وَيُقَالُ لِلْعَالِمِ قِفْ حَتَّى تَشْفَعَ لِلنَّاسِ» ؛ لِأَنَّ وِرَاثَةَ النُّبُوَّةِ تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ جِنْسِ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ فَإِذَا تَعَدَّى نَفْعُ عِلْمُهُ فِي الدُّنْيَا فَكَذَا فِي الْآخِرَةِ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْثَرُ، وَالْأَغْلَبُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ جِنْسِ الشَّفَاعَةِ عَنْ جَمِيعِ الْعَابِدِ إذْ الصُّلَحَاءُ لَهُمْ حَظٌّ فِي مَقَامِ الشَّفَاعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ كَالْعُلَمَاءِ (صف) الْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ سَبْعُونَ دَرَجَةً مَا بَيْن كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حُضْرُ الْفَرَسِ» ارْتِفَاعُهَا فِي الْعَدْوِ «سَبْعِينَ عَامًا» لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلْحَصْرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ» «وَذَلِكَ» أَيْ عِلَّةُ ذَلِكَ الْفَضْلِ «؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَبْتَدِعُ» يُحَسِّنُ «الْبِدْعَةَ لِلنَّاسِ» وَيُزَيِّنُهَا «فَيُبْصِرُهَا الْعَالِمُ» بِنُورِ عِلْمِهِ «فَيَنْهَى عَنْهَا» فَيَنْزَجِرُ «، وَالْعَابِدُ مُقْبِلٌ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا» لِعَدَمِ عِلْمِهِ أَوْ لِكَمَالِ تَوَجُّهِهِ لِعِبَادَتِهِ. (قُطْن هق) دَارَقُطْنِيٌّ وَبَيْهَقِيٌّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا عُبِدَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «اللَّهُ بِشَيْءٍ» بِالْعِبَادَاتِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَالْبَاطِنِيَّةِ «أَفْضَلُ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينِ اللَّهِ» ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْفِقْهِ إذْ الْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَّقِي وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ فَضْلُ الْفِقْهِ وَتَمْيِيزُهُ عَلَى سَائِرِ الْعُلُومِ بِكَوْنِهِ أَهَمَّهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَشْرَفَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُرَادُ بِالْفِقْهِ هُنَا انْكِشَافُ الْأُمُورِ، وَالْفَهْمُ هُوَ الْعَارِضُ الَّذِي يَعْتَرِضُ فِي الْقَلْبِ مِنْ النُّورِ فَإِذَا عَرَضَ انْفَتِحْ بَصَرُ الْقَلْبِ فَرَأَى صُورَةَ الشَّيْءِ فِي صَدْرِهِ حَسَنًا كَانَ أَوْ قَبِيحًا فَالْفِقْهُ هُوَ الِانْفِتَاحُ، وَالْعَارِضُ هُوَ الْفَهْمُ، وَقَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ بِقَوْلِهِ: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] . وَقَالَ الْمُصْطَفَى فِقْهُ الرَّجُلِ أَيْ فَهْمُ الْأُمُورِ وَقَدْ كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أَنْ يَعْرِفُوهُ ثُمَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ أَنْ يَخْضَعُوا وَيَدِينُوا لَهُ فَشَرَعَ لَهُمْ الْحَلَالَ، وَالْحَرَامَ لِيَدِينُوا لَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ فَذَلِكَ الدِّينُ هُوَ الْخُضُوعُ، وَالْفِقْهُ، وَالدِّينُ جُنْدٌ عَظِيمٌ يُؤَيِّدُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَهْلَ الْيَقِينِ الَّذِينَ عَايَنُوا مَحَاسِنَ الْأُمُورِ وَمَشَايِنَهَا وَأَقْدَارَ الْأَشْيَاءِ وَحُسْنَ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لَهُمْ بِنُورِ يَقِينِهِمْ لِيَعْبُدُوهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَيُسْرٍ وَمَنْ حُرِمَ ذَلِكَ عَبْدَهُ عَلَى مُكَابَرَةٍ وَعُسْرٍ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ وَإِنْ أَطَاعَ وَانْقَادَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَالنَّفْسُ إنَّمَا تَخِفُّ وَتَنْقَادُ إذَا رَأَتْ نَفْعَ شَيْءٍ أَوْ ضُرَّهُ، وَالنَّفْسُ جُنْدُهَا الشَّهَوَاتِ وَيَحْتَاجُ صَاحِبُهَا إلَى أَضْدَادِهَا مِنْ الْجُنُودِ وَهُوَ الْفِقْهُ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ «وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ» وَاَللَّهِ لَفَقِيهٌ، وَالْفَقِيهُ هُوَ الْعَالِمُ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ «أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ» الَّذِي يُرِيدُ إغْوَاءَهُ وَإِضْلَالَهُ بُغْضًا وَعَدَاوَةً «مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» بِعَمَلٍ صَالِحٍ بِلَا عِلْمٍ أَوْ لَهُ عِلْمٌ لَكِنْ يَتَقَاعَدُ لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ النُّورَيْنِ يَغْلِبَانِ عَلَى نُورٍ وَاحِدٍ وَلِأَنَّ الشَّيْطَانَ رُبَّمَا يَدْخُلُ عَلَى عَمَلِهِ فَيُفْسِدُهُ بِلَا شُعُورِهِ بِخِلَافِ الْعَالِمِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ حِيَلَهُ وَطُرُقَ غَوَائِلِهِ فَيَدْفَعُ «وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ» يَرْتَفِعُ بِهِ بُنْيَانُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ «وَعِمَادُ الدِّينِ الْفِقْهُ» الَّذِي بِهِ

قِوَامُهُ. (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) وَاَللَّهِ (لَأَنْ أَجْلِسَ سَاعَةً) الظَّاهِرُ التَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ، وَالسَّاعَةُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْجَدِيدَيْنِ، وَالْوَقْتُ الْحَاضِرُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ (فَأَفْقَهُ) أَيْ أَتَعَلَّمُ الْفِقْهَ (أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ إحْيَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ) بِالْقِيَامِ، وَالتَّهَجُّدِ مَعَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. (وَفِي رِوَايَةِ لَيْلَةٍ إلَى الصَّبَاحِ) ظَاهِرُهُ مُطْلَقُ لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي لَكِنَّ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالْحَادِثَةِ تَجْعَلُ اللَّيْلَةَ الْمُطْلَقَةَ مُقَيَّدَةً وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى تَفَاوُتِ الْمُتَعَلِّمِينَ وَتَفَاوُتِ عِلْمِهِمْ وَتَفَاوُتِ غَرَضِهِمْ فَقَالَ تَاجُ الدِّينِ فِي رِسَالَتِهِ الْكُبْرَى: لَمَّا حَصَلَ التَّرَقِّي لِمُرِيدِ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ قَالَ: اذْهَبْ عِنْدَ أَبِي يَزِيدَ قَالَ الْغُلَامُ لَيْسَ لِي حَاجَةٌ إلَى أَبِي يَزِيدَ لِأَنِّي أَرَى اللَّهَ تَعَالَى جَهْرَةً فَقَالَ الشَّيْخُ رُؤْيَةُ أَبِي يَزِيدَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَحْسَنُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ سَبْعِينَ مَرَّةً. فَإِنْ قِيلَ إنَّ جِنْسَ هَذَا الْمَطْلَبِ لَا يُمْكِنُ وَصْلَتُهُ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ السَّمْعِيَّةِ فَأَيْنَ يَعْلَمُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْحَدِيثِ وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ الصُّفَّةِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ مِنْ السَّمْعِيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْخَبَرِ الْمَوْقُوفِ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. (ت. عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» فِي الشَّرَفُ، وَالرِّفْعَةِ أَيْ نِسْبَةُ شَرَفِ الْعَالِمِ إلَى شَرَفِ الْعَابِدِ كَنِسْبَةِ شَرَفِ الرَّسُولِ إلَى أَدْنَى شَرَفِ الصَّحَابَةِ وَقَدْ شُبِّهُوا بِالنُّجُومِ فِي حَدِيثِ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَهَذَا التَّشْبِيهُ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَالِمِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَلِلْعَابِدِ مِنْ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَهَا بِالْمُصْطَفَى وَبِالْعِلْمِ يَسْتَدْعِي الْمُشَارَكَةَ فِيمَا فُضِّلُوا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ كَيْفَ لَا، وَالْعِلْمُ مُقَدِّمَةٌ لِلْعَمَلِ وَصِحَّةُ الْعَمَلِ مُتَوَفِّقَةٌ عَلَى الْعِلْمِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ إنَّمَا كَانَ الْعَالِمُ أَفْضَلَ إذَا كَانَ عَامِلًا؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا فَعِلْمُهُ وَبَالٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْعَابِدُ بِغَيْرِ فِقْهٍ فَمَعَ نَقْصِهِ هُوَ أَفْضَلُ بِكَثِيرٍ مِنْ فَقِيهٍ بِلَا تَعَبُّدٍ كَفَقِيهٍ هِمَّتُهُ فِي الشُّغْلِ بِالرِّيَاسَةِ انْتَهَى أَشْكَلَ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْعَابِدِ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ أَصْلًا يَعْنِي عِلْمَ عِبَادَتِهِ فَفَاسِقٌ عَابِثٌ فَلَا فَضْلَ لَهُ أَصْلًا، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِيمَا لَهُ فَضْلٌ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ لَهُ عِلْمًا بِعِبَادَتِهِ فَمُخَالِفٌ عَلَى مَا اُتُّفِقَ عَلَى فَضْلِ الْعِبَادَةِ عَلَى الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا إذْ الْعِلْمُ مَقْصُودٌ لِلْعِبَادَةِ وَمَا يُرَادُ لِلْغَيْرِ مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ مِنْهُ. أَقُولُ هَذَا دِرَايَةٌ فِي مُقَابَلَةِ رِوَايَةٍ، وَإِنَّ الْحُسْنَ لَيْسَ بِعَقْلِيٍّ مَحْضٍ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا يُرَادَ لِلْغَيْرِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى الْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ النَّظَرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَفْضَلُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ التَّسْبِيحِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ، وَالنَّوَافِلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِبَادَةِ مِنْ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ بَعْدَ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ» هُمْ الْمَلَائِكَةُ «وَالْأَرْضِ» مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُبَّادِ، وَالزُّهَّادِ، وَالْوُرَّاعِ بَلْ مُطْلَقُ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ مُطْلَقُ الْحَيَوَانَاتِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ «حَتَّى النَّمْلَةِ فِي جُحْرِهَا، وَالْحِيتَانِ» جَمْعٌ حُوتٍ بِمَعْنَى: السَّمَكِ «فِي الْبَحْرِ يُصَلُّونَ» يَدْعُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ وَيُثْنُونَ «عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ: أَيْ

يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ طَالِبِينَ لِتَخْلِيَتِهِمْ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنْ الْأَوْضَارِ، وَالْأَدْنَاسِ؛ لِأَنَّ بَرَكَةَ عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَفَتْوَاهُمْ سَبَبٌ لِانْتِظَامِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ وَذِكْرُ النَّمْلَةِ، وَالْحُوتِ بَعْدَ ذِكْرِ الثَّقَلَيْنِ، وَالْمَلَائِكَةِ تَتْمِيمٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَخَصَّ النَّمْلَةَ، وَالْحُوتَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطَرِ وَحُصُولِ الْخَيْرِ، وَالْخِصْبِ بِبَرَكَتِهِمْ كَمَا قَالَ «بِهِمْ تُنْصَرُونَ وَبِهِمْ تُرْزَقُونَ» حَتَّى الْحُوتِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعُلَمَاءِ افْتِقَارَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ فِي جَوْفِ الْمَاءِ يَعِيشُ أَبَدًا بِبَرَكَتِهِمْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ» جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ بَيْنَ الْعَالِمِ، وَالْعَابِدِ وَأَنَّ نَفْعَ الْعَابِدِ مَقْصُورٌ عَلَى نَفْسِهِ وَنَفْعَ الْعَالِمِ مُتَجَاوِزٌ إلَى الْخَلَائِقِ حَتَّى النَّمْلَةِ، وَذَكَرَ النَّمْلَةَ؛ لِأَنَّ دَأْبَهَا الْقِنْيَةُ وَادِّخَارُ الْقُوتِ فِي جُحْرِهَا ثُمَّ التَّدَرُّجُ مِنْهَا إلَى الْحِيتَانِ وَإِعَادَةُ كَلِمَةِ الْغَايَةِ لِلتَّرَقِّي، وَلَا رُتْبَةَ فَوْقَ رُتْبَةِ مَنْ تَشْتَغِلُ الْمَلَائِكَةُ مَعَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِذَا لَا يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ، وَإِنَّهُ لَيُتَنَافَسُ فِي دَعْوَةِ رَجُلٍ صَالِحٍ فَكَيْفَ بِدُعَاءِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَمَّا إلْهَامُ الْحَيَوَانَاتِ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ فَقِيلَ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمَنَافِعِهِمْ، وَالْعُلَمَاءُ هُمْ الْمُبَيِّنُونَ الْحِلَّ، وَالْحَرَامَ وَيُوصُونَ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهَا وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهَا حَتَّى بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ فَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ شُكْرٌ لِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَشَرِ آكَدُ؛ لِأَنَّ احْتِيَاجَهُمْ إلَى الْعِلْمِ أَشَدُّ وَعَوْدَ فَوَائِدِهِ عَلَيْهِمْ أَعْظَمُ وَأَتَمُّ. (مج. عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَنْبِيَاءُ» - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثُمَّ الْعُلَمَاءُ» . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَفْظَةُ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ يُحْسِنُونَ إلَى النَّاسِ بِعِلْمِهِمْ الَّذِي أَفْنَوْا بِهِ نَفَائِسَ أَوْقَاتِهِمْ أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ بِوِلَايَةِ مَقَامِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِالشَّفَاعَةِ جَزَاءً وِفَاقًا «ثُمَّ الشُّهَدَاءُ» اتَّفَقُوا بِنَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى فَضْلِ الْعَالِمِ عَلَى الشَّهِيدِ لِأَنَّ كُلَّ عَامِلٍ إنَّمَا يَتَلَقَّى عَمَلَهُ مِنْ الْعَالِمِ فَهُوَ أَصْلُهُ وَأُسُّهُ وَعَكَسَ آخَرُونَ بِأَحَادِيثَ. قَالَ الزَّمْلَكَانِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَشْخَاصِ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ. فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ ثَبَتَ شَفَاعَةُ الصِّدِّيقِينَ، وَالصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمْ. قُلْنَا إنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِي لِمَا عَدَاهُ وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ بَلْ مُطْلَقُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا خُصُوصًا فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ إرْجَاعُ ذَلِكَ الْبَاقِي إلَى وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ. (طك) طَبَرَانِيٌّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا» يَحْصُلُ «الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»

بِالْكَسْبِ، وَالْأَخْذِ عَنْ الْأُسْتَاذِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ: أَيْ لَيْسَ الْعِلْمُ الْمُعْتَبَرُ إلَّا الْمَأْخُوذَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ وَتَعَلُّمُهُ طَلَبُهُ وَأَخْذُهُ عَنْهُمْ حَيْثُ كَانُوا فَلَا عِلْمَ إلَّا بِتَعْلِيمٍ مِنْ الشَّارِعِ أَوْ مِنْ نَائِبِهِ وَمَا تُفِيدُهُ الْعِبَادَةُ، وَالتَّقْوَى، وَالْمُجَاهَدَةُ، وَالرِّيَاضَةُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يُوَافِقُ الْأُصُولَ وَيَشْرَحُ الصُّدُورَ وَيُوَسِّعُ الْعُقُولَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَعَلَّمُوا فَأَحَدُكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُحْتَاجُ إلَيْهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَتَعَلَّمُ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُتَكَبِّرٌ. وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ قَالَ بِلِسَانٍ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ انْتَهَى. «وَ» إنَّمَا «الْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ» أَيْ التَّكَلُّفِ، وَالْإِتْعَابِ فِي تَحْصِيلِهِ لَا بِسُهُولَةٍ خِلَافَ مُتَوَهِّمِي جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ حُصُولِهِ بِلَا تَعَلُّمٍ بِنُورِ التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ أَيْ التَّفَهُّمُ بِقُوَّةِ نُورِ الْخُشُوعِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَالتَّقْوَى، لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ خَفَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إلَّا أَنْ يُقَالَ أَيْ الْعَمَلُ بِالْفِقْهِ وَكَمَالِ الْعَمَلِ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفِقْهِ، وَالِاسْتِقَامَةِ، وَالرِّعَةِ، وَالزُّهْدِ، وَالتَّقْوَى، وَالْخَوْفِ، وَالْخَشْيَةِ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا. «وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا» أَيْ كَامِلًا بَاعِثًا لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ «يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» عِلْمِ الشَّرِيعَةِ « {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] » سَوَاءٌ كَانَ خَوْفَ هَيْبَةٍ وَإِجْلَالٍ أَوْ خَوْفَ عَذَابٍ وَعِقَابٍ. وَالتَّخْصِيصُ بِالْأَوَّلِ كَمَا تُوُهِّمَ يَقْتَضِي أَمْنَ الْعُلَمَاءِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاَلَّذِينَ بُشِّرُوا بِالْجَنَّةِ بَعِيدٌ فَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مِنْ لَا خَشْيَةَ لَهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَعِلْمُهُ الصُّورِيُّ لَيْسَ بِعِلْمٍ حَقِيقَةً (بِرّ) ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. (عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَلَّمُوا» أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ «الْعِلْمَ» الزَّاجِرَ النَّافِعَ وَمَبَادِئَهُ إذْ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ وَشَرَائِطِهِ «فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى» الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ «خَشْيَةً» لَهُ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} [الأحزاب: 39] «وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ وَمُذَاكَرَتَهُ» بِأَغْرَاضٍ حَمِيدَةٍ وَأَسَالِيبَ مُرْضِيَةٍ، وَفَرْقُ الْمُذَاكِرَةِ مَعَ التَّعَلُّمِ، الْأَوَّلُ: مَعَ مَنْ عَلِمَ كَالْمُسَاوِي، وَالثَّانِي: لِمَنْ لَا يَعْلَمُ كَالْمُسْتَفِيدِ «تَسْبِيحٌ» إمَّا تَنْزِيهُ حَقِيقَةٍ كَمَا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ أَوْ تَنْزِيهُ مُشَابَهَةٍ ثَوَابًا كَمَا فِي الْعَمَلِيَّةِ. «، وَالْبَحْثَ» الْمُبَاحَثَةُ، وَالْمُنَاظَرَةُ لِمُجَرَّدِ إظْهَارِ الصَّوَابِ «عَنْهُ جِهَادٌ» ثَوَابُ جِهَادٍ فِي الْمَشَقَّةِ أَوْ فِي إعْلَاءِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْزَازِ كَلِمَتِهِ الْعُلْيَا، وَقِيلَ مُجَاهَدَةُ نَفْسٍ «وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ» ؛ لِأَنَّهُ بَذْلُ إحْسَانٍ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ ضَعِيفٌ مِنْ الْمُشَبَّهِ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ إذْ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرَةِ «وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ» إلَيْهِ تَعَالَى يَعْنِي زِيَادَةَ قُرْبَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَقِيلَ: قُرْبَةٌ إلَى الْأَهْلِ لِكَوْنِهِ صِلَةً لَهُ «لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ» أَيْ شَعَائِرُهُ وَعَلَامَتُهُ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُمَا مُنْحَصِرَةٌ بِالْعِلْمِ ( «وَمَنَارُ» وَهُوَ الْجَبَلُ وَمَا يُوضَعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ الْحُدُودِ وَمَحَجَّةِ الطَّرِيقِ وَمَوْضِعِ النُّورِ «سُبُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ» لِمَا فِيهِ مِنْ الْأُنْسِيَّةِ «وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ» عَنْ الْأَوْطَانِ، وَالْأَقْرَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» .

«وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ» أَيْ الْعُزْلَةِ عَنْ النَّاسِ إذْ حَالُ الصَّاحِبِ، وَالْأَنِيسِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ «وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ» أَيْ مُرْشِدٌ لِمَا يَسُرُّ الْعَبْدَ «، وَالضَّرَّاءِ» حَالَ الضَّرَرِ كَالْمَرَضِ فَيُعْلَمُ بِهِ الْمَنَافِعُ، وَالْمَضَارُّ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا «، وَالسِّلَاحُ» الَّذِي يَكُونُ آلَةً لِلْمُحَارِبَةِ، وَالْمُقَاتَلَةِ «عَلَى الْأَعْدَاءِ» دِينِيًّا كَالنَّفْسِ، وَالشَّيْطَانِ وَفَسَقَةِ الْإِنْسَانِ وَدُنْيَوِيًّا بِإِضْمَارِ الْحَسَدَةِ، وَالْمُبْغِضِينَ «وَالزَّيْنُ» ، وَالزِّينَةُ، وَالْهَيْئَةُ الْحَسَنَةُ «عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا» . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] «فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً» جَمْعُ قَائِدٍ دُعَاةً إلَيْهِ يَجْذِبُونَ النَّاسَ بِسَلَاسِلِ الْحُجَجِ، وَالْبَيِّنَاتِ إلَى نَعِيمِ الْجَنَّاتِ «وَأَئِمَّةً» جَمْعُ إمَامٍ «يُقْتَصُّ آثَارُهُمْ» فِي الْقَامُوسِ قَصَّ أَثَرَهُ قَصًّا وَقَصِيصًا تَتَبَّعَهُ أَيْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ ( «وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ» . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: فَعَالٌ كَسَحَابٍ اسْمُ الْفِعْلِ الْحَسَنُ، وَالْكَرَمُ «وَيُنْتَهَى» بِالْمَفْعُولِ أَيْ يُرْجَعُ «إلَى آرَائِهِمْ» فِي الْأَحْكَامِ، وَالْحَوَادِثِ، وَالْوَقَائِعِ «وَتَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ» أَيْ صُحْبَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ فَلَا يُفَارِقُونَهُمْ وَيُلْهِمُونَهُمْ الْخَيْرَ وَيُحَذِّرُونَهُمْ مِنْ الشَّرِّ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْخِلَّةُ بِالْكَسْرِ هِيَ الصَّدَاقَةُ، وَالْإِخَاءُ، وَالْخُلَّةُ أَيْضًا الصَّدِيقُ لِلذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْوَاحِدِ، وَالْجَمْعِ، وَالْخِلُّ بِالْكَسْرِ، وَالضَّمِّ الصَّدِيقُ الْمُخْتَصُّ أَوْ لَا يُضَمُّ إلَّا مَعَ وُدٍّ «وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ» حِفْظًا لَهُمْ وَتَعْظِيمًا بِهِمْ وَتَوْقِيرًا إيَّاهُمْ «يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ» قِيلَ رُوحَانِيٍّ «وَيَابِسٍ» جُسْمَانِيٍّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالْبَرِّيِّ، وَالْبَحْرِيِّ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ. فَقَوْلُهُ «وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ» أَيْ بَوَاقِي حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ إلَى آخِرِهِ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقَدْ عَرَفْت وَجْهَ التَّخْصِيصِ قَرِيبًا «وَسِبَاعُ الْبَرِّ» بِالْفَتْحِ ضِدَّ الْبَحْرِ ( «وَأَنْعَامُهُ» جَمْعُ نَعَمٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَقَدْ يُسَكَّنُ عَيْنُهُ، وَهِيَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ أَوْ خَاصٌّ بِالْإِبِلِ وَيُجْمَعُ عَلَى أَنَاعِيمَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ «لِأَنَّ الْعِلْمَ» الْمَقْرُونَ بِالْعَمَلِ، وَالْإِخْلَاصِ «حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنْ» مَوْتِ «الْجَهْلِ، وَمَصَابِيحُ الْأَبْصَارِ» يَعْنِي نُورَ الْأَبْصَارِ وَضِيَاءَهَا «مِنْ الظُّلَمِ» لِأَنَّ كُلَّ خَفِيٍّ يَنْكَشِفُ بِالْعِلْمِ. «يَبْلُغُ الْعَبْدُ بِالْعِلْمِ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ» جَمْعُ خَيِّرٍ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى كَثِيرِ الْخَيْرِ إمَّا لِلْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ أَوْ لِإِبْقَاءِ شَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ وَحْيِ اللَّهِ أَوْ بِالتَّدْرِيسِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَالْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ «وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا» بِكَوْنِهِ مُمْتَازًا وَمُعَظَّمًا عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ وَلِذَا تَرَى الْعَالِمَ الْعَامِلَ، وَالْمُتَقَاعِدَ لِلطَّاعَةِ وَجِيهًا مُحْتَرَمًا وَمُهَابًا مُحْتَشِمًا عِنْدَ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَوَاضِعًا حَلِيمًا. وَقَدْ يُظْهِرُ فِي يَدِهِ خَوَارِقَ بِالْكَرَامَاتِ الْعِيَانِيَّةِ، وَيَجْعَلُ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا خَادِمَةً لَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» وَجَعَلَ حُكْمَ مُهِينِهِ وَمُسْتَأْذِيهِ وَشَاتِمِهِ وَضَارِبِهِ

وَنَحْوِهَا مُمْتَازًا عَنْ أَحْكَامِ أَفْرَادِ النَّاسِ «، وَالْآخِرَةِ» بِالْعَفْوِ وَبِالْمَغْفِرَةِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَالْمَقَامِ الْعَلِيِّ فِي الْجَنَّةِ بَلْ مَقَامِ الْحَشْرِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «، وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ» فِي الْعِلْمِ الزَّاجِرِ لَا مُطْلَقِ الْعِلْمِ لَكِنْ بِالنِّيَّةِ الْمَحْمُودَةِ «يَعْدِلُ الصِّيَامَ» جَمْعُ صَوْمٍ يَعْنِي صَوْمًا كَثِيرًا الظَّاهِرُ أَنَّ قَلِيلَ التَّفَكُّرِ يَعْدِلُ كَثِيرَ الصَّوْمِ «وَمُدَارَسَتُهُ» قِرَاءَتُهُ عَلَى الْمَشَايِخِ «تَعْدِلُ الْقِيَامَ» قِيَامَ اللَّيَالِي بِالتَّهَجُّدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْفَضَائِلِ صَلَاةُ اللَّيْلِ. فَإِنْ قِيلَ قُرِّرَ فِي الْفِقْهِيَّةِ وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَرْجِيحُ الْعِلْمِ وَأَفْضَلِيَّتِهِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَالْمُعَادَلَةُ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ. قُلْنَا إمَّا الْمُرَادُ أَنَّ قَلِيلَ ذَلِكَ مُعَادِلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ ذَاكَ كَمَا أُشِيرَ أَوْ أَنَّ ذَاكَ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ زَادَ فَضْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذِهِ أَوْ أَعْمَالٌ أَوْ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ الْعَوَامّ، وَالْخَوَاصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَاخْتِلَافِ عُلُومِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ «بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ» بِأَدَاءِ حُقُوقِهِمْ مِنْ النَّفَقَةِ، وَالْكِسْوَةِ، وَالزِّيَادَةِ وَأَدَاءِ الْحَاجَاتِ وَسَائِرِ الْإِحْسَانِ الْفَاضِلَةِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ، وَحُكْمُهُ مِنْ الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ وَقُوَّةِ أَثَرِهِ مِنْ الثَّوَابِ، وَالْمَرْحَمَةِ إنَّمَا يُعْلَمُ بِالْعِلْمِ «وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ، وَالْحَرَامُ» تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْحَصْرِ، وَفِيهِ قَصْرُ مَعْرِفَةِ الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ دُونَ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ الَّتِي سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ مِنْ ادِّعَاءِ الْأَخْذِ عَنْ النَّبِيِّ أَوْ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةِ شَيْءٍ وَلَا مُرَاجَعَةِ كِتَابٍ بَلْ نَبِيٍّ «وَهُوَ» أَيْ الْعِلْمُ «إمَامُ الْعَمَلِ» لِتَبَعِيَّةِ الْعَمَلِ وَتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُهُ «، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ» ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَمَلِ الشَّهَادَةُ فَتَدَبَّرْ. «يُلْهَمُهُ» بِالْمَفْعُولِ أَيْ يُلْهِمُ اللَّهُ تَعَالَى حُذِفَ الْفَاعِلُ لِلتَّعَيُّنِ «السُّعَدَاءُ» مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى «وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءُ» يَعْنِي مَنْ لَمْ يُرْزَقْ الْعِلْمَ فَمِنْ الْأَشْقِيَاءِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ الْأَزَلِيَّةُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أَبَا ذَرٍّ لَأَنْ تَغْدُوَ» وَاَللَّهِ لَأَنْ تَغْدُوَ خَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ اقْتَضَى كَمَالَ الْعِنَايَةِ بِمُوجِبِ الْحُكْمِ لِقُوَّةِ الْفَضْلِ وَزِيَادَةِ الشَّرَفِ أَوْ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى مُسَارَعَتِهِ أَيْ تَذْهَبُ فِي وَقْتِ الْغُدْوَةِ بِالضَّمِّ الْبَكْرَةِ أَوْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ كَالْغَدَاةِ قِيلَ تَخْصِيصُهُ بِهَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَوْقَاتِ، وَمَحَلُّ نُزُولِ الْبَرَكَاتِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِتَقْدِيمِهِ عَلَى سَائِرِ أُمُورِهِ وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى شَوْقِهِ، وَحِرْصِهِ «فَتَعَلَّمَ» أَيْ تَتَعَلَّمَ «آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ» . فِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْأَتْعَابِ، وَالتَّكَلُّفِ فِي تَحْصِيلِهِ وَيُنَاسِبُهُ عِظَمُ هَذَا الْأَجْرِ عَلَى وَفْقِ أَجْرِكُمْ بِقَدْرِ تَعَبِكُمْ فَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِمَنْ أَتْعَبَ فِي تَحْصِيلِهِ وَتَحْرِيضٌ وَتَرْغِيبٌ عَلَى الْكَدِّ، وَالْمِحَنِ فِي حُصُولِهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى مُتَّحِدٌ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً وَمِنْ الْوَاحِدَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُتَعَارَفَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ طَائِفَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَوْ مَا دُونَ آيَةٍ وَأَنْ يَكُونَ لِتَحْصِيلِهِ أَصْلَ قِرَاءَتِهِ أَوْ لِتَرْتِيلِهِ أَوْ تَجْوِيدِهِ وَوُجُوهِ قِرَاءَتِهِ وَلِتَحْصِيلِ مَعَانِيه اللُّغَوِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالشَّرْعِيَّةِ الْمُرَادِيَةِ فَإِذَا كَانَ حَالُ الْوَاحِدَةِ كَذَلِكَ فَحَالُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى مُقَاسَاةِ مَا ذُكِرَ كَذَلِكَ «خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ مِنْ النَّوَافِلِ» الظَّاهِرُ أَيُّ نَافِلَةٍ كَانَتْ وَلَوْ صَلَاةَ تَهَجُّدٍ بَلْ صَلَاةَ تَسْبِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالتَّخْصِيصُ بِلَا مُخَصِّصٍ خِلَافُ الْأَصْلِ وَأَمَّا التَّقْيِيدُ

بِالنَّوَافِلِ فَبِدَلَالَةِ شَوَاهِدِ الشَّرْعِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَرَفْعُ هَذَا الْقَيْدِ لَازِمٌ أَيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقَارِئِ لِلثَّوَابِ دُونَ قِرَاءَتِهِ لِلتَّعَلُّمِ لَعَلَّ ذَلِكَ لِلْأَتْعَابِ أَوْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لِقِرَاءَتِهِ بَعْدَهُ لِلثَّوَابِ أَوْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي هُوَ الْمُتَعَدِّي فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مُجَازَاةِ فَضْلِ مُعَلِّمٍ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى أَوْ بِالْمُسَاوَاةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ «وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا» نَوْعًا «مِنْ الْعِلْمِ» ، وَفِي إيثَارِ لَفْظِ النَّوْعِ إشَارَةٌ إلَى الْكَثْرَةِ الشَّخْصِيَّةِ وَقِيلَ: إشَارَةٌ إلَى لُزُومِ جَمِيعِ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَشَرَائِطِهَا كَمَسْأَلَةِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِجَمِيعِ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا بِتَفَاصِيلِ أَبْحَاثِهَا صِحَّةً وَفَسَادًا، لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ. «عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ» يَعْنِي سَوَاءٌ مِمَّا عَمِلَ هُوَ أَوْ مِمَّا لَمْ يَعْمَلْ كَتَعَلُّمِ الْفَقِيرِ مَسَائِلَ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالرَّجُلِ مَسَائِلَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ أَوْ الصِّيغَتَانِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ الْغَيْرِ أَوْ كَانَ الْعِلْمُ مِنْ الْفَضَائِلِ، وَالنَّوَافِلِ وَلَمْ يَعْمَلْ الْمُتَعَلِّمُ بِهِ أَوْ يَعْمَلْ وَلَمْ يَسْتَدِمْ وَلَمْ يَسْتَغْرِقْ أَوْقَاتَهُ بِإِتْيَانِ تِلْكَ النَّوَافِلِ «خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ» لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مُتَعَدِّيَةً وَتِلْكَ قَاصِرَةٌ وَإِنَّ التَّعَلُّمَ اسْتِحْصَالُ وِرَاثَةِ النُّبُوَّةِ وَاسْتِحْفَاظُ أَسْرَارِ شَرِيعَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ حِكْمَةُ إنْزَالِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَمَصْلَحَةُ إرْسَالِ الرُّسُلِ الرَّبَّانِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي يَدُومُ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بَقَاءُ الدُّنْيَا كَمَا أُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنْ اسْتَقَامَتْ أُمَّتِي فَلَهَا يَوْمٌ وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِمْ فَلَهَا نِصْفُ يَوْمٍ» لَا يَخْفَى مَا فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ عَلَى الْعَمَلِ. وَقِيلَ هَذَا مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ لِلْعِلْمِ، لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ خِطَابَ الرَّسُولِ لِلْوَاحِدِ خِطَابٌ لِلْجَمَاعَةِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً وَأَنَّ أَبَا ذَرٍّ مِنْ أَعْيَانِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ خَامِسٌ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ زُهَّادِهِمْ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ ذَاكَ رَجُلٌ وَعَى عِلْمًا عَجَزَ عَنْهُ النَّاسُ ثُمَّ أَوْكَأَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا مِنْهُ وَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَصْدَقُكُمْ أَبُو ذَرٍّ» . «وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ أَوْصَانِي خَلِيلِي - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسِتٍّ: حُبِّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ أَنْظُرَ إلَى مَا هُوَ تَحْتِي وَلَا أَنْظُرَ إلَى مَا هُوَ فَوْقِي، وَأَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا وَأَنْ لَا تَأْخُذَنِي فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ» . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مَا انْبَسَطْتُمْ إلَى نِسَائِكُمْ وَلَا تَقَارَرْتُمْ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَاَللَّهِ لَوَدِدْت أَنَّ اللَّهَ خَلَقَنِي يَوْمَ خَلَقَنِي شَجَرَةً تُعْضَدُ، وَيُؤْكَلُ ثَمَرُهَا، وَقِيلَ لَهُ اتَّخَذَ ضَيْعَةً كَفُلَانٍ وَفُلَانٍ قَالَ وَمَا أَصْنَعُ أَنْ أَكُونَ أَمِيرًا وَإِنَّمَا يَكْفِينِي كُلَّ يَوْمٍ شَرْبَةَ مَاءٍ أَوْ لَبَنٍ، وَفِي الْجُمُعَةِ قَفِيزًا مِنْ قَمْحٍ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا فِي التتارخانية «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» . «الْإِيمَانُ عُرْيَانٌ فَلِبَاسُهُ التَّقْوَى وَزِينَتُهُ الْحَيَاءُ وَثَمَرَتُهُ الْعِلْمُ» . «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ وَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ وَعِمَادُ هَذَا الدِّينِ الْفِقْهُ» . «خَيْرُ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْفِقْهُ» . «مَوْتُ قَبِيلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِ عَالِمٍ» . «مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّهُ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» . «الْعَالِمُ أَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عُتَقَاءِ اللَّهِ مِنْ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إلَى الْعُلَمَاءِ، وَالْمُتَعَلِّمِينَ» . «خَمْسٌ مِنْ النَّظَرِ عِبَادَةٌ: النَّظَرُ إلَى الْأَبَوَيْنِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ فِي زَمْزَمَ عِبَادَةٌ يَحُطُّ الْخَطَايَا حَطًّا، وَالنَّظَرُ إلَى الْعَالِمِ عِبَادَةٌ» . «وَمَنْ أَحَبَّ الْعِلْمَ، وَالْعُلَمَاءَ لَا تُكْتَبُ خَطِيئَةُ أَيَّامِ حَيَاتِهِ» ، «يَبْعَثُ اللَّهُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُمَيِّزُ الْعُلَمَاءَ فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إنِّي لَمْ أَضَعْ فِيكُمْ عِلْمِي إلَّا لِعِلْمِي بِكُمْ فَلَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ لِأُعَذِّبَكُمْ انْطَلِقُوا فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ» ، «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَقِّرُوا عَبْدًا أَنِّي آتَيْته عِلْمًا فَإِنِّي لَمْ أُحَقِّرْهُ حِينَ عَلَّمْته» ، «جُلُوسُ سَاعَةٍ عِنْدَ مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا وَخَيْرٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ وَخَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ فَرَسٍ يَغْزُو بِهَا الْمُؤْمِنُ» . «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ، «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ» . «مَا آتَى اللَّهُ عَالِمًا عِلْمًا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ

مِنْ الْمِيثَاقِ كَمَا أَخَذَ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يُبَيِّنَهُ وَلَا يَكْتُمَهُ» ، «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . «مَنْ تَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ أُعْطِيَ ثَوَابَ سَبْعِينَ نَبِيًّا صِدِّيقًا» . (الْآثَارُ) عَلَى مَا فِيهَا أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُك وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزَّ مِنْ الْعِلْمِ إلَى آخِرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُيِّرَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد بَيْنَ الْعِلْمِ، وَالْمَالِ، وَالْمُلْكِ فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ الْمَالَ، وَالْمُلْكَ مَعَهُ. قَالَ الْحَسَنُ يُوزَنُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ بِدَمِ الشُّهَدَاءِ فَيَرْجَحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَمِ الشُّهَدَاءِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ لَأَنْ أَتَعَلَّمَ مَسْأَلَةً أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ الْعَالِمُ، وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيكَانِ فِي الْخَيْرِ وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِمْ كُنَّ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا وَلَا تَكُنْ الرَّابِعَ فَتَهْلِكَ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ فَعُمِلَ بِهِ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ ذَلِكَ الْعَمَلِ انْتَهَى. (أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ) الدَّالَّةُ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ (فِي الْخُلَاصَةِ سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمُتَفَقِّهَةِ هِيَ أَفْضَلُ أَمْ دَرْسُ الْفِقْهِ) تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَمُطَالَعَةً. (قَالَ حُكِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ) بَلْدَةٌ مِنْ قُرْبِ بُخَارَى (أَنَّهُ قَالَ: النَّظَرُ) أَيْ التَّأَمُّلُ كَالْمُطَالَعَةِ (فِي كُتِبَ أَصْحَابِنَا) الْفُقَهَاءِ (مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ) مُدَارَسَةً (أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ) الَّذِي يَكُونُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ التَّهَجُّدِ. اعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِمَّا فِي النَّهَارِ وَقِرَاءَتُهُ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِي اللَّيْلِ. وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَعْدِلُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ قَائِمًا مِائَةَ حَسَنَةٍ وَجَالِسًا خَمْسِينَ وَإِنْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ عَلَى وُضُوءٍ فَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَعَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَعَشْرٌ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ قِيَامُهُ بِالصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِقِرَاءَةٍ فَيَكُونُ حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ مُطَالَعَةَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ فَضْلًا عَنْ دِرَاسَتِهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ فِي الصَّلَاةِ وَيَكُونُ فِي اللَّيْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدِّرَاسَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُطَالَعَةِ فَبَيْنَ الدِّرَاسَةِ الْفِقْهِيَّةِ وَمُطْلَقِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَرَاتِبُ فِي الْفَضْلِ. وَلَا يَخْفَى عَلَى هَذَا مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَأَحْكَمِ أُسْلُوبٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الدَّرْسِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالْجَوَابَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَمُطَالَعَةَ الْكُتُبِ فَلَا مُطَابَقَةَ وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لَعَلَّ وَجْهَ الْفَضْلِ أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ ثَمَرَاتُ الْقُرْآنِ وَنَتَائِجُهُ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَثَوَابِ التِّلَاوَةِ لِمُجَرَّدِ التَّبَرُّكِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ عِبَادَةٌ قَاصِرَةٌ، وَالْمُطَالَعَةَ مُتَعَدِّيَةٌ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُطَالَعَةُ لِأَجْلِ الدِّرَاسَةِ. وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سَمَاعٍ وَكَذَا دَرْسُ الْفِقْهِ لِلْفَقِيهِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَفِي التتارخانية النَّظَرُ فِي الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] خَمْسَةَ آلَافِ مَرَّةً. (وَعَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْفَقِيهِ هَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ التَّسْبِيحِ) الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ نَوَافِلِ الصَّلَوَاتِ، وَالصَّلَاةُ النَّافِلَةُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْفَضَائِلِ مِنْ الْعِبَادَاتِ. (قَالَ) فِي الْجَوَابِ (تِلْكَ) صَلَاةُ التَّسْبِيحِ (طَاعَةُ الْعَامَّةِ) الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَفْضَلِ الطَّاعَاتِ وَأَمَّا الْخَوَاصُّ أَيْ الْقَادِرُونَ عَلَى اشْتِغَالِ الْفِقْهِ مُطَالَعَةً أَوْ تَدْرِيسًا أَوْ إفْتَاءً فَطَاعَتُهُمْ بَعْدَ الْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ الِاشْتِغَالُ بِالْفِقْهِ بَلْ قَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَالْمُضَايَقَةِ كَمَا فِي الدُّرَرِ (فَقِيلَ لَهُ) : عَلَى طَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَالْمُقَابَلَةِ (فَلِأَنَّ الْفَقِيهَ يُصَلِّي صَلَاةَ التَّسْبِيحِ، قَالَ) جَوَابًا لَهُ (هُوَ) أَيْ ذَلِكَ الْمُصَلِّي صَلَاةَ التَّسْبِيحِ (عِنْدِي

مِنْ الْعَامَّةِ) حَيْثُ تَرَكَ الْأَفْضَلَ مَعَ إمْكَانِهِ وَفَعَلَ الْمَفْضُولَ بِلَا دَاعِيَةٍ. وَجْهُ الْفَضْلِ مَا عَرَفْت آنِفًا لَكِنْ يَشْكُلُ كَمَا عَرَفْتَ سَابِقًا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعُلُومِ كُلِّهَا هُوَ الْأَعْمَالُ، وَالْعُلُومُ وَسَائِلُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ثَوَابَ الِاشْتِغَالِ بِالْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْغَيْرِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ بِذَلِكَ وَظَاهِرُ السَّوْقِ هُوَ الِانْطِلَاقُ فَتَأَمَّلْ. (انْتَهَى) كَلَامُ الْخُلَاصَةِ (وَفِي التَّجْنِيسِ) لِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ الْإِمَامِ الْفَرْغَانِيِّ (الرَّجُلُ) وَكَذَا الْمَرْأَةُ (إذَا تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ) مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ وَوَاجِبُهَا بَلْ سُنَنُهَا عَلَى مَا حُرِّرَ فِي الْفِقْهِيَّة (وَلَمْ يَتَعَلَّمْ الْكُلَّ) كُلَّ الْقُرْآنِ (فَإِذَا وَجَدَ) ذَلِكَ الرَّجُلُ (فَرَاغًا) أَيْ وَقْتًا خَالِيًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ وَكَذَا مِنْ اكْتِسَابِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ (كَانَ تَعَلُّمُ) بِوَاقِي (الْقُرْآنِ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ) وَلَوْ صَلَاةَ التَّسْبِيحِ (لِأَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ) سَوَاءٌ مِنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ أَوْ مِنْ الْمُصْحَفِ صَحِيحًا مُجَوَّدًا (عَلَى الْأُمَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَرْضَ وَلَوْ كِفَايَةً أَفْضَلُ مِنْ النَّفْلِ وَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُقِيمُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ فَضْلًا وَكَانَ مُسْقِطًا عَنْ الْغَيْرِ الْوُجُوبَ فَكَأَنَّهُ أَحْرَزَ الْفَضِيلَتَيْنِ وَوُجُودُ الْغَيْرِ عَلَى خَطَرِ الزَّوَالِ بِالْمَوْتِ أَوْ النِّسْيَانِ مَثَلًا (وَتَعَلُّمُ الْفِقْهِ) زَائِدًا عَلَى مَا لَزِمَ عَلَيْهِ (أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ) لِمَا ذُكِرَ أَيْضًا مِنْ كَوْنِهِ غَايَةَ الْقُرْآنِ وَنِهَايَةَ حِكْمَةِ نُزُولِ الْفُرْقَانِ وَفَائِدَةَ مَصْلَحَةِ النُّبُوَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَأَيْضًا التَّعْدِيَةَ وَعُمُومَ النَّفْعِ وَعِظَمَ الْقَدْرِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى رُتْبَةِ وِرَاثَةِ النُّبُوَّةِ (انْتَهَى) مَا فِي التَّجْنِيسِ. (وَفِيهِ) فِي التَّجْنِيسِ (أَيْضًا طَلَبُ الْعِلْمِ) الشَّرْعِيِّ (، وَالْفِقْهِ) أَيْ الْفَهْمِ، وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ (وَالْعَمَلِ بِهِ إذَا صَحَّتْ النِّيَّةُ) بِنَحْوِ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَعَالَى وَتَحْصِيلِ رِضَاهُ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى غَيْرِهِ (أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ) بِالْكَسْرِ الطَّاعَاتِ كَنَوَافِلِ الصَّلَاةِ (لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا عُبِدَ اللَّهُ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ» إنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ كَثِيرٌ مَعَ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ لَا يَنْفَعُ مَعَ الْجَهْلِ فَصِحَّةُ الْعَمَلِ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ إنَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُك مَعَهُ قَلِيلُ الْعَمَلِ وَكَثِيرُهُ وَإِنَّ الْجَهْلَ لَا يَنْفَعُك مَعَهُ قَلِيلُ الْعَمَلِ وَلَا كَثِيرُهُ» . فَإِنْ قِيلَ: إنَّ لِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ مُعَارَضَاتٍ كَثِيرَةً نَحْوَ حَدِيثِ «إنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» . وَحَدِيثِ «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الدُّعَاءُ» وَحَدِيثُ «أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» وَقَدْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَفْضَلُ الْعِبَادِ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا» . وَفِيهِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَرَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ بَلْ هُوَ كَالْحَيَاةِ لَلْأَبَدَانِ، وَالرُّوحِ لِلْإِنْسَانِ وَهَلْ لِلْإِنْسَانِ غِنًى عَنْ الْحَيَاةِ وَهَلْ لَهُ عَنْ الرُّوحِ مَعْدِلٌ وَإِنْ شِئْت قُلْت بِهِ بَقَاءُ الدُّنْيَا، وَقِيَامُ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضِ. قُلْنَا أَوَّلًا نَحْنُ مُقَلِّدُونَ وَحُجَّتُنَا هِيَ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ وَكُلُّ مَا خَالَفَ لِنَصِّ أَقْوَالِهِمْ فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِهَا لَا بِهِ وَلَا جَائِزَ أَنَّ هَذَا النَّصَّ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ كَمَا لَا جَوَازَ فِي الْحَمْلِ عَلَى عَدَمِ اطِّلَاعِ مَعَانِيه فَالْحَدِيثُ الَّذِي وَافَقَ عَلَى قِيَاسِهِمْ لَا سِيَّمَا وَقَعَ فِي احْتِجَاجِهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ أَوْ الْعَمَلَ فَأَفْضَلُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ إضَافِيٌّ يَعْنِي دُونَ فَضْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ سَمِعْت أَيْضًا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْأَوْقَاتِ. وَقِيلَ فِي تَعَارُضِ حَدِيثِ الصَّلَاةِ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الْفِعْلِيَّةِ وَهَذَا عَامٌّ لَهَا وَلِغَيْرِهَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ. (وَلِأَنَّهُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِقَوْلِهِ (أَعَمُّ نَفْعًا؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ) بِالْعَمَلِ

(وَإِلَى غَيْرِهِ) بِالتَّعْلِيمِ، وَالْإِفْتَاءِ، وَالْعِظَةِ، وَالْقَضَاءِ (وَنَفْعَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ يَرْجِعُ إلَى الْعَامِلِ خَاصَّةً) يَعْنِي نَفْعَ سَائِرِ الْأَعْمَالِ لَا يَرْجِعُ إلَّا إلَى عَامِلِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَكُونُ نَفْعُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَكُونُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى احْتِمَالِ كَوْنِ مَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ قَوِيًّا عَمَّالَهُ وَلِغَيْرِهِ مَعًا لِتَسَاوِي احْتِمَالِ الْعَكْسِ فِيهِ أَيْضًا لَكِنْ يَشْكُلُ بِمِثْلِ حَدِيثِ: مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً إذْ الْآتِي بِمِثْلِ عَمَلِ الْعَامِلِ لِأَجْلِ رُؤْيَتِهِ مِنْهُ يُؤْجَرُ الْعَامِلُ مِثْلَ أَجْرِ ذَلِكَ الْآتِي فَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا أَيْضًا نَعَمْ قَلِيلٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ بَلْ طَبِيعَةٌ لَهُ وَعَارِضٌ لِلْعَمَلِ فَافْهَمْ. وَأَمَّا إثَابَةُ دَالِّ الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ فَلَا يَبْعُدُ إرْجَاعُهُ إلَى الْعِلْمِ كَالتَّعْلِيمِ (قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ) صَاحِبُ الْهِدَايَةِ (عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) مِنْ الْخَطَأِ، وَالزَّيْغِ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَقْوَالِ سِيَّمَا فِي هَذَا الْقَوْلِ (وَكَذَا الِاشْتِغَالُ بِالزِّيَادَةِ) مِنْ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ (بَعْدَمَا تَعَلَّمَ قَدْرَ مَا يَحْتَاج إلَيْهِ أَفْضَلُ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ هَذَا السَّوْقِ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فَإِذًا لَا فَضْلَ فِي الْعَمَلِ أَصْلًا، وَقَدْ قَالَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ. حَاصِلُهُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا طَلَبُ الْعِلْمِ إلَى آخِرِهِ عُلِمَ الْحَالُ فَلَا نُسَلِّمُ حُصُولَ أَصْلِ الْفَضْلِ فِي الْعَمَلِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أُرِيدَ وَرَاءَ عِلْمِ الْحَالِ فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ وَكَذَا الِاشْتِغَالُ. . . إلَخْ إذْ هُوَ حِينَئِذٍ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ (إذَا كَانَ لَا يَدْخُلُ النُّقْصَانُ فِي فَرَائِضِهِ) وَكَذَا الْوَاجِبَاتُ، وَالسُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَهُ الْقَصْرُ بِالْفَرَائِضِ، وَالْأَوْلَى التَّعْمِيمُ. (وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا قُلْنَا) مِنْ نَفْعِ الْغَيْرِ أَيْضًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» لَا مَا زَعَمَ بَعْضُ الزُّهَّادِ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا مَقْصُودَةً أَصْلِيَّةً، وَالْعِلْمُ وَسِيلَةٌ وَلِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَا يَحْصُلُ الْحَالَاتُ السَّنِيَّةُ مِنْ مُشَاهَدَاتِ الْأَنْوَارِ وَرُؤْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِبَارِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي: لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّفْيِ مِنْ دَلِيلٍ وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِثْبَاتِ فَمُعَارَضٌ بِمِثْلِهَا بِأَدِلَّةِ النَّفْيِ كَمَا سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ غَايَتُهُ مَا أُشِيرَ أَيْضًا أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ هُوَ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ وَلَا مَدْخَلَ لِدِرَايَةِ الْغَيْرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. لَكِنَّ قَائِلَ هَذَا الْحُكْمِ هُوَ الْمُتَصَوِّفَةُ، وَقَدْ كَثُرَ فِيهِمْ الْمُجْتَهِدُ كَالْغَزَالِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ عَلَى أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ مِمَّا اخْتَصَّ فَهْمُهُ بِالْمُجْتَهِدِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعَالِمِ حَظٌّ فِيهِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَتَقَاعَدُ لِلْعَمَلِ بَعْدَ تَحْصِيلِ عِلْمِ الْحَالِ وَمِنْ يَتَقَاعَدُ لَهُ بَعْدَ تَحْصِيلِ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَكَلَامُ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي الثَّانِي فَقَطْ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي الْأَوَّلِ لَكِنْ حِينَئِذٍ لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَالسَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ الْفَاتِرِ أَنَّ مَنْ لَا يَأْخُذَ ذَوْقًا مِنْ الْعِلْمِ لِغَبَاوَتِهِ مَثَلًا فَالْأَفْضَلُ لَهُ الْعَمَلُ وَمِنْ لَا يَأْخُذُ ذَوْقًا مِنْ الْعَمَلِ كَذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ لَهُ الْعِلْمُ كَمَا يَقْرَبُ إلَيْهِ كَلَامُ الْبَزَّازِيِّ بَعْضَ الْقُرْبِ. (وَصِحَّةُ النِّيَّةِ) الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا فِي التَّعَلُّمِ (أَنْ يَطْلُبَ بِهِ) بِطَلَبِ الْعِلْمِ (وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى) رِضَاهُ (وَ) نَجَاةَ (الدَّارِ الْآخِرَةِ) وَثَوَابَهَا (وَلَا يَنْوِي بِهِ طَلَبَ الدُّنْيَا) كَالْجَاهِ، وَالْمَنَاصِبِ وَجَلْبِ الْمَالِ، وَالتَّعَزُّزِ بَيْنَ الْأَقْرَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ (وَقِيلَ إذَا أَرَادَ) طَالِبُ الْعِلْمِ (أَنْ يُصَحِّحَ نِيَّتَهُ يَنْوِي الْخُرُوجَ مِنْ الْجَهْلِ وَمَنْفَعَةَ الْخَلْقِ) بِالتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ، وَالْخَطَابَةِ لَهُمْ سِيَّمَا عَدَمُ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ (وَإِحْيَاءَ الْعِلْمِ) بَقَاءَهُ

سِيَّمَا عِنْدَ نُدْرَةِ أَهْلِهِ (انْتَهَى) كَلَامُ التَّجْنِيسِ لَا كَلَامَ قَبْلُ كَمَا تُوُهِّمَ لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْخُرُوجِ، وَالْمَنْفَعَةِ لَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخِرَةُ فَإِنْ أُرِيدَ الْإِطْلَاقُ فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهَا نِيَّةً مُقَيَّدَةً وَإِنْ أُرِيدَ التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ فَرَاجِعٌ إلَيْهِ لَعَلَّ لِهَذَا مَرَضِهِ فَأُخِّرَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلِ وَبِمَا ذُكِرَ عَرَفْت عَدَمَ اتِّحَادِهِمَا بَلْ تَلَازُمَهُمَا كَمَا تَوَهَّمَ. (وَفِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ) لِمُزَاحَمَةِ الْغَوَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ وَمُعَارَضَةِ الْأَوْهَامِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ (فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ) لِأَجْلِ عَدَمِ الْخُلُوصِ إذْ ضَرَرُ الْجَهْلِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ عَدَمِ خُلُوصِ النِّيَّةِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ تَعَارُضِ الضَّرَرَيْنِ ارْتِكَابُ الْأَخَفِّ كَمَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْمَفْسَدَتَيْنِ كَذَلِكَ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ (لِأَنَّهُ إذَا تَعَلَّمَ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ يُرْجَى) وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ (أَنْ يُصَحِّحَ الْعِلْمُ) فَاعِلُ يُصَحِّحُ (نِيَّتَهُ) فَإِنَّ الْعِلْمَ إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ وَخُلِّيَ وَطَبْعُهُ يَنْفِي الْمَفَاسِدَ. وَالْمَانِعُ أَمْرٌ عَرَضِيٌّ فَعَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ (قَالَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) تَأْيِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ إذْ هُوَ مِنْ التَّابِعِينَ يَصْلُحُ كَلَامُهُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَنَا سِيَّمَا فِيمَا لَا يُعْلَمُ خِلَافُ غَيْرِهِ وَقَدْ كَانَ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ كَمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ (طَلَبْنَا الْعِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النِّيَّةِ) يَعْنِي لَيْسَ لَنَا عِنْدَ طَلَبِ الْعِلْمِ نِيَّةٌ كَامِلَةٌ تَامَّةٌ مَحْمُودَةٌ أَيْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى تَصْفِيَةِ نِيَّتِنَا فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ أَوْ لَيْسَ لَنَا نِيَّةٌ حَمِيدَةٌ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ (ثُمَّ رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ) فِي الْعِلْمِ (تَصْحِيحَ النِّيَّةِ) بِقُوَّةِ الْعِلْمِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا هُوَ لَهُ أَوْ بِمُقَاسَاةِ الْغَيْرِ وَبِتَجْرِبَةِ عَدَمِ ثَمَرَتِهِ أَوْ بِبُلُوغِ السِّنِّ إلَى رُتْبَةِ الِانْحِطَاطِ الَّتِي يَنْتَهِي عِنْدَهَا تَوَقُّدُ نِيرَانِ آمَالِهِ وَتَنْطَفِئُ سَوْرَةُ أَمَانِيه (انْتَهَى وَفِيهِ) أَيْ الْبُسْتَانِ. (قَالَ بَعْضُهُمْ) سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ (تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى) امْتَنَعَ (الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى) الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ فِي فَأَبَى بِمَعْنَى ثُمَّ إذْ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْإِبَاءَ لَيْسَ فِي فَوَرَانِ حُصُولِ الْعِلْمِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ سِيَّمَا عَنْ مِثْلِ سُفْيَانَ لَكِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْوِجْدَانِيَّاتِ تَصْلُحُ حُجَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الظَّنِّيَّةِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْمِيزَانِيَّةِ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِمَّنْ يَحْسُنُ بِهِ الظَّنُّ لِعِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ وَرِيَاضَتِهِ مِنْ الْخَطَابَةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا تَرْغِيبُ الْجُمْهُورِ إلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ وَكَذَا تَنْفِيرُ الشَّرِّ وَسُفْيَانُ مِنْ كِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ وَعُظَمَاءِ الصُّوفِيَّةِ (وَالظَّاهِرُ) مِنْ قَوْلِ هَذَا الْبَعْضِ تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ (أَنَّ مُرَادَهُ) بِالْعِلْمِ عَلَى مَا قِيلَ لَعَلَّ الْحَقَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِ الْبُسْتَانِ فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ إلَى آخِرِهِ. قَالَ الْمُحَشِّي فِي فَائِدَةِ هَذَا الْقَوْلِ: لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْفَقِيهِ شَامِلًا لِكُلِّ عِلْمٍ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ كَذَلِكَ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ إعْلَامَ مُرَادِهِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْخَبْطِ مَنْ كَانَ قَاصِرَ النَّظَرِ. قَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَدَمُ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ فِي غَيْرِ الْعُلُومِ الزَّاجِرَةِ فَالْأَفْضَلِيَّةُ فِي جَانِبِ التَّرْكِ. أَقُولُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ غَيْرِ الزَّاجِرَةِ مُقَدَّمَاتِ تِلْكَ الزَّاجِرَةِ وَمَبَادِئِهَا كَالْعَرَبِيَّةِ فَقَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ كَذَلِكَ مَمْنُوعٌ وَأَنَّ غَيْرَهَا كَالْفَلْسَفِيَّاتِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُلُّ عِلْمٍ يَصِحُّ بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ إذْ بَعْضُهُ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً وَلَا يَكُونُ صَلَاحُهُ بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ. (الْعُلُومُ الزَّاجِرَةُ) الْفِقْهُ، وَالتَّصَوُّفُ وَالتَّفْسِيرُ، وَالْحَدِيثُ، وَالتَّخْصِيصُ بِغَيْرِ الْأَوَّلِ كَمَا تُوُهِّمَ مَعَ عَدَمِ اسْتِقَامَتِهِ فِي نَفْسِهِ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْفِقْهِ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى قَوْلِهِ: (بِدَلِيلِ قَوْلِهِ) أَيْ قَوْلِ الْبُسْتَانِ (فِيمَا سَبَقَ) لَا هُنَا بَلْ فِي كِتَابِهِ فَلَعَلَّ أَنَّ مُعْظَمَ مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ

مِنْ ذِكْرِهِ نَقْدَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْفَوَائِدِ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ رُجُوعُ ضَمِيرِ قَوْلِهِ إلَى الْبَعْضِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَمَقُولُ الْقَوْلِ قَوْلُهُ (وَإِذَا أَخَذَ الْإِنْسَانُ حَظًّا) نَصِيبًا (وَافِرًا) وَقِيلَ الْمَقُولُ قَوْلُهُ هُنَا فَإِنَّهُ يُرْجَى أَنْ يُصَحِّحَ الْعِلْمَ. وَقَوْلُهُ وَإِذَا أَخَذَ لَيْسَ مِنْ الْبُسْتَانِ بَلْ مِنْ الْمُصَنِّفِ (مِنْ الْفِقْهِ) وَرَاءَ الْحَاجَةِ (يَنْبَغِي) قِيلَ يَجِبُ، وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ لَعَلَّ الثَّانِيَ هُوَ الْحَقُّ إذْ عِلْمُ نَحْوَ عِلْمِ الزُّهْدِ بَعْدَ الْفِقْهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ (أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْفِقْهِ) فَقَطْ إذْ رُبَّمَا يُوقِعُهُ فِي الْغَفْلَةِ (وَلَكِنْ يَنْظُرُ) بِتَأَمُّلٍ (فِي عِلْمِ الزُّهْدِ) أَيْ التَّصَوُّفِ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَحْوَالُ الْقُلُوبِ مِنْ الذَّمِيمَةِ أَوْ الْحَمِيدَةِ فَيَزْهَدُ عَنْ الدُّنْيَا، وَيَرْغَبُ فِي الْأُخْرَى. (وَفِي كَلَامِ الْحُكَمَاءِ) الْمُشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ خَلَصَ بِاَللَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» وَهِيَ عُلُومُ الْحَقَائِقِ الْإِلَهِيَّة، وَالْإِلْهَامِ لَا عُلُومُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ حُكَمَاءَ. وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ بَلْ هُوَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ. عَنْ الشَّيْخِ الشَّاذِلِيِّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتَوَغَّلْ فِي عِلْمِنَا هَذَا مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ (وَشَمَائِلِ الصَّالِحِينَ) أَخْلَاقِهِمْ مِنْ نَحْوِ الْوَرَعِ، وَالزُّهْدِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ (فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَعَلَّمَ الْفِقْهَ) وَحْدَهُ (وَلَمْ يَنْظُرْ فِي عِلْمِ الزُّهْدِ، وَالْحِكْمَةِ قَسَا) مِنْ الْقَسْوَةِ (قَلْبُهُ) لِاشْتِغَالِهِ بِعُلُومٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ (وَالْقَلْبُ الْقَاسِي بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ مِنْ رَحْمَتِهِ الْكَامِلَةِ فَالْفِقْهُ الْمُجَرَّدُ بِلَا زُهْدٍ وَحِكْمَةٍ لَيْسَ بِمَمْدُوحٍ بَلْ مَذْمُومٌ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِغَفْلَةِ الْقَلْبِ وَلَعَلَّ هَذَا مَا قَالُوا مَنْ تَفَقَّهَ تَفَسَّقَ وَإِنْ أَمْكَنَ لَهُ وَجْهٌ آخَرُ (انْتَهَى) كَلَامُ الْبُسْتَانِ. وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ وَإِنَّ أَبْعَدَ الْقُلُوبِ مِنْ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» . وَعَنْ الشِّرْعَةِ مَعَ شَرْحِهِ وَيَقْتَبِسُ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ كُلِّ فَنٍّ حَظًّا كَافِيًا لِحَاجَتِهِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَعْضِ فَقَدْ قِيلَ مَنْ طَلَبَ اللَّهَ بِعِلْمِ الْكَلَامِ وَحْدَهُ تَزَنْدَقَ، وَبِالزُّهْدِ وَحْدَهُ ابْتَدَعَ، وَبِالْفِقْهِ وَحْدَهُ تَفَسَّقَ ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (فَإِذَا كَانَ الْحَالُ هَذَا) أَيْ قَسْوَةَ الْقَلْبِ (فِي الْفِقْهِ) الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ عَلَى الِاتِّفَاقِ

(فَمَا ظَنُّك بِسَائِرِ الْعُلُومِ الْغَيْرِ الزَّاجِرَةِ) كَالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ قَسْوَةَ الْقَلْبِ، وَالْبُعْدَ مِنْ اللَّهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ زُهْدًا فَإِنَّمَا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا» وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَسُوغُ إهْمَالُ عِلْمِ الزُّهْدِ عِنْدَ اشْتِغَالِ أَيِّ عِلْمٍ كَانَ وُجُوبًا أَوْ اسْتِحْبَابًا كَمَا عَرَفْت (وَفِي التَّجْنِيسِ رَجُلٌ تَفَقَّهَ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَامْتَنَعَ عَنْ التَّعْلِيمِ فَإِنْ كَانَ النَّاسُ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِغَيْرِهِ) بِسَبَبِ تَعْلِيمِ الْغَيْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ (أَجْزَأَهُ) أَيْ الِاشْتِغَالُ مَعَ الِامْتِنَاعِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْإِجْزَاءِ إشَارَةٌ إلَى أَدْنَى الْجَوَازِ إذْ الْإِتْيَانُ فَرْضُ كِفَايَةٍ (كَمَا فَعَلَهُ دَاوُد الطَّائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) مَنْسُوبٌ إلَى قَبِيلَةِ طَيِّئٍ كَحَاتِمٍ الطَّائِيِّ (فَإِنَّهُ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ) لِوُجُودِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْغَيْرِ (وَاعْتَزَلَ النَّاسَ) عَنْ اخْتِلَاطِهِمْ وَأُنْسِهِمْ لَا كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ تَرْكِ نَحْوِ الْجُمُعَةِ، وَالْجَمَاعَاتِ لِكَمَالِ الْعُزْلَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَأَمَّا الْوَحْشَةُ إلَى الْجِبَالِ، وَالْمَفَاوِزِ الَّتِي لَا عُمْرَانَ فِي قُرْبِهَا فَالتَّرْكُ وَإِنْ جَازَ حِينَئِذٍ لَكِنْ لَعَلَّهُ تَرْكُ الْأَفْضَلِ إذْ فِعْلُ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ النَّوَافِلِ فَضْلًا عَنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ فَإِيثَارُ فَضْلٍ يَدْعُو إلَى تَرْكِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالْوَاجِبَاتِ تَرْكُ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ الْفَاضِلِ (وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّعْلِيمِ) لِاقْتِضَائِهِ الصُّحْبَةَ بِالْغَيْرِ وَكُلُّ رَدِيءِ الْخُلُقِ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا. (وَهَذَا) أَيْ الْإِجْزَاءُ (لِأَنَّهُ) أَيْ طَرِيقُ اشْتِغَالِ الْعِبَادَةِ فَقَوْلُهُ (أَخْذٌ) لَيْسَ بِفِعْلٍ بَلْ مَصْدَرٌ وَخَبَرَانِ (بِالْفَضْلِ وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ أَفْضَلَ) عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ عِنْدَهُ هُوَ ذَلِكَ أَيْ عَدَمُ اشْتِغَالِ التَّعْلِيمِ لِلْعِبَادَةِ وَقَدْ سَمِعْت مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا ذُكِرَ (لِأَنَّ نَفْعَهُ أَوْفَرُ) لِتَعَدِّيهِ دُونَ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا قَاصِرَةٌ (فَلَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ) . وَفِي التَّعْبِيرِ إشَارَةٌ إلَى أَوْلَوِيَّةِ التَّرْكِ كَمَا هُوَ حَالُ الْفَاضِلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْضَلِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَاوُد مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَسَنِّنَةِ وَهُمْ يَلْتَزِمُونَ عَزَائِمَ كُلِّ الْأَعْمَالِ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا الرُّخَصَ كَالْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ارْتِكَابُ مَا لَا بَأْسَ. أَقُولُ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْعَكْسِ عِنْدَهُمْ (انْتَهَى) . (وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ إلَى الْغَيْرِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ) اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» وَتَلْمِيحٌ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» ، وَالْحَدِيثَانِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الثَّانِي أَيْ بِالْهِدَايَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعْلِيمِ لِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّرَحُّمِ، وَالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْإِحْسَانَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى فَضْلِ قَضَاءِ حَوَائِجِ الْخَلْقِ وَنَفْعِهِمْ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ عِلْمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ إشَارَةٍ أَوْ نُصْحٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى خَيْرٍ أَوْ إعَانَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ تَحْتَ ظِلَالِهِ ... فَأَحَبُّهُمْ طُرًّا إلَيْهِ أَبَرُّهُمْ لِعِيَالِهِ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِمَا حَاصِلُهُ الْإِحْسَانُ بِالْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالنَّفْعِ الدِّينِيِّ، وَالدُّنْيَوِيِّ وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِمَامَ الْعَادِلَ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ لِوُفُورِ نَفْعِهِ لِلْعَامِّ، وَالْخَاصِّ هَذَا. ثُمَّ أَقُولُ إنْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِلَا رُجُوعٍ إلَى النَّقْلِ فَمِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْمَطْلَبِ النَّقْلِيِّ الشَّرْعِيِّ بِالْعَقْلِيِّ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِشَرْعِيَّةِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ، وَأَنَّ النَّقْلِيَّةَ ابْتِدَاءً أَوْ رُجُوعًا كَمَا نَبَّهَ آنِفًا فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْعِلْمِ بَلْ شَامِلٌ لِبَعْضِ الْعَمَلِ، وَقَدْ سَمِعْت بَيَانَ شَارِحِ الْحَدِيثِ مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ كَمَا يَقْتَضِي إطْلَاقَ صِيغَتَيْ الْحَدِيثَيْنِ وَقَدْ قَالَ شَارِحُهُ عَنْ الْمِيزَانِ إنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَاهٍ وَعَنْ ابْنِ عَدِيٍّ لَهُ مَنَاكِيرُ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ الثِّقَاتِ الطَّامَّاتِ وَعَنْ الْهَيْثَمِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ

الثَّانِيَ مُنْكَرٌ. وَعَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لَا يَصِحُّ، وَعَنْ الْهَيْثَمِيِّ أَيْضًا مَتْرُوكٌ وَكَذَا عَنْ النَّيْسَابُورِيِّ وَعَدَّهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَنَاكِيرِ وَبِالْجُمْلَةِ الِاحْتِجَاجُ عَلَى إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِتَامٍّ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَدَارُهُ النُّصُوصُ وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَعِلَّتُهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ سِيَّمَا عِنْدَ إدْرَاكِ الْعِلَّةِ فَالْمَذْكُورُ إمَّا عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ ذَلِكَ مُرَادَهُ قَوْلُهُ: وَالْحَاصِلُ أَيْ حَاصِلُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ فَتَأَمَّلْ. (ثُمَّ الْمُتَعَدِّيَةُ) مُطْلَقًا (نَوْعَانِ أُخْرَوِيٌّ) فِيهِ نَفْعٌ أُخْرَوِيٌّ لِلْغَيْرِ (وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ إذْ هُوَ عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) إذْ شَأْنُهُمْ تَعْلِيمُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَبْلِيغُ الْأَحْكَامِ الرَّبَّانِيَّةِ (وَبِهِ) أَيْ بِهَذَا النَّوْعِ (فُضِّلُوا) بِالْبِنَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ فِعْلِ فُضِّلُوا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ لَا يَخْفَى أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَدْخَلِيَّةِ لَا بِالْحَصْرِ وَأَنَّهُ يُشْعِرُ عَدَمَ مَدْخَلِ أَعْمَالِهِمْ فِي تَفْضِيلِهِمْ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ تَفْضِيلَهُمْ بِهِ إنَّمَا هُوَ لِسَبَبِ الِابْتِدَاءِ وَبِالِاخْتِصَاصِ بِهِمْ وَكَلَامُنَا عِنْدَ إقَامَةِ الْغَيْرِ هَذَا الْأَمْرَ وَأَنَّ قِيَاسَ حَالِ الْأُمَّةِ عَلَى حَالِ النَّبِيِّ قِيَاسٌ مَعَ فَارِقٍ ظَاهِرٍ. وَقَدْ كَانَ عِلَّةُ الْأَصْلِ مَقْصُودًا بِهِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِالْغَيْرِ (خَرَّجَ دَيْلَمٌ) أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَعَلَّمَ بَابًا» نَوْعًا «مِنْ الْعِلْمِ» النَّافِعِ الزَّاجِرِ «لِيُعَلِّمَ النَّاسَ» لِمُجَرَّدِ رِضَاهُ تَعَالَى يَعْنِي نِيَّتُهُ تَعْلِيمُ النَّاسِ قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَإِلَى عَدَمِ شَرْطِيَّةِ إحَاطَةِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فِي الْمُعَلِّمِ وَإِلَى شَرْطِيَّةِ إحَاطَةِ جَمِيعِ أَرْكَانِ الْمَسْأَلَةِ وَشَرَائِطِهَا فَمَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ بَابٌ مِنْهُ انْتَهَى. «أُعْطِيَ» مِنْ اللَّهِ تَعَالَى «ثَوَابَ سَبْعِينَ صِدِّيقًا» مِنْ أَوْزَانِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ الْمَبَالِغُ فِي الصِّدْقِ وَهُوَ الَّذِي كَمُلَ فِي تَصْدِيقِ كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا لِصَفَاءِ بَاطِنِهِ وَقُوَّتِهِ بِبَاطِنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فِي قَوْله تَعَالَى - {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الصِّدِّيقُونَ الَّذِينَ صَعِدَتْ نُفُوسُهُمْ تَارَةً بِمَرَاقِي النَّظَرِ فِي الْحِجَجِ، وَالْآيَاتِ وَأُخْرَى بِمَعَارِجِ التَّصْفِيَةِ وَالرِّيَاضَاتِ إلَى أَوْجِ الْعِرْفَانِ عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَى الْأَشْيَاءِ وَأَخْبَرُوا عَنْهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَالْعَالِمُ دَاخِلٌ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فِي مَفْهُومِ الصِّدِّيقِ فَيَلْزَمُ تَفْصِيلُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْقَوْلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْضِيلِ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ الصِّدِّيقِ بِحَسَبِ إعْطَاءِ الثَّوَابِ يَقْتَضِي تَفْضِيلَ الْمُتَعَلِّمِ عَلَى الْمُعَلِّمِ، فَالْحَدِيثُ مُشْكِلٌ فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى دَفْعِ إشْكَالِهِ أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِحَسَبِ قَصْدِ تَعْلِيمِ النَّاسِ فَالْمُتَعَلِّمُ لِقَصْدِ التَّعْلِيمِ مُثَابٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَوَابِ الصِّدِّيقِ الَّذِي هُوَ شَامِلٌ لِلْعَالِمِ لَكِنْ ذَلِكَ الْعَالِمُ لَا يُعَلِّمُ الْغَيْرَ بَلْ يَتَعَاقَدُ لِلْعَمَلِ فَالْمُتَعَلِّمُ الْقَاصِدُ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ أُعْطِيَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَالْعَالِمِ كَذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا أُعْطِيَ لِلْعَالِمِ الَّذِي لَا يُعَلِّمُ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَمَلِ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُؤَوَّلٌ أَيْضًا إمَّا بِأَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ ثَوَابِ سَبْعِينَ صِدِّيقًا أَوْ بَعْضِ ثَوَابِ سَبْعِينَ وَقِيلَ ثَوَابُ السَّبْعِينَ غَيْرُ مُضَاعَفٍ وَلَهُ مُضَاعَفٌ، وَلَعَلَّ السَّبْعِينَ لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلْعَدَدِ فَتَأَمَّلْ بَعْدُ. (وَلِذَا قَالَ فِي التَّجْنِيسِ إذَا تَعَلَّمَ رَجُلَانِ عِلْمًا عِلْمَ الصَّلَاةِ) الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ إذْ شَرَفُ الْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ شَرَفِ مَعْلُومِهِ (أَوْ غَيْرَهُ) مِنْ الْمُهِمَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ (أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّمُ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ وَ) الرَّجُلُ (الْآخَرُ) يَتَعَلَّمُ (لِيَعْمَلَ بِهِ) بِعِلْمِهِ (فَاَلَّذِي يَتَعَلَّمُ لِيُعَلِّمَ) غَيْرَهُ (أَفْضَلُ) مِنْ الَّذِي يَتَعَلَّمُ لِيَعْمَلَ بِهِ (لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ أَكْثَرُ لِلنَّاسِ وَأَبْلَغُ فِي أَمْرِ الدِّينِ) لِإِبْقَاءِ شَرِيعَةِ اللَّهِ وَإِجْرَاءِ حُكْمِ اللَّهِ وَحِمَايَتِهَا عَنْ الضَّيَاعِ وَصِيَانَتِهَا عَنْ الضَّعْفِ، وَالِانْطِمَاسِ (انْتَهَى) كَلَامُ التَّجْنِيسِ. (وَدُنْيَوِيٌّ) عَطْفٌ عَلَى أُخْرَوِيٍّ كَوْنُهُ

مِنْ الدُّنْيَوِيِّ لِكَوْنِهِ بِوَاسِطَةِ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَإِلَّا فَهَذَا أُخْرَوِيٌّ أَيْضًا (كَالصَّدَقَةِ) زَكَاةٍ أَوْ نَافِلَةٍ فَإِنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ أَيْضًا لِانْتِفَاعِ الْغَيْرِ وَلَوْ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا (وَالْإِعَانَةِ) عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّقْوَى (وَالدَّلَالَةِ) عَلَى الْخَيْرِ دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ إغَاثَةَ اللَّهْفَانِ» . (وَالشَّفَاعَةِ) الْحَسَنَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85]- (وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ) كَالْجِسْرِ فُرِّقَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ بِالْبِنَاءِ، وَالثَّانِيَ أَعَمُّ (وَنَحْوِهَا) كَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِينَ، فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ مَنْ أَغَاثَ مَلْهُوفًا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ مَغْفِرَةً وَاحِدَةٌ مِنْهَا صَلَاحُ أَمْرِهِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ لَهُ دَرَجَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «مَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَاجَةً كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَمَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ» وَنَحْوِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالسِّقَايَاتِ، وَالرِّبَاطِ وَنَحْوِهَا (وَتَسْوِيَةِ الطُّرُقِ) بِنَحْوِ رَفْعِ الْأَحْجَارِ وَتَسْهِيلِ الْمُرُورِ بِأَيِّ وَجْهٍ (وَإِمَاطَةِ الْأَذَى) أَيْ إزَالَةِ مَا يُؤْذِي الْمَارِّينَ (عَنْهَا) عَنْ الطُّرُقِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ» . (فَهَذَا) النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُتَعَدِّيَةِ (مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا) بَيْنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَالْعِبَادَةِ الْقَاصِرَةِ (دُونَ الْأَوَّلِ) تَحْتَهُ لِتَمَحُّضِهِ فِي الْأُخْرَوِيَّةِ (وَفَوْقَ الْقَاصِرَةِ) لِعَدَمِ تَعَدِّيهَا أَصْلًا أَوْ تَعَدِّي الْأَوَّلِ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَدِيمُ إلَى انْقِرَاضِ الزَّمَانِ وَأُشِيعَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَشِرُ شَرْقًا وَغَرْبًا (كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالذِّكْرِ) لَكِنْ يَشْكُلُ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]- فُسِّرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ حَيْثُ الْفَضْلُ وَبِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ ظَاهِرُهَا كَوْنُ الذِّكْرِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى حَسَبِ شَرَفِ الْمَذْكُورِ، كَحَدِيثِ الْحِصْنُ الْحَصِينُ. «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ» الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلَ لِلْفَرْدِ السَّابِقِ. وَفِي الْجَامِعِ: «أَفْضَلُ الْعِبَادِ دَرَجَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا» قَالُوا فِي شَرْحِهِ فَالذِّكْرُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَرَأْسُ كُلِّ عِبَادَةٍ وَرَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ، وَفِيهِ أَيْضًا «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ وَلَا تَتْرُكُ ذَنْبًا» . وَحَدِيثُ «أَفْضَلُ مَا أَقُولُ أَنَا، وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَتَفْضِيلُ الْعَكْسِ إمَّا عَنْ رَأْيٍ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ أَوْ تَرْجِيحِ مَرْجُوحٍ فَتَأَمَّلْ (وَالدُّعَاءِ فَلِذَا) لِأَجْلِ كَوْنِ هَذَا النَّوْعِ أَفْضَلَ مِنْ الْقَاصِرَةِ (كَانَ الِاشْتِغَالُ بِأَمْرِ النِّكَاحِ) التَّزَوُّجِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى حُقُوقِهِ (وَالْكَسْبِ) مِنْ الْحَلَالِ (لِأَجْلِ التَّصَدُّقِ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي) التَّقَاعُدِ (لِلْعِبَادَةِ) ؛ لِأَنَّ فِي النِّكَاحِ تَكْثِيرَ الْأُمَّةِ وَإِعْفَافَ النَّفْسِ، وَفِي الصَّدَقَةِ دَفْعَ احْتِيَاجِ الْفَقِيرِ. قَالَ الْمُحَشِّي: لِأَنَّ فِيهِمَا نَفْعًا دُنْيَوِيًّا لِلْغَيْرِ بِخِلَافِ التَّخَلِّي لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ خَفَاءِ النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ فِي النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ سَوْقُ الْكَلَامِ فِيهِ. (فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ) مِنْ خُرَافَاتِ هَذَا الْعَالِمِ الرِّجْسِ، وَالزُّورِ إلَى مَقَاصِدِ أَنْوَاعِ عَيَالِمِ الْقُدْسِ، وَالنُّورِ. أَقُولُ يُرِيدُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ إثْبَاتِ فَضْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِبَادَةِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُوصِيَ بِالْجِدِّ فِي اسْتِحْصَالِ الْعِلْمِ بِلَا مُبَالَاةِ الْمُخَالِفِ فِي ذَلِكَ (بِالْجِدِّ) أَيْ السَّعْيِ، وَالِاجْتِهَادِ (وَالْمُوَاظَبَةِ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ) أَيْ اكْتِسَابِهِ وَارْتِكَابِ الْمَشَاقِّ، وَالْكُلْفَةِ فِي طَرِيقِهِ لِعِظَمِ شَرَفِهِ وَقُوَّةِ فَضْلِهِ بِمَا سَمِعْت سَابِقًا (فَلَا تُصْغِ) مِنْ الْإِصْغَاءِ أَيْ لَا تَلْتَفِتْ (إلَى تُرَّهَاتِ) أَبَاطِيلِ (جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ)

لِإِظْهَارِ مَا لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ إذْ بِحَسَبِ ادِّعَائِهِمْ أَوْ بِحَسَبِ ظَنِّ الْخَلْقِ فِيهِمْ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الصُّوفِيَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ الْمُتَشَرِّعُ بِأَصَحِّ الشَّرَائِعِ، وَالْمُتَسَنِّنُ بِأَقْوَمِ السُّنَنِ (فِي زَمَانِنَا) ، وَفِي دِيَارِنَا هُوَ عَصْرُ التِّسْعُمِائَةِ فِي التَّقْيِيدِ بِالْجَهَلَةِ، وَالزَّمَانُ إشَارَةٌ بَلْ دَلَالَةٌ إلَى أَنَّ كُلَّ صُوفِيٍّ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ كَذَلِكَ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ كَالْفُقَهَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ فِيهِمْ فَسَقَةٌ وَصُلَحَاءُ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُفَسِّرِينَ، وَالْمُلُوكِ، وَالْأُمَرَاءِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْلِ الْأَسْوَاقِ، وَالصَّنَائِعِ فِيهِمْ كِلَا النَّوْعَيْنِ الْفِسْقِ وَالصَّلَاحِ، فَلَا يَعُمُّ الذَّمُّ بِذَمِّ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَبَعْضِ الْجَهَلَةِ. (يَقُولُونَ الْعِلْمُ حِجَابٌ) عَنْ مُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ الْقُدْسِ مِنْ التَّجَلِّيَاتِ، وَالْمُكَاشَفَاتِ وَهَذَا جَهْلٌ إذْ بِالْعِلْمِ يَزْدَادُ الشُّهُودُ وَتَكْمُلُ الْمَعْرِفَةُ بَلْ الْحِجَابُ هُوَ الْجَهْلُ كَيْفَ، وَإِنَّ الْوُصُولَ مُحْتَاجٌ إلَى قَطْعِ عَقَبَاتِ النَّفْسِ وَدَفْعِ حِيَلِ الشَّيْطَانِ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْعِلْمِ، وَلَعَلَّ مَنْشَأَ غَلَطِهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ يَشْتَغِلُونَ بِالْمُحَرَّمَاتِ وَيُصِرُّونَ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ وَيَسْتَغْرِقُونَ فِي الْمُنْكَرَاتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مُوَرِّثَ ذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا فَإِنَّهُ إذَا زَلَّ عَالِمٌ زَلَّ عَالَمٌ كَمَا أَنَّهُ إذَا عَزَّ عَالِمٌ عَزَّ عَالَمٌ وَأَكْثَرُ مَشَاهِيرِ الْمُتَصَوِّفَةِ مُتَبَحِّرُونَ فِي الْعِلْمِ وَمُجْتَهِدُونَ. (وَأَنَّهُ) أَيْ الْعِلْمَ (يَحْصُلُ بِالْكَشْفِ) بِدُونِ تَجَشُّمٍ لِكَسْبِ انْكِشَافِ مَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ بِتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ بِدَوَامِ الذِّكْرِ وَنِسْيَانِ مَا عَدَا الْمَذْكُورِ. وَعَنْ التِّلْمِسَانِيِّ: الْمُشَاهَدَةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَاهَدَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ نَحْوِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ فَلَيْسَتْ مُكَاشَفَةً حَقِيقِيَّةً بَلْ صُورِيَّةً قَاطِعَةً لِلْأَوْلَى (فَلَا حَاجَةَ إلَى الْكَسْبِ) أَيْ الْمُطَالَعَةِ، وَالْأَخْذِ مِنْ الْأُسْتَاذِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَهُوَ تَنَاقُضٌ قُلْنَا لَعَلَّ مُرَادَهُمْ الِابْتِدَاءُ بِالْعِلْمِ حِجَابٌ مَانِعٌ عَنْ الْكَشْفِ وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالْمُجَاهَدَةِ فَيُنْتِجُ الْكَشْفَ الَّذِي يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ (فَإِنَّهُ كَذِبٌ) يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» وَإِنَّ الْعِلْمَ الَّذِي ادَّعَوْا حُصُولَهُ بِالْكَشْفِ هُوَ عِلْمُ الْمَعْرِفَةِ لَا عُلُومُ الشَّرِيعَةِ، وَالْأَحْكَامِ نَعَمْ قَدْ يَحْصُلُ لَكِنْ عَلَى طَرِيقِ النُّدْرَةِ مَعَ كَثْرَةِ التَّخَلُّفِ فَلَا يَكُونُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ (وَضَلَالٌ) فِي حَقِّ نَفْسِهِ (وَإِضْلَالٌ) فِي حَقِّ غَيْرِهِ قِيلَ هُنَا، وَفِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ فِيمَا سَبَقَ فِي مِثْلِهِ إنَّ هَذَا الطَّعْنَ وَالتَّخْطِئَةَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْعَامِّ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخَصُّصِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمُعَيَّنٍ فَإِنَّ سُوءَ الظَّنِّ حَرَامٌ وَحُسْنَ الظَّنِّ لَازِمٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَجِبُ حَمْلُ الْإِخْوَانِ عَلَى الْمَحَامِلِ الْحَسَنَةِ فِي كُلِّ نَقِيصَةٍ إلَى سَبْعِينَ مَحْمَلًا ثُمَّ قَالَ فَلَا تَسْأَلْ مِمَّنْ لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ أَصْلًا فَإِنَّهُ تَخْجِيلُ كُفْرٍ كَمَا سَبَقَ وَإِذَا سَاعَدَهُ التَّوْفِيقُ يَعْمَلُ بِلَا عِلْمٍ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لِلْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَكَمْ مِنْ عَالِمٍ لَمْ يُوَفِّقْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ فَمَخْذُولٌ وَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ وَفَّقَهُ بِالْعَمَلِ بِالْإِلْهَامِ فَخُيِّرَ مِنْ ذَلِكَ الْعَالِمِ وَإِنَّمَا لِلْعَالِمِ النُّصْحُ، وَالتَّحْذِيرُ بِلَا إسَاءَةِ ظَنٍّ وَتَجَسُّسٍ وَامْتِهَانٍ لِمُعَيَّنٍ إلَى غَيْرِ مَا قَالَهُ لَا يَخْفَى مَا فِيهَا مِنْ الْخَلْطِ وَالْخَلَلِ وَسَدِّ طُرُقِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَطُرُقِ الْحُدُودِ، وَالتَّعْزِيرَاتِ، وَالتَّأْوِيلِ بِالْحَسَنِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ التَّحَمُّلِ وَعَدَمِ صَرَاحَةِ الْخَطَأِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِي مُعَيَّنٍ فَمَا مَعْنَى وُجُودُهُ فِي الْعُمُومِ، وَقَدْ قَالُوا لَا وُجُودَ لِلْعَامِّ إلَّا فِي ضِمْنِ الْخَاصِّ وَسَلْبِ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَنَفْعِهِ وَتَفْوِيضِهِ إلَى تَوْفِيقِهِ تَعَالَى وَإِلَى حُصُولِهِ بِالْإِلْهَامِ، وَالْكَشْفِ مُخَالِفٌ لِقَوَاطِع النُّصُوصِ، وَالْإِجْمَاعِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ. (فَإِنَّ الْعِلْمَ) أَيْ تَعَلُّمَهُ وَكَسْبَهُ (فَرْضٌ) عَيْنًا وَكِفَايَةً كَمَا سَبَقَ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ (وَأَنَّهُ) أَيْ الْعِلْمَ إنَّمَا يَحْصُلُ (بِالتَّعَلُّمِ) لَا غَيْرُ (لِمَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَمَا سَبَقَ «إنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» . لَا يُقَالُ كَيْفَ يَحْصُلُ الْفَرْضُ مِنْ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت فِيمَا سَبَقَ أَنَّ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ مِنْ الْكِتَابِ مَعَ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ مِنْ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْقَطْعَ وَيَجُوزُ حِينَئِذٍ إضَافَةُ الْحُكْمِ الْقَطْعِيِّ إلَى مِثْلِ هَذَا الْوَاحِدِ وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالُوا الْخَبَرُ الْوَاحِدُ الْمُؤَيَّدُ بِالْحُجَّةِ الْقَطْعِيَّةِ يَصِحُّ إضَافَةُ الْفَرْضِ إلَيْهِ، وَهَاهُنَا مُؤَيَّدٌ بِالْكِتَابِ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ سَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ، وَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى السَّنَدِ وَقَدْ يُطْلَقُ الْفَرْضُ عَلَى الظَّنِّيِّ لَكِنْ لَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ هُنَا. (وَأَنَّ مَأْخَذَهُ) أَيْ الْعِلْمِ

(كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ حَبِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا بَيَّنَّاهُ سَابِقًا) فِي فَضْلِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْكَشْفِ، وَالْإِلْهَامِ وَلَا بِالْأَخْذِ مِنْ اللَّهِ بِالذَّاتِ وَلَا مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَإِنَّ الصَّحَابَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَفْضَلُهَا) عِلْمًا وَعَمَلًا (فَإِنَّهُمْ اجْتَهَدُوا) فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ (اخْتَلَفُوا وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أُلْهِمَ إلَيَّ) أَوْ وَقَفْت بِالْكَشْفِ (أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ حَلَالٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ) فَلَوْ أَمْكَنَ لَوَقَعَ مِنْهُمْ وَلَوْ وَقَعَ لَسُمِعَ. وَنُقِلَ فَإِنْ قِيلَ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ هَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَجَاءَ شَيْبَانُ الرَّاعِي فَقَالَ أَحْمَدُ أُرِيدُ أَنْ أُنَبِّهَ هَذَا عَلَى نُقْصَانِ عِلْمِهِ لِيَشْتَغِلَ بِبَعْضِ الْعِلْمِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَفْعَلْ فَلَمْ يَقْنَعْ فَقَالَ لِشَيْبَانَ مَا تَقُولُ فِيمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ فِي الْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ وَلَا يَدْرِي أَيَّ صَلَاةٍ نَسِيَهَا مَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، فَقَالَ شَيْبَانُ يَا أَحْمَدُ هَذَا قَلْبٌ غَفَلَ عَنْ اللَّهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤَدَّبَ حَتَّى لَا يَغْفُلَ عَنْ مَوْلَاهُ بَعْدَهُ فَغُشِيَ عَلَى أَحْمَدَ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تُحَرِّكْ هَذَا وَشَيْبَانُ الرَّاعِي كَانَ أُمِّيًّا قُلْنَا لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مُخْتَصٍّ بِالْعَالِمِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ وَأَنَّهُ لَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ سَنَدِهِ وَلَوْ سَلِمَ فَقَدْ سَمِعْت أَنَّ كُلَّ مَا يُخَالِفُ النَّصَّ فَهُوَ رَدٌّ وَقَدْ دَلَّ النَّصُّ عَلَى لُزُومِ التَّعَلُّمِ وَأَنَّ صِحَّتَهُ إنَّمَا تُعْرَفُ بِمُوَافَقَةِ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ لَوْ سَلِمَ فَنَادِرٌ اتِّفَاقِيٌّ لَا بِمُوجِبٍ مُفْضٍ (فَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ كُوشِفُوا وَوَصَلُوا إلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قِيلَ قَدْ يُوجَدُ فِيمَا بَعْدَ الصَّحَابِيِّ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَالْكَشْفِ بَلْ يُوجَدُ عِلْمٌ فِي غَيْرِ النَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي النَّبِيِّ سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِوِلَايَةِ الْخَضِرِ وَنُبُوَّةِ مُوسَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَنَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَادِّعَاءَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ غَيْرُ مُسَلَّمٍ كَالنَّبِيِّ (فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ خَارِجُونَ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ) لِمَا عَرَفْت مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَلِمَا عَرَفْت مِنْ فَضْلِ الصَّحَابَةِ. (وَلَوْ سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ) شَيْءٍ مِنْ (الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ مِثْلِ الرِّيَاءِ، وَالْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَالْحَسَدِ، وَالْحِقْدِ أَوْ عَنْ) مَعْرِفَةِ (عِلَاجِهَا أَوْ عَنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ مِثْلِ النِّيَّةِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالصَّبْرِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالشُّكْرِ أَوْ عَنْ طَرِيقِ تَحْصِيلِهَا أَوْ تَقْوِيَةِ ضَعِيفِهَا بُهِتَ) أَيْ دُهِشَ وَتَحَيَّرَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجَوَابِ عَنْهُ وَقَدْ كَانَ التَّصَوُّفُ فِي الْحَقِيقَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَمْثَالِهَا وَلِهَذَا قَدْ يُقَالُ لِعِلْمِ التَّصَوُّفِ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ (وَخَجِلَ) مِنْ الْخَجَالَةِ (وَخَلَطَ فِي كَلَامِهِ) بِالْهَذَيَانَاتِ (وَتَكَلَّمَ بِالشَّطْحِ) بِالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ وَبِالْخُرُوجِ عَنْ الْحُدُودِ (وَالطَّامَّاتِ) أَيْ الزَّخَارِفِ الْبَاطِلَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ الْعِرْفَانِ عَنْ أَصْلِ مَا سُئِلَ وَعَدَمُ الْجَوَابِ عَنْ مَعْنَى مَا سُئِلَ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ لَا عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْجَوَابِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْآنَ حَتَّى تَوَهَّمَ وَيُقَالُ إنَّهُ لَوْ سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِخُصُوصِ هَذَا الِاصْطِلَاحِ لَا يَعْرِفُهُ وَمَا فَائِدَةُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ وَمَا ضَرَرُ عَدَمِ الْعِلْمِ مَعَ عَمَلٍ وَلَيْسَ الْعِلْمُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ بَلْ لِأَجْلِ الْعَمَلِ وَلَوْ وُجِدَ الْعَمَلُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا ضَرَرُ عَدَمِ الْعِلْمِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ خَلْطٌ أَيُّ خَلْطً وَجَسَارَةٌ إلَى مَا يُوجِبُ أَمْرًا عَظِيمًا (بَلْ لَوْ سُئِلَ عَنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، وَالْوُضُوءِ، وَالِاسْتِنْجَاءِ تَحَيَّرَ وَاضْطَرَبَ)

وَلَا يَقْدِرُ عَلَى جَوَابٍ أَصْلًا وَهَذِهِ مِنْ أَجْلَى الْوَاضِحَاتِ حَتَّى لِأَكْثَرِ الصِّبْيَانِ، وَالْعَامِّيِّ الْمَحْضِ (بَلْ بَعْضُهُمْ لَمْ يُصَحِّحْ اعْتِقَادَهُ بَعْدُ) بِأَنْ لَا يَعْرِفَ ذَاتَهُ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَحْوَالَهُ وَكَذَا مَا فِي حَقِّ الرُّسُلِ (وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ تَعَالَى عَلَى صُورَةٍ) وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْفِقْهِيَّةِ، وَالْكَلَامِيَّةِ تَفْصِيلَهُ وَحَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ كُفْرٌ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا تَفْصِيلُ جِهَةِ الْكُفْرِ بَلْ التَّسْلِيمُ كَافٍ هُنَا إذْ الْبُرْهَانُ إنَّمَا هُوَ فِي مَبْحَثِهِ

الْأَصْلِيِّ. قَالَ فِي الْوَسِيلَةِ قَالَ شَارِحُ الطَّرِيقَةِ جَارِحُ الشَّرِيعَةِ مُحَمَّدٌ الْكُرْدِيُّ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّوْفِيقِ: هَذَا الِاعْتِقَادُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُطَابِقٌ لِاعْتِقَادِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ مُوَافِقٌ لِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَإِنْ خُولِفَ مُتَشَبِّثًا بِأَذْيَالِ الْفَلَاسِفَةِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» . وَقَالَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ بِاللُّطْفِ وَلَا تَكُنْ سَفِيهًا فَإِنَّ السَّفِيهَ مَحْرُومٌ مِنْ الْكَمَالَاتِ انْتَهَى

ثُمَّ اشْتَغَلَ بِرَدِّهِ بِتَفْصِيلٍ لَا يَسَعُهُ الْمَقَامُ وَقَدْ أَغْنَيْنَاك عَنْهُ وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا كَانَ خَطَؤُهُ ضَرُورِيًّا وَاضِحًا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ بَلْ عَامَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أُجِيبَ عَمَّا اُشْتُبِهَ عَلَيْهِ، وَفِي مَحَلِّهِ قَالَ فِي الْوَسِيلَةِ أَيْضًا: قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَقْرِيظِ ذَلِكَ الشَّرْحِ وَإِمْضَائِهِ: هَذِهِ الْأَوْرَاقُ الْحَرِيَّةُ بِالْإِحْرَاقِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، وَالْكَلِمَاتِ الْعَاطِلَةِ بِحَيْثُ تُنْبِئُ عَنْ حَمَاقَةِ مَنْ جَمَعَهَا وَسُوءِ عَقِيدَةِ مَنْ رَتَّبَهَا، وَإِنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ خَانْ مَنَعَ قِرَاءَةَ هَذَا الْكِتَابِ وَأَمَرَ بِإِعْدَامِ نُسْخَتِهِ أَيْنَمَا تُوجَدُ، وَأَمَرَ بِنَفْيِ مُؤَلِّفِهِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَلْفٍ، فَإِنْ قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ اعْتِقَادُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ فَبِمُجَرَّدِ الظَّنِّ هَلْ يَلْزَمُ الْكُفْرُ. قُلْنَا أَدِلَّتُهُ تَقْتَضِي لُزُومَ الْقَطْعِ وَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّكَّ سِيَّمَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ بَلْ خُلُوُّ الذِّهْنِ كُفْرٌ فَضْلًا عَنْ الظَّنِّ (وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْقَبَائِحَ، وَالْمَعَاصِيَ وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُوجِدٌ لِفِعْلِهِ)

كَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ فُصِّلَ الرَّدُّ فِي مُخْتَصَرَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَمَبْسُوطَاتِهَا بَلْ أُشِيرَ فِيمَا سَبَقَ فَلَا نَشْتَغِلُ بِهِ (وَأَكْثَرُهُمْ يُصَلُّونَ بِلَا تَعْدِيلِ أَرْكَانٍ) وَهُوَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ وَلَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً، وَالتَّصَوُّفُ يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِالْأَحْوَطِ (وَلَا تَجْوِيدِ قُرْآنٍ) وَهُوَ أَيْضًا حَتْمٌ لَازِمٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ الْقَارِي وَتَسْهِيلُ التَّجْوِيدِ الِاتِّفَاقُ مِنْ جَمِيعِ الْمُجَوِّدِينَ وَإِنَّ أَخْذَ الْقُرْآنِ عَنْ فَمِ الْمُحْسِنِ فَرْضُ عَيْنٍ قِيلَ يَجُوزُ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّجْوِيدِ بَعْدَ السَّعْيِ فَلَا إثْمَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَأَخْطَأَ أَوْ لَحَنَ أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا كَتَبَهُ الْمَلَكُ كَمَا أُنْزِلَ أَقُولُ قَرَائِنُ سَائِرِ أَحْوَالِ جِنْسِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ لِلْكَسْلَانِ لَا لِلْعَجْزِ كَتَرْكِ التَّعْدِيلِ وَأَنَّ الطَّعْنَ لِمَنْ تَكَاسَلَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمُصَنِّفَ وَقَفَ عَلَى كَسْلَانِهِمْ وَطَعَنَ بَلْ يُمْكِنُ أَنَّ الْمَطْلَبَ اسْتِقْرَائِيٌّ فَلَا بُدَّ فِي السَّنَدِ مِنْ تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ. وَعَنْ الْجَارِحِ الْمَذْكُورِ الْكُرْدِيِّ نَظَرَ الصُّوفِيَّةُ إلَى تَعْدِيلِ أَرْكَانِ الْبَاطِنِ هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنَاطُ الثَّوَابِ فَإِذَا حَصَلَ هَذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَالْعِبَادَةُ إنَّمَا هِيَ بِحُسْنِ التَّوَجُّهِ لَا بِالطُّولِ وَالْقَصْرِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا فِي الْأُصُولِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنْكَارٌ لِلشَّرِيعَةِ الظَّاهِرِيَّةِ بَلْ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ، وَالْإِسْنَادُ إلَى الْأُصُولِ افْتِرَاءٌ مَحْضٌ وَأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ وُجُودُ

عَيْنِهِ فِي الْأُصُولِ فَبَاطِلٌ ضَرُورَةً وَإِنْ قَاعِدَتُهُ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ بَلْ مَا قَوَاعِدُهُ هُوَ جَانِبُ لُزُومِهِ وَأَنَّ الْأَحْكَامَ تُؤْخَذُ لِمِثْلِنَا مِنْ الْفُرُوعِ لَا مِنْ الْأُصُولِ وَاسْتِخْرَاجُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأُصُولِ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ. (وَمَعَ هَذِهِ الْفَضَائِحِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ وَاصِلُونَ مُكَاشِفُونَ) وَقَدْ عَدِمَ أَرْبَابُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ تَرْكَ الْأَوْلَى وَارْتِكَابَ مَا لَا بَأْسَ بِلَا ضَرُورَةٍ مِنْ مَوَانِعِ الْوُصُولِ وَرِعَايَةِ غَايَتِهِمْ مِنْ شَرَائِطِهِ (فَهَيْهَاتَ) بَعُدَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى عَنْ الْحَقِّ، وَالصَّدَقَةِ بُعْدًا لَا رَيْبَ فِيهِ (هَيْهَاتَ) تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ (نَعَمْ) . قَالَ الْمُحَشِّي هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ. قُلْت وَأَيْضًا هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ الذَّمِّ بِمَا يُشْبِهُ الْمَدْحَ، وَالْأَوَّلُ أُصُولِيٌّ، وَالثَّانِي بَدِيعِيٌّ (أَنَّهُمْ وَاصِلُونَ إلَى الشَّيْطَانِ) الَّذِي هُوَ شَيْخُهُمْ الَّذِي عَلَّمَهُمْ هَوَاهُمْ وَغَرَّهُمْ فِي أَمَانِيهِمْ وَلِذَا أَنَّهُمْ (مَغْرُورُونَ بِأَمَانِيِّهِ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا. جَمْعُ أُمْنِيَةٍ بِمَعْنَى الْمَقْصُودِ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ الْوَصْلَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسُوا بِوَاصِلِينَ إلَيْهِ بَلْ وَاصِلُونَ إلَى الشَّيْطَانِ وَيَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ وَدَلَالَاتِهِ وَيَمْشُونَ عَلَى نَهْجِ تَصَرُّفَاتِهِ. حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيَّ اعْتَزَلَ عَنْ النَّاسِ وَتَوَحَّشَ لِلْعِبَادَةِ فَلَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي امْتَلَأَ الْعَالَمُ بِالْأَنْوَارِ فَنَادَى مُنَادِيًا عَبْدَ الْقَادِرِ: اجْتَهَدْت لِلْعِبَادَةِ لِي وَعَبَدْتَ حَقَّ الْعِبَادَةِ فَإِنِّي قَدْ رَفَعْت عَنْك حُرْمَةَ الْأَشْيَاءِ وَأَبَحْت جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ لَك فَافْعَلْ مَا شِئْت فِيمَا بَعْدُ وَقَدْ غَفَرْت لَك فَقَالَ: عَبْدُ الْقَادِرِ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّكَ يَا شَيْطَانُ فَإِذَا قَدْ رَكَدَ الظَّلَامُ وَاضْمَحَلَّتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ قَدْ نَجَوْت بِعِلْمِك يَا عَبْدَ الْقَادِرِ إنِّي قَدْ أَهْلَكْت فِي هَذَا الْمَقَامِ عُبَّادًا وَزُهَّادًا. (عَامِلُونَ بِوَسَاوِسِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقَعَ لِبَعْضِهِمْ كَشْفٌ حِسِّيٌّ لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ) عَنْ أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْأَكْوَانِ مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ فَيَكُون كَذَلِكَ وَهُوَ الْكَشْفُ الصُّورِيُّ (أَوْ نَحْوِهِ) مِنْ الْمَنَامَاتِ، وَالتَّخَيُّلَاتِ، وَالْوَارِدَاتِ الْغَيْبِيَّةِ، وَالْهَوَاتِفِ (مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ بِمُقْتَضَى الرِّيَاضَاتِ) بِتَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنْ الْعَلَائِقِ الْبَشَرِيَّةِ (أَوْ إرَاءَةِ الشَّيْطَانِ) لَهُمْ طَيَرَانًا فِي الْهَوَاءِ بِرَفْعِ بَعْضِهِمْ أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَان بِأَسْرَعِ زَمَانٍ أَوْ الْإِتْيَانِ بِمَا يُرِيدُونَهُ (مَكْرًا) إضْمَارًا لِلسُّوءِ بِهِ (وَاسْتِدْرَاجًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْكَفَرَةِ الْمُرْتَاضِينَ) . وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ عَالَمَ الصَّفَا حِجَابٌ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَكُونُ الْكَشْفُ وَهَذَا يُشَارِكُنَا فِيهِ الرُّهْبَانُ وَإِنَّمَا نُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِعَالَمِ التَّرْقِيَةِ (فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ كَرَامَةٌ وَوِلَايَةٌ فَيَغْتَرُّونَ بِهِ) فَيَهْلِكُونَ وَلَا يَشْعُرُونَ وَكُلُّ ذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ وَلَا يُحْتَمَلُ كَوْنُ ذَلِكَ غَيْرَ ذَلِكَ مَا دَامَتْ أَفْعَالُهُمْ الظَّاهِرَةُ عَلَى خِلَافِ الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ اسْتَقَامَ بَاطِنُهُمْ خِلَافًا لِمَنْ خَلَطَ وَيَشْهَدُهُ قَوْلُهُ (وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا قَوْلَ سُلْطَانِ الْعَارِفِينَ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ) هَذَا إثْبَاتٌ لِتَوَقُّفِ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ عَلَى كَمَالِ اتِّبَاعِ الشَّرْعِ وَلِكَوْنِ الْكَشْفِ الْخَارِجِيِّ اسْتِدْرَاجًا مِنْ مُخَالِفِ الشَّرْعِ (لَوْ نَظَرْتُمْ إلَى رَجُلٍ) أَيْ شَخْصٍ (أُعْطِيَ مِنْ الْكَرَامَاتِ حَتَّى تَرَبَّعَ فِي الْهَوَاءِ) أَوْ جَلَسَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ فِي النَّارِ (فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ) وَتَنْسِبُوهُ

إلَى الْوِلَايَةِ (حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ وَحِفْظِ الْحُدُودِ) الْإِلَهِيَّةِ (وَأَدَاءِ) (أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ انْتَهَى فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِهِمْ) بِالسِّرَايَةِ إلَيْنَا بِالِاغْتِرَارِ بِظَاهِرِ أَفَاعِيلِهِمْ الْكَاذِبَةِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ التَّوْفِيقِ إلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الظَّاهِرِيِّ (وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ) الَّتِي لَا تَدْخُلُ فِي الْمَوَازِينِ النَّبَوِيَّةِ (فَإِنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ) بِوَسْوَسَتِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ (وَقُطَّاعُ طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَخُصَمَاءُ حَبِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لِاسْتِهَانَتِهِمْ شَرِيعَتَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ سُنَّتَهُ وَهُمْ يَدَّعُونَ وِلَايَتَهُ.

الفصل الثالث في التقوى

[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّقْوَى] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي فَضِيلَة التَّقْوَى] ثَالِثُ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْبَابِ الثَّانِي مِنْ الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ لِلْكِتَابِ وَسَيُبَيِّنُ تَعْرِيفَهَا (وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ) بَيَانُ فَضْلِهَا وَبَيَانُ حَقِيقَتِهَا وَمَوْضِعُ جَرَيَانِهَا (النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي فَضِيلَتِهَا) الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ بَيَانَ حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ تَصَوُّرَ الشَّيْءِ يُقَدَّمُ عَلَى أَحْوَالِهِ وَأَوْصَافِهِ لَعَلَّ الْفَضْلَ كَالْمُقَدَّمَةِ وَقِيلَ قَدَّمَهُ زِيَادَةَ شَوْقٍ إلَى مَعْرِفَتِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَأْخِيرَهَا لِيَكُونَ مَعَ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ جَرَيَانِهَا (اعْلَمْ أَوَّلًا) أَيُّهَا السَّالِكُ إلَى اللَّهِ (أَنِّي أَرَدْت أَنْ أُورِدَ جَمِيعَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ التَّقْوَى) إمَّا اسْتِقْرَاءٌ تَامٌّ فَالْجَمِيعِيَّةُ حَقِيقِيَّةٌ إذْ يُمْكِنُ ذَلِكَ أَوْ نَاقِصٌ فَالْجَمِيعِيَّةُ عَلَى اعْتِقَادِ الْمُصَنِّفِ وَجْهُ إتْيَانِ الْجَمِيعِ لِوُفُورِ فَضْلِهَا وَلِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا وَقُوَّةِ فَوَائِدِهَا وَلِزِيَادَةِ التَّمْكِينِ فِي الْخَاطِرِ؛ لِئَلَّا يَنْفَكَّ السَّالِكُ عَنْهَا؛ وَلِتَكُونَ مَلَكَةً رَاسِخَةً لَا يَحْتَاجُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَى طَلَبِ فَضْلِهَا وَكَذَا إظْهَارُهُ مَوْضِعَ الْإِضْمَارِ (فَوَجَدْتهَا تَجَاوَزَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ) أَيْ الْمُطْلَقُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّقْوَى عَلَى صُورَةِ الْأَمْرِ أَوَّلًا (وَوَجَدْت صَرِيحَ الْأَمْرِ) أَيْ صِيغَتَهُ الَّتِي الْأَصْلُ فِيهَا الْوُجُوبُ (فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ فَاقْتَصَرْت عَلَى الْمُكَرَّرَاتِ) وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا (عَلَى) آيَةٍ (وَاحِدَةٍ) لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدًا فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى التَّكْرَارِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِوَاحِدَةٍ فَمَا وَرَاءَهَا عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كِتَابٌ حَكِيمٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ كُلِّ تَكْرِيرٍ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَيْفَ وَمِنْ أَنْوَاعِ الْإِطْنَابِ التَّكْرِيرُ لِنُكْتَةٍ كَالتَّأْكِيدِ وَزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ وَالْإِيقَاظِ لِيَكْمُلَ تَلَقِّي الْكَلَامِ بِالْقَبُولِ، وَأَنَّ كُلًّا قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ خَاصَّةٌ لِذَلِكَ كَمَا قَالُوا فِي تَكَرُّرِ قَصَصِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِرْعَوْنَ مَثَلًا وَفِي نَحْوِ - {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]- كَمَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ وَالْإِتْقَانِ (وَلَمْ أُرَاعِ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ كَمَا رَاعَيْت فِيمَا سَبَقَ) فِي فَصْلِ الِاعْتِصَامِ وَغَيْرِهِ (تَقْدِيمًا لِلْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ) إمَّا لِكُلِّ آيَةٍ مَعَ آيَةٍ أُخْرَى أَوْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ لَكِنَّ عَدَمَ مُرَاعَاةِ هَذَا الْجَانِبِ فِيمَا سَبَقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَمُوجِبُ رِعَايَةِ هَذَا هُنَا أَيْضًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَالْقَوْلُ أَنَّهُ لِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْجَانِبَيْنِ اخْتَارَ فِي أَحَدِ الْمَوَاضِعِ بِأَحَدِهِمَا.

وَفِي الْآخَرِ بِالْآخَرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ نَافِعٍ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ بِنَاءً عَلَى الْأَثَرِ الْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَهُ لِحِكْمَةٍ وَلَا يَتْرُكُهَا إلَّا إذَا وَرَدَ فِي أَثَرٍ، وَإِنْ جَازَ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ نَعَمْ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لِأَجَلِ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ مَا لِأَجَلِ الِاحْتِجَاجِ (الْآيَاتُ) فِي الْحُجُرَاتِ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَالسَّابِقُ فِي التَّقْوَى هُوَ السَّابِقُ فِي الْفَضْلِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ التَّقْوَى بِهَا تَكْمُلُ النُّفُوسُ وَتَتَفَاضَلُ الْأَشْخَاصُ فَمَنْ أَرَادَ شَرَفًا فَلْيَلْتَمِسْ مِنْهَا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ» قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ» وَفِي الْآثَارِ أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ وَفِيهَا أَيْضًا أَكْرَمُ الْكَرَمِ التَّقْوَى وَسَتَعْرِفُ تَفْصِيلَ مَعْنَى التَّقْوَى مِنْ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ هَذِهِ الْآيَةِ قُوَّةُ دَلَالَتِهَا عَلَى فَضْلِ التَّقْوَى عَلَى وَجْهٍ لَا فَضْلَ فَوْقَ فَضْلِهَا إذْ الْفَرْدُ السَّابِقُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْفَضْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْبِقَهُ شَيْءٌ آخَرُ فِي الْكَرَمِ عِنْدَ اللَّهِ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجَمِيعِ حَيْثُ نَزَلَ - {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17] {الَّذِي} [الليل: 18]- الْآيَةَ فِي حَقِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَبُو بَكْرٍ أَتْقَى بِهَذَا الْآيَةِ وَكُلُّ أَتْقَى أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ بِتِلْكَ الْآيَةِ فَأَبُو بَكْرٍ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْأَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ. وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَرْتُكُمْ فَضَيَّعْتُمْ مَا عَهِدْت إلَيْكُمْ فِيهِ وَرَفَعْت أَنْسَابَكُمْ فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ أَنْسَابَكُمْ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] » وَفِي الْمَائِدَةِ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] عَنْ الْكُفْرِ أَوْ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ الثَّانِي فَإِضَافِيٌّ أَوْ ادِّعَائِيٌّ فَالْقَوْلُ أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ مُتَّقٍ بِظَاهِرِهِ لَيْسَ بِحَسَنٍ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ مَا عَرَفْت فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى قَبُولِ عَمَلِ الْمُتَّقِينَ؛ وَلِهَذَا تَرَى قَبُولَ دَعَوَاتِ الصَّالِحِينَ أَكْثَرَ لَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَخَدَّامُهُ الْخَوَاصُّ وَفِي الْأَنْفَالِ {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ} [الأنفال: 34] أَيْ مَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ {إِلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] مِنْ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ فَيَشْكُلُ بِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ هُنَا مِنْ التَّقْوَى فِي الْمَطْلُوبِ هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ عِنْدَ إطْلَاقِ الشَّرْعِ مِنْ نَحْوِ الِاجْتِنَابِ مِنْ كُلِّ حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ عَلَى مَا سَيُفْهَمُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فَالتَّقْرِيبُ لَيْسَ بِتَامٍّ أَوْ تَفْسِيرُ الْبَيْضَاوِيِّ بِالِاتِّقَاءِ مِنْ الشِّرْكِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَهُوَ مُشْكِلٌ أَيْضًا فَالْوَجْهُ الْأَسْلَمُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا يُعْبَأُ بِمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ مَا أَمْكَنَ إرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ بِنَاءً عَلَى الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَبَادِرِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ التَّفْسِيرُ بِالِاتِّقَاءِ عَنْ الْكُفْرِ وَالْفَوَاحِشِ، فَإِذَا قَصُرَتْ وِلَايَةُ اللَّهِ عَلَى الِاتِّقَاءِ فَالِاتِّقَاءُ لَهُ زِيَادَةُ فَضْلٍ وَغَايَةُ شَرَفٍ فَإِنْ قِيلَ الرَّاجِحُ مِنْ كَلَامِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ رُجُوعُ ضَمِيرِ أَوْلِيَاؤُهُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمَطْلُوبِ وَقَدْ قِيلَ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْوِلَايَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِوِلَايَةِ اللَّهِ بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ الْوِلَايَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لَهُ تَعَالَى وَفِي الْجَاثِيَةِ {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] أَيْ نَاصِرُ الْمُوَحِّدِينَ النَّاصِرِينَ أَوْ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشِّرْكَ كَمَا فَسَّرُوا بِهِ فَالْكَلَامُ كَمَا سَمِعْت وَفِي بَرَاءَةٍ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] فِي أَدَاءِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ كَمَا نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ وَفِي نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَفِي النَّجْمِ {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] فَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا بِزَكَاءِ الْعَمَلِ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ أَوْ بِالطَّهَارَةِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ أَوْ لَا تَدْعُوَا بِلَا عَمَلٍ أَوْ لَا تُخْبِرُوا بِخَبَرٍ عَمِلْتُمُوهُ رُوِيَ أَنَّ «زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ سُمِّيتُ بَرَّةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالْبَرِّ مِنْكُمْ» . وَعَنْ الْخَازِنِ عَلِمَ اللَّهُ حَالَكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ رِيَاءً وَخُيَلَاءَ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ تَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ أَنَا خَيْرٌ مِنْك أَوْ أَنَا أَزْكَى مِنْك أَوْ أَتْقَى مِنْك فَإِنَّ الْعِلْمَ عِنْدَ اللَّهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى وُجُوبِ خَوْفِ الْخَاتِمَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ عَاقِبَةَ مَنْ هُوَ عَلَى التَّقْوَى {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] بِمَنْ بَرَّ وَأَطَاعَ وَأَخْلَصَ الْعَمَلَ لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَيْسَتْ بِوَاضِحَةٍ إلَّا بِلُزُومٍ خَفِيٍّ. وَفِي الْبَقَرَةِ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] فِي قَبُولِ طَاعَاتِهِمْ وَاسْتِجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ وَالْعَوْنِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ وَفِي إسْكَانِهِمْ فِي أَعْلَى غُرَفِ جِنَانِهِ فَانْظُرْ مَا فِي هَذِهِ مِنْ رُتْبَةِ الْمَعِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَقْدِيمِ الْأَمْرِ وَإِيثَارِ كَلِمَةِ التَّحْقِيقِيَّةِ وَالْإِظْهَارِ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ هَذِهِ عَلَى مَا قَبْلَهَا كَمَا فِي تَرْتِيبِهِ الْأَصْلِيِّ وَفِي طَه {وَالْعَاقِبَةُ} [طه: 132] الْحَمِيدَةُ مِنْ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ {لِلتَّقْوَى} [طه: 132] لِذَوِي التَّقْوَى كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَفِي الْقَصَصِ {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِقَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. وَعَنْ الْكَلْبِيِّ الْكَبَائِرُ وَالْفَوَاحِشُ وَفَسَّرَ الْعَاقِبَةَ بِالثَّوَابِ أَوْ الْجَنَّةِ وَفِي الزُّخْرُفِ {وَالآخِرَةُ} [الزخرف: 35] أَيْ ثَوَابُهَا أَوْ سَلَامَتُهَا أَوْ الْجَنَّةُ {عِنْدَ رَبِّكَ} [الزخرف: 35] مُخْتَصَّةٌ {لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] لِتَقْوَاهُمْ وَتَرْكِ دُنْيَاهُمْ لِنَيْلِ أُخْرَاهُمْ وَفِي ص {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49] مَرْجِعٍ أَيْ أَحْسَنُ مَرْجِعٍ وَمُنْقَلَبٍ وَفِي آلِ عِمْرَانَ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133] عَظِيمَةٍ {مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] فَلْيُسْرِعْ عِنْدَ الذَّنْبِ إلَى الرُّجُوعِ لِلْمَغْفِرَةِ وَإِلَى التَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي. وَعَنْ الْبَغَوِيّ بَادِرُوا وَسَابِقُوا إلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَفِي الْبَيْضَاوِيِّ سَارِعُوا إلَى مَا تَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْمَغْفِرَةَ كَالْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ {وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] عَنْ الْخَازِنِ الْمَغْفِرَةُ إزَالَةُ الْعِقَابِ وَالْجَنَّةُ حُصُولُ الثَّوَابِ، وَفِيهِ إشْعَارٌ إلَى لُزُومِ مُسَارَعَةِ مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ نَحْوِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى الصَّالِحَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْجَنَّةِ {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133] أَيْ عَرْضُهَا كَعَرْضِهِمَا. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَسَبْعِ سَمَوَاتٍ وَسَبْعِ أَرَضِينَ لَوْ وُصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ. وَعَنْ ابْنِ جَمِيلٍ أَيْ لَوْ جُعِلَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ طَبَقًا طَبَقًا بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ سَطْحًا وَوُصِلَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ كَانَ ذَلِكَ مِثْلُ عَرْضِ الْجَنَّةِ وَتَخْصِيصُ الْعَرْضِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الطُّولَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَنَّ الطُّولَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ {أُعِدَّتْ} [آل عمران: 133] هُيِّئَتْ {لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] لِتَقْوَاهُمْ عَنْ الشِّرْكِ وَالْكَبَائِرِ وَإِصْرَارِ الصَّغَائِرِ اُحْتُجَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً الْآنَ إذْ النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا لِإِمْكَانِهَا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الْجَنَّةِ وَكَوْنِهَا خَارِجَةً عَنْ هَذَا الْعَالَمِ.

لَعَلَّ وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَيْهِ عَظَمَتُهَا مِنْ هَذَا الْعَالَمِ وَفِي مَرْيَمَ {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] أَيْ نَجْعَلُهَا ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ بَاقٍ بَعْدَ فَانٍ؛ وَلِأَنَّهُ أَطْيَبُ الْمَالِ وَأَهْنَؤُهُ وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَا أُعِدَّ لِلْكُفَّارِ لَوْ آمَنُوا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَوْتٌ وَتَقْوَاهُمْ أَوْرَثَهُمْ إيَّاهَا وَفِي الزُّمَرِ {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} [الزمر: 73] إسْرَاعًا بِهِمْ إلَى دَارِ الْكَرَامَةِ، وَقِيلَ سِيقَ مَرَاكِبُهُمْ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَقِيلَ السَّوْقُ حَقِيقَةً لِلْإِسْرَاعِ فِي وُصُولِ دَارِ الْكَرَامَةِ كَمَا فِي الْكَافِرِ لِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فَيَنْدَفِعُ أَنَّ السَّوْقَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَلَى خِلَافِ الطَّبِيعَةِ وَيُوهِمُ الزَّجْرَ فَلَا حَاجَةَ أَنَّهُ لِلْمُشَاكَلَةِ لِسَوْقِ أَهْلِ النَّارِ {زُمَرًا} [الزمر: 73] جَمْعُ زُمْرَةٍ جَمَاعَةً قَلِيلَةً أَوْ أَفْوَاجًا مُتَفَرِّقَةً بَعْضُهَا فِي إثْرِ بَعْضٍ عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] جَوَابُ إذَا وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ وَقِيلَ لِلْحَالِ أَوْ جَاءُوهَا مُفَتَّحَةً لَا يَقِفُونَ وَقِيلَ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ أَيْ فَازُوا أَوْ نَالُوا الْمُنَى {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] طَهُرْتُمْ مِنْ الْمَعَاصِي أَوْ طَابَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ أَوْ أَبْشِرُوا بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ طِبْتُمْ أَوْ طَابَ لَكُمْ الْمُقَامُ أَوْ طِبْتُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ عَنْ الْخَبَائِثِ أَوْ طَابَتْ أَعْمَالُكُمْ فَطَابَ مَثْوَاكُمْ {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ وَالْفَاءُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ طِبْتُمْ سَبَبٌ لِدُخُولِهِمْ وَخُلُودِهِمْ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْعَاصِي بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ يُطَهِّرُهُ. وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا سِيقُوا إلَى الْجَنَّةِ فَإِذَا انْتَهَوْا إلَيْهَا وَجَدُوا عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِهَا عَيْنَانِ فَيَغْتَسِلُ الْمُؤْمِنُ مِنْ إحْدَاهُمَا فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ وَيَشْرَبُ مِنْ الْأُخْرَى فَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ (الْآيَتَيْنِ) كَمِّلْ الْآيَتَيْنِ - {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ - وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 74 - 75]- وَفِي يُوسُفَ {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} [يوسف: 109] أَيْ الْجَنَّةُ {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [يوسف: 109] عَنْ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109] بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ وَفِي يُوسُفَ أَيْضًا {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 57] أَيْ أَفْضَلُ مِنْ أَجْرِ الدُّنْيَا {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 57] أَيْ يَخَافُونَ وَيُطِيعُونَ وَلَا يَعْصُونَ وَفِي الشُّعَرَاءِ {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرُبَتْ الْجَنَّةُ لِأَوْلِيَائِي وَقِيلَ الْجَنَّةُ قَرِيبَةٌ مِنْ مَوْقِفِ السُّعَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا. وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {مَثَلُ} [محمد: 15] صِفَةُ {الْجَنَّةِ} [محمد: 15] {الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15] وَهُمْ

أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَبَرُهُ قَوْلُهُ فِيهَا الْآيَةَ وَفِي النَّحْلِ {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] دَارُ الْآخِرَةِ فَحُذِفَتْ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا وَقَوْلُهُ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [النحل: 31] خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَعَنْ الْحَسَنِ هِيَ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ التَّقْوَى يَتَزَوَّدُونَ فِيهَا إلَى الْآخِرَةِ {يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [النحل: 31] تَحْتَ دُورِ أَهْلِهَا وَقُصُورِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [النحل: 31] مِمَّا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مَعَ زِيَادَاتٍ لَمْ تَرَ الْعَيْنُ وَلَمْ تَسْمَعْ الْأُذُنُ وَلَمْ تَخْطِرْ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجِدُ جَمِيعَ مَا أَرَادَهُ إلَّا فِي الْجَنَّةِ {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 31] هَكَذَا يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الْخَائِفِينَ {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] طَاهِرِينَ مِنْ الشِّرْكِ عَنْ مُجَاهِدٍ زَاكِيَةً أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ وَقِيلَ طَيِّبِينَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ حَسَنٍ فَتَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَفِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابَ كُلِّ الْمَنَاهِي وَالْمَكْرُوهَاتِ مَعَ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْخِصَالِ الْمُرْضِيَةِ وَالْمُبَاعِدَةِ عَنْ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَالْخِصَالِ الْمَكْرُوهَةِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَفَاتُهُمْ طَيِّبَةٌ سَهْلَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُبَشَّرُونَ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ بِالرِّضْوَانِ وَالْجَنَّةِ وَالْكَرَامَةِ فَيَحْصُلُ فَرَحٌ وَسُرُورٌ فَيَطِيبُ لَهُمْ الْمَوْتُ نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَقِيلَ فَرِحِينَ بِبِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ إيَّاهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ طَيِّبِينَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ لِتَوَجُّهِ نُفُوسِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ إلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] مِنْ أَنْفُسِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لَا يُخِيفُكُمْ بَعْدَ مَكْرُوهٍ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فِي الدُّنْيَا مِنْ صَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ بِمَعْنَى السَّبَبِ الْعَادِيِّ التَّفَضُّلِيِّ لَا الْعَقْلِيُّ الْإِيجَابِيُّ كَمَا يَزْعُمُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَاتِ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ التَّوْفِيقُ لِلْأَعْمَالِ الْهِدَايَةُ لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا وَقَبُولِهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ وَيَصِحُّ أَنَّهُ دَخَلَ بِالْأَعْمَالِ أَيْ بِسَبَبِهَا، وَهِيَ مِنْ الرَّحْمَةِ وَفِي الدُّخَانِ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ} [الدخان: 51] مَوْضِعِ إقَامَةٍ {أَمِينٍ} [الدخان: 51] ذِي أَمَانَةٍ لَا ضَيَاعَ وَلَا آفَةَ فِيهِ وَلَا انْتِقَالَ أَوْ أَمِينٌ صَاحِبُهُ مِنْ الْمَوْتِ وَالْحَوَادِثِ أَوْ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ مِنْ كُلِّ مِحَنٍ وَبُؤْسٍ وَشِدَّةٍ {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 52] بَدَلٌ مِنْ مَقَامٍ جِيءَ بِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نَزَاهَتِهِ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يَسْتَلِذُّ بِهِ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشَارِبِ {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الدخان: 53] السُّنْدُسُ مَا رَقَّ مِنْ الْحَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنْهُ وَالْإِسْتَبْرَقُ مُعَرَّبٌ مِنْ سَتَبَرُّهُ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ كَوْنَ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّعْرِيبِ يَخْرُجُ عَنْ الْعَجَمِيَّةِ وَلِذَا جَرَى عَلَيْهِ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ الْعَرَبِيَّةِ {مُتَقَابِلِينَ} [الدخان: 53] يُقَابِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِلْأُنْسِ وَالصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ. {كَذَلِكَ} [الدخان: 54] كَمَا أَكْرَمْنَاهُمْ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَاللِّبَاسِ أَكْرَمْنَاهُمْ {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِهِمْ قَالُوا ذَلِكَ لَيْسَ بِعَقْدِ التَّزْوِيجِ بَلْ مُجَرَّدُ الْمُقَارَنَةِ قُلْت لَا مَانِعَ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا دَاعِي لِلصَّرْفِ عَنْ حَقِيقَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْحُورُ النَّقِيَّاتُ الْبَيَاضِ وَقِيلَ شَدِيدَاتُ بَيَاضِ الْعَيْنِ وَقِيلَ عَظِيمَةُ الْعَيْنَيْنِ {يَدْعُونَ فِيهَا} [الدخان: 55] يَطْلُبُونَ {بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} [الدخان: 55] بِكُلِّ مَا يَشْتَهُونَ مِنْ الْفَوَاكِهِ {آمِنِينَ} [يوسف: 99] مِنْ انْقِطَاعِهَا وَمَضَرَّتِهَا أَوْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ مِنْ كُلِّ مَخُوفٍ أَوْ مِنْ الشَّيْطَانِ {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] فِي الدُّنْيَا فَلِذَا قِيلَ لَفْظُ إلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ {وَوَقَاهُمْ} [الدخان: 56] .

حَفِظَهُمْ {عَذَابَ الْجَحِيمِ - فَضْلا مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 56 - 57] لَا وُجُوبًا عَلَيْهِ وَلَا اسْتِحْقَاقًا مِنْ الْعَبْدِ {ذَلِكَ} [الدخان: 57] أَيْ هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الشَّأْنُ {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 57] لَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُ فَنَاءٌ وَلَا مُزَاحِمٌ وَلَا احْتِمَالُ زَوَالٍ وَنُقْصَانٍ وَفِي الطُّورِ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17] بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ {فَاكِهِينَ} [الطور: 18] نَاعِمِينَ مُتَلَذِّذِينَ {بِمَا آتَاهُمْ} [الطور: 18] أَعْطَاهُمْ {رَبُّهُمْ} [الطور: 18] مِنْ كَرَامَةِ الْجَنَّةِ {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الطور: 18] {كُلُوا} [الطور: 19] أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ لِتَقْوَاكُمْ فِي الدُّنْيَا {وَاشْرَبُوا} [الطور: 19] مِنْ أَيِّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ اشْتَهَيْتُمْ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ {هَنِيئًا} [الطور: 19] مَأْمُونُ الْعَاقِبَةِ مِنْ التُّخَمَةِ وَالسَّقَمِ أَوْ مَأْمُونُ الْآفَاتِ كَمَا فِي الدُّنْيَا {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19] بِسَبَبِهِ أَوْ بَدَلَهُ وَقِيلَ الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَمَا فَاعِلُ هَنِيئًا وَالْمَعْنَى هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ جَزَاؤُهُ. {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} [الطور: 20] صُفَّ بَعْضُهَا إلَى جَنْبِ بَعْضٍ {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20] أَيْ صَيَّرْنَاهُمْ أَزْوَاجًا بِسَبَبِهِنَّ وَفِي الْمُرْسَلَاتِ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ} [المرسلات: 41] أَيْ التَّرَفُّهِ وَالنِّعَمِ وَالرَّاحَةِ كَمَا عِنْدَ ظِلِّ الْأَشْجَارِ وَقْتَ شِدَّةِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ {وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] مِيَاهٌ جَارِيَةٌ {وَفَوَاكِهَ} [المرسلات: 42] مِنْ أَنْوَاعٍ مُتَفَرِّقَةٍ {مِمَّا يَشْتَهُونَ} [المرسلات: 42] مِمَّا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [المرسلات: 43] يُقَالُ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ بِالذَّاتِ أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إكْمَالًا لِلْمَسَرَّةِ وَتَلْذِيذًا بِلَذَّةِ الْخِطَابِ الْإِكْرَامِيِّ {هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 43] فِي الدُّنْيَا مِنْ اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات: 44] فِي الدُّنْيَا بِقَبُولِ الْأَوَامِرِ وَانْزِجَارِ الْمَنَاهِي، وَقِيلَ الْمَقْصُودُ تَذْكِيرُ الْكُفَّارِ مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْفُرْصَةِ الَّتِي أُمْكِنَتْ لَهُمْ ازْدِيَادًا لِمُسَاءَتِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ وَفِي النَّبَأِ {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ: 31] مَوْضِعُ الْفَوْزِ وَالظَّفَرِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} [النبأ: 32] بَيَانُ مَفَازًا أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَيْ بَسَاتِينَ مَحُوطَةً بِالْجُدُرِ فِيهَا أَشْجَارُ الْجَنَّةِ وَثِمَارُهَا {وَكَوَاعِبَ} [النبأ: 33] جَمْعُ كَاعِبٍ امْرَأَةٌ تَكَعَّبَ ثَدْيُهَا وَنَهَدَ وَارْتَفَعَ وَفَلَكَ {أَتْرَابًا} [النبأ: 33] أَوْ مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ أَوْ عَذَارَى أَقْرَانًا مُتَصَافِيَاتٍ مُتَوَاخِيَاتٍ وَقِيلَ لُدَّاتٍ عَلَى ثَمَانِي عَشَرَةَ سَنَةً {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] مَمْلُوءَةً أَوْ مُتَتَابِعَةً أَوْ صَافِيَةً {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} [النبأ: 35] فِي الْجَنَّةِ أَوْ حَالَ شُرْبِهِمْ {لَغْوًا} [النبأ: 35] بَاطِلًا {وَلا كِذَّابًا} [النبأ: 35] تَكْذِيبًا أَيْ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا خِلَافُ شُرْبِ خَمْرِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ التَّكَلُّمِ بِالْبَاطِلِ {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} [النبأ: 36] فَضْلًا وَثَوَابًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى {عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36] كَافِيًا أَوْ كَثِيرًا مِمَّا عَمِلُوا وَفِي الْبَقَرَةِ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] حَصِّلُوا لِمَعَادِكُمْ زَادًا وَذُخْرًا يَعْنِي التَّقْوَى فَإِنَّهُ خَيْرُ زَادٍ وَقِيلَ عَنْ الْخَازِنِ أَيْ كُلُّ سَفَرٍ يُوجِبُ زَادًا فِي الطَّرِيقِ وَأَعْظَمُ السَّفَرِ مَا يَكُونُ مِنْ الدُّنْيَا إلَى الْآخِرَةِ فَزَادُهُ تَقْوَى اللَّهِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا الزَّادُ أَفْضَلُ مِنْ زَادِ سَفَرِ الدُّنْيَا مِنْ نَحْوِ الْمَأْكَلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوَصِّلُ إلَى مُرَادِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَزَادُ الْآخِرَةِ إلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ {وَاتَّقُونِ} [البقرة: 197] خَافُوا عِقَابِي وَاشْتَغِلُوا بِتَقْوَايَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ عَظَمَةِ اللَّهِ.

{يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197] الَّذِينَ يَعْمَلُونَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ أَوْ يَا صَاحِبِي الْعُقُولِ الصَّافِيَةِ عَنْ شَوَائِبِ الْهَوَى وَكَدَرِ النَّفْسِ وَفِي الْأَعْرَافِ {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26] لِبَاسُ الْوَرَعِ وَالْخَشْيَةِ أَوْ الْإِيمَانِ أَوْ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ أَوْ لِبَاسُ الْحَرْبِ أَوْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْ الْعَفَافِ أَوْ التَّوْحِيدِ أَوْ الْحَيَاءِ أَوْ السَّكِينَةِ أَوْ لِبَاسُ أَهْلِ الزُّهْدِ مِنْ الصُّوفِ وَخَشِنِ الثِّيَابِ {ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ أَعْنِي: قَوْلَهُ لِبَاسُ يَعْنِي لِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِ الزِّينَةِ وَالْجَمَالِ الَّذِي هُوَ لِبَاسُ أَهْلِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ يُعِدُّ صَاحِبَهُ إلَى لِقَاءِ مَوْلَاهُ وَفِي الْحُجُرَاتِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] أَخْلَصَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَنَقَّاهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ إظْهَارًا لِلتَّقْوَى أَوْ جَرَّبَ قُلُوبَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ وَالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ لِأَجْلِ التَّقْوَى وَفِي الْحَجِّ {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] ، وَهِيَ الْهَدْيُ وَالْبُدْنُ وَتَعْظِيمُهَا اسْتِحْسَانُهَا لِلنَّحْرِ أَوْ هِيَ دِينُ اللَّهِ أَوْ فَرَائِضُ الْحَجِّ وَمَوَاضِعُ نُسُكِهِ أَوْ الْهَدَايَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ وَتَعْظِيمُهَا أَنْ يَخْتَارَهَا حِسَانًا سِمَانًا غَالِيَةَ الْأَثْمَانِ {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] نَاشِئَةٌ مِنْ تَقْوَاهُمْ قُلُوبُهُمْ فَذَكَرَ الْقُلُوبَ؛ لِأَنَّهَا مَنْشَأٌ لِلتَّقْوَى كَمَا لِلْفُجُورِ أَيْضًا وَالْآمِرَةُ بِهِمَا وَفِي التَّوْبَةِ {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} [التوبة: 109] أَيْ بُنْيَانَ دِينِهِ {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 109] خَشْيَةَ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ {وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} [التوبة: 109] وَالتَّأْسِيسُ إحْكَامُ أَسَاسِ الْبِنَاءِ وَالْأَسَاسُ أَصْلُهُ وَالْمَعْنَى أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ هِيَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَرِضْوَانُهُ خَيْرٌ {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] يَعْنِي أَمْ مَنْ أَسَّسَ دِينَهُ عَلَى أَضْعَفِ الْقَوَاعِدِ وَأَقَلِّهَا بَقَاءً، وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالنِّفَاقُ الَّذِي مِثْلُهُ مِثْلُ بِنَاءٍ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ ثَابِتٍ وَقَوْلُهُ شَفَا بِمَعْنَى الطَّرَفِ وَجُرُفٍ جَانِبُ وَادٍ مُنْحَرِفٍ أَصْلُهُ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ فِيهِ وَهَارٍ مُتَصَدِّعٌ مَائِلٌ إلَى السُّقُوطِ {فَانْهَارَ بِهِ} [التوبة: 109] أَيْ سَقَطَ مَعَ بَانِيهِ {فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109] وَفِي الْأَعْرَافِ {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] مِنْ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا {فَسَأَكْتُبُهَا} [الأعراف: 156] فَسَأُثْبِتُهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَخُصُّهَا {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ إبْلِيسُ أَنَا مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي وَسِعَتْهُ رَحْمَتُهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ {فَسَأَكْتُبُهَا} [الأعراف: 156] وَقِيلَ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ الْكَافِرَ يُرْزَقُ وَيُدْفَعُ عَنْهُ بِبَرَكَةِ الْمُؤْمِنِ لِسِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَجَبَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَفِي الْبَقَرَةِ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] يَعْنِي الْقُرْآنُ نُورٌ وَبَيَانٌ لِأَهْلِ التَّقْوَى وَفِي الْبَقَرَةِ {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] أَيْ تَدْعُوهُمْ إلَى الشُّكْرِ وَالْخَوْفِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَفِي الْأَنْبِيَاءِ {وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] وَخُصَّ الْمُتَّقُونَ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ. وَفِي الْبَقَرَةِ

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ الْأَوَّلُ مَكِّيٌّ وَالثَّانِي مَدَنِيٌّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَبِمَعْنَى التَّوْحِيدِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: النَّاسُ لِلْمَوْجُودِينَ وَقْتَ النُّزُولِ لَفْظًا وَلَيْسَ لِمَنْ سَيُوجَدُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَفِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلُ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] لَيْسَ خِطَابًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ إلَّا بِدَلِيلٍ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَشَامِلٌ لِلنَّبِيِّ وَلَوْ مَعَ الْأَقَلِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَكَذَا يَا عِبَادِي وَيَشْمَلُ الْعَبْدَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ. وَعَنْ الرَّازِيّ إنْ كَانَ الْخِطَابُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُهُ وَإِلَّا فَلَا {الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مَادَّةٍ وَصُورَةٍ مِثَالِيَّةٍ فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَصْفٍ يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ، فَهُوَ عِلَّةٌ {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] مِنْ الْأُمَمِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي اُعْبُدُوا أَيْ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ رَاجِينَ انْخِرَاطَكُمْ فِي سِلْكِ الْمُتَّقِينَ الْفَائِزِينَ بِالْفَلَاحِ وَالْمُسْتَوْجِبِينَ لِجِوَارِ اللَّهِ تَعَالَى فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مُنْتَهَى دَرَجَاتِ السَّالِكِينَ، وَهُوَ التَّبَرِّي عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَالتَّنْزِيهُ عَمَّا يَشْغَلُ سِرَّهُ عَنْهُ وَالتَّبَتُّلُ إلَيْهِ كَمَا يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ وَعَلَى أَنَّ الْعَابِدَ لَا يَغْتَرُّ بِعِبَادَتِهِ بَلْ يَكُونُ عَلَى خَوْفٍ وَرَجَاءٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وَقِيلَ تَعْلِيلٌ لِلْخَلْقِ أَيْ خَلَقَكُمْ لِلِاتِّقَاءِ كَمَا فِي - {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ} [الذاريات: 56]- الْآيَةَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ وَحْدَانِيِّتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ هُوَ النَّظَرُ فِي صُنْعِهِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَفْعَالِهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ بِعِبَادَتِهِ ثَوَابًا، فَإِنَّهَا لَمَّا أُوجِبَتْ عَلَيْهِ شُكْرًا لِمَا عَدَّدَهُ عَلَيْهِ مِنْ النِّعَمِ السَّابِقَةِ فَهُوَ كَأَجِيرٍ أَخَذَ الْأَجْرَ قَبْلَ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَقِيلَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ إنَّ لَعَلَّ تَكُونُ تَرَجِّيًا وَبِمَعْنَى كَيْ وَقِيلَ كَلِمَةُ تَرْجِيَةٍ وَتَطْمِيعٍ أَيْ كُونُوا عَلَى رَجَاءٍ وَطَمَعٍ أَنْ تَتَّقُوا بِعِبَادَتِكُمْ عُقُوبَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَحِلَّ بِكُمْ وَفِي الْأَعْرَافِ {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] أَيْ الْكِتَابِ مِنْ الْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ وَالْأَحْكَامِ وَالْعِبَرِ أَوْ اعْمَلُوا بِهِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63] لِكَيْ تَتَّقُوا الْمَعَاصِي أَوْ رَجَاءَ أَنْ تَكُونُوا مِنْ الْمُتَّقِينَ. وَعَنْ الْبَغَوِيّ: اُذْكُرُوا اُدْرُسُوا وَقِيلَ احْفَظُوا لِكَيْ تَنْجُوا مِنْ هَلَاكِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْعُقْبَى وَفِي الْبَقَرَةِ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] بَقَاءٌ عَظِيمٌ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلِانْزِجَارِ عَنْ الْقَتْلِ، وَالِارْتِدَاعِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ قَتْلِ الْغَيْرِ {يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] ذَوِي الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ نَادَاهُمْ لِلتَّأَمُّلِ فِي حِكْمَةِ الْقِصَاصِ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الْأَرْوَاحِ وَحِفْظِ النُّفُوسِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] عَنْ الْقَتْلِ أَوْ عَنْ الْقِصَاصِ كَمَا فَسَّرُوا بِهِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ ضَعْفِ الدَّلَالَةِ بَلْ عَدَمُهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى الْمَقْصُودَةُ هُنَا وَفِي الْبَقَرَةِ أَيْضًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} [البقرة: 183] أَيْ فُرِضَ {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ قَبْلُ فَرْضُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَنُسِخَ بِرَمَضَانَ قَبْلَ قِتَالِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ. حُكِيَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] مِنْ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَفِيهِ تَوْكِيدٌ لِلْحُكْمِ وَتَرْغِيبٌ فِي الْفِعْلِ وَتَطْبِيبٌ عَلَى النَّفْسِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَالتَّشْبِيهُ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ لَا فِي الْكَيْفِيَّةِ وَقِيلَ كَانَ صَوْمُهُمْ فِي الْكَيْفِيَّةِ مِثْلُ صَوْمِنَا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ أَوَانَ الْكُسُوبِ وَالسَّفَرِ فَتَشَاوَرُوا وَقَالُوا لِذَلِكَ عِلَاجٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِمْ وَعَرَضُوا أَمْوَالًا وَعَطَايَا فَتَشَاوَرَ عُلَمَاؤُهُمْ وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُمْ بِمُقَابَلَةِ ارْتِشَائِهِمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ وَيَحْتَرِزُوا عَنْ الْحَيَوَانَاتِ وَيَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا وَيَزِيدُوا عَلَيْهَا

عَشَرَةً كَفَّارَةً لِمَا صَنَعُوا فَصَارَ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ إنَّ مَلِكًا لَهُمْ اشْتَكَى فِيهِ فَجَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إنْ بَرِيءَ مِنْ وَجَعِهِ أَنْ يَزِيدَ فِي صَوْمِهِمْ أُسْبُوعًا فَبَرِيءَ فَزَادَ أُسْبُوعًا، ثُمَّ مَاتَ هُوَ وَوَلِيَهُمْ مَلِكٌ آخَرُ فَأَتَمَّ خَمْسِينَ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] الْمَعَاصِي بِقَهْرِ النَّفْسِ وَكَسْرِ شَهَوَاتِهَا وَقِيلَ عَنْ تَغْيِيرِ الصَّوْمِ كَمَا فَعَلَهُ النَّصَارَى وَقِيلَ لَعَلَّكُمْ تَنْتَظِمُونَ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ أَنَّ التَّقْوَى أَمْرٌ عَظِيمٌ شُرِعَ لِأَجْلِ نَيْلِهَا قَهْرُ النَّفْسِ بِهَذَا الصِّيَامِ وَتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَفِي الْبَقَرَةِ أَيْضًا {كَذَلِكَ} [البقرة: 187] أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ {يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} [البقرة: 187] مَعَالِمَ دِينِهِ وَأَحْكَامَ شَرِيعَتِهِ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فَيُنَحُّوا مِنْ الْعَذَابِ فَإِذَا كَانَ غَايَةُ تِبْيَانِ الْآيَاتِ الْجَلِيلَةِ الشَّأْنُ لِلنَّاسِ هِيَ اتِّقَاؤُهُمْ فَالتَّقْوَى أَمْرٌ شَرِيفٌ وَلَهُ فَضْلٌ مُنِيفٌ وَفِي الْأَنْعَامِ {وَأَنْذِرْ بِهِ} [الأنعام: 51] خَوِّفْ بِالْقُرْآنِ {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] . قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُفَرِّطُونَ فِي الْعَمَلِ أَوْ الْمُجَوِّزُونَ لِلْحَشْرِ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا مُقِرًّا أَوْ مُتَرَدِّدًا فَإِنَّ الْإِنْذَارَ لَا يُفِيدُ لِمَنْ يَقْطَعُ فِي الْإِنْكَارِ، وَقِيلَ هُمْ الْكُفَّارُ {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} [الأنعام: 51] أَيْ اللَّهِ {وَلِيٌّ} [الأنعام: 51] قَرِيبٌ يَنْصُرُهُمْ {وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] فَإِنْ قِيلَ إنْ أُرِيدَ بِهِمْ الْكُفَّارُ فَيَلْزَمُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الِاتِّقَاءِ مَا يَتَّقِي مِنْ الْكُفْرِ فَلَا تَقْرِيبَ إذْ الظَّاهِرُ كَمَا عَرَفْت أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاتِّقَاءِ هُنَا مَا يُجْتَنَبُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغَائِرِ وَالْبِدَعِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْمُؤْمِنُونَ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ قُلْنَا قَدْ سَبَقَ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِذَلِكَ - {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3]- {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] فَيَنْزَجِرُوا عَنْ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَفِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا {ذَلِكُمْ} [الأنعام: 153] يَعْنِي عَدَمَ اتِّبَاعِكُمْ السُّبُلَ الْمُخْتَلِفَةَ وَالْأَهْوَاءَ الْمُضِلَّةَ وَالْبِدَعَ الْمُرْدِيَةَ {وَصَّاكُمْ} [الأنعام: 153] اللَّهُ تَعَالَى {بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] الضَّلَالَ وَالتَّفَرُّقَ عَنْ الْحَقِّ وَفِي الْمَائِدَةِ {اعْدِلُوا} [المائدة: 8] فِي أَوْلِيَائِكُمْ وَأَعْدَائِكُمْ {هُوَ} [المائدة: 8] الْعَدْلُ الْمَذْكُورُ مَعْنًى {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] عَنْ النَّارِ أَوْ الْمَعَاصِي وَفِي الْبَقَرَةِ {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ يَعْنِي عَفْوُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ أَدْعَى إلَى اتِّقَاءِ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَدْبٌ وَفِي الْبَقَرَةِ أَيْضًا {وَلَوْ أَنَّهُمْ} [البقرة: 103] الْيَهُودَ {آمَنُوا} [البقرة: 103] بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنِ {وَاتَّقَوْا} [البقرة: 103] الْكُفْرَ وَالْإِثْمَ {لَمَثُوبَةٌ} [البقرة: 103] أَيْ لَكَانَ ثَوَابُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ خَيْرًا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ وَاتَّقُوا بِتَرْكِ الْمَعَاصِي لَمَثُوبَةٌ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة: 103] وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَفِي آلِ عِمْرَانَ {وَإِنْ تَصْبِرُوا} [آل عمران: 120] عَلَى مَشَاقِّ الْمُنَافِقِينَ {وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 120] مُوَالَاتِهِمْ أَوْ مَا

حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] مِنْ الْمَكَارِهِ، وَهُوَ إرْشَادٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى عَلَى كَيْدِ الْأَعْدَاءِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِانْفِعَالُ قَلِيلًا وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {بَلَى} [آل عمران: 125] أَيْ يَكْفِيكُمْ الْإِمْدَادُ بِهِمْ {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 125] مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَمُخَالَفَةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَيَأْتُوكُمْ} [آل عمران: 125] الْمُشْرِكُونَ {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} [آل عمران: 125] مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا أَوْ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا وَأَصْلُ الْفَوْرِ غَلَيَانُ الْقِدْرِ، ثُمَّ لِلْغَضَبِ {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} [آل عمران: 125] هُمْ ثَلَاثَةُ الْآلَافِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ {مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] مُعَلَّمِينَ خُيُولَهُمْ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ سَوَّمُوا نُفُوسَهُمْ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ وَثِيَابٍ بِيضٍ. وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بِعَمَائِمَ صُفْرٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ بِيضٍ أَرْسَلُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ. وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَيْنَمَا أَنَا أَمْتَحُ مِنْ قَلِيبِ بَدْرٍ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ أَشَدُّ مِنْهَا، ثُمَّ أَشَدُّ مِنْهَا، ثُمَّ أَشَدُّ مِنْهَا فَالْأُولَى جَبْرَائِيلُ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالثَّانِيَةُ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفَيْنِ أَيْضًا عَنْ يَمِينِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالثَّالِثَةُ إسْرَافِيلُ فِي أَلْفٍ عَنْ يَسَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنْت عَنْ يَسَارِهِ وَهَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَاءَهُ وَفِي آلِ عِمْرَانَ {وَإِنْ تَصْبِرُوا} [آل عمران: 186] عَلَى الْأَذَى وَالشَّدَائِدِ {وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 186] بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْمُعَارَضَةِ {فَإِنَّ ذَلِكَ} [آل عمران: 186] الصَّبْرَ {مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] مَعْزُومَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ فِعْلُهَا وَتَحَمُّلُهَا أَوْ مِمَّا عَزَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَيْ أَمَرَ بِهِ وَبَالَغَ فِيهِ وَالْعَزْمُ فِي الْأَصْلِ ثَبَاتُ الرَّأْيِ عَلَى الشَّيْءِ نَحْوُ إمْضَائِهِ. وَعَنْ الْبَغَوِيّ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ مِنْ حَقِّ الْأُمُورِ وَحَتْمِهَا وَفِي النِّسَاءِ {وَإِنْ تُصْلِحُوا} [النساء: 129] مَا كُنْتُمْ تُفْسِدُونَ {وَتَتَّقُوا} [النساء: 129] فِيمَا يُسْتَقْبَلُ {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] وَفِي الْمَائِدَةِ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [المائدة: 65] أَيْ قَرَنُوا إيمَانَهُمْ بِعَمَلِ التَّقْوَى {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة: 65] يَشْكُلُ أَنَّ إيمَانَ الْكَافِرِ وَلَوْ لَمْ يُقَارِنْ الْعَمَلَ كَافٍ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَمَا فَائِدَةُ تَعْلِيقِ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِدْخَالِ الْجَنَّاتِ بِمَجْمُوعِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْحَمْلُ عَلَى مُرُورِ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ بَعْدَ الْإِيمَانِ بَعِيدٌ كَالْحَمْلِ عَلَى الِاتِّقَاءِ مِنْ الْكُفْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ أَصْلُ الْإِيمَانِ سَبَبُ أَصْلِ الدُّخُولِ. وَأَمَّا مَعِيَّتُه فَلِجَنَّاتِ النَّعِيمِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ وَفِي الْأَعْرَافِ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} [الأعراف: 96] الْمَدْلُولُ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} [الأعراف: 94]- وَقِيلَ مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ وَالْقُرَى فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَدِينَةُ لَعَلَّ الْمُرَادَ مَا يَشْمَلُ الْقَرْيَةَ وَالْمَدِينَةَ وَالْبَرَارِيَ إمَّا بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ {آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96] الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِي. وَعَنْ ابْنِ جَمِيلٍ أَنَّ الْمُهْلَكِينَ لَوْ أَتَوْا بِالْإِيمَانِ

وَاتَّقُوا الْمَنَاهِيَ {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] مِنْ الْأَمْطَارِ وَالرِّيَاحِ اللَّوَاقِحِ وَمِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتَاتِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ الْخَيْرَ وَيَسَّرْنَاهُ لَهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْخِصْبُ وَالرَّخَاءُ وَكَثْرَةُ الْمَوَاشِي وَزِيدَ الثِّمَارُ وَالْأَرْزَاقُ وَالْأَمْنُ وَالسَّلَامَةُ وَأَصْلُ الْبَرَكَةِ ثُبُوتُ الْخَيْرِ الْإِلَهِيِّ فِي الشَّيْءِ. وَعَنْ الْبَغَوِيّ هِيَ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُتَابَعَةُ سَوَاءٌ مَطَرًا أَوْ نَبَاتًا {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ} [الأعراف: 96] عَاقَبْنَاهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ كَالْقَحْطِ {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ الْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ. وَعَنْ الْعُيُونِ إذَا كَانَ الْمَرْءُ شَاكِرًا كَانَ سِعَةُ الرِّزْقِ فِيهِ مِنْ السَّعَادَةِ وَإِلَّا فَمِنْ الشَّقَاوَةِ وَفِي الْأَنْفَالِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 29] بِطَاعَتِهِ وَتَرْكِ عِصْيَانِهِ {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] هِدَايَةً فَارِقَةً بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَوْ نَصْرًا فَارِقًا بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ بِإِعْزَازِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِذْلَالِ الْكَافِرِينَ أَوْ مَخْرَجًا مِنْ الشُّبُهَاتِ وَنَجَاةً مِمَّا يَحْذَرُونَ فِي الدَّارَيْنِ أَوْ ظُهُورًا لِيُشْهِرَ أَمْرَكُمْ وَيُثْبِتَ دِينَكُمْ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَعَنْ الْخَازِنِ فُرْقَانًا يَعْنِي نُورًا فِي قُلُوبِكُمْ تُفَرِّقُونَ بِهِ الْحَقَّ عَنْ الْبَاطِلِ وَقِيلَ {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29] الصَّغَائِرَ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29] ذُنُوبَكُمْ الْكَبَائِرَ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29] فَلَا تَطْلُبُوا الْفَضْلَ مِنْ غَيْرِهِ. وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا وَعَدَهُ بِمُقَابَلَتِهِ الْعَمَلَ تَفَضُّلِيٌّ لَا وُجُوبِيٌّ وَقِيلَ كَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ يَعْنِي مَنْ كَانَ صَاحِبَ فَضْلٍ عَظِيمٍ يَقْدِرُ أَنْ يُعْطِيَ مِثْلَ هَذَا الْوَعْدِ. وَفِي النُّورِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] بِسُكُونِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ فِيمَا بَعْدُ فَلَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْعَلَهُ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ لِجَمْعِهِمْ أَسْبَابَ الْفَوْزِ وَفِي الطَّلَاقِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 2] فِي الْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] إلَى الْحَلَالِ وَالطَّاعَةِ. وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ نَزَلَتْ فِي «عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَسَرَ الْعَدُوُّ ابْنًا لَهُ فَأَتَى الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَشَكَا إلَيْهِ الْفَاقَةَ أَيْضًا فَقَالَ لَهُ اتَّقِ اللَّه وَاصْبِرْ وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَفَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ فَبَيْنَا هُوَ فِي بَيْتِهِ إذْ أَتَاهُ ابْنُهُ وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْعَدُوُّ فَأَصَابَ إبِلًا وَجَاءَ بِهَا إلَى أَبِيهِ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] أَيْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ يَعْنِي يُوَسِّعُ رِزْقَهُ. «وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاسْتَاقَ غَنَمَهُمْ فَجَاءَ بِهَا إلَى أَبِيهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلَافِ شَاةٍ فَانْطَلَقَ أَبُوهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ عَنْ حِلِّهِ فَقَالَ نَعَمْ» وَفِي الطَّلَاقِ أَيْضًا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 4] فِي أَحْكَامِهِ فَيُرَاعِي حُقُوقَهَا وَيَصْبِرْ {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ} [الطلاق: 4] أَمْرِ الدَّارَيْنِ {يُسْرًا} [الطلاق: 4] يُسَهِّلُهُ وَيُوَفِّقُهُ وَفِي الطَّلَاقِ أَيْضًا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} [الطلاق: 5] بِطَاعَتِهِ {يُكَفِّرْ عَنْهُ} [الطلاق: 5] بِالْيَاءِ وَالنُّونِ {سَيِّئَاتِهِ} [الطلاق: 5] مِنْ الصَّلَاةِ إلَى الصَّلَاةِ وَمِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] بِالْمُضَاعَفَةِ كَعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَفِي الْأَحْزَابِ

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الأحزاب: 70] فِي ارْتِكَابِ مَا يَكْرَهُهُ فَضْلًا عَمَّا يُؤْذِي رَسُولَهُ {وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] قَاصِدًا إلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - صَوَابًا وَقِيلَ صِدْقًا وَقِيلَ هُوَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقِيلَ الْقَوْلُ الَّذِي يُوَافِقُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ أَوْ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ الْغَرَضُ النَّهْيُ عَنْ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ وَالْحَثُّ عَلَى حِفْظِ اللِّسَانِ فِي كُلِّ بَابٍ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْخَيْرِ كُلِّهِ وَالْمَعْنَى رَاقِبُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي حِفْظِ أَلْسِنَتِكُمْ وَتَسْدِيدِ قَوْلِكُمْ {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 71] بِتَوْفِيقِ صَالِحِ الْأَعْمَالِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَبُولِ حَسَنَاتِكُمْ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71] الْآيَةَ وَفِي آلِ عِمْرَانَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] رَاجِينَ الْفَلَاحَ لَا الْقَطْعَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ كَذَا قِيلَ إنْ أُرِيدَ الْقَطْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَعْدِهِ وَعَادَتِهِ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْقَطْعِ فِي الْفَلَاحِ لِلْمُتَّقِي الْخَالِصِ، وَأَنَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَاتِ التَّقْوَى فَالْكَلَامُ فِي السَّبَبِ الْعَادِيِّ كَيْفَ وَخُلْفُ الْوَعْدِ وَالْكَذِبِ فِي الْخَبَرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ الْحُكْمِ وَتَبْدِيلِ الْقَوْلِ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَمَا سَبَقَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَوَقُّفِ الْفَلَاحِ عَلَى التَّقْوَى؛ وَلِهَذَا عَنْ ابْنِ جَمِيلٍ التَّقْوَى هُنَا وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ الْفَلَاحَ تَوَقَّفَ عَلَيْهَا فَلَوْ لَمْ تَبْقَ زَالَ الْفَلَاحُ وَفِي آلِ عِمْرَانَ أَيْضًا {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123] بِصَرْفِ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ لِمَا خَلَقَ لَهُ، وَذَلِكَ بِالتَّقْوَى عَنْ عِقَابِهِ وَفِي الْحُجُرَاتِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 189] فَلَا تَعْصُوهُ وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ أَوْ مُخَالَفَةُ حُكْمِهِ وَالْإِهْمَالُ فِيهِ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] رَاجِينَ رَحْمَتَكُمْ وَفِي الْمَائِدَةِ {وَتَعَاوَنُوا} [المائدة: 2] تَنَاصَرُوا {عَلَى الْبِرِّ} [المائدة: 2] اتِّبَاعُ أَمْرِ اللَّهِ وَالْعَمَلُ بِهِ أَوْ الْإِسْلَامُ أَوْ الْعَفْوُ وَالْإِعْفَاءُ {وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] اجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ أَوْ السُّنَّةِ وَمُتَابَعَتِهَا. وَعَنْ الْخَازِنِ لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى كَسْبِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَعَنْ السُّلَمِيِّ الْبِرُّ مَا وَافَقَك عَلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَالتَّقْوَى مُخَالَفَةُ الْهَوَى وَقِيلَ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إلَيْهِ قَلْبُك وَقِيلَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى طَاعَةُ الْأَكَابِرِ مِنْ السَّادَاتِ وَالْمَشَايِخِ وَلَا تُضَيِّعُوا حُظُوظَكُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ مُعَاوَنَتِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ وَعَنْ سَهْلٍ الْبِرُّ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى السُّنَّةُ وَفِي الْعَلَقِ {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} [العلق: 12] بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ أَوْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي فَنَهَاهُ عَنْهُ نَقْلٌ عَنْ الْعُيُونِ وَفِي النِّسَاءِ {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} [النساء: 131] أَمَرْنَا {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 131] مِنْ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ {وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فِي الْقُرْآنِ {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] بِأَنْ تُوَحِّدُوهُ وَتُطِيعُوهُ وَتَحْذَرُوهُ وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ فَالتَّقْوَى شَرِيعَةٌ قَدِيمَةٌ أَوْصَى بِهَا اللَّهُ جَمِيعَ الْأُمَمِ وَحِينَ اسْتَوْصَى مِنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ قَالَ أُوصِيَك يَا وَلَدِي بِمَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَكَافَّةَ أَوْلِيَائِهِ وَجُمْلَةَ أَحِبَّائِهِ وَعَامَّةَ عِبَادِهِ لِكَوْنِهِ غَايَةَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْهِ فَلَيْسَ أَعَزَّ مِنْهُ وَلَا أَفْضَلَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] فَعَلَيْك بِبَذْلِ جُهْدِك وَغَايَةِ سَعْيِك فِي تَحْقِيقِ حَقَائِقِ التَّقْوَى وَتَدْقِيقِ أَسْرَارِهَا فَإِنَّ لَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَحَقًّا وَحَقِيقَةً فَمَنْ بَلَغَهَا فَقَدْ مَلَكَ سُلْطَةً سَرْمَدِيَّةً انْتَهَى وَفِي الْمَائِدَةِ. {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 112] قَالَ عِيسَى لِلْحَوَارِيِّينَ الْقَائِلِينَ لَهُ - {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]- الْآيَةَ {اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 112] فِي سُؤَالِ الْمَائِدَةِ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112] ؛ لِأَنَّهُ سُؤَالُ تَعَنُّتٍ وَقِيلَ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِيَحْصُلَ لَهُمْ هَذَا السُّؤَالُ وَقِيلَ اسْتَعِينُوا عَلَى هَذَا بِالتَّقْوَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]-، ثُمَّ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهُ اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ بِلَا نَكِيرٍ وَفِي

آلِ عِمْرَانَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] حَقَّ خَوْفِهِ بِأَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ أَوْ بِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ لَا مَحَالَةَ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ الْمَحَارِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِأَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا قَالُوا بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ فَاتَّقُوا اللَّه مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ «حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ عَلَى الصَّحَابَةِ حَتَّى قَالُوا لَا نُطِيقُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُولُوا كَمَا تَقُولُ الْيَهُودُ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَلَكِنْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فَنَزَلَتْ {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] فَكَانَتْ أَعْظَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأُولَى فَسَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فَصَارَتْ نَاسِخَةً فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةٍ وَقِيلَ إنَّ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ نَعَمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى حَقَّ تُقَاتِهِ أَدَاءُ مَا كَانَ فِي طَاقَةِ الْعَبْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ تَفْسِيرًا لَهُ لَا نَاسِخًا وَلَا مُخَصِّصًا وَالنَّسْخُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِكُلِّ مَا يَجِبُ لِلَّهِ وَيَسْتَحِقُّهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَحْصِيلُهُ لِلْعَبْدِ كَذَا قَالُوا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ سَبَبِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ هُوَ الْقَوْلُ بِالِامْتِنَاعِ لِلْعَبْدِ فَهَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَأَنَّ النَّسْخَ الْأَصَحَّ أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ بَلْ بِالسَّمْعِ، وَأَنَّك قَدْ سَمِعْت أَنَّ ذَلِكَ رَأْيٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآثَارِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ وَالرِّوَايَةُ الْوَاحِدَةُ فِي جَنْبِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَوْ مُقَابِلِهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَافْهَمْ ذَلِكَ وَفِي التَّغَابُنِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] عَلَى قَدْرِ طَاقَتِكُمْ إذْ لَا تَكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ فَهَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا سَمِعْت كَمَا نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قِيلَ نَسَخَ هَذَا قَوْلَهُ حَقَّ تُقَاتِهِ لِمَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ قَامُوا حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَقْدَامُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ أَقُولُ كَمَا نَبَّهَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا أَمْكَنَ صُدُورُهُ مِنْ الْعَبْدِ غَايَتُهُ نِهَايَةُ مَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ مِنْ الْعَبْدِ كَيْفَ، وَقَدْ رَفَعَ عَنَّا التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ كَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ بَلْ رَفَعَ كُلَّ مَا فِيهِ حَرَجٌ وَأَرَادَ الْيُسْرَ لَا الْعُسْرَ لَعَلَّ لِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْبَيْضَاوِيُّ لِنَسْخِهَا. وَقَالَ أَيْ اُبْذُلُوا فِي تَقْوَاهُ جُهْدَكُمْ وَطَاقَتَكُمْ لَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَيْضًا مَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ هَذِهِ الْآيَاتُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ آيَةً لَكِنَّ دَلَالَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى فَضْلِ التَّقْوَى الْمُرَادَةِ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَى بَعْضِهَا وَأَيْضًا لَا يَظْهَرُ فِي الْكُلِّ تَرْتِيبُ قُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنْ يُرَادَ فَضْلُ مُطْلَقِ التَّقْوَى مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي سَيَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُ وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ مَوَاقِعَ التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إجْمَالًا وَعَرَفْت مَا ذَكَرْنَا تَفْصِيلًا مِنْ الثَّلَاثِ وَالسِّتِّينَ وَمَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الْفَضْلِ وَالْفَوَائِدِ (فَمَا مِنْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ) الْمُوجِبَةِ لِرِضَاهُ تَعَالَى مِنْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةِ (أَكْثَرُ ذِكْرًا) مِنْ حَيْثُ ذَاتِهَا (وَثَنَاءً عَلَيْهَا) مِنْ حَيْثُ فَضْلِهَا وَمَدْحِهَا (فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ التَّقْوَى) لَعَلَّ هَذَا إمَّا إضَافِيٌّ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ الْإِيمَانِ وَلَفْظَ الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَةِ أَكْثَرُ مِنْ التَّقْوَى (فَتَأَمَّلْ) أَيُّهَا الْمُشْتَاقُ إلَى لِقَاءِ اللَّهِ وَالطَّالِبُ رِضَا اللَّهِ وَالسَّالِكُ إلَى طَرِيقِ اللَّهِ (فِيمَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ) عِبَارَةً أَوْ دَلَالَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ مُقَايَسَةً (كَيْفَ كَانَ الْمُتَّقِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَكْرَمَ) وَأَشْرَفَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْأُولَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لِثُبُوتِ سَبْقِيَّتِهِ فِي التَّقْوَى عَلَى الْغَيْرِ بِالنَّصِّ كَانَ أَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ بِذَلِكَ أَفْضَلَ الْخَلَائِقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَالْفَضْلُ دَائِرٌ عَلَى التَّقْوَى فِي مَرَاتِبِهَا (وَ) كَانَ (مَقْبُولَ الطَّاعَةِ) إلَى أَنْ يَنْحَصِرَ الْقَبُولُ إلَى التَّقْوَى بِقَوْلِهِ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (وَ) كَانَ (وَلِيَّهُ) بَلْ حَصَرَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِمْ {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] (وَحَبِيبَهُ) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] فَانْظُرْ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ فَإِنَّهَا رُتْبَةُ أَوْلِيَائِهِ الْمُقَرَّبِينَ (وَكَيْفَ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِيًّا) بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَتَيْنِ (وَمُحِبًّا) بِمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا

(وَمُزَكِّيًا) {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] (وَنَاصِرًا) {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] فَانْظُرْ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ الْإِلَهِيَّةَ (وَكَيْفَ كَانَ لَهُ الْعَاقِبَةُ) الْمُرْضِيَةُ {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] فَانْظُرْ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ مِنْ لَامِ الْمِلْكِ بَلْ لَامَيْ التَّعْرِيفَيْنِ أَيْضًا (وَالْآخِرَةُ) {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49] وَعَلَى هَذَا فَقِسْ اللَّفَّ وَالنَّشْرَ الْمُرَتَّبَ (وَكَيْفَ أُعِدَّتْ لَهُ) لِلْمُتَّقِي (الْجَنَّةُ وَأُورِثَتْ) بِالْمَجْهُولِ (لَهُ وَأُزْلِفَتْ) قُرِّبَتْ (وَوُعِدَتْ لَهُ، وَكَانَتْ دَارًا) لِلْمُتَّقِينَ (وَكَيْفَ كَانَتْ التَّقْوَى لِلْآخِرَةِ زَادًا وَلِبَاسًا) {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] (وَكَيْفَ أُضِيفَتْ) التَّقْوَى (إلَى الرَّئِيس الْأَشْرَفِ) أَيْ الْقَلْبِ (وَامْتُحِنَ بِهَا وَكَيْفَ جُعِلَتْ سَبَبًا لِلْخَيْرِيَّةِ) فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ (وَكِتَابَةُ الرَّحْمَةِ) أَيْ إلْزَامُهَا (وَكَيْفَ خَصَّ لَهَا) لِأَجْلِ التَّقْوَى (كَوْنَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى هُدًى وَمَوْعِظَةً وَذِكْرَى) ؛ لِأَنَّ بِهَا يَتِمُّ الِانْتِفَاعُ وَيَكْمُلُ الِارْتِفَاعُ (وَكَيْفَ جُعِلَتْ غَايَةً) مُنْتَهًى وَنِهَايَةً (لِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ وَالْقِصَاصِ وَالصِّيَامِ) مِنْ الْعِبَادِ (وَالتَّبْيِينِ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْإِنْذَارِ) مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَالتَّوْصِيَةِ) مِنْهُ تَعَالَى (وَالْعَدْلِ وَالْعَفْوِ) مِنْ الْعِبَادِ (وَكَيْفَ كَانَتْ شَرْطًا وَسَبَبًا لِلْمَثُوبَةِ) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى (وَدَفْعِ الْكَيْدِ) مِنْ الْأَعْدَاءِ (وَالْإِمْدَادِ) بِالْمَلَائِكَةِ (وَإِتْيَانِ مَا يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَيْهِ وَالْمَغْفِرَةُ) لِلْعِبَادِ (وَالرَّحْمَةِ) لَهُمْ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ (وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِدْخَالِ الْجَنَّةِ وَفَتْحِ الْبَرَكَاتِ) مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْفَوْزِ) بِوُصُولِ السَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ (وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَضَايِقِ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَالرِّزْقِ) لِلْعَبْدِ (مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبْ وَالْيُسْرِ) عِنْدَ كُلِّ عُسْرٍ (وَإِعْظَامِ الْأَجْرِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ وَالْفَلَاحِ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَالشُّكْرِ) لِلَّهِ تَعَالَى (وَكَيْفَ أَمَرَ) اللَّهُ تَعَالَى (بِالتَّعَاوُنِ عَلَيْهَا) أَيْ التَّقْوَى (وَمَدَحَ الْآمِرَ بِهَا وَوَصَّى بِهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَجُعِلَتْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَأُمِرَ) بِالْمَجْهُولِ (بِتَحْصِيلِ حَقِيقَتِهَا وَكَمَالِهَا بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ) فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْعَظِيمَةَ وَالْمَنَافِعَ الْفَخِيمَةَ الْمُنْتَزِعَةَ وَالْمَفْهُومَةَ مِنْ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. (فَيَا أَيُّهَا الطَّالِبُ لِلْآخِرَةِ وَ) يَا أَيُّهَا (السَّالِكُ) الْعَابِرُ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ إلَى الْمَنَازِلِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْعَلِيَّةِ أَوْ التَّارِكُ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ الْفَانِيَةَ لِأَجْلِ الْمَرَاتِبِ الْبَاقِيَةِ أَوْ الْمُسَافِرِ مِنْ رَذِيلَةِ الْأَخْلَاقِ مَعَ سُوءِ الِاعْتِقَادِ وَذَمِيمَةِ الْأَطْوَارِ وَسَيِّئَةِ الْأَعْمَالِ إلَى خِلَافِهَا (فِي طَرِيقِهَا) الْآخِرَةِ

(إنْ كُنْت صَادِقًا فِي دَعْوَاك) فِي دَعْوَى الطَّلَبِ وَالسُّلُوكِ أَوْ دَعْوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَوِصَالِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَالدُّخُولِ فِي زُمْرَتِهِ وَشَفَاعَتِهِ (أَكْبِبْ) لَازِمْ (عَلَيْهَا) عَلَى التَّقْوَى فَإِنَّك قَدْ عَرَفْت أَنَّ زِمَامَ كُلِّ خَيْرٍ بِيَدِهَا وَحُصُولَ كُلِّ مُرَادٍ سُخِّرَ بِهَا (وَصِرْ عَاشِقًا) شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ (مُسْتَهْتِرًا) مُسْتَدِيمًا (لَهَا) بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُهَا وَلَوْ فَارَقْت عَجِّلْ وِصَالَهَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَك صَبْرٌ وَقَرَارٌ عِنْدَ فِرَاقِهَا كَالْعَاشِقِ مَعَ الْمَعْشُوقِ (بِحَيْثُ لَا يُعَوِّقُك عَنْهَا عَائِقٌ أَصْلًا) مِنْ الْعَوْقِ أَيْ مَانِعٌ وَلَوْ عَظِيمًا قَوِيًّا فَرَجِّحْهَا عَلَى جَمِيعِ مُهِمَّاتِك عِنْدَ عُرُوضِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ (وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ الْمَنْعِ عَنْ التَّقْوَى فَإِنَّ فَوَائِدَ التَّقْوَى وَمَنَافِعَهَا كَمَا عَرَفْت يَقْتَضِي أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ تَحْصِيلُهُ اسْتِقْلَالًا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُرَاجَعَةَ وَالِاسْتِمْدَادَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَدْرَكَ فَقَالَ، وَلَكِنَّ {اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي} [فاطر: 8] مِنْ فَضْلِهِ (مَنْ يَشَاءُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ) يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُهُ عَدَمُ نَفْعِ سَعْيِ الْعَبْدِ وَعَدَمُ اقْتِدَارِهِ وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلتَّوْصِيَةِ بِالْجِدِّ وَالسَّعْيِ، وَأَنَّهُ جَبْرٌ قُلْنَا قَدْ مَرَّ الْجَوَابُ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ عَرَفْت الْجَبْرَ الْمُتَوَسِّطَ وَالْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِلْعَبْدِ وَالتَّخْصِيصَ بِالْخَيْرِ مَعَ أَنَّ الشَّرَّ بِيَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَمَطْمَحُ النَّظَرِ وَقِيلَ سَكَتَ عَنْ الشَّرِّ تَأَدُّبًا وَقِيلَ؛ لِأَنَّ الشَّرَّ بِيَدِ النُّفُوسِ وَالنُّفُوسُ بِيَدِهِ تَعَالَى فَالْخَيْرُ مِنْهُ تَعَالَى بِالذَّاتِ وَالشَّرُّ مِنْهُ بِالْوَاسِطَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] قُلْت لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَايَةِ السَّخَافَةِ كَمَا عُرِفَ فِي الْكَلَامِ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (الْأَخْبَارُ) . لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّقْوَى أَرَادَ بَيَانَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي أَفْضَلِيَّةِ التَّقْوَى لِيُعْلَمَ تَطَابُقُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْأَخْبَارُ، أَيْ الْأَخْبَارُ مَا سَيَذْكُرُ أَوْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ أَوْ الْمُبْتَدَأِ فَمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ يَقُولُ الْمُبْتَدَأُ أَصْلٌ وَالْخَبَرُ وَقْفٌ تَابِعٌ فَالْمَذْكُورُ مُبْتَدَأٌ، وَمَنْ رَجَّحَ الثَّانِيَ يَقُولُ الْمُبْتَدَأُ مَعْلُومٌ وَالْمَقْصُودُ بِالْإِفَادَةِ هُوَ الْخَبَرُ فَهُوَ الْمَذْكُورُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ بَعْضُ الْأَخْبَارِ أَوْ جِنْسُ الْأَخْبَارِ الْمُرَادُ حُصُولُهُ فِي ضِمْنِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَلَوْ أُرِيدَ الِاسْتِغْرَاقُ أَيْ جَمِيعُ الْأَخْبَارِ الَّذِي وَصَلَ إلَى الْمُصَنِّفِ لَمْ يَبْعُدْ كُلَّ بُعْدٍ (حَدّ) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الْغِفَارِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَهُ اُنْظُرْ» اعْتَبِرْ «فَإِنَّك لَسْت بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ» إمَّا لِأَصَالَتِهِمَا فِي أَلْوَانِ الْإِنْسَانِ وَالْمَقْصُودُ شُمُولُ الْكُلِّ أَوْ الْأَحْمَرُ الْإِنْسُ لِغَلَبَةِ الدَّمِ فِي الْأَجْسَامِ التُّرَابِيَّةِ وَالْأَسْوَدُ الْجِنُّ لِغَلَبَةِ النَّارِ فِي الْأَجْسَامِ الْهَوَائِيَّةِ أَوْ الْأَحْمَرُ سُكَّانُ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْأَسْوَدُ سُكَّانُ الْبَوَادِي أَوْ الْأَحْمَرُ النِّسَاءُ لِرَاحَتِهِنَّ وَالْأَسْوَدُ الرِّجَالُ لِتَعَبِهِمْ فِي الْمَعِيشَةِ أَوْ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ «إلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ» تَصِيرُ فَاضِلًا عَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ «بِالتَّقْوَى» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِتَقْوَى بِلَا لَامٍ أَيْ تَزِيدُ عَلَيْهِ فِي وِقَايَةِ النَّفْسِ عَمَّا يَضُرُّهَا فِي الْآخِرَةِ وَمَرَاتِبِهَا كَمَا سَتَعْرِفُهَا ثَلَاثَةٌ التَّوَقِّي عَنْ الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ، ثُمَّ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ، ثُمَّ عَنْ مَا يَشْغَلُ السِّرَّ عَنْ الْحَقِّ تَقَدَّسَ فَالتَّقْوَى أَمْرٌ يَفْضُلُ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى الْكُلِّ فَمَنْ كَانَ أَسْبَقَ فِيهَا فَأَسْبَقُ فِي الْفَضْلِ.

(هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ» ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ «فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ أَلَا» اسْتِفْتَاحٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّحْقِيقُ «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ» الْمُتْقِنُ لِلتَّكَلُّمِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِلَا تَكَلُّفٍ «عَلَى عَجَمِيٍّ» خِلَافِ الْعَرَبِ فَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَجَمِيٌّ وَابْنُهُ إسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَبِيٌّ وَقِيلَ الْفَارِقُ هُوَ اللِّسَانُ كَمَا فِي حَدِيثِ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ «وَلَا» فَضْلَ «لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ» كَمَا عَرَفْت مَعْنَيَيْهِمَا إذْ الْفَضْلُ لَيْسَ دَائِرًا عَلَى النَّوْعِ أَوْ النَّسَبِ أَوْ الْمَكَانِ «وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ» آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ «إلَّا بِالتَّقْوَى» عَلَى مَرَاتِبِهَا أَشَارَ إلَى الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] أَلَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ أَيْضًا «هَلْ بَلَّغْتُ» بِالتَّكَلُّمِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] «قَالُوا بَلَى» أَيْ بَلَّغْت «يَا رَسُولَ اللَّهِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» «قَالَ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ» أَيْ الْحَاضِرُ «الْغَائِبَ» وَقِيلَ الشَّاهِدُ الْعَالِمُ وَالْغَائِبُ الْجَاهِلُ الْغَافِلُ قِيلَ فِيهِ حَثٌّ عَلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ، ثُمَّ التَّحَدُّثُ بِهِ لِأَهْلِهِ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (ططص) الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَةِ الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُنَادِيًا يُنَادِي» فِي عَالَمِ الْمَحْشَرِ إعْلَامًا لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ مَنْ أَكْرَمُ عِنْدَهُ وَإِيذَانًا بِشَرَفِ التَّقْوَى وَثَمَرَتِهَا «أَلَا إنِّي جَعَلْت» بَيْنَكُمْ «نَسَبًا» يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى رَحْمَتِي، وَهُوَ التَّقْوَى «وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا» مَبْنِيًّا عَلَى عَرَضِ الدُّنْيَا وَحُطَامَاتِهَا «فَجَعَلْت أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ» لَعَلَّ الْفَرْدَ السَّابِقَ مِنْ التَّقْوَى هُوَ الْغَايَةُ فِي نِهَايَةِ التَّقْوَى مِنْ تَطْهِيرِ السِّرِّ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَطْعِ تَعَلُّقِ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ مَا يَهْوَاهُ كَمَا فِي مَقَامِ جَمْعِ الْجَمْعِ عِنْدَ أَهْلِ اللَّهِ «فَأَبَيْتُمْ» أَيْ امْتَنَعْتُمْ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ «إلَّا أَنْ تَقُولُوا» فِي اعْتِبَارِ نَسَبِكُمْ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ بَيْنَكُمْ فِي الدُّنْيَا «فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ خَيْرٌ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ» مِنْ جِهَةِ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَنَسَبِ الدُّنْيَا «فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ» حَتَّى يُحْفَظُوا مِنْ الْمَخَاوِفِ وَيُوصَلُوا إلَى الْمَطَالِبِ وَتُقْضَى لَهُمْ الْحَوَائِجُ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَنْسَابِ اللَّهِ تَعَالَى. (حَدَّ) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سِتَّةُ أَيَّامٍ» فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا «اعْقِلْ» تَعْقَلْ وَانْتَظِرْ وَاحْفَظْ مَا لِلتَّشَوُّقِ بِالِانْتِظَارِ؛ لِأَنَّ

الشَّيْءَ بَعْدَ الطَّلَبِ أَلَذُّ أَوْ لِاخْتِبَارِ كَوْنِهِ طَالِبًا حَقِيقِيًّا أَوْ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لِذَلِكَ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا بَعْدَ السِّتَّةِ «يَا أَبَا ذَرٍّ مَا يُقَالُ لَك بَعْدُ» مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِكَمَالِ الِاسْتِشْرَاقِ. «فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ قَالَ أُوصِيَك بِتَقْوَى اللَّهِ» بِأَنْ تُطِيعَهُ فَلَا تَعْصِيَهُ وَتَشْكُرَهُ فَلَا تَكْفُرَهُ وَالتَّقْوَى أُسُّ كُلِّ فَلَاحٍ وَنَجَاحٍ فِي الدَّارَيْنِ. قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ خَصْلَةٌ لِلْعَبْدِ أَجْمَعُ لِلْخَيْرِ وَأَعْظَمُ لِلْأَجْرِ وَأَجَلُّ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَأَعْظَمُ فِي الْقَدْرِ وَأَوْفَى بِالْحَالِ وَأَنْجَحُ لِلْآمَالِ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ التَّقْوَى وَإِلَّا لَمَا أَوْصَى اللَّهُ بِهَا خَوَاصَّ خَلْقِهِ فَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَا مُتَجَاوَزَ عَنْهَا وَلَا مُقْتَصَرَ دُونَهَا وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ فِيهَا كُلَّ نُصْحٍ وَدَلَالَةٍ وَإِرْشَادٍ وَتَأْدِيبٍ وَتَعْلِيمٍ فَهِيَ الْجَامِعَةُ لِخَيْرِ الدَّارَيْنِ الْكَافِيَةُ لِجَمِيعِ الْمُهِمَّاتِ الْمُبَلِّغَةِ إلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُنَاوِيِّ «فِي سِرِّ أَمْرِك وَعَلَانِيَتِهِ» فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَالْقَصْدُ الْوَصِيَّةُ بِإِخْلَاصِ التَّقْوَى وَتَجَنُّبِ الرِّيَاءِ فِيهَا قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا أَرَدْنَا تَحْدِيدَ التَّقْوَى عَلَى مَوْضِعِ عِلْمِ السِّرِّ نَقُولُ حَدُّهَا الْجَامِعُ تَبْرِئَةُ الْقَلْبِ مِنْ شَرٍّ لَمْ يَسْبِقْ عَنْك مِثْلُهُ بِقُوَّةِ الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ وِقَايَةً بَيْنَك وَبَيْنَ كُلِّ شَرٍّ قَالَ هُنَا أَصْلٌ هُوَ الْعِبَادَةُ وَشَطْرَانِ اكْتِسَابٌ هُوَ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابٌ هُوَ تَجَنُّبُ السَّيِّئَاتِ، وَهُوَ التَّقْوَى، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ فَاشْتِغَالُ الْمُبْتَدَئِينَ أَنْ يَصُومُوا نَهَارَهُمْ ويَقُومُوا لَيْلَهُمْ وَاشْتِغَالُ الْمُنْتَهِينَ أُولِي الْبَصَائِرِ، وَالِاجْتِنَابُ إنَّمَا هُوَ حِفْظُ الْقُلُوبِ عَنْ الْمَيْلِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى وَالْبُطُونِ عَنْ الْفُضُولِ وَالْأَلْسِنَةِ عَنْ اللَّغْوِ وَالْأَعْيُنِ عَنْ النَّظَرِ إلَى مَا لَا يَعْنِيهِمْ «، وَإِذَا أَسَأْت» إلَى أَحَدٍ «فَأَحْسِنْ» فِي فَوْرِهِ - {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]- فَلَا تَتْرُكْهُ يَسْخَطْ عَلَيْك فَرُبَّمَا يَدْعُو اللَّهَ عَلَيْك فَيُجِيبُهُ «وَلَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا» مِنْ الْخَلْقِ «شَيْئًا» مِنْ الرِّزْقِ ارْتِقَاءً إلَى مَقَامِ التَّوَكُّلِ فَلَا تُعَلِّقْ قَلْبَك بِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ بَلْ بِوَعْدِ اللَّهِ وَحُسْنِ كِفَايَتِهِ وَضَمَانِهِ - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ مَا سَأَلَ إنْسَانٌ النَّاسَ إلَّا لِجَهْلِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَضَعْفِ يَقِينِهِ بَلْ إيمَانِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ وَمَا تَعَفَّفَ مُتَعَفِّفٌ إلَّا لِوُفُورِ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَتَزَايُدِ مَعْرِفَتِهِ وَكَثْرَةِ حَيَائِهِ مِنْهُ، وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُك كَالْعَصَا فَلَا تَطْلُبْ مِنْ إنْسَانٍ مُنَاوَلَتَهُ بَلْ يَنْزِلُ هُوَ فَيَتَنَاوَلُهُ بِيَدِهِ «وَلَا تَقْبِضَنَّ أَمَانَةً» خَوْفًا لِلْخِيَانَةِ وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ إنْ عَاجِزًا عَنْ حِفْظِهَا، وَإِنْ قَدَرَ فَنَدْبٌ بَلْ إنْ تَعَيَّنَ فَوَاجِبٌ (قش) الْقُشَيْرِيُّ. (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوْصِنِي فَقَالَ لَهُ عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا» أَيْ التَّقْوَى «جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ» مِنْ

خُيُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّهَا، وَإِنْ قَلَّ لَفْظُهَا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِحُقُوقِ الْحَقِّ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَهُ «وَعَلَيْك بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْك بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ نُورٌ لَك فِي الْأَرْضِ وَذِكْرٌ لَك فِي السَّمَاءِ وَاخْزِنْ لِسَانَك إلَّا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّك بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ، ثُمَّ الذِّكْرُ يَقَعُ بِاللِّسَانِ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِحْضَارُ مَعْنَاهُ فَلَوْ انْضَمَّ فَأَبْلَغُ الْكَمَالِ (مج) ابْنُ مَاجَهْ. (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَقُولُ مَا اسْتَفَادَ الْمَرْءُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى خَيْرًا» لَهُ «مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ» بِإِتْيَانِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الطِّيبِيِّ جَعَلَ التَّقْوَى نِصْفَيْنِ نِصْفًا تَزَوُّجًا وَنِصْفًا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ فِي التَّزَوُّجِ التَّحَصُّنَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَسْرَ التَّوَقَانِ وَدَفْعَ غَوَائِلِ الشَّهْوَةِ وَغَضَّ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ «إنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا» بِصَوْنِهَا مِنْ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ بَيَانٌ لِخَيْرِيَّتِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْسِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الزَّوْجُ إمَّا حَاضِرٌ فَافْتِقَارُهُ إلَيْهَا إمَّا مِنْ جِنْسِ الْخِدْمَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ فَتَكُونُ مُطِيعَةً أَوْ ذَاتَ جَمَالٍ وَدَلَالٍ فَمُسِرَّةٌ وَإِمَّا غَائِبٌ فَتَحْفَظُ مَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مِنْ نَفْسِهَا «وَمَالِهِ» فَنَاصِحَةٌ. عَنْ ابْنِ حَجَرٍ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّسْلُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفَ دَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَقْصُودِ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَفْضَلَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ التَّقْوَى، ثُمَّ بَعْدَهَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ. (طب) طَبَرَانِيٌّ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غُزَاةٍ أَوْ» مِنْ «سَرِيَّةٍ» قِطْعَةٌ مِنْ الْجَيْشِ يُقَالُ خَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ كَذَا نُقِلَ عَنْ الصِّحَاحِ «فَدَعَا فَاطِمَةَ» - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حَتَّى جَاءَتْ «فَقَالَ يَا فَاطِمَةُ اشْتَرِي نَفْسَك مِنْ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ مِنْ عَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ «فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْك» لَا أَنْفَعُك «مِنْ اللَّهِ شَيْئًا» كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] «وَقَالَ» النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِنِسْوَتِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لِعِتْرَتِهِ» أَقَارِبِهِ

وَذُرِّيَّتِهِ «، ثُمَّ قَالَ مَا بَنُو هَاشِمٍ» وَهُمْ أَوْلَادُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَعْمَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَّاتُهُ. وَكَانَتْ أَعْمَامُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْلَادُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ ثَالِثَ عَشْرِهِمْ وَهُمْ الْحَارِثُ وَأَبُو طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَالزُّبَيْرُ وَيُكَنَّى أَبَا الْحَارِثِ وَحَمْزَةَ وَأَبُو لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى وَالْغَيْدَاقُ وَالْمُقَوِّمُ وَضِرَارٌ أَوْ الْعَبَّاسُ وَقُثَمٌ وَعَبْدُ الْكَعْبَةِ وَجَحَلٌ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْمُسَغَّمُ الضَّخْمُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ، وَهُوَ الْقَيْدُ وَالْخَلْخَالُ وَيُسَمَّى الْمُغِيرَةُ وَقِيلَ كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ فَأَسْقَطَ الْغَيْدَاقَ وَحَجْل وَقِيلَ تِسْعَةٌ فَأَسْقَطَ قَثْمًا وَعَبْدَ الْكَعْبَةِ وَعَمَّاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنَاتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ سِتٌّ: عَاتِكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَالْبَيْضَاءُ، وَهِيَ أُمُّ حَكِيمٍ وَبَرَّةُ وَصَفِيَّةُ وَأَرْوَى وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُنَّ إلَّا صَفِيَّةُ أُمُّ الزُّبَيْرِ بِلَا خِلَافٍ وَاخْتُلِفَ فِي أَرْوَى وَعَاتِكَةَ كَمَا فِي مَوَاهِبِ الْقَسْطَلَّانِيِّ لَكِنْ فِي مَصْرِفِ زَكَاةِ الْفِقْهِيَّةِ. وَأَمَّا بَنُو أَبِي لَهَبٍ فَلَا إكْرَامَ لَهُمْ لِقَطْعِ الْقُرْآنِ عَلَاقَتَهُ «بِأَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي» أَيْ بِأُمُورِ أُمَّتِي أَوْ مِنْ أُمَّتِي مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ قَبِيلَتِي الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْقَبَائِلِ يَعْنِي لَوْ كَانَ الشَّرَفُ بِالْحَسَبِ وَالنَّسَبِ لَكَانُوا هُمْ الْأَشْرَافُ لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ «إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ» مَرَاتِبُ الْأَوْلَوِيَّةِ عَلَى مَرَاتِبِ التَّقْوَى «وَلَا قُرَيْشُ» وَأَصْلُهُ دَابَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْبَحْرِ تَمْنَعُ السُّفُنَ مِنْ السَّيْرِ فِي الْبَحْرِ وَتَدْفَعُهَا فَتُلْقِيهَا وَتَضْرِبُهَا فَتَكْسِرُهَا. قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: هِيَ سَيِّدَةُ الدَّوَابِّ الْبَحْرِيَّةِ وَأَشَدُّهَا وَكَذَلِكَ قُرَيْشٌ سَادَاتٌ النَّاسِ كَذَا نُقِلَ عَنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ «بِأَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ» لَا يَخْفَى أَنَّ الْهَاشِمِيَّ أَشْرَفُ مِنْ قُرَيْشٍ فَبَعْدَ نَفْيِ الْأَوْلَوِيَّةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا بُدَّ لِنَفْيِ هَذِهِ مِنْ وَجْهٍ فَالْوَجْهُ إمَّا لِدَفْعِ وَهْمِ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الْهَاشِمِيِّ عَلَى مَفْهُومِ اللَّقَبِ أَوْ كَانَ فِي الْمُخَاطَبِينَ قُرَشِيٌّ وَأُرِيدَ تَنْصِيصُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ أَوْ إيذَانًا عَلَى عَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِحَسَبِ الْكَثْرَةِ. وَقَدْ عُرِفَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي نُكْتَةُ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فِي بَحْثِ الْإِطْنَابِ، وَإِنْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لَكِنْ قَدْ رُدَّ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْإِتْقَانِ «وَلَا الْأَنْصَارُ» أَهْلُ الْمَدِينَةِ نَصَرُوهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى جَعَلُوهُمْ مُشَارِكِينَ فِي دَارِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ بَلْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ احْتِيَاجٌ هُمْ قَبِيلَتَانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَمِنْهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ لِكَثْرَةِ سُكْنَاهُمْ فِي صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَعْلِيمِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ يَنْقَطِعُونَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَتَفَرَّغُونَ لِذَلِكَ الدِّينِ نَزَلَ فِي شَأْنِهِمْ قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]- وَرَئِيسُهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - «بِأَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأُمَّتِي الْمُتَّقُونَ» فِي الْإِضَافَاتِ تَنْبِيهَاتٌ أَنَّ الِانْتِسَابَ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ بِالْقَرَابَةِ وَلَا بِالْخِدْمَةِ وَلَا بِالْإِحْسَانِ بَلْ بِالتَّشَرُّعِ بِشَرِيعَتِهِ وَالتَّسَنُّنِ بِسُنَّتِهِ، وَهُوَ بِكَمَالِ الِاتِّبَاعِ لَهُ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا بَلْ سِيرَةً أَيْضًا إذْ حَاصِلُ الِاتِّقَاءِ مَأْخُوذٌ مِنْهُ لَكِنْ قَالُوا لَا شَرَفَ بِالنَّسَبِ إلَّا بِنَسَبِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - تَرَكَ الْمُهَاجِرُونَ لَعَلَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي قُرَيْشٍ وَهَاشِمٍ وَلَوْ تَغْلِيبًا، ثُمَّ أَشَارَ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ «إنَّمَا أَنْتُمْ» إمَّا خِطَابٌ لِجَمِيعِ مَنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ لِلْمُطْلَقِ وَالْمُتَكَلِّمُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ فَتَدَبَّرْ «مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ» آدَم وَحَوَّاءُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَأَنْتُمْ كَجُمَامٍ» مَا يُمْلَأُ بِهِ الصَّاعُ كَالْحُبُوبِ وَقِيلَ الْمُكَالُ بِهِ لِتَسَاوِيهِ فِي الْعَادَةِ قَدْرًا وَثَمَنًا وَفُسِّرَ بِالْكَيْلِ وَقِيلَ أَيْ أَنْتُمْ مُسْتَوُونَ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالنَّسَبُ كَاسْتِوَاءِ رَأْسِ الصَّاعِ «الصَّاعُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إلَّا بِالتَّقْوَى» فَإِنَّ الْفَضْلَ عِنْدَ اللَّهِ مُعْتَبَرٌ بِالتَّقْوَى (وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ) فَضْلِ التَّقْوَى (كَثِيرَةٌ جِدًّا) فَيَطُولُ الْكَلَامُ بِذِكْرِهَا وَلَا يَتَحَمَّلُهَا الْمَقَامُ وَمِنْهَا أَحَادِيثُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «أُوصِيَك بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ» الْحَدِيثَ وَأَيْضًا «أُوصِيَك بِتَقْوَى اللَّهِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ»

وَأَيْضًا «أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ» . وَفِي الْمُحَاضَرَاتِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِمُعَاذٍ أُوصِيَك بِتَقْوَى اللَّهِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ وَحِفْظِ الْجِوَارِ وَرَحِمِ الْيَتِيمِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَبَذْلِ السَّلَامِ وَحُسْنِ الْعَمَلِ وَقَصْرِ الْأَمَلِ وَلُزُومِ الْإِيمَانِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الْقُرْآنِ» . وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ «قِيلَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ قَالَ كُلُّ تَقِيٍّ نَقِيٍّ آلُ التَّقْوَى جِمَاعُ الْخَيْرَاتِ» . وَفِي الْمِنْهَاجِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «مَا أُعْجِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا أَعْجَبَهُ أَحَدٌ إلَّا ذُو تُقًى» (الْآثَارُ) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَطَبَ النَّاس فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ وُلِّيت أَمْرَكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ، وَلَكِنْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّنَنَ فَعَلَّمَنَا اعْلَمُوا أَنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ التَّقْوَى، وَأَنَّ أَحْمَقَ الْحُمْقِ الْفُجُورُ. وَمِنْ خُطْبَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيُّهَا النَّاسُ اعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقًا عُرْوَتُهُ وَمَعْقِلًا مَنِيعًا ذُرْوَتُهُ وَبَادِرُوا الْمَوْتَ وَغَمَرَاتِهِ وَأَمْهِدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَأَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ. وَمِنْهَا أَيْضًا: أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَانًا وَيَفْتِنُونَ افْتِنَانَا. وَحِينَ ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجِمٍ قَالَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ لَا تَبْغِيَا الدُّنْيَا، وَإِنْ بَغَتْكُمَا وَلَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زَوَى عَنْكُمَا وَقُولَا بِالْحَقِّ وَاعْمَلَا لِلْآخِرَةِ وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصِيمًا وَلِلْمَظْلُومِ عَوْنًا أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي، وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: لَا مُعِينَ إلَّا اللَّهُ وَلَا دَلِيلَ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ وَلَا زَادَ إلَّا التَّقْوَى وَلَا عَمَلَ إلَّا الصَّبْرُ وَعَنْ الْكِتَّانِيِّ قُسِّمَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْبَلْوَى وَقُسِّمَتْ الْجَنَّةُ عَلَى التَّقْوَى وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ سَمِعْت الْحَرِيرِيَّ يَقُولُ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى وَالْمُرَاقَبَةِ لَمْ يَصِلْ إلَى الْكَشْفِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرَّيْحَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ كَانَ رَأْسُ مَالِهِ التَّقْوَى كَلَّتْ الْأَنْفُسُ عَنْ وَصْفِ رِبْحِهِ وَالْمُتَّقِي مِثْلُ أَبِي زَيْدٍ الْبِسْطَامِيِّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - الْعَزِيزُ اشْتَرَى مِنْ هَمَذَانَ حَبَّ الْقُرْطُمِ فَلَمَّا رَجَعَ إلَى بِسْطَامٍ رَأَى فِيهِ نَمْلَتَيْنِ فَرَجَعَ إلَى هَمَذَانَ وَوَضَعَ النَّمْلَتَيْنِ وَأَيْضًا أَنَّهُ غَسَلَ ثَوْبَهُ فَقَالَ صَاحِبُهُ نُعَلِّقُ الثَّوْبَ فِي جُدَرَانِ الْكُرُومِ فَقَالَ لَا تَضْرِبْ الْوَتَدَ فِي جِدَارِ النَّاسِ فَقَالَ نُعَلِّقُهُ فِي الشَّجَرِ فَقَالَ لَا؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ الْأَغْصَانَ فَقَالَ نَبْسُطُهُ عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ لَا؛ لِأَنَّهُ عَلَفٌ لِلدَّوَابِّ فَوَلَّى ظَهْرَهُ إلَى الشَّمْسِ وَالْقَمِيصُ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى جَفَّ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ غَرَزَ عَصَاهُ فِي الْأَرْضِ فَسَقَطَتْ وَوَقَعَتْ عَلَى عَصَا شَيْخٍ بِجَنْبِهِ رَكَّزَ عَصَاهُ فِي الْأَرْضِ فَانْحَنَى الشَّيْخُ وَأَخَذَ عَصَاهُ فَمَضَى أَبُو زَيْدٍ إلَى بَيْتِ الشَّيْخِ وَاسْتَحَلَّهُ وَرُئِيَ عُتْبَةُ الْغُلَامَ يَتَصَبَّبُ عَرَقًا فِي الشِّتَاءِ فَقَالَ؛ لِأَنَّهُ مَكَانٌ عَصَيْت رَبِّي فِيهِ لِأَنِّي كَشَطْت مِنْ هَذَا الْجِدَارِ قِطْعَةَ طِينٍ فَغَسَلَ ضَيْفٌ لِي يَدَهُ بِهَا وَلَمْ أَسْتَحِلَّ صَاحِبَهُ مِنْ رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ التَّقْوَى كَنْزٌ عَزِيزٌ وَجَوْهَرٌ نَفِيسٌ وَخَيْرٌ كَثِيرٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَفَوْزٌ كَبِيرٌ وَغُنْمٌ جَسِيمٌ وَمِلْكٌ عَظِيمٌ فَجَمِيعُ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَحْتَ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَيْ التَّقْوَى وَتَأَمَّلْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِهَا مِنْ تَعْلِيقِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ وَعَدَّ مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَوَّلُهَا الْمِدْحَةُ وَالثَّنَاءُ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] . ثَانِيهَا: الْحِفْظُ وَالْحِرَاسَةُ مِنْ الْأَعْدَاءِ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] ثَالِثُهَا: التَّأْيِيدُ وَالنُّصْرَةُ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا - أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 128 - 194] . رَابِعُهَا: النَّجَاةُ مِنْ الشَّدَائِدِ وَالرِّزْقُ مِنْ الْحَلَالِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] . خَامِسُهَا: إصْلَاحُ الْعَمَلِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 71] . سَادِسُهَا: غُفْرَانُ الذُّنُوبِ {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] . سَابِعُهَا: مَحَبَّةُ اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] . ثَامِنُهَا: الْقَبُولُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] . تَاسِعُهَا: الْإِكْرَامُ وَالْإِعْزَازُ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . عَاشِرُهَا: الْبِشَارَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] . الْحَادِيَ عَشَرَ: النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17] . الثَّانِيَ عَشَرَ: الْخُلُودُ

النوع الثاني في تفسير التقوى

فِي الْجَنَّةِ {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] فَهَذِهِ وَكُلُّ خَيْرٍ وَسَعَادَةٍ فِي الدَّارَيْنِ تَحْتَ هَذِهِ التَّقْوَى فَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنْهَا ثُمَّ قَالَ فَعَلَيْك بِهَذِهِ التَّقْوَى إنْ أَرَدْت سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فَذَاكَ الَّذِي ... سِيقَ إلَيْهِ الْمَتْجَرُ الرَّابِحُ وَكُتِبَ عَلَى بَعْضِ الْقُبُورِ لَيْسَ زَادٌ سِوَى التُّقَى ... فَخُذِي مِنْهُ أَوْ دَعِي وَبَلَغَنِي أَنَّ عَامِرًا بَكَى عِنْدَ مَوْتِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى فِرَاشِهِ فَيَقُولُ لِنَفْسِهِ أَيَا مَأْوَى كُلِّ شَرٍّ وَاَللَّهِ مَا رَضِيتُك لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيَك فَقَالَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] . ثُمَّ تَأَمَّلْ نُكْتَةً أُخْرَى هِيَ أَصْلٌ لِلْأُصُولِ، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ حِينَ اسْتَوْصَى مِنْ بَعْضِ أَشْيَاخِهِ قَالَ أُوصِيَك بِوَصِيَّةِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] قُلْت وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ أَوْ لَيْسَ هُوَ أَرْحَمُ وَأَرْأَفُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ أَصْلَحُ وَأَجْمَعُ وَأَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَنْجَحُ مِنْ التَّقْوَى لَأَمَرَ عِبَادَهُ بِهِ فَإِذَا أَوْصَى الْكُلَّ بِهَا فَهِيَ الْغَايَةُ فَجَمَعَ كُلَّ نُصْحٍ وَدَلَالَةٍ وَإِشَارَةٍ وَتَنْبِيهٍ وَتَأْدِيبٍ وَتَعْلِيمٍ وَتَهْذِيبٍ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْوَاحِدَةِ فَهِيَ الْكَافِيَةُ لِلْمُهِمَّاتِ وَالْمُبَلِّغَةُ إلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ. (وَ) الِاسْتِدْلَال بِنَظَرِ (الْعَقْلِ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّقْوَى مِنْ غَيْرِهَا مِنْ) سَائِرِ (الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيَةَ) بِالْمُهْمَلَةِ التَّزَيُّنُ (بَعْدَ التَّخْلِيَةِ) بِالْمُعْجَمَةِ التَّبَرِّي وَالتَّخَلِّي (وَالتَّزْيِينُ بَعْدَ التَّطْهِيرِ فَالْأَوَّلُ) الطَّاعَاتُ (بِدُونِ الثَّانِي) التَّخَلِّي وَالتَّطْهِيرُ عَنْ السَّيِّئَاتِ (لَا يُفِيدُ وَعَكْسُهُ يُفِيدُ) أَقُولُ لَعَلَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الشُّمُولِ إلَى الْكُفْرِ وَإِلَّا فَمَنْ فَعَلَ الْمُنْكَرَ غَيْرَ الْكُفْرِ يَلْزَمُ أَنْ لَا تُقْبَلَ حَسَنَاتُهُ وَاجِبَاتٌ أَوْ نَوَافِلُ وَالِاجْتِرَاءُ صَعْبٌ، وَإِنْ مَشَى عَلَى ظَاهِرِهِ بَعْضٌ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُوَ الْكَمَالُ يَعْنِي لَا يُفِيدُ فَائِدَةً مُعْتَدَّةً كَامِلَةً (فَهِيَ) أَيْ التَّقْوَى (الْأَسَاسُ) أَيْ الْأَصْلُ (لِجَمِيعِ خِصَالِ الْخَيْرِ فَخُذْهَا) بِجِدٍّ وَ (بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَك) وَأَوْصِهِمْ كَمَا أَوْصَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ خَوَاصَّ عِبَادِهِ كَمَا عَرَفْت كَمَا قَالَ اللَّهُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» الْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) أَيْ بِأَحْسَنِ التَّقْوَى أَيْ أَقْوَاهَا وَأَقْوَمِهَا أَوْ بِكَمَالِهَا (فَإِنَّ فِيهَا سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ) بَلْ رِيَاسَتَهُمَا (وَالْفَوْزَ بِالْحَيَاتَيْنِ) حَيَاةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ بِالْحَيَاةِ الْقُدْسِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ الْغِيَابِيَّةِ وَالْحَيَاةِ الْحِسِّيَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْهَيُولَانِيَّةِ أَوْ الْحَيَاةِ الْحِسِّيَّةِ بِالْأَرْزَاقِ الْمَعَاشِيَّةِ وَالْحَيَاةِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِالْأَرْزَاقِ الْمَعَادِيَّةِ وَقِيلَ أَوْ الْحَيَاةُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالْإِمْدَادَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ بِالْإِمْدَادَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ أَوْ الْحَيَاةُ الْكَوْنِيَّةُ وَالْحَيَاةُ الْأَزَلِيَّةُ. (يَسَّرَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكُمْ إنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) بِالْفَتْحِ الْمُحْسِنُ الْمُتَفَضِّلُ (الرَّحِيمُ وَالْجَوَادُ الْكَرِيمُ) الَّذِي لَا يُخَيِّبُ رَاجِيَهُ وَلَا يَخْسَرُ مُنَاجِيَهُ وَفُسِّرَ بِنَيْلِ مَا يَنْبَغِي عَلَى مَا يَنْبَغِي لَعَلَّ كَوْنَ شَرَفِ التَّقْوَى وَعَظَمَتِهَا مِنْ شِدَّةِ اكْتِسَابِهَا وَصُعُوبَةِ تَحْصِيلِهَا عَلَى أَنَّ اللَّذَّاتِ عَلَى حَسَبِ الْمَئُونَاتِ وَالْأَجْرُ بِقَدْرِ التَّعَبِ وَالْأَفْضَلُ فِي الْأُمُورِ مَا هُوَ أَشَقُّ اقْتَضَى الدَّعْوَةَ وَالتَّضَرُّعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَحَصَّلُ بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَهُوَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَدَعَا الْمُصَنِّفُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. [النَّوْعُ الثَّانِي فِي تَفْسِير التَّقْوَى] (النَّوْعُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِهَا) أَيْ التَّقْوَى لُغَةً وَشَرْعًا لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِشَأْنِهَا وَلِزِيَادَةِ التَّمْكِينِ (هِيَ فِي اللُّغَةِ) مُشْتَقَّةٌ

(مِنْ وَقَاهُ) وَقْيًا وَوِقَايَةً صَانَهُ مِنْ قَبِيلِ اشْتِقَاقِ الْمَصْدَرِ مِنْ الْفِعْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ أَوْ التَّقْوَى لَيْسَ بِمَصْدَرٍ بَلْ اسْمٌ كَالْعَلَمِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ وَاتَّقَيْت الشَّيْءَ وَتَقَيْتُهُ حَذِرْته وَالِاسْمُ التَّقْوَى أَصْلُهُ تَقْيَا قَلَبُوهُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: وَأَصْلُ تَقْوَى هُوَ الْوَقْوَى بِالْوَاوِ مَصْدَرُ الْوِقَايَةُ يُقَالُ وَقَى وِقَايَةً وَوَقْوَى عِوَضٌ عَنْ الْوَاوِ تَاءٌ كَمَا فِي الْوُكْلَانِ وَالتُّكْلَانِ (فَاتَّقَى) يَتَّقِي أَصْلُهُ اوْتَقَى يَوْتَقِي عَلَى افْتَعَلَ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا وَأُبْدِلَتْ مِنْهَا التَّاءُ وَأُدْغِمَتْ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى لَفْظِ الِافْتِعَالِ تَوَهَّمُوا أَنَّ التَّاءَ مِنْ لَفْظِ الْحَرْفِ فَجَعَلُوهُ اتَّقَى يَتَّقِي بِفَتْحِ التَّاءِ فِيهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا لَهُ مِثَالًا يُلْحِقُونَهُ بِهِ فَقَالُوا تَقِيَ يَتَّقِي مِثْلُ قَضَى يَقْضِي كَذَا نُقِلَ عَنْ الصِّحَاحِ (وَالْوِقَايَةُ) بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ (فَرْطُ الصِّيَانَةِ) مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْمَهَالِكِ (أَصْلُهَا وَقْيًا) مَصْدَرُ وَقَاهُ (قُلِبَتْ وَاوُهَا تَاءً كَمَا فِي تُكْلَانَ) أَصْلُهُ وُكْلَانُ مَصْدَرُ وَكَلَ الْأَمْرَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَوَّضَهُ إلَيْهِ. (وَتُجَاهُ) أَصْلُهُ وُجَاهُ مِنْ الْمُوَاجَهَةِ (وَ) قُلِبَتْ (يَاؤُهَا) أَيْ يَاءُ وَقْيًا (وَاوًا كَمَا فِي بَقْوَى) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَبْقَيْت عَلَى فُلَانٍ إذَا ارْعَوَيْت عَلَيْهِ وَرَحِمْته (وَأَلِفُهَا) أَيْ التَّقْوَى (لِلتَّأْنِيثِ) مِثْلُ حُبْلَى فَغَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ تَقُومُ مَقَامَ عِلَّتَيْنِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى} [التوبة: 109] بِالْقَصْرِ بِلَا تَنْوِينٍ لِعَدَمِ الِانْصِرَافِ {مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 109] وَفِي الشَّرِيعَةِ لَهَا مَعْنَيَانِ عَامٌّ) أَيْ لِأَنْوَاعِهَا (وَهُوَ الصِّيَانَةُ) أَيْ الْحِفْظُ (وَالِاجْتِنَابُ) أَيْ التَّبَاعُدُ (عَنْ كُلِّ مُضِرٍّ فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ عَرْضٌ) سِعَةٌ (عَرِيضٌ) وَاسِعٌ كَظِلٍّ ظَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ (يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ) بِحَسَبِ الْمُحَافَظَةِ وَالتَّقْيِيدِ فِي اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ (وَالنُّقْصَانُ) بِحَسَبِ تَرْكِ بَعْضِهَا (أَدْنَاهُ) بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ تَنْقِيصُهُ (الِاجْتِنَابُ عَنْ الشِّرْكِ) أَيْ مُطْلَقُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ إمَّا بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ أَعْظَمِ أَجْزَائِهِ (الْمُخَلِّدُ) الْمُوجِبُ لِخُلُودِ صَاحِبِهِ (فِي النَّارِ) بِمُوجِبِ عَدْلِهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَخَبَرِهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْوُجُوبِ عَلَيْهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ الظَّاهِرُ وَصْفُ تَوْضِيحٍ أَوْ ذَمٍّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا احْتِرَازًا عَنْ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ كَالرِّيَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُخَلِّدٍ وَكَالذُّهُولِ فِي نِسْبَةِ أَشْيَاءَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنِسْبَتُهَا إلَى أَسْبَابِهَا اسْتِقْلَالًا (وَأَعْلَاهُ) أَيْ الْعَرْضُ الْمَذْكُورُ (التَّنَزُّهُ) التَّبَرِّي (عَمَّا) عَنْ كُلِّ شَيْءٍ (يَشْغَلُ سِرَّهُ) قَلْبَهُ (عَنْ الْحَقِّ تَعَالَى) بِآثَارِ تَجَلِّيَاتِهِ الْجَلَّالِيَّةِ وَالْجَمَالِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ طَرَأَ غَيْرُهُ وَلَوْ أَنَّا لِأَجْلِ الذُّهُولِ يُتَدَارَكُ مِنْ فَوْرِهِ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ وَيَعُدُّهُ إسَاءَةً كَالْكَبِيرَةِ فَيَتُوبُ وَيَتَضَرَّعُ لَهُ تَعَالَى وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَالتَّبَتُّلُ إلَيْهِ بِشَرَاشِرِهِ) أَيْ الِانْقِطَاعُ إلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ. وَنُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ: الشَّرَاشِرُ النَّفْسُ وَالْأَثْقَالُ وَالْمَحَبَّةُ وَجَمِيعُ الْجَسَدِ فَلِلْجَمْعِ هُنَا وَجْهٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8]- وَذَلِكَ بِاسْتِغْرَاقِ الْوَقْتِ وَالْأَحْوَالِ فِي ذِكْرِهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ أَوْ اللِّسَانِ مَعَ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَسَنِّنَةِ قَدَّسَ اللَّهُ أَسْرَارَهُمْ دُونَ الْغُلَاةِ وَالْمُتَشَقِّقَةِ سَامَحَ اللَّهُ مُعَامَلَتَهُمْ. (وَهُوَ التَّقِيُّ الْحَقِيقِيُّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ قُصُورٌ وَلَا فُتُورٌ فِي الْأَفْعَالِ

وَالتُّرُوكِ بَلْ يَأْتِي الْكُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَالطَّرْزِ الْأَتَمِّ وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ. (وَ) الثَّانِي (خَاصٌّ) لِبَعْضِ الْمَعَانِي (وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الشَّرْعِ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمُ الْقَرِينَةِ) إذْ عِنْدَ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ وَلَا يُمْكِنُ الْإِرَادَةُ لِسَائِرِ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ (أَعْنِي صِيَانَةَ النَّفْسِ عَمَّا تَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ فِعْلِ) مَعْصِيَةٍ وَلَوْ صَغِيرَةً إذْ يَجُوزُ الْعِقَابُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَانْتَظِرْ (أَوْ تَرْكُ) طَاعَةٍ. قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ إطْلَاقُ التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَةٌ بِمَعْنَى الْخَشْيَةِ نَحْوُ {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] وَبِمَعْنَى الطَّاعَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] أَيْ أَطِيعُوا اللَّهَ حَقَّ طَاعَتِهِ وَبِمَعْنَى تَبْرِئَةِ الْقَلْبِ مِنْ الذُّنُوبِ وَهَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ التَّقْوَى دُونَ الْأَوَّلَيْنِ نَحْوُ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ هُوَ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ غَيْرُ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ ثُمَّ قَالَ مَنَازِلُ التَّقْوَى ثَلَاثَةٌ عَنْ الشِّرْكِ وَعَنْ الْبِدْعَةِ وَعَنْ الْمَعَاصِي فَمُقَابِلُهَا الْإِيمَانُ وَالْإِقْرَارُ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةُ وَالْإِحْسَانُ وَالِاسْتِقَامَةُ (فَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ لَازِمٌ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ) لِإِيجَابِهَا الْعُقُوبَةَ قَطْعًا لَكِنْ يُمْكِنُ مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ بِقَاعِدَةِ جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ عَنْ الْكَبَائِرِ فِيمَا دُونَ الشِّرْكِ وَالِاحْتِمَالِ، وَلَوْ ضَعِيفًا يُنَافِي اللُّزُومَ الْقَطْعِيَّ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا احْتِمَالٌ نَاشِئٌ عَنْ الدَّلِيلِ لَا مُطْلَقُ احْتِمَالٍ فَتَأَمَّلْ فِيهِ حَتَّى يَتَّضِحَ مَا يُنَافِيهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الِاتِّفَاقِ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ اتِّفَاقُ مَنْ يُعْتَدَّ بِهِمْ فَلَا ضَرَرَ بِمُخَالَفَةٍ نَحْوُ مَنْ يَقُولُ لَا ضَرَرَ لِلْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ (وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَقِيلَ لَا) أَيْ لَيْسَ بِلَازِمٍ تَرْكُهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّقْوَى أَقُولُ بَعْدَ مَا أَطْلَقَ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ الْعِقَابُ عَلَى الصَّغِيرَةِ سَوَاءٌ اجْتَنَبَ مُرْتَكِبُهَا عَنْ الْكَبِيرَةِ أَمْ لَا لَا وَجْهَ لِذِكْرِ هَذَا الْخِلَافِ هُنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ (لِأَنَّهَا مُكَفِّرَةٌ عَنْ مُجْتَنِبِ الْكَبَائِرِ) فَهُوَ حُجَّةٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ فِي مَحَلِّهِ كَمَا سَيُشِيرُ إلَيْهِ هُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]- هُوَ أَنْوَاعُ الْكُفْرِ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فَاللَّائِقُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ خِلَافُهُمْ هُنَا، ثُمَّ أَقُولُ عَلَى مُرَادِهِ إنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ مُسْتَلْزِمٌ لِمُوَاظَبَةِ الطَّاعَاتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَكَذَا الْجُمُعَةُ وَرَمَضَانُ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ فَالْمُرَادُ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ صَرَاحَةً أَوْ الْتِزَامًا (فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعُقُوبَةَ) لَا عَقْلًا بَلْ سَمْعًا وَتَفَضُّلًا وَأَيْضًا لَا جَوَازَ بَلْ وُقُوعًا (وَقِيلَ نَعَمْ) أَيْ يَلْزَمُ الِاجْتِنَابُ عَنْ الصَّغَائِرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّقْوَى (لِأَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ الْكَبَائِرَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ) الْمَذْكُورَةِ آنِفًا (عَلَى أَنْوَاعِ الشِّرْكِ) ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُصْرَفُ إلَى الْكَمَالِ وَمُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ يَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ بِالْآحَادِ (فَلَمْ يَتَعَيَّنْ التَّكْفِيرُ) أَيْ كَوْنُهَا مُكَفِّرَةً عِنْدَ الِاجْتِنَابِ عَنْ الْكَبِيرَةِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّازِمَ مِنْ هَذَا هُوَ الْجَوَازُ وَالْكَلَامُ فِي الْوُقُوعِ وَأَيْضًا كَمَا لَا تَعْيِينَ فِي التَّكْفِيرِ لَا تَعْيِينَ فِي عَدَمِ التَّكْفِيرِ إذْ الْبَعْضِيَّةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ أَنَّ الْبَعْضَ الْآخَرَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ الْكَبَائِرَ عَلَى الْأَعَمِّ أَوْ مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنْ سَائِرِ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ الْمُتَبَادِرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَا إنَّ هَذَا مِنْ نَحْوِ تَعَارُضِ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ فَيُرَجَّحُ الْحَظْرُ فَافْهَمْ (وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى الصَّغِيرَةِ جَائِزٌ، وَلَوْ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَيْضًا لَمْ يَثْبُتْ تَغَايُرُهُمَا) أَيْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ (بِالذَّاتِ) بَلْ بِالِاعْتِبَارِ وَالْإِضَافَةِ إلَى مَا فَوْقَهُمَا وَمَا تَحْتَهُمَا. قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ عَنْ

صَاحِبِ الْكِفَايَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهَا اسْمَانِ إضَافِيَّانِ لَا يُعْرَفَانِ بِذَاتِهِمَا فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ إنْ أُضِيفَتْ إلَى مَا فَوْقَهَا فَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى مَا دُونَهَا فَهِيَ كَبِيرَةٌ قَالَ أَيْضًا وَقِيلَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَصَرَّ عَلَيْهَا الْعَبْدُ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَكُلُّ مَا اُسْتُغْفِرَ مِنْهَا فَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْكَبَائِرُ حُقُوقُ الْعِبَادِ وَالصَّغَائِرُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَغْفِرُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ: الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالسَّيِّئَاتُ ذُنُوبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقِيلَ الْكَبَائِرُ الْعَمْدُ وَالصَّغَائِرُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ النَّفْسِ الْمَرْفُوعُ عَنْ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَحِلِّينَ وَالصَّغَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَغْفِرِينَ وَقَالَ السُّدِّيَّ الْكَبَائِرُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَالسَّيِّئَاتُ مُقَدِّمَاتُهَا وَتَوَابِعُهَا وَقِيلَ الْكَبَائِرُ مَا يَسْتَحْقِرُهُ الْعِبَادُ وَالصَّغَائِرُ مَا يَخَافُونَهُ انْتَهَى نَقْلًا عَنْ الْبَغَوِيّ لَا يَخْفَى عَدَمُ صَلَاحِيَّةِ هَذِهِ الْخِلَافِيَّاتِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ وَأَنْتَ سَمِعْت مَا يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ هَذَا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِضَافَةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فَرْدٍ حَقِيقِيٍّ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَبِيرَةِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْآيَةِ مَعْنًى مَحْصُولٌ مُعْتَدٌّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ إطْلَاقُ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ إنْ تَجْتَنِبُوا عَنْ الْكَبَائِرِ نُكَفِّرْ كَبَائِرَكُمْ أَوْ إنْ تَجْتَنِبُوا عَنْ الصَّغَائِرِ نُكَفِّرْ صَغَائِرَكُمْ وَلَعَلَّ هَذَا مَدَارُ التَّسْلِيمِ فِي قَوْلِهِ (وَعَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ نَعْلَمْ يَقِينًا عَدَدَ الْكَبَائِرِ) ؛ لِأَنَّهُ (قِيلَ سَبْعٌ وَقِيلَ سَبْعُونَ وَقِيلَ سَبْعُمِائَةٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ) وَقَدْ عَرَفْت الِاخْتِلَافَاتِ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ. وَأَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْكَبَائِرِ أَسَبْعٌ هِيَ قَالَ هِيَ إلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ إلَّا أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ. أَقُولُ أَيْضًا: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً أَيُّ عَدَدٍ اُعْتُبِرَ وَإِلَّا فَيَكُونُ الْخِطَابُ كَالْعَبَثِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ الْحَكِيمَ فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْعَدَدِ صَغِيرَةٌ قَطْعًا أَوْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ الْعُلَمَاءِ لِوَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ فَالِاعْتِبَارُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ بَعْضَهَا كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَبَعْضَهَا ضَعِيفٌ لَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فَلْنَأْخُذْ الْقَوِيَّ كَرِوَايَةِ السَّبْعِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يُخْفِيهِ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُخْفِيَ الْكَبَائِرَ لِحِكْمَةِ اجْتِنَابِ كُلِّ مَعْصِيَةٍ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِهَا كَبِيرَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ مُخْتَصَرِ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْ جُمْلَةَ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِغْرَاءَ عَلَى الصَّغَائِرِ الْإِخْبَارُ بِتَكْفِيرِهَا عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. (وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) فِيمَا خَرَّجَهُ (ت) التِّرْمِذِيُّ (وَحَسَّنَهُ ومج وحك) وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ (وَصَحَّحَهُ) الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَا اتَّصَلَ سَنَدُهُ وَعُدِّلَتْ نَقَلَتُهُ وَسَلِمَ مِنْ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ وَالْحَسَنُ دُونَ ذَلِكَ إذْ هُوَ مَا خَفَّ ضَبْطُهُ وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يَلْحَقُ بِالصَّحِيحِ وَمَا سِوَاهُمَا فَضَعِيفٌ. (عَنْ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ» أَيْ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ «حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ» وَلَوْ مُبَاحًا «حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ: أَنْ يَتْرُكَ فُضُولَ الْحَلَالِ حَذَرًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ. قَالَ الْغَزَالِيِّ: الِاشْتِغَالُ بِفُضُولِ الْحَلَالِ وَالِانْهِمَاكُ فِيهِ يَجُرُّ إلَى الْحَرَامِ لِشَرَهِ النَّفْسِ وَطُغْيَانِهَا وَتَمَرُّدِ الْهَوَى وَشَيْطَانِهِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ الضَّرَرِ فِي دِينِهِ اجْتَنَبَ الْخَطَرَ فَامْتَنَعَ عَنْ فُضُولِ الْحَلَالِ حَذَرًا أَنْ يَجُرَّهُ إلَى مَحْضِ الْحَرَامِ، ثُمَّ قَالَ لِلتَّقْوَى مَرَاتِبُ، التَّوَقِّي مِنْ الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ بِالتَّبَرِّي عَنْ الشِّرْكِ {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] وَالتَّوَقِّي عَنْ كُلِّ مَا يُؤَثِّمُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ حَتَّى الصَّغَائِرِ، وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ بِالتَّقْوَى فِي الشَّرْعِ الْمَقْصُودَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالتَّوَقِّي عَمَّا يَشْغَلُ سِرَّهُ عَنْ رَبِّهِ، وَهُوَ التَّقْوَى الْحَقِيقِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ بِقَوْلِهِ - {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]- وَيَجُوزُ تَنْزِيلُ الْحَدِيثِ أَيْضًا اهـ. قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ أَنَا وَجَدْت التَّقْوَى بِمَعْنَى اجْتِنَابِ فُضُولِ الْحَلَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا سُمِّيَ الْمُتَّقُونَ مُتَّقِينَ لِتَرْكِهِمْ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ» . وَأَحْبَبْت أَنْ أَجْمَعَ بَيْن مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ حَدًّا جَامِعًا فَأَقُولُ التَّقْوَى اجْتِنَابُ كُلِّ مَا تَخَافُ مِنْهُ ضَرَرًا فِي دِينِك، وَأَمَّا تَحْدِيدُهَا عَلَى مَوْضُوعِ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ تَبْرِئَةُ الْقَلْبِ مِنْ شَرٍّ لَمْ يَسْبِقْ مِنْك مِثْلُهُ لِقُوَّةِ الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ وِقَايَةً بَيْنَك وَبَيْنَ كُلِّ

شَرٍّ سَوَاءٌ شَرًّا أَصْلِيًّا أَوْ شَرًّا غَيْرَ أَصْلِيٍّ، وَهِيَ مَا نُهِيَ عَنْهُ تَأْدِيبًا، وَهُوَ فُضُولُ الْحَلَالِ كَالْمُبَاحَاتِ الْمَأْخُوذَةِ بِالشُّبُهَاتِ فَالْأُولَى يُوجِبُ تَرْكُهَا عَذَابَ النَّارِ وَالثَّانِيَةُ يُوجِبُ تَرْكُهَا الْحَبْسَ وَالْحِسَابَ وَالتَّعْيِيرَ وَاللَّوْمَ فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ اسْتَكْمَلَ حَقَّ التَّقْوَى وَجَمَعَ كُلَّ خَيْرٍ وَهَذَا هُوَ الْوَرَعُ الْكَامِلُ اهـ، ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ عَلَى لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ لِلْمُتَّقِي بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ أَوَّلًا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَثَانِيًا بِالنَّقْلِيَّةِ فَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ أَوَّلًا فَأَشَارَ إلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ (يَقُولُ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) أَظْهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَحِذَارًا مِنْ وَهْمِ الْعُجْبِ وَنَحْوِهِ (هَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ) صَرِيحٌ لِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ (فِي لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ) فِي التَّقْوَى بِهَذَا الْمَعْنَى الْخَاصِّ (لِأَنَّهَا) أَيْ الصَّغَائِرَ (بَعْدَ الْإِغْمَاضِ) عَمَّا ذُكِرَ (وَمُسَاعَدَةُ الْخَصْمِ) الْقَائِلِ بِأَنَّهَا مُكَفِّرَةٌ عَنْ مُجْتَنِبِ الْكَبَائِرِ (مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ) يَعْنِي الصَّغَائِرَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ وَكُلُّ مَا لَا بَأْسَ بِهِ لَازِمٌ تَرْكُهُ لِلْمُتَّقِي بِحُكْمِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا شُمُولُ الْكُبْرَى لِلْحَلَالِ الْمَحْضِ فَسَيُجِيبُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ، وَأَمَّا الْحَلَالُ الْخَالِصُ (بَلْ يَزِيدُ) أَيْ هَذَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَيَقُولُ: كَلِمَةُ مَا) فِي قَوْلِهِ مَا لَا بَأْسَ بِهِ (عَامَّةٌ لِكُلِّ مَا فِيهِ احْتِمَالُ الْحُرْمَةِ) كَالشُّبُهَاتِ بَلْ مَا يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا وَلَوْ كَانَ جَانِبُ الْحِلِّ رَاجِحًا (وَ) احْتِمَالُ (الْإِفْضَاءِ إلَى الْحَرَامِ) فَإِنْ قِيلَ عُمُومُ مَا لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِمَا ذُكِرَ بَلْ شَامِلٌ لَهُ وَلِكُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ فَإِنْ أُرِيدَ هَذَا الْخُصُوصُ مِنْ هَذَا الْعَامِّ فَلَا دَلَالَةَ لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعُمُومُ عَلَى عُمُومِهِ فَمَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ صَرِيحِ لَفْظِهِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي نَفْسِهِ لِإِفْضَائِهِ إلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَالِاحْتِجَاجُ بِالْعَامِّ مَحَلُّ كَلَامٍ كَمَا فَصَّلَ فِي الْأُصُولِ قُلْنَا قَوْلُهُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ عُرْفًا دَافِعٌ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ. وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: إنَّ اسْتِعْمَالَ النَّاسِ حُجَّةٌ وَالْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ يُتَسَارَعُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِلَا صَارِفٍ وَعِنْدَ الصَّارِفِ إلَى غَيْرِهِ وَلَوْ لُغَوِيًّا مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فَتَنْدَفِعُ أَيْضًا إذْ الْمُرَادُ وَلَوْ مَعْنًى عُرْفِيًّا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ. وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ كَوْنُ كَلِمَةِ " مَا " عَامَّةً لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ بِهِ كَمَا فِي الْأُصُولِ لَكِنَّ الْمَقَامَ كَالْخَطَّابِيِّ فَلَا يُعْبَأُ بِهِ (كَعُمُومِ الثَّانِيَةِ) فِي مِمَّا بِهِ بَأْسٌ (الْحَرَامَ) مَفْعُولُ الْعُمُومِ إنْ خَصَّ الْبَأْسَ بِالْحَرَامِ وَالظَّاهِرُ مُطْلَقُ الضَّرَرِ الشَّامِلِ لَهُ وَلِنَحْوِ الْمَكْرُوهِ لَكِنْ بَعْدَ الْإِغْمَاضِ الْمَذْكُورِ يَنْبَغِي عَدَمُ الشُّمُولِ. (وَأَمَّا الْحَلَالُ الْخَالِصُ عَنْ) شَائِبَةِ (الشُّبْهَةِ) ابْتِدَاءً أَوْ إفْضَاءً (فَلَا يَتَنَاوَلُهُ) لَفْظُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ (عُرْفًا) إذْ هُوَ فِي الْعُرْفِ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت تَفْصِيلَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ لَا بَأْسَ فَارْجِعْ تَرْشُدْ (وَإِنْ تَنَاوَلَهُ) أَيْ، وَإِنْ تَنَاوَلَ لَفْظُ لَا بَأْسَ الْحَلَالَ (لُغَةً) إذْ الْحَلَالُ لَيْسَ فِيهِ بَأْسٌ أَيْ ضَرَرٌ وَقَدْ عَرَفْت هَذَا الْقَوْلَ آنِفًا وَهَذَا الْفَقِيرُ الضَّعِيفُ أَيْضًا يَقُولُ ابْتِدَاءً أَوْ انْتِزَاعًا مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ الْمُبَاحَاتُ الْمَأْخُوذَةُ بِالشُّبُهَاتِ وَفُضُولُ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ وَالِانْهِمَاكَ فِيهِ رُبَّمَا يَجُرُّ صَاحِبَهُ إلَى الْحَرَامِ لِشَرَهِ النَّفْسِ وَطُغْيَانِهَا وَتَمَرُّدِ الْهَوَى فَالْأَمْنُ وَالسَّلَامَةُ التَّجَنُّبُ عَنْهُ لِئَلَّا يَجُرَّ إلَى الْحَرَامِ كَمَا هُوَ مَضْمُونُ الْحَدِيثِ وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ الشُّبْهَةَ تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الْعِبَادَاتِ كَمَا تَكْفِي لِرَدِّ الْعُقُوبَاتِ وَسَيُفْهَمُ مِنْ الْحَدِيثِ الْآتِي وَأَيْضًا قَالُوا الْإِصْرَارُ عَلَى الْمُبَاحِ لِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي كَالصَّيْدِ صَغِيرَةٌ حَتَّى قِيلَ مَنْ اتَّخَذَ الِاكْتِسَابَ بِالصَّيْدِ فَلَا يُؤْكَلُ. (خ م عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هَذَا دَلِيلٌ نَقْلِيٌّ آخَرُ عَلَى لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ فِي التَّقْوَى (يَقُولُ إنَّ «الْحَلَالَ بَيِّنٌ» التَّأْكِيدُ إمَّا لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ أَوْ لِأَمَارَةِ

الْإِنْكَارِ عَلَى مَضْمُونِ الْحُكْمِ بِنَصِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِنَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً «وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ» كَذَلِكَ «وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ» بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَزَاحُمِ الْمَعَانِي وَلِوُقُوعِهِمَا بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَلِتَجَاذُبِ الرِّوَايَاتِ وَتَخَالُفِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ أَيْضًا وَلَا مُرَجِّحَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ. «لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» لِخَفَائِهِنَّ كَالْجِهَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ نَحْوِ خَفَاءِ النَّصِّ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ قَيَّدَ بِالْكَثِيرِ إذْ الْقَلِيلُ كَالْمُجْتَهِدِ يَعْلَمُهَا بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ لَا يَعْلَمُ كُلَّ حُكْمٍ لِثُبُوتِ التَّوَقُّفِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَثُبُوتِ لَا أَدْرِي كَمَالِكٍ مِمَّنْ أُجْمِعَ عَلَى فَقَاهَتِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَا يَعْلَمُ قَطْعًا فِي كُلِّ اجْتِهَادِيَّةٍ بَلْ ظَنًّا عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ فَلَفْظُ كَثِيرٍ تَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ أَوْ يُرَادُ غَيْرُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا يَشْكُلُ بِأَنَّهُ إذَا عَلِمَهَا الْمُجْتَهِدُ ابْتِدَاءً يَعْلَمُهَا الْمُقَلِّدُ انْتِهَاءً فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا بَيِّنًا فَلَا يَبْقَى مُشْتَبَهٌ قِيلَ هُنَا اُخْتُلِفَ فِي تَعَاطِي الشُّبُهَاتِ فَقِيلَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ «اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» . وَقِيلَ حَلَالٌ بِدَلِيلٍ «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى» إلَى آخِرِهِ وَقِيلَ بِالْوَقْفِ كَمَا فِي الْفَتْحِيَّةِ انْتَهَى. فَفِيهِ تَأَمُّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَمَامِ مَقْصُودِ الْحَدِيثِ «فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ» طَلَبَ التَّبَرِّي «لِدِينِهِ» مِنْ الْخَطَرِ الشَّرْعِيِّ. «وَعِرْضِهِ» مِنْ وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ أَوْ بَدَنِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا فَعَلَهُ حَرَامًا أَوْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ ظَاهِرَهُ مُوجِبَةٌ كُلِّيَّةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ يَقَعُ فِي الْحَلَالِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ بَلْ احْتِمَالٌ وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ إنَّ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَظْنُونَةِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ أَصْلٍ قَطْعِيٍّ يَجِبُ انْدِرَاجُهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ مِثْلُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّ كُلَّ مَسْمُومٍ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، ثُمَّ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ مَسْمُومٌ فَإِنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ اجْتِنَابَهُ وَأَيْضًا سَمِعْت مِرَارًا عَنْ التَّلْوِيحِ الْحُرُمَاتُ كَدَرْءِ الْعُقُوبَاتِ تُثْبِتُ الشُّبُهَاتِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى مَنْ تَعَوَّدَ فِي وُقُوعِ الشُّبُهَاتِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَفَاءِ وَقِيلَ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَقِيلَ التَّجَاسُرُ عَلَى الشُّبْهَةِ يَكُونُ دَاعِيًا إلَى تَجَاسُرِ الْحَرَامِ وَأَيْضًا فِيهِ خَفَاءٌ لَا يَخْفَى، ثُمَّ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى تَجَنُّبِ الشُّبُهَاتِ فَأَوْلَى عَلَى تَجَنُّبِ مَا يَكُونُ صَغِيرَةً قَطْعًا كَالْكَبِيرَةِ لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ كَلَامُنَا عَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِ الصَّغَائِرِ مُكَفِّرَةً عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَلَا يَدُلُّ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحُرْمَةِ وَلَوْ احْتِمَالًا عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ الصَّغِيرَةِ إذْ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَامَّةً عَلَى مَا يَحْتَمِلُ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَيُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ اللَّامِ أَوْ لَمَّا كَانَ فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ، وَكَانَ الْأَمْرُ مُهِمًّا اسْتَوْضَحَ بِتَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ فَقَالَ «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى» أَيْ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى هُوَ مَا حُمِيَ مِنْ الْأَرْضِ وَمُنِعَ مِنْهُ الْغَيْرُ «يُوشِكُ» بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ يُسْرِعُ وَيَقْرُبُ «أَنْ يَقَعَ فِيهِ» أَيْ فِي الْحِمَى وَتَأْكُلُ مَاشِيَتُهُ مِنْهُ عَنْ الْمُحَشِّي شَبَّهَ الْمُكَلَّفَ بِالرَّاعِي وَالنَّفْسَ الْبَهِيمِيَّةَ بِالْأَنْعَامِ وَالْمُشْتَبِهَاتُ بِمَا حَوْلَ الْحِمَى وَالْمَحَارِمُ بِالْحِمَى فَيَكُونُ تَشْبِيهًا مَعْلُومًا بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ وَتَمْثِيلًا

بِاعْتِبَارِ وَجْهِهِ انْتَهَى «أَلَا» حَرْفُ افْتِتَاحٍ جِيءَ بِهِ لِعِظَمِ مَا بَعْدَهَا «وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ» بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ الْمُلُوكِ «حِمًى» يَحْمِيهِ مِنْ النَّاسِ «أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ» أَيْ الْمَعَاصِي يَحْمِيهَا مِنْ كُلِّ دَاخِلٍ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يُعَاقِبُ دَاخِلَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَارِبَ مَا يُفْضِيهَا وَمَا يَقْرَبُهَا أَيْضًا لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» قِطْعَةَ لَحْمٍ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ «إذَا صَلَحَتْ» بِالْفَتْحِ أَوْ بِالضَّمِّ «صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» ؛ لِأَنَّهَا أَمِيرُهُ وَسُلْطَانُهُ «، وَإِذَا فَسَدَتْ» أَظْلَمَتْ بِالضَّلَالَةِ وَالْغَبَاوَةِ «فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» بِارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ وَإِقْدَامِ الْمَنْهِيَّاتِ «أَلَا، وَهِيَ» أَيْ الْمُضْغَةُ «الْقَلْبُ» سُمِّيَ بِهِ لِانْقِلَابِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَوَاطِرِ قِيلَ يَعْنِي الْقَلْبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلِكِ وَالْجَسَدُ كَالْمَدِينَةِ، وَهُوَ قَاعِدٌ فِي وَسَطِهَا وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ بِمَنْزِلَةِ الرَّعَايَا مُطِيعَاتٌ لِلْمَلِكِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَإِصْلَاحُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ قِيلَ عَنْ الْمُنَاوِيِّ عَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ «الْحَلَالَ بَيِّنٌ» إشْعَارًا بِأَنَّ أَكْلَ الْحَلَالِ يُنَوِّرُهُ وَيُصْلِحُهُ وَالشُّبَهُ تُقَسِّيهِ وَتُظْلِمُهُ (وَأَيْضًا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مَرْعِيٌّ فِي الشَّرْعِيِّ مَا أَمْكَنَ) ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا إذْ النَّقْلُ بِلَا مُنَاسَبَةٍ أَصْلًا جَائِزٌ كَالْمُرْتَجِلِ فَالرِّعَايَةُ أَوْلَى قِيلَ تَارَةً بِالتَّخْصِيصِ وَتَارَةً بِالنَّقْلِ لِمُنَاسَبَةٍ (وَفَرْطُ الصِّيَانَةِ) الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلتَّقْوَى (يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالشُّبُهَاتِ أَيْضًا) كَالْكَبَائِرِ إذْ الْكَبَائِرُ بِأَصْلِ الصِّيَانَةِ، وَأَمَّا فَرْطُهَا فَبِالِاجْتِنَابِ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاقْتِضَاءِ هُوَ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ وَصِحَّتُهُ لَا الِاقْتِضَاءُ التَّامُّ الضَّرُورِيُّ وَإِلَّا فَظَاهِرُ الْمَنْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ (لَكِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ جَمِيعِ الشُّبُهَاتِ لَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ) لِغَلَبَةِ الشُّبُهَاتِ لِشُيُوعِ الْجَهْلِ وَعُسْرِ التَّجَنُّبِ عَنْهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ الْمَالَ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» كَذَا رُوِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ (عَلَى مَا سَيَجِيءُ) فِي ثَانِي الْبَابِ الثَّالِثِ (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَفِي الْحَدِيثِ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْمُسْتَمْسِكُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ (فَخَرَجَ) مِنْ لُزُومِ الِاجْتِنَابِ فِي التَّقْوَى (مَا عَدَا الشُّبْهَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْحَرَامِ) ، وَهُوَ مَا يَكُونُ جَانِبُ الْحِلِّ رَاجِحًا أَوْ مُتَسَاوِيًا لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ تَرْجِيحُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَعَلَى النَّدْبِ نَعَمْ فِيهِ أَيْضًا رُجْحَانُ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي فَتَأَمَّلْ (لِأَنَّ الطَّاعَةَ) لِلَّهِ تَعَالَى (بِقَدْرِ الطَّاقَةِ) إذْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَقَدْ قَالَ - «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» - «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» - لَكِنْ يَأْتِي مَا قَالُوا فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّجَنُّبُ عَنْ الْكُلِّ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُلِّ فَإِذَا لَزِمَ التَّجَنُّبُ عَنْ الْبَعْضِ وَالْإِقْدَامِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُعَيَّنًا فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ وَإِلَّا فَالِاجْتِنَابُ عَنْ الْمَجْهُولِ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ بِغَلَبَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَوْ تَسَاوِيهِ يَقْتَضِي ضَابِطَةً بِهَا يُمَيِّزُ الْبَعْضَ عَنْ الْبَعْضِ، وَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ لَيْسَا بِمُخْتَلِفَيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِالْمُجْتَهِدِ وَلَا عِبْرَةَ بِالْغَيْرِ وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِ (فَتَعَيَّنَ لُزُومُ اجْتِنَابِ كُلِّ حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ تَحْرِيمًا) فَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ دَاخِلٌ فِي الْحَرَامِ

النوع الثالث الأعضاء التي تجري فيها التقوى

قِيلَ وَتَرْكُ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ بِلَا عُذْرٍ عَمْدًا دَاخِلٌ فِي الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا (فِي تَحَقُّقِ التَّقْوَى) لَا يَخْفَى أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا عَدَا مَا ذُكِرَ لَا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ فِي التَّقْوَى وَقَدْ قُرِّرَ آنِفًا اجْتِنَابُ نَحْوِ الشُّبُهَاتِ وَمَا لَا يَكُونُ حَرَامًا لَكِنَّهُ لَهُ إفْضَاءٌ إلَيْهِ وَأَنْتَ عَرَفْت أَيْضًا مِنْ نَحْوِ فُضُولِ الْحَلَالِ وَاشْتِغَالِ الْمُبَاحَاتِ مِمَّا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ فِي التَّقْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَةِ الْعُمُومِ فِي الْحَرَامِ إلَى مَا بِالذَّاتِ أَوْ بِالْإِفْضَاءِ وَلَوْ احْتِمَالًا وَكَذَا الْكَرَاهَةُ (هَذَا) الْمَذْكُورُ مِنْ نَحْوِ لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ وَالشُّبُهَاتِ وَمَا يُفْضِي إلَى الْمُحَرَّمِ وَنَحْوِهَا (مَا عِنْدِي) فَإِنْ قِيلَ حَاصِلُ مَا ذُكِرَ اسْتِخْرَاجُ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ مَنْصِبُ الْمُجْتَهِدِ وَقَدْ انْقَرَضَ قِيلَ عَنْ الْقَوْلِ الْبَلِيغِ لِلْحَمَوِيِّ عَنْ بَعْضِ رَسَائِلِ ابْنِ نُجَيْمٍ أَنَّ الْقِيَاسَ بَعْدَ الْأَرْبَعمِائَةِ مُنْقَطِعٌ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهَا أَنْ يَقِيسَ مَسْأَلَةً بِمَسْأَلَةٍ قُلْت قَدْ يَفْهَمُ غَيْرُ الْفَقِيهِ مَعَانِيَ بَعْضِ النُّصُوصِ لِكَوْنِهِ مُفَسِّرًا أَوْ صَرِيحًا أَوْ نَحْوَهُمَا وَيَجُوزُ فَهْمُ ذَلِكَ بِبَعْضِ قَوَاعِدِ الْمُجْتَهِدِ أَوْ بِدُخُولِهِ تَحْتَ أَصْلٍ كُلِّيٍّ مِنْ الْمُجْتَهِدِ (وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) . قَالَ الْمَوْلَى: حَسَنٌ حَلَبِيٌّ فِي بَعْضِ حَوَاشِيهِ إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ مَتَانَةِ الْقَوْلِ السَّابِقِ وَوَثَاقَتِهِ وَقَدْ قِيلَ هُنَا وَلَا كَلَامَ فِي قُوَّتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْ مُدَاخَلَةِ الْآثَامِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْهَلَاكِ أَقُولُ الْقُوَّةُ إنَّمَا تَتَحَصَّلُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلِهِ لَا غَيْرَ. [النَّوْعُ الثَّالِثُ الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا التَّقْوَى] (النَّوْعُ الثَّالِثُ) (فِي مَجَارِيهَا) أَيْ الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا التَّقْوَى (اعْلَمْ أَنَّ التَّقْوَى) الظَّاهِرُ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي يُصَارُ إلَيْهِ فِي مُخَاطَبَاتِ الشَّرْعِ (لَا تَحْصُلُ إلَّا بِاجْتِنَابِ الْمُنْكَرَاتِ) جَمِيعًا قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا (وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا) خَصَّ ذَلِكَ بِالْمَكْرُوهِ التَّحْرِيمِيِّ لَكِنْ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يَعُمُّ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ (وَإِتْيَانُ الْمَعْرُوفَاتِ) اعْتِقَادًا وَأَخْلَاقًا وَعَمَلًا إذْ التَّقْوَى بِهَذَا الْمَعْنَى تَعُمُّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ (وَالْمَأْمُورُ بِهَا) مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ إذْ الْأَمْرُ سَبَبٌ لِلْمَعْرُوفَاتِ كَالْأَوَّلِ (إذْ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مِمَّا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ) وَكُلُّ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ فَتَرْكُهُ مِنْ التَّقْوَى (وَلَكِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْهَا) مِنْ التَّقْوَى (وَمِنْ الذُّنُوبِ فِي أَوَّلِ السَّمَاعِ) عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (الْوُجُودِيَّاتُ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ) فَإِنَّ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا حَرَامٌ لَعَيْنِهَا وَنَجِسَةٌ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً كَالْبَوْلِ وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا وَيُحَدُّ شَارِبُهَا، وَإِنْ لَمْ تُسْكِرْ وَشَارِبُ غَيْرِهَا إنْ سَكِرَ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الطَّبْخُ (لَا) الذُّنُوبُ (الْعَدَمِيَّاتُ مِثْلُ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ (فَلِذَا لَمْ يُعَدَّ مِنْ الْكَبَائِرِ) كَمَا سَيَأْتِي (مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ فَلْنَذْكُرْ الْوُجُودِيَّاتِ مُفَصَّلًا، ثُمَّ الْعَدَمِيَّاتِ) ؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إذَا كَانَ هُوَ الْوُجُودِيَّاتُ فَنَاسَبَ تَقْدِيمَهَا (مُجْمَلًا) لِانْفِهَامِ التَّفْصِيل لِلْعَدَمِيَّاتِ أَيْضًا مِنْ مُقَابِلَاتِهَا أَوْ لِعَدَمِ قُوَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهَا كَالْأُولَى فَإِنَّهَا كَالِاسْتِطْرَادِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأُولَى فِي التُّقَى ذَوَاتُهَا بِالذَّاتِ وَمِنْ الثَّانِيَةِ بِالْوَاسِطَةِ (فَنَقُولُ الْمُنْكَرُ إمَّا مَخْصُوصٌ بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ) كَالرِّجْلِ وَالْيَدِ (أَوَّلًا وَالْأَوَّلُ) مَا يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ (فِي الْغَالِبِ ثَمَانِيَةٌ) وَفِي غَيْرِ الْغَالِبِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَالظَّهْرِ فِي حَمْلِ مُحَرَّمٍ بِهِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ وَغَيْرُ الْغَالِبِ

الصنف الأول في منكرات القلب

كَالْقُبْلَةِ لَكِنَّا أَدْرَجْنَاهَا فِيمَا لَا يَخْتَصُّ بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ (قَلْبٌ) هُوَ اللَّطِيفَةُ الرُّوحَانِيَّةُ الْمَنْفُوخَةُ فِي الْجِسْمِ الصَّنَوْبَرِيِّ الْمُودَعِ فِي جَانِبِ الْيَسَارِ مِنْ تَجْوِيفِ الصَّدْرِ الْجُسْمَانِيِّ مِنْ الْإِنْسَانِ (وَأُذُنٌ) الْمُرَادُ هُنَا قُوَّةٌ مُودَعَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ فِي مُقَعَّرِ الصِّمَاخِ يُدْرِكُ بِهَا الْأَصْوَاتَ بِطَرِيقِ وُصُولِ الْهَوَاءِ الْمُتَكَيَّفِ بِكَيْفِيَّةِ الصَّوْتِ إلَى الصِّمَاخِ (وَعَيْنٌ) وَالْمُرَادُ قُوَّةٌ مُودَعَةٌ فِي الْعَصْبَتَيْنِ الْمُجَوَّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتَلَاقَيَانِ فِي الدِّمَاغِ، ثُمَّ تَفْتَرِقَانِ فَتَتَأَدَّيَانِ إلَى الْعَيْنَيْنِ يُدْرِكُ بِهَا الْأَضْوَاءَ وَالْأَلْوَانَ وَالْأَشْكَالَ وَالْمَقَادِيرَ وَالْحَرَكَاتِ وَالْحُسْنَ وَالْقُبْحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ (وَلِسَانٌ) الْمُرَادُ الْقُوَّةُ الْمُودَعَةُ فِي الْجُرْمِ الْمُتَّصِلِ بِالْفَمِ الَّذِي يَقْرَعُ الْهَوَاءَ الْخَارِجَ مِنْ الْجَوْفِ فَتَظْهَرُ مِنْهُ صُوَرُ الْحُرُوفِ (وَيَدٌ) الْمُرَادُ الْقُوَّةُ الْمُودَعَةُ فِي الْعُضْوِ الْمَعْرُوفِ لِلتَّصَرُّفِ فِيمَا كَانَ بِهَا (وَبَطْنٌ) هُوَ الْقُوَّةُ الْمُودَعَةُ فِي الْبَاطِنِ لِطَبْخِ الْغِذَاءِ وَتَقْسِيمِهِ فِي الْبَدَنِ (وَفَرْجٌ) ، وَهُوَ آلَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُرَادُ الْقُوَّةُ الْمُودَعَةُ فِي ذَلِكَ لِحُصُولِ الْجِمَاعِ (وَرِجْلٌ) الْمُرَادُ الْقُوَّةُ الْمُودَعَةُ فِي الْعُضْوِ الْمَعْرُوفِ لِلْمَشْيِ وَنَحْوِهِ وَلَا دَخْلَ لِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ فِي اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ مِنْ دُونِ الْقُوَى الْمُنْبَثَّةِ فِيهَا فَالْعُمْدَةُ فِيهَا قُوَى الْأَعْضَاءِ لَا أَنْفُسُ الْأَعْضَاءِ. (فَعَلَى السَّالِكِ) مِنْ هَذِهِ الْفَانِيَاتِ إلَى تِلْكَ الْبَاقِيَاتِ (أَنْ يَحْفَظَ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ) يُتَصَوَّرُ صُدُورُهَا مِنْ عُضْوِهَا وَيَدُومُ عَلَى ذَلِكَ الْحِفْظِ (حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَلَكَةٌ) كَيْفِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي الْقَلْبِ إلَى أَنْ يَكُونَ طَبِيعَةً مَجْبُولَةً فَيَرْتَفِعُ التَّكَلُّفُ مِنْ الْبَيْنِ (فَيَنْخَرِطُ) يَنْتَظِمُ (فِي سِلْكِ الْمُتَّقِينَ) وَيَتَرَقَّى إلَى دَرَجَةِ الصَّالِحِينَ إلَى أَنْ يُشَارَ إلَيْهِ بِإِشَارَةِ أُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِكَوْنِهِ حِينَئِذٍ مِنْ زُمْرَةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ لِتَزَيِّيهِ بِزِيِّهِمْ وَشَبَهِهِ بِهِمْ، وَمَنْ أَشْبَهَ قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ فَإِنْ قُلْت السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ قَالُوا لَا بُدَّ هُنَا مِنْ الْعِلْمِ أَوَّلًا وَإِحْكَامُ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ ثَانِيًا وَإِحْكَامُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ ثَالِثًا فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ وَتَعَاضَدَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ تَوَلَّدَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَدٌ صَالِحٌ هُوَ نَتِيجَتُهَا وَثَمَرَةُ قُلُوبِهَا وَيُسَمَّى هَذَا الْوَلَدُ بِالتَّقْوَى فَلَا وُجُودَ لِلتَّقْوَى إلَّا بِاعْتِمَادِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كِفَايَةُ مُطْلَقِ مُجَانَبَةِ الْأَعْضَاءِ عَنْ مَعَاصِيهَا قُلْت إذْ تَفَطَّنْت مَا تَقَدَّمَ حَقَّ التَّفَطُّنِ تَعْرِفُ حُصُولَ بَعْضِ ذَلِكَ مُطَابَقَةً وَبَعْضُهُ تَضَمُّنًا وَبَعْضُهُ الْتِزَامًا، ثُمَّ إنَّ التَّقْوَى لِكَوْنِهَا نَتِيجَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالِاسْتِقَامَةِ تَرَى الْكِتَابَ الْإِلَهِيَّ تَارَةً يُرَغِّبُ إلَى الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ {وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وَتَارَةً يُرَغِّبُ إلَى الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [يونس: 9] وَتَارَةً إلَى الِاسْتِقَامَةِ بِقَوْلِهِ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] وَكُلُّ ذَلِكَ تَرْغِيبٌ إلَى التَّقْوَى إذْ لَا عِبْرَةَ لِلْعَمَلِ بِلَا عِلْمٍ وَلَا عِبْرَةَ لَهُمَا بِلَا اسْتِقَامَةٍ فَتَقْوَى الْجَاهِلِ مَعْدُومَةٌ وَتَقْوَى الْفَاسِقِ مَرْدُودَةٌ فَالْفَضِيلَةُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ وَأَشْكَلُهَا الِاسْتِقَامَةُ وَقَدْ نَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شِدَّتِهَا وَصُعُوبَتِهَا حَيْثُ «قَالَ شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ» الْمُرَادُ قَوْلُهُ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وَالِاسْتِقَامَةُ دَوَامُ قِيَامِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِلَا تَرْكٍ فَلَوْ وُجِدَ وَلَوْ آنِيًّا بِلَا عُذْرٍ انْتَفَتْ الِاسْتِقَامَةُ كَذَا فِي حَلِّ الرُّمُوزِ (فَلَا بُدَّ مِنْ تِسْعَةِ أَصْنَافٍ) لِبَيَانِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ. [الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ] [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخُلُقِ] (الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ) الْمُنْكَرَاتُ الصَّادِرَةُ مِنْ الْقَلْبِ (وَآفَاتُهُ) أَيْ الْبَلِيَّةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ (اعْلَمْ أَنَّ صَلَاحَهُ) أَيْ الْقَلْبِ (أَهَمُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إذْ هُوَ) أَيْ الْقَلْبُ (مَلِكٌ) بِكَسْرِ اللَّامِ (مُطَاعٌ) يُطِيعُ وَيَنْقَادُ إلَى أَمْرِهِ كُلُّ الْأَعْضَاءِ فِي أَقَالِيمِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ (نَافِذُ الْحُكْمِ) وَالتَّصَرُّفِ (وَالْأَعْضَاءُ رَعِيَّةٌ) تَابِعَةٌ لَهُ (وَخُدَّمٌ) بِالتَّشْدِيدِ

جَمْعُ خَادِمٍ (لَهُ فَلِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» الْحَدِيثُ) كَمِّلْ الْحَدِيثَ وَقِيلَ أَيْ هُوَ الْحَدِيثُ أَوْ الْحَدِيثُ مَا سَلَفَ «إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا، وَهِيَ الْقَلْبُ» . قِيلَ عَنْ الْمِشْكَاةِ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي جَوْفِ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ بَيْتًا وَسَمَّاهُ قَلْبًا، ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ وَأَمْسَكَ الْمِفْتَاحَ وَلَمْ يُوَكِّلْ بِهِ جَبْرَائِيلَ وَلَا مِيكَائِيلَ وَلَا غَيْرَهُمَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا خَزِينَتِي وَمَوْضِعُ نَظَرِي وَمَسْكَنُ مَعْرِفَتِي فَنِعْمَ الْمَسْكَنُ وَنِعْمَ السَّاكِنُ كُلَّمَا أَفْسَدَهُ الْعَبْدُ مِنْ ظَاهِرِهِ بِالْعِصْيَانِ أَصْلَحَهُ الْمَوْلَى مِنْ بَاطِنِهِ بِالْغُفْرَانِ وَكُلَّمَا لَوَّثَ الشَّيْطَانُ بَدَنَهُ بِالْمَعْصِيَةِ زَيَّنَهُ الرَّحْمَنُ بِالْمَعْرِفَةِ (وَإِصْلَاحُهُ تَخْلِيَتُهُ عَنْ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ) وَيُقَالُ تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ (وَتَحْلِيَتُهُ) مِنْ حُلِيِّ السَّيْفِ أَيْ تَزْيِينِهِ (بِالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِسْمَيْنِ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ الْخُلُقِ) إنَّمَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِعَدَمِ كِفَايَةِ الْمَعْرِفَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ فِي ذِكْرِ أَحْكَامِ الْخُلُقِ لِزِيَادَةِ الْعِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ مَعْنَاهُ يُعِينُ عَلَى قَبُولِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ كَالْأَوَّلِيَّاتِ يُفِيدُ الْحُكْمَ الضَّرُورِيَّ بِمُجَرَّدِ تَصَوُّرِ الطَّرَفَيْنِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا بِبَعْضِ الْعِنْوَانِ وَنَظَرِيًّا بِبَعْضِ عِنْوَانٍ آخَرَ، ثُمَّ لَفْظُ الْخُلُقِ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا نُقِلَ عَنْ الرَّاغِبِ الْخَلْقِ وَالْخُلْقِ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالشَّرْبِ وَالشُّرْبِ لَكِنْ خُصَّ الْفَتْحُ بِالْهَيْئَاتِ وَالصُّوَرِ الْمُدْرَكَةِ بِالْبَصَرِ وَالضَّمُّ بِالْقَوِيِّ وَالسَّجَايَا الْمُدْرَكَةِ بِالْبَصِيرَةِ (وَبَيَانُ مَنْشَئِهِ) مَبْدَئِهِ وَأَصْلِهِ (وَتَقْسِيمُهُ إلَى الْمَذْمُومِ وَالْمَمْدُوحِ) أَيْ الْأَخْلَاقَ الْحَمِيدَةَ وَالذَّمِيمَةَ (وَطَرِيقُ إزَالَةِ الْأَوَّلِ) بِأَيِّ طَرِيقٍ يُزَالُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْمُعَالَجَاتِ (وَعِلَاجُهُ) أَيْ أَدْوِيَتُهُ وَمُعَالَجَتُهُ إذْ هُوَ مَرَضٌ رَاسِخٌ صَعْبٌ إزَالَتُهُ فَمُحْتَاجٌ إلَى زِيَادَةِ تَكَلُّفٍ مِنْ الْمُعَالَجَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ حَتَّى ذَهَبَ بَعْضٌ إلَى كَوْنِ الْخُلُقِ ضَرُورِيًّا فَيَمْتَنِعُ خُرُوجُهُ فَالتَّكَلُّفُ لِإِخْرَاجِهِ بِالْأَدْوِيَةِ لَيْسَ بِمُفِيدٍ وَقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ إلَى الْمُتَصَوِّفَةِ كَمَا وَقَعَ فِي صَرِيحِ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ لَكِنَّ الْحَقَّ أَنْ يُحْمَلَ مُرَادُهُمْ عَلَى كَوْنِ الْإِزَالَةِ صَعْبَةً وَشَقَّةً أَوْ مُرَادُهُمْ ضَرُورِيَّةُ أَصْلِهِ وَامْتِنَاعُ إزَالَةِ أَصْلِهِ لَا أَثَرِهِ وَإِلَّا فَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ قَرِيبٌ أَنْ لَا يُحْصَى (إجْمَالًا) ؛ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ لَا يَتَحَمَّلُهُ الْكِتَابُ، وَأَنَّ الْإِجْمَالَ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَأَنَّ الْعَارِفَ يَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ كَثِيرًا مِنْ السِّفَارَةِ. (وَتَحْصِيلُ الثَّانِي) الْمَحْمُودُ بَعْدَمَا عُدِمَ (وَإِبْقَائِهِ) بَعْدَمَا وُجِدَ وَعَدَمُ زَوَالِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ (وَحِفْظُ صِحَّتِهِ وَتَقْوِيَتُهُ إجْمَالًا أَيْضًا فَنَقُولُ الْخُلُقُ مَلَكَةٌ) كَيْفِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ (تُصْدَرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ النَّفْسَانِيَّةُ) مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ أَيْ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ هَهُنَا أَنَّ الْكَيْفِيَّاتِ أُمُورٌ جِبِلِّيَّةٌ غَيْرُ أَفْعَالٍ وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَنْتَظِمُ الْخُلُقُ كَيْفِيَّةً وَالتَّكْلِيفُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَيْفِيَّةِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِتَحْصِيلِ الْمَحْمُودَةِ وَبِإِزَالَةِ الْمَذْمُومَةِ وَجْهُ الِانْدِفَاعِ أَنَّ التَّكْلِيفَ لَيْسَ عَلَى نَفْسِ الْخُلُقِ بَلْ عَلَى أَثَرِهِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ وَلَا يَمْتَنِعُ صُدُورُ الِاخْتِيَارِيِّ عَنْ الِاضْطِرَارِيِّ كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ، فَإِنَّهَا تَصْدُرُ بِأَصْلِ الْقُدْرَةِ الَّذِي كَانَ تَحْصِيلُهُ لَيْسَ بِمَقْدُورٍ لِلْمَخْلُوقِ بَلْ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ لِلْعَبْدِ وَيُشِيرُ إلَى اخْتِيَارِيَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ. (بِسُهُولَةٍ

مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ) بِالتَّشْدِيدِ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِمَعْنًى مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ وَصُعُوبَةٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِبَعْضٍ ذَهَبَ إلَيْهِ وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ مُلَاحَظَةُ عَدَمِ الْحَرَجِ وَقَاعِدَةُ التَّكْلِيفِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَيُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ) أَيْ تَبْدِيلُهُ وَإِزَالَتُهُ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ كَمَا النَّسَبُ إلَى الْمَلَاحِدَةِ (لَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ) بِتَكْلِيفِ إزَالَةِ أَحَدِهِمَا وَبِتَكْلِيفِ تَحْصِيلِ الْآخَرِ لِنَحْوِ حَدِيثِ «حَسِّنُوا أَخْلَاقَكُمْ» وَكُلُّ مَا كَلَّفَهُ الشَّرْعُ فَقَابِلٌ لِلتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ كَالنَّهْيِ عَنْ الْبُخْلِ وَالْكِبْرِ وَكَالْأَمْرِ بِالْبَذْلِ وَالتَّوَاضُعِ (وَاتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ) عَلَى إمْكَانِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ (وَالتَّجْرِبَةُ) شَاهِدَةٌ عَلَى وُقُوعِهِ وَالتَّجْرِبَةُ إحْدَى الْمُقَدِّمَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ يَعْنِي إنْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِالْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَتَلْزَمُهُ بِالشَّرْعِيَّةِ وَتَرَجُّحُهُ بِالْعَقْلِيَّةِ التَّجْرِيبِيَّةِ، وَأَنَّ بِالْعَقْلِيَّةِ فَكَذَا بِالْعَقْلِيَّةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالشَّرْعِيَّةِ نُقِلَ عَنْ الْعَوَارِفِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ تَبْدِيلَ الْأَخْلَاقِ مُمْكِنٌ وَمَقْدُورٌ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ «حَسِّنُوا أَخْلَاقَكُمْ» . وَنُقِلَ بِالْجَزْمِ بِهِ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَقَدْ سَمِعْت مِنْهُ الْمَنْعَ أَيْضًا وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] وَبَعْضٌ بِحَدِيثِ «إنَّك امْرُؤٌ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ خَلْقَك فَأَحْسِنْ خُلُقَك» وَفِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ غَرِيزِيَّةٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «إنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ أَرْزَاقَكُمْ» . وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ الْخُلُقُ جِبِلَّةٌ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَهُنَا قَوْلٌ ثَالِثٌ نَقَلَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ طَبِيعِيًّا لِبَعْضٍ كَسَخَاوَةِ الصَّبِيِّ وَيَكُونُ بِالِانْقِيَادِ وَبِالتَّعَلُّمِ فَمَنْ جَمَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فَفِي غَايَةِ النَّفَاسَةِ وَاحْتُجَّ عَلَى ذَلِكَ «بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَشَجِّ إنَّ فِيك لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِيمًا كَانَ فِي أَوْ حَادِثًا قَالَ قَدِيمًا» حَيْثُ كَانَ فِي تَرْدِيدِ السُّؤَالِ وَتَقْرِيرِهِ عَلَيْهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ فِي الْخُلُقِ جِبِلِّيًّا وَمُكْتَسَبًا وَمِنْ هُنَا أَمْكَنَ حَمْلُ نِزَاعِ الْفَرِيقَيْنِ هُنَا عَلَى اللَّفْظِيِّ وَقَدْ سَمِعْت أَيْضًا بِأَنَّ مَنْ يَدَّعِي الْجِبِلِّيَّ يُرِيدُ أَصْلَهُ، وَمَنْ يَدَّعِي الْكَسْبِيَّ يُرِيدُ أَثَرَهُ أَوْ الْجِبِلِّيُّ مَا صَعُبَ وَالْكَسْبِيُّ مَا سَهُلَ وَبِمَا ذُكِرَ سَهُلَ عَلَيْك دَفْعُ مَا يَرِدُ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ مَعَ مُخَالَفَةِ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَحَادِيثِ (وَتَخْتَلِفُ الِاسْتِعْدَادَاتُ فِيهِ) أَيْ فِي تَغْيِيرِ الْخُلُقِ قُوَّةً وَضَعْفًا (بِحَسَبِ الْأَمْزِجَةِ) قُوَّةً وَضَعْفًا فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ.

الْأَخْلَاقُ يَظْهَرُ حَمِيدُهَا بِالِاخْتِيَارِ وَيَظْهَرُ ذَمِيمُهَا بِالِاضْطِرَارِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهَا خُلُقٌ مَطْبُوعٌ وَبَعْضُهَا تَخَلُّقٌ مَصْنُوعٌ. وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُلُقِ فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَانَ مَحْمُودًا وَإِلَّا فَمَأْمُورٌ بِالْمُجَاهَدَةِ حَتَّى يَكُونَ مَحْمُودًا، وَإِنْ ضَعِيفًا فَيَرْتَاضُ حَتَّى يَقْوَى، وَيَكُونَ مَحْمُودًا لَعَلَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ فِطْرَتِهِ يُخْلَقُ مُسْتَعِدًّا لِلطَّرَفَيْنِ فَبِالِاخْتِلَاطِ وَالْأُلْفَةِ وَالْأُنْسِيَّةِ يَتَجَاذَبُ وَيَزْدَادُ كُلٌّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ (وَمُنْشَؤُهُ) أَيْ مَوْضِعُ ابْتِدَائِهِ وَنَشْأَتِهِ حَمِيدًا أَوْ ذَمِيمًا (قُوَى) جَمْعُ قُوَّةٍ (النَّفْسُ) النَّاطِقَةُ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا كُلُّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ أَنَا وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ كَمَا مَرَّ لَكِنَّ الْمُنَاسِبَ هِيَ الْجَوْهَرُ الْمُدْرَكُ الْعَارِفُ بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى (وَهِيَ) أَيْ تِلْكَ الْقُوَى الْمَنْشَئِيَّةُ (ثَلَاثٌ) الْأُولَى (النُّطْقُ، وَهُوَ قُوَّةُ الْإِدْرَاكِ) وَيُقَالُ أَيْضًا الْقُوَى الْعَقْلِيَّةُ وَالْمُدْرِكَةُ وَالنُّطْقِيَّةُ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ النُّطْقِ هُوَ الْبَاطِنِيُّ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْإِدْرَاكِ لَا الظَّاهِرِيُّ الَّذِي بِمَعْنَى التَّكَلُّمِ وَإِلَّا فَالْحَمْلُ وَالتَّفْسِيرُ بِالْمُبَايِنِ وَهَذَا النُّطْقُ مُمَيِّزٌ ذَاتِيٌّ لِلْإِنْسَانِ وَشَرَفُهُ عَلَى السَّائِرِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِهِ وَلَهُ طَرَفَانِ يُوجِبَانِ الذَّمَّ إفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ وَوَسَطٌ يُوجِبُ الْمَدْحَ فَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا كَمَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ (فَاعْتِدَالُهُ) أَيْ النُّطْقِ هُوَ. (الْحِكْمَةُ، وَهِيَ مَلَكَةٌ لِلنَّفْسِ تُدْرِك) أَيْ النَّفْسُ (بِهَا الصَّوَابَ مِنْ الْخَطَأِ) وَيُقَالُ أَيْضًا هِيَ مَلَكَةٌ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ الْمُتَوَسِّطَةُ وَأَيْضًا يُقَالُ هِيَ هَيْئَةٌ حَاصِلَةٌ لِلْقُوَّةِ النُّطْقِيَّةِ مُتَوَسِّطَةٌ بِهَا تُدْرِك أُمُورًا يَنْبَغِي أَنْ تُدْرَكَ اعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ أَكْثَرُهَا مُتَقَارِبَةٌ إذْ هِيَ فِي الْمَوَاقِفِ لُغَةً الْمُبَالَغَةُ فِي الْعِلْمِ. وَعَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ هُوَ التَّنَاهِي فِي الْعِلْمِ وَاصْطِلَاحًا اسْتِكْمَالُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْفِعْلِ النَّظَرَ وَالْعَمَلَ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَيُقَرِّبُهُ مَا يُقَالُ هِيَ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَا هُوَ الْحَقُّ وَنَفْسُ الْأَمْرِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَقِيلَ مُوَافَقَةُ الْأَشْيَاءِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ. وَعَنْ الْمَصَابِيحِ الزَّبُورُ وَعِلْمُ الشَّرَائِعِ وَقِيلَ كُلُّ كَلَامٍ وَافَقَ الْحَقَّ وَقِيلَ عَنْ شَرْحِ الْحَقَائِقِ هِيَ الْعِلْمُ اللَّدُنْيُّ وَقِيلَ هِيَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَقِيلَ هِيَ الْكَلِمَةُ الْمُنْجِيَةُ صَاحِبَهَا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُهْلِكَاتِ وَقِيلَ كَمَالُ النَّفْسِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَقِيلَ خُرُوجُ النَّفْسِ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ مِنْ جَانِبِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَقِيلَ الشَّغْلُ بِالْعَمَلِ فِي شَرْحِ الطَّوَالِعِ هِيَ جَعْلُ الْأَفْعَالِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، ثُمَّ قَالَ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ لِلْحِكْمَةِ عِدَّةُ مَعَانٍ الْأَوَّلُ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ قَوْله تَعَالَى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وَيُؤَيِّدُهُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] أَيْ بِالْفِقْهِ وَالثَّانِي الْإِطْلَاعُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» وَلِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ هَذَا الْمَعْنَى «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عُلُوِّ رُتْبَتِهِ يَدْعُو كَثِيرًا بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ» ، وَهِيَ الْعِلْمُ اللَّدُنِّي الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْخِدْمَةِ وَثَمَرَةُ الرِّيَاضَةِ. قَالَ زَيْنُ الْإِسْلَامِ وَالْعَجَبُ مِمَّنْ دَخَلَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَأَرَادَ الْوُصُولَ إلَى اللَّهِ وَقَدْ حَصَلَ اسْتِخْرَاجُ مَعَانِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ثُمَّ لَا يَشْتَغِلُ بِالذِّكْرِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ لِتَنْصَبَّ عَلَى قَلْبِهِ مِيَاهُ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ الَّتِي لَوْ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي تَدْرِيسِ الِاصْطِلَاحَاتِ وَتَصْنِيفِهَا لَا يَشُمَّ مِنْهَا رَائِحَةً وَلَا يُشَاهِدُ مِنْ آثَارِهَا وَأَنْوَارِهَا لُمْعَةً وَالسِّرُّ فِي عُلُوِّ رُتْبَتِهِ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ الْجَفَاءِ وَالِالْتِبَاسِ وَالْآخِرَةُ دَارُ الْجَلَاءِ وَالِانْكِشَافِ، وَأَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ تَابِعَةٌ لِلْمَعَارِفِ الِاكْتِسَابِيَّةِ وَالِانْكِشَافِيَّة فَصَاحِبُ هَذِهِ إذَا ارْتَحَلَ مِنْ الدُّنْيَا فَازَ بِالسَّعَادَةِ الْكُبْرَى إذْ هِيَ دَارُ الِانْكِشَافِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ عَوَائِقِ عَالَمِ الْمَوَادِّ وَالْبُرْهَانِ قَوْله تَعَالَى - {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]- فَإِنَّهَا أَبَدِيَّةٌ سَرْمَدِيَّةٌ وَحَيَاةُ الدُّنْيَا سَرِيعَةُ الزَّوَالِ مُعْقَبَةٌ بِالْفِنَاءِ فَرُؤْيَةُ الدُّنْيَا مَوْجُودَةٌ وَالْآخِرَةِ مَعْدُومَةٌ بِنَظَرِ هَذِهِ الْعُيُونِ الْعَوْرَاءِ الْعَمْيَاءِ وَإِلَّا فَعِنْدَ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَانْطِبَاقِ هَذِهِ الْعُيُونِ وَانْفِتَاحِ الْعُيُونِ الْحَقِيقِيَّةِ تَنْكَشِفُ الْقَضِيَّةُ وَتَنْقَلِبُ الْوَقِيعَةُ فَنَقُولُ يَا رَبُّ مَا هَذِهِ الْحَالَةُ وَالْأُمُورُ بِأَسْرِهَا مَعْكُوسَةٌ.

وَالْقَضَايَا مُنْقَلِبَةٌ فَنُودِيَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ - فَقِيلَ {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]- فَنَقُولُ - {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]- فَنُجَابُ - {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]- فَنَقُولُ رَبَّنَا مَا عَلِمْت حَقِيقَةَ الْحَالِ مِنْ أَنَّ مَا يُرَى مَوْجُودٌ ظَاهِرًا وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَيُقَالُ فِي جَوَابِهِ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ تَعَالَى {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39] وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَرْكِ التَّدَبُّرِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الشَّقَاوَةِ كَمَا أَنَّ التَّدَبُّرَ وَالتَّفَكُّرَ رَأْسُ كُلِّ السَّعَادَةِ كَمَا قِيلَ إذَا كَانَ لِلْمَرْءِ فِكْرَةٌ فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ عِبْرَةٌ فَصَاحِبُ الْفِكْرَةِ كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْأَكْوَانِ لَهُ شَيْخٌ مُرْشِدٌ وَالثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي الْحِكْمَةِ مَا سَمَّاهُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ حِكْمَةٌ مِنْ عِلْمِ الْفَلَاسِفَةِ وَهَذَا كَتَسْمِيَةِ الْأَعْمَى بِالْبَصِيرِ وَالْبَرِّيَّةِ الْمُهْلِكَةِ بِالْمَفَازَةِ كَيْفَ وَمِنْ أُصُولِ مَسَائِلِهِمْ قِدَمُ الْعَالَمِ وَكَوْنُهُ تَعَالَى مُوجِبًا بِالذَّاتِ بِلَا اخْتِيَارٍ لَهُ أَصْلًا وَامْتِنَاعُ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ لِلسَّمَاءِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْفُحْشِيَّاتِ كَمَا سَبَقَ وَالْعَجَبُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يَقْتَفُونَ أَثَرَهُمْ وَيُرَوِّجُونَ أَقْوَالَهُمْ وَيُشْهِرُونَ مَذَاهِبَهُمْ وَيَفْتَخِرُونَ بِعُلُومِهِمْ وَيَتْرُكُونَ عُلُومَ رَبِّهِمْ وَيُرَجِّحُونَهَا عَلَى عُلُومِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا (وَإِفْرَاطُهُ الْجَرْبَزَةَ) بِالْجِيمِ فَالرَّاءِ فَالْبَاءِ فَالزَّايِ فِي الصِّحَاحِ رَجُلٌ جُرْبُزٌ بِالضَّمِّ بَيِّنُ الْجَرْبَزَةِ بِالْفَتْحِ أَيْ خَبٌّ، وَهُوَ الْقُرْبُزُ أَيْضًا. وَعَنْ مُخْتَصَرِ الْقَامُوسِ جَرْبَزَ الرَّجُلُ ذَهَبَ أَوْ انْقَبَضَ أَوْ سَقَطَ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ (وَهِيَ مَلَكَةُ إدْرَاكٍ تَدْعُو) صَاحِبَهَا (إلَى اطِّلَاعِ مَا لَا يُمْكِنُ إدْرَاكُهُ) لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ تَعَالَى أَوْ لِمَنْ شَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ تَعَالَى يَعْنِي إلَى إرَادَةِ الِاطِّلَاعِ فَإِنَّ نَفْسَهُ مُمْتَنِعٌ (كَالْمُتَشَابِهَاتِ) فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَإِنَّ غَيْرَهُمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُتَشَابِهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ إدْرَاكُهُ فَذَاكَ وَإِلَّا فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ (وَبَحْثُ الْقَدَرِ) أَيْ تَقْدِيرُهُ تَعَالَى وَقَضَاؤُهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إذْ هَذَا الْبَحْثُ أَيْضًا مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ فَإِنَّهَا مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ. وَإِنْ قِيلَ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْلَمُهَا لَعَلَّهُ إنْ صَحَّ فَعَلَى طَرِيقِ الْخَوَارِقِ وَالْكَلَامُ فِي الْإِمْكَانِ الْعَادِيِّ وَإِلَّا فَقَالُوا بِإِمْكَانِ عِلْمِهَا فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَلِهَذَا نَرَى بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَعْرِيفِ الْمُتَشَابِهِ يَقُولُ مَا يَنْقَطِعُ رَجَاءَ مَعْرِفَتِهِ فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ (أَوْ) مَلَكَةٌ (تَصْدُرُ بِهَا أَفْعَالٌ يَتَضَرَّرُ الْغَيْرُ بِهَا) كَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَقِيلَ أَوْ لَا يَتَضَرَّرُ الْغَيْرُ بِهَا، وَلَكِنْ تَخْلُو عَنْ نَفْعٍ أُخْرَوِيٍّ فَيَدْخُلُ الْخَبُّ، وَهُوَ كَيْفِيَّةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى اسْتِعْمَالِ الدَّهَاءِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَبُلُوغِ غَايَاتِهَا (وَتَفْرِيطُهُ) أَيْ اعْتِدَالُ الْحِكْمَةِ أَوْ النُّطْقِ (الْبَلَادَةُ) ضِدُّ الذَّكَاءِ كَالْحَمَاقَةِ وَالِانْخِدَاعِ (وَهِيَ مَلَكَةٌ بِهَا يَقْصُرُ صَاحِبُهَا عَنْ إدْرَاكِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا. (وَ) الثَّانِيَةُ (الْغَضَبُ، وَهُوَ حَرَكَةُ النَّفْسِ) الْحَيَوَانِيَّةِ (دَفْعًا لِلْمُنَافِرِ) حَالًا أَوْ مَآلًا وَذَلِكَ بِغَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ عِنْدَ إدْرَاكِ مَا لَا يُلَائِمُهُ مِنْ الْأَذَى وَالْأَلَمَ، ثُمَّ قِيلَ هَذِهِ الْحَرَكَةُ جَزَعٌ إنْ لَمْ يَكُنْ الِانْتِقَامُ لِكَوْنِهِ أَعْلَى مِنْهُ فَيَنْقَبِضُ ذَلِكَ الدَّمُ وَحِقْدٌ إنْ وَقَعَ تَرَدُّدٌ فِي الِانْتِقَامِ لِكَوْنِهِ مُسَاوِيًا لَهُ وَغَضَبٌ إنْ أَمْكَنَ الِانْتِقَامُ (فَاعْتِدَالُهُ الشَّجَاعَةُ، وَهِيَ مَلَكَةٌ بِهَا يُقْدِمُ عَلَى أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهَا) كَالْمُحَارَبَةِ مَعَ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَتَخْلِيصِ الْمَظْلُومِ مِنْ يَدِ الظَّالِمِ، وَإِنْ حَصَلَ الْإِقْدَامُ مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ فَجُرْأَةٌ (وَإِفْرَاطُهُ التَّهَوُّرُ) ، وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الشَّيْءِ بِقِلَّةِ مُبَالَاةٍ

(وَهُوَ مَلَكَةٌ بِهَا يُقْدِمُ عَلَى أُمُورٍ) مَهُولَةٍ يَصْعُبُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا (لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهَا) لِضَعْفِهِ كَالْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ إذَا كَانُوا زَائِدِينَ عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ وَالصَّلَفُ وَالِاسْتِشَاطَةُ (وَتَفْرِيطُهُ الْجُبْنُ، وَهُوَ هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ بِهَا يُحَجِّمُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَالْجِيمِ لَا بِالْهَاءِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ يَتَأَخَّرُ وَيَكُفُّ (عَنْ مُبَاشَرَةِ مَا يَنْبَغِي) أَنْ يَلِيقَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بَلْ يَجِبُ. (وَ) الثَّالِثَةُ (الشَّهْوَةُ، وَهِيَ حَرَكَةُ النَّفْسِ) الْحَيَوَانِيَّةِ (طَلَبًا لِلْمُلَائِمِ) بِهَا صَيْدُ الْإِنْسَانِ وَسُخِّرَ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ لَهَا مِمَّا يَجِدُ لَهَا حَظًّا عَاجِلًا (فَاعْتِدَالُهَا الْعِفَّةُ) قِيلَ هِيَ أَكْثَرُ مَا تَتَعَلَّقُ بِاللَّذَّاتِ الْبَهِيمِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَتَمَامُهَا يَتَعَلَّقُ بِحِفْظِ الْجَوَارِحِ وَلِذَا قَالَ (وَهِيَ مَلَكَةٌ بِهَا يُبَاشِرُ) الْإِنْسَانُ (الْمُشْتَهَيَاتِ) بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ (عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ وَالْمُرُوءَةِ) قِيلَ عَنْ الْمُجْمَلِ مَهْمُوزَةٌ وَقِيلَ عَنْ الصِّحَاحِ الْمُرُوءَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَلَك أَنْ تُشَدِّدَ بِمَعْنَى كَمَالِ الرُّجُولِيَّةِ قِيلَ هُوَ أُسُّ الْفَضَائِلِ مِنْ الْقَنَاعَةِ وَالزُّهْدِ وَغِنَى النَّفْسِ وَالسَّخَاءِ وَغَيْرِهَا (وَإِفْرَاطُهَا الشَّرَهُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مَصْدَرُ شَرِه كَفَرِحَ غَلَبَهُ حِرْصُهُ (وَالْفُجُورُ) ، وَهُوَ الْكَذِبُ وَالِانْبِعَاثُ فِي الْمَعَاصِي كَمَا عَنْ الْمُجْمَلِ. وَعَنْ الصِّحَاحِ وَالْفِسْقُ وَالْكَذِبُ وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ (وَهُوَ مَلَكَةٌ بِهَا يَتَنَاوَلُ) الْإِنْسَانُ (الْمُشْتَهَيَاتِ مُطْلَقًا) حَلَالًا أَوْ حَرَامًا مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ أَوْ لَا (وَتَفْرِيطُهَا) أَيْ الشَّهْوَةِ (الْخُمُودُ) فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ بِالْجِيمِ (وَهُوَ مَلَكَةٌ بِهَا يُقَصِّرُ) الْإِنْسَانُ لِضَعْفِ الْبِنْيَةِ أَوْ كِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ نَحْوِهِ (عَنْ اسْتِيفَاءِ مَا يَنْبَغِي مِنْ الْمُشَهَّيَاتْ) قِيلَ فَبِقَوْلِهِ مَا يَنْبَغِي خَرَجَ مِنْ الْوَرَعِ مَا يَكُونُ لِتَحْصِيلِ التَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَكَذَا الْوُقُوفُ عَنْ الشُّبُهَاتِ عَلَى مَا يَرَاهُ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَا هُوَ مِنْهُ فَضِيلَةٌ، وَهُوَ الْوُقُوفُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلِّ الضَّرُورَاتِ (وَالْأَوْسَاطُ) الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْعِفَّةِ وَالشَّجَاعَةِ الَّتِي هِيَ الْفَضَائِلُ فِي أَنْفُسِهَا (تَحْصُلُ بِاسْتِخْدَامِ الْأَوَّلِ) النُّطْقَ (الْأَخِيرِينَ) الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ بِقَهْرِهِمَا وَإِذْلَالِهِمَا بِمَعْنَى أَنَّ النُّطْقَ يَعْنِيَ الْعَقْلَ إذَا غَلَبَ عَلَيْهِمَا وَجَعَلَهُمَا خَادِمَيْنِ لَهُ تَحْصُلُ الْأَوْسَاطُ. (وَالْأَطْرَافُ) السِّتَّةُ مِنْ الْجَرْبَزَةِ وَالْبَلَادَةِ وَالتَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ وَالشَّرَهِ وَالْخُمُودِ (تَحْصُلُ بِاسْتِخْدَامِهِمَا) الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ (إيَّاهُ) أَيْ النُّطْقَ

بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ الِاعْتِدَالِ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ النُّطْقُ فِي دَرَجَةِ الِاعْتِدَالِ يَكُونُ مَقْهُورًا تَحْتَ الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ فَمَا دَامَ الْحُكْمُ وَالتَّصَرُّفُ فِي أَيْدِيهِمَا تَفُوتُ الْأَوْسَاطُ الشَّرِيفَةُ وَتَحْصُلُ الْأَطْرَافُ الرَّذِيلَةُ وَيَتْبَعُهَا سَائِرُ الْمَذْمُومَةِ (وَالْأَطْرَافُ) السِّتَّةُ (مُطْلَقًا) سَوَاءٌ مَعَ شَوْبِ غَرَضٍ فَاسِدٍ أَوْ لَا (وَالْأَوْسَاطُ الْمَشُوبُ بِهَا غَرَضٌ فَاسِدٌ رَذَائِلُ) كَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْحَسَدِ أَمَّا الْمَشُوبُ بِالْحِكْمَةِ فَكَمَنْ يَتَعَلَّمُهَا لِمُجَارَاةِ الْعُلَمَاءِ وَمُمَارَاةِ السُّفَهَاءِ، وَأَمَّا فِي الشَّجَاعَةِ فَكَمَنْ يُرِيهَا لِلْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا فِي الْعِفَّةِ فَكَمَنْ يَتْرُكُ اللَّذَّةَ وَيَقْصِدُ اعْتِيَاضًا عَنْهَا جَاهًا فِي الدُّنْيَا فَهَذِهِ رَذَائِلُ لِمَا فِيهَا مِنْ شَائِبَةِ الْغَرَضِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ فَضِيلَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ آثَارًا كَثِيرَةً. (فَلِلْحِكْمَةِ سَبْعُ شُعَبٍ) الْأَوَّلُ صَفَاءُ الذِّهْنِ هُوَ اسْتِعْدَادُ النَّفْسِ لِاسْتِخْرَاجِ الْمَطْلُوبِ بِلَا وِجْدَانِ اضْطِرَابٍ يَمْنَعُ الْوُصُولَ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ إلَيْهِ الثَّانِي جَوْدَةُ الْفَهْمِ هِيَ صِحَّةُ انْتِقَالِ الذِّهْنِ مِنْ تَصَوُّرِ الْمَلْزُومِ إلَى تَصَوُّرِ اللَّازِمِ الثَّالِثُ الذَّكَاءُ هُوَ سُرْعَةُ انْتِقَالِ الذِّهْنِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ إلَى النَّتِيجَةِ هَذَا أَخَصُّ مِنْ الثَّانِي، وَهُوَ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ: يَعْنِي الِاسْتِعْدَادَ مَرْتَبَةُ الْعَقْلِ الْهَيُولَانِيِّ. وَالثَّانِي: يَعْنِي الِانْتِقَالَ مَرْتَبَةُ الْعَقْلِ بِالْمَلَكَةِ وَالثَّالِثُ: يَعْنِي سُرْعَةَ الِانْتِقَالِ قَرِيبٌ لِمَرْتَبَةِ الْعَقْلِ بِالْفِعْلِ. الرَّابِعُ: حُسْنُ التَّصَوُّرِ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ بِقَدْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ بِلَا إدْخَالٍ زَائِدٍ بِلَا إهْمَالٍ دَاخِلٍ. الْخَامِسُ: سُهُولَةُ التَّعَلُّمِ هِيَ قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ عَلَى دَرْكِ الْمَطْلُوبِ بِلَا زِيَادَةِ سَعْيٍ وَمَئُونَةِ كُلْفَةٍ. السَّادِسُ: الْحِفْظُ هُوَ ضَبْطُ الصُّوَرِ الْمُدْرَكَةِ الْحَاصِلِ بِالِاكْتِسَابِ. السَّابِعُ: الذِّكْرُ بِالضَّمِّ اسْتِحْضَارُ الْأُمُورِ الْمَضْبُوطَةِ وَالنِّسَبُ غَيْرُ خَافِيَةٍ (وَلِلشُّجَاعَةِ إحْدَى عَشَرَةَ) الْأَوَّلُ: كِبْرُ النَّفْسِ هُوَ اسْتِحْقَارُ الْيَسَارِ وَالْفَقْرُ وَالْكِبْرُ وَالصِّغَرُ. الثَّانِي: عِظَمُ التُّهْمَةِ هُوَ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَشَقَاوَتِهَا. الثَّالِثُ: الصَّبْرُ هُوَ قُوَّةُ مُقَاوَمَةٍ لِلْآلَامِ وَالْأَهْوَالِ. الرَّابِعُ: النَّجْدَةُ عَدَمُ الْجَزَعِ مِنْ الْمَخَاوِفِ مَعَ مَلَكَةِ الثَّبَاتِ لِلنَّفْسِ. الْخَامِسُ: الْحِلْمُ هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ ثَوْرَةِ الْغَضَبِ. السَّادِسُ: السُّكُونُ هُوَ التَّأَنِّي فِي الْخُصُومَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. السَّابِعُ: التَّوَاضُعُ هُوَ اسْتِعْظَامُ ذَوِي الْفَضَائِلِ، وَمَنْ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ بَعْدَ نَفْسِهِ دُونَ مَرَاتِبِهِمْ. الثَّامِنُ: الشَّهَامَةُ هِيَ الْحِرْصُ عَلَى مُبَاشَرَةِ أُمُورٍ عَظِيمَةٍ. التَّاسِعُ: الِاحْتِمَالُ هُوَ إتْعَابُ النَّفْسِ فِي الْحَسَنَاتِ. الْعَاشِرُ: الْحَمِيَّةُ هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَرَامِ وَالدِّينِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: الرِّقَّةُ هِيَ التَّأَذِّي مِنْ أَذًى يَلْحَقُ الْغَيْرَ. (وَلِلْعِفَّةِ إحْدَى عَشَرَةَ أَيْضًا الْأَوَّلُ) الْحَيَاءُ انْحِصَارُ النَّفْسِ عَنْ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ شَرْعِيَّةً أَوْ عَقْلِيَّةً أَوْ عُرْفِيَّةً. الثَّانِي: الصَّبْرُ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى. الثَّالِثُ: الدَّعَةُ هِيَ السُّكُونُ عِنْدَ هَيَجَانِ الشَّهْوَةِ. الرَّابِعُ: النَّزَاهَةُ هِيَ اكْتِسَابُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَهَانَةٍ وَلَا ظُلْمٍ، وَإِنْفَاقُهُ فِي الْمَصَارِفِ الْحَمِيدَةِ فَمَعَ الْمَهَانَةِ تَفْرِيطٌ، وَمَعَ الظُّلْمِ إفْرَاطٌ. الْخَامِسُ: الْقَنَاعَةُ هِيَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْكَفَافِ بِمَعْنَى تَسْوِيَةِ الْمَدْخَلِ وَالْمَصْرِفِ. السَّادِسُ: الْوَقَارُ هُوَ التَّأَنِّي فِي التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْمَطَالِبِ. السَّابِعُ: الرِّفْقُ هُوَ حُسْنُ الِانْقِيَادِ. الثَّامِنُ: حُسْنُ السَّمْتِ هُوَ مَحَبَّةُ مَا يُكَمِّلُ النَّفْسَ. التَّاسِعُ: الْوَرَعُ هُوَ مُلَازَمَةُ الْأَعْمَالِ الْحَمِيدَةِ بِمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ وَالْمُرُوءَةِ. الْعَاشِرُ: الِانْتِظَامُ هُوَ تَقْرِيرُ الْأُمُورِ وَتَرْتِيبُهَا بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: السَّخَاءُ إعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَنْبَغِي. (وَتَحْتَ هَذَا السَّخَاءِ سِتُّ فَضَائِلَ الْأَوَّلُ) الْكَرْمُ الْإِعْطَاءُ بِالسُّهُولَةِ وَطِيبِ النَّفْسِ. الثَّانِي: الْإِيثَارُ تَرْجِيحُ الْغَيْرِ عَلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ. الثَّالِثُ: النَّيْلُ الْإِعْطَاءُ مَعَ السُّرُورِ. الرَّابِعُ: الْمُوَاسَاةُ مُشَارَكَةُ الْأَصْدِقَاءِ فِي الِانْتِفَاعِ فِي الْبَذْلِ. الْخَامِسُ: السَّمَاحَةُ الْبَذْلُ تَفَضُّلًا بِلَا وُجُوبٍ عَلَيْهِ وَلَا تَوَقُّعِ مُجَازَاةٍ السَّادِسُ: الْمُسَامَحَةُ تَرْكُ مَا لَا يَجِبُ تَرْكُهُ تَنَزُّهًا وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْمُرُوءَةَ هِيَ رَغْبَةٌ صَادِقَةٌ لِلنَّفْسِ فِي الْإِفَادَةِ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ وَالْعَفْوُ هُوَ تَرْكُ الْمُجَازَاةِ مَعَ الْقُدْرَةِ، ثُمَّ الْعَدَالَةُ كَيْفِيَّةٌ مُتَوَسِّطَةٌ حَادِثَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْحِكْمَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْعِفَّةِ وَقِيلَ بِمُغَايَرَتِهَا وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ شُعَبَ الْعَدَالَةِ مُغَايِرَةٌ لِشُعَبِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ شُعَبَهَا

حَقِيقِيَّةٌ وَشُعَبُ الْعَدَالَةِ إضَافِيَّةٌ وَرُدَّ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ حَقِيقِيَّةُ الْكُلِّ فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ الْبَعْضَ فَلَا يُفِيدُ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ كَوْنُ شُعَبِ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعُ مُخَالَفَةٍ لِشُعَبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَلَهَا أَيْ الْعَدَالَةِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ شُعْبَةً الْأُولَى الصَّدَاقَةُ مَحَبَّةٌ صَادِقَةٌ بِحَيْثُ لَا يَشُوبُهَا غَرَضٌ مَعَ إيثَارٍ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْخَيْرَاتِ. الثَّانِيَةُ: الْأُلْفَةُ اتِّفَاقُ الْآرَاءِ فِي تَعَاوُنِ الْمَعَاشِ. الثَّالِثَةُ: الْوَفَاءُ مُلَازَمَةُ طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ وَمَحَافِظُ عُهُودِ الْخُلْطَةِ. الرَّابِعَةُ: التَّوَدُّدُ طَلَبُ مَوَدَّةِ الْأَكْفَاءِ بِمَا يُوجِبُ ذَلِكَ. الْخَامِسَةُ: الْمُكَافَأَةُ مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ مَثَلًا أَوْ بِزِيَادَةٍ. السَّادِسَةُ: حُسْنُ الشَّرِكَةِ رِعَايَةُ الْعَدَالَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. السَّابِعَةُ: حُسْنُ الْقَضَاءِ تَرْكُ اللُّوَّمِ وَالْمَنِّ فِي الْمُجَازَاةِ. الثَّامِنَةُ: صِلَةُ الرَّحِمِ مُشَارَكَةُ ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ. التَّاسِعُ: الشَّفَقَةُ صَرْفُ الْهِمَّةِ إلَى إزَالَةِ الْمَكْرُوهِ عَنْ النَّاسِ. الْعَاشِرَةُ: الْإِصْلَاحُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْخُصُومَاتِ بِمَا يَدْفَعُهَا. الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ: التَّوَكُّلُ تَرْكُ الْمُسَمَّى فِيمَا لَا يَسَعُهُ قُدْرَةُ الْبَشَرِ. الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ: التَّسْلِيمُ انْقِيَادُ أَمْرِ اللَّهِ وَتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ فِيمَا لَا يُلَائِمُ الطَّبِيعَةَ. الثَّالِثَةَ عَشَرَةَ: الرِّضَا طِيبُ النَّفْسِ فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ، وَفِيمَا يَفُوتُهُ مِنْ الْفَرَائِدِ. الرَّابِعَةَ عَشَرَةَ: الْعِبَادَةُ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَالتَّفْصِيلُ سَيُعْرَفُ مِنْ الْمُصَنِّفِ، ثُمَّ إذَا عَرَفْت ذَلِكَ. (فَكُلُّ خُلُقٍ مَذْمُومٍ) أَيْ جَمِيعُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ (نَاشِئٌ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْأَوْسَاطِ الْمَشُوبَةِ وَالْأَطْرَافِ مُطْلَقًا (مُنْفَرِدَةً أَوْ مُجْتَمِعَةً بَعْضُهَا أَوْ كُلُّهَا) وَلَمَّا فَسَّرَ الْخُلُقَ وَبَيَّنَ مَنْشَأَهُ أَخَذَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عِلَاجِهِ حَسْبَمَا وَعَدَ قَبْلُ فَقَالَ: (وَعِلَاجُهُ الْكُلِّيُّ) الشَّامِلُ لِجَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهِ (الْإِجْمَالِيُّ) بِلَا تَفْصِيلٍ (مَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأَمْرَاضِ كَالْكِبْرِ وَالْبُخْلِ) لِيَمْتَازَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ (وَغَوَائِلُهَا) جَمْعُ غَائِلَةٍ بِمَعْنَى الْمَضَرَّةِ. (وَأَسْبَابُهَا وَأَضْدَادُهَا وَفَوَائِدُهَا) أَيْ الْأَضْدَادُ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْكِمَالَاتِ (وَأَسْبَابُهَا) أَيْ الْأَضْدَادِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْصِيلِهَا (ثُمَّ مَعْرِفَةُ وُجُودِ الْأَمْرَاضِ فِي نَفْسِهِ بِالتَّفْتِيشِ وَالتَّأَمُّلِ وَاخْتِيَارِ مَنْ يُنَبِّهُهُ) مِنْ عَالِمٍ أَوْ شَيْخٍ مُرْشِدٍ (عَلَى عَيْبِهِ) وَالْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ وَالرَّجُلُ لَا يَعْرِفُ كُلَّ عَيْبِهِ (مِنْ أَصْدِقَاءِ الصِّدْقِ) إذْ مَنْ لَا يَصْدُقُ فِي دَعْوَى صَدَاقَتِهِ لَا يَخْلُو عَنْ مُدَاهَنَةٍ أَوْ تَكُونُ صَدَاقَتُهُ صُورِيَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ أُخْرَوِيَّةٌ إذْ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ يَحْفَظُ حَبِيبَهُ مِنْ الْمَهَالِكِ وَالْمَخَاوِفِ لَكِنَّ مِثْلَهُ فِي غَايَةِ عِزَّةٍ وَنِهَايَةِ نُدْرَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَادُ الصَّدِيقِ وَكَافُ الْكِيمْيَاءِ مَعًا ... لَا يُوجَدَانِ فَدَعْ عَنْ نَفْسِك الطَّمَعَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيَّ عَيْبِي وَلِهَذَا سُنَّ عَقْدُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (وَالتَّفَحُّصُ لِقَوْلُ أَعْدَائِهِ) فِي حَقِّهِ (فَإِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إلَى عُيُوبِهِ) لِإِجْرَاءِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ (وَيَذْكُرُونَهُ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْعُيُوبِ طَلَبًا لِحَقَارَتِهِ فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرُوا فِيهِ مَوْجُودًا فَلْيَسْعَ إلَى إزَالَتِهِ، وَأَنَّ الْأَحِبَّاءَ قَلَّمَا يَرَوْنَ نَقَائِصَ أَحِبَّائِهِمْ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الصَّدَاقَةُ الصَّادِقَةُ تُرِي نَقَائِصَ الصِّدِّيقِ مَحَاسِنَ. وَقِيلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ إنَّ رَجُلًا قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ نَبِّهْنِي عَلَى عَيْبِي فَقَالَ لَاحَظْتُك بِعَيْنِ

الْوِدَادِ فَاسْتَحْسَنْت مِنْك مَا رَأَيْت فَسَلْ غَيْرِي عَنْ عَيْبِك (وَالنَّظَرُ إلَى النَّاسِ) أَيْ مَعَايِبِهِمْ فَإِنْ رَأَى مَا يَكْرَهُهُ فَيَجْتَنِبُ عَنْهُ فَإِنَّ مَا كَرِهَهُ مِنْ النَّاسِ يَكْرَهُهُ النَّاسُ مِنْهُ أَوْ الْمَعْنَى فِيمَا يَقُولُونَ فِي حَقِّهِ كَمَا قِيلَ لَكِنْ يَكُونُ كَالْمُسْتَغْنِي عَنْهُ بِمَا قَبْلَهُ (فَإِنَّهُمْ مِرْآةٌ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ فَيَرَى فِي عُيُوبِ غَيْرِهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ» قِيلَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ أَدَّبَك فَقَالَ مَا أَدَّبَنِي أَحَدٌ فَإِذَا رَأَيْت جَهْلَ الْجَاهِلِ تَجَانَبْتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ مَا اسْتَحْسَنْت مِنْ فِعْلِ النَّاسِ دَاخَلْت وَمَا اسْتَهْجَنْت جَانَبْت وَقِيلَ لِلُقْمَانَ مِمَّنْ تَعَلَّمْت الْأَدَبَ قَالَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْأَدَبَ (وَتَذْكِرَةٌ لِكُلِّ طَالِبٍ مُسْتَبْصِرٍ) ذِي بَصِيرَةٍ فِي الْحَقِّ وَأَمْرِ الْآخِرَةِ (ثُمَّ تَمْيِيزُ أَسْبَابِهَا) إذْ مَا لَمْ يُمَيِّزْ الْأَسْبَابَ لَمْ يَعْلَمْ طَرِيقَ إزَالَتِهَا (ثُمَّ إزَالَةُ الْأَسْبَابِ) إذْ الْمُسَبِّبَاتُ إنَّمَا تَزُولُ بِزَوَالِ أَسْبَابِهَا (وَارْتِكَابٌ) بِتَحَمُّلِ الْأَتْعَابِ وَالْمَشَاقِّ (الْفَضِيلَةُ الْمُقَابِلَةُ) لِذَلِكَ الْمَذْمُومِ (وَالتَّكَلُّفُ فِي تَحْصِيلِهَا) أَيْ الْفَضِيلَةِ فَإِنَّ مَنْعَ النَّفْسِ عَمَّا ائْتَلَفَتْهُ وَجُبِلَتْ عَلَيْهِ مُحْتَاجٌ إلَى تَكَلُّفٍ وَزِيَادَةِ مَشَقَّةٍ، فَإِنَّ الْمَنَاهِيَ مَحْبُوبَةٌ وَالنُّفُوسُ إلَيْهَا مَجْذُوبَةٌ (إذْ الْأَمْرَاضُ) الْعَقْلِيَّةُ كَالْحِسِّيَّةِ (تُعَالَجُ بِالْأَضْدَادِ كَمَا أَنَّ الصِّحَّةَ) الْبَدَنِيَّةَ (تُحْفَظُ بِالْأَنْدَادِ) بِالْأَمْثَالِ يَعْنِي الِاعْتِدَالَ فِي الْمِزَاجِ فَالْمَيْلُ عَنْ الِاعْتِدَالِ مَرَضٌ مُهْلِكٌ (ثُمَّ) بَعْدَ ذَلِكَ (التَّعْنِيفُ) أَيْ الزَّجْرُ وَعَدَمُ الرِّفْقِ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ (بِالتَّعْيِيرِ) بِنِسْبَةِ الْعَارِ، وَهُوَ الشَّيْنُ (وَالتَّوْبِيخُ) أَيْ اللُّوَّمُ وَالتَّقْرِيعُ (فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ) لِتَأَلُّمِ النُّفُوسِ بِهِمَا خُصُوصًا أَرْبَابُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ (ثُمَّ) ارْتِكَابُ (الرَّذِيلَةِ الْمُقَابِلَةِ) لِلْخُلُقِ الْحَسَنِ كَارْتِكَابِ الْإِسْرَافِ لِإِزَالَةِ الْبُخْلِ وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي الْمَخَاوِفِ لِإِزَالَةِ الْجُبْنِ وَهَذَا لِلتَّدَاوِي بِالنَّجَسِ لِلضَّرُورَةِ (فَلْيُحْفَظْ) عِنْدَهُ (حَتَّى لَا يُتَجَاوَزَ إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ) يَعْنِي فَلْيَكْتَفِ بِقَدْرِ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ الْمَرَضَ وَلَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لِئَلَّا يَتَجَاوَزَ إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ كَالْإِسْرَافِ مَثَلًا فَيَكُونُ كَمَنْ هَرَبَ مِنْ الْمَطَرِ وَوَقَفَ تَحْتَ الْمِيزَابِ أَوْ الْمَعْنَى فَلْيَحْفَظْ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الرَّذِيلَةِ لِتَرْكِ ذَلِكَ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ مَا أُبِيحَ لِضَرُورَةٍ يَزُولُ بِزَوَالِ تِلْكَ الضَّرُورَةِ لَكِنْ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِ مَا ارْتَكَبَهُ أَخَفَّ مِمَّا يُرِيدُ إزَالَتَهُ فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الضَّرَرَيْنِ ارْتِكَابُ أَخَفِّهِمَا وَقِيلَ فِي بَيَانِ هَذَا الْمَقَامِ قَوْلُهُ، ثُمَّ الرَّذِيلَةُ أَيْ، ثُمَّ أَنَّهُ لَا يَنْسَى الرَّذِيلَةَ الْمُقَابِلَةَ لِلْفَضِيلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلْتُحْفَظْ عِنْدَهُ حَتَّى لَا يَتَجَاوَزَ عَنْ الْفَضِيلَةِ إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ أَيْ الرَّذِيلَةِ فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ يَسْهُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَتَأَمَّلْ (ثُمَّ) إنْ لَمْ يَزُلْ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْمُعَالَجَاتِ لِقُوَّةِ تَمَكُّنِهِ فِي النَّفْسِ أَوْ لِضَعْفِ اسْتِعْمَالِهِ تِلْكَ الْمُعَالَجَاتِ (الرِّيَاضَاتُ) جَمْعُ رِيَاضَةٍ، وَهِيَ تَمْرِينُ النَّفْسِ وَتَعْلِيمُهَا الْأَمْرَ الشَّاقَّ عَلَيْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا (الشَّاقَّةُ) الْمُتْعِبَةُ الصَّعْبَةُ فَكَالصِّفَّةِ التَّوْضِيحِيَّةِ (كَالنُّذُورِ) الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ (وَالْأَيْمَانُ) جَمْعُ يَمِينٍ (وَالْعُهُودُ) الْمَوَاثِيقُ الشَّدِيدَةُ فَكَالْمُسْتَغْنِي عَنْهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَيْمَانِ (عَلَى الْتِزَامِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ) كَقِيَامِ أَكْثَرِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ أَكْثَرِ الشَّهْرِ (حَتَّى تُذْعِنَ) أَيْ تَقْبَلَ النَّفْسُ (مَا هُوَ أَسْهَلَ مِنْهَا) مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ (بِالطِّيبِ وَالسُّهُولَةِ) فَإِنَّهُ يَخِفُّ ذَلِكَ عِنْدَمَا هُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا وَأَشَقُّ. وَفِي رِسَالَةِ

الْقُشَيْرِيِّ عَنْ الْبِسْطَامِيِّ قِيلَ لَهُ مَا لَقِيت فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ مَا لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ فَقِيلَ لَهُ مَا أَهْوَنُ مَا لَقِيَتْ نَفْسُك مِنْك فَقَالَ أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ دَعَوْتهَا إلَى شَيْءٍ مِنْ الطَّاعَاتِ فَلَمْ تُجِبْنِي فَمَنَعْتهَا الْمَاءَ سَنَةً وَهَذَا كَمَنْ يَطِيبُ لَهُ الْكَيُّ وَالْمُعَالَجَاتُ الصَّعْبَةُ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ مِنْ الْأَمْرَاضِ لِرَجَاءِ الْخَلَاصِ بِهَا (وَاسْتِمَاعُ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ سُوءِ الْخُلُقِ) مِنْ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَعْرِفَةُ حَقَائِقِ الْأَمْرَاضِ؛ وَلِهَذَا تَرَكَ لَفْظَ ثُمَّ الدَّالَّةَ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّرَاخِي، فَلَيْسَ هَذَا سَابِعُ الْعِلَاجِ الْمُتَرَتِّبِ الْمُتَقَدِّمِ فَالْعِلَاجُ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا السِّتَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَثَانِيهِمَا هُوَ هَذَا خِلَافًا لِجُمْهُورِ الشُّرَّاحِ هُنَا (إجْمَالًا) عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ لَيْسَ بِمُصَرَّحٍ بِأَعْيَانِ شَيْءٍ مِنْ الذَّمِيمَةِ بَلْ شَامِلٌ لِجُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ (وَتَفْصِيلًا) أَيْ كُلُّ ذَمِيمَةٍ ذَمِيمَةٌ بِأَثَرِ أَثَرٍ (وَ) هَذَا (الثَّانِي) أَيْ التَّفْصِيلِيُّ (سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَأَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْإِجْمَالِيُّ (فَمِنْهُ مَا خَرَجَ صف) أَيْ الْأَصْفَهَانِيُّ. (عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمُ» جِنَايَةً وَمُؤَاخَذَةً «عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى» ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْظَمَ عِنْدَ النَّاسِ «مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ» مُطْلَقًا (وَ) سَبَبُ (ذَلِكَ) أَيْ الْأَعْظَمِيَّةِ (أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَنْبٍ) بِالتَّوْبَةِ (إلَّا وَقَعَ فِي ذَنْبٍ) آخَرَ لِرُسُوخِ ذَلِكَ الْخُلُقِ الَّذِي هُوَ الْمَبْدَأُ لَعَلَّ أَنَّ أَصْلَهُ رَاسِخٌ ضَرُورِيٌّ، وَإِنْ كَانَ ثَمَرَتُهُ اخْتِيَارِيَّةٌ فَمَا دَامَ الْأَصْلُ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ الْأَثَرِ فَتَأَمَّلْ جِدًّا. وَالْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى رِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا هَكَذَا كَمَا يَقْرُبُ مَا سَيَذْكُرُ هُنَا «مَا مِنْ ذَنْبٍ إلَّا وَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَوْبَةٌ إلَّا سُوءُ الْخُلُقِ فَإِنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا رَجَعَ إلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَلَا يَثْبُتُ عَلَى التَّوْبَةِ أَبَدًا فَهُوَ كَالْمُصِرِّ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَابَ مِنْ وَاحِدٍ يَفْعَلُ آخَرَ فَالتَّوَهُّمُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ الْغَضَبُ بِشَهَادَةِ الْعُرْفِ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُسْنُ الْخُلُقِ أَنْ لَا تَغْضَبَ» إلَى آخِرِ مَا قَالَ تَأْوِيلٌ مُخَرِّجٌ لِلْحَدِيثِ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إلَى التَّفْصِيلِيِّ وَالْكَلَامُ فِي الْإِجْمَالِيِّ. (خَرَّجَ طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشُّؤْمُ» ضِدُّ الْيُمْنِ وَالتَّبَرُّكِ، وَهُوَ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ وَيَخَافُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ «سُوءُ الْخُلُقِ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ بَلْ شَأْنُهُ الشَّرُّ وَالْهَوَانُ وَفِي تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إشَارَةٌ إلَى الْحَصْرِ فَالْمَعْنَى الشُّؤْمُ هَذَا لَا مَا يَتَشَاءَمُ النَّاسُ مِنْهُ (طط صف) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْأَصْفَهَانِيُّ. (عَنْ عَائِشَةَ) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ شَيْءٍ» مِنْ الْمَعَاصِي وَالْمُذْنِبِينَ «إلَّا لَهُ تَوْبَةٌ» عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى «إلَّا صَاحِبُ سُوءِ الْخُلُقِ فَإِنَّهُ» لِسُوءِ طَبِيعَتِهِ وَفَسَادِ مِزَاجِهِ «لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا عَادَ فِي» ذَنْبٍ «شَرٍّ مِنْهُ» إمَّا عَلَى الْإِمْكَانِ أَوْ الْأَكْثَرِ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ الشَّرُّ مِنْهُ

(طكط هَقّ) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَالْبَيْهَقِيِّ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخُلُقُ الْحَسَنُ» لِغَايَةِ شَرَفِهِ «يُذِيبُ الْخَطَايَا كَمَا يُذِيبُ الْمَاءُ الْجَلِيدَ» أَيْ الْجَمَدَ، وَهُوَ مَا يَجْمُدُ مِنْ الْمَاءِ لِفَرْطِ الْيُبْسِ وَالْبَرْدِ لَعَلَّ ذَلِكَ إمَّا لِتَوْفِيقِ تَوْبَةٍ أَوْ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ مَا ذُكِرَ فِيمَا بَعْدُ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ قَبْلُ فَلِئَلَّا يَقْطَعَ الْحَدِيثَ «وَالْخُلُقُ السُّوءُ» مَلَكَةٌ يَصْدُرُ عَنْهَا سَيِّئُ الْأَفْعَالِ بِسُهُولَةٍ «يُفْسِدُ الْأَعْمَالَ» الصَّالِحَةَ «كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ» بِإِذْهَابِ حَلَاوَتِهِ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الذَّمِيمَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ شَرَعَ فِي الْمَحْمُودَةِ فَقَالَ (وَالْأَوْسَاطُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ وَالْأَطْرَافُ مُطْلَقًا وَالْأَوْسَاطُ الْمَشُوبَةُ إلَخْ قَدَّمَ التَّخْلِيَةَ عَلَى التَّحْلِيَةِ، وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْعِفَّةِ وَالشَّجَاعَةِ (الْخَالِيَةِ عَنْ الْغَرَضِ الْفَاسِدِ) كَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (فَضَائِلُ) وَكِمَالَاتُ (فَكُلُّ خُلُقٍ مَحْمُودٍ نَاشِئٌ مِنْهَا) مِنْ الْأَوْسَاطِ الْمَوْصُوفَةِ (مُنْفَرِدَةً أَوْ مُجْتَمَعًا بَعْضُهَا) مَعَ آخَرَ (أَوْ) نَاشِئٌ (مِنْ مَجْمُوعِهَا الْمُسَمَّى بِالْعَدَالَةِ) وَكَمَالُ هَذِهِ الْأَوْسَاطِ خُصَّ بِأَشْرَفِ الْخُلُقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (فَمَنْ حَصَلَ لَهُ) شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْمُودِ (بِكَسْبٍ أَوْ طَبْعٍ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا عَدَمُ الطَّبْعِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِشَارَةِ لِلْمَذْهَبَيْنِ بَعِيدٌ لَعَلَّك قَدْ عَرَفْته قَبْلُ (فَلْيَحْفَظْهُ) وَلِبَعْضٍ لِئَلَّا يَتَحَوَّلَ (بِمُلَازَمَةِ أَهْلِهِ) مِنْ الصُّلَحَاءِ، فَإِنَّ الصَّاحِبَ يَقْتَدِي بِصَاحِبِهِ وَالْمُجَاوَرَةُ تُوجِبُ الْإِشْرَاكَ فِي الْمُجَاوِرِ، وَأَنَّ الصُّحْبَةَ سَارِيَةٌ وَالطَّبِيعَةُ سَارِقَةٌ (وَعَدَمُ صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ) لِسُرْعَةِ انْسِلَاخِ التَّخَلُّقِ وَعَوْدِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْخُلُقِ، فَإِنَّ لِلْمُجَاوِرَاتِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا سَرِيعًا كَمَا قِيلَ، وَمَنْ يَصْحَبُ الْأَشْرَارَ يُعَدُّ شِرِّيرًا وَقِيلَ: عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي إذَا كَانَ ذَا شَرٍّ فَجَنِّبْهُ سُرْعَةً ... وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ فَقَارِنْهُ تَهْتَدِي ، وَكَمَا قِيلَ: لَا تَصْحَبْ الْكَسْلَانَ فِي حَالَاتِهِ ... كَمْ صَالِحٍ بِفَسَادِ آخَرَ يَفْسُدُ عَدْوَى الْبَلِيدِ إلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ ... كَالْجَمْرِ يُوضَعُ فِي الرَّمَادِ فَيَخْمُدُ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» (وَإِيَّاهُ) لِيَحْذَرْ مَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْخُلُقُ الْمَحْمُودُ (وَالِاسْتِرْسَالُ) مِنْ إرْسَالِ نَفْسِهِ حَيْثُ تَشْتَهِي وَتَهْوَى (فِي الْمَلَاهِي) مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ (وَالْمِزَاحِ) الْمَذْمُومِ مِنْهُ مَا كَثُرَ أَوْ مَا يُؤْذِي أَوْ يُبْطِلُ، وَأَمَّا الْمِزَاحُ الْحَقُّ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مِمَّا لَا يُؤْذِي بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ فَيَجُوزُ وَسَيَجِيءُ (وَالْمِرَاءُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مَمْدُودًا الْمُجَادَلَةُ (وَلْيَرُضْ) مِنْ الرِّيَاضَةِ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الرَّاءِ (نَفْسَهُ بِوَظَائِفَ عِلْمِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ) كَالتَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ وَالْمُطَالَعَةِ وَكَالِاشْتِغَالِ بِالْفَضَائِلِ وَالنَّوَافِلِ وَزِيَارَةِ الصَّالِحِينَ (فَلْيَذْكُرْ جَلَالَتَهُ) أَيْ الْخُلُقَ الْمَحْمُودَ فَإِنَّهُ فَضْلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى (وَدَوَامَهُ وَصَفَاءَهُ) لَهُ مِنْ كَدُورَاتِ أَضْدَادِهِ (وَ) لِيَذْكُرَ (حَقَارَةَ الدُّنْيَا) عِنْدَ اللَّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. قَالَ

لُقْمَانُ لِابْنِهِ: " إنَّ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ قَدْ غَرِقَ فِيهَا نَاسٌ كَثِيرٌ فَلْتَكُنْ سَفِينَتُك فِيهَا تَقْوَى اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَحَشْوُهَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ". وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَك مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ» . (وَزَوَالَهَا وَنَكِدَهَا) أَيْ عُسْرَهَا وَشِدَّتَهَا (وَبِاسْتِمَاعِ مَا وَرَدَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ) عَطْفٌ عَلَى مُلَازَمَةٍ (إجْمَالًا) عَلَى وَجْهٍ يَشْتَمِلُ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ (وَتَفْصِيلًا وَالثَّانِي) أَيْ التَّفْصِيلِيُّ (سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ (وَمِنْ الْأَوَّلِ) أَيْ الْإِجْمَالِيِّ (قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى) لِحَبِيبِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] عَنْ الْحَلِيمِيِّ إنَّمَا وَصَفَ الْخُلُقَ بِالْعَظَمَةِ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي مُطْلَقِ الْخُلُقِ الْكَرْمُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُهُ بِمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ الْكَرَمِ مِنْ نَحْوِ السَّمَاحَةِ بَلْ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَفِيقًا بِهِمْ شَدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ غَلِيظًا عَلَيْهِمْ مَهِيبًا فِي صُدُورِ الْأَعْدَاءِ مَنْصُورًا بِالرُّعْبِ مِنْهُمْ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ. وَعَنْ الْجُنَيْدِ إنَّمَا كَانَ خُلُقُهُ عَظِيمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ هِمَّةٌ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ مَعَ الْخَلْقِ وَبَاطِنَهُ مَعَ الْحَقِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ. (وَ) مِنْهُ (قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا خَرَّجَهُ طك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ» لِكَوْنِهِ مَجَامِعَ الْخَيْرِ «عَظِيمَ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ» مَرَاتِبَهَا الْعَالِيَةِ «وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ و» الْحَالُ «أَنَّهُ» أَيْ ذَلِكَ الْعَبْدُ «لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَيْسَرِ الْعِبَادَةِ وَأَهْوَنِهَا عَلَى الْبَدَنِ الصَّمْتُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» . وَعَنْ الْمَاوَرْدِيِّ: هَذَا الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِآدَابِ الْعَدْلِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا «وَأَنَّهُ» أَيْ الْعَبْدَ «لَيَبْلُغُ بِسُوءِ خُلُقِهِ أَسْفَلَ دَرَكَةٍ فِي جَهَنَّمَ» ، وَإِنْ كَثُرَتْ عِبَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَهْدِمُهَا كَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْعُجْبِ بَلْ رُبَّمَا يُفْضِي إلَى الْكُفْرِ. قَالَ الْفُضَيْلُ «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ فُلَانَةَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَهِيَ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ حُسْنِ خُلُقٍ مُفْضٍ مِنْ حَسَنَةٍ إلَى حَسَنَةٍ إلَى أَنْ تُضَاعَفَ الْحَسَنَاتُ، وَكَذَا سَيِّئُهُ. (حَدّ هق حك) الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «بُعِثْت» مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى «لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» .

أَيْ لِأُتَمِّمَ الْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَصْلَ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ حَاصِلٌ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِتْمَامُهُ مُخْتَصٌّ بِهِ عَلَيْهِمْ التَّحِيَّةُ وَالتَّسْلِيمُ وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى مُجَدِّدٍ وَمُؤَسِّسٍ فَصَارَتْ شَرِيعَتُهُ خَاتَمَ الشَّرَائِعِ وَأَيْضًا فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ مَجْمَعُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحِسَانِ الثَّابِتَةِ فِي جَمِيعِ الْأَنَامِ كَكَرَمِ الْعَرَبِ وَشَجَاعَةِ قُرَيْشٍ وَرِقَّةِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا لِكَوْنِ خُلُقِهِ هُوَ الْقُرْآنُ الْجَامِعُ لِكُلِّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ فَهَذَا سِرُّ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» . (طب د) الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو دَاوُد (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ذَهَبَ» صَاحِبُ «حُسْنِ الْخُلُقِ» أَيْ ظَفِرَ وَفَازَ «بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» إذْ بِهِ يَأْمَنُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ وَلِهَذَا الْمَرْأَةُ الَّتِي لَهَا زَوْجَانِ فِي الدُّنْيَا تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ لِأَحْسَنِهِمَا خُلُقًا. (طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي أَوْسَطِهِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَا حَسَّنَ اللَّهُ خَلْقَ رَجُلٍ وَخُلُقَهُ» بِضَمَّةٍ أَوْ ضَمَّتَيْنِ بِمَعْنَى الطَّبِيعَةِ وَالْعَادَةِ وَقِيلَ أَيْ الصُّورَةُ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ «فَيُطْعِمُهُ النَّارَ» مِنْ قَبِيلِ مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا إذْ حُسْنُ خِلْقَتِهِ يُحَبِّبُهُ إلَى النَّاسِ وَحُسْنُ طَبِيعَتِهِ يُحَبِّبُهُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى النَّاسِ فَيَكْمُلُ لَهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَالنَّاسِ فَيَفُوزُ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَيْك بِحُسْنِ الْخُلُقِ» أَيْ الْزَمْهُ، وَهُوَ اعْتِدَالُ قُوَى النَّفْسِ. وَعَنْ الْإِحْيَاءِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ دَائِمًا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُزَيِّنَهُ بِمَحَاسِنِ الْآدَابِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ» «قَالَ وَمَا حُسْنُ الْخُلُقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَصِلُ» مِنْ الْوَصْلِ وَالْمُوَاصَلَةِ بِالزِّيَارَةِ وَالْأُلْفَةِ وَالْإِحْسَانِ «مَنْ قَطَعَكَ» وَفَارَقَك وَبَاعَدَك وَلَوْ عَلِمْت عَدَمَ رَغْبَتِهِ إلَيْك فَإِنَّك مَأْجُورٌ فِي صَنِيعِك «وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ» مَالًا أَوْ بَدَنًا أَوْ عِرْضًا سِيَّمَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» «وَتُعْطِي» مَالًا أَوْ عِلْمًا أَوْ خِدْمَةً أَوْ قَضَاءَ حَاجَةٍ «مَنْ حَرَمَكَ» مِنْ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّخْصِيصُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ لِكَوْنِهَا أَعْظَمُ الْأَخْلَاقِ الْحِسَانِ أَوْ لِوُجُودِ غَيْرِهَا فِي أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ لِحَادِثَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَوْ لِاسْتِلْزَامِهَا سَائِرَهَا كُلِّيًّا أَوْ أَكْثَرِيًّا وَإِلَّا فَالْأَخْلَاقُ الْحِسَانُ لَيْسَتْ بِمَحْصُورَةٍ فِيمَا ذُكِرَ لَكِنْ فِي كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدًا لِلْإِجْمَالِيِّ خَفَاءً بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ التَّفْصِيلِيِّ إلَّا

أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَالِيَّ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَفِي التَّنْبِيهِ " عَنْ الْمَأْمُونِ أَنَّ جَارِيَتَهُ جَاءَتْ بِمَرَقَةٍ فَعَثَرَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَضْرِبَهَا فَقَالَتْ اسْتَعْمِلْ قَوْله تَعَالَى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] قَالَ: قَدْ فَعَلْت، فَقَالَتْ: اسْتَعْمِلْ مَا بَعْدَهُ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] قَالَ: عَفَوْت، فَقَالَتْ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] قَالَ أَحْسَنْت إلَيْك فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى ". وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك، وَتَصْفَحَ عَمَّنْ ظَلَمَك " قَالَ شَارِحُهُ النِّحْرِيرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ. قَالَ الرَّاغِبُ: فَالْعَفْوُ نِهَايَةُ الْحِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ وَإِعْطَاءُ مَنْ حَرَمَك غَايَةُ الْجُودِ وَوَصْلُ مَنْ قَطَعَك نِهَايَةُ الْإِحْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَابَلَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ فَهُوَ أَكْمَلُ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِإِطْلَاقِ وَصْفِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ ادِّعَاءً وَمُبَالَغَةً وَمِنْ ثَمَرَاتِ هَذَا الْخُلُقِ صَيْرُورَةُ الْعَدُوِّ خَلِيلًا أَوْ صَيْرُورَتُهُ قَتِيلًا وَتُنَكِّلُ بِهِ سِهَامُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ تَنْكِيلًا. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ رَأَيْت فِي الْإِنْجِيلِ قَالَ عِيسَى: لَقَدْ قِيلَ لَكُمْ مِنْ قَبْلُ أَنَّ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالْآنَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تُقَابِلُوا الشَّرَّ بِالشَّرِّ مَنْ ضَرَبَ خَدَّك الْأَيْمَنَ فَحَوِّلْ إلَيْهِ الْأَيْسَرَ، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَك فَأَعْطِهِ إزَارَك انْتَهَى. (فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ بِتَخْلِيَةِ قَلْبِك عَنْ الرَّذَائِلِ وَتَحْلِيَتِهِ بِالْفَضَائِلِ) الظَّاهِرُ أَنَّ كِلَا اللَّامَيْنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَإِنَّ تَرْكَ خُلُقٍ وَاحِدٍ بِمَا يَدْعُو إلَى الْبَاقِي؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا مُرْتَبِطٌ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ السَّلَامَةَ لَا تَصْفُو بِعَدَمِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ بَلْ بِجَمِيعِهَا (فَإِنَّ التَّصَوُّفَ عِبَارَةٌ عَنْهُمَا) أَيْ التَّخْلِيَةِ وَالتَّحْلِيَةِ وَلِذَا عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ عِلْمِ التَّصَوُّفِ بِعِلْمِ الْأَخْلَاقِ (إذْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيءٍ) مِنْ الدَّنَاءَةِ أَيْ رَذِيلٍ (وَالدُّخُولُ فِي كُلِّ خُلُقٍ سُنِّيٍّ) أَيْ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيِّ. وَعَنْ الْجُنَيْدِ هُوَ أَنْ يُمِيتَك الْحَقُّ عَنْك وَيُحْيِيك بِهِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا هُوَ أَوْلَى فِي الْوَقْتِ وَقِيلَ هُوَ أَخْلَاقٌ كَرِيمَةٌ ظَهَرَتْ فِي زَمَانٍ كَرِيمٍ مِنْ رَجُلٍ كَرِيمٍ مَعَ قَوْمٍ كِرَامٍ. وَعَنْ الْكَرْخِيِّ هُوَ الْأَخْذُ بِالْحَقَائِقِ وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي الْخَلَائِقِ كَمَا فِي الْقُشَيْرِيِّ وَقِيلَ هُوَ تَرْكُ الدَّعَاوَى وَكِتْمَانُ الْمَعَانِي وَقِيلَ هُوَ اخْتِيَارُ الْعُزْلَةِ وَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ وَالنُّطْقُ بِالْحِكْمَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ. قَالَ عَبْدُ الرَّءُوفِ الْمُنَاوِيُّ فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: حَاوَلَ بَعْضُهُمْ جَمْعَ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ فَقَالَ الْإِحْسَانُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْإِيثَارُ وَاتِّبَاعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ وَالِاسْتِقَامَةُ وَالِاقْتِصَادُ فِي الْعِبَادَةِ وَالْمَعِيشَةِ وَالِاشْتِغَالُ بِعَيْبِ النَّفْسِ عَنْ عَيْبِ النَّاسِ وَالْإِنْصَافُ وَفِعْلُ الرُّخَصِ أَحْيَانًا وَالِاعْتِقَادُ مَعَ التَّسْلِيمِ وَالِافْتِقَارُ الِاخْتِيَارِيُّ وَالْإِنْفَاقُ بِغَيْرِ تَقْتِيرٍ، وَإِنْفَاقُ الْمَالِ لِصِيَانَةِ الْعِرْضِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَجَنُّبُ الشُّبْهَةِ وَاتِّقَاءُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا بِهِ بَأْسٌ وَإِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالِاسْتِشَارَةُ وَالِاسْتِخَارَةُ وَالْأَدَبُ وَالِاحْتِرَامُ وَالْإِجْلَالُ لِأَفَاضِلِ الْبَشَرِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَإِدْخَالُ

القسم الثاني في الأخلاق الذميمة وعددها ستون

السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالِاسْتِرْشَادُ وَالْإِرْشَادُ بِتَرْبِيَةٍ وَتَعْلِيمٍ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ وَالِابْتِدَاءُ بِهِ وَإِكْرَامُ الْجَارِ وَإِجَابَةُ السَّائِلِ وَالْإِعْطَاءُ قَبْلَ السُّؤَالِ وَاسْتِكْثَارُ قَلِيلِ الْخَيْرِ مِنْ الْغَيْرِ وَاحْتِقَارُ عَظِيمِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَبَذْلُ الْجَاهِ وَالْجَهْدِ وَالْبِشْرُ وَالْبَشَاشَةُ وَالتَّوَاضُعُ وَالتَّوْبَةُ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالتُّؤَدَةُ وَالتَّأَنِّي وَتَدْبِيرُ الْمَنْزِلِ وَالْمَعِيشَةِ وَالتَّفَكُّرُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ وَتَنْزِيلُ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ وَتَقْدِيمُ الْأَهَمِّ وَالتَّغَافُلُ عَنْ زَلَلِ النَّاسِ وَتَحَمُّلُ الْأَذَى وَالتَّهْنِئَةُ وَالتَّسْلِيمُ لِمَجَارِي الْقَدَرِ وَتَرْكُ الْأَذَى وَالْبَطَالَةِ وَمُعَادَاةِ الرِّجَالِ وَالتَّكَلُّفِ وَالْمِرَاءِ وَالتَّحْمِيضُ لِدَفْعِ الْمَلَالَةِ وَالتَّحَدُّثُ بِالنِّعْمَةِ وَالتَّكْثِيرُ مِنْ الْإِخْوَانِ وَالْأَعْوَانِ وَتَحَمُّلُ الْمُعْسِرِ وَالتَّسْمِيَةُ بِاسْمٍ حَسَنٍ مَعَ تَغْيِيرِ اللَّقَبِ الْقَبِيحِ وَالتَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَالِ وَتَجَنُّبُ مَوَاقِعِ التُّهَمِ وَمَوَاضِعِ الظُّلْمِ وَالْكَلَامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَالتَّعَرُّفُ بِاَللَّهِ وَالتَّطْبِيبُ بِالطِّبِّ النَّبَوِيِّ وَالثَّبَاتُ فِي الْأُمُورِ وَالثِّقَةُ بِاَللَّهِ وَجِهَادُ النَّفْسِ وَجَلْبُ الْمَصَالِحِ وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَالْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ وَحِفْظُ الْأَمَانَةِ وَالْعَهْدِ وَالْعِرَضِ وَحُسْنُ الصَّمْتِ وَالتَّفَهُّمُ وَالتَّعَقُّلُ فِي الْمَقَالِ وَالسَّمْتِ وَحُسْنُ الظَّنِّ وَطَلَبُ الْمَعِيشَةِ وَالْمُعَاشَرَةُ وَالْحَمِيَّةُ وَخِدْمَةُ الصُّلَحَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْإِخْوَانِ وَالضَّيْفِ وَالْخُشُوعُ وَخَوْفُ اللَّهِ وَخِدَاعُ الْكُفَّارِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ وَدَوَامُ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالدَّأْبُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالذِّلَّةُ لِلَّهِ وَالرِّفْقُ فِي الْمَعِيشَةِ وَرَحْمَةُ الصِّغَارِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْيَتِيمِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَرِيضِ وَالرِّضَا بِالدُّونِ مِنْ الْمَجَالِسِ وَالرَّجَاءُ وَالرِّقَّةُ لِلْغَيْرِ لِتَأَذِّيه وَالزُّهْدُ وَالسَّخَاءُ وَالسَّمَاحُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ اللِّقَاءِ حَتَّى عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ وَالشَّجَاعَةُ وَالشَّهَامَةُ وَالشَّفَاعَةُ وَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ وَالصِّدْقُ وَالصُّلْحُ وَالصَّدَاقَةُ وَالصُّحْبَةُ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَالصَّمْتُ وَضَبْطُ النَّفْسِ عَنْ التَّفْرِقَةِ وَطَهَارَةُ الْبَاطِنِ وَالْعِفَّةُ وَالْعَدْلُ وَالْعَفْوُ وَالْعُزْلَةُ وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ وَالْغَضَبُ لِلَّهِ وَالْغَيْرَةُ الْحَمِيدَةُ وَالْغِبْطَةُ وَالْفَزَعُ إلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْفِرَاسَةُ وَفِعْلُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْغَيْرِ وَقَبُولُ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ مُرًّا وَقَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَكَفَالَةُ الْيَتِيمِ وَلِقَاءُ الْقَادِمِ وَلُزُومُ الطَّهَارَةِ وَالتَّهَجُّدُ وَالصَّلَاةُ الْمَأْثُورَةُ وَالْفَوَائِدُ الْجَمِيلَةُ وَالْمُدَارَاةُ وَالْمُخَاطَبَةُ بِلِينِ الْكَلَامِ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ وَمُخَالَفَتُهَا وَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِأَهْلِهِ وَلِمَنْ عَرَفَهُ لَك وَمَحَبَّةُ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْمُعَافَاةُ وَالْمَزْحُ الْعَدْلُ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالنُّصْحُ وَالنَّزَاهَةُ وَالْوَرَعُ وَهَضْمُ النَّفْسِ وَالْيَقِينُ وَنَحْوُ ذَلِكَ انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذُكِرَ كُلُّهُ مَضْمُونُ آيَاتٍ وَآثَارٍ يَجِبُ حِفْظُهُ وَيَلْزَمُ ضَبْطُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَآنٍ [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَعَدَدهَا سِتُّونَ] [الْأَوَّلُ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع] [الْأَوَّلُ كُفْر جَهْلِيٌّ] (الْقِسْمُ الثَّانِي) مِنْ الْقِسْمَيْنِ (فِي الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ) الرَّدِيئَةِ (وَتَفْسِيرِهَا) بَيَانُ مَفْهُومَاتِهَا الشَّرْعِيَّةِ وَغَوَائِلِهَا مُفْسِدَاتِهَا (وَعِلَاجِهَا تَفْصِيلًا) (اعْلَمْ أَنِّي تَتَبَّعْتهَا) يَعْنِي عَلَى تَتَبُّعِي (فَوَجَدْتهَا سِتِّينَ) ، وَإِنْ جَازَ تَجَاوُزُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ اسْتِقْرَائِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ قِيلَ ذَلِكَ بِحَسَبِ النَّوْعِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ بِحَسَبِ الْأَفْرَادِ (الْأَوَّلُ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى الْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ) أَيْ نَوْعٌ كَمَا قِيلَ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ (وَهُوَ أَعْظَمُ الْمُهْلِكَاتُ) فِي الدُّنْيَا لِإِيجَابِ إهْدَارِ النَّفْسِ وَالْأُسَرِ وَإِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ لِإِيجَابِهِ الْخُلُودَ فِي النَّارِ (عَلَى الْإِطْلَاقِ) ، وَإِنْ كَانَ فِي أَنْوَاعِهِ تَفَاوُتٌ فِي نَفْسِهِ بِإِيجَابِ زِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ نِهَايَةً فِي الْجِنَايَةِ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ أَنْ يُجْزَى بِمَا يَكُونُ نِهَايَةً فِي الْعُقُوبَةِ، وَهُوَ الْخُلُودُ (فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ) إمَّا لِصُعُوبَةِ الْمَبْحَثِ أَوْ لِكَثْرَتِهِ أَوْ لِإِيثَارِ الْحَمْدِ عَلَى تَخَلُّصِهِ مِنْهُ (هُوَ) أَيْ الْكُفْرُ (عَدَمُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا) يَشْكُلُ بِالشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ الْإِيمَانُ لِكَوْنِهِ مَطْبُوعًا عَلَى الْكُفْرِ وَلِذَا قَالُوا هُوَ جَوْهَرٌ هَوَائِيٌّ إلَى آخِرِهِ إلَّا أَنْ يُمْنَعَ ذَلِكَ بِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي اضْمِحْلَالَ أَكْثَرِ

قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، فَإِمَّا مُؤَوَّلٌ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَلْيُتَأَمَّلْ. فَالتَّقَابُلُ عَدَمٌ وَمَلَكَةٌ وَقِيلَ تَضَادٌّ لِكَوْنِ الْكُفْرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الْأَخْلَاقَ مِنْ قَبِيلِ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْكَيْفُ مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْدُومًا نَعَمْ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إنَّ الْأَحْكَامَ الْوُجُودِيَّةَ جَارِيَةٌ فِي الْعَدَمِ فِي تَقَابُلِ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ تَأَمَّلْ ثُمَّ قِيلَ هَذَا شَامِلٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَكِ فَإِنَّهُمْ هُمْ الْمُكَلَّفُونَ وَغَيْرُهُمْ لَا يُوصَفُونَ بِإِيمَانٍ وَكُفْرٍ لِعَدَمِ الشَّأْنِ فِيهِمْ أَقُولُ يَشْكُلُ بِالشَّيْطَانِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ دُخُولَهُ فِي الْجِنِّ أَوْ الْمَلَكِ فَافْهَمْ وَأَيْضًا بِالْمَلَكِ لِامْتِنَاعِ تَصَوُّرِ عَدَمِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ إمْكَانَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ كَمَا قِيلَ فِي إبْلِيسَ أَوْ بِنَاءً عَلَى الْإِمْكَانِ الْأَصْلِيِّ وَالِامْتِنَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْوُقُوعِ فَتَأَمَّلْ أَيْضًا. (وَالْإِيمَانُ) إنَّمَا ذُكِرَ هُنَا لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا فِي مَاهِيَّةِ الْكُفْرِ وَمَعْرِفَةُ الْكُلِّ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَجْزَائِهِ (هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ) عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ وَالْإِذْعَانِ وَلَوْ تَقْلِيدًا (بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى) فَلَوْ صَدَّقَ الْجَمِيعَ وَلَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدًا فَلَا يُوجَدُ لَهُ إيمَانٌ (وَالْإِقْرَارُ بِهِ) بِذَلِكَ الْجَمِيعِ، وَلَوْ إجْمَالًا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا عَلِمَ مِنْ دِينِهِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَوْ صَبِيًّا وَعَامِّيًّا بَلْ قَدْ يَعْلَمُ الْمُخَالِفُ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ لِبَدَاهَتِهِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ نَظَرِيًّا فِي نَفْسِهِ كَالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ (عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ) كَالْإِكْرَاهِ وَالْخُرْسِ وَالْمَرَضِ وَغَيْرِهَا كَعَدَمِ وِجْدَانِ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَمَنْ حَصَلَ لَهُ التَّصْدِيقُ فَمَاتَ فَوْرًا بِلَا إقْرَارٍ فَمُسْلِمٌ (حَقِيقَةً وَحُكْمًا) أَيْ حُكْمُ الشَّرْعِ قَيْدَانِ لِمَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا مَعًا إذْ لَوْ وُجِدَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ حَقِيقَةً وَلَمْ يُوجَدَا حُكْمًا كَأَنْ يُقَارِنَا بِمَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ عَلَامَةً لِلتَّكْذِيبِ كَاسْتِخْفَافِ الشَّرِيعَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْمَلَكِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا (أَوْ حُكْمًا فَقَطْ) يَعْنِي يُوجَدُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ فِي حُكْمٍ وَلَا يُوجَدَانِ حَقِيقَةً كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِنَحْوِ الْأَخْرَسِ وَالْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ ادَّعَى دُخُولَهُ فِي الْأَوَّلِ فَلَمْ تُوجَدْ حَقِيقَةُ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ التَّصْدِيقِ وَأَنَّ فِي الثَّانِي كَمَا تَوَهَّمَ فَقَدْ وُجِدَ فِيهِمَا حَقِيقَةُ التَّصْدِيقِ (وَتَفْسِيرُ الْكُفْرِ بِالْإِنْكَارِ لَيْسَ بِجَامِعٍ لِخُرُوجِ الشَّكِّ وَخُلُوِّ الذِّهْنِ عَنْهُ) إذْ الْمُعَرَّفُ أَيْ الْكُفْرُ صَادِقٌ وَالتَّعْرِيفُ لَيْسَ بِصَادِقٍ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْإِنْكَارِ فِيهِمَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِنْكَارِ عَدَمُ التَّصْدِيقِ أَوْ الْجَهْلُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ (فَعَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ عَدَمِ الْإِيمَانِ عَمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ إلَى آخِرِهِ (بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ (تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَعَلَى الثَّانِي تَقَابُلُ التَّضَادِّ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُتَقَابِلَيْنِ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ كَانَا وُجُودِيَّيْنِ وَأَمْكَنَ تَعَقُّلُ أَحَدِهِمَا مَعَ الذُّهُولِ

عَنْ الْآخَرِ فَضِدَّانِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَهُمَا يُكَذَّبَانِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَاتِّصَافِهِ بِالْوَسَطِ كَالْجِسْمِ الْأَحْمَرِ مَثَلًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَعَقُّلُ أَحَدِهِمَا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ الْآخَرِ فَمُضَافَانِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَهُمَا أَيْضًا يُكَذَّبَانِ لِخُلُوِّ الْمَحَلِّ عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا وُجُودِيًّا وَالْآخَرُ عَدَمِيًّا فَإِنْ اُعْتُبِرَ كَوْنُ الْمَوْضُوعِ مُسْتَعِدًّا لِلِاتِّصَافِ بِالْوُجُودِيِّ بِحَسَبِ شَخْصِهِ كَالْأَعْمَى أَوْ نَوْعِهِ كَالْأَكْمَهِ أَوْ جِنْسِهِ كَالْعَقْرَبِ فَعَدَمٌ وَمَلَكَةٌ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ كَوْنُ الْمَوْضُوعِ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهِ فَمَلَكَةٌ وَعَدَمٌ مَشْهُورَانِ وَهُمَا يُكَذَّبَانِ لِعَدَمِ الْمَوْضُوعِ أَوْ عَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فَسَلْبٌ وَإِيجَابٌ كَالْإِنْسَانِ وَاللَّا إنْسَانِ وَهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ وَلَا يُكَذَّبَانِ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّقِيضَيْنِ وَارْتِفَاعَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِنْكَارَ لَيْسَ بِوُجُودِيٍّ فَلَا يَكُونُ تَقَابُلُ تَضَادٍّ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ نَحْوَ الْجَهْلِ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِيَّتِهِ لَا يَرِدُ إشْكَالُ الْمُصَنِّفِ بِعَدَمِ جَمْعِ التَّعْرِيفِ ثُمَّ أَقُولُ هَذَا الْبَحْثُ لَا يَحْسُنُ عَلَى وَظِيفَةِ الْمُصَنِّفِ وَالْتِزَامِهِ وَعَادَتِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلَا يُعْلَمُ لِحُسْنِهِ دَاعٍ حَسَنٌ (وَالْكُفْرُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ) لَمَّا عَرَّفَ الْكُفْرَ وَبَيَّنَ مَاهِيَّتَه أَوَّلًا أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَ ثَانِيًا الْأَوَّلُ (جَهْلِيٌّ) لِتَسَبُّبِهِ عَنْ الْجَهْلِ (وَسَبَبُهُ عَدَمُ الْإِصْغَاءِ) وَالِاسْتِمَاعِ بِالسَّمْعِ (وَالِالْتِفَاتِ) بِالْبَصِيرَةِ وَالنَّفْسِ (وَالتَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ) الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ (وَالدَّلَائِلِ) الْعَقْلِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ (كَكُفْرِ الْعَوَامّ وَالْجَهْلُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ (هُوَ الثَّانِي مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) بِمَعْنًى يَعُمُّ الْكُفْرَ وَغَيْرَهُ يَعْنِي عَدَمَ عِلْمِ مَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ (وَهُوَ) أَيْ الْجَهْلُ (عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا) فَبَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ تَقَابُلُ عَدَمٍ وَمَلَكَةٍ (وَهُوَ نَوْعَانِ) جَهْلٌ (بَسِيطٌ) أَيْ غَيْرُ مُرَكَّبٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ جَهْلَهُ وَلَيْسَ فِيهِ اعْتِقَادٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ (وَأَصْحَابُهُ كَالْأَنْعَامِ) كَالْبَهَائِمِ لِفَقْدِهِمْ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى فَاعِلِهِ وَالْمَفْعُولُ مَذْكُورٌ بِقَوْلِهِ (مَا بِهِ يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْهَا) عَنْ الْأَنْعَامِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِدْرَاكِ (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) مِنْ تِلْكَ الْأَنْعَامِ لَكِنَّ نِسْبَةَ أَصْلِ الضَّلَالَةِ إلَى الْأَنْعَامِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ مِنْ الضَّلَالَةِ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ الْمَشْهُورِ كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (لِتَوَجُّهِهَا) أَيْ الْأَنْعَامِ (نَحْوَ كَمَالَاتِهَا) الَّتِي تَقْتَضِيهَا طَبِيعَتُهَا النَّوْعِيَّةُ فَإِنَّ الْأَنْعَامَ تُبْصِرُ مَنَافِعَهَا فَتُلَازِمُهَا وَمَضَارَّهَا فَتَجْتَنِبُهَا بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ هَذَا الْعَارَ الَّذِي هُوَ أَقْبَحُ الْقَبَائِحِ وَلَا يَسْعَى إلَى تَحْصِيلِ مَنَافِعِهِ الَّتِي هِيَ الْمَعْرِفَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179]- وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَلْمِيحٌ إلَيْهِ

(فَمَا وَجَبَ عِلْمُهُ مِمَّا سَبَقَ) فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ مِنْ الْفُرُوضِ عَيْنًا وَكِفَايَةً (حَرُمَ جَهْلُهُ) وَمَا وَجَبَ عِلْمُهُ كِفَايَةً حَرُمَ جَهْلُ النَّاسِ أَجْمَعَ بِهِ (وَمَا لَا) يَجِبُ عِلْمُهُ (فَلَا) يَحْرُمُ جَهْلُهُ، وَلَكِنْ يَفُوتُ بِهِ مِنْ الْكَمَالِ حَسَبِ مَرْتَبَةِ عِلْمِهِ وَقَدْ عَرَفْت مَرَاتِبَ الْعِلْمِ فِيمَا سَبَقَ (وَعِلَاجُهُ) أَيْ مُدَاوَاةُ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ التَّعَلُّمُ (بَعْدَ مَعْرِفَةِ غَوَائِلِهِ) إلَى الْكُفْرِ وَإِلَى الْأَضَلِّيَّةِ مِنْ الْأَنْعَامِ (وَفَوَائِدُ الْعِلْمِ مِمَّا سَبَقَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَالْأَقْوَالِ (التَّعَلُّمُ) فَإِنَّهُ دَوَاءٌ مُجَرَّبٌ وَمُنْحَصِرٌ إلَيْهِ. (وَقَدْ يَحْصُلُ) لِلْإِنْسَانِ (بِسَبَبِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ جَهْلٌ يُسَمَّى حَيْرَةً) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ يُقَالُ حَارَ فِي أَمْرِهِ يَحَارُ حَيْرًا وَحَيْرَةً فَهُوَ حَيْرَانُ إذَا لَمْ يَقِفْ عَلَى الصَّوَابِ فِيهِ (وَ) يُسَمَّى (شَكًّا وَتَرَدُّدًا وَتَوَقُّفًا فَعِلَاجُهُ مُمَارَسَةٌ) مُدَاخَلَةٌ وَمُدَانَاةٌ (الْقَوَانِينِ) الضَّوَابِطِ الْكُلِّيَّةِ (الْعَقْلِيَّةِ كَالْمَنْطِقِ) فَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا عَرَفْت مِنْ الْمُصَنِّفِ مِنْ كَوْنِهِ وُجُوبًا عَلَى الْكِفَايَةِ لَكِنْ يَقْتَضِي ذَلِكَ كَوْنُهُ عَيْنًا تَأَمَّلْ (وَغَيْرِهِ) قِيلَ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْمَعَانِي وَالْأُصُولِ وَالْجَدَلِ وَنَحْوِهَا، وَقِيلَ مِنْ الْكَلَامِ وَالْحِكْمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فِي نَفْسِهِ لَكِنْ قَدْ يُبَاحُ لِعَارِضٍ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْغَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمُطْلَقِ الْمَادَّةِ أَيُّ عِلْمٍ كَانَ إذْ الْمَنْطِقُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ (حَتَّى) مُتَعَلِّقٌ بِالْمُمَارَسَةِ (يَطَّلِعُ) ذَلِكَ الْجَاهِلُ الْمُتَحَيِّرُ (عَلَى شَرْطٍ أَهْمَلَهُ) مِنْ شَرَائِطِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ مَادَّةً أَوْ صُورَةً (أَوْ اعْتَبَرَهُ) فِي الدَّلِيلِ (وَ) هُوَ فِي نَفْسِهِ (لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ) مُتَعَلِّقٌ بِيَطَّلِعُ أَيْ الْمُتَعَارِضَيْنِ (فَيَزُولُ التَّعَارُضُ) بِالْإِطْلَاعِ عَلَى ذَلِكَ (فَالْحَيْرَةُ وَتَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ) كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا. وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَيَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ مِمَّا شَهِدَ بِهِ الْقَلْبُ فَلَا يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ وَلَا سُقُوطُهُمَا خِلَافًا لِمَنْ غَلِطَ (قَدْ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ لَا يَعْلَمَ التَّارِيخَ) أَيْ تَارِيخَ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ أَوْ وُرُودَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْ تَارِيخَ آيَةٍ وَحَدِيثٍ إذْ لَوْ عَلِمَ لَحَمَلَ عَلَى نَسْخِ الْمُتَأَخِّرِ مُقَدَّمَهُ إذْ حَقِيقَةُ التَّعَارُضِ لَا تُمْكِنُ مِنْ الشَّارِعِ لِاسْتِلْزَامِهِ الْعَبَثَ (وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ بِالْأَسْبَابِ الْمُرَجِّحَةِ فَيُوجِبُ الشَّكَّ وَالتَّوَقُّفَ) هَذَا صَرِيحٌ فِي لُزُومِ التَّوَقُّفِ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ التَّارِيخِ وَالتَّرْجِيحِ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ التَّارِيخِ يُطْلَبُ الْمُخَلِّصُ بِالْجَمْعِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا مَا أَمْكَنَ مِنْ الْحُكْمِ أَوْ الزَّمَانِ أَوْ الْمَحَلِّ لَعَلَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إلَى إثْبَاتِ الْمَعَانِي مُغَايِرَةً وَحِدَاتِهَا الْمَذْكُورَةَ فِي عِلْمِ الْمِيزَانِ فِي شَرْطِ التَّنَاقُضِ وَقُرِّرَ أَيْضًا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْجَمْعَ فَيُتْرَكُ الدَّلِيلَانِ وَيُصَارُ مِنْ الْكِتَابِ إلَى السُّنَّةِ فَمِنْهَا إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَمِنْهَا إلَى الْقِيَاسِ أَوْ إلَى مَا شَهِدَ بِهِ الْقَلْبُ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَيُقَرَّرُ الْأَصْلُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلَيْنِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَعُدَّ تَعَارُضَ مَا أَمْكَنَ فِيهِ الْجَمْعُ وَالْمَصِيرُ فَتَأَمَّلْ وَأَيْضًا يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ انْحِصَارُ مَعْرِفَةِ النَّسْخِ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ التَّارِيخِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُحَرِّمٌ وَالْآخَرَ مُبِيحٌ فَالْمُحَرِّمُ نَاسِخُ دَلَالَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ أَوْ أَحَدُهُمَا مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ عَارِضٍ وَالْآخَرُ نَافِيًا فَالنَّافِي نَاسِخٌ عِنْدَ بَعْضٍ وَمُتَعَارِضَانِ عِنْدَ آخَرَ فَالْجَوَابُ الْجَوَابُ وَأَيْضًا يُمْكِنُ إدْرَاجُهَا فِي الْأَسْبَابِ الْمُرَجَّحَةِ وَلَوْ مَجَازًا عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ بَعْضَ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ الَّتِي خَلَتْ عَنْهَا مَشَاهِيرُ الْكُتُبِ مَعَ كَثْرَةِ الدَّوَاعِي إلَيْهَا، وَهُوَ رُجْحَانُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَعَلَى النَّدْبِ وَعَلَى الْكَرَاهَةِ وَالْوُجُوبِ عَلَى النَّدْبِ وَالدَّارِئِ لِلْحَدِّ عَلَى الْمُوجِبِ لَهُ وَالْمُوجِبِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى عَدَمِهِمَا وَالْأَخَفِّ عَلَى الْأَثْقَلِ لِلْيُسْرِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ وَتُرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ عَلَى الْمَجَازِ وَالْأَشْهَرُ، وَلَوْ.

مَجَازًا عَلَى غَيْرِ الْأَشْهَرِ وَلَوْ حَقِيقَةً خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالصَّرِيحِ عَلَى الْكِنَايَةِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْأَمْرِ وَعَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْأَمْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْأَقَلِّ احْتِمَالًا عَلَى الْأَكْثَرِ احْتِمَالًا وَالْمَجَازِ عَلَى الْمُشْتَرَكِ وَاللُّغَوِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ شَرْعًا عَلَى الشَّرْعِيِّ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ الشَّرْعِيِّ وَمَا فِي دَلَالَتِهِ تَأْكِيدٌ عَلَى مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ عَلَى تَأْوِيلِ الْخَاصِّ وَالْخَاصِّ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْعَامِ مُطْلَقًا وَالْعَامِ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ عَلَى مَا خُصَّ وَالْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ وَمُطْلَقٍ لَمْ يُخْرَجْ مِنْهُ مُقَيَّدٌ عَلَى مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُقَيَّدِ وَالْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ وَاسْمِ الْمَوْصُولِ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّصِّ وَلَوْ كِتَابًا وَالْأَقْدَمِ مِنْ الْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ لِقَرِيبَةِ الْعَهْدِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عَلَى الْآحَادِ وَالْمُتَوَاتِرِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَخَبَرِ الْمَعْرُوفِ بِالْفِقْهِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْمَعْرُوفِ بِالرِّوَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْمُسْنَدِ عَلَى الْمُرْسَلِ وَمُرْسَلِ التَّابِعِيِّ عَلَى مُرْسَلِ تَابِعِ التَّابِعِينَ وَالْأَعْلَى إسْنَادًا عَلَى الْأَسْفَلِ وَالْمُسْنَدِ الْمُعَنْعَنِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يُحَالُ إلَى الْكُتُبِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْمُسْنَدِ إلَى كِتَابٍ مَشْهُورٍ عُرِفَ بِالصِّحَّةِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْمُسْنَدِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ وَالرِّوَايَةِ بِقِرَاءَتِهِ عَلَى الشَّيْخِ عَلَى الرِّوَايَةِ بِقِرَاءَةِ الشَّيْخِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ الْمُخْتَلَفِ فِي رَفْعِهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ وَالرَّاوِي سَمَاعِهِ مِنْ الرَّسُولِ عَلَى الْآخَرِ الْمُحْتَمَلِ سَمَاعِهِ وَعَدَمِهِ وَسُكُوتِهِ عَمَّا جَرَى بِحُضُورِهِ عَلَى سُكُوتِهِ عَمَّا جَرَى بِغَيْبَتِهِ وَسَمْعِهِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى عَلَى خَبَرِهِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَبِثِقَةِ الرَّاوِي وَفِطْنَتِهِ وَوَرَعِهِ وَضَبْطِهِ وَالْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ رِوَايَةَ صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ عَلَى غَيْرِهِ وَحَدِيثِ الْمُقَدَّمِ إسْلَامًا عَلَى مُؤَخَّرِهِ وَحَدِيثِ مَشْهُورِ النَّسَبِ عَلَى غَيْرِهِ وَحَدِيثِ الْبَالِغِ حِينَ التَّحَمُّلِ عَلَى حَدِيثِ الصَّبِيِّ وَتَرْجِيحِ الْمُوَافِقِ لِدَلِيلٍ آخَرَ عَلَى مَا لَا يُؤَيِّدُهُ دَلِيلٌ آخَرُ وَالْمُوَافِقِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَيْ عَمَلِهِمْ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ وَكَذَا الْمُوَافِقُ لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمُوَافِقُ لِعَمَلِ الْأَعْلَمِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْحُكْمِ الَّذِي ذُكِرَتْ عِلَّتُهُ عَلَى مَا لَمْ تُذْكَرْ وَالْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ هَذَا السَّبَبِ وَالْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ فِي حَقِّ غَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ عَلَى الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَالْعَامِّ الْأَمَسِّ بِالْمَقْصُودِ عَلَى الْعَامِ الَّذِي لَمْ يُمَسَّ بِهِ وَمَا فَسَّرَهُ رِوَايَةً بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ عَلَى غَيْرِهِ وَاَلَّذِي ذُكِرَ سَبَبُ وُرُودِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَأَسْبَابُ تَرْجِيحَاتِهِ كَبَاقِي أَسْبَابِ الْأَدِلَّةِ فَمِنْ الْأُصُولِيَّةِ، وَعِنْدَ تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فَمَا بِالْوَصْفِ الذَّاتِيِّ أَوْلَى مِمَّا كَانَ بِالْوَصْفِ الْعَارِضِيِّ ثُمَّ إذَا لَمْ يُمْكِنْ التَّوْفِيقُ وَالتَّرْجِيحُ فَيُوجِبُ التَّعَارُضَ وَحِينَئِذٍ الشَّكُّ وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ. (فَلِذَا تَوَقَّفَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَأَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ) أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ تَوَقَّفُوا (فِي سُؤْرِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ) فَإِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ وَقِيلَ فِي طَهَارَتِهِ لِتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ وَامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ إذْ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ «نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» وَفِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا «كُلُّ مَنْ سُمِّينَ مَالِكٌ حِينَ قَالَ لَهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مَالِي إلَّا هَذِهِ الْحَمِيرَاتُ» وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى «حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ» . وَفِي رِوَايَةِ غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ أَنَّهُ أَبَاحَهَا فَإِذَا شَكَّ فِي لَحْمِهِ اُشْتُبِهَ فِي سُؤْرِهِ وَلِتَعَارُضِ الْآثَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ نَجِسٌ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - طَاهِرٌ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِالْهِرَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهَا فِي الطَّوَافِ وَلَا بِالْكَلْبِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا إلْحَاقَ لُعَابِهِ بِلَحْمِهِ أَوْ لَبَنِهِ فِي أَوْضَحِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ طَاهِرٌ وَلَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةَ الِاخْتِلَاطِ وَلَا بِعِرْقِهِ الطَّاهِرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ أَكْثَرُ كَذَا فِي الْمِرْآةِ (وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ) أَفِي الْجَنَّةِ أَمْ فِي النَّارِ (وَ) فِي (وَقْتِ الْخِتَانِ) أَقَبْلَ الْبُلُوغِ أَمْ بَعْدَهُ أَوْ فِي أَيِّ سَنَةٍ فِي زَمَانِ صِغَرِهِ وَنَقَلَ عَنْ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ كَرَاهَةَ التَّرْكِ إلَى الْبُلُوغِ وَعَنْ الْيَنَابِيعِ وَمَجْمَعِ الْفَتَاوَى عَنْ أَبِي اللَّيْثِ اسْتِحْبَابَهُ عِنْدَ بُلُوغِهِ إلَى سَبْعٍ إلَى عَشْرٍ وَعَنْ الذَّخِيرَةِ قِيلَ

سَبْعُ سِنِينَ وَقِيلَ تِسْعٌ وَقِيلَ عَشْرٌ وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ بَلْ مُطْلَقُ إطَاقَةِ أَلَمِ الْخِتَانِ وَقِيلَ أَقْصَاهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ وَأَقَلُّهُ قَالَ الْإِمَامِ لَمْ أَعْلَمْ وَلَمْ يَرِدْ عَنْ صَاحِبَيْهِ شَيْءٌ. (وَ) فِي (دَهْرِ مُنْكِرٍ) كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا يُكَلِّمُهُ دَهْرًا، وَأَمَّا الْمُعَرَّفُ فَيُرَادُ الْأَبَدُ نَقَلَ عَنْ الْحَدَّادِيِّ أَنَّ جُمْلَةَ مَا تَوَقَّفَ الْإِمَامُ فِيهِ أَرْبَعَةَ عَشْرَ وَقِيلَ وَعَنْ خِزَانَةِ الْفَتَاوَى تَوَقُّفُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَعُلُوِّ أَمْرِهِ وَغَايَةِ وَرَعِهِ وَالتَّوَقُّفُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ مِنْ الْعِلْمِ وَعَنْ الْيَنَابِيعِ أَيْضًا هُوَ مِنْ غَايَةِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأَحْكَامِ وَكَمَالِ وَرَعِهِ فِي الدِّينِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ سِيَرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى شَرْحِ الْمُلْتَقَى عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ فَقَالَ لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جَبْرَائِيلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ وَخَيْرُ أَهْلِهَا أَوَّلُهُمْ دُخُولًا وَآخِرُهُمْ خُرُوجًا وَشَرُّ أَهْلِهَا آخِرُهُمْ دُخُولًا وَأَوَّلُهُمْ خُرُوجًا» وَفِي الْحَقَائِقِ أَنَّهُ تَنْبِيهٌ لِكُلِّ مُفْتٍ أَنْ لَا يَسْتَنْكِفَ عَنْ التَّوَقُّفِ فِيمَا لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَيْهِ إذْ الْمُجَازَفَةُ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لَا أَدْرِي فَقِيلَ لَهُ أَمَا تَسْتَحْيِي وَأَنْتَ مُفْتِي الْعِرَاقِيِّينَ فَقَالَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا فَكَيْفَ أَنَا وَحِينَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا أَدْرِي قِيلَ لَهُ تَأْكُلُ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَكَيْفَ تَقُولُ لَا أَدْرِي فَقَالَ أَنَا آكُلُ بِقَدْرِ عِلْمِي وَلَوْ أَكَلْت بِقَدْرِ جَهْلِي مَا كَفَانِي مَالُ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الْعِيَاضِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَا أَدْرِي فَقِيلَ لَهُ لَيْسَ الْمِنْبَرُ مَوْضِعَ الْجُهَّالِ فَقَالَ إنَّمَا عَلَوْت بِقَدْرِ عِلْمِي وَلَوْ عَلَوْت بِقَدْرِ جَهْلِي لَعَلَوْت السَّمَاءَ وَسُئِلَ عَالِمٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لَا أَدْرِي فَقَالَ السَّائِلُ لَيْسَ هَذَا مَكَانُ الْجُهَّالِ فَقَالَ الْمَكَانُ لِلَّذِي يَعْلَمُ شَيْئًا وَيَجْهَلُ شَيْئًا أَمَّا الَّذِي يَعْلَمُ وَلَا يَجْهَلُ فَلَا مَكَانَ لَهُ جَلَّ جَلَالُهُ. (وَ) النَّوْعُ الثَّانِي جَهْلٌ (مُرَكَّبٌ) (هُوَ اعْتِقَادٌ غَيْرِ مُطَابِقٍ) لِلْوَاقِعِ كَاعْتِقَادَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْفِرَقِ الْمُخَالَفَةِ قَالَ الْمُحَشِّي هُنَا النَّاسُ أَرْبَعَةٌ رَجُلٌ يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَهَذَا عَالِمٌ فَاتَّبِعُوهُ وَرَجُلٌ يَدْرِي وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَهَذَا نَائِمٌ فَأَيْقِظُوهُ وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَهَذَا جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَهَذَا أَحْمَقُ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّ هَذَا قَوْلُهُ (وَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْأَوَّلِ) لِكَوْنِهِ جَهْلَيْنِ وَالْأَوَّلُ جَهْلٌ وَاحِدٌ (مَرَضٌ مُزْمِنٌ) الَّذِي أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ مِنْ دَوَائِهِ (قَلَّمَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ) كَمَا قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَاوَيْت الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَحْيَيْت الْمَوْتَى، وَأَمَّا الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ فَقَدْ أَعْيَانِي دَوَاؤُهُ (لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ) أَيْ جَهْلَهُ (عِلْمٌ وَكَمَالٌ لَا جَهْلٌ وَمَرَضٌ

النوع الثاني كفر جحودي وعنادي

فَلَا يَطْلُبُ إزَالَتَهُ وَعِلَاجَهُ) ؛ لِأَنَّ دَاعِيَ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْإِزَالَةِ إنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ كَوْنِهِ نَقْصًا وَهَذَا يَعْرِفُهُ كَمَالًا (إلَّا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى فَسَادِهِ بَغْتَةً) فَجْأَةً (بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى) لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي انْسِدَادَ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ لِصَاحِبِ هَذَا النَّوْعِ إلَّا أَنْ يُرَادَ الْإِزَالَةُ عَلَى الْيُسْرِ وَالْكَثْرَةِ وَالسُّهُولَةِ. [النَّوْعُ الثَّانِي كُفْرٌ جُحُودِيٌّ وَعِنَادِيٌّ] (وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الثَّلَاثَةِ كُفْرٌ جُحُودِيٌّ وَعِنَادِيٌّ) مِنْ الْمُعَانَدَةِ، وَهِيَ الْمُفَارَقَةُ وَالْمُجَانَبَةُ وَالْمُعَارَضَةُ بِالْخِلَافِ كَالْعِنَادِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (وَسَبَبُهُ) ثَلَاثَةٌ اسْتِكْبَارٌ وَحُبُّ رِيَاسَةٍ وَخَوْفُ ذَمٍّ الْأَوَّلُ (الِاسْتِكْبَارُ وَسَيَجِيءُ) أَبْحَاثُهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْفَصْلُ؛ لِأَنَّ بَحْثَهُ طَوِيلٌ (كَكُفْرِ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أَيْ قَوْمِهِ مَعَ رُؤْيَتِهِمْ الْمُعْجِزَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَكْبَرُوا} [المؤمنون: 46] عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 46] مُتَكَبِّرِينَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} [المؤمنون: 47] مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] وَفِي اعْتِقَادِهِمْ التَّمَاثُلُ فِي الْبَشَرِيَّةِ مَانِعٌ لِلنُّبُوَّةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ كَالْمَلَكِ وَهَذَا مِنْ غَايَةِ جَهْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أُلُوهِيَّةَ فِرْعَوْنَ مَعَ كَوْنِهِ مِثْلَهُمْ {وَقَوْمُهُمَا} [المؤمنون: 47] وَالْحَالُ أَنَّ قَوْمَهُمَا أَيْ بَنِي إسْرَائِيلَ {لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] يَخْدُمُونَ وَيَنْقَادُونَ لِقَهْرِهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ وَقِيلَ لِعِبَادَتِهِمْ فِرْعَوْنَ عَلَى اعْتِقَادِ أُلُوهِيَّتِهِ (وقَوْله تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل: 14] أَيْ آيَاتِ اللَّهِ {وَاسْتَيْقَنَتْهَا} [النمل: 14] تَحَقَّقَتْهَا {أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا} [النمل: 14] تَجَاوُزًا عَنْ الْحَدِّ {وَعُلُوًّا} [النمل: 14] أَيْ جَحَدُوا بِهَا لِلظُّلْمِ وَالتَّكَبُّرِ عَنْ اتِّبَاعِهِ. (وَ) الثَّانِي (خَوْفُ عَدَمِ وُصُولِ الرِّيَاسَةِ) الْجَاهِ وَالرِّفْعَةِ (أَوْ) خَوْفُ (زَوَالِهَا كَكُفْرِ هِرَقْلَ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ عَلَمٌ لَهُ، وَهُوَ صَاحِبُ الرُّومِ وَالشَّامِ وَلَقَبُهُ قَيْصَرُ وَكَذَا كُلٌّ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ كَمَلِكِ فَارِسَ يُلَقَّبُ بِكِسْرَى وَالْحَبَشَةِ بِالنَّجَاشِيِّ وَالتُّرْكُ بِخَاقَانَ وَالْقِبْطُ بِفِرْعَوْنَ وَمِصْرُ بِالْعَزِيزِ وَحِمْيَرُ بِتُبَّعَ وَقِصَّتُهُ أَنَّ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ حِينَ أَعْطَى إلَى هِرَقْلَ مَكْتُوبَ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ طَرَفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ اتَّفَقَ لَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ بِلَيْلَةٍ أَنَّهُ نَظَرَ فِي النُّجُومِ فَرَأَى عَلَائِمَ شَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَظُهُورِ دِينِهِ وَانْتِشَارِهِ وَنَسْخِهِ لِسَائِرِ الْأَدْيَانِ فَأَصْبَحَ مُضْطَرِبًا وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَعْيَانَ دَوْلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ فَحَصُوا وَوَجَدُوا أَبَا سُفْيَانَ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ تُجَّارٍ مِنْ الشَّامِ فَأَحْضَرُوهُ عِنْدَهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ هُوَ مِنْ أَشْرَافِكُمْ وَفُقَرَائِكُمْ وَهَلْ سَبَقَ مِنْ الْغَيْرِ فِيكُمْ دَعْوَى نُبُوَّةٍ وَهَلْ فِي أَجْدَادِهِ مَلِكٌ وَإِمَارَةٌ وَهَلْ أَتْبَاعُهُ أَغْنِيَاءُ أَوْ فُقَرَاءُ وَضُعَفَاءُ وَهَلْ أَمْرُهُ عَلَى التَّزَايُدِ أَوْ التَّنَاقُصِ وَهَلْ يَبْقَى مَنْ يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ وَهَلْ يَصْدُرُ عَنْهُ غَدْرٌ وَهَلْ يُعْرَفُ بِالْكَذِبِ وَهَلْ الْغَلَبَةُ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْكَثْرَةُ فِي الْغَلَبَةِ مِنْ جَانِبِهِ أَوْ مِنْ مُخَالِفِهِ وَكَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا أَجَابَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ قَالَ هِرَقْلُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ غَيْرَةً وَتَكْذِيبًا لَكِنْ صَدَرَ عَنْهُ كَذِبٌ عَجِيبٌ فَأَخْبَرَ أَمْرَ الْمِعْرَاجِ مِنْ إسْرَائِهِ فِي لَيْلَةٍ

مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يَعْنِي الْقُدْسَ فَإِذَا عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ خُدَّامِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَأَخْبَرَ بَعْضَ وَقَائِعِهِ فِي الْقُدْسِ أَمَرَ هِرَقْلَ بِقِرَاءَةِ الْمَكْتُوبِ فَبَعْدَ الْقِرَاءَةِ أَظْهَرَ مَا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ الْإِيمَانِ لِدِحْيَةَ فَقَالَ أَخَافُ عَلَى نَفْسِي إنْ أَظْهَرْت إيمَانِي لَكِنْ اذْهَبْ بِكِتَابِي إلَى رَاهِبٍ مُعْتَمَدٍ لِلْكُلِّ يُقَالُ لَهُ ضغاطر عَرِيفٌ بِالْعِلْمِ وَالنُّجُومِ عَسَى أَنْ يُؤْمِنَ فَيَقْتَدُوا بِهِ فَذَهَبَ فَلَمَّا رَأَى مَكْتُوبَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ صِدْقَهُ فَآمَنَ وَدَعَا قَوْمَهُ إلَى دِينِهِ فَقَتَلُوهُ فَعَادَ دِحْيَةُ إلَى هِرَقْلَ فَأَخْبَرَ فَقَالَ لَوْلَا خَوْفُ هَذِهِ الْمَعْنَى لَأَظْهَرْت ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إلَى دَارِ سَلْطَنَتِهِ بَلْدَةِ حِمْصَ أَتَاهُ مَكْتُوبٌ مِنْ صَاحِبٍ لَهُ يُمَاثِلُهُ فِي الْعِلْمِ يُخْبِرُ فِيهِ شَأْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نُبُوَّةٍ فَجَمَعَ عُظَمَاءَ الرُّومِ وَعَرَضَ مُتَابَعَتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَعْرَضُوا وَنَفَرُوا عَنْهُ فَلِمَا أَيِسَ مِنْ إيمَانِهِمْ رَدَّهُمْ إلَيْهِ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِمْ بِأَنَّ مُرَادِي اخْتِبَارُ شِدَّةِ ثَبَاتِكُمْ فِي دِينِكُمْ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَآثَرَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ خَوْفَ زَوَالِ رِيَاسَتِهِ وَيُؤَيِّدُهُ إرْسَالُ غَوْثٍ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ فَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْسَلَ كِتَابَ إيمَانِهِ غَزْوَةً فَكَذَّبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إيمَانَهُ فَقَالَ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ وَقِيلَ إنَّهُ تَشَرَّفَ بِالْإِسْلَامِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ، وَأَمَّا مَكْتُوبُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتَك اللَّهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيِّنَ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وَعَنْ شَرْحِ الْكَرْمَانِيِّ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْقِطْعَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جُمَلٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ مِنْهَا اسْتِحْبَابُ تَصْدِيرِ الْكُتُبِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِ كَافِرًا وَمِنْهَا سُنِّيَّةُ الِابْتِدَاءِ فِي الْمَكْتُوبِ بِاسْمِ الْكَاتِبِ أَوَّلًا وَلِذَا كَانَ عَادَةُ الْأَصْحَابِ أَنْ يَبْدَءُوا بِأَسْمَائِهِمْ وَرَخَّصَ جَمَاعَةٌ الِابْتِدَاءَ بِالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَمَا كَتَبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إلَى مُعَاوِيَةَ مُبْتَدِئًا بِاسْمِ مُعَاوِيَةَ وَأَنَا أَقُولُ فِيهِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ تَعْظِيمِ الْمُعَظَّمِ عِنْدَ النَّاسِ وَلَوْ كَافِرًا إنْ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً وَفِيهِ أَيْضًا إيمَاءٌ إلَى طَرِيقِ الرِّفْقِ وَالْمُدَارَاةِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ وَفِيهِ أَيْضًا جَوَازُ السَّلَامِ عَلَى الْكَافِرِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ كَمَا نُقِلَ عَنْ التَّجْنِيسِ مِنْ جَوَازِهِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ إذًا لَيْسَ لِلتَّوْقِيرِ بَلْ لِلْمَصْلَحَةِ وَلِإِشْعَارِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ مِنْ التَّوَدُّدِ وَالِائْتِلَافِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَخُصُّ بِالْخِطَابِ فِي السَّلَامِ عَلَى الْكَافِرِ وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ بَلْ يَذْكُرُ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ، وَإِنْ رَأَى السَّلَامَ عَلَى الْكَافِرِ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَهُ بَلْ لِمَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَبَعِيَّةُ هُدًى بَلْ فِيهِ إغْرَاءٌ عَلَى دَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ الدُّعَاءِ بِالسَّلَامِ مِنْ تَبِيعَةِ الْهُدَى. (وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ هُوَ الثَّالِثُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ) مِنْ السِّتِّينَ الْمَذْمُومَةِ (وَهِيَ) الرِّيَاسَةُ (مَلِكُ) بِكَسْرِ اللَّامِ (الْقُلُوبِ وَيُسَمَّى) أَيْ حُبُّ الرِّيَاسَةِ (جَاهًا) مِنْ الْوَجَاهَةِ، وَهِيَ الصَّدَارَةُ وَالتَّقَدُّمُ عَلَى الْغَيْرِ (وَشَرَفًا وَصِيتًا) أَيْ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ الَّذِي يَنْتَشِرُ فِي النَّاسِ (ت س) التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا» عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ «فِي غَنَمٍ» جِنْسٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْحَيَوَانِ «بِأَفْسَدَ» أَكْثَرَ فَسَادًا «لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ» أَيْ شِدَّةِ مُحَافَظَتِهِ فِي الْمَذْمُومِ «عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» مُتَعَلِّقٌ بِأَفْسَدَ أَيْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَالِ وَالشَّرَفِ يَفْعَلُ فِي دِينِ صَاحِبِهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ أَشَدَّ مَا يَفْعَلُهُ الذِّئْبُ فِي غَنَمٍ أُرْسِلَ فِيهَا قَالَ الْمُنَاوِيُّ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ أَكْثَرُ فَسَادًا لِلدِّينِ مِنْ إفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ لِلْغَنَمِ لِاسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَذِكْرُ الذِّئْبَيْنِ لِمُنَاسِبَةِ حِرْصِ الْمَالِ وَحِرْصِ الشَّرَفِ

(هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ حَسْبُ) بِالسُّكُونِ (امْرِئٍ) أَيْ يَكْفِيهِ (مِنْ الشَّرِّ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ (إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ) بِتَوْفِيقِهِ (تَعَالَى) إمَّا بِخَلْقِ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ أَوْ ابْتِدَاءٍ مِنْ الْعَبْدِ (أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ) لِتَفَرُّدِهِ وَعَظَمَتِهِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ (فِي دِينِهِ) بِسَبَبِ دِينِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ» (وَدُنْيَاهُ) وَلِذَا كَانَتْ الشُّهْرَةُ آفَةً أَمَّا الدِّينُ فَلِكَوْنِهِ مَنْبَعًا لِنَحْوِ الْعُجْبِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْعَمَلِ وَالرِّيَاءِ وَآلَةً لِجَمْعِ الدُّنْيَا وَقِيلَ إنَّ الشُّهْرَةَ فِيهِ إنَّمَا تَكُونُ بِإِحْدَاثِ بِدْعَةٍ عَظِيمَةٍ فِيهِ خَفَاءٌ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَلِكَوْنِهِ مَنْبَعًا لِنَحْوِ الظُّلْمِ وَالْكِبْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الطَّاعَاتِ وَالتَّعَمُّقِ فِي الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ (دَيْلَم) الدَّيْلَمِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُبُّ الثَّنَاءِ» الْمَدْحِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ «مِنْ النَّاسِ يُعْمِي» عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ أَوْ عَنْ النَّظَرِ إلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ «وَيَصُمُّ» عَنْ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ أَوْ عَنْ اسْتِمَاعِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَمِعَ فَلَا يَسْمَعُ قَبَائِحَهُ فَإِذَا غَلَبَ الْحُبُّ عَلَى الْقَلْبِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَادِعٌ مِنْ عَقْلٍ أَوْ دِينٍ أَصَمَّ عَنْ الْعَدْلِ وَأَعْمَى عَنْ الرُّشْدِ فَيَكْرَهُ اسْتِمَاعَ قَبَائِحِهِ لِحِرْصِهِ عَلَى اسْتِمَاعِ مَآثِرِهِ (وَسَبَبُهُ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا التَّوَسُّلُ بِالْجَاهِ) الَّذِي هُوَ الرِّيَاسَةُ (إلَى مَا حُرِّمَ مِنْ مُشْتَهَيَاتِ النَّفْسِ) كُلُّ مَا تَتَلَهَّى النَّفْسُ بِهِ وَتَشْتَهِي فَإِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ بِحُبِّ الْمَنَاهِي فَإِنَّهَا إذَا خُلِّيَتْ عَنْ مَوَانِعِهَا وَطَبْعِهَا تُحِبُّ وَتَهْوَى حُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى (وَمُرَادَاتِهَا) كَعَطْفِ تَفْسِيرٍ مِنْ نَحْوِ اسْتِيلَاءِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَالتَّرَفُّعِ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَإِيقَاعِ الْهَيْبَةِ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَالِاسْتِخْدَامِ (وَهَذَا حَرَامٌ) فَإِنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْحَرَامِ فَحَرَامٌ (وَثَانِيهَا التَّوَسُّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ الْحَقِّ) الَّذِي لَهُ عَلَى الْغَيْرِ إذْ بِالرِّيَاسَةِ يَسْهُلُ ذَلِكَ (وَتَحْصِيلِ الْمَرَامِ) الْمَقْصُودِ الْمَشْرُوعِ (الْمُسْتَحَبِّ) قِيلَ كَالتَّمَكُّنِ بِبَذْلِ الصَّدَقَاتِ وَبُنْيَانِ الْمَسَاجِدِ (أَوْ الْمُبَاحِ) كَأَنْوَاعِ الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكِحِ (أَوْ) إلَى (دَفْعِ الظُّلْمِ) مِنْ الظَّالِمِينَ عَلَى الْمَظْلُومِينَ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ وَعِلْمٌ بِلَا جَاهٍ كَلَامٌ مُضَيَّعٌ (وَ) دَفْعِ (الشَّوَاغِلِ) الْعَائِقَةِ لَهُ عَنْ الطَّاعَاتِ (وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ أَوْ إلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ) عِنْدَ الْجَبَابِرَةِ (وَإِعْزَازِ الدِّينِ) الْمُحَمَّدِيِّ (وَإِصْلَاحِ الْخَلْقِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ) فَإِنَّ الرِّيَاسَةَ وَالرِّفْعَةَ تُعِينُ وَتُسَهِّلُ جِنْسَ هَذَا الْمَرَامِ (فَهَذَا إنْ خَلَا) عَرَى (عَنْ الْمَحْظُورِ) الْمَمْنُوعِ شَرْعًا (كَالرِّيَاءِ وَالتَّلْبِيسِ) أَيْ تَلْبِيسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ (وَتَرْكِ الْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ فَجَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مَشْرُوعٍ فَمَشْرُوعٌ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

حِكَايَةً عَنْ الصَّالِحِينَ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] وَنَحْوُ قَوْلِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]- وَمِنْ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهُ اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ بِلَا نَكِيرٍ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا بِحَقٍّ وَعَدْلٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَنَةٍ أَغْزُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَأَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنَّ مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ الْقُرْآنُ» (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْ الْمَحْظُورِ (فَلَا) يَجُوزُ فَضْلًا عَنْ الِاسْتِحْبَابِ يَعْنِي إذَا كَانَ نِيَّتُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ الْعِبَادَةَ وَالطَّاعَةَ، وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْ الْحَظْرِ نَحْوَ الرِّيَاءِ وَمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ (لِأَنَّ النِّيَّةَ) الصَّحِيحَةَ (لَا تُؤَثِّرُ فِي) حِلِّ تِلْكَ (الْمُحَرَّمَاتِ وَ) كَذَا إبَاحَةُ (الْمَكْرُوهَاتِ) فَلَا يَحِلُّ تَعَاطِيهَا بِنِيَّةِ الْحِلِّ وَلَا تُبَاحُ بَلْ رُبَّمَا يَغْلُظُ حُكْمُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ بِضَمِّ نِيَّةِ الْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الطَّاعَاتِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ عَمَلًا وَاحِدًا قَدْ يَكُونُ مَشْرُوعًا بِنِيَّةٍ وَغَيْرَ مَشْرُوعٍ بِأُخْرَى وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ وَالْكَلَامُ فِيمَا يَكُونُ حَرَامًا فِي أَصْلِهِ تَحَكُّمٌ (وَثَالِثُهَا التَّلَذُّذُ بِهِ) بِالْجَاهِ (نَفْسِهِ) تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ وَقِيلَ لِلتَّلَذُّذِ احْتِرَازًا عَنْ التَّلَذُّذِ بِعَوَارِضِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ مِنْ قَضَاءِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ النَّفْسَانِيَّةِ (وَظَنُّهُ كَمَالًا وَهَذَا كَحُبِّ الْمَالِ لِلتَّنَعُّمِ) فِي أَنْوَاعِ الْأَغْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ (وَالتَّلَذُّذِ بِهِ) لِمُجَرَّدِ هَوَى النَّفْسِ (فَإِنْ خَلَا عَنْ الْمَحْظُورِ) أَيْ الْمَمْنُوعِ نَحْوَ قَصْدِ مُحَرَّمٍ (فَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ) فِي رُتْبَةِ الْكَمَالِ لِإِخْلَالِهِ بِهَا (لِكَوْنِ صَاحِبِهِ مَقْصُورًا لَهُمْ) أَيْ الْعَزْمِ وَالْهِمَّةِ (عَلَى مُرَاعَاةِ الْخَلْقِ) يَعْنِي يَقْصُرُ قَصْدَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْخَلْقِ لِئَلَّا يَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَلِئَلَّا يَذُمُّوهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُحِبُّ ثَنَاءَهُمْ وَيَكْرَهُ ذَمَّهُمْ (وَ) لِخَوْفِ (تَأْدِيَتِهِ) أَيْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجَاهِ يَخَافُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَاحِبَهُ (إلَى الْمُرَاءَاةِ) مِنْ الرِّيَاءِ وَالْمُدَاهَنَاتِ وَالتَّصَنُّعَاتِ (لِأَجْلِهِمْ) لِأَجْلِ جَلْبِهِمْ وَثَنَائِهِمْ وَلِأَجْلِ نَيْلِهِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ (وَ) لِخَوْفِ (النِّفَاقِ) أَيْ وَلِخَوْفِ تَأْدِيَتِهِ إلَى النِّفَاقِ لِلْخَلْقِ (بِإِظْهَارِ مَا لَيْسَ فِيهِ) أَيْ فِيمَنْ يُحِبُّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْجَاهِ (مِنْ الْكِمَالَاتِ) يَعْنِي يُظْهِرُ هَذَا الرَّجُلُ كَمَالًا، وَهُوَ لَيْسَ فِيهِ (لِاقْتِنَاصِ قُلُوبِهِمْ) أَيْ صَيْدِ قُلُوبِهِمْ وَجَلْبِهِمْ (وَالتَّلْبِيسِ) أَيْ وَلِخَوْفِ تَأْدِيَتِهِ إلَى التَّلْبِيسِ أَيْ تَلْبِيسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا (وَالْخُدْعَةِ) فُسِّرَ بِإِظْهَارِ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ هُوَ الْحِيلَةُ وَالْمَكْرُ (وَالْكَذِبِ وَالْعُجْبِ) أَيْ النَّظَرِ لِلنَّفْسِ (وَنَحْوِهَا) مِنْ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي تَصْدُرُ فِيمَنْ يَكُونُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَخْفَى أَنَّ اللَّازِمَ مِمَّا ذَكَرَ هُوَ الْحُرْمَةُ وَمَطْلُوبُ عَدَمِ الْحُرْمَةِ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِ قَصْرِ الْقَصْدِ إلَى الْخَلْقِ مُعْرِضًا عَنْ الْحَقِّ أَوْ مُسْتَلْزِمًا إيَّاهُ وَمَا فِيهِ خَوْفُ الْحُرْمَةِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ، وَأَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا وَيَغْلِبُ الْحَرَامُ وَقَدْ قُرِّرَ تَرْجِيحُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَأَنَّهُ قَدْ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَطْلُوبٍ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ أَيْ قَطْعِيٍّ، وَيُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَلَوْ تَحْرِيمًا لَكِنَّ الْمُتَبَادِرَ دُخُولُهُ فِي الْأَوَّلِ تَأَمَّلْ (وَعِلَاجُهُ) يَعْنِي إذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مَذْمُومًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَاجٍ فَعِلَاجُهُ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ عَدَمُ ذِكْرِ عِلَاجِ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ هَذَا، وَلَوْ أُرِيدَ

مِنْ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ مُطْلَقُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ لَأَشْكَلَ بِالثَّانِي إذْ هُوَ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ إذْ الْأَصْلُ وَالْمُتَبَادِرُ فِي النَّظَرِ هُوَ الذَّاتُ لَا الْعَوَارِضُ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ أَوْ ادَّعَى اعْتِبَارَ الْوَصْفِ الْمَذْمُومِ وَلَوْ بَعِيدًا أَوْ يُرَادُ مِنْ الْمَرْجِعِ مُطْلَقُ مَا يَكُونُ مَحْظُورًا مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ (أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَمَالٍ حَقِيقِيٍّ) بَلْ صُورِيٍّ وَمُسْتَعَارٍ مَجَازِيٍّ لِسُرْعَةِ زَوَالِهِ وَلِكَوْنِهِ مَشُوبًا بِالْكَدُورَاتِ وَالْعَوَائِقِ (لِفِنَائِهِ وَكَدُورَاتِهِ) فَإِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَإِنَّ الْبَاقِيَاتِ هِيَ الصَّالِحَاتُ (وَمَعْرِفَةُ) عَطْفٌ عَلَى أَنْ يَعْلَمَ أَيْ عِلَاجُهُ مَعْرِفَةُ (غَوَائِلِهِ الْمَذْكُورَةِ) فِي جَمِيعِ الثَّلَاثَةِ فَتَأَمَّلْ وَأَيْضًا مَا فُهِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ (وَأَنْ يَعْمَلَ مَا يُسْقِطُ الْجَاهَ مِنْ قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنْ الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ) الدَّنِيئَةِ عُرْفًا لَا شَرْعًا (الْمُبَاحَةِ) لِيَسْتَتِرَ بِهَا عَنْ عُيُونِ النَّاسِ فَيَسْلَمَ مِنْ إقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ (كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ قَصَدَ) زِيَارَةَ (بَعْضِ الزُّهَّادِ فَلَمَّا عَلِمَ) الزَّاهِدُ (بِقُرْبِهِ مِنْهُ اسْتَدْعَى طَعَامًا وَبَقْلًا وَأَخَذَ يَأْكُلُ بِشَرَهٍ) قُوَّةِ حِرْصٍ (وَيُعَظِّمُ اللُّقْمَةَ فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمَلِكُ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ وَانْصَرَفَ) الْمَلِكُ عَنْهُ (فَقَالَ الزَّاهِدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَرَفَك عَنِّي) إمَّا بِلِسَانِهِ فِي غِيَابِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّنِيعِ فِي الْأَكْلِ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِأَرْبَابِ الزُّهْدِ بَلْ صُنْعُهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ أَمْثَالِ هَذَا إنَّمَا هُوَ شَأْنُ الْعَوَامّ فَإِنَّ الْخَاصَّ الْعَارِفَ لَا يُغَيِّرُ اعْتِقَادَهُ بِمُطْلَقِ الْمُبَاحَاتِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْكَلَامِيَّةِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَنْفِيرِ الْخَلْقِ عَنْهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الشَّرْعِ وَأَيْضًا لَيْسَ هَذَا وُقُوعًا فِي التُّهَمِ الَّتِي أُمِرْنَا بِتَجَنُّبِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ» فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْكَامِلَ لَا تُغَيِّرُ رِيَاسَتُهُ كَمَالَهُ بَلْ تَزِيدُهُ بِتَرْوِيجِ مَقَالِهِ فِي أَبْوَابِ الْمَشْرُوعَاتِ وَزَجْرِ الْمُنْهَيَاتِ بِالْمَوَاعِظِ الْحَسَنَةِ وَالْوَصَايَا الْمُسْتَحْسَنَةِ بَلْ هُوَ طَرِيقُ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا وَجْهُ التَّسَتُّرِ فَإِنَّ الْمَلِكَ الْمَذْكُورَ مَثَلًا لَا يَخْلُو عَنْ مَنْفَعَةٍ دِينِيَّةٍ عِنْدَ صُحْبَتِهِ بِذَلِكَ الزَّاهِدِ مِنْ نَحْوِ اسْتِمَاعِ نُصْحِهِ وَائْتِمَارِ أَمْرِهِ وَرَجَاءِ مَظْلُومٍ وَتَخْلِيصِ مَلْهُوفٍ وَالْأَخْذِ مِنْ سِيرَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَلَا أَقَلَّ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ وَثَوَابِ الزِّيَارَةِ قُلْنَا لَعَلَّ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ التَّشَبُّثَ بِالْأَفْضَلِ وَأَنَّ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتِكْمَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّائِرِ لَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَقْصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَزُورِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَسْكُنُ فِي بَلْدَةٍ وَأَهَالِيُهَا يَتَكَامَلُونَ بِك وَأَنْتَ مُنْتَقِصٌ بِهِمْ وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا إيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْإِخْوَانِ وَضَرَرُهُمْ الْأَقَلُّ أَنَّهُمْ يَسْرِقُونَ وَقْتَك بِزِيَارَتِهِمْ الَّذِي لَمْ يُعْطَ لَك شَيْءٌ أَعَزُّ مِنْهُ فَإِنَّهُ رَأْسُ مَالِ بِضَاعَتِك؛ لِأَنَّك إنَّمَا تَنَالُ بِهِ مَا يُنَالُ مِنْ الْقُرْبِ الْإِلَهِيِّ وَلِهَذَا كَانَ عَادَةُ الْمَشَايِخِ التَّوَحُّشَ عَنْ النَّاسِ وَالْعُزْلَةَ عَنْهُمْ وَهَذَا مَضْمُونُ مَا قَالَ (وَأَقْوَى الطُّرُقِ فِي قَطْعِ الْجَاهِ) وَإِزَالَتِهِ (الِاعْتِزَالُ عَنْ النَّاسِ) وَالنَّفْرَةُ مِنْهُمْ (إلَى مَوْضِعِ الْخُمُولِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ سُقُوطُ النَّبَاهَةِ وَعَدَمُ الذِّكْرِ وَانْصِرَافُ شُهْرَتِهِ كَالْقُرَى الْبَعِيدَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْقَلِيلِ كَالنَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُلَازِمَ بَيْتَهُ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ «إذَا رَأَيْت النَّاسَ قَدْ مَرَجَتْ عُهُودَهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتِهِمْ وَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَنَامِلِهِ فَالْزَمْ بَيْتَك وَامْلِكْ عَلَيْك لِسَانَك وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْك بِخَاصَّةِ أَمْرِ نَفْسِك وَدَعْ عَنْك أَمْرَ الْعَامَّةِ كَمَا يُقَالُ هَذَا الزَّمَانُ زَمَانُ السُّكُوتِ وَلُزُومُ الْبُيُوتِ وَالْقَنَاعَةُ بِأَقَلِّ الْقُوتِ» (وَأَمَّا الْجَاهُ فَلَا حُبَّ لَهُ وَلَا حِرْصَ عَلَيْهِ) لَا مُطْلَقًا بَلْ مِنْ حَيْثُ جَعَلَهُ آلَةً لِغَيْرِ الْمَمْدُوحِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (لِلَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ) دُونَ لَذَّةِ الْآخِرَةِ هَكَذَا فِي النُّسَخِ الظَّاهِرِ لِلَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ فَاللَّامُ

التَّعْرِيفِ (فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ) شَرْعًا وَعَقْلًا بَلْ مَمْدُوحٍ كَيْفَ لَا وَإِنَّ عَمَلَهُمْ فِي سَاعَةٍ يُعَادِلُ بَلْ يَفُوقُ عَلَى عَمَلِ غَيْرِهِمْ فِي السِّنِينَ وَالْأَيَّامِ كَمَا فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ أَعْلَى النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالْجَائِرِ أَخَسُّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مِنْ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ قَالَ شُرَّاحُ هَذَا الْحَدِيثِ قَدَّمَ الْإِمَامَ الْعَادِلَ لِعُمُومِ نَفْعِهِ وَتَعَدِّيهِ (فَأَيُّ جَاهٍ أَعْظَمُ مِنْ جَاهِ الْأَنْبِيَاءِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَ) جَاهِ (الْخُلَفَاءِ) الْأَرْبَعَةِ (الرَّاشِدِينَ) الْمَهْدِيِّينَ الَّذِينَ قَضَوْا بِالْحَقِّ وَبِهِ كَانُوا يَعْدِلُونَ وَلَا مَقَامَ أَرْفَعُ مِنْ مَقَامَاتِهِمْ وَلَا جَاهَ أَعْظَمُ مِنْ جَاهَاتِهِمْ وَلَا حِرْصٌ وَلَا حُبٌّ لَهُمْ بِذَلِكَ وَمَا رُوِيَ مِنْ طَلَبِ بَعْضِهِمْ إنْ صَحَّ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ فَضْلِهِ الْأُخْرَوِيِّ. (وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ لِلْكُفْرِ الْجُحُودِيِّ خَوْفُ الذَّمِّ) مِنْ النَّاسِ (وَالتَّعْيِيرِ) مِنْ الْعَارِ يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ الْكُفْرِ عِنَادًا قَدْ يَكُونُ خَوْفَ ذَمِّ النَّاسِ وَتَعْيِيرِهِمْ (كَكُفْرِ أَبِي طَالِبٍ) هُوَ أَبُو الْإِمَامِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ مَعَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ لَهُ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤْمِنْ لِخَوْفِ ذَمِّ النَّاسِ وَتَعْيِيرِهِمْ إذْ رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا اُحْتُضِرَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ يَا عَمِّ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ بِهَا لَك عِنْدَ اللَّهِ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي قَدْ عَلِمْت أَنَّك لَصَادِقٌ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ جَزَعَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] » - كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ «جُمِعَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ أَيِسُوا مِنْ حَيَاتِهِ فَقَالُوا نَحْنُ مُعْتَرِفُونَ بِرِيَاسَتِك وَلَمْ يَكُنْ لَنَا مُخَالَفَةٌ فِي أَمْرٍ مَا لَكِنَّا نَخَافُ بَقَاءَ الْخُصُومَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَك فَانْصَحْ لَهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِدِينِنَا فَدَعَا أَبُو طَالِبٍ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَلَّغَهُ مَا قَالُوا فَلَمْ يُفِدْ ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ بِكَلَامٍ فَهِمَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَيْلَهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَدَعَاهُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَالَ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَوْفُ طَعْنِ الْخَلْقِ لَآمَنْت بِك وَطَيَّبْتُكَ وَقِيلَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَكَلَّمُ لِسَانُهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَا يُفْهَمُ لِضَعْفِهِ فَقَرُبَ إلَيْهِ عَبَّاسٌ فَقَالَ آمَنُ بِك» وَعَنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ أَيْضًا كَذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ اُخْتُلِفَ فِي إيمَانِهِ قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَلَى الْكُفْرِ وَيُؤَيِّدُهُ «قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ فَقَالَ اغْسِلْ فَكَفِّنْ فَادْفِنْ فَلْنَدْعُ لَهُ اللَّهَ تَعَالَى إلَى أَنْ نُمْنَعَ» وَيُرْوَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اجْتَهَدَ لِدُعَائِهِ أَيَّامًا وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَنْزِلِهِ وَوَقَفَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ فَدَعَوْا لِأَقْرِبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى

الرابع والخامس من منكرات القلب حب المدح والثناء

- {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]- الْآيَةَ وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ ضَحْضَاحِ النَّارِ وَأَيْضًا حَدِيثُ: «أَهْوَنُ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبُو طَالِبٍ لَهُ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» وَيُرْوَى أَنَّهُ جُمِعَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ فَأَوْصَى بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِعَانَةِ الضُّعَفَاءِ وَإِعْطَاءِ السَّائِلِينَ وَصِدْقِ الْأَحَادِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ ثُمَّ أَوْصَى بِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ أَمِينُ الْعَرَبِ وَصَادِقُ الْقَوْلِ وَأَنَّ مَا ادَّعَاهُ يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَيَشْهَدُهُ اللِّسَانُ وَاعْتِقَادِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَتُسْلِمُ إلَيْهِ وَيَكُونُ حَلُّ الْعَالَمِ وَعَقْدُهُ فِي تَصَرُّفِهِ يَا بَنِي هَاشِمٍ تَقَرَّبُوا إلَيْهِ وَأَعِينُوا بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ وَلَمْ يُخْلُوهُ خَوْفًا مِنْ إيمَانِهِ وَقَالَ يَا عَمَّاهُ جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا حَمَيْتنِي فِي صِغَرِي وَكِبَرِي وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْك قُصُورٌ فِي رِعَايَتِي فَغَايَةُ رَجَائِي مِنْك إيمَانُك لِيُكَافِئَ خِدْمَتَك فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ أَعْلَمُ إشْفَاقَك إيَّايَ لَكِنْ أَخَافُ إنْ مِتُّ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ يُتْعِبُوك لِأَجْلِ إيمَانِي فَلَوْلَا هَذَا لَجَعَلْتُك مَسْرُورًا بِهَذَا فَقَرَأَ أَبْيَاتًا مَضْمُونُهَا كَلَامُك حَقٌّ وَأَنْتَ أَمِينٌ فَلَمَّا سَمِعَتْهَا قُرَيْشٌ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَأَلَحُّوا بِعَدَمِ تَرْكِ دِينِ آبَائِهِ فَبِالْآخِرَةِ قَالَ لَا أَتْرُكُ دِينَ أَجْدَادِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَمَّاهُ أَنْتَ تُوصِي قَوْمَك بِإِيمَانِي وَلَا تُؤْمِنُ فَقَالَ لَوْ كُنْت فِي صِحَّةٍ لَآمَنْتُ بِك لَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ خَافَ مِنْ الْمَوْتِ (وَهُوَ) أَيْ خَوْفُ الذَّمِّ وَالتَّعْيِيرِ السَّبَبُ. [الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ حُبُّ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ] (الرَّابِعُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ وَالْخَامِسُ) مِنْ الذَّمِيمَةِ السِّتِّينَ (حُبُّ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَهُمَا) أَيْ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ يَعْنِي خَوْفَ الذَّمِّ وَحُبَّ الْمَدْحِ (كَحُبِّ الرِّيَاسَةِ) الَّذِي سَبَقَ (سَبَبًا) بِالْمَدْحِ إلَى مُشْتَهَيَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالتَّوَسُّلِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ وَالتَّلَذُّذِ بِهِ عَلَى ظَنِّ الْكَمَالِ (وَحُكْمًا) مِنْ الْحُرْمَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَالْمَذْمُومَةِ (وَعِلَاجًا) مَنْ عَلِمَ عَدَمَ كَوْنِهِ كَمَالًا حَقِيقَةً لِفِنَائِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَهْمِيٌّ سَرِيعُ الزَّوَالِ وَعَمَلُ مَا يُسْقِطُ الْمَدْحَ مِنْ أَلْسُنِ النَّاسِ (غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ) فِي حُبِّ الْجَاهِ وَهُمَا التَّوَسُّلُ إلَى مَا حَرَّمَ وَإِلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَنَحْوِهِ (فِي الْأَوَّلِ) فِي خَوْفِ الذَّمِّ وَالتَّعْيِيرِ خَوْفٌ (عَدَمُ التَّوَسُّلِ) إلَى مَا حَرَّمَ مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ أَوْ خَوْفُ عَدَمِهِ إلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَنَحْوِهِ. (وَالثَّالِثُ) فِي حُبِّ الْجَاهِ، وَهُوَ التَّلَذُّذُ بِهِ نَفْسِهِ هُوَ التَّأَلُّمُ بِالشُّعُورِ الْمَذْكُورِ فِي خَوْفِ الذَّمِّ (التَّأَلُّمُ بِشُعُورِ النُّقْصَانِ وَعَدَمِ مِلْكِ الْقُلُوبِ وَالْحِشْمَةِ) أَيْ التَّعْظِيمِ (فِيهَا) أَيْ الْقُلُوبِ (وَعِلَاجُهُ) عِلَاجُ زَوَالِ خَوْفِ الذَّمِّ (أَنْ تُحْضِرَ) أَنْتَ فِي (قَلْبِك) أَيْ تَخْطِرَ بِبَالِك وَتَقُولَ فِي نَفْسِك (إنَّ الذَّامَّ) مَنْ يَذُمُّنِي (إنْ كَانَ صَادِقًا) فِي ذَمِّهِ بِأَنْ صَدَرَ عَنْهُ مَا يُذَمُّ بِهِ (فَقَدْ عَرَّفَنِي) الظَّاهِرُ مِنْ التَّعْرِيفِ يَعْنِي عَرَّفَنِي مَا لَمْ أَعْرِفْهُ مِنْ حَالِ نَفْسِي فَهَذَا عِنْدَ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُمْكِنُ عَدَمُ الْعِلْمِ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ، وَهُوَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مَسْبُوقٌ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَذَا عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ عَلَى عِلْمِهِ وَأَنْ لَا يَعْلَمَ كَوْنَ مَا صَدَرَ عَنْهُ مَذَمَّةً بِاعْتِقَادِهِ حَسَنًا (وَذَكَّرَنِي) مَا نَسِيته مِنْ حَالِ نَفْسِي فَهَذَا فِي صُورَةِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي عَرَضَ عَلَيْهَا الْغَفْلَةَ (وَنَبَّهَنِي) مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ (عَلَى عَيْبِي) الَّذِي ذَهِلْت عَنْهُ؛ لِأَنَّ حُبَّ الشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ (فَإِنْ كَانَ مُمْكِنَ الزَّوَالِ)

كَالْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ نَحْوِ الْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَظُلْمِ الْعِبَادِ (فَاجْتَهَدَ فِي إزَالَتِهِ فَهُوَ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْرِيفِ وَالتَّذْكِيرِ (نِعْمَةٌ) نَبَّهَك عَلَى عَيْبِك أَخُوك؛ لِأَنَّ ثَمَرَتَهَا حَسَنَةٌ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَخُصَّ مَا يُذَمُّ بِهِ بِمَا هُوَ مَذَمَّةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَفِي الشَّرْعِ دُونَ مَا هُوَ فِي الِاعْتِقَادِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَكُونُ الْمَذَمَّةُ اعْتِقَادًا مِمَّا يَمْتَنِعُ إزَالَتُهُ شَرْعًا (تُوجِبُ الْفَرَحَ بِهَا وَالْحُبَّ) لِذَلِكَ الذَّامِّ (وَالثَّنَاءَ وَالْمُكَافَأَةَ) بِالْجَمِيلِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إنَّ فُلَانًا اغْتَابَك فَبَعَثَ إلَيْهِ طَبَقَ حَلْوَى وَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّك أَهْدَيْت إلَيَّ حَسَنَاتِك فَكَافَأْتُك وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فُلَانٌ يَغْتَابُك فَأَرْسَلَ إلَيْهِ دَنَانِيرَ فَقَالَ لَوْ يُعْطِينَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَنُكْثِرُ أَنْ نُعْطِيَهُ مِنْ الدُّنْيَا (لِمُعْطِيهَا) أَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهُوَ الذَّامُّ (وَلَوْ أَرَادَ) الذَّامُّ (قَدْحِي وَطَعْنِي إذْ نِيَّتُهُ) أَيْ الذَّامِّ (لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا) أَيْ فِي كَوْنِ تِلْكَ النِّعْمَةِ نِعْمَةً يَعْنِي لَا تُغَيِّرُهَا عَنْ كَوْنِهَا نِعْمَةً لِي (وَلَا تُخْرِجُهَا مِنْ أَنْ تَنْفَعَ لِي) وَكَوْنُهَا نِعْمَةً إنَّمَا تَدُورُ عَلَى النَّفْعِ وَكَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مَنْ يُعَرِّفُنِي إنْ مَادِحًا فَأَقُولُ هَذَا وَلِيٌّ مَا رَآنِي إلَّا بِصُورَتِهِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَانِي وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَإِنْ ذَامًّا فَأَقُولُ هَذَا رَجُلٌ قَدْ كَشَفَ اللَّهُ لَهُ عَنْ عَيْبِي وَلَا يُكَاشِفُ الْأُولَى وَهَذَا رَجُلٌ يُسَمِّنِي بِمَا يُنْسَبُ إلَيَّ وَيَذْكُرُ حَتَّى نَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا يَنْصَحُ عِبَادَ اللَّهِ إلَّا وَلِيٌّ هَذَا كَانَ اعْتِقَادُهُ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ الْحُبِّ وَالثَّنَاءِ يَقْتَضِي الرِّضَا وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الذَّمَّ مَعْصِيَةٌ وَالرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ كَمَا أَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَكَوْنُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ الشَّخْصِيِّ الْجُزْئِيِّ مَعْصِيَةً وَطَاعَةً مَعًا مُمْتَنِعٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَتَّصِفُ بِالْأُمُورِ الْمُتَقَابِلَةِ بِالِاعْتِبَارَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ فَمِنْ حَيْثُ صُدُورُهُ عَنْ الذَّامِّ قَبِيحٌ وَمِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُهُ بِالْمَذْمُومِ حَسَنٌ كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ حَيْثُ خَلْقُهُ تَعَالَى لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَمِنْ حَيْثُ كَسْبُ الْعَبْدِ قَبِيحٌ (بَلْ تَزِيدُ) تِلْكَ النِّيَّةُ الْفَاسِدَةُ نِعْمَةً أُخْرَى أَوْ تِلْكَ النِّعْمَةَ عَلَى نَفْعِي (لِصَيْرُورَةِ ذَمِّهِ حِينَئِذٍ) حِينَ إذْ أَرَادَ قَدْحِي وَطَعْنِي (لَمْزًا) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ اعْتِيَادُ الطَّعْنِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَقِيلَ الطَّعْنُ فِي وَجْهِ الْمَطْعُونِ وَقِيلَ بِاللِّسَانِ وَبِالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ وَقِيلَ اسْتِهْزَاءٌ عَلَيَّ وَسُخْرِيَةٌ لِي وَقَوْلُهُ (أَوْ غِيبَةً) يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي وَجْهِ الْمَطْعُونِ (فَيَكُونُ) الظَّاهِرُ أَنَّ التَّفْرِيعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغِيبَةِ فَقَطْ (مُهْدِيًا) مِنْ الْإِهْدَاءِ (إلَيَّ بَعْضَ حَسَنَاتِهِ) إنْ كَانَتْ كَثِيرَةً وَالْغِيبَةُ قَلِيلَةٌ وَإِلَّا فَيَكُونُ الْإِهْدَاءُ بِجَمِيعِ حَسَنَاتِهِ هَذَا إنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَةٌ كَمَا رُوِيَ أَنَّ مَنْ اغْتَابَ غَيْرَهُ مِنْ النَّاسِ ذَهَبَتْ حَسَنَاتُهُ إلَى صَحَائِفِ ذَلِكَ حَتَّى لَا تَبْقَى لَهُ حَسَنَةٌ ثُمَّ تُكْتَبُ سَيِّئَاتُ الْغَيْرِ فِي صَحِيفَتِهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (أَوْ مُنْقِذًا لِي) مِنْ الْإِنْقَاذِ أَيْ مُخَلِّصًا وَمُنْجِيًا (مِنْ بَعْضِ ذُنُوبِي) وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ مَثَلُ الَّذِي يَغْتَابُ النَّاسَ كَمَثَلِ مَنْ نَصَبَ مَنْجَنِيقًا يَرْمِي بِهِ حَسَنَاتِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا فَيَغْتَابُ وَاحِدًا خُرَاسَانِيًّا وَآخَرَ حِجَازِيًّا وَآخَرَ تُرْكِيًّا فَيُفَرِّقُ حَسَنَاتِهِ فَيَقُومُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَقِيلَ يُؤْتَى الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابُهُ وَلَا يَرَى فِيهِ حَسَنَةً فَيَقُولُ أَيْنَ صَلَاتِي وَصِيَامِي وَطَاعَتِي فَيُقَالُ ذَهَبَ

عَمَلُك كُلُّهُ بِاغْتِيَابِك لِلنَّاسِ وَقِيلَ مَنْ اُغْتِيبَ بِغِيبَةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ نِصْفَ ذُنُوبِهِ وَقِيلَ يُعْطَى الرَّجُلُ كِتَابَهُ فَيَرَى فِيهِ حَسَنَاتٍ لَمْ يَعْمَلْهَا فَيُقَالُ هَذَا بِمَا اغْتَابَك النَّاسُ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ وَذُكِرَتْ الْغِيبَةُ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: لَوْ كُنْت مُغْتَابًا لَاغْتَبْت وَالِدِيَّ؛ لِأَنَّهُمَا أَحَقُّ بِحَسَنَاتِي (فَتَتَضَاعَفُ) أَيْ تَتَزَايَدُ (النِّعْمَةُ) لِإِهْدَائِهِ بَعْضَ حَسَنَاتِهِ وَلِإِنْقَاذِهِ مِنْ بَعْضِ سَيِّئَاتِهِ فَصَارَتْ نِعْمَةً أُخْرَى فَوْقَ الْأُولَى مِنْ نَحْوِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْعَيْبِ يَشْكُلُ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَذْمُومِ حَقٌّ عَلَى الذَّامِّ يُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ يُؤَاخَذُ فِي الْآخِرَةِ قَطْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَاخَذَ فِي الدُّنْيَا تَعْزِيرًا وَتَأْدِيبًا وَلَا يَبْعُدَانِ ذَلِكَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى ذَمِّهِ وَأَذَاهُ وَعَفْوِهِ وَمَا ذَكَرَ عَلَى عَدَمِ صَبْرِهِ وَعَدَمِ عَفْوِهِ وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ كَثْرَةُ فَضْلِ الْعَفْوِ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ فِي مِثْلِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَأَيْنَ الْأَلَمُ) إذْ شَأْنُ مِثْلِ هَذِهِ النِّعْمَةِ إيجَابُ السُّرُورِ لَا الْأَلَمِ فَحَاصِلُ هَذَا الْعِلَاجِ أَنَّ الذَّمَّ لَا يَخْلُو عَنْ التَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ وَإِهْدَاءِ الْحَسَنَاتِ وَتَحَمُّلِ السَّيِّئَاتِ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا لَا يُوجِبُ الْأَلَمَ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ (وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ زَوَالُهُ) أَيْ زَوَالُ الْعَيْبِ كَالْعَمَى وَالْغَبَاوَةِ وَالْقُبْحِ (يَحْصُلُ لِي النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ) هِيَ النِّعْمَةُ الْقَوِيَّةُ مِنْ إهْدَاءِ الْحَسَنَاتِ أَوْ إنْقَاذِ السَّيِّئَاتِ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ الْأُولَى مِنْ التَّعْرِيفِ أَوْ التَّذْكِيرِ أَوْ التَّنْبِيهِ (وَإِنْ كَانَ) الذَّامُّ (كَاذِبًا) فِي ذَمِّهِ (فَقَدْ بَهَتَنِي) مِنْ الْبُهْتَانِ هُوَ الْقَذْفُ الْبَاطِلُ وَالِافْتِرَاءُ بِالْكَذِبِ وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ بَهَتَهُ إذَا قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ (وَأَضَرَّ نَفْسَهُ) بِمَا أَتَى بِهِ فِي حَقِّي (وَحَصَلَ لِي النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ) إهْدَاءُ الْحَسَنَاتِ، وَإِنْقَاذُ السَّيِّئَاتِ (أَكْثَرُ) فِي الْإِهْدَاءِ (وَأَعْظَمُ) فِي الْإِنْقَاذِ (مِنْ الْأَوَّلِ) أَيْ الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّ الْبُهْتَانَ أَشَدُّ مِنْ الْغِيبَةِ وَقِيلَ هُوَ كَوْنُهُ صَادِقًا وَقِيلَ هُوَ التَّعْرِيفُ وَالتَّذْكِيرُ فَافْهَمْ (فَالْأَلَمُ مِنْ الذَّمِّ) مُطْلَقًا مُمْكِنُ الزَّوَالِ أَوَّلًا (إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى الدُّنْيَا) دُونَ الْآخِرَةِ فَيَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ بِذَلِكَ جَاهُهُ فِيهَا. (وَأَمَّا طَالِبُ الْآخِرَةِ فَالْحَاصِلُ لَهُ الْفَرَحُ وَالنَّشَاطُ) لِكَوْنِ الذَّمِّ دَاعِيًا لِمَا ذَكَرَ مِنْ النِّعَمِ الْأُخْرَوِيَّةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ ضَرَرِ الْغَيْرِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ وَيَسْتَلْزِمُ السُّرُورَ عَلَى ضَرَرِ غَيْرِهِ وَأَنَّ الذَّمَّ سِيَّمَا بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ يُوجِبُ إعْرَاضَ الْمُؤْمِنِينَ لَا سِيَّمَا الصَّالِحِينَ عَنْهُ وَعَدَمَ حُبِّهِمْ إيَّاهُ وَيُوجِبُ شَهَادَتَهُمْ عَلَى سُوءِ حَالِهِ وَأَهْلُ الْآخِرَةِ يَتَحَاشَوْنَ عَنْ مِثْلِهِ فَتَأَمَّلْ فِي كُلِّ ذَلِكَ حَتَّى يَظْهَرَ دَفْعُ مَا فِي ذَلِكَ (وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ فِي حُبِّ الْمَدْحِ) وَالثَّنَاءِ شَيْئَانِ الْأَوَّلُ (التَّلَذُّذُ بِشُعُورٍ) بِإِدْرَاكِ (النَّفْسِ الْكَمَالَ) الْمُطَابِقَ لِلْوَاقِعِ (بِتَعْرِيفِ الْمَادِحِ) فَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَهَذَا فِي صُورَةِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ (أَوْ تَذْكِيرِهِ) عِنْدَ ذُهُولِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ (فِي الصِّدْقِ) ، وَأَمَّا الْكَذِبُ فَمُجَرَّدُ تَقْرِيرٍ. (وَ) الثَّانِي التَّلَذُّذُ (بِشُعُورِهَا) أَيْ النَّفْسِ (مِلْكَ قَلْبِ الْمَادِحِ وَسَبَبِيَّتَهُ) أَيْ مِلْكَ قَلْبِ الْمَادِحِ (لِمِلْكِ قُلُوبِ الْآخَرِينَ) بِالِاسْتِمَاعِ مِنْ الْمَادِحِ (وَحِشْمَتِهَا) وَحَيَاءِ الْآخَرِينَ وَانْقِبَاضِهَا مِنْهُ تَوَاضُعًا وَتَعْظِيمًا فَيَرْجِعُ إلَى حُبِّ الْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَلِذَا كَانَ عِلَاجُهُ عِلَاجَ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَعِلَاجُ الثَّانِي) أَيْ شُعُورُ مِلْكِ قَلْبِ الْمَادِحِ وَالْآخَرِينَ (قَدْ سَبَقَ) فِي عِلَاجِ حُبِّ الرِّيَاسَةِ مِنْ عَدَمِ

كَوْنِهِ كَمَالًا حَقِيقِيًّا بَلْ فَانِيًا مُتَكَدِّرًا وَمَا قِيلَ فِي عِلَاجِ حُبِّ الذَّمِّ مِنْ إحْضَارِ الْقَلْبِ فَوَهْمٌ مَحْضٌ. (وَ) عِلَاجُ (الْأَوَّلِ) شُعُورُ الْكَمَالِ بِالتَّعْرِيفِ أَوْ التَّذْكِيرِ (إنْ كَانَ الْكَمَالُ دُنْيَوِيًّا) كَالْكِتَابَةِ وَسَائِرِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ (فَكَالثَّانِي) فِي الْمُعَالَجَةِ لِاتِّحَادِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا دُنْيَوِيًّا (وَإِنْ) كَانَ (أُخْرَوِيًّا فَعِلَاجُهُ الْعِلْمُ) النَّافِعُ (وَالْعَمَلُ) بِهِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ فَالْعِلْمُ إلَى آخِرِهِ بَيَانٌ لِلْكَمَالِ الْأُخْرَوِيِّ لَا يَخْفَى أَنَّ سَوْقَ الذَّوْقِ مَا عَرَفْته وَأَنَّ الْكَمَالَ الْأُخْرَوِيَّ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بَلْ يَجْرِي فِي جَمِيعِ الْمَلَكَاتِ الْحَمِيدَةِ وَفِي الْعَمَلِ (فَقَطْ) لَيْسَ لَهُ عِلَاجٌ غَيْرَهُمَا (وَخَيْرِيَّتُهُمَا) أَيْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ كَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ أَنَّا نَجِدُ أُنَاسًا لَهُمْ عِلْمٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يَكُنْ عِلَاجًا لِحُبِّ الْمَدْحِ (مَوْقُوفَةٌ عَلَى اسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ كَالْإِخْلَاصِ فِي الْعَمَلِ) وَإِلَّا فَشَرٌّ مَحْضٌ وَضَرَرٌ خَالِصٌ (وَعَدَمُ الْإِحْبَاطِ) أَيْ الْإِبْطَالِ (بِالْكُفْرِ إلَى الْمَوْتِ) إذْ بِالْكُفْرِ يَحْبَطُ جَمِيعُ عَمَلِهِ، وَإِنْ مُخْلِصًا، وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ (وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ كَذَلِكَ (فَيَنْقَلِبَانِ شَرًّا وَضَرَرًا) قِيلَ الْأَوْلَى فَيَذْهَبُ عَلَيْهِ الْخَيْرُ وَيَفُوتُ نَفْعُهُ إذْ غَيْرُ الْخَيْرِ لَا يَصِيرُ شَرًّا وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ (فَيُوجِبَانِ أَلَمًا وَحُزْنًا) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (وَهِيَ) أَيْ الشَّرَائِطُ الْمَذْكُورَةُ (مَجْهُولَةٌ) لِلْعَامِلِ (مَشْكُوكَةٌ) بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ (بَلْ غَيْرُ مَظْنُونَةٍ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَلْ عَدَمُهَا مَظْنُونَةٌ، وَهُوَ الْأَوْفَقُ (غَالِبَةٌ) وَالْأَظْهَرُ غَالِبًا كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ فِي غَالِبِ النَّاسِ يَعْنِي الْجَهَلَةَ إمَّا لِلشَّكِّ أَوْ الْوَهْمِ (لِأَنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ) فَتَأْمُرُ بِعَدَمِ الشَّرَائِطِ مِنْ الرِّيَاءِ وَنَحْوِهَا (وَشَيَاطِينَ الْإِنْسِ) مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ (وَالْجِنِّ) الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا (صَارِفَةٌ عَنْهَا) أَيْ الشُّرُوطِ يَشْكُلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ النَّفْسِ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ امْتِثَالُهَا وَالْإِتْيَانُ بِذَلِكَ السُّوءِ بَلْ الْعَالِمُ يَدْفَعُهَا بِأَوَامِرِ الشَّرْعِ الْمُخَالِفِ لِأَمْرِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّأْثِيرِ بَلْ حَالُهُمْ هُوَ التَّحْرِيكُ وَالْوَسْوَسَةُ فَكَيْفَ يَقْطَعُ بِصَرْفِهِمْ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَأْتِيَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ عَمَلًا مَا بِشَرَائِطِهِ، وَهُوَ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا الزَّاهِدِينَ الْمُتَوَرِّعِينَ وَأَنَّهُ إنْ كَانَ أَمْرُ النَّفْسِ مُوجِبًا لِلسُّوءِ وَصَرْفُ الشَّيَاطِينِ مَقْطُوعًا بِهِ يَلْزَمُ عَبَثِيَّةُ التَّكْلِيفِ، وَإِنْ مُمْكِنًا فَقَطْ وَمُحْتَمَلًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ إلَّا أَنْ يُقَالَ النَّظَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ الْعَامِلِ إلَى نَفْسِهِ فَيَلْزَمُ عَلَى كُلِّ اعْتِقَادٍ عَدَمُ تَأَتِّي الشَّرَائِطِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] وَأَنَّ الْمَطْلَبَ كَالظَّنِّيِّ فَيُفِيدُ الدَّلِيلَ الْخَطَّابِيَّ (فَسَبَبِيَّتُهُمَا لِلْخَشْيَةِ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَشْيَةَ مَهَابَةٍ وَإِجْلَالٍ (وَالْوَجَلِ) أَيْ الْخَوْفِ وَالتَّعَبِ (أَوْلَى) أَحْرَى (وَأَقْرَبَ) إلَى الصَّوَابِ (مِنْهَا) مِنْ سَبَبِيَّتِهِمَا أَيْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (لِلْفَرَحِ) بِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْأَمْنِ) مِنْ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْرَحَ بِتَوْفِيقِ الطَّاعَةِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ خَوْفُهُ عَلَى سُرُورِهِ وَفَرَحِهِ لَعَلَّ هَذَا مَحْصُولُ مَا قَالُوا مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ خَوْفَهُ غَالِبًا عَلَى رَجَائِهِ مَا دَامَ فِي الصِّحَّةِ وَعَكْسُهُ فِي حَالِ الْمَرَضِ (عِنْدَ سَالِكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ) وَكُلُّ أَحَدٍ سَالِكُ الْآخِرَةِ أَوْ الْمُرَادُ عِنْدَ تَارِكِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]

النوع الثالث من الأنواع الثلاثة للكفر كفر حكمي

فَالْفَرَحُ وَالْأَمْنُ تَبْعِيدٌ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ أَلَا تَرَى قِصَّةَ بَلْعَامَ ابْنِ بَاعُورَا وَبَرْصِيصَا أَمَّا بَلْعَامُ فَفِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كَانَ يُوضَعُ فِي مَجْلِسِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مِحْبَرَةً لِكِتَابَةِ حِكْمَةِ لِسَانِهِ وَكَانَ إذَا نَظَرَ رَأَى الْعَرْشَ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف: 175] ثُمَّ بِمَيْلِهِ إلَى الدُّنْيَا مَيْلَةً وَاحِدَةً وَتَرْكُهُ لِوَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ حُرْمَةً وَاحِدَةً سَلَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَعْرِفَتَهُ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ حَيْثُ قَالَ - {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176]- الْآيَةَ وَأَمَّا بِرْصِيصَا فَعَبَدَ فِي صَوْمَعَتِهِ سَبْعِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى قِيلَ طَارَ فِي الْهَوَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ تَلَامِذَتِهِ بِقُوَّةِ هِمَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَفِي حَقِّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ} [الحشر: 16] الْآيَةَ وَأَيْضًا اُنْظُرْ إلَى حَالِ إبْلِيسَ حَيْثُ عَبَدَ ثَمَانِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى لَمْ يَتْرُكْ مَوْضِعَ قَدَمٍ إلَّا وَسَجَدَ لِلَّهِ فِيهِ ثُمَّ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ أَمْرٍ وَاحِدٍ لَعَنَهُ اللَّهُ أَبَدَ الْآبِدِينَ (فَلِذَا) أَيْ فَلِكَوْنِ سَبَبِيَّةِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِلْخَشْيَةِ أَوْلَى وَأَقْرَبَ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فَالْعِلْمُ إنَّمَا يُثْمِرُ الْخَشْيَةَ لَا الْأَمْنَ إذْ مَأْخَذُ الِاشْتِقَاقِ فِي مِثْلِهِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ تَزْدَادُ الْخَشْيَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا أُعْرَفُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ - {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]- فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ قَوْله تَعَالَى - {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]- تُوجِبُ الْأَمْنَ لِلْعُلَمَاءِ إذْ بِحُكْمِ الْأُولَى نَقُولُ الْعُلَمَاءُ قَوْمٌ لَهُمْ خَشْيَةٌ وَبِحُكْمِ الثَّانِيَةِ وَكُلُّ قَوْمٍ لَهُمْ خَشْيَةٌ فَلَهُمْ الْجَنَّةُ فَيُنْتَجُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ الْعُلَمَاءُ لَهُمْ الْجَنَّةُ قُلْنَا إنْ أُرِيدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الصُّغْرَى الْكُلُّ فَلَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ الْأُولَى عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ الْعُلَمَاءُ مَقْصُورًا عَلَى خَشْيَةِ اللَّهِ بَلْ الْعَكْسُ إذْ الْمَقْصُورُ عَلَيْهِ فِي إنَّمَا هُوَ الْأَخِيرُ، وَإِنْ الْبَعْضَ فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ الْكُلَّ فَلَا نُسَلِّمُ التَّقْرِيبَ، وَإِنْ الْبَعْضَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْجَنَّةِ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْأَمْنُ لِعَالِمٍ مَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَحْقِيقُهُ مَا سَبَقَتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِنْ أَنَّ الْخَشْيَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْخَشْيَةِ يَلْزَمُ عَدَمُ الْعِلْمِ فَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمُ صُورَةٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ خَشْيَةٌ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ حَقِيقَةً وَذَلِكَ بِحُكْمِ إفَادَةِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ الْعَلِيَّةَ فَيَتَّضِحُ بِذَلِكَ قُوَّةُ سَبَبِيَّةِ الْعِلْمِ لِلْخَشْيَةِ لَا الْفَرَحِ وَالْأَمْنِ « (وَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ} [المؤمنون: 60] يُعْطُونَ {مَا آتَوْا} [المؤمنون: 60] مَا أَعْطَوْا مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ (بِاَلَّذِينَ) الْجَارِ مُتَعَلِّقٌ بِفَسَّرَ (يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) فَالتَّفْسِيرُ لِقَوْلِهِ مَا آتَوْا» كَمَا أُشِيرَ رَوَى أَحْمَدُ وَكَذَا الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا أَنَّهَا «سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ} [المؤمنون: 60]- الْآيَةَ فَقَالَتْ أَهُوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي وَمَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَتَقَبَّلَ مِنْهُ» فَالْآيَةُ الْأُولَى لِأَقْرَبِيَّةِ الْعِلْمِ لِلْخَشْيَةِ وَالثَّانِيَةُ لِأَقْرَبِيَّةِ الْعَمَلِ (وَسَيَجِيءُ ضَرَرُ الْمَدْحِ فِي آفَاتِ اللِّسَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) فَلَا حَاجَةَ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا فَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ أَوْ اعْتِذَارٍ عَنْ عَدَمِ التَّرْكِ. [النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْكُفْرِ كُفْرٌ حُكْمِيٌّ] (وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْكُفْرِ) (كُفْرٌ حُكْمِيٌّ) مَا يَكُونُ كُفْرًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ (وَهُوَ) إمَّا قَوْلًا أَوْ فِعْلًا (مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ) اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ (أَمَارَةَ التَّكْذِيبِ) ، وَإِنْ وُجِدَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا مَعَ وُجُودِهَا (كَاسْتِخْفَافِ) اسْتِهَانَةِ

وَاحْتِقَارِ (مَا يَجِبُ تَعْظِيمُهُ) شَرْعًا (مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) بَيَانٌ لِمَا كَتَوْصِيفِهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ كَقَوْلِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْظُرُ إلَيْنَا مِنْ الْعَرْشِ أَوْ السَّمَاءِ أَوْ يُبْصِرُ وَلَوْ قَالَ يَطْلُعُ لَا وَقَوْلُ لَا تَرْضَى يَا رَبِّ بِهَذَا الظُّلْمِ وَالْأَصَحُّ لَيْسَ بِخَطَأٍ وَاَللَّهُ يَظْلِمُك كَمَا ظَلَمْتنِي الْأَصَحُّ أَنَّهُ كُفْرٌ وَاَللَّهُ جَلَسَ لِلْإِنْصَافِ وَقَالَ لِمَنْ مَاتَ اخْتِيَارُ اللَّهِ إلَى إرَادَةِ الْآدَمِيِّ وَقَالَ لِمَنْ لَا يَمْرَضُ نَسِيَهُ اللَّهُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ النَّبِيِّ وَفُلَانٌ فِي عَيْنِي يَهُودِيٌّ وَفِي عَيْنِ اللَّهِ وَقِيلَ إنْ أَرَادَ اسْتِقْبَاحَ فِعْلِهِ لَا يُكَفَّرُ وَيَدُ اللَّهِ طَوِيلَةٌ وَقِيلَ إنْ أَرَادَ بِهِ الْقُدْرَةَ لَا يَكْفُرُ وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَيَمِينُك وَضَرْطُ الْحِمَارِ سَوَاءٌ وَيَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ سُرُورِي وَحُزْنِي مِثْلُ سُرُورِك وَحُزْنِك وَقِيلَ إنْ ظَهَرَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا لَا يَكْفُرُ وَيَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي أَدْعُوك دَائِمًا وَلِحَبِيبِهِ أَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ قِيلَ لِظَالِمٍ حَالَ ظُلْمِهِ أَمَا تَخَافُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَا أَخَافُ وَلَوْ فِي غَيْرِ حَالِ ظُلْمِهِ لَا يَكْفُرُ إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ كَوْنَهُ عَلَى حَقٍّ وَأَرَى هَذَا الْأَمْرَ مِنْك وَمِنْ اللَّهِ أَوْ أَعْتَمِدُ اللَّهَ وَإِيَّاكَ أَوْ أَرْجُو مِنْك وَمِنْ اللَّهِ كَلَامٌ قَبِيحٌ لَيْسَ بِكُفْرٍ وَأَصَابَ عَلَى فُلَانٍ قَضَاءَ سُوءٍ خَطَأً وَكَذَا يَكْفُرُ إذَا نَعَتَ اللَّهَ بِجَارِحَةٍ أَوْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ أَوْ قَالَ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ أَوْ وَصَفَهُ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَان أَوْ قَالَ مَعَهُ قَدِيمٌ آخَرُ أَوْ مُدَبِّرٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ أَوْ وَصَفَهُ بِالْجِسْمِ أَوْ الْحُدُوثِ أَوْ عَدَمِ عِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ أَوْ سَجَدَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى أَوْ سَبَّهُ تَعَالَى أَوْ أَشْرَكَ بِعِبَادَتِهِ شَيْئًا أَوْ افْتَرَى عَلَيْهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ لِمَخْلُوقٍ إنَّ خَلْقَهُ عَبَثٌ وَمُهْمَلٌ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْفَتَاوَى (وَمَلَائِكَتِهِ) وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ رُؤْيَتُك عَلَيَّ كَرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ قَالُوا يَكْفُرُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ قَالَ لِعَدَاوَةِ الْمَلَكِ وَاسْتِهْزَائِهِ كَفَرَ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ قَالَ " رَوَى فُلَانٌ دشمن ميدارجون رَوَى مَلَكُ الْمَوْتِ " فَالْأَكْثَرُ عَلَى كُفْرِهِ. وَلَوْ قَالَ لَا أَسْمَعُ شَهَادَةَ فُلَانٍ وَلَوْ كَانَ جَبْرَائِيلُ أَوْ مِيكَائِيلَ يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ إذَا شَهِدَ جَبْرَائِيلُ أَوْ مِيكَائِيلُ لَا أَقْبَلُ يَكْفُرُ أَوْ قَالَ أَعْطِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ حَتَّى أَبْعَثَ مَلَكَ الْمَوْتِ لِيَرْفَعَ رُوحَ فُلَانٍ يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ أَنَا مَلَكُك فِي مَوْضِعِ كَذَا أَوْ أَنَا مَلَكُك مُطْلَقًا لَا يَكْفُرُ بِخِلَافِ أَنَا نَبِيٌّ (وَكُتُبِهِ) فَمَنْ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ حَرْفٍ مِنْهُ أَوْ أَلْقَى الْمُصْحَفَ إلَى الْقَاذُورَاتِ أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مِنْهُ أَوْ كَذَّبَ بِهِ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ بَدَّلَ حَرْفًا مِنْهُ أَوْ زَادَ أَوْ قَرَأَ عَلَى الْهَزْلِ بِنَحْوِ الدُّفِّ أَوْ قَالَ شَبِعْت مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ اسْتَعْمَلَ الْقُرْآنَ فِي بِذْلَةِ كَلَامِهِ كَمَنْ مَلَأَ الْقَدَحَ وَقَالَ كَأْسًا دِهَاقًا أَوْ قَالَ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الشُّرْبِ، وَكَانَتْ شَرَابًا طَهُورًا أَوْ عِنْدَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ لَعَلَّ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لَا يَكْفُرُ أَوْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ أَوْ عَابَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَكَذَا مَنْ أَنْكَرَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أَوْ سَبَّهُمَا وَمَنْ قَرَأَ أَوْ أَقْرَأ بِشَوَاذٍّ مِنْ الْحُرُوفِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ قَالُوا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ كَمَا فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ وَفِي إنْكَارِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ قِيلَ يَكْفُرُ وَقِيلَ لَا وَلَوْ قَالَ خُذْ أُجْرَةَ الْمُصْحَفِ يَكْفُرُ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ إذَا تَوَسَّدَ الْكِتَابَ إنْ قَصَدَ الْحِفْظَ لَا يُكْرَهُ وَإِلَّا يُكْرَهُ وَكَذَا الْجُلُوسُ عَلَى جُوَالِقَ فِيهَا مُصْحَفٌ (وَرُسُلِهِ) كَمَنْ أَنْكَرَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ لَمْ يَرْضَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ.

لَوْ كَانَ فُلَانٌ نَبِيًّا مَا آمَنَتْ بِهِ أَوْ أَمَرَنِي لَمْ أَفْعَلْ أَوْ فُلَانٌ أَوْ صَالِحٌ خَيْرٌ مِنْ النَّبِيِّ أَوْ قَالَ الْأَوْلِيَاءُ خَيْرٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ قَالَ لِشَعْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شُعَيْرٌ يَكْفُرُ إلَّا بِقَصْدِ التَّعْظِيمِ أَوْ قَالَ لِلنَّبِيِّ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلَ قَالَ كَذَا وَلَوْ شَتَمَ كُلَّ مَنْ كَانَ اسْمُهُ عَلَى اسْمِ النَّبِيِّ وَخَطَرَ بِبَالِهِ كَوْنُ النَّبِيِّ مِنْهُمْ يَكْفُرُ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحِنْطَةَ لَمَا وَقَعْنَا فِي هَذَا الْبَلَاءِ قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا وَمَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَطَلَبَ الْآخَرُ الْمُعْجِزَةَ لَا لِقَصْدِ إظْهَارِ كَذِبِهِ يَكْفُرَانِ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَوِيلُ الظُّفْرِ خَلَقُ الثِّيَابِ يَكْفُرُ وَرَدَّ حَدِيثًا نَقَلَهُ عَنْ النَّبِيِّ أَحَدٌ قِيلَ يَكْفُرُ مُطْلَقًا وَقِيلَ إنْ مُتَوَاتِرًا أَوْ قَالَ كَثِيرًا مَا سَمِعْنَاهُ اسْتِخْفَافًا وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ اسْتُك أَوْ قُصَّ شَارِبَك فَإِنَّهُ سُنَّةً فَقَالَ لَا أَفْعَلُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ يَكْفُرُ وَلَوْ قِيلَ النَّبِيُّ يُحِبُّ شَيْءَ كَذَا فَقَالَ لَا أُحِبُّهُ أَنَا يَكْفُرُ قَالَ رَجُلٌ أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ الْقَرْعُ حَتَّى يُحِبَّهُ النَّبِيُّ أَوْ قَالَ أَنَا لَا أُحِبُّهُ عِنْدَ مُذَاكَرَةِ حُبِّهِ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَمَرَ أَبُو يُوسُفَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ فَاسْتَغْفَرَ الرَّجُلُ فَتَرَكَهُ وَلَوْ قَالَ الْأَنْبِيَاءُ مُكِدُّونَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّ فَقْرَهُمْ اخْتِيَارِيٌّ وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَقَالَ آخَرُ مُسْتَخِفًّا أَرَى الْمِنْبَرَ وَالْقَبْرَ وَلَا أَرَى شَيْئًا آخَرَ يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ إنَّ آدَمَ نَسَجَ الْكِرْبَاسَ فَقَالَ آخَرُ نَحْنُ مِنْ أَوْلَادِ الْحَائِكِ يَكْفُرُ وَلَوْ ذُكِرَ عِنْدَ رَجُلٍ قِصَّةُ يُوسُفَ مَعَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ آخَرُ شَيْخٌ فَقَدَ ابْنَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ قَالَ فِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ كَفَرَ وَكَذَا ذُكِرَ عِنْدَ رَجُلٍ حَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ نِسْوَانِهِ قَالَ بِالتُّرْكِيِّ " زنباره جه ايمش يَكْفُرُ " وَكَذَا مَنْ سَبَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَابَهُ أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِيرِ أَوْ دَعَا عَلَيْهِ أَوْ تَمَنَّى لَهُ مَضَرَّةً أَوْ نَسَبَ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ الْعَالِي أَوْ نَسَبَ الْجُنُونَ إلَيْهِ أَوْ غَيْرَهُ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ الْبَلَايَا أَوْ نَسَبَ إلَيْهِ الْمُدَاهَنَةَ فِي أَمْرِ التَّبْلِيغِ وَأَلْحَقَ نَقْصًا فِي نَسَبِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ أَوْ قَالَ تَعْبِيرًا رِدَاءُ النَّبِيِّ وَسِخٌ أَوْ عَيَّرَهُ بِرَعْيِ الْغَنَمِ أَوْ السَّهْوِ أَوْ النِّسْيَانِ أَوْ نَسَبَ إلَيْهِ سَفَهًا مِنْ الْقَوْلِ أَوْ قَالَ اسْتِخْفَافًا هُزِمَ النَّبِيُّ أَوْ قَالَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعَرَبِ كَفَرَ فِي الْكُلِّ كَمَا فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ وَقَدْ سَبَقَ التَّفْصِيلُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَوْبَةُ السَّابِّ عِيَاذًا بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ فَقَبْلَ التَّوْبَةِ يُقْتَلُ كُفْرًا وَبَعْدَهَا حَدًّا وَلَا تَعْمَلُ تَوْبَتُهُ فِي إسْقَاطِ قَتْلِهِ عِنْدَنَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَوْبَتِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَبِّهِ صَحْوًا أَوْ سُكْرًا وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ التَّقْيِيدُ فِي السُّكْرِ بِكَوْنِهِ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَعَدَمِ إكْرَاهٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُؤَثِّرُ تَوْبَتُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فِي إسْقَاطِ قَتْلِهِ وَنَسَبَ الْخِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ سَبِّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْمَعَرَّةِ فِي جِنْسِهِ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي التَّبْيِينِ أَيْضًا لَعَلَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفُ أَحْوَالِ السَّابِّ عَمْدًا وَخَطَأً وَصَلَاحًا وَفِسْقًا كَمَا أُشِيرَ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَّا سَبُّ الشَّيْخَيْنِ وَقَذْفُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَكُفْرٌ كَنَفَيْ خِلَافَتِهِمَا وَسَابُّ سَائِرَ الصَّحَابَةِ مَلْعُونٌ مُوجِبٌ لِلنَّكْلِ الشَّدِيدِ (وَالْيَوْمِ الْآخَرِ وَمَا فِيهِ) مِنْ الْحِسَابِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَالْجَنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ فَمَنْ جَحَدَ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ الْفَزَعِ، وَفِي الْقَبْرِ وَالْقِيَامَةِ يَكْفُرُ وَكَذَا لَوْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَلَوْ أَنْكَرَ بَعْثَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَا يَكْفُرُ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْكَلَابَاذِيُّ وَكَذَا إنْكَارُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الدُّخُولِ كُفْرٌ وَإِنْكَارُ حَشْرِ الْحَيَوَانِ سِوَى بَنِي آدَمَ لَيْسَ بِكُفْرٍ بِمَكَانِ الْخِلَافِ وَلَوْ قَالَ لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ دُونَك لَا أَدْخُلُهَا، وَلَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَعَ فُلَانٍ لَا أَدْخُلُهَا أَوْ قَالَ لَوْ أَعْطَانِي اللَّهُ الْجَنَّةَ لِهَذَا الْعَمَلِ أَوْ لِأَجْلِك لَا أُرِيدُهَا أَوْ لَا

أُرِيدَ الْجَنَّةَ وَأُرِيدُ الرُّؤْيَةَ يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ لِخَصْمِهِ آخُذُ مِنْك حَقِّي فِي الْمَحْشَرِ فَقَالَ إيشْ شُغْلٌ لِي فِي الْمَحْشَرِ أَوْ أَيْنَ تَجِدُنِي فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ يَكْفُرُ أَوْ قَالَ أَدِّ حَقِّي وَإِلَّا آخُذُهُ فِي الْقِيَامَةِ فَقَالَ خَصْمُهُ أَعْطِنِي آخَرَ وَخُذْ مِنِّي فِي الْقِيَامَةِ الْأَكْثَرَ لَا يَكْفُرُ وَلَوْ قِيلَ دَعْ الدُّنْيَا لِتَنَالَ الْآخِرَةَ فَقَالَ لَا أُبْدِلُ النَّقْدَ بِالنَّسِيئَةِ يَكْفُرُ وَفُلَانٌ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ يَخْشَى بِالْكُفْرِ وَلَوْ قَالَ الْمُثَابُ وَالْمُعَاقَبُ هُوَ الرُّوحُ فَقَطْ لَا يَكْفُرُ وَالْكُلُّ مِنْ التتارخانية (وَالشَّرِيعَةِ) كَمَنْ قَالَ لِشَرِيعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ إنَّهَا خَيْرٌ مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عِلْمٌ مِنْ الْعُلُومِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ أَوْ نَفَى كَوْنَ عِلْمِ التَّوْحِيدِ مِنْ الشَّرِيعَةِ أَوْ قَالَ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ حَقِيقَةٌ أَوْ أَنْكَرَ حُكْمًا ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ أَوْ اسْتَهْزَأَ بِهِ وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ صَلِّ فَقَالَ طَوَّلْت الْأَمْرَ عَلَيَّ أَوْ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُتِمَّ هَذَا الْأَمْرَ أَوْ الْعَاقِلُ لَا يَشْرَعُ فِي أَمْرٍ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُتِمَّهُ أَوْ غَسَلْت يَدِي مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ أَعْطَيْتهَا الزُّرَّاعَ حَتَّى يَزْرَعَهَا أَوْ أَصْبِرُ إلَى أَنْ يَجِيءَ رَمَضَانُ فَأَجْمَعَ كُلَّهَا أَوْ أُصَلِّيَ وَمَا يَزْدَادُ لِي شَيْئًا أَوْ أَنْتَ أَيَّ شَيْءٍ رَبِحْت بِهَا يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لَا أُصَلِّي فَإِنَّ الثَّوَابَ لِسَيِّدِي وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ صَلِّ حَتَّى تَجِدَ حَلَاوَةً فَقَالَ أَنْتَ لَا تُصَلِّي حَتَّى تَجِدَ حَلَاوَةً أَوْ قَالَ صَلَّيْت أَوْ لَمْ أُصَلِّ سَوَاءٌ أَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ صَلِّ الْفَرِيضَةَ فَقَالَ لَا أُصَلِّي يَكْفُرُ إلَّا إنْ أَرَادَ لَا أُصَلِّي بِأَمْرِك أَوْ تَرْكُ الصَّلَاةِ طَيِّبٌ أَوْ شُغْلُ الْكُبَرَاءِ أَوْ الْكَسَالَى أَوْ هُوَ شَغْلٌ يُوجِبُ الْهَرَبَ يَكْفُرُ وَلَوْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا وَلَوْ قَالَ عِنْدَ مَجِيءِ رَمَضَانَ جَاءَ الضَّيْفُ الثَّقِيلُ وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَدِّ الزَّكَاةَ فَقَالَ لَا أُؤَدِّي يَكْفُرُ وَلَوْ تَمَنَّى حِلْيَةَ الرِّبَا أَوْ الظُّلْمِ يَكْفُرُ لَا مَنْ تَمَنَّى شُرْبَ الْخَمْرِ أَوْ قَالَ اشْرَبْ الْخَمْرَ وَدَعْ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا حَرَامٌ وَمَنْ قَالَ حُكْمُ الشَّرْعِ هَكَذَا وَقَالَ هَاتِ الرِّجَالَ أَيْشَ أَعْمَلُ بِالشَّرْعِ أَوْ أَنَا أَعْمَلُ بِلَا شَرْعٍ قِيلَ نَعَمْ، وَقِيلَ لَا وَلَوْ قَالَ تَعَالَ مَعِي إلَى الشَّرْعِ فَقَالَ خَصْمُهُ هَاتِ الرِّجَالِ حَتَّى أَمْشِيَ أَوْ أَنَا أيش أَعْمَلُ بِالشَّرْعِ أَوْ لَا أَعْرِفُ أَوْ فِي هُنَا لَا يَمْشِي الْأَمْرُ أَوْ عِنْدِي دَبُّوسٌ إيشْ أَعْمَل بِالشَّرْعِ أَوْ حِينَ أَخَذْت الدَّرَاهِمَ أَيْنَ كَانَ الشَّرْعُ يَكْفُرُ وَمَنْ كَذَبَ فَقَالَ الْآخَرُ بَارَكَ اللَّهُ فِي كَذِبِك يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ أُرِيدُ الْمَالَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا يَخَافُ الْكُفْرَ وَلَوْ دَفَعَ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ شَيْئًا يَرْجُو الثَّوَابَ يَكْفُرُ وَلَوْ عَلِمَ الْفَقِيرُ بِذَلِكَ الْحَرَامِ فَدَعَا لِلْمُعْطِي كَفَرَ وَلَوْ قِيلَ كُلْ مِنْ حَلَالٍ فَقَالَ الْحَرَامُ أَحَبُّ إلَيَّ يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ الشَّرِيعَةُ تَلْبِيسٌ أَوْ حِيَلٌ إنْ أَرَادَ أَنَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَا يَصِحُّ فِيهِ الْحِيلَةُ لَا يَكْفُرُ وَإِلَّا يَكْفُرُ وَفِي التتارخانية رَجُلٌ قِيلَ لَهُ طُلَّابُ الْعِلْمِ يَمْشُونَ عَلَى أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ " أَيْنَ بَارِي دروغست " كَفَرَ حُكِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الطُّلَّابِ سَمِعَ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَلَائِكَةُ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ» فَضَرَبَ رِجْلَهُ عَلَى الْأَرْضِ لِيَكْسِرَ أَجْنِحَةَ الْمَلَائِكَةِ فَجَعَلَ اللَّهُ رِجْلَهُ يَابِسَةً رَجُلٌ قَالَ " قِيَاسُ أَبِي حَنِيفَةَ حَقٌّ نَسِيت " يَكْفُرُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] إلَى قَوْلِهِ {نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف: 57] فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إثْبَاتُ الْقِيَاسِ، وَهُوَ رَدُّ الْمُخْتَلَفِ إلَى الْمُتَّفَقِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْمَطَرَ وَيُخْرِجُ النَّبَاتَ مِنْ الْأَرْضِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ لِإِحْيَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا (وَعُلُومِهَا) كَعِلْمِ التَّوْحِيدِ وَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ رَجُلٌ جَلَسَ عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ أَوْ أُجْلِسَ فَيَسْأَلُونَ مِنْهُ مَسَائِلَ اسْتِهْزَاءً أَوْ يَضْرِبُونَهُ بِمَا شَاءُوا وَهُمْ يَضْحَكُونَ كَفَرُوا وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالْعِلْمِ أَوْ الْعُلَمَاءِ كُفْرٌ وَمَنْ شَتَمَ عَالِمًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ خِيفَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَلَوْ قَالَ " فَسَادُ كردن بِهِ ازدانشمدي " أَوْ قَصْعَةُ ثَرِيدٍ خَيْرٌ مِنْ الْعِلْمِ كَفَرَ قَالَ لَا أَقُولُ بِفَتْوَى الْأَئِمَّةِ

وَلَا أَعْمَلُ بِفَتْوَاهُمْ لَازِمٌ لَهُ الِاسْتِغْفَارُ قَالَ لِعَالِمٍ ذَكَرُ الْحِمَارِ فِي اسْتِ عِلْمِك مُرِيدًا عِلْمَ الدِّينِ يَكْفُرُ قَالَ فِعْلُ طَالِبِ الْعِلْمِ وَالْكُفْرِ سَوَاءٌ إنْ أَرَادَ جَمِيعَ أَفْعَالِهِمْ يَكْفُرُ وَمَنْ أَبْغَضَ عَالِمًا وَشَتَمَهُ بِلَا سَبَبٍ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ قَالَ لِصَالِحٍ وَجْهُهُ عِنْدِي كَوَجْهِ الْخِنْزِيرِ يُخَافُ عَلَيْهِ الْكُفْرُ قَالَ لِفَقِيهٍ أَخَذَ شَارِبَهُ مَا أَعْجَبَ قُبْحَ قَصِّ الشَّارِبِ وَلَفِّ الْعِمَامَةِ تَحْتَ الذَّقَنِ يَكْفُرُ وَالتَّشَبُّهُ بِالْعِلْمِ وَأَخْذُ الْخَشَبَةِ لِضَرْبِ الصِّبْيَانِ اسْتِهْزَاءً كُفْرٌ مَنْ رَجَعَ مِنْ مَجْلِسِ الْعِلْمِ فَقَالَ أَحَدٌ هَذَا يَرْجِعُ مِنْ الْكَنِيسَةِ كَفَرَ وَمَنْ قِيلَ لَهُ اذْهَبْ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ فَقَالَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمَا يَقُولُونَ أَوْ مَا لِي فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ يَكْفُرُ أَوْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِمَا أَمَرَ الْعُلَمَاءُ أَوْ لَا تَذْهَبُ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ تُطَلِّقُ امْرَأَتَك مُمَازَحَةً أَوْ أَيُّ شَيْءٍ أَعْرِفُ الْعِلْمَ اسْتِهْزَاءً أَوْ اعْتَقَدَ بِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْعِلْمِ أَوْ قَالَ مَاذَا يَصْلُحُ لِي مَجْلِسُ الْعِلْمِ أَوْ أَلْقَى الْفَتْوَى عَلَى الْأَرْضِ أَوْ قَالَتْ لَعْنَةُ اللَّهِ أَوْ اللَّعْنَةُ عَلَى الزَّوْجِ الْعَالِمِ أَوْ قَالَ لِعَالِمٍ عُوَيْلِمٌ اسْتِخْفَافًا كُلُّهُ كَفَرَ قَالَ لِفَقِيهٍ يَذْكُرُ عِلْمًا هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ أَوْ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْلُحُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ الدِّرْهَمُ؛ لِأَنَّ الْعِزَّةَ وَالْحُرْمَةَ الْيَوْمَ لِلدِّرْهَمِ لَا الْعِلْمِ قَالَ لِعَابِدٍ مَهْلًا أَوْ اجْلِسْ حَتَّى لَا تُجَاوِزَ الْجَنَّةَ كَفَرَ (وَالرِّضَا بِكُفْرِ نَفْسِهِ كُفْرٌ مُطْلَقًا) اسْتِحْسَانًا أَوَّلًا (وَبِكُفْرِ غَيْرِهِ اسْتِحْسَانًا لَهُ) أَيْ الْكُفْرِ لِإِرَادَةِ اشْتِدَادِ عَذَابِهِ لِكَوْنِهِ شِرِّيرًا مُؤْذِيًا حَتَّى يَنْتَقِمَ اللَّهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88]- كُفْرٌ (بِالِاتِّفَاقِ) ؛ لِأَنَّ اسْتِحْسَانَ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ تَكْذِيبٌ لِلشَّرْعِ قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَعَلَى هَذَا إذَا دَعَا عَلَى ظَالِمٍ أَمَاتَك اللَّهُ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ سَلَبَ اللَّهُ إيمَانَك أَوْ دَعَا عَلَيْهِ بِالْفَارِسِيِّ " خداي تَعَالَى جان توبكافري ستاند " لَيْسَ بِكُفْرٍ ثُمَّ مَا فِيهَا مِنْ الرِّضَا بِكُفْرِ الْغَيْرِ مُخْتَلَفٌ وَفِي النِّصَابِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْكُفْرِ وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَسْأَلَةٌ عَلَى عَدَمِ كُفْرِهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ (وَ) الرِّضَا بِكُفْرِ غَيْرِهِ كُفْرٌ (مُطْلَقًا) اسْتِحْسَانًا أَوَّلًا (عِنْدَ الْبَعْضِ) وَفِيهَا أَيْضًا وَقَدْ عَثَرْنَا عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرِّضَا بِكُفْرِ الْغَيْرِ كُفْرٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ انْتَهَى لَا يَخْفَى فِي جَرَيَانِ قَاعِدَةِ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ أَوْ تَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ إنْ كَانَ كَلَامُ الْإِمَامِ مُطْلَقًا أَوْ مُجْمَلًا فَالظَّاهِرُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَقَطْ وَمَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُخْتَارُ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ أَقْوَى رِوَايَةً وَالثَّانِي دِرَايَةً فَلَمْ نَعْثِرْ عَلَيْهِ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ يُحْمَلُ كَلَامُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ عَلَى هَذَا وَنُقِلَ عَنْ جَامِعِ الْفَتَاوَى، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَكَذَا عَنْ مُنْيَةِ الْمُفْتِي (وَالتَّكَلُّمِ بِمَا يُوجِبُهُ) أَيْ الْكُفْرَ (طَائِعًا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ اللِّسَانِ) ، وَأَمَّا إذَا سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى كَلِمَةِ كُفْرٍ خَطَأً عِنْدَ إرَادَةِ كَلِمَةٍ مُبَاحَةٍ فَلَا يَكْفُرُ عِنْدَ الْكُلِّ بِخِلَافِ الْهَازِلِ لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الشِّفَاءِ لِلْعِيَاضِ الْخَطَأُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ لَيْسَ بِمَعْفُوٍّ فِي الْبَزَّازِيَّةِ عَدَمُ الْكُفْرِ دِيَانَةً وَفِي الْقَضَاءِ لَا يُصَدَّقُ (عَالِمًا بِأَنَّهُ كُفْرٌ كُفْرٌ) خَبَرٌ وَالتَّكَلُّمُ (بِالِاتِّفَاقِ) يَشْكُلُ بِمَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة

عَنْ الْخَانِيَّةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ الْكُفْرُ كُفْرًا حَتَّى يَعْتَقِدَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالِاعْتِقَادِ (وَ) أَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا يُوجِبُهُ حَالَ كَوْنِهِ (جَاهِلًا بِهِ) أَنَّهُ كَفَرَ فَهُوَ كُفْرٌ (عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ) قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَمَنْ أَتَى بِلَفْظَةِ الْكُفْرِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ أَنَّهَا لَفْظَةُ الْكُفْرِ، وَلَكِنْ أَتَى بِهَا عَنْ اخْتِيَارٍ فَقَدْ كَفَرَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَيَدْخُلُ فِيهِ نَحْوِ مَا فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ خدايم بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَيُرِيدُ بِهِ مِنْ خودائم. بِالْهَمْزَةِ يَكْفُرُ فِي التَّتَارْخَانِيَّة أَيْضًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْجَاهِلُ إذَا تَكَلَّمَ بِكُفْرٍ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ كُفْرٌ لَا يُكَفَّرُ وَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ الْجَاهِلُ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهَا كُفْرٌ قَالَ بَعْضُهُمْ يَكْفُرُ وَقِيلَ لَا وَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ، وَأَمَّا إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ أَشْيَاءُ تُوجِبُ الْكُفْرَ لَكِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِهَا، فَذَلِكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ (وَكَذَا الْفِعْلُ) كَالتَّكَلُّمِ فِيمَا إذَا فَعَلَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ عَمْدًا عَالِمًا بِكُفْرِهِ فَكَافِرٌ، وَإِنْ جَاهِلًا بِكُفْرِهِ فَكُفْرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ دُونَ الْبَعْضِ، وَذَا كَشَدِّ الزُّنَّارِ عَلَى وَسَطِهِ وَوَضْعِ الْعَسَلِيِّ عَلَى كَتِفِهِ عَنْ الْخَانِيَّةِ سَوَاءٌ بِاعْتِقَادٍ أَوْ لَا كَسُخْرِيَةٍ وَوَضْعِ قَلَنْسُوَةِ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا وَقِيلَ إنْ لِضَرُورَةٍ كَدَفْعِ الْبَرْدِ لَا وَإِلَّا فَنَعَمْ إلَّا لِخَدِيعَةِ الْحَرْبِ وَلِلتِّجَارَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكْفُرُ (وَلَوْ هَزْلًا وَمُزَاحًا) بِضَمِّ الْمِيمِ لَعِبًا (بِلَا اعْتِقَادِ مَدْلُولِهِ) كَمَا سَمِعْت آنِفًا (بَلْ مَعَ اعْتِقَادِ خِلَافِهِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ دِيَانَةً (أَيْضًا) كَمَا هُوَ كُفْرُ قَضَاءٍ وَعِنْدَ النَّاسِ (فَلَا يُفِيدُهُ) فِي عَدَمِ الْكُفْرِ (اعْتِقَادُ الْحَقِّ) بِقَلْبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ جُعِلَ كُفْرًا فِي الشَّرْعِ فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ فِي تَغْيِيرِهِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الْأَشْبَاهِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَيُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ لِقَوْلِهِمْ إنَّ كُفْرَ الْمُكْرَهِ غَيْرُ صَحِيحٍ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ النِّيَّةِ النِّيَّةُ فِي التَّكَلُّمِ فَمَنْ فَعَلَ مَا يَخْتَصُّ بِالْكَفَرَةِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَبِاخْتِيَارٍ، وَلَوْ بِلَا اعْتِقَادٍ بِكُفْرٍ فِي الْخُلَاصَةِ وَمَنْ أَهْدَى الْبَيْضَةَ إلَى الْمَجُوسِ يَوْمَ النَّيْرُوزِ كَفَرَ وَمَنْ اشْتَرَى يَوْمَ النَّيْرُوزِ شَيْئًا تَعْظِيمًا لِلنَّيْرُوزِ.

كَفَرَ قِيلَ عَنْ الشَّارِحِ الْكُرْدِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِكْفَارَ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَالْحُكْمُ بِالْكُفْرِ عِنْدَ اللَّهِ حُكْمٌ بِالْمَجْهُولِ، وَهُوَ بَاطِلٌ ثُمَّ قَالَ فَاحْفَظْ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا فِي الْفَتَاوَى مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ وَكُفْرَانِ النِّعْمَةِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا بِجُحُودِ مَا دَخَلَ فِيهِ أَوْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ انْتَهَى. وَأُجِيبَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْكُفْرَ قَدْ يَكُونُ بِمَا جُعِلَ أَمَارَةً لِلتَّكْذِيبِ وَدَلِيلًا كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ بِالْقَاذُورَاتِ وَأَيَّدَ بِمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْعَلَامَةِ مُقَرَّرٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ أَقُولُ الْكُلُّ مَنْظُورٌ فِيهِ إذْ الْحَقُّ وَاحِدٌ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ فَيَلْزَمُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِلَا احْتِمَالِ خَطَأٍ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِجَهَالَةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى جَارٍ فِي جَمِيعِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَلَوْ أُرِيدَ أَنَّ سَائِرَ الِاعْتِقَادِيَّاتِ لَهَا أَدِلَّةٌ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ بِخُصُوصِهَا دَلِيلٌ فَتَحَكُّمٌ وَأَنَّ نِسْبَةَ نَحْوِ التَّهْدِيدِ إلَى الْفَتَاوَى كَالْمَقَامِ الْخَطَّابِيِّ فِرْيَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ مَعَ بَسْطِهِمْ الْأَدِلَّةِ وَتَقْرِيرِهِمْ الْوُجُوهَ الْمُعَيَّنَةَ لِعَيْنِ مُدَّعِي هَذَا الْبَابِ، وَأَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ ذُهُولًا عَمَّا قَرَّرَهُ فِي آخَرِ كَلَامِهِ مِنْ الطَّحَاوِيِّ أَوْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ حَاكِمَ الْكُفْرِ إنَّمَا يَحْكُمُ بِنَحْوِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطْلَقِ وَلَيْسَ بِمَطْلُوبٍ وَالْمَطْلُوبُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَيْسَ بِدَالٍّ وَلَوْ أَشْكَلَ بِأَنَّ التَّصْدِيقَ الْيَقِينِيَّ الْقَلْبِيَّ مَا دَامَ ثَابِتًا فِي الْقَلْبِ كَيْفَ يَزُولُ بِالْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِ زَوَالَ الْأَصْلِ الذَّاتِيِّ بِالْعَوَارِضِ الْجُزْئِيَّةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَإِذَا تَعَارَضَ الْوَجْهُ الذَّاتِيُّ مَعَ الْوَجْهِ الْعَرْضِيِّ يُقَدَّمُ الذَّاتِيُّ وَأَنَّ صَرِيحَ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ عَلَى كَوْنِهِ كَافِرًا عِنْدَ اللَّهِ مَعَ ثُبُوتِ التَّصْدِيقِ الْإِيمَانِيِّ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِثَابِتٍ لِصُعُوبَةِ دَفْعِهِ كَمَا لَا يَخْفَى فَافْهَمْ (وَسَبَبُهُ) أَيْ سَبَبُ الْكُفْرِ الْحُكْمِيِّ (قَصْدُ إظْهَارِ الظَّرَافَةِ) أَيْ الْكَيَاسَةِ وَالْبَرَاعَةِ فِي الْكَلَامِ (وَالْبَلَاغَةِ) الْفَصَاحَةِ كَقَوْلِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَحْبُوبِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَقَوْلُهُ لِمَنْ اسْمُهُ يَحْيَى يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ (وَإِتْيَانُ الْأَمْرِ الْغَرِيبِ) لِيَتَعَجَّبَ مِنْهُ النَّاسُ (وَتَطْيِيبُ الْمَجْلِسِ) أَيْ عَلَى اعْتِقَادِهِ لِانْشِرَاحِ الصُّدُورِ وَالِامْتِلَاءِ بِالسُّرُورِ لِلسُّفَهَاءِ مِنْ بَأْسِ الْغُرُورِ (وَإِضْحَاكُ الْحَاضِرِينَ بِالْهَزْلِ) الْمُزَاحِ (وَالْهَزْءُ) السُّخْرِيَةِ (وَالْمُزَاحِ) لِيَتَقَرَّبَ بِذَلِكَ إلَى مَحَبَّةِ الْمَغْرُورِينَ مِنْ عَبَدَةِ الدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] كَمَا حُكِيَ أَنَّ تَيْمُورَ بْنَ نَجْمِ الدِّينِ انْقَبَضَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ رَجُلٌ لِإِضْحَاكِ الْأَمِيرِ إنَّهُ دَخَلَ عَلَى فُلَانِ الْقَاضِي وَاحِدٌ فَقَالَ فُلَانٌ أَكَلَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَقَالَ الْقَاضِي لَيْتَ آخَرَ يَأْكُلُ الصَّلَاةَ لِيُتَخَلَّصَ مِنْهُمَا فَقَالَ الْأَمِيرُ أَمَّا وَجَدْت مُضْحِكًا آخَرَ سِوَى الدِّينِ فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ (أَوْ) سَبَبُهُ (شِدَّةُ الْغَضَبِ وَالضَّجَرِ) أَيْ الْقَلَقِ وَالْجَزَعِ عَلَى فَوَاتِ حَظِّهِ بِالْحِقْدِ عَلَى الْغَيْرِ الْمَحْظُوظِ فَيُحَاكِيهِ وَيَسْخَرُ مِنْهُ وَيُضْحِكُ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ وَغَيْرَ عَدُوِّهِ (وَبِالْجُمْلَةِ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ سَبَبَ الْكُفْرِ الْحُكْمِيِّ (الْخِفَّةُ) فِي الْعَقْلِ (وَالشَّرَهُ) أَيْ الْحِرْصُ (عَلَى الْكَلَامِ) فَيَتَكَلَّمُ بِتِلْكَ الْفَضَائِحِ وَالْقَبَائِحِ فَيَحْرِقُ نَفْسَهُ لِرِضَا الْغَيْرِ (وَالْمُحَاكَاةُ) مِنْ حِكَايَةِ كُفْرِيَّاتِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْقَبُولِ وَالرِّضَا وَالِاسْتِحْسَانِ (وَعَدَمُ حِفْظِ اللِّسَانِ) عَنْ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ (وَ) عَدَمُ حِفْظِ سَائِرِ (الْأَعْضَاءِ) مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُوجِبُ الْكُفْرَ

(وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ) أَيْ عَدَمُ الِاعْتِنَاءِ فِيهَا كَالِاسْتِهَانَةِ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَوْ صَغِيرَةً عَنْ الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً فَقَالَ آخَرُ تُبْ فَقَالَ مَا فَعَلْت أَنَا حَتَّى أَحْتَاجَ إلَى التَّوْبَةِ وَفِي الْمُحِيطِ أَوْ قَالَ حَتَّى أَتُوبَ كَفَرَ وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا مُسْلِمَةٌ صَغِيرَةٌ إذَا بَلَغَتْ عَاقِلَةً، وَهِيَ لَا تَعْرِفُ الْإِسْلَامَ وَلَا تَصِفُهُ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا جَاهِلَةٌ لَيْسَ لَهَا مِلَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهِيَ شَرْطُ النِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَمُحَمَّدٌ سَمَّاهَا مُرْتَدَّةً؛ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ بِالتَّبَعِيَّةِ وَالْآنَ تَكْفُرُ بِفَقْدِ التَّبَعِيَّةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَجْرِي فِي حَقِّ الْجَمِيعِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى زَوْجًا وَمُجَرَّدًا فَيَلْزَمُ عَلَى مَنْ كَانَ حَالُهُ كَذَا حِينَ الْبُلُوغِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ وِجْدَانًا لَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعْبِيرِهِ لِسَانًا سِيَّمَا بِالِاصْطِلَاحِ الْمُتَعَارَفِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَعَنْ جَوَاهِرِ الْفِقْهِ مَنْ قَالَ قَتْلُ فُلَانٍ حَلَالٌ أَوْ مُبَاحٌ بِلَا شَيْءٍ يُوجِبُ قَتْلَهُ وَقَالَ آخَرُ: صَدَقَتْ كَفَرَ كَمَنْ يَكْفُرُ بِقَوْلِهِ أَحْسَنْت لِمَنْ يَأْمُرُ بِقَتْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ لِمَنْ قَتَلَ سَارِقًا أَحْيَانَا سِرًّا وَنَحْوَهُ فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ وَمَنْ قَالَ قَتْلُ فُلَانٍ وَاجِبٌ أَوْ فُلَانٌ مُسْتَحِقُّ الْقَتْلِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ مَا يَلْزَمُهُ الْقَتْلُ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ وَالنَّاسُ عَنْهُ غَافِلُونَ وَكَذَا لَوْ ضَرَبَ ظَالِمٌ مِنْ الظَّالِمِينَ شَخْصًا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ قَدْ أَحْسَنْت أَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلضَّرْبِ أَوْ الْقَتْلِ يَكْفُرُ لِمَا قُلْنَا انْتَهَى. قَالَ لِمَنْ لَبِسَ حَرِيرًا بَارَكَ اللَّهُ فِي هَذَا يَكْفُرُ عِنْدَ بَعْضٍ وَعَنْ جَوَاهِرِ الْفِقْهِ قَالَ لَبَّيْكَ لِمَنْ قَالَ يَا كَافِرُ أَوْ يَا مَجُوسِيُّ يَكْفُرُ وَعَنْ الْخُلَاصَةِ إنْ كُنْت كَذَلِكَ فَفَارِقْنِي أَوْ قَالَ أَنَا كَذَلِكَ أَوْ إذَا أَنَا هَكَذَا فَلَا تُقِمْ مَعِي أَوْ عِنْدِي فِي الْخُلَاصَةِ الْأَظْهَرُ يَكْفُرُ قَالَ لِرَمَضَانَ جَاءَ الشَّهْرُ الثَّقِيلُ أَوْ الطَّوِيلُ أَوْ الضَّعِيفُ كَفَرَ وَفِي قَاضِي خَانْ مَنْ قِيلَ لَهُ أَلَا تَخَافُ اللَّهَ أَوْ أَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَا كَفَرَ وَفِي جَوَاهِرِ الْفِقْهِ قَالَ لِخَصْمِهِ لَا أَسْتَحْلِفُك بِاَللَّهِ وَأَسْتَحْلِفُك بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ قَالَ حَلِفُك وَضَرْطُ الْحِمَارِ سَوَاءٌ أَوْ وَاحِدٌ أَوْ قَالَ يَظْلِمُك اللَّهُ كَمَا ظَلَمْتنِي أَوْ قَالَ أَحْسَنُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّي كُلَّ الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ مِنِّي يَكْفُرُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُحِيطِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْت كَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ أَوْ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُ هَكَذَا، وَهُوَ يَكْذِبُ أَوْ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّك أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ كَفَرَ قَالَ حِينَ أُصِيبُ بِمَصَائِبَ مُخْتَلِفَةٍ يَا رَبُّ أَخَذْت مَالِيَّ وَكَذَا وَكَذَا فَمَاذَا تَفْعَلُ أَيْضًا لِي أَوْ مَاذَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ قِيلَ يَكْفُرُ وَنُقِلَ عَنْ فَوْزِ النَّجَاةِ قَالَ لَوْ قَوَّانِي اللَّهُ تَعَالَى لِأَنْتَصِفَ مِنْك كَفَرَ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي عَدْلِ اللَّهِ وَعَنْ الظَّهِيرِيَّةِ سُلْطَانٌ عَطَسَ فَقَالَ رَجُلٌ

يَرْحَمُك اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ آخَرُ لَا يُقَالُ لِلسُّلْطَانِ هَكَذَا يَكْفُرُ وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ تَهَاوُنًا كَفَرَ وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ قَالَ مُعْتَذِرًا كُنْت كَافِرًا فَأَسْلَمْت قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا وَمَنْ قِيلَ لَهُ أَتَعْمَلُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ بِلَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ بِهَذَا الْأَمْرِ لَا أَفْعَلُهُ كَفَرَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة لَوْ قَالَ لِحَرَامٍ هَذَا حَلَالٌ بِلَا اعْتِقَادٍ لَا يَكْفُرُ وَفِيهَا رَجُلٌ يَبِيعُ فِي السُّوقِ وَيَقُولُ إنَّهُ حَلَالٌ، وَهُوَ كَاذِبٌ لِتَرْوِيجِ مَا بَاعَهُ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: إذَا اعْتَقَدَهُ حَلَالًا، وَهُوَ حَرَامٌ إنْ حَرَامًا لِغَيْرِهِ كَمَالِ الْغَيْرِ لَا يَكْفُرُ بِاعْتِقَادِ الْحِلِّ، وَإِنْ لِعَيْنِهِ فَإِنْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يَكْفُرُ، وَإِنْ بِالْآحَادِ لَا وَعَنْ تَاجِ الدِّينِ الْكَبِيرِ هَذَا التَّفْصِيلُ لِلْعَالِمِ أَمَّا فِي حَقِّ الْجَاهِلِ فَإِنْ ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ كَفَرَ مُطْلَقًا لَعَلَّ هَذَا مَرْجِعُ مَا فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ اعْتِقَادُ الْحَلَالِ الثَّابِتِ بِقَطْعِيٍّ حُرْمَتِهِ وَاعْتِقَادُ الْحَرَامِ الثَّابِتِ بِقَطْعِيٍّ حِلِّهِ كُفْرٌ عِنْدَ بَعْضٍ وَعِنْدَ آخَرَ فِي الْحَرَامِ لِغَيْرِهِ لَا وَاسْتِحْلَالُ الْمَعْصِيَةِ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ بِقَطْعِيٍّ يَكْفُرُ كَاسْتِهَانَتِهَا وَتَخْفِيفِهَا وَمَنْ اسْتَخَفَّ بِالْمَسْجِدِ أَوْ بِنَحْوِهِ مِمَّا يَعْظُمُ فِي الشَّرْعِ كَفَرَ وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ عَمْدًا أَوْ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ تَرَكَ صَلَاةً تَهَاوُنًا كَفَرَ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا كَافِرَةُ فَقَالَتْ: لَا بَلْ أَنْتَ أَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا يَا كَافِرُ فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتَ لَمْ تَقَعْ فُرْقَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ وَيَنْبَغِي وُقُوعُ الْفُرْقَةِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ قَالَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ وَلَمْ يَقُلْ الْمُخَاطَبُ شَيْئًا أَوْ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا وَكَذَا لِزَوْجِهَا قَالَ الْأَعْمَشِ يَكْفُرُ وَكَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَئِمَّةِ بُخَارَى وَالْمُخْتَارُ فِي مِثْلِهِ إنْ عَلَى طَرِيقِ الشَّتْمِ بِلَا اعْتِقَادِ كُفْرِهِ لَا يَكْفُرُ وَقِيلَ إنْ قَالَ فِي حَالِ غَضَبِهِ لَا يَكْفُرُ وَإِذَا قَالَ لِدَابَّتِهِ يَا مَالَ الْكَافِرِ لَا يَكْفُرُ وَقِيلَ إنْ نَتَجَتْ عِنْدَهُ يَكْفُرُ قَالَ لِغَيْرِهِ يَا كَافِرُ إنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْكُفْرِ كَكَوْنِهِ عَرِيفًا أَوْ عَشَّارًا أَوْ عَوَانًا فَلَا يَكْفُرُ وَكَذَا لَوْ شَكَّ فِي إيمَانِهِ، وَإِنْ فَاسِقًا مُعْلِنًا مِصْرًا جَاهِلًا فِي عُلُومِ الدِّينِ فَيَكْفُرُ، وَأَمَّا فِي شَكِّ إيمَانِهِ فَلَا يَكْفُرُ وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تُوجِبُ سَلْبَ الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ نِسْيَانُ التَّوْبَةِ وَتَحْقِيرُ الذَّنْبِ وَعَدَمُ رُؤْيَةِ الْعُقُوبَةِ يُوجِبُ سَلْبَ الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَرَ الْمَعَاصِيَ قَبِيحًا وَلَمْ يَرَ الطَّاعَةَ حَسَنًا أَوْ لَمْ يَرَ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَةِ أَوْ لَمْ يَرَ وُجُوبَ الطَّاعَاتِ يَكْفُرُ وَمَنْ يَتَوَهَّمُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِدَلِيلِ أَفْعَالِهِ يَجُوزُ الشَّكُّ فِي إيمَانِهِ وَمَنْ تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ مِثْلَ هَذِهِ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَلَوْ تَمَنَّى حِلَّ مَا يُدْرِكُ حُرْمَتَهُ الْعَقْلُ كَالزِّنَا وَاللُّوَاطَةِ وَالظُّلْمِ وَقَتْلِ النَّفْسِ ظُلْمًا يَكْفُرُ وَلَوْ تَمَنَّى حِلَّ مَا لَا تُدْرَكُ حُرْمَتُهُ بِالْعَقْلِ كَالْخَمْرِ وَالْمُنَاكَحَةِ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ لَا يَكْفُرُ قَالَ أَنَا إبْلِيسُ أَوْ فِرْعَوْنُ لَا يَكْفُرُ إلَّا إذَا قَالَ اعْتِقَادِي كَاعْتِقَادِهِمَا رَجُلٌ رَوَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ رَأَوْهُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْبَصْرَةِ وَبِمَكَّةَ قَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ يَكْفُرُ وَكَذَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَكَذَا مَشَايِخُ الْعِرَاقِ قَالُوا بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مِنْ الْكَرَامَةِ بَلْ مِنْ الْمُعْجِزَةِ وَقَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ بِجَوَازِهَا فِي حَقِّ الْوَلِيِّ وَيُؤَيِّدُهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ بَيْنَ الْمَشْرِقِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَكَذَا مَشَايِخُ خُرَاسَانَ جَوَّزُوهَا فِي الْكَرَامَةِ وَسُئِلَ عُمَرُ النَّسَفِيُّ أَنَّ الْكَعْبَةَ تَدُورُ حَوْلَ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ أَجَابَ نَقْضُ الْعَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَامَةِ جَائِزٌ وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْأَلَ الْعَامِّيُّ عَنْ التَّوْحِيدِ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ أَلَيْسَ الدِّينُ هَكَذَا وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ أَنْ لَا يَغْشَاهَا حَتَّى يَسْأَلَهَا عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِنْ وَصَفَتْ أَوْ وَصَفَ هُوَ فَعَلِمَتْ وَإِلَّا بَانَتْ وَالسَّبِيلُ أَنْ يَصِفَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَقُولُ هَلْ أَنْتِ عَلَى هَذَا ثُمَّ تَفَاصِيلُ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ وَأَفْعَالِ الِارْتِدَادِ مَذْكُورَةٌ فِي الْفَتَاوَى لَكِنَّ لَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْكُفْرِ فِي كُلِّ ذَلِكَ مُطْلَقًا مَا لَمْ يُعَايِنْ إرَادَةَ جِهَةِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ مَا دَامَ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ غَيْرُ الْكُفْرِ وَلَوْ احْتِمَالًا ضَعِيفًا لِجَوَازِ إرَادَةِ ذَلِكَ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ احْتِمَالًا لِلْكُفْرِ وَاحْتِمَالٌ وَاحِدٌ لِغَيْرِ الْكُفْرِ فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إلَى عَدَمِ الْكُفْرِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَأَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ فَتْوَى الْمُفْتِي عِنْدَ نِيَّةِ الْوَجْهِ الَّذِي يُوجِبُ إلَى هُنَا مِنْ التَّتَارْخَانِيَّة إلَّا قَلِيلًا (وَعِلَاجُهُ) أَيْ عِلَاجُ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ قَوْلًا وَفِعْلًا (أَنْ يَعْرِفَ أَوَّلًا آفَاتِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ) أَيْ مَفَاسِدَهُ

(مِنْ حَبْطِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا) حَتَّى لَمْ يَعُدْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَيَصِيرُ مُتَسَاوِيًا مَعَ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدُ فِي عَدَمِ الثَّوَابِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ثَانِيًا إنْ غَنِيًّا، وَلَا يَجِبُ قَضَاءُ مَا صَلَّى وَصَامَ، وَزَكَّى لِلْحَرَجِ وَعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَيَجِبُ قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَذْهَبُ بِالْكُفْرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى قَاتِلِهِ فَوْرًا قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ عَرْضَهُ كَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (وَذَهَابِ النِّكَاحِ) وَالْمَوْلُودُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلَدُ زِنًا (وَحِلِّ دَمِهِ) حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ أَوْ أَتْلَفَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ نُقِلَ عَنْ الْخَانِيَّةِ (وَحُرْمَةِ ذَبِيحَتِهِ) وَالْإِجْبَارُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَهِيَ الرُّجُوعُ عَمَّا قَالَ بِعَيْنِهِ فَلَا يُفِيدُهُ إتْيَانُ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ وَالْجُحُودُ تَوْبَةٌ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الْعَرْضِ يَجِبُ قَتْلُهُ (وَالْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ) الْمُؤَبَّدِ (فِي النَّارِ لَوْ مَاتَ بِدُونِ التَّوْبَةِ) عِلَاجُهُ أَنْ يَعْرِفَ (ثَانِيًا آفَاتِ اللِّسَانِ مِمَّا سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ مُلَازَمَةُ الصَّمْتِ وَالسُّكُوتِ) هُمَا تَرْكُ الْكَلَامِ، وَقِيلَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الصَّمْتَ مَا كَانَ عَنْ عَمْدٍ وَالسُّكُوتُ يَعُمُّهُ وَغَيْرُهُ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ أَوْ لِيَسْكُتْ» فَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ السُّكُوتُ (وَحِفْظُ اللِّسَانِ وَالْأَعْضَاءِ) عَنْ الْحَرَكَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ قَوَانِينِ الِانْتِظَامِ (وَالْجَدُّ وَتَرْكُ الْهَزْلِ وَالْهَزْءِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَبَعْدَ الزَّايِ فِي الثَّانِي هَمْزَةٌ أَوْ وَاوٌ (وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ) الْمُؤَدِّيَةِ إلَى سَخَافَةِ الْعَقْلِ وَقِلَّةِ الْمُرُوءَةِ وَعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ. (وَ) بَعْدَ ذَلِكَ (الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ) شِدَّةُ الطَّلَبِ لِغَايَةِ خَطَرِ الْأَمْرِ وَقُوَّةِ خَوْفِهِ وَصُعُوبَةِ تَخَلُّصِهِ (لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَهُ مِنْ الْكُفْرِ) بِأَنْوَاعِهِ كُلِّهَا (خُصُوصًا الدُّعَاءُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) كَمَا (خَرَّجَهُ حَدّ طب) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالطَّبَرَانِيُّ (فَقَالَ) أَبُو مُوسَى «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ» قِيلَ أَيْ الْخَفِيَّ وَقِيلَ مُطْلَقًا «فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» أَيْ حَرَكَتِهَا فَيَسْرِي لِلْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ «فَقَالَ لَهُ» - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ» مِنْ الْأَصْحَابِ وَقَوْلُهُ «وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ، وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ» مَقُولُ الْقَوْلِ (قَالَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

فِي جَوَابِهِ «قُولُوا اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك أَنْ نُشْرِكَ بِك شَيْئًا» مِنْ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ «نَعْلَمُهُ» كَالشِّرْكِ الْجَلِيِّ «وَنَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا نَعْلَمُهُ» كَالشِّرْكِ الْخَفِيِّ فِي أَكْثَرِ الْفَتَاوَى «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ أَنْ أُشْرِكَ بِك شَيْئًا وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ إنَّك أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» يَقُولُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَسَاءِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الدُّعَاءَيْنِ كَمَا فِي وَصَايَاهُ التُّرْكِيَّةِ. (وَخَرَّجَهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ (يَعْلَى) أَبُو يَعْلَى (مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَزَادَ يَقُولُ «كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» وَغَائِلَةُ الْكُفْرِ) أَيْ مَفْسَدَتُهُ (الْعُظْمَى حِرْمَانُ دُخُولِ الْجِنَانِ وَالْعَذَابُ الْمُؤَبَّدُ فِي النِّيرَانِ) بِالنُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَإِجْمَاعِ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ إذَا كَانَ غَايَةً فِي الْجِنَايَةِ فَجُوزِيَ بِمَا يَكُونُ غَايَةً فِي الْعُقُوبَةِ، وَهِيَ الْخُلُودُ وَالتَّأْبِيدُ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ لَوْ بَقِيَ أَبَدًا لَكَانَ عَلَى الْكُفْرِ أَبَدًا فَجَزَاءُ الْأَبَدِيِّ أَبَدِيٌّ جَزَاءً وِفَاقًا أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الظُّلْمُ وَاَللَّهُ تَعَالَى نَفَى الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى نَحْوِ مَا وَقَعَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ مِنْ أَنَّ التَّأْبِيدَ إنَّمَا هُوَ لِلْكَافِرِ الْمُعَانِدِ، وَأَمَّا الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي دِينِهِ عَلَى حَسَبِ وُسْعِهِ فَلَا لِخَرْقِ الْإِجْمَاعِ وَلِكَوْنِهِ كَلَامًا فِي مُقَابَلَةِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَإِنْ أُسْنِدَ إلَى نَحْوِ الْغَزَالِيِّ (وَسَبَبُ الْإِيمَانِ) فِي مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ الْحُكْمِيِّ (النَّظَرُ) الْمُعَرَّفُ بِتَرْتِيبِ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لِلتَّأَدِّي إلَى الْمَجْهُولِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَوْ جُزْءُ الْأَوَّلِ أَوْ الْقَصْدُ إلَيْهِ كَمَا مَرَّ. (وَالتَّأَمُّلُ) بِمَعْنَى النَّظَرِ فَعَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَإِنْ فُسِّرَ بِنَحْوِ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ (فِي الْآيَاتِ) الْأَدِلَّةُ وَالتَّفْسِيرُ بِالْعَلَامَاتِ إمَّا مُؤَوَّلٌ بِالْأَدِلَّةِ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعَلَامَاتِ ظَنِّيَّةٌ كَالْأَمَارَةِ وَالْمَقَامُ بُرْهَانِيٌّ تَحْقِيقِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (الدَّالَّةِ) إذْ الْمُتَبَادِرُ مِنْ الدَّلَالَةِ الْمُطَلَّقَةِ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْعِلْمِ لَهُ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ آخَرَ (عَلَى وُجُودِ الْبَارِي) عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ أَوْ إمْكَانِهِ أَوْ بِهِمَا عَلَى وُجُودِ مُحْدِثِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]- وَغَيْرُ ذَلِكَ (وَاتِّصَافِهِ) تَعَالَى (بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ) كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ كَمَا سَبَقَ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ (وَ) عَلَى (تَنَزُّهِهِ) تَبَرُّئِهِ وَتَقَدُّسِهِ (عَنْ صِفَاتِ) سِمَاتِ (النُّقْصَانِ) كَمَا فِي جَمِيعِ الْمُنَزِّهَاتِ الْمُقَرَّرِ فِيمَا مَرَّ (وَ) التَّأَمُّلُ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ (عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ (وَ) سَبَبُ الْإِيمَانِ أَيْضًا (تَيَقُّنُ التَّأْبِيدِ) أَيْ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ الْقَطْعِيُّ عَلَى تَأَبُّدِهِ (فِي النَّارِ إنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ) بِاَللَّهِ عِيَاذًا بِهِ تَعَالَى (وَالْإِنْكَارِ) لِنُبُوَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَ) سَبَبُهُ (رَجَاءُ دُخُولِ الْجَنَّةِ دَارِ الْقَرَارِ) يَتَقَرَّرُ مَنْ دَخَلَ مُؤَبَّدًا بِلَا خُرُوجٍ (وَفَائِدَتُهُ) أَيْ الْإِيمَانِ (الْعُظْمَى

السادس اعتقاد البدعة

النَّجَاةُ مِنْ التَّأْبِيدِ الْمَذْكُورِ وَالْفَوْزُ بِالدُّخُولِ الْمَزْبُورِ) فِي فَوَائِدِ الْإِيمَانِ فِيهِ مُرَاعَاةُ تَقَدُّمِ التَّخْلِيَةِ عَلَى التَّحْلِيَةِ (رَزَقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ) النَّجَاةَ مِنْ نِيرَانِهِ وَالتَّلَذُّذَ فِي جِنَانِهِ قِيلَ أَيْ كُلُّ كَمَالٍ يَلِيقُ بِاسْتِعْدَادِنَا وَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِلتَّعْمِيمِ (إنَّهُ هُوَ الْكَرِيمُ) صَاحِبُ فَضْلٍ وَكَرْمٍ (الْغَفُورُ) يَغْفِرُ ذُنُوبَ عِبَادِهِ الْمَانِعَةِ عَنْ الْجَنَّةِ [السَّادِسُ اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ] (وَالسَّادِسُ) مِنْ الذَّمِيمَةِ السِّتِّينَ (اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ) كَمَا سَبَقَ كَاعْتِقَادِ أَهْلِ الْهَوَى (وَسَبَبُهُ اتِّبَاعُ الْهَوَى) أَيْ شَهْوَةُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ (وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْعَقْلِ) الْمُجَرَّدِ بِلَا مُرَاعَاةِ شَرْعٍ كَمَا لِلْحُكَمَاءِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَاصِرِينَ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ عَلَى الْعَقْلِ (وَالْإِعْجَابُ بِالرَّأْيِ) أَيْ تَحْسِينُ رَأْيِهِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُ وَلَا يَرْتَكِبُ إلَى آخَرَ (وَالتَّقْلِيدُ) الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ إذَا لِكُلٍّ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِغَيْرِ الْمُصِيبِ إذْ تَقْلِيدُ الْمُصِيبِ لَيْسَ بِعَيْنِ هَذِهِ الْآفَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إسَاءَةٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ إمَّا أَتْبَاعُ الْمَاتُرِيدِيِّ أَوْ الْأَشْعَرِيِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُمْ فِي إعْصَارِنَا وَلَوْ خَوَاصَّ مُقَلَّدِينَ لَهُمَا فَيَلْزَمُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ الشَّنِيعَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ كُلُّهُمْ مُسْتَدِلُّونَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَكِنَّ أَدِلَّتَهُمْ مُوَافِقَةٌ لِأَدِلَّتِهِمَا أَوْ أَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ لَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِمْ ثُمَّ بَعْدَ رُسُوخِ أَدِلَّتِهِمَا فِي خَاطِرِهِمْ وَقَبُولِهِمْ إيَّاهَا مَعَ عِرْفَانِهِمْ غَايَاتِهَا صَارُوا مُسْتَدِلِّينَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَعْرِفَةَ أَدِلَّةِ الْغَيْرِ اسْتِدْلَالٌ لَا تَقْلِيدٌ فِي هَذَا الْبَابِ ثُمَّ السَّبَبَانِ الْأَوَّلَانِ لِخَوَاصِّ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَمُجْتَهِدَيْهِمْ وَالثَّالِثُ لِمُقَلِّدِيهِمْ. [السَّابِع اتِّبَاعُ الْهَوَى] (فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى) الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ (فَهُوَ) الْخُلُقُ. (السَّابِعُ) مِنْ السِّتِّينَ (مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) الَّذِي تَبِعَتْهُ الْأَعْضَاءُ بِشَهَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا، وَهِيَ الْقَلْبُ» كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ ثُمَّ أَرَادَ إثْبَاتَ مَذْمُومِيَّةِ الْهَوَى بِالْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ اللَّذَيْنِ هُمْ أَصْلَا الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَسَاسُهَا أَمَّا الْآيَاتُ فَقَدْ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} [النساء: 135] الْمَيْلُ النَّفْسَانِيُّ وَشَهَوَاتُهَا وَمَا يُسْتَلَذُّ مِنْهَا {أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] كَرَاهَةَ أَنْ تَمِيلُوا عَنْ الْحَقِّ لِلْقَرَابَةِ وَالْمَوَدَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُدُولِ أَوْ لَأَنْ تَعْدِلُوا مِنْ الْعَدَالَةِ فَعِلَّةٌ لِلنَّهْيِ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَمَ اتِّبَاعِ الْهَوَى عِلَّةً لِوُجُودِ الْعَدْلِ كَمَا جَعَلَ اتِّبَاعَهُ سَبَبًا لِلْإِضْلَالِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] مَا تَهْوَى النَّفْسُ فِي الْحُكُومَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ {فَيُضِلَّكَ} [ص: 26] يُوقِعَك فِي الْحَيْرَةِ وَالزَّيْغِ {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَعْلَمُهُ بِالْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] أَيْ الْمَيْلِ إلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْهَوَى لِلِاخْتِيَارِ مِنْ اللَّهِ {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] مَأْوَاهُ لَيْسَ لَهُ سِوَاهَا مَأْوًى فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ اللَّهُ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ بِتَرْكِ هَوَاهَا عِلَّةً عَادِيَّةً وَسَبَبًا شَرْعِيًّا لِقَصْرِ مَقَامِهِ عَلَى الْجَنَّةِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ رَأْسَ الْعِبَادَةِ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَقَدْ سُئِلَ الْمَشَايِخُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: ذَبْحُ النَّفْسِ بِسُيُوفِ الْمُخَالَفَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ نَجَمَتْ طَوَارِقُ نَفْسِهِ أَفَلَتَ شَوَارِقُ أُنْسِهِ قَالَ ذُو النُّونِ: مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ الْفِكْرُ وَعَلَامَةُ الْإِصَابَةِ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَمُخَالَفَتُهَا تَرْكُ شَهَوَاتِهَا وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: النَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى سُوءِ الْأَدَبِ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِمُلَازَمَةِ الْأَدَبِ فَالنَّفْسُ تَجْرِي بِطَبْعِهَا فِي مَيْدَانِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعَبْدُ يَرُدُّهَا بِجَهْدِهِ عَنْ سُوءِ الْمُطَالَبَةِ فَمَنْ أَطْلَقَ عِنَانَهَا فَهُوَ شَرِيكُهَا مَعَهَا فِي فَسَادِهَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ} [الجاثية: 23] جَعَلَ {إِلَهَهُ} [الجاثية: 23] مَعْبُودَهُ {هَوَاهُ} [الجاثية: 23] بِحَيْثُ لَا يَعْبُدُ إلَّا مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ بِأَنْ أَطَاعَهُ، وَبَنَى عَلَيْهِ دِينَهُ لَا يَسْمَعُ حُجَّةً وَلَا يُبْصِرُ دَلِيلًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176] فِي إيثَارِ الدُّنْيَا وَاسْتِرْضَاءِ قَوْمِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ مُقْتَضَى الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ {فَمَثَلُهُ} [الأعراف: 176] فَصِفَتُهُ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الْخِسَّةِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ النَّظِيرُ يُقَالُ مِثْلٌ وَمَثَلٌ وَمَثِيلٌ كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَشَبِيهٍ ثُمَّ نُقِلَ لِلْقَوْلِ السَّائِرِ الْمُمَثَّلِ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ وَلَا يُضْرَبُ إلَّا مَا فِيهِ غَرَابَةٌ؛ وَلِذَلِكَ حُوفِظَ عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرِ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِكُلِّ حَالٍ أَوْ قِصَّةٍ أَوْ صِفَةٍ لَهَا شَأْنٌ، وَفِيهَا غَرَابَةٌ {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] كَصِفَتِهِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهِ أَوْ فِي عَدَمِ التَّأَثُّرِ بِالْوَعْظِ وَالْبَقَاءِ عَلَى الضَّلَالَةِ {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ} [الأعراف: 176] أَيْ تَزْجُرْهُ وَتَطْرُدْهُ {يَلْهَثْ} [الأعراف: 176] مِنْ لَهَثَ كَمَنَعَ وَاللُّهْثَةُ بِالضَّمِّ الْعَطَشُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ {أَوْ تَتْرُكْهُ} [الأعراف: 176] مِنْ غَيْرِ حِمْلٍ عَلَيْهِ وَلَا زَجْرٍ عَنْ هَذِهِ الْفَعْلَةِ {يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]

فَهُوَ يَلْهَثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ قِيلَ كُلُّ حَيَوَانٍ يَلْهَثُ مِنْ تَعَبٍ أَوْ عَطَشٍ سِوَى الْكَلْبِ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ الرَّاحَةِ وَالشِّدَّةِ وَكَذَا مُتَّبِعُ هَوَاهُ يَلْهَثُ عَلَى غَرَضِ نَفْسِهِ أَيْ يَتَعَطَّشُ إلَى الدُّنْيَا وَإِلَى الْحَظِّ الْعَاجِلِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْوَعْظِ وَالنَّصَائِحِ وَلَا إلَى غَيْرِهِمَا قِيلَ هُوَ أَحَدُ عُلَمَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَوْ بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَاءَ وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ أَحْوَالِهِ قَرِيبًا وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَهُ سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ كَيْفَ أَدْعُو عَلَى كَلِيمِ اللَّهِ وَمَعَهُ الْمَلَائِكَةُ فَأَلَحُّوا وَعَرَضُوا لَهُ شَيْئًا وَتَوَسَّلُوا بِالْغَيْرِ وَاسْتَشْفَعُوا فَمَالَ إلَى هَوَى نَفْسِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِ فَبَقِيَ مُوسَى مَعَ جُنْدِهِ فِي التِّيهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ الْمَطْرُودِ فَأَوْقَعَهُ فِي بَحْرِ الضَّلَالِ إلَى الْأَبَدِ فَسَلَبَ عَنْهُ مَعْرِفَتُهُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي نَفْيِ صَانِعِ الْعَالَمِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ سَخَطِهِ وَقَالَ فِي الْمِنْهَاجِ: فَانْظُرْ شُؤْمَ حُبِّ الدُّنْيَا مَا يَفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ خَاصَّةً فَتَنَبَّهْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ خَطِيرٌ وَالْعُمُرُ قَصِيرٌ، وَفِي الْعَمَلِ تَقْصِيرٌ وَالنَّاقِدُ بَصِيرٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28] غَرَضَ نَفْسِهِ مِنْ شَهْوَتِهِ الْعَاجِلَةِ {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] ضَيَاعًا وَهَلَاكًا لِإِهْمَالِهِ نَفْسَهُ فِي كُلِّ مَا تَمَنَّاهُ وَلِإِرْسَالِهِ فِي كُلِّ مُيُولَاتِهِ وَإِفْنَاءِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي أُعْطِيت لَهُ لِاكْتِسَابِ الْبَاقِيَاتِ فَتَبَعِيَّةُ الْهَوَى أَفَضْت إلَى الضَّيَاعِ وَالْهَلَاكِ قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النَّفْسُ هِيَ الدَّاعِيَةُ إلَى الْمَهَالِكِ الْمُعِينَةُ لِلْأَعْدَاءِ الْمُتَّبِعَةُ لِلْهَوَى الْمُتَّهَمَةُ بِأَصْنَافِ الْأَسْوَاءِ، وَفِي الْقُشَيْرِيِّ كَيْفَ يَصِحُّ لِلْعَاقِلِ الرِّضَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْكَرِيمُ بْنُ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ يَقُولُ - {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]- {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الروم: 29] بِالْكُفْرِ أَوْ الْفِسْقِ {أَهْوَاءَهُمْ} [الروم: 29] مُقْتَضَيَاتِ نُفُوسِهِمْ فِي حُظُوظِهِمْ الْعَاجِلَةِ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم: 29] مَعَ جَهْلٍ {وَمَنْ أَضَلُّ} [القصص: 50] أَكْثَرُ ضَلَالًا {مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} [القصص: 50] وَلَا مُسَاوِيَ لَهُ فِي الضَّلَالَةِ فَضْلًا عَنْ السَّبْقَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الطَّمَسْتَانِيِّ النِّعْمَةُ الْعُظْمَى الْخُرُوجُ عَنْ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَعْظَمُ حِجَابًا بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ سَهْلٍ مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِثْلَ مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ شَيْبَانَ أَنَّهُ قَالَ مَا بِتُّ تَحْتَ سَقْفٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَكُنْت أَشْتَهِي عَدْسًا وَلَمْ يُتَّفَقْ لِي فَوَقْتًا حُمِلَ إلَيَّ عَدَسٌ فَتَنَاوَلْت فَخَرَجْت فَرَأَيْت قَوَارِيرَ فَظَنَنْته خَلًّا فَقِيلَ خَمْرٌ وَهَذِهِ الدِّنَانُ أَيْضًا خَمْرٌ فَأَصَبْت وَالْحِمَارُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ فِعْلِي بِأَمْرِ السُّلْطَانِ فَعِنْدَ مَعْرِفَتِهِ حَالِي حَمَلَنِي إلَى ابْنِ طُولُونَ فَضَرَبَنِي مِائَتَيْ خَشَبَةٍ وَطَرَحَنِي فِي السِّجْنِ فَبَعْدَ مُدَّةٍ شَفَعَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيَّ قَالَ إيشْ فَعَلْت بِشِبْعَةِ عَدْسٍ وَمِائَتَيْ خَشَبَةٍ فَقَالَ نَجَوْت مَجَّانًا وَعَنْ السَّرِيِّ إنَّ نَفْسِي تُطَالِبُنِي ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ أَنْ أَغْمِسَ جَزَرَةً فِي دِبْسٍ فَمَا أَطْعَمْتهَا وَقِيلَ وَجَّهَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ الْبَلْخِيّ شَيْئًا إلَى حَاتِمٍ الْأَصَمِّ فَقِبَلَهُ فَقِيلَ لَهُ لِمَ قَبِلْته قَالَ وَجَدْت فِي أَخْذِهِ ذُلِّي وَعِزَّهُ وَفِي رَدِّهِ عِزِّي وَذُلَّهُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ (وَخَرَّجَ ز) الْبَزَّارُ (عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ) هُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ وَثَلَاثٌ

كَفَّارَاتٌ وَثَلَاثٌ دَرَجَاتٌ (أَمَّا الْمُهْلِكَاتُ فَشُحٌّ) » بُخْلٌ «مُطَاعٌ» يُطِيعُهُ النَّاسُ أَوْ هُوَ يُطِيعُ بُخْلَهُ «وَهَوًى مُتَّبَعٌ» يَتْبَعُ كُلُّ أَحَدٍ لِمَا أَمَرَهُ هَوَاهُ أَوْ هُوَ نَفْسُهُ يَتْبَعُ فِي كُلِّ مَا يَهْوَاهُ «وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» يَجِدُ نَفْسَهُ حَسَنًا بِمَعْنَى رُؤْيَةِ نَفْسِهِ كَامِلًا مَعَ نِسْيَانِ عُيُوبِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمِنْ آفَاتِ الْعُجْبِ أَنَّهُ يَحْجُبَ عَنْ التَّوْفِيقِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا شَيْءَ أَسْرَعُ مِنْهُ إلَى الْهَلَاكِ قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ كَمْ مِنْ سِرَاجٍ قَدْ أَطْفَأَتْهُ الرِّيحُ وَكَمْ مِنْ عَابِدٍ أَفْسَدَهُ الْعُجْبُ، وَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ فَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْكَفَّارَاتُ فَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ فِي شَدَائِدِ الْبَرْدِ وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ، وَأَمَّا الدَّرَجَاتُ فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ بَيْنَ النَّاسِ مَنْ عَرَفْته أَوْ لَمْ تَعْرِفْهُ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ حَالَ غَفْلَةِ النَّاسِ وَاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي لَذَّةِ النَّوْمِ وَذَلِكَ وَقْتَ الصَّفَاءِ وَتَنَزُّلَاتِ غَيْثِ الرَّحْمَةِ وَإِشْرَاقِ الْأَنْوَارِ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَرْمُوزٌ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ رِوَايَةً عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَتَرْتِيبُ الْبَزَّارِ عَلَى رِوَايَةِ الْمُغَايَرَةِ لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَلَائِيِّ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَعَدَّهُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ الْمَنَاكِيرِ قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا وَمَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ لَمْ تَسْلَمْ أَفْرَادُ الْأَسَانِيدِ عَنْ الْمَقَالِ لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا حَسَنٌ. (أَقُولُ) وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى اخْتَصَمُوا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَنْكَشِفْ لَهُمْ فَعَرَضُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى اصْبِرُوا حَتَّى يَأْتِيَ حَلَّالُ الْمُشْكِلَاتِ فَعِنْدَ بَعْثِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبُوا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَلَّهُ عَلَى وَعْدِهِ فَأَرْسَلَ جَبْرَائِيلَ فَأُسْرِيَ بِهِ إلَى الْمِعْرَاجِ إلَى أَنْ وَصَلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى مَقَامِ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى فِيهِ إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ثُمَّ بَعْدَ الْعَوْدَةِ سَأَلُوا فَأَجَابَ بِمَضْمُونِ هَذَا الْحَدِيثِ (وَخَرَّجَ دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ خَصْلَتَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى» الِانْقِيَادُ لِحُظُوظِ النَّفْسِ «وَطُولُ الْأَمَلِ» مَأْمُولِيَّةُ طُولِ الْبَقَاءِ وَنِسْيَانُ الْمَوْتِ «فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَعْدِلُ» يَمِيلُ «بِك عَنْ» اتِّبَاعِ «الْحَقِّ» الشَّرِيعَةِ الْحَقَّةِ «، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَإِنَّهُ يُحَبِّبُ» أَيْ يَجْعَلُ «إلَيْك الدُّنْيَا» مَحْبُوبَةً. (وَخَرَّجَ ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْكَيِّسُ» خِلَافُ الْأَحْمَقِ أَيْ الْعَاقِلُ الذَّكِيُّ الْفَطِنُ وَقِيلَ الرِّفْقُ فِي الْأُمُورِ وَعَنْ الرَّاغِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى جَوْدَةِ اسْتِنْبَاطِ مَا هُوَ أَصْلَحُ فِي بُلُوغِ الْخَيْرِ «مَنْ دَانَ نَفْسَهُ» غَلَبَ وَقَهَرَ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِحَاسَبَهَا وَأَذَلَّهَا يَعْنِي جَعَلَ نَفْسَهُ مُطِيعَةً لِأَوَامِرِ رَبِّهَا وَقِيلَ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الْعِبَادَةِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ كَانَ مَشَايِخُنَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَيُقَيِّدُونَ فِي دَفْتَرٍ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَاسَبُوا نُفُوسَهُمْ وَأَحْضَرُوا دَفْتَرَهمْ فَإِنْ اسْتَحَقَّ اسْتِغْفَارًا اسْتَغْفَرُوا، وَإِنْ شُكْرًا فَشَكَرُوا ثُمَّ يَنَامُونَ فَزِدْنَا عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ الْخَوَاطِرَ فَكُنَّا نُقَيِّدُ مَا تُحَدِّثُ بِهِ نُفُوسُنَا وَنَهْتَمُّ بِهِ وَنُحَاسِبُهَا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا «وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ» قَبْلَ نُزُولِهِ لِيَصِيرَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَالْمَوْتُ عَاقِبَةُ أُمُورِ الدُّنْيَا فَالْكَيِّسُ مَنْ أَبْصَرَ الْعَاقِبَةَ وَالْأَحْمَقُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا وَحَجَبَتْهُ الشَّهَوَاتُ وَالْغَفَلَاتُ

«وَالْعَاجِزُ» الْمُقَصِّرُ فِي الْأُمُورِ «مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا» فَلَمْ يَكُفَّهَا عَنْ الشَّهَوَاتِ وَلَمْ يَمْنَعْهَا عَنْ الْحُرُمَاتِ وَاللَّذَّاتِ «وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ الْأَمَانِيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ يَعْنِي مَعَ تَقْصِيرِهِ فِي طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِ لَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَعْتَذِرُ وَلَا يَرْجِعُ بَلْ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْعَفْوَ وَالْجَنَّةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَتَرْكِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ قَالَ الطِّيبِيُّ الْعَاجِزُ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَأَعْطَاهَا مَا تَشْتَهِيهِ قَالَ الْحَسَنُ إنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ الْأَمَانِيُّ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ حَسَنَةً وَيَقُولُ: أَحَدُهُمْ إنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي وَكَذَبَ فَإِنَّهُ لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَعَمِلَ الْحَسَنَ {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] وَقَدْ أَفَادَ الْخَبَرُ أَنَّ التَّمَنِّي مَذْمُومٌ، وَأَمَّا الرَّجَاءُ فَمَحْمُودٌ فَإِنَّ التَّمَنِّي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى الْكَسَلِ بِخِلَافِ الرَّجَاءِ فَإِنَّهُ تَعْلِيقُ الْقَلْبِ بِمَحْبُوبٍ يَحْصُلُ حَالًا قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّجَاءُ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ دُونَ التَّمَنِّي (فَالْهَوَى مَصْدَرُ هَوِيَهُ يَهْوَاهُ مِنْ بَابِ عَلِمَ أَيْ أَحَبَّهُ وَاشْتَهَاهُ) وَفِي الْقَامُوسِ الْهَوَى بِالْقَصْرِ الْعِشْقُ فِي الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ وَإِرَادَةُ النَّفْسِ وَفِي الصِّحَاحِ هُوَ بِالْقَصْرِ هَوَى النَّفْسِ وَالْجَمْعُ الْأَهْوَاءُ وَهَوِيَ بِالْكَسْرِ يَهْوِي هَوًى إذَا أَحَبَّ (وَالنَّفْسُ بِالطَّبْعِ) يَعْنِي إذَا خُلِّيَتْ عَنْ الْمَوَانِعِ الْخَارِجَةِ وَطَبْعِهَا (مَيَّالَةٌ إلَى الشَّرِّ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) بِمَا يَضُرُّ صَاحِبَهَا مِنْ تَشَهِّي مَا لَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى اقْتِبَاسٌ وَإِشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ الْحُكْمِ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: عَنْ بَعْضٍ إذَا هَمَّتْ النَّفْسُ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ انْبَعَثَتْ لِشَهْوَةٍ لَوْ تَشَفَّعْت إلَيْهَا بِاَللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ بِرَسُولِهِ وَبِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِجَمِيعِ السَّلَفِ وَتُعْرِضُ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَالْقَبْرَ وَالْقِيَامَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ لَا تُعْطِي الِانْقِيَادَ وَلَا تَتْرُكُ الشَّهْوَةَ ثُمَّ اسْتَقْبَلْتهَا بِمَنْعِ رَغِيفٍ تَسْكُنُ وَتَتْرُكُ شَهْوَتَهَا (فَاتِّبَاعُ هَوَاهَا يُرْدِي) مِنْ الرَّدَى (وَيُهْلِكُ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (لَا مَحَالَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ أَلْبَتَّةَ فَالْعَاقِلُ يُتَّهَمُ عَلَى مُخَالَفَةِ كُلِّ مَا تَمِيلُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ الْبُوصِيرِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ وَخَالِفْ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا ... وَإِنْ هُمَا مَحَضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمْ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَدُورُ مَا فِي الْمِنْهَاجِ عَنْ بَعْضٍ يُقَالُ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ أَرْقَمَ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ نَازَعَتْنِي نَفْسِي بِالْخُرُوجِ إلَى الْغَزْوِ فَقُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ - {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]- وَهَذِهِ تَأْمُرُنِي بِالْخَيْرَاتِ قُلْت مُرَادُهَا الْخَلَاصُ مِنْ حَبْسِ الْوَحْدَةِ فَتَصِلُ إلَى الْخُلْطَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ بِالْأُلْفَةِ وَإِكْرَامِ الْخَلْقِ فَقُلْت لَهَا لَا أُنْزِلُك الْعُمْرَانَ أَبَدًا وَلَا عَلَى مَعْرِفَةِ أَحَدٍ فَأَجَابَتْ أَسَأْت الظَّنَّ وَقُلْت اللَّهُ أَصْدَقُ فَقُلْت أُقَاتِلُ الْعَدُوَّ مُقَدَّمًا عَلَى الْكُلِّ فَتُقْتَلُ فَأَجَابَتْ ثُمَّ عَدَّدْت أَشْيَاءَ فَأَجَابَتْ لِكُلٍّ ثُمَّ قُلْت يَا رَبِّ نَبِّهْنِي بِهَا، فَإِنِّي مُتَّهِمٌ لَهَا فَكُوشِفْت كَأَنَّ النَّفْسَ تَقُولُ يَا أَحْمَدُ أَنْتَ تَقْتُلُنِي كُلَّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ بِمَنْعِ شَهَوَاتِي وَبِمُخَالَفَةِ مُيُولَاتِي فَإِنْ قَاتَلْت قُتِلَتْ أَنَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَنَجَوْت مِنْ قَتَلَاتِكَ وَيَتَسَامَعُ النَّاسُ شَهَادَتِي فَيَكُونُ لِي ذِكْرًا وَشَرَفًا قَالَ فَقَعَدْت وَلَمْ أَخْرُجْ إلَى الْغَزْوِ فَانْظُرْ إلَى خِدَاعِهَا تَرْضَى إيقَاعَ نَفْسِهَا فِي التَّهْلُكَةِ بِمُجَرَّدِ رِيَاءٍ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ تَوَقَّ نَفْسَك لَا تَأْمَنْ غَوَائِلَهَا ... فَالنَّفْسُ أَخْبَثُ مِنْ سَبْعِينَ شَيْطَانَا (أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُبَاحَاتِ) مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ (فَظَاهِرٌ) إرْدَاؤُهُ وَإِهْلَاكُهُ مِنْ الْعِقَابِ وَالْعِتَابِ

وَاسْتِحْقَاقِ حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ (وَأَمَّا فِيهَا) فِي الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَاتِ (فَبَعْدَ كَوْنِهِ) أَيْ الْهَوَى (صِفَةً بَهِيمِيَّةً) مِنْ صِفَاتِ الْبَهَائِمِ مِنْ الرَّتْعِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ الشُّكْرِ (وَرُكُونًا) مَيْلًا (إلَى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ) الْخَسِيسَةِ حَتَّى لَا تَعْدِلَ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (وَشُغْلًا شَاغِلًا عَنْ الطَّاعَةِ وَزَادِ الْآخِرَةِ) كَالتَّقْوَى فَإِنَّهَا خَيْرُ الزَّادِ (مُفْضٍ إلَى الْمَحْظُورِ) الْمَمْنُوعِ كَالْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا شَبِعَتْ بِالْمُبَاحَاتِ تُشَجِّعُ عَلَى الْمَمْنُوعَاتِ (وَجَارٌّ) بِالتَّشْدِيدِ مِنْ الْجَرِّ بِمَعْنَى الْجَذْبِ (إلَى الشُّرُورِ وَمُؤَدٍّ إلَى الْفُجُورِ) مِنْ الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ (وَحِمًى) مِنْ حَمَيْته حِمَايَةً أَيْ دَفَعْت عَنْهُ وَهَذَا شَيْءٌ حِمًى عَلَى فَعَلٌ أَيْ مَحْظُورٌ لَا يُقْرَبُ وَأَحْمَيْت الْمَكَانَ جَعَلْته حِمًى وَفِي الْحَدِيثِ «لَا حِمَى إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» نَقَلَ عَنْ الصِّحَاحِ (لِلْحَرَامِ) كَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَمَا قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْله تَعَالَى {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ اسْتَجَرَّهُ إلَى مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ وَالِانْهِمَاكِ فِيهِ وَارْتِكَابِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ حَتَّى تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الذُّنُوبُ وَتَأْخُذَ بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ فَيَصِيرَ بِطَبْعِهِ مَائِلًا إلَى الْمَعَاصِي مُسْتَحْسِنًا إيَّاهَا مُعْتَقِدًا أَنْ لَا لَذَّةَ سِوَاهَا مُبْغِضًا لِمَنْ يَمْنَعُهُ عَنْهَا مُكَذِّبًا لِمَنْ يَنْصَحُهُ فِيهَا (وَمَأْوًى) مَرْجِعًا (لِلْآلَامِ) مِنْ الْأَلَمِ (وَالْآثَامِ) مِنْ الْإِثْمِ (وَصَاحِبُهُ) صَاحِبُ هَوَى النَّفْسِ فِي الْمُبَاحَاتِ (خَسِيسٌ دَنِيءٌ) أَيْ خَبِيثُ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ مَاجِنٌ كَمَا نَقَلَ عَنْ الْقَامُوسِ (لَئِيمٌ) مِنْ اللُّؤْمِ ضِدُّ الْكَرَمِ (رَذِيلٌ بَلْ هُوَ خِنْزِيرُ الشَّهْوَةِ) أَيْ شَهْوَتُهُ الَّتِي هِيَ كَشَهْوَةِ الْخِنْزِيرِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إلَى الْمُشَبَّهِ كَلُجَيْنِ الْمَاءِ أَوْ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ مِنْ قَبِيلِ زَيْدٌ أَسَدٌ (خَادِمٌ مُطِيعٌ وَعَبْدٌ ذَلِيلٌ وَأَنْشَدُوا) أَيْ الْعُلَمَاءُ (نُونُ الْهَوَانِ) بِمَعْنَى الذُّلِّ وَالْحَقَارَةِ (مِنْ الْهَوَى مَسْرُوقَةٌ) أَيْ أَصْلُ الْهَوَى الْهَوَانُ فَأُخِذَتْ النُّونُ مِنْهُ وَوُضِعَتْ فِي الْهَوَانِ (فَصَرِيعُ كُلِّ هَوًى) أَيْ مَصْرُوعُ كُلِّ هَوَى النَّفْسِ (صَرِيعُ هَوَانٍ) مَصْرُوعُ ذِلَّةٍ وَحَقَارَةٍ فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْهَوَى يَغْلِبْ عَلَيْهِ الْهَوَانُ وَالذِّلَّةُ فَيَصِيرُ مُسْتَقْبَحًا وَمُسْتَنْكَرًا؛ وَلِأَنَّهُ أَسِيرٌ وَشَأْنُ الْأَسِيرِ مُهَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَعَلَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ التَّعَمُّقِ وَعِنْدَ تَجَرُّدِهِ لِتَلَذُّذِ النَّفْسِ كَمَا يُقَالُ إنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْمُبَاحَاتِ قَدْ يَنْقَلِبُ صَغِيرَةً وَإِلَّا فَبِالنِّيَّةِ الْحَمِيدَةِ يَكُونُ الْمُبَاحُ حَسَنَةً مُثَابًا بِهِ. (وَمُقَابِلُهُ) أَيْ خِلَافُ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَضِدُّهُ (الْمُجَاهَدَةُ، وَهِيَ فَطْمُ النَّفْسِ) أَيْ قَطْعُهَا (عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ) أَيْ مَا اعْتَادَتْ عَلَيْهِ وَاسْتَلَذَّتْ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ (وَحَمْلُهَا عَلَى خِلَافِ هَوَاهَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَهِيَ بِضَاعَةُ الْعُبَّادِ) بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ جَمْعُ عَابِدٍ يَعْنِي مَالَهُمْ الَّذِي يَتَّجِرُونَ بِهِ فَيَكْتَسِبُونَ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَرَأْسُ مَالِ الزُّهَّادِ) جَمْعُ زَاهِدٍ أَيْ الْمُعْرِضُ بِقَلْبِهِ عَنْ الدُّنْيَا (وَمَدَارُ

صَلَاحِ النُّفُوسِ وَتَذْلِيلِهَا) جَعْلِهَا ذَلِيلَةً وَحَقِيرَةً (وَمَلَاكُ) أَيْ مَا يَقُومُ بِهِ (تَقْوِيَةِ الْأَرْوَاحِ) ؛ لِأَنَّ الْمُجَاهَدَةَ شَيْءٌ تَتَقَوَّى بِهِ الْأَرْوَاحُ فَتَسْتَعِدُّ لِلْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ بِالتَّخَلُّصِ عَنْ ظُلُمَاتِ الْأَشْبَاحِ (وَتَصْفِيَتِهَا) مِنْ أَكْدَارِ الطَّبِيعَةِ الْهَيُولَانِيَّةِ وَأَوْسَاخِ الْمَوَادِّ الْجُسْمَانِيَّةِ وَعَوَائِقِ الْمَلَكَاتِ الرَّدِيَّةِ (وَوُصُولِهَا) إلَى الْمُكَاشَفَاتِ اللَّاهُوتِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ أَوْ إلَى لِقَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ مَنْ زَيَّنَ ظَاهِرَهُ بِالْمُجَاهَدَةِ حَسَّنَ اللَّهُ تَعَالَى سَرَائِرَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَعَنْ السَّرِيِّ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جِدُّوا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغُوا مَبْلَغِي فَتَضْعُفُوا وَتُقَصِّرُوا كَمَا قَصَّرْت وَقَدْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ أَحَدٌ مِنْ الشَّبَابِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ بِأَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا بِالْفَاقَةِ وَلَا يَنَامَ إلَّا عِنْدَ الْغَلَبَةِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ لَنْ يَنَالَ الرَّجُلُ دَرَجَةَ الصَّالِحِينَ حَتَّى يَجُوزَ سِتَّ عَقَبَاتٍ يُغْلِقُ بَابَ النِّعْمَةِ وَيَفْتَحُ بَابَ الشِّدَّةِ يُغْلِقُ بَابَ الْعِزِّ وَيَفْتَحُ بَابَ الذُّلِّ يُغْلِقُ بَابَ الرَّاحَةِ وَيَفْتَحُ بَابَ الْجَهْدِ يُغْلِقُ بَابَ النَّوْمِ وَيَفْتَحُ بَابَ السَّهَرِ وَيُغْلِقُ بَابَ الْغِنَى وَيَفْتَحُ بَابَ الْفَقْرِ يُغْلِقُ بَابَ الْأَمَلِ وَيَفْتَحُ بَابَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ وَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّفْسِ صِفَتَيْنِ انْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ وَامْتِنَاعٌ عَنْ الطَّاعَاتِ فَإِذَا جَمَحَتْ عِنْدَ رُكُوبِ الْهَوَى يَجِبُ كَبْحُهَا بِلِجَامِ التَّقْوَى وَإِذَا حَرَنَتْ عِنْدَ الْقِيَامِ بِالْمُوَافَقَاتِ يَجِبُ سَوْقُهَا بِسَوْطِ خِلَافِ الْهَوَى وَجَهْدُ الْعَوَامّ فِي تَوْفِيَةِ الْأَعْمَالِ وَقَصْدُ الْخَوَاصِّ إلَى تَصْفِيَةِ الْأَحْوَالِ وَعَنْ بَعْضٍ قَالَ حَجَجْت كَذَا كَذَا حَجَّةً فَبَانَ لِي أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَشُوبٌ بِحَظِّي وَذَلِكَ أَنَّ وَالِدَتِي سَأَلَتْنِي يَوْمًا أَنْ أَسْتَقِيَ لَهَا جَرَّةَ مَاءٍ فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِي فَعَلِمْت أَنَّ مُطَاوَعَةَ نَفْسِي فِي الْحَجَّاتِ كَانَتْ لِحَظٍّ وَشَرَفٍ لِنَفْسِي إذْ لَوْ كَانَتْ نَفْسِي عَلَى خُلُوصٍ لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهَا مَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الرَّاحَةُ هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ أَمَانِي النَّفْسِ وَعَنْ بَعْضٍ الْآفَةُ مِنْ ثَلَاثٍ سَقَمُ الطَّبِيعَةِ أَيْ أَكْلُ الْحَرَامِ وَمُلَازَمَةُ الْعَادَةِ أَيْ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْحَرَامِ وَفَسَادُ الصُّحْبَةِ أَيْ تَبَعِيَّةُ كُلِّ شَهْوَةٍ لِلنَّفْسِ وَعَنْ بَعْضٍ لَا يَرَى أَحَدٌ عَيْبَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُسْتَحْسِنٌ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ مَنْ يَتَّهِمُهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَعَنْ السَّرِيِّ إيَّاكُمْ وَجِيرَانَ الْأَغْنِيَاءِ وَقُرَّاءَ الْأَسْوَاقِ وَعُلَمَاءَ الْأُمَرَاءِ وَعَنْ ذِي النُّونِ إنَّمَا دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا ضَعْفُ النِّيَّةِ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ صَارَتْ أَبْدَانُهُمْ رَهِينَةً لِشَهَوَاتِهِمْ ثَانِيهَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ طُولُ الْأَمَلِ مَعَ قُرْبِ الْأَجَلِ ثَالِثُهَا آثَرُوا رِضَا الْمَخْلُوقِينَ عَلَى رِضَا الْخَالِقِ رَابِعُهَا اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ خَامِسُهَا وَنَبَذُوا سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ سَادِسُهَا جَعَلُوا زَلَّاتِ السَّلَفِ حُجَّةَ أَنْفُسِهِمْ وَدَفَنُوا كَثِيرَ مَنَاقِبِهِمْ الْكُلُّ مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ إذَا عَرَفْت حَالَ النَّفْسِ مِنْ أَنَّ الْخِزْيَ وَالْبُؤْسَ فِي مُوَافَقَتِهَا وَالْعِزَّ وَالشَّرَفَ وَالرِّفْعَةَ فِي مُخَالَفَتِهَا (فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ) مِنْ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ الْفَانِيَةِ إلَى الْآخِرَةِ الْفَاخِرَةِ الْبَاقِيَةِ أَوْ السَّالِكُ مِنْ كَدُورَاتِ عَالَمِ الرِّجْسِ وَالزُّورِ إلَى مَعَالِي عَيَالِمِ الْقُدْسِ وَالنُّورِ (بِالتَّشَمُّرِ) السَّعْيِ الْبَلِيغِ وَالْجَدِّ التَّامِّ (فِي مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ الْهَوَى) وَلَوْ بِالْحِيَلِ وَالرِّيَاضَاتِ وَتَكْلِيفِ الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ (وَحَمْلِهَا عَلَى الْمُجَاهَدَةِ) عَلَى مَا ذُكِرَ مَتْنًا وَشَرْحًا حَتَّى تَنْقَادَ لَك فِيمَا أَمَرْت بِهِ (إنْ شِئْت مِنْ اللَّهِ الْهُدَى) فَمَنْ كَانَ مُرَادُهُ الْهِدَايَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ أَنْ يُحَصِّلَ الْمُجَاهَدَةَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُجَاهَدَةَ عِلَّةً عَادِيَةً لِهِدَايَتِهِ كَمَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] طُرُقَنَا الْمُوَصِّلَةَ إلَيْنَا، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي هُوَ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ سَبِيلِ السَّيْرِ إلَيْنَا وَالْوُصُولِ إلَى جَنَابِنَا أَوْ لَنَزِيدَنَّهُمْ هِدَايَةً إلَى سُبُلِ الْخَيْرِ وَتَوْفِيقًا إلَى سُلُوكِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ جَاهَدَ} [العنكبوت: 6] نَفْسَهُ عَنْ مِحَنِ الطَّاعَاتِ وَمَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمُيُولَاتِ وَالشَّهَوَاتِ {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لَهَا {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] لَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَاتُ وَلَا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ بِيَدِهِ مَلَكُوتِ الْقُلُوبِ وَالنَّوَاصِي وَلَمَّا أَفَادَ مَا تَقَدَّمَ مَذْمُومِيَّةَ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا

وَقَدْ كَانَ نَوْعٌ مِنْهَا غَيْرَ مَذْمُومٍ شَرَعَ فِي بَيَانِهِ فَقَالَ (ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَذْمُومَ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْمُبَاحَاتِ الْإِصْرَارُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْمُبَاحَاتِ (إذْ طَبْعُ الْبَشَرِ لَا يَتَحَمَّلُ الْمُخَالَفَةَ الْكُلِّيَّةَ) بِحَيْثُ لَا يَبْقَى حَظُّ نَفْسٍ فِي شَيْءٍ أَصْلًا فَإِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْبَشَرِيَّةِ وَالْتِحَاقٌ بِالْمَلَكِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَدُومُ لِلْبَشَرِ وَمُمْتَنِعٌ لِإِفْسَادِهِ الْبِنْيَةَ الْعُنْصُرِيَّةَ الْمَادِّيَّةَ فَلَا تَكْلِيفَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا مِمَّا لَا يُطَاقُ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَفْسُك مَطِيَّتُك فَارْفُقْ بِهَا» (وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْغُلُوِّ) تَجَاوُزِ الْحَدِّ (وَالْإِفْرَاطِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77] (وَقَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ الِاقْتِصَادِ أَنَّهُ) أَيْ الْغُلُوَّ (مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الْمَلَالَةَ وَالسَّآمَةَ) أَيْ التَّكَاسُلَ وَالتَّقْصِيرَ (الْمُؤَدِّيَةَ) بَعْدَ ذَلِكَ (إلَى عَدَمِ الْمُدَاوَمَةِ الْمَذْمُومِ جِدًّا) قَطْعًا وَقَوِيًّا (فِي الْعِبَادَةِ) لَعَلَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ إذْ يَكْثُرُ ذَلِكَ فِي الْعَوَامّ وَفِي حَالِ الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا فِي الْخَوَاصِّ وَحَالِ الِانْتِهَاءِ فَلَا يَبْعُدُ وُجُودُهُ (وَلِذَا) لِقُبْحِ الْمَلَلِ (قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ» الصَّالِحَةِ «مَا تُطِيقُونَهُ» أَيْ تَقْدِرُونَ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِلَا تَكَلُّفٍ وَلَا مَشَقَّةٍ «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ» أَيْ لَا يَعْرِضُ عَنْكُمْ إعْرَاضَ الْمَلُولِ عَنْ الشَّيْءِ أَوْ لَا يَقْطَعُ الثَّوَابَ وَالرَّحْمَةَ عَنْكُمْ مَا بَقِيَ لَكُمْ نَشَاطُ الطَّاعَةِ أَوْ لَا يَتْرُكُ فَضْلَهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا سُؤَالَهُ ذَكَرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِلِازْدِوَاجِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وَإِلَّا فَالْمَلَالُ فُتُورٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ مِنْ كَثْرَةِ مُزَاوَلَةِ شَيْءٍ فَيُورِثُ الْكَلَالَ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى «حَتَّى تَمَلُّوا» بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَيْ تَقْطَعُوا أَعْمَالَكُمْ أَوْ تُقَلِّلُوا مِنْهَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - رَاوِيَةُ هَذَا الْحَدِيثِ ذُكِرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ ثُوَيْبٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ فَذَكَرَهُ «وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ» وَاظَبَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ «، وَإِنْ قَلَّ» وَالظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَالْوَاقِعُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ آخَرُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَأْلَفُهُ فَيَدُومُ بِسَبَبِهِ الْإِقْبَالُ عَلَى الْحَقِّ تَقَدَّسَ؛ وَلِأَنَّ تَارِكَ الْعَمَلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَالْمُعْرِضِ بَعْدَ الْوَصْلِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوَاظِبَ مُلَازِمٌ لِلْخِدْمَةِ وَلَيْسَ مَنْ لَازَمَ الْبَابَ كَمَنْ جَدَّ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ الْأَعْتَابِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَنْجَابِ لَا تَقْطَعْ الْخِدْمَةَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَك عَدَمُ الْقَبُولِ وَكَفَى بِك شَرَفًا أَنْ يُقِيمَك فِي خِدْمَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُدَاوِمَ يَدُومُ لَهُ الْإِمْدَادُ مِنْ حَضْرَةِ رَبِّ الْعِبَادِ وَلِذَلِكَ شَدَّدَ الصُّوفِيَّةُ النَّكِيرَ عَلَى تَرْكِ الْأَوْرَادِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ الدَّوَامِ عَلَى الْعَمَلِ وَرَأْفَةُ الْمُصْطَفَى بِأُمَّتِهِ حَيْثُ أَرْشَدَهُمْ إلَى مَا يُصْلِحُهُمْ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ بِلَا مَشَقَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ فِيهِ أَنْشَطُ وَبِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْعَمَلِ، وَهُوَ الْحُضُورُ هَذَا عُصَارَةُ مَا قِيلَ فِي تَوْجِيهِ الدَّوَامِ وَأَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّوَامِ التَّرَفُّقُ بِالنَّفْسِ وَتَدَرُّبُهَا بِالتَّعَبُّدِ لِئَلَّا تَضْجَرَ فَيَكُونَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّ لِجَسَدِك عَلَيْك حَقًّا (خَرَّجَهُ) هَذَا الْحَدِيثَ (خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ» الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ بِلَا ضَرَرٍ «فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَسْأَمُوا» يَعْنِي اعْمَلُوا بِحَسَبِ

وُسْعِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَعْرِضُ عَنْكُمْ إعْرَاضَ الْمَلُولِ وَلَا يَنْقُصُ ثَوَابَ أَعْمَالِكُمْ مَا بَقِيَ لَكُمْ نَشَاطٌ، فَإِذَا سَئِمْتُمْ فَاقْعُدُوا، فَإِنَّكُمْ إذَا مَلَلْتُمْ مِنْ الْعِبَادَةِ وَأَتَيْتُمْ بِهَا عَلَى كَلَالَةٍ كَانَ مُعَامَلَةُ اللَّهِ مَعَكُمْ مُعَامَلَةَ الْمَلُولِ مِنْكُمْ ذَكَرَهُ الْمُنَاوِيُّ لَكِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الطَّبَرَانِيِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ «خُذُوا مِنْ الْعِبَادَةِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْأَمُ حَتَّى تَسْأَمُوا» قَالَ الشَّارِحُ عَنْ الْهَيْثَمِيِّ فِيهِ بِشْرُ بْنُ نُمَيْرٍ ضَعِيفٌ (وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ) مَوْقُوفٌ فَإِمَّا حَدِيثٌ مَحْذُوفُ الْإِسْنَادِ أَوْ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ «رَوِّحُوا» مِنْ التَّرْوِيحِ بِمَعْنَى النَّشَاطِ «الْقُلُوبَ» بِإِزَاحَةِ الْكَدِّ كُلَّ آنٍ عَنْ مُكَابَدَةِ الْعِبَادَاتِ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ فَسَاعَةٌ لِلذِّكْرِ وَسَاعَةٌ لِلِاسْتِرَاحَةِ «فَإِنَّهَا» أَيْ الْقُلُوبَ «إذَا أُكْرِهَتْ» جُبِرَتْ عَلَى الْأَعْمَالِ «عَيَتْ» تَعِبَتْ وَأَعْرَضَتْ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً فَسَاعَةً» فَقَالَ شَارِحُهُ أَيْ أَرِيحُوهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِمُبَاحٍ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إنِّي لَأَجُمُّ فُؤَادِي بِبَعْضِ الْبَاطِلِ أَيْ اللَّهْوِ الْجَائِزِ لِأَنْشَطَ لِلْحَقِّ «وَذُكِرَ عِنْدَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنُ وَالشِّعْرُ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ أَقُرْآنٌ وَشِعْرٌ فَقَالَ نَعَمْ سَاعَةٌ هَذَا وَسَاعَةٌ ذَلِكَ» وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَأَجِمُّوا هَذِهِ الْقُلُوبَ فَإِنَّهَا تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ أَيْ تَكِلُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّمَا «ذَكَرَ الْمُصْطَفَى ذَلِكَ لِأُولَئِكَ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ اسْتَوْلَتْ هُمُومُ الْآخِرَةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَخَشِيَ عَلَيْهَا أَنْ تَحْتَرِقَ» وَقَالَ الْحَكِيمُ: فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ الذِّكْرُ الْمَنْهَلُ لِلنُّفُوسِ إنَّمَا يَدُومُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثُمَّ يَنْقَطِعُ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا اُنْتُفِعَ بِالْعَيْشِ وَالنَّاسُ فِي الذِّكْرِ طَبَقَاتٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَدُومُ لَهُ ذِكْرُهُ فِي وَقْتِ الذِّكْرِ ثُمَّ تَعْلُوهُ غَفْلَةٌ حَتَّى يَقَعَ فِي التَّخْلِيطِ، وَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدُومُ لَهُ ذِكْرُهُ فِي وَقْتِ الذِّكْرِ ثُمَّ تَعْلُوهُ مَعْرِفَتُهُ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ عِبَادَهُ فَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ فَيَصِلُ إلَى مُعَايَنَتِهِ، وَهُوَ الْمُقْتَصِدُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْيَقِينِ وَهُمْ السَّابِقُونَ، فَقَدْ جَاوَزُوا هَذِهِ الْخُطَّةَ، وَلَهُمْ دَرَجَاتٌ قَالَ وَقَوْلُهُ سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ أَيْ سَاعَةٌ لِلذِّكْرِ وَسَاعَةٌ لِلنَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ إذَا حُجِبَ عَنْ احْتِمَالِ مَا يَحِلُّ بِهِ يَحْتَاجُ إلَى مِزَاحٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا سَارَ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَغَشِيَهَا مَا غَشَّى وَأَشْرَقَ النُّورُ حَالَ دُونَهُ فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ وَتَحَوَّلَتْ السِّدْرَةُ زَبَرْجَدًا وَيَاقُوتًا فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ بَصَرُهُ لِلنُّورِ عُورِضَ بِذَلِكَ مِزَاحًا لِيَسْتَقِرَّ كَأَنَّهُ شَغَلَ قَلْبَهُ بِهَذَا الْمِزَاحِ عَمَّا رَأَى لِئَلَّا يَنْفِرَ، وَلَا يَجِدَ قَرَارًا انْتَهَى (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ إنِّي لَأَسْتَجِمُّ نَفْسِي) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الِاسْتِرَاحَةِ (بِاللَّهْوِ) أَيْ بِمَا تَتَلَهَّى بِهِ النَّفْسُ مِمَّا يُسْتَلَذُّ بِهِ الظَّاهِرُ الْمُبَاحُ كَالْمِزَاحِ (لِيَكُونَ عَوْنًا لِي عَلَى الْحَقِّ) بِالنَّشَاطِ وَالْإِقْدَامِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَيَنْبَغِي تَرْوِيحُ الذِّهْنِ بِنَحْوِ شِعْرٍ أَوْ حِكَايَاتٍ عِنْدَ جُمُودِ الذِّهْنِ وَوُقُوفِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إنْسَانٌ عَلَى مُكَابَدَةِ ذِهْنِهِ عَلَى الْفَهْمِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَشَدُّ نُفُورًا وَأَبْعَدُ قَبُولًا وَفِي الْأَثَرِ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ عَمِيَ فَيُدْفَعُ بِتَرْوِيحِهِ وَلَيْسَ بِمُغَنٍّ فِي الْمَوَدَّةِ شَافِعٌ ... إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الضُّلُوعِ شَفِيعُ فَإِنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ تَنَافُرًا كَتَنَافُرِ الْوَحْشِ فَتَأَلَّفُوهَا بِالِاقْتِصَادِ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّوَسُّطِ فِي التَّقْوِيمِ لِتَحْسُنَ طَاعَتُهَا وَيَدُومَ نَشَاطُهَا وَفِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْعَبْدِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ سَاعَةٌ يُنَاجِي رَبَّهُ وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ وَسَاعَةٌ لِلَّذَّةِ نَفْسِهِ فِيمَا يَحِلُّ (فَحِينَئِذٍ) حِينَ كَوْنِ تَرْوِيحِ النَّفْسِ مَطْلُوبًا (لَا بُدَّ أَحْيَانَا أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ الْمُبَاحَاتِ اسْتِرَاحَةً مِنْ التَّعَبِ) الْحَاصِلِ مِنْ حَمْلِ مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ (وَتَحَرُّزًا عَنْ السَّآمَةِ) الْمَلَلِ وَالْكَسَلِ (وَتَحْرِيكًا لِلنَّشَاطِ عَلَى الْعِبَادِ فَلِذَا) أَيْ لِلُزُومِ تَنَاوُلِ الْمُشْتَهَيَاتِ

الثامن من آفات القلب وهو الاقتداء بالغير

الْمُبَاحَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ (قَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ سَكَنَ نَشَاطُهُ) فِي الْعِبَادَةِ (وَضَعُفَتْ رَغْبَتُهُ) فِيهَا (وَعَلِمَ أَنَّ التَّرَفُّهَ) التَّوَسُّعَ وَالرَّاحَةَ وَالتَّنَعُّمَ كَمَا فُهِمَ مِنْ الْقَامُوسِ (بِالنَّوْمِ أَوْ الْحَدِيثِ) كَمَنَاقِبِ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ (أَوْ الْمِزَاحِ) الْمُبَاحَيْنِ (فِي سَاعَةٍ) الظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّقْلِيلِ أَوْ التَّحْقِيرِ (يَرُدُّ نَشَاطَهُ) وَرَغْبَتَهُ إلَى الطَّاعَةِ (فَذَلِكَ) التَّرَفُّهُ (أَفْضَلُ لَهُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ الْمَلَالِ) ؛ لِأَنَّ مَلَاكَ الْأَمْرِ فِي الْعِبَادَةِ سِيَّمَا الصَّلَاةَ رَأْسًا وَأَسَاسًا حُضُورُ الْقَلْبِ وَالتَّفَهُّمُ وَالتَّعْظِيمُ وَالْهَيْبَةُ وَالرَّجَاءُ وَالْحَيَاءُ وَحُضُورُ الْقَلْبِ تَفْرِيغُ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَالتَّفَهُّمُ جَمْعُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى فَرُبَّمَا يَكُونُ حَاضِرًا مَعَ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَهُوَ مَقَامٌ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ فَكَمْ مِنْ مَعَانٍ تَسْنَحُ لِلْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَكُنْ خَطَرَتْ بِقَلْبِهِ أَبَدًا وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالتَّعْظِيمُ أَنْ يُشَاهِدَ مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ عَظَمَتَهُ تَعَالَى وَكِبْرِيَاءَهُ وَأَنَّ الْعَبْدَ مُسَخَّرٌ مَرْبُوبٌ وَمِنْهُ يَحْصُلُ الْخُشُوعُ وَالْهَيْبَةُ أَنْ يَثُورَ مِنْ زَاوِيَةِ مَعْرِفَةِ الْجَلَالِ خَوْفٌ يَنْتَشِرُ مِنْهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ مَا تَكَادُ تَكِلُّ عَنْ حَمْلِهِ لَوْلَا الرَّجَاءُ فَإِنَّ مَنْ لَا يَخَافُ لَا يُسَمَّى هَائِبًا وَالْخَوْفُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ لَا يُسَمَّى هَيْبَةً وَالرَّجَاءُ بِأَنْ يَسْرَحَ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ لُطْفِ اللَّهِ وَكَرْمِهِ وَأَنْوَاعِ إنْعَامِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ وَالْحَيَاءُ بِأَنْ يُجِيلَ النَّظَرَ فِي قُصُورِهِ عَنْ أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَعْرِفَةِ حَقَارَةِ نَفْسِهِ وَخُبْثِ دَخْلِهَا وَقِلَّةِ خُلُوصِهَا وَإِخْلَاصِهَا وَمَيْلِهَا إلَى الْحَظِّ الْعَاجِلِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعَ الْمَلَالِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ (فَفِي الْحَقِيقَةِ هَذَا) أَيْ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْمُبَاحَاتِ لِأَجْلِ النَّشَاطِ (اتِّبَاعٌ لِلشَّرْعِ) لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ آنِفًا وَأَيْضًا عَنْ الْبُخَارِيِّ قِصَّةُ حَبْلِ زَيْنَبَ حَدِيثُ حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ بِنَشَاطِهِ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ كَمَا مَرَّ أَيْضًا وَحِينَئِذٍ (لَا) يَكُونُ اتِّبَاعًا (لِلْهَوَى الْمَحْضِ) قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ إذَا قَصَدَ بِالْمُبَاحَاتِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ أَوْ التَّوَصُّلَ إلَيْهَا كَانَتْ عِبَادَةً كَالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَاكْتِسَابِ الْمَالِ وَالْوَطْءِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» وَعَلَى هَذَا الْبَابِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَوْمُ الْعَالِمِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الْجَاهِلِ» . (فُرُوعٌ) نُقِلَ عَنْ الْجَامِعِ فِي الْفَتْوَى وَالْمُجْتَبَى وَالْخَانِيَّةِ لَوْ غَلَبَهُ النَّوْمُ تُكْرَهُ لَهُ التَّرَاوِيحُ بَلْ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ؛ لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ مَعَ النَّوْمِ تَهَاوُنًا وَغَفْلَةً وَتَرْكَ تَدَبُّرٍ وَيُكْرَهُ لِلْمُقْتَدِي أَنْ يَقْعُدَ فِي التَّرَاوِيحِ فَيَقُومَ عِنْدَ الرُّكُوعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ التَّكَاسُلِ وَتَشْبِيهِ الْمُنَافِقِ وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ، وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ» وَعَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْله تَعَالَى - {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]- أَرَادَ بِهِ سُكْرَ النَّوْمِ وَفِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ وَلَوْ اشْتَبَهَ عَلَى مَرِيضٍ أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ أَوْ السَّجَدَاتِ لِنُعَاسٍ يَلْحَقُهُ لَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ (وَ) بَيَانُ (الْعُجْبِ) الَّذِي هُوَ سَبَبُ اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ (سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) أَخَّرَهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى زِيَادَةِ تَفْصِيلٍ (وَأَمَّا التَّقْلِيدُ) الْمَذْكُورُ فِيمَا سَبَقَ (وَهُوَ) الْخُلُقُ. [الثَّامِنُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالْغَيْرِ] (الثَّامِنُ) مِنْ السِّتِّينَ الْمَذْمُومَةِ (مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالْغَيْرِ) اعْتِقَادًا أَوْ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا (بِمُجَرَّدِ حُسْنِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ) صَالِحَةٍ لِلِاقْتِدَاءِ فَخَرَجَ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ (وَتَحْقِيقٍ) بِالدَّلِيلِ وَقِيلَ أَوْ كَشْفٍ قَلْبِيٍّ فِي ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ فِي حُكْمِ ظَاهِرِ الشَّرْعِ (وَذَا) أَيْ التَّقْلِيدُ (لَا يَجُوزُ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ) أَيْ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِإِمْكَانِ الِاهْتِدَاءِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِ الْعَقْلِ فَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ يُمْكِنُ لَهُ الِاسْتِدْلَال سِيَّمَا مِنْ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ فَلَا ضَرُورَةَ لَهُ إلَى التَّقْلِيدِ (بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَظَرٍ) صَحِيحٍ وَتَأَمُّلٍ مِنْ تَرْتِيبِ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ لِلتَّأَدِّي إلَى الْمَجْهُولِ

(وَاسْتِدْلَالٍ وَلَوْ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ) بِأَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَعْبِيرِهِ بِعِبَارَةٍ مُحَرَّرَةٍ عَلَى تَفْصِيلِ اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ بَلْ فِي ذِهْنِهِ مَعْنَى يَسْتَحْصِلُ الْمَقْصُودَ لَعَلَّ هَذَا حَاصِلُ الْإِيمَانِ الْإِجْمَالِيِّ فَإِنْ قِيلَ هَذَا، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا فِي نَحْوِ ذَاتِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ لَكِنْ لَا يَجْرِي فِي أَكْثَرِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ كَأُمُورِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي فِيهَا بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ؛ وَلِذَا قَالَ فِي الْكَلَامِيَّةِ الْمَطَالِبُ إمَّا عَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَأُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ مِنْ نَحْوِ وُجُودِهِ تَعَالَى وَصِدْقِ رَسُولِهِ أَوْ نَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَوُجُودِ غُرَابٍ الْآنَ فِي مَنَارَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة أَوْ بِهِمَا كَحُدُوثِ الْعَالَمِ قُلْنَا قَدْ سَبَقَ الْإِشَارَةُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أُصُولُ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْكَلَامِيَّةِ يَعْنِي أُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ أَوْ لِكُلِّ شَيْءٍ نَظَرٌ وَاسْتِدْلَالٌ عَلَى حَالِهِ فَاسْتِدْلَالُ هَذَا الْجِنْسِ بِأَدِلَّتِهِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِجْمَالِيَّ جَائِرٌ عِنْدَنَا وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ، وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ لَكِنْ قُلْنَا بِكَوْنِهِ إثْمًا فَعَدَمُ الْجَوَازِ يُصْرَفُ إلَيْهِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلِ انْظُرُوا} [يونس: 101] تَفَكَّرُوا {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101] مَا وَضَعَهُ فِيهِمَا مِنْ الْعَجَائِبِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَالْغَرَائِبِ الْمُنْبِئَةِ عَنْ صِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَأَثَرُ الْقَدَمِ عَلَى الْمَسِيرِ فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ أَفَلَا تَدُلَّانِ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ (وَالْآيَاتُ فِيهِ) فِي وُجُوبِ النَّظَرِ (وَفِي ذَمِّ الْمُقَلِّدِينَ) لَا مُطْلَقًا بَلْ (فِي الِاعْتِقَادِ كَثِيرَةٌ جِدًّا) قَطْعًا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]- وَنَحْوَ {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] وَنَحْوَ {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]- (وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الْعَقَائِدِ، وَأَمَّا الْمُخَالِفُ فَإِمَّا خِلَافُهُ بَعْدَ مُضِيِّ قَرْنِ الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ فَلَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ إذْ الْخِلَافُ اللَّاحِقُ لَا يَمْنَعُ الْإِجْمَاعَ السَّابِقَ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ سَاقِطٌ لِامْتِنَاعِ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ أَوْ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فَلَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ بَقِيَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا فِي الدُّنْيَوِيِّ وَلَا فِي الْعَقْلِيِّ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْعَقْلِيِّ قُلْنَا، وَإِنْ فُهِمَ كَذَلِكَ مِنْ ظَاهِرِ التَّوْضِيحِ لَكِنَّ التَّلْوِيحَ أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعَقْلِيَّ قَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا فَبِالْإِجْمَاعِ يَصِيرُ قَطْعِيًّا كَمَا فِي تَفْضِيلِ الصَّحَابَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّاتِ هَذَا لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنْ تَأَمُّلٍ (فَالْمُقَلِّدُ فِي الِاعْتِقَادِ آثِمٌ) كَافِرٌ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا (وَإِنْ كَانَ إيمَانُهُ صَحِيحًا عِنْدَنَا) الْمَاتُرِيدِيَّةُ وَقِيلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ نَعَمْ أَيْضًا وَالصَّحِيحُ لَا قِيلَ الْكَلَامُ فِي مُقَلِّدٍ حَصَلَ لَهُ ثَبَاتٌ بِحَيْثُ لَا يُزَحْزِحُهُ تَشْكِيكٌ أَقُولُ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مَنْصِبُ الِاسْتِدْلَالِ لَا التَّقْلِيدُ ثُمَّ الْمُوجِبُونَ الِاسْتِدْلَالَ مَعَ نَفْيِ التَّقْلِيدِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَقِيلَ مَالِكٌ أَيْضًا فَالْمُقَلِّدُ مُؤْمِنٌ عَاصٍ وَقِيلَ لَيْسَ بِعَاصٍ إلَّا ذَا كَانَ مَعَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَأَهْمَلَهُ بِالتَّكَاسُلِ وَقِيلَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ أَصْلًا فَأَوْرَدَ بِلُزُومِ إكْفَارِ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ أَقُولُ قَدْ أُشِيرَ

آنِفًا وَحُرِّرَ سَابِقًا أَنَّهُمْ مُسْتَدِلُّونَ إجْمَالًا فِي وِجْدَانِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إتْيَانِ عِبَارَةٍ جَامِعَةٍ فَالْعَوَامُّ إنْ سُئِلُوا مَنْ أَوْجَدَ هَذِهِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ يَقُولُونَ اللَّهُ وَفِي مُحَاوَرَاتِ كُلِّهِمْ اللَّهُ فَعَلَ كَذَا وَأَعْطَى كَذَا وَمَنَعَ كَذَا فَلَزِمَهُمْ الِاسْتِدْلَال، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا وَجْهَ اسْتِدْلَالِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ، (وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْأَعْمَالِ) الْفَرْعِيَّةِ (فَجَائِزٌ) تَقْلِيدُهُ (لِمَنْ كَانَ عَدْلًا) فَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يُؤْمِنُ عَلَى خَبَرِهِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ بَلْ قَدْ يُخْبِرُ بِحُكْمٍ، وَهُوَ خِلَافُ عِلْمِهِ وَقِيلَ هُوَ مَنْ اجْتَمَعَ فِيهِ الْحِكْمَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالْعِفَّةُ (مُجْتَهِدًا) قَدْ يُؤْخَذُ الْعَدْلُ فِي مَفْهُومِ الِاجْتِهَادِ فَافْهَمْ لَكِنْ بِلَا لُزُومِ مُجْتَهِدٍ مُعَيَّنٍ بَلْ يَجُوزُ بِأَيٍّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ لِعَدَمِ نَصٍّ عَلَى تَعْيِينِهِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَلْفِيقٍ، وَأَنَّهُ إنْ وَقَعَ تَقْلِيدٌ بِوَاحِدٍ هَلْ يَلْزَمُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ أَوْ يَجُوزُ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إلَى آخَرَ لِضَرُورَةٍ أَوَّلًا، وَإِنْ قَلَّدَ فِي عَمَلٍ بِمُجْتَهِدٍ آخَرَ مَعَ تَقْلِيدِهِ فِي عَمَلٍ بِمُجْتَهِدٍ آخَرَ أَوْ إنْ قَلَّدَ فِي عَمَلٍ بِمُجْتَهِدٍ فِي وَقْتٍ وَبِمُجْتَهِدٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لَعَلَّهُ قَدْ سَبَقَ بَعْضُ تَفْصِيلِهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ (وَلَكِنْ لَمَّا انْقَطَعَ الِاجْتِهَادُ مُذْ زَمَانٍ طَوِيلٍ) وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ نُجَيْمٍ انْقِطَاعُ الْقِيَاسِ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَهَا لِأَحَدٍ لَكِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا عِنْدَمَا يُجَوِّزُهُ فَلَا يَنْقَرِضُ الْمُجْتَهِدُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَبَدًا وَقَدْ يُقَالُ فِي لُزُومِ كَوْنِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي مُجْتَهِدًا مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ وَمُطَالَعَتُهَا وَأَنَّ أَيَّ حُكْمٍ أُخِذَ مِنْ أَيِّ دَلِيلٍ وَعَلَى أَيِّ قَاعِدَةٍ وَأَصْلٍ وَنَحْوِهَا وَيَقْرُبُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (انْحَصَرَ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ مَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِ الْمُقَلَّدِ فِي نَقْلِ كِتَابٍ مُعْتَبَرٍ مُتَدَاوَلٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ) فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى اعْتِبَارِ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَوْ اعْتِبَارِ غَيْرِ الثِّقَاتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ (مُصَحَّحٍ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى مُطَالَعَتِهِ وَاسْتِخْرَاجِهِ) فَهْمِ مَعَانِي مَسَائِلِهِ (وَإِخْبَارِ عَدْلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ) فَيُخْبِرُ بِقَوْلِ

التاسع الرياء

الْمُجْتَهِدِ فَيُعْتَمَدُ عَلَى خَبَرِهِ (فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِكُلِّ كِتَابٍ) فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي الْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى هَذَا تَفْرِيعٌ لِقَوْلِهِ فِي نَقْلِ كِتَابٍ مُعْتَبَرٍ يَعْنِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِكِتَابٍ مَجْهُولٍ مَسْتُورٍ كَالنَّوَادِرِ نَقَلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ وَمِثْلُهُ كِتَابُ الْحَاوِي وَجَامِعِ الْفَتَاوَى وَالْفَتَاوَى الصُّوفِيَّةِ وَرَوْضَةِ الْمَجَالِسِ وَمُشْتَمَلِ الْأَحْكَامِ وَجَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَالتَّسْهِيلِ لِلْقَاضِي مَحْمُودٍ وَالْمُهِمَّاتِ وَالْحَدَّادِيَّةِ وَأَيْضًا لِقُنْيَةٍ مَشْهُورَةٍ بِضَعْفِ الرِّوَايَةِ وَصَاحِبُهَا مُعْتَزِلِيٌّ. وَأَيْضًا صُرَّةُ الْفَتَاوَى لَكِنْ إذَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافٌ أَقْوَى مِنْهَا وَلَا خِلَافَ قِيَاسٌ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ فِي كِتَابٍ مُعْتَبَرٍ فَلَا جَرَمَ يَعْمَلُ بِهِ، وَالْكِتَابُ الْمُعْتَبَرُ كَالْمُتُونِ الْأَرْبَعَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْمَجْمَعِ قَالُوا اجْتِمَاعُهَا فِي مَسْأَلَةٍ كَنَصٍّ قَاطِعٍ وَمِنْ الْفَتَاوَى كَقَاضِي خَانْ وَالْخَانِيَّةِ وَالْخُلَاصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ وَالظَّهِيرِيَّةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ لَا يُخَالِفَ الْغَيْرَ سِيَّمَا لِلْأَوْثَقِ وَالْأَكْثَرِ فِي كَوْنِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْكِتَابِ الْمُعْتَبَرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي كِتَابٍ قَوِيٍّ كَمَا نَقَدُوا فِي بَعْضِ أَقْوَالِ الْهِدَايَةِ، وَأَمَّا كُتُبُ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لَنَا حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ أَحَادِيثُ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَقَوْلِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلَّامِ لِكَوْنِهَا مَنْصِبَ الِاجْتِهَادِ فَأَصَحُّهَا صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ فَمُسْلِمٌ عَلَى الْأَصَحِّ ثُمَّ بَوَاقِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الضَّعِيفَةَ يَجُوزُ رِوَايَتُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ إنْ لَمْ يُخَالِفْ أَقْوَى مِنْهَا وَلَا الْقِيَاسَ وَفِي تَأْيِيدِ عَمَلٍ ثَابِتٍ أَوْ احْتِيَاطِ عَمَلٍ أَيْضًا لَا فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ أَصْلًا، وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ فَلَا يَجُوزُ رِوَايَتُهُ إلَّا مَعَ تَنْبِيهِ مَوْضُوعِيَّتِهِ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ أَصْلًا خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ (وَلَا) يَجُوزُ الْعَمَلُ (بِقَوْلِ كُلِّ مَنْ تَزَيَّا بِزِيِّ الْعُلَمَاءِ) مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ حَالِهِ عِلْمًا وَثِقَةً وَعَمَلًا فَلَا بُدَّ مِمَّنْ يَصْلُحُ اقْتِدَاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُجَرَّبَ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ عَالِمٍ أَوْ عَالِمًا لَكِنْ لَيْسَ بِثِقَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ الْفَسَادِ الْكَبِيرِ الْعَالِمَ الْمُتَهَتِّكَ وَأَيْضًا إذَا زَلَّ عَالِمٌ زَلَّ عَالَمٌ. (وَمُقَابِلُ اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَبَبُهُ) سَبَبُ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ (التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ) اعْتِقَادًا وَأَقْوَالًا وَأَعْمَالًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ بَلْ فِي الْعَادَاتِ (وَمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ) مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - (وَ) سَبَبُهُ أَيْضًا (تَرْكُ الْهَوَى) أَيْ الْحُظُوظَاتِ الْعَاجِلَةِ (وَ) تَرْكِ (الْإِعْجَابِ بِالرَّأْيِ) أَيْ تَحْسِينِ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ (مَعَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ أَوْ التَّقْلِيدِ لِصَاحِبِهِ) أَيْ لِصَاحِبِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ (وَلَوْ مَعَ إثْمٍ) لِتَرْكِ الْوَاجِبِ. [التَّاسِعُ الرِّيَاءُ] [الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ الرِّيَاء] (وَالتَّاسِعُ) مِنْ السِّتِّينَ الْمَذْمُومَةِ

(الرِّيَاءُ) وَفِيهِ سَبْعَةُ مَبَاحِثَ تَعْرِيفُهُ وَمَا بِهِ الرِّيَاءُ وَمَا لَهُ الرِّيَاءُ وَالرِّيَاءُ الْخَفِيُّ وَعَلَامَاتُهُ وَأَحْكَامُ الرِّيَاءِ وَالْأُمُورُ الْمُتَرَدِّدَةُ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ وَعِلَاجُ الرِّيَاءِ (الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِهِ) لِيَمْتَازَ عَنْ الْآخَرِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِهِ لِعِظَمِ خَطَرِهِ وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِ (وَتَقْسِيمُهُ هُوَ) أَيْ الرِّيَاءُ لُغَةً إظْهَارُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مَصْدَرُ رَاءَى يُرَائِي مُرَاءَاةً وَرِيَاءً يُقَالُ رَاءَيْته أَظْهَرْت لَهُ خِلَافَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَقِيلَ هُوَ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي الْقُلُوبِ بِإِرَادَةِ الْفَضَائِلِ مُطْلَقًا وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَالْعُرْفُ هُوَ (إرَادَةُ نَفْعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ أَوْ دَلِيلِهِ) أَيْ دَلِيلِ الْعَمَلِ نَحْوِ ذُبُولِ الشَّفَتَيْنِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا يُقَالُ الرِّيَاءُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي الْقُلُوبِ بِإِظْهَارِ الْعِبَادَاتِ (أَوْ إعْلَامِهِ) أَيْ عَمَلِ الْآخِرَةِ (أَحَدًا مِنْ النَّاسِ) فَالرِّيَاءُ بِثَلَاثَتِهِ (مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ مُلْجِئٍ) مُضْطَرٍّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِكْرَاهَ هُوَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى مَا لَا يَرْضَاهُ وَلَا يَخْتَارُهُ إذَا خَلَى وَنَفْسُهُ فَإِمَّا كَامِلٌ إنْ أَفْسَدَ الِاخْتِيَارَ وَأُعْدِمَ الرِّضَا فَهُوَ مُلْجِئٌ أَيْ يُوجِبُ الِاضْطِرَارُ كَالتَّهْدِيدِ بِمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَإِمَّا قَاصِرٌ بِعَدَمِ الرِّضَا لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَلَا يَقْصِدُ الِاخْتِيَارَ كَمَا بِنَحْوِ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ فَالْمَفْهُومُ مِنْ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ إبَاحَةِ الرِّيَاءِ بِمُجَرَّدِ الْإِكْرَاهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُلْجِئًا قَالَ فِي التَّلْوِيحِ عَنْ الْإِمَامِ الْبُرَغْرِيِّ إنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ مُبَاحٌ كَالْقَتْلِ وَالرِّيَاءِ وَفَرْضٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَمُرَخَّصٌ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْإِفْطَارِ وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَتَأَمَّلْ. (الْبَاعِثِ) صِفَةُ الْإِعْلَامِ (عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ نَفْسِ الْعَمَلِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي قَصْدِهِ إعْلَامُ الْغَيْرِ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا الْعَمَلِ أَوْ صِفَةٌ لِنَفْعِ الدُّنْيَا يَعْنِي الْبَاعِثَ عَلَى نَفْسِ عَمَلِ الْآخِرَةِ هُوَ نَفْعُ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَاعِثٍ عَلَى التَّنْكِيرِ أَيْ بَاعِثُ ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ عَلَى نَفْسِ الْعَمَلِ يَعْنِي يَكُونُ الْإِكْرَاهُ دَاعِيًا إلَى الْعَمَلِ بِالرِّيَاءِ وَبِالْجُمْلَةِ لَعَلَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ (وَضِدُّهُ الْإِخْلَاصُ، وَهُوَ تَجْرِيدُ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِالتَّقَرُّبِ (عَنْ نَفْعِ الدُّنْيَا) مُتَعَلِّقٌ بِالتَّجْرِيدِ (وَ) عَنْ (الْإِعْلَامِ السَّابِقِ) ، وَأَمَّا لَوْ عَلِمُوا بِذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَلَا يَضُرُّ فِي إخْلَاصِهِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الْمَرْفُوعِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَاجِلِ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ وَهَذَا قَرِيبٌ إلَى مَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ الْإِخْلَاصُ إفْرَادُ الْحَقِّ فِي الطَّاعَةِ بِالْقَصْدِ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِطَاعَتِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ تَصَنُّعِ الْمَخْلُوقِ أَوْ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ النَّاسِ وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْإِخْلَاصُ التَّوَقِّي عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأَشْخَاصِ وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعَتْهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْته مِنْ عِبَادِي» وَعَنْ ذِي النُّونِ ثَلَاثٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِخْلَاصِ اسْتِوَاءُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنْ الْعَامَّةِ وَنِسْيَانُ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ فِي الْأَعْمَالِ وَاقْتِضَاءُ ثَوَابِ الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ وَقِيلَ الْإِخْلَاصُ لَا يَكُونُ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ بِحَالٍ (وَيُثْمِرُ) أَيْ الْإِخْلَاصُ يُنْتِجُ (الْإِحْسَانَ) أَيْ الْمَذْكُورَ فِي نَحْو - {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]- {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]- {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]- فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ قِيلَ وَحَقِيقَتُهُ سَجِيَّةٌ فِي النَّفْسِ تَحْمِلُ عَلَى مُجَازَاةِ الْمُسِيءِ بِجَوَائِزِ الْمُحْسِنِ وَقِيلَ هُوَ مَعْرِفَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَعًا وَقِيلَ اتِّفَاقُ

الْمَعْنَى عَلَى اتِّفَاقِ الْعِيَانِ وَالْإِحْسَانُ لِمَنْ أَسَاءَ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَقِيلَ إتْقَانُ الْعِبَادَةِ بِإِيقَاعِهَا عَلَى وَجْهِهَا مَعَ رِعَايَةِ حَقِّ الْحَقِّ وَمُرَاقَبَتِهِ وَاسْتِحْضَارِ عَظَمَتِهِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا (وَهُوَ) نَحْوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا غَالِبٌ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ كَمَا قَالَ (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ) مَنْ عَبَدَ أَطَاعَ وَالتَّعَبُّدُ التَّنَسُّكُ وَالْعُبُودِيَّةُ الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ (كَإِنَّك تَرَاهُ) بِأَنْ تَتَأَدَّبَ فِي عِبَادَتِهِ كَأَنَّك تَنْظُرُ إلَيْهِ فَجَمَعَ مَعَ الْإِيجَازِ بَيَانَ الْمُرَاقَبَةِ فِي كُلِّ حَالٍ وَالْإِخْلَاصَ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِمَا بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ عَايَنَ رَبَّهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ مُمْكِنِهِ وَالثَّانِي مَنْ لَا يَنْتَهِي إلَى هَذِهِ الْحَالِ لَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَقَّ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَمُشَاهِدٌ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك) أَيْ فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْيَقِينُ وَالْحُضُورُ إلَى هَاتِيك الرُّؤْيَةِ فَإِلَى أَنْ تَحَقَّقَ أَنَّ نَفْسَك بِمَرْأَى مِنْهُ تَقَدَّسَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ مُشَاهِدٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فِي حَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُقَصِّرُ فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ وَلَا يُقَصِّرُ فِي الثَّانِي لِاسْتِوَائِهِمَا بِالنِّسْبَةِ لِاطِّلَاعِهِمَا إلَى اطِّلَاعِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إلَخْ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا أُمِرَ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْهُ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ شَقَّ عَلَيْهِ فَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِإِيمَانِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ لَا يَخْفَى مِنْهُ شَيْءٌ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ الْأَكْمَلِ الَّذِي هُوَ مَقَامُ الشُّهُودِ الْأَكْبَرِ وَذَلِكَ قَرِيبٌ إلَى مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ الْمُرَاقَبَةَ عَلَى نَحْوِ حَالَيْنِ أَحَدُهُمَا غَالِبٌ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ فَكَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي عِبَادَةِ رَبِّي» وَثَانِيهِمَا لَا يَنْتَهِي إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَكِنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَمُشَاهِدٌ لَهُ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْله تَعَالَى - {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218] {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219]- وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ ثَمَرَةُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ (وَقَدْ يُطْلَقُ الرِّيَاءُ) شَرْعًا (عَلَى حُبِّ الْمَنْزِلَةِ) الْعَالِيَةِ (وَقَصْدِهَا فِي قُلُوبِ النَّاسِ) لِيَحْمَدُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ (بِأَعْمَالِ الدُّنْيَا) مِثْلَ الْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ (وَهَذَا رِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا) لِيَنَالَ بِهِ رُتْبَةَ الدُّنْيَا وَهَذَا أَيْضًا مَذْمُومٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى الدِّينِ (وَالْأَوَّلُ بِقِسْمَيْهِ) الْأَوَّلُ إرَادَةُ النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ أَوْ دَلِيلِهِ وَالثَّانِي إعْلَامُهُ بِذَلِكَ وَيُسَمَّى هَذَا بِالسُّمْعَةِ (رِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ) الْمُحْبِطُ لِلْعَمَلِ (فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ إنْ لَمْ يُقَارِنْهُ إرَادَةُ نَفْعِ الْآخِرَةِ) أَصْلًا بَلْ مُرَادُهُ نَفْعُ الدُّنْيَا كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِجَلْبِ الْأَمْوَالِ (فَهُوَ رِيَاءٌ مَحْضٌ، وَإِنْ قَارَنَتْهُ) أَيْ قَارَنَتْ إرَادَةُ نَفْعِ الْآخِرَةِ إلَى الْأَوَّلِ (فَرِيَاءُ تَخْلِيطٍ) لِاخْتِلَاطِ الْإِرَادَتَيْنِ وَهَذَا ثَلَاثَةٌ (إمَّا) نَفْعُ الدُّنْيَا (غَالِبٌ) عَلَى نَفْعِ الْآخِرَةِ وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ فَتَدَبَّرْ (أَوْ مُسَاوٍ أَوْ مَغْلُوبٌ فَالْجُمْلَةُ خَمْسَةٌ) دِينِيٌّ مَحْضٌ وَتَخْلِيطٌ تَحْتَهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ وَالْإِعْلَامُ يَعْنِي لَمَّا كَانَ أَوَّلُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ فَإِذَا ضُمَّ إلَيْهَا ثَانِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ خَمْسَةً (وَالْمُرَادُ مِنْهُ نَفْعُ الدُّنْيَا) ، وَهُوَ أَوَّلُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَعْنِي الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ نَفْعُ الدُّنْيَا (أَمَّا خَالِقٌ) إذْ يُرَادُ ذَلِكَ النَّفْعُ وَيُطْلَبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ هِيَ عَمَلُ الْآخِرَةِ يُقْصَدُ بِهَا اسْتِكْشَافُ الْأَمْرِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (أَوْ مَخْلُوقٌ) كَإِظْهَارِ الصَّلَاحِ لِجَلْبِ الدُّنْيَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ نَفْعَ الدُّنْيَا أَيْ أَوَّلَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةٌ فَإِذَا ضُرِبَ هَذَانِ الِاثْنَانِ فِيهَا يَكُونُ ثَمَانِيَةً وَإِذَا وُضِعَ بِجَنْبِهَا ثَانِي الْأَوَّلِ يَعْنِي الْإِعْلَامَ فَتِسْعَةٌ (وَنَفْعُ الدُّنْيَا) أَيْضًا (إمَّا جَاهٌ) رِيَاسَةٌ كُلِّيَّةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ أَوْ جُزْئِيَّةٌ كَمَنْ يَطْلُبُ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْآخِرَةِ الْمَنَازِلَ

الرَّفِيعَةَ هِيَ نَفْعُ الدُّنْيَا وَالْجَاهُ (أَوْ مَالٌ) كَمَنْ يَقْرَأُ بَعْضَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ لِيَكْثُرَ مَالُهُ (أَوْ قَضَاءَ شَهْوَةٍ) كَالتَّزَوُّجِ (أَوْ دَفْعَ ضَرَرٍ يَسِيرٍ) قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي وَتَبِعَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ احْتِرَازًا عَنْ الْكَثِيرِ مِثْلَ الْقَتْلِ وَتَلَفِ الْعُضْوِ لَعَلَّ مُرَادَهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مِنْ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إكْرَاهًا مُلْجِئًا فَيَظْهَرُ ضَعْفُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ الْكَثِيرُ هُوَ الْأَوْلَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ إذَا ضُرِبَتْ فِي الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَعِنْدَ ضَمِّ الْإِعْلَامِ الْمَذْكُورِ فَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ (وَكُلٌّ مِنْهَا) الظَّاهِرُ رَاجِعٌ إلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْمَضْرُوبَةِ فِي تِلْكَ الثَّمَانِيَةِ الْبَالِغَةِ إلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ (إمَّا لِلتَّوَسُّلِ إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ أَوَّلًا) فَالْأَقْسَامُ بَالِغَةٌ إلَى أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ. (وَالْأَوَّلُ) أَيْ إرَادَةُ نَفْعِ الدُّنْيَا لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْآخِرَةِ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ وَقُيُودِهِ فِي ذَلِكَ الْمَبْلَغِ إنْ كَانَ (مِنْ الْخَالِقِ تَعَالَى لَيْسَ بِرِيَاءٍ) لَعَلَّ الْأَخْصَرَ وَالْأَظْهَرَ وَالْأَضْبَطَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى رَأْيِ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَرَامِ أَنْ يُقَالَ الرِّيَاءُ إمَّا إرَادَةُ نَفْعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ أَوْ دَلِيلِهِ وَإِمَّا إعْلَامُهُ أَحَدًا وَإِمَّا حُبُّ الْمَنْزِلَةِ الْأَوَّلَانِ رِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ وَالثَّالِثُ رِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ لَا يُقَارِنَ إرَادَةَ نَفْعِ الْآخِرَةِ فَرِيَاءٌ مَحْضٌ أَوْ يُقَارِنَ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا أَوْ مُسَاوِيًا فَتَخْلِيطٌ ثُمَّ نَفْعُ الدُّنْيَا الْمُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ إمَّا جَاهٌ أَوْ مَالٌ أَوْ قَضَاءُ شَهْوَةٍ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ يَسِيرٍ وَكُلُّ ذَلِكَ إمَّا لِلطَّلَبِ مِنْ الْخَالِقِ أَوْ الْمَخْلُوقِ وَكُلُّ ذَلِكَ إمَّا لِلتَّوَسُّلِ إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ إنْ مِنْ الْخَالِقِ لَيْسَ بِرِيَاءٍ لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ زِيَادَةَ بَسْطٍ وَتَفْصِيلٍ فِي الْمَقَامِ لِزِيَادَةِ اهْتِمَامٍ فِي الْمَرَامِ وَإِلَّا فَأَوْضَحَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ هُوَ إرَادَةُ نَفْعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ إلَخْ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ أَعْنِي نَفْعَ الدُّنْيَا إمَّا جَاهٌ أَوْ مَالٌ إلَخْ وَالْمُضَافُ يَعْنِي الْإِرَادَةَ الْمَذْكُورَةَ إمَّا مُجَرَّدَةٌ فَرِيَاءٌ مَحْضٌ أَوْ مُقَارِنُ غَالِبٍ أَوْ مَغْلُوبٍ أَوْ مُسَاوٍ وَأَيْضًا الْإِرَادَةُ إمَّا مِنْ الْخَالِقِ أَوْ الْمَخْلُوقِ وَأَيْضًا إمَّا لِلتَّوَسُّلِ إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ أَوْ لَا ثُمَّ أَقُولُ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ كَوْنُ الْإِعْلَامِ خَارِجًا عَنْ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ تَجْرِي فِي إرَادَةِ نَفْعِ الدُّنْيَا بِإِعْلَامِ عَمَلِ الْآخِرَةِ فَتَخْصِيصُهُ فِيمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ إعْلَامُ الْغَيْرِ إلَخْ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَأَيْضًا قَوْلُهُ وَكُلٌّ مِنْهَا إمَّا لِلتَّوَسُّلِ إلَخْ إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ كَمَا لَزِمَ عَلَى تَوْضِيحِ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي كَمَا أُشِيرَ آنِفًا وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الرِّيَاءُ الْمَحْضُ فَيَئُولُ الْمَعْنَى أَنَّ مَا لَا يُقَارِنُ إرَادَةَ نَفْعِ الْآخِرَةِ إمَّا لِلتَّوَسُّلِ إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ إلَى آخِرِهِ فَقِسْمُ الشَّيْءِ قَسِيمٌ لَهُ أَوْ قَسِيمُ الشَّيْءِ قِسْمٌ مِنْهُ أَوْ قُبْحُ التَّرْدِيدِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُقَارَنَةِ وَالتَّوَسُّلِ بَعِيدٌ فَتَأَمَّلْ. (لِوُرُودِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ) فَإِنَّ طَلَبَ الْمَطَرِ لِأَجَلِ الزُّرُوعِ وَالنَّبَاتَاتِ إرَادَةُ نَفْعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ الْخَالِقُ تَعَالَى لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ قَصْدَ التَّوَسُّلِ إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَإِنْ لَزِمَ نَفْسُ التَّوَسُّلِ بِلَا قَصْدٍ وَالْكَلَامُ فِي الْقَصْدِ لَا فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الْمِثَالَ عَلَى مَنْ يَطْلُبُ الْمَطَرَ لِأَجْلِ نَحْوِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ أَوْ الزُّرُوعِ لَكِنْ بِشَرْطِ نِيَّةِ التَّقَوِّي بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ الْآخِرَةِ فَلَا يَخْفَى غَايَةُ بُعْدِهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ بِكِفَايَةِ لُزُومِ التَّوَسُّلِ وَأَيْضًا إنَّ نَحْوَ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ لَا يُقَارِنُهَا إرَادَةُ نَفْعِ الْآخِرَةِ فِي الْأَكْثَرِ سِيَّمَا عَامَّةُ الْعَوَامّ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ رِيَاءً مَحْضًا يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ إلَّا بِتِلْكَ النِّيَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَدَعْوَى الْكِفَايَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُمْكِنُ هُنَا لِتَصْرِيحِ الْإِرَادَةِ (وَالِاسْتِخَارَةُ) فَإِنَّهَا أَيْضًا كَذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِ الِاسْتِخَارَةِ لِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَا دِينِيٍّ (وَالْحَاجَةُ) فَإِنَّهَا كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلِ (وَنَحْوُهَا) قِيلَ كَالْإِمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ وَتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ بِالْأُجْرَةِ، فَإِنَّهَا نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى إنْفَاقِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَتَفَرُّغِ عِبَادَتِهِ تَعَالَى وَقِيلَ مِثْلُ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَيَّامِ الْعُسْرَةِ وَدَفْعِ الْفَقْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَالْإِخْلَاصِ وَالْأَنْعَامِ لِشِفَاءِ الْأَمْرَاضِ وَقِرَاءَةِ يس لِمَا أَرَادَ. (وَغَيْرُهَا) بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ أَيْ غَيْرُ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ مِنْ الْخَالِقِ (كُلُّهُ) أَيْ فِي جَمِيعِ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ الْأَقْسَامِ مِمَّا هُوَ مِنْ الْمَخْلُوقِ مُطْلَقًا وَمِنْ الْخَالِقِ أَنَّ عَدَمَ التَّوَسُّلِ الْأُخْرَوِيِّ

(رِيَاءٌ) فَظَاهِرُهُ شَامِلٌ لِأَنْوَاعِ التَّخْلِيطِ وَلَوْ مَغْلُوبًا فَيَلْزَمُ عَدَمُ ثَوَابِ حَجٍّ مَنْ ضَمَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ إلَى قَصْدِ حَجِّهِ بَلْ حُرْمَتُهُ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ قَصْدَ الدُّنْيَا مُطْلَقًا مَانِعًا مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ بِالْغَلَبَةِ فَإِنْ غَلَبَ الدُّنْيَا لَا وَإِلَّا نَعَمْ وَبَعْضُهُمْ أَثَابَ مُطْلَقًا بِقَصْدِهِ الدِّينِيِّ؛ لِأَنَّ مَا ضُمَّ إلَيْهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ فَفِي الْمَقَامِ مَا إنْ تُؤُمِّلَ فُهِمَ (وَإِنْ كَانَ إعْلَامُ الْغَيْرِ) مُتَعَلِّقٌ بِصَدْرِ الْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ فَهُوَ الْإِعْلَامُ الْمَأْخُوذُ فِي تَعْرِيفِ الرِّيَاءِ (بَاعِثًا) لَهُ (عَلَى مُجَرَّدِ الْإِظْهَارِ) لَا يَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْقَيْدِ (لِلِاقْتِدَاءِ) أَيْ اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ الَّذِي أَعْلَمَ إلَيْهِ فَيَعْمَلُ مِثْلَهُ فَمِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ (وَنَحْوَهُ مِنْ النِّيَّاتِ الصَّالِحَةِ لَا عَلَى نَفْسِ الْعَمَلِ) لَعَلَّ مِنْهُ غَرَضَ حَسَنِ الِاعْتِقَادِ إلَيْهِ وَالشَّهَادَةَ بِحَسَنِ حَالِهِ عَسَى أَنْ يَغْفِرَهُ اللَّهُ بِاعْتِقَادِهِ أَوْ بِشَهَادَتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَقِيلَ كَقَصْدِ الشُّكْرِ أَوْ الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لَهُ بِنِيَّةِ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَقِيلَ كَالتَّعْلِيمِ لِلْجَاهِلِ (فَلَيْسَ بِرِيَاءٍ) بَلْ مِمَّا يُثَابُ قِيلَ هُنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَصْدَ الْإِعْلَامِ حَالَ الْعَمَلِ فَرِيَاءٌ، وَإِنْ وُجِدَ الْعَمَلُ خَالِصًا ثُمَّ حَصَلَ الْإِعْلَامُ فَلَيْسَ بِرِيَاءٍ لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ حَاصِلِ الْمَقَامِ إذْ مَعْنَى الْمَقَامِ كَمَا عَرَفْت إرَادَةَ نَفْعِ الدُّنْيَا بِإِعْلَامِ عَمَلِ الْآخِرَةِ فَالْإِعْلَامُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْخُلُوصِ رِيَاءٌ غَايَتُهُ أَمْرٌ آخَرُ غَيْرَ الْعَمَلِ وَلَا يُزِيلُ ثَوَابَهُ قِيلَ عَنْ بَعْضِ شُرَّاحِ الْكِتَابِ إنِّي تَرَكْت عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ بِأَسْرِهَا لِكَوْنِهَا كَالْهَذَيَانَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ فَالِاشْتِغَالُ بِهَا اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِي وَأَوْرَدَ بِأَنَّهُ مِنْ عَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مُرَادِهِ وَقُصُورِ النَّظَرِ عَنْ الشَّرْحِ عَلَى وَفْقِ مَرَامِهِ لِكَوْنِ مَأْخَذِهِ شَرِيفًا فَلَا يَطَّلِعُ إلَّا مَنْ سَاعَدَهُ التَّوْفِيقُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّوْفِيقِ. أَقُولُ لَعَلَّ مُرَادَ الْمُورِدِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَفْصِيلِ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ وَتَكْثِيرِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ بَلْ الْإِجْمَالُ كَافٍ فِي وُصُولِ الْمُرَادِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ أَكْثَرَ الْأَقْسَامِ مُتَقَارِبَةٌ وَمُتَشَابِهَةٌ بَلْ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَحْتَاجُ تَمْيِيزُ مَا يَكُونُ رِيَاءً مِمَّا لَا يَكُونُ رِيَاءً إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْبِيرِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمُتَوَرِّعِ الْخَبِيرِ مِمَّا يُوجِبُ الشَّيْنَ وَالتَّحْقِيرَ لَا يَلِيقُ إلَّا مِمَّنْ يَتَّصِفُ بِالتَّقْصِيرِ (فُرُوعٌ مُهِمَّةٌ) فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْخُلَاصَةِ لَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ لَكِنْ فِي شَرْحِهِ لِلْحَمَوِيِّ عَنْ الْوَاقِعَاتِ وَالْمَنْفِيُّ بِعَدَمِ الرِّيَاءِ صَوْمُ الْفَرِيضَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الطَّاعَاتِ لِحَدِيثٍ قُدْسِيٍّ «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَلَمْ يَرَ مِثْلَهُ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَالرِّيَاءُ فِي خَبَرِهِ لَا فِي صَوْمِهِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِخْلَاصِ ثُمَّ خَالَطَهُ الرِّيَاءُ فَالْعِبْرَةُ بِالْبِنَاءِ وَلَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ فَصَحِيحَةٌ لَكِنْ يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمُ الثَّوَابِ أَصْلًا أَوْ كَمَالًا وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ بِمَا إذَا شَارَكَ مُرِيدُ اللَّحْمِ مُرِيدَ الْأُضْحِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ إذَا لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً خَرَجَ الْكُلُّ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً فَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ وَلِهَذَا صَرَّحَ فِي نَفْسِ الْبَزَّازِيَّةِ الذَّبْحُ لِلْقَادِمِ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْغَزْوِ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ مَيْتَةٌ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي كُفْرِ الذَّابِحِ قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا وَالْمُرَادُ مِنْ الذَّابِحِ قِيلَ حَقِيقَةٌ وَقِيلَ مَجَازٌ عَنْ الْآمِرِ وَعَنْ التَّتَارْخَانِيَّة أَيْضًا افْتَتَحَ خَالِصًا ثُمَّ دَخَلَ فِي قَلْبِهِ الرِّيَاءُ فَهُوَ عَلَى مَا افْتَتَحَ وَعَنْ الْوَاقِعَاتِ أَنَّ التَّحَرُّزَ مِمَّا يَعْرِضُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُ وَالرِّيَاءُ أَنَّهُ لَوْ خَلَا عَنْ النَّاسِ لَا يُصَلِّي وَلَوْ كَانَ مَعَ النَّاسِ يُصَلِّي فَأَمَّا لَوْ صَلَّى مَعَ النَّاسِ يُحْسِنُهَا وَلَوْ وَحْدَهُ لَا يُحْسِنُ فَلَهُ ثَوَابُ أَصْلِ الصَّلَاةِ دُونَ الْإِحْسَانِ وَفِي الْيَنَابِيعِ لَوْ صَلَّى رِيَاءً لَا أَجْرَ لَهُ بَلْ الْوِزْرُ وَقِيلَ لَا أَجْرَ لَهُ وَلَا وِزْرَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ وَفِي الْوَلْوَالِجيَّةِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ أَوْ الْقِرَاءَةَ وَخَافَ مِنْ دُخُولِ الرِّيَاءِ فَلَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَوْهُومٌ وَالْحَاجُّ إذَا خَرَجَ تَاجِرًا فَلَا أَجْرَ لَهُ كَمَا فُهِمَ مِنْ الزَّيْلَعِيِّ

المبحث الثاني آلة الرياء

وَقِيلَ يَنْظُرُ بِقَصْدِ الْأَغْلَبِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا تَسَاقَطَا حُكِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ صَلِّ الظُّهْرَ وَلَك دِينَارٌ فَصَلَّى بِهَذِهِ النِّيَّةِ تُجْزِئُ صَلَاتُهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الدِّينَارَ وَقَوَاعِدُنَا أَيْضًا تَقْتَضِي ذَلِكَ وَفِي الْقُنْيَةِ شَرَعَ فِي الْفَرْضِ وَشَغَلَهُ الْفِكْرُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى أَتَمَّ الصَّلَاةَ لَا يُسْتَحَبُّ إعَادَتُهُ وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ لَا يُعِيدُ وَفِي بَعْضِهَا لَمْ يَنْقُصْ أَجْرُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، فَإِذَا تَيَقَّنْت ذَلِكَ عَرَفْت مَا فِي مُطْلَقَاتِ الْمُصَنِّفِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى التَّفْصِيلِ وَالتَّقْيِيدِ [الْمَبْحَثُ الثَّانِي آلَةُ الرِّيَاءِ] (الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ السَّبْعَةِ) (فِيمَا بِهِ الرِّيَاءُ) أَيْ آلَةُ الرِّيَاءِ فَالْبَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْآلَةِ (وَهُوَ خَمْسَةٌ الْأَوَّلُ الْبَدَنُ وَذَلِكَ) أَيْ مَا بِالْبَدَنِ (بِإِظْهَارِ النُّحُولِ) أَيْ الضَّعْفِ وَالسَّقَمِ (لِيَدُلَّ عَلَى قِلَّةِ الْأَكْلِ وَ) عَلَى (شِدَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَ) عَلَى (غَلَبَةِ خَوْفِ) الْقَلْبِ مِنْ (الْآخِرَةِ وَإِظْهَارِ الِاصْفِرَارِ) فِي لَوْنِهِ (لِيَدُلَّ عَلَى سَهَرِ اللَّيْلِ) عَدَمِ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا يَشْكُلُ أَنَّ مِثْلَ الِاصْفِرَارِ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ إظْهَارُهُ إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ بِإِتْيَانِ سَبَبِ الِاصْفِرَارِ لِأَجْلِ مِثْلِ ذَلِكَ الْإِظْهَارِ (وَ) عَلَى (كَثْرَةِ الْحُزْنِ فِي الدِّينِ) ؛ لِأَنَّ الْحُزْنَ الْكَثِيرَ مِنْ أَسْبَابِ الِاصْفِرَارِ (وَذُبُولِ الشَّفَتَيْنِ) أَيْ يُبُوسَتِهِمَا (وَ) إظْهَارِ (خَفْضِ الصَّوْتِ لِيَدُلَّ) كُلُّهُ أَوْ مَجْمُوعُهُ (عَلَى الصَّوْمِ وَ) عَلَى (ضَعْفِ الْجُوعِ) فَإِنَّ جُوعَ الصَّوْمِ يُضْعِفُ الْبَدَنَ فَيُوجِبُ نَحْوَ خَفْضِ الصَّوْتِ. (وَوَقَارِ الشَّرْعِ) أَيْ تَوْقِيرِهِ لَهُ بِنَهْيِهِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ لِابْنِهِ - {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]- (وَحَلْقِ الشَّارِبِ) لِإِظْهَارِ مُوَاظَبَةِ السُّنَّةِ (وَإِطْرَاقِ الرَّأْسِ) طَأْطَأَتِهِ وَإِرْخَائِهِ مَشْيًا وَجُلُوسًا لِإِظْهَارِ الْإِعْرَاضِ عَنْ النَّاسِ وَعَنْ رُؤْيَةِ عُيُوبِهِمْ وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ أَوْ لِإِظْهَارِ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ عَلَى فِكْرِهِ تَعَالَى أَوْ ذِكْرِهِ أَوْ مُلَاحَظَةِ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ (وَالْهُدُوِّ) بِضَمِّ أَوَّلَيْهِ وَسُكُونِ الْوَاوِ السُّكُونِ فِي أَعْضَائِهِ وَالتَّأَنِّي (فِي الْحَرَكَةِ) مَشْيًا وَغَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الصَّالِحِينَ. قَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِرَجُلٍ طَأْطَأَ رَقَبَتَهُ يَا صَاحِبَ الرَّقَبَةِ ارْفَعْ رَقَبَتَك لَيْسَ الْخُشُوعُ فِي الرِّقَابِ وَإِنَّمَا الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ (وَنَحْوِ ذَلِكَ) كَغَضِّ بَصَرِهِ لِيَظُنَّ أَنَّهُ فِي الْمُرَاقَبَةِ وَسَدِّ أُذُنِهِ بِنَحْوِ شَمْعٍ أَوْ قُطْنٍ لِئَلَّا يَسْمَعَ اغْتِيَابَ النَّاسِ وَفُحْشَيَاتِهِمْ وَإِبْقَاءِ أَثَرِ السُّجُودِ فِي جَبْهَتِهِ وَهَذَا رِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ (وَ) أَمَّا (رِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا) بِالْبَدَنِ (بِإِظْهَارِ السِّمَنِ) بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ لِدَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ أَوْ عَلَى غِنَاهُ وَعَدَمِ خِسَّتِهِ بِكَثْرَةِ أَكْلِهِ (وَصَفَاءِ اللَّوْنِ وَاعْتِدَالِ الْقَامَةِ وَحُسْنِ الْوَجْهِ) أَيْ نَضَارَتِهِ وَبَشَرَتِهِ وَإِلَّا فَأَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ لَا مَجَالَ لِلْقَصْدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى فَرَحِ قَلْبِهِ وَعَدَمِ حُزْنِهِ (وَنَظَافَةِ الْبَدَنِ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى اهْتِمَامِهِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ وَلِلْخَوْفِ مِنْ ذَمِّ غَيْرِهِ

(وَنَحْوِهَا) كَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ فِي رَفْعِ شَيْءٍ وَمُصَارَعَةٍ لِرَجُلٍ قَوِيٍّ لِوُصُولِ الدُّنْيَا أَوْ لِلتَّقَرُّبِ إلَى أَحَدٍ أَوْ لِلذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُرَائِي بِهِ أَهْلُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَمِثْلُ هَذَا إنْ كَانَ بِقَصْدِ إظْهَارِ النِّعْمَةِ وَشُكْرِهَا لَيْسَ بِرِيَاءٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الرِّيَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِنَفْعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَا ذُكِرَ رِيَاءً قُلْت قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ يُطْلَقُ الرِّيَاءُ أَيْضًا عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ هُنَا لَكِنْ يَنْبَغِي عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ حُكْمَهُ إمَّا هُنَا أَوْ هُنَالِكَ لَعَلَّ ذَلِكَ كَالنَّهْيِ التَّنْزِيهِيِّ لَا التَّحْرِيمِيِّ بِخِلَافِ الدِّينِيِّ. (وَالثَّانِي) مِنْ الْخَمْسَةِ (الزِّيُّ) بِالْكَسْرِ الْهَيْئَةُ (كَلُبْسِ الصُّوفِ) الَّذِي يَعْتَادُهُ الصُّوفِيَّةُ (وَتَشْمِيرُهُ) تَرْفِيعُهُ (إلَى قَرِيبٍ مِنْ نِصْفِ السَّاقِ) كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ «أُزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ» (وَغَلِيظُ الثِّيَابِ) أَيْ الثَّخِينُ (وَالْمُرَقَّعُ وَالطَّيْلَسَانُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَاحِدُ الطَّيَالِسَةِ وَالْهَاءُ فِي الْجَمْعِ لِلْعُجْمَةِ؛ لِأَنَّهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَهُوَ رِدَاءٌ مُدَوَّرٌ يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ ثَوْبٌ يُلْبَسُ فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ (لِيُظْهِرَ) بِذَلِكَ (أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلسُّنَّةِ) وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ سُنَّةً (وَلِتَنْصَرِفَ إلَيْهِ الْأَعْيُنُ) فَيَمِيلُوا إلَيْهِ (بِسَبَبِ تَمَيُّزِهِ) عَنْهُمْ لِغَرَابَةِ مَلْبَسِهِ بِهِ. (وَلُبْسُ الثِّيَابِ الْمُخَرَّقَةِ) الْبَالِيَةِ الْمُتَقَطِّعَةِ (وَالْوَسِخَةِ) مِنْ عَدَمِ الْغَسْلِ (لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ) قَلْبِهِ (الْهَمِّ) الِاهْتِمَامِ (بِالدِّينِ) وَمُهِمَّاتِ أَحْكَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لِكَمَالِ تَعَمُّقِهِ فِي إحْكَامِ أَحْكَامِ الدِّينِ لَا يَجِدُ وَقْتًا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لِكَمَالِ وَرَعِهِ لَا يَلْتَفِتُ إلَى الْخَلْقِ بَلْ قَصْدُهُ تَطْهِيرُ مَنْظَرِ الْخَالِقِ (وَ) عَلَى (عَدَمِ تَفَرُّغِهِ لِلْخِيَاطَةِ) أَيْ خِيَاطَةِ الْمُخْرَقِ (وَ) كَذَا (الْغُسْلُ) فِي الْوَسِخِ تَرَكَهُ لِظُهُورِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ (أَوْ) يَدُلُّ (عَلَى التَّوَاضُعِ وَكَسْرِ النَّفْسِ) فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا اللُّبْسِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِيمَنْ كَسَرَ نَفْسَهُ (وَ) عَلَى (الْفَقْرِ) إلَى اللَّهِ أَوْ مُطْلَقًا (وَالزُّهْدِ) فِي الدُّنْيَا (وَلَوْ كُلِّفَ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا وَسَطًا) لَا أَعْلَى وَلَا أَدْنَى تَقْيِيدُهُ بِهِ إمَّا لِكَوْنِهِ مَمْدُوحًا فِي نَفْسِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ كِسْوَةَ أَقْرَانِهِ فِي الْغَالِبِ (نَظِيفًا) خَالِيًا مِنْ الْوَسَخِ لِزِيَادَةِ التَّوْضِيحِ وَإِلَّا فَيُفْهَمُ مِنْ الْوَسَطِ (لَكَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ) لَا يَلْزَمُ فِي تَحْقِيقِ وُجُودِهِ هَذِهِ الرُّتْبَةُ بَلْ قَيْدٌ مُخَرَّجٌ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ (لِخَوْفِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ) النَّاظِرُونَ الْوَاقِفُونَ (رَغِبَ فِي الدُّنْيَا) أَقْبَلَ عَلَيْهَا (وَرَجَعَ عَنْ الزُّهْدِ) فَتَسْقُطُ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ (وَمِنْهُمْ) أَيْ الْمُرَائِينَ بِالزِّيِّ (مَنْ يُرِيدُ الْقَبُولَ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا) فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ الْمُتَوَرِّعَ الزَّاهِدَ (مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ) لِيُتَوَصَّلَ مِنْهُمْ نَحْوُ مَتَاعِ الدُّنْيَا. (وَعِنْدَ أَهْلِ الصَّلَاحِ) فَإِنَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ يُحِبُّونَ مَنْ هُوَ نَوْعُهُمْ وَزِيُّهُمْ الظَّاهِرُ غَايَةُ غَرَضِهِ أَيْضًا مُنْتَهِي إلَى الدُّنْيَا وَإِلَّا فَالْقَبُولُ عِنْدَ أَهْلِ الصَّلَاحِ أَمْرٌ مَمْدُوحٌ وَنَفِيسٌ مَطْلُوبٌ (فَلَوْ لَبِسَ الْخَلِقَةَ وَالْوَسِخَةَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِيهِمَا (ازْدَرَتْهُ أَهْلُ الدُّنْيَا) ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الثِّيَابِ مُهَانٌ فِي نَظَرِهِمْ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ مِثْلُ تِلْكَ الثِّيَابِ

مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاحِ فَكَيْفَ يَزْدَرِي بِهِمْ أَهْلُ الدُّنْيَا وَهُمْ يُحِبُّونَ الصُّلَحَاءَ قُلْت ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْعَادَاتِ (وَلَوْ ` ` لَبِسَ الْفَاخِرَةَ رَدَّتْهُ أَهْلُ الدِّينِ) لَا يَقْبَلُونَهُ؛ لِأَنَّ زِيَّ أَهْلِ الدُّنْيَا مَبْغُوضٌ عِنْدَهُمْ لِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ فَإِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ» وَكُلُّ ثَوْبٍ ذِي شُهْرَةٍ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَسَّرَ الشُّهْرَةَ بِمَزِيدِ الزِّينَةِ وَالنُّعُومَةِ أَوْ مَزِيدِ الْخُشُونَةِ وَالرَّثَاثَةِ بِهَا (وَلَا يُعْلَمُ) عِنْدَهُمْ (زُهْدُهُ وَصَلَاحُهُ) وَمُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَمَقْبُولًا عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ. (فَيَطْلُبُونَ الْأَصْوَافَ) جَمْعُ صُوفٍ (الرَّقِيقَةَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الرَّفِيعَةَ بِالْفَاءِ فَالْعَيْنِ (وَالْأَكْسِيَةَ) جَمْعُ كِسَاءٍ ثَوْبٌ مَعْمُولٌ أَيْضًا مِنْ الشَّعْرِ (الرَّقِيقَةَ) قِيلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ بِقَافَيْنِ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ أَوْ بِفَاءٍ فَمُهْمَلَةٍ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي أَحَدِ ذَيْنِك وَالْآخَرُ فِي الْآخَرِ (مِمَّا قِيمَتُهَا قِيمَةُ ثِيَابِ الْأَغْنِيَاءِ) لِكَوْنِهَا ذَاتَ قِيمَةٍ كَثِيرَةٍ (وَهَيْئَتُهَا هَيْئَةُ ثِيَابِ الصُّلَحَاءِ) لِكَوْنِهَا مِنْ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ (فَيَلْتَمِسُونَ الْقَبُولَ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ) أَيْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَهْلِ الصَّلَاحِ لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ حَمَاقَتِهِ وَقِلَّةِ تَدَبُّرِهِ فَإِنَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ تَرِدُ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبِهِ كَذَا وَإِنَّ هَيْئَتَهُ مُوَافِقَةٌ لَهُمْ (وَلَوْ كُلِّفُوا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (لُبْسَ) ثَوْبٍ (خَشِنٍ أَوْ وَسِخٍ لَكَانَ عِنْدَهُمْ كَالذَّبْحِ خَوْفًا مِنْ السُّقُوطِ مِنْ أَعْيُنِ الْمُلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَلَوْ كُلِّفُوا بِلُبْسِ مَا يَلْبَسُهُ الْأَغْنِيَاءُ لَعَظُمَ عَلَيْهِمْ) أَيْ صَعُبَ وَثَقُلَ عَلَيْهِمْ (خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقَالَ رَغِبُوا فِي الدُّنْيَا) مَالُوا إلَيْهَا (وَأَنْ لَا يُعْلَمَ) أَيْ وَخَوْفًا أَنْ لَا يُعْلَمَ (أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالزُّهْدِ) وَغَرَضُهُمْ كَوْنُهُمْ مَقْبُولِينَ عِنْدَهُمْ وَمَعْدُودِينَ مِنْهُمْ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِمْ بِالْفَرِيقَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ سُوءِ الظَّنِّ بَلْ الْمَقْصُودُ إعْلَامُ كَوْنِهِ رِيَاءً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كُلًّا يَعْرِفُ مَا فِي نَفْسِهِ هَذَا رِيَاءُ الْعِبَادِ وَالزُّهَّادِ (وَرِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا) فِي الزِّيِّ (بِالثِّيَابِ النَّفِيسَةِ) كَثِيرَةِ الْقِيمَةِ (وَالْمَرَاكِبِ) مَا يُرْكَبُ عَلَيْهِ كَالْفَرَسِ (الرَّفِيعَةِ) عَلِيَّةِ الْقَدْرِ غَالِيَةِ الْقِيمَةِ. (وَالْمَسَاكِنِ) جَمْعُ مَسْكَنٍ كَالْبُيُوتِ (الْوَاسِعَةِ) لِيُعَظِّمَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمُلُوكُ وَالْأَغْنِيَاءُ وَتَهَابُهُمْ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ (يَلْبَسُونَ) مَعَ ذَلِكَ (فِي بُيُوتِهِمْ الثِّيَابَ الْخَشِنَةَ وَلَا يَخْرُجُونَ بِهَا) إلَى النَّاسِ خَوْفًا مِنْ احْتِقَارِهِمْ وَحَمْلِهِمْ عَلَى الْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ لَهُ بُرْدٌ وَفِي رِوَايَةٍ أَخْضَرُ يَلْبَسُهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ قُلْنَا ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِتَعْظِيمِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ لَا لِتَحْسِينِ مَنْظَرِ النَّاسِ أَوْ لِتَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ الْحَاضِرِينَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَجَمَّلُ لِلْوُفُودِ أَيْضًا قُلْنَا قَالَ الْغَزَالِيُّ كَانَ هَذَا مِنْهُ عِبَادَةً؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي الِاتِّبَاعِ وَاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَلَوْ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِهِمْ لَمْ يَرْغَبُوا فِي اتِّبَاعِهِ فَإِنَّ أَعْيُنَ الْعَوَامّ تَمْتَدُّ إلَى الظَّاهِرِ دُونَ السَّرَائِرِ وَلِهَذَا سُنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حُسْنَ الْهَيْئَةِ وَاللِّبَاسِ وَيَتَعَمَّمُ وَيَرْتَدِي وَأَيَّدَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِخَبَرِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ يَلْبَسُهُمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ» وَفِي شَرْحِ الْأَحْكَامِ فَإِذَا انْصَرَفَ طَوَيْنَاهُمَا إلَى مِثْلِهِ. (تَنْبِيهٌ) : ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ طُولَ رِدَائِهِ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فِي عَرْضِ ثَلَاثَةٍ وَطُولَ إزَارِهِ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرَانِ، وَكَانَ يَلْبَسُهُمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ كُلُّهُ مِنْ الْمُنَاوِيِّ. (وَالثَّالِثُ) مِمَّا بِهِ الرِّيَاءُ (الْقَوْلُ كَالْوَعْظِ) لِلنَّاسِ بِتَرْغِيبِ مَا يَنْفَعُهُمْ وَتَنْفِيرِ مَا يَضُرُّهُمْ (وَالنُّطْقِ بِالْحِكْمَةِ) .

بِالْمَعَارِفِ الْخَفِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ وَالْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَالْحَقَائِقِ الْإِلَهِيَّةِ (وَالْأَخْبَارِ) النَّبَوِيَّةِ (وَالْآثَارِ) عَنْ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ دُونَهُمْ بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ قَالَ فِي نُخْبَةِ الْفِكْرِ الْخَبَرُ مُرَادِفٌ لِلْحَدِيثِ وَقِيلَ الْحَدِيثُ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْخَبَرُ مَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ وَقِيلَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ فَكُلُّ حَدِيثٍ خَبَرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ (إظْهَارًا لِغَزَارَةِ) كَثْرَةِ (الْعِلْمِ وَدَلَالَةً عَلَى شِدَّةِ الْعِنَايَةِ) الِاعْتِنَاءِ وَالِاهْتِمَامِ (بِأَحْوَالِ السَّلَفِ) بِنَقْلِ مَقَالِهِمْ وَذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ وَالِاشْتِغَالِ عَلَى مَا شَغَلَهُمْ (وَكَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ) لِيَظُنَّ النَّاظِرُ أَنَّهُ لَا يُعَطِّلُ وَقْتَهُ بَلْ يَسْتَوْعِبُهُ بِذِكْرِ رَبِّهِ (وَكَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَشْهَدٍ) مَحَلُّ نَظَرٍ وَشُهُودٍ مِنْ (الْخَلْقِ) لَا يَخْفَى أَنَّ نَفْسَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يَنْفَكَّانِ عَنْ الْخَلْقِ فَالْقَيْدُ كَالْمُسْتَدْرَكِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ مَشْهَدِ الْخَلْقِ غَيْرُ الَّذِينَ أُمِرُوا أَوْ نُهُوا لَكِنْ يُوهِمُ عَدَمَ تَحَقُّقِ الرِّيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ. (وَإِظْهَارِ الْغَضَبِ لِلْمُنْكَرَاتِ) إنْ أُرِيدَ بِإِظْهَارِ الْغَضَبِ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ فَدَاخِلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِلَّا فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْفِعْلِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ أَوْ عَطْفِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ لَكِنْ حِينَئِذٍ لَا يُلَائِمُهُ إعَادَةُ الْكَافِ (وَإِظْهَارِ الْأَسَفِ) أَيْ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ (عَلَى مُقَارَفَةِ) بِالْقَافِ فَالرَّاءِ فَالْفَاءِ أَيْ اكْتِسَابِ (النَّاسِ لِلْمَعَاصِي) إظْهَارًا لِغَيْرَتِهِ فِي الدِّينِ (وَتَرْقِيقِ الصَّوْتِ) تَلْيِينِهِ وَتَحْسِينِهِ (بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) لَا لِامْتِثَالِ حَدِيثِ «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» بَلْ (لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى الْحُزْنِ) الْحَاصِلِ فِي فُؤَادِهِ وَتَأَثُّرِهِ مِنْ تَدَبُّرِ مَعَانِيهِ (وَالْخَوْفِ) مِنْ عُقُوبَتِهِ تَعَالَى (وَكَادِّعَاءِ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ) إظْهَارًا لِشَجَاعَتِهِ فِي هَذَيْنِ (وَ) ادِّعَاءِ (لِقَاءِ الشُّيُوخِ) فَيُبَاهِي بِهِمْ وَيَحْتَجُّ عَلَى مَنْ يُخَاصِمُهُ بِهِمْ افْتِخَارًا (وَذِكْرِ مَا فَعَلَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ) فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لِيَنَالَ غَرَضَهُ مِنْ الدُّنْيَا (وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ) مَثَلًا (بِبَيَانِ خَلَلٍ فِي نَقْلِهِ) فِي مَتْنِهِ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا أَوْ سَنَدًا أَوْ جَرْحًا أَوْ تَضْعِيفًا أَوْ تَخْرِيجًا (أَوْ صِحَّتِهِ) كَعَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ (أَوْ لَفْظِهِ) بِنَحْوِ تَبْدِيلٍ أَوْ تَصْحِيفٍ (لِيُعْرَفَ أَنَّهُ بَصِيرٌ) عَالِمٌ مُتْقِنٌ (بِالْأَحَادِيثِ) وَمَاهِرٌ فِي فَنِّهِ بِحَيْثُ أَحَاطَ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ لِإِظْهَارِ الْفَضْلِ فِيهِ فَيَصِيرُ مَرْجِعًا فِيهَا فَيَنَالُ غَرَضَهُ مِنْ الدُّنْيَا لَا يَخْفَى أَنَّ الْحُرْمَةَ إنَّمَا هِيَ مِنْ قَصْدِهِ، وَإِلَّا فَالرَّدُّ فِي مِثْلِ هَذَا النَّقْلِ وَاجِبٌ تَحَاشِيًا عَنْ الدُّخُولِ تَحْتَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» وَالتَّقْرِيرُ كَالتَّحْدِيثِ وَمِنْ طُرُقِ التَّحَمُّلِ سُكُوتُ الشَّيْخِ عَلَى الْحَدِيثِ الْمَقْرُوءِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: السَّامِعُ لِذَلِكَ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ كَذَا قِيلَ لَكِنْ إذَا كَانَ الرَّدُّ حِينَئِذٍ وَاجِبًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْكُتَ لِخَوْفِ الرِّيَاءِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ، وَكَذَا نَحْوُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ (وَكَالْمُجَادَلَةِ) الْمُخَاصَمَةِ لَا عَلَى إظْهَارِ الصَّوَابِ بَلْ (عَلَى قَصْدِ إفْحَامِ) أَيْ تَعْجِيزِ (الْخَصْمِ) وَإِسْكَاتِهِ بِالْحُجَّةِ (لِيُظْهِرَ لِلنَّاسِ قُوَّتَهُ) شَرَفَهُ وَرُتْبَتَهُ (فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ) فَلَوْ كَانَ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ أَوْ لِإِلْزَامِ الْمُتَعَنِّتِ الْقَاصِدِ لِهَتْكِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ بَلْ وَاجِبٌ (وَنَحْوُ ذَلِكَ) مِنْ وُجُوهِ رِيَاءِ

الْقَوْلِ قِيلَ كَرَدِّ غَيْبَةِ أَحَدٍ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إلَى مَحَبَّتِهِ وَنَيْلِ غَرَضِهِ مِنْهُ بِذَلِكَ وَالْخَطَابَةِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِإِظْهَارِ الْفَضِيلَةِ لَعَلَّ مِنْهُ الْخَتْمُ لِرُوحِ الْمَيِّتِ بِالْأُجْرَةِ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ» أَيْ يَجْرِي مَعَهُمْ فِي الْمُنَاظَرَةِ رِيَاءً وَسُمْعَةً «أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ» يُجَادِلُهُمْ مُبَاهَاةً وَفَخْرًا «أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ» أَيْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِنِيَّةِ تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَصَرْفِ وُجُوهِ الْعَامَّةِ «أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ أَكَلَ بِالْعِلْمِ» أَيْ اتَّخَذَ عِلْمَهُ ذَرِيعَةً إلَى جَلْبِ الْمَالِ وَوُصُولِ الدُّنْيَا «طَمَسَ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ» وَفِي رِوَايَةِ الدَّيْلَمِيِّ «طَمَسَ عَزَّ وَجَلَّ عَيْنَهُ وَرَدَّهُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَكَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ، وَإِنْ انْتَفَعَ النَّاسُ بِعِلْمِهِ» ؛ لِأَنَّ مَا أَفْسَدَهُ بِعِلْمِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَصْلَحَهُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ انْزِجَارَ الْجَاهِلِ عَنْ الدُّنْيَا بِانْزِجَارِ الْعَالِمِ فَإِذَا جَعَلَ عِلْمَهُ ذَرِيعَةً إلَى الدُّنْيَا فَيَكُونُ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى مَعَاصِيهِ وَمَعَ ذَلِكَ يُعِدُّ نَفْسَهُ أَنَّهُ خَيْرُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَيَخَافُ مِنْهُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: وَالْعِلْمُ النَّافِعُ مِمَّا يَزِيدُ الْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَصِيرَةَ بِعُيُوبِ النَّفْسِ وَيَطَّلِعُ عَلَى مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ وَغُرُورِهِ وَكَيْفِيَّةِ تَلْبِيسِهِ عَلَى الْعُلَمَاءِ السُّوءِ حَتَّى عَرَّضَهُمْ لِمَقْتِ اللَّهِ حَيْثُ أَكَلُوا الدُّنْيَا بِالدِّينِ وَاتَّخَذُوا الْعِلْمَ ذَرِيعَةً إلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ مِنْ السَّلَاطِينِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْأَوْقَافِ وَالْيَتَامَى وَصَرْفِ هِمَمِهِمْ طُولَ النَّهَارِ إلَى طَلَبِ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إلَى الْمُمَارَاةِ وَالْمُنَافَسَةِ وَالْمُبَاهَاةِ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ وَقِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ الْأَسْمَاءِ لِقَهْرِ مَنْ يَسْتَحِقُّ لِقُوَّةِ ظُلْمِهِ لَيْسَ بِرِيَاءٍ عَلَى مَا بَسَطَ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ هَذَا رِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ. (وَ) أَمَّا (رِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا) فَيَكُونُ (بِالْأَشْعَارِ) الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْأَحْكَامِ (وَالْأَمْثَالِ) الْأَدَبِيَّةِ كَضُرُوبِ الْأَمْثَالِ فِي الْمُكَالَمَةِ (وَإِظْهَارِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ) فِي الْمُخَاطَبَاتِ وَالْمَكْتُوبَاتِ قِيلَ كَإِظْهَارِ التَّوَدُّدِ إلَى النَّاسِ لِاسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ، وَقِيلَ هَذَا أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ تَوَسَّلَ بِهِ لِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. (وَالرَّابِعُ) مِمَّا بِهِ الرِّيَاءُ (الْعَمَلُ كَتَطْوِيلِ الْمُصَلِّي الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ) فِي الْقَوْمَةِ وَالْجَلْسَةِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا كَمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضٍ فِي جَرَيَانِ الرِّيَاءِ خَفَاءً يُعْلَمُ مِمَّا سَبَقَ فَارْجِعْ فَتَدَبَّرْ (وَإِطْرَاقِ) طَأْطَأَةِ (الرَّأْسِ) لِإِيهَامِ أَنَّهُ عَلَى خَوْفٍ وَزِيَادَةِ خَشْيَةٍ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى إنَّهُ لَيْسَ لَهُ خَيْرٌ عَنْ غَيْرِهِ (وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ) إلَى غَيْرِ مَا سُنَّ نَظَرُهُ فِي الصَّلَاةِ (وَإِظْهَارِ الْهُدُوِّ) أَيْ السُّكُونِ فِي الْأَفْعَالِ (وَالسُّكُونِ) كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ لَكِنَّهُ أَتَى بِهِ لِزِيَادَةِ بَسْطِ (وَتَسْوِيَةِ الْقَدَمَيْنِ وَ) تَسْوِيَةِ (الْبَدَنِ) كَالصَّالِحِينَ (فِي مَحْضَرِ النَّاسِ) لِيُعَظِّمُوهُ وَلَا يَذُمُّوهُ (دُونَ الْخَلْوَةِ) فَيَتْرُكُ حِينَئِذٍ (وَقِسْ عَلَيْهَا) عَلَى مَا ذُكِرَ (سَائِرَ الْعِبَادَاتِ) كَإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَمَا قِيلَ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] فَافْهَمْ مَرَّتَيْنِ أَقُولُ وَكَذَا نَحْوُ الْغَزْوِ وَنَوَافِلِ الصَّدَقَةِ وَلَعَلَّ كَذَا بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالْقَنْطَرَاتِ وَنَحْوِهَا هَذَا رِيَاءُ أَهْلِ الْآخِرَةِ (وَرِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا) فِي بَابِ الْعَمَلِ (بِالتَّبَخْتُرِ) التَّمَايُلِ (وَالِاخْتِيَالِ) ، وَهُوَ الْخُيَلَاءُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْكِبْرِ (وَتَقْرِيبِ الْخُطَى) بِالضَّمِّ جَمْعُ خَطْوَةٍ بِالْفَتْحِ قِيلَ عَنْ الْعَوَارِفِ مَرَّ الْمُهَلَّبُ صَاحِبُ جَيْشِ الْحَجَّاجِ مُتَبَخْتِرًا فِي جُبَّةِ خَزٍّ أَيْ إبْرَيْسِمَ فَقَالَ لَهُ مُطَرِّفٌ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذِهِ مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ فَقَالَ: الْمُهَلَّبُ أَمَا تَعْرِفُنِي قَالَ أَعْرِفُك حَقَّ الْمَعْرِفَةِ أَوَّلُك نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ أَيْ فَاسِدَةٌ وَآخِرُك جِيفَةٌ قَذِرَةٌ وَأَنْتَ تَحْمِلُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ عَذِرَةً فَتَرَكَ الْمُهَلَّبُ مِشْيَتَهُ تِلْكَ (وَالْأَخْذِ بِأَطْرَافِ الذَّيْلِ) لِإِظْهَارِ الْخِفَّةِ وَالنَّشَاطِ (وَنَحْوِهِ) كَوَضْعِ أَطْرَافِ الْقَدَمِ وَالْأَصَابِعِ

المبحث الثالث ما قصده المرائي بريائه

عَلَى الْأَرْضِ فِي الْمَشْيِ وَحُكْمُهُ كَسَائِرِ الرِّيَاءِ يُسْمَعُ مِنْ الْمُصَنِّفِ. (وَالْخَامِسُ الْأَصْحَابُ وَالزَّائِرُونَ كَمَنْ يَفْرَحُ بِكَثْرَتِهِمْ) أَيْ بِكَثْرَةِ الْمُصَاحِبِينَ سِيَّمَا مِنْ الْأَشْرَافِ وَكَثْرَةِ الْأَحِبَّاءِ الزَّائِرِينَ سِيَّمَا مِنْ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ (وَ) يَفْرَحُ (بِمَشْيِهِمْ خَلْفَهُ) أَوْ إزَاءَهُ وَقُدَّامَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الرُّسُومِ وَالْعَادَاتِ (عِنْدَ ذَهَابِهِ إلَى الْجُمُعَةِ أَوْ الدَّعْوَةِ) هَذَا عَلَى مَخْرَجِ الْعَادَةِ وَإِلَّا فَكَذَا فِي كُلِّ خُرُوجٍ نَحْوِ الدَّرْسِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى عُلُوِّ مَقَامِهِ وَرَفْعِ قَدْرِهِ وَشَرَفِ مَنْزِلَتِهِ وَرُتْبَتِهِ وَرَغْبَةُ الْخَلْقِ إلَيْهِ مَوْجُودَةٌ فِي الْجَمِيعِ لَعَلَّ أَحَدَ الْمِثَالَيْنِ لَمَّا خَرَجَ لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ وَالْآخِرَةِ لِأَمْرِ نَفْسِهِ وَالدُّنْيَا (وَيُبَاهِي) يَفْتَخِرُ (بِهِمْ) تَرَفُّعًا عَلَى الْغَيْرِ (وَلَا يَذْهَبُ وَحْدَهُ لِيُقَالَ إنَّهُ مُرْشِدٌ كَامِلٌ لَهُ أَتْبَاعٌ كَثِيرَةٌ) لِيَنَالَ بِهِ مِنْ نَحْوِهِ الْجَاهَ وَإِقْبَالَ الْخَلْقِ وَحُصُولَ مُرَادِهِ مِنْهُمْ هَذَا رِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ فِي هَذَا الْبَابِ (وَرِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا) بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَصْحَابِ وَالزُّوَّارِ (لِيُقَالَ إنَّهُ ذُو قُدْرَةٍ وَقُوَّةٍ) عَظِيمَةٍ عَلَى تَحْصِيلِ كُلِّ مَا أَرَادَهُ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ (وَثَرْوَةٍ) كَثْرَةُ الْعَدَدِ مِنْ النَّاسِ وَالْمَالِ نُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ (وَعَبِيدٍ) جَمْعُ عَبْدٍ (وَخَدَمٍ) جَمْعُ خَادِمٍ (كَثِيرَةٍ) قِيلَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْإِحْيَاءِ لَكِنْ كَوْنُ كُلِّ ذَلِكَ رِيَاءً إنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ، ثُمَّ قَالَ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ عَلَامَةً وَلِلْمُؤْمِنِ فِرَاسَةً أَقُولُ هَذَا الْبَابُ مِنْ الْوِجْدَانِيَّاتِ فَالتَّفْصِيلُ لِمَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْفِرَاسَاتِ الدَّالَّةِ وَإِلَّا فَالِاطِّلَاعُ مِنْ الْخَارِجِ عَلَى مَا فِي الْبَاطِنِ مُتَعَسِّرٌ وَلَا يَخْلُو عَنْ سُوءِ ظَنٍّ فَتَأَمَّلْ أَنْتَ أَيْضًا. [الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مَا قَصَدَهُ الْمُرَائِي بِرِيَائِهِ] (الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) مِنْ السَّبْعَةِ (فِيمَا لَهُ) لِأَجْلِهِ (الرِّيَاءُ) أَيْ مَا قَصَدَهُ الْمُرَائِي بِرِيَائِهِ (وَهُوَ الْجَاهُ) أَيْ الْقَدْرُ وَالْمَنْزِلَةُ عِنْدَ النَّاسِ (وَاسْتِمَالَةُ الْقُلُوبِ) طَلَبُ مَيْلِ قُلُوبِ النَّاسِ إلَيْهِ وَجَذْبِهِمْ إلَى مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَمَدْحِهِ لِقَضَائِهِمْ حَاجَتَهُ وَيُؤَدُّوا مَصَالِحَهُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنْ لَا يَنْحَصِرَ مَا لَهُ الرِّيَاءُ بِالْجَاهِ بَلْ يَضُمُّ إلَيْهِ الْمَالَ وَقَضَاءَ الشَّهْوَةِ وَدَفْعَ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ رُجُوعَ الْكُلِّ إلَى الِاسْتِمَالَةِ، وَإِنْ بَعِيدًا، وَهُوَ (إمَّا) مَقْصُودٌ (لِذَاتِهِ) بِلَا تَوَسُّلٍ إلَى شَيْءٍ يَعْنِي يَجْعَلُ نَفْسَ الْجَاهِ وَالِاسْتِمَالَةِ مَقْصُودًا مِنْ رِيَائِهِ كَمَنْ يَقْصِدُ بِرِيَائِهِ الِاشْتِهَارَ بِالزُّهْدِ وَكَثْرَةِ الْمُرِيدِينَ كَمَا يُصَرِّحُ الْمُصَنِّفُ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ قَصْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ التَّوَسُّلَاتِ الَّتِي يَذْكُرُهَا فَالتَّقَابُلُ لَيْسَ بِحَسَنٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ وَقَصَدَهُ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَا لَا يَقْصِدُهُ لَكِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَلَا يَعْلَمُهُ (وَإِمَّا لِلتَّوَسُّلِ بِهِ إلَى مَعْصِيَةٍ) مِنْ نَحْوِ الْوَصْلَةِ إلَى أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْفُجُورِ إلَى النِّسْوَانِ وَالْغِلْمَانِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ تَفْصِيلًا فَالتَّمْثِيلُ بِنَحْوِ شُرْبِ الْخَمْرِ لَا حَاصِلَ لَهُ (أَوْ مُبَاحٍ) كَمَنْ يُرَائِي لِيُرَغِّبَ النِّسْوَانَ فِي نِكَاحِهِ (أَوْ طَاعَةٍ) كَمُتَعَلِّمٍ يُرَائِي بِطَاعَتِهِ لِيَنَالَ عِنْدَ الْمُعَلِّمِ رُتْبَةً فَيَتَعَلَّمَ مِنْهُ عِلْمًا نَافِعًا (فِي اعْتِقَادِهِ) إمَّا قَيْدٌ لِلتَّوَسُّلِ أَوْ لِلثَّلَاثَةِ أَوْ لِلْأَخِيرَيْنِ فَعَلَى الْأَوَّلِ الْمُعْتَبَرِ قَصْدُ التَّوَسُّلِ إلَى ذَلِكَ لَا الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ كَمَا قِيلَ وَعَلَى الثَّانِي يَعْنِي يَصِلُ إلَيْهَا بِإِمَالَةِ الْقُلُوبِ إلَيْهِ وَلَوْ فِي اعْتِقَادِ الْمُرَائِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا قِيلَ وَعَلَى الثَّالِثِ كَوْنُهُمَا طَاعَةً وَمُبَاحًا فِي اعْتِقَادِ الْمُرَائِي لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا قِيلَ أَيْضًا لَا يَخْفَى مَا فِي الْكُلِّ مِنْ عَدَمِ الْمَحْصُولِ الْمُعْتَدِّ بِهِ لَعَلَّ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ لَا يَذْكُرَهُ (وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ) الْمَعْصِيَةُ وَالطَّاعَةُ وَالْمُبَاحُ (أَغْرَاضًا) ابْتِدَاءً (مِنْ الرِّيَاءِ بِغَيْرِ تَوَسُّطِ)

قَصْدِ (جَاهٍ) فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الثَّلَاثَةِ مَقْصُودًا بِلَا تَوَسُّطِ جَاهٍ (فَتِلْكَ) جُمْلَةُ مَا لِأَجْلِهِ الرِّيَاءُ (أَرْبَعَةٌ) ذَاتُ الْجَاهِ مَعَ اسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ الْمَعْصِيَةُ الطَّاعَةُ الْمُبَاحُ لَكِنْ إذَا لُوحِظَ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ تَكُونُ الْأَقْسَامُ سَبْعَةً لَعَلَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ لِاتِّحَادِ كُلِّ قِسْمٍ مَعَ قَرِينِهِ كَمَا يُفْهَمُ مِمَّا سَيُفَصِّلُهُ الْمُصَنِّفُ (وَلِكُلٍّ) لِأَجْلِ كُلٍّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ (يَقَعُ الرِّيَاءَانِ) رِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا (أَمَّا الْأَوَّلُ) لِذَاتِ الْجَاهِ وَالِاسْتِمَالَةِ نَفْسِهِمَا أَمَّا فِي الدِّينِ (فَكَمَنْ يَقْصِدُ بِعِبَادَتِهِ أَنْ يَشْتَهِرَ بِالزُّهْدِ) الْإِعْرَاضُ عَنْ الدُّنْيَا (وَالْإِرْشَادِ وَكَثْرَةِ الْمُرِيدِينَ) وَالْمُتَعَلِّمِينَ (وَالْأَحِبَّاءِ) لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ بِالِاشْتِهَارِ وَمِلْكِ قُلُوبِ النَّاسِ بِلَا قَصْدِ تَوَسُّلٍ إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ (وَكَمَنْ يَمْشِي) مُنْفَرِدًا (عَجِلًا فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ فَيَتْرُكُ الْعَجَلَةَ) وَيَمْشِي هَوْنًا عَلَى مَشْيِ الزُّهَّادِ وَالْوُرَّاعِ (كَيْ لَا يُقَالَ إنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ) أَيْ الْغَفْلَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا (وَالسَّهْوِ) ذُهُولِ الْقَلْبِ عَنْ مُلَاحَظَةِ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ (لَا مِنْ أَهْلِ الْوَقَارِ) مِنْ الْعِبَادِ وَالْعُلَمَاءِ فَتَسْقُطُ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ النَّاسِ وَلَا تَمِيلُ قُلُوبُهُمْ إلَيْهِ هَذَا رِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ أَيْضًا لَكِنْ لَا بِالْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْكَافَ لِإِيذَانِهِ نَوْعًا آخَرَ (وَمِنْهُمْ) مِنْ أَهْلِ مُرِيدِ نَفْسِ الْجَاهِ فِي الدِّينِ (مَنْ إذَا سَمِعَ) مِنْ النَّاسِ (هَذَا) أَيْ قَوْلَ النَّاسِ إنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ وَالسَّهْوِ (اسْتَحَى) مِنْ النَّاسِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اسْتَحْيَا (أَنْ يُخَالِفَ مِشْيَتَهُ فِي الْخَلْوَةِ مِشْيَتَهُ بِمَرْأًى مِنْ النَّاسِ) فَيَنْسُبُونَهُ لِلرِّيَاءِ (فَيُكَلِّفُ نَفْسَهُ) أَيْ يَتَعَوَّدُ (الْمِشْيَةَ الْحَسَنَةَ) بِالْوَقَارِ (فِي الْخَلْوَةِ أَيْضًا) كَمَا بَيْنَ النَّاسِ (حَتَّى إذَا رَآهُ النَّاسُ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى التَّغْيِيرِ) فِي مِشْيَتِهِ (وَيَظُنُّ أَنَّهُ تَخَلَّصَ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ التَّعَوُّدِ (مِنْ الرِّيَاءِ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ تَضَاعَفَ) أَيْ تَكَثَّرَ (بِهِ رِيَاؤُهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُحْسِنُ مِشْيَتَهُ فِي خَلْوَتِهِ لِيَكُونَ كَذَلِكَ) حَسَنَ الْمِشْيَةِ (فِي الْمَلَأِ) بَيْنَ النَّاسِ (لَا لِحَيَاءٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) حَتَّى يَخْلُصَ بِهِ مِنْ الرِّيَاءِ أَوْ؛ لِأَنَّ رِيَاءَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَالْجَلْوَةِ مَعًا وَالْأَوَّلُ فِي الْخَلْوَةِ فَقَطْ، فَإِنَّ الْمَدَارَ هُوَ النِّيَّةُ وَالْعَزِيمَةُ (وَكَذَلِكَ مَنْ يَسْبِقُ مِنْهُ الضَّحِكُ) لِلِانْفِعَالِ مِنْ أَمْرٍ غَرِيبٍ (أَوْ يَبْدُو مِنْهُ الْمِزَاحُ) أَيْ اللَّعِبُ فَإِنَّهُ مَا لَا جَدَّ فِيهِ كَاللَّعِبِ كَذَا قِيلَ لَكِنْ الْمِزَاحُ قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ (فَيَخَافُ أَنْ يُنْظَرَ إلَيْهِ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ) فَيَسْقُطُ جَاهُهُ (فَيُتْبِعُ) فَوْرًا (ذَلِكَ) الضَّحِكَ (بِالِاسْتِغْفَارِ) إظْهَارًا لِكَرَاهَةِ ذَلِكَ (وَيَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ) بِالصَّادِ الْمَضْمُومَةِ مَدُّ النَّفَسِ لِأَمْرٍ شَاقٍّ عَادَةً وَحَاصِلُهُ التَّنَفُّسُ بِتَوْجِيعٍ وَتَنْدِيمٍ (وَيَقُولُ مَا أَعْظَمَ غَفْلَةَ الْآدَمِيِّ عَنْ نَفْسِهِ) إظْهَارًا لِإِنْكَارِ ذَلِكَ وَتَدَارُكًا لِمَا سَهَا عَنْهُ (وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ) بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ (لَمَا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ) بَلْ إنَّمَا ثَقُلَ لِمَحْضَرِ النَّاسِ

(وَإِنَّمَا يَخَافُ أَنْ يُنْظَرَ إلَيْهِ لَا بِعَيْنِ التَّوْقِيرِ) فَيَسْقُطُ جَاهُهُ لَعَلَّ هَذَا وَنَحْوَهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَكَمْ مِنْ شَخْصٍ يَرَى بَعْضَ النَّاسِ كَالْأَبَاعِدِ وَالْأَشْرَافِ دُونَ بَعْضٍ كَخَدَمِ نَفْسِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَالْأَرَاذِلِ فَهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ اللَّهِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ، وَهُوَ مَعَهُمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ سِرِّهِمْ وَنَجْوَاهُمْ قِيلَ إنَّ هَذَا أَيْضًا يُضَاعِفُ رِيَاءَهُ؛ لِأَنَّ خَوْفَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً رِيَاءٌ وَاسْتِغْفَارَهُ ذَلِكَ رِيَاءٌ آخَرُ لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْخَوْفِ بِلَا عَمَلٍ لَا يَكُونُ رِيَاءً (وَكَاَلَّذِي يَرَى جَمَاعَةً يَتَهَجَّدُونَ) فِي اللَّيْلِ (أَوْ يَصُومُونَ) النَّوَافِلَ (أَوْ يَتَصَدَّقُونَ) نَافِلَةً (فَيُوَافِقُهُمْ) فِي التَّهَجُّدِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ (خِيفَةَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْكَسَلِ وَيَلْحَقَ بِالْعَوَامِّ) فَيَذْهَبُ جَاهُهُ وَلَوْ وَافَقَهُمْ اقْتِدَاءً بِهِمْ فِي طَلَبِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى تَذَكُّرًا مِنْ سُنَّتِهِمْ فَلَيْسَ بِرِيَاءٍ بَلْ مَمْدُوحٌ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ لَهُ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ تَعَالَى (وَلَوْ خَلَا) عَنْ الْخَلْقِ (بِنَفْسِهِ لَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْهُ) لِانْتِفَاءِ بَاعِثِ عَمَلِهِ مِنْ اسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ وَكَذَا فِي مُوَافَقَةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَصَوْمِ يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالِاثْنَيْنِ وَأَيَّامِ الْبِيضِ (وَكَاَلَّذِي يَعْطَشُ) أَيْ يُظْهِرُ الْعَطَشَ (يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاءَ) عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ مَعَ تَاسِعِهِ أَوْ حَادِي عَشَرَ مِنْهُ فَإِنَّ صَوْمَ الْعَاشِرِ فَقَطْ مَكْرُوهٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَعَشَرَةِ ذِي الْحَجَّةِ بَلْ عَشَرَةُ الْمُحَرَّمِ (فَلَا يَشْرَبُ) الْمَاءَ فِي الْمَلَأِ وَيَبْقَى ظَمْآنَ (خَوْفًا مِنْ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ) فَيَزُولُ مِلْكُ قُلُوبِهِمْ وَيَسْقُطُ مِنْ نَظَرِهِمْ (وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ) إلَى الشَّرَابِ لِاشْتِدَادِ عَطَشِهِ وَلَمْ يَجِدْ مَكَانًا خَالِيًا فَيَشْرَبْ (ذَكَرَ لِنَفْسِهِ عُذْرًا) مِنْ عَدَمِ صَوْمِهِ (تَصْرِيحًا) بِكَوْنِهِ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا (أَوْ تَعْرِيضًا) عَلَى طَرِيقِ الْإِيمَاءِ وَالْكِنَايَةِ (بِأَنْ يَتَعَلَّلَ بِمَرَضٍ اقْتَضَى فَرْطَ الْعَطَشِ) الَّذِي يُوجِبُ وَيَضْطَرُّ إلَى الْمَاءِ أَوْ يَقُولُ إذَا صُمْت يَزِيدُ عَطَشِي (أَوْ يَقُولُ أَفْطَرْت تَطْيِيبًا لِقَلْبِ فُلَانٍ) لِكَوْنِهِ ضَيْفًا أَوْ مُضِيفًا هَذَانِ مِنْ الْعُذْرِ الصَّرِيحِ لَعَلَّ التَّعْرِيضَ قَوْلُهُ (وَقَدْ لَا يَذْكُرُ ذَلِكَ) الْعُذْرَ (مُتَّصِلًا بِشُرْبِهِ كَيْ لَا يَظُنَّ أَنَّهُ يَعْتَذِرُ) مِنْ الشُّرْبِ (رِيَاءً، وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ) عَنْ الِاعْتِذَارِ (ثُمَّ) بَعْدَ زَمَانٍ (يَذْكُرُ عُذْرَهُ فِي مَعْرِضِ) مُنَاسَبَةِ (حِكَايَةٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنَّ فُلَانًا) مِنْ نَحْوِ الْعُظَمَاءِ مَثَلًا (مُحِبٌّ لِلْإِخْوَانِ شَدِيدُ الرَّغْبَةِ فِي أَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَعَامِهِ) وَلَا يَرْضَى بِوَجْهٍ إلَّا بِالْأَكْلِ مِنْ طَعَامِهِ (وَقَدْ أَلَحَّ الْيَوْمَ عَلَيَّ) مِنْ الْإِلْحَاحِ وَالْإِقْدَامِ (وَلَمْ أَجِدْ بُدًّا) خَلَاصًا (مِنْ تَطْيِيبِ قَلْبِهِ) فَأَفْطَرْت (وَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ) فِي اعْتِذَارِ إفْطَارِهِ (إنَّ أُمِّي ضَعِيفَةُ) رَقِيقَةُ (الْقَلْبِ مُشْفِقَةٌ عَلَيَّ تَظُنُّ أَنِّي لَوْ صُمْت يَوْمًا مَرِضْت فَلَا تَدَعُنِي) فَلَا تَتْرُكُنِي أَنْ (أَصُومَ) لِهَذَا أَفْطَرْت هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ حَالُ الْمُرَائِي (وَأَمَّا الْمُخْلِصُ) فِي ذَلِكَ (فَلَا يُبَالِي كَيْفَ نَظَرَ الْخَلْقُ إلَيْهِ)

لِكَوْنِ نَظَرِهِ إلَى الْخَالِقِ لَكِنْ لَوْ فَعَلَ مِثْلَ الْمَذْكُورَاتِ قَائِلًا لِئَلَّا يُقْتَدَى بِي فَأَكُونَ سَبَبًا إلَى فِعْلِهِمْ الْقَبِيحِ فَإِنَّ مَنْ خَافَ الْوِزْرَ وَالْوَبَالَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ فَلَيْسَ بِرِيَاءٍ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الصَّوْمِ وَ) الْحَالُ (قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ) عَدَمَ الرَّغْبَةِ (مِنْهُ) مِنْ الْمُخْلِصِ (فَلَا يُرِيدُ) هُوَ (أَنْ يَعْتَقِدَ غَيْرُهُ) تَعَالَى مِنْ خَلْقِهِ (مَا يُخَالِفُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونَ) بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ (مُلْتَبِسًا) خَالِطًا عَمَلَهُ بِالرِّيَاءِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُلْبِسًا أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ. (وَإِنْ كَانَ لَهُ) لِلْإِنْسَانِ (رَغْبَةٌ فِي الصَّوْمِ) طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ تَعَالَى (قَنِعَ) بِكَسْرِ النُّونِ أَيْ اكْتَفَى (بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى) عَنْهُ (وَلَمْ يُشْرِكْ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ (غَيْرَهُ) وَلَمْ يَرْضَ بِعِلْمِ الْغَيْرِ فَضْلًا عَنْ الْإِظْهَارِ (إلَّا أَنْ يَخْطِرَ لَهُ) بِبَالِهِ (أَنَّ فِي إظْهَارِهِ) أَيْ فِي نَحْوِ الصَّوْمِ وَبِاطِّلَاعِ غَيْرِهِ تَعَالَى (اقْتِدَاءَ غَيْرِهِ بِهِ) عَلَى طَرِيقِ حَدِيثِ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً» (فَيَظْهَرُ) حِينَئِذٍ بِنِيَّةِ اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ بِهِ لِيَكُونَ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى ثَوَابِهِ، ثُمَّ أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْحَقَ بِذَلِكَ الْإِظْهَارِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَحْبُوبًا فِي نَظَرِ الْمُؤْمِنِينَ سِيَّمَا الصَّالِحِينَ عَلَى مُلَاحَظَةِ مَضْمُونِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِأَنَّ الْمَرْءَ يَكُونُ مَغْفُورًا بِشَهَادَةِ الصُّلَحَاءِ بِحُسْنِ حَالِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَغْرَاضِ الْحَمِيدَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إلَى النَّاسِ، ثُمَّ إلَى هُنَا كُلِّهِ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الرِّيَاءِ لِأَهْلِ الدِّينِ لِأَجْلِ الْجَاهِ نَفْسِهِ مُشِيرًا إلَى أَقْسَامِهِ وَمَرَاتِبِهِ (وَ) أَمَّا لِوُقُوعِ أَهْلِ الدُّنْيَا لِأَجْلِهِ (كَمَنْ يُرِيدُ بِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ) كَالْإِقْدَامِ فِي الْحُرُوبِ وَالْمَخَاوِفِ (وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ) فِي السِّيَاسَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِ الْعَوَامّ وَالْخَوَاصِّ وَنِظَامِ مَهَامِّ الْمُسْلِمِينَ وَبِالْجُمْلَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِنِظَامِ الدَّوْلَةِ وَاسْتِقْرَارِ الْمُلْكِ وَالسَّلْطَنَةِ فِي أَحْوَالِ (الْإِمَارَةِ) بِالْكَسْرِ الْوِلَايَةُ (وَالْوِزَارَةِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ الثِّقَلِ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ عَنْ الْمَلِكِ ثِقَلَ التَّدْبِيرِ (وَنَحْوِهِمَا) مِنْ الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ. (وَأَمَّا الثَّانِي) مِنْ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ وُقُوعُ الرِّيَاءِ لِأَجْلِ الْجَاهِ لَا لِنَفْسِهِ بَلْ لِلتَّوَسُّلِ إلَى مَعْصِيَةٍ (فَكَمَنْ يُرَائِي بِعِبَادَتِهِ) مِنْ نَحْوِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ (وَيُظْهِرُ التَّقْوَى) الِاحْتِرَازَ عَنْ الْمَعَاصِي حَتَّى الشُّبُهَاتِ (وَالْوَرَعَ) أَيْ التَّدْقِيقَ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ (وَالِامْتِنَاعَ مِنْ أَكْلِ الشُّبُهَاتِ) وَتَخْصِيصُ الْأَكْلِ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ (لِيُعْرَفَ بِالْأَمَانَةِ) وَالِاسْتِقَامَةِ بِمُرَاعَاةِ الْحُقُوقِ بِلَا إضَاعَةٍ (فَيُوَلَّى) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (الْقَضَاءَ) أَيْ يُقَلِّدُ لَهُ الْإِمَامُ الْقَضَاءَ (أَوْ الْأَوْقَافَ) أَيْ يَجْعَلُهُ الْإِمَامُ مُتَوَلِّيًا لِلْأَوْقَافِ لَمَّا رَأَى مِنْهُ الْأَمَانَةَ وَأَمَارَةَ عَدَمِ الْإِضَاعَةِ وَالِاحْتِيَاطِ (أَوْ مَالَ الْأَيْتَامِ) أَيْ يَجْعَلُهُ وَصِيًّا لِلْأَيْتَامِ (أَوْ يُودَعُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (الْوَدَائِعَ) مِنْ طَرَفِ النَّاسِ (فَيَأْخُذُهَا وَيَجْحَدُهَا) أَوْ يُسَلِّمُ إلَيْهِ مَالَ الزَّكَاةِ لِيَقْسِمَ عَلَى الْمَحَاوِيجِ أَوْ صَدَقَةَ إسْقَاطِ الصَّلَاةِ فَيَأْكُلُهَا كُلًّا أَوْ بَعْضًا (وَكَمَنْ يُظْهِرُ زِيَّ التَّصَوُّفِ) أَيْ هَيْئَةَ الصُّوفِيَّةِ مِنْ الْكِسْوَةِ وَالسِّيرَةِ أَوْ الْأَخْلَاقِ (وَهَيْئَةِ الْخُشُوعِ) كَإِخْفَاءِ الصَّوْتِ وَغَضِّ الْبَصَرِ. (وَكَلَامَ

الْحِكْمَةِ) كَالتَّكَلُّمِ بِاصْطِلَاحَاتِ الصُّوفِيَّةِ وَالتَّرْغِيبَاتِ وَالتَّرْهِيبَاتِ (عَلَى سَبِيلِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ لِيُحَبَّبَ إلَى امْرَأَةٍ أَوْ غُلَامٍ) أَمْرَدَ (لِأَجْلِ الْفُجُورِ) بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ أَوْ الْغُلَامِ بِالزِّنَى وَاللُّوَاطَةِ (وَكَمَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْعِلْمِ أَوْ حَلْقَ الذِّكْرِ) مِنْ نَحْوِ ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا لِلصُّوفِيَّةِ (لِمُلَاحَظَةِ النِّسْوَانِ أَوْ الصِّبْيَانِ) الَّذِينَ يَحْضُرُونَ هُنَالِكَ فَيَنْظُرُ بِشَهْوَةٍ أَوْ يَمَسُّ أَوْ يُقَبِّلُ قِيلَ هُنَا، وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى الصِّبْيَانِ الْحِسَانِ الْمُجَرَّدُ عَنْ نَظَرِ الشَّهْوَةِ فَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ قَالَ الْغَزَالِيُّ الْمَحَبَّةُ قَدْ تَكُونُ لِذَاتِ الشَّيْءِ لَا لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَقَضَاءُ الشَّهْوَةِ لَذَّةٌ أُخْرَى وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ قَاضِيَةٌ بِاسْتِلْذَاذِ النَّظَرِ إلَى الْأَنْوَارِ وَالْأَزْهَارِ وَالْأَطْيَارِ الْمَلِيحَةِ وَالْأَلْوَانِ الْحَسَنَةِ حَتَّى إنَّ الْإِنْسَانَ لَيُفَرِّجُ عَنْهُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا لَا لِطَلَبِ حَظٍّ وَرَاءَ النَّظَرِ كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّءُوفِ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّهُ فِرْيَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ وَلَا الْإِشْعَارُ فِيمَا نَقَلَهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ فَضْلًا عَنْ الدَّلَالَةِ، ثُمَّ هَذَا رِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ بِالْجَاهِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا مِثَالُ رِيَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا لِأَجْلِ الْجَاهِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْمَعْصِيَةِ فَقَوْلُهُ (وَكَمَنْ يُظْهِرُ الشَّجَاعَةَ وَحُسْنَ السِّيَاسَةِ) بِإِصَابَةِ الرَّأْيِ فِي نِظَامِ الْأُمُورِ (وَالضَّبْطَ) بِحِفْظِ أَحْوَالِ الْأَنَامِ وَعَدَمِ نِسْيَانِهَا (لِيَصِلَ إلَى وِلَايَةٍ) لِنَحْوِ مَنْصِبٍ أَوْ رِيَاسَةٍ (أَوْ وِصَايَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا) كَالْأَوْقَافِ (فَيَتَمَكَّنُ مِنْ) إتْيَانِ (الْمُحَرَّمَاتِ الْمُشْتَهَيَاتِ لَهُ) كَالزِّنَا وَاللُّوَاطَةِ. (وَأَمَّا) الْقِسْمُ (الثَّالِثُ) ، وَهُوَ الرِّيَاءُ لِأَجْلِ الْجَاهِ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الْمُبَاحِ (فَكَمَنْ يُرَائِي بِعِبَادَتِهِ لِيُبْذَلَ لَهُ الْأَمْوَالُ وَتَرْغَبُ فِي نِكَاحِهِ النِّسَاءُ) قِيلَ هُنَا عَنْ قُوتِ الْقُلُوبِ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي وَاقِدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَخِي سُلَيْمَانَ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يَخْدُمُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَجَعَلَ يَقُولُ حَدَّثَنِي مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ حَتَّى كَثُرَ مَالُهُ وَفَقَدَهُ مُوسَى دَهْرًا فَجَعَلَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَسْأَلُ عَنْهُ فَلَا يُحِسُّ مِنْهُ أَثَرًا حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ ذَاتَ يَوْمٍ وَفِي يَدِهِ خِنْزِيرٌ وَفِي عُنُقِهِ حَبْلٌ أَسْوَدُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَتَعْرِفُ فُلَانًا قَالَ نَعَمْ هُوَ هَذَا الْخِنْزِيرُ فَقَالَ مُوسَى يَا رَبِّ أَسْأَلُك أَنْ تَرُدَّهُ إلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ حَتَّى أَسْأَلَهُ مِمَّ أَصَابَهُ هَذَا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ لَوْ دَعَوْتنِي بِاَلَّذِي دَعَانِي آدَم فَمَنْ دُونَهُ مَا أَجَبْتُك فِيهِ، وَلَكِنِّي أُخْبِرُك إنَّمَا صَنَعْت بِهِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ كَذَا ذَكَرَهُ النَّجْمُ الْغَزِّيِّ فِي حُسْنِ التَّنْبِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمَسْخُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا فِي الْمَاضِيَةِ لَرَأَيْت مِمَّنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ خَنَازِيرَ كَثِيرَةً، وَلَكِنْ الْمَسْخُ الْآنَ وَقَعَ فِي الْقُلُوبِ لَا فِي الصُّوَرِ الظَّاهِرَةِ. (وَيُسَارِعُ فِي خِدْمَتِهِ أَوْ حَاجَتِهِ النَّاسُ) بِلَا طَلَبِهِ فَإِنَّ فِي الطَّلَبِ قَدْ لَا يُوجَدُ الْمُبَاحُ لِعَدَمِ الرِّضَا (وَكَمَنْ يُخَفِّفُ الصَّلَاةَ وَيَتْرُكُ التَّعْدِيلَ) بِاطْمِئْنَانِ الْجَوَارِحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَوْمَةِ وَالْجَلْسَةِ (وَ) بِتَرْكِ (الْآدَابِ) الْمَطْلُوبَةِ فِي الصَّلَاةِ مِثْلُ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ (فِي الْخَلْوَةِ) عِنْدَ عَدَمِ رُؤْيَةِ النَّاسِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ يُرَائِي لِأَجْلِهِ (وَيُطِيلُهَا) أَيْ الصَّلَاةَ (وَيُرَاعِي التَّعْدِيلَ وَالْآدَابَ) فِيهَا (فِي الْمَلَأِ) عِنْدَ النَّاسِ (فِرَارًا عَنْ إيذَاءِ النَّاسِ بِمَذَمَّتِهِ) لَا لِطَلَبِ رِضَاهُ تَعَالَى (وَغِيبَتِهِ) بِالْكَسْرِ أَيْ ذِكْرِهِ بِسُوءِ فِعَالِهِ فِي غِيَابِهِ (لَا طَلَبًا لِلْمَدْحِ مِنْهُمْ) مِنْ النَّاسِ (وَلَا ثَوَابًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ رِيَاءً بِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّ حُبَّ الْمَدْحِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مَحْظُورٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188]- وَالثَّانِي يَكُونُ رِيَاءً بِطَاعَةٍ (وَكَمَنْ يُصَلِّي أَوْ يَقْرَأُ أَوْ يُهَلِّلُ لِأَخْذِ الْمَالِ) عَلَى ذَلِكَ (وَالتَّلَذُّذِ بِهِ) أَيْ بِالْمَالِ هَذَا رِيَاءُ أَهْلِ الدِّينِ

لِلْمُبَاحِ لَكِنْ هَذَا لَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ سُوءَ أَدَبٍ وَلَوْ تَعْرِيضًا وَإِشَارَةً وَالسُّؤَالُ حَرَامٌ وَالْقَوْلُ إنَّ الْإِبَاحَةَ إنَّمَا هِيَ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُلَائِمُ السِّيَاقَ وَيَشْكُلُ بِمَا فِي الْفَتَاوَى مِنْ تَجْوِيزِ خُرُوجِ طَلَبَةِ الْعُلُومِ فِي الْمَوَاسِمِ لِنَحْوِ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ لِيَجْمَعُوا لَهُ شَيْئًا يَدَّخِرُونَهُ فِي أَوَانِ التَّحْصِيلِ نَعَمْ الضَّرُورَةُ قَاضِيَةٌ هُنَا وَإِلَّا يَتَعَطَّلَ الْعِلْمُ وَلَا يَتَحَصَّلُ، وَأَمَّا نَحْوُ الْإِمَامَةِ وَالتَّأْذِينِ وَتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ بِالْأُجْرَةِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَكَالْمِثَالِ الْأَخِيرِ لِلثَّانِي) ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الشَّجَاعَةَ وَحُسْنَ السِّيَاسَةِ وَالضَّبْطَ لِيَصِلَ إلَى وِلَايَةٍ وَوِصَايَةٍ (لِيَصِلَ) بِالْمَذْكُورَاتِ (إلَى الْمُشْتَهَيَاتِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ) وَهَذَا مِثَالُ الرِّيَاءِ لِأَجْلِ الْمُبَاحِ نَفْسِهِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَهَذَا الْمِثَالُ مُبَاحٌ فِي اعْتِقَادِهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ حَرَامٌ قَطْعًا. (وَأَمَّا الرَّابِعُ) ، وَهُوَ الرِّيَاءُ لِأَجْلِ الْجَاهِ لِلتَّوَسُّلِ بِهِ إلَى طَاعَةٍ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ لِنَفْسِهَا (فَكَالْمِثَالِ الثَّانِي لِلثَّالِثِ) ، وَهُوَ تَخْفِيفُ الصَّلَاةِ وَتَرْكُ التَّعْدِيلِ أَوْ الْأَدَبِ فِي الْخَلْوَةِ وَإِطَالَتُهَا وَرِعَايَةُ التَّعْدِيلِ وَالْآدَابِ فِي الْمَلَأِ (إذَا كَانَ غَرَضُهُ صِيَانَةَ النَّاسِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِالْغِيبَةِ وَالذَّمِّ) فَيُحْسِنُهَا بَيْنَهُمْ لِيُسَلِّمَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مَحْظُورٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاعِثُهُ الدِّينَ لَكَانَ شَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَكْثَرَ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ وَيُخْلِصَ، وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى تَحْسِينِ عِبَادَتِهِ فِي الْخَلْوَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الذَّمَّ بِالْمُرَاءَةِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءٌ. (وَكَالْمُتَعَلِّمِ) الرِّيَاءُ فِي هَذَا الْمِثَالِ لِأَجْلِ مِلْكِ قَلْبِ الْمُعَلِّمِ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى تَعْلِيمِ عِلْمٍ نَافِعٍ، وَهُوَ طَاعَةٌ (يُرَائِي) مُعَلِّمَهُ (بِطَاعَتِهِ) لِعِلْمِهِ وَغَيْرِهِ (لِيَنَالَ عِنْدَ الْمُعَلِّمِ رُتْبَةً) مَزِيَّةً عَظِيمَةً بِاعْتِقَادِ صَلَاحِهِ وَتَقْوَاهُ (فَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ عِلْمًا نَافِعًا) يَعْنِي يُرَائِي الْمُتَعَلِّمُ لِأَجْلِ مِلْكِ قَلْبِ الْمُعَلِّمِ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى تَعَلُّمِ عِلْمٍ نَافِعٍ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ لَكِنْ رُبَّمَا كَانَ مُضِرًّا لَهُ فِي اعْتِقَادِ مُعَلِّمِهِ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ لَهُ بِالتَّقْوَى كَمَا قِيلَ (وَكَالْوَلَدِ يُرَائِي بِعَمَلِهِ) مِنْ الطَّاعَاتِ (لِيُمِيلَ إلَيْهِ قَلْبَ أَبَوَيْهِ) بِالْمَحَبَّةِ وَالْكَرْمِ قِيلَ فِيهِ تَغْلِيبٌ تَأَمَّلْ لَعَلَّ الظَّاهِرَ قَلْبُ أَبَوَيْهِ وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ الْإِضَافَةِ الْعَهْدُ وَالْمَعْهُودُ قَلْبَاهُمَا وَالِاسْتِغْرَاقُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّغْلِيبِ (فَيَكُونُ بَارًّا لَهُمَا وَكَمَنْ يُرَائِي) بِعِبَادَتِهِ (عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ لِيَنَالَ مِنْهُمْ مَالًا يَتَّخِذُ عُدَّةً) أَيْ وَسِيلَةً بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ مَا أَعْدَدْته مِنْ مَالٍ أَوْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ وَجَمَعَهُ عَدَدٌ كَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ (لِلْعِبَادَةِ) يَسْتَعِينُ بِهِ فِيهَا (أَوْ يُرَائِي) بِعِبَادَتِهِ (عِنْدَ الْأُمَرَاءِ) الظَّاهِرُ السَّلَاطِينُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (وَالْوُزَرَاءِ وَالْقُضَاةِ) وَكَذَا مُطْلَقُ مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ فِي الْحَلِّ وَالْعَقْدِ (لِيَنَالَ مِنْهُمْ جَاهًا أَوْ مَنْصِبًا) عَالِيًا (لِيَتَفَرَّغَ بِهِ لِلْعِبَادَةِ) لِحُصُولِ الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ الْجَاهِ (وَدَفْعِ الشَّوَاغِلِ) الدُّنْيَوِيَّةِ (وَ) دَفْعِ (الظُّلْمِ) عَنْ نَفْسِهِ وَكِلَاهُمَا مَانِعَا الْعِبَادَةِ أَوْ عَنْ الْعِبَادَةِ بِالشَّفَاعَةِ وَالنُّصْحِ أَوْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ بِجَاهِهِ (أَوْ لِيَنْفُذَ بِهِ) بِجَاهِهِ، وَمَنْصِبِهِ مِنْ التَّنْفِيذِ أَوْ الْإِنْفَاذِ (قَوْلُهُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ) ؛ لِأَنَّ لِلْجَاهِ تَأْثِيرًا بَلِيغًا فِي تَأْثِيرِ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مَا يَزِعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزِعُ الْقُرْآنُ»

هَذَا مِثَالُ وُقُوعِ الرِّيَاءِ لِأَجْلِ نَفْسِ الطَّاعَةِ فِي اعْتِقَادِ الْمُرَائِي (وَكَمَنْ يُعْطَى لَهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً) مُعِينَةً لِعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ (عَيَّنَهَا وَاقِفٌ أَوْ غَيْرُهُ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ عَلَى طَرِيقِ الْوَقْفِ أَوْ لَا مِثْلُ مُطْلَقِ الْإِعْطَاءِ (لِيَقْرَأَ جُزْءًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ) فِي جَامِعٍ مُعَيَّنٍ أَوْ قَبْرٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مُطْلَقٍ (أَوْ يُصَلِّيَ رَكْعَةَ كَذَا أَوْ يُسَبِّحَ أَوْ يُهَلِّلَ) نَحْوَ سَبْعِينَ أَلْفًا كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بِنَاءً عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَاَلَّذِي أُوصِيك بِهِ عَلَى أَنْ تُحَافِظَهُ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ نَفْسَك مِنْ اللَّهِ بِعِتْقِ رَقَبَتِك مِنْ النَّارِ بِأَنْ تَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْتِقُ بِهَا رَقَبَتَك مِنْ النَّارِ أَوْ رَقَبَةَ مَنْ يَقُولُهَا مِنْ النَّاسِ. وَرَدَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ نَبَوِيٌّ وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَسْطَلَّانِيُّ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الرَّبِيعِ الْمَالِقِيَّ كَانَ عَلَى مَائِدَةِ طَعَامٍ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ هَذَا الذِّكْرَ، وَكَانَ عَلَى الْمَائِدَةِ شَابٌّ صَغِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَشْفِ فَعِنْدَمَا مَدَّ يَدَهُ إلَى الطَّعَامِ بَكَى وَقَالَ لِأَنِّي رَأَيْت أُمِّي فِي جَهَنَّمَ قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ فَوَهَبْت فِي نَفْسِي هَذَا التَّوْحِيدَ لِإِعْتَاقِ أُمِّهِ فَقَالَ الصَّبِيُّ الْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ النَّارِ مَسْرُورَةً فَأَكَلَ فَقَالَ أَبُو الرَّبِيعِ فَصَحَّ عِنْدِي هَذَا الْخَبَرُ النَّبَوِيُّ وَكَشْفُ هَذَا الصَّبِيِّ فَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ وَإِنْ ضَعِيفًا لَكِنْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ سِيَّمَا فِي تَأْيِيدِ نَصٍّ وَلَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ وَلِهَذَا وَقَعَ فِي عَمَلِ بَعْضٍ وَوَصَايَاهُ كَمُلَّا خُسْرو وَابْنِ الْكَمَالِ وَوَقَعَ فِي مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ وَفِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبِسْطَامِيِّ وَأَيْضًا بَعْضُ الثِّقَةِ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ عَلِيٍّ الْقَارِي فَالْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ لَكِنْ بِلَا أُجْرَةٍ وَلَوْ أُعْطِيَ عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ بِلَا عَقْدٍ لَجَازَ لَكِنْ الْأَوْلَى عَدَمُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُتَعَارَفًا وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا (أَوْ يُكَبِّرُ أَوْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعْطَى ثَوَابَهُ) أَيْ ثَوَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ (لِلْمُعْطِي) مِنْ الْوَقْفِ أَوْ مِنْ مَالِهِ (أَوْ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ) أَبَوَيْ الْوَاقِفِ أَوْ أَبَوَيْ مُطْلَقِ الْمُعْطِي وَكَذَا ثَوَابُ تَدْرِيسِ عِلْمِ الشَّرْعِ أَوْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِنْسِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ أَوْ الْأَحْيَاءِ حَجًّا أَوْ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ فَإِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَجَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ جَازَ بِلَا شُبْهَةٍ وَيَصِلُ إلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَكِنْ الِاسْتِئْجَارُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فِي بَابِ الْحَجِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ وَالْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَفِي الْحَجِّ وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كَانَ لِي أَبَوَانِ أَبَرُّهُمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا فَكَيْفَ أَبَرُّهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ مِنْ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك، وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ وَقَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ وَهَبَ أَجْرَهَا لِلْأَمْوَاتِ أُعْطِيَ مِنْ الْأَجْرِ بِعَدَدِ الْأَمْوَاتِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَتَصَدَّقُ عَنْ مَوْتَانَا وَنَحُجُّ عَنْهُمْ وَنَدْعُو لَهُمْ فَهَلْ يَصِلُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ قَالَ نَعَمْ وَيَفْرَحُونَ بِهِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالطَّبَقِ إذَا أُهْدِيَ إلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْبَكْرِيُّ وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْ جَعَلَ ثَوَابَهُ لِأُمَّتِهِ وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْفَعُهُ عَمَلُ غَيْرِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ هُوَ الِاسْتِمْسَاكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فَفِيهِ مَعَانٍ كَثْرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهَا كُلُّهُ مِنْ الْمَسْلَكِ الْمُقْسِطِ لِعَلِيٍّ الْقَارِيّ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ جِنْسَ مَا ذُكِرَ مَمْدُوحٌ فِي أَصْلِهِ وَإِنَّمَا الْإِنْكَارُ فِي الْأُجْرَةِ وَلِذَا قَالَ (فَيَفْعَلُ ذَلِكَ الْمِسْكِينُ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ) الْمُعِينُ لَهُ الْمَالُ بِالْوَقْفِ الْفَاسِدِ أَوْ الصَّدَقَةِ الْفَاسِدَةِ (طَمَعًا لِلْمَالِ لِيَجْعَلَهُ عُدَّةً) لَهُ (وَقُوَّةً لِلْعِبَادَةِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ) كَسْبٌ (حَلَالٌ) وَلَيْسَ بِحَلَالٍ بَلْ حَرَامٌ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْأَنْسَبَ أَنْ يُذْكَرَ فِي الْبَحْثِ الْخَامِسِ فَتَدَبَّرْ.

(وَأَنَّ ثَوَابَهُ يَصِلُ إلَى الْآمِرِ، وَأَنَّهُ فِي طَاعَةٍ) مَعَ أَنَّهُ فِي رِيَاءٍ وَمَا عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ إلَّا لِأَجْلِ الْمَالِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَعْصِيَةٌ ظَاهِرَةٌ وَإِثْمٌ قَبِيحٌ وَأَمَّا الْأَوْقَافُ وَالصَّدَقَاتُ عَلَى قِرَاءَةِ الْأَجْزَاءِ الْقُرْآنِيَّةِ

وَمَعْلُومَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُدَرِّسِينَ وَكَذَا الْأَئِمَّةُ وَالْخُطَبَاءُ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَدَارِسِ مَثَلًا فَقِيلَ لَيْسَ فِيهَا شَرْطُ هِبَةِ ثَوَابِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ لِرُوحِ الْوَاقِفِ بَلْ لَهُمَا ثَوَابُ صَدَقَتِهِمَا وَإِعَانَتِهِمَا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَبِالْجُمْلَةِ الْمَنْفِيُّ إهْدَاءُ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْأُجْرَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيمَا ذُكِرَ وَمَا وُجِدَ فِيهِ إلَّا إعَانَةٌ عَلَى مَنْ قَامَ بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ نَعَمْ لَوْ شُرِطَ إهْدَاءُ الثَّوَابِ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ لَكَانَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَقُولُ قَدْ أَشَارَ إلَى نَفْيِ ذَلِكَ الْمُصَنِّفِ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ وَأَيْضًا صَرَّحَ بِنَفْيِهِ فِي إنْقَاذِ الْهَالِكِينَ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي نَحْوِ الْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُدَرِّسِينَ فَوَجْهُ تَجْوِيزِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الْقِيَاسِ مَشْهُورٌ فِي الْفِقْهِيَّةِ قِيلَ هُنَا عَنْ الشَّارِحِ الْكُرْدِيِّ اعْتِرَاضًا عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ مَقْبُولَةٌ وَحَسَنَةٌ صَحِيحَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَيَصِلُ ثَوَابُهُ إلَى الْآمِرِ وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ عَمَلُ الْأُمَّةِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ «لَمَّا رَقَى بَعْضَ الْمُسَافِرِينَ عَلَى لَدِيغٍ بِالْحَمْدِ فَبَرِئَ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا كَرِهَهُ أَصْحَابُهُ لِكَوْنِهِ أَجْرًا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» وَفِي الْحَاوِي وَالْقُنْيَةِ يُكْرَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ لِخَتْمِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يَخْتِمَ جَمِيعَهُ وَلَوْ قَالَ اقْرَأْ مِنْهُ فَلَا يُكْرَهُ بِقِرَاءَةِ الْبَعْضِ وَيُكْرَهُ أَنْ يُنْقِصَ أَجْرَ الْخَتْمِ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ انْتَهَى فَالْمَنْعُ جَهْلٌ وَضَلَالٌ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَاحْفَظْهُ حَتَّى تَخْلُصَ مِنْ غَلَطَاتِ الْمُصَنِّفِ وَخُرَافَاتِهِ انْتَهَى. وَرَدَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ الْأُجْرَةِ فِي التَّعْلِيمِ مُطْلَقًا وَجُوِّزَ فِي الرُّقِيِّ خَاصَّةً لِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَحَمَلُوا الْأُجْرَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْأُجْرَةِ لِلرُّقْيَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَ مُضَافًا أَيْ رُقْيَةَ كِتَابِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ سَبَبِ الْوُرُودِ وَقِيلَ بِنَسْخِهِ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْوَعِيدِ عَلَى أَخْذِ الْأُجْرَةِ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يُعَارِضُ نَحْوَ نَصِّ قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 41]- مَعَ أَنَّ إمَامَنَا لَمْ يَعْمَلْ بِالْحَدِيثِ وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِنْ عَمِلَ بِهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَدَعْوَى دَلَالَةِ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى الْجَوَازِ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الْأَرْبَعَةَ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]- {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104] ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا الْقُرْآنُ إلَّا دَلَالَةُ ذِكْرٍ لِلْعَالَمِينَ لَا يَتَجَاوَزُ إلَى كَوْنِهِ مِمَّا يُسْأَلُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ مِنْ الْخَلْقِ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ» وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهِيَ الْحَالَةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْعَمَلِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا بِالْعَزْمِ وَالْقَصْدِ وَلَا تُوجَدُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا ثَوَابَ وَلَا إجَارَةَ وَلَا بَيْعَ؛ لِأَنَّهُمَا وَارِدَانِ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالثَّوَابُ هُنَا مَعْدُومٌ وَالتَّفْصِيلُ فِي إنْقَاذِ الْهَالِكِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ مِثْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فِي كَوْنِهَا عِبَادَةً بَدَنِيَّةً مَحْضَةً فَكَمَا لَا تَجُوزُ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِمَا لَا تَجُوزُ عَلَيْهَا وَأَمَّا كَوْنُ الْمُعْطِي صِلَةً بِلَا عَقْدٍ وَشَرْطٍ وَقِرَاءَةُ الْقَارِئِ حِسْبَةٌ وَمُعْطَاةٌ ثَوَابُهُ لِلْمُعْطِي فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ إنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الْقِرَاءَةِ عَلَى مُرَادِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَأْ لَمْ يُعْطَ وَكَذَا لَوْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَقْرَأْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ فِي الْحَاوِي وَالْقُنْيَةِ فَالْحَاوِي لِعَدَمِ كَوْنِهِ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ الْفِقْهِيَّةِ لَا يُعْمَلُ بِمَا يُخَالِفُ فِيهِ الْأُصُولَ السَّابِقَةَ وَكَذَا الْقُنْيَةُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مُعْتَزِلِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِيمَا يُخَالِفُ الْكُتُبَ الْمُعْتَبَرَةَ انْتَهَى مُلَخَّصًا أَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى كَثْرَةِ هَذَا التَّطْوِيلِ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ بِالْجَمِيلِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمَ الْجَوَازِ عَلَى مَا فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ تَاجِ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْأُجْرَةِ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا الثَّوَابُ لَا لِلْمَيِّتِ وَلَا لِلْقَارِئِ وَعَنْ الْمُحِيطِينَ وَالْخُلَاصَةِ وَالِاخْتِيَارِ أَوْصَى لِقَارِئِ الْقُرْآنِ عِنْدَ قَبْرِهِ بِشَيْءٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَعَنْ الْحَافِظِ الْعَيْنِيِّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ عَنْ الْوَاقِعَاتِ وَيُمْنَعُ الْقَارِئُ لِلدُّنْيَا وَالْآخِذُ وَالْمُعْطِي آثِمَانِ وَكَأَنَّ احْتِجَاجَ الْمُعْتَرِضِ بِالْحَدِيثِ وَالْكُتُبِ الضَّعِيفَةِ كَانَ رَأْيًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَتَرْجِيحِ الْمَرْجُوحِ عَلَى الرَّاجِحِ وَقَدْ كَانَ دَلِيلُ الْمُقَلِّدِ هُوَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ لَا غَيْرُ فَإِنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالنَّصِّ هُوَ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مُعَارِضٌ بِخَبَرِ إنْ كُنْت تُحِبُّ أَنْ تُطَوِّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا أَيْ الْهَدِيَّةَ عَلَى تَعْلِيمِهِ وَبِخَبَرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ عَلَّمْت

المبحث الرابع في الرياء الخفي

رَجُلًا الْقُرْآنَ فَأَهْدَى إلَيَّ قَوْسًا فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ إنْ أَخَذْتهَا أَخَذْت قَوْسًا مِنْ نَارٍ فَرَدَدْتهَا (وَكَمَنْ يُصَلِّي أَوْ يُهَلِّلُ فِي الْمَلَأِ) عِنْدَ النَّاسِ (لِمُجَرَّدِ إرَاءَةِ النَّاسِ) بِدُونِ طَلَبِ رِضَاهُ تَعَالَى وَثَوَابِهِ وَإِلَّا فَيَشْكُلُ كَوْنُهُ رِيَاءً وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي إرَاءَةِ النَّاسِ إلَّا (لِيَقْتَدُوهُ) يَقْتَدُوا بِهِ وَيَتْبَعُوهُ (وَيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ كَيْفِيَّةَ الْعَمَلِ) إنْ كَانَ غَرَضُهُ مِنْ تَعَلُّمِهِمْ إرْشَادَهُ إيَّاهُمْ الْحَقَّ أَوْ طَرِيقَ أَمْرِ الْمَعْرُوفِ أَوْ التَّخَلُّصِ مِنْ وِزْرِ عَدَمِ التَّعْلِيمِ إيَّاهُمْ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الرِّيَاءِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الْعَمَلُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي غَرَضِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ رِيَاءً لَكِنْ قَوْلُهُ (وَيَصِيرُ سَبَبًا لِطَاعَتِهِمْ) لَا يُلَائِمُهُ (وَلَوْ لَمْ يَرَهُ النَّاسُ) يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَلَأِ (لَمْ يَفْعَلْ) لِكَوْنِ غَرَضِهِ مُجَرَّدَ الْإِرَاءَةِ وَقَدْ فَاتَ (وَهَذَا أَيْضًا رِيَاءُ) أَهْلِ الدِّينِ قِيلَ إلَّا أَنَّهُ وَسِيلَةُ الْخَيْرِ فَفِيهِ تَأَمُّلٌ. (بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ قَصَدَ الِاقْتِدَاءَ بَاعِثًا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِظْهَارِ) يَعْنِي يَأْتِي فِي خَلْوَتِهِ لَكِنْ مَقْصُودُهُ مِنْ الْإِظْهَارِ هُوَ الِاقْتِدَاءُ (لَا الْإِحْدَاثُ) بِحَيْثُ لَا يَأْتِي فِي السِّرِّ أَيْ فِي خَلْوَتِهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِظْهَارِ وَالْإِحْدَاثِ بِالْإِتْيَانِ فِي الْخَلْوَةِ وَالْإِيجَادِ ابْتِدَاءً عِنْدَ النَّاسِ بِدُونِ إتْيَانِهِ فِي الْخَلْوَةِ (فَإِنَّهُ لَيْسَ بِرِيَاءٍ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَوْجُودٌ لَوْلَا قَصْدُ الِاقْتِدَاءِ (بَلْ هُوَ) حِينَئِذٍ (مُسْتَحَبٌّ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا لِنَفْسِهِ وَتَعْلِيمًا لِغَيْرِهِ بَلْ قَدْ يَجِبُ (وَرِيَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا) فِي هَذَا النَّوْعِ (بِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهَا) كَالْجُودِ وَالْكَرَمِ (لِيَصِلَ إلَى وِلَايَةٍ) وَإِمَارَةٍ وَتَوْلِيَةٍ وَقَضَاءٍ وَنَحْوِهَا (لِيُنَفِّذَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ) ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ نَافِذُ الْكَلِمِ وَمُطَاعُ الْأَمْرِ (وَيُصْلِحُ النَّاسَ) بِالْمُصَالَحَةِ وَدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ (وَيَرْفَعُ الظُّلْمَ وَالْمُنْكَرَاتِ) . [الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ] (الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ) مِنْ السَّبْعَةِ (فِي الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ) فَلَا يُنْتَبَهُ لَهُ إلَّا بِنَظَرٍ دَقِيقٍ وَتَأَمُّلٍ حَقِيقِيٍّ إذْ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا الْخَاصَّةُ (وَعَلَامَاتُهُ) الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِهِ (اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ قَدْ يَكُونُ خَفِيًّا) كَمَا قَدْ يَكُونُ جَلِيًّا كَمَا فِيمَا تَقَدَّمَ مُنْتَهِيًا (إلَى أَنْ يَكُونَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ) أَيْ صَوْتِ حَرَكَةِ مَشْيِهَا عَلَى حَجَرٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْهُلُ حِسُّهُ لِكَمَالِ لُطْفِهِ فَإِذَا كَانَ خَفِيًّا لَا يُدْرِكُ بِالْحِسِّ فَيَكُونُ إدْرَاكُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ (فَتَحْتَاجُ) قِيلَ بِالْفَوْقِيَّةِ وَقِيلَ بِالتَّحْتِيَّةِ (فِي مَعْرِفَتِهِ إلَى عَلَامَاتٍ) وَأَمَارَاتٍ لِتَسْتَدِلَّ بِهَا (مِنْهَا أَنَّ يُسْرَ) الْعَابِدِ (بِاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَدْحِهِمْ) لَهُ قُرْبُ عَبْدٍ يُخْلِصُ فِي عَمَلِهِ وَلَا يَعْتَقِدُ الرِّيَاءَ بَلْ يَكْرَهُهُ وَيَرُدُّهُ وَيُتَمِّمُ الْعَمَلَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ إذَا اطَّلَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ سَرَّهُ ذَلِكَ وَهَذَا السُّرُورُ يَدُلُّ عَلَى رِيَاءٍ خَفِيٍّ مِنْهُ إذْ لَوْلَا الْتِفَاتُ الْقَلْبِ إلَى النَّاسِ لَمَا ظَهَرَ سُرُورُهُ عِنْدَ اطِّلَاعِ النَّاسِ فَلَقَدْ كَانَ الرِّيَاءُ مُسْتَكِنًّا فِي الْقَلْبِ اسْتِكْنَانَ النَّارِ فِي الْحَجَرِ. كَذَا قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الِاطِّلَاعُ وَالسُّرُورُ لَكِنْ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ اطَّلَعَ لِسِرٍّ فَيَكُونُ رِيَاءً (مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَاحِظَ اقْتِدَاءَ غَيْرِهِ بِهِ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ مَسَرَّتِهِ اقْتِدَاءَ غَيْرِهِ بِهِ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَضَاعَفُ الْأَجْرُ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً مُتَعَدِّيَةً فَلَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ وَأَجْرُ عَمَلِ مَنْ اقْتَدَى بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ (أَوْ) مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَاحَظَ (إطَاعَتُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَدْحِهِمْ) لَهُ (وَمَحَبَّتِهِمْ لِلْمُطِيعِ) إذْ مَدْحُ الْمُطِيعِ وَمَحَبَّتُهُ طَاعَةٌ فَسَبَبُ مَسَرَّتِهِ حِينَئِذٍ كَوْنُهُمْ فِي طَاعَتِهِ تَعَالَى بِمَدْحِهِمْ وَالْحَالُ أَنَّ الْحَسَدَ وَالْحَمْلَ عَلَى الرِّيَاءِ وَالذَّمِّ مِنْ الْأَقْرَانِ فِي أَمْثَالِهِ شَائِعٌ وَيُتَوَقَّعُ (أَوْ) مِنْ غَيْرِ أَنْ (يُسْتَدَلَّ بِهِ) بِاطِّلَاعِ النَّاسِ وَمَدْحِهِمْ لَهُ (عَلَى حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَ) حُسْنِ

(نَظَرِهِ لَهُ حَيْثُ سَتَرَ) عَنْهُ (الْقَبِيحَ) إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو عَنْ قَبِيحٍ مَا (وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ) مِنْهَا وَلَا لُطْفَ أَعْظَمَ مِنْ إظْهَارِ الْجَمِيلِ وَسَتْرِ الْقَبِيحِ (فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِجَمِيلِ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ لَا بِحَمْدِ النَّاسِ وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ) أَيْ إكْرَامِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْعِنَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (وَبِرَحْمَتِهِ) لَا بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ؛ لِأَنَّ الْفَرَحَ بِذَلِكَ طَاعَةٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أَيْ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ وَفِي أَيْدِيهِمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَبِالْجُمْلَةِ كَأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ مَقْبُولٌ فَفَرِحَ بِهِ (أَوْ) مِنْ غَيْرِ أَنْ (يَسْتَدِلَّ بِإِظْهَارِ اللَّهِ تَعَالَى الْجَمِيلَ وَسَتْرِ الْقَبِيحِ فِي الدُّنْيَا) مِنْ أَوْصَافِهِ وَأَعْمَالِهِ عَلَى (أَنَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ) فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَيُعَيِّرُهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ فِي الدُّنْيَا ذَنْبًا إلَّا سَتَرَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ» وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا فِي الْمَشَارِقِ «أَنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ أَيْ سَتْرَهُ فَيَحْفَظُهُ وَيَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ» أَهْلُ الْمَوْقِفِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْخِزْيِ وَالتَّفْضِيحِ مُسْتَعَارٌ مِنْ كَنَفِ الطَّائِرِ، وَهُوَ جَنَاحُهُ يَصُونَ بِهِ نَفْسَهُ وَيَسْتُرُ بِهِ بَيْضَهُ وَيُقَرِّرُ بِذُنُوبِهِ يَجْعَلُهُ مُقِرًّا بِهَا «فَيَقُولُ تَعَالَى أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إذَا أَقَرَّ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْعَذَابَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَك الْيَوْمَ» الْحَدِيثَ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَهَذَا إنَّمَا يُرْجَى لِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ سَتَرَ عَلَى النَّاسِ عُيُوبَهُمْ وَاحْتَمَلَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ تَقْصِيرَهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْهُمْ فِي غَيْبَتِهِمْ بِمَا يَكْرَهُونَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُجَازِيَ بِذَلِكَ وَأَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» (فَإِنَّ السُّرُورَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ) مُلَاحَظَةُ اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ وَمُلَاحَظَةُ طَاعَتِهِمْ فِي مَدْحِهِمْ وَالِاسْتِدْلَالِ بِإِظْهَارِ الْجَمِيلِ وَسَتْرِ الْقَبِيحِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَنْ يُفْعَلَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمَدْحِ مِنْ النَّاسِ عَلَى حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ لَهُ حَيْثُ سَتَرَ الْقَبِيحَ وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ (حَقٌّ) ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ (لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّيَاءِ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا نَظَرُ الدُّنْيَا (وَلَكِنْ كَثِيرًا مَا يَدْخُلُهُ تَلْبِيسُ) إبْلِيسَ (فَلْيَكُنْ) السَّالِكُ (عَلَى بَصِيرَةٍ) وَتَيَقُّظٍ تَامٍّ لِئَلَّا يَقَعَ فِي حِيَلِ إبْلِيسَ هَذَا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنَّ كَوْنَ هَذَا السُّرُورِ رِيَاءٌ إنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِهِ الِاضْطِرَارِيُّ نَعَمْ إنْ خَطَرَ السُّرُورُ ابْتِدَاءً بِلَا اخْتِيَارٍ وَلَمْ يَدْفَعْهُ بَلْ اسْتَمَرَّ بِاخْتِيَارِهِ يَكُونُ رِيَاءً وَأَيْضًا إنَّ تَعْرِيفَ الرِّيَاءِ الَّذِي سَبَقَ لَا يَشْمَلُ هَذَا السُّرُورَ وَتَخْصِيصُهُ بِالرِّيَاءِ الْجَلِيِّ تَكَلُّفٌ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ فِي التَّعْرِيفِ وَيُدْرَجُ فِيهِ فَافْهَمْ. (وَمِنْهَا) أَيْ مِنْ عَلَامَاتِ الرِّيَاءِ (أَنْ يُحِبَّ أَنْ يُوَقِّرَهُ)

يُعَظِّمَهُ (النَّاسُ وَ) أَنْ (يُثْنُوا عَلَيْهِ وَأَنْ يَنْشَطُوا) مِنْ النَّشَاطِ، وَهُوَ السُّرُورُ (فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَأَنْ يُسَامِحُوهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ) بِأَنْ يُبَاعَ لَهُ بِثَمَنٍ رَخِيصٍ وَيُشْتَرَى مِنْهُ بِثَمَنٍ غَالٍ (وَأَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ فِي الْمَكَانِ) عِنْدَ قُدُومِهِ (فَإِنْ قَصَّرَ فِيهِ مُقَصِّرٌ ثَقُلَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ (عَلَى قَلْبِهِ) ، وَإِنْ كَانَ الثَّقْلَةُ لِاسْتِلْزَامِ ازْدِرَاءِ الصَّلَاحِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ احْتِرَامُهُ شَرْعًا فَالظَّاهِرُ لَيْسَ بِرِيَاءٍ كَازْدِرَاءِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ كُفْرٌ (وَوَجَدَ لِذَلِكَ اسْتِبْعَادًا) لِمَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ عَظَمَةً وَفَضِيلَةً (كَأَنَّ نَفْسَهُ تَتَقَاضَى) أَيْ تَقْبِضُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَتَطْلُبُ (الِاحْتِرَامَ) وَالتَّعْظِيمَ مِنْ النَّاسِ (عَلَى) الصَّالِحَاتِ (الَّتِي أَخْفَاهَا) عَنْ النَّاسِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِخْفَاءَ عَنْ النَّاسِ يَقْتَضِي عَدَمَ اطِّلَاعِ أَحَدٍ وَطَلَبُ الِاحْتِرَامِ مِنْ النَّاسِ يَقْتَضِي الِاطِّلَاعَ فَتَأَمَّلْ (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَتْ مِنْهُ تِلْكَ الطَّاعَةُ) الَّتِي فَعَلَهَا خُفْيَةً (لَمَا كَانَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ) التَّقْصِيرُ فِي حَقِّهِ (وَمَهْمَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْعِبَادَةِ) عِنْدَهُ (كَعَدَمِهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ خَالِيًا عَنْ شَوْبِ) اخْتِلَاطٍ (خَفِيٍّ) لَا يَكَادُ يَتَنَبَّهُ لَهُ صَاحِبُهُ (مِنْ الرِّيَاءِ وَمَهْمَا أَدْرَكَتْ نَفْسُهُ تَفْرِقَةً) فَرْقًا قَوِيًّا (بَيْنَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى عِبَادَتِهِ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ فَفِيهِ) أَيْ فَفِي سُرُورِهِ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى عِبَادَتِهِ (شُعْبَةٌ) قِطْعَةٌ (مِنْ الرِّيَاءِ) فَإِنَّ سُرُورَهُ بِاطِّلَاعِ الْإِنْسَانِ دُونَ الْحَيَوَانِ يُشْعِرُ بِذَلِكَ قِيلَ هُنَا. وَفِي الْحَدِيثِ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى تَكُونَ صَلَاتُهُ بَيْنَ النَّاسِ كَصَلَاتِهِ بَيْنَ أَعْنُزِهِ» (إلَّا أَنْ يُقَارِنَهُ) أَيْ يُقَارِنَ عَدَمُ كَوْنِ وُجُودِ الْعِبَادَةِ كَعَدَمِهَا (الْمُلَاحَظَةُ) لِاقْتِدَاءِ غَيْرِهِ بِهِ أَوْ طَاعَةِ غَيْرِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَدْحِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ (أَوْ الِاسْتِدْلَال) بِذَلِكَ عَلَى حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ بِهِ وَإِظْهَارِ الْجَمِيلِ وَسَتْرِ الْقَبِيحِ (السَّابِقَانِ) آنِفًا فَحِينَئِذٍ لَا يَضُرُّ التَّفْرِقَةُ (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) أَيْ أَهْلُ الْمُلَاحَظَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَلَا يَسْلَمُ إلَّا الصِّدِّيقُونَ قِيلَ هُنَا وَجَمِيعُ ذَلِكَ إثْمٌ وَيُخَافُ مِنْهُ إحْبَاطُ الْعَمَلِ أَقُولُ لَكِنْ دُونَ سَائِرِهِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ شُعْبَةٌ مِنْ الرِّيَاءِ اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ صُدُورُ الْعَمَلِ ابْتِدَاءً عَلَى وَجْهِ الْخُلُوصِ وَلَمْ يَخْطِرْ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ عِنْدَ الْعَمَلِ بَلْ لَمْ تُوجَدْ شَائِبَتُهَا وَلَوْ مَغْلُوبَةً فَمَا يَقْتَضِيهِ أَكْثَرُ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ عَدَمُ الرِّيَاءِ إذْ الْأَصْلُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالْعَوَارِضِ الْجُزْئِيَّةِ وَأَنَّ الْأَصْلَ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَأَنَّ الْأَصْلَ الْعَدَمُ فِي الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ، وَأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَقَاصِدِ لَا بِالْعَوَارِضِ وَأَنَّ الْمَرْجُوحَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ عِنْدَ الرَّاجِحِ وَلَا يَسْقُطُ الْأَصْلُ بِالْفَرْعِ، وَأَنَّهُ قَدْ قُرِّرَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الرِّيَاءَ إرَادَةُ نَفْعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَالظَّاهِرُ مِنْهُ جَعْلُ عَمَلِ الْآخِرَةِ سَبَبًا دَاعِيًا لِنَفْعِ الدُّنْيَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي جِنْسِ مَا سَبَقَ هُنَا لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ عَارِضًا بَعْدَ بُرْهَةٍ مِنْ زَمَانِ الْعَمَلِ بَلْ بِلَا قَصْدٍ بِاضْطِرَارٍ بِلَا شُعُورٍ وَبِالْجُمْلَةِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْثَالِ الْمُصَنِّفِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَلِلنَّظَرِ اتِّسَاعٌ، وَإِنْ بِالنَّصِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِ نَعَمْ قَالُوا الْمُحَرَّمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ قَالُوا تَغْلِبُ الْحُرْمَةُ، وَأَنَّ الْمَطْلَبَ لَيْسَ بِمَحْضِ الرِّيَاءِ بَلْ شَائِبَتِهِ وَلَا يَبْعُدُ ثُبُوتُ هَذِهِ الشَّائِبَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْغَالِبِ الشَّائِعِ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ هَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ خَطَابِيَّةٌ مَقْبُولَةٌ بِالنَّظَرِ إلَيْنَا لَا بُرْهَانِيَّةٌ فَيَكْفِي اعْتِقَادُنَا

بِحُسْنِ الظَّنِّ عَلَى مِثْلِ الْمُصَنِّفِ، وَمَنْ قَلَّدَهُ الْمُصَنِّفُ فَافْهَمْ. (فَلْيَكُنْ) الْعَابِدُ (عَلَى بَصِيرَةٍ) حَتَّى لَا يَقَعَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَزَالِقِ (وَحَذَّرَ مِنْ التَّلْبِيسِ) مِنْ حِيَلِ إبْلِيسَ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ فِي أَوَّلِ عَمَلِ الْعَابِدِ فَيَرْضَى بِمِثْلِهِ فِي آخِرِهِ (فَإِنَّ النَّاقِدَ) أَيْ الْمُمَيِّزَ الْفَارِقَ بَيْنَ الْخَالِصِ وَالزُّيُوفِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى (بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ قَلِيلٌ وَلَا صَغِيرٌ) فَيُؤَاخِذُ عَلَيْهِ وَلَا يَغْفُلُ وَلَا يُسَامِحُ (وَمِنْهَا) أَيْ مِنْ عَلَامَاتِ الرِّيَاءِ (أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ صَاحِبَانِ غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ وَوَجَدَ عِنْدَ إقْبَالِ الْغَنِيِّ زِيَادَةَ هِزَّةٍ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ زِيَادَةَ فَرَحٍ وَنَشَاطٍ (فِي نَفْسِهِ) أَيْ نَفْسِ الْعَابِدِ (لِإِكْرَامِهِ) أَيْ إقْبَالِهِ فَتَأَمَّلْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لِإِكْرَامِ الْفَقِيرِ فَهَذَا أَيْضًا شَوْبٌ خَفِيٌّ مِنْ الرِّيَاءِ (إلَّا إذَا كَانَ فِي الْغَنِيِّ زِيَادَةُ عِلْمٍ) عَلَى الْفَقِيرِ (أَوْ) زِيَادَةُ (وَرَعٍ) عَلَيْهِ (أَوْ) كَانَ لَهُ (صَدَاقَةٌ سَابِقَةٌ) مَعَهُ (أَوْ نَحْوُهَا) نَحْوُ جُودِهِ وَسَخَائِهِ نُقِلَ عَنْهُ فِي الْحَاشِيَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِعَلَامَةِ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي إنَّ إكْرَامَ الْغَنِيِّ إذَا كَانَ وَلِيَّ النِّعْمَةِ وَالدُّعَاءِ لَهُ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ جَائِزٌ بَلْ مَأْمُورٌ بِهِ إذَا كَانَ الْبَاعِثُ قَصْدَ الْمُكَافَأَةِ لِإِنْعَامِهِ السَّابِقِ مِنْ غَيْرِ شَوْبِ غَرَضِ الْإِنْعَامِ فِي الِاسْتِقْبَالِ فَإِنَّهُ رِيَاءٌ انْتَهَى. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ عِلْمَ الْغَنِيِّ وَوَرَعَهُ يُوجِبُ الْمَزِيَّةَ كَذَلِكَ فَقْرُ الْفَقِيرِ لَا سِيَّمَا الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَيْضًا يُوجِبُ ذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَفْضَلُ مِنْ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ النِّسْبَةُ وَالْمُعَادَلَةُ بَيْنَ صَبْرِ الْفَقِيرِ وَشُكْرِ الْغَنِيِّ لَا بَيْنَ وَرَعِ الْغَنِيِّ وَصَبْرِ الْفَقِيرِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ أَيْضًا (فَمَنْ كَانَ اسْتِرْوَاحُهُ) وُجُودُ رَاحَتِهِ (إلَى مُشَاهَدَةِ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرَ) مِنْ الْفُقَرَاءِ (بِدُونِ مَا ذُكِرَ) مِنْ مُوجِبَاتِهِ كَالْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَالصَّدَاقَةِ السَّوَابِقِ (فَهُوَ مُرَاءٍ) وَالِاسْتِرْوَاحُ عَلَامَتُهُ يَشْكُلُ أَنَّ الرِّيَاءَ كَمَا عَرَفْت إرَادَةُ نَفْعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ الِاسْتِرْوَاحُ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ أَنَّ إكْرَامَ الْغَنِيِّ لِأَجْلِ عِبَادَتِهِ تَعَالَى (وَمِنْ الْعَلَامَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعَالِمِ وَالْوَاعِظِ وَالشَّيْخِ) الصُّوفِيِّ السَّالِكِ الْمُرَبَّى بِالتُّقَى وَالرِّعَةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ (أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ وَعْظًا) بِطَلَاقَةِ اللِّسَانِ وَعُذُوبَةِ الْكَلَامِ وَانْفِعَالِ النَّاسِ بِنُصْحِهِ وَصَلَاحِهِمْ بِوَعْظِهِ (وَأَغْزَرُ) مِنْ الْغَزَارَةِ أَيْ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ (عِلْمًا) بِالتَّدْرِيسِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّصْنِيفِ وَبِكَثْرَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ وَوُفُورِ الرَّاغِبِينَ وَبِجَمْعِ الطَّالِبِينَ وَمَدْحِ عِلْمِهِ وَثَنَاءِ دَرْسِهِ وَبِالْغَلَبَةِ عَلَى الْمُنَاظِرِينَ أَوْ بِالْعَمَلِ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِ فَالثَّانِي لِلْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ لِلثَّانِي فَالْأَوْلَى الْعَكْسُ عَلَى طَرِيقِ تَرْتِيبِ النَّشْرِ عَلَى اللَّفِّ نَعَمْ النَّشْرُ الْغَيْرُ الْمُرَتَّبِ طَرِيقٌ أَيْضًا (وَالنَّاسُ أَشَدُّ لَهُ قَبُولًا) . وَلَوْ قَالَ وَأَشَدُّ لَهُ قَبُولًا لَكَانَ أَوْفَقَ لِمَا قَبْلَهُ فَهَذَا لِلثَّالِثِ أَيْ لِلشَّيْخِ عَلِيٍّ طَرِيقُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ فَأَشَدِّيَّةُ الْقَبُولِ بِنَحْوِ رَغْبَةِ النَّاسِ إلَى الدُّخُولِ تَحْتَ تَرْبِيَتِهِ وَبِقُوَّةِ ظُهُورِ آثَارِ صَلَاحِهِ مِنْ نَحْوِ ظُهُورِ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْكَرَامَاتِ (سَاءَهُ) أَيْ أَحْزَنَهُ فِعْلُهُمْ (وَحَسَدُهُ) عَلَى الْكَمَالِ الَّذِي رَأَى مِنْهُ لِكَوْنِ نَظَرِهِ إلَى مَذَمَّةِ الْخَلْقِ وَمَدْحِهِمْ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُقِلُّ رَغْبَةَ النَّاسِ إلَيْهِ وَالْحَالُ أَنَّ نَظَرَهُ

المبحث الخامس في أحكام الرياء

الْتِفَاتُهُمْ إلَيْهِ بَلْ اللَّائِقُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَسْتَفِيدَ الرَّجُلُ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَأَكْمَلُ مِنْهُ وَيَنْتَفِعُ مِنْ عُلُومِهِ وَنَصَائِحِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسَيْرِهِ (نَعَمْ لَا بَأْسَ) قِيلَ كَلِمَةٌ تُقَالُ فِي نَفْيِ بَأْسِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ فِيهِ فَهِيَ لِلْإِبَاحَةِ (بِالْغِبْطَةِ) تَمَّنِي حُصُولِ مِثْلِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ لَهُ بِلَا زَوَالٍ عَنْهُ قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ الْغَلَبَةِ أَيْضًا لِئَلَّا تَتَعَوَّدَ النَّفْسُ الْحَسَدَ وَجْهُ الْإِشَارَةِ مُسْتَفَادٌ مِمَّا يُقَالُ كَلِمَةُ لَا بَأْسَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى لَكِنْ قَدْ عَرَفْت اسْتِعْمَالَهَا لَيْسَ بِكُلِّيٍّ، وَأَنَّ أَوْلَوِيَّةَ التَّرْكِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ. (وَمِنْهَا) أَيْ مِنْ عَلَامَاتِ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ الْمُخْتَصَّةِ (أَنَّ الْأَكَابِرَ) مِنْ نَحْوِ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ (إذَا حَضَرُوا مَجْلِسَهُ) وَعْظًا أَوْ دَرْسًا بَلْ صُحْبَةً أَيْضًا (يُغَيِّرُ كَلَامَهُ) بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ وَالْأَدَاءِ الْحَسَنِ (عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ) قَبْلَ الْحُضُورِ (تَصَنُّعًا) تَكَلُّفًا فِي صُنْعِ الْكَلَامِ (وَاسْتِمَالَةً) طَلَبَ الْمَيْلِ (لِقُلُوبِهِمْ) وَأَيْضًا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ عَلَى مَا أَرَادَهُ قَبْلُ فَهَذَا رِيَاءٌ (نَعَمْ لَوْ زَادَ) بَعْدَ حُضُورِهِمْ (مَا يَتَعَلَّقُ بِإِصْلَاحِهِمْ) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً (بِلُطْفٍ وَرِفْقٍ) لَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]- وَنَحْوُهُ (لِيَسْتَدْرِجَهُمْ) بِذَلِكَ الرِّفْقِ (إلَى التَّوْبَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ اللِّينَةَ وَالرِّفْقَ مُوجِبَةٌ لِلْأُلْفَةِ وَالْقَبُولِ كَمَا أَنَّ الْغِلْظَةَ وَالشِّدَّةَ مُوجِبَةٌ لِلتَّفْرِقَةِ وَالْعِنَادِ وَالْغَيْرَةِ (وَالصَّلَاحُ) مِنْ سُوءِ الْحَالِ إلَى حُسْنِ الْحَالِ (لِحُسْنِ ذَلِكَ) لِعَاقِبَتِهِ الْحَمِيدَةِ مَعَ خَالِصِ النِّيَّةِ (وَلَكِنْ مَحَلُّ تَلْبِيسٍ) فَلْيَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ لِقُوَّةِ خَفَائِهِ (فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ) الْأَمْرُ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ الْحَالُ (فَلْيَنْظُرْ إلَى الْخَلْقِ) كُلِّهِمْ (بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ) فَيَسْتَوِي عِنْدَهُ الْجَمِيعُ فَلَا يُمَيِّزُ غَنِيًّا لِغِنَاهُ وَكَبِيرًا لِكِبَرِهِ بَلْ يُعَامِلُهُمَا كَالْفَقِيرِ وَالصَّغِيرِ لَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ وِجْدَانِيَّةٌ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا صَاحِبُهَا إلَّا بِعَلَامَاتٍ ظَاهِرَةٍ وَأَدِلَّةٍ دَالَّةٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ سُوءَ ظَنٍّ بِمُسْلِمٍ بَلْ إرْشَادٌ وَنَصِيحَةٌ وَحِفْظٌ وَمُحَافَظَةٌ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ بِالْحَمْلِ عَلَى إطْلَاقِهِ [الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ] الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ مِنْ السَّبْعَةِ فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ (الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ) مِنْ السَّبْعَةِ (فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ) مَا هُوَ مَذْمُومٌ أَوْ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَمَرْتَبَتُهُ فِي الذَّمِّ (اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا) كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا كَالشَّجَاعَةِ وَالْحَذَاقَةِ فِي نَحْوِ الْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا وُضِعَ لِعَمَلِ الدُّنْيَا (لَا يَحْرُمُ إنْ خَلَا عَنْ التَّلْبِيسِ) بِأَنْ يُظْهِرَ الشَّجَاعَةَ فِي أَمْرٍ وَلَيْسَ لَهُ شَجَاعَةٌ فِي الْوَاقِعِ فَقَوْلُهُ (وَالتَّزْوِيرُ) كَعَطْفِ التَّفْسِيرِ أَوْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِلْوَاقِعِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ هُوَ الْحُرْمَةُ عِنْدَ عَدَمِ الْخُلُوِّ عَنْ التَّلْبِيسِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ كَوْنَ إظْهَارِ نَحْوِ الشَّجَاعَةِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ شَجَاعَةٌ حَرَامًا بَعِيدٌ وَإِرَادَةُ الْكَرَاهَةِ مِنْ الْحُرْمَةِ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا السَّوْقِ (وَلَمْ يَتَوَسَّلْ بِهِ إلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ) تَحْرِيمًا فَقَطْ وَمَنْ عَمَّمَ إلَى الْكَرَاهَةِ أَيْضًا فَقَدْ غَفَلَ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الْمَقَامِ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَسَائِلِ تَابِعٌ لِحُكْمِ الْمَقَاصِدِ فَالْحَرَامُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً

إلَى الْحَرَامِ لَا إلَى الْمَكْرُوهِ بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا (وَلَكِنْ) حِينَئِذٍ (إنْ كَانَ) هَذَا الرِّيَاءُ (لِلْحَظِّ الْعَاجِلِ) أَيْ الدُّنْيَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} [الإنسان: 27] نَحْوُ تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ وَالْجَاهِ لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ (فَمَذْمُومٌ) مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا لِقِصَرِ هِمَّتِهِ عَلَى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ الْفَانِيَةِ سَرِيعَةِ الزَّوَالِ، لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَرَاهَةَ نَفْسِ الْحَظِّ الْعَاجِلِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّك قَدْ عَرَفْت أَنَّ حُكْمَ الْوَسَائِلِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مُجَرَّدَ الدُّنْيَا إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ وَسَلِمَ مِنْ الْعَوَارِضِ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا بَلْ الظَّاهِرُ إبَاحَتُهُ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ السَّوْقِ أَنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ كَذَلِكَ وَعَدَمُ إرَادَةِ الْكَرَاهَةِ مِنْ الْمَذْمُومِ يَقْتَضِي أَنْ يُوجَدَ قِسْمٌ فَوْقَ الْمُبَاحِ وَتَحْتَ الْكَرَاهَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ أَيْضًا قِيلَ هُنَا فِي إثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ قَالَ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]- ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ فَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ، لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلَبَ هُوَ الْمَذْمُومِيَّةُ تَحْتَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ هُوَ الْكَرَاهَةَ كَمَا بَيَّنَ وَاللَّازِمُ مِنْ الدَّلِيلِ هُوَ الْحُرْمَةُ بَلْ الْخُلُودُ فِيهَا وَأَيْضًا قِيلَ هُنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16] وَهُوَ أَيْضًا كَمَا تَرَى، بَلْ نَفْسُهُ هُوَ صَرَّحَ كَوْنَهُ فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ إلَّا أَنْ يُقَالَ فِي وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ إنَّ إيثَارَ الْعَاجِلَةِ عَلَى الْآجِلَةِ إنَّمَا هُوَ حَالُ أَهْلِ النَّارِ فَفِيهِ أَيْضًا مَا عَرَفْت (وَإِلَّا) بِأَنْ كَانَ وَسِيلَةً إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ كَإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى إمَارَةٍ يُنَفِّذُ بِهَا حُدُودَ الشَّرْعِ وَيَرْفَعُ الْبِدْعَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ (فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا بَيَّنَّا فِي حُبِّ الرِّيَاسَةِ) مِنْ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِهِ إلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَتَحْصِيلِ الْمَرَامِ الْمُسْتَحَبِّ، أَوْ الْمُبَاحِ أَوْ دَفْعِ الظُّلْمِ وَالشَّوَاغِلِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ، أَوْ إلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ وَإِعْزَازِ الدَّيْنِ وَإِصْلَاحِ الْخَلْقِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إنْ خَلَا عَنْ الْمَحْظُورِ كَالرِّيَاءِ وَالتَّلْبِيسِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ فَجَائِزٌ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ قِيلَ: وَأَرَادَ بِالرِّيَاءِ هُنَاكَ الرِّيَاءَ الْمُتَوَسَّلَ بِهِ إلَى مَنْهِيٍّ بِقَرِينَةِ قَيْدِ الْحُضُورِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ هُنَا مُسْتَحَبًّا. (وَأَمَّا الرِّيَاءُ فِي الْعِبَادَةِ) الَّتِي كَانَتْ مَشْرُوعِيَّتُهَا لِمُجَرَّدِ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَحْصِيلِ رِضَاهُ (فَحَرَامٌ كُلُّهُ) بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، قِيلَ: هَذَا إذَا كَانَ بَاعِثًا عَلَيْهَا (بَلْ إنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْعِبَادَةِ) قِيلَ أَيْ الْفَرَائِضِ وَقِيلَ فِي ذَوَاتِهَا لَا فِي أَوْصَافِهَا (كَمَنْ يُصَلِّي الْفَرْضَ عِنْدَ النَّاسِ وَلَا يُصَلِّي فِي الْخَلْوَةِ) لِعَدَمِ مَنْ يَرَى عَمَلَهُ (فَكُفْرٌ عِنْدَ الْبَعْضِ) لَعَلَّهُ لِتَقْدِيمِ خَوْفِ ذَمِّ الْخَلْقِ مَثَلًا عَلَى خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ تَقْدِيمِ رِضَاهُمْ عَلَى رِضَاهُ تَعَالَى وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْبَعْضِ لِاسْتِلْزَامِ الِاسْتِخْفَافِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَتَأَمَّلْ فِي الْكُلِّ. قِيلَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَقَالَ (قَالَ فِي التتارخانية وَفِي الْيَنَابِيعِ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ لَوْ صَلَّى رِيَاءً فَلَا أَجْرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ) قَالَ الْمُحَشِّي أَيْ وِزْرُ الرِّيَاءِ وَوِزْرُ تَرْكِ الْفَرْضِ وَلَوْ لَمْ يُصَلِّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا وِزْرُ تَرْكِ الْفَرْضِ فَيَتَضَاعَفُ وِزْرُهُ لَكِنْ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنْ الْخُلَاصَةِ أَنَّهُ لَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ هَذَا فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ لَا رِيَاءَ فِي الْفَرَائِضِ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْوَاجِبِ وَفِي الْأَشْبَاهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَجْرَ لَهُ وَلَا وِزْرَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفُرُ) لِاسْتِخْفَافِ الشَّرْعِ، وَقِيلَ: لِتَرْجِيحِ تَعْظِيمِ الْخَلْقِ عَلَى تَعْظِيمِ الْخَالِقِ وَقِيلَ: لِعِبَادَتِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَقُولُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ يَلْزَمُ كَوْنُ مُطْلَقِ الرِّيَاءِ كُفْرًا وَالْحَمْلُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ بَعِيدٌ كَالْحَمْلِ عَلَى الْكُفْرِ الْحُكْمِيِّ لِعَدَمِ حُسْنِ الْمُقَابَلَةِ حِينَئِذٍ (انْتَهَى) كَلَامُ التتارخانية أَقُولُ لَعَلَّ وَجْهَ إكْفَارِ مَنْ كَفَرَ نَحْوُ حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ أَلَا أَنِّي لَسْت أَقُولُ تَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنَّ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً خَفِيَّةً» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ سُئِلَ

الْحَسَنُ عَنْ الرِّيَاءِ أَهُوَ شِرْكٌ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَقْرَأُ - {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]- وَقَالَ الْعَارِفُ الْجُنَيْدُ: الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ مَالِكٌ وَاَلَّذِي يَمْلِكُهُ هَوَاهُ مَمْلُوكٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ الْغَالِبُ عَلَى قَلْبِهِ رَبُّهُ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّات أَنَّ حَكِيمًا صَنَّفَ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ كِتَابًا فِي الْحِكْمَةِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيِّهِمْ قُلْ لَهُ: قَدْ مَلَأْتَ الْأَرْضَ نِفَاقًا وَلَمْ تُرِدْنِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ شَيْئًا فَنَدِمَ وَتَرَكَ وَخَالَطَ الْعَامَّةَ وَتَوَاضَعَ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ قُلْ لَهُ الْآنَ: قَدْ وَافَقْتَ رِضَايَ، انْتَهَى. وَأَيْضًا حَدِيثُ «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا جَاءَ الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدِّينِ» وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ إنَّ هَذَا لَمْ يُرِدْنِي بِعَمَلِهِ فَاجْعَلُوهُ فِي سِجِّينٍ» (وَ) أَيْضًا (مِمَّنْ قَالَ بِكُفْرِهِ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَهُ فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ فَأَغْلَظَ فِيهِ) أَيْ شَدَّدَ فِي هَذَا الرِّيَاءِ (حَيْثُ جَعَلَهُ مُنَافِقًا تَامًّا) كَامِلًا {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] فِي نِفَاقِهِ (مَعَ آلِ فِرْعَوْنَ) الْمُرَادُ إمَّا نَفْسُهُ أَوْ دَاخِلٌ هُوَ فِيهِ لَا كَمَا وَهِمَ بَعْضٌ مِنْ أَنَّ نَفْسَ فِرْعَوْنَ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ (وَهَامَانُ) وَزِيرُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: وَالْفَرَاعِنَةُ ثَلَاثَةٌ فِرْعَوْنُ الْخَلِيلِ وَاسْمُهُ سِنَانٌ وَفِرْعَوْنُ يُوسُفَ وَاسْمُهُ الرَّيَّانُ وَفِرْعَوْنُ مُوسَى وَاسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ وَهَذَا فِي أَصْلِ الْعِبَادَةِ لِمَا ذَكَرُوا. وَأَمَّا فِي النَّفْلِ فَلَا يَكْفُرُ بَلْ لَا أَجْرَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ كَمَا فِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى مَنْ تَرَكَ فَرْضًا تَهَاوُنًا كَفَرَ، بَعْدَ قَوْلِهِ: مَنْ سَجَدَ أَوْ صَلَّى رِيَاءً كَفَرَ فَإِنَّهُ إنْ تَرَكَ فَرْضًا تَهَاوُنًا كَفَرَ. (وَكَوْنُ غَرَضِهِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ الْآتِي لَا يُفِيدُ أَيْ غَرَضُ الْمُرَائِي (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الرِّيَاءِ (الطَّاعَةَ كَصِيَانَةِ النَّاسِ عَنْ الْغِيبَةِ) فِي الرِّيَاءِ بِتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَنَحْوِهِ فِي الْمَلَأِ وَبِعَدَمِ الصَّلَاةِ بِحُضُورِهِمْ (وَتَحْصِيلَ الْعِلْمِ النَّافِعِ) فِي رِيَاءِ الْمُتَعَلِّمِ فَإِنَّ الْمُتَعَلِّمَ يُرَائِي بِطَاعَتِهِ لِيَنَالَ عِنْدَ الْمُعَلِّمِ رُتْبَةً فَيَتَعَلَّمَ مِنْهُ عِلْمًا نَافِعًا (وَ) تَحْصِيلَ (بِرِّ الْوَالِدَيْنِ) بِطَاعَتِهِمَا وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا وَطَلَبِ رِضَاهُمَا فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ فَيَأْتِي الْعِبَادَةَ لِمُجَرَّدِ بِرِّهِمَا (وَ) تَحْصِيلَ (الْمَالِ عُدَّةً لِلْعِبَادَةِ وَقُوَّةً عَلَيْهَا وَتَفَرُّغًا لَهَا) مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا (وَدَفْعًا لِمَانِعِهَا) مِنْ طَلَبِ قِوَامِ الْبَدَنِ لِأَنَّ شَغْلَ

الْقَلْبِ بِالْمَعَاشِ يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِعَاشِ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ احْتَجْت بَصَلَةً مَا فَهِمْت مَسْأَلَةً (وَ) تَحْصِيلَ (الْجَاهِ) أَيْ رِفْعَةِ الشَّأْنِ وَالْقَدْرِ وَمَزِيَّةِ الشَّرَفِ بِالْمَنَاصِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ (كَذَلِكَ) أَيْ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إلَى عَمَلِ الْبِرِّ أَوْ كَانَ الرِّيَاءُ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ عُدَّةً لِلْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا. (فَبَعْدَ تَسْلِيمِ صِدْقِهِ) أَيْ الْمُرَائِي فِي تِلْكَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ رَاءَى لَهَا (لَا يُفِيدُ) فِي دَفْعِ الْحُرْمَةِ (وَلَا يَجْعَلُهُ) الرِّيَاءُ بِالْعِبَادَةِ (حَلَالًا) لِامْتِنَاعِ الِانْقِلَابِ وَلِعَدَمِ وُجُودِ رَافِعِ الْحُرْمَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ غَرَضَهُ الْمَذْكُورَ (تَلْبِيسٌ وَكَذِبٌ) عِنْدَ اللَّهِ (فِعْلِيٌّ) مَنْسُوبٌ إلَى الْفِعْلِ لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ لَا كَذِبٌ قَوْلِيٌّ (وَصُورَةُ اسْتِهَانَةٍ) تَهَاوُنٍ (وَاسْتِهْزَاءٍ) سُخْرِيَةٍ لِأَنَّهُ عَبْدٌ (لِلَّهِ تَعَالَى) فِي الظَّاهِرِ وَلِغَيْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ غَايَتُهَا مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى رِضَا الْمَعْبُودِ؛ وَلِذَا قَالَ فِي صُورَةِ اسْتِهَانَةٍ وَاسْتِهْزَاءٍ أَوْ لِأَنَّهُ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ ثُمَّ صَرَفَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ فِيهِ صُورَةُ الْمُسْتَهْزِئِ لَا حَقِيقَتُهُ إذْ حَقِيقَتُهُ كُفْرٌ (بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ قَصْدُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَلَبِهِ بِهَا الْمَالَ وَالْجَاهَ الْمَذْكُورَيْنِ) اللَّذَيْنِ يَسْتَعِينُ بِهِمَا عَلَى الْعِبَادَةِ يَعْنِي يَطْلُبُ بِالْعِبَادَةِ الْمَالَ لِيَكُونَ عُدَّةً لِلْعِبَادَةِ وَالْجَاهَ لِيَكُونَ سَبَبًا لَهَا وَلِدَفْعِ الظُّلْمِ وَالشَّوَاغِلِ وَالتَّفَرُّغِ لَهَا (ابْتِدَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) بِدُونِ قَصْدِ غَيْرِهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ وَإِحْدَاثِهِ، فَلَا يَضُرُّ مَا فِي مُجَرَّدِ الْإِظْهَارِ. (وَلَمْ يُرِدْ) بِذَلِكَ (إرَاءَةَ النَّاسِ وَإِسْمَاعَهُمْ) مِنْ السُّمْعَةِ (فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَا رِيَاءٌ كَمَا سَبَقَ) فِيمَنْ أَرَادَ إرَاءَةَ النَّاسِ أَوْ غَرَضُهُ صِيَانَةُ النَّاسِ (لِأَنَّهُ) أَيْ قَصْدَ عِبَادَتِهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً (لَيْسَ فِيهِ تَلْبِيسٌ وَلَا صُورَةُ اسْتِهَانَةٍ) لِكَوْنِهِ مُخْلِصًا إذْ كُلُّ مَا فِيهِ مَخْلُوطِيَّةٌ وَتَلْبِيسٌ فَلَيْسَ بِخَالِصٍ فَلَا يَكُونُ إخْلَاصًا كَمَنْ يَصُومُ لِلَّهِ وَيُرِيدُ خِفَّةَ مُؤْنَةِ طَبْخِ الطَّعَامِ وَشِرَائِهِ وَيَعْتِقُ لِلتَّبَرِّي مِنْ نَفَقَةِ الْعَبْدِ أَوْ لِسُوءِ خُلُقِهِ وَيَحُجُّ لِتَصْحِيحِ بَدَنِهِ بِالسَّفَرِ أَوْ لِهَرَبِ الْعَدُوِّ أَوْ لِتَفَرُّجِ الْبُلْدَانِ أَوْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ لِتَسْهِيلِ الْمَعَاشِ، أَوْ لِلْمُحَارَسَةِ مِنْ الظَّلَمَةِ، أَوْ يَكْتُبُ مُصْحَفًا لِيُجَوِّدَ خَطَّهُ، أَوْ يَحُجُّ مَاشِيًا لِتَخْفِيفِ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ أَوْ يَتَوَضَّأُ لِلنَّظَافَةِ أَوْ التَّبَرُّدِ أَوْ يَغْتَسِلُ لِتَطْيِيبِ رَائِحَتِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ إبْرَامِ السَّائِلِ أَوْ يَعُودُ مَرِيضًا لِيُعَادَ إذَا مَرِضَ فَإِذَا خَطَرَ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَيَذْهَبُ الْإِخْلَاصُ وَلِصُعُوبَةِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إخْلَاصُ سَاعَةٍ نَجَاةُ الْأَبَدِ وَتَوَقَّفَ أَكْثَرُ السَّلَفِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْخَيْرَاتِ حَتَّى امْتَنَعَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ: لَيْسَ ظَفْرٌ فِي النِّيَّةِ. (نَعَمْ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْهُمَا) مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ (الْحَظَّ الْعَاجِلَ) حَظَّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ وَمُيُولَاتِهَا بِدُونِ قَصْدِ الْعِبَادَةِ (فَرِيَاءٌ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ فِي ذَيْلِ قَوْلِهِ آنِفًا وَكَوْنُ غَرَضِهِ مِنْهُ الطَّاعَةَ (لَا يَحِلُّ) قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي وَإِنْ أَرَادَ مِنْ الْخَالِقِ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُرَادًا مِنْ الْخَالِقِ لَا يُفِيدُ إذَا لَمْ يَتَوَسَّلْ إلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ كَمَا مَرَّ (لِأَنَّهُ جَعَلَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى آلَةً وَشَبَكَةً) صَيْدًا (لِلدُّنْيَا) لِأَنَّهُ جَعَلَ عِبَادَتَهُ لِنَفْعِ الدُّنْيَا فَقَطْ (وَقَدْ وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْعِ الْآخِرَةِ) فَقَطْ فَقَلَبَ الْمَشْرُوعَ وَعَكَسَ الْمَوْضُوعَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَفِيهِ قَلْبُ الْمَوْضُوعِ فَلَا يُفِيدُهُ) فِي انْتِفَاءِ الرِّيَاءِ (كَوْنُ إرَادَتِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ الْخَلْقِ) لِأَنَّ هَذَا الْغَرَضَ الدُّنْيَوِيَّ يُنَافِيهِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى تَخْرِيجِ الْبَيْهَقِيّ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا» وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا مِنْ الطِّبِّ الْإِلَهِيِّ وَإِنَّهَا تَنْفَعُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَإِزَالَةِ الْمَرَضِ وَلِذَا كَانَ

عَادَةُ الْمَشَايِخِ قِرَاءَتُهَا فِي أَيَّامِ الْعُسْرِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إرَادَةُ مَتَاعِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ قُلْنَا أَجَابَ عَنْهُ الْغَزَالِيِّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ وَحَكَى عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي إنْقَاذِ الْهَالِكِينَ وَالْمُنَاوِيُّ أَيْضًا فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنْ يُرْزَقَ الْقَنَاعَةَ أَوْ الْقُوَّةَ عَلَى عِبَادَتِهِ وَعَلَى دَرْسِ الْعِلْمِ وَهَذِهِ مِنْ إرَادَةِ الْخَيْرِ لَا الدُّنْيَا لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ عُوتِبَ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ إذْ لَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ دُنْيَا: خَلَّفْتُ لَهُمْ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ، وَلِذَا كَانَ يَأْمُرُ ابْنُ مَسْعُودٍ بَنَاتِهِ بِقِرَاءَتِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، وَحَمْلُ ذَلِكَ عَلَى ذَيْنِك الْقَنَاعَةِ وَالْقُوَّةِ أَيْضًا كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ بَعِيدٌ وَقَدْ قَالَ أَيْضًا: وَقِرَاءَةُ هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ الشِّدَّةِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَرَدَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ الْمَأْثُورَةُ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعِنْدَنَا أَيْضًا النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إنْ لَمْ يَصْرِفْهَا قَطْعِيٌّ وَأَيْضًا لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ قُرِّرَ أَيْضًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْمَقْرُونَ بِشَرَائِطِ الرِّوَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا مَشْرُوعِيَّةَ نَحْوِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْغَزَالِيُّ نَفْسُهُ صَرَّحَ بِالْخَوَاصِّ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الرَّبَّانِيَّةِ لِلْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَعَلَّ الْحَقَّ عَدَمُ الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ وَجَوَازُ جِنْسِ ذَلِكَ مُطْلَقًا إنْ أَرَادَ بِالرِّزْقِ عُدَّةَ ذُخْرِ الْآخِرَةِ وَإِلَّا فَمَنْعُهُ، غَايَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ الْجَوَازِ وَمَوْرِدُ النَّصِّ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْرِدِهِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيمَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ هَذَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ لَا يَكُونُ إرَادَةَ مَتَاعِ الدُّنْيَا بَلْ إرَادَةَ مَتَاعِ الْآخِرَةِ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَافْهَمْ كَيْفَ وَالْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ مَعَ تَعْوِيلِهِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْغَزَالِيِّ بِأَنَّ اشْتِغَالَ الْآيَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ لِحِفْظِ نَفْسِهِ أَوْ لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْدِقَائِهِ مِنْ الْآفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوْ لِقَهْرِ الْعَدُوِّ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ الْحِفْظِ وَالْقَهْرِ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ وَالتَّمَكُّنَ مِنْ تَأْيِيدِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالرَّدَّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَنَشْرَ الْعِلْمِ وَحَضَّ النَّاسِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا إرَادَاتٌ مَحْمُودَةٌ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي بَابِ الرِّيَاءِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا أَمْرُ الْآخِرَةِ بِالْحَقِيقَةِ، انْتَهَى. (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ} [الشورى: 20] بِعَمَلِهِ {حَرْثَ الدُّنْيَا} [الشورى: 20] فِي الْقَامُوسِ الْحَرْثُ كَسْبُ الْمَالِ وَجَمْعُهُ وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالنَّفْعِ {نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] أَيْ مِنْ بَعْضِ الدُّنْيَا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يُؤْتِيهِ جَمِيعَ مُرَادِهِ {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] لِاسْتِعْجَالِهِ نَصِيبَهُ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِرَادَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِكَوْنِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِ فَعُلِمَ أَنَّ إرَادَةَ نَفْعِ الدُّنْيَا مِنْ الْخَالِقِ وَغَيْرِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَلَيْسَ لِمَنْ يُرِيدُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: 18]- الْآيَةَ. كَمَا قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ إرَادَةُ حَرْثِ الدُّنْيَا ابْتِدَاءً وَبِالذَّاتِ لَا بِالْعَمَلِ سِيَّمَا عَمَلُ الْآخِرَةِ فَالتَّقْرِيبُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، نَعَمْ، قَالُوا: الْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ لَكِنْ الْمَطْلُوبُ هُنَا قَطْعِيٌّ وَمِثْلُهُ خِطَابِيٌّ إلَّا أَنْ يُدَّعَى ثُبُوتُ هَذَا الْمَعْنَى لِهَذِهِ الْآيَةِ بِالرِّوَايَةِ لَا بِالدِّرَايَةِ أَوْ بِدِرَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَالْمَقَامُ اجْتِهَادِيٌّ فَاعْرِفْ وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ «أَنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» حِينَ رَقَى بَعْضُ الْمُسَافِرِينَ عَلَى لَدِيغٍ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَبَرِئَ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا فَكَرِهَهُ أَصْحَابُهُ قَائِلِينَ أَخَذْتَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَجْرًا فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ فَجَوَابُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ فِي الرُّقْيَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ عَلَيْهِ لَا يُقَاسُ وَحَمَلَ بَعْضٌ الْأَجْرَ عَلَى الثَّوَابِ وَادَّعَى بَعْضٌ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا بِأَحَادِيثَ فِي مَنْعِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَوْ يُقَدَّرُ مُضَافٌ أَيْ رُقْيَةُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَرِينَةِ سَبَبِ الْوُرُودِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا أَقُولُ: الْحَمْلُ عَلَى الثَّوَابِ اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَتَوْبِيخِهِمْ أَخَذْت عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَجْرًا وَفِيهِ أَيْضًا الرُّقْيَةُ بِالْقُرْآنِ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ مَحْضَةٍ فَجَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَوْلِ بِحَدِيثٍ خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَفِيهِ أَيْضًا الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الضَّيْفِ وَاجِبٌ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْمِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ فِيهِ وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مِنْ وَضْعِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ نُقِلَ الرَّدُّ وَالتَّشْنِيعُ عَنْ السُّيُوطِيّ وَأَمَّا رَدُّهُ بِسَنَدٍ غَيْرِ سَنَدِ الْبُخَارِيِّ، وَالْمَوْضُوعُ هُوَ ذَلِكَ

السَّنَدُ لَا سَنَدُ الْبُخَارِيِّ. (وَأَمَّا تَأْثِيرُهُ) أَيْ الرِّيَاءِ (فِي الطَّاعَةِ) بِإِبْطَالِهَا وَنَقْصِ أَجْرِهَا (فَالْمَغْلُوبُ) بِأَنْ يَكُونَ جَانِبُ الْخُلُوصِ غَالِبًا عَلَى جَانِبِ الرِّيَاءِ فِي رِيَاءِ التَّخْلِيطِ (يُنْقِصُ أَجْرَهَا) أَيْ أَجْرَ الْعِبَادَةِ (وَلَا يُبْطِلُهَا) حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْقَضَاءُ فِي الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى - «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَإِنِّي مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ» عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيِّ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ إطْلَاقِ الشَّرِكَةِ هُوَ التَّسَاوِي عُرْفًا وَشَرْعًا عَلَى مَا حَكَى الْمُصَنِّفُ عَنْ الْغَزَالِيِّ، وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا فِيهِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ رِيَاءٍ» . فَعَدَمُ الْقَبُولِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْجَوَازِ وَلَا عَدَمَ الثَّوَابِ أَصْلًا عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ الْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ، لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْقَبُولِ هُوَ الْقَبُولُ الْكَامِلُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِنُقْصَانِ الْأَجْرِ، فَجَوَابُ الْمُصَنِّفِ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأَمُّلِ بِمَا ذُكِرَ هُنَا؛ إذْ نُقْصَانُ الْأَجْرِ مُنَافٍ لِعَدَمِ الثَّوَابِ أَصْلًا (وَالْمُسَاوِي) لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا يَكُونُ شَامِلًا لِمَا يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِالْبَعْثِ عَلَى الْعَمَلِ وَلِمَا يَكُونُ مَجْمُوعُهُمَا بَاعِثًا عَلَيْهِ (وَالْغَالِبُ وَالْمَحْضُ يُبْطِلُهَا) أَيْ الطَّاعَةَ، قِيلَ: فَيَجِبُ إعَادَتُهَا، وَقِيلَ: قَضَاؤُهَا، لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ حَكَى عَنْ الْغَزَالِيِّ التَّرَدُّدَ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ الْمُسَاوِي لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاخْتَارَ هُوَ نَفْسُهُ كَوْنَهُ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ أَقُولُ: هُوَ إمَّا بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ لِكَوْنِ تَوَارُدِ الْعِلَّتَيْنِ الْمُسْتَقِلَّتَيْنِ أَوْ النِّيَّةُ لَيْسَتْ بِمُسْتَقِلَّةٍ فِي الْوُجُودِ، وَإِنْ شِئْت تَقُولُ: إنَّ النِّيَّةَ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَإِنْ فِي الْجُمْلَةِ فَفِي الْغَالِبِ سِيَّمَا الصُّورَةُ الْأُخْرَى لِلْمُسَاوِي أَيْضًا فَافْهَمْ (لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، يَشْكُلُ أَيْضًا إنْ أُرِيدَ النِّيَّةُ الْخَالِصَةُ الْمُسْتَقِلَّةُ فَالْمَغْلُوبُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَإِنْ فِي الْجُمْلَةِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ فِي الْمُسَاوِي وَالْغَالِبُ إنْ سُلِّمَ فِي الْمَحْضِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النِّيَّةِ كَوْنُهَا بَاعِثَةً وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ فِي الْمَغْلُوبِ بَاعِثَةٌ وَفِي الْمُسَاوِي لَيْسَتْ بِبَاعِثَةٍ وَجُزْءُ الْبَاعِثِ لَيْسَ بِبَاعِثٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك وَأَنَّهُ جَارٍ فِي الْمَغْلُوبِ. (وَهِيَ) أَيْ النِّيَّةُ (شَرْطٌ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِبَادَةٌ) بَدَنِيَّةٌ أَوْ مَالِيَّةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ، يَشْكُلُ بِمَا فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْعَيْنِيِّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْأَذْكَارَ وَالْأَذَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَأَمَّا الْوُضُوءُ بِلَا نِيَّةٍ فَقِيلَ: لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَأَمَّا صِحَّةُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّازِمَ فِي الشُّرُوطِ مُجَرَّدُ وُجُودِهَا كَالْغُسْلِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ. وَفِي الْأَشْبَاهِ الْوُضُوءُ الْغَيْرُ الْمَنْوِيِّ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ لَكِنَّهُ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَخْطَأَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ وَلَا يُثَابُ لِعَدَمِ إقَامَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ الْعِبَادَةِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ وَأَمَّا الْوَسَائِلُ كَالْوُضُوءِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ لِصِحَّةِ الْعِبَادَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الثَّوَابِ شَرْطًا (لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ» الْعَمَلُ هُوَ حَرَكَةُ الْبَدَنِ فَيَشْمَلُ الْقَوْلَ وَقَدْ يُتَجَوَّزُ عَنْ حَرَكَةِ النَّفْسِ فَيَشْمَلُ نَحْوَ النِّيَّةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ أَيْ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَادِيَّ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ «بِالنِّيَّاتِ» النِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ وَهِيَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ وَرَدَّ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَزِيمَةً لِلْقَلْبِ لِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْقَصْدُ مَا نَجِدُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا حَالَ الْإِيجَادِ، وَالْعَزْمُ: قَدْ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَيَقْبَلُ الشِّدَّةَ وَالضَّعْفَ فَفَرَّقُوا بِجِهَتَيْنِ فَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هِيَ انْبِعَاثُ الْقَلْبِ نَحْوَ مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ، وَالشَّرْعُ خُصَّ بِالْإِرَادَةِ وَالتَّوَجُّهِ نَحْوَ الْفِعْلِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَامْتِثَالًا لِحُكْمِهِ، كَذَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ شَارِحُ الْحَمَوِيِّ لِلْأَشْبَاهِ بِعَدَمِ صِدْقِهِ عَلَى الْمَنْهِيِّ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ عِقَابٌ، فَقَالَ: فَالصَّوَابُ هِيَ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ نَحْوَ إيجَادِ فِعْلٍ أَوْ تَرْكِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْفِعْلِ مَا يَعُمُّ الْإِتْيَانَ وَالتَّرْكَ فَإِنْ قِيلَ قَدْ كَثُرَ وُجُودُ الْأَعْمَالِ بِدُونِ نِيَّةٍ قُلْنَا: نَعَمْ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ فِيهِ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ وَالْمُقْتَضِي هُوَ اللَّازِمُ الْمُتَقَدِّمُ الَّذِي اقْتَضَى النَّصُّ تَقْرِيرَهُ لِتَوَقُّفِ صِدْقِ الْمَنْطُوقِ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا وَأَمَّا عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فَمِنْ بَابِ الْمُضْمَرِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ عِنْدَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَنْطُوقُ شَرْعًا فَقَطْ، وَالْمُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ هُنَا صِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ عَقْلِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ كَمُضْمَرٍ لَا مُقْتَضًى، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ ثَابِتٌ

شَرْعًا وَالْمُضْمَرُ لُغَةً أَوْ الْمُقْتَضِي لَا عُمُومَ لَهُ وَالْمُضْمَرُ لَهُ عُمُومٌ. فَمَعْنَى الْحَدِيثِ حُكْمُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ أَوْ صِحَّةُ الْأَعْمَالِ كَمَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَيْ كَمَالُ الْأَعْمَالِ لِحَدِيثِ عَدَمِ شَرْطِيَّةِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ، وَأَوْرَدَ مَقَالًا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ ثُمَّ قَالَ وَإِنَّمَا لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي إزَالَةِ الْخُبْثِ لِكَوْنِهِ مِنْ قَبِيلِ التُّرُوكِ كَالزِّنَا مِنْ حَيْثُ إسْقَاطُ الْعِقَابِ لَا يَحْتَاجُهَا وَمِنْ حَيْثُ تَحْصِيلُ الثَّوَابِ يَحْتَاجُهَا كَإِزَالَةِ النَّجَسِ لَا يَحْتَاجُ تَطْهِيرًا وَتَحْتَاجُ ثَوَابًا عَلَى امْتِثَالِ الشَّارِعِ لَعَلَّ هَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا يُقَالُ إنَّ تَرْكَ الْمَنَاهِي إنْ بَعْدَ التَّشَهِّي فَمُثَابٌ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْحَمَوِيُّ فِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ عَنْ الْمُسْتَصْفَى مَا حَاصِلُهُ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ قَبِيلِ ظَنِّيِّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ وَهُوَ يُفِيدُ السُّنِّيَّةَ وَالِاسْتِحْبَابَ لَا الْوُجُوبَ وَالِافْتِرَاضَ، وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ مَعَ تَصْرِيحِهِ فِي الْأُصُولِ مِمَّنْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى شَرْطِيَّةِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ أَقُولُ: فَاسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ حِينَئِذٍ مُشْكِلٌ فَتَأَمَّلْ وَأَقُولُ: أَيْضًا النِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إيمَانِ الْمُكْرَهِ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ: حَرْبِيًّا فَقَطْ وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ، فَيَكُونُ عَامًّا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَلَا يَكُونُ الْبَاقِي حُجَّةً قَطْعِيَّةً عَلَى الْمُخْتَارِ أَقُولُ: قَدْ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الْخَبَرِ الْمُؤَيَّدِ بِالنَّصِّ، فَالشَّرْطِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِآيَةِ - {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [البينة: 5]- «وَلِكُلِّ امْرِئٍ» أَيْ إنْسَانٍ وَلَا جَمْعَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ «مَا نَوَى» مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَحَظُّ الْعَامِلِ مَا نَوَاهُ لَا صُورَتُهُ يَعْنِي اعْتِبَارُ الْأَعْمَالِ عَلَى حَسَبِ النِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ خَالِصًا فَلِلَّهِ وَإِنْ لِلدُّنْيَا فَلَهَا وَإِنْ لِنَظَرِ الْخَلْقِ فَلِذَلِكَ، فَمَنْ فَعَلَ غَافِلًا أَوْ نَائِمًا فَمُهْمَلٌ نَحْوُ أَفْعَالِ الْجَمَادِ وَمَنْ أَتَى بِطَاعَةٍ رِيَاءً وَسُمْعَةً أَوْ طَمْعَ عَطَاءٍ دُنْيَوِيٍّ، أَوْ تَوَقُّعَ ثَنَاءٍ عَاجِلٍ أَوْ تَخَلُّصًا مِنْ ذَمِّ النَّاسِ فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقَاضِي وَهَاتَانِ قَاعِدَتَانِ عَظِيمَتَانِ: الْأُولَى تَضَمَّنَتْ أَنَّ الْعَمَلَ الِاخْتِيَارِيَّ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ تَضَمَّنَتْ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِحَسَبِ الْمَنْوِيِّ، وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ لِمَانِعٍ كَمَرِيضٍ تَخَلَّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْإِخْلَاصِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ عَنْهَا عَمَلٌ أَصْلًا وَلِهَذَا تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنْ الْأَعْلَامِ بِعُمُومِ نَفْعِهِ وَعِظَمِ وَقْعِهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» قِيلَ: مِنْ وُجُوهِهِ الْعَمَلُ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ شَوَائِبَ كَالرِّيَاءِ وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَا تَتَكَدَّرُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ الدَّيْلَمِيِّ «الْحَسَنَةُ تُدْخِلُ صَاحِبَهَا الْجَنَّةَ وَالْخُلُقُ الْحَسَنُ يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ، وَالْجِوَارُ الْحَسَنُ يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ قَالَ: نَعَمْ عَلَى رَغْمِ أَنْفِك» . قِيلَ: هُنَا النِّيَّةُ نَوْعَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْبُودِ وَيَتَضَمَّنُ إفْرَادَ الْمَعْبُودِ فَيَشْمَلُ نَفْيَ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ نِيَّةُ الْإِخْلَاصِ وَبِهَا أُمِرَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادِ فَهُوَ تَمْيِيزُ الْعِبَادَةِ مِنْ الْعَادَةِ وَمَرَاتِبِ الْعِبَادَةِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَقْرُبُ أَيْضًا حَدِيثُ الْجَامِعِ «النِّيَّةُ الصَّادِقَةُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ فَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ نِيَّتَهُ تَحَرَّكَ الْعَرْشُ فَيُغْفَرُ لَهُ» قِيلَ فِي شَرْحِهِ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَامِلٍ أَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ لَا سِيَّمَا الْعِلْمُ فَلَا يُرِيدُ بِهِ كَمَالًا دُنْيَوِيًّا أَوْ جَاهًا أَوْ شُهْرَةً أَوْ سُمْعَةً عَنْ السَّمْهُودِيِّ إنَّهُ كُلَّمَا خَرَجَ إلَى الدَّرْسِ يَقِفُ بِدِهْلِيزِهِ حَتَّى يُحَصِّلَ النِّيَّةَ وَيُصَحِّحَهَا ثُمَّ يَحْضُرَ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الْحِصْنِ عَنْ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ: تَرْتِيبُ الْوَارِدِ عَلَى الْقَلْبِ مَرَاتِبُ: الْهِمَّةُ ثُمَّ اللَّمَّةُ ثُمَّ الْخَطْرَةُ ثُمَّ النِّيَّةُ ثُمَّ الْإِرَادَةُ ثُمَّ الْعَزِيمَةُ، فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُخَرِ. وَقَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: وَأَمَّا حَدِيثُ النَّفْسِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَحَاصِلُ مَا قَالُوهُ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ قَصْدِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى خَمْسٍ الْهَاجِسُ هُوَ مَا يُلْقَى فِيهَا، ثُمَّ جَرَيَانُهُ فِيهَا وَهُوَ الْخَاطِرُ، ثُمَّ حَدِيثُ النَّفْسِ يَقَعُ فِيهَا مِنْ التَّرَدُّدِ هَلْ يَفْعَلُ أَوْ لَا، ثُمَّ الْهَمُّ وَهُوَ تَرْجِيحُ قَصْدِ الْفِعْلِ، ثُمَّ الْعَزْمُ هُوَ قُوَّةُ ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَلَا يُجْزَمُ بِهِ فَالْهَاجِسُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ وَالْخَاطِرُ الَّذِي بَعْدَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى دَفْعِهِ بِصَرْفِ الْهَاجِسِ أَوَّلَ وُرُودِهِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ مَرْفُوعَانِ بِالْحَدِيثِ وَإِذَا ارْتَفَعَ حَدِيثُ النَّفْسِ

ارْتَفَعَ مَا قَبْلَهُ بِالْأَوْلَى وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَوْ كَانَتْ فِي الْحَسَنَاتِ لَا يُؤْجَرُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَأَمَّا الْهَمُّ بِالْحَسَنَةِ يُكْتَبُ حَسَنَةً وَاحِدَةً وَبِالسَّيِّئَةِ لَا يُكْتَبُ، فَإِنْ تَرَكَ لِلَّهِ كُتِبَ حَسَنَةً وَإِنْ فَعَلَ فَسَيِّئَةٍ وَاحِدَةٍ، يَعْنِي يُكْتَبُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ وَحْدَهُ عَلَى الْأَصَحِّ وَأَمَّا الْعَزْمُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَقِيلَ: الْهَمُّ مِنْ الْمَرْفُوعِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ لَا يَأْثَمُ إنْ لَمْ يُصَمِّمْ عَزْمَهُ وَإِنْ عَزَمَ يَأْثَمُ إثْمَ الْعَزْمِ لَا الْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ كَالْكُفْرِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَوْلُهُ: كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ هُوَ «أَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» قَالَ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ لِابْنِ مَالِكٍ: الْمُرَادُ مَا يُقْصَدُ إذْ الضَّرُورِيُّ مَعْفُوٌّ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ إلَّا أَنْ يُصِرَّ، ثُمَّ قِيلَ حَدِيثُ النَّفْسِ لَيْسَ بِكَلَامٍ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ وَلَا تَطْلُقُ بِهِ الزَّوْجَةُ وَأَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «إذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا سَيِّئَةً فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً وَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا» ، كَمَا فِي الْمَبَارِقِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ النَّوَوِيِّ الْمُرَادُ بِهِ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا تَسْتَقِرُّ سَوَاءً كُفْرًا أَوْ غِيبَةً فَمَنْ خَطَرَ لَهُ الْكُفْرُ بِلَا تَعَمُّدٍ فَصَرَفَهُ فِي الْحَالِ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَقَوْلُهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ يَعْمَلْ فَإِنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَكُونُ مِنْ الْأَقْوَالِ أَوْ عَمِلَ بِمَا يَكُونُ مِنْ الْأَعْمَالِ فَيُؤَاخَذُ بِالْقَوْلِ فَقَطْ وَبِالْفِعْلِ فَقَطْ دُونَ حَدِيثِ النَّفْسِ أَوْ بِهِمَا مَعًا كَمَا اخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ وَعَنْ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْقُلُوبُ مَيَّالَةٌ إلَى كُلِّ طَارِئٍ عَلَيْهَا حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا مُحَالًا، أَوْ جَائِزًا، حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، مَعْقُولًا أَوْ مُتَخَيَّلًا، وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الْغَالِبَةُ عَطَفَ بِفَضْلِهِ وَعَفَا عَنْ كُلِّهِ بَقِيَ أَنَّ الْمَوْلَى الْمُحَشِّيَ قَالَ هُنَا: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَعَدُّدِ النَّفْعِ وَالثَّوَابِ بِتَعَدُّدِ النِّيَّةِ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمُحَافَظَةِ الْوُضُوءِ وَسَجَدَ التِّلَاوَةِ الَّتِي عَلَيْهِ انْتَهَى أَقُولُ: تَفْصِيلُهُ إنْ كَانَ فِي الْوَسَائِلِ يَجُوزُ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْجَنَابَةِ وَلِلْجُمُعَةِ لَهُ ثَوَابُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ فِي الْمَقَاصِدِ فَإِنَّ نَافِلَتَيْنِ كَمَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِسُنَّةِ الْفَجْرِ وَالتَّحِيَّةُ أَجْزَأَتْ عَنْهُمَا وَإِنْ فَرْضَيْنِ أَوْ فَرْضًا وَنَفْلًا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُطْلَبُ مِنْ الْأَشْبَاهِ (رَوَاهُ عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) الْعَدَوِيُّ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ وَزِيرُ الْمُصْطَفَى ثَانِي الْخُلَفَاءِ (وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ) وَهُوَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ مَا لَهُ طُرُقٌ مَحْصُورَةٌ فَوْقَ الِاثْنَيْنِ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ مَا يُشْتَهَرُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَيُطْلَقُ عَلَى مَا لَهُ إسْنَادٌ وَاحِدٌ بَلْ عَلَى مَا لَا إسْنَادَ لَهُ أَصْلًا، يَرُدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الثَّانِيَ فَلَا يُنَاسِبُ لِغَرَضِهِ وَإِنْ الْأَوَّلَ فَالرَّاوِي فِي اعْتِقَادِهِ لَيْسَ غَيْرَ عُمَرَ فَكَيْفَ يَكُونُ مَشْهُورًا إلَّا أَنْ يُرِيدَ مِنْ الْمَشْهُورِ مَا هُوَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّ وَهُوَ مَا كَانَ وَاحِدًا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ ثُمَّ اشْتَهَرَ بَعْدَهُ وَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَيْضًا فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي نُعَيْمٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى تَخْرِيجِ الرَّشِيدِ الْعَطَّارِ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ مَشْهُورًا حِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ عَلَى نَظَرِ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنَّهُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ عُمَرَ وَعَنْ الْغَيْرِ وَمَا عَدَا طَرِيقِ عُمَرَ ضَعِيفٌ إلَّا أَنْ يَعُمَّ إلَى مَا وَرَدَ فِي مُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَلَوْ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ فَحِينَئِذٍ بَلَغَ الرَّاوِي إلَى ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ صَحَابِيًّا كَمَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ وَفِيهِ أَيْضًا: هَذَا حَدِيثٌ فَرْدٌ غَرِيبٌ بِاعْتِبَارٍ، مَشْهُورٌ بِاعْتِبَارٍ، وَفِيهِ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحِيحِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا مِنْ عُمَرَ وَلَا عَنْ عُمَرَ إلَّا مِنْ عَلْقَمَةَ وَلَا عَنْ عَلْقَمَةَ إلَّا مِنْ التَّيْمِيِّ وَلَا عَنْ التَّيْمِيِّ إلَّا مِنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَمَدَارُهُ عَلَيْهِ وَإِنَّ مِنْ بَعْدِ يَحْيَى فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَتَيْ إنْسَانٍ أَكْثَرُهُمْ أَئِمَّةٌ، بَلْ قِيلَ إلَى سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ فَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ التَّوَاتُرَ وَالشُّهْرَةَ فَبِالنِّسْبَةِ إلَى آخِرِ السَّنَدِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ فِي إسْنَادِهِ شَيْءٌ يُسْتَحْسَنُ وَيُسْتَغْرَبُ وَهُوَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ تَابِعُونَ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَالتَّيْمِيُّ وَعَلْقَمَةُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَطْرَفًا لَكِنَّهُ وَقَعَ فِي نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، قَالَ وَهُوَ حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى عِظَمِهِ وَجَلَالَتِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَابْتِدَاءِ أَرْكَانِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ (خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ

وَأَيْضًا قَدْ عَرَفْت تَخْرِيجَ أَبِي نُعَيْمٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنِ عَسَاكِرَ وَالرَّشِيدِ (إلَّا مَالِكًا) قَدْ عَرَفْت السِّتَّةَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السِّتَّةِ، وَقِيلَ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَقَدِّمِينَ سَادِسُ السِّتَّةِ مَالِكٌ بَدَلَ ابْنِ مَاجَهْ فَمُتَّصِلٌ وَمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ غَرَائِبِ مَالِكٍ لَا يَضُرُّ؛ إذْ الْمُرَادُ كِتَابُهُ الْمُوَطَّأُ فَقَطْ. (وَالنِّيَّةُ إرَادَةُ التَّقَرُّبِ بِالْعَمَلِ) إلَى اللَّهِ (الْبَاعِثَةُ عَلَيْهِ) صِفَةُ الْإِرَادَةِ (الْمُتَّصِلَةُ) صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ (بِأَوَّلِهِ) أَيْ الْعَمَلِ (حَقِيقَةً) كَمُقَارَنَةِ نِيَّةِ الْقَلْبِ بِتَكْبِيرَةِ اللِّسَانِ فِي الصَّلَاةِ (أَوْ حُكْمًا) كَصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ التَّحْرِيمَةِ إلَى التَّعَوُّذِ أَوْ إلَى الثَّنَاءِ أَوَّلًا إنْ أَتَمَّ الثَّنَاءَ أَوْ إلَى آخِرِ الْفَاتِحَةِ أَوْ إلَى الرُّكُوعِ أَوْ إلَى الرَّفْعِ مِنْهُ عَلَى الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ الْكَرْخِيِّ وَبِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ إلَى أَوَانِ الْوُضُوءِ إنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ وَفِي الْوُضُوءِ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَيَنْبَغِي فِي أَوَّلِ السُّنَنِ عِنْدَ غَسْلِ الْيَدِ، وَالْغُسْلُ كَالْوُضُوءِ، وَفِي التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْوَضْعِ عَلَى الصَّعِيدِ، وَفِي الْإِمَامَةِ يَنْبَغِي وَقْتَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ لَا قَبْلَهُ، وَلِلْجَمَاعَةِ عِنْدَ أَوَّلِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ الْإِمَامِ هَذَا لِلثَّوَابِ، وَأَمَّا لِلصِّحَّةِ فَالْأَفْضَلُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْإِمَامِ فَإِنْ نَوَى وَلَمْ يَشْرَعْ، قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا، وَفِي الزَّكَاةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَعِنْدَ الْعَزْلِ وَلَوْ دَفَعَ بِلَا نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى، وَالْمَالُ مَوْجُودٌ فِي يَدِ الْفَقِيرِ جَائِزٌ، وَفِي الصَّوْمِ جَازَ التَّقَدُّمُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالتَّأَخُّرُ إلَى قُبَيْلِ نِصْفِ النَّهَارِ، وَالْأَفْضَلُ الْمُقَارَنَةُ، هَذَا فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ فَفِي غَيْرِهِ مِنْ قَضَاءٍ وَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ فَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَفِي النَّفْلِ كَأَدَاءِ رَمَضَانَ، وَفِي الْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مَعَ التَّلْبِيَةِ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ ثُمَّ إنَّهُ تَصِحُّ نِيَّةُ عِبَادَةٍ فِي أُخْرَى كَمَنْ نَوَى فِي الصَّلَاةِ الصَّوْمَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ اشْتِرَاطِ بَقَاءِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ فَلَوْ افْتَتَحَ الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ أَتَمَّهَا عَلَى اعْتِقَادِ التَّطَوُّعِ أَجْزَأَتْهُ ثُمَّ مَحَلُّ النِّيَّةِ هُوَ الْقَلْبُ فَلَا حَاجَةَ إلَى اللِّسَانِ لَكِنْ لَا بُدَّ فِي الِاعْتِكَافِ مِنْ التَّلَفُّظِ وَأَيْضًا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِ النِّيَّةِ يَكْفِيهِ اللِّسَانُ (وَالْإِرَادَةُ) أَيْ لَفْظُ الْإِرَادَةِ فِي تَعْرِيفِ النِّيَّةِ (احْتِرَازٌ عَنْ مُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِاللِّسَانِ) مَعَ ذُهُولِ الْقَلْبِ وَقَدْ سَمِعْتَ آنِفًا مِنْ الْجَوَازِ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِ قَلْبِهِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ قَبِيلِ الْمَوَانِعِ، وَالْقَوْلُ إنَّ اللِّسَانَ حِينَئِذٍ بَدَلٌ وَثُبُوتُ الْبَدَلِ كَثُبُوتِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ إبْدَالٌ بِالرَّأْيِ، وَذَا لَا يَجُوزُ، ثُمَّ قِيلَ حَيْثُ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى نِيَّةِ الْقَلْبِ صَارَ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ فِي حَقِّهِ أَصْلًا لَا بَدَلًا. ثُمَّ مِنْ فُرُوعِ هَذَا لَوْ اخْتَلَفَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ كَالنِّيَّةِ بِالْقَلْبِ عَلَى الظُّهْرِ وَاللِّسَانِ بِالْعَصْرِ أَوْ بِعَكْسِهِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقَلْبُ إلَّا فِي الْيَمِينِ فَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى الْيَمِينِ بِلَا نِيَّةٍ انْعَقَدَ يَمِينًا وَتَفْصِيلُ الْكُلِّ فِي الْأَشْبَاهِ، ثُمَّ فِي الْمَجْمَعِ لَا اعْتِبَارَ بِاللِّسَانِ لَكِنْ هَلْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُسَنُّ أَوْ يُكْرَهُ أَقْوَالٌ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ لَيْسَ فِي التَّلَفُّظِ أَثَرٌ وَخَبَرٌ لَا صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ، بَلْ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضٍ، لَكِنْ فِي الدُّرَرِ أَمَّا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَيَحْسُنُ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ عَزِيمَةً (وَ) احْتِرَازٌ عَنْ (حَدِيثِ النَّفْسِ) لِأَنَّهُ عَرْضُ الْمَعْنَى عَلَى الْقَلْبِ وَالْإِرَادَةُ مَيْلٌ إلَى الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ (وَالتَّقَرُّبُ) احْتِرَازٌ (عَنْ الرِّيَاءِ الْمَحْضِ وَ) قَوْلُهُ (الْبَاعِثَةُ) احْتِرَازٌ (عَنْ الْقَصْدِ الْمُسَاوِي) فِيهِ التَّقَرُّبُ مَعَ غَيْرِهِ

الأمل وهو العاشر من آفات القلب

(وَالْمَغْلُوبُ) فِيهِ التَّقَرُّبُ فَالْغَالِبُ غَيْرُ التَّقَرُّبِ (وَ) قَوْلُهُ (الْمُتَّصِلَةُ) بِأَوَّلِهِ احْتِرَازٌ (عَنْ الْأَمَلِ) مِنْ تَأَمُّلِ الطَّاعَةِ غَدًا (وَنَحْوِهِ) كَالتَّمَنِّي وَالْوَعْدِ (فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ جَزْمًا صَلَاةَ الظُّهْرِ غَدًا أَوْ نَحْوَهَا) مِنْ الصَّلَاةِ (فَآمِلٌ) أَيْ ذُو أَمَلٍ؛ لِأَنَّهُ رَاجٍ لَا نَاوٍ (وَإِنْ) أَرَادَ جَزْمًا (بِشَرْطِ الصَّلَاحِ) قِيلَ: بِأَنْ قَالَ إنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ خَيْرٌ لِي فَيَسِّرْهَا لِي وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: كَأَفْعَلُ كَذَا إنْ كُنْت صَالِحًا (وَالِاسْتِثْنَاءُ) كَأَصُومُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - (فَغَيْرُ آمِلٍ) بِوُجُودِ شَرْطِ الصَّلَاحِ وَالِاسْتِثْنَاءِ (وَغَيْرُ نَاوٍ أَيْضًا) لِفَقْدِ الِاتِّصَالِ فِيهَا فَلَا يَصْدُقُ التَّعْرِيفُ (حَتَّى لَا يَجُوزَ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ) مِنْ الْمُعْتَبَرِ فِيهِ النِّيَّةُ (بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ) لِعَدَمِ صِدْقِ النِّيَّةِ. (وَكَذَا مَا بَعْدَ الشُّرُوعِ) إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا اتِّصَالٌ حُكْمًا (وَ) قَوْلُهُ (أَوْ حُكْمًا لِيَدْخُلَ فِيهِ) أَيْ التَّعْرِيفِ، وَقِيلَ: فِي الْقَصْدِ (نِيَّةُ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْعَزْلِ) فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِأَوَّلِهِ حَقِيقَةً (وَ) كَذَا (نِيَّةُ الصَّوْمِ بَعْدَ الْغُرُوبِ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ) الشَّرْعِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الِاتِّصَالُ الْأَوَّلُ حَقِيقَةً لِجَوَازِ تَقَدُّمِهِ إلَى مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ وَتَأَخُّرُهُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ (فِي) أَدَاءِ (رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ) نَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبَ أَوْ الْغَدَ (وَالنَّفَلِ وَإِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ) الثَّانِي وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ عَرْضًا لَا طُولًا (فِي غَيْرِهَا) مِنْ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالْكَفَّارَاتِ (وَ) (نِيَّةُ الصَّلَاةِ إلَى الرُّكُوعِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ عَلَى وَجْهٍ) وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى تَحْرِيرِ مُرَادِ زُفَرَ، وَلَوْ قَالَ إلَى الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ لَكَانَ أَوْلَى، لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ اعْتِبَارُ دُخُولِ ذَلِكَ تَحْتَ الْحُكْمِيِّ وَفِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْجَوْهَرَةِ لَا يُعْتَبَرُ بِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقِرَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، انْتَهَى، ثُمَّ إنَّهُ أُشِيرَ فِي الْأَشْبَاهِ إلَى الْإِشْكَالِ عَلَى التَّعْرِيفِ أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْمَلُ التُّرُوكَ، فَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ جَامِعٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَعُمُّ فِعْلَ الْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ فَيَدْخُلُ الْكَفُّ، وَالْكَفُّ فِعْلُ النَّفْسِ فَإِنَّ الْفِعْلَ كَمَا يُنْسَبُ لِلْجَوَارِحِ يُنْسَبُ لِلنَّفْسِ فَإِنْ قِيلَ: لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ بَلْ هُوَ تَرْكُهُ وَتَرْكُ غَيْرِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ فِعْلُ النَّفْسِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]- كَمَا فِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ وَأَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ حُكْمًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا أُشِيرَ إلَيْهِ مِنْ فَوَائِدِهِ تَعْرِيفٌ بِالْأَخْفَى لِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ بِالنَّظَرِ إلَى جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَإِنَّ فَهْمَ حَقِيقَتِهِ تَابِعٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّعْرِيفِ كَوْنُ مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ مَأْخُوذًا مِنْ التَّعْرِيفِ فَقَلْبُ الْمَعْقُولِ كَقَلْبِ الْمَشْرُوعِ. [الْأَمَلُ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ] (وَالْأَمَلُ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) مِنْ قَبِيلِ إعَادَةِ الْمُعَرَّفِ عَيْنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ ذِكْرَهُ هُنَا بِمُجَرَّدِ مُنَاسَبَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَافْهَمْ، ثُمَّ الْأَمَلُ رَجَاءُ إدْرَاكِ الزَّمَنِ الْآتِي كَمَا يُفَادُ مِمَّا يَذْكُرُهُ (إرَادَةُ الْحَيَاةِ) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ وَالْأَمَلُ فَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ (لِلْوَقْتِ الْمُتَرَاخِي) الظَّاهِرُ إلَى الْوَقْتِ (بِالْحُكْمِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرَادَةِ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ بِالْحُكْمِ مَا لَا يَكُونُ بِاسْتِثْنَاءٍ وَلَا شَرْطِ صَلَاحٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحًا (أَعْنِي) بِهِ (بِلَا اسْتِثْنَاءٍ) نَحْوُ إنْ شَاءَ اللَّهُ (وَلَا شَرْطِ صَلَاحٍ) كَمَا مَرَّ آنِفًا فَالتَّغَيُّرُ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ بِمِقْدَارِ الْعُمُرِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا لَا احْتِمَالَ لَهُ بِوَجْهٍ، يَعْنِي الْأَمَلَ بِشَرْطِ

إرَادَةِ اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْأَمَلُ مَذْمُومٌ إلَّا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْلَاهُ مَا صَنَّفُوا، كَمَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ فَالْقَوْلُ إنِّي أَعِيشُ بَعْدَ نَفُسٍ ثَانٍ مَثَلًا بِلَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَمَلٌ، وَبِهِ إرَادَةُ الْحَيَاةِ إلَى الْوَقْتِ الثَّانِي لِكَسْبِ الصَّلَاحِ لَيْسَ بِأَمَلٍ أَيْضًا فَافْهَمْ. (وَغَوَائِلُهُ) مَفَاسِدُهُ وَمُهْلِكَاتُهُ (أَرْبَعَةٌ) الْأَوْلَى أَرْبَعٌ: الْأَوَّلُ (الْكَسَلُ) أَيْ تَرْكُ الْعَمَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ (فِي الطَّاعَةِ) بِالتَّثْقِيلِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالتَّقَاعُدِ عَنْ السُّنَنِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَالتَّكَرُّهِ فِي اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ (وَتَأْخِيرِهَا) لِأَمَلِ إدْرَاكِ زَمَنٍ يُوقِعُهَا فِيهِ بَعْدُ، فَتَخْرُجُ عَنْ وَقْتِهَا الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِنْ التَّأْخِيرِ التَّرْكُ بِتَسْوِيفِ الْقَضَاءِ فَيَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْعَطْفِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ؛ إذْ التَّأْخِيرُ مُتَسَبِّبٌ عَنْ الْكَسَلِ وَحُرْمَةُ الدَّاعِي إلَى الشَّيْءِ كَحُرْمَةِ نَفْسِ الشَّيْءِ، وَلَا يَخْفَى رُتْبَةُ مُضِرَّاتِ الْكَسَلِ فِي الْعِبَادَاتِ بِالتَّأْخِيرِ أَوْ التَّرْكِ. (وَ) الثَّانِي (تَسْوِيفُ التَّوْبَةِ) تَأْخِيرُهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَخِّرُهَا عَلَى رَجَاءِ إدْرَاكِ الْوَقْتِ الْمُتَرَاخِي فِي اعْتِقَادِهِ بِأَنْ يَقُولَ سَوْفَ أَتُوبُ وَفِي أَيَّامِنَا سَعَةٌ وَأَنَا شَابٌّ وَأَنَا قَادِرٌ عَلَيْهَا مَتَى أَرَدْت (وَتَرْكُهَا) أَيْ التَّوْبَةِ رَأْسًا وَضَرَرُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا تَرَى وَقَدْ رُوِيَ «هَلَكَ الْمُسَوِّفُونَ» . (وَ) الثَّالِثُ (قَسْوَةُ الْقَلْبِ) بِأَنْ لَا يَتَأَثَّرَ بِالْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ (بِعَدَمِ ذِكْرِ الْمَوْتِ) وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» ، الْحَدِيثَ. قَالَ فِي شَرْحِهِ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَسْكَرِيِّ: لَوْ فَكَّرَ الْبُلَغَاءُ فِي قَوْلِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَعَلِمُوا أَنَّهُ أَتَى بِهَذَا الْقَلِيلِ عَلَى كُلِّ مَا قِيلَ فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ وَوُصِفَ بِهِ نَظْمًا وَنَثْرًا؛ وَلِهَذَا كَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمَوْتُ يَقْطُرُ جِلْدُهُ وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ ذِكْرُ الْمَوْتِ بَيْتًا إلَّا رَضِيَ أَهْلُهُ بِمَا قُسِمَ لَهُمْ وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ حُبِّبَ إلَيْهِ كُلُّ بَاقٍ وَبُغِّضَ إلَيْهِ كُلُّ فَانٍ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: لِأَنَّ نُورَ التَّوْحِيدِ فِي الْقَلْبِ وَظُلْمَةَ الشَّهْوَةِ فِي الصَّدْرِ فَإِذَا أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ بِقَلْبِهِ انْقَشَعَتْ الظُّلْمَةُ وَاسْتَنَارَ الصَّدْرُ بِنُورِ الْيَقِينِ. (تَنْبِيهٌ) أَخَذَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ: مَاذَا تَقُولُ وَلَيْسَ عِنْدَك حُجَّةٌ ... لَوْ قَدْ أَتَاك مُنَغِّصُ اللَّذَّاتِ مَاذَا تَقُولُ إذَا حَلَلْت مَحَلَّةً ... لَيْسَ الثِّقَاتُ بِأَهْلِهَا بِثِقَاتِ وَقَالَ الْآخَرُ اُذْكُرْ الْمَوْتَ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ ... وَتَجَهَّزْ لِمَصْرَعٍ سَوْفَ يَاتِي قَالَ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ: نَعَمْ مَصْلَحَةُ الْقَلْبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، يَطْرُدُ فُضُولَ الْأَمَلِ، وَيَكُفُّ غَرَبَ التَّمَنِّي وَيُهَوِّنُ الْمَصَائِبَ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالطُّغْيَانِ وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: مَنْ ذَكَرَ الْمَنِيَّةَ نَسِيَ أُمْنِيَةً وَقَالَ التَّيْمِيُّ: شَيْئَانِ قَطَعَا عَنِّي لَذَّةَ النَّوْمِ: ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءَ فَيَتَذَاكَرُونَ الْمَوْتَ وَالْقِيَامَةَ فَيَبْكُونَ حَتَّى كَأَنَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ جِنَازَةً. وَكَانَ الثَّوْرِيُّ إذَا ذُكِرَ الْمَوْتُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَيَّامًا، فَإِنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ: لَا أَدْرِي لَا أَدْرِي، وَقَالَ اللَّفَّافُ: مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أُكْرِمَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: تَعْجِيلِ التَّوْبَةِ وَقَنَاعَةِ الْقَلْبِ وَنَشَاطِ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ نَسِيَهُ عُوقِبَ بِثَلَاثٍ: تَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الرِّضَا بِالْكَفَافِ وَالتَّكَاسُلِ فِي الْعِبَادَةِ، فَتَفَكَّرْ يَا مَغْرُورُ فِي الْمَوْتِ وَسَكْرَتِهِ وَصُعُوبَةِ كَأْسِهِ وَمَرَارَتِهِ، فَيَا لِلْمَوْتِ مِنْ وَعْدٍ مَا أَصْدَقَهُ وَمِنْ حَاكِمٍ مَا أَعْدَلَهُ، فَكَفَى بِالْمَوْتِ مُفْزِعًا لِلْقُلُوبِ، وَمُبْكِيًا لِلْعُيُونِ، وَمُفَرِّقًا لِلْجَمَاعَاتِ وَهَاذِمًا لِلذَّاتِ، وَقَاطِعًا لِلْأُمْنِيَاتِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُنَاوِيِّ. وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أَنَّ الْبَهَائِمَ تَعْلَمُ مِنْ الْمَوْتِ مَا تَعْلَمُونَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِينًا» وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يُحْشَرُ مَعَ الشُّهَدَاءِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَنْ يَذْكُرُ الْمَوْتَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عِشْرِينَ مَرَّةً» . وَفِي ذِكْرِهِ الْمَوْتِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا تَبْغِيضُ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ حَسَنَةٍ كَمَا أَنَّ حُبَّهَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ

(وَمَا بَعْدَهُ) أَيْ مِنْ الْقَبْرِ وَالْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]- النَّصِيبُ الْكَفَنُ فَالْمَعْنَى لَا تَنْسَ أَنَّك تَتْرُكُ جَمِيعَ الدُّنْيَا إلَّا نَصِيبَك الَّذِي هُوَ الْكَفَنُ، وَأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ كُلِّ آدَمِيٍّ ثَلَثَمِائَةِ نَظْرَةٍ وَسِتًّا وَسِتِّينَ نَظْرَةً كَمَا فِي جَلَاءِ الْمُصَنِّفِ (وَالْحِرْصُ عَلَى جَمْعِ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالُ) الْإِعْرَاضُ (بِهَا) بِالدُّنْيَا (عَنْ) أَعْمَالِ (الْآخِرَةِ) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] إذْ الرَّجُلُ يُبْتَلَى بِسَبَبِهِمْ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ مِنْ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، لَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: أَوْلَادُنَا فِتْنَةٌ إنْ عَاشُوا أَتْعَبُونَا وَإِنْ مَاتُوا أَحْرَقُونَا - {وَالْقَنَاطِيرِ} [آل عمران: 14]- فُسِّرَ بِالْمَالِ الْكَثِيرِ - {الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران: 14]- الْمَضْرُوبَةِ الْمَنْقُوشَةِ - {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ} [آل عمران: 14]- هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ - {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]- قَلِيلَةٌ فَانِيَةٌ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ - {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]- لَا يَزُولُ وَلَا يَفْنَى وَهُوَ الْجَنَّةُ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مَقَرٍّ وَالدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا (فَلَا يَزَالُ الْآمِلُ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (يَشْتَغِلُ بِجَمْعِ الدُّنْيَا) لِرَجَاءِ طُولِ عُمُرِهِ (وَتَكْثِيرِهَا خَوْفًا مِنْ الشَّيْخُوخَةِ وَالْمَرَضِ) فَيَجْمَعُ الدُّنْيَا حَالَ شَبَابِهِ وَصِحَّتِهِ لِلِادِّخَارِ (وَنَحْوِهِمَا) مِنْ مَوَانِعِ الْكَسْبِ (فَمِنْهُمْ) أَيْ الْآمِلِينَ تَفْصِيلٌ لَهُمْ لِلذَّمِّ (مَنْ يُهَيِّئُ) مَنْ يُعِدُّ وَيُحْضِرُ (كِفَايَةَ عَشْرِ سِنِينَ) لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ (وَمِنْهُمْ) مَنْ يَدَّخِرُ كِفَايَةَ (خَمْسِينَ سَنَةً وَمِنْهُمْ أَكْثَرَ) مِنْ ذَلِكَ (وَمِنْهُمْ أَقَلَّ) التَّفَاوُتُ إمَّا لِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ أَوْ سِنِّ الْآمِلِينَ أَوْ عَلَى قَدْرِ ضَعْفِ تَوَكُّلِهِمْ وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالتَّوَكُّلُ لَازِمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النمل: 79] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]- وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ قِيلَ لِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ: التَّوَكُّلُ رَدُّ الْعَيْشِ إلَى يَوْمٍ وَاحِدٍ وَإِسْقَاطُ هَمِّ غَدٍ وَعَنْ الشِّبْلِيِّ

شَكَا إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ كَثْرَةِ عِيَالِهِ، قَالَ: ارْجِعْ إلَى بَيْتِك فَمَنْ لَمْ يَكُنْ رِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَاطْرُدْهُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُتَوَكِّلُ مَنْ لَمْ يَدَّخِرْ لِغَدٍ وَلَمْ يَهْتَمَّ بِرِزْقٍ وَكَانَ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ أَوْثَقَ مِمَّا عِنْدَهُ» (قَالَ مَشَايِخُ الصُّوفِيَّةِ) الَّذِينَ أَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْعَمَلَ بِالْأَقْوَى وَالْأَحْوَطِ وَالِاعْتِصَامَ بِعَزَائِمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَأْتُونَ الرُّخَصَ بِلَا ضَرُورَةٍ دُونَ الْغُلَاةِ مِنْهُمْ (مَنْ أَعَدَّ) ادَّخَرَ (كِفَايَةَ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ لَا يُلَامُ) مِنْ اللَّوْمِ (وَلَا يَخْرُجُ) بِهِ (مِنْ التَّوَكُّلِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ لِأَزْوَاجِهِ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - (قُوتَ سَنَةٍ) » قِيلَ وَلَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ يَأْتِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّائِلُ فَلَا يَجِدُ فِي بُيُوتِ أَهْلِهِ مَا يُطْعِمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّخِرُ لَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنْ الْمَيَّارَةِ فِي يَدِهِ فَيَأْتِي مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهَا فَلَا يَجِدُ شَيْئًا أَوْ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ ذَلِكَ الِادِّخَارِ فِي كُلِّ سَنَةٍ (فَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ) أَيْ قُوتَ السَّنَةِ (مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ) الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا (لَا يُعْتَبَرُ فِي الْغِنَى) قِيلَ: حَتَّى لَوْ كَانَ قِيمَةُ ذَلِكَ مِقْدَارَ النِّصَابِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ وَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُ زَكَاةِ الْغَيْرِ وَالنَّذْرُ وَالْوَصِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوعِ (وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى قُوتِ شَهْرٍ يُعْتَبَرُ فِي الْغِنَى) فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا: فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي رَجُلٌ اشْتَرَى طَعَامًا لِلْقُوتِ بِمِقْدَارِ مَا يَكْفِيهِ شَهْرًا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى لَهُ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِحَاجَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الشَّهْرِ لَا يُعْطَى لِأَنَّ الشَّهْرَ هُوَ الْوَسَطُ فِيمَا يَدَّخِرُ النَّاسُ لِأَنْفُسِهِمْ قُوتًا فَكَانَ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ وَفِي قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةِ والتتارخانية عَنْ الْخَانِيَّةِ وَلَوْ اشْتَرَى قُوتَ سَنَةٍ يُسَاوِي نِصَابًا فَفِيهِ كَلَامٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ الْغِنَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنْ يَكْفِيَ مَا وَرَاءَ النِّصَابِ لِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ سَنَةً، انْتَهَى وَأَيْضًا فِي الْأَشْبَاهِ وَلَوْ لَهُ قُوتُ سَنَةٍ يُسَاوِي نِصَابًا أَوْ كِسْوَةً شَتْوِيَّةً لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ فَالصَّحِيحُ حِلُّ الْأَخْذِ وَفِي التتارخانية أَيْضًا قُبَيْلَ مَا ذُكِرَ آنِفًا وَالْفَتْوَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْفَضْلُ عَلَى الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِعِيَالِهِ، وَلِلدِّهْقَانِ يُعْتَبَرُ الْفَضْلُ فِي قُوتِ سَنَةٍ فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَقَوْلُهُ الْأَصَحُّ كَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ وَلِادِّخَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قُوتَ سَنَةٍ، وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ تَحَقُّقِ الْأَصَحِّ فِيمَا لَا يَكُونُ ظَاهِرًا بَعِيدٌ، كَمَا أَنَّ الِادِّخَارَ بِقُوتِ سَنَةٍ لَا يَقْتَضِي مَا ذُكِرَ؛ إذْ عِنْدَ تَعَارُضِ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فَاَلَّذِي يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ يُرَجَّحُ عَلَى مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّك سَمِعْت ذِكْرَ الْأَصَحِّ مِنْ الْأَشْبَاهِ وَإِطْلَاقِ الْفَتْوَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ عِيَالٌ (وَأَمَّا مَنْ لَا عِيَالَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَدَّخِرَ قُوتَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) لِأَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالْأَعْدَلُ فِي حَقِّهِ هُوَ هَذَا الْوَقْتُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَسْتَحْصِلُ نَفَقَتَهُ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ وَأَمَّا الْكَثِيرُ إنْ لَمْ يَكُنْ نَفَقَتُهُ حَاضِرَةً فَاسْتِحْصَالُهَا مُحْتَاجٌ إلَى زَمَانٍ كَثِيرٍ. (وَإِنْ ادَّخَرَ زَائِدًا عَلَيْهِ) عَلَى أَرْبَعِينَ (خَرَجَ مِنْ التَّوَكُّلِ) لِتَعَمُّقِهِ بِالْأَسْبَابِ، لَكِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، لَعَلَّ الثَّانِيَ مُنَاسِبٌ لِسِيَاقِ الْمُتَصَوِّفَةِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى الْفَتْوَى وَالثَّانِي عَلَى التَّقْوَى لَكِنْ سِيَاقُ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُهُ فَافْهَمْ (أَقُولُ مُرَادُهُمْ) الظَّاهِرُ: الْمُتَصَوِّفَةُ بِقَوْلِهِمْ خَرَجَ مِنْ التَّوَكُّلِ هُوَ (التَّوَكُّلُ الْكَامِلُ النَّفْلِ) لَعَلَّ ذَلِكَ كَمَالٌ إضَافِيٌّ وَإِلَّا فَالِاحْتِيَاجُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ أَقَلَّ قَلِيلٍ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوَكُّلِ عِنْدَهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ لَوْ احْتَجْت بَصَلَةً لِمَا فَهِمْت مَسْأَلَةً وَفِي الْقُشَيْرِيِّ عَنْ الْخَوَّاصِ لَقِيَنِي الْخَضِرُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَسَأَلَنِي الصُّحْبَةَ فَخَشِيت أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ تَوَكُّلِي بِسُكُونِي إلَيْهِ فَفَارَقْته وَسُئِلَ سَهْلٌ عَنْ التَّوَكُّلِ؟ فَقَالَ: قَلْبٌ عَاشَ مَعَ اللَّهِ بِلَا عَاقَّةٍ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ التَّوَكُّلُ التَّعَلُّقُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ (لَا أَصْلُ التَّوَكُّلِ الْفَرْضِ) بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23] (لِمَا بَيَّنَّا فِي فَصْلِ

الْعِلْمِ) عِنْدَ بَيَانِ مُرَادِ الْعِمَادِيِّ بِقَوْلِهِ: مُرَادُهُ بِالتَّوَكُّلِ كَمَالُهُ؛ إذْ أَصْلُهُ فَرْضٌ وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنْ لَا خَالِقَ وَلَا مُؤَثِّرَ فِي شَيْءٍ إلَّا اللَّهُ - تَعَالَى - وَلَمَّا بَيَّنَ الْأَمَلَ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ وَشَرْطِ صَلَاحٍ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمَلَ بِهِمَا فَقَالَ (وَأَمَّا) (إرَادَةُ طُولِ الْحَيَاةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَشَرْطِ الصَّلَاحِ) نَحْوُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي» (لِزِيَادَةِ الْعِبَادَةِ) كَالتَّفْسِيرِ لِلصَّلَاحِ وَإِلَّا فَكَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ (فَلَيْسَ بِأَمَلٍ مَذْمُومٍ) كَيْفَ وَالدَّرَجَاتُ الْعَالِيَةُ وَالْمَقَامَاتُ الرَّفِيعَةُ فِي الْجَنَّةِ مَنُوطَةٌ عَلَى قَدْرِ الْعِبَادَةِ كَمَا رُوِيَ «اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِفَضْلِي وَاقْتَسِمُوهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِكُمْ» (بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) كَمَا فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ آنِفًا (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَبُو بَكْرَةَ بِالتَّاءِ كُنْيَةٌ لِنُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ غَلَبَ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ وَهِيَ أُمُّ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الَّذِي اسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ أَخًا وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَوَالِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟» أَيْ أَكْثَرُ فَضِيلَةً عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَعْظَمُ مَقَامًا وَأَجْرًا «قَالَ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِهِ «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ» بِضَمِّ الْمِيمِ الْعُمُرُ امْتِدَادٌ وَهْمِيٌّ مِنْ مَبْدَأٍ مَوْهُومٍ إلَى مُنْتَهًى، كَذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيُفَسَّرُ بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَتَصَوُّرِ الطُّولِ فِي الْعُمُرِ مَعَ أَنَّهُ وَهْمِيٌّ وَالطُّولُ يَقْتَضِي الْوُجُودَ، مُحَرَّرٌ عِنْدَ حَدِيثِ الصَّدَقَةِ تَرُدُّ الْبَلَاءَ وَتَزِيدُ الْعُمُرَ وَلَا يَزِيدُ الْعُمُرَ إلَّا الْبِرُّ، وَقَدْ فَصَّلْنَاهُ بِرِسَالَةٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِمَنِّهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّ الطُّولَ هُنَا مَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ تَأَمَّلْ «وَحَسُنَ عَمَلُهُ» بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْثُرُ حَسَنَاتُهُ وَيُرْفَعُ دَرَجَاتُهُ وَيَزِيدُ إلَى اللَّهِ قُرْبُهُ، وَعَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ الْأَوْقَاتُ كَرَأْسِ الْأَمْوَالِ لِلتَّاجِرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّجِرَ لِمَا يَرْبَحُ فِيهِ وَكُلَّمَا كَانَ رَأْسُ مَالِهِ كَثِيرًا كَانَ الرِّبْحُ أَكْثَرَ «قَالَ» السَّائِلُ «فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» بِالشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ وَارْتِكَابِ الْفَضَائِحِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيِّ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالًا» . ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى «خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا إذَا سَدَّدُوا» . وَمِنْ أَحَادِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» قَالَهُ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْتُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَنْ كَبِرَ وَعَرَفَ رَبَّهُ خَيْرٌ مِنْ مَوْتِهِ طِفْلًا بِلَا حِسَابٍ فِي الْآخِرَةِ. فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الطِّيبِيِّ (حدهق) أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ (عَنْ جَابِرِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ: فَيُكْرَهُ ذَلِكَ أَوْ يَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ جَزِيلِ الْفَوَائِدِ وَجَلِيلِ الْعَوَائِدِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا اسْتِمْرَارُ الْإِيمَانِ فَأَيُّ أَمْرٍ أَعْظَمُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: نَعَمْ، إنَّ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ تَمَنَّوْهُ شَوْقًا إلَى الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْأَقْدَسِيَّةِ وَذَلِكَ لِمَقَامِ الْخَوَاصِّ فَإِنْ قِيلَ: الْآجَالُ مُقَدَّرَةٌ لَا تَزِيدُ بِالتَّمَنِّي فَمَا مَعْنَى التَّمَنِّي قُلْنَا ذَلِكَ: هُوَ حِكْمَةُ النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ لَهُ وَفِي الْإِحْيَاءِ عَنْ وَهْبٍ كَانَ مَلِكٌ مُتَعَظِّمٌ لَا يَنْظُرُ إلَى النَّاسِ كِبْرًا فَعِنْدَ ذَهَابِهِ مَعَ خَدَمِهِ جَاءَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَلَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ فَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ فَمُنِعَ فَلَمْ يَنْدَفِعْ، فَقَالَ: لِي إلَيْك حَاجَةٌ، فَقَالَ: اصْبِرْ إلَى وَقْتِ النُّزُولِ، فَقَالَ: لَا الْآنَ، فَقَهَرَهُ عَلَى لِجَامِ دَابَّتِهِ فَقَالَ الْمَلِكُ: اُذْكُرْهَا، فَقَالَ: سِرٌّ فَأَدْنَى إلَيْهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَاضْطَرَبَ لِسَانُهُ، فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي وَأَقْضِيَ حَاجَتِي وَأُوَدِّعَهُمْ، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ لَيْسَ لَك رُؤْيَةُ أَهْلِك وَوَلَدِك أَبَدًا، فَقَبَضَ رُوحَهُ ثُمَّ مَضَى فَلَقِيَ عَبْدًا مُؤْمِنًا فَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَقَالَ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً، وَقَالَ لَهُ سِرًّا: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِمَنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَلَيَّ فَوَاَللَّهِ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ غَائِبٌ أَحَبَّ إلَيَّ لِقَاؤُهُ إذَا أَلْقَاهُ مِنْك، فَقَالَ: اقْضِ

حَاجَتَك الَّتِي خَرَجْتَ لَهَا، فَقَالَ مَالِي: حَاجَةٌ أَكْبَرُ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - قَالَ: فَاخْتَرْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شِئْت، قَالَ: هَلْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: نَعَمْ أُمِرْت بِذَلِكَ قَالَ: دَعْنِي أَتَوَضَّأُ وَأُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَاقْبِضْ رُوحِي وَأَنَا سَاجِدٌ فَقَبَضَ رُوحَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ «فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ» قِيلَ: بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ أَوْ فَكَسْرٍ مَحَلُّ الِاطِّلَاعِ الْمَوْتُ الْقَبْرُ أَوْ الْقِيَامَةُ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَعُ بِهَا عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ عَنْ الصِّحَاحِ: بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ مَوْضِعُ الِاطِّلَاعِ: وَقِيلَ الْمَأْتِيُّ: وَعَنْ الْقَامُوسِ اطَّلَعَ عَلَى بَاطِنِهِ ظَهَرَ وَعَرَفَ «شَدِيدٌ» قَوِيٌّ صَعْبٌ، فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ الْمَيِّتِ وُضِعَتْ عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمَاتُوا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ الْمَوْتَ وَلَا يَقَعُ الْمَوْتُ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، وَيُرْوَى «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ أَلَمِ الْمَوْتِ وُضِعَتْ عَلَى جِبَالِ الْأَرْضِ كُلِّهَا لَذَابَتْ» ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ يَجِدُ أَلَمَ الْمَوْتِ مَا لَمْ يُبْعَثْ مِنْ قَبْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَوْسٍ: الْمَوْتُ أَفْظَعُ هَوْلٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ نَشْرِ الْمَنَاشِيرِ وَقَرْضِ الْمَقَارِيضِ وَغَلْيٍ فِي الْقُدُورِ وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ نُشِرَ فَأَخْبَرَ أَهْلَ الدُّنْيَا بِأَلَمِ الْمَوْتِ مَا انْتَفَعُوا بِعَيْشٍ وَلَا لَذُّوا بِنَوْمٍ. وَفِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا: اعْلَمْ، أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْ الْعَبْدِ كَرْبٌ وَلَا هَوْلٌ وَلَا عَذَابٌ إلَّا الْمَوْتُ الْمُجَرَّدُ لَانْتَغَصَ عَيْشُهُ وَتَكَدَّرَ سُرُورُهُ وَتُفَارِقُهُ شَهْوَتُهُ وَغَفْلَتُهُ وَتَطُولُ فِكْرَتُهُ وَيَعْظُمُ اسْتِعْدَادُهُ وَهُوَ فِي كُلِّ نَفَسٍ بِصَدَدِهِ «وَإِنَّ مِنْ السَّعَادَةِ» السَّرْمَدِيَّةِ «أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - الْإِنَابَةَ» أَيْ الرُّجُوعَ إلَيْهِ بِالنَّدَمِ عَلَى مَا اقْتَرَفَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ أَوْ بِالطَّاعَاتِ وَاكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ الْبَاقِيَاتِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ فَسَّرَهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنَاهِي فَإِذَا مَاتَ جَاءَتْهُ الْبُشْرَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ - {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]- قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: تَقُولُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا تَخَفْ مَا أَمَامَك مِنْ الْأَهْوَالِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَى مَا خَلَّفْت وَأَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْت تُوعَدُ، وَقِيلَ لَا تَخَفْ مَا تَذْهَبُ إلَيْهِ مِنْ الْغُرْبَةِ وَالْوَحْدَةِ وَالْوَحْشَةِ وَلَا تَحْزَنْ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَمْوَالِ وَأَبْشِرْ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَجَنَّةِ نَعِيمٍ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ» عَلَى مَا نُقِلَ مِنْ الرِّعَايَةِ وَفِي الْإِحْيَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إذَا رَضِيَ عَنْ عَبْدٍ قَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَأْتِنِي بِرُوحِهِ لِأَرِيحَهُ حَسْبِي مِنْ عَمَلِهِ قَدْ بَلَوْته فَوَجَدْته حَيْثُ أُحِبُّهُ فَيَنْزِلُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَمَعَهُ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مَعَهُمْ قُضْبَانٌ وَأُصُولُ الزَّعْفَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ يُبَشِّرُهُ بِبِشَارَةٍ سِوَى بِشَارَةِ صَاحِبِهِ، وَتَقُومُ الْمَلَائِكَةُ صَفَّيْنِ لِخُرُوجِ رُوحِهِ مَعَهُمْ الرَّيْحَانُ فَإِذَا نَظَرَ إبْلِيسُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ صَرَخَ. قَالَ الرَّاوِي فَيَقُولُ لَهُ جُنُودُهُ مَالَك يَا سَيِّدَنَا؟ فَيَقُولُ: أَمَا تَرَوْنَ مَا أُعْطِيَ هَذَا الْعَبْدُ مِنْ الْكَرَامَةِ، أَيْنَ كُنْتُمْ عَنْ هَذَا؟ قَالُوا: قَدْ جَهَدْنَا بِهِ فَكَانَ مَعْصُومًا» ، هَذَا هُوَ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ إلَّا لِقَاءُ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَطْلُوبُ مِنْ الْحَدِيثِ إرَادَةُ طُولِ الْحَيَاةِ وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قُلْنَا: حَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ يُرَادَ وَيَتَمَنَّى الْمَوْتَ أَوْ طُولَ الْحَيَاةِ بِالْإِنَابَةِ وَالْمُقَدَّمُ بَاطِلٌ فَالتَّالِي أَيْ إرَادَةُ طُولِ الْعُمْرِ بِالْإِنَابَةِ حَقٌّ أَيْ مِنْ السَّعَادَةِ، أَمَّا بُطْلَانُ الْمُقَدَّمِ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْتَ قَاطِعُ الطَّاعَاتِ وَالطَّاعَاتُ مُزِيلُ هَوْلِ الْمَطْلَعِ وَهَوْلُ الْمَطْلَعِ أَمْرٌ شَدِيدٌ فَيَنْتِجُ الْمَوْتُ قَاطِعٌ مُزِيلُ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ ثُمَّ نَقُولُ وَكُلُّ قَاطِعٍ مُزِيلِ أَمْرٍ شَدِيدٍ لَا يُرَادُ وَلَا يُتَمَنَّى فَالْمَوْتُ لَا يُرَادُ فَهُوَ عَيْنُ الْبُطْلَانِ، فَقَوْلُهُ (فَإِنَّ هَوْلَ إلَى آخِرِهِ) هُوَ الْكُبْرَى الثَّانِيَةُ، وَقَوْلُهُ (لَا تَتَمَنَّوْا) فِي قُوَّةِ بُطْلَانِ الْمُقَدَّمِ، وَقَوْلُهُ (إنَّ مِنْ السَّعَادَةِ إلَى آخِرِهِ) فِي قُوَّةِ النَّتِيجَةِ لِأَصْلِ الْقِيَاسِ فَعَلَيْك وَجْهُ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَإِنَّهُ خَفِيٌّ أَيْضًا. (س) النَّسَائِيّ (عَنْ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ) قِيلَ: بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ الثَّانِيَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَ الْأُولَى (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ شَابَ» ابْيَضَّ شَعْرُهُ «شَيْبَةً» حَقِيرَةً أَوْ وَاحِدَةً

«فِي الْإِسْلَامِ» بِأَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ ظَرْفًا لِشَيْبَتِهِ «كَانَتْ» تِلْكَ الشَّعْرَةُ «لَهُ نُورًا» عَظِيمًا يَسْتَضِيءُ بِهِ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَيْ يَصِيرُ الشَّيْبُ نَفْسُهُ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ صَاحِبُهُ وَيَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ فِي ظُلُمَاتِ الْحَشْرِ إلَى أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَالشَّيْبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ لَكِنَّهُ إذَا كَانَ بِسَبَبِ نَحْوِ جِهَادٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ اللَّهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ سَعْيِهِ فَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ مِنْ مُطْلَقِ شَعْرِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ لَوْ قِيلَ يَحْرُمُ لَمْ يَبْعُدْ، كَذَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ لَكِنْ لِفُقَهَائِنَا الْحَنَفِيَّةِ تَجْوِيزُهُ فِي بَعْضِ الْأَغْرَاضِ وَأَيْضًا يُكْرَهُ تَغْيِيرُهَا كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ زِيَادَةُ قَوْلِهِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهَا بِالسَّوَادِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ «مَا لَمْ يُخَضِّبْهَا أَوْ يَنْتِفْهَا» . وَفِي الْإِحْيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «آلَيْت عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَنْظُرُ اللَّهُ - تَعَالَى - إلَى وَجْهِ الشَّيْخِ صَبَاحًا وَمَسَاءً وَيَقُولُ كَبِرَ سِنُّك وَدَقَّ عَظْمُك وَرَقَّ جِلْدُك وَقَرُبَ أَجَلُك وَكَادَ قُدُومُك إلَيَّ يَا عَبْدِي أَمَا تَسْتَحْيِي وَأَنَا أَسْتَحِي مِنْ شَيْبِك» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ جَاوَزَ أَرْبَعِينَ وَلَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ عَلَى شَرِّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ عُبَيْدٍ) مُصَغَّرِ عَبْدٍ ابْنِ خَالِدٍ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ آخَى» بِالْمَدِّ أَصْلُهُ وَاخَى، قُلِبَتْ الْوَاوُ هَمْزَةً كَمَا فِي أُجُوهٍ فِي وُجُوهٍ أَيْ عَقَدَ الْأُخُوَّةَ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ الشَّرِيفُ لِأَجْلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا رَزَقَهُ خَلِيلًا صَالِحًا إنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ» «بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا» شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «وَمَاتَ الْآخَرُ» حَتْفَ أَنْفِهِ «بَعْدَهُ بِجُمُعَةٍ» أُسْبُوعٍ «أَوْ نَحْوِهَا فَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ» عَلَى الْمُتَوَفَّى آخِرَ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قُلْتُمْ» أَيْ أَيَّ شَيْءٍ قُلْتُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: الْمَقُولُ فِي الصَّلَاةِ مُتَعَيَّنٌ بِتَعْيِينِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَا وَجْهُ الِاسْتِفْهَامِ؟ قُلْنَا يَجُوزُ كَوْنُ ذَلِكَ قَبْلَ التَّعْيِينِ بَلْ الْكُلُّ مُرَخَّصٌ بِالدُّعَاءِ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ الْمَيِّتِ أَوْ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ بَلْ فِي خَارِجِهَا وَيَجُوزُ كَوْنُ الْمُرَادِ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ هُوَ الْإِعْلَامُ بِفَائِدَةِ طُولِ الْعُمُرِ الْقَرِينِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِتَفَطُّنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِفِرَاسَتِهِ أَوْ بِاسْتِمَاعِهِ قَوْلَهُمْ «فَقَالُوا: دَعَوْنَا لَهُ وَقُلْنَا» فِي دَعْوَتِنَا «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَأَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ» الَّذِي مَاتَ شَهِيدًا فِي مَرْتَبَتِهِ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَيْنَ صَلَاتُهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَصَوْمُهُ بَعْدَ صَوْمِهِ» ، الْحَاصِلَةُ فِي ذَلِكَ الْأُسْبُوعِ وَلَمْ تُوجَدْ لِلشَّهِيدِ الْمُتَوَفَّى قَبْلَهُ (شَكَّ شُعْبَةُ) أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ، قِيلَ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ «فِي صَوْمِهِ وَعَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ» يَعْنِي هَلْ قَالَ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا أَوْ قَالَ بَدَلَهُ هَذَا الثَّانِي يَعْنِي صُدُورَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْزُومٌ لَهُ قَطْعًا وَإِنَّمَا شَكُّهُ فِي تَعْيِينِهِ «فَإِنَّ بَيْنَهُمَا» بَيْنَ مَنْ مَاتَ أَوَّلًا وَبَيْنَ مَنْ مَاتَ ثَانِيًا «مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» فِي الرِّفْعَةِ وَالشَّرَفِ فَكَيْفَ يَصِحُّ دُعَاؤُكُمْ بِالْإِلْحَاقِ، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ طُولَ الْعُمُرِ وَلَوْ بِأَقَلِّ قَلِيلٍ أَفْضَلُ مِنْ قِصَرِهِ لِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ هَذَا أَمَّا قَبْلَ وُرُودِ تَمَامِ فَضْلِ الشَّهِيدِ أَوْ الْمَيِّتِ ثَانِيًا شَهِيدٌ أَيْضًا مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهِيدِ الْحَقِيقِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا حُكْمِيًّا أَوْ مِنْ خَاصَّةِ ذَلِكَ لِمَا عُلِمَ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ وَإِلَّا فَمُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَعْنَى

(وَسَبَبُ الْأَمَلِ حُبُّ الدُّنْيَا) الَّذِي هُوَ الدَّاءُ الْمُشْكِلُ الشَّدِيدُ عَجَزَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَنْ دَوَائِهِ (وَالْغَفْلَةُ عَنْ قُرْبِ الْمَوْتِ) فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ يُوجِبُ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَيَتَقَاضَى الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الْمَوْتِ تَدْعُو إلَى الِانْهِمَاكِ فِي شَهَوَاتِ الدُّنْيَا (وَالِاغْتِرَارُ) مِنْ الْغُرُورِ الطَّمَعُ الْبَاطِلُ (بِالصِّحَّةِ) الْعَافِيَةِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ (وَالشَّبَابِ) الْحَدَاثَةِ فَضِدُّ الشَّيْبِ (وَعِلَاجُهُ) أَيْ دَوَاءُ الْأَمَلِ (إزَالَةُ أَسْبَابِهِ) الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهُ مَا دَامَ سَبَبُ الشَّيْءِ مَوْجُودًا لَا يَزُولُ نَفْسُهُ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْأَثَرِ إنَّمَا هُوَ بِانْتِفَاءِ الْمُؤَثِّرِ (أَمَّا حُبُّ الدُّنْيَا فَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَأَمَّا الْبَوَاقِي فَبِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكْرِ الْمَوْتِ وَقُرْبِهِ وَمَجِيئِهِ بَغْتَةً) فَجْأَةً (عَلَى) حِينِ (غَفْلَةٍ) إذْ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالْمَرَضِ وَالشَّيْبِ (وَإِنَّ الصِّحَّةَ) وَدَوَامَهَا (وَالشَّبَابَ لَا يَمْنَعُهُ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُ الْمَوْتَ (بَلْ مَوْتُ الشَّبَابِ أَكْثَرُ مِنْ مَوْتِ الشُّيُوخِ) إذْ مِنْ الْمُشَاهَدِ أَنَّهُ يَمُوتُ أَلْفُ صَبِيٍّ وَشَابٍّ إلَى أَنْ يَمُوتَ شَيْخٌ وَاحِدٌ، فَلَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ مِنْ شَبَابٍ وَشَيْبٍ وَكُهُولَةٍ وَمِنْ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَرَبِيعٍ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ بَعْدَ تَفْصِيلِ مَا ذُكِرَ: وَلَكِنَّ الْجَهْلَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَحُبَّ الدُّنْيَا دَعْوَاهُ إلَى طُولِ الْأَمَلِ وَإِلَى الْغَفْلَةِ عَنْ تَقْدِيرِ الْمَوْتِ فَيَظُنُّ أَبَدًا أَنَّهُ يُشَيِّعُ الْجَنَائِزَ وَلَا يُقَدِّرُ أَنْ تُشَيَّعَ جِنَازَتُهُ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ فِي الْغَيْرِ وَلَمْ يَأْلَفْهُ لِنَفْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنْ وَقَعَ مَرَّةً فَلَا يَقَعُ أُخْرَى وَذَلِكَ تَفْصِيلُ قَوْلِهِ (كَمَا أَنَّ مَوْتَ الصِّبْيَانِ أَكْثَرُ مِنْ مَوْتِهِمَا) الْأَصِحَّاءِ وَالشَّبَابِ فَعَلَى الشَّبَابِ وَالْأَصِحَّاءِ أَنْ يَغْتَنِمَا عَمَلًا بِعِظَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ شَبَابَك قَبْلَ هَرَمِك وَصِحَّتَك قَبْلَ سَقَمِك وَغِنَاك قَبْلَ فَقْرِك وَفَرَاغَك قَبْلَ شُغْلِك وَحَيَاتَك قَبْلَ مَوْتِك» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ) : افْعَلْ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ قَبْلَ حُصُولِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: (شَبَابَك قَبْلَ هَرَمِك) اغْتَنِمْ الطَّاعَةَ حَالَ قُدْرَتِك قَبْلَ هُجُومِ عَجْزِ الْكِبَرِ عَلَيْك فَتَنْدَمَ عَلَى مَا فَرَّطْت فِي جَنْبِ اللَّهِ، (وَصِحَّتَك قَبْلَ سَقَمِك) اغْتَنِمْ حَالَ الصِّحَّةِ فَقَدْ يَمْنَعُ مَانِعٌ كَمَرَضٍ فَتَقْدَمُ الْمَعَادَ بِلَا زَادٍ، (وَغِنَاك قَبْلَ فَقْرِك) اغْتَنِمْ التَّصَدُّقَ بِفُضُولِ مَالِكِ قَبْلَ عُرُوضِ حَاجَةٍ تُفْقِرُك فَتَصِيرُ فَقِيرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (وَفَرَاغَك قَبْلَ شُغْلِك) اغْتَنِمْ فَرَاغَك فِي هَذِهِ الدَّارِ قَبْلَ شُغْلِك بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ (وَحَيَاتَك قَبْلَ مَوْتِك) اغْتَنِمْ مَا تَلْقَى نَفْعَهُ بَعْدَ مَوْتِك فَإِنَّ مَنْ مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَفَاتَهُ أَمَلُهُ وَحَقَّ نَدَمُهُ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَا مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْبَدَنُ مَرْكَبٌ وَمَنْ ذَهِلَ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ وَالْمَرْكَبِ لَمْ يَتِمَّ سَفَرُهُ وَمَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا أَمْرَ التَّبَتُّلِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ السُّلُوكُ انْتَهَى (وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ يَمُوتُ وَيَبْقَى الْمَرِيضُ) الَّذِي يُتَوَقَّعُ مَوْتُهُ (بَعْدَهُ) الصَّحِيحِ (سِنِينَ) فَلَا يَنْبَغِي لِلصَّحِيحِ أَنْ يَغْتَرَّ بِصِحَّتِهِ وَيَتَسَوَّفَ اقْتِنَاصَ الْقُرُبَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وَيُؤَخِّرَ التَّوْبَةَ عَنْ مَا قَارَفَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْخَالِيَةِ وَلْيَعْتَبِرْ بِمَنْ يَمُوتُ شَابًّا وَلَيْسَ كُلُّ الْأَمْوَاتِ مَاتُوا مَرْضَى (وَمِنْ أَقْوَى عِلَاجِهِ) فَهَذَا بَعْضٌ مِنْ الْأَقْوَى (اسْتِمَاعُ مَا وَرَدَ) عَلَى وَجْهِ الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ (فِي مَدْحِ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَذَمِّ طُولِ الْأَمَلِ) . فَقَالَ الْمُصَنِّف بَيَانًا لِبَعْضِ مَا وَرَدَ فِي ذِكْرِهِمَا (مَدْحُ ذِكْرِ الْمَوْتِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا سَيُذْكَرُ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ هَذَا مَدْحٌ إلَخْ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ» فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَا لَفْظِ مِنْ «فَإِنَّهُ» أَيْ ذِكْرَهُ ( «يُمَحِّصُ الذُّنُوبَ» يُزِيلُهَا بِالْخَوْفِ وَالنَّدَمِ وَالْإِنَابَةِ وَالْفِرَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى «وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا» يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا لِأَخْطَارِ مُفَارَقَتِهَا وَإِعْلَامِ الِانْتِقَالِ عَنْهَا وَيُؤْذِنُ أَنَّ كُلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ النِّعَمِ الْعَاجِلَةِ لَيْسَتْ

مِلْكًا لَهُ بَلْ يَدُهُ يَدُ أَمَانَةٍ وَمُسْتَعَارَةٍ وَنَفْسُهُ خَدِيمٌ لِلْغَيْرِ بَلْ عَبْدُهُ وَهُوَ فِي خَطَرِ إيثَارِ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى، هَذَا لَيْسَ تَمَامَ هَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ تَمَامُهُ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَإِنْ ذَكَرْتُمُوهُ عِنْدَ الْغِنَى هَدَمَهُ وَإِنْ ذَكَرْتُمُوهُ عِنْدَ الْفَقْرِ أَرْضَاكُمْ بِعِيشَتِكُمْ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ قَاطِعُ كُلِّ لَذَّةٍ وَحَائِلُ كُلِّ أُمْنِيَةٍ وَمَانِعُ كُلِّ مُرَادٍ وَدَافِعُ كُلِّ حَاجَةٍ، وَعُمُرُ الْمَرْءِ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ وَأَوْقَاتٌ مَحْدُودَةٌ لَا يُدْرَى مَتَى يَنْفَدُ الْعَدَدُ وَيَنْقَضِي الْمَدَدُ وَكَيْفِيَّةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ عَلَى مَا فِي الْإِحْيَاءِ الْقَرِيبِ إلَى مَا فِي جَلَاءِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ أَمْثَالِهِ وَأَقْرَانِهِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ فَيَتَذَكَّرَ مَوْتَهُمْ وَصَيْرُورَتَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ وَيَتَذَكَّرَ صُوَرَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ كَيْفَ مَحَا التُّرَابُ الْآنَ صُوَرَهُمْ وَانْدَرَسَتْ آثَارُهُمْ وَآمَالُهُمْ وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِمْ كُسُوبُهُمْ وَمَا جَمَعُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكَيْفَ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ وَأَرْمَلُوا نِسْوَانَهُمْ وَأَيْتَمُوا أَوْلَادَهُمْ وَضَيَّعُوا أَمْوَالَهُمْ وَاقْتَسَمَ الْغَيْرُ أَرْزَاقَهُمْ وَأَكَلَتْ الدُّودُ لِسَانَهُمْ وَالتُّرَابُ أَسْنَانَهُمْ ثُمَّ يَنْظُرُ أَنَّهُ مِثْلُهُمْ وَغَفْلَتَهُ كَغَفْلَتِهِمْ وَسَيَكُونُ عَاقِبَتُهُ نَحْوَهُمْ وَنِعْمَ مَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ السَّعِيدُ مَنْ اتَّعَظَ بِغَيْرِهِ وَفِي الْإِحْيَاءِ هُوَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُكِيَ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: وَيْحَك يَا يَزِيدُ مَنْ ذَا يُصَلِّي عَنْك بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ ذَا يَصُومُ عَنْك بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ ذَا يُرْضِي عَنْك رَبَّك بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا تَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَمَنْ الْمَوْتُ مَوْعِدُهُ وَالْقَبْرُ بَيْتُهُ وَالثَّرَى فِرَاشُهُ وَالدُّودُ أَنِيسُهُ وَمَعَ هَذَا يَنْتَظِرُ الْفَزَعَ الْأَكْبَرَ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ ثُمَّ بَكَى حَتَّى سَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ الْبَرَاءِ أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ» طَرَفِهِ ( «فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى» تُرَابَ الْقَبْرِ مِنْ دُمُوعِهِ لَعَلَّهُ لِمَا تَجَلَّى لَهُ عَنْ عَالَمِ الْقُدُسِ مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْتَى وَلَيْسَ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ بَلْ لِمَا عَرَفَهُ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ فَذَا لِنَحْوِ الِاحْتِرَامِ لَهُ - تَعَالَى - وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ، أَوْ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ رُتْبَةَ خَوْفِهِ - تَعَالَى - أَوْ إغْرَاءً لَهُمْ عَلَى إنَابَتِهِ - تَعَالَى - أَوْ تَرَحُّمًا وَتَشَفُّقًا لِذَلِكَ الْمَيِّتِ لِمَا رَأَى فِيهِ مِمَّا يُوجِبُ ذَلِكَ أَوْ لِحَالِ مُطْلَقِ أُمَّتِهِ «ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا إخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا» أَيْ الْمَوْتِ «فَأَعِدُّوا» تَهَيَّئُوا وَاسْتَحْضِرُوا مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ يَعْنِي اتَّخِذُوا عُدَّةً وَزَادًا لِمِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَهِيبِ فِي الْإِحْيَاءِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ: عِظْنِي، فَقَالَ: أَنْتَ خَلِيفَةٌ تَمُوتُ، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: لَيْسَ مِنْ آبَائِك أَحَدٌ إلَى آدَمَ إلَّا ذَاقَ الْمَوْتَ وَقَدْ جَاءَتْك نَوْبَتُك فَبَكَى عُمَرُ. وَيُقَالُ: الْقَبْرُ يَنُوحُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ

يَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الظُّلْمَةِ فَنَوِّرُونِي بِصَلَاةِ اللَّيْلِ أَنَا بَيْتُ التُّرَابِ فَاحْمِلُوا الْفِرَاشَ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَنَا بَيْتُ الْأَفَاعِي فَاحْمِلُوا التِّرْيَاقَ وَهُوَ دُمُوعُ الْعَيْنِ أَنَا بَيْتُ الضَّيْفِ فَتَزَوَّدُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَنَا بَيْتُ الْفَقْرِ فَتَزَوَّدُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ غِنَاكُمْ أَنَا بَيْتُ سُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فَأَكْثِرُوا عَلَى ظَهْرِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قِيلَ: رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا» بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَاتِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْوَعْظُ دَعْوَةُ الْأَشْيَاءِ بِمَا فِيهَا مِنْ الْعِبْرَةِ لِانْقِيَادِ الْحَقِّ - تَعَالَى - كَيْفَ لَا يَكْفِي وَالْيَوْمُ فِي الدُّورِ وَغَدًا فِي الْقُبُورِ، كَيْفَ وَهُوَ الْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى وَالدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى وَأَعْظَمُ مِنْهُ الْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ - تَعَالَى - وَقِلَّةُ تَفَكُّرِهِ، وَأَنَّ لَهُ وَحْدَةً وَلِلْعَاقِلِ عِبْرَةً فَهَلْ لَك اعْتِذَارٌ بَعْدَ قَوْلِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ «كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا» أَمَا تَسْتَحْيِي مِنْ اسْتِبْطَائِك هُجُومَ الْمَوْتِ اقْتِدَاءً بِالْغَافِلِينَ الَّذِينَ {مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] فَيَأْتِيهِمْ الْمَرَضُ نَذِيرًا مِنْ الْمَوْتِ فَلَا يَنْزَجِرُونَ وَيَأْتِيهِمْ الشَّيْبُ رَسُولًا مِنْهُ فَمَا يَعْتَبِرُونَ، فَ {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30] أَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خَالِدُونَ {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس: 31] أَمْ يَحْسَبُونَ الْمَوْتَى سَافَرُوا مِنْ عِنْدِهِمْ فَهُمْ يَعُودُونَ، كَلًّا {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] لَكِنْ {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4] «وَكَفَى بِالْيَقِينِ غِنًى» لِأَنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ بِأَنَّ الْأَرْزَاقَ بِتَقْسِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] وَأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُعْطِيهِ أَلْبَتَّةَ عَلَى مُقْتَضَى وَعْدِهِ - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ، وَ - {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]- بَلْ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لَا مَحَالَةَ، هَذَا كَافٍ فِي الْغِنَى قَالَ الْخَوَّاصُ: الْغِنَى حَقُّ الْغِنَى مَنْ أَسْكَنَ قَلْبَهُ مِنْ غِنَاهُ يَقِينًا وَمِنْ مَعْرِفَتِهِ تَوَكُّلًا وَمِنْ عَطَايَاهُ رِضًا ثُمَّ هَذَا الْخَبَرُ مُتَضَمِّنٌ لِلْحَثِّ عَلَى الزُّهْدِ وَهُوَ أَمْرٌ تَطَابَقَتْ عَلَيْهِ الْمِلَلُ وَالنِّحَلُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ وَصُحُفُ مُوسَى وَصُحُفُ إبْرَاهِيمَ وَكُلُّ كِتَابٍ مُنْزَلٍ مَا نَزَلَ إلَّا لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى الْمُلْكِ الدَّائِمِ الْمُخَلَّدِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ أَنْ يَمُوتُوا مُلُوكًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا مُلْكُ الدُّنْيَا فَبِالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَبِالْقُرْبِ مِنْهُ يُدْرَكُ بَقَاءٌ لَا فِنَاءَ فِيهِ، وَالشَّيْطَانُ يَدْعُو إلَى مُلْكِ الدُّنْيَا لِيُفَوِّتَ عَلَيْهِمْ مُلْكَ الْأُخْرَى إذْ هُمَا ضَرَّتَانِ، وَنَعِيمُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ لَهُ أَيْضًا لِكَدَرِهَا وَمُنَازَعَتِهَا وَمَعْنَى الزُّهْدِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَبْدُ شَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ وَبِذَلِكَ يَصِيرُ الْعَبْدُ حُرًّا، وَبِاسْتِيلَاءِ الشَّهْوَةِ يَصِيرُ عَبْدًا لِبَطْنِهِ وَفَرْجِهِ وَسَائِرِ أَغْرَاضِهِ، فَيَكُونُ مُسَخَّرًا كَالْبَهِيمَةِ يَجُرُّهُ إمَامُ الشَّهْوَةِ إلَى حَيْثُ يُرِيدُ فَمَا أَعْظَمَ اغْتِرَارُ الْإِنْسَانِ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ يَنَالُ الْمُلْكَ يَصِيرُ مَمْلُوكًا وَمِثْلُهُ هَلْ يَكُونُ إلَّا مَعْكُوسًا فِي الدُّنْيَا وَمَنْكُوسًا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ هَلْ لَك حَاجَةٌ؟ قَالَ: كَيْفَ أَطْلُبُ مِنْك حَاجَةً وَمُلْكِي أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِك، قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: مَنْ أَنْتَ عَبْدُهُ فَهُوَ عَبْدِي أَنْتَ عَبْدُ شَهْوَتِك وَأَنَا مَلَكْتُهَا فَهِيَ عَبْدِي، وَقَالَ بَعْضٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ: أَنْتَ عَبْدُ عَبْدِي فَهَذَا هُوَ الْمُلْكُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْجَارُّ إلَى مُلْكِ الْآخِرَةِ فَالْمَخْدُوعُونَ بِالْغُرُورِ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، كَذَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ ثُمَّ قَالَ فِيهِ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيثُ ضَعَّفَهُ الْعِرَاقِيُّ

وَالْمُنْذِرِيُّ وَغَرِيبٌ مُنْقَطِعٌ عِنْدَ الْعَلَائِيِّ وَعَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْهَيْثَمِيِّ مَتْرُوكٌ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ قَوْلِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَقُولُ الْحَدِيثُ إنْ كَانَ لَهُ تَأْيِيدٌ صَحِيحٌ وَقَوِيٌّ يَجُوزُ رِوَايَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ سِيَّمَا عِنْدَ مُطَابَقَةِ الْقِيَاسِ وَقَدْ وَرَدَ صَحِيحًا «كَفَى بِالْمَوْتِ مُزَهِّدًا فِي الدُّنْيَا وَمُرَغِّبًا فِي الْآخِرَةِ» وَلَا شَكَّ فِي قُرْبِ مَعْنَيَيْهِمَا (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ» بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ قَاطِعِ «اللَّذَّاتِ» يَعْنِي الْمَوْتَ) قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَيْ نَغِّصُوا بِذِكْرِهِ لَذَّاتِكُمْ فَيَنْقَطِعَ رُكُونُكُمْ إلَيْهَا فَتَنْقَلِبُوا إلَى اللَّهِ، قَالُوا: هَذَا أَبْلَغُ الذِّكْرَى وَالْمَوَاعِظِ فَإِنَّ ذِكْرَهُ الْحَقِيقِيَّ لَا الصُّورِيَّ مُزِيلٌ لِلَّذَّةِ وَمَانِعٌ لِلْأَمَانِيِّ وَنَافٍ لِلْآمَالِ لَكِنْ النُّفُوسُ الرَّاكِدَةُ وَالْقُلُوبُ الْغَافِلَةُ تَحْتَاجُ إلَى تَطْوِيلِ الْوَعْظِ وَتَزْوِيقِ الْأَلْفَاظِ وَإِلَّا فَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ قَوْله تَعَالَى - {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35]- كَافٍ وَشَافٍ فَذِكْرُ الْمَوْتِ يَطْرُدُ طُولَ الْأَمَلِ وَيَكُفُّ التَّمَنِّيَ وَيُهَوِّنُ الْمَصَائِبَ. وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: ذِكْرُ الْمَنِيَّةِ يُنْسِي الْأُمْنِيَةَ وَقَالَ الْحَافِظُ وُجِدَ مَكْتُوبًا عَلَى حَجَرٍ: لَوْ رَأَيْت يَسِيرًا مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِك لَزَهِدْت فِي طُولِ مَا تَرْجُو مِنْ أَمَلِك وَلَرَغِبْت فِي الزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِك وَاقْتَصَرْتَ مِنْ حِرْصِك وَجَدَلِك وَإِنَّمَا يَلْقَاك غَدًا نَدَمُك، لَوْ قَدْ زَلَّتْ بِك قَدَمُك وَأَسْلَمَك أَهْلُك وَحَشَمُك وَتَبَرَّأَ مِنْك الْقَرِيبُ وَانْصَرَفَ عَنْك الْحَبِيبُ وَقَالَ التَّيْمِيُّ شَيْئَانِ قَطَعَا عَنِّي لَذَّةَ النَّوْمِ: ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءَ فَيَتَذَاكَرُونَ الْمَوْتَ وَالْقِيَامَةَ فَيَبْكُونَ كَأَنَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ جِنَازَةً. وَقَالَ اللَّفَّافُ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أُكْرِمَ بِثَلَاثٍ: تَعْجِيلِ التَّوْبَةِ وَقَنَاعَةِ الْقَلْبِ وَنَشَاطِ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ نَسِيَهُ عُوقِبَ بِثَلَاثٍ: تَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الرِّضَا بِالْكَفَافِ وَالتَّكَاسُلِ فِي الْعِبَادَةِ، فَتَفَكَّرْ يَا مَغْرُورُ فِي الْمَوْتِ وَسَكْرَتِهِ وَصُعُوبَةِ كَأْسِهِ وَمَرَارَتِهِ فَيَا لِلْمَوْتِ مِنْ وَعْدٍ مَا أَصْدَقَهُ وَمِنْ حُكْمٍ مَا أَعْدَلَهُ فَكَفَى بِالْمَوْتِ مُفْزِعًا لِلْقُلُوبِ وَمُبْكِيًا لِلْعُيُونِ وَمُفَرِّقًا لِلْجَمَاعَاتِ وَهَاذِمًا لِلَّذَّاتِ وَقَاطِعًا لِلْأُمْنِيَاتِ (فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ) أَيْ الْمَوْتَ (أَحَدٌ فِي ضِيقٍ) كَفَقْرٍ وَمَرَضٍ وَحَبْسٍ وَمَصَائِبِ الْأَنْفُسِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَقَارِبِ (إلَّا وَسَّعَهُ) صَيَّرَهُ وَاسِعًا، إمَّا لِأَنَّهُ مُذَكِّرٌ عَدَمَ كَوْنِ النِّعَمِ مِلْكًا لَهُ بَلْ فَانِيَةً لَيْسَ لَهَا دَوَامٌ، وَإِمَّا لِلْأَجْرِ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالصَّبْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ عُمُرِي أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ زَالَتْ سَرِعَةً فَلَا تَفَاوُتَ فِي سَعَتِهِ وَضِيقِهِ (وَلَا ذَكَرَهُ فِي سَعَةٍ إلَّا ضَيَّقَهَا) أَيْ السَّعَةَ (عَلَيْهِ) لِعِلْمِهِ بِمُفَارَقَتِهَا

وَمُحَاسَبَتِهِ أَوْ مُنَاقَشَتِهِ بَلْ مَعْذَبِيَّتُهُ عَلَيْهَا وَلِإِخْطَارِهِ كَوْنَ مَا فِي يَدِهِ مُسْتَعَارًا لَهُ وَالْمِلْكُ لِغَيْرِهِ وَنَفْسُهُ عَبْدٌ خَادِمٌ لَهُ قَالَ الْغَزَالِيُّ الْمَوْتُ خَطَرٌ هَائِلٌ وَخَطْبٌ عَظِيمٌ وَغَفْلَةُ النَّاسِ عَنْهُ أَعْظَمُ لِقِلَّةِ فِكْرِهِمْ فِيهِ وَمَنْ ذَكَرَهُ لَا يَذْكُرُهُ عَلَى حُرِّيَّةٍ بِقَلْبٍ فَارِغٍ بَلْ بِشَغْلِ الشَّهَوَاتِ. هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ ضَعَّفَهُ بَعْضٌ كَالذَّهَبِيِّ؛ لِأَنَّ فِي أَسَانِيدِهِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُسْلِمٍ لَكِنْ قَوَّاهُ غَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ أَنَسٍ حَسَنٌ. (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (طص) طَبَرَانِيٌّ فِي الصَّغِيرِ (عَنْ) عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» حَالَ كَوْنِي «عَاشِرَ عَشَرَةِ» رِجَالٍ « (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ) » أَكْثَرُهُمْ عَقْلًا أَيْ الْفَطِنُ سَرِيعُ الْفَهْمِ ( «وَأَحْزَمُ النَّاسِ» أَيْ جَوْدَةُ رَأْيِهِمْ «قَالَ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ» لَا بِقَلْبٍ لَاهٍ وَصَدْرٍ سَاهٍ بَلْ بِفِكْرٍ حَرِيٍّ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ وَأَبْشَعُ الرَّزَايَا وَأَشْنَعُ الْبَلَايَا، فَتَفَكَّرْ يَا ابْنَ آدَمَ، فِي مَصْرَعِك وَانْتِقَالِك مِنْ مَوْضِعِك إذَا نُقِلْت مِنْ السَّعَةِ إلَى الضِّيقِ وَخَانَك الصَّاحِبُ وَالرَّفِيقُ وَهَجَرَك الْأَخُ وَالصَّدِيقُ وَأُخِذْتَ مِنْ فِرَاشِك وَنُقِلْتَ مِنْ مِهَادِك فَيَا جَامِعَ الْمَالِ وَالْمُجْتَهِدَ فِي الْبُنْيَانِ، لَيْسَ لَك مِنْ مَالِك إلَّا الْأَكْفَانُ، بَلْ هُوَ لِلْخَرَابِ وَجِسْمُك لِلتُّرَابِ فَاعْتَبِرْ يَا مِسْكِينُ بِمَنْ صَارَ تَحْتَ التُّرَابِ وَانْقَطَعَ عَنْ الْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ بَعْدَ أَنْ قَادَ الْجُيُوشَ وَالْعَسَاكِرَ وَنَافَسَ الْأَصْحَابَ وَالْعَشَائِرَ وَجَمَعَ الْأَمْوَالَ وَالذَّخَائِرَ فَجَاءَهُ الْمَوْتُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَحْتَسِبْهُ وَهَوْلٍ لَمْ يَرْتَقِبْهُ، وَلْيَتَأَمَّلْ حَالَ مَنْ مَضَى مِنْ إخْوَانِهِ وَدَرَجَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَخُلَّانِهِ الَّذِينَ بَلَغُوا الْآمَالَ كَيْفَ انْقَطَعَتْ آمَالُهُمْ وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَمَحَا التُّرَابُ مَحَاسِنَ وُجُوهِهِمْ وَتَفَرَّقَتْ فِي الْقُبُورِ أَجْزَاؤُهُمْ وَتَرَمَّلَتْ بَعْدَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَشَمِلَ ذُلُّ الْيُتْمِ أَوْلَادَهُمْ وَقَسَمَ غَيْرُهُمْ طَرِيفَهُمْ وَتِلَادَهُمْ قِيلَ: الْكَنْزُ الَّذِي لِلْغُلَامَيْنِ فِيهِ لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ، فِيهِ عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ كَيْفَ يَضْحَكُ «وَأَكْثَرُهُمْ اسْتِعْدَادًا لِلْمَوْتِ» بِإِيفَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْخَلْقِ، وَالْحَقُّ اسْتِبْرَاءُ الذِّمَمِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ مَا ظَلَمَهُمْ وَتَحْسِينُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ عَلَى وَفْقِ مَا يَرْضَى عَنْهُ اللَّهُ - تَعَالَى - «أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ» لِتَهَيُّئِهِمْ لِلْمَوْتِ لَا يَعْبَئُونَ بِقُدُومِ الْمَوْتِ وَلَا يَحْزَنُونَ بَلْ يُسَرُّونَ لِلْوُصُولِ إلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَلِلْخَلَاصِ مِنْ سِجْنِ السَّجِينِ وَأَمَّا الْحَمْقَى الَّذِينَ لَمْ يَسْتَعِدُّوا فَيَتَحَسَّرُونَ وَيَنْدَمُونَ بَلْ يَهْلِكُونَ. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ: إنَّ رَجُلًا مِنْ جَبَابِرَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ عِنْدَ خَلْوَتِهِ فِي دَارِهِ بِبَعْضِ أَهْلِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ شَخْصٌ مِنْ بَابِ بَيْتِهِ فَقَامَ إلَيْهِ مُغْضَبًا قَائِلًا: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَنْ أَدْخَلَك؟ قَالَ: أَدْخَلَنِي الدَّارَ رَبُّ الدَّارِ، وَأَمَّا أَنَا فَاَلَّذِي لَا يُمْنَعُ عَنِّي الْحِجَابُ وَلَا أَسْتَأْذِنُ عَلَى الْمُلُوكِ وَلَا أَخَافُ مِنْ صَوْلَةِ كُلِّ مُتَسَلِّطٍ وَلَا يَتَخَلَّصُ مِنِّي كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَلَا شَيْطَانٌ مَرِيدٌ، فَقَالَ خَائِفًا مُتَذَلِّلًا: إذَنْ أَنْتَ مَلَكُ الْمَوْتِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: امْهَلْ حَتَّى أُحْدِثَ عَهْدًا، قَالَ: هَيْهَاتَ انْقَطَعَتْ مُدَّتُك وَانْقَضَتْ أَنْفَاسُك فَلَيْسَ إلَى تَأْخِيرٍ مِنْ سَبِيلٍ، قَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِي؟ قَالَ: إلَى عَمَلِك الَّذِي قَدَّمْته وَإِلَى بَيْتِك الَّذِي مَهَّدْته قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أُقَدِّمْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَمْ أُمَهِّدْ بَيْتًا حَسَنًا، قَالَ: فَإِلَى لَظًى نَزَّاعَةٍ لِلشَّوَى، ثُمَّ قَبَضَ

رُوحَهُ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ صَارِخٍ وَبَاكٍ وَأَيْضًا قِصَّةٌ أُخْرَى لِحَسْرَةِ مَنْ لَمْ يَسْتَعِدَّ لِلْمَوْتِ فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا: أَنَّ رَجُلًا جَمَعَ أَمْوَالًا وَبَنَى قَصْرًا وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: يَا نَفْسِي انْعَمِي سِنِينَ قَدْ جَمَعْت لَك مَا يَكْفِيك، فَلَمْ يَفْرُغْ مِنْ كَلَامِهِ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي هَيْئَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِ خُلْقَانُ الثِّيَابِ وَفِي عُنُقِهِ مِخْلَاةٌ يُشْبِهُ الْمَسَاكِينَ فَقَرَعَ الْبَابَ بِغَيْرِ حِشْمَةٍ، وَشِدَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَوَثَبَ إلَيْهِ الْغِلْمَانُ قَائِلِينَ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ: اُدْعُوا إلَيَّ مَوْلَاكُمْ، قَالُوا وَإِلَى مِثْلِك لَا يَخْرُجُ، فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: هَلَّا ضَرَبْتُمْ وَرَدَدْتُمْ مِنْ الْبَابِ فَقَرَعَ الْبَابَ أَشَدَّ مِنْ الْأَوَّلِ فَوَثَبَ إلَيْهِ الْحَرَسُ، فَقَالَ: أَخْبِرُوهُ أَنِّي مَلَكُ الْمَوْتِ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِمْ الرُّعْبُ وَوَقَعَ عَلَى مَوْلَاهُمْ الذُّلُّ وَالتَّخَشُّعُ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا: هَلْ تَأْخُذُ أَحَدَنَا؟ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اصْنَعْ فِي مَالِكِ وَأَنَا لَسْت بِخَارِجٍ مَا لَمْ أُخْرِجْ نَفْسَك فَأَحْضَرَ مَالَهُ وَقَالَ لَعَنَك اللَّهُ شَغَلْتنِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي وَمَنَعْتنِي أَنْ أَتَخَلَّى لِرَبِّي فَأَنْطَقَ اللَّهُ الْمَالَ، فَقَالَ: لِمَ تَسُبُّنِي وَقَدْ كُنْت تَدْخُلُ عَلَى السَّلَاطِينِ بِي وَهُمْ يَرُدُّونَ الْمُتَّقِينَ وَتَنْكِحُ الْمُتَنَعِّمَاتِ بِي وَتَجْلِسُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ بِي وَهُمْ يَرُدُّونَ الْمُتَّقِينَ وَتُنْفِقُنِي فِي سَبِيلِ الشَّرِّ فَلَا أَمْتَنِعُ مِنْك وَلَوْ أَنْفَقْتَنِي فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ نَفَعْتُك، ثُمَّ قَبَضَ رُوحَهُ «ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا» لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا يُوجِبُ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَيَتَقَاضَى الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إذْ شَرَفُ الدُّنْيَا إنَّمَا يَكُونُ بِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لِلْآخِرَةِ، وَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ لَهُمْ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالْبَهَائِمُ لَهُمْ مُسَخَّرُونَ لَا يَشَاءُونَ شَيْئًا إلَّا وَهُوَ كَائِنٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَشَاءُونَ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَا يَهَابُونَ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ وَلَا يَخْدُمُونَ إلَّا اللَّهَ وَيَخْدُمُهُمْ كُلُّ مَنْ دُونَ اللَّهِ، وَأَيْنَ مُلُوكُ الدُّنْيَا بِعُشْرِ أَعْشَارِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، بَلْ هُمْ أَقَلُّ وَأَذَلُّ وَعَلَى خَطَرٍ كَثِيرٍ وَخَوْفٍ عَظِيمٍ كَمَا فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ وَقَدْ سَمِعْت قَوْلَ زَاهِدٍ لِمَلَكٍ: أَنْتَ عَبْدُ عَبْدِي وَمُلْكِي أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِك «وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ» بِمَا وَعَدَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ حُسْنِ الْمَآبِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ وَكَرِيمِ الْمَقَامَاتِ وَعُلُوِّ الطَّبَقَاتِ إلَى رُتْبَةِ الْمُلْكِ الْكَبِيرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَمَا فَصَّلَ نِسْبَةَ هَذَا الْمُلْكِ بِمُلْكِ الدُّنْيَا وَبِعِبَادَةِ الْعَابِدِ: كَلًّا بَلْ لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ أَلْفِ نَفْسٍ وَأَلْفُ أَلْفِ رُوحٍ وَأَلْفُ أَلْفِ عُمُرٍ أَكْثَرُ مِنْ عُمُرِ الدُّنْيَا فَبَذَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ الْعَزِيزِ لَكَانَ قَلِيلًا، وَلَئِنْ ظَفِرَ بَعْدَهُ كَانَ غُنْمًا عَظِيمًا، فَتَنَبَّهْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ مِنْ نَوْمَةِ الْغَافِلِينَ لَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ - تَعَالَى - مِثْلَ هَذَا الْمُلْكِ فِي قَلِيلِ الْعُمُرِ بِقَلِيلِ الْعَمَلِ وَأَنْتَ لَا تَطْلُبُهُ وَلَا تَرْغَبُهُ بَلْ تُؤْثِرُ الْفَانِيَاتِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْبَاقِيَاتِ. (مُهِمَّةٌ) ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الْأَكْيَاسَ الَّذِينَ اسْتَعَدُّوا لِلْمَوْتِ حَقَّ الِاسْتِعْدَادِ جُمْلَةُ مَا أُعْطِيَ لَهُمْ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَتِهَا بَالِغٌ إلَى عِشْرِينَ، وَكَذَا كَرَامَةُ الْآخِرَةِ وَالدِّينِ، فَالْجُمْلَةُ أَرْبَعُونَ عَلَى مَا فِي الْمِنْهَاجِ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَالْأُولَى: أَنْ يَذْكُرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ وَأَكْرِمْ بِعَبْدٍ يَكُونُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ذِكْرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: شُكْرُهُ - تَعَالَى - وَتَعْظِيمُهُ وَلَوْ شَكَرَك وَعَظَّمَك مَخْلُوقٌ مِثْلُك لَشَرُفْت بِهِ فَكَيْفَ بِإِلَهِ الْعَالَمِينَ. وَالثَّالِثَةُ: حُبُّهُ - تَعَالَى - فَلَوْ أَحَبَّك رَئِيسُ مَحَلَّةٍ لَافْتَخَرْت وَانْتَفَعْت بِهِ فَكَيْفَ بِمَحَبَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَالرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ وَكِيلَهُ يُدَبِّرُ أُمُورَهُ. وَالْخَامِسَةُ: يَكُونُ كَفِيلَ رِزْقِهِ بِلَا تَعَبٍ. وَالسَّادِسَةُ: يَكُونُ لَهُ نَصِيرًا كَافِيًا مِنْ كُلِّ عَدُوِّهِ. وَالسَّابِعَةُ: يَكُونُ أَنِيسَهُ لَا يَسْتَوْحِشُ بِحَالٍ. وَالثَّامِنَةُ: عِزُّ النَّفْسِ فَلَا يَلْحَقُهُ ذُلُّ خِدْمَةِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا بَلْ لَا يَرْضَى بِخِدْمَةِ الْمُلُوكِ. وَالتَّاسِعَةُ: رَفْعُ الْهِمَّةِ فَيُبْرِيهِ مِنْ التَّلَطُّخِ بِقَاذُورَاتِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى زَخَارِفِهَا. وَالْعَاشِرَةُ: غِنَى الْقَلْبِ فَلَا يَزُولُ فَرَحُ صَدْرِهِ بِقَحْطٍ وَلَا يُفْزِعُهُ عُدْمٌ. وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: نُورُ الْقَلْبِ فَيَهْتَدِي إلَى حِكَمٍ وَعُلُومٍ لَا يَهْتَدِي إلَى بَعْضِهَا غَيْرُهُ إلَّا بِجِدٍّ فِي عُمُرٍ مَدِيدٍ. وَالثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: شَرْحُ الصُّدُورِ

فَلَا تَضِيقُ بِشَيْءٍ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا وَمَكَايِدِ النَّاسِ. وَالثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْمَهَابَةُ يَحْتَرِمُهُ الْأَخْيَارُ وَالْأَشْرَارُ وَيَهَابُهُ كُلُّ فِرْعَوْنٍ وَجَبَّارٍ. وَالرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْمَحَبَّةُ فِي الْقُلُوبِ فَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى تَعْظِيمِهِ وَمَطْبُوعَةٌ عَلَى إكْرَامِهِ. وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْبَرَكَةُ الْعَامَّةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كَلَامٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قُوتٍ أَوْ مَكَان حَتَّى يُتَبَرَّكَ بِتُرَابٍ وَطِئَهُ وَبِمَكَانٍ جَلَسَهُ، أَوْ بِإِنْسَانٍ صَحِبَهُ. وَالسَّادِسَةَ عَشْرَةَ: تَسْخِيرُ الْأَرْضِ مِنْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إنْ شَاءَ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ أَوْ طَوَى الْأَرْضَ لَهُ. وَالسَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَسْخِيرُ الْحَيَوَانِ مِنْ السِّبَاعِ وَالْوُحُوشِ وَالْهَوَامِّ فَتُجِيبُهُ الْوُحُوشُ وَالْأُسُودُ. وَالثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مِلْكُ مَفَاتِيحِ الْأَرْضِ فَكُلَّمَا أَرَادَ كَنْزًا أَوْ عَيْنًا جَارِيَةً أَوْ حُضُورَ مَائِدَةٍ يُوجَدُ. وَالتَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: الْوَجَاهَةُ عَلَى بَابِ رَبِّ الْعِزَّةِ فَتَبْتَغِي الْخَلْقُ الْوَسِيلَةَ إلَى اللَّهِ بِخِدْمَتِهِ وَتُسْتَنْجَحُ الْحَاجَاتُ بِبَرَكَتِهِ. وَالْعِشْرُونَ: إجَابَةُ الدَّعْوَةِ فَلَا يَسْأَلُ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَلَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ بِمَا شَاءَ حَتَّى لَوْ أَشَارَ إلَى جَبَلٍ لَزَالَ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى تَكَلُّمٍ وَلَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَحَضَرَ بِلَا إشَارَةٍ بِيَدٍ. وَأَمَّا الَّتِي فِي الْعُقْبَى الْأُولَى: أَنْ يُهَوَّنَ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْمَوْتُ عِنْدَهُ مِثْلَ شَرْبَةِ مَاءٍ زُلَالٍ لِظَمْآنَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] . وَالثَّانِيَةُ: التَّثْبِيتُ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] . وَالثَّالِثَةُ: إرْسَالُ الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] . وَالرَّابِعَةُ: الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ. وَالْخَامِسَةُ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ لِرُوحِهِ وَتَحِيَّةُ مَلَائِكَةِ السَّمَوَاتِ بِالْإِكْرَامِ وَلِبَدَنِهِ فِي الْعَلَانِيَةِ بِتَعْظِيمِ جِنَازَتِهِ وَالْمُزَاحَمَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَحَمْلِهِ وَتَجْهِيزِهِ وَنَحْوِهِ رَجَاءَ أَكْثَرِ ثَوَابٍ وَغُفْرَانٍ. وَالسَّادِسَةُ: أَمْنٌ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ. وَالسَّابِعَةُ: تَوْسِيعُ الْقَبْرِ وَتَنْوِيرُهُ فِي رَوْضَةِ جَنَّةٍ. وَالثَّامِنَةُ: إينَاسُ رُوحِهِ فَتُجْعَلُ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ مَعَ الصَّالِحِينَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ. وَالتَّاسِعَةُ: الْحَشْرُ بِالْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ مِنْ حُلَلٍ وَتَاجٍ بَرَّاقٍ. وَالْعَاشِرَةُ: بَيَاضُ الْوَجْهِ وَنُورُهُ. وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْأَمْنُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَخْذُ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ وَمِنْهُمْ مَنْ كُفِيَ رَأْسًا. وَالثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: تَيْسِيرُ الْحِسَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحَاسَبُ أَصْلًا. وَالرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: ثِقَلُ الْمِيزَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا وَزْنَ لَهُ أَصْلًا. وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: وُرُودُ حَوْضِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَالسَّادِسَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ الصِّرَاطِ وَالنَّجَاةُ مِنْ النَّارِ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْمَعُ حَسِيسَهَا وَتُخْمَدُ لَهُ النَّارُ. وَالسَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الشَّفَاعَةُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ. وَالثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مُلْكُ الْأَبَدِ فِي الْجَنَّةِ. وَالتَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: الرِّضْوَانُ الْأَكْبَرُ فِي الْجَنَّةِ. وَالْعِشْرُونَ: لِقَاءُ رَبِّ الْعَالَمِينَ إلَهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ جَلَّ جَلَالُهُ ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ أَيْضًا: هَذَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِي الْقَاصِرِ مَعَ أَنِّي اكْتَفَيْت بِالْأُصُولِ وَإِلَّا فَكُلُّ نَوْعٍ لَوْ فُصِّلَ لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَلَقَ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . (ذَمُّ طُولِ الْأَمَلِ) (دنياهق) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهِيَ سَلْمَى بِنْتُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةُ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّهُ اطَّلَعَ» بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى نَظَرَ ( «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ عَشِيَّةٍ» آخِرَ النَّهَارِ «إلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تَجْمَعُونَ» مِنْ الدُّنْيَا «مَا لَا تَأْكُلُونَ» مِنْ الْكَثْرَةِ أَوْ مِنْ عَدَمِ إيفَاءِ الْعُمُرِ فَيَأْكُلُهُ الْغَيْرُ حَبِيبُهُ قَرِيبُهُ، أَوْ عَدُوُّهُ بَعِيدُهُ، فَلَوْ صَرَفَهُ إلَى الْمَصَارِفِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ جَمَعَ مَا أَكَلَهُ كَنَفَقَتِهِ الضَّرُورِيَّةِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ فِي بَيْتِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ: أَيْنَ مَتَاعُ بَيْتِك؟ قَالَ: لِي بَيْتٌ آخَرُ فَكُلَّمَا حَصَلَ لِي شَيْءٌ أَبْعَثُهُ إلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَنْتَ تَسْكُنُ هُنَا؟ قَالَ أَبُو ذَرٍّ لِأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْطَلِقَ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهَا مُنْذُ خَلَقَهَا» «وَتَأْمُلُونَ» بِضَمِّ الْمِيمِ «مَا لَا تُدْرِكُونَ» أَيْ تَتَمَنَّوْنَ وَتَرْجُونَ أُمُورًا كَثِيرَةً أَوْ عَظِيمَةً لَا يُمْكِنُ

وُصُولُكُمْ إلَيْهَا عَادَةً لِعَظَمَتِهَا أَوْ كَثْرَتِهَا أَوْ لِعَدَمِ نِهَايَةِ مَا أَمَّلْتُمْ إذْ كُلُّ أَحَدٍ إذَا وَصَلَ إلَى مَقَامٍ مِنْ مُشْتَهَيَاتِهِ يَأْمُلُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ «وَتَبْنُونَ» مِنْ الْبُنْيَانِ كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ «مَا لَا تَسْكُنُونَ» لِكَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ أَوْ يُشَيِّدُونَهُ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِمْ فَلَا يَسْكُنُونَ بَلْ السُّكْنَى لِلْغَيْرِ، لَعَلَّ هَذَا فِيمَا هُوَ مِنْ الْحَلَالِ، وَأَمَّا الْحَرَامُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتَّقُوا الْحَجَرَ الْحَرَامَ فِي الْبُنْيَانِ فَإِنَّهُ أَسَاسُ الْخَرَابِ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ خَرَابُ الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا بِقِلَّةِ الْبَرَكَةِ وَشُؤْمِ الْبَيْتِ، أَوْ أَسَاسُ خَرَابِ الْبِنَاءِ نَفْسِهِ بِأَنْ يُسْرِعَ إلَيْهِ الْخَرَابُ فِي أَمَدٍ قَرِيبٍ وَلَوْ لَمْ يَبْنِ بِهِ لَمْ يَخْرَبْ سَرِيعًا بَلْ يَطُولُ بَقَاؤُهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ: الْحَجَرُ الْوَاحِدُ فِي الْحَائِطِ مِنْ الْحَرَامِ عُرْبُونُ الْخَرَابِ وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَجَدْت فِي بَعْضِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ اسْتَغْنَى بِأَمْوَالِ الْفُقَرَاءِ جُعِلَتْ عَاقِبَتُهُ الْفَقْرَ وَأَيُّ دَارٍ بُنِيَتْ بِالضُّعَفَاءِ جُعِلَتْ عَاقِبَتُهَا الْخَرَابَ وَوَرَدَ أَيْضًا: أَنَّ الْبِنَاءَ إنْ كَانَ مِنْ حَرَامٍ لَمْ يَطُلْ تَمَتُّعُ صَاحِبِهِ بِهِ وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «إنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَاعًا تُسَمَّى الْمُنْتَقِمَاتِ فَإِذَا كَسَبَ الرَّجُلُ الْمَالَ مِنْ حَرَامٍ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَالطِّينَ ثُمَّ لَا يُمَتِّعُهُ بِهِ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا انْتَفَعْت بِكَلَامِ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَسُوءُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ وَيَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ فَلْيَكُنْ سُرُورُك بِمَا نِلْت مِنْ أَمْرِ آخِرَتِك وَلْيَكُنْ أَسَفُك عَلَى مَا فَاتَك مِنْهَا وَمَا نِلْت مِنْ دُنْيَاك فَلَا تُكْثِرَنَّ بِهِ فَرَحًا وَمَا فَاتَك مِنْهَا فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعًا وَلْيَكُنْ هَمُّك فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيْضًا: إنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَلَكًا يُنَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَاجْمَعُوا لِلْفَنَاءِ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (طب) الطَّبَرَانِيُّ (نَعَمْ) أَبُو نُعَيْمٍ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الْخُدْرِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ اشْتَرَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) هُوَ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنُ مَوْلَاهُ وَحِبُّهُ وَابْنُ حِبِّهِ اسْتَعْمَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً» (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَاتِبِ الْوَحْيِ وَأَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يَجْمَعَ الْقُرْآنَ وَأَمَرَهُ عُثْمَانُ فَكَتَبَ الْمُصْحَفَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يُمْلِي عَلَيْهِ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا لِصِغَرِهِ وَشَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْمَشَاهِدِ وَكَانَ أَحَدَ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْقَيِّمَ فِي الْفَرَائِضِ وَأَحَدَ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْتَى فِي حَيَاتِهِ ( «وَلِيدَةً» أَيْ جَارِيَةً «بِمِائَةِ دِينَارٍ» مُؤَجَّلَةٍ «إلَى» مُضِيِّ «شَهْرٍ قَالَ» أَبُو سَعِيدٍ «فَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَلَا تَعْجَبُونَ» مِنْ الْعَجَبِ قِيلَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّعَجُّبِ «مِنْ أُسَامَةَ الْمُشْتَرِي إلَى شَهْرٍ إنَّ أُسَامَةَ لَطَوِيلُ الْأَمَلِ» فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ بِالْعِلَّةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَقْتَضِيَ الْكَرَاهَةَ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ نَسِيئَةً عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ شِرَاءَهُ لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ قُلْنَا: هَذَا لِلْعَوَامِّ وَأُسَامَةُ مِنْ الْخَوَاصِّ وَأَنَّهُ يَجُوزُ فَهْمُهُ

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَدَمَ ضَرُورَتِهِ، وَنُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّف فِي الْحَاشِيَةِ: هَذَا التَّوْبِيخُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَطْعِ أُسَامَةَ إرَادَةَ الْحَيَاةِ إلَى شَهْرٍ وَإِلَّا فَإِرَادَتُهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ بِشَرْطِ الصَّلَاحِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ فَكَيْفَ التَّوْبِيخُ، انْتَهَى «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ» أَيْ مَا وَقَعَ طَرَفُ جَفْنِهَا بِالطَّرَفِ الْآخَرِ ( «إلَّا ظَنَنْت أَنَّ شُفْرَيَّ» أَيْ جَفْنَيَّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ تَثْنِيَةُ شُفْرٍ أَصْلُ مَنْبَتِ الشَّعْرِ فِي الْجَفْنِ «لَا يَلْتَقِيَانِ» لَا يَنْطَبِقَانِ عَلَى الْعَيْنِ «حَتَّى يَقْبِضَ اللَّهُ رُوحِي» فَأَمُوتَ فِي مِقْدَارِ طَرْفَةِ عَيْنٍ الطَّرْفُ تَحْرِيكُ الْجَفْنِ لِلنَّظَرِ إلَى شَيْءٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43] «وَلَا رَفَعْت طَرْفِي وَظَنَنْت أَنِّي وَاضِعُهُ» وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْفَاءِ يَعْنِي لَا أَظُنُّ وَضْعَهُ «حَتَّى أُقْبَضَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «وَلَا لَقِمْت» بِكَسْرِ الْقَافِ ( «لُقْمَةً إلَّا ظَنَنْت أَنِّي لَا أَسِيغُهَا» أَبْتَلِعُهَا وَأُدْخِلُهَا فِي حَلْقِي سَاغَ الشَّرَابُ سَوْغًا سَهُلَ مَدْخَلُهُ «حَتَّى أُغَصَّ بِهَا مِنْ» أَجْلِ «الْمَوْتِ» هُجُومِهِ «ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي آدَمَ: إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» مِنْ الْعُقَلَاءِ الْمُدْرِكِينَ لِعَاقِبَةِ الْأُمُورِ «فَعُدُّوا» اُحْسُبُوا «أَنْفُسَكُمْ مِنْ» جُمْلَةِ «الْمَوْتَى» لِأَنَّكُمْ رَاجِعُونَ إلَيْهِمْ قَرِيبًا كَقَوْلِهِ: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا عَلَى وَجْهٍ، وَكَمَا قِيلَ: عِشْ مَا شِئْت فَإِنَّك مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْت فَإِنَّك مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّك مَجْزِيٌّ بِهِ. «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» التَّأْكِيدُ بِالْقَسَمِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ عَلَى مَضْمُونِ الْحُكْمِ أَوْ لِصِدْقِ الرَّغْبَةِ أَوْ لِقُوَّةِ الِاهْتِمَامِ «إنَّ مَا تُوعَدُونَ» مِنْ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْمُجَازَاةِ وَالْمُحَاسَبَاتِ «لَآتٍ» {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] «وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» لَا تَقْدِرُونَ عَلَى إعْجَازِ اللَّهِ عَنْ إتْيَانِ مَا تُوعَدُونَهُ مِنْ الْمَوْتِ وَنَحْوِهِ {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] . وَفِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ مِنْ خُطْبَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيُّهَا النَّاسُ، اعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقًا عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلًا مَنِيعًا ذُرْوَتُهُ، وَبَادِرُوا الْمَوْتَ وَغَمَرَاتِهِ، وَامْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَأَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ، إنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ، وَكَفَى بِذَلِكَ وَاعِظًا لِمَنْ عَقَلَ، وَمُعْتَبَرًا لِمَنْ جَهِلَ، وَقَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الْأَرْمَاسِ وَشِدَّةِ الْإِبْلَاسِ وَهَوْلِ الْمَطْلَعِ وَرَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَاخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ وَاسْتِكَاكِ الْأَسْمَاعِ وَظُلْمَةِ اللَّحْدِ وَخِيفَةِ الْوَعْدِ وَغَمِّ الضَّرِيحِ وَرَدْمِ الصَّفِيحِ وَأَيْضًا مِنْ حِكَمِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ وَالْآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ، وَلَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ، وَأَخْرِجُوا مِنْ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ أَبْدَانُكُمْ، فِيهَا اُخْتُبِرْتُمْ وَلِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ الْحَسَنِ) التَّابِعِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) مُرْسَلًا (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكُلُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟» الِاسْتِفْهَامُ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَعْلَمُ حُبَّهُمْ دُخُولَ الْجَنَّةِ فَلِلتَّقْرِيرِ أَيْ حَمْلِهِمْ عَلَى إقْرَارِ الْمَحَبَّةِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ سَبَبَ دُخُولِهَا «قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ» جَاءُوا بِهِ تَلَذُّذًا بِمُخَاطَبَتِهِ وَتَعْظِيمًا بِتَوْصِيفِ رِسَالَتِهِ وَطَلَبِ أَجْرٍ بِاعْتِرَافِ رِسَالَتِهِ وَإِيمَاءً بِقُوَّةِ تَصْدِيقِهِمْ بِمَا سَيُخْبِرُ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُشَارِ مِنْ صَنِيعِ حِسَانِ فِعَالِهِ. «قَالَ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

«قَصِّرُوا الْأَمَلَ» فَإِنَّ طُولَ الْأَمَلِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ حُبُّ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ: وَمِنْ شَأْنِ الْمُرِيدِ قِصَرُ الْأَمَلِ فَإِنَّ الْفَقِيرَ ابْنُ وَقْتِهِ فَإِذَا كَانَ لَهُ تَدْبِيرٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَطَلُّعٌ لِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْوَقْتِ وَأَمَلٌ فِيمَا يَسْتَأْنِفُهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ «وَاجْعَلُوا آجَالَكُمْ» أَوْقَاتَ مَوْتِكُمْ «بَيْنَ أَبْصَارِكُمْ» لِئَلَّا تَغْفُلُوا عَنْهَا وَتَشْتَغِلُوا بِالدُّنْيَا «وَاسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - حَقَّ الْحَيَاءِ» لِئَلَّا تَتَعَمَّقُوا فِي مُشْتَهَيَاتِ النَّفْسِ وَأَذْوَاقِ الْهَوَى، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالُوا: إنَّا نَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكِنْ مَنْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظْ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى أَيْ جَمَعَهُ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ وَلْيَحْفَظْ الْبَطْنَ مِنْ الْحَرَامِ وَمَا حَوَى أَيْ جَمَعَهُ الْبَطْنُ مِنْ الْفَرْجِ وَالْقَلْبِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَلْيَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ الطِّيبِيِّ: فَمَنْ أَهْمَلَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَةِ الِاسْتِحْيَاءِ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ جِبِلَّةَ الْإِنْسَانِ وَخِلْقَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ مَعْدِنُ الْعَيْبِ وَمَكَانُ الْمُحَارَبَةِ فَحَقُّ الْحَيَاءِ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ وَيَصُونَهَا عَمَّا يُعَابُ فِيهَا، وَأَصْلُ ذَلِكَ وَرَأْسُهُ تَرْكُ الْمَرْءِ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ وَشَغْلُهُ فِيمَا يَعْنِيهِ عَلَيْهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْرَثَهُ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. (وَلِلْحَيَاءِ مَرَاتِبُ) أَعْلَاهَا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهُوَ مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ الْمُوصِلُ إلَى مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ الْإِكْثَارُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَالْمَرِيضُ أَوْلَى ثُمَّ أَرَادَ تَفْصِيلَ حُكْمِ الْأَمَلِ (فَالْأَمَلُ إنْ كَانَ لِلتَّلَذُّذِ بِالْمُحَرَّمَاتِ) كَظُلْمِ الْعِبَادِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ (فَحَرَامٌ) لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ وَأَنَّ اعْتِبَارَ الْأُمُورِ بِمَقَاصِدِهَا (وَإِلَّا) كَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحَاتِ وَإِتْمَامِ عَمَلِ خَيْرٍ مَثَلًا (فَلَيْسَ بِحَرَامٍ) لِعَدَمِ آلِيَّتِهِ لِأَمْرٍ مُحَرَّمٍ (وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ جِدًّا) قَطْعًا أَوْ قَوِيًّا (وَلَوْ كَانَ لِتَكْثِيرِ الطَّاعَاتِ) كَالتَّصَدُّقِ وَالصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ وَطَرِيقِ الْخَيْرِ كَالصَّدَقَاتِ الْجَارِيَةِ نَحْوِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ (لِلْآفَاتِ السَّابِقَةِ) فِي أَوَائِلِ بَحْثِ الْأَمَلِ نَحْوُ الْكَسَلِ فِي الطَّاعَةِ وَتَأْخِيرِهَا وَتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ الْأَوَّلُ أَمَلُ الْعَامَّةِ وَهَذَا الثَّانِي أَمَلُ الْخَاصَّةِ، لَكِنْ فِيهِ خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ خَطَرٍ فِيهِ أَوْ فِي إتْمَامِهِ يُنَافِي الصَّلَاحَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ شَرْطِ الصَّلَاحِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْأَمَلَ (يَسْتَلْزِمُ الطَّمَعَ الْمَذْمُومَ) طَمَعَ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا بِخِلَافِ طَمَعِ الدِّينِ (وَهُوَ) أَيْ الطَّمَعُ الْمَذْمُومُ (إرَادَةُ الْحَرَامِ) سَوَاءً كَانَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ الثَّانِي أَقْبَحُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ذُلٌّ حَرَامٌ (الْمُلِذِّ) الْمُوقِعِ فِي اللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ الْفَانِيَةِ الظُّلْمَانِيَّةِ مِنْ مُيُولَاتِ إمَارَةِ النَّفْسِ وَمِنْ التَّحْرِيكَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ (أَوْ) إرَادَةُ (الشَّيْءِ الْمُخَاطَرِ) لَا يُؤْمَنُ مِنْ عُرُوضِ خَطَرٍ (أَعْنِي) بِالْمُخَاطَرِ (النَّوَافِلَ) فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إذَا ابْتَدَأَ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنْ يُتِمَّهُ إذْ هُوَ غَيْبٌ وَلَا أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ صَلَاحٌ بَلْ يُقَيَّدُ ذَلِكَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ شَرْطِ الصَّلَاحِ فَيَخْلُصُ مِنْ غَيْبِ الْأَمَلِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] .

(وَالْمُبَاحَاتِ) حَالَ كَوْنِ إرَادَةِ الشَّيْءِ الْمُخَاطَرِ (بِالْحُكْمِ) بِلَا اسْتِثْنَاءٍ وَلَا شَرْطِ صَلَاحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فِيهِ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ الْمُحْبِطَاتِ فَتَأَمَّلْ (وَهُوَ) أَيْ الطَّمَعُ الْمَذْمُومُ. (الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ هق) الْبَيْهَقِيُّ (حك) الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ثَالِثٌ فِي الْإِسْلَامِ، أَوَّلُ رَامٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ أَحَدَ السِّتَّةِ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَرَاقَ دَمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ «ارْمِ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي» وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ حِينَ إمَارَتِهِ بِالْكُوفَةِ: أَنْتَ لَا تَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ وَلَا تَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا تَغْزُو فِي السَّرِيَّةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَعْمِ بَصَرَهُ وَعَجِّلْ فَقْرَهُ وَأَطِلْ عُمُرَهُ وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ فَعَمِيَ فَكَانَ يَلْتَمِسُ الْجُدْرَانَ وَافْتَقَرَ حَتَّى سَأَلَ النَّاسَ وَأَدْرَكَ فِتْنَةَ الْمُخْتَارِ، فَقِيلَ فِيهَا يَقُولُ أَدْرَكَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ وَهُوَ آخِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَفَاةً، وَكَانَ أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ فِي جُبَّةِ صُوفٍ لَهُ كَانَ لَقِيَ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَكُفِّنَ فِيهَا. «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي» بِمَا يُنْقِذُنِي مِنْ النَّارِ وَمِنْ الذِّلَّةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ «قَالَ عَلَيْك بِالْإِيَاسِ» فِعَالٌ مُبَالَغَةٌ فِي الْيَأْسِ أَيْ الْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْأُمْنِيَةِ «مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ» مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا يَعْنِي صَمِّمْ وَأَلْزِمْ نَفْسَك بِالْيَأْسِ مِنْهُ «وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ» أَيْ الطَّمَعَ «الْفَقْرُ الْحَاضِرُ» وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ عُدِمَ الْقَنَاعَةَ لَمْ يَزِدْهُ الْمَالُ إلَّا فَقْرًا وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ دَعْ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا ... وَفِي الْعَيْشِ فَلَا تَطْمَعْ وَلَا تَجْمَعْ مِنْ الْمَالِ ... فَلَا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ ... وَسُوءُ الظَّنِّ لَا يَنْفَعْ فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ ... غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَعْ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى وَمَالٌ لَا يَنْفَدُ» وَأَنْشَدُوا إنَّ الْقَنَاعَةَ بَابٌ أَنْتَ دَاخِلُهُ ... إنْ كُنْت ذَاكَ الَّذِي يُرْجَى لِخِدْمَتِهِ فَاقْنَعْ بِمَا أَعْطَتْ الْأَيَّامُ مِنْ نِعَمٍ ... مِنْ الطَّبِيعَةِ لَا تَقْنَعْ بِنِعْمَتِهِ لَوْ كَانَ عِنْدَك مَالُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ... لَنْ يَأْكُلَ الشَّخْصُ مِنْهُ غَيْرَ لُقْمَتِهِ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا ذَاقَ ذَوْقَ الْغِنَى مَنْ لَا قُنُوعَ لَهُ ... وَلَنْ تَرَى قَانِعًا مَا عَاشَ مُفْتَقِرًا «وَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ» أَيْ اشْرَعْ فِيهَا وَالْحَالُ أَنَّك تَارِكٌ غَيْرَك لِمُنَاجَاةِ رَبِّك مُقْبِلًا عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِك «وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ» أَيْ احْذَرْ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِمَا يُحْوِجُك أَنْ تَعْتَذِرَ مِنْهُ وَلِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إيَّاكَ وَمَا سَبَقَ الْقُلُوبَ إنْكَارُهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ كَمَا فِي ابْنِ مَالِكٍ وَلِذَا كَرِهَ الذَّوْقَ وَمَضْغَ شَيْءٍ لِلصَّائِمِ؛ لِأَنَّ مَنْ رَآهُ مِنْ بَعِيدٍ يَظُنُّهُ آكِلًا وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ إلَى الْعَاقِبَةِ. (فَطَمَعُ الْحَرَامِ حَرَامٌ) لِأَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا (وَطَمَعُ الْمُخَاطَرِ) (لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ جِدًّا) لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ الْمُحَرَّمِ إذْ رُبَّمَا

المبحث السادس من السبعة في أمور مترددة بين الرياء والإخلاص

يُؤَدِّي إلَيْهِ (وَأَقْبَحُ الطَّمَعِ الطَّمَعُ مِنْ النَّاسِ) قِيلَ: لِمَا أَنَّ طَبْعَ النَّاسِ إهَانَةُ مَنْ عَلِمُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَمُقَابَلَتُهُمْ لَهُ بِأَنْوَاعِ الْمُكَافَحَةِ وَالْإِعْرَاضِ (وَهُوَ) أَيْ الطَّمَعُ (ذُلٌّ يَنْشَأُ مِنْ الْحِرْصِ) عَلَى الدُّنْيَا (وَالْبَطَالَةِ) وَهُوَ الْقُعُودُ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَكَسْبٍ (وَالْجَهْلِ بِحِكْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْحَاجَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْحِكْمَةِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا (إلَى التَّعَاوُنِ) بِأَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَأَبْدَانِ الْفُقَرَاءِ فَلَوْ غَنِيَ الْكُلُّ لَبَطَلَتْ الْحِكْمَةُ وَاخْتَلَّ النِّظَامُ. (وَضِدُّ الطَّمَعِ التَّفْوِيضُ) إلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَهُوَ إرَادَةُ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْك مَصَالِحَك) الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا فِيك وَيَنْتَظِمُ بِهَا مَعَاشُك وَمَعَادُك (فِيمَا لَا تَأْمَنُ) مُتَعَلِّقٌ بِأَنْ يَحْفَظَ (فِيهِ الْخَطَرَ) أَيْ الْإِشْرَافَ عَلَى الْهَلَاكِ وَخَوْفَ التَّلَفِ (أَعْنِي النَّوَافِلَ) فَالْخَطَرُ فِيهَا بِالرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ (وَالْمُبَاحَاتِ) وَهُوَ الْجَرُّ وَالتَّأَدِّي إلَى الشُّرُورِ (وَإِنْ كَانَ فِيهِ) أَيْ فِيمَا لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْخَطَرُ (صَلَاحُك) بِحِفْظِك مِنْ ذَلِكَ (يَسُرُّك) بِسَبَبِ التَّفْوِيضِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ (وَإِلَّا مَنَعَك) بِخَلْقِ الْمَوَانِعِ وَعَدَمِ الْمُيُولَاتِ كَمَا هُوَ مَضْمُونُ دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ الْمَعْهُودَةِ (قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً) عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] لِيَعْصِمَنِي مِنْ كُلِّ سُوءٍ {إِنَّ اللَّهَ} [غافر: 44] تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ السَّابِقِ {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44] فَيَحْرُسُهُمْ وَيُعْطِيهِمْ مَا يُرِيدُ، قِيلَ: قَالَهُ حِينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ لِأَجْلِ دَعْوَتِهِ إيَّاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَبَعَثَ فِرْعَوْنُ لِطَلَبِهِ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45] آلُ فِرْعَوْنَ، وَالْمَكْرُ الْخَدِيعَةُ أَيْ شَرُّ مَا أَرَادُوا بِهِ (اُنْظُرْ) أَيُّهَا السَّالِكُ الْمُتَفَطِّنُ (كَيْفَ عَقَّبَ) اللَّهُ (التَّفْوِيضَ) بَلْ فَرَّعَ عَلَيْهِ (بِالْوِقَايَةِ) بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ بَلْ التَّرْتِيبِ (وَهُوَ) أَيْ التَّفْوِيضُ (مَقَامٌ شَرِيفٌ) لِصَاحِبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ إلَى خَالِقِهِ (يَدُلُّ عَلَى حُسْنِهِ) النَّقْلُ كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَ (الْعَقْلُ أَيْضًا) فَإِنَّ الْعَبْدَ الْعَاجِزَ عَنْ التَّأْثِيرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ لَهُ أَمْرٌ سِوَى التَّفْوِيضِ إلَى مَنْ بِيَدِهِ تَصَرُّفُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَدْرِي عَاقِبَةَ أَمْرِهِ صَلَاحِهِ وَفَسَادِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ فَلَا يَلِيقُ لَهُ أَمْرٌ سِوَى التَّسْلِيمِ إلَى الْحَكِيمِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ. [الْمَبْحَثُ السَّادِسُ مِنْ السَّبْعَةِ فِي أُمُورٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ] (الْمَبْحَثُ السَّادِسُ مِنْ السَّبْعَةِ) (فِي أُمُورٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ أَوْ) بَيْنَ الرِّيَاءِ وَ (الْحَيَاءِ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (يَدْخُلُ فِي كِلَا الْجَانِبَيْنِ) أَيْ الرِّيَاءِ وَمُقَابِلُهُ (تَلْبِيسُ إبْلِيسٍ) فَلْيَكُنْ السَّالِكُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَتَيَقُّظٍ (فَلْنَقْدَمْ) عَلَى بَيَانِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ (مُقَدَّمَةٌ فِي) أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ بَيَانُ (دَفْعِ) وَسْوَسَةِ (الشَّيْطَانِ) وَدَعْوَتِهِ (وَ)

الثَّانِي بَيَانُ طَرِيقِ دَفْعِ (حِيَلِهِ الَّتِي تَشْتَدُّ إلَيْهَا) إلَى مَعْرِفَتِهَا مَعَ طُرُقِ دَفْعِهَا (الْحَاجَةُ فِي التَّقْوَى) لِيَدْفَعَ عَنْهُ كَيْدَ الْعَدُوِّ وَيَتَخَلَّصَ مِنْ أَمْرِهِ (فِي جَمِيعِ مَجَارِيهَا) فِعْلًا كَانَ أَوْ تَرْكًا (خُصُوصًا فِي الْإِخْلَاصِ) الَّذِي هُوَ رُوحُ الْعَمَلِ وَسَبَبُ قِوَامِهِ (فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ) لِصُعُوبَةِ الْمَبْحَثِ وَقُوَّةِ خَفَائِهِ خَصَّهُ بِتَصْرِيحِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ مُحْتَاجًا إلَى التَّوْفِيقِ اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ دَفْعِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ الِاسْتِعَاذَةُ بِاَللَّهِ فَقَطْ، وَالْمُحَارَبَةُ فِي دَفْعِ الشَّيْطَانِ فَقَطْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَلِذَا قَالَ (الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِعَاذَةِ وَالْمُحَارَبَةِ) الظَّاهِرُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ بَلْ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ أَوْ الْأَوْقَاتِ وَلَوْ بِالنَّظَرِ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ (فَنَسْتَعِيذُ) نَعْتَصِمُ (بِاَللَّهِ - تَعَالَى - أَوَّلًا مِنْ شَرِّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ) بِقَوْلِهِ - {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]- (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَلْبٌ سُلِّطَ عَلَيْنَا) لِلِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَلِتَكْثِيرِ أُجُورِنَا بِمُجَاهَدَتِهِ (فَعَلَيْنَا الرُّجُوعُ إلَى رَبِّهِ) صَاحِبِهِ الَّذِي أَمْرُهُ بِيَدِهِ (لِيَصْرِفَهُ عَنَّا) أَيْ وَسَاوِسَهُ وَغَوَائِلَهُ، فَإِنَّ رَبَّ الْكَلْبِ أَدْفَعُ فَإِنْ قِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْكَلْبِ مُسَلِّطًا إيَّاهُ فَإِنْ كَانَ التَّسْلِيطُ مِنْ قِبَلِ الصَّاحِبِ كَيْفَ يُفِيدُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ قُلْنَا إنْ كَانَ تَسْلِيطُهُ لِمُجَرَّدِ الِاخْتِبَارِ فَالْفَائِدَةُ ظَاهِرَةٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّسْلِيطُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ الشَّيْطَانِ - {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22]- قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ السُّلْطَانِ الْقَهْرُ وَالْجَبْرُ، وَالْوَسْوَسَةُ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ الْمُرَادُ هُوَ الْحُجَّةُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ مِنْ حُجَّةٍ بَلْ دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ أَوْ دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ بِنَحْوِ الْمُيُولَاتِ الْفَاسِدَةِ وَبِالْجُمْلَةِ التَّدْبِيرُ فِي دَفْعِ الشَّيْطَانِ الِالْتِجَاءُ أَوَّلًا إلَى الرَّحْمَنِ فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِدَفْعِهِ ابْتِدَاءً تَعَبٌ وَتَضْيِيعُ عُمُرٍ وَوَقْتٍ بَلْ رُبَّمَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ غَلَبَتِهِ وَجُرْحِهِ وَسِهَامِهِ فَالْأَوْلَى الرُّجُوعُ إلَى صَاحِبِهِ كَكَلْبٍ عَقُورٍ لَا يَنْدَفِعُ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ وَالْمُعَالَجَاتِ الصَّعْبَةِ بَلْ قَدْ يَغْلِبُ وَيَفْتَرِسُ وَيَنْدَفِعُ بِزَجْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ. (ثُمَّ نَسْتَخِفُّ) أَيْ نَتَهَاوَنُ (بِدَعْوَتِهِ) وَلَا نَلْتَفِتُ بِاشْتِغَالِ رَدِّهِ (وَنَنْفِيهَا) نَحْنُ مِنْ خَاطِرِنَا وَنَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ (كُلَّمَا وَرَدَتْ وَلَا نَشْتَغِلُ بِالْمُحَارَبَةِ) مَعَهُ؛ لِأَنَّ كَيْدَهُ وَسْوَسَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَشَيْءٌ ضَعِيفٌ وَقَدْ قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ أَنَّ بَعْضَ الشَّبَهِ لِغَايَةِ ضَعْفِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ وَفِي الْأُصُولِيِّينَ الشُّبْهَةُ الَّتِي لَا تَنْشَأُ مِنْ الدَّلِيلِ لَا تُنَافِي الْقَطْعَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ فَإِنَّهُ) أَيْ الشَّيْطَانَ (بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ النَّابِحِ) مِنْ النُّبَاحِ وَهُوَ صَوْتُ الْكِلَابِ (كُلَّمَا أَقْبَلْت عَلَيْهِ) لِتَزْجُرَهُ (وَلِعَ) حَرَصَ (بِك وَلَجَّ) بَالَغَ فِي طَلَبِك فَيَغْلِبُ عَلَيْك قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ الشَّيْطَانُ فَارِغٌ وَأَنْتَ مَشْغُولٌ وَالشَّيْطَانُ يَرَاك وَأَنْتَ لَا تَرَاهُ وَأَنْتَ تَنْسَاهُ وَهُوَ لَا يَنْسَاك وَمِنْ نَفْسِك لِلشَّيْطَانِ عَوْنٌ

عَلَيْك (وَإِنْ أَعْرَضْت) وَلَمْ تَلْتَفِتْ إلَى نُبَاحِهِ بِأَنْ تَشْتَغِلَ بِخِدْمَةِ مَوْلَاك أَوْ بِالِاتِّجَاءِ إلَى صَاحِبِهِ تَعَالَى (سَكَتَ) غَالِبًا أَوْ مِنْ شَأْنِهِ السُّكُوتُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكَلَامِ. (فَإِنْ لَمْ يَسْكُت) بِمُجَرَّدِ الِاسْتِعَاذَةِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إمَّا لِعَدَمِ الْقُوَّةِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ أَوْ لِقُوَّةِ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَوْ لِحِكْمَةٍ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (بَلْ تَغَلَّبَ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنْ التَّكَلُّفِ إمَّا لِكَوْنِ غَلَبَتِهِ فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ بِمَشَاقَّ كَثِيرَةٍ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ لِلْكَمَالِ فِي الْغَلَبَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِالْمَشَقَّةِ غَالِبًا يَكُونُ أَكْمَلَ (عَلَيْنَا) يَعْنِي لَمْ يُزِلْ وَسْوَسَتَهُ عَنَّا لَا بِمَعْنَى أَجْبَرَ وَحَكَمَ كَمَا عَرَفْت (عَلِمْنَا أَنَّهُ) أَيْ تَغَلُّبَهُ (ابْتِلَاءٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) مُعَامَلَةُ اخْتِبَارٍ مِنْهُ - تَعَالَى - وَإِلَّا فَحَقِيقَتُهُ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى (لِيُرِيَ) يُظْهِرَ إلَى مَلَائِكَتِهِ (صِدْقَ مُجَاهَدَتِنَا) مَعَهُ وَقُوَّةَ دَفْعِنَا وَسْوَسَتَهُ وَحِيَلَهُ لَعَلَّ فَائِدَةَ الْإِرَادَةِ اسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَدُعَاؤُهُمْ وَشَفَاعَتُهُمْ إيَّاهُ (وَ) أَيْضًا اخْتِبَارُ (قُوَّتِنَا) فِي أَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَصَبْرِنَا (كَمَا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَلَّطَ عَلَيْنَا) عَلَى نَوْعِنَا (الْكُفَّارَ) جِنْسَهُمْ (مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى كِفَايَةِ أَمْرِهِمْ) سِيَّمَا عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ حَبِيبِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيَكُونَ لَنَا حَظٌّ مِنْ الْجِهَادِ (وَ) كِفَايَةِ (شَرِّهِمْ) أَيْ كَفِّهِ (لِيَكُونَ لَنَا حَظٌّ) أَجْرٌ وَثَوَابٌ (مِنْ الْجِهَادِ) بَدَنًا أَوْ مَالًا أَوْ بِهِمَا مَعًا. وَالْجِهَادُ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ (وَالصَّبْرِ) إلَى الْمَشَاقِّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]- وَلِذَا كَانَ أَجْرُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ مَحْسُوبًا دُونَ أَجْرِ الصَّبْرِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وَكَذَا أَجْرُ الشَّهَادَةِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ} [آل عمران: 142] لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَأَمْ بِمَعْنَى بَلْ قِيلَ الْخِطَابُ لِلَّذِينَ انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142] قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ شِدَّةٌ فِي دِينِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} [آل عمران: 142] الْوَاوُ لِلْحَالِ وَلَمَّا بِمَعْنَى لَمْ لَكِنْ النَّفْيُ فِي لَمَّا آكَدُ وَمُتَّصِلٌ بِالْحَالِ {الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ جِهَادُ الْمُجَاهِدِينَ {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] لَعَلَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا تَظُنُّوا دُخُولَ الْجَنَّةِ مَا لَمْ يَقَعْ مِنْكُمْ الْجِهَادُ وَالصَّبْرُ لَكِنَّ التَّعْبِيرَ بِالْعِلْمِ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ وَتَحَقُّقِهِ، فَإِنَّ مَا عَلِمَهُ - تَعَالَى - وَاقِعٌ أَلْبَتَّةَ كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ اللَّهُ عَالِمٌ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَقَدْ عَرَفْت فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ أَنَّ الْعِلْمَ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ قِدَمُ عِلْمِهِ - تَعَالَى - وَلَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ؛ لِأَنَّك قَدْ عَرَفْت أَيْضًا أَنَّ لِلْعِلْمِ تَعَلُّقَاتٍ حَادِثَةً فَمَا وُجِدَ فِي الْحَالِ غَيْرَ مَا وُجِدَ فِي الْأَزَلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُدُوثِ هَذَا التَّعَلُّقِ حُدُوثُ الْعِلْمِ فَلَا يَلْزَمُ الْجَهْلُ قَبْلَ ذَلِكَ فَافْهَمْ وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى الْمَعْلُومِ مَشْهُورٌ يُقَالُ هَذَا عِلْمُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَعْلُومُهُ. وَقِيلَ كُلُّ آيَةٍ يُشْعِرُ ظَاهِرُهَا بِتَجَدُّدِ الْعِلْمِ فَالْمُرَادُ تَجَدُّدُ الْمَعْلُومِ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقِيسِ يَعْنِي الْمُشَبَّهَ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْإِشَارَةِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا فِي الْقُرْآنِ كَمَا سَبَقَ وَأَيْضًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140] ، وَقَالَ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 16]

(وَأَيْضًا قَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْنَا خَاطِرٌ لَا نَدْرِي أَنَّهُ شَرٌّ مِنْ الشَّيْطَانِ) فَنَجْتَنِبُهُ (أَوْ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ) كَاَللَّهِ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَى أَوْ الْمَلَكِ فَنَتَسَارَعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَوَاطِرِ لِيُتَصَوَّرَ نَفْيُ مَا كَانَ شَرًّا وَإِثْبَاتُ مَا كَانَ خَيْرًا (فَعَلَيْنَا الْمُحَارَبَةُ) فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَفِيمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا (وَالْقَهْرُ) بِنَحْوِ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَالشُّغْلِ (وَالدَّوَامُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) فَلَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ ذِكْرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي جَنْبِ الشَّيْطَانِ كَالْآكِلَةِ فِي جَنْبِ ابْنِ آدَمَ» ، وَفِي الْحِصْنِ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا لِقَلْبِهِ بَيْتَانِ فِي أَحَدِهِمَا الْمَلَكُ وَفِي الْآخَرِ الشَّيْطَانُ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ - تَعَالَى - وَضَعَ الشَّيْطَانُ مِنْقَارَهُ فِي قَلْبِهِ وَوَسْوَسَ لَهُ» وَفِيهِ أَيْضًا «وَإِنْ خَافَ شَيْطَانًا أَوْ غَيْرَهُ قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ اللَّاتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ» . وَأَيْضًا فِيهِ «لِهَرَبِ الشَّيْطَانِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَكَذَا الْأَذَانُ» . (بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ) يَعْنِي بِمُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ اللِّسَانَ عِنْدَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ لَا بِاللِّسَانِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ لَهُ أَصْلًا سِيَّمَا فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ قَالَ أَحْمَدُ الْغَزَالِيُّ فِي رِسَالَتِهِ التَّجْرِيدِ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَاَللَّهِ إنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ ذَرَّةً وَلَا يَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَأَنَّ الْأَصَحَّ الْمُوَافِقَ لِمَا فِي الْفَتَاوَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ مِنْ السُّكُوتِ وَالِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ سِيَّمَا عِنْدَ كَوْنِ نِيَّتِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَمَّا بِالْقَلْبِ فَقَطْ فَهُوَ مُخْتَارُ بَعْضِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ تَرْجِيحَ اجْتِمَاعِهِمَا لِتَكْثِيرِ الْعَمَلِ وَلِجَمْعِ الْعَزِيمَتَيْنِ لَكِنْ هَذَا عَسِرٌ وَوُجُودُهُ صَعْبٌ إذْ عِنْدَ شُغْلِ اللِّسَانِ قَلَّمَا يَخْلُو الْقَلْبُ عَنْ الْغَيْرِ وَيَتَجَرَّدُ لِلذِّكْرِ وَأَمَّا عِنْدَ تَمَحُّضِهِ بِالذِّكْرِ يَسْهُلُ تَجَرُّدُهُ لَهُ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ التَّجْرِبَةُ وَالْوِجْدَانُ فَافْهَمْ (وَ) عَلَيْنَا (مَعْرِفَةُ وَسَاوِسِهِ وَمَكَائِدِهِ) جَمْعُ كَيْدٍ حَتَّى نَحْتَرِزَ عَنْهَا وَأَنَّهُ عِنْدَ الْمَعْرِفَةِ لَا يَتَجَاسَرُ كَاللِّصِّ إذَا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ أَحَسَّ بِهِ فَرَّ فَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ (مَعْرِفَةِ مَنْشَأِ الْخَوَاطِرِ) مِنْ أَيْنَ تَنْشَأُ وَتَتَحَصَّلُ، قِيلَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَوَاطِرِ وَمَنْشَئِهَا (وَ) مِنْ (تَمَيُّزِ خَيْرِهَا مِنْ شَرِّهَا فَهِيَ) أَيْ الْخَوَاطِرُ (آثَارٌ) اخْتِلَاجَاتٌ وَدَوَاعٍ (يُحْدِثُهَا اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تَبْعَثُهُ) تَكُونُ بَاعِثَةً لِلْعَبْدِ (عَلَى الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ) قِيلَ هُنَا فَمَبْدَأُهُمَا الْخَوَاطِرُ ثُمَّ الْخَوَاطِرُ تُحَرِّكُ الرَّغْبَةَ وَالرَّغْبَةُ تُحَرِّكُ الْعَزْمَ وَالنِّيَّةُ تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ (إمَّا ابْتِدَاءً) خَلْقًا ابْتِدَائِيًّا بِلَا وَاسِطَةِ شَيْءٍ (فَيُقَالُ لَهُ الْخَاطِرُ فَقَطْ) لَيْسَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُهُ مِنْ خَطَرَ إذَا مَرَّ بِسُرْعَةٍ وَانْقَضَى (وَعَلَامَتُهُ) أَيْ عَلَامَةُ كَوْنِ الْخَاطِرِ مُحْدَثًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (كَوْنُهُ قَوِيًّا مُصَمَّمًا) مُحْكَمًا بِلَا تَرَدُّدٍ. (وَ) فِي (الْأُصُولِ) مُطْلَقُ الِاعْتِقَادِيَّاتِ أَوْ أُمَّهَاتِهَا كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ (وَ) فِي (الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ) مِنْ نَحْوِ الْمَلَكَاتِ الرَّدِيئَةِ وَالْحَمِيدَةِ (وَأَنْ يَكُونَ خَيْرًا عَقِيبَ اجْتِهَادٍ) بَذْلُ جُهْدٍ وَصَرْفُ طَاقَةٍ (وَطَاعَةٍ إكْرَامًا) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (فَيُسَمَّى) الْخَاطِرُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ (هِدَايَةً وَتَوْفِيقًا وَلُطْفًا وَعِنَايَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت: 69] بَذَلُوا جَهْدَهُمْ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِنَا وَاجْتِنَابِ نَوَاهِينَا

{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] طُرُقَنَا الْمُوَصِّلَةَ إلَيْنَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} [محمد: 17] بِإِتْيَانِ الْعِبَادَاتِ {زَادَهُمْ} [محمد: 17] اللَّهُ {هُدًى} [محمد: 17] بِخَوَاطِرَ تَدُلُّهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْوُصُولِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (أَوْ) أَنْ يَكُونَ (شَرًّا عَقِيبَ ذَنْبٍ) كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ (إهَانَةً) لِذَلِكَ الْعَبْدِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِشُؤْمِ ذَلِكَ الذَّنْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] فَيُؤَدِّي الذَّنْبُ إلَى قَسْوَةِ الْقَلْبِ أَوَّلُهَا خَاطِرٌ ثُمَّ يُؤَدِّي إلَى الْقَسْوَةِ وَالرَّيْنِ (وَعُقُوبَةً) عَاجِلَةٌ فِي الدُّنْيَا (فَيُسَمَّى) الْخَاطِرُ (خِذْلَانًا) هُوَ تَرْكُ الْعَوْنِ وَضِدُّ التَّوْفِيقِ (وَإِضْلَالًا) قِيلَ أَيْ إضَاعَةً وَتَحْيِيرًا وَقِيلَ هَذَا إذَا أَبْقَى لِلْعَبْدِ فِي الْجُمْلَةِ اخْتِيَارًا. وَأَمَّا إذَا اشْتَدَّ حَتَّى سَلَبَ الِاخْتِيَارَ مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُسَمَّى خَتْمًا وَطَبْعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُتَصَوَّرُ الْعِلَاجُ (وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إمَّا ابْتِدَاءً (مُوَكَّلٍ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى ابْنِ آدَمَ جَاثِمٍ) مُكِبٍّ وَمُلَازِمٍ (عَلَى أُذُنِ قَلْبِهِ الْيُمْنَى) يُلْهِمُهُ (يُقَالُ لَهُ الْمُلْهِمُ وَلِدَعْوَتِهِ الْإِلْهَامَ وَلَا تَكُونُ) هَذِهِ الدَّعْوَةُ (إلَّا إلَى خَيْرٍ) قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةٌ بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةٌ» يَعْنِي نَزْلَةٌ بِالدَّعْوَةِ كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ. وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ هَذِهِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ» . قَالَ عَبْدُ الرَّءُوفِ الْمُنَاوِيُّ الْإِيعَادُ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ وَالْخَيْرِ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ الْفَرْقُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ اللَّمَّتَيْنِ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَالْخَوَاطِرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَذْرِ فَمِنْهَا مَا هُوَ بَذْرُ السَّعَادَةِ وَمِنْهَا مَا هُوَ بَذْرُ الشَّقَاوَةِ. وَسَبَبُ اشْتِبَاهِ الْخَوَاطِرِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ لَا خَامِسَ لَهَا ضَعْفُ الْيَقِينِ أَوْ قِلَّةُ الْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقِهَا أَوْ مُتَابَعَةُ الْهَوَى بِخَرْمِ قَوَاعِدِ التَّقْوَى أَوْ مَحَبَّةُ الدُّنْيَا مَالِهَا وَجَاهِهَا، وَطَلَبُ الْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ عِنْدَ النَّاسِ فَمَنْ عُصِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَرَّقَ بَيْنَ لَمَّةِ الْمَلَكِ وَلَمَّةِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ اُبْتُلِيَ بِهَا لَمْ يُفَرِّقْ، وَانْكِشَافُ بَعْضِ الْخَوَاطِرِ دُونَ بَعْضٍ لِوُجُودِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ بَعْضٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ. (وَعَلَامَتُهُ) أَيْ خَاطِرِ الْمَلَكِ (كَوْنُهُ مُتَرَدِّدًا) إذْ الْمَلَكُ بِمَنْزِلَةِ نَاصِحٍ يَدْخُلُ مَعَك مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيَعْرِضُ عَلَيْك كُلَّ نُصْحٍ رَجَاءَ إجَابَتِك وَرَغْبَتِك فِي الْخَيْرِ (وَفِي الْفُرُوعِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ) فِي الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْمَلَكَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ فِي أَكْثَرِهِمْ كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ فَالْإِطْلَاقُ لَيْسَ بِحَسَنٍ (وَبِلَا سَبْقِ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فِي الْأَغْلَبِ) هَذَا مُخَالِفٌ أَيْضًا لِمَا فِي الْمِنْهَاجِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ أَيْ خَاطِرُ الْخَيْرِ مُبْتَدَأً فَمِنْ الْمَلَكِ فِي الْأَغْلَبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ أَيْضًا مَعْرِفَةُ خَاطِرِ الْخَيْرِ مِنْ اللَّهِ أَوْ مِنْ الْمَلَكِ بِثَلَاثَةٍ إنْ قَوِيَا فَمِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنْ مُتَرَدِّدًا فَمِنْ الْمَلَكِ وَإِنْ عَقِيبَ اجْتِهَادٍ وَطَاعَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ ابْتِدَاءً فَمِنْ الْمَلَكِ فِي الْأَغْلَبِ وَإِنْ فِي الْأُصُولِ فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ فِي الْفُرُوعِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَمِنْ الْمَلَكِ فِي الْأَكْثَرِ فَقَدْ عَرَفْت زِيَادَةَ قَوْلِهِ أَوْ مَعْصِيَةٌ فَافْهَمْ (أَوْ بِوَاسِطَةِ) الظَّاهِرُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَأَمَّا بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ إمَّا ابْتِدَاءً فَالْأَوْلَى وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ (طَبِيعَةٍ مَائِلَةٍ إلَى الشَّهَوَاتِ) وَنَيْلِ اللَّذَّاتِ كَيْفَ كَانَتْ مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ (يُقَالُ لَهَا النَّفْسُ) لَعَلَّ هِيَ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ الَّتِي تَمِيلُ إلَى الطَّبِيعَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَتَأْمُرُ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَتَجْذِبُ الْقَلْبَ إلَى الْجِهَةِ السُّفْلِيَّةِ فَهِيَ مَأْوَى الشَّرِّ وَمَنْبَعُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَالْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ (وَ) يُقَالُ أَيْ يُسَمَّى (لِدَعْوَتِهَا هَوًى) . وَفُسِّرَ أَيْضًا بِمَيْلِ النَّفْسِ إلَى مُقْتَضَيَاتِ الطَّبْعِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْجِهَةِ الْعُلْوِيَّةِ

إلَى السُّفْلِيَّةِ (وَلَا تَكُونُ) تِلْكَ الدَّعْوَةُ (إلَّا إلَى الشَّرِّ) وَلَا يُتَصَوَّرُ رُجُوعُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَمُبْعِدَةٌ عَنْ الرَّحْمَنِ وَقَدْ عَرَفْت مَاهِيَّتَهَا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْدَى عَدُوِّك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك» (وَعَلَامَتُهُ) أَيْ مِنْ النَّفْسِ (كَوْنُهُ مُصَمَّمًا رَاتِبًا) ثَابِتًا وَقِيلَ مُتَكَرِّرًا بِالْأَمْثَالِ (عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ) فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ عَنْ الْإِقْدَامِ إلَى أَنْ تَصِلَ إلَى مُرَادِهَا وَتُحَصِّلَ مَقْصُودَهَا (وَأَنْ لَا يَضْعُفَ وَلَا يَقِلَّ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) وَلَا يَزُولُ قِيلَ إلَّا بِصِدْقِ الْمُجَاهَدَةِ وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ الْهَوَى كَالنَّمِرِ إذَا حَارَبَ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا بِقَمْعٍ بَالِغٍ وَقَهْرٍ ظَاهِرٍ أَوْ مِثْلُ الْخَارِجِيِّ الَّذِي يُقَاتِلُ تَدَيُّنًا لَا يَكَادُ يَرْجِعُ حَتَّى يُقْتَلَ، وَمَثَلُ الشَّيْطَانِ كَالذِّئْبِ إذَا طَرَدْته مِنْ جَانِبٍ دَخَلَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ أَوْ إطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ نَزَّلَ مَا يَصْعُبُ زَوَالُهُ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَزُولُ وَبِالْجُمْلَةِ الْخَاطِرُ الشَّرُّ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ يُعْرَفُ بِأَمْرَيْنِ التَّصْمِيمِ عَلَى وَاحِدَةٍ وَعَدَمِ الزَّوَالِ بِذِكْرِهِ، هَذَا وَإِنْ طَابَقَ لِمَأْخَذِهِ مِنْهَاجَ الْعَابِدِينَ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ أَوَّلَهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِآخِرِهِمَا (أَوْ بِوَاسِطَةِ) أَيْ وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ (شَيْطَانٍ مُسَلَّطٍ) مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - لِحِكْمَةٍ كَالِاخْتِيَارِ وَتَكْثِيرِ الْأَجْرِ بِمُجَاهَدَتِهِ (عَلَى ابْنِ آدَمَ جَاثِمٍ عَلَى أُذُنِ قَلْبِهِ الْيُسْرَى) صِفَةُ أُذُنٍ (يُقَالُ لَهُ الْوَسْوَاسُ) الْمُوَسْوِسُ فَالتَّسْمِيَةُ لِلْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّهَا دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ (الْخَنَّاسُ) الَّذِي عَادَتُهُ أَنْ يَخْنِسَ أَيْ يَتَأَخَّرَ إذَا ذَكَرَ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ (وَلِدَعْوَتِهِ الْوَسْوَسَةَ وَعَلَامَتُهُ) أَيْ مِنْ الشَّيْطَانِ (كَوْنُهُ مُتَرَدِّدًا أَوْ مُضْطَرِبًا) إذْ لَا يُصِرُّ عَلَى شَيْءٍ فَإِنْ لَمْ يُجِبْ الْعَبْدُ دَعْوَتَهُ لِشَيْءٍ يَنْقُلُهُ إلَى آخَرَ إذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ الْخَاصَّةِ بَلْ مُرَادُهُ الْإِضْلَالُ كَيْفَ مَا كَانَ. (وَبِلَا سَبْقِ ذَنْبٍ) مِنْهُ (فِي الْأَكْثَرِ) أَيْ أَكْثَرِ الْأَشْخَاصِ أَوْ أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ أَوْ أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَوْلَى فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِدَعْوَةِ الشَّرِّ وَيَطْلُبُ الْإِغْوَاءَ بِكُلِّ حَالٍ (وَأَنْ يَقِلَّ وَيَضْعُفَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّ عَادَتَهُ أَنْ يَخْنِسَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى - {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4]- فَافْهَمْ، فَالْأَوْفَقُ أَنْ يُقَالَ كَوْنُهُ ضَعِيفًا أَوْ زَائِلًا بِذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلِهَذِهِ الْعَلَامَةِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ التَّرَدُّدُ وَعَدَمُ السَّبْقِ وَالضَّعْفُ عِنْدَ الذِّكْرِ، فَالْأَوَّلُ مَعَ الثَّالِثِ كَالْمُتَقَارِبِ لَكِنَّهُ قَصَدَ زِيَادَةَ تَوْضِيحٍ وَأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْغَزَالِيِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. (وَيَكُونُ) خَاطِرُ الشَّيْطَانِ (شَرًّا فِي الْأَغْلَبِ وَقَدْ يَكُونُ) خَاطِرُ الشَّيْطَانِ (خَيْرًا مَفْضُولًا) لَا لِذَاتِهِ بَلْ (لَأَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ) الْخَيْرِ (الْفَاضِلِ) فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَنْعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَبِالْآخِرَةِ يَرْضَى عَلَى ذَلِكَ (أَوْ يَجُرُّهُ) أَيْ الْعَبْدُ بِذَلِكَ الْخَيْرِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ الْمَفْضُولُ لَكِنْ الْمُنَاسِبُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ الْخَيْرُ مُطْلَقًا وَلَوْ فَاضِلًا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْمِنْهَاجِ الشَّيْطَانُ رُبَّمَا يَدْعُو إلَى الْخَيْرِ لِقَصْدِ الشَّرِّ كَالدَّعْوَةِ إلَى الْمَفْضُولِ لِلْمَنْعِ عَنْ الْفَاضِلِ أَوْ الدَّعْوَةِ إلَى الْخَيْرِ لِيَجُرَّهُ إلَى ذَنْبٍ عَظِيمٍ لَا يَفِي خَيْرُهُ بِذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ عَجَبٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ (إلَى ذَنْبٍ عَظِيمٍ) ضَرَرًا مِنْ نَفْعِ الْخَيْرِ كَالنَّفْعِ الْجُزْئِيِّ لِلضَّرَرِ الْكُلِّيِّ، وَالْحَظْرُ رَاجِحٌ عَلَى مُطْلَقِ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْحُرْمَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ (وَعَلَامَتُهُ) مِنْ الشَّيْطَانِ لِلْمَنْعِ وَالْإِفْضَاءِ الْمَذْكُورَيْنِ (أَنْ يَكُونَ قَلْبُك فِيهِ) فِي ذَلِكَ الْخَيْرِ (مَعَ نَشَاطٍ) وَسُرُورٍ (لَا مَعَ خَشْيَةٍ) وَخُضُوعٍ (وَمَعَ عَجَلَةٍ لَا مَعَ تَأَنٍّ) لِأَنَّ الْعَجَلَةَ مِنْ الشَّيْطَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَالتَّأَنِّي مِنْ الرَّحْمَنِ وَفِي الْمِنْهَاجِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا فِي خَمْسَةٍ تَزْوِيجِ الْبِكْرِ إذَا أَدْرَكَتْ، وَقَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا وَجَبَ، وَتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إذَا مَاتَ، وَقِرَى الضَّيْفِ إذَا نَزَلَ، وَالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبٍ إذَا أَذْنَبَ» (وَمَعَ أَمْنٍ لَا مَعَ

خَوْفٍ وَمَعَ عَمَى الْعَاقِبَةِ لَا مَعَ بَصِيرَةٍ) قِيلَ مِنْ الْخَوَاطِرِ مَا يَعْرِضُ مِنْ جِهَةِ الْمِزَاجِ مُمِيلًا إلَى مَا يُوَافِقُ فَهَذَا إذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ شَهْوَةً وَضِدُّهُ نُفْرَةٌ وَمِنْهُ مَا يَعْرِضُ لِنَيْلِ رُتْبَةٍ فَإِذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ هِمَّةً وَمِنْهُ مَا يَعْرِضُ بَاعِثًا عَلَى الْفِعْلِ الْقَبِيحِ فَإِذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ سَيِّئَةً وَمِنْهُ مَا يَعْرِضُ بِاسْتِعْجَالِ اللِّقَاءِ فَإِذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ شَوْقًا وَمِنْهُ مَا يَعْرِضُ بِتَثْبِيتِ حُكْمٍ أَوْ شَيْءٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ عِلْمًا وَإِنْ مُتَرَدِّدًا سُمِّيَ شَكًّا فَإِنْ عَرَضَ بِذِكْرِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الثَّبَاتِ سُمِّيَ جَهْلًا وَلِجَمِيعِ الْأَخْلَاقِ وَالْخِصَالِ خَوَاطِرُ مَتَى تَمَكَّنَتْ سُمِّيَتْ بِأَسْمَاءٍ تَخُصُّهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مِنْ الْخَاطِرِ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَلَكِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ مَا خَرَّجَ (س ت) النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «فِي الْقَلْبِ لَمَّتَانِ» تَثْنِيَةُ لَمَّةٍ بِالْفَتْحِ مِنْ الْإِلْمَامِ وَهُوَ الْقُرْبُ وَقِيلَ بِمَعْنَى الْمَسِّ «لَمَّةٌ مِنْ الْمَلَكِ بِإِيعَادٍ» عَلَى زِنَةِ إفْعَالٍ «بِالْخَيْرِ» فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقَاضِي وَإِنْ اخْتَصَّ بِالشَّرِّ عُرْفًا يُقَالُ أَوْعَدَهُ إذَا وَعَدَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشَاكَلَةِ لِمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِمَا قَبْلَهَا وَإِنْ كَثُرَ فِيهِ أَوْ لِلْأَمْنِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ بِذِكْرِ الْخَيْرِ «وَتَصْدِيقٍ بِالْحَقِّ» فَإِنَّ الْمَلَكَ وَالشَّيْطَانَ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى الْقَلْبِ تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ لَيْلُهُ أَطْوَلَ مِنْ نَهَارِهِ وَآخَرُ بِضِدِّهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ زَمَنُهُ نَهَارًا كُلَّهُ وَآخَرُ بِضِدِّهِ «وَلَمَّةٌ مِنْ الْعَدُوِّ» أَيْ الشَّيْطَانِ «بِإِيعَادٍ بِالشَّرِّ» مِمَّا يُؤَدِّي إلَى كُلِّ مَا فِيهِ خَطَرٌ إلَى تَرْكِ الْفَاضِلِ بِإِرَاءَةِ الْمَفْضُولِ «وَتَكْذِيبٍ بِالْحَقِّ وَنَهْيٍ عَنْ الْخَيْرِ» كَعَقَائِدِ أَهْلِ الْبِدَعِ. قَالَ فِي الْفَيْضِ الْمَلَكُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ شَأْنُهُ إفَاضَةُ الْخَيْرِ وَإِفَادَةُ الْعِلْمِ وَكَشْفُ الْحَقِّ وَالْوَعْدِ بِالْمَعْرُوفِ. وَالشَّيْطَانُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقٍ شَأْنُهُ الْوَعِيدُ بِالشَّرِّ وَالْأَمْرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْقَلْبُ مُتَجَاذَبٌ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَالْمَلَكِ فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً وَقَفَ عِنْدَ هَمِّهِ فَمَا كَانَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَمْضَاهُ وَمَا كَانَ مِنْ عَدُوِّهِ جَاهَدَهُ وَالْقَلْبُ بِأَصْلِ الْفِطْرَةِ صَالِحٌ لِقَبُولِ آثَارِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ مُتَسَاوِيًا لَكِنْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْإِكْبَابِ عَلَى الشَّهَوَاتِ أَوْ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَمُخَالَفَتِهَا (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) قِيلَ عَنْ التَّيْمِيِّ فِيهِ عَدِيُّ بْنُ عَمَّارٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ضَعْفَهُ لَا يَضُرُّ بِاحْتِجَاجِنَا هُنَا (أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «إنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خُرْطُومَهُ» كَزُنْبُورِ الْأَنْفِ أَوْ مُقَدَّمِهِ أَوْ مَا ضَمَمْت عَلَيْهِ الْحَنَكَيْنِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ هَذَا الْمَخْرَجِ وَاضِعٌ خَطْمَهُ وَفُسِّرَ أَيْ فَمُهُ وَأَنْفُهُ وَالْخَطْمُ مِنْ الطَّيْرِ مِنْقَارُهُ وَمِنْ الدَّابَّةِ مُقَدَّمُ أَنْفِهَا وَفَمِهَا «عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَإِنْ» وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَإِذَا ( «ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى خَنَسَ» تَأَخَّرَ وَانْقَبَضَ ( «وَإِنْ نَسِيَ اللَّهَ تَعَالَى الْتَقَمَ قَلْبَهُ» يَجْعَلُ قَلْبَهُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ. قَالَ فِي الْفَيْضِ فَبُعْدُ الشَّيْطَانِ مِنْ الْإِنْسَانِ عَلَى قَدْرِ ذِكْرِهِ وَالنَّاسُ فِيهِ يَتَفَاوَتُونَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ رَأَيْت إبْلِيسَ فَأَخَذَ عَنِّي نَاحِيَةً، فَقُلْت تَعَالَ، فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَعْمَلُ بِكُمْ لَزِمْتُمْ الذِّكْرَ وَطَرَحْتُمْ مَا أُخَادِعُ بِهِ قُلْت مَا هُوَ قَالَ الدُّنْيَا فَوَلَّى ثُمَّ الْتَفَتَ وَقَالَ بَقِيَ لِي فِيكُمْ لَطِيفَةٌ هِيَ السَّمَاعُ وَصُحْبَةُ الْأَشْرَارِ قَالَ الْغَزَالِيُّ مَهْمَا غَلَبَ عَلَى الْقَلْبِ ذِكْرُ الدُّنْيَا وَمُقْتَضَيَاتُ الْهَوَى وَجَدَ الشَّيْطَانُ مَجَالًا فَوَسْوَسَ وَمَهْمَا انْصَرَفَ الْقَلْبُ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ارْتَحَلَ الشَّيْطَانُ وَضَاقَ مَجَالُهُ وَقَالَ الْحَكِيمُ قَدْ أُعْطِيَ الشَّيْطَانُ وَجُنْدُهُ السَّبِيلَ إلَى فِتْنَةِ الْآدَمِيِّ وَتَزْيِينِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُ طَمَعًا فِي غَوَايَةٍ فَهُوَ يُهَيِّجُ النُّفُوسَ إلَى تِلْكَ الزِّينَةِ تَهْيِيجًا يُزَعْزِعُ أَرْكَانَ الْبَدَنِ وَيَسْتَفِزُّ الْقَلْبَ حَتَّى يُزْعِجَهُ عَنْ مَقَرِّهِ وَلَا يَعْتَصِمُ بِشَيْءٍ أَوْثَقَ مِنْ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَاجَ الذِّكْرُ مِنْ الْقَلْبِ هَاجَتْ الْأَنْوَارُ فَاشْتَعَلَ الصَّدْرُ بِنَارِ

الْأَنْوَارِ وَهَيَّجَ الْعَدُوُّ نَارَ الشَّهَوَاتِ وَإِذَا رَأَى الْعَدُوُّ هَيَجَانَ الذِّكْرِ مِنْ الْقَلْبِ وَلَّى هَارِبًا وَخَمَدَتْ نَارُ الشَّهَوَاتِ وَامْتَلَأَ الصَّدْرُ نُورًا فَبَطَلَ كَيْدُهُ وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِ الْآدَمِيِّ فَرَأَى فِي الْمَنَامِ جَسَدَ رَجُلٍ يُشْبِهُ الْبَلُّورَ يُرَى دَاخِلُهُ مِنْ خَارِجِهِ وَالشَّيْطَانُ بِصُورَةِ ضِفْدِعٍ قَاعِدٍ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ لَهُ خُرْطُومٌ طَوِيلٌ أَدْخَلَهُ فِي مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ إلَى قَلْبِهِ يُوَسْوِسُ إلَيْهِ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يُشَاهَدُ فِي الْيَقَظَةِ وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ الْمُكَاشِفِينَ بِصُورَةِ كَلْبٍ جَاثِمٍ عَلَى جِيفَةٍ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا وَالْقَصْدُ أَنْ يُصَدَّقَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْكَشِفُ لِأَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَكَذَا الْمَلَكُ انْتَهَى. (وَ) أَمَّا (عَلَامَةُ خَاطِرِ الشَّرِّ مُطْلَقًا) سَوَاءٌ مِنْ اللَّهِ أَوْ الشَّيْطَانِ أَوْ النَّفْسِ (وَعَلَامَةُ خَاطِرِ الْخَيْرِ كَذَلِكَ) مُطْلَقًا سِوَى النَّفْسِ (فَلِمُعْرِفَتِهِمَا أَرْبَعَةُ مَوَازِينَ) جَمْعُ مِيزَانٍ (مَرْتَبَةٌ) لَا يَعْدِلُ إلَى ثَانِيهَا بِدُونِ تَعَثُّرٍ أَوَّلُهَا فِي الْكُلِّ (الْأَوَّلُ عَرْضُهُ عَلَى الشَّرْعِ فَإِنْ وَافَقَ) الْخَاطِرُ (جِنْسَهُ) فِعْلًا أَوْ تَرْكًا يَعْنِي لَا يَلْزَمُ مُوَافَقَةُ شَخْصِهِ إذْ رُبَّمَا لَا يُوجَدُ نَصٌّ عَلَى أَعْيَانِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ بَلْ يُوجَدُ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنْ الْمُجْتَهِدِ بِالنَّظَرِ إلَيْنَا بَلْ تَحْتَ قَوَاعِدِهِمْ الْكُلِّيَّةِ (فَخُيِّرَ وَإِنْ) وَافَقَ (ضِدُّهُ) ضِدَّ جِنْسِ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ عَيْنُهُ ثَابِتًا بِنَصٍّ وَلَا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ شَرْعٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْكُلِّيَّاتِ (فَشَرٌّ) قِيلَ فَإِنْ كَانَ نَفْلًا أَوْ فَرْضًا يُمْضِيهِ وَإِنْ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا يَنْفِيهِ وَإِنْ اسْتَوَى الْخَاطِرُ أَنْ يَنْفُذَ أَقَرَّ بِهِمَا إلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ وَهَذَا الْمِيزَانُ لِلْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ لَا لِكُلِّ، أَحَدٍ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا لَا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ فَلَيْسَ بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ دُخُولَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ تَحْتَ ذَلِكَ الْجِنْسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ هُوَ الْإِبَاحَةُ فَتَأَمَّلْ. (وَ) الْمِيزَانُ (الثَّانِي عَرْضُهُ) أَيْ الْخَاطِرِ (عَلَى عَالِمٍ) لَا مُطْلَقًا بَلْ (مِنْ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ) الْمُتَشَرِّعَةِ وَالْمُتَسَنِّنَةِ وَالْمُتَوَرِّعَةِ احْتِرَازٌ عَنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا الَّذِينَ يَجْعَلُونَ عُلُومَهُمْ آلَةً لِجَمْعِ الدُّنْيَا وَجَلْبِ الْأَمْوَالِ وَوُصُولِ الْمَنَاصِبِ وَالتَّرَفُّعِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى عُلُومِهِمْ وَلَا يَحْتَاطُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَجْتَنِبُونَ عَنْ الشُّبُهَاتِ، بَلْ يَرْتَكِبُونَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فَكُلَّمَا ازْدَادُوا عِلْمًا ازْدَادُوا مَقْتًا وَسُخْطًا وَإِنَّ عَمَلَهُمْ رِيَاءٌ وَعُجْبٌ وَنَحْوُهُمَا، فَهُمْ أَظْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لَا يَصْلُحُونَ لِلِاقْتِدَاءِ بَلْ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ وَالْفِرَارُ مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] (وَ) عَلَى (مُرْشِدٍ كَامِلٍ) فِي صِفَةِ الْإِرْشَادِ بِأَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَحُبِّ الْجَاهِ وَقَدْ كَانَ تَابِعٌ لِشَخْصٍ بَصِيرٍ تَتَسَلْسَلُ مُتَابَعَتُهُ إلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ مُحْسِنًا لِرِيَاضَةِ نَفْسِهِ مِنْ قِلَّةِ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ وَكَانَ بِمُتَابَعَةِ الشَّيْخِ الْبَصِيرِ جَاعِلًا مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ لَهُ سِيرَةً كَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْيَقِينِ وَالْخَسَارَةِ وَالْقَنَاعَةِ وَطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَالْحَيَاءِ وَالْوَفَاءِ وَالْوَقَارِ وَالتَّأَنِّي وَأَمْثَالِهَا، فَهُوَ إذَنْ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَصْلُحُ لِلِاقْتِدَاءِ لَكِنْ وُجُودُ مِثْلِهِ نَادِرٌ أَعَزُّ مِنْ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي نَصَائِحِهِ الْوَلَدِيَّةِ (إنْ وُجِدَ قِيلَ) أَيْ إنْ ظَفِرَ وَإِلَّا فَهُوَ مَوْجُودٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا تَخْلُو الْبِلَادُ عَنْهُ. (فَإِنْ قَالَ) هُوَ (خَيْرٌ فَخَيْرٌ) فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَإِنْ) قَالَ هُوَ (شَرٌّ فَشَرٌّ) عِنْدَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَمَانَةٍ فَإِنَّهُ صَاحِبُ تَصَرُّفٍ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ (وَالثَّالِثُ عَرْضُهُ عَلَى الصَّالِحِينَ) الْقَائِمِينَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ الْمُنْتَهِينَ عَنْ جَمِيعِ مَا نَهَى اللَّهُ الَّذِينَ صَرَفُوا رَيْعَانَ أَعْمَارِهِمْ بِمُجَاهَدَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَتَفَرَّغُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ وَجَعَلُوا عَزَائِمَ الْأَعْمَالِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَالْوَاجِبِ وَرُخَصَهَا كَالْمُحَرَّمِ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يَسْكُتَ عَنْ قَوْلِهِ وَمُرْشِدٌ كَامِلٌ فِي السَّابِقِ وَيَزِيدُ هُنَا أَوْ يَسْكُتُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ فَقَدْ ثَلَّثَ الْأَقْسَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَرْضَ عَلَى الْعَالِمِ لَعَلَّهُ أَرَادَ بِالصَّالِحِينَ مَا يَشْمَلُ

الْقِسْمَيْنِ أَوْ طَرِيقَ دَلَالَةِ النَّصِّ، وَالْمُصَنِّفُ أَرَادَ زِيَادَةَ تَوْضِيحٍ (فَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ اقْتِدَاءٌ بِهِمْ فَخَيْرٌ وَإِنْ بِالطَّالِحِينَ) الْفَاسِقِينَ ضِدُّ الصَّالِحِ (فَشَرٌّ وَالرَّابِعُ عَرْضُهُ عَلَى النَّفْسِ وَالْهَوَى) الَّذِي شَأْنُهُ الْمَيْلُ إلَى الشَّهَوَاتِ وَالْحَظِّ الْعَاجِلِ (فَإِنْ تَنْفِرُ عَنْهُ نَفْرَةَ طَبْعٍ) أَيْ هَوَى وَشَهْوَةٍ لَا نَفْرَةَ خَشْيَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (فَخَيْرٌ) لِأَنَّهَا إذَا خُلِّيَتْ وَطَبْعُهَا تَمِيلُ إلَى الشُّرُورِ وَتَنْفِرُ عَنْ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاهِيَ مَحْبُوبَةٌ فِي الْقُلُوبِ (وَإِنْ مَالَتْ إلَيْهِ مَيْلَ طَبْعٍ لَا مَيْلَ رَجَاءٍ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - فَشَرٌّ إذْ النَّفْسُ إذَا خَلَتْ) عَنْ الْعَوَارِضِ وَالْمَوَانِعِ (وَطَبْعُهَا) مَعَ طَبْعِهَا (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ عَنْ الْعُلَمَاءِ مَعْرِفَةُ خَاطِرِ الْخَيْرِ مِنْ الشَّرِّ بِثَلَاثَةٍ عَرْضُهُ عَلَى الشَّرْعِ فَإِنْ وَافَقَ جِنْسَهُ فَخَيْرٌ وَإِنْ بِالضِّدِّ بِرُخْصَةٍ أَوْ شُبْهَةٍ فَشَرٌّ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَبِاقْتِدَاءِ الصَّالِحِينَ أَوْ الطَّالِحِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَفْرَةِ الْهَوَى وَمَيْلِهِ فَبِالتَّثْلِيثِ وَالتَّرْتِيبِ وَالْمُصَنِّفُ بِالتَّرْبِيعِ وَالْإِطْلَاقِ لَعَلَّ الظَّاهِرَ التَّخْيِيرُ لَا التَّرْتِيبُ. (وَأَمَّا حِيَلُ الشَّيْطَانِ) الْمُوَكَّلِ عَلَى ابْنِ آدَمَ؛ لِأَنَّ الْمَعَادَ الْمُعَرَّفَ عَيْنُ الْأَوَّلِ (وَمُخَادَعَاتُهُ) الْخُدْعَةُ الْحِيلَةُ أَيْضًا وَالْمَنْعُ (فِي الطَّاعَةِ فَمِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ) بِاسْتِقْرَاءِ الْمَشَايِخِ (أَوَّلُهَا أَنْ يَنْهَاهُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الطَّاعَةِ بِالْمُيُولَاتِ وَالتَّلَذُّذَاتِ وَبِإِرَاءَةِ التَّشَهِّيَاتِ قِيلَ وَسَنَدُ نَهْيِهِ فِي الْغَالِبِ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِك فَقُلْ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] . وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَغْفِرُ لَك وَيُدْخِلُك الْجَنَّةَ بِلَا عَمَلٍ فَقُلْ {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] . وَالثَّالِثُ: أَنَّ عِبَادَتَك مَعِيبَةٌ مَشُوبَةٌ بِالرِّيَاءِ وَنَحْوِهِ وَإِنَّك لَسْت بِمُتَّقٍ فَلَا تُقْبَلُ مِنْك، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] فَسَعْيُك ضَائِعٌ وَتَعْذِيبُ حَيَوَانٍ بِلَا فَائِدَةٍ فَقُلْ مُرَادِي دَفْعُ عَذَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَإِذَنْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ بَلْ عَلَى اسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ إذْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ لَا يَخْفَى إنْ صَحَّ كَوْنُهُ مَا ذَكَرَ أَسَانِيدَ هَذَا النَّهْيِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ جَوَابُهَا إلَى جَوَابِ الْمُصَنِّفِ، وَدَعْوَى الْإِرْجَاعِ بَعِيدٌ سِيَّمَا فِي الْبَعْضِ لَعَلَّ أَقْوَى الْأَسَانِيدِ الْمِرَاءُ لَا يَلِيقُ بِعَمَلِهِ بَلْ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ - تَعَالَى - إذْ رُبَّ عَابِدٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَرُبَّ فَاسِقٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ حَفِظَهُ

(رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ) قَوْلًا مَعْقُولًا لَا مَلْفُوظًا وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا لِلشَّيْطَانِ (إنِّي مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ) الطَّاعَةِ وَلَوْ اسْتِحْبَابًا (جِدًّا) احْتِيَاجًا قَطْعِيًّا إذْ الْفَرَائِضُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا لِلتَّخَلُّصِ مِنْ وِزْرِ تُرُوكِهَا وَلِثَوَابِهَا أَيْضًا، وَنَحْوُ الِاسْتِحْبَابِ لِثَوَابِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» أَيْ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ (إذْ لَا بُدَّ مِنْ التَّزَوُّدِ) أَخْذِ الزَّادِ سِيَّمَا بِخَيْرِ الزَّادِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُسَافِرٍ سِيَّمَا إلَى سَفَرٍ بَعِيدٍ مِنْ الزَّادِ، وَزَادُ الْمُسَافِرِ لِلسَّيْرِ إلَى اللَّهِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] وَ {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8] كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ) السَّرِيعَةِ الزَّوَالِ (لِلْآخِرَةِ الَّتِي لَا انْقِضَاءَ لَهَا) وَلَا انْقِطَاعَ. قَالَ فِي النَّصَائِحِ الْوَلَدِيَّةِ لِلْغَزَالِيِّ إنَّ رَجُلًا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ عَبَدَ اللَّهَ سَبْعِينَ سَنَةً فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ مَلَكًا يُخْبِرُهُ أَنَّهُ مَعَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ لَا يَلِيقُ بِهِ فَلَمَّا بَلَغَهُ قَالَ الْعَابِدُ نَحْنُ خُلِقْنَا لِلْعِبَادَةِ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ الْمَلَكُ قَالَ إلَهِي أَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ فَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - إذًا هُوَ لَمْ يُعْرِضْ عَنْ عِبَادَتِنَا فَنَحْنُ مَعَ الْكَرَمِ لَا نُعْرِضُ عَنْهُ اشْهَدُوا يَا مَلَائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِدُونِ الْجَهْدِ يُحَصِّلُ فَهُوَ مُتَمَنٍّ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِبَذْلِ الْجَهْدِ يَصِلُ فَهُوَ مُتَعَنٍّ، وَأَمَّا إذَا عَادَ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَوْ أَوْجَبَ الْعَمَلُ النَّفْعَ لَا تَنْفَعُ نَحْوُ بِرْصِيصَ وَبَلْعَامَ وَلَوْ أَخَّرَ تَرْكَ الْعَمَلِ لَتَضَرَّرَ نَحْوُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ فَسَنَدْفَعُ مِنْ جَوَابِ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ انْدَفَعَ أَيْضًا بِمَا ذُكِرَ آنِفًا. (ثُمَّ) إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَيَنْتَقِلُ إلَى آخَرَ (يَأْمُرُهُ) أَيْ يَأْمُرُ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ (بِالتَّسْوِيفِ) أَيْ بِتَأْخِيرِ الْعَمَلِ إمَّا أَوَانَ الشَّيْبِ أَوْ إلَى فَرَاغِ عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا أَوْ إلَى وَقْتٍ مُبَارَكٍ أَوْ مَكَان مُبَارَكٍ (فَإِنْ) لِلشَّرْطِ (عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُ) أَرَادَ عِصْمَتَهُ، الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّ أَجْوِبَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ إنَّمَا هِيَ بِعِصْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَطْ وَلَا دَخْلَ لِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ جَبْرٌ مَحْضٌ مُخِلٌّ لِقَاعِدَةِ التَّكْلِيفِ وَسَتَعْلَمُ مِنْ قَاعِدَةِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ مَا مِنْ مَذْهَبٍ إلَّا وَفِيهِ قَدَمٌ رَاسِخٌ مِنْ الْجَبْرِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَهُمَا (بِأَنْ قَالَ لَيْسَ أَجَلِي بِيَدِي) بَلْ بِيَدِ اللَّهِ فَلَا يُمْكِنُ إطَالَتُهُ وَلَا أَعْلَمُ وَقْتَهُ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ فِي كُلِّ نَفَسٍ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ وَظِيفَةُ طَاعَةٍ وَلَوْ أَخَّرْت طَاعَةَ هَذَا الْوَقْتِ إلَى وَقْتٍ آخَرَ فَمَا أَفْعَلُ بِوَظِيفَةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ (عَلَى أَنِّي إنْ سَوَّفْت) مِنْ سَوْفَ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ (عَمَلَ الْيَوْمِ إلَى غَدٍ فَعَمَلُ الْغَدِ مَتَى أَعْمَلُهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلًا) مَخْصُوصًا بِهِ لَا يُتَدَارَكُ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ مَشْغُولٍ بِوَظِيفَتِهِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلَكَ الْمُسَوِّفُونَ» وَلَوْ فُرِضَ وِصَالَهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي سَوَّفَهُ لَا قَاطِعَ لَهُ بِتَدَارُكِهِ بَلْ أَوْلَى أَنْ

يُعَطِّلَهُ لِكَوْنِهِ مَطْبُوعًا فِي الْأَوْقَاتِ الْخَالِيَةِ بِالتَّرْكِ وَلَوْ سَلِمَ تَدَارُكُ هَذَا الْوَقْتِ بِالطَّاعَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ فَقِيرًا مُفْلِسًا مَغْبُونًا. قَالَ الْحَسَنُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعِبَادِهِ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَاقْتَسِمُوهَا بِقَدْرِ أَعْمَالِكُمْ. (ثُمَّ) إذَا أُفْحِمَ مِنْ هَذَا (يَأْمُرُهُ بِالْعَجَلَةِ فَيَقُولُ لَهُ عَجِّلْ) فِي طَاعَتِك بِتَخْفِيفِ أَرْكَانِهَا وَأَفْعَالِهَا (لِتَتَفَرَّغَ لِكَذَا وَكَذَا) مِنْ طَاعَةٍ أُخْرَى أَوْ لِنَحْوِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَنْعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَرْضَى بِالْخَلَلِ فِي أَوْصَافِ الْعِبَادَةِ لِيُنْقِصَ أَجْرَهُ، أَوْ لَأَنْ يُؤَدِّيَ إلَى أَعْظَمَ مِنْهُ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى التَّرْكِ بِالْكُلِّيَّةِ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ قَلِيلُ الْعَمَلِ مَعَ التَّمَامِ) فِي غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ (خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِهِ مَعَ النُّقْصَانِ) إذْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا التَّامَّ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ إتْيَانَ بَعْضِ الْفَرَائِضِ بِالتَّمَامِ مَعَ تَرْكِ الْآخَرِ خَيْرٌ مِنْ إتْيَانِ الْكُلِّ مَعَ النُّقْصَانِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ» أَيْ مُوَدِّعٍ لِهَوَاهُ مُوَدِّعٍ لِعُمُرِهِ وَسَائِرٍ إلَى مَوْلَاهُ. (ثُمَّ) إذَا لَمْ يَنْتَفِعْ مِنْ ذَلِكَ (يَأْمُرُهُ بِإِتْمَامِ الْعَمَلِ) بِشَرَائِطِهِ وَآدَابِهِ مَعَ جَمِيعِ مُكَمِّلَاتِهِ وَلَكِنْ (مَعَ الْمُرَاءَاةِ فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ النَّاسُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعٍ وَضَرَرٍ) عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [الفرقان: 3] فَلَأَنْ لَا يَمْلِكُوا لِغَيْرِهِمْ أَوْلَى يَعْنِي: أَنَّ الرِّيَاءَ إمَّا لِجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِهِ - تَعَالَى - أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا فَعَبَثٌ وَسَعْيٌ بَاطِلٌ (أَفَلَا يَكْفِينِي رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى النَّافِعِ الضَّارِّ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا جَوَابُ تَحْقِيقٍ لَا إلْزَامِيٌّ إذْ حِيلَةُ الشَّيْطَانِ بِالرِّيَاءِ إنَّمَا هِيَ الْأَسْبَابُ الْعَادِيَّةُ وَالْجَوَابُ لَيْسَ بِهَا بَلْ بِمَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مَقَامُ الْخَوَاصِّ فَتَأَمَّلْ. (ثُمَّ) إذَا أَيِسَ مِنْ إيقَاعِ خَلَلٍ فِي طَاعَتِهِ (يُوقِعُهُ فِي الْعُجْبِ فَيَقُولُ مَا أَيْقَظَك) مَا قُوَّةَ يَقَظَتِك وَشِدَّةَ فَطَانَتِك (وَ) مَا (أَعْقَلَك) كَثْرَةَ عَقْلِك حَيْثُ (تَنَبَّهْت) مِنْ الْغَفْلَةِ (لِمَا لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ غَيْرُك) وَارْتَقَيْت مَا لَمْ يَرْتَقُوا إلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَرَضِيَّةِ وَالطَّاعَاتِ الْمَقْبُولَةِ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ الْمِنَّةُ) النِّعْمَةُ (لِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ) التَّيَقُّظِ وَالتَّعَقُّلِ (دُونِي) أَيْ لَيْسَ مِنِّي إذْ هُوَ بِمَحْضِ خَلْقِهِ وَتَأْثِيرِهِ فَلَفْظُ دُونِي مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ دُونَ وَيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَدُونَ بِمَعْنَى غَيْرٍ وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ مَعْنَاهُ أَدْنَى مَكَان مِنْ الشَّيْءِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْحَالِ نَحْوُ: زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو أَيْ فِي الشَّرَفِ وَاتَّسَعَ فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي تَجَاوُزِ حَدٍّ إلَى حَدٍّ نَحْوُ - {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]- أَيْ لَا يَتَجَاوَزُوا وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ إلَى وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ (فَهُوَ الَّذِي خَصَّنِي بِتَوْفِيقِهِ) فِي صَرْفٍ وَسَعْيٍ إلَى الْعَمَلِ بِإِخْطَارِ الْمُيُولَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَمَلِ وَخَلْقِهِ عِنْدَ صَرْفِ إرَادَتِي إلَيْهِ (وَجَعَلَ لِعَمَلِي قِيمَةً عَظِيمَةً) لَا اسْتِحْقَاقِيَّةً بَلْ (بِفَضْلِهِ) وَكَرَمِهِ (وَلَوْلَا فَضْلُهُ لَمَا كَانَ لَهُ) لِعَمَلِي (قِيمَةٌ فِي جَنْبِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]

(وَجَنْبِ مَعْصِيَتِي لَهُ) وَلَا يُكَافِئُ عَمَلِي أَقَلَّ قَلِيلٍ مِنْ نِعَمِهِ فَكَيْفَ أُعْجَبُ وَأَيْضًا رَدُّهُ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ طَاعَاتِ الْمُتَوَرِّعِينَ وَعِبَادَاتِ الْمُتَّقِينَ وَكَيْفِيَّةَ وَرَعِهِمْ فَيَسْتَحْقِرَ طَاعَتَهُ، ثُمَّ إنْ رَجَعَ الشَّيْطَانُ وَقَالَ الْأَعْقَلِيَّةُ بِاعْتِبَارِ مَدْخَلِيَّةِ كَسْبِ الْعَبْدِ فَإِنَّ عَادَتَهُ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ الطَّاعَةِ إنَّمَا هِيَ بِصَرْفِ الْعَبْدِ إرَادَتَهُ الْجُزْئِيَّةَ سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ بِمَجْمُوعِ قُدْرَتَيْ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ عَلَى أَنْ تُؤَثِّرَا فِي أَصْلِ الْفِعْلِ كَمَذْهَبِ الْأُسْتَاذِ وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فَلَعَلَّ الْجَوَابَ وَالرَّدَّ بَعْدَ عَمَلِهِ حَقِيرًا لِمُقَارَنَتِهِ بِالْعُيُوبِ وَالْقُصُورِ فِي الْجِنَانِ وَالْأَرْكَانِ لِعَدَمِ الْخُضُوعِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَالْخَشْيَةِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَأَيْضًا بُعْدُهُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَعْمَالِ الْأَسْلَافِ وَالْمَشَايِخِ الْكَامِلِينَ، فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنَّفِ أَنْ يَجْعَلَ الرَّدَّ بِنَحْوِهِ ابْتِدَاءً. (ثُمَّ) إذَا أَيِسَ مِنْ ذَلِكَ يَأْتِيهِ مِنْ وَجْهٍ سَادِسٍ وَ (يَقُولُ اجْتَهِدْ أَنْتَ فِي السِّرِّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُظْهِرُهُ) إلَى خَلْقِهِ (وَيَجْعَلُك شَرِيفًا خَطِيرًا) ذَا رِفْعَةٍ وَهَيْبَةٍ وَرِيَاسَةٍ (بَيْنَ النَّاسِ) بِسَبَبِ اجْتِهَادِك فِي السِّرِّ. أَقُولُ هَذِهِ الْحِيلَةُ مِنْ جَانِبِ الشَّيْطَانِ مُنْدَفِعَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعٍ وَضُرٍّ إلَى آخِرِهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَأَرَادَ بِذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ) فِي كَوْنِهِ مِنْ بَابِ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ خَفَاءً إذْ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَمَلُهُ لِنَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ مَحْضٍ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ أَمْرًا مُغَايِرًا لِمَا تَقَدَّمَ فَضْلًا عَنْ جَعْلِهِ أَمْرًا مُؤَخَّرًا مِنْهُ فَافْهَمْ لَكِنْ هَذَا الْمَقَامُ بِعَيْنِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمِنْهَاجِ فَكَأَنَّهُ تَبِعَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ مُغَايَرَةِ الْخَاصِّ لِلْعَامِّ مُغَايَرَةً مَا وَلَوْ اعْتِبَارًا فَتَأَمَّلْ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ) يَا مَلْعُونُ إلَى الْآنَ كُنْت تَأْتِينِي مِنْ وَجْهِ إفْسَادِ عَمَلِي وَالْآنَ تَأْتِينِي مِنْ وَجْهِ إخْلَاصِهِ لِتُفْسِدَهُ (إنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ سَيِّدِي) صِحَّةُ إطْلَاقِ السَّيِّدِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى كَوْنِ أَسْمَائِهِ تَوْقِيفِيَّةً كَالْأَشَاعِرَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ إلَّا أَنْ يُبْنَى عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ الصِّفَةِ وَلَمْ يُوهِمْ شَيْئًا لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا بَلْ أَشْعَرَ تَعْظِيمًا كَمَا مَرَّ. وَيَدَّعِي كَوْنَ هَذَا مِنْهُ (إنْ شَاءَ أَظْهَرَ) عَمَلِي لَكِنْ إنْ تَعَلَّقَتْ الْمَشِيئَةُ بِالْإِظْهَارِ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَحْذُورُ مِنْ الشَّرَفِ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الرَّدِّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ تَمَامَ الرَّدِّ بِقَوْلِهِ فَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ (وَإِنْ شَاءَ أَخْفَى) كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَوْلَى فِي عَبِيدِهِ (وَإِنْ شَاءَ جَعَلَنِي خَطِيرًا وَإِنْ شَاءَ حَقِيرًا وَذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ وَالْجُعْلَيْنِ مَوْكُولٌ (إلَيْهِ تَعَالَى) إذْ أُمُورُ الْعَبِيدِ وَتَصَرُّفُهُمْ إلَى مَوْلَاهُمْ (وَلَا أُبَالِي إنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ أَوْ لَمْ يُظْهِرْهُ) فَالْإِظْهَارُ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ عِنْدِي (فَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ) نَحْوُ الشَّرَفِ عِنْدَ الظُّهُورِ فَلَا يَخْفَى رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِهِ أَفَلَا يَكْفِينِي رُؤْيَةُ اللَّهِ النَّافِعِ الضَّارِّ إلَّا أَنْ يُقَالَ وَلَئِنْ سُلِّمَ الرُّجُوعُ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَيْنَهُ فَأَصْلُ الْمُغَايَرَةِ كَافٍ لَكِنْ إنْ عَادَ اللَّعِينُ، وَقَالَ إنَّ عَادَتَهُ - تَعَالَى - جَارِيَةٌ فِي جَعْلِهِ خَطِيرًا بِإِظْهَارِ الْعِبَادَةِ لِلنَّاسِ فَبِالْآخِرَةِ يُضْطَرُّ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ بَلْ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - لَكِنْ إنْ عَادَ وَقَالَ إنْ أُرِيدَ النَّفْعُ الصُّورِيُّ أَوْ الْعَادِيُّ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ كَوْنِهِ مِنْ النَّاسِ وَإِنْ الْحَقِيقِيُّ فَنُسَلِّمُ ذَلِكَ لَكِنْ

مَقْصُودُك حَاصِلٌ فِي الصُّورِيِّ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ فِي الرَّدِّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الِاغْتِرَارَ عَلَى الصُّورِيِّ ضَلَالٌ وَوَبَالٌ إذْ هُوَ مَجَازِيٌّ سَرِيعُ الزَّوَالِ وَمُوجِبٌ لِكُلِّ خُسْرَانٍ وَبَاعِثٌ لِفَوْتِ فُرْصَةِ ذَخَائِرِ الْجِنَانِ. (ثُمَّ) يَأْتِيهِ مِنْ وَجْهٍ سَابِعٍ (يَقُولُ آخَرُ) بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْ جَمِيعِ الْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَةِ (لَا حَاجَةَ لَك إلَى هَذَا الْعَمَلِ؛ لِأَنَّك إنْ خُلِقْت سَعِيدًا) فِي الْأَزَلِ فِي الْحُكْمِ الْقَدِيمِ وَحَضْرَةِ عِلْمِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ أَوْ فِي اللَّوْحِ أَوْ عِنْدَ نَفْخِ الْمَلَكِ الرُّوحَ فِي بَطْنِ الْأُمِّ (لَمْ يَضُرَّك تَرْكُ الْعَمَلِ) لِأَنَّ مَصِيرَك الْجَنَّةُ عَمِلْت أَوْ لَمْ تَعْمَلْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّفُ مُرَادُهُ عَنْ إرَادَتِهِ وَلَا يَتَبَدَّلُ حُكْمُهُ تَعَالَى (وَإِنْ خُلِقْت شَقِيًّا) فِي الْأَزَلِ كَذَلِكَ (لَمْ يَنْفَعْك الْعَمَلُ) لِأَنَّ مَصِيرَك النَّارُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَإِنْ كَثُرَ لَا يَدْفَعُ الشَّقَاوَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْحُكْمِ الْقَدِيمِ وَالْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ (فَفِيمَ) أَصْلُهُ فِيمَا كَمَا فِي عَمَّ فَحُذِفَتْ أَلْفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّة لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا (تَجْتَهِدُ) وَتُتْعِبُ نَفْسَك فِي أَمْرٍ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ نَفْعٌ بِتَعَبِك (وَتَتْرُكُ رَاحَتَك وَتَضُرُّ نَفْسَك) بِتَحْمِيلِ مَشَاقِّ الطَّاعَاتِ وَتَكَلُّفَاتِ الْعِبَادَاتِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُبْطِلُ قَاعِدَةَ التَّكْلِيفِ وَيَسْتَلْزِمُ عَدَمَ فَائِدَةِ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَوَضْعِ الشَّرَائِعِ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ وَ) الْوَاجِبُ (عَلَى الْعَبْدِ امْتِثَالُ أَمْرِ سَيِّدِهِ) فِعْلًا أَوْ كَفًّا يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ جَانِبِ اللَّعِينِ إنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا يَتَأَتَّى عِنْدَ خَوْفِ الْعِقَابِ بِالْمُخَالَفَةِ وَالثَّوَابِ بِالِامْتِثَالِ وَلَيْسَ حِينَئِذٍ فَلَيْسَ إذْ الْوُجُوبُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِمَا فِي مُتَارَكَتِهِ عِقَابٌ كَمَا فِي الْأُصُولِ (وَالرَّبُّ أَعْلَمُ بِرُبُوبِيَّتِهِ) أَيْ بِسَبَبِ رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ بِأَحْوَالِ تَرْبِيَتِهِ عِبَادَهُ فَانْتَظِرْ قَرِيبًا (فَيَحْكُمُ مَا يَشَاءُ) مِنْ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ (وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ مِنْ الْأَجْوِبَةِ الْمُسْكِتَةِ إنَّ إبْلِيسَ ظَهَرَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ أَلَسْت تَقُولُ إنَّهُ لَنْ يُصِيبَك إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَك، قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَارْمِ نَفْسَك مِنْ ذُرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ فَإِنَّهُ إنْ يُقَدِّرْ لَك السَّلَامَةَ سَلِمْت، قَالَ يَا مَلْعُونُ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَبِرَ رَبَّهُ ثُمَّ إنْ قَالَ اللَّعِينُ إنْ كَانَ حُكْمُهُ وَمَشِيئَتُهُ فِيك هُوَ السَّعَادَةُ فَلَا تَضُرُّك الْمَعْصِيَةُ وَإِنْ الشَّقَاوَةَ فَلَا تَنْفَعُك الْعِبَادَةُ فَلَا تُفِيدُ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ نَفْعًا فِي دَفْعِ شُبْهَةِ الشَّيْطَانِ بَلْ تُقَوِّيَانِهَا فَالْأَوْلَى عَدَمُ ذِكْرِهِمَا هُنَا وَإِنْ وَقَعَ، كَذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمِنْهَاجِ بَلْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ إنَّمَا تَنْفَعَانِ إنْ كَانَتْ الشُّبْهَةُ لِمَ جَعَلَ الْبَعْضَ سَعِيدًا فِي الْأَزَلِ وَالْآخَرَ شَقِيًّا وَالْكُلُّ مُتَسَاوٍ فِي النِّسْبَةِ (وَلِأَنِّي يَنْفَعُنِي الْعَمَلُ كَيْفَ مَا كُنْت) وَأَيْضًا يَضُرُّنِي تَرْكُهُ لَعَلَّ الْجَوَابَ الْمُتَقَدِّمَ تَسْلِيمِي وَمَدَارُهُ مَا أُشِيرَ آنِفًا وَهَذَا الْجَوَابُ مَنْعِي يَعْنِي يَنْفَعنِي الْعَمَلُ سَوَاءٌ كُنْت شَقِيًّا فِي الْأَزَلِ أَوْ سَعِيدًا وَفِي آخِرِ عُمُرِي قِيلَ هُنَا عَنْ الْمُنَاوِيِّ مِنْهُمْ مَنْ رَاعَى جَانِبَ الْحُكْمِ السَّابِقِ وَجَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَمِنْهُمْ جَانِبُ الْخَاتِمَةِ كَذَلِكَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إذْ الْخَاتِمَةُ تَابِعَةٌ إلَيْهِ وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ وَشَقَاوَتُهَا تَابِعَةٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ (إنْ كُنْت سَعِيدًا) فِي الْأَزَلِ (احْتَجْت) لَعَلَّ الْأَوْلَى أَحْتَاجُ (إلَيْهِ) إلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ (لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ) وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ، قَالَ الْحَسَنُ يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِفَضْلِي وَاقْتَسِمُوهَا بِقَدْرِ أَعْمَالِكُمْ وَقَالَ طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَثُوبَاتِ الْمَزِيدَةَ وَالدَّرَجَاتِ كَنَفْسِ السَّعَادَةِ دَاخِلَةٌ فِي الْقَضَاءِ الْإِلَهِيِّ وَالْحُكْمِ الْأَزَلِيِّ حِينَئِذٍ وَلَا قَائِلَ بِالتَّخْصِيصِ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَإِنْ كُنْت شَقِيًّا فَكَذَلِكَ) أَيْ احْتَجْت إلَيْهِ (لِئَلَّا أَلُومَ) أَنَا مِنْ اللَّوْمِ (نَفْسِي) بِتَرْكِ الْعَمَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَيْضًا فَتْحُ هَذَا الْبَابِ يَقْتَضِي الْجَبْرَ لِكُلٍّ فِي عَمَلِهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اللَّوْمُ عَلَى التَّرْكِ لَعَلَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ عَلَى طَرِيقِ التَّسْلِيمِ (عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُنِي عَلَى) فِعْلِ (الطَّاعَةِ بِكُلِّ حَالٍ) سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ؛ لِأَنَّهُ

حَكِيمٌ وَكُلُّ فِعْلِهِ عَلَى حِكْمَةٍ وَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ عِقَابُ مَنْ أَطَاعَهُ بَلْ سَفَهٌ وَنَقْصٌ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْهُ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ عَدَمُ نَفْعِ إتْعَابِ النَّفْسِ لِلطَّاعَةِ عَلَى الشَّقَاوَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَبِالْجُمْلَةِ أَخْذُ الْأَمْرَيْنِ هُنَا لَازِمٌ إمَّا نَفْيُ الشَّقَاوَةِ الْأَزَلِيَّةِ أَوْ نَفْيُ نَفْعِ الطَّاعَةِ (وَلَا يَضُرُّنِي) الطَّاعَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الشُّبْهَةَ لَيْسَتْ فِي ضُرِّهَا بَلْ فِي نَفْعِهَا وَقِيلَ وَأَمَّا تَرْكُهَا فَيَضُرُّنِي لَا مَحَالَةَ يَرِدُ عَلَيْهِ عَلَى السَّعَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ كَيْفَ يَضُرُّ وَقِيلَ يَعْنِي أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَضُرُّنِي كَتَرْكِهِ فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي عَدَمِ النَّفْعِ وَعَدَمِ الضُّرِّ فَكَيْفَ أَخْتَارُ التَّرْكَ وَلَا مُخَاطَرَةَ فِي الْفِعْلِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي التَّرْكِ، وَالْعَاقِلُ يَتْرُكُ مَا فِيهِ الْمُخَاطَرَةُ وَيَأْتِي بِمَا فِيهِ عَدَمُ الْمُخَاطَرَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَيْضًا مَا فِيهِ وَلَعَلَّ أَيْضًا لِكُلِّ مَا ذُكِرَ قَالَ تَسْلِيمًا (عَلَى أَنِّي إنْ دَخَلْت النَّارَ وَأَنَا مُطِيعٌ) لِلَّهِ تَعَالَى (أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَدْخُلَهَا وَأَنَا عَاصٍ) إمَّا لِخِفَّةِ مُقَاسَاةِ النَّارِ وَشِدَّتِهَا وَإِمَّا لِعَدَمِ اللَّوْمِ عَلَى النَّفْسِ وَالتَّقْصِيرِ مِنْهَا، لِأَدَاءِ لَوَازِمِ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا يَرِدُ إنْ وُجِدَ الدُّخُولُ فَلَا أَحَبِّيَّةَ فِي أَحَدِهِمَا. لَكِنْ يَرِدُ أَنَّ دُخُولَ النَّارِ مَعَ الطَّاعَةِ أَصْعَبُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ دُخُولِهَا بِعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ السِّعَايَاتِ لِلطَّاعَاتِ وَعَدَمَ فَرْقِ طَاعَتِهِ مِنْ الْعِصْيَانِ يَعْظُمُ عَلَى النَّفْسِ (فَكَيْفَ) يُتَصَوَّرُ دُخُولُ النَّارِ سِيَّمَا خُلُودُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الطَّاعَةِ (وَ) الْحَالُ أَنَّ (وَعْدَهُ) تَعَالَى (حَقٌّ) لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ بَلْ يُنْجِزُهُ (وَقَوْلُهُ صَدَقَ) لِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ نَقْصٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} [النساء: 122] (وَقَدْ وَعَدَ) فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ فِي مَوَاضِعَ لَا تُحْصَى (عَلَى الطَّاعَاتِ بِالثَّوَابِ فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَلْبَتَّةَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ) لِعَدَمِ تَبْدِيلِ الْقَوْلِ لَدَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ فِي امْتِنَاعِ خُلْفِ وَعْدِهِ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي خُلْفِ وَعِيدِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ وَعْدَهُ مُقَيَّدٌ بِبَقَاءِ الْإِيمَانِ كَمَا حُرِّرَ فِي الْكَلَامِ فَمَا قِيلَ هُنَا وَإِنْ كَانَ ذَهَابُ الْإِيمَانِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ أَمْرًا مُمْكِنًا وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ وَاقِعًا وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالْيَقِينُ الْمُحَقَّقُ الْآنَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ فَكَلَامٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا حَاصِلَ هَذَا ثُمَّ يَرِدُ أَنَّ الْوَعْدَ الْإِلَهِيَّ يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَالشَّقَاوَةَ الْأَزَلِيَّةَ تُوجِبُ عَدَمَهَا بَلْ النَّارُ وَلَيْسَ لِمَا ذُكِرَ مُرَجِّحٌ بَلْ الْأَفَاعِيلُ الْأَزَلِيَّةُ تَابِعَةٌ لِلْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا ذُكِرَ وَكَيْفَ يَدْفَعُ حِيلَةَ الشَّيْطَانِ أَقُولُ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الصَّعْبَةِ أَنْ يَأْتِيَ أَوَامِرَهُ رَجَاءَ ثَوَابِهِ وَيَجْعَلَ أَحْكَامَ الْحُكْمِ الْأَزَلِيِّ وَتَفْصِيلَهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ لِقُصُورِ فَهْمِ الْإِنْسَانِ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَتِهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ (وَلِذَا) أَيْ لِصِدْقِ وَعْدِهِ (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى) حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] فِي الدُّنْيَا بِالْجَنَّةِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ (وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقَدْ وَعَدَ (مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ) جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ (وَقَدْ جَرَى عَادَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى رَبْطِ الْأَشْيَاءِ بِأَسْبَابٍ ظَاهِرَةٍ كَالْغَيْثِ) أَيْ الْمَطَرِ (لِلنَّبَاتِ وَالْجِمَاعِ لِلْوَلَدِ) وَلَا يَضُرُّ النَّقْصُ فِي الْقِلَّةِ كَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَكَالصَّيْفِ لِيَنْعِ الثِّمَارِ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَبِالْمُهْمَلَةِ هُوَ النُّضْجُ وَالْإِدْرَاكُ (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي سَبَبِيَّةِ الْأَعْمَالِ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]

مِنْ الصَّالِحَاتِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ هَذَا وَإِنْ وَافَقَ لِمَا فِي الْأُصُولِيَّةِ كَالتَّلْوِيحِ مِنْ أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ الْوَسِيلَةُ فَمُخَالِفٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» وَلِمَا فِي الْكَلَامِيَّةِ إنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ باستحقاقية بَلْ تَفْضِيلِيَّةٌ. قَالَ الْمَوْلَى حَسَنٌ حَلَبِيٌّ فِي حَاشِيَةِ التَّلْوِيحِ بَاءُ الْآيَةِ لِلْمُقَابَلَةِ وَبَاءُ الْحَدِيثِ لِلسَّبَبِيَّةِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت فَارْجِعْ تَجِدْ تَفْصِيلَهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] لِأَنَّ لِلْمُتَّقِينَ شَأْنًا عَلِيًّا عِنْدَنَا دُونَ الْفُجَّارِ فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَسْوِيَةَ الطَّائِفَتَيْنِ. (فَإِنْ لَمْ تَزُلْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ) إمَّا لِمَا أُشِيرَ مِنْ الْإِشْكَالِ أَوْ لِغُمُوضَةِ الْأَجْوِبَةِ لَا يَصِلُ إلَيْهَا أَوْ أَنَّهَا تَحْقِيقِيَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِهَا أَوْ لِمُجَرَّدِ الْعِنَادِ وَإِنْ فُهِمَ فَتَأَمَّلْ (وَيَعُودُ) اللَّعِينُ الْوَسْوَاسُ وَيَقُولُ (بِأَنَّ الْأَعْمَالَ أَيْضًا) كَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ (مُقَدَّرَةٌ) بِالتَّقْدِيرِ الْأَزَلِيِّ (فَلَا تَقْدِرُ عَلَى مُخَالَفَةِ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ (فَإِنْ قَدَّرَ لَنَا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ) وَحَكَمَ بِصُدُورِهَا مِنَّا (وَالسَّعْيَ لَهَا وَالْقَصْدَ إلَيْهَا حَصَلَتْ) تِلْكَ الْأَعْمَالُ (لَا مَحَالَةَ) لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْإِرَادَةِ عَنْ الْمُرَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعَجْزِ (وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ) اللَّهُ تِلْكَ الْأَعْمَالَ (اسْتَحَالَ وُجُودُهَا) إذْ لَا خَالِقَ سِوَاهُ وَلَا مُوجِدَ غَيْرُهُ وَلَوْ قَالَ وَإِنْ قُدِّرَ عَدَمُهَا لَكَانَ أَوْفَقَ لِمَا قَبْلَهُ وَأَظْهَرَ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ مَا اخْتَارَهُ أَشْمَلُ وَلَوْ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ فَالنَّفْعُ أَوْفَرُ لَكِنْ تَفْرِيعُ قَوْلِهِ (فَنَحْنُ مَجْبُورُونَ) عَلَى الْأَوَّلِ أَظْهَرُ (عَلَى الْعَمَلِ) إنْ كَانَ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِهِ (وَالتَّرْكُ) إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ أَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُحَصِّلَ الْعَمَلَ إنْ تَعَلَّقَتْ بِتَرْكِهِ وَكَذَا عَكْسُهُ (فَلَا يُفِيدُ الْقِيلُ وَالْقَالُ) عَنْ الْقَامُوسِ الْقِيلُ فِي الْخَيْرِ وَالْقَالُ فِي الشَّرِّ، وَعَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُمَا اُسْتُعْمِلَا اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ وَتُرِكَا عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ الْبِنَاءِ وَفُسِّرَ بِكَثْرَةِ الْمَقَالِ يَعْنِي بِأَنْوَاعِ الْأَجْوِبَةِ وَأَقُولُ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ لَيْسَتْ مُغَايِرَةً فِي الْحَقِيقَةِ لِلسَّعَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَشَقَاوَتِهَا بَلْ نَوْعٌ مِنْهَا إذْ مِنْ جُمْلَةِ السَّعَادَةِ التَّوْفِيقُ لِلْأَعْمَالِ كَالشَّقَاوَةِ لِعَدَمِهَا لَعَلَّ لِهَذَا اكْتَفَى الْغَزَالِيُّ بِمَا ذَكَرَ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ قِيلَ وَلَمْ يَأْتِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ عَلَى فَرْضِ عَدَمِ انْدِفَاعِ الشُّبَهِ الْمَذْكُورَةِ سِيَّمَا السَّابِعَةُ لَا يُفِيدُ هَذَا الدَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ اكْتِسَابُ الْأَعْمَالِ مَا لَمْ يُدْفَعْ الْإِشْكَالُ السَّابِعُ (فَقُلْ) لِلَّعِينِ فِي دَفْعِ وَسْوَسَتِهِ بِذَلِكَ (إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كُلَّهَا) خَيْرًا وَشَرًّا نَفْعًا وَضُرًّا (وَغَيْرَهَا) كَالْعِبَادِ أَنْفُسِهِمْ وَجَمِيعِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ مُجَرَّدًا أَوْ مَادِّيًّا (لَا خَالِقَ غَيْرُهُ لَكِنْ لِلْعِبَادِ) وَلَوْ حَيَوَانًا غَيْرَ إنْسَانٍ لَكِنْ الْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْمُكَلَّفُ (اخْتِيَارَاتٌ) إرَادَاتٌ (جُزْئِيَّةٌ) بِالتَّعَلُّقِ عَلَى فِعْلِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ جُزْئِيٍّ فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ ابْتِدَاءً بَلْ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْعَبْدِ خَالِقَهَا لِعَدَمِ وُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ وَالْمَخْلُوقُ مَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِيهِ لِمَا يُفَصِّلُهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا ذُكِرَ هَا هُنَا فَلَا يُنَافِي لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْكُلِّيَّةِ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ اللَّهِ ابْتِدَاءً أَوْ الْقَيْدُ وُقُوعِيٌّ لِاقْتِضَاءِ الْحَادِثَةِ وَالْوَاقِعَةِ إيَّاهُ كَيْفَ، بَلْ الْجُزْئِيَّةُ مُتَفَرِّعَةٌ مِنْ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ بِإِيجَادِهِ تَعَالَى فِي الْعَبْدِ بِلَا صُنْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ هِيَ الْإِرَادَةُ الْكُلِّيَّةُ الْمُجْمَلَةُ الْقَابِلَةُ لِلتَّعَلُّقِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَالْكُلِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَادِّ بِالْقُوَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْعَبْدِ، وَالْجُزْئِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ عِنْدَنَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا (وَإِرَادَاتٌ قَلْبِيَّةٌ) إمَّا عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوْ إرَادَةٌ كُلِّيَّةٌ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَقَرَّهَا هُوَ الْقَلْبُ وَالْإِرَادَةُ مَعَ الِاخْتِيَارِ إمَّا مُتَسَاوِيَانِ أَوْ لَا فَرْقَ مُعْتَدًّا بِهِ نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْهَامِشِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْ وُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ قَوْله تَعَالَى

{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] أَيْ إرَادَاتٍ مُلَابِسَةً بِأَنْفُسِهِمْ وقَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] وقَوْله تَعَالَى - {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 39]- الْآيَةَ، إذْ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَجْبُورًا لَمَا صَحَّ هَذِهِ الْبُغْيَةُ وَالتَّوْبِيخُ وَلَمَا صَحَّ لَوْمُ النَّفْسِ وَتَعْيِيرُهَا وَهُوَ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ حَتَّى أَقْسَمَ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ - {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]- وَلَمَا كَانَ لِلْخَتْمِ وَالطَّبْعِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى خَلْقِ الْمَشِيئَةِ وَلَمَا كَانَتْ النَّفْسُ بِالطَّبْعِ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ وَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مُعِينَةً لَهَا وَلَمَا كَانَ الْغَالِبُ اخْتِيَارَ الشَّرِّ لَوْلَا التَّوْفِيقُ وَالْعِنَايَةُ فَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] وَهَذَا مِمَّا أَلْهَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ انْتَهَى. (قَابِلَةٌ لِلتَّعَلُّقِ بِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ) أَعْنِي (الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ) فَلَيْسَ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى يَلْزَمَ الْجَبْرُ اعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِيَارَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّعَلُّقَ بِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ لَيْسَ الِاخْتِيَارَ الْجُزْئِيَّ بَلْ مَبْدَأَهُ الَّذِي هُوَ الْقُدْرَةُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ إذْ قَدْ عَرَفْت فِيمَا سَبَقَ أَنَّ هُنَا أَرْبَعَةَ أُمُورٍ، الْإِرَادَةُ الْكُلِّيَّةُ الصَّالِحَةُ لِتَعَلُّقِ كُلِّ مَقْدُورٍ ثُمَّ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ ثُمَّ صَرْفُ الْعَبْدِ هَذِهِ الْإِرَادَةَ عَلَى فِعْلٍ مُعَيَّنٍ جُزْئِيٍّ، ثُمَّ الِاسْتِطَاعَةُ التَّامَّةُ إلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ قَابِلَةٌ قَيْدٌ لِلْإِرَادَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَأُرِيدَ بِهَا الْإِشَارَةُ الْكُلِّيَّةُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا لَكِنْ يُنَافِي قَوْلَهُ (وَلَيْسَ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ) إذْ الْكُلِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ أَلْبَتَّةَ وَإِرْجَاعُ الضَّمِيرِ إلَى الِاخْتِيَارَاتِ الْجُزْئِيَّةِ فَقَطْ مَعَ كَوْنِهِ تَعْقِيدًا يُوجِبُ كَوْنَ قَوْلِهِ وَإِرَادَاتٌ قَلْبِيَّةٌ مُسْتَدْرَكًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِعَدَمِ نَفْعِهِ فِي الْجَوَابِ لَعَلَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ هِيَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ بِأَنَّهُ كَيْفَ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ بَلْ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ؛ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحَدِهِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ فَلَوْ تَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ لَأَوْجَبَهُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَجْبُورًا فَالْمَحْذُورُ بَاقٍ فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَخْلُوقًا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ كَأَصْلِهِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُتَّجَهُ بِأَنَّ تِلْكَ الِاخْتِيَارَاتِ إنْ مِنْ اللَّهِ فَالْمَحْذُورُ بَاقٍ وَإِنْ مِنْ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ خَالِقَهَا فَأَجَابَ أَنَّهُ مِنْ الْعَبْدِ وَلَيْسَ بِخَالِقٍ إيَّاهَا؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ وَلَيْسَ لَهَا وُجُودٌ وَالْخَلْقُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَإِنْ قِيلَ فَيُنَافِي حِينَئِذٍ قَوْلَهُ لِلْعِبَادِ اخْتِيَارَاتٌ إذْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً قُلْنَا الْمُثْبَتُ الْوُجُودُ بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْمَنْفِيُّ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْخَارِجَ ظَرْفٌ لِلِاخْتِيَارِ الْجُزْئِيِّ نَفْسِهِ لَا لِوُجُودِهِ وَالنَّفْيُ رَاجِعٌ إلَى هَذَا الْقَيْدِ لَا الْمُقَيَّدِ يَعْنِي مُطْلَقَ الْوُجُودِ سَالِمٌ عَنْ النَّفْيِ فَيَكُونُ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَعْدُومًا فِي الْخَارِجِ وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا فِي الْأَطْوَلِ لِلْعِصَامِ أَنَّ مِنْ بَيْنِ كَوْنِ الْخَارِجِ طَرَفًا لِنَفْسِ الشَّيْءِ وَكَوْنِهِ ظَرْفًا لِوُجُودِهِ فَرْقًا، فَإِنَّ قَوْلَنَا زَيْدٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ جُعِلَ فِيهِ الْخَارِجُ ظَرْفًا لِنَفْسِ الْوُجُودِ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَظْرُوفِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وُجُودَ مَا جُعِلَ ظَرْفًا لِوُجُودِهِ فَالْمَوْجُودُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ زَيْدٌ لَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ فِي قَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ فِي الْخَارِجِ جُعِلَ ظَرْفًا لِنَفْسِ ثُبُوتِ الْقِيَامِ فَاللَّازِمُ كَوْنُ الْقَائِمِ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ بِثُبُوتِ غَيْرِهِ لَا الثُّبُوتُ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْخَارِجُ اسْمٌ لِلْأَمْرِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ كَالذِّهْنِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْأَمْرِ الْمَوْجُودِ فِي الذِّهْنِ فَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وَالْأَعْيَانِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَفِي عِدَادِهَا فَظَرْفِيَّةُ الْخَارِجِ لِلْوُجُودِ مُسَامَحَةٌ إذْ الْوُجُودُ لَيْسَ فِي عِدَادِ الْأَعْيَانِ وَمَعْنَى زَيْدٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ أَنَّ وُجُودَهُ فِي وُجُودِ الْخَارِجِ وَفِي عِدَادِ وُجُودَاتِهِ، فَلَيْسَ الْخَارِجُ إلَّا ظَرْفًا لِنَفْسِ الشَّيْءِ لَكِنَّهُ إذَا جُعِلَ ظَرْفًا لَهُ حَقِيقَةً اقْتَضَى وُجُودَهُ وَإِذَا جُعِلَ ظَرْفًا لِوُجُودِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَهُ انْتَهَى ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ الْجُزْئِيَّةَ إنَّمَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الصَّرْفِ وَهُوَ تَعَلُّقٌ مَحْضٌ فَأَمْرٌ نِسْبِيٌّ فَلَا وُجُودَ لَهُ خَارِجِيٌّ بِخِلَافِ الْإِرَادَةِ الْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهَا قُوَّةٌ مَوْجُودَةٌ فِي النَّفْسِ كَمَا عَرَفْت فَيَنْدَفِعُ أَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمُصَنِّفِ (حَتَّى يَحْتَاجَ) أَيْ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ (إلَى الْخَلْقِ وَيَتَعَلَّقَ) الْخَلْقُ (بِهَا) بِهَذِهِ الِاخْتِيَارَاتِ وَيَكُونَ الْعَبْدُ خَالِقَهَا

(إذْ الْخَلْقُ إيجَادُ الْمَعْدُومِ) أَيْ إخْرَاجُهُ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ (فَمَا لَا يُوجَدُ) فِي الْخَارِجِ (لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا) لِعَدَمِ صِدْقِ مَعْنَى الْخَلْقِ عَلَيْهِ (فَلَا يَكُونُ مُرِيدُهَا خَالِقَهَا) فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ خَالِقَهَا بِإِرَادَتِهَا وَلَا يُنَافِي حَصْرَ قَوْلِنَا لَا خَالِقَ غَيْرُهُ ثُمَّ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ صُدُورُ الْأَفْعَالِ بِهَذِهِ الِاخْتِيَارَاتِ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُ التَّفْوِيضُ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ أَجَابَ (وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ تِلْكَ الِاخْتِيَارَاتِ (شَرْطًا عَادِيًّا) لَا عَقْلِيًّا؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إيجَادِهَا فِي الْعَبْدِ اسْتِقْلَالًا بِلَا تَوَقُّفُهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ (لِخَلْقِهِ) تَعَالَى (أَفْعَالَ الْعِبَادِ) فَلَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِي الْعِبَادِ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ كَالْمُعْجِزَةِ لِنَبِيٍّ أَوْ الْكَرَامَةِ لِوَلِيٍّ فَلَا يُوجَدُ أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارَاتِ الْعِبَادِ حَتَّى يَلْزَمَ التَّفْوِيضُ وَلَا بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ - تَعَالَى - حَتَّى يَلْزَمَ الْجَبْرُ بَلْ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى لَكِنْ بِشَرْطِ تَعَلُّقِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ أَعْنِي صَرْفَ قُدْرَتِهِ إلَى الْعَمَلِ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ فِي الْمَقَامِ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ إنْ بِمُجَرَّدِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَتَفْوِيضٌ وَإِنْ بِمُجَرَّدِ قُدْرَةِ اللَّهِ فَجَبْرٌ وَإِنْ بِهِمَا إنْ مُسْتَقِلَّتَيْنِ فَتَوَارُدٌ وَإِنْ نَاقِصَتَيْنِ فَاحْتِيَاجٌ لَهُ - تَعَالَى - وَقُصُورٌ لِإِرَادَتِهِ وَاسْتَلْزَمَ كَوْنَهُ مُسْتَكْمَلًا بِالْغَيْرِ إذْ الِاحْتِيَاجُ وَالْقُصُورُ إنَّمَا يُتَصَوَّرَانِ إنْ لَمْ يَكُونَا بِجَعْلِهِ تَعَالَى وَعَادَتِهِ عَلَى حِكْمَتِهِ وَتَحْرِيرُ الْمَقَامِ أَنَّ حَاصِلَ شُبْهَةِ الشَّيْطَانِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَا يَكُونُ بِتَقْدِيرِهِ تَعَالَى فَحُصُولُهُ مِنْ الْعَبْدِ بِالْجَبْرِ وَمَا يَكُونُ حُصُولُهُ بِالْجَبْرِ فَسَعْيُ الْعَبْدِ فِيهِ عَبَثٌ فَيَنْتِجُ سَعْيُ الْعَبْدِ لِلْأَعْمَالِ عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ إنْ أَرَدْت أَنَّهَا بِتَقْدِيرِهِ تَعَالَى فَقَطْ فَالصُّغْرَى مَمْنُوعَةٌ؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ إرَادَاتٍ جُزْئِيَّةً فِي أَفْعَالِهِ قَابِلَةً لِتَعَلُّقِ الضِّدَّيْنِ وَإِنْ أَرَدْت أَنَّهَا بِتَقْدِيرِهِ تَعَالَى مَعَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَالصُّغْرَى مُسَلَّمَةٌ لَكِنْ الْكُبْرَى مَمْنُوعَةٌ إذْ مَا صَدَرَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَلَوْ عَلَى طَرِيقِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ جَبْرًا ثُمَّ لِمَا وَرَدَ عَلَى السَّنَدِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْإِرَادَاتُ صَادِرَةً مِنْ الْعَبْدِ يَلْزَمُ كَوْنُ الْعَبْدِ خَالِقَهَا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ. أَجَابَ بِأَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَاتِ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ وَمَا يَكُونُ مَخْلُوقًا فَمَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَالْإِرَادَاتُ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً فَلَا يَكُونُ مُرِيدُهَا يَعْنِي الْعَبْدَ خَالِقَهَا وَقَدْ عَرَفْت فَوَائِدَ الْمُقَدِّمَاتِ إلَّا أَنَّك لَاحَظْت مَضْمُونَ قَوْلِهِ وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ إلَى آخِرِهِ فِي مَضْمُونِ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَلَا جَبْرَ فِيهِ وَإِنْ شِئْت قَرَّرْت الْجَوَابَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ لَكِنْ الْمُنَاقَضَةُ هِيَ الْوَظِيفَةُ الْأَوَّلِيَّةُ لِلسَّائِلِ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ حَاصِلَ الْجَوَابِ وَزُبْدَتَهُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَإِنْ صَدَرَتْ بِقُدْرَتِهِ - تَعَالَى - لَكِنَّهُ بِشَرْطِ إرَادَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيُوجَدُ الْمَشْرُوطُ وَإِلَّا فَلَا، فَلَا جَبْرَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَى عَادَتِهِ وَلَا تَفْوِيضَ لِعَدَمِ صُدُورِهِ مِنْ إرَادَةِ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً بَلْ شَرْطًا. ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْجَوَابُ حَاسِمًا لِمَادَّةِ الْإِشْكَالِ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ بِالْقُدْرَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْجَوَابُ بِكَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ قَالَ دَفْعًا لِذَلِكَ (وَكَوْنُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَكَتْبِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ صُدُورِهَا مِنْ الْعِبَادِ بِالْجَبْرِ) وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهَا تَسْتَلْزِمُهُ إذْ لَوْ لَمْ يَصْدُرْ لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا وَإِرَادَتُهُ كَانَتْ مُتَخَلِّفَةً عَنْ مُرَادِهِ وَيُنْتَقَضُ حُكْمُهُ وَيَكْذِبُ كَتْبُهُ وَلَيْسَ مِثْلُهَا يُرَى كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ (كَمَا إذَا عَلِمَ زَيْدٌ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ عَمْرٌو يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ فَأَرَادَهُ) أَيْ زَيْدٌ (وَكَتَبَهُ فِي قِرْطَاسٍ فَهَلْ يَكُونُ عَمْرٌو فِي فِعْلِهِ مَجْبُورًا مِنْ) جَانِبِ (زَيْدٍ وَهَلْ يَكُونُ لَهُ) أَيْ لِعَمْرٍو (أَنْ يَقُولَ لِزَيْدٍ

فَعَلْت مَا فَعَلْت لِعِلْمِك وَإِرَادَتِك وَكَتْبِك إيَّاهُ) فَظَاهِرٌ فِيهِ عَدَمُ الْجَبْرِ (فَإِنَّ عَمْرًا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ) لِذَلِكَ الْفِعْلِ (لَا لِأَجْلِ عِلْمِ زَيْدٍ وَإِرَادَتِهِ وَكَتْبِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْجَبْرُ) فَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ الْجَبْرُ فِي عَمْرٍو (فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ) مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ فَلَا يُجْعَلُ عِلْمُهُ تَعَالَى بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَكَتْبِهِ الْعَبْدَ مَجْبُورًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَقَامِ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا أَوْ لَمْ يُرِدْهُ أَنْ يُقَالَ إنَّ كَتْبَهُ تَعَالَى تَابِعٌ لِتَقْدِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَهُمَا تَابِعَانِ لِعِلْمِهِ تَعَالَى، وَعِلْمُهُ تَعَالَى تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ أَعْنِي فِعْلَ الْعَبْدِ، وَفِعْلُ الْعَبْدِ كَمَا عَرَفْت حَاصِلٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ بِحَيْثُ إنْ تَعَلَّقَتْ إرَادَةُ الْعَبْدِ بِفِعْلٍ تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى وَإِلَّا فَلَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ تَعَالَى فَلَا يُتَصَوَّرُ الْجَبْرُ أَصْلًا (فَتَدَبَّرْ) فَإِنَّ الْمَقَامَ صَعْبٌ وَالزَّالُّونَ كَثِيرُونَ وَالْفَهْمُ خَفِيٌّ فَإِنْ تَدَبَّرْت تَصِلُ إلَى مُرَادِ الْمَقَامِ وَتُزِيلُ غَوَائِلَ الشَّيْطَانِ وَتَتَنَعَّمُ بِوُصُولِ لَذَّةِ الْمَرَامِ (وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ) فَإِنَّ الشُّكْرَ عَلَى حَسَبِ النِّعْمَةِ قِيلَ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَكَافِئُوهُ بِالدُّعَاءِ» وَعَنْ ابْنِ عِرَاقٍ: إذَا أَفَادَك إنْسَانٌ بِفَائِدَةٍ فَجَدِّدْ الذِّكْرَ عَنْهُ دَائِمًا أَبَدَا قِيلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ قِيَاسُ غَائِبٍ عَلَى شَاهِدٍ مَعَ أَنَّهُ مَعَ الْفَارِقِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِشَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ إرَادَتِهِ، وَإِرَادَتُهُ تَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِهِ وَأَمَّا عِلْمُ زَيْدٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ الِاشْتِرَاكُ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي التَّشْبِيهِ، بَلْ الشَّرْطُ الِاشْتِرَاكُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ هُنَا سَلْبُ الْجَبْرِ، وَالْعِلَّةُ كَوْنُ الْعِلْمِ تَابِعًا لِلْمَعْلُومِ وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِيهِ أَقُولُ الْعُمْدَةُ فِي الْكَلَامِ هِيَ الْإِرَادَةُ، بَلْ الظَّاهِرُ هِيَ مُرَادِفَةُ الْقُدْرَةِ فَكُلٌّ مِنْ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابِ مَنْظُورٌ فِيهِ بَلْ الْإِشْكَالُ إرَادَتُهُ تَعَالَى مَوْجُودَةٌ مُؤَثِّرَةٌ وَإِرَادَةُ زَيْدٍ لَيْسَتْ بِمُؤَثِّرَةٍ وَمَعْدُومَةٍ فَالْقِيَاسُ مَعَ كَوْنِهِ قِيَاسَ غَائِبٍ عَلَى شَاهِدٍ مَعَ فَارِقٍ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ بَلْ تَنْظِيرٌ وَتَوْضِيحٌ لِبَعْضِ مَا يُذْكَرُ مَعَ السَّنَدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقِيَاسِ غَائِبٍ عَلَى شَاهِدٍ بَلْ الْإِرَادَتَانِ وَحَالُهُمَا لَيْسَتَا بِشَاهِدَتَيْنِ وَأَنَّهُ بَعْدَمَا اسْتَيْقَنَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَبَعِيَّةِ إرَادَتِهِ تَعَالَى إلَى إرَادَةِ الْعَبْدِ وَلَوْ شَرْطًا لَا يَكُونُ مَعَ فَارِقٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَقْصُودِ الْمَقَامِ (وَهَذَا الْجَوَابُ) مِنْ تَبَعِيَّةِ إرَادَتِهِ تَعَالَى إلَى إرَادَةِ الْعَبْدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ (هُوَ الْحَاسِمُ) الْقَاطِعُ (لِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ) الشَّيْطَانِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إنْ قُدِّرَ لَك طَاعَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ تَحْصُلُ أَلْبَتَّةَ وَلَا حَاجَةَ إلَى سَعْيِك، وَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّهُ مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ إرَادَتُك بِفِعْلٍ مَا لَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ تَعَالَى بِهَذَا الْفِعْلِ عَلَى عَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ (وَ) هَذَا (مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ) مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدْعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ بَلْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ فِي خِلَافِهِ كَالْأَشْعَرِيِّ فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ التَّقْلِيدِ فِي الِاعْتِقَادِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ فِي الْمَطْلَبِ الْعَقْلِيِّ بِالنَّقْلِ وَلَا الِاحْتِيَاجِ بِالدَّلِيلِ الْجَدَلِيِّ الْخَطَابِيِّ فِي مَقَامِ

الْبُرْهَانِيِّ التَّحْقِيقِيِّ فَافْهَمْ (لَا جَبْرَ) كَمَا قَالَ الْجَبْرِيَّةُ بَلْ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا عَلَى اعْتِقَادِ الْمُصَنِّفِ (وَلَا تَفْوِيضَ) كَالْقَدَرِيَّةِ (وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ) كَمَا قِيلَ مَا مِنْ مَذْهَبٍ إلَّا وَفِيهِ قَدَمٌ رَاسِخٌ مِنْ الْجَبْرِ إذْ لَوْ كَانَ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ جَبْرًا وَلَوْ بِمَحْضِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ كَانَ تَفْوِيضًا وَلَوْ بِهِمَا يَكُونُ أَمْرٌ بَيْنَهُمَا هَذَا هُوَ تَحْرِيرُ الْمَقَامِ عَلَى مُقْتَضَى صَرِيحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَإِلَّا فَإِيجَادُ الْفِعْلِ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَرْطِ إرَادَةِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَنَا، بَلْ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِأَحَدٍ كَمَا سَبَقَ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ تَفْصِيلُهُ إذْ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِمَجْمُوعِ قُدْرَتَيْ اللَّهِ وَالْعَبْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُهُمَا مُؤَثِّرًا مُسْتَقِلًّا عَلَى حِكْمَتِهِ تَعَالَى وَعَادَتِهِ، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ تَوْضِيحِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ وَالْخَيَّالِيِّ وَحَوَاشِيهِ فَالْجَبْرُ الْمُتَوَسِّطُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ حُصُولُهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ جَبْرٌ وَبِقُدْرَةِ الْعَبْدِ تَفْوِيضٌ وَكَوْنُهُ بِهِمَا أَمْرٌ بَيْنَهُمَا وَأَيْضًا إنَّ مَا ادَّعَاهُ مُتَوَسِّطًا رَاجِعٌ إلَى قُدْرَةٍ مَحْضٍ إذْ لَوْ كَانَ تَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ تَعَالَى مَشْرُوطًا بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ كَوْنِهِ شَرْطًا فِي التَّفْوِيضِ إذْ عَمَلُ الْمَشْرُوطِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْطِ وَإِنْ وُجِدَ فَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهُ تَعَالَى وَلِلْعَبْدِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَتَيْنِ لَكِنْ شُرِطَ فِي تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَلُّقُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ فِي الْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ مَا فُهِمَ مِنْ رِسَالَةِ الدَّوَانِيِّ أَنَّ الْإِرَادَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِلْعَبْدِ مُنْبَعِثَةٌ مِنْ الشَّوْقِ، وَالشَّوْقُ مُنْبَعِثٌ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَمْرِ الْمُلَائِمِ، وَهَذَا الشَّوْقُ وَالتَّصَوُّرُ ضَرُورِيَّانِ وَالْإِرَادَةُ التَّابِعَةُ لَهُمَا اخْتِيَارِيَّةٌ وَيَقْرُبُ إلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْكَمَالِ فِي إثْبَاتِ الْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ أَمَّا إنَّهُ لَا جَبْرَ؛ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُخْتَارٌ فِي فِعْلِهِ فَعَادَتُهُ تَعَالَى بِخَلْقِ فِعْلِ الْعَبْدِ عَقِيبَ صَرْفِ اخْتِيَارِهِ وَأَمَّا إنَّهُ لَا تَفْوِيضَ، فَإِنَّ مَنْشَأَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ دَاعِيَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ، وَدَوَاعِي الْقَلْبِ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا دَخْلَ فِيهِ لِلْعَبْدِ (وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ) نَفْسُ الشَّيْخِ (الْقَائِلِ بِالْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ) عَلَى مُجَرَّدِ اعْتِقَادِهِ (أَعْنِي كَوْنَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِاخْتِيَارِهِمْ لَا بِالِاضْطِرَارِ كَمَا يَقُولُ الْجَبْرِيَّةُ فَإِنَّهُ) أَيْ الِاضْطِرَارَ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ لَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا تُوُهِّمَ (جَبْرٌ مَحْضٌ) لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ مِنْ الْعَبْدِ لَا شَرْطًا وَلَا شَطْرًا وَلَا مَدَارًا (وَلَكِنْ الِاخْتِيَارُ) الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْأَفْعَالِ (مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَبْرِ وَالِاضْطِرَارِ) يَعْنِي تَصْدُرُ الْأَفْعَالُ مِنْ الْعِبَادِ بِالِاخْتِيَارِ وَذَلِكَ الِاخْتِيَارُ مَخْلُوقٌ فِي الْعَبْدِ بِالْجَبْرِ وَالِاضْطِرَارِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادُ مُخْتَارِينَ فِي أَفْعَالِهِمْ لِصُدُورِهَا بِالْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ وَمُضْطَرِّينَ فِي اخْتِيَارِهِمْ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الِاخْتِيَارِ فِيهِمْ بِمُجَرَّدِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ (فَنَحْنُ مُخْتَارُونَ فِي أَفْعَالِنَا مُضْطَرُّونَ فِي اخْتِيَارِنَا فَهَذَا مَعْنَى الْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ) عِنْدَهُ عَلَى وَفْقِ مَنْقُولِ السَّلَفِ (فَلَا مَحِيصَ) فَلَا مُخَلِّصَ جَوَابُ أَمَّا فَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ (مِنْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ) مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ مِنْ عَدَمِ نَفْعِ سَعْيِ الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا (وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ) لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَإِنْ ادَّعَى هُوَ اتِّحَادَهُ وَإِنَّمَا كَانَ مُخَالِفًا لِلسَّلَفِ (إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ) بَيْنَ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ (وَبَيْنَ الْجَبْرِ الْمَحْضِ فِي الْحَقِيقَةِ) وَإِنْ وُجِدَ فَرْقٌ فِي الصُّورَةِ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَ فِي الْعَبْدِ قُدْرَةً مُجَرَّدَةً وَعِنْدَ

الْجَبْرِيَّةِ فِعْلُ الْعَبْدِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ فَقَطْ بِدُونِ قُدْرَةٍ مِنْ الْعَبْدِ أَصْلًا فَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ أَصْلًا وَبَيْنَ وُجُودِهَا بِلَا تَأْثِيرٍ فَإِنَّ إثْبَاتَ الْقُدْرَةِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّأْثِيرِ فَإِذَا نُفِيَ التَّأْثِيرُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (فَأَيُّ نَفْعٍ فِي وُجُودِ اخْتِيَارٍ اضْطِرَارِيٍّ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ الْمَنْسُوبَ إلَى الِاضْطِرَارِ يُزِيلُ حَقِيقَةَ الِاخْتِيَارِ وَيَبْقَى مُجَرَّدُ الِاسْمِ، هَذَا مُوَافِقٌ لِمَا أَوْرَدَهُ الْمَوْلَى حَسَنٌ جَلَبِيٌّ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمَوَاقِفِ عَلَى الْأَشْعَرِيِّ نَقْلًا عَنْ الْغَيْرِ أَنَّ ثُبُوتَ الْقُدْرَةِ إنَّمَا يُعْلَمُ بِأَثَرِهَا مِنْ الْفِعْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا، وَأَنَّهُ مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ النَّافِينَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ لَكِنْ أَجَابَ عَنْهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ تَشْهَدُ بِوُجُودِ الْقُدْرَةِ مُنْضَمَّةً إلَى الْإِرَادَةِ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بِتَأْثِيرِهَا انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ بَلْ يُؤَكِّدُهُ؛ لِأَنَّ ضَرُورَةَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ يَقْتَضِي وُجُودَ التَّأْثِيرِ إذْ التَّأْثِيرُ مِنْ لَوَازِمِهَا فَهَذَا وَإِنْ دَفَعَ شُبْهَةَ الشَّيْطَانِ لَكِنْ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ بَلْ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَيْضًا إذْ هُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّيْخِ أَنَّ الْعَبْدَ مُضْطَرٌّ فِي حُصُولِ قُدْرَتِهِ؛ لِأَنَّهَا بِخَلْقِهِ تَعَالَى فِي الْعَبْدِ بِلَا مَدْخَلٍ مِنْهُ وَمُخْتَارٌ فِي صَرْفِهَا نَحْوُ الْفِعْلِ لِإِمْكَانِ تَعَلُّقِهَا بِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ. أَقُولُ هَذِهِ الْإِرَادَةُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي لَا كَلَامَ فِيهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَمَلِ الْجُزْئِيِّ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ بِإِيجَادِهِ تَعَالَى فَتَكُونُ عِلَّةً تَامَّةً لِلْفِعْلِ فَيَلْزَمُ الْجَبْرُ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مُخْتَارًا فِي الصَّرْفِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْعَبْدُ مِنْ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَيَحْتَاجُ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ إلَى مُرَجِّحٍ وَإِلَّا فَيَكُونُ اتِّفَاقِيًّا لَا اخْتِيَارِيًّا وَيَلْزَمُ أَيْضًا عَدَمُ احْتِيَاجِ وُقُوعِ الْجَائِزَيْنِ إلَى سَبَبٍ فَيَنْسَدُّ بَابُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَالْمُرَجِّحُ لَا يَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ لِلتَّسَلْسُلِ وَيَكُونُ الْفِعْلُ عِنْدَهُ وَاجِبًا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَا فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا فَيَلْزَمُ الْإِيجَابُ (وَأَمَّا قَوْلُهُ) فِي إثْبَاتِ كَوْنِ ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ اضْطِرَارِيًّا فِي الْعَبْدِ بِخَلْقِهِ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ اضْطِرَارِيًّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ مِنْ الْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ بِنَقْلِ الْكَلَامِ إلَى صُدُورِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ عَنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (فَيَلْزَمُ) عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ (أَنْ يَكُونَ لِلِاخْتِيَارِ اخْتِيَارٌ فَيَدُورُ) إنْ رَجَعَ إلَيْهِ (أَوْ يَتَسَلْسَلُ) إنْ لَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدٍّ (فَمَنْقُوضٌ) وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَالِقًا لَهُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا خَالِقَ سِوَاهُ لَكِنْ يَشْكُلُ بِجَوَازِ كَوْنِ ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ مِنْ الْعَبْدِ اضْطِرَارِيًّا فَلَا يَكُونُ لِلِاخْتِيَارِ اخْتِيَارٌ فَتَأَمَّلْ (بِاخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى) بِأَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُوجِدًا لِفِعْلِهِ بِالْقُدْرَةِ لَتَمَكَّنَ مِنْ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مُرَجِّحٍ، وَالْمُرَجِّحُ لَا يَكُونُ مِنْهُ لِلدَّوْرِ وَالتَّسَلْسُلِ وَيَكُونُ الْفِعْلُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ وَاجِبَ الصُّدُورِ وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَجِّحُ مُرَجِّحًا تَامًّا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا مُخْتَارًا. قِيلَ هَذَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ (فَجَوَابُهُ) أَيْ جَوَابُ النَّقْضِ وَالْجَوَابُ عَلَى مَا فِي الْمَوَاقِفِ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ إرَادَةَ الْعَبْدِ مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى إرَادَةٍ أُخْرَى، وَإِرَادَةُ اللَّهِ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى إرَادَةٍ أُخْرَى (جَوَابُهُ) الظَّاهِرُ أَيْ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ النَّقْضِ أَيْ جِنْسًا أَوْ أَصْلًا لَا عَيْنًا وَلَا شَخْصًا إذْ قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ وَرُدَّ

هَذَا الْجَوَابُ بِأَنْ لَا يُدْفَعَ التَّقْسِيمُ الْمَذْكُورُ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ إذْ يُقَالُ إنْ لَمْ يَكُنْ التَّرْكُ مَعَ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ كَانَ مُوجِبًا لَا قَادِرًا مُخْتَارًا وَإِنْ أَمْكَنَ فَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فِعْلُهُ عَلَى مُرَجِّحٍ كَانَ اتِّفَاقِيًّا وَاسْتَغْنَى الْحَادِثُ عَنْ الْمُرَجِّحِ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ كَانَ الْفِعْلُ مَعَهُ وَاجِبًا فَيَكُونُ اضْطِرَارِيًّا وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ النَّقْضُ إذَا بَيَّنَ عَدَمَ جَرَيَانِ الدَّلِيلِ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ لَكِنْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ بِمَا تَلْخِيصُهُ عَلَى مَا فِي شَرْحِهِ أَنَّ الْمُرَجِّحَ الْقَدِيمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفِعْلِ الْحَادِثِ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ آخَرَ، فَإِنَّ فِعْلَ الْبَارِّي وَإِنْ احْتَاجَ إلَى مُرَجِّحٍ قَدِيمٌ كَذَلِكَ لَكِنْ لَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إلَى مُرَجِّحٍ آخَرَ وَحِينَئِذٍ لَا يُتَّجَهُ النَّقْضُ وَأَمَّا لُزُومُ كَوْنِ الْفِعْلِ وَاجِبًا لَا مُخْتَارًا مَعَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ الْقَدِيمِ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الِاخْتِيَارِ لَا يُنَافِيهِ بَلْ يُحَقِّقُهُ (وَحَلُّهُ) أَيْ الْجَوَابِ عَنْ الدَّوْرِ وَالتَّسَلْسُلِ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ أَوْ فِي النَّقْضِ (أَنَّ) الشَّيْءَ (الْمُخْتَارَ) أَوْ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ وَاجِبًا كَمَا فِي النَّقْضِ أَوْ عَبْدًا كَمَا فِي الْأَصْلِ (إنْ كَانَ قَصْدًا وَأَصَالَةً) بِأَنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْأَصَالَةِ كَالصَّلَاةِ (فَلَا بُدَّ لَهُ) لِهَذَا الْمُخْتَارِ (مِنْ اخْتِيَارٍ مُغَايِرٍ لَهُ) لِذَلِكَ الْمُخْتَارِ (سَابِقٌ عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ) إذْ الْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ لَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُهُ بِلَا اخْتِيَارٍ (وَأَمَّا إذَا كَانَ) الشَّيْءُ الْمُخْتَارُ (ضِمْنًا وَتَبَعًا) أَوْ إذَا كَانَ تَعَلُّقُ اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ كَذَلِكَ كَالِاخْتِيَارِ الْجُزْئِيِّ (فَلَا) يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ اخْتِيَارٌ سَابِقٌ عَلَيْهِ (بَلْ يَكُونُ اخْتِيَارُ الْمَقْصُودِ) أَيْ الِاخْتِيَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِمَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْأَصَالَةِ كَالصَّلَاةِ (اخْتِيَارًا لِنَفْسِهِ) أَيْ نَفْسِ الِاخْتِيَارِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إيجَادٌ وَلَا خَلْقٌ وَإِنَّمَا يَقَعُ (ضِمْنًا وَالْتِزَامًا) لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ لِلْأَشْيَاءِ بِلَا تَعَلُّقِ إيجَادٍ بِهَا (كَمَا يَشْهَدُ لَهُ الْوِجْدَانُ) الَّذِي هُوَ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْبَدِيهِيَّةِ الْبُرْهَانِيَّةِ وَهَذِهِ مُفِيدَةٌ فِي الْمَقَامِ التَّحْقِيقِيِّ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا فِي الْجَدَلِيَّةِ وَالْإِلْزَامِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ هُنَا فَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا كَانَ هُنَاكَ عِلَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْجَمْعِ وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْمَقَامِ عَلَيْهِ فَأَمْكَنَ انْدِفَاعُ مَا قِيلَ أَنَّ مَا شَهِدَ لَهُ الْوِجْدَانُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْغَيْرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا دَوْرَ وَلَا تَسَلْسُلَ وَأَيْضًا لَوْ سُلِّمَ لُزُومُهُمَا لَكِنَّهُمَا فِي الْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ وَلَيْسَا بِمُحَالَيْنِ فِيهَا ثُمَّ أَمْكَنَ لِلْأَشْعَرِيِّ الِانْتِقَالُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ مُنْتِجٍ لِمَطْلُوبِهِ الَّذِي هُوَ كَوْنُ الْعَبْدِ مُضْطَرًّا فِي اخْتِيَارِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ طَرَفَا الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ جَائِزَيْنِ لِلْعَبْدِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ فَإِذَا امْتَنَعَ كَوْنُ الْمُرَجِّحِ مِنْ الْعَبْدِ لِلتَّسَلْسُلِ فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْعَبْدُ أَيْضًا مَجْبُورًا، أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (وَالتَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ جَائِزٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ) لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِرَادَةِ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى مُرَجِّحٍ كَالْهَارِبِ يَسْلُكُ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَالْجَائِعُ يُقَدِّمُ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ كَذَلِكَ

(وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ التَّرَجُّحُ) كَوْنُ الشَّيْءِ ذَا رُجْحَانٍ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ بِلَا مُوجِدٍ فِي نَفْسِهِ (بِلَا مُرَجِّحٍ) لِاسْتِغْنَاءِ الْمُمْكِنِ عَنْ الْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ (فَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْإِرَادَةُ بِشَيْءٍ لَا مُرَجِّحٍ وَدَاعٍ) اعْلَمْ أَنَّ بُطْلَانَ الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ الْوُجُودِ بِلَا مُوجِدٍ وَبُطْلَانَ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ الْإِيجَادِ بِلَا مُوجِدٍ بَدِيهِيٌّ، وَأَمَّا تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ تَرْجِيحُ الْمَرْجُوحِ فَجَائِزٌ وَاقِعٌ بِوُجُوهٍ مَذْكُورٌ فِي رَابِعَةِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ التَّوْضِيحِ وَالتَّلْوِيحِ فَلَا امْتِنَاعَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ وَأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ الْإِيقَاعِ مِنْ الْمُخْتَارِ تَارَةً وَعَدَمِهِ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَأَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنَّمَا هُوَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُرَجِّحَ الْفَاعِلُ بِهَا أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ الْمَرْجُوحَ عَلَى الرَّاجِحِ، فَالْإِيجَادُ بِالِاخْتِيَارِ قَدْ يَكُونُ تَرْجِيحًا لِذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ اخْتِيَارُ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ قُلْنَا الْإِرَادَةُ وَالِاخْتِيَارُ لَا تُعَلَّلُ بِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ هَذَا دُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهَا فَإِنْ قِيلَ التَّرْجِيحُ يَسْتَلْزِمُ الرُّجْحَانَ ضَرُورَةً فَتَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ يُوجِبُ رُجْحَانَهُ قُلْنَا الْمُمْتَنِعُ هُوَ رُجْحَانُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ مَا دَامَ مُسَاوِيًا أَوْ مَرْجُوحًا لِاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ الرُّجْحَانِ وَعَدَمِهِ، وَعِنْدَ تَرْجِيحِ الْفَاعِلِ إيَّاهُمَا لَمْ يَبْقَيَا مُسَاوِيًا وَمَرْجُوحًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّرْجِيحِ إثْبَاتُ الرُّجْحَانِ، وَجَعْلُ الشَّيْءِ رَاجِحًا وَإِخْرَاجُهُ عَنْ حَدِّ التَّسَاوِي كَذَا فِي الْمَحَلِّ الْمَزْبُورِ مِنْ التَّلْوِيحِ فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ (فَلَا يَرِدُ أَنَّ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ) مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لِشَيْءٍ (لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ فَإِنْ كَانَ) ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ (مِنْ خَارِجٍ) عَنْ نَفْسِ الْفَاعِلِ الْمُرِيدِ (يَلْزَمُ الْإِيجَابُ) أَيْ كَوْنُهُ وَاجِبَ الصُّدُورِ عَنْهُ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْمَوْجُودُ الْمُرَجِّحُ الْمَفْرُوضُ تَمَامَ الْمُرَجِّحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ جَازَ أَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ تَارَةً وَيَعْدَمَ أُخْرَى مَعَ الْمُرَجِّحِ فِيهِمَا، فَتَخْصِيصُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ بِوُجُودِهِ مُحْتَاجٌ إلَى مُرَجِّحٍ فَلَا يَكُونُ مَا فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ فَتَدَبَّرْ (وَإِنْ كَانَ) الْمُرَجِّحُ (مِنْ نَفْسِ الْمُرِيدِ يَنْتَقِلُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ) عَلَى ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ (أَنَّهُ بِالِاخْتِيَارِ أَوْ بِالِاضْطِرَارِ فَيَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ) فِي صُورَةِ الِاخْتِيَارِ (أَوْ الْإِيجَابُ) مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي صُورَةِ الِاضْطِرَارِ لِعَدَمِ الِانْفِكَاكِ عَمَّا اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَجْهُ عَدَمِ الْوُرُودِ أَنَّ قَوْلَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ جَائِزٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمُرَجِّحِ فَيَسْقُطُ التَّفْصِيلُ وَالتَّرْدِيدُ الْمُتَفَرِّعُ عَلَيْهِ وَقَدْ عَرَفْت أَيْضًا مَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ نَحْوِ جَوَازِ ثُبُوتِ الْإِيقَاعِ مِنْ الْمُخْتَارِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ يُرَجِّحُ بِهَا الْفَاعِلُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ الْمَرْجُوحَ عَلَى الْآخَرِ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تُعَلِّلُ هَذَا اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْمَقَامِ إجْمَالًا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ آخِرًا الْأَعْمَالُ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعَبْدُ مَجْبُورٌ وَالسَّعْيُ بَاطِلٌ وَيَدْفَعُ السَّالِكُ أَنَّ الْأَعْمَالَ وَإِنْ كَانَتْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَعَلُّقَ قُدْرَتِهِ بِفِعْلِ عَبْدِهِ مَشْرُوطًا بِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ الْعَبْدِ الصَّالِحَةِ لِلضِّدَّيْنِ فَمَا لَمْ تَتَعَلَّقْ تِلْكَ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ مِنْ الْعَبْدِ لَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ تَعَالَى، وَالْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ حَتَّى يَلْزَمَ خَلْقُ الْعَبْدِ إرَادَتَهُ، وَعِلْمُهُ تَعَالَى تَابِعٌ لِمَعْلُومِهِ وَالْإِرَادَةُ وَالتَّقْدِيرُ تَابِعَانِ لِلْعِلْمِ، وَالْكِتَابَةُ تَابِعَةٌ لِلْإِرَادَةِ فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ صُدُورَ الْفِعْلِ بِتَعْلِيقِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ اخْتِيَارًا وَلَوْ عَنْ طَرِيقِ الشَّرْطِ

لَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ أَيْضًا بِعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكِتَابَتِهِ فَانْدَفَعَ بِذَلِكَ وَسْوَسَةُ اللَّعِينِ وَانْطَبَقَ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ فَلَا تَنْدَفِعُ وَلَا يَنْطَبِقُ إذْ عِنْدَهُ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ حَاصِلَةٌ مِنْ اللَّهِ جَبْرًا، فَالْعَبْدُ مُخْتَارٌ فِي أَفْعَالِهِ وَمُضْطَرٌّ فِي اخْتِيَارِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَبْرِ الْمَحْضِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ تَمَّ الْمَرَامُ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي مَهَامِّ الْمَقَامِ، وَكَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلِاخْتِيَارِ إلَخْ قَوْلًا زَائِدًا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَطَوْرًا مُخَالِفًا لِمَا الْتَزَمَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَإِنْ بَذَلَ الْوُسْعَ فِي تَوْجِيهِهِ كَمَا سَمِعْت مِنْ الْخِطَابِ إذْ أَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْأَشْعَرِيِّ لِلْجَوَابِ وَالْإِيرَادِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمَوَاقِفِ فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ لَزِمَ تَصْحِيحُ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَمَا نَفَى الْوُجُودَ الْخَارِجِيَّ عَنْ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّطْوِيلِ. (فَإِذَا تَمَهَّدَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ) فِي دَفْعِ حِيَلِ الشَّيْطَانِ (فَلْنَشْرَعْ فِي الْمَقْصُودِ) مِنْ هَذَا الْمَبْحَثِ السَّادِسِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ أَوْ الرِّيَاءِ وَالْحَيَاءِ (فَنَقُولُ مِنْ الْمُتَرَدِّدَاتِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبِيتُ مَعَ قَوْمٍ فَيَقُومُونَ لِلتَّهَجُّدِ كُلَّ اللَّيْلِ أَوْ بَعْضَهُ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَقُومُ أَصْلًا، أَوْ يَقُومُ قَلِيلًا مِنْ قِيَامِهِمْ فَإِذَا رَآهُمْ انْبَعَثَ نَشَاطُهُ لِلْمُوَافَقَةِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى مُعْتَادِهِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَقَعُ فِي مَوْضِعٍ يَصُومُ أَهْلُهُ تَطَوُّعًا فَيَنْبَعِثُ لَهُ نَشَاطُهُ فِي الصَّوْمِ) لِرُؤْيَةٍ مِنْهُمْ فَلَوْ لَمْ يَرَهُمْ لَمْ يَنْبَعِثْ هَذَا النَّشَاطُ؛ لِأَنَّ الصُّحْبَةَ سَارِيَةٌ وَالطَّبِيعَةَ سَارِقَةٌ فَإِنَّ الْمُقَارِنَ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي (فَرُبَّمَا يَظُنُّ) مِنْ الْأَوْهَامِ الْقَاصِرَةِ مُطْلَقًا إذْ بِحَسَبِ الْفِكْرَةِ الْأُولَى وَالنَّظْرَةِ الْحَمْقَاءِ (أَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ (رِيَاءٌ) مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّهُ بِلَا رُؤْيَةٍ مِنْهُمْ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُهُ بِسَبَبِ رُؤْيَتِهِمْ فَكَانَ مَظَانُّ الرِّيَاءِ لَهُمْ (وَإِنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ الْمُوَافَقَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لَهُ تَفْصِيلٌ) يُعْرَفُ بِهِ مَا يَكُونُ رِيَاءً مِمَّا لَا يَكُونُ رِيَاءً وَذَلِكَ قَوْلُهُ. (فَإِنْ كَانَ نَشَاطُهُ) الْمُنْبَعِثُ عَنْ صُحْبَةِ تِلْكَ الصَّالِحِينَ (لِزَوَالِ الْغَفْلَةِ) عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَالْخِصَالِ الْمُسْتَحْسَنَةِ (بِمُشَاهَدَةِ الْغَيْرِ) وَتَكُونُ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةُ مُذَكِّرَةً لِمَا ذَهِلَ وَمُنَبِّهَةً عَمَّا غَفَلَ (وَقَدْ أَقْبَلُوا) أَيْ الْغَيْرُ بِاعْتِبَارِ الْقَوْمِ (عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ (وَأَعْرَضُوا عَنْ النَّوْمِ) لِلْقِيَامِ وَالتَّهَجُّدِ (وَالْأَكْلِ) لِلصِّيَامِ وَتَجْوِيعِ النَّفْسِ لِلْقَهْرِ فَمُشَاهَدَةُ الْغَيْرِ عِبْرَةٌ لَهُ حِينَئِذٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَالْعِبْرَةُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَقَدْ قِيلَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا رَزَقَهُ خَلِيلًا صَالِحًا إنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ» ، وَأَيْضًا فَضْلُ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ مَا بِنِيَّةِ اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ وَكَذَا إعْلَانُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَأَمْرُ الْعَوَامّ بِاقْتِدَاءِ الْعَالِمِ الصَّالِحِ قَوْلًا وَفِعْلًا (أَوْ) كَانَ نَشَاطُهُ (لِانْدِفَاعِ الْعَوَائِقِ) جَمْعُ عَائِقٍ بِمَعْنَى الْمَانِعِ (وَالْأَشْغَالِ الَّتِي فِي بَيْتِهِ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ كَالْمُسْتَدْرَكِ إذْ مَبْنَى الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ رُؤْيَةَ عِبَادَةِ الْعَابِدِينَ وَمُوَافَقَتَهُمْ لِذَلِكَ. وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعِلَّةِ انْدِفَاعَ الْعَوَائِقِ وَنَحْوَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَفَرَّغَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْعَوَائِقِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ بِلَا رُؤْيَتِهِمْ لَا يَفْعَلُ تِلْكَ الطَّاعَةَ نَعَمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ عِلَّةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَبَادَرُ تَمَامَ عِلَّةٍ (مِثْلُ تَمَكُّنِهِ عَلَى فِرَاشٍ وَثِيرٍ) لَيِّنٍ نَاعِمٍ (أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْ التَّمَتُّعِ) الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ بَلْ لَوَازِمِهِ (بِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ الْمُحَادَثَةِ) الْمُكَالَمَةِ (بِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ أَوْ الِاشْتِغَالِ بِأَوْلَادِهِ) كَتَرْبِيَتِهِمْ وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ وَقَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ (أَوْ بِحِسَابِ مُعَامَلَتِهِ)

مَعَ الْغَيْرِ كَالْبُيُوعِ وَالْمُدَايَنَاتِ وَأَحْوَالِ سَائِرِ الْعُقُودِ (أَوْ لِمُفَارَقَةِ النَّوْمِ) الْمَانِعِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ (لِاسْتِنْكَارِهِ الْمَوْضِعَ) الَّذِي يَبِيتُ فِيهِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يُزِيلُ نَوْمَهُ بِتَبَدُّلِ فِرَاشِهِ وَمَكَانِهِ (أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ فَيَغْتَنِمُ زَوَالَ النَّوْمِ) بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ فَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ تَحْصِيلًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِغَرَضٍ آخَرَ (وَفِي مَنْزِلِهِ رُبَّمَا يَغْلِبُهُ النَّوْمُ وَقَدْ يَعْسَرُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي مَنْزِلِهِ وَ) الْحَالُ (مَعَهُ أَطَايِبُ الْأَطْعِمَةِ) الْأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَيَشُقُّ الصَّبْرُ عَلَيْهَا (فَإِذَا أَعْوَزَتْهُ) أَفْقَرَتْهُ (تِلْكَ الْأَطْعِمَةُ) لِفِقْدَانِهَا (لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ) الصَّوْمُ فَتَنْبَعِثُ دَاعِيَةُ الدِّينِ لِلصَّوْمِ فَإِنَّ الشَّهَوَاتِ الْحَاضِرَةَ عَوَائِقُ وَدَوَافِعُ تَغْلِبُ بَاعِثَ الدِّينِ فَإِذَا سَلِمَ مِنْهَا قَوِيَ الْبَاعِثُ. (فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا) مِنْ الْعِبَادَاتِ (لَيْسَتْ بِرِيَاءٍ) لِعَدَمِ صِدْقِ مَاهِيَّةِ الرِّيَاءِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ قَصْدِ غَيْرِ اللَّهِ بِهَا وَإِنْ كَانَ الدَّاعِي وَالْمُنَشِّطُ غَيْرَهُ تَعَالَى (فَعَلَيْهِ الْمُوَافَقَةُ) أَيْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مُوَافَقَتُهُمْ أَوْ يَجُوزُ (وَالْعَمَلُ وَ) الْحَالُ (الشَّيْطَانُ عِنْدَ ذَلِكَ) الْعَمَلِ مَعَ مَنْ ذُكِرَ (رُبَّمَا يَصُدُّ) أَيْ يَمْنَعُ (عَنْ الْعَمَلِ) لِأَنَّهُ بِرٌّ، وَالشَّيْطَانُ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْءِ لِعَدَاوَتِهِ لَهُ (وَيَقُولُ لَا تَعْمَلْ مَا لَا تَعْمَلُ فِي بَيْتِك) وَوَحْدَتِك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ (فَتَكُونُ مُرَائِيًا) فَلِلسَّالِكِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِجِنْسِ مَا مَرَّ (وَإِنْ كَانَ نَشَاطُهُ) مَعَهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ نَشَاطُهُ لِزَوَالِ الْغَفْلَةِ مِنْ تَتِمَّةِ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ (طَلَبًا لِمَحْمَدَتِهِمْ) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ الْحَمْدِ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ (أَوْ خَوْفًا مِنْ ذَمِّهِمْ) لَهُ (وَ) خَوْفَ (نِسْبَتِهِمْ إيَّاهُ إلَى الْكَسَلِ) تَرَكَ الْعَمَلَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ (لَا سِيَّمَا) كَلِمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ مَا بَعْدَهَا بِالْحُكْمِ مِمَّا قَبْلَهَا (إذَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَقُومُ بِاللَّيْلِ أَوْ) أَنَّهُ (يَصُومُ تَطَوُّعًا فَلَا تَسْمَحُ) لَا تَرْضَى (نَفْسُهُ بِأَنْ تَسْقُطَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ فَيُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَ مَنْزِلَتَهُ فِي قُلُوبِهِمْ) بِتَبْدِيلِ اعْتِقَادِهِمْ فِي حَقِّهِ فَيُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَ مَنْزِلَتَهُ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى مَا اعْتَقَدُوا فِي حَقِّهِ. (وَعِنْدَ ذَلِكَ) الرِّيَاءِ (قَدْ يَقُولُ الشَّيْطَانُ) لِذَلِكَ الْعَابِدِ الْمُرَائِي (صَلِّ فَإِنَّك مُخْلِصٌ وَإِنَّمَا كُنْت لَا تُصَلِّي فِي بَيْتِك لِكَثْرَةِ الْعَوَائِقِ) وَإِنَّمَا دَاعِيَتُك لِزَوَالِ الْعَوَائِقِ لَا لِاطِّلَاعِهِمْ، لَا يَخْفَى أَنَّ السَّوْقَ أَنَّ قَوْلَهُ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ طَلَبِ ثَنَائِهِمْ وَخَوْفِ مَذَمَّتِهِمْ وَإِلَّا فَنَحْوُ هَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يُبْدَلَ رِيَاؤُهُ نَحْوَ الْخُلُوصِ (فَلَا يَجُوزُ لَهُ) حِينَئِذٍ (أَنْ يَزِيدَ عَلَى مُعْتَادِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى بِطَلَبِ مَحْمَدَةِ النَّاسِ) بِطَاعَةِ اللَّهِ (أَوْ دَفْعِ) بِدَفْعِ (ذَمِّهِمْ أَوْ سُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الطَّاعَةَ عَنْ مَوْضُوعِهَا مِنْ التَّقَرُّبِ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَعَلَهَا عُرْضَةً لِهَذَا الْأَمْرِ الْمُخْدِعِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ (لِأَنَّهُ رِيَاءٌ مَحْظُورٌ مَحْضٌ)

لَا إخْلَاصٌ مَحْمُودٌ (وَالْعَلَامَةُ الْفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّشَاطَيْنِ الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ (أَنْ يَعْرِضَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ رَأَى) . وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّهَا أَيْ النَّفْسَ لَوْ رَأَتْ (هَؤُلَاءِ) الْقَوْمَ (يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ) حَالَ كَوْنِهِمْ (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ هَلْ كَانَتْ) النَّفْسُ (تَسْخُو) تَسْمَحُ (بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَهُوَ إخْلَاصٌ) لِعَدَمِ نَظَرِهِ حِينَئِذٍ لِغَيْرِهِ تَعَالَى (يُوَافِقُهُمْ) فِي ذَلِكَ الْعَمَلُ فَإِنَّ بَاعِثَهُ هُوَ الدِّينُ (أَوْ) كَانَتْ (لَا تَسْخُو وَتَثْقُلُ) الْعِبَادَةُ عَلَيْهِ (لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ مُوجِبُ النَّشَاطِ وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ (فَرِيَاءٌ لَا يَزِيدُ عَلَى الْمُعْتَادِ) أَوْ يَجْتَهِدُ فِي تَبْدِيلِ النِّيَّةِ وَتَحْصِيلِ الْإِخْلَاصِ. (وَمِنْ ذَلِكَ) مِنْ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ (الِاسْتِغْفَارُ) كَقَوْلِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ (وَالِاسْتِعَاذَةُ) نَحْوُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (عِنْدَ النَّاسِ فَقَدْ يَكُونُ) كُلٌّ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِعَاذَةِ (لِخَاطِرِ خَوْفٍ) مِنْ اللَّهِ (وَتَذَكُّرِ ذَنْبٍ) صَدَرَ مِنْهُ (وَتَنَدُّمٍ عَلَيْهِ) تَوْبَةٍ فَيَكُونُ إخْلَاصًا (وَقَدْ يَكُونُ لِلْمُرَآَّةِ) لِكَيْ يُثْنَى عَلَيْهِ لَعَلَّ ذَلِكَ قَدْ يَكْثُرُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْمَوَاعِظِ لِخَوْفِ مَذَمَّةِ مَنْ فِي الْمَجْلِسِ (فَرَاقِبْ قَلْبَك) وَاحْفَظْهُ بِأَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ عِنْدَ صُدُورِ مِثْلِ ذَلِكَ (وَمَيِّزْ بَيْنَهُمَا) أَيْ الْإِخْلَاصِ وَالرِّيَاءِ (بِالْعَلَامَةِ السَّابِقَةِ) فَمَا اسْتَوَى فِيهِ الْخَلْوَةُ وَالْجَلْوَةُ فَإِخْلَاصٌ وَمَا ثَقُلَ فِي الْخَلَاءِ فَرِيَاءٌ (وَأَمْثَالُهَا) كَمَحَبَّةِ اطِّلَاعِ الْغَيْرِ وَعَدَمِهَا (فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى) بَعْدَ ذَلِكَ التَّمْيِيزِ (فَامْضِهِ) فَافْعَلْهُ وَأَبْقِهِ مُسَارِعًا إلَيْهِ قِيلَ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ تُكْتَبُ وَلَا يُنْطَقُ بِهَا إلَّا وَقْفًا لَا يَخْفَى أَنَّهُ ضَمِيرُ غَائِبٍ رَاجِعٌ إلَى الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِعَاذَةِ (وَإِلَّا) أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَالَى (فَاحْذَرْ) مِنْهُ كَسَائِرِ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّهُ سُمٌّ فِي صُورَةِ تِرْيَاقٍ كَالصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ. (وَمِنْ ذَلِكَ) التَّرَدُّدِ (إظْهَارُ الطَّاعَةِ) لِلنَّاسِ (فَإِنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ قَصْدُ الِاقْتِدَاءِ) لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهَا وَيَكُونَ مِصْدَاقًا لِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً» . الْحَدِيثَ. (فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْإِخْفَاءِ) لِحُسْنِ قَصْدِهِ وَجَوْدَةِ ثَمَرَتِهِ (هق عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عَمَلُ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ» لِخُلُوِّهِ عَنْ الرِّيَاءِ الظَّاهِرِ عِنْدَ عَدَمِ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ «وَ» عَمَلُ «الْعَلَانِيَةِ أَفْضَلُ» مِنْ عَمَلِ السِّرِّ «لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ» لِحَثِّ الْغَيْرِ عَلَى الْخَيْرِ وَيَكُونُ عِبَادَةً مُتَعَدِّيَةً وَيَكُونُ عَوْنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَضَرْبًا مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ أَنَّ «عَمَلَ السِّرِّ يُضَاعَفُ عَلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ سَبْعِينَ ضِعْفًا، وَيُضَاعَفُ عَمَلُ الْعَلَانِيَةِ إذَا اُسْتُنَّ بِعَامِلِهِ عَلَى عَمَلِ السِّرِّ سَبْعِينَ ضِعْفًا» وَنُقِلَ عَنْ

الْفُقَهَاءِ يُنْدَبُ لِلْإِمَامِ الْأَسْرَارُ بِأَذْكَارِ الصَّلَاةِ إلَّا إذَا قَصَدَ التَّعْلِيمَ فَيَجْهَرُ بِقَدْرِ مَا يَتَعَلَّمُونَ وَيَعُودُ لِحَالِهِ بَعْدُ (وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمُقْتَدَى بِهِ) فِي الْحَصْرِ خَفَاءٌ إذْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، إذْ رُبَّ شَخْصٍ إذَا رَأَى طَاعَةً مِنْ رَجُلٍ أَدْنَى مِنْهُ تَمَسُّهُ الْغَيْرَةُ وَتَجْذِبُهُ الْحَمِيَّةُ فَيَكُونُ أَدْعَى مِنْ الْمُقْتَدَى بِهِ نَعَمْ إنَّ غَيْرَ الْمُقْتَدَى إذَا أَظْهَرَ بَعْضَ الطَّاعَةِ رُبَّمَا يَنْسُبُونَهُ إلَى الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَيَذُمُّونَهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُظْهِرُ (وَقَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ) عَلَى الْإِظْهَارِ (الرِّيَاءَ وَلِإِبْلِيسَ تَلْبِيسٌ فِي كِلَا الْجَانِبَيْنِ) أَيْ تَلْبِيسٌ فِي طَرَفَيْ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ (فَعَلَيْك التَّيَقُّظُ) وَالتَّنَبُّهُ لَا الذُّهُولُ وَالْغَفْلَةُ فَإِنَّ الْأَمْرَ خَفِيٌّ وَالْخَطَرُ جَلِيٌّ (فَإِنْ اشْتَبَهَ) عَلَيْك الْأَمْرُ (فَعَلَيْك بِالْإِخْفَاءِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ) فَإِنَّ الْخَطَرَ يُرَجَّحُ عَلَى النَّدْبِ عِنْدَ جَمْعِهِمَا وَتَعَارُضِهِمَا؛ أَوْ لِأَنَّ عَدَمَ الضَّرَرِ فِي الْخَفَاءِ مُتَيَقَّنٌ وَفِي الْعَلَنِ مُحْتَمَلٌ وَالْمُحْتَمَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ (لَا أَنْ يَكُونَ الْإِظْهَارُ وَاجِبًا) كَالْجُمُعَةِ (أَوْ سُنَّةً كَالْجَمَاعَةِ) فَحِينَئِذٍ يُظْهِرُهُ وَيُظْهِرُ الرَّغْبَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَتْرُكُ مِثْلَهُمَا بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الرِّيَاءِ. ثُمَّ قِيلَ هُنَا وَاحْتِمَالُ الرِّيَاءِ فِي الْجَهْرِ أَيْ فِي الْأَذْكَارِ لَا يُوجِبُ حُرْمَتَهُ غَايَتُهُ أَوْلَوِيَّةُ الْإِخْفَاءِ إذْ لَمْ يُقَارِنْ الْجَهْرَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَغَرَضٍ مَسْنُونٍ كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَالْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ وَإِيقَاظِ الْغَافِلِينَ وَتَلْقِينِ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ وَإِذَا قُرِنَ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كَانَ الْجَهْرُ أَوْلَى كَمَا فِي التَّحْقِيقِيَّةِ انْتَهَى أَقُولُ إطْلَاقُهُ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ الْمُشَارَةِ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فَعَلَيْك الْإِخْفَاءُ إلَى آخِرِهِ فَإِنَّ فِي جَانِبِ الْجَهْرِ احْتِمَالَ الْحُرْمَةِ وَفِي جَانِبِ الْخَفَاءِ قَطْعِيَّةَ الْفَضِيلَةِ وَلَمْ يَدْعُ دَاعٍ مِنْ الشَّرْعِ كَالسُّنَّةِ غَايَتُهُ هُوَ الْجَوَازُ أَوْ الْأَفْضَلِيَّةُ إذَا سَلِمَ مِنْ الْمَوَانِعِ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْمُظْهِرِ الذِّكْرَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ جَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ رِيَاءٍ لِيَغْتَنِمَ النَّاسُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ وَوُصُولِ بَرَكَةِ الذِّكْرِ إلَى السَّامِعِينَ وَلْيَشْهَدْ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ أَقُولُ قَدْ كَثُرَ فِي حَقِّ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ كَلَامٌ جَوَازًا أَوْ لَا وَأَفْضَلِيَّةً أَوْ لَا بِالْأَدِلَّةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ جَرْحًا وَتَعْدِيلًا وَلِهَذَا حَرَّرْنَا رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ حَاصِلُهَا الْجَوَازُ عِنْدَ خُلُوِّهِ عَنْ الْعُيُوبِ الشَّرْعِيَّةِ كَالرِّيَاءِ وَفَضْلُهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَغْرَاضِ وَالْأَحْوَالِ. (وَمِنْ ذَلِكَ) التَّرَدُّدِ (التَّحْدِيثُ) الْإِخْبَارُ (بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْفَرَاغِ) مِنْهَا (وَحُكْمُهُ حُكْمُ إظْهَارِ نَفْسِهِ) نَفْسِ الْعَمَلِ فَإِنْ بِقَصْدِ الِاقْتِدَاءِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ لِنَظَرِ الْخَلْقِ فَرِيَاءٌ وَإِنْ اشْتَبَهَ أَسَرَّ قِيلَ وَالْخَطَرُ فِي هَذَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّ مَئُونَةَ النُّطْقِ خَفِيفَةٌ عَلَى اللِّسَانِ وَقَدْ يَجْرِي فِي الْحِكَايَةِ زِيَادَةٌ وَمُبَالَغَةٌ وَلِلنَّفْسِ لَذَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي إظْهَارِ الدَّعَاوَى (إلَّا أَنَّهُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ الرِّيَاءُ) بِأَنْ يَكُونَ الْإِخْلَاصُ عِنْدَ الْعَمَلِ فَيَعْرِضُ الرِّيَاءُ عِنْدَ الْإِخْبَارِ (لَمْ يُؤَثِّرْ) وَلَوْ نَقْصًا (فِي إفْسَادِ الْعِبَادَةِ الْمَاضِيَةِ) بَلْ تَبْقَى صَحِيحَةً مُعْتَدَّةً بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِتَمَامِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَدَمُ فِي الصِّفَاتِ

الْعَارِضَةِ وَأَنَّ أَصْلَ الْمَتْبُوعِ لَا يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْوَصْفِ الْعَارِضِ وَأَنَّ الْأَصْلَ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَيُقَرِّبُهُ مَا قَالُوا الْبَقَاءُ عَلَى وَفْقِ الثُّبُوتِ فَمَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ التَّأْثِيرِ فَلَيْسَ بِمُخْتَارٍ (بَلْ يَكُونُ تَحْدِيثُهُ مَعْصِيَةً جَدِيدَةً) وَإِنْ كَانَ مَا يَحْدُثُ عَنْهُ طَاعَةً (وَبِالْجُمْلَةِ الْإِخْفَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ إظْهَارُهَا) وَلَمْ يُسَنَّ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (أَفْضَلُ مِنْ الْإِظْهَارِ) لِخُلُوِّهِ عَنْ احْتِمَالِ الرِّيَاءِ وَيَكُونُ مُعَامَلَةً خَاصَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ (إلَّا عِنْدَ التَّيَقُّنِ) فَلَا يُفِيدُ الظَّنُّ فَضْلًا عَنْ الشَّكِّ (بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ) لِمَنْ لَا يَعْلَمُ (وَالِاقْتِدَاءِ) يَشْمَلُ التَّعْلِيمَ لِمَنْ يَعْلَمُ وَلَكِنْ لَا يَعْمَلُ (فَالْإِظْهَارُ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَفِيهِ إيقَاظُ النَّائِمِينَ وَإِرْشَادُ الْغَافِلِينَ وَتَرْغِيبٌ فِي الْخَيْرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَدَّ بَابُ إظْهَارِ الْأَعْمَالِ، وَالطِّبَاعُ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالِاقْتِدَاءِ بَلْ فِي إظْهَارِ الْمُرَائِي لِلْعِبَادَةِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ عَنْ رِيَاءٍ خَيْرٌ كَثِيرٌ لِلنَّاسِ، وَلَكِنَّهُ شَرٌّ لِلْمُرَائِي فَكَمْ مِنْ مُخْلِصٍ كَانَ سَبَبُ إخْلَاصِهِ الِاقْتِدَاءَ بِمَنْ هُوَ مُرَاءٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ عَنْ الْكَشَّافِ فِي سُورَةِ أَرَأَيْت مِنْ أَوْلَوِيَّةِ الْإِخْفَاءِ عِنْدَ عَدَمِ غَرَضٍ صَحِيحٍ وَأَوْلَوِيَّةٌ بِالْجَهْرِ وَالْإِعْلَانِ أَوْلَى إنْ بِنِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَإِزَالَةِ الْغَفْلَةِ وَإِيقَاعِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَغَيْرِهَا. وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]- وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْجَهْرِ لَيْسَ لِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لِتَصْوِيرِ النَّفْسِ بِالذِّكْرِ وَرُسُوخِهِ فِيهَا وَمَنْعِهَا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ وَهَضْمِهَا بِالتَّضَرُّعِ وَالْجِوَارِ (وَقِسْ عَلَى هَذَا أَمْثَالَهَا) مِنْ الْمُتَرَدِّدَاتِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ. (وَمِنْ جُمْلَةِ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ) جَمْعُ كَيْدٍ بِمَعْنَى إلْحَاقِ الشَّرِّ بِالْغَيْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ (أَنَّ الرَّجُلَ) مَثَلًا (قَدْ يَكُونُ لَهُ وِرْدٌ) بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمٌ لِلْجُزْءِ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَرِدُ بِهِ عَلَى الْقَلْبِ مَا يَرِدُ مِنْ الْفَيْضِ وَلِارْتِوَاءِ الْقَلْبِ بِهِ مِنْ عَطَشِ الْغَفْلَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (مُعَيَّنٌ كَصَلَاةِ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدِ) بَعْدَ نَوْمٍ مِنْ اللَّيْلِ وَقِيلَ بَيْنَ نَوْمَتَيْنِ وَصَلَاةُ الْأَوَّابِينَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ (فَيَقَعُ فِي قَوْمٍ لَا يَفْعَلُونَهُمَا فَيَتْرُكُهُمَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ) مِنْ حَمْلِهِمْ عَلَى الرِّيَاءِ (فَهَذَا) التَّرْكُ (غَلَطٌ وَمُتَابَعَةٌ لِلشَّيْطَانِ) لِأَنَّ بُغْيَتَهُ قَطْعُ الْعِبَادَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (إذْ مُدَاوَمَتُهُ السَّابِقَةُ) عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْقَوْمِ (دَلِيلٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَمُجَرَّدُ وُقُوعِ خَاطِرَةِ الرِّيَاءِ فِي الْقَلْبِ بِلَا اخْتِيَارٍ وَ) لَا (قَبُولٍ) مِنْهُ لَهُ (لَيْسَ بِضَارٍّ وَلَا رِيَاءٍ وَلَا مُخِلٍّ) مِنْ الْخَلَلِ (بِالْإِخْلَاصِ) وَلِأَنَّ كَوْنَ أَصْلِهِ بِإِخْلَاصٍ مَجْزُومٍ وَمُتَيَقَّنٍ وَعُرُوضُ الرِّيَاءِ مَشْكُوكٌ وَمُحْتَمَلٌ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَقَدْ سَمِعْت آنِفًا أَيْضًا مَا يُصَحِّحُ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْإِخْلَاصَ وَالرِّيَاءَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ فَالْإِخْلَاصُ السَّابِقُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَا فِي اللَّاحِقِ (فَتَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِهِ مُوَافَقَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَتَحْصِيلٌ لِغَرَضِهِ) الَّذِي هُوَ مَنْعُ الْمَرْءِ عَنْ عِبَادَةِ

مَوْلَاهُ وَعَنْ الْفُضَيْلِ الرِّيَاءُ تَرْكُ الْعَمَلِ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ وَأَمَّا الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ فَشِرْكٌ (نَعَمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَزِيدَ) عِنْدَ هَؤُلَاءِ (عَلَى الْمُعْتَادِ) الْأَصْلِيِّ (إنْ لَمْ يَجِدْ بَاعِثًا) دَاعِيًا (دِينِيًّا) فَإِنْ وَجَدَهُ يَزِيدُ مَا يَشَاءُ. (وَقَدْ يَتْرُكُهُمَا) أَيْ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدَ (لَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ بَلْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الرِّيَاءِ) أَيْ لِئَلَّا يَنْسُبَهُ أَحَدٌ إلَى الرِّيَاءِ (وَيُقَالُ إنَّهُ مُرَاءٍ) فَيَتْرُكُ مَا اعْتَادَهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ (وَهَذَا عَيْنُ الرِّيَاءِ) لِأَجْلِ النَّاسِ وَأَنَّهُ إذَا صَحَّ مُعَامَلَتُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُغَيِّرْ فِي الْوَحْدَةِ وَالْخُلْطَةِ (لِأَنَّهُ تَرَكَ) إيَّاهُمَا (خَوْفًا مِنْ سُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ وَفِيهِ) أَيْ فِي التَّرْكِ لِلْخَوْفِ الْمَذْكُورِ (أَيْضًا سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] (وَقَدْ يُوقِعُ الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَتْرُكَ) أَيْ الْوِرْدَ (لِأَجْلِ صِيَانَتِهِمْ عَنْ مَعْصِيَةِ الْغِيبَةِ لَا لِلْفِرَارِ مِنْ ذَمِّهِمْ) لَهُ (وَسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ وَهَذَا) التَّرْكُ لِأَجْلِ الصِّيَانَةِ (أَيْضًا سُوءُ الظَّنِّ بِهِمْ) وَلِمَا وَرَدَ هَلْ يَحْسُنُ تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ صِيَانَتِهِمْ مِنْ مَعْصِيَةِ الْغِيبَةِ أَجَابَ (وَصِيَانَةُ الْغَيْرِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ إنَّمَا يَحْسُنُ فِي تَرْكِ الْمُبَاحَاتِ لَا الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالسُّنَنِ) لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُقَدِّمُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ عَلَى مَضَرَّةِ الْغَيْرِ وَقَدْ كَانَ صُدُورُهَا مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ كَمَا يُنَاسِبُ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَإِنْ أَضَرَّ غَيْرَهُ وَإِنْ خَالَفَ آخَرَ عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ قَطْعِيَّةٌ وَالْمَضَرَّةَ احْتِمَالِيَّةٌ وَقَدْ أَمْكَنَ تَضَمُّنُهُ مَنْفَعَةً لَهُمْ بِنَحْوِ الِاقْتِدَاءِ وَتَنْشِيطِ الطَّاعَةِ حَالًا أَوْ مَآلًا. (وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ) أَيْ مِنْ عَدَمِ حُسْنِ التَّرْكِ لِأَجْلِ صِيَانَةِ الْغَيْرِ (تَرْكُ السِّوَاكِ) بِكُلِّ خَشِنٍ وَأَصْلُهُ مِنْ الزَّيْتُونِ فَإِنَّهُ سِوَاكُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْيَنَابِيعِ أَوْ مِنْ خَشَبِ الْخَوْخِ

أَوْ التُّوتِ أَوْ أَصْلِ الشَّوْكِ كَمَا نُقِلَ عَنْ صَلَاةِ الْمَسْعُودِيِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ شَجَرٍ مُرٍّ فِي غِلَظِ الْخِنْصَرِ وَطُولِ الشِّبْرِ فَلَا يَكُونُ أَقْصَرَ مِنْ الشِّبْرِ وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ الشَّيْطَانُ يَرْكَبُ عَلَى زِيَادَةِ الشِّبْرِ وَفِي الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِوَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا الْعِلْكُ فِي حَقِّهَا كَالسِّوَاكِ فِي حَقِّهِ وَأَنَّ الْإِبْهَامَ وَالْمُسَبِّحَةَ لَا يَقُومَانِ مَقَامَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِالْقِيَامِ عِنْدَ الْفِقْدَانِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ، فَيَمُرُّ طُولًا عَلَى عَرْضِ السِّنِّ الْأَيْمَنِ الْأَعْلَى ثُمَّ الْأَسْفَلِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ كَذَلِكَ ثُمَّ عَلَى وَجْهِ اللِّسَانِ بَعْدَمَا يَجْعَلُ إبْهَامَ الْيُمْنَى وَخِنْصَرَهَا تَحْتَ السِّوَاكِ وَالْبَاقِيَ فَوْقَهُ وَلَا يَقْبِضُ الْقَبْضَةَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَوَاسِيرَ وَلَا بِطَرَفَيْ السِّوَاكِ وَلَا يُمَصُّ فَيُورِثَ الْعَمَى وَيُغْسَلُ بَعْدَ الِاسْتِيَاكِ لِئَلَّا يَسْتَاكَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَلَا يُوضَعُ عَرْضًا بَلْ يُنْصَبُ وَإِلَّا فَخَطَرُ الْجُنُونِ «وَمَوْضِعُ سِوَاكِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أُذُنِهِ مَوْضِعُ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ» وَسِوَاكُ أَصْحَابِهِ خَلْفَ آذَانِهِمْ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَضَعُ فِي طَيِّ عِمَامَتِهِ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِالْوُضُوءِ كَمَا قِيلَ بَلْ سُنَّةٌ عَلَى حِدَةِ عَلَى مَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْمَسْعُودِيِّ لَكِنْ فِي الْمَشَارِعِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِيِّ وَمُسْتَحَبٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ قَصْدِ التَّوَضُّؤِ فَيُسَنُّ أَوْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ كَمَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَيَسْتَاكُ حَالَةَ الْمَضْمَضَةِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ عَنْ النِّهَايَةِ. (وَ) تَرْكُ (الطَّيْلَسَانِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَاحِدُ الطَّيَالِسَةِ وَالْهَاءُ فِي الْجَمْعِ لِلْعُجْمَةِ؛ لِأَنَّهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصِّحَاحِ، وَهُوَ رِدَاءٌ يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ وَيُرْسَلُ مِنْ الْأَطْرَافِ، كَذَا قِيلَ وَقِيلَ يُجْعَلُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْمُسْتَحَبُّ إرْسَالُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ إلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَقِيلَ إلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ وَقِيلَ مِقْدَارُ شِبْرٍ وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْقَلَانِسِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُهَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ (وَالْمَشْيُ حَافِيًا) كَمَا هُوَ سِيرَةُ السَّلَفِ كَبِشْرٍ الْحَافِيِّ (وَ) تَرْكُ (رُكُوبِ الْحِمَارِ) الَّذِي فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَنَحْوِهَا) مِنْ السُّنَنِ (صِيَانَةً) عِلَّةً لِلتَّرْكِ (لِأَلْسِنَةِ النَّاسِ عَنْ الْغِيبَةِ وَفِيهِ تَرْكُ السُّنَّةِ) بِتَرْكِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ (وَسُوءُ الظَّنِّ) بِالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ يَغْتَابُونَ (وَعَدَمُ النَّدَامَةِ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بَلْ اسْتِحْسَانُهُ) أَيْ التَّرْكِ (وَعَدُّهَا) أَيْ السُّنَّةِ (عَيْبًا وَنُقْصَانًا وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ) الْمَفَاسِدُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى صِيَانَةِ الْغَيْرِ مِنْ الْغِيبَةِ (تَكْفِي لِزَجْرِ الْعَاقِلِ مَعَ أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ تَرْكَهُ نَاشِئٌ مِنْ الرِّيَاءِ) إذْ لَوْ لَمْ يَنْظُرْ لَهُمْ لَمْ يُبَالِ بِاغْتِيَابِهِمْ (وَقَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الشَّيْطَانِ أَوْ التَّارِكِ (كَذِبٌ وَنِفَاقٌ) أَيْ إظْهَارُ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ (فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا) أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّعَوُّذَ يَقْتَضِي كَوْنَ النِّفَاقِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبِالْجُمْلَةِ إنْ أُرِيدَ الْحَقِيقِيُّ فَمَمْنُوعٌ وَإِنْ الْمَجَازِيُّ كَمَا أَشَرْنَا فَالتَّعَوُّذُ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ. (وَقَدْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ) أَعْنِي (الرِّيَاءَ وَالْإِخْلَاصَ وَالْحَيَاءَ كَرَجُلٍ يَطْلُبُ مِنْهُ صَدِيقُهُ) مَثَلًا (قَرْضًا) مَثَلًا أَيْضًا (وَلَا يَسْخُو) أَيْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ

(بِإِقْرَاضِهِ) أَيْ إعْطَاءِ الْقَرْضِ (إلَّا أَنَّهُ يَسْتَحِيْ مِنْ رَدِّهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ) أَيْ الصِّدِّيقَ (لَوْ أَرْسَلَهُ) أَيْ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ (عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ لَا يَسْتَحِيْ مِنْهُ وَلَا يُقْرِضُ رِيَاءً) لِلنَّاسِ (وَلَا يَطْلُبُ الثَّوَابَ) فِي الْقَرْضِ (فَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ) الْمَطْلَبِ أَحْوَالٌ سِتٌّ ثَلَاثٌ فِي الْمَنْعِ وَثَلَاثٌ فِي الْإِعْطَاءِ (أَنْ يُشَافِهَ) أَيْ يَتَكَلَّمَ فِي حُضُورِهِ (بِالرَّدِّ الصَّرِيحِ) نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لَا أُقْرِضُك (فَيُنْسَبَ) عِنْدَ النَّاسِ (إلَى قِلَّةِ الْحَيَاءِ) بِالْمُشَافَهَةِ بِالرَّدِّ الصَّرِيحِ (أَوْ يَتَعَلَّلَ بِكَذِبٍ) بِأَنْ يَقُولَ لَيْسَ عِنْدِي مَالٌ (أَوْ تَعْرِيضٍ) كَمَنْ يَجِدُ مَا يَطْلُبُهُ وَيَقُولُ لَيْسَ فِي يَدِي شَيْءٌ وَيَقْصِدُ حَقِيقَةَ الْيَدِ لَا الْمِلْكَ أَوْ لَيْسَ عِنْدِي مَالٌ وَيَقْصِدُ مِنْ النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ. (فَيَأْثَمُ) بِالْكَذِبِ (أَوْ يُسِيءُ) بِالتَّعْرِيضِ كَمَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ (إلَّا أَنْ يُوجَدَ حَاجَةٌ إلَى التَّعْرِيضِ فَيُبَاحُ) التَّعْرِيضُ لَا يَخْفَى إذَا اعْتَبَرَ الْحَاجَةَ فَيُمْكِنُ مِثْلُهُ فِي الْكَذِبِ كَمَا سَيَجِيءُ مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْخَطَرَ فِي الْكَذِبِ عَظِيمٌ (أَوْ يُعْطِيَ) عَطْفٌ عَلَى أَنْ يُشَافِهَ (لِمُجَرَّدِ الْحَيَاءِ) مِنْ النَّاسِ (أَوْ لِهَيَجَانِ) أَيْ انْبِعَاثِ (خَاطِرِ الرِّيَاءِ أَنَّهُ) أَيْ بِأَنَّهُ (يَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَ) مَا طُلِبَ مِنْهُ (حَتَّى يُثْنِيَ عَلَيْك) بِالْكَرَمِ وَالْجُودِ (وَيَحْمَدَك وَيَنْشُرَ) مِنْ النَّشْرِ وَالشُّيُوعِ (اسْمَك بِالسَّخَاءِ) وَالْبَذْلِ وَالْجُودِ (أَوْ حَتَّى لَا يَذُمَّك) صَدِيقُك فِي عَدَمِ إقْرَاضِك (وَيَنْسُبَك إلَى الْبُخْلِ) وَالْإِمْسَاكِ (أَوْ لِهَيَجَانِ بَاعِثِ الْإِخْلَاصِ) بِأَنْ يَكُونَ لِطَلَبِ الثَّوَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ وَبَاعِثُهُ (أَنَّ الصَّدَقَةَ بِوَاحِدَةٍ وَالْقَرْضَ) بِالنَّصْبِ (بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ) ضِعْفًا (فَفِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فِي نَفْسِهِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّدَقَةِ فَإِنَّ النُّفُوسَ تَسْمَحُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دُونَ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ ثَوَابُ الصَّدَقَةِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَمْثَالِهِ» وَفِي التتارخانية عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْإِيمَانِ دَخَلَ مِنْ أَيِّ بَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ وَزُوِّجَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ كَمْ شَاءَ مَنْ عَفَا عَنْ قَاتِلٍ وَقَرَأَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ - {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]- عَشْرَ مَرَّاتٍ وَأَدَانَ دَيْنًا لِمَنْ طَلَبَ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ إحْدَاهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَوْ إحْدَاهُنَّ» وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَامَتْ فَانْطَلَقَ رَجُلٌ إلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَلَمَّا أَتَى بَابَ الْجَنَّةِ نَادَى الَّذِي مَعَهُ خَازِنَ الْجَنَّةِ فَأَجَابَ آخَرُ لَيْسَ هُنَا رَضْوَانُ إنَّ هُنَا خَلِيفَتَهُ فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَإِذَا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبٌ الْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَمْثَالِهِ وَالصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ لَكِنَّهَا فِي تَأْيِيدِ نَصٍّ أَوْ تَفْسِيرِ خَفِيٍّ لَهَا نَفْعٌ مُسَلَّمٌ. قِيلَ فِي وَجْهِ فَضْلِ الْقَرْضِ عَلَى الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ احْتِيَاجٍ وَالصَّدَقَةُ قَدْ تَكُونُ بِلَا احْتِيَاجٍ أَوَّلَ وَيُمْكِنُ أَنَّ الْقَرْضَ يَعْسُرُ أَخْذُهُ وَيَشُقُّ تَحْصِيلُهُ فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى السِّعَايَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْمُلَازَمَةِ الْعَدِيدَةِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ وَأَيْضًا مَهْلُهُ وَتَأَخُّرُ طَاعَةٍ أَيْضًا قِيلَ فَيُرَدُّ

عَلَى الْمُصَنِّفِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا بَدَلَ قَوْلِهِ بِوَاحِدَةٍ، وَالْجَوَابُ أَيْ بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا تَكَلُّفٌ ثُمَّ قِيلَ وَتَحْقِيقُ الْأَحْدَاثِ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا حَسَنَةٌ عَدْلٌ وَتِسْعٌ فَضْلٌ وَلَمَّا كَانَ الْقَرْضُ يَرُدُّ إلَيْهِ مَالَهُ سَقَطَ سَهْمُ الْعَدْلِ وَبَقِيَ سِهَامُ الْفَضْلِ وَهِيَ تِسْعَةٌ فَضُوعِفَتْ بِسَبَبِ حَاجَةِ الْمُسْتَقْرِضِ فَصَارَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرٍ ثُمَّ فِيهِ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَمَّنْ لَهُ خَصْمٌ فَمَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ قَالَ يَتَصَدَّقُ عَنْ خَصْمِهِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ فَيُودِعُهُ عِنْدَ رَبِّهِ لِيُوفِيَهُ عَنْ خُصَمَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ سُئِلَ ابْنُ شَدَّادٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى أَبِ رَجُلٍ دَيْنٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الِابْنُ فَمَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ الِابْنُ فَأَكَلَ مِيرَاثَهُ قَالَ لَا يُؤَاخَذُ الِابْنُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ فَإِنْ نَسِيَ الِابْنُ بَعْدَمَا عَلِمَ فَمَاتَ فَلَا يُؤَاخَذُ، وَكَذَا وَدِيعَةٌ نَسِيَهَا فَمَاتَ انْتَهَى لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهِ عَلَى قَصْدِ الْأَدَاءِ لَكِنْ تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ مَعَ إمْكَانِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَاخَذَ بِهِ وَلَمْ أَقِفْ فَيُطْلَبُ (وَإِدْخَالُ سُرُورٍ عَلَى قَلْبِ صَدِيقٍ) وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِي أَصْلِهِ فَضَلَ فَضْلًا عَنْ صَدِيقٍ مُتَحَابٍّ فِي اللَّهِ، وَذَلِكَ مَحْمُودٌ عِنْدَ اللَّهِ فَيَسْخُو فِي الْإِعْطَاءِ لِذَلِكَ وَهَذَا مُخَلِّصٌ لِمَنْ هَيَّجَ الْحَيَاءُ إخْلَاصَهُ. (وَقَدْ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ) فِي عَمَلِ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ (أَوْ اثْنَانِ) مِنْهَا (وَحُكْمُ التَّسَاوِي وَالطَّرَفَيْنِ) الْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ (قَدْ بَيَّنَّا) فِي الْمَبْحَثِ الْخَامِسِ مِنْ أَنَّ التَّسَاوِيَ وَالْغَالِبَ يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ وَالْمَغْلُوبُ يُنْقِصُ الْأَجْرَ فَلَا يَتْرُكُ الْعِلْمَ حِينَئِذٍ بَلْ يَجْتَهِدُ فِي إزَالَةِ ذَلِكَ الْمَغْلُوبِ أَيْضًا لِيُكْمِلَ الْأَجْرَ وَفِي الْأَوَّلَيْنِ إمَّا أَنْ يَتْرُكَ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ يَجْتَهِدَ فِي التَّبْدِيلِ ثُمَّ الْمُتَبَادَرُ فِي الْغَالِبِيَّةِ وَالتَّسَاوِي وَهُوَ بِحَسَبِ الْكَيْفِ لَا بِحَسَبِ الْكَمِّ فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ الْغَالِبِ كَحُكْمِ الْكُلِّ فِي إبْطَالِ الْعِبَادَةِ، وَالْحُكْمُ لِلْأَكْثَرِ فَمَا وَجْهُ الْإِبْطَالِ فِي التَّسَاوِي قُلْنَا قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَظْرَ رَاجِحٌ عَلَى النَّدْبِ وَأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِأَصْلِ رُجْحَانِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي إذْ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ مُوجِبَ الْبُطْلَانِ مِنْ قَبِيلِ النَّافِي وَأَيْضًا عِنْدَ تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فَمَا كَانَ بِالْوَصْفِ الذَّاتِيِّ أَوْلَى مِمَّا كَانَ بِالْوَصْفِ الْعَرْضِيِّ كَتَرْجِيحِنَا الصِّحَّةَ عَلَى الْفَسَادِ فِيمَا يَكُونُ النِّيَّةُ فِي رَمَضَانَ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا فَاسِدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْمَنْصُوصِيَّةَ فِي الْأَصْلِ فَتَأَمَّلْ. (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ الْمُجْتَمَعِ فِيهِ الثَّلَاثَةُ (تَرْكُ الذُّنُوبِ الْحَالِيَّةِ) أَيْ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي الْحَالِ عِنْدَ النَّاسِ (فَإِنَّهُ) أَيْ التَّرْكَ (قَدْ يَكُون لِلَّهِ) خَوْفًا مِنْهُ (تَعَالَى) عَزَّ وَجَلَّ (وَعَلَامَتُهُ تَرْكُهَا فِي الْخَلْوَةِ أَيْضًا) كَمَا عِنْدَ النَّاسِ، إذْ شَأْنُ الْمُخْلِصِ اسْتِوَاءُ حَالَاتِهِ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ مَنْ يُعَامِلُهُ بِذَلِكَ (وَقَدْ يَكُونُ) التَّرْكُ (لِلْحَيَاءِ مِنْ النَّاسِ) فَيَخَافُ مِنْ لَوْمِهِمْ فَيَتْرُكُ وَلَوْلَا النَّاسُ لَاجْتَرَأَ عَلَيْهِ (وَقَدْ يَكُونُ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ) فِي تِلْكَ الذُّنُوبِ (فَيَعْظُمُ إثْمُهُ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» فَمَنْ فَعَلَ مَعْصِيَةً وَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ فِيهَا فَعَلَيْهِ إثْمُهَا وَإِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (أَوْ لِئَلَّا يَصْغُرَ فِي عَيْنِهِ) فِي عَيْنِ الْغَيْرِ (فَلَا يَقْتَدِي بِهِ وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ) فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ (فَيُحْرَمُ) مِنْ الْحِرْمَانِ (مِنْ ثَوَابِ الْإِصْلَاحِ) بَيْنَ النَّاسِ (وَقَدْ يَكُونُ) أَيْ التَّرْكُ (لِئَلَّا يُقْصَدَ بِشَرٍّ) مِنْ الْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ عَلَى ذَنْبِهِ (أَوْ لِئَلَّا يَذُمَّهُ النَّاسُ فَيَعْصُونَ بِهِ) بِسَبَبِ ذَمِّهِ فَفِي التَّرْكِ صِيَانَةٌ لَهُمْ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ إعْلَانَ الْمَعْصِيَةِ فِسْقٌ وَلَا غِيبَةَ لِلْفَاسِقِ، فَالنَّاسُ لَا يَعْصُونَ بِذَمِّهِمْ بَلْ الذَّمُّ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ لِتَنْفِيرِ الْغَيْرِ خُصُوصًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ كَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَالْأَشْخَاصِ قَالَ الرَّاغِبُ مَنْ لَا يُخَوِّفُهُ الْهِجَاءُ وَلَا يَسُرُّهُ الثَّنَاءُ لَا يَرْدَعُهُ عَنْ سُوءِ الْفِعَالِ إلَّا سَوْطٌ أَوْ سَيْفٌ وَقِيلَ مَنْ لَمْ يَرْدَعْهُ الذَّمُّ عَنْ سَيِّئَةٍ وَلَمْ يَسْتَدْعِهِ الْمَدْحُ إلَى حَسَنَةٍ فَهُوَ جَمَادٌ أَوْ بَهِيمَةٌ وَلَيْسَ الثَّنَاءُ فِي نَفْسِهِ بِمَحْمُودٍ وَلَا مَذْمُومٍ وَإِنَّمَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ. كَذَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ تَأَمَّلْ (وَعَلَامَتُهُ) أَيْ عَلَامَةُ التَّرْكِ لِعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ

(أَنْ يَكْرَهَ) التَّارِكُ (ذَمَّهُمْ) أَيْ النَّاسِ (لِغَيْرِهِ أَيْضًا) كَمَا لِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لَهَا وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ عُضْوٌ وَاحِدٌ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» وَفِي رِوَايَةٍ «الْمُؤْمِنُونَ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْأَعْضَاءِ إلَى الْحَنِينِ وَالسَّهَرِ» (أَوْ لِئَلَّا يَتَأَذَّى طَبْعُهُ بِذَمِّ النَّاسِ فَإِنَّ فِيهِ) أَيْ تَأَذِّي طَبْعِهِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ (وَالشُّعُورُ بِالنُّقْصَانِ وَتَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِالذَّمِّ لَيْسَ بِحَرَامٍ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ (وَإِنَّمَا يَحْرُمُ) أَيْ التَّأَلُّمُ (إذَا دَعَاهُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ) مِنْ نَحْوِ ضَرْبٍ (نَعَمْ كَمَالُ الصِّدْقِ) أَيْ الصِّدْقُ الْكَامِلُ فَمِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا (فِي أَنْ يَزُولَ) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ كَمَالُ الصِّدْقِ (عَنْ رُؤْيَةٍ) أَيْ نَظَرِ (الْخَلْقِ فَيَسْتَوِي عِنْدَهُ ذَامُّهُ وَمَادِحُهُ) مِنْهُمْ (لِعِلْمِهِ أَنَّ الضَّارَّ وَالنَّافِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى) لَا غَيْرُ (وَأَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ عَاجِزُونَ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك لَمْ يَنْفَعُوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَك وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْك» (وَذَلِكَ) أَيْ صَاحِبُ كَمَالِ الصِّدْقِ (قَلِيلٌ جِدًّا) بَلْ فِي زَمَانِنَا مِنْ قَبِيلِ مَوْجُودِ الِاسْمِ مَعْدُومِ الْجِسْمِ كَالْعَنْقَاءِ وَغَايَةٌ عَزِيزَةٌ كَالْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَالْكِيمْيَاءِ إذْ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ مِصْدَاقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» . عَنْ عَلْقَمَةَ الْعُطَارِدِيِّ فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ يَا بُنَيَّ إنْ عَرَضَتْ لَك حَاجَةٌ فَاصْحَبْ مَنْ إذَا خَدَمْته صَانَك وَإِنْ صَحِبْته زَانَك أَيْ حَفِظَك وَإِنْ قَعَدَ بِك مَانَك أَيْ حَمَلَ مَئُونَتَك اصْحَبْ مَنْ إذَا مَدَدْت يَدَك لِخَيْرٍ مَدَّهَا وَإِنْ رَأَى مِنْك حَسَنَةً عَدَّهَا وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً سَدَّهَا اصْحَبْ مَنْ إذَا سَأَلْته أَعْطَاك وَإِنْ نَزَلَتْ بِك نَازِلَةٌ وَاسَاك أَيْ جَعَلَك كَنَفْسِهِ (أَوْ لِئَلَّا يَشْغَلَ قَلْبَهُ الْفَارِغَ) مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَجُّهِهِ أَوْ الْفَارِغَ مِنْ الْهَمِّ (بِذَمِّهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَشْغَلُ (فَلَا يَتَفَرَّغُ لِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ الذُّنُوبِ وَلَا يَتْرُكُ بَعْضَ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَانَ نَفْلًا) كَمَنْ يَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيُدَاوِمُ عَلَى إقَامَةِ اللَّيَالِيِ بِالتَّهَجُّدِ وَيُدَاوِمُ عَلَى نَحْوِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَالْأَوْرَادِ (وَقَدْ يَكُونُ) ذَلِكَ التَّرْكُ (لِئَلَّا يَظْهَرَ الْمَعْصِيَةُ) عَلَيْهِ (فَيُضَعَّفَ) بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يُنْسَبَ إلَى الضَّعْفِ (خ) الْبُخَارِيُّ (م) مُسْلِمٌ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى» بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْ سَلَّمَهُ اللَّهُ وَسَلِمَ مِنْهُ «إلَّا الْمُجَاهِرِينَ» مِنْ جَاهَرَ بِكَذَا بِمَعْنَى جَهَرَ بِهِ أَيْ الْمُعْلِنِينَ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يُعَافَوْنَ وَعَبَّرَ بِفَاعِلَ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِ الْمُفَاعَلَةِ أَوْ الْمُرَادُ الَّذِينَ يُجَاهِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالتَّحَدُّثِ بِالْمَعَاصِي وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ جَمَاعَةَ إفْشَاءَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْمُبَاحِ وَيُؤَيِّدُهُ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ فِي الْوَعِيدِ عَلَيْهِ أَوْ الْمُرَادُ الْمُشْتَهِرِينَ بِإِظْهَارِ الْمَعَاصِي آخِرَ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى تَخْرِيجِ

الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَيْضًا عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ هَكَذَا «الَّذِي يَعْمَلُ الْعَمَلَ بِاللَّيْلِ فَيَسْتُرُهُ رَبُّهُ ثُمَّ يُصْبِحُ فَيَقُولُ يَا فُلَانُ إنِّي عَمِلْت الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، فَيَكْشِفُ مَا سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ إظْهَارُ الْجَمِيلِ وَسَتْرُ الْقَبِيحِ فَالْإِظْهَارُ كُفْرَانٌ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَتَهَاوُنٌ بِسِتْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّوَوِيُّ فَيُكْرَهُ لِمَنْ اُبْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ أَنْ يُخْبِرَ غَيْرَهُ بِهَا إلَّا مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ مَخْرَجًا عَنْهَا بِخَبَرِهِ كَشَيْخِهِ أَوْ سَلَامَتَهُ مِنْ مِثْلِهَا وَقَالَ الْغَزَالِيُّ الْكَشْفُ الْمَذْمُومُ مَا لَا يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ كَالِاسْتِفْتَاءِ وَالِاسْتِنْصَاحِ (أَوْ لِئَلَّا يَهْتِكَ سِتْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَخَافُ أَنْ يَهْتِكَ اللَّهُ سِتْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِيهِ أَيْضًا عَلَى تَخْرِيجِ هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ هَذَا الرَّاوِي بَدَلَ هَذَا «وَإِنَّ مِنْ الْجِهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا سَيِّئًا ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَقُولُ عَمِلْت الْبَارِحَةَ أَيْ اللَّيْلَ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْعِصْيَانِ وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَأَصْبَحَ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ» بِاشْتِهَارِ ذَنْبِهِ فِي الْمَلَأِ وَذَلِكَ جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَى سِتْرِ اللَّهِ وَتَحْرِيكٌ لِرَغْبَةِ الشَّرِّ فِيمَنْ أَسْمَعَهُ أَوْ أَشْهَدَهُ فَهُمَا جِنَايَتَانِ انْضَمَّتَا إلَى جِنَايَتِهِ فَتَغَلَّظَتْ بِهِ فَإِنْ انْضَافَ إلَى ذَلِكَ التَّرْغِيبُ لِلْغَيْرِ فِيهِ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ صَارَتْ جِنَايَةً رَابِعَةً وَتَفَاحَشَ الْأَمْرُ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ إمَّا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى أَوْ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَوْ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا فِي الشَّيْخَيْنِ فَافْهَمْ (م) مُسْلِمٌ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) مَرْفُوعًا «مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا» أَيْ ذَنْبًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «إلَّا سَتَرَ» هـ اللَّهُ «عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ» فَضْلًا وَإِحْسَانًا فَكَمَا سَتَرَ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَسْتُرُ فِي دَارِ الْقَرَارِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَيُعَيِّرُهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ النَّوَوِيُّ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ مُتَوَقٍّ مُتَحَفِّظٌ وَقَعَ فِي الذَّنْبِ وَخَافَ مِنْ رَبِّهِ وَرَأَى فَضِيحَتَهُ حَيْثُ نَظَرَهُ مَوْلَاهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَخَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَدِمَ فَطَلَبَ الْمَغْفِرَةَ وَهِيَ السِّتْرُ فَسَتَرَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ عَطْفًا مِنْهُ عَلَيْهِ فَإِذَا عُرِضَتْ أَعْمَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُقِّقَ لَهُ مَا أَمَّلَهُ مِنْ سِتْرِهِ وَلَا يُعَيِّرُهُ أَيْ هُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ سَتَّارٌ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ السَّاتِرِينَ (وَقَدْ يَكُونُ) أَيْ التَّرْكُ (لِيُرِيَ) مِنْ الْإِرَاءَةِ (النَّاسَ) لِيَعْلَمُوا أَوْ يَظُنُّوا (أَنَّهُ وَرِعٌ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مِنْ الْوَرَعِ هُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ (خَائِفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ) فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (كَذَلِكَ فَهَذَا رِيَاءٌ مَحْظُورٌ وَمَا قَبْلَهُ) مِنْ الْمَذْكُورَاتِ (كُلُّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِرِيَاءٍ) لِأَنَّهُ لَا لِنَظَرِ شَيْءٍ مِنْ الْخَلْقِ بَلْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى (وَحُكْمُ الْمُمْتَزِجِ) مِنْ الرِّيَاءِ وَغَيْرِهِ (مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ) فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ فَالْمَغْلُوبُ يُنْقِصُ أَجْرَ الطَّاعَةِ وَلَا يُبْطِلُهَا وَالْمُسَاوِي وَالْغَالِبُ وَالْمَحْضُ يُبْطِلُهَا (وَسَتْرُ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ وَعَدَمُ ذِكْرِهَا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ) فَقَدْ يَكُونُ لِإِرَاءَةِ النَّاسِ أَنَّهُ وَرِعٌ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ رِيَاءً وَقَدْ يَكُونُ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ رِيَاءً. (وَمِنْ) الْأُمُورِ (الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْحَيَاءِ أَنْ يَمْشِيَ رَجُلٌ عَلَى الْعَجَلَةِ فَيُرَى) مِنْ الرُّؤْيَةِ وَيُحْتَمَلُ مِنْ الرِّيَاءِ (وَاحِدًا مِنْ الْكُبَرَاءِ) ذَوِي الْوَجَاهَةِ وَالْجَاهِ وَالشَّرَفِ فَإِنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِغَيْرِهِمْ فَلَا يُغَيِّرُ صَنِيعَهُ (فَيَعُودُ إلَى الْهُدُوءِ) أَيْ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ (أَوْ يَضْحَكُ) فِي خَلْوَتِهِ أَوْ عِنْدَ النَّاسِ الَّذِينَ لَهُمْ مَعَهُ أُلْفَةٌ وَمُؤَانَسَةٌ فَعِنْدَ رُؤْيَةِ كَبِيرٍ أَوْ غَرِيبٍ (فَيَرْجِعُ إلَى الِانْقِبَاضِ) بِتَرْكِ الضَّحِكِ (وَالْأَغْلَبُ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْمَشْيِ وَالضَّحِكِ (الرِّيَاءُ لِأَنَّ الْحَيَاءَ فِي الْأَكْثَرِ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالذُّنُوبِ) وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا عَلَى قِلَّةٍ فَإِنْ قِيلَ الْحَيَاءُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ وَتَرْكِ الْقَبِيحِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِهِمَا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِهِمَا وَلَوْ قِلَّةً قُلْنَا التَّعْرِيفُ عَلَى الْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقَبَائِحُ شَامِلَةً لِمَا هِيَ عِبَادِيَّةٌ ثُمَّ نَقُولُ وَشَيْءٌ مِنْهُمَا أَيْ الْمَشْيِ وَالضَّحِكِ لَيْسَ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالذُّنُوبِ فَيَنْتِجُ مِنْ الشَّكْلِ الثَّانِي لَيْسَ فِيهِمَا حَيَاءٌ فِي الْأَكْثَرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ

فِيهِمَا حَيَاءٌ فَمَا فِيهِمَا هُوَ الرِّيَاءُ فِي الْأَغْلَبِ فَيَشْكُلُ أَنَّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعِبَادَةِ وَشَيْءٌ مِنْهُمَا لَيْسَ مِنْ الْعِبَادَةِ فَتَأَمَّلْ أَوَّلًا وَثَانِيًا (وَهُوَ) أَيْ الْحَيَاءُ (فِيهِمَا) أَيْ الْقَبَائِحِ وَالذُّنُوبِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ إرْجَاعَ ضَمِيرِ هُوَ إلَى الرَّجُلِ وَضَمِيرِ فِيهِمَا إلَى الْمَشْيِ وَالضَّحِكِ غَيْرُ صَحِيحٍ كَإِرْجَاعِ الْأَوَّلِ إلَى الْحَيَاءِ مَعَ إرْجَاعِ الثَّانِي إلَى الْمَشْيِ وَالضَّحِكِ (مَحْمُودٌ) لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي مَسَاغَ التَّرْكِ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْوُجُوبُ وَتَعْمِيمُ الْمَحْمُودِيَّةِ إلَى رُتْبَةِ الْوُجُوبِ أَوْ إرَادَتُهُ مِنْهَا وَإِنْ صَحَّ أَصْلًا لَكِنْ بَعِيدٌ اسْتِعْمَالًا فَيَرِدُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْمُرَجَّحِ الْمَشْيُ وَالضَّحِكُ فَكَوْنُهُ مَحْمُودًا فِي نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ وَإِنْ الْقَبَائِحَ وَالذُّنُوبَ فَاللَّازِمُ هُوَ الْوُجُوبُ لَا الْمَحْمُودِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَإِمَّا يَخْتَارُ الْأَوَّلَ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]- وقَوْله تَعَالَى - {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37]- وَالثَّانِيَ بِنَحْوِ مَا أُشِيرَ وَبِادِّعَاءِ أَنَّ كُلَّ مَحْمُودٍ فَوَاجِبٌ فَتَأَمَّلْ (وَلَوْ مِنْ النَّاسِ) لَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْحَيَاءَ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَمَّا كَانَ فِي نَفْسِهِ مُجْمَلًا مَعَ إيهَامِهِ خِلَافَ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مِنْ النَّاسِ وَاحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ قَالَ (وَسَيَجِيءُ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا الْحَيَاءُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ وَالسُّنَنِ وَالْوَاجِبَاتِ فَمَذْمُومٌ جِدًّا) لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، وَالِاسْتِحْيَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْبَاطِلِ (وَيُسَمَّى عَجْزًا) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ تَرْكُ الطَّاعَةِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا (وَضَعْفًا) خِلَافَ الْقُوَّةِ (خَوَرًا) بِفَتْحَتَيْنِ وَمُعْجَمَةٍ أَيْ لِينًا خِلَافَ الشِّدَّةِ فَإِنْ قِيلَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ يَقْتَضِي عِنْدَ التَّكْلِيفِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَذْمُومًا قُلْنَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ وَأَمَّا هُنَا فَمَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ الْمَنْقُولُ (كَمَنْ يَسْتَحْيِي مِنْ الْوَعْظِ) لِعِظَمِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ فِي الصُّورَةِ فَيَتْرُكُهُ إجْلَالًا لَهُمْ أَوْ خَوْفًا مِنْ تَعْيِيرِهِمْ وَتَخْطِئَتِهِمْ (وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ) لِرِفْعَةِ الْمَأْمُورِ وَجَاهِهِ (وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ وَنَحْوِهَا) كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَتَقْرِيرِ الْمَسَائِلِ وَفَتْوَى الْمُسْتَفْتِي فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ كُلُّهُ» ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَذْمُومًا؟ قُلْت قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إنَّهُ لَيْسَ بِحَيَاءٍ حَقِيقَةً بَلْ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ وَخَوَرٌ وَإِنَّمَا يُطْلِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعُرْفِ مَجَازًا وَحَقِيقَةُ الْحَيَاءِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ وَيَمْنَعُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. وَقَالَ أَيْضًا سُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْحَيَاءِ مِنْ الْإِيمَانِ هَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ أَوْ مُطْلَقٌ فَقَالَ مُقَيَّدٌ بِتَرْكِ الْحَيَاءِ فِي الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَإِلَّا فَعَدَمُهُ مَطْلُوبٌ وَتَرْكُهُ مِنْ النُّعُوتِ الْإِلَهِيَّةِ {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا} [البقرة: 26] {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] (فَ) الْمُؤْمِنُ (الْقَوِيُّ يُؤْثِرُ الْحَيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) بِانْقِبَاضِ نَفْسِهِ عَنْ الْقَبَائِحِ (عَلَى الْحَيَاءِ مِنْ النَّاسِ) فَيَأْتِي بِمَا ذُكِرَ مِنْ الطَّاعَاتِ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَلَا يُبَالِي

المبحث السابع في علاج الرياء

مِنْ النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] . وَلَا شَتْمًا وَلَا ضَرْبًا بَلْ وَلَا قَتْلًا وَفِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ أَنَّ أَبَا غِيَاثٍ الزَّاهِدَ رَأَى فِي بُخَارَى غِلْمَانَ الْأَمِيرِ يَلْعَبُونَ بِالْمَلَاهِي فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ بِالْعَصَا فَفَرُّوا مُنْهَزِمِينَ فَدَعَا بِهِ الْأَمِيرُ. وَقَالَ أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ يَخْرُجُ عَلَى السُّلْطَانِ يُسْجَنُ، فَقَالَ الزَّاهِدُ أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ يَخْرُجُ عَلَى الرَّحْمَنِ يَتَعَشَّى فِي النِّيرَانِ، فَقَالَ الْأَمِيرُ مَنْ وَلَّاك الْحِسْبَةَ أَيْ خِدْمَةَ الِاحْتِسَابِ، قَالَ الَّذِي وَلَّاك الْإِمَارَةَ، فَقَالَ وَلَّانِي الْخَلِيفَةُ، قَالَ الزَّاهِدُ وَلَّانِي رَبُّ الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ وَلَّيْتُك الْحِسْبَةَ بِسَمَرْقَنْدَ، قَالَ عَزَلْت نَفْسِي عَنْهَا، فَقَالَ الْعَجَبُ مِنْ أَمْرِك تَحْتَسِبُ حِينَ لَمْ تُؤْمَرْ وَتَمْتَنِعُ حِينَ تُؤْمَرُ، قَالَ إنْ وَلَّيْتنِي عَزَلْتنِي وَإِذَا وَلَّانِي رَبِّي لَمْ يَعْزِلْنِي أَحَدٌ، فَقَالَ الْأَمِيرُ سَلْ حَاجَتَك، فَقَالَ حَاجَتِي أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ شَبَابِي، فَقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ إلَيَّ، قَالَ فَاكْتُبْ إلَى مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ أَنْ لَا يُعَذِّبَنِي، قَالَ لَيْسَ ذَاكَ أَيْضًا إلَيَّ، فَقَالَ الزَّاهِدُ فَلَا أَسْأَلُ حَاجَةً مِنْ مَالِكِ الْحَوَائِجِ كُلِّهَا إلَّا أَجَابَنِي إلَيْهَا، فَخَلَّى الْأَمِيرُ سَبِيلَهُ. وَفِي الِاحْتِسَابِ أَيْضًا عَنْ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ رَأَى خَوَابِيَ خَمْرٍ حُمِلَتْ لِلْخَلِيفَةِ الْمُعْتَصِمِ بِاَللَّهِ فَأَهْرَقَهَا وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً حَتَّى بَقِيَ وَاحِدَةٌ وَالْقَوْمُ سُكُوتٌ مِنْ هَيْبَتِهِ فَأُتِيَ بِهِ إلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْت هَذَا، فَقَالَ أَيَّدَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ لَوْ عَلِمْت أَنَّ فِي بَطْنِك خَمْرًا لَشَقَقْته بِهَذِهِ الْحَرْبَةِ، فَقَالَ قَصْدُك أَنْ أَقْتُلَك حَتَّى تَصِيرَ شَهِيدًا لَكِنِّي لَا أَفْعَلُ، ثُمَّ قَالَ لِمَ تَرَكْت الْخَابِيَةَ الْوَاحِدَةَ، فَقَالَ لِأَنِّي رَأَيْت نَفْسِي عِنْدَهَا خِلَافَ السَّوَابِقِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهَا لَمْ تَكُنْ عَلَى مُرَادِ نَفْسِي. [الْمَبْحَثُ السَّابِعُ فِي عِلَاجِ الرِّيَاءِ] (الْمَبْحَثُ السَّابِعُ) آخِرُ مَبَاحِثِ الرِّيَاءِ (فِي عِلَاجِ الرِّيَاءِ) لِأَنَّ الرِّيَاءَ كَمَا عَرَفْت مَرَضٌ مُهْلِكٌ قَوِيٌّ تَحْتَاجُ إزَالَتُهُ إلَى دَوَاءٍ وَمُعَالَجَةٍ لِيَتَخَلَّصَ مِنْهُ (وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهِ) لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَزُلْ سَبَبُ الْأَمْرَاضِ لَمْ يَزُلْ الْمَرَضُ فَلَوْ أُزِيلَ بِتَكَلُّفٍ لَحَصَلَ فَوْرًا (وَ) عَلَى (غَوَائِلِهِ) لِتَحْصِيلِ النَّفْرَةِ (وَ) عَلَى (مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ ضِدِّهِ) لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ تُعَالَجُ بِالْأَضْدَادِ وَالضِّدُّ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهِ. (وَ) عَلَى مَعْرِفَةِ (فَوَائِدِهِ) أَيْ فَوَائِدِ الضِّدِّ لِلِانْبِعَاثِ وَالشَّوْقِ إلَى تَحْصِيلِهِ (أَمَّا أَسْبَابُ الرِّيَاءِ فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ) مِنْ أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، حُبُّ الْجَاهِ ثُمَّ الطَّمَعُ ثُمَّ الْفِرَارُ ثُمَّ الْجَهْلُ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلُ (أَنَّهَا حُبُّ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ) الرِّفْعَةِ (فِي قُلُوبِ النَّاسِ حَتَّى يَمْدَحُونَهُ وَلَا يَذُمُّونَهُ) كَمَنْ يُعَدِّلُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ لِلذَّمِّ فِي تَرْكِهَا (إمَّا لِذَاتِهِ) لِأَجْلِ تَلَذُّذِهِ بِنَفْسِ الْجَاهِ كَمَنْ يَقْصِدُ بِعِبَادَتِهِ اشْتِهَارَهُ بِالصَّلَاحِ وَكَثْرَةَ الْمُرِيدِينَ وَكَمَنْ يَرَى جَمَاعَةً يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَيُوَافِقُهُمْ لِئَلَّا يَنْسُبُونَهُ إلَى الْكَسَلِ (أَوْ لِلتَّسَلُّلِ بِهِ) بِالْجَاهِ (إلَى غَيْرِهِ) مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَالطَّاعَاتِ عَلَى مَا سَبَقَ كَمَنْ يَتَوَرَّعُ لِنَيْلِ نَحْوِ الْقَضَاءِ وَالْأَوْقَافِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى أَوْ يُودَعُ فَيَأْخُذُ الْوَدِيعَةَ وَيُنْكِرُ. (وَ) الثَّانِي (الطَّمَعُ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ) مِنْ نَحْوِ الْأَمْوَالِ كَمَنْ يَذْكُرُ وَيَقْرَأُ لِإِعْطَاءِ

النَّاسِ لَهُ نَحْوَ الدَّرَاهِمِ. (وَ) الثَّالِثُ (الْفِرَارُ مِنْ أَلَمِ الذَّمِّ) كَمَنْ يُعَدِّلُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ لِذَمِّ النَّاسِ نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ سَبَقَ أَنَّ تَرْكَ الذَّنْبِ لِئَلَّا يَتَأَلَّمَ بِذَمِّ النَّاسِ جَائِزٌ لَيْسَ بِرِيَاءٍ فَكَيْفَ التَّطْبِيقُ قُلْنَا التَّرْكُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَلَا دَلِيلِهَا، فَلَا يَكُونُ مِنْ الرِّيَاءِ فِي الدِّينِ وَكُلًّا مُنَافِيهِ بِخِلَافِ فِعْلِ الطَّاعَاتِ فِرَارًا مِنْ أَلَمِ الذَّمِّ وَتَرْكِ الذَّنْبِ إيهَامًا بِأَنَّهُ وَرِعٌ خَائِفٌ، فَإِنَّ التَّرْكَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ صَارَ دَلِيلَ الْعِبَادَةِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّيَاءُ وَأَمَّا إنْ كَانَ لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى فَعِبَادَةٌ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمَا فَمُبَاحٌ، فَالتَّرْكُ ثَلَاثَةٌ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ وَمُبَاحٌ، فَالْمُعَيَّنُ هُوَ الْقَصْدُ مِنْ التَّارِكِ بِخِلَافِ فِعْلِ الطَّاعَةِ فَإِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ بِتَعَيُّنِ اللَّهِ تَعَالَى فَجَعْلُهَا لِغَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ انْتَهَى. لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ تَرْكِ الذَّنْبِ لِإِيهَامِ أَنَّهُ وَرِعٌ دَلِيلَ الْعِبَادَةِ مَعَ عَدَمِ تَرْكِ الذَّنْبِ لِئَلَّا يَذُمَّ النَّاسَ مَحَلُّ خَفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ دَلِيلَهَا، فَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمَا فَمُبَاحٌ مِثْلُهُ أَيْضًا؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَبْنَاهُ. (وَ) الرَّابِعُ (الْجَهْلُ) بِحَقِيقَةِ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ فَيَظُنُّ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ لِلْإِخْلَاصِ لَا لِلرِّيَاءِ كَمَنْ يُصَلِّي الضُّحَى لِأَجْلِ اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ وَحُصُولِ ثَوَابِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ بِلَا فِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ. (وَأَمَّا غَوَائِلُهُ) فَاسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَإِبْطَالُ الْعَمَلِ إنْ مَحْضًا أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ غَالِبًا وَنَقْصُ أَجْرِهِ إنْ كَانَ مَغْلُوبًا كَمَا مَرَّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] بِأَنْ يُرَائِيَهُ أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَجْرًا فَالْمُرَائِي مُشْرِكٌ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَ رَبِّهِ. (وَخَرَّجَ يَعْلَى) أَبُو يَعْلَى «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» الْأَوْلَى لِمَنْصِبِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ «مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ» بِتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ مَعَ جَمِيعِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالْآدَابِ «حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حِينَ يَخْلُو» بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا فِي الْمَلَأِ بِنَحْوِ طُولِ الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الْأَرْكَانِ وَالتَّخَشُّعِ وَالتَّأَدُّبِ وَأَدَاؤُهَا فِي السِّرِّ بِدُونِ ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ. «فَتِلْكَ» الْخَصْلَةُ أَوْ الْفِعْلَةُ «اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْمُسْتَهِينِ بِهِ فَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِهَانَةَ بِهِ كَفَرَ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّدَاوِي لَهَا وَدَوَاؤُهُ يُسْتَحْضَرُ قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي اعْلَمْ أَنَّ اسْتِهَانَةَ مَا يَجِبُ تَعْظِيمُهُ فِي الشَّرْعِ قَوْلًا وَفِعْلًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْآنِ وَالْمَلَكِ وَالرَّسُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إمَّا مَعَ النِّيَّةِ أَوْ لَا فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ، جَلِيَّةً كَانَتْ الِاسْتِهَانَةُ أَوْ خَفِيَّةً، وَالثَّانِي إنْ كَانَتْ جَلِيَّةً بِحَيْثُ تُدْرَكُ فِي بَادِئِ النَّظَرِ وَلَا تَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ فَكُفْرٌ أَيْضًا كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ مَثَلًا بِلَا نِيَّةِ الِاسْتِهَانَةِ وَإِنْ خَفِيَّةً بِأَنْ تَحْتَاجَ إلَى التَّأَمُّلِ فَلَيْسَ بِكُفْرٍ وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَالِاسْتِهَانَةُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (حَدَّ) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. (عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قَالَ «إنَّ أَخْوَفَ» مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ كَأَشْهَرَ وَأَعْذَرَ «مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ» عَنْ أَبِي الْبَقَاءِ أَخْوَفَ اسْمُ إنَّ وَمَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إنَّ أَخْوَفَ شَيْءٍ أَخَافُهُ. وَعَنْ الطِّيبِيِّ أَضَافَ أَفْعَلَ إلَى مَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا اسْتَقْصَى الْأَشْيَاءَ الْمَخُوفَةَ لَمْ يُوجَدْ أَخْوَفُ وَلِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا اسْتَقْصَى الْأَشْيَاءَ الْمَخُوفَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ أَخْوَفُ «الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» هَذَا النِّدَاءُ إمَّا إشَارَةٌ إلَى وَجْهِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ؛ لِأَنَّ مَنْ شَأْنُهُ الرِّسَالَةُ يَسْأَلُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ أَوْ لِلِاسْتِشْفَاقِ أَوْ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ عَلَى مَضْمُونِ مَا سُئِلَ. «قَالَ الرِّيَاءُ» كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ قِيلَ أَتُشْرِكُ أُمَّتُك مِنْ بَعْدِك؟ قَالَ نَعَمْ أَمَا إنِّي لَسْتُ أَقُولُ تَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهْوَةً خَفِيَّةً.» وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ الرِّيَاءِ أَهُوَ شِرْكٌ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَقْرَأُ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وَعَنْ الْجُنَيْدِ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَهُوَ مَالِكٌ وَاَلَّذِي يَمْلِكُهُ هَوَاهُ مَمْلُوكٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ الْغَالِبُ عَلَى قَلْبِهِ رَبُّهُ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ هَوَاهُ وَنَفْسَهُ (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُرَائِينَ (إذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ) أَيْ أُعْطِيَ كُلُّ أَحَدٍ الْجَزَاءَ فِي مُقَابَلَةِ أَعْمَالِهِ «اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً» لِأَعْمَالِكُمْ قِيلَ فِيهِ إعْلَامٌ بِحُبُوطِ ثَوَابِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالرِّيَاءِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا حُبُوطَ لِطَاعَةِ الْمُؤْمِنِ بِمَعْصِيَتِهِ وَلَا لِمَعْصِيَتِهِ بِطَاعَتِهِ وَقَدْ اُدُّعِيَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ فَرُدَّ قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ بِحَبْطِ الْأَقَلِّ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمَا مَعَ سُقُوطِ مِثْلِهِ فِي الْأَكْثَرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. (عَنْ جَبَلَةَ الْيَحْصُبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الْمُرَائِيَ يُنَادَى» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا فَاجِرُ» أَيْ فَاسِقُ «يَا غَادِرُ» مِنْ الْغَدْرِ هُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ «يَا كَافِرُ» بِمَعْنَى سَاتِرِ النِّعَمِ «يَا خَاسِرُ» فِي عُمُرِهِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَالِ بِضَاعَتِهِ «ضَلَّ عَمَلُك» أَيْ غَابَ عَنْك وَضَاعَ «وَحَبَطَ أَجْرُك» أَيْ بَطَلَ ثَوَابُ عَمَلِك «اذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَك مِمَّنْ كُنْت تَعْمَلُ لَهُ» فِي الدُّنْيَا وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّات

أَنَّ حَكِيمًا صَنَّفَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ كِتَابًا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيِّهِمْ قُلْ لَهُ قَدْ مَلَأْت الْأَرْضَ نِفَاقًا وَلَمْ تُرِدْنِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ شَيْئًا فَنَدِمَ وَتَرَكَ وَخَالَطَ الْعَامَّةَ وَتَوَاضَعَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ، قُلْ لَهُ الْآنَ قَدْ وَافَقْت رِضَايَ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ. قَالَ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ مِنْ خَطَرِ الرِّيَاءِ مُصِيبَتَانِ وَفَضِيحَتَانِ فَضِيحَةُ السِّرِّ وَهِيَ اللَّوْمُ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَائِكَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَصْعَدُ بِعَمَلِ الْعَبْدِ مُبْتَهِجِينَ فَيَقُولُ اللَّهُ رُدُّوهُ إلَى سِجِّينٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْنِي بِهِ» فَيُفْضَحُ الْعَمَلُ وَالْعَبْدُ، وَفَضِيحَةُ الْعَلَانِيَةِ وَهِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمُرَائِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنَادَى بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ يَا كَافِرُ يَا فَاجِرُ يَا غَادِرُ يَا خَاسِرُ ضَلَّ سَعْيُك وَبَطَلَ أَجْرُك فَلَا خَلَاقَ لَك الْتَمِسْ الْأَجْرَ مِمَّنْ كُنْت تَعْمَلُ لَهُ يَا مُخَادِعُ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ النَّاسَ قُومُوا خُذُوا أَجْرَكُمْ مِمَّنْ عَمِلْتُمْ لَهُ فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ عَمَلًا خَالَطَهُ شَيْءٌ» وَأَمَّا الْمُصِيبَتَانِ فَإِحْدَاهُمَا فَوْتُ الْجَنَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «إنَّ الْجَنَّةَ قَالَتْ أَنَا حَرَامٌ عَلَى كُلِّ بَخِيلٍ وَمُرَاءٍ» وَالثَّانِيَةُ دُخُولُ النَّارِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعْلِمْك مَا أَنْزَلْت عَلَى رَسُولِي فَيَقُولُ بَلَى فَيَقُولُ مَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت، فَيَقُولُ يَا رَبِّ قُمْت بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَبْت وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ كَذَبْت وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ» الْحَدِيثَ (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ الضَّحَّاكِ) قِيلَ الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خَمْسَةٌ، فَاللَّازِمُ عَلَى الْمُصَنِّفِ تَمْيِيزُهُ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ» حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِلْهَامٍ أَوْ مَنَامٍ فَمَعْنَاهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظُهُ مِنْ النَّبِيِّ لَكِنْ عَلَى أَنَّهُ يُسْنَدُ إلَيْهِ تَعَالَى وَالْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ أَيْضًا مَعْنَاهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى لَكِنْ لَا يُسْنَدُ فِيهِ إلَيْهِ تَعَالَى بَلْ يُورِدُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، فَالْقُرْآنُ وَمُطْلَقُ الْحَدِيثِ يَتَّحِدَانِ فِي كَوْنِهِمَا وَحْيًا مِنْ اللَّهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَحْيٌ مَتْلُوٌّ، وَالثَّانِيَ غَيْرُ مَتْلُوٍّ إذْ اللَّفْظُ فِي الْأَوَّلِ مِنْ اللَّهِ وَمُعْجِزٌ دُونَ الثَّانِي؛ وَلِذَا قِيلَ لَا يَجُوزُ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فِي الْأَكْثَرِ فَعِلْمُ الْحَدِيثِ أَفْضَلُ الْعُلُومِ بَعْدَ الْقُرْآنِ. «أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ» فُسِّرَ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي إلَى عَمَلٍ فِيهِ شَرِكَةُ الْغَيْرِ فَأَدَعُهُ وَلَا أَجْزِيهِ جَزَاءً وَأَفْعَلُ لِمُطْلَقِ الزِّيَادَةِ «فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي» فِي عَمَلٍ مَا «شَرِيكًا» لِي «فَهُوَ لِشَرِيكِي» لِغِنَايَ عَنْهُ وَعَدَمِ احْتِيَاجِي إلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُهُ عَدَمُ الثَّوَابِ مُطْلَقًا مَحْضًا أَوْ غَالِبًا أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ مَغْلُوبًا وَقَدْ قَرَّرَ الْمُصَنِّفُ الثَّوَابَ فِي الْمَغْلُوبِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ» أَيْ قَاسِمٍ لِمَنْ أُشْرِكَ بِي بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «مَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا» أَيَّ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ «فَإِنَّ عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِي أَنَا غَنِيٌّ عَنْهُ» ، قُلْنَا نَعَمْ تَمَسَّكَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ كَالْمُحَاسِبِيِّ فِي عَدَمِ الثَّوَابِ فِي الْمَغْلُوبِ أَيْضًا لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ وَالْإِمَامَ الرَّازِيَّ فِي الثَّوَابِ بِقَدْرِهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ تَسَاوَيَا تَسَاقَطَا وَإِنْ غَلَبَ أَحَدُهُمَا فَالْحُكْمُ لَهُ وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ لَفْظَ الشِّرْكِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّسَاوِي وَعِنْدَهُ يَنْحَبِطُ كُلٌّ بِالْآخَرِ. وَكَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ «قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ» يَأْبَى عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَحَمْلُ الْقَلِيلِ عَلَى الْمُسَاوِي فَإِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَالِبِ وَحَمْلُ الْكَثِيرِ عَلَى نَفْسِ الْغَالِبِ تَأْوِيلٌ بِلَا دَاعٍ كَحَمْلِهِ عَلَى نَفْسِ الْعَمَلِ ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ عَطَاءٍ وَكَمَا لَا يُحِبُّ اللَّهُ عَمَلَ الْمُشْتَرَكِ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْقَلْبَ الْمُشْتَرَكَ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ بَيْتُ الرَّبِّ، وَالرَّبُّ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ غَيْرُهُ

فَالْعَمَلُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَقْبَلُهُ وَالْقَلْبُ الْمُشْتَرَكُ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] . قَالَ الْغَزَالِيُّ: قِيلَ لِلْخَوَاصِّ قَدَّمَ ابْنُ أَدْهَمَ فَائِتَهُ قَالَ لَأَنْ أَلْقَى شَيْطَانًا مَارِدًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ لِقَائِهِ فَاسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ إذَا لَقِيته أَخَافُ أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهُ فَإِذَا لَقِيت شَيْطَانًا أَمْتَنِعُ مِنْهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَقِيَ شَيْخِي الْإِمَامُ بَعْضَ الْعَارِفِينَ فَتَذَاكَرَا مَلِيًّا فَقَالَ الْإِمَامُ مَا أَظُنُّنِي جَلَسْت مَجْلِسًا أَرْجَى مِنْ هَذَا، فَقَالَ الْعَارِفُ: مَا جَلَسْت مَجْلِسًا أَنَا لَهُ أَخْوَفَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا أَلَسْت تَعْمِدُ إلَيَّ أَحْسَنَ عُلُومِك فَتُظْهِرُهَا لَدَيَّ وَأَنَا كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الرِّيَاءُ، فَبَكَى الْإِمَامُ مَلِيًّا حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضٌ وَمِنْ أَدْوِيَةِ الرِّيَاءِ التَّفَكُّرُ فِي أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِهِ مَا لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَهُ وَلَا عَلَى ضَرِّهِ مَا لَمْ يُقَدِّرْ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا» مِنْ مَقُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إمَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ أَوْ تَتِمَّةُ مَقُولِ اللَّهِ تَعَالَى «أَعْمَالُكُمْ» اجْعَلُوهَا خَالِصَةً لَهُ وَلَا تَجْعَلُوا فِيهَا شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى «فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا خَلَصَ لَهُ» مِنْ الْأَغْرَاضِ الْمُوجِبَةِ مُشَارَكَةُ الْغَيْرِ «وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ» هَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ فَنَهَى عَنْهُ لِمُشَارَكَةِ الْغَيْرِ وَقِيلَ عَادَةُ الْعَرَبِ عِنْدَ إعْطَاءِ الشَّيْءِ لِرِضَاهُ تَعَالَى وَلِقَرَابَةِ فُلَانٍ «فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ» فَقَطْ لَا شَرِكَةَ لَهُ تَعَالَى لِغِنَاهُ لِكَوْنِهِ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ «وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ» فَلَا يَقْبَلُ لِعَدَمِ خُلُوصِهِ لَهُ تَعَالَى «وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ» وَالْآيَاتُ) الْقُرْآنِيَّةُ نَحْوُ {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264] الْآيَةَ. وَ {يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: 142] {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} [فاطر: 10] {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10] أَيْ أَهْلِ الرِّيَاءِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَ {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] . (وَالْأَحَادِيثُ) النَّبَوِيَّةُ نَحْوُ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَلًا فِيهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الرِّيَاءِ إنَّ أَدْنَى الرِّيَاءِ الشِّرْكُ» . «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سَأَلَ رَجُلٌ فِيمَ النَّجَاةُ قَالَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُرِيدُ بِهَا النَّاسَ» ، وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ إنَّ هَذَا لَمْ يُرِدْنِي بِعَمَلِهِ فَاجْعَلُوهُ فِي سِجِّينٍ» . وَقَالَ «اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ قَالُوا وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أُعِدَّ لِلْقُرَّاءِ الْمُرَائِينَ» . «وَقَالَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَمِلَ عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ طَوِيلٍ «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ أَوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمْ جَهَنَّمُ» . وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ النَّارَ وَأَهْلَهَا يَعِجُّونَ أَيْ يَتَضَرَّعُونَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاءِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعِجُّ النَّارُ قَالَ مِنْ حَرِّ النَّارِ الَّتِي يُعَذَّبُونَ بِهَا» . ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ وَفِي هَذِهِ الْفَضَائِحِ بَلَاغٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْهِدَايَةِ (فِي ذَمِّ الرِّيَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهَا هَاهُنَا وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ (كِفَايَةٌ لِلْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ) إذْ فِيمَا أُلْقِيَ دَلِيلٌ عَلَى مَا أُبْقِيَ فَالْعَارِفُ يَكْفِيهِ هَذَا الْقَدْرُ (بَلْ الْعَقْلُ) السَّلِيمُ إذَا خَلَى عَنْ شَوَائِبِ الْوَهْمِ وَعَوَائِقِ الْهَوَى وَعَوَارِضِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَطَبْعُهُ أَنْ (يَهْتَدِيَ إلَيْهِ) إلَى رَدَاءَتِهِ وَقُبْحِهِ (بِقَلِيلِ الْتِفَاتٍ) لِأَنَّ الْأَمْرَ بَيِّنٌ وَالْحُكْمَ وَاضِحٌ. قَالَ الْمُحَشِّي: لِأَنَّ الْعَقْلَ قَدْ يُدْرِكُ قُبْحَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَإِنْ جَازَ إدْرَاكُهُ لَكِنْ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ وَالْكَلَامُ فِي الْحُكْمِ لَا مُجَرَّدُ الْإِدْرَاكِ بَلْ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ الْعَقْلُ يَهْتَدِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ (إذْ مَعْنَى الرِّيَاءِ جَعْلُ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْضُوعَةِ لِتَعْظِيمِهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَسِيلَةً إلَى غَيْرِهِمَا) غَيْرِ التَّعْظِيمِ وَالتَّقَرُّبِ مِمَّا يُرَاعَى بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ. (وَفِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْجَعْلِ (قَلْبُ الْمَوْضُوعِ)

لِأَنَّهُ قَلَبَهُ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى (وَعَكْسُ الْمَشْرُوعِ) لِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَمَلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ عَكَسَ بِجَعْلِهِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى (وَتَلْبِيسٌ بِإِعْلَامِ النَّاسِ أَنَّهُ) أَيْ الْمُرَائِيَ (يَقْصِدُ بِالْعِبَادَةِ تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْبَةَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ) أَيْ الْقَصْدَ بِالْعِبَادَةِ (لَيْسَ كَذَلِكَ) أَيْ تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى (بَلْ يَقْصِدُ) الْمُرَائِي (بِهَا التَّقَرُّبَ إلَيْهِمْ) إلَى النَّاسِ (وَالتَّحَبُّبَ) مِنْ الْمَحَبَّةِ لَهُمْ (فَلَوْ عَلِمُوا نِيَّتَهُ) أَيْ النَّاسُ (لَمَقَتُوهُ) أَبْغَضُوهُ أَشَدَّ الْبُغْضِ (وَهَجَرُوهُ) تَرَكُوهُ؛ لِأَنَّ حُبَّهُمْ لَهُ لِكَوْنِهِ مُطِيعًا لَهُ تَعَالَى فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ أَبْغَضُوهُ (وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ) أَيْ بِقَصْدِهِ (فَهُوَ بِالْمَقْتِ) الْبُغْضِ الشَّدِيدِ (أَوْلَى) مِنْ غَيْرِهِ إذْ يَلِيقُ بِالْمَقْتِ لِقَلْبِهِ الْمَوْضُوعَ وَعَكْسِهِ الْمَشْرُوعَ (وَفِيهِ اسْتِهَانَةٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى) أَيْ يَلْزَمُ اسْتِهَانَةٌ وَإِلَّا فَكُفْرٌ، نَعَمْ يَلْزَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لُزُومَ الْكُفْرِ كُفْرًا مُطْلَقًا دُونَ مَنْ يَخُصُّهُ بِالِالْتِزَامِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اللُّزُومِ الْبَيِّنِ وَالْغَيْرِ الْبَيِّنِ، لَكِنْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ (وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا) يَقْتَضِي ذَلِكَ عُرْفًا (وَأَقَلُّ مَا فِي الرِّيَاءِ) مِنْ الضَّرَرِ (صُورَةُ تَلْبِيسٍ) وَتَزْوِيرٍ (وَعِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا) أَيْ الْأَقَلُّ (كَافٍ فِي التَّحْرِيمِ) لَكِنْ فِي كَوْنِهِ أَقَلَّ الضَّرَرِ خَفَاءً إذْ لَا أَعْظَمَ جِنَايَةً مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى. (فَلِذَا) لِكَوْنِهِ تَلْبِيسًا وَعِبَادَةً لِلْغَيْرِ (حَرُمَ كُلُّهُ) جَمِيعُ أَفْرَادِهِ إذْ الْعِبَادَةُ لِغَيْرِهِ تَعَالَى قَبِيحٌ لِذَاتِهِ فَلَا جِهَةَ لِحَسَنَةٍ أَصْلًا لَكِنْ يُرَدُّ إنْ كَانَتْ هِيَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَيَكُونُ كُفْرًا حَقِيقِيًّا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْعِبَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ فَلَا يَكُونُ قَبِيحًا لِذَاتِهِ فَلَا يَلْزَمُ حُرْمَةُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ فَتَأَمَّلْ (وَإِنْ تَفَاوَتَ آحَادُهُ فِي غِلْظَةِ التَّحْرِيمِ وَخِفَّتِهِ) كَمَا سَبَقَ (فَغَائِلَةُ الرِّيَاءِ اسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَإِبْطَالُ الْعَمَلِ) فِي الرِّيَاءِ الْمَحْضِ وَالْغَالِبِ وَالْمُسَاوِي (أَوْ نَقْصُ أَجْرِهِ) فِي الْمَغْلُوبِ وَقَدْ عَرَفْت الْكَلَامَ فِيهِ أَيْضًا. قَالَ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: فَالرِّيَاءُ الْمَحْضُ لَا يَكُونُ فِي الْعَارِفِ عِنْدَ بَعْضٍ وَإِنْ أَبْطَلَ نِصْفَ الثَّوَابِ وَعِنْدَ بَعْضٍ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ وَيَذْهَبُ بِنِصْفِ الْأَضْعَافِ، وَالتَّخْلِيطُ يَذْهَبُ بِرُبْعِ الْأَضْعَافِ وَالصَّحِيحُ الرِّيَاءُ الْمَحْضُ لَيْسَ فِي الْعَارِفِ مَعَ تَذَكُّرِ الْآخِرَةِ وَيَكُونُ مَعَ السَّهْوِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مِنْ تَأْثِيرِ الرِّيَاءِ رَفْعَ الْقَبُولِ وَالنُّقْصَانَ فِي الثَّوَابِ وَأَنْ لَا تَقْدِيرَ لَهُ بِنِصْفٍ وَرُبْعٍ. (وَأَمَّا سَبَبُ الْإِخْلَاصِ) الَّذِي يَكُونُ مَنْشَأً لَهُ وَمَبْدَأً لَهُ (فَالْإِيمَانُ) بِأَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إلَّا هُوَ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ بِأَنَّهُ لَا خَالِقَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ إلَّا هُوَ (وَوُجُوبُهُ) أَيْ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْإِخْلَاصِ عَلَى الْمُؤْمِنِ (وَتَوَقُّفُ قَبُولِ كُلِّ عَمَلٍ عَلَيْهِ) فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا مُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِخْلَاصَ لَهُ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا بِغَيْرِ إخْلَاصٍ كَانَ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ. (وَأَمَّا فَوَائِدُهُ) ثَمَرَاتُهُ وَنَتَائِجُهُ الْأُخْرَوِيَّةُ (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الشَّرْعِ {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] لَا يُشْرِكُونَ بِهِ فِيهَا غَيْرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يُحْصَرَ الِانْقِيَادُ لَهُ تَعَالَى فِعْلًا وَتَرْكًا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] {أَلا} [الزمر: 3] حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ {لِلَّهِ} [الزمر: 3] لَا لِغَيْرِهِ {الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] مِنْ شَائِبَةِ قَصْدِ الْغَيْرِ أُورِدَ

بِأَنَّ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى فَوَائِدِ الْإِخْلَاصِ مَحِلُّ تَأَمُّلٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ كَوْنِ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأُولَى وَاخْتِصَاصِ الدِّينِ الْخَالِصِ لَهُ تَعَالَى فِي الثَّانِيَةِ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (حك) الْحَاكِمُ. (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ» فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ «لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» حَالَانِ لَازِمَانِ أَوَّلُهُمَا لِتَوْحِيدِ الذَّاتِ وَثَانِيهِمَا لِتَوْحِيدِ الصِّفَاتِ «وَأَقَامَ الصَّلَاةَ» أَتَى بِهَا مُسْتَقِيمَةً بِجَمِيعِ كَمَالَاتِهَا «وَآتَى الزَّكَاةَ» عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُنْسَحِبٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ خَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِرِضَاهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْعِبَادَةُ وَهِيَ إمَّا بِالْجِنَانِ أَوْ بِالْأَرْكَانِ وَهِيَ إمَّا بَدَنِيَّةٌ أَوْ مَالِيَّةٌ فَالْمَذْكُورُ هُوَ الْأَصْلُ الْمَتْبُوعُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. وَقِيلَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْإِخْلَاصِ هُوَ كُلُّ الْعَمَلِ فَوَجْهُ تَخْصِيصِ مَا ذُكِرَ أَنَّ الصَّلَاةَ لِتَكَرُّرِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَالزَّكَاةَ لِكَوْنِهَا بِالْمَالِ الْمَحْضِ كَانَتَا أَشَقَّ عَلَى النَّفْسِ فَأَمَّا الْحَجُّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجَامَعَ مَعَهُ غَرَضٌ نَفْسَانِيٌّ كَالتِّجَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَا يَكُونُ عِبَادَةً مَطْلُوبَةً بِالتَّكْلِيفِ الْإِلَهِيِّ وَالْكَلَامُ فِي أَدَاءِ مَا كَلَّفَهُ عَلَى وَجْهِ تَكْلِيفِهِ نَعَمْ إنَّ مُقْتَضَى التَّجَارِبِ أَنَّهُ كَمْ شَخْصٍ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ سِنِينَ وَأَعْوَامًا يَذْهَبُ إلَى الْحَجِّ فِي أَوَّلِ وُجُوبِهِ مَعَ كَوْنِ الْأَشْقِيَاءِ أَزْيَدَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً «فَارَقَهَا» أَيْ الدُّنْيَا «وَاَللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَاضٍ» يَعْنِي يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى حِينَ مُفَارَقَتِهِ الدُّنْيَا وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ فَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ عَنْ الْبُرْهَانِ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ وَاحِدٍ فِي طُولِ عُمُرِهِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الرِّضَا وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ الْعَفْوَ، فَإِذَا حَصَلَ حَصَلَ الرِّضَا كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْكُمَّلِ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى لَعَلَّ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ كُلِّ أَحَدٍ مَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ وَمَرْتَبَتِهِ وَلِهَذَا حَسَّنَ الْعُلَمَاءُ دُعَاءَ الرِّضَا لِلصَّحَابَةِ كَدُعَاءِ الرَّحْمَةِ لِسَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ. وَفِي الْحَدِيثِ «مَا أُعْطِيَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَحَبُّ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى» ثُمَّ إنَّ اللَّازِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ هُوَ الرِّضَا وَالرِّضَا لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ (حك) الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ بُعِثَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ هُوَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حُذِفَ لِتَعَيُّنِهِ «إلَى الْيَمَنِ» قِيلَ لِأَنَّهُ عَنْ يَمِينِ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَقِيلَ يَمِينُ الْكَعْبَةِ وَقِيلَ مِنْ الْيُمْنِ كَمَا أَنَّ الشَّامَ مِنْ الشُّؤْمِ وَقِيلَ وَقِيلَ «وَإِرْسَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْيَمَنِ عَامَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ أَرْكَبَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ رَاجِلٌ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حِينَ الْإِرْسَالِ. فَقَالَ مُعَاذٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَرْكَبَ وَأَنْتَ رَاجِلٌ فَأَرْجُو الْإِذْنَ حَتَّى أَكُونَ رَاجِلًا قَالَ يَا مُعَاذُ إنِّي أَتَصَوَّرُ كَوْنَ هَذِهِ الْخُطُوَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُوصِيك بِتَقْوَى اللَّهِ وَصِدْقِ الْكَلَامِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَمُحَافَظَةِ حُقُوقِ الْجِيرَانِ وَالْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْقِيَامَةِ وَإِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، يَا مُعَاذُ لَا تَشْتُمْ مُسْلِمًا وَلَا تُكَذِّبْ مَنْ تَكَلَّمَ صَادِقًا وَلَا تُصَدِّقْ مَنْ تَكَلَّمَ كَاذِبًا وَلَا تُخَالِفْ الْإِمَامَ الْعَادِلَ، يَا مُعَاذُ أَطْلُبُ لَك مَا أَطْلُبُ لِنَفْسِي وَأَكْرَهُ لَك مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي، يَا مُعَاذُ عُدْ الْمَرْضَى وَعَجِّلْ قَضَاءَ حَوَائِجِ الضُّعَفَاءِ وَقَرِّبْ الْيَتَامَى وَاجْلِسْ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كُنْ عَدْلًا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَلْتَفِتْ إلَى مَلَامَةِ أَحَدٍ فِي طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ يَا مُعَاذُ لَوْ أَمْكَنَ الْمُلَاقَاةُ بَعْدُ لَمْ أُطَوِّلْ الْوَصِيَّةَ» «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ أَخْلِصْ» مِنْ الْإِخْلَاصِ وَقَدْ عَرَفْت مَعْنَاهُ «دِينَك» مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا حَقِيقِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا أَوْ عَمَّا يُفْسِدُهُ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ طَاعَتِك بِتَجَنُّبِ دَوَاعِي الرِّيَاءِ بِأَنْ تَعْبُدَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَقِيَامًا بِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ لَا طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِهِ وَلَا لِلسَّلَامَةِ مِنْ الْمَصَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ «يَكْفِك» هَكَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ

لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ بِالْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ وَفِي نُسَخٍ يَكْفِيك بِيَاءٍ بَعْدَ الْفَاءِ وَلَا أَصْلَ لَهَا فِي خَطِّهِ «الْعَمَلُ الْقَلِيلُ» هَكَذَا فِي نُسَخِ هَذَا الْكِتَابِ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ «الْقَلِيلُ مِنْ الْعَمَلِ» ، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّوحَ إذَا خَلَصَتْ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ وَأَسْرِهَا نَطَقَتْ الْجَوَارِحُ وَقَامَتْ بِالْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُنَازِعَهَا النَّفْسُ وَلَا الْقَلْبُ وَلَا الرُّوحُ فَكَانَ ذَلِكَ صِدْقًا فَيُقْبَلُ الْعَمَلُ، وَشَتَّانَ بَيْنَ قَلِيلٍ مَقْبُولٍ وَكَثِيرٍ مَرْدُودٍ وَفِي التَّوْرَاةِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي فَقَلِيلُهُ كَثِيرٌ وَمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِي فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ لَا يَتَّسِعُ فِي إكْثَارِ الطَّاعَةِ بَلْ فِي إخْلَاصِهَا وَقَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ أَقَلُّ طَاعَةٍ سَلِمَتْ مِنْ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَقَارَنَهَا الْإِخْلَاصُ يَكُونُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْقِيمَةِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَأَكْثَرُ طَاعَةٍ إذَا أَصَابَتْهَا هَذِهِ الْآفَةُ لَا قِيمَةَ لَهَا إلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لَا يَقِلُّ عَمَلٌ أَلْبَتَّةَ وَكَيْفَ يَقِلُّ عَمَلٌ مَقْبُولٌ. وَعَنْ النَّخَعِيِّ الْعَمَلُ إذَا قُبِلَ لَا يُحْصَى ثَوَابُهُ وَلِهَذَا إنَّمَا وَقَعَ بَصَرُ أُولِي الْبَصَائِرِ مِنْ الْعِبَادِ فِي شَأْنِ الْإِخْلَاصِ وَاهْتَمُّوا بِهِ وَلَمْ يَعْتَنُوا بِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ وَقَالُوا الشَّأْنُ فِي الصَّفْوَةِ لَا فِي الْكَثْرَةِ وَجَوْهَرَةٌ وَاحِدَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ خَرَزَةٍ، وَأَمَّا مَنْ قَلَّ عَمَلُهُ وَكُلٌّ فِي هَذَا نَظَرُهُ جَهْلُ الْمَعَانِي وَأَغْفَلَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْعُيُوبِ وَاشْتَغَلَ بِإِتْعَابِ نَفْسِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْإِمْسَاكِ فَغَرَّهُ الْعَدَدُ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمُخِّ وَمَا يُغْنِي عَدَدُ الْجَوْزِ وَلَا لُبَّ فِيهِ وَمَا يَنْفَعُ رَفْعُ السُّقُوفِ وَلَمْ تُحْكَمْ مَبَانِيهَا، وَمَا يَعْقِلُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ إلَّا الْعَالِمُونَ إلَى هُنَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ، ثُمَّ إنَّهُ ظَهَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ كِفَايَةُ قَلِيلِ الْعَمَلِ (هَقّ) الْبَيْهَقِيُّ ( «عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ طُوبَى» تَأْنِيثُ أَطْيَبَ أَيْ رَاحَةٌ وَطِيبُ عَيْشٍ. وَعَنْ الْكَشَّافِ مَصْدَرٌ مِنْ طَابَ كَزُلْفَى وَبُشْرَى أَوْ أَصَبْت طَيِّبًا وَخَيْرًا. وَعَنْ الطِّيبِيِّ فُعْلَى مَنْ الطِّيبِ قَلَبُوا الْيَاءَ وَاوًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا قِيلَ مَعْنَاهُ أُصِيبُوا خَيْرًا عَلَى الْكِنَايَةِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا قِيلَ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ وَفِي كُلِّ دَارٍ وَغُرْفَةٍ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ تَعَالَى لَوْنًا وَلَا زَهْرَةً إلَّا وَفِيهَا مِنْهَا إلَّا السَّوَادَ وَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فَاكِهَةً وَلَا ثَمَرَةً إلَّا وَفِيهَا مِنْهَا يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ الْكَافُورُ وَالسَّلْسَبِيلُ وَرَقَةٌ مِنْهَا تُظِلُّ أُمَّةً عَلَيْهَا مَلَكٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «طُوبَى شَجَرَةٌ غَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ تَنْبُتُ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ، قِيلَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فِي دَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي دَارِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهَا غُصْنٌ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ غَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ تُنْبِتُ الْحُلِيَّ، وَالثِّمَارُ مُهْتَدِلَةٌ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ أَيْ: مُتَدَلِّيَةٌ عَلَى أَفْوَاهِ الْخَلَائِقِ» . وَفِي الثَّعْلَبِيِّ يَرْفَعُهُ «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهَا تَفَتَّقِي لِعَبْدِي فَتَنْفَتِقُ لَهُ عَنْ الْخَيْلِ بِسُرُوجِهَا وَلُجُمِهَا وَعَنْ الْإِبِلِ بِأَزِمَّتِهَا وَعَمَّا شَاءَ مِنْ الْكِسْوَةِ وَمَا مِنْ الْجَنَّةِ أَهْلٌ إلَّا وَغُصْنٌ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مُتَدَلٍّ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَدَلَّتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْهَا مَا شَاءُوا» الْكُلُّ مِنْ فَيْضِ الْقَدِيرِ «لِلْمُخْلِصِينَ» الَّذِينَ أَخْلَصُوا أَعْمَالَهُمْ مِنْ شَوَائِبِ الْأَقْذَارِ وَمَحَّضُوا عِبَادَتَهُمْ لِلْمَلِكِ الْغَفَّارِ وَهُمْ الْوَاصِلُونَ لِلْحَبْلِ وَالْبَاذِلُونَ لِلْفَضْلِ وَالْحَاكِمُونَ بِالْعَدْلِ «أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى تَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلْمَاءَ» لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَخْلَصُوا فِي الْمُرَاقَبَةِ وَنَسُوا الْحُظُوظَ كُلَّهَا وَقَطَعُوا النَّظَرَ وَالْقَصْدَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ بَلْ هُمْ مِنْهُ فِي حِمَايَةٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: عَقَبَةُ الْإِخْلَاصِ عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَكِنْ بِهَا يُنَالُ الْمَطْلُوبُ وَالْمَقْصُودُ نَفْعُهَا كَثِيرٌ وَقَطْعُهَا شَدِيدٌ وَخَطَرُهَا عَظِيمٌ كَمْ مَنْ عَدَلَ عَنْهَا فَضَلَّ وَمَنْ سَلَكَهَا فَدَلَّ. وَالْإِخْلَاصُ إخْلَاصَانِ إخْلَاصُ عَمَلٍ وَإِخْلَاصُ طَلَبِ أَجْرٍ، فَالْأَوَّلُ إرَادَةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمُ أَمْرِهِ وَإِجَابَةُ دَعَوْته وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ وَضِدُّهُ إخْلَاصُ النِّفَاقِ وَهُوَ التَّقَرُّبُ إلَى مَنْ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى

(طِبّ) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الدُّنْيَا» هَذِهِ الْفَانِيَةُ الْغَدَّارَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمَكَارِهِ وَالْخَدَّاعَةُ «مَلْعُونَةٌ» مُبْغَضَةٌ لَهُ تَعَالَى وَمَتْرُوكَةٌ لِأَهْلِ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى فَمَنْ أَحَبَّ مَا لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبْغَضَهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلَعْنَتِهِ وَغَضَبِهِ (تَنْبِيهٌ) : قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ تَحْقِيرُك لِلدُّنْيَا وَأَنْتَ مُقْبِلٌ عَلَيْهَا زُورٌ وَبُهْتَانٌ وَتَعْظِيمُك لِلَّهِ مَعَ وُجُودِ إعْرَاضِك عَنْهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْخِذْلَانِ كَيْفَ تَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَك قَدْرٌ عِنْدَهُ وَقَدْ اسْتَبْعَدَك مَا لَيْسَ لَهُ قَدْرٌ عِنْدَهُ «مَلْعُونٌ مَا فِيهَا» مَطْرُوحٌ عَنْ سَاحَةِ قُدْسِهِ «إلَّا مَا ابْتَغَى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ» رِضَا اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِيهِ دَرْءَ مَفْسَدَةٍ وَجَلْبَ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ (هَقّ) الْبَيْهَقِيُّ (حَدَّ) أَحْمَدُ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَدْ أَفْلَحَ» فَازَ وَظَفِرَ بِالْبُغْيَةِ «مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ» فَبَرِئَ مِنْ النِّفَاقِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَصْدِهِ شَوَائِبُ الرِّيَاءِ فِي أَعْمَالِهِ «وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا» مِنْ الْأَمْرَاضِ الْقَلْبِيَّةِ كَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ. «وَلِسَانَهُ صَادِقًا» بَرِيئًا مِنْ الْكَذِبِ «وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً» بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالْحَقِّ أَوْ بِالرِّضَا عَلَى الْأَقْضِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ «وَخَلِيقَتَهُ» أَيْ طَرِيقَتَهُ وَطَبِيعَتَهُ «مُسْتَقِيمَةً» وَالِاسْتِقَامَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَشَقِّهَا كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ لِمَا فِيهَا {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] » «وَأُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً» لِكُلِّ قَوْلِ حَقٍّ «وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً» فِي مَصْنُوعَاتِهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ خَصَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تَعَالَى إمَّا سَمْعِيَّةٌ فَالْأُذُنُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْقَلْبَ وِعَاءً لَهَا أَوْ نَظَرِيَّةٌ وَالْعَيْنُ هِيَ الَّتِي تُقِرُّهَا فِي الْقَلْبِ وَتَجْعَلُهُ وِعَاءً لَهَا. «فَأَمَّا الْأُذُنُ فَقِمْعٌ» وَهُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى فَمِ مَا يَضِيقُ فَمُهُ عِنْدَ صَبِّ الشَّيْءِ فِيهِ أَيْ آلَةٌ لِوُصُولِ مَا يُلْقَى فِيهَا إلَى الْقَلْبِ «وَالْعَيْنَ مُقَرَّةً» أَيْ مُثَبَّتَةً فِي الْقَلْبِ «لِمَا يُوعِي الْقَلْبُ» أَيْ يَحْفَظُهُ «وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِيًا» حَافِظًا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ عَنْ مُخْتَصَرِ الْإِحْيَاءِ مَنْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ظَهَرَتْ آثَارُ بَرَكَتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى عَقِبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (فَفَائِدَةُ الْإِخْلَاصِ) عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّف أَوْ مَا اخْتَارَهُ فِي الذِّكْرِ أَرْبَعَةٌ (رِضَا اللَّهِ تَعَالَى) كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ صَرِيحًا وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَفْهُومًا أَوْ الْتِزَامًا فَافْهَمْ (وَقَبُولُ الْعَمَلِ) كَحَدِيثِ مُعَاذٍ الْتِزَامًا (وَالنَّجَاةُ) يُنَاسِبُ لِحَدِيثِ ثَوْبَانَ (وَالْفَلَاحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) صَرِيحٌ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ وَأَنْ يَزِيدَ قَوْلَهُ: وَانْجِلَاءُ كُلِّ فِتْنَةٍ وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَائِدَتِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إلَّا مَا خَلَصَ لَهُ» ، وَقَوْلُهُ: «أَخْلِصُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَأَقِيمُوا خَمْسَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» ، وَقَوْلُهُ: «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» الْكُلُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ فَالْبَاعِثُ عَلَى الْفِعْلِ إمَّا رُوحَانِيٌّ فَقَطْ فَإِخْلَاصٌ أَوْ شَيْطَانِيٌّ فَقَطْ فَرِيَاءٌ أَوْ مُرَكَّبٌ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مُسَاوٍ أَوْ الرُّوحَانِيُّ قَوِيٌّ

أَوْ الشَّيْطَانِيُّ فَالْمُسَاوِي يَتَنَاقَضَانِ فَالْعَمَلُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَغَالِبُ الطَّرَفَيْنِ يُحْبِطُ مُسَاوِيَ الْآخَرِ وَيُبْقِي الزِّيَادَةَ مُوجِبَةً أَثَرَهَا اللَّائِقَ بِهَا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ لَهَا تَأْثِيرَاتٌ فِي الْقَلْبِ فَإِنْ خَلَا الْمُؤَثِّرُ عَنْ الْمُعَارِضِ خَلَا الْأَثَرُ عَنْ الضَّعْفِ وَإِنْ اقْتَرَنَ بِالْمُعَارِضِ فَتَسَاوَيَا تَسَاقَطَا وَإِنْ أَحَدُهُمَا أَغْلَبُ فَلَا بُدَّ فِي الزَّائِدِ بِقَدْرِ النَّاقِصِ فَبِقَدْرِ التَّسَاوِي يَتَسَاقَطُ فَيَبْقَى الزَّائِدُ خَالِيًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَيُؤَثِّرُ كَمَا فِي الْفَيْضِ فَتَأَمَّلْ (وَإِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَعِلَاجُ الرِّيَاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ قَطْعُ عُرُوقِهِ) مِنْ الْقَلْبِ (وَاسْتِئْصَالُ أُصُولِهِ) أَيْ خُرُوجُ أُصُولِهِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَذَلِكَ) الْقَطْعُ وَالِاسْتِئْصَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ (بِإِزَالَةِ أَسْبَابِهِ) الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ إذَا قُطِعَ عُرُوقُهُ يَبِسَ لَا مَحَالَةَ (وَتَحْصِيلِ ضِدِّهِ) أَيْ الْإِخْلَاصِ (وَأَصْلُ أَسْبَابِهِ حُبُّ الدُّنْيَا) الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَمَنْبَعُ كُلِّ شَنِيعَةٍ (وَ) حُبُّ (اللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ) عَطَفَ اللَّازِمَ عَلَى الْمَلْزُومِ (وَتَرْجِيحُهَا) أَيْ الدُّنْيَا أَوْ اللَّذَّةِ (عَلَى الْآخِرَةِ) الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (وَهَذَا) أَيْ التَّرْجِيحُ (غَايَةُ الْحَمَاقَةِ) فَلَا حَمَاقَةَ وَرَاءَهُ (وَنِهَايَةُ الْبَلَادَةِ فَإِنَّ الدُّنْيَا كَدِرَةٌ) أَيْ مُكَدَّرَةٌ بِأَنْوَاعِ الْكُدُورَاتِ جَمَّةُ الْمَصَائِبِ كَدِرَةُ الْمَشَارِبِ تُثْمِرُ لِلْبَرِيَّةِ أَصْنَافَ الْبَلِيَّةِ مَعَ كُلِّ لُقْمَةٍ غُصَّةٌ وَمَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ سِمَةٌ. وَعَنْ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ إنَّمَا جَعَلَهَا اللَّهُ مَحِلًّا لِلْأَغْيَارِ وَمَعْدِنًا لِلْأَكْدَارِ تَزْهِيدًا لَك مِنْ الْبَوَارِ فَأَذَاقَك الْأَكْدَارَ فَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ ثُمَّ رَكَنَ إلَيْهَا فَمَا هُوَ إلَّا أَسْفَهُ الْأَشْرَارِ؛ لِأَنَّهُ آثَرَ الْخَيَالَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَنَامَ عَلَى الْيَقَظَةِ وَالظِّلَّ الزَّائِلَ عَلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَبَاعَ حَيَاةَ الْأَبَدِ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ بِحَيَاةٍ هِيَ ظِلٌّ زَائِلٌ وَحَالٌ حَائِلٌ وَعَنْهُ أَيْضًا لَا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الْأَكْدَارِ مَا دُمْت فِي هَذِهِ الدَّارِ (سَرِيعَةُ الزَّوَالِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَالِي وَلِلدُّنْيَا وَمَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» قَالَ الطِّيبِيُّ هَذَا تَمْثِيلٌ فِي سُرْعَةِ الرِّحْلَةِ وَقِلَّةِ الْمُكْثِ. قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ أَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ، قَالُوا يَا رُوحَ اللَّهِ وَمَنْ يَقْدِرُ قَالَ إيَّاكُمْ وَالدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا. قَالَ الْحَكِيمُ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الدُّنْيَا مَمَرًّا وَالْآخِرَةَ مَقَرًّا. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (وَالْآخِرَةُ صَافِيَةٌ) عَنْ تِلْكَ الْأَكْدَارِ (بَاقِيَةٌ) لَا انْقِضَاءَ لَهَا أَبَدًا (وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَاجِزُونَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَمْلِكُونَ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) لِأَحَدٍ فَإِذَنْ الْعِبَادَةُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْعَجَزَةِ وَمَحَبَّةِ تِلْكَ الْفَانِيَةِ الْكَدِرَةِ، وَتَرْجِيحُهَا عَلَى الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الصَّافِيَةِ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ كَمَالِ الْحَمَاقَةِ وَنِهَايَةِ الْبِغَايَةِ وَغَايَةِ الْغَوَايَةِ (فَعَلَيْك أَيُّهَا الْعَاقِلُ) الْمَاشِي عَلَى مُقْتَضَى عَقْلِهِ بِتَمْيِيزِ مَا يَنْفَعُهُ عَمَّا يَضُرُّهُ وَبِصَرْفِهِ إلَى مَا هُوَ لَهُ (أَنْ تَقْنَعَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَتِك) وَأَيْضًا بِثَوَابِهِ عَلَى عِبَادَتِك (وَلَا تَطْلُبُ عِلْمَ غَيْرِهِ) وَكَذَا النَّفْعُ مِنْهُ إذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ عَاجِزٌ وَالنَّفْعَ وَالضُّرَّ إلَيْهِ تَعَالَى قَاصِرٌ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] اقْتِبَاسٌ مُشِيرٌ إلَى دَلِيلِ الْحُكْمِ وَمُنَبِّهٌ عَلَى وُضُوحِ الْأَمْرِ وَبَدَاهَةِ الْحُكْمِ وَتَقْرِيعٌ لِلذَّاهِلِينَ وَتَوْبِيخٌ لِلْغَافِلِينَ بِحِكَايَةِ كَلَامِ أَصْدَقِ الْقَائِلِينَ (وَ) عَلَيْك (أَنْ تَذْكُرَ وَتُكَرِّرَ عَلَى قَلْبِك) لِئَلَّا يَقَعَ الذُّهُولُ وَالْغُفُولُ، فَإِنَّ الْخَطَرَ عَظِيمٌ وَالْهَلْكَى كَثِيرٌ (غَوَائِلَ الرِّيَاءِ وَفَوَائِدَ الْإِخْلَاصِ) مِنْ نُورِهَا وَجَلَالَتِهَا وَعَظَمَتِهَا وَرِفْعَتِهَا (الْمَذْكُورَتَيْنِ) لِتَنْفِرَ عَنْ الرِّيَاءِ وَتَرْغَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ فَتَأْلَفَ مَا بِهِ الْفَائِدَةُ وَتَنْفِرُ عَمَّا بِهِ الْغَائِلَةُ فَيَزُولُ الرِّيَاءُ وَيَحْصُلُ الْإِخْلَاصُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ أَرَادَ أَنْ

يَذْكُرَ الْعِلَاجَ الْعَمَلِيَّ فَقَالَ (وَالْعِلَاجُ الْعَمَلِيُّ إخْفَاءُ الْعَمَلِ) الَّذِي يَصْلُحُ فِيهِ الْإِخْفَاءُ عَنْ الْخَلْقِ سِيَّمَا عَمَّنْ يُهَيِّجُ عِنْدَهُ دَوَاعِيَ الرِّيَاءِ (وَإِغْلَاقُ الْبَابِ) أَيْ بَابِ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ سَلِيمٌ أَوْ بَابِ الْعِبَادَةِ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (إلَّا مَا لَزِمَ إظْهَارُهُ) بِأَنْ يَكُونَ مَشْرُوعِيَّتُهُ مَعَ الْجَمْعِ كَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ (وَالضَّرْبُ الثَّانِي دَفْعُ مَا يَخْطِرُ مِنْ الرِّيَاءِ) فِي قَلْبِ الْعَابِدِ (فِي الْحَالِ) بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِمَّا تَقَدَّمَ (وَرَفْعُ مَا يَعْرِضُ مِنْهُ) مِنْ الرِّيَاءِ لِلْعَابِدِ (فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ فَعَلَيْك فِي أَوَّلِ كُلِّ عِبَادَةٍ أَنْ تُفَتِّشَ قَلْبَك) بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ وَالِاخْتِبَارِ لَدَيْهِ. (وَتُخْرِجُ عَنْهُ خَوَاطِرَ الرِّيَاءِ) الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ إحْبَاطُ ثَوَابِ الْعَمَلِ (وَتُقَرِّرَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَتَعْزِمُ عَلَيْهِ) عَلَى الْإِخْرَاجِ وَالتَّقْرِيرِ (إلَى أَنْ تَتِمَّ) الْعِبَادَةُ (لَكِنْ الشَّيْطَانُ لَا يَتْرُكُك بَلْ يُعَارِضُك بِخَطَرَاتِ الرِّيَاءِ) لَكِنْ لَا يَضُرُّ عُرُوضُ الرِّيَاءِ بَعْدَ كَوْنِ الشُّرُوعِ بِالْإِخْلَاصِ عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ رَجُلٌ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِخْلَاصِ ثُمَّ خَلَطَهُ الرِّيَاءُ فَالْعِبْرَةُ لِلسَّابِقِ. وَعَنْ الْمَطَالِعِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ يُصَلِّيَ وَيَخَافَ أَنْ يَدْخُلَهُ الرِّيَاءُ لَا يَتْرُكُ الْقُرْآنَ وَالصَّلَاةَ. (وَهِيَ) أَيْ خَطَرَاتُ الرِّيَاءِ (ثَلَاثَةٌ مُرَتَّبَةٌ) الْأَوَّلُ (الْعِلْمُ) عِلْمُ الْعَابِدِ (بِاطِّلَاعِ الْخَلْقِ) عَلَى الْعَمَلِ (أَوْ رَجَاؤُهُ) رَجَاءُ الِاطِّلَاعِ (ثُمَّ) الثَّانِي (الرَّغْبَةُ فِي حَمْدِهِمْ وَحُصُولِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ ثُمَّ) الثَّالِثُ (قَبُولُ النَّفْسِ لَهُ) لِلْمَنْزِلَةِ (وَالرُّكُونُ) الْمَيْلُ الْقَوِيُّ (إلَيْهِ) أَيْ الْقَبُولِ (وَعَقْدُ الضَّمِيرِ) أَيْ رَبْطُ الْقَلْب (عَلَى تَحْقِيقِهِ) قِيلَ فَالْأَوَّلُ مَعْرِفَةٌ وَالثَّانِي حَالَةٌ تُسَمَّى بِالشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالثَّالِثُ فِعْلٌ يُسَمَّى الْعَزْمُ وَالتَّصْمِيمُ وَإِنَّمَا كَانَ الْقُوَّةُ فِي دَفْعِ الْخَاطِرِ الْأَوَّلِ وَرَدِّهِ قَبْلَ أَنْ يَتْلُوَهُ الثَّانِي لَا يَخْفَى أَنَّ قَبُولَ النَّفْسِ لِلْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ مَوْقُوفٌ عَلَى عَدِّ الرَّغْبَةِ فِي مَدْحِهِمْ وَالرَّغْبَةُ هَذِهِ إنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَ الْعِلْمِ فَوَجْهُ التَّرْتِيبِ ظَاهِرٌ (فَعَلَيْك رَدُّ كُلٍّ مِنْهَا) مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. (أَمَّا) رَدُّ (الْأَوَّلِ فَبِأَنْ قَالَ) الْمُخْلِصُ الْمُتَّقِي الْمُتَوَرِّعُ بِالْقَوْلِ الْمَعْقُولِ وَالْمَلْفُوظِ (مَالِكٌ) يَا نَفْسِي فِيهِ تَجْرِيدٌ إذْ مِنْ الْمُحَالِ اتِّحَادُ الْمُخَاطَبِ مَعَ الْمُخَاطِبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (وَلِلْخَلْقِ) هَكَذَا فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ النُّسَخِ لَعَلَّ الصَّوَابَ وَالْخَلْقُ (عَلِمُوا أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا) يَعْنِي عِلْمَهُمْ وَعَدَمَ عِلْمِهِمْ سِيَّانِ إذْ لَا يُجْلَبُ بِعِلْمِهِمْ نَفْعٌ وَلَا بِعَدَمِ عِلْمِهِمْ ضُرٌّ بَلْ النَّافِعُ وَالضَّارُّ وَالْمُعْطِي وَالدَّافِعُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِحَالِك) فَيَكْفِيك عِلْمُهُ (فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِلْمِ غَيْرِهِ) وَهُوَ عَبْدٌ عَاجِزٌ وَفَقِيرٌ مُحْتَاجٌ مِثْلُك إنْ قِيلَ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ لَكِنْ لِإِعْطَاءِ بَعْضِ شَيْءٍ وَوُصُولِ بَعْضِ مُرَادٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدْخَلًا عَادِيًا لِعِلْمِهِمْ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ التَّجْرِبَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ فَمِنْ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَةِ قُلْنَا يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي (وَأَمَّا) رَدُّ. (الثَّانِي فَبِتَذَكُّرِ آفَاتِ الرِّيَاءِ) السَّابِقَةِ (وَتَعَرُّضِهِ) كَوْنُهُ عُرْضَةً (لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى) لِبُغْضِهِ الشَّدِيدِ بِسَبَبِ الرِّيَاءِ وَخَيْبَتِهِ فِي أَحْوَجِ أَوْقَاتِهِ إلَى أَعْمَالِهِ بِعَدَمِ الثَّوَابِ بَلْ بِجَزْمِ الْعِقَابِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِلْأَوَّلِ أَيْضًا بَلْ رَدُّ الْأَوَّلِ أَيْضًا صَالِحٌ لِرَدِّ الثَّانِي فَافْهَمْ (فَيُثِيرُ) بِالثَّاءِ أَيْ يُهَيِّجُ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ فِي قَلْبِ الْعَابِدِ

(كَرَاهِيَةً) مِنْ حَمْدِهِمْ (فِي مُقَابَلَةِ الرَّغْبَةِ) إلَيْهِ (تَدْعُو) تِلْكَ الْكَرَاهِيَةَ (إلَى الْإِبَاءِ) الِامْتِنَاعِ عَنْهُ (فِي مُقَابَلَةِ الْقَبُولِ) وَقَدْ قُرِّرَ تَرْجِيحُ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا فَضْلًا عَنْ قُوَّةٍ الضُّرِّ كَمَا هُنَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَالنَّفْسُ) أَيْ الْعَقْلُ إذَا خَلَا عَنْ شُؤُونِ الْإِمَارَةِ بِالسُّوءِ (لَا مَحَالَةَ تُطَاوِعُ أَقْوَى الْمُتَقَابِلَيْنِ) وَأَغْلَبُهُمَا الْكَرَاهَةُ وَالرَّغْبَةُ وَلَا شَكَّ فِي غَلَبَةِ ضَرَرِ الْكَرَاهِيَةِ كَمَا عَرَفْت فِي غَوَائِلِ الرِّيَاءِ عَلَى نَفْعِ الرَّغْبَةِ (فَلَا بُدَّ فِي رَدِّ خَوَاطِرِ الرِّيَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ الْمَعْرِفَةُ) مَعْرِفَةُ مَا خَطَرَ مِنْ خَوَاطِرِ الرِّيَاءِ (وَالْكَرَاهِيَةُ لَهُ) لِدَاعِي الْمَقْتِ (وَالْإِبَاءُ) الِامْتِنَاعُ عَنْ الرِّيَاءِ، ثُمَّ فَصَّلَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ (وَقَدْ يَشْرَعُ الْعَبْدُ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى عَزْمِ الْإِخْلَاصِ) بِأَنْ لَا يَقْصِدَ شَيْئًا سِوَى رِضَاهُ تَعَالَى (ثُمَّ يَرِدُ) مِنْ الْوُرُودِ عَلَى قَلْبِهِ (خَاطِرُ الرِّيَاءِ) إيجَابًا (فَيَقْبَلُهُ) اخْتِيَارًا (بَغْتَةً) فَجْأَةً عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ (وَلَا يَحْضُرُهُ) أَيْ الْعَبْدَ (وَاحِدٌ مِنْ وُجُوهِ الرَّدِّ) الْمَعْرِفَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ وَالْإِبَاءُ (بِسَبَبِ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِحُبِّ الْحَمْدِ) أَيْ الْمَدْحِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ. (وَخَوْفِ الذَّمِّ وَاسْتِيلَاءِ) غَلَبَةِ (الْحِرْصِ عَلَيْهِ) أَيْ الْعَبْدِ (فَيَعْزُبُ) بِضَمِّ الزَّايِ بِمَعْنَى يَغِيبُ وَيَخْرُجُ (عَنْ الْقَلْبِ آفَاتُ الرِّيَاءِ) لِغَلَبَةِ أَسْبَابِهِ عَلَيْهِ وَالذِّهْنُ بَسِيطٌ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى شَيْئَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ (فَيَنْسَاهَا) أَيْ الْآفَاتِ (فَلَمْ تَظْهَرْ الْكَرَاهِيَةُ) حَتَّى أَمْكَنَ الرَّدُّ لِغَيْبُوبَةِ سَبَبِهَا عَنْهُ بِغَلَبَةِ سَبَبِ مُقَابِلِهَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْكَرَاهِيَةُ عِنْدَ الْحُضُورِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْكَرَاهِيَةَ (ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ) قِيلَ أَيْ بِغَوَائِلِ الرِّيَاءِ مِنْ نَحْوِ الْغَضَبِ وَالْمَقْتِ وَفِيهِ خَفَاءٌ فَافْهَمْ (وَقَدْ يَتَذَكَّرُ) مَا خَطَرَ بِبَالِهِ مِنْ خَاطِرِ الرِّيَاءِ (فَيَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي خَطَرَ لَهُ) أَيْ وَرَدَ عَلَى قَلْبِهِ (خَاطِرُ الرِّيَاءِ وَ) يَتَذَكَّرُ (أَنَّهُ) أَيْ خَاطِرَ الرِّيَاءِ (يُعَرِّضُهُ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ يُصَيِّرُهُ مُعَرَّضًا (لِسُخْطِ اللَّهِ) تَعَالَى وَغَضَبِهِ. (وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ) مَعَ ذَلِكَ (لَهُ الْكَرَاهِيَةُ) فَلَا يَحْصُلُ الِانْزِجَارُ فَيَكُونُ الْوِزْرُ عَلَيْهِ آكَدُ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ تَخَلُّفُ الْأَثَرِ عَنْ الْمُؤَثِّرِ إذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ حِينَئِذٍ حَاصِلَةٌ قُلْنَا إنْ أُرِيدَ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ فَلَا نُسَلِّمُهُ وَإِنْ الْمُطْلَقُ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ تَخَلُّفِهِ عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَلِ مَشْرُوطٌ بِارْتِفَاعِ مَوَانِعِهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِشِدَّةِ شَهْوَتِهِ) أَيْ مَحَبَّتِهِ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا عَمِيَ عَنْ مَعَايِبِهِ بَلْ يَرَى قَبَائِحَهُ مَحَاسِنَ كَمَا قِيلَ حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ فَإِنْ قِيلَ الْمَعْرِفَةُ تُوجِبُ الْكَرَاهِيَةَ وَالْمَحَبَّةُ عَدَمَهَا فَيَقْتَضِي تَسَاقُطَهُمَا فَمِنْ أَيْنَ الْحُكْمُ بِعَدَمِ الْكَرَاهِيَةِ قُلْنَا لَعَلَّ تَوْصِيفَهُ بِالشِّدَّةِ لِأَجْلِ تَرْجِيحِ هَذَا الْجَانِبِ لَكِنْ عِنْدَ التَّسَاوِي يَلْزَمُ الْحَظْرُ أَيْضًا غَايَتُهُ دُونَهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْحَرَامَ غَالِبٌ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ الْحِلِّ كَمَا فِي الْأُصُولِ وَأَنَّ الْحَظْرَ رَاجِحٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَقَدْ عَرَفْت مِرَارًا أَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ (فَيَغْلِبُ هَوَاهُ) النَّاشِئُ مِنْ شِدَّةِ الشَّهْوَةِ (عَقْلَهُ) النَّاشِئَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ (وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ لَذَّةِ الْحَالِ) الْمُنْبَعِثَةِ مِنْ تِلْكَ الشَّهْوَةِ

الَّتِي هُوَ فِيهَا فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورَهُ فَلَا تَكْلِيفَ بِنَفْيِهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِثُبُوتِهِ قُلْنَا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمَنْفِيَّةِ هُوَ الِامْتِنَاعُ بَلْ بِنَحْوِ أَنْ يُقَالَ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ التَّرْكَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ (فَيَسْتَلِذُّ) بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ (بِالشَّهْوَةِ) الْعَاجِلَةِ (وَيَتَسَوَّفُ بِالتَّوْبَةِ) وَقَدْ هَلَكَ الْمُتَسَوِّفُونَ (أَوْ يَتَشَاغَلُ) وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ التَّوْبَةُ (عَنْ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ) وَلَمْ يَعُدَّهُ شَيْئًا حَظْرًا (لِشِدَّةِ الشَّهْوَةِ) لَعَلَّ هَذِهِ الشِّدَّةَ فَوْقَ مَا سَبَقَ، وَالشِّدَّةُ إمَّا مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ فَيُوجَدُ جَمِيعُ الثَّلَاثَةِ أَوْ بَعْضُهَا عَلَى وَجْهِ الْقُوَّةِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْكَمُّ فَيُوجَدُ كُلُّ الثَّلَاثَةِ أَوْ أَكْثَرُهَا أَعْنِي حُبَّ الْمَدْحِ وَخَوْفَ الذَّمِّ وَاسْتِيلَاءَ الْحِرْصِ (فَكَمْ مِنْ عَالِمٍ يَحْضُرُهُ كَلَامٌ) أَيْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ (لَا يَدْعُو إلَى قَوْلِهِ) ذَلِكَ (إلَّا الرِّيَاءُ) هَذَا التَّفْرِيعُ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ (وَهُوَ) أَيْ الْعَالِمُ الْمَذْكُورُ (يَعْلَمُ ذَلِكَ) أَيْ كَوْنَهُ بِالرِّيَاءِ هَذَا وَإِنْ كَانَ كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ لَكِنَّهُ قَدْ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْعِلْمِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَدَارَ الْحُكْمِ بِالْآكَدِيَّةِ كَانَ أَهَمَّ فَإِذَنْ تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ (وَلَكِنَّهُ) مَعَ عِلْمِهِ لَا يَنْزَجِرُ بَلْ (يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ) فَلَا يَحْصُلُ الْإِبَاءُ (وَلَا يَكْرَهُهُ) فَلَا تَحْصُلُ الْكَرَاهِيَةُ فَبِالْجُمْلَةِ تُوجَدُ الْمَعْرِفَةُ وَلَا يُوجَدُ الْإِبَاءُ وَالْكَرَاهِيَةُ. (فَتَكُونُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْعَالِمِ فِي التَّعْذِيبِ (آكَدُ) أَقْوَى (إذْ قَبِلَ) مِنْ الْقَبُولِ (دَاعِيَ الرِّيَاءِ) مِنْ الِاسْتِمْرَارِ وَعَدَمِ الْكَرَاهِيَةِ (مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَبِغَائِلَتِهِ) وَمُوجِبُ الْعِلْمِ الِانْكِفَافُ عِنْدَ عِلْمِهِ بِأَحَدِهِمَا فَكَيْفَ بِعِلْمِهِ بِهِمَا (وَقَدْ يَحْضُرُ) الْمُخْلِصَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ وَقَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ (الْمَعْرِفَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ مَعًا وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْإِبَاءُ) عَنْ دَاعِي الرِّيَاءِ (بَلْ يَقْبَلُ دَاعِيَ الرِّيَاءِ وَيَعْمَلُ بِهِ لِكَوْنِ الْكَرَاهِيَةِ لَهُ ضَعِيفَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ) وَالْحُكْمُ لِأَقْوَى الْمُتَقَابِلَيْنِ فَكَأَنَّ الْكَرَاهِيَةَ لَمْ تُوجَدْ (وَهَذَا) أَيْ ذُو الْكَرَاهِيَةِ الَّتِي لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا أَثَرُهَا مِنْ الْإِبَاءِ (أَيْضًا لَا يَنْتَفِعُ بِكَرَاهِيَتِهِ) كَمَا لَا يَنْتَفِعُ بِمَعْرِفَتِهِ (إذْ الْغَرَضُ مِنْهَا) مِنْ الْكَرَاهِيَةِ (صَرْفُهُ عَنْ الْفِعْلِ) أَيْ الرِّيَاءِ وَلَمْ يَحْصُلْ (فَإِذًا) عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ نَفْعِ الْكَرَاهِيَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِدُونِ الْإِبَاءِ مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مُجْتَمِعَيْنِ. (لَا فَائِدَةَ إلَّا فِي اجْتِمَاعِ الثَّلَاثَةِ) مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالْإِبَاءِ فَالْإِبَاءُ ثَمَرَةُ الْكَرَاهِيَةِ وَالْكَرَاهِيَةُ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهَا بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَنِسْيَانِ الْآخِرَةِ وَقِلَّةِ التَّفَكُّرِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَقِلَّةِ التَّدَبُّرِ فِي آفَاتِ حُبِّ الدُّنْيَا وَعِظَمِ نِعَمِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُ ذَلِكَ يُنْتِجُ بَعْضًا وَيُثْمِرُ وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ حُبُّ الدُّنْيَا وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَمَنْبَعُ كُلِّ ذَنْبٍ. (فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الرِّيَاءِ) وَقَدْ يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْإِبَاءُ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ حَصَلَ الْبَرَاءَةُ مِنْ الرِّيَاءِ أَيْضًا (وَمُجَرَّدُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ لَا يَضُرُّ (خُطُورِ الرِّيَاءِ) بِنَفْسِهِ بِلَا اخْتِيَارٍ (وَمَيْلِ الطَّبْعِ إلَيْهِ) النَّفْسَانِيِّ كَمَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى (وَحُبِّهِ لَهُ) أَيْ وَمُجَرَّدُ حُبِّهِ لَهُ كَمَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى أَيْضًا أَيْ الْعَارِي عَنْ الِاسْتِدَامَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَإِلَّا فَيَكُونُ مَسْبُوقًا بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ دُونَ الِاضْطِرَارِ (وَمُنَازَعَتِهِ إيَّاهُ) فِي طَرْدِهِ وَإِخْرَاجِهِ بِأَنْ يَرِدَ خَاطِرُ الرِّيَاءِ عَقْلَ الْعَابِدِ وَيَقْبَلَهُ هَوَاهُ وَنَفْسُهُ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَذْكُرَ ذَلِكَ أَوْ يُجْعَلَ قَيْدًا لِلْأَوَّلِ. (لَا يَضُرُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ قَبُولٌ وَرُكُونٌ بِالِاخْتِيَارِ)

هَذَا كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ بِمُلَاحَظَةِ فَائِدَةِ قَوْلِهِ وَمُجَرَّدُ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لَهُ (إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ مَنْعُ الشَّيْطَانِ مِنْ نَزَغَاتِهِ) وَوَسَاوِسَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِوَسَاوِسِهِ وَعَدَمُ الْمُطَاوَعَةِ فِيهَا فَالرُّكُونُ وَالْقَبُولُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَالَاةِ وَالْمُطَاوَعَةِ، وَخُطُورُ الرِّيَاءِ مِنْ قَبِيلِ النَّزَغَاتِ فَلَا يَرِدُ أَنَّ خُطُورَ الرِّيَاءِ مُضِرٌّ وَالرُّكُونَ وَالْقَبُولَ لَيْسَ بِمُضِرٍّ وَحَاصِلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ النَّزْغُ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ ضَرَرِ الْقَبُولِ وَالرُّكُونِ فَتَأَمَّلْ. (وَلَا قَمْعُ الطَّبْعِ) قَطْعُهُ (حَتَّى لَا يَمِيلَ إلَى الشَّهَوَاتِ) لِأَنَّ الْمَرْءَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْمَنَاهِي وَالشَّهَوَاتِ (وَلَا يَنْزِعُ) لَا يَنْجَذِبُ وَلَا يَمِيلُ (إلَيْهَا) إذْ الطَّبْعُ ضَرُورِيٌّ فِيهَا وَلَا تَكْلِيفَ فِي الِاضْطِرَارِيِّ كَالِامْتِنَاعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا (وَإِنَّمَا غَايَتُهُ) غَايَةُ وُسْعِهِ (أَنْ يُقَابِلَ شَهْوَتَهُ بِكَرَاهِيَةٍ) فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُقَابِلُ بِكَرَاهِيَةٍ وَقَدْ كَانَ حُبُّهُ ضَرُورِيًّا إذْ مَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُ مُقَابَلَتُهُ إيَّاهُ قُلْنَا قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْحُبَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الْخَاطِرُ الْأَوَّلُ وَالْمُقَابَلَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ. (وَإِبَاءٍ وَعَدَمِ إجَابَةٍ) لِدَاعِي الطَّبْعِ أَوْ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ (اسْتَفَادَهَا) أَوْ اسْتَفَادَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ (مِنْ عِلْمِ الدِّينِ) كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي اُسْتُفِيدَ مِنْهُمَا كَالتَّصَوُّفِ وَالْأَخْلَاقِ وَالزُّهْدِ (فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ) الْمُقَابَلَةَ (فَهُوَ الْغَايَةُ فِي أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ) فَلَيْسَ مِنْ وَرَائِهِ تَكْلِيفٌ فَلَا ضَرَرَ فِي إتْيَانِهِ قِيلَ هُنَا وَالْمُخْلِصُونَ عَنْ الرِّيَاءِ فِي دَفْعِ خَوَاطِرِهِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ الْأُولَى أَنْ يَرُدَّ عَلَى الشَّيْطَانِ فَيُكَذِّبَهُ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ بَلْ يَشْتَغِلُ بِمُجَادَلَتِهِ وَيُطِيلُ الْجِدَالَ مَعَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ أَسْلَمُ لِقَلْبِهِ وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ نُقْصَانٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ عَنْ مُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَيْرِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِهِ وَانْصَرَفَ إلَى قِتَالِ قُطَّاعٍ وَهُوَ نُقْصَانٌ فِي السُّلُوكِ الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْقِتَالَ وَالْجِدَالَ نُقْصَانٌ فِي السُّلُوكِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَدَفْعِهِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِمُجَادَلَتِهِ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِتَكْذِيبِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْفَةٌ فِي السُّلُوكِ وَإِنْ قُلْت بَلْ قَرَّرَ فِي ضَمِيرِهِ كَرَاهِيَةَ الرِّيَاءِ وَكَذِبَ الشَّيْطَانِ فَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مُسْتَصْحِبًا لِلْكَرَاهِيَةِ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُخَاصَمَةِ الرَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَحْسُدُهُ عِنْدَ جَرَيَانِ أَسْبَابِ الرِّيَاءِ فَيَكُونُ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنَّهُ مَهْمَا نَزَغَ الشَّيْطَانُ زَادَ فِيمَا هُوَ مِنْ الْإِخْلَاصِ وَالِاشْتِغَالِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِخْفَاءِ الْعِبَادَةِ غَيْظًا لِلشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَغِيظُ الشَّيْطَانَ وَيَقْمَعُهُ وَيُوجِبُ يَأْسَهُ وَقُنُوطَهُ حَتَّى لَا يَرْجِعَ وَمَهْمَا عَرَفَ الشَّيْطَانُ مِنْ الْعَبْدِ هَذِهِ الْعَادَةَ كَفَّ عَنْهُ خِيفَةً مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِي حَسَنَاتِهِ (ثُمَّ إذَا فَرَغَ) مِنْ نِزَاعِهِ وَجِدَالِهِ لِطَبْعِهِ وَشَيْطَانِهِ وَقَدْ أَتَمَّ عِبَادَتَهُ بِالْإِخْلَاصِ (فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَحَدَّثَ بِهِ) أَيْ لَا يُخْبِرَ بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا (وَلَا يُظْهِرَهُ) لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ نَوْعٌ مِنْ الرِّيَاءِ وَقَدْ أَتَمَّهُ بِأَتْعَابٍ كَثِيرَةٍ (إلَّا إذَا أَمِنَ الرِّيَاءَ وَقَصَدَ) بِإِظْهَارِهِ (اقْتِدَاءَ الْغَيْرِ بِهِ) وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ (فِي مَظِنَّتِهِ) لَا بِمُجَرَّدِهِ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ أَوْ كَانَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ مَظِنَّةَ مَنْ يَقْتَدِي فَلَا يُظْهِرُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لَعَلَّ مِنْ قَبِيلِ هَذَا الْمُسْتَثْنَى قَصْدُ تَحْدِيثِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَصْدُ تَمْكِينِ صِيتِهِ الْحَسَنِ عَسَى أَنْ يَشْهَدُوا بِحُسْنِ حَالِهِ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ (وَ) أَنْ (يَكُونَ وَجِلًا) مُضْطَرِبًا (مِنْ عَمَلِهِ خَائِفًا أَنْ يَدْخُلَهُ مِنْ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ) وَقَدْ مَرَّ (مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ) أَيْ الرِّيَاءِ الَّذِي لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ لِخَفَاءِ سَبَبِهِ (فَيَكُونُ مَرْدُودًا مَمْقُوتًا) مَبْغُوضًا (لِلَّهِ تَعَالَى) مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي (وَيَكُونُ هَذَا الْخَوْفُ فِي دَوَامِ عَمَلِهِ) فِي أَثْنَائِهِ. (وَبَعْدَهُ لَا فِي ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ) عِنْدَ شُرُوعِهِ، لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ التتارخانية لَوْ افْتَتَحَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ دَخَلَ فِي قَلْبِهِ الرِّيَاءُ فَهُوَ عَلَى مَا افْتَتَحَ وَالرِّيَاءُ أَنَّهُ لَوْ خَلَا عَنْ النَّاسِ لَا يُصَلِّي وَلَوْ كَانَ مَعَ النَّاسِ يُصَلِّي كَمَا تَقَدَّمَ (بَلْ يَنْبَغِي

أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّنًا فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ مُخْلِصٌ) لِلَّهِ تَعَالَى (مَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تُوجَدَ النِّيَّةُ) تَعْلِيلٌ لِوُجُوبِ تَيَقُّنِ الْإِخْلَاصِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ (إذْ هِيَ) أَيْ النِّيَّةُ (الْعَزْمُ الْمُصَمَّمُ) الْقَطْعِيُّ (الْبَاعِثُ) الدَّاعِي عَلَى الْعَمَلِ (فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ) لِلتَّنَافِي بَيْنَ الْقَطْعِ وَبَيْنَ الشَّكِّ وَأَنَّ الشَّكَّ لَا يَنْبَعِثُ عَنْهُ شَيْءٌ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْخَوْفِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ دَوَامِ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ مَشْكُوكًا فِي عَدَمِ الرِّيَاءِ، وَظَاهِرُ الِاجْتِهَادِ وَالْخَوْفِ يُنَافِيهِ (فَإِذَا شَرَعَ عَلَى الْيَقِينِ) يَعْنِي إذَا كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ جَازِمًا بِالْإِخْلَاصِ خَالِيًا عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ (وَمَضَتْ لَحْظَةٌ) زَمَانٌ قَلِيلٌ (يُمْكِنُ فِيهِ الْغَفْلَةُ) غَيْبَةُ الشَّيْءِ عَنْ الْخَاطِرِ وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ لَهُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ تَرَكَهُ إهْمَالًا وَإِعْرَاضًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] (وَالنِّسْيَانُ) مُشْتَرَكٌ بَيْنَ تَرْكِ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ خِلَافَ الذِّكْرِ وَتَرْكِهِ عَلَى تَعَمُّدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ - {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] (جَاءَ الْخَوْفُ مِنْ شَائِبَةٍ) مُتَعَلِّقٌ بِجَاهِ (خَفِيَّةٍ مِنْ) بَيَانٌ لِلشَّائِبَةِ (رِيَاءٍ أَوْ عُجْبٍ) يَعْنِي بَعْدَمَا شَرَعَ بِالْإِخْلَاصِ تَتَطَرَّقُ شَائِبَةُ الرِّيَاءِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ إمَّا بِسَبَبِ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّيَقُّظِ وَالتَّدَبُّرِ حَتَّى لَا تَتَطَرَّقَ أَوْ يَدْفَعَ وَلَا يَسْتَمِرَّ الرِّيَاءُ مَثَلًا فَإِنْ قِيلَ النِّسْيَانُ مَرْفُوعُ الْإِثْمِ بِحَدِيثِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» إذْ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ فَسَّرُوهُ بِاسْمِ الْخَطَأِ قُلْنَا هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَاطَ سَبَبُهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النِّسْيَانِ مَا فِي الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا فِي الْبَقَاءِ فَقَلَّمَا يُوجَدُ النِّسْيَانُ بَلْ إنْ وُجِدَ يَكُونُ مِنْ قِلَّةِ مُبَالَاتِهِ وَعَدَمِ اهْتِمَامِهِ وَهُوَ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ. وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِمَا أَوَّلًا؛ إذْ لَا تَمْتَنِعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِمَا عَقْلًا فَإِنَّ الذُّنُوبَ كَالسَّمُومِ فَكَمَا أَنَّ تَنَاوُلَهَا مُهْلِكٌ وَإِنْ خَطَأً فَكَذَا تَنَاوُلُ الذُّنُوبِ مُفْضٍ إلَى الْعِقَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزِيمَةٌ لَكِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِالتَّجَاوُزِ فَضْلًا وَكَرَمًا. (وَأَمَّا أَوْلَوِيَّةُ غَلَبَةِ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ أَوْ الْعَكْسُ) ظَاهِرُهُ أَرَادَ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الرِّيَاءِ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُهُ سَوَاءٌ بِخَوْفِ الرِّيَاءِ أَوْ لَا وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ بَحْثِ حَالِ الرَّجَاءِ أَيْضًا (فَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ فِيهَا) أَيْ الْأَوْلَوِيَّةِ. (قَالَ بَعْضُهُمْ) قِيلَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ خِلَافُهُ حَيْثُ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْخَوْفِ فَيَعْلَمُ أَوَّلًا الطَّرِيقَ ثُمَّ يَعْمَلُ بِهِ ثُمَّ يَخْلُصُ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَخَافُ وَيَحْذَرُ مِنْ الْآفَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ صَدَقَ ذُو النُّونِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إلَّا الْعُلَمَاءَ، وَالْعُلَمَاءُ نِيَامٌ إلَّا الْعَامِلُونَ وَالْعَامِلُونَ مُغْتَرُّونَ إلَّا الْمُخْلِصُونَ وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ قَالَ الْعَجَبُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَقَالَ رَابِعُهَا مِنْ مُخْلِصٍ غَيْرِ خَائِفٍ أَمَا يَنْظُرُ فِي مُعَامَلَاتِهِ تَعَالَى مَعَ أَصْفِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَخِدْمَتِهِ الدَّالَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ حَتَّى يَقُولَ لِأَكْرَمِ الْخَلْقِ - {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر: 65]- الْآيَاتِ حَتَّى «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ» انْتَهَى مُلَخَّصًا. (يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ الرَّجَاءُ) عَلَى الْخَوْفِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْعَابِدَ الْمَذْكُورَ (اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ دَخَلَ) فِي الْعَمَلِ (بِإِخْلَاصٍ) كَمَا هُوَ الْكَلَامُ فِيهِ (وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ) بِعُرُوضِ نَحْوِ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ (فَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ) الشَّرْعُ نَفْسُ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ وَالْقَوَاعِدِ لِلْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوَاعِدِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَوْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّازِمَةِ لِنَفْسِ الشَّرْعِ أَوْ الْمَفْهُومَةِ مِنْهُ (أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ) . قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ مَبْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنَهُ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنْ

الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» ثُمَّ فَصَّلَ فِي تَوْضِيحِهِ كَلَامًا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ وَأَيْضًا الْأَصْلُ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْيَقِينُ فِي الِابْتِدَاءِ فَهُوَ بَاقٍ فِي الِانْتِهَاءِ إلَّا بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْيَقِينِ وَأَيْضًا مَنْ شَكَّ هَلْ فَعَلَ أَوْ لَا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَيُعْتَبَرُ عَدَمُ الرِّيَاءِ فِي مَسْأَلَتِنَا، لَكِنْ يَرِدُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِتِلْكَ الْقَاعِدَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهَا كُلِّيَّةً حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْ أَفْرَادِ مَوْضُوعِهَا كَصُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ الْأَمْنُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَهُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكُلِّيَّةٍ لِعَدَمِ جَرَيَانِهَا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ كَمَنْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ هَلْ أَتَى بِهَا أَوْ لَا أَوْ أَحْدَثَ أَوْ لَا أَوْ مَسَحَ رَأْسَهُ أَوْ لَا وَكَانَ أَوَّلُ مَا عَرَضَ لَهُ اسْتَقْبَلَ وَمَنْ وَجَدَ فَأْرَةً مَيْتَةً وَلَمْ يَدْرِ مَتَى وَقَعَتْ وَقَدْ تَوَضَّأَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَمَنْ وَجَدَ بَلَلًا وَشَكَّ فِي أَنَّهُ مَنِيٌّ أَوْ مَذْيٌ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ وَمَنْ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ وَلَا يَدْرِي أَيَّ مَوْضِعٍ أَصَابَتْهُ غَسَلَ الْكُلَّ، وَإِنْ فِيهِ خِلَافًا وَتَمَامُهُ فِي الْأَشْبَاهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ قَطْعِيَّاتٌ وَارِدَةٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَمَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَأَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ إنَّمَا يُنَافِي الْقَطْعَ لَا الظَّنَّ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلَبُ ظَنِّيًّا. وَقَالَ الْمَوْلَى حَسَنٌ جَلَبِيٌّ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمَوَاقِفِ عَنْ إبْكَارِ الْأَفْكَارِ إنَّ الْكُبْرَى الْأَكْثَرِيَّةَ الَّتِي لَا تَكُونُ كُلِّيَّةً مُنْتِجَةً فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عِنْدَ كَوْنِ الْمَطْلَبِ ظَنِّيًّا وَأَنَّ الْمُخْرَجَ وَإِنْ كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَاقِي فَالْفَرْدُ يَلْحَقُ بِالْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ وَالشَّرْعِ ثُمَّ يَشْكُلُ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ الْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَتَأَمَّلْ بَقِيَ أَنَّ الشَّكَّ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ وَالظَّنَّ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ وَالْوَهْمَ رُجْحَانُ جِهَةِ الْخَطَإِ وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ، وَغَالِبُ الظَّنِّ الرَّاجِحُ الَّذِي أَخَذَ بِهِ الْقَلْبُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَمُطْلَقُ الظَّنِّ عِنْدَهُمْ هُوَ الشَّكُّ بِمَعْنَى التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، فَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ عَلَى ظَنِّي لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لِلشَّكِّ وَغَالِبُ الظَّنِّ عِنْدَهُمْ مُلْحَقٌ بِالْيَقِينِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ أَيْضًا (فَبِذَلِكَ) بِغَلَبَةِ رَجَاءِ الْقَبُولِ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِهِ لَعَلَّ الْأُولَى وَبِغَلَبَةِ بِالْوَاوِ بَدَلَ الْفَاءِ (تَعَظُّمٌ لِذَاتِهِ فِي الْمُنَاجَاةِ) لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّكِّ (وَالطَّاعَاتِ) إذْ عَدَمُ قَبُولِ الْعَمَلِ يُوجِبُ الْفُتُورَ وَالْكَسْلَانَ، وَاعْتِقَادُ قَبُولِهِ يُوجِبُ النَّشَاطَ وَالِانْبِسَاطَ وَأَنَّ إطْلَاقَاتِ الْعُمُومَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تُرَجِّحُ ذَلِكَ الْجَانِبَ، وَأَنَّهُ حَسَنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» ، وَظَنُّ رَجَاءِ الْقَبُولِ مُوجِبٌ لِلْقَبُولِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ» (وَخَوْفُهُ) مِنْ زَوَالِ الْإِخْلَاصِ (لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّكِّ جَدِيرٌ بِأَنْ يُكَفِّرَ) يَمْحُوَ (خَاطِرَ الرِّيَاءِ إنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ عَنْهُ) بِأَنْ عَرَضَ لَهُ (وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ) لِكَوْنِهِ مِنْ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ لَعَلَّ مُنَاسَبَةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ لِجَانِبِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَظْهَرُ مِنْ مُنَاسَبَتِهَا هُنَا إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا بَيَانُ وَجْهِ جَانِبِ الْمَغْلُوبِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ وَجْهُ جَانِبِ الْغَالِبِيَّةِ إذْ الْمَطْلُوبُ مُرَكَّبٌ لَا بَسِيطٌ (وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ) عَلَى الرَّجَاءِ قِيلَ هُنَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ لَمْ يَخَفْ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَخَاتِمَتَهُ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ يَخَافُ عَلَى

فَوْتِ دِينِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى» وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ يُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى» كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ وَالسَّنُوسِيِّ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِيهَا مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ إذْ الْخَوْفُ هُنَا خَوْفُ الرِّيَاءِ وَالْخَوْفُ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ ذَلِكَ (حَتَّى نُقِلَ عَنْ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ) لَعَلَّهَا مِنْ قَبِيلَةِ بَنِي عَدِيٍّ قَبِيلَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (حِينَ قِيلَ لَهَا بِمَ تَرْتَجِينَ) بِأَيِّ شَيْءٍ تَطْلُبِينَ رَحْمَتَهُ تَعَالَى وَرِضَاهُ (أَنَّهَا قَالَتْ بِإِيَاسِي) مِنْ الْيَأْسِ (مِنْ جُلِّ عَمَلِي) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ عَظِيمِ عَمَلِي فَعَدَمُ تَعْظِيمِ الْعَمَلِ إنَّمَا يَكُونُ بِغَلَبَةِ جَانِبِ الْخَوْفِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَوْفُ مِنْ الرِّيَاءِ سِيَّمَا الْخَفِيُّ كَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَلَالَةِ الْعَمَلِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ جَلَالَةِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْيَأْسَ مِنْ مُطْلَقِ الْعَمَلِ الْمُسْتَلْزِمِ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ ثُمَّ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ وَقَالَ (وَاَلَّذِي عِنْدِي) فَإِنْ قِيلَ الْمُصَنِّفُ لَيْسَ مِنْ أَرْبَابِ الِاجْتِهَادِ وَلَا مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ كَالطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ عَلَى مَا قَالُوا فَكَيْفَ يَنْفَرِدُ عَنْ رَأْيِ جُمْهُورِ الْمَشَايِخِ قُلْنَا لَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَطَالِبِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بَلْ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لِلْعُلَمَاءِ الْعَامِّيَّةِ فِيهَا حَظٌّ إذْ حَاصِلُهُ هُوَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِمُنْقَرِضٍ عِنْدَ مُثْبِتِيهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ مِنْ رِجَالِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ نَعَمْ الْأَصَحُّ عَدَمُ تَجْزِيءِ الِاجْتِهَادِ (اخْتِلَافُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ) فَفِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ غَلَبَةُ الرَّجَاءِ وَفِي بَعْضِهَا غَلَبَةُ خَوْفِهَا وَفِي شَخْصٍ وَاحِدٍ يَغْلِبُ الرَّجَاءُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيَغْلِبُ الْخَوْفُ فِي بَعْضٍ آخَرَ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» ؛ إذْ ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ كَيِّسٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حَقِيرَةً ذَلِيلَةً، وَالْعَاجِزُ يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ وَيَرْجُو الثَّوَابَ فَأَقُولُ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى تَفْسِيرِ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ «مَنْ دَانَ نَفْسَهُ» أَيْ حَاسَبَهَا وَاسْتَعْبَدَهَا وَأَذَلَّهَا وَقَهَرَهَا يَعْنِي يَجْعَلُ نَفْسَهُ مُطِيعَةً لِأَوَامِرِ رَبِّهَا وَيَدُومُ بِهَا وَقَوْلُهُ «وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» مِنْ الْأُمْنِيَةِ أَيْ مَعَ تَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَعْتَذِرُ وَلَا يَرْجِعُ بَلْ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْعَفْوَ وَالْجَنَّةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَتَرْكِ التَّوْبَةِ وَقِيلَ وَقِيلَ (فَإِنَّ الْمُبْتَدِئَ) فِي السُّلُوكِ (وَمَنْ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ آثَارِ الْعُجْبِ وَالْأَمْنِ) أَثَرُ الْأَمْنِ لَيْسَ نَفْسَ الْأَمْنِ فَلَا مَحْذُورَ (وَالْغُرُورِ) بِمَا هُوَ مُسْتَدْرَجٌ فِيهِ (وَالْبَطَالَةِ) عَنْ الْعَمَلِ (يَنْبَغِي لَهُمَا)

الثاني عشر من آفات القلب الكبر

أَيْ لِلْمُبْتَدِئِ وَلِمَنْ فِيهِ تِلْكَ الْأُمُورُ لَكِنْ الْغَالِبُ أَنَّ سَبَبَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ هُوَ الْمُبْتَدِئِيَّةُ فَجَعْلُهَا مُغَايِرًا لَهُ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَإِنَّ مَنْ بَقِيَ فِيهِ تِلْكَ الْأُمُورُ لَا يَخْرُجُ عَنْ رُتْبَةِ الْمُبْتَدِئِيَّةِ وَلَوْ طَالَ زَمَانُهُ وَكَثُرَ أَوَانُهُ فِي السُّلُوكِ وَالطَّاعَاتِ (غَلَبَةُ الْخَوْفِ وَلِغَيْرِهِمَا) مِمَّنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ السُّلُوكِ وَرَقِيَ إلَى جَانِبِ سَيِّدِ الْمُلُوكِ بِقَطْعِ عَقَبَاتِ النَّفْسِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالرِّيَاضَةِ (غَلَبَةُ الرَّجَاءِ أَوْ الْمُسَاوَاةُ) بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُزَادَ نَحْوُ قَوْلِهِ وَأَنَّ شَخْصًا وَاحِدًا قَدْ يَعْرِضُ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَالَاتٌ تُرَجِّحُ جَانِبَ الْخَوْفِ وَفِي بَعْضٍ آخَرَ حَالَاتٌ أُخْرَى تُرَجِّحُ جَانِبَ الرَّجَاءِ وَفِي بَعْضِهَا الْمُسَاوَاةُ، لَعَلَّهُ اكْتَفَى بِمَا ذَكَرَ اعْتِمَادًا عَلَى الْمُقَايَسَةِ وَاسْتِظْهَارًا مِمَّا ذَكَرَ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يُلَائِمُ لِمَنْ نَظَرَ مِنْ الْخَارِجِ وَالْكَلَامُ فِي نَفْسِ الْعَابِدِ فَكُلُّ عَابِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصُرَ عَمَلَهُ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ الْقُرْبُ ازْدَادَ الْخَوْفُ وَلِهَذَا تَرَى أَخْوَفَ النَّاسِ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ الْأَوْلِيَاءَ ثُمَّ وَثُمَّ وَأَنَّهُمْ أَطْلَقُوا بِأَنَّهُ يَنْبَغِي غَلَبَةُ جَانِبِ الْخَوْفِ فِي الصِّحَّةِ وَالرَّجَاءِ فِي الْمَرَضِ وَلَعَلَّ لِتَعَارُضِ مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ (وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] نَعَمْ قِيلَ هُنَا الْمَشْهُورُ يَنْبَغِي اسْتِوَاءُ الْأَمْرَيْنِ لِلصِّحَّةِ وَغَلَبَةِ الرَّجَاءِ فِي الْمَرَضِ لِلْحَدِيثِ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ. وَعَنْ مَنَاهِجِ الْأَخْلَاقِ الْأَفْضَلُ عِنْدَ طَائِفَةٍ التَّسْوِيَةُ فِي الصِّحَّةِ وَعِنْدَ أُخْرَى غَلَبَةُ الْخَوْفِ وَفِي الْمَرَضِ غَلَبَةُ الرَّجَاءِ مُطْلَقًا. وَعَنْ الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْخَوْفِ إذْ غَلَبَةُ الرَّجَاءِ تُفْسِدُ الْقُلُوبَ وَعَنْ الْوَاسِطِيِّ هُمَا زِمَامَا نُفُوسٍ لِئَلَّا تَخْرُجَ إلَى رَعُونَاتِهَا وَعَنْ حَدَائِقِ الْحَقَائِقِ لَا يَتَحَقَّقُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ بِلَا خَوْفِ أَمْنٍ وَالْخَوْفُ بِدُونِ الرَّجَاءِ قُنُوطٌ وَالْأَكْثَرُ هُمَا كَجَنَاحَيْ الطَّيْرِ فَإِنْ اعْتَدَلَا طَارَ وَإِلَّا فَإِمَّا يَخْتَلُّ طَيَرَانُهُ أَوْ لَا يَطِيرُ أَصْلًا فَصَارَ كَالْمَذْبُوحِ ثُمَّ قِيلَ وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِي بِلُطْفِ رَبِّي تَرْجِيحُ جَانِبِ الرَّجَاءِ لِحَدِيثِ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» . وَقَدْ كَانَ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] وَأَنَا أَقُولُ وَأَيْضًا «غَلَبَتْ رَحْمَتُهُ تَعَالَى عَلَى غَضَبِهِ وَسَبَقَتْهَا عَلَيْهِ» كَمَا فِي أَحَادِيثَ مُفَصَّلَةٍ لَكِنْ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ بَعْدَ صَرْفِ حِجَجِ جَانِبِ الْمُخَالِفِينَ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِقَوَاعِدَ شَرْعِيَّةٍ أَوْ تَرْجِيحِ أَدِلَّةِ جَانِبِ الْوَاقِفِينَ بِتَرْجِيحَاتٍ أُصُولِيَّةٍ عَلَى نَهْجٍ مَقْبُولٍ كَيْفَ وَظَاهِرُ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]- وَنَحْوِ حَدِيثِ «لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَلِجَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ» وَحَدِيثِ «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] وَمَدَحَ الْخَائِفِينَ بِقَوْلِهِ {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} [النحل: 50] يُرَجَّحُ جَانِبُ الْخَوْفِ فَافْهَمْ. [الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ الْكِبْرُ] [الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْكِبْرِ] (الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ الْكِبْرُ وَفِيهِ خَمْسَةُ مَبَاحِثَ) فِي تَفْسِيرِهِ وَحُكْمِهِ وَفِي أَقْسَامِ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ وَفِي أَسْبَابِهَا وَفِي عَلَامَاتِ الْكِبْرِ وَفِي ضِدِّهِ أَيْ التَّوَاضُعِ (الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْكِبْرِ وَضِدِّهِ وَمُنَاسِبِهِمَا)

أَيْ الْكِبْرِ وَضِدِّهِ، مُنَاسِبُ الْكِبْرِ اثْنَانِ التَّكَبُّرُ وَالِاسْتِكْبَارُ وَمُنَاسِبُ ضِدِّهِ وَهُوَ الضِّعَةُ ثَلَاثَةٌ التَّوَاضُعُ وَالتَّمَلُّقُ وَالتَّذَلُّلُ (وَ) بَيَانُ (حُكْمِهَا) أَيْ حُكْمِ الثَّلَاثَةِ فِي الشَّرْعِ (الْكِبْرُ هُوَ الِاسْتِرْوَاحُ) طَلَبُ الرَّاحَةِ (وَالرُّكُونُ) الْمَيْلُ (إلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ) فِي صِفَاتِهَا الْكَمَالِيَّةِ فَيَحْصُلُ مِنْ رُؤْيَتِهَا فَوْقَهُ فِي قَلْبِهِ اعْتِدَادٌ وَفَرَحٌ وَهُوَ الْكِبْرُ (فَلَا بُدَّ لَهُ) أَيْ الْكِبْرِ (مِنْهُ) مِنْ مُتَكَبَّرٍ عَلَيْهِ حَتَّى يُوجَدَ (بِخِلَافِ الْعُجْبِ) فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي الْمُعْجَبَ عَلَيْهِ بَلْ لَوْ لَمْ يُخْلَقْ الْإِنْسَانُ إلَّا وَحْدَهُ يُمْكِنُ عُجْبُهُ دُونَ كِبْرِهِ. وَقَدْ يَسْبِقُ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّ الْعُجْبَ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ وِجْدَانِ الْمَرْءِ الْعِبَادَةَ فِي نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَحْتَاجُ أَيْضًا إلَى الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ وَإِنْ أَكْثَرِيًّا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِكُلِّيٍّ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْكِبْرِ بِمُجَامَعَتِهِمَا عِنْدَ وُجُودِ الْغَيْرِ وَوُجُودِ الْعُجْبِ فَقَطْ عِنْدَ عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ فَرَحُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ وَعَمَلِهِ سَوَاءٌ وَجَدَ الْغَيْرَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْظَامُ النَّفْسِ بِمَا تَعُدُّهُ نِعْمَةً وَشَرَفًا هَذَا تَفْسِيرُ الْكِبْرِ وَحُكْمُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَالْكِبْرُ حَرَامٌ) مُطْلَقًا سَوَاءٌ عَلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ أَوْ لَا (وَرَذِيلَةٌ) خَصْلَةٌ دَنِيئَةٌ (عَظِيمَةٌ مِنْ الْعِبَادِ) دُونَ الْمَعْبُودِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ نِسْيَانِ الْعَبْدِ خَالِقَهُ وَعَجْزِهِ وَتَغَافُلِهِ عَنْ خِلْقَتِهِ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ قِيلَ وَفِيهِ يَهْلَكُ الْخَوَاصُّ مِنْ الْخَلْقِ وَقَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْهُ الْعِبَادُ وَالزُّهَّادُ وَالْعُلَمَاءُ فَضْلًا عَنْ عَوَامِّ النَّاسِ وَكَيْفَ لَا تَعْظُمُ آفَتُهُ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» (وَضِدُّهُ) أَيْ الْكِبْرِ (الضِّعَةُ) بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهَا وَ (هِيَ) أَيْ الضِّعَةُ (الرُّكُونُ إلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ) رُؤْيَةِ نَفْسِهِ (دُونَ غَيْرِهِ) أَدْنَى مِنْهُ، الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى النَّفْسِ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ وَبَيْنَهُمَا مَرْتَبَةٌ وَهِيَ أَنْ لَا يَرَى نَفْسَهُ فَوْقَ أَحَدٍ وَلَا دُونَهُ بَلْ يَرَى الْمُسَاوَاةَ (وَهِيَ) أَيْ الضِّعَةُ (فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْمَخْلُوقِ) دُونَ الْخَالِقِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ وَعَجْزِهَا وَنُقْصَانِهَا. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ وَذَلَّ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ وَأَنْفَقَ مِنْ مَالٍ جَمَعَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ نَفْسَهُ وَطَابَ كَسْبُهُ وَحَسُنَتْ سَرِيرَتُهُ وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ» الْحَدِيثَ. وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا تَوَاضَعَ الْعَبْدُ رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى» . (وَإِظْهَارُ الْكِبْرِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَكَبُّرٌ قِيلَ الْكِبْرُ إنْ فِي الظَّاهِرِ فَيُسَمَّى تَكَبُّرًا وَإِنْ فِي الْبَاطِنِ فَيُسَمَّى كِبْرًا وَهُوَ أَصْلُ التَّكَبُّرِ (مَوْجُودًا) بِأَنْ وُجِدَ فِي قَلْبِهِ عِنْدَ الْإِظْهَارِ يَعْنِي يُوجَدُ فِي الْقَلْبِ فَيُظْهِرُهُ مِنْهُ (أَوْ مَعْدُومًا) بِأَنْ لَا يُوجَدَ فِي النَّفْسِ وَلَكِنَّهُ أَظْهَرَهُ مِنْهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْكِبْرُ (حَقًّا) كَالتَّكَبُّرِ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (أَوْ بَاطِلًا) بِأَنْ يَكُونَ بِخِلَافِهِ سَوَاءٌ كَانَ (بِقَوْلٍ) وَلَوْ إشَارَةً أَوْ دَلَالَةً (أَوْ فِعْلٍ) كَأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْغَيْرِ فِي الْمَشْيِ وَالْمَجْلِسِ (تَكَبَّرَ) تَفَعَّلَ وَمَعْنَاهُ تَكَلَّفَ الْكِبْرَ، وَفِي اللَّهِ تَعَالَى الِاتِّصَافُ بِهِ مِنْ الْأَزَلِ فَيُوجَدُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ (وَالِاسْتِكْبَارُ يَخْتَصُّ بِالْبَاطِلِ) وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ وَكَذَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِكْبَارِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، وَأَمَّا بَيْنَ التَّكَبُّرِ وَالِاسْتِكْبَارِ فَمُطْلَقٌ، كَذَا قِيلَ (فَلِذَا) لِاخْتِصَاصِهِ بِالْبَاطِلِ (لَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِخِلَافِ التَّكَبُّرِ)

كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ ذَاتِهِ الْمُتَكَبِّرُ فَإِنَّ الْمُتَكَبِّرَ مَنْ يَرَى الْكُلَّ حَقِيرًا بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَاتِهِ وَلَا يَرَى الْكِبْرِيَاءَ إلَّا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ صَادِقَةً كَمَا فِي اللَّهِ كَانَ حَقًّا وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَاذِبَةً فَبَاطِلًا فَهُوَ الْمَذْمُومُ (وَالتَّكَبُّرُ حَرَامٌ) عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ عَظِيمُ الْآفَاتِ وَمَنْبَعُ أَكْثَرِ الْبَلِيَّاتِ وَمُوجِبُ سُرْعَةِ عُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِقُّ إلَّا لَهُ تَعَالَى فَإِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَوْلَى اشْتَدَّ غَضَبُ الْمَوْلَى (إلَّا عَلَى الْمُتَكَبِّرِ) مِنْ النَّاسِ فَالتَّوَاضُعُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ لَيْسَ بِجَائِزٍ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ: عَنْ الْغَيْرِ إذَا أَغْضَبَك أَحَدٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلَا تَبْتَدِئْهُ بِالصُّلْحِ؛ لِأَنَّك تُذِلُّ نَفْسَك فِي غَيْرِ مَحَلٍّ وَتُكْبِرُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الْإِفْرَاطُ فِي التَّوَاضُعِ يُورِثُ الْمَذَلَّةَ، وَالْإِفْرَاطُ فِي الْمُؤَانَسَةِ يُورِثُ الْمَهَانَةَ وَإِذَا اُتُّفِقَ أَنْ يُقَامَ الْعَبْدُ فِي مَوْطِنٍ فَالْأَوْلَى فِيهِ ظُهُورُ عِزَّةِ الْإِيمَانِ وَجَبَرُوتِهِ وَعَظَمَتِهِ لِعِزِّ الْمُؤْمِنِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنْ يَظْهَرَ فِي الْمُؤْمِنِ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْجَبَرُوتِ مَا يُنَاقِضُ الْخُضُوعَ وَالذِّلَّةَ فَالْأَوْلَى إظْهَارُ مَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْمَوْطِنُ فَهَذَا مِنْ بَابِ إظْهَارِ عِزَّةِ الْإِيمَانِ بِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِ (فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِيهِ أَنَّهُ صَدَقَةٌ) عَلَى مَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ: التَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَوَاضَعْت لَهُ تَمَادَى فِي ضَلَالِهِ وَإِذَا تَكَبَّرْت عَلَيْهِ تَنَبَّهَ. وَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ تَكَبَّرْ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ التَّجَبُّرُ عَلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ مَنْ تَوَاضَعَ لِمَنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ وَقِيلَ قَدْ يَكُونُ التَّكَبُّرُ لِتَنْبِيهِ الْمُتَكَبِّرِ لَا لِرِفْعَةِ النَّفْسِ فَيَكُونُ مَحْمُودًا كَالتَّكَبُّرِ عَلَى الْجُهَلَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: التَّكَبُّرُ عَلَى مَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْك بِمَالِهِ تَوَاضُعٌ (وَ) إلَّا (عِنْدَ الْقِتَالِ) مَعَ الْكُفَّارِ لِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَإِيقَاعًا لِلْخَوْفِ وَالرُّعْبِ وَالْمَهَابَةِ عَلَيْهِمْ (وَ) إلَّا (عِنْدَ الصَّدَقَةِ) إظْهَارُ الْعَدَمِ قَدْرَ مَا بَذَلَهُ لِأَخِيهِ وَإِبْرَازًا لِلسُّرُورِ وَالْكَرَمِ وَالسَّخَاءِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَبَشَاشَتِهِ وَانْبِسَاطِهِ مَعَ الْفُقَرَاءِ لِيَتَوَجَّهُوا إلَيْهِ لَدَى الِاحْتِيَاجِ فَلَا يُنَافِي مَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَظَّمَ عَلَى مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَيَرْفُقُ وَيَتَحَاشَى عَمَّا يُوهِمُ الْأَذَى لَهُ (دَ) أَبُو دَاوُد (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ» بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَمِنْهُ الْمُخْتَالُ لِلْمُتَكَبِّرِ «الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ» تَكَبُّرُهُ «نَفْسَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ» مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ «وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ» فَثَبَتَ جَوَازُ التَّكَبُّرِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ فَإِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ الْفَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ قُلْنَا لِلْحَدِيثِ ابْتِدَاءٌ وَتَتِمَّةٌ كَمَا رُوِيَ عَنْ الْمُخَرِّجِينَ إذْ هُوَ «إنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ وَأَمَّا الَّتِي يَبْغُضُهَا اللَّهُ تَعَالَى فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ الرِّيبَةِ، وَإِنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى» وَتَتِمَّتُهُ «وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ تَعَالَى فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ» فَالْمُصَنِّفُ قَصَرَ الْحَدِيثَ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الِاقْتِصَارِ فِي الْحَدِيثِ مُخْتَلِفٌ، فَالْمُصَنِّفُ اخْتَارَ جَانِبَ الْجَوَازِ وَلَعَلَّ الْعَزِيمَةَ هُوَ الْإِتْمَامُ سِيَّمَا مِنْ أَوَّلِهِ خُصُوصًا عِنْدَ ظُهُورِ الِارْتِبَاطِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَلَفْظِ الْفَاءِ ثُمَّ لَمَّا تُوُهِّمَ مِنْ ظَاهِرِ الِاخْتِيَالِ عِنْدَ الصَّدَقَةِ جَوَازُ تَكَبُّرِ الْغَنِيِّ الْمُتَصَدِّقِ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنٌّ وَأَذًى وَاسْتِكْثَارٌ مَمْنُوعٌ بِالنَّصِّ وَقَدْ قَالُوا النَّدْبُ لِلْمُتَصَدِّقِ الْإِجْلَالُ وَالتَّوْقِيرُ لِلْفَقِيرِ حَيْثُ صَارَ سَبَبًا لِكَوْنِ الْمَالِ الْمُسْتَعَارِ الْمُجَازَى مِلْكًا حَقِيقِيًّا لَهُ وَمُدَارًا عَلَى كَوْنِهِ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ وَعَلَى كَوْنِ مَالِهِ مَأْمُونًا مِنْ الضَّيَاعِ وَالتَّلَفِ حَيْثُ كَأَنَّهُ وَضَعَهُ فِي خِزَانَةِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ وَكَذَا دَفَعَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالِاخْتِيَالِ عِنْدَ الصَّدَقَةِ إظْهَارُ الْغِنَى) عَنْ الْمَالِ الْمُعْطَى (وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى الْمَالِ) الَّذِي أَعْطَاهُ كَأَنَّهُ فِي نَظَرِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُ الْفَقِيرُ الِامْتِنَانَ وَالْأَذَى (وَاسْتِصْغَارُهُ)

الكبر جائز في أربعة مواضع

أَيْ الْمَالِ الَّذِي أَعْطَاهُ (وَاسْتِقْلَالُهُ) عَدُّهُ قَلِيلًا حَقِيرًا تَعْظِيمًا لِلْفَقِيرِ (لِيَقْصِدَهُ الْفَقِيرُ) يَمِيلُ إلَيْهِ وَيُرِيدُهُ (بِنَشَاطٍ وَأَمْنٍ مِنْ الْمَنِّ وَالْأَذَى) وَيَكُونُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلِلْغَيْرِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ الْمُرَادُ إظْهَارُ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ الْغُنَّ بِأَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ كَالْمُسْتَغْنِي عَنْهَا غَيْرَ سَائِلٍ وَلَا مُلِحٍّ وَلَا مُذِلٍّ نَفْسَهُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ إظْهَارُ مَنْ يُرِيدُ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ الِاسْتِغْنَاءَ تَعَفُّفًا عَنْ أَخْذِهَا وَالْجَهْدَ عَلَى الْكَفَافِ مِنْ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ فَكَأَنَّهُ لَا يَرْتَكِنُ عَلَى أَخْذِ غُسَالَةِ مَالِ الْغَيْرِ كَالْهَاشِمِيِّ حَرُمَ لِجَلَالَتِهِمْ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ إكْثَارُ الصَّدَقَةِ [الْكِبْرِ جَائِزٌ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ] (وَإِلَّا) عَطْفٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ السَّابِقِ (التَّكَبُّرُ بِالْمُرَاءَاةِ) بِسَبَبِ الرِّيَاءِ (بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا) وَأَمْتِعَتِهَا (بِدُونِ الْكِبْرِ) بِأَنْ يُظْهِرَ الرَّجُلُ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا كِبْرًا مِنْ غَيْرِ مَيْلِ نَفْسٍ إلَى الْعُلُوِّ عَلَى الْغَيْرِ (فَإِنَّهُ) أَيْ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْكِبْرِ (لَيْسَ بِحَرَامٍ وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا) مَكْرُوهًا مِنْ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فَإِنَّهَا مَمْدُوحَةٌ (وَقَدْ مَرَّ) فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ (وَسَيَجِيءُ) تَفْصِيلُهُ (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) . قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي وَالْحَاصِلُ إظْهَارُ الْكِبْرِ بِدُونِهِ فِي الْقَلْبِ جَائِزٌ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ التَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ وَالتَّكَبُّرُ عِنْدَ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ لِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَالتَّكَبُّرُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ لِأَجْلِ قَصْدِ الْفُقَرَاءِ بِنَشَاطٍ وَالتَّكَبُّرُ بِالْمُرَاءَاةِ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا وَهَذَا مَذْمُومٌ وَمَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فَإِنَّهَا مَمْدُوحَةٌ انْتَهَى لَا يَخْفَى عَدَمُ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ جَائِزٌ وَبَيْنَ وَهَذَا مَذْمُومٌ وَمَكْرُوهٌ، فَالْأَوْلَى لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فِي أَرْبَعَةٍ نَعَمْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ يُقَالُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (وَإِظْهَارُ الضِّعَةِ) أَيْ التَّوَاضُعِ (بِمَا دُون مَرْتَبَتِهِ) الَّتِي اسْتَحَقَّ لَهَا شَرْعًا وَعُرْفًا بِأَنْ يُظْهِرَ ذُلَّ نَفْسِهِ عَنْ مَقَامٍ تَقْتَضِيهِ رُتْبَتُهُ (قَلِيلًا تَوَاضُعٌ مَحْمُودٌ) لِعَدَمِ الْإِفْرَاطِ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ السَّمَّاكِ لِهَارُونَ الرَّشِيدِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ تَوَاضُعَك فِي شَرَفِك أَشْرَفُ لَك مِنْ شَرَفِك وَإِنْ امْرَأً آتَاهُ اللَّهُ جَمَالًا فِي خِلْقَتِهِ وَتَوَاضُعًا فِي حَسَبِهِ وَبَسْطًا فِي ذَاتِ يَدِهِ وَعَفَّ فِي جَمَالِهِ وَوَاسَى فِي مَالِهِ وَتَوَاضَعَ فِي حَسَبِهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ خَوَاصِّ اللَّهِ، كَذَا فِي الْإِحْيَاءِ (وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَتَمَلُّقٌ) أَيْ إظْهَارُ زِيَادَةِ تَوَدُّدٍ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي لِيَتَوَصَّلَ بِهِ لِمُرَادٍ مَا، كَمَا قِيلَ (مَذْمُومٌ) لِأَنَّ فِيهِ إذْلَالَ النَّفْسِ وَإِهَانَتَهَا بِلَا فَائِدَةٍ (إلَّا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ) فَإِنَّهُ مَمْدُوحٌ لِأُسْتَاذِهِ وَشَيْخِهِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّف أَنَّ مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَكَانَ طَلَبُهُ عَلَى الْخُلُوصِ وَلِرِضَاهُ تَعَالَى. لِمَا خَرَّجَ (عَدِيٌّ) ابْنُ عَدِيٍّ (عَنْ مُعَاذٍ) بْنِ جَبَلٍ (وَأَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) الْبَاهِلِيِّ (مَرْفُوعًا) مَا أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا. فَالْمُتَّصِلُ قَدْ يَكُونُ مَرْفُوعًا وَغَيْرَ مَرْفُوعٍ، وَالْمَرْفُوعُ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا وَغَيْرَ مُتَّصِلٍ وَالْمُسْنَدُ مُتَّصِلٌ مَرْفُوعٌ «لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ التَّمَلُّقُ» أَيْ الزِّيَادَةُ فِي التَّرَدُّدِ وَالتَّضَرُّعِ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي لِيُسْتَخْرَجَ مِنْ الْإِنْسَانِ مُرَادُهُ، وَزِيدَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى رِوَايَةِ مُعَاذٍ عَنْ الْبَيْهَقِيّ «وَلَا الْحَسَدُ» «إلَّا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ» فَإِنَّ الْمُتَعَلِّمَ يَنْبَغِي لَهُ التَّمَلُّقُ لِمُعَلِّمِهِ وَإِظْهَارُ الشَّرَفِ بِخِدْمَتِهِ وَأَنْ يُلْقِيَ إلَيْهِ زِمَامَ أَمْرِهِ وَيَذْعَنَ لِنُصْحِهِ إذْعَانَ الْمَرِيضِ الْجَاهِلِ لِلطَّبِيبِ الْمُشْفِقِ الْحَاذِقِ، صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جِنَازَةٍ فَقُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَتُهُ لِيَرْكَبَ فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ زَيْدٌ خَلِّ عَنْهُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَهُ وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ الْحَلَبِيُّ التَّمَلُّقُ لِغَيْرِ الْمُعَلِّمِ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الذِّلَّةِ وَالضِّعَةِ وَمِمَّا يُزْرِي بِفَاعِلِهِ وَيَدُلُّ عَلَى سَقَاطَتِهِ وَقِلَّةِ مِقْدَارِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُهِينَ نَفْسَهُ كَمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُهِينَهُ، ثُمَّ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ: طَعْنًا عَلَى مُصَنِّفِهِ هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ وَحَكَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِوَضْعِهِ فَاضْمَحَلَّ مَا قِيلَ هُنَا وَلِلْحَدِيثِ إسْنَادَانِ وَرِجَالُهُمَا ثِقَاتٌ فَاحْتِجَاجُ الْمُصَنِّفِ عَلَى طَرِيقِ الْوَضْعِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَصْلًا وَعَلَى طَرِيقِ الضَّعْفِ أَيْضًا لَيْسَ بِتَامٍّ إلَّا أَنْ يُقَالَ الضَّعْفُ وَالْوَضْعُ عَلَى طَرِيقِ مُعَاذٍ كَمَا نَبَّهَ آنِفًا فَيَجُوزُ صِحَّتُهُ عَلَى

التذلل الثالث عشر من آفات القلب

طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ فَتَأَمَّلْ. (وَفِي) كِتَابِ (تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ التَّمَلُّقُ مَذْمُومٌ) فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ (إلَّا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ) لِقُوَّةِ شَرَفِ الْعِلْمِ (فَإِنَّهُ يَنْبَغِي) لِطَالِبِ الْعِلْمِ (أَنْ يَتَمَلَّقَ لِأُسْتَاذِهِ) الَّذِي يَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَكَذَا لِشَيْخِهِ الَّذِي يُرْشِدُهُ وَيُرَبِّيهِ بِالدَّلَالَةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ إنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَاهُمَا ... لَا يَنْصَحَانِ إذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا أَكْرِمْ طَبِيبَك إنْ أَرَدْت تَدَاوِيَا ... وَكَذَا الْمُعَلِّمُ إنْ أَرَدْت تَعَلُّمَا (وَشُرَكَائِهِ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُمْ) وَهُمْ حِينَئِذٍ فِي مَعْنَى الْأُسْتَاذِ (انْتَهَى) فَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ الِاسْتِفَادَةَ عَلَى الْأُسْتَاذِ بَلْ قَدْ يَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ وَلَا يَتَكَبَّرُ بَلْ قَدْ تَكُونُ الِاسْتِفَادَةُ مِنْ الشُّرَكَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا مِنْ الْأُسْتَاذِ؛ إذْ قَدْ يَدِقُّ تَقْرِيرُ الْأُسْتَاذِ وَيَصْعُبُ فَهْمُهُ لِبَعْضِ التَّلَامِذَةِ لِكَوْنِهِ مُبْتَدِئًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَوَاقِي أَوْ لِبَلَادَتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَكَبَّرَ وَلَا يَخَافُ مِنْ تَعْيِيرِ الْغَيْرِ وَمَذَمَّتِهِ بَلْ يَقْصُرُ النَّظَرَ عَلَى انْتِفَاعِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْ اسْتِشْكَالِهِمْ عَلَى الْأُسْتَاذِ وَمُبَاحَثَتِهِمْ مَعَهُ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ لَا يَتَمَلَّقُ إلَى الْعُلَمَاءِ غَيْرُ تِلْمِيذِهِمْ حِينَ الطَّلَبِ فَغَيْرُ التِّلْمِيذِ مُطْلَقًا وَالتِّلْمِيذُ غَيْرُ زَمَانِ الطَّلَبِ لَا يَتَمَلَّقُ لَكِنْ السَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّ قُوَّةَ شَرَفِ الْعِلْمِ تَقْتَضِي جَوَازَ تَمَلُّقِ الْكُلِّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَعْلَ الْعِلَّةِ الِاسْتِشْفَاقَ وَالِاسْتِعَانَةَ عَلَى الطَّلَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ فَلَا يَعُمُّ وَأَنَّ مُطْلَقَ شَرَفِ الْعِلْمِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَعُمَّ نَعَمْ يُمْكِنُ الْمُقَايَسَةُ بِأَنَّ احْتِيَاجَ الْغَيْرِ إلَى الْعُلَمَاءِ وَلَوْ فِي الْمَسَائِلِ وَالْفَتَاوَى وَالْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ ضَرُورِيٌّ فَكَمَا يَجُوزُ تَمَلُّقُ التِّلْمِيذِ لِلِانْتِفَاعِ بِالِاسْتِفَادَةِ فَلْيَجُزْ تَمَلُّقُ الْغَيْرِ لِلِانْتِفَاعِ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَبِمَا ذُكِرَ أَمْكَنَ أَنْ يَنْدَفِعَ تَوَهُّمُ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْحَصْرِ فِي الدَّعْوَى وَالْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا وَسِعَ فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ وَجُمِعَ الشَّرِيكُ مَعَ الْأُسْتَاذِ (وَإِنْ) كَانَ إظْهَارُ التَّوَاضُعِ (أَكْثَرَ فَتَذَلُّلٌ حَرَامٌ) كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» وَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَّا لِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، وَالِافْتِقَارُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ مِنْ عَدَمِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَمِنْ قِلَّةِ الِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ، وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ وَالْمَنْعُ وَالْعَطَاءُ مَقْصُورٌ عَلَى اللَّهِ (إلَّا لِضَرُورَةٍ) كَصِيَانَةِ دِينٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عَرْضٍ عَنْ تَلَفٍ أَوْ تَأَلُّمٍ مِنْ ظَالِمٍ مُتَكَبِّرٍ وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]- وَجَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. ثُمَّ يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ إنْ كَانَ قَوْلُهُ إنَّ أَكْثَرَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ أَظْهَرَ كَثِيرًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ لَفْظًا فَلَا تَقَابُلَ وَلَا تَغَايُرَ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ حَقِيقَةً وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْأَكْثَرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَثِيرَ مَذْمُومٌ فِي غَيْرِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْأَكْثَرَ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا فَيَلْزَمُ مَذْمُومِيَّةُ الْأَكْثَرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَالْمَنْقُولِ هُوَ الْمُطْلَقُ فَيَلْزَمُ التَّقْيِيدُ بِالرَّأْيِ، وَالرَّأْيُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْ التَّحَكُّمِ وَإِنْ عَطَفَ عَلَى مَضْمُونِ الْمُسْتَثْنَى أَيْ قَوْلَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَمَا تُوُهِّمَ فَمَعَ مَا ذُكِرَ لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ إذْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ لَا تَتَأَتَّى مِنْ الْأَسَاتِذَةِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَتَّخِذَ مِثْلَهُ أُسْتَاذًا، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ التَّوَاضُعُ كَثِيرًا فِي غَيْرِ الْمُسْتَثْنَى مَذْمُومٌ وَالْأَكْثَرُ حَرَامٌ مُطْلَقًا إلَّا فِي مُسْتَثْنَاهُ أَيْضًا لَعَلَّهُ اطَّلَعَ عَلَى دَلِيلِ الْحُكْمِ عَلَى نَحْوِهِ فَافْهَمْ. [التَّذَلُّلُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ] (وَهُوَ) أَيْ التَّذَلُّلُ (الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) وَمِثَالُ التَّذَلُّلِ (كَالْعَالِمِ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ إسْكَافٌ) خَصَّافٌ أَيْ صَنْعَتُهُ عَمَلُ النِّعَالِ (فَتَنَحَّى لَهُ) تَحَوَّلَ يَعْنِي قَامَ (عَنْ مَجْلِسِهِ وَأَجْلَسَهُ فِيهِ) تَعْظِيمًا لَهُ (ثُمَّ تَقَدَّمَ وَسَوَّى لَهُ نَعْلَهُ) عِنْدَ الْخُرُوجِ (وَعَدَا) أَيْ تَجَاوَزَ وَمَشَى (إلَى بَابِ الدَّارِ) مَثَلًا تَشْيِيعًا لَهُ (خَلْفَهُ فَقَدْ تَخَاسَسَ) صَارَ خَسِيسًا (وَتَذَلَّلَ) صَارَ ذَلِيلًا أَوْ أَظْهَرَ الذِّلَّةَ (وَإِنَّمَا تَوَاضُعُهُ لَهُ) لِلْإِسْكَافِ (بِالْقِيَامِ) الظَّاهِرِ أَيْ بِحَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ (وَالْبِشْرِ) أَيْ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ لَهُ (وَالرِّفْقِ فِي السُّؤَالِ) عَنْ مَصْلَحَتِهِ وَسَبَبِ مَجِيئِهِ أَوْ عَنْ جَوَابِ سُؤَالِهِ وَبِالْجُمْلَةِ الرِّفْقُ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُكَالَمَةِ

مَعَهُ فَالْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ عَلَى مَخْرَجِ الْعَادَةِ لَا التَّخْصِيصِ بِمَا ذُكِرَ (وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ) إلَى نَحْوِ ضِيَافَتِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ تَكَبُّرًا (وَالسَّعْيِ فِي حَاجَتِهِ) الَّتِي جَاءَ لِأَجْلِهَا إنْ كَانَ فِي وُسْعِهِ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «مَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَاجَةً كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَمَنْ حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ» ، وَفِيهِ أَيْضًا عَلَى رِوَايَةٍ أُخْرَى «كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَمَنْ خَدَمَ اللَّهَ عُمْرَهُ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَقَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ لَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَالْعَبْدُ فِي حُقُوقِ الْخَلْقِ لَهُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ الْأُولَى أَنْ يُنَزَّلَ فِي حَقِّهِمْ مَنْزِلَةَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَهُوَ أَنْ يَسْعَى فِي أَغْرَاضِهِمْ رِفْقًا بِهِمْ وَإِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى قُلُوبِهِمْ الثَّانِيَةُ أَنْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يُنِيلُهُمْ خَيْرَهُ وَلَكِنْ يَكُفُّ عَنْهُمْ شَرَّهُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُتَّقَى شَرُّهُ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَلْحَقَ بِأُفُقِ الْمَلَائِكَةِ فَاحْذَرْ أَنْ تَنْزِلَ عَنْ دَرَجَةِ الْجَمَادَاتِ إلَى دَرَجَةِ الْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ فَإِنْ رَضِيت النُّزُولَ مِنْ أَعْلَى عِلِّيِّينَ فَلَا تَرْضَ بِالرِّضَا فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ فَلَعَلَّك تَنْجُو كِفَافًا لَا لَك وَلَا عَلَيْك. وَفِيهِ أَيْضًا أَمْرُ الْحَسَنِ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ بِالْمَشْيِ فِي حَاجَةٍ، فَقَالَ أَنَا مُعْتَكِفٌ فَقَالَ يَا أَعْمَشُ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ مَشْيَك فِي حَاجَةِ أَخِيك خَيْرٌ لَك مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنْ يَتَأَكَّدَ لِلشَّيْخِ السَّعْيُ فِي مَصَالِحِ طَلَبَتِهِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِجَاهِهِ وَمَالِهِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَسَلَامَةِ دِينِهِ وَعِرْضِهِ انْتَهَى. (وَأَنْ لَا يَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُ) إذْ اللَّائِقُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ النَّاسِ أَوْلَى مِنْ نَفْسِهِ وَلَوْ كَافِرًا كَمَا سَيُصَرِّحُ الْمُصَنِّفُ وَوَقَعَ فِي دِيبَاجَةِ الشَّاطِبِيَّةِ وَفَصْلِ الْجَعْبَرِيِّ وَعَلِيٍّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِهِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ بِخَوَاتِمِهَا وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ بِمَاذَا يَخْتِمُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَرُبَّ عَالِمٍ يُخْتَمُ لَهُ بِسُوءٍ كَمَا سَمِعْت مِنْ قِصَّةِ بَلْعَامٍ وَرُبَّ جَاهِلٍ يُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرٍ كَسَحَرَةِ فِرْعَوْنَ - {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]- (وَلَا يُحَقِّرَهُ) لِكَوْنِهِ مِنْ الْإِسْكَافِ (وَلَا يَسْتَصْغِرَهُ) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَسْبُ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ التَّذَلُّلِ الْحَرَامِ (السُّؤَالُ لِمَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ) وَإِنْ سَأَلَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَوْ الْمَدْيُونِ لَا يَضُرُّ وَلَا يَكُونُ سَائِلًا بَلْ هُوَ إعَانَةٌ لِذَلِكَ الْمُحْتَاجِ. وَفِي الصُّرَّةِ عَنْ كَرَاهِيَةِ جَامِعِ الْفَتَاوَى وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ السُّؤَالُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا يَسْأَلُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُدُوشٌ أَوْ خُمُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ» ؛ وَلِأَنَّهُ إذْلَالُ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» . (وَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آفَاتِ اللِّسَانِ وَمِنْ السُّؤَالِ إهْدَاءُ قَلِيلٍ لِأَخْذِ كَثِيرٍ كَمَا يُفْعَلُ فِي دَعْوَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ) كَمَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي زَمَانِنَا جَرَتْ بِإِعْطَاءِ شَيْءٍ قَلِيلٍ عَلَى قَصْدِ دَفْعِ عِوَضٍ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ تَذَلُّلٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ لَازِمٌ لَهُ وَإِنْ تُعُورِفَ ذَلِكَ (وَكَمَنْ يُرِيدُ اتِّخَاذَ غَنَمٍ أَوْ نَحْلٍ) فَيُهْدِي إلَى جَمَاعَةٍ أَوْ أَهَالِي قَرْيَةٍ قَلِيلًا فَيُعْطُونَ لَهُ أَغْنَامًا (قِيلَ فِيهِ) أَيْ: فِي إهْدَاءِ الْقَلِيلِ لِأَخْذِ الْكَثِيرِ (نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أَيْ لَا تُعْطِ قَلِيلًا طَالِبًا لِلْكَثِيرِ وَإِنَّمَا صَدَّرَ بِلَفْظِ قِيلَ؛ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِغْزَارِ وَهُوَ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يُعَوَّضَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ بَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُكَافِئَ الْهَدِيَّةَ بِأَفْضَلَ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمُكَافَأَةِ بِالْمَالِ فَبِالدُّعَاءِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ كَذَا فِي الصُّرَّةِ عَنْ جَوَاهِرِ الْفِقْهِ. (وَمِنْهُ الذَّهَابُ إلَى الضِّيَافَةِ وَوَصِيَّةُ الْمَيِّتِ) أَيْ إلَى مَا أَوْصَى بِهِ (بِلَا دَعْوَةٍ د) أَبُو دَاوُد (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ دُعِيَ» مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَسَائِرِ الضِّيَافَةِ «فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ»

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: الْإِجَابَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْوَلِيمَةِ عِنْدَ وُجُودِ الشُّرُوطِ وَنُدِبَ فِي غَيْرِهَا وَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مُطْلَقًا بِشَرْطٍ وَجَزَمَ بِاخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِوَلِيمَةِ النِّكَاحِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَالَغَ السَّرَخْسِيُّ مِنْهُمْ فَنَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، أَقُولُ الظَّاهِرُ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبُ الْإِجَابَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضٍ وَإِنْ وَلِيمَةً عِنْدَ آخَرَ فَسُنَّةٌ فِي غَيْرِهَا بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُنْكَرِ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ فِيمَا يُرَى أَوْ يُسْمَعُ أَوْ يُعْلَمُ وَبِشَرْطِ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِعَدَمِ قَصْدِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَالتَّبَاهِيَ وَالتَّفَاخُرَ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ بَلْ لَا يَجُوزُ كَمَا قِيلَ. وَفِي الدُّرَرِ فَإِنْ عَلِمَ الْمُنْكَرَ ابْتِدَاءً لَا يَحْضُرُ وَإِنْ بَعْدَ الْحُضُورِ فَإِنْ مُقْتَدًى بِهِ فَيَمْتَنِعُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَيَخْرُجُ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ غَيْرَ مُقْتَدًى بِهِ جَازَ أَكْلُهُ فَإِنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ فَلَا تُتْرَكُ لِاقْتِرَانِ الْبِدْعَةِ مِنْ غَيْرِهِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا تُتْرَكُ لِنَائِحَةٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا لَكِنْ الْمَفْهُومُ مِنْ قَاعِدَةِ الْأُصُولِ تَرْجِيحُ الْبِدْعَةِ عَلَى السُّنَّةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ بَلْ مُحَرَّمٌ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَنْ دَخَلَ) الضِّيَافَةَ (عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا) لِأَنَّهُ لِعَدَمِ الْإِذْنِ كَالدَّاخِلِ خُفْيَةً أَوْ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ بِلَا إذْنِ صَاحِبِهِ أَوْ فِي أَصْلِ الْحُرْمَةِ (وَخَرَجَ مُغِيرًا) مِنْ الْإِغَارَةِ وَهِيَ النَّهْبُ فَهَذَا الشَّخْصُ جَمَعَ بَيْنَ إثْمَيْ السَّارِقِ فِي الدُّخُولِ وَالْمُغِيرِ فِي الْخُرُوجِ قِيلَ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ إلَّا أَنَّ لِلْمَحَلِّ الْمُسْتَشْهَدِ شَاهِدًا مِنْ الْقُرْآنِ - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27]- الِاسْتِئْنَاسُ الِاسْتِئْذَانُ لَا يَخْفَى أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْآيَةِ مُطْلَقٌ أَوْ مُقَيَّدٌ بِالْبُيُوتِ. وَفِي الْمَطْلَبِ: الدُّخُولُ لِأَكْلِ الضِّيَافَةِ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسِ الْأَكْلِ فَلَا يَصْلُحُ شَاهِدًا وَأَنَا أَقُولُ لَوْ سَلِمَ الضَّعْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْيِيدًا لِلْقِيَاسِ إذْ مَالُ الْغَيْرِ حَرَامٌ مُطْلَقًا إلَّا بِالْإِذْنِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ كَالسَّارِقِ وَالْمُغِيرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَبَرَ الضَّعِيفَ يُؤْتَى لِأَجْلِ تَأْيِيدِ دَلِيلٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ. (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ التَّذَلُّلِ (الِاخْتِلَافُ) أَيْ التَّرَدُّدُ وَالِاخْتِلَاطُ (إلَى الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْعُمَّالِ) عَمَلَةِ السُّلْطَانِ (وَالْأَغْنِيَاءِ طَمَعًا لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ بِلَا ضَرُورَةٍ) فِي قَوْلِهِ طَمَعًا نَوْعُ غِنًى عَنْ قَوْلِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ إلَّا أَنْ لَا يَجْعَلَ طَمَعًا قَيْدًا لِلِاخْتِلَافِ كَمَا قِيلَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ ابْتِدَاءً وَجُعِلَ لِلْأَغْنِيَاءِ فَقَطْ وَحِينَئِذٍ أَيْضًا يَنْدَفِعُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ مَنْعُ الِاخْتِلَافِ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا الْقَيْدُ يُوجِبُ الْمَنْعَ بِشَرْطِ قَيْدِ ذَلِكَ الطَّمَعِ، ثُمَّ تِلْكَ الضَّرُورَةُ كَالشَّهَادَةِ سِيَّمَا عِنْدَ التَّعَيُّنِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ وَإِعَانَةِ الْمَظْلُومِ فَيَجُوزُ بَلْ قَدْ يَجِبُ (وَمِنْهُ السُّجُودُ وَالرُّكُوعُ) إنْ أَرَادَ التَّحِيَّةَ وَالتَّعْظِيمَ لَيْسَ بِكَافِرٍ عِنْدَ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَكَافِرٌ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ وَإِنْ أَرَادَ الْعِبَادَةَ يَكْفُرُ إجْمَاعًا. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَأَمَّا السَّجْدَةُ لِلْجَبَابِرَةِ فَكَبِيرَةٌ يَكْفُرُ فَاعِلُهَا قَالَ بَعْضُهُمْ يَكْفُرُ مُطْلَقًا وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ إنْ لِلْعِبَادَةِ يَكْفُرْ وَإِنْ لِلتَّحِيَّةِ لَا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي سِيَرِ الْأَصْلِ إذَا قِيلَ لِمُسْلِمٍ اُسْجُدْ لِلْمَلِكِ وَإِلَّا قَتَلْنَاك إنْ أَمَرَهُ لِلْعِبَادَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَسْجُدَ؛ لِأَنَّهُ كُفْرٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمَا هُوَ كُفْرٌ صُورَةً (وَالِانْحِنَاءُ لِلْكُبَرَاءِ عِنْدَ الْمُلَاقَاةِ وَ) عِنْدَ (السَّلَامِ وَرَدِّهِ) لِوُرُودِ النَّهْيِ الصَّرِيحِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ. وَفِيهِ أَيْضًا تَشْبِيهٌ بِالْيَهُودِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ وَنُقِلَ عَنْ الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ الِانْحِنَاءُ لِلسُّلْطَانِ وَلِغَيْرِهِ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْمَجُوسِ. (وَ) مِنْهُ (الْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيْ الظَّلَمَةِ وَتَقْبِيلُ أَيْدِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ) بِلَا ضَرُورَةٍ قَيَّدَ بِالظَّلَمَةِ فَإِنَّ تَقْبِيلَ

يَدِ الْعَالِمِ وَالسُّلْطَانِ الْعَادِلِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ فِيهِ وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَإِنْ لِتَعْظِيمِ إسْلَامِهِ فَلَا بَأْسَ أَيْضًا لَكِنْ الْأَوْلَى عَدَمُهُ وَتُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ كَمَا فِي قَاضِي خَانْ. وَعَنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُكْرَهُ تَقْبِيلُ فَمِ الرَّجُلِ أَوْ يَدِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ أَوْ تَعَانُقُهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ وَأَمَّا الْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِ الظَّلَمَةِ كَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَكَذَا تَقْبِيلُ ثِيَابِهِمْ فَلَعَلَّهُ بِدْعَةٌ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ. (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَيْ التَّذَلُّلِ (مُبَاشَرَةُ أَعْمَالِ الْبَيْتِ وَحَاجَاتِهِ كَكَنْسِ الْبَيْتِ) أَيْ إزَالَةِ قُمَامَةٍ (وَطَبْخِ الطَّعَامِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «كَأَنْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفَلِّيَ ثَوْبَهُ أَيْ يُخْلِيَ عَنْ ثَوْبِهِ الْمُؤْذِيَاتِ كَقَمْلٍ وَبُرْغُوثٍ وَيَحْلُبَ شَاتَهُ وَيَخْدُمَ نَفْسَهُ» ، فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَخْدُمُ نَفْسَهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا. قَالَ الْمِصْرِيُّ: مَحْمُولٌ عَلَى الْأَحْيَانِ فَتَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِغَيْرِهِ وَتَارَةً بِالْمُشَارَكَةِ، وَفِيهِ نَدْبُ خِدْمَةِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِمَنْصِبِهِ وَإِنْ جَلَّ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا «أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ وَيَرْفَعُ دَلْوَهُ وَيَعْلِفُ شَاتَهُ وَيَقُمُّ بَيْتَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ» (وَحَمْلِ الْمَتَاعِ مِنْ السُّوقِ إلَى الْبَيْتِ) «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَرَى سَرَاوِيلَ وَمَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَرَادَ حَمْلَهَا فَأَبَى. وَقَالَ صَاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا» الْحَدِيثَ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ: لِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى التَّوَاضُعِ وَأَنْفَى لِلْكِبْرِ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مَعَ أَنَّ فِي خِدْمَتِهِ غَايَةَ شَرَفٍ؛ لِأَنَّهُ مُشَرِّعٌ فَبَيَّنَ مَشْرُوعِيَّةَ الْحُكْمِ (وَلُبْسِ الْخَشِنِ وَالْخَلَقِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ (وَالْمُرَقَّعِ وَالْمَشْيِ حَافِيًا وَلَعْقِ الْأَصَابِعِ) بَعْدَ تَمَامِ الْأَكْلِ لَا فِي أَوْسَاطِهِ (وَ) لَعْقِ (الْقَصْعَةِ) بِاللِّسَانِ أَوْ الْأَصَابِعِ قِيلَ جَاءَ فِي الْخَبَرِ إنَّهَا تَسْتَغْفِرُ لِصَانِعِ ذَلِكَ بِهَا. وَفِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ رَجُلٌ قَالَ «كُلَّمَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ لَحِسَ أَصَابِعَهُ» فَقَالَ السَّامِعُ " أَيْنَ بِي ادب يست " يَكْفُرُ لِاسْتِخْفَافِ السُّنَّةِ (وَأَكْلُ مَا سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الطَّعَامِ) مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ وَفِي الْحَدِيثِ «أَكْلُ الْعَنَا وَتَرْكُ الزِّنَى مِنْ أَسْبَابِ الْغِنَى» . (وَالْتِقَاطِ) أَيْ أَخْذُ (دَقَائِقِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهَا مِنْ السُّفْرَةِ) مَا وُضِعَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ كَالْمَائِدَةِ (وَالْحَصِيرِ وَ) مِنْ (الْأَرْضِ وَمُجَالَسَةِ الْمَسَاكِينِ) أَيْ لِأَنَّهَا مِنْ خُلُقِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَمُخَالَطَتِهِمْ) كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» وَذَلِكَ مِنْ سِيَرِ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ وَفِيهَا رَغْمَ أَنْفِ الْمُتَكَبِّرِينَ. وَعَنْ تَخْرِيجِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى رِوَايَةِ «أَبِي ذَرٍّ وَصَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَأَنْ أَدْنُوَ مِنْهُمْ» . وَعَنْ تَخْرِيجِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى رِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا يَا عَائِشَةُ أَحَبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَرِّبُك يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ لِعَلِيٍّ الْقَارِي «اتَّخِذُوا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِيَ فَإِنَّ لَهُمْ دَوْلَةً، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا دَوْلَتُهُمْ؟ قَالَ يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ: قُومُوا فَلَا يَبْقَى فَقِيرٌ إلَّا قَامَ حَتَّى إذَا اجْتَمَعُوا قِيلَ اُدْخُلُوا إلَى صُفُوفِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ صَنَعَ مَعَكُمْ مَعْرُوفًا فَأَوْرِدُوهُ إلَى الْجَنَّةِ قَالَ فَجَعَلَ يَجْتَمِعُ عَلَى الرَّجُلِ كَذَا وَكَذَا مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ أَلَمْ أَكْسُك

فَيُصَدِّقُهُ وَيَقُولُ الْآخَرُ يَا فُلَانُ: أَلَمْ أُكَلِّمْ لَك فُلَانًا فَلَا يَزَالُونَ يُخْبِرُونَهُ بِمَا صَنَعُوا إلَيْهِ وَهُوَ يُصَدِّقُهُمْ حَتَّى يَذْهَبَ بِهِمْ جَمِيعًا حَتَّى يَدْخُلَ بِهِمْ الْجَنَّةَ، فَيَبْقَى قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا يَصْنَعُونَ الْمَعْرُوفَ فَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا كُنَّا نَصْنَعُ الْمَعْرُوفَ حَتَّى نَدْخُلَ الْجَنَّةَ» . (فَائِدَةٌ) : رُئِيَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ مَا أَحْسَنُ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ عَطْفُ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَأَحْسَنُ مِنْهُ تَيَّةُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ثِقَةً بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «اتَّخِذُوا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِيَ فَإِنَّ لَهُمْ دَوْلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ سِيرُوا إلَى الْفُقَرَاءِ فَيُعْتَذَرُ كَمَا يَعْتَذِرُ أَحَدُكُمْ إلَى أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا» . وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَقَدْ تَأَدَّبَ السَّلَفُ فِي هَذَا بِأَدَبِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى حُكِيَ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي مَجْلِسِهِ أُمَرَاءُ. وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: الْفَقْرُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ دَاعٍ إلَى الْإِنَابَةِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالطَّلَبِ مِنْهُ، وَهُوَ حِلْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرُتْبَةُ الْأَوْلِيَاءِ وَزِيُّ الصُّلَحَاءِ وَمِنْ ثَمَّةَ وَرَدَ خَبَرُ إذَا رَأَيْت الْفَقْرَ مُقْبِلًا فَقُلْ مَرْحَبًا بِشَعَائِرِ الصَّالِحِينَ فَهُوَ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ بَيْدَ أَنَّهُ مُؤْلِمٌ شَدِيدُ التَّحَمُّلِ. وَأَمَّا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْفَقْرِ وَكَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» فَعَنْ الْغَزَالِيِّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْفَقْرَ لَيْسَ خَيْرًا مَحْضًا وَلَا شَرًّا مَحْضًا كَالْمَالِ بَلْ سَبَبٌ لِلْأَمْرَيْنِ مَعًا يُمْدَحُ مَرَّةً وَيُذَمُّ أُخْرَى وَالْبَصِيرُ الْمُمَيِّزُ يُدْرِكُ أَنَّ الْمَحْمُودَ مِنْهُ غَيْرُ الْمَذْمُومِ كَتَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ عَلَيْك بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْأَلُ رَبَّهُ حُبَّ الْمَسَاكِينِ» وَمِنْ أَحَادِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَيْضًا فِي الصُّرَّةِ مِنْ بُرْهَانِ الصِّحَاحِ أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُزْهِدٌ أَيْ قَلِيلُ الْمَالِ، وَلِهَذَا فُضِّلَ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ عَلَى الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ كَمَا سَبَقَ عَنْ بَحْرِ الْكَلَامِ وَأَيْضًا فِي الصُّرَّةِ عَنْ جَوَاهِرِ الْفِقْهِ اتَّفَقَ الْمَشَايِخُ أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ. (وَ) مُعَاطَاةُ (أَنْوَاعِ الْكَسْبِ) بِنَفْسِهِ (مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَإِجَارَةِ نَفْسِهِ لِلْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ كَرَعْيِ الْغَنَمِ) قِيلَ فِيهِ إشْبَاعُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَرْحَمَةُ لَهُمْ (وَسَقْيِ الْبُسْتَانِ وَالْكَرَمِ وَعَمَلِ الطِّينِ وَالْبِنَاءِ وَحَمْلِ الْحَطَبِ) لِنَفْسِهِ أَوْ لِلنَّاسِ بِالْأَجْرِ أَوْ لِلضَّعِيفِ لِمُجَرَّدِ الْمَرْحَمَةِ (عَلَى ظَهْرِهِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَأَمْثَالَهُ تَوَاضُعٌ) مَحْمُودٌ وَلَيْسَ بِتَذَلُّلٍ مَذْمُومٍ وَقَدْ (فَعَلَهُ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -) الظَّاهِرُ مِنْ قَبِيلِ انْقِسَامِ الْآحَادِ إلَى الْآحَادِ وَلَوْ آحَادًا نَوْعِيَّةً (وَالْأَوْلِيَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى) الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ تَعَيُّنِ رُتْبَةِ الْفَرْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ لِمِقْدَارِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَرْضٌ وَمَا زَادَ فَمُبَاحٌ إنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْعُجْبَ وَالرِّيَاءَ ثُمَّ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ أَنْوَاعَ الْكَسْبِ فِي الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ وَاخْتُلِفَ هَلْ الْأَفْضَلُ الزِّرَاعَةُ أَوْ التِّجَارَةُ وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْأَوَّلِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ (وَأَكْثَرُهُ) الظَّاهِرُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْكَسْبِ (صَدَرَ عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ) وَلَوْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ (عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ وَصَحَابَتِهِ الْمُكْرَمِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) . وَفِي الشِّرْعَةِ كَسَبَ إدْرِيسَ خِيَاطَةُ الثِّيَابِ وَدَاوُد يَعْمَلُ الدُّرُوعَ مِنْ الْحَدِيدِ وَالْخَلِيلُ يَحْرُثُ وَيُحْرَثُ لَهُ وَيَتَّجِرُ فِي الْبَزِّ أَيْضًا وَأَوَّلُ مَنْ نَسَجَ الْأَثْوَابَ آدَم وَعِيسَى يَخْصِفُ النَّعْلَ وَيُرَقِّعُهُ وَنُوحٌ نَجَّارٌ وَصَالِحٌ يَنْسِجُ الْأَكْسِيَةَ بِيَدِهِ، وَرَعْيُ الْغَنَمِ مِنْ دَأْبِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَبِيُّنَا عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ ذُكِرَ مَعَ سَائِرِهِمْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَنْمَى التَّسْلِيمَاتِ رَعَى الْغَنَمَ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى قَرَارِيطَ قَبْلَ الْوَحْيِ. وَعَنْ عَارِيَّةَ الْمُحَاسِبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ بِالْأَرْضِ وَأَلْبَسُ الصُّوفَ وَأَعْتَقِلُ الْعَنْزَ وَأَلْعَقُ أَصَابِعِي وَأُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ مَنْ حَمَلَ لِأَهْلِهِ الْفَاكِهَةَ وَالشَّيْءَ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ» ، وَذَكَرَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ الْقَيِّمِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ وَاشْتَرَى وَشِرَاؤُهُ أَكْثَرُ وَآجَرَ وَاسْتَأْجَرَ وَإِيجَارُهُ أَكْثَرُ وَضَارَبَ وَشَارَكَ وَوَكَّلَ وَتَوَكَّلَ وَتَوْكِيلُهُ أَكْثَرُ وَأَهْدَى وَأُهْدِيَ لَهُ وَوَهَبَ وَاتَّهَبَ وَاسْتَدَانَ وَاسْتَعَارَ وَضَمِنَ عَامًّا وَخَاصًّا وَوَقَفَ وَشَفَعَ فَقَبِلَ تَارَةً وَرَدَّ أُخْرَى فَلَمْ يَغْضَبْ

المبحث الثاني من الخمسة للكبر

وَلَا عَتَبَ وَحَلَفَ وَاسْتَحْلَفَ وَمَضَى فِي يَمِينِهِ تَارَةً وَكَفَّرَ أُخْرَى وَمَازَحَ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا حَقًّا وَهُوَ الْقُدْوَةُ وَالْأُسْوَةُ» (وَالتَّجَنُّبُ) مِنْ الِاجْتِنَابِ (مِنْهُ) مِمَّا ذُكِرَ مِثْلُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُمْ (وَالتَّأَنُّفُ) أَيْ الْعَارُ (عَنْهُ كِبْرٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَبَّارِينَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِجَهْلِهِمْ) أَوْ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ عُلُومِهِمْ (يَعْكِسُونَ الْأَمْرَ) فَيُسَمُّونَ التَّوَاضُعَ ذُلًّا وَعَكْسَهُ تَوَاضُعًا، وَهَذَا لَيْسَ إلَّا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ أَنْ يَرْزُقَنَا مُتَابَعَةَ نَبِيِّنَا جِنَانًا وَأَرْكَانًا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ فِي الدِّينِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ. [الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْكِبْرِ] (الْمَبْحَثُ الثَّانِي) مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْكِبْرِ (فِي أَقْسَامِ الْكِبْرِ) صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ (وَالتَّكَبُّرِ) إظْهَارِ تِلْكَ الصِّفَةِ لِلْغَيْرِ وَقِيلَ التَّكَلُّفُ وَالتَّطَبُّعُ بِهِ (وَآفَاتِهِمَا فَمِنْهُ) أَيْ مِنْ هَذَا الْمَبْحَثِ لَكِنْ فِي التَّفْرِيعِ حِينَئِذٍ خَفَاءٌ وَأَمَّا الْإِرْجَاعُ إلَى الْآفَاتِ أَوْ الْأَقْسَامِ عَلَى تَسْلِيمِ صِحَّةِ التَّعْرِيفِ حِينَئِذٍ فَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الرَّاجِعِ وَالْمُرْجَعِ، وَالْأَوْجَهُ الْمَبْحَثُ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَقْسَامِ وَفِي ضِمْنِهَا الْأَحْكَامُ وَالْآفَاتُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْعِلَاجُ الْإِجْمَالِيُّ لَا التَّفْصِيلِيُّ فَالْمَحْذُورُ فِي التَّفْصِيلِيِّ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ مُصَرَّحٍ، وَالْمُصَرَّحُ الْإِجْمَالِيُّ وَلَيْسَ بِمَحْذُورٍ (يُعْرَفُ الْعِلَاجُ) لِلْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ (الْجُمَلِيُّ) الْإِجْمَالِيُّ (قَدْ عَرَفْت) مِنْ تَعْرِيفِ التَّكَبُّرِ فِي الْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ (أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ مِنْ مُتَكَبَّرٍ عَلَيْهِ وَهُوَ) أَيْ الْمُتَكَبَّرُ عَلَيْهِ (إمَّا اللَّهُ تَعَالَى) وَإِمَّا رَسُولُ اللَّهِ وَإِمَّا سَائِرُ الْخَلْقِ (وَهُوَ) أَيْ مَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ) أَشَدُّهَا فُحْشًا؛ لِأَنَّهُ تَكَبُّرُ الْمَمْلُوكِ الْحَقِيقِيِّ الْعَاجِزِ عَلَى السَّيِّدِ الْحَقِيقِيِّ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَوْ لِكَوْنِ فَضَاحَتِهِ وَمَلَامَتِهِ وَاضِحَةً أَوْ لِكَوْنِ جَزَائِهِ وَعُقُوبَتِهِ أَعْظَمَ (مِثْلُ نُمْرُودَ) مُدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ فَأُرْسِلَ إلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ وَهَمَّ بِإِحْرَاقِهِ (حَيْثُ حَدَّثَ نَفْسَهُ) عَزَمَ وَهَمَّ فِي قَلْبِهِ (أَنْ يُقَاتِلَ رَبَّ السَّمَاءِ عَزَّ وَجَلَّ) فَاتَّخَذَ النُّسُورَ وَطَارَ بِهَا فِي جَوِّ السَّمَاءِ فَرَمَى السِّهَامَ نَحْوَ السَّمَاءِ فَعَادَتْ إلَيْهِ بِالدَّمِ فَظَنَّ أَنَّهُ قَتَلَ رَبَّ السَّمَاءِ ثُمَّ رَكِبَ بِسَبْعِمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، فَقَالَ يَا إبْرَاهِيمُ إنْ كَانَ لِرَبِّك مُلْكٌ فَلْيُرْسِلْ عَسْكَرًا وَلْيُحَارِبْ مَعِي فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى جُنْدَ الْبَعُوضَةِ فَأَهْلَكَتْهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ التَّفَاسِيرِ (وَمِثْلُ فِرْعَوْنَ) مُدَّعِي الْأُلُوهِيَّةِ (حَيْثُ قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى) عَلَى كُلِّ مَنْ يَلِي أَمْرَكُمْ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ مُوسَى فَكَذَّبَهُ فَأَغْرَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَحْرِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَدَّعِي ذَلِكَ وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَالِقٍ لِلْعَالَمِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَفَضَاحَةُ مُدَّعِيهِ ظَاهِرَةٌ لِوُضُوحِ كَذِبِهِ قُلْنَا أُجِيبُ أَنَّهُ دَهْرِيٌّ مُنْكِرٌ لِصَانِعِ الْعَالَمِ وَالْبَعْثِ فَمُرَادُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُحْسِنُ وَالْمُرَبِّي الْمُنْعِمُ إلَيْكُمْ لَا غَيْرُ وَقِيلَ إنَّمَا قَوْلُهُ ذَلِكَ لِحِيرَتِهِ وَدَهْشَتِهِ مِنْ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً

عَظِيمَةً وَظُهُورِ عَجْزِهِ وَضَعْفِهِ كَانَ كَمَسْلُوبِ الْعَقْلِ فَقَالَ مَا قَالَ (وَإِمَّا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إمَّا الْمُتَكَبَّرُ عَلَيْهِ (رَسُولُهُ) أَيَّ رَسُولٍ كَانَ (- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَبَعْضِ الْكَفَرَةِ حَيْثُ قَالُوا) اسْتِهْزَاءً {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} [الفرقان: 41] الْإِشَارَةُ لِلتَّحْقِيرِ وَقَالُوا أَيْضًا {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} [الزخرف: 31] أَيْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَقِيلَ الطَّائِفُ بَدَلَ الْمَدِينَةِ {عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] بِالْجَاهِ وَالْمَالِ عَنْ الْوَاحِدِيِّ يُرِيدُونَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ مِنْ مَكَّةَ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ مِنْ الطَّائِفِ (وَأَمَّا سَائِرُ الْخَلْقِ) غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ دُونَ الْأَوَّلِينَ فَأَيْضًا عَظِيمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكِبْرَ وَالْعَظَمَةَ لَا يَلِيقُ إلَّا بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ الْعَاجِزُ فَمِنْ أَيْنَ يَلِيقُ بِهِ الْكِبْرُ فَمَهْمَا تَكَبَّرَ الْعَبْدُ نَازَعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي صِفَةٍ لَا تَلِيقُ إلَّا بِجَلَالِهِ، الثَّانِي أَنَّهُ يَدْعُو إلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ إذَا سَمِعَ الْحَقَّ مِنْ عَبْدٍ اسْتَنْكَفَ مِنْ قَبُولِهِ وَتَشَمَّرَ لِجَحْدِهِ وَذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْكَافِرِينَ. (وَغَائِلَةُ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ مُنَازَعَةُ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ) فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْكِبْرِ كُفْرًا مُطْلَقًا قُلْنَا هَذَا لَيْسَ بِصَدَدِهِ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَكُنْ فِي الْتِزَامِهِ، وَالِالْتِزَامُ غَيْرُ اللُّزُومِ وَالْكُفْرُ هُوَ الْأَوَّلُ فَإِنْ قِيلَ بِكُفْرِ الثَّانِي أَيْضًا كَمَا فِي الْخَيَالِيِّ وَلَوْ سَلِمَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اللُّزُومِ الْبَيِّنِ وَالْغَيْرِ الْبَيِّنِ وَيُدَّعَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ بَيِّنِ وَالْكُفْرُ مَا يَكُونُ بَيِّنًا فَالْحَمْلُ حِينَئِذٍ حَمْلُ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ (الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) ضَرًّا وَنَفْعًا إذْ الْأَمْرُ (لِلَّهِ الْمَلِكِ الْمَالِكِ) فِي مُقَابَلَةِ الْمَمْلُوكِ (الْقَهَّارِ الْقَادِرِ) فِي مُقَابَلَةِ الْعَاجِزِ (الْقَوِيِّ) فِي مُقَابَلَةِ الضَّعِيفِ فَقِيلَ فِي الْعِبَارَةِ طِبَاقٌ وَتَلْمِيحٌ لِأَثَرِ «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي صِفَةٍ لَا تَلِيقُ إلَّا بِجَلَالِهِ تَعَالَى) وَهِيَ الْكِبْرِيَاءُ (وَ) غَائِلَتُهُمَا (التَّأْدِيَةُ) الْوَصْلَةُ (إلَى مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ كَإِبْلِيسَ {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] وَظَنَّ اللَّعِينُ أَنَّ النَّارَ لِارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا وَسُرْعَةِ انْتِقَالِهَا وَضِيَائِهَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَجَهِلَ كَوْنَ الطَّهَارَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بِهِمَا فِي الْأَنْجَاسِ وَالْأَحْدَاثِ وَأَنَّ الْفَضْلَ لَيْسَ إلَّا فِي التَّوَاضُعِ كَالتُّرَابِ لَا فِي التَّعَلِّي وَالرِّفْعَةِ وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ تَفْسِيرِ بَحْرِ الدُّرَرِ إجْمَالًا أَنَّهُ عِنْدَ ادِّعَاءِ اللَّعِينِ بِهَذَا جَاءَ نِدَاءٌ مِنْ جَانِبِ الْحِكْمَةِ يَا لَعِينُ حَالُ النَّارِ الِاضْطِرَابُ دَائِمًا وَحَالُ التُّرَابِ السُّكُونُ وَأَهْلُ السُّكُونِ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ الِاضْطِرَابِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ مَسَاكِنُ طَيِّبَةٌ وَتُرَابَهَا مِسْكٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَارٌ وَأَنَّ النَّارَ هِيَ مَحَلُّ تَعْذِيبِ الْأَعْدَاءِ وَأَنَّ النَّارَ مُحْتَاجَةٌ إلَى التُّرَابِ فِي التَّمَكُّنِ دُونَ التُّرَابِ

إلَى النَّارِ وَالنَّارُ سَبَبُ خَرَابٍ وَالتُّرَابُ سَبَبُ عِمَارَةٍ يَا لَعِينُ اُسْكُتْ فَلْيَتَنَاظَرْ عُنْصُرُ آدَمَ الَّذِي هُوَ التُّرَابُ مَعَ عُنْصُرِك الَّذِي هُوَ النَّارُ ثُمَّ قَالَتْ النَّارُ يَا تُرَابُ لِي صُورَةٌ صَافِيَةٌ وَسِيرَةٌ مُضِيئَةٌ وَمِنْ خَوَاصِّي أَجْعَلُ اللَّيَالِيَ بِأَنْوَارِي كَالنَّهَارِ وَأَرْفَعُ الظُّلُمَاتِ وَأَجْعَلُ الْأَشْجَارَ وَالْحَشَائِشَ رَمَادًا وَكُنْت مَظْهَرَ تَجَلِّي الْحَقِّ وَدَلِيلَ مَعْرِفَةِ الْهِدَايَةِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا، ثُمَّ قَالَ التُّرَابُ يَا نَارُ صَنِيعُك هُوَ التَّرَفُّعُ وَصَنِيعِي هُوَ التَّوَاضُعُ فَقَرِّرِي حُجَّتَك وَبَاعِثَ تَرَفُّعِك، فَقَالَتْ أَنَا جَوْهَرٌ مُنَوَّرٌ وَمُضِيءٌ وَمَظْهَرُ ظُهُورٍ إنِّي أَنَا اللَّهُ وَمَحَلُّ انْتِقَامِ الْأَعْدَاءِ، فَقَالَ التُّرَابُ يَا نَارُ أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ الْعِزَّةَ فِي الذِّلَّةِ وَالرَّاحَةَ فِي التَّوَاضُعِ فَأَثَرْت تَحْتَ الْأَقْدَامِ وَأَنَا مُتَحَمِّلٌ أَحْمَالَ الْأَنَامِ وَأَنَا خِزَانَةٌ دَفِينَةُ الْمَلَكُوتِ وَأَنَا كَعْبَةُ طَوَافِ الْخَلَائِقِ وَأَكُونُ تَارَةً خَلِيفَةَ الْمَاءِ الطَّهُورِ. ثُمَّ قَالَتْ النَّارُ لَا أَقْدِرُ عَلَى مُنَاظَرَتِك مَهْمَا تَرَفَّعْت أَنَا وَأَنْتَ تَتَوَاضَعُ وَلَكِنْ فَلْنَبْحَثْ بِكَلَامٍ مَرَّةً مِنِّي وَمَرَّةً مِنْك، فَقَالَتْ يَا تُرَابُ لِي نُورٌ فَقَالَ لِي شَوْقُ لِقَاءٍ فَقَالَتْ لِي صُعُودٌ إلَى كَرَّةِ النَّارِ فَقَالَ أَنَا أَتَحَمَّلُ الْأَحْمَالَ فِي الِاسْتِقَامَةِ فَقَالَتْ أَجْعَلُ اللَّيَالِيَ كَالنَّهَارِ فَقَالَ أُزَيَّنُ فَوْقِي بِأَنْوَاعِ الْأَزْهَارِ فَقَالَتْ أَنَا مَحَلُّ امْتِحَانِ الْجَوَاهِرِ فَقَالَ أَنَا مَحَلُّ سَتْرِ خَزَائِنِ الدَّفَائِنِ فَقَالَتْ أَنَا أُظْهِرُ الْغِلَّ وَالْغِشَّ فَقَالَ أَنَا أَسْتُرُ الْعُيُوبَ فَقَالَتْ أَنَا أُخْرِجُ الْجَوَاهِرَ مِنْ الْأَحْجَارِ الصُّلْبَةِ فَقَالَ أَنَا أُخْرِجُ الْوَرْدَ الْكَثِيرَ ذَا الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَلْوَانِ الْعَجِيبَةِ، فَبِالْآخِرَةِ قَالَ التُّرَابُ أَنَا مَادَّةُ خَلِيقَةِ اللَّهِ وَمَرْقَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِحْرَابِ أَهْلِ الْمُنَاجَاةِ وَمَحَلُّ سَجْدَةِ الطَّاعَاتِ لَا غَايَةَ لِفَضَائِلِي وَلَا نِهَايَةَ لِخَصَائِصِي لَكِنْ شَأْنِي السُّكُوتُ تَوَاضُعًا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي أَمْرٌ إلَهِيٌّ لَمْ أَذْكُرْ هَذَا الْقَدْرَ (فَإِذَا سَمِعَ) أَيْ الْمُتَكَبِّرُ (الْحَقَّ مِنْ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ اسْتَنْكَفَ مِنْ قَبُولِهِ) لِكِبْرِهِ (وَتَشَمَّرَ لِجَحْدِهِ) . قِيلَ وَلِذَلِكَ تَرَى الْمُنَاظِرِينَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُبَاحِثُونَ عَنْ أَسْرَارِ الدِّينِ ثُمَّ إنَّهُمْ يَتَجَاحَدُونَ تَجَاحُدَ الْمُتَكَبِّرِينَ وَمَهْمَا اتَّضَحَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنِفَ الْآخَرُ مِنْ قَبُولِهِ وَتَشَمَّرَ لِجَحْدِهِ وَاحْتَالَ لِدَفْعِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحِيَلِ وَالتَّلْبِيسِ، وَمَا هُوَ إلَّا نَاشِئٌ مِنْ مُشَارَكَةِ إبْلِيسَ (وَيَكْفِيك فِيهِ) أَيْ فِي فُحْشِ الْكِبْرِ (قَوْله تَعَالَى {سَأَصْرِفُ} [الأعراف: 146] أَمْنَعُ {عَنْ آيَاتِيَ} [الأعراف: 146] عَنْ فَهْمِ الْحِجَجِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَأَنْزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ كَلَامِي وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [الأعراف: 146] يُظْهِرُونَ الْكِبْرَ {فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] إمَّا صِلَةٌ لِلْكِبْرِ يَتَكَبَّرُونَ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ وَهُوَ دِينُهُمْ الْبَاطِلُ وَظُلْمُهُمْ الْمُفْرِطُ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ حَالٍ مِنْ فَاعِلِهِ أَيْ يَتَكَبَّرُونَ مُلْتَبِسِينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَمَّا الْحَقُّ فَكَالْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ (وَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ} [الأعراف: 101] بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُ الْحَقَّ وَلَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَصِيرُ اخْتِيَارُهُ مَسْلُوبًا، وَهَذَا الْجَبْرُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ مُكَافَأَةً لِأَعْمَالِهِ الْخَبِيثَةِ، وَالْمُمْتَنِعُ الْجَبْرُ ابْتِدَاءً كَذَا قِيلَ. وَالْمُرَادُ بِالطَّبْعِ أَنْ تَحْدُثَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْئَةُ تَمَرُّنِهِمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَاسْتِقْبَاحِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ بِسَبَبِ غَيِّهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فَتُجْعَلُ قُلُوبُهُمْ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ فِيهَا الْحَقُّ وَأَسْمَاعُهُمْ تَعَافُ اسْتِمَاعَهُ فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا مَطْبُوعَةٌ لَا تَجْتَلِي لَهَا الْآيَاتُ الْمَنْصُوبَةُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ وَلَا طَبْعَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ أَوْ مَثَّلَ قُلُوبَهُمْ الْمَؤْوُفَةَ بِأَشْيَاءَ ضُرِبَ حِجَابٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْتِنْفَاعِ بِهَا طَبْعًا {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] مِنْ الْجَبْرِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ فَإِذَا خُتِمَ عَلَى الْقَلْبِ بِطَبْعِهِ فَلَا يَكَادُ يَنْفَتِحُ لِمَوْعِظَةِ وَاعِظٍ وَلَا تَلِجُ الْعِبْرَةُ وَالنَّصِيحَةُ {أَبَى} [البقرة: 34] إبْلِيسُ {وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] اسْتَعْظَمَ وَعَدَّ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنْ آدَمَ {وَكَانَ} [البقرة: 34] صَارَ مِنْ الْكَافِرِينَ أَوْ كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى {مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] (د) أَبُو دَاوُد

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي» أَيْ كَالرِّدَاءِ فِي الِاخْتِصَاصِ فَلَا يَلِيقُ الْكِبْرُ إلَّا إلَيَّ فَالْمُنَازِعُ فِيهِ مُنَازِعٌ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي فَمَنْ تَكَبَّرَ فَقَدْ جُنِيَ عَلَيْهِ. وَعَنْ الْكَلَابَاذِيِّ الرِّدَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ وَعَنْ الْقَاضِي الْكِبْرِيَاءُ الْكِبْرُ وَهُوَ التَّرَفُّعُ عَلَى الْغَيْرِ بِأَنْ يَرَى لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ شَرَفًا. وَالْعَظَمَةُ كَوْنُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ كَامِلًا شَرِيفًا مُسْتَغْنِيًا فَالْأَوَّلُ أَرْفَعُ إذْ هُوَ غَايَةُ الْعَظَمَةِ «وَالْعَظَمَةُ» وَقَدْ عَرَفْت مَعْنَاهُ آنِفًا «إزَارِي» فِي الِاخْتِصَاصِ أَيْضًا. وَعَنْ الْكَلَابَاذِيِّ أَيْضًا الْإِزَارُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَلَالِ وَالسَّتْرِ وَالْجَمَالِ وَقِيلَ الْكِبْرِيَاءُ التَّرَفُّعُ عَنْ الِانْقِيَادِ فَأُلُوهِيَّتُهُ مُسْتَغْنِيَةٌ عَمَّا سِوَاهُ، وَعَظَمَتُهُ وُجُوبُهُ الذَّاتِيُّ وَاسْتِغْنَاؤُهُ، وَمَثَّلَهُمَا بِالرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ إدْنَاءً لِلْمُتَوَهِّمِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَإِبْرَازًا لِلْمَعْقُولِ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ «فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا» الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ «قَذَفْته» رَمَيْته وَطَرَحْته «فِي النَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «فَمَنْ نَازَعَنِي رِدَائِي قَصَمْته» أَيْ أَذْلَلْته وَأَهَنْته أَوْ قَرَّبْت هَلَاكَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا وَارِدٌ عَنْ غَضَبٍ شَدِيدٍ وَمُنَادٍ عَلَى سُخْطٍ عَظِيمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا «وَالْعِزُّ إزَارِي مَنْ نَازَعَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا عَذَّبْته» . قَالَ الْغَزَالِيُّ: فِيهِ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ الْكِبْرِ وَمِنْ آفَاتِهِ حِرْمَانُ الْحَقِّ وَعَمَى الْقَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَفَهْمِ أَحْكَامِهِ، وَالْمَقْتُ وَالْبُغْضُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ خَصْلَةً تُثْمِرُ لَك الْمَقْتَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَزَنَ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارَ فِي الْآخِرَةِ وَتَقْدَحُ فِي الدِّينِ لَحَرِيٌّ أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنْهَا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «وَلَا أُبَالِي» بِمَا فَعَلْته مَعَهُ فِي نَارِ الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ عَنْ شُهُودِهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَنَارِ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ (م) مُسْلِمٌ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» الذَّرَّةُ وَاحِدَةُ الذَّرِّ وَهُوَ النَّمْلُ الْأَحْمَرُ الصَّغِيرُ. وَقِيلَ مَا يُرَى مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ فِي الْكُوَّةِ وَقِيلَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَبَاءِ وَفِيهِ أَنَّهُ وَإِنْ صَغُرَ قَدْرُهُ عَظُمَ جَزَاؤُهُ إمَّا لِكُفْرِهِ إنْ مُتَشَبِّهًا بِهِ تَعَالَى أَوْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ تَعْذِيبِهِ عَلَى قَدْرِ كِبْرِهِ أَوْ حَتَّى يُزِيلَهُ عَنْهُ إمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْمَحْشَرِ أَوْ فِي النَّارِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الْمُؤْمِنِ فِي النَّارِ لِلتَّهْذِيبِ وَالتَّنْقِيحِ

حَتَّى يَلِيقَ بِجِوَارِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ «فَقَالَ رَجُلٌ» قِيلَ مُعَاذٌ وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَقِيلَ رَبِيعَةُ بْنُ عَامِرٍ «إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا قَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ» قِيلَ أَيْ كُلُّ أَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَسَنٌ جَمِيلٌ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَقِيلَ إنَّهُ ذُو النُّورِ وَالْبَهْجَةِ أَيْ مَالِكُهُمَا وَقِيلَ جَمِيلُ الْأَفْعَالِ بِكُمْ وَالنَّظَرِ إلَيْكُمْ يُكَلِّفُكُمْ الْيُسْرَ «يُحِبُّ الْجَمَالَ» أَيْ التَّجَمُّلَ مِنْكُمْ فِي أَنْ لَا تُظْهِرُوا الْحَاجَةَ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى. فَالتَّجَمُّلُ هُوَ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي اسْتِعْمَالِ الْحُسْنِ فِي الرَّجُلِ وَالْجَمَالِ فِي اللَّهِ فَإِنَّ الْحُسْنَ بِالْعَرْضِ وَالْجَمَالَ بِالذَّاتِ كَمَا قِيلَ «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ» أَيْ رَدُّهُ، وَعَدَمُ قَبُولِهِ عَنْ الزَّجَّاجِ الْبَطَرُ أَنْ يَطْغَى عِنْدَ النِّعْمَةِ أَيْ يَتَكَبَّرَ وَالْأَصْمَعِيُّ الْحِيرَةُ أَيْ يَتَحَيَّرُ عِنْدَ الْحَقِّ وَلَا يَرَاهُ حَقًّا ( «وَغَمْطُ النَّاسِ» أَيْ احْتِقَارُهُمْ بِأَنْ لَمْ يُرِهِمْ شَيْئًا وَقِيلَ الِاسْتِهَانَةُ وَالِازْدِرَاءُ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ» الْخِيَانَةِ وَالِاخْتِلَاسِ مِنْ الْمَغْنَمِ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا مُطْلَقُهَا «وَالدَّيْنِ» دَيْنِ الْعِبَادِ أَوْ مُطْلَقِ الدَّيْنِ «دَخَلَ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا لَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّقْيِيدِ أَوْ مُجَرَّدُ الْبَرَاءَةِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا تُصَحِّحُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ السِّيَاقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إيرَادِ الْأَحَادِيثِ هُوَ بَيَانُ غَوَائِلِ الْكِبْرِ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ دَلَّ لَدَلَّ عَلَى طَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالِفِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا وَلَوْ سَلِمَ لَكَانَ ظَنِّيًّا عِنْدَ مُثْبِتِيهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ الْمَطْلَبِ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ إلَّا أَنَّ الْمَفْهُومَ لَا مَنْعَ فِي كَوْنِهِ تَأْيِيدًا لِلنَّصِّ فَالْمَحْذُورُ مَا يَكُونُ لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً لَا مَا يَكُونُ تَأْيِيدًا ثُمَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الدَّيْنُ شَيْنُ الدِّينِ الْأَوَّل بِفَتْحِ الدَّالِ وَالثَّانِي بِكَسْرِ الدَّالِ وَالشَّيْنُ الْعَيْبُ وَالنَّقْصُ، وَفِيهِ أَيْضًا الدَّيْنُ رَايَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُذِلَّ عَبْدًا وَضَعَهَا فِي عُنُقِهِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَذَلِكَ بِالِاسْتِدَانَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَحَّ اسْتِدَانَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قِيلَ «إنَّهُ أَوْصَى فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَقَالَ يَا عَلِيٌّ لِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ عَلَيَّ كَذَا فَلَا تَمُوتَنَّ بِلَا أَدَائِهِ» أُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لِضَرُورَةٍ وَالذَّمُّ مَا يَكُونُ بِلَا ضَرُورَةٍ وَرُدَّ أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الضَّرُورَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَيَّرَهُ أَنْ تَكُونَ بَطْحَاءُ مَكَّةَ لَهُ ذَهَبًا وَأُجِيبُ أَنَّهُ خَيَّرَهُ فَاخْتَارَ الْقِلَّةَ وَالْقَنَاعَةَ فَالضَّرُورَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي فَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «الدَّيْنُ دَيْنَانِ فَمَنْ مَاتَ وَهُوَ يَنْوِي قَضَاءَهُ فَأَنَا وَلِيُّهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَا يَنْوِي قَضَاءَهُ فَذَاكَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ لَيْسَ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ» . وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ إنْ عَنَى قَصْدَ الْأَدَاءِ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَطْلُ. وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «الدَّيْنُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ وَأَيْضًا فِيهِ الدَّيْنُ يُنْقِصُ مِنْ الدِّينِ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَالْقَصْدُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الدَّيْنَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْمَذَلَّةِ فَإِنْ لِضَرُورَةٍ فَلَا كَرَاهَةَ بَلْ قَدْ يَجِبُ وَلَا لَوْمَ عَلَى فَاعِلِهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا قَالُوا بِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِأَنَّ فِيهَا اقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِظْهَارَ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مُعْطِيهِ فَمَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْخَيْرِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ صَرْفَهُ إلَى السَّفَهِ وَالْعِصْيَانِ (هَقّ) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي النَّارِ تَوَابِيتَ»

جَمْعُ تَابُوتٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَقِيلَ صُنْدُوقٌ قِيلَ عَنْ مُخْتَصَرِ الْقَامُوسِ أَصْلُهُ تَابُوهُ وَلُغَةُ الْأَنْصَارِ بِالتَّاءِ وَعَنْ صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ أَصْلُهُ تَابُوةٌ مِثْلُ تَرْقُوَةٍ وَهُوَ فَعْلُوَةٌ فَلَمَّا سُكِّنَتْ الْوَاوُ قُلِبَتْ هَاءُ التَّأْنِيثِ تَاءً. قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ لَمْ تَخْتَلِفْ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي التَّابُوتِ فَلُغَةُ قُرَيْشٍ بِالتَّاءِ وَلُغَةُ الْأَنْصَارِ بِالْهَاءِ فَاضْمَحَلَّ مَا يُقَالُ لَمْ أَرَهُ فِي الْقَامُوسِ «يُجْعَلُ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «فِيهَا الْمُتَكَبِّرُونَ فَتُقْفَلُ عَلَيْهِمْ» لِئَلَّا يَرَوْا أَحَدًا وَلَا يُرَوْا فَيَشْتَدَّ عَذَابُهُمْ فِي النَّارِ أَوْ لِتَضِيقَ وَتَشْتَدَّ عُقُوبَتُهُمْ (طِبّ) الطَّبَرَانِيُّ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ» قِيلَ إسْرَائِيلِيٌّ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ «- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ بِالسُّوقِ وَعَلَيْهِ حُزْمَةُ حَطَبٍ فَقِيلَ لَهُ مَا يَحْمِلُك» أَيُّ شَيْءٍ يَبْعَثُك «عَلَى هَذَا وَقَدْ أَغْنَاك اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا» أَيْ عَنْ حَمْلِ الْحَطَبِ عَلَى الظَّهْرِ لِأَجْلِ الْبَيْعِ لِكَثْرَةِ مَالِكَ. «قَالَ أَرَدْت أَنْ أَدْفَعَ الْكِبْرَ» قِيلَ عَنْ الْفُقَهَاءِ إذَا حَمَلَ الْغَنِيُّ مَتَاعَهُ فَإِنْ كَانَ لَثِقَلِ أُجْرَةِ الْحَمَّالِ عَلَيْهِ فَهُوَ دَنَاءَةٌ مُسْقِطٌ لِلْمُرُوءَةِ وَإِنْ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَمُجَاهَدَةً لِلنَّفْسِ فَخَيْرٌ وَطَاعَةٌ (سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ مِنْ كِبْرٍ» أَيْ لَا يَدْخُلُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِلَا عَذَابٍ وَخِزْيٍ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا حَتَّى يُعَاقَبَ بِمَا اجْتَرَحَهُ أَوْ لَا يَدْخُلُ أَصْلًا إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا أَوْ لَا يَدْخُلُهَا وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِذَلِكَ، بَلْ بَعْدَ إزَالَتِهِ عَنْهُ إمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْعَذَابِ بِمِقْدَارِهِ (م) مُسْلِمٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى» وَأَكْثَرُ النُّسَخِ «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِمْ» «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» نَظَرَ رَحْمَةٍ وَمَغْفِرَةٍ فَإِنَّ مَنْ سَخِطَ عَلَى غَيْرِهِ وَاسْتَهَانَ بِهِ أَعْرَضَ عَنْهُ وَعَنْ التَّكَلُّمِ مَعَهُ وَالِالْتِفَاتِ إلَيْهِ «وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ» مَعَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَهُولِ ( «عَذَابٌ أَلِيمٌ» مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ الْعَذَابُ يَخْلُصُ إلَى قُلُوبِهِمْ وَجَعُهُ وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَلَمُ الْوَجَعُ الشَّدِيدُ «شَيْخٌ زَانٍ» لِاسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ الْحَقِّ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِهِ وَرَذَالَاتِ طَبْعِهِ إذْ دَاعِيَتُهُ قَدْ ضَعُفَتْ وَهِمَّتُهُ قَدْ فَتَرَتْ فَزِنَاهُ عِنَادٌ وَمُرَاغَمَةٌ؛ وَلِأَنَّ شَهْوَتَهُ مَقْهُورَةٌ فَزِنَاهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَطْبُوعًا بِهِ وَأَمَّا الشَّابُّ فَقَدْ تَقْهَرُهُ نَفْسُهُ عَلَيْهِ «وَمَلِكٌ كَذَّابٌ» لِأَنَّ الْكَذِبَ غَالِبٌ لِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ وَالْمَلِكُ لَا يَخَافُ أَحَدًا فَيُضَايِقُهُ فَقَبِيحٌ لِفَقْدِ الضَّرُورَةِ «وَعَائِلٌ» فَقِيرٌ «مُسْتَكْبِرٌ» لِأَنَّ كِبْرَهُ مَعَ فَقْدِ سَبَبِهِ فِيهِ مِنْ نَحْوِ مَالٍ أَوْ جَاهٍ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ مُسْتَحْكِمًا فِيهِ فَيَسْتَحِقُّ أَلِيمَ الْعَذَابِ وَفَظِيعَ الْعِقَابِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَمِ اللَّهِ فِي قَبُولِ عُذْرِ عَبِيدِهِ

مِمَّا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ الْقَنَوِيُّ سِرُّ عَدِّ الْمَلِكِ الْكَذَّابِ مِنْهُمْ أَنَّ الْكَذِبَ قِسْمَانِ ذَاتِيٌّ وَصِفَاتِيٌّ فَالصِّفَاتِيُّ مَحْصُورٌ فِي مُوجِبَيْنِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالْمَلِكُ مَحِلُّهُمَا ظَاهِرًا وَلَيْسَ حُكْمُهُ مَعَ الرَّعِيَّةِ بِصُورَةِ رَهْبَةٍ مِنْهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ فِيمَا عِنْدَهُمْ تُوجِبُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْكَذِبِ فَإِذَا كَانَ الْمَلِكُ كَذَّابًا فَلَا مُوجِبَ إلَّا لُؤْمُ الطَّبْعِ فَهُوَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُ، وَالْأَوْصَافُ الذَّاتِيَّةُ الْجِبِلِّيَّةُ تَسْتَلْزِمُ نَتَائِجَ تُنَاسِبُهَا كَذَا فِي الْفَيْضِ. وَعَنْ الْأَرْبَعِينَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ وَبُغْضُهُ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْهُمْ أَشَدُّ أَوَّلُهَا يُبْغِضُ الشُّبَّانَ الْفُسَّاقَ وَبُغْضُهُ لِلشُّيُوخِ الْفُسَّاقِ أَشَدُّ وَالثَّانِي يُبْغِضُ الْبُخَلَاءَ وَبُغْضُهُ لِلْأَغْنِيَاءِ الْبُخَلَاءِ أَشَدُّ وَالثَّالِثُ يُبْغِضُ الْمُتَكَبِّرِينَ وَبُغْضُهُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ أَشَدُّ» . وَيُقَالُ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ وَحُبُّهُ لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ أَشَدُّ أَوَّلُهَا يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَحُبُّهُ لِلشُّبَّانِ الْأَتْقِيَاءِ أَشَدُّ وَالثَّانِي يُحِبُّ الْأَسْخِيَاءَ وَحُبُّهُ لِلْفُقَرَاءِ الْأَسْخِيَاءِ أَشَدُّ وَالثَّالِثُ يُحِبُّ الْمُتَوَاضِعِينَ وَحُبُّهُ لِلْأَغْنِيَاءِ الْمُتَوَاضِعِينَ أَشَدُّ» انْتَهَى (حَكَّ) الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ. (عَنْ طَارِقٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ خَرَجَ عُمَرُ) مُتَوَجِّهًا (إلَى الشَّامِ) إقْلِيمٍ مَعْرُوفٍ أَوَّلُهُ نَابُلُسُ وَآخِرُهُ الْعَرِيشُ (وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ) بْنُ الْجَرَّاحِ (فَأَتَوْا) أَيْ عُمَرُ مَعَ عَسْكَرِهِ (عَلَى مَخَاضَةٍ) مَوْضِعِ خَوْضِ الْمَاءِ (وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ) عَنْهَا لِتَمَامِ نَوْبَةِ الرُّكُوبِ فَأَرْكَبَ غُلَامَهُ عَلَيْهَا (وَخَلَعَ خُفَّيْهِ) مِنْ قَدَمَيْهِ (فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ) تَوَاضُعًا (وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ) فِي الْمَاءِ (فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَمْ يُلَقَّبْ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ (أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟) بِاسْتِفْهَامٍ مُقَدَّرٍ لِلتَّعَجُّبِ (مَا يَسُرُّنِي) مَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْفِعْلُ مِنْك (فَإِنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ) أَيْ الشَّامِ (اسْتَشْرَفُوك) يُقَالُ اسْتَشْرَفَ الشَّيْءَ إذَا ارْتَفَعَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى حَاجِبَيْهِ يَعْنِي: أَنَّ الْقَوْمَ يَنْظُرُونَ إلَيْك وَيُحَقِّرُونَ ذَلِكَ (فَقَالَ أَوَّهْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْهَاءِ كَلِمَةُ تَوَجُّعٍ (وَلَمْ يَقُلْ ذَا) إشَارَةً إلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَحَدٌ (غَيْرُك) يَا (أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْته) أَيْ هَذَا الْكَلَامَ (نَكَالًا) سَبَبَ نَكَالٍ وَعَذَابٍ (لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لِأَنَّهُ يَنْتَشِرُ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْعِزَّ وَالشَّرَفَ بِالْمَرَاكِبِ الرَّفِيعَةِ وَالْمَلَابِسِ الْفَاخِرَةِ لَا بِالْإِسْلَامِ وَالْعِبَادَةِ فَيَحْصُلُ الْكِبْرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعَذَابِ كَمَا ذَكَرَ الْمُحَشِّي، وَأَنَا أَقُولُ إنَّهُمْ أُسْوَةٌ لِلْأُمَّةِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُتَابَعَتِهِمْ بِلِسَانِ الرِّسَالَةِ لَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِالِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ (إنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ) كَمَا فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي جَهَالَةٍ وَقِيلَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَرَبَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ طَاعَةِ الْفُرْسِ وَكَانَ سُلْطَانُهُمْ يَتَوَلَّى وَيُعْزَلُ بِأَمْرِ كِسْرَى وَكَانَتْ الشَّوْكَةُ حِينَئِذٍ لِلرُّومِ وَفَارِسَ (فَأَعَزَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ) بِكَثْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِشَرَفِ أَصْلِ الْإِسْلَامِ (فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّ بِغَيْرِ مَا) مِنْ نَحْوِ الْمَرَاكِبِ وَالْمَلَابِسِ (أَعَزَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ) مِنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (أَذَلَّنَا اللَّهُ تَعَالَى) لِأَنَّهُ اعْتِزَازٌ بِغَيْرِ طَرِيقِهِ وَمَنْ سَلَكَ إلَى غَيْرِ طَرِيقِ الْمَطْلُوبِ ضَلَّ سَعْيُهُ وَخَسِرَ كَدَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْعِزَّ بِالْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَإِذَا طُلِبَ الْعِزُّ بِغَيْرِهِ أَذَلَّهُ اللَّهُ فَأَفَادَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عِزٌّ وَرِفْعَةٌ وَالْكِبْرُ خِلَافُهُ فَإِنْ قِيلَ سُؤَالُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَارِدٌ عَلَى نَهْجِ الْقِيَاسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إمَامًا أَوْ مُفْتِيًا أَوْ حَاكِمًا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ

آخَرَ اتِّفَاقًا فَكَيْفَ يَلْزَمُ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ تَحْقِيقِيًّا لَا إلْزَامِيًّا وَإِقْنَاعِيًّا، وَفَقَاهَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ وَأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ سَبَبِ فِعْلِهِ لَا الْإِيجَابُ وَالْإِلْزَامُ عَلَيْهِ وَأَمَّا وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا كَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَأَبِي الْيُسْرِ فَتَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ مُطْلَقًا. وَأَمَّا عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ كَالْكَرْخِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ فَلَا يُقَلَّدُ إلَّا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَاحْتِجَاجُ الْمُصَنِّفُ إمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى مَنْعِ كَوْنِ سُؤَالِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَلَى الْقِيَاسِ بَلْ الْقِيَاسُ هُوَ التَّوَاضُعُ مُطْلَقًا وَلَوْ مِنْ الْخَلِيفَةِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ بِلَا إيجَابٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ وَكَانُوا سَاكِتِينَ ثُمَّ السَّامِعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا سَاكِتِينَ وَقَابِلِينَ وَيَكُونُ إجْمَاعًا وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ إجْمَاعًا فِيمَا شَاعَ فَسَكَتُوا وَسَلَّمُوا. وَفِي كِتَابِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَقَعَ الرِّوَايَةُ هَكَذَا عَنْ طَارِقٍ أَنَّ عُمَرَ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ لَقِيَهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ وَهُوَ آخِذٌ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ وَقَدْ خَلَعَ خُفَّيْهِ وَجَعَلَهُمَا تَحْتَ إبْطَيْهِ، قَالُوا لَهُ الْآنَ يَلْقَاك الْجُنُودُ، قَالَ إنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَنْ نَلْتَمِسَ الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ قِرْبَةً عَلَى عُنُقِهِ فَقِيلَ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا قَالَ نَفْسِي أَعْجَبَتْنِي فَأَرَدْت أَذِلُّهَا وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ طَافَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ فِي دَارٍ وَحَوْلَهَا صِبْيَانٌ يَبْكُونَ وَإِذَا قِدْرٌ يَغْلِي عَلَى النَّارِ بِالْمَاءِ فَسَأَلَ عَنْ بُكَائِهِمْ، فَقَالَتْ لِلْجُوعِ فَسَأَلَ عَنْ الْمَاءِ، فَقَالَتْ لِأُرِيَهُمْ مَرَقَةً وَأُعَلِّلَهُمْ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَهُمْ النَّوْمُ، فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ جَاءَ إلَى دَارِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَ فِي غِرَارَةٍ طَعَامًا وَلِبَاسًا وَدَرَاهِمَ، فَقَالَ يَا أَسْلَمُ احْمِلْ عَلَيَّ فَقُلْت أَنَا أَحْمِلُهُ فَقَالَ إنِّي أَنَا الْمَسْئُولُ فِي الْآخِرَةِ فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ فَجَاءَ مَنْزِلَ الْمَرْأَةِ وَجَعَلَ فِي الْقِدْرِ دَقِيقًا وَشَحْمًا وَتَمْرًا وَحَرَّكَهُ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ وَيَخْرُجُ الدُّخَانُ مِنْ خِلَالِ لِحْيَتِهِ حَتَّى طَبَخَ لَهُمْ فَأَطْعَمَهُمْ بِيَدِهِ فَخَرَجَ فَاطَّلَعَ عَلَى ضَحِكِ الصِّبْيَانِ وَسُرُورِهِمْ، فَقَالَ الْآنَ طَابَتْ نَفْسِي وَلِتَوَاضُعِهِ أَيْضًا قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ قَدْ ذَكَرَهَا مَعَ سَائِرِ مَنَاقِبِهِ فِي شَرْحِ وَصَايَا إمَامِنَا أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ» النَّمْلِ الصَّغِيرِ فِي الذُّلِّ وَالْحَقَارَةِ جَزَاءً عَلَى وِفَاقِ عَمَلِهِمْ «فِي صُوَرِ الرِّجَالِ» زِيَادَةً فِي ذُلِّهِمْ وَحَقَارَتِهِمْ يَعْنِي جُثَّتَهُمْ كَجُثَّةِ الذَّرَّةِ وَصُورَتَهُمْ كَصُورَةِ الْإِنْسَانِ «يَغْشَاهُمْ» يُحِيطُهُمْ «الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَان» يَتَضَاعَفُ ذُلُّهُمْ وَيَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا «يُسَاقُونَ إلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ» بِالزَّجْرِ وَالْقَهْرِ وَالسَّائِقُونَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ غِلَاظٌ شِدَادٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71] الْآيَاتِ «يُقَالُ لَهُ بُولَسٌ» بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ آخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، كَذَا قِيلَ عَنْ النِّهَايَةِ وَقِيلَ فُوعِلٌ مِنْ الْإِبْلَاسِ بِمَعْنَى الْيَأْسِ وَلَعَلَّ السِّجْنَ إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بِهِ يَئِسَ مِنْ الْخَلَاصِ عَمَّا قَرِيبٌ وَإِنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَوْ فَتْحِهَا فَلَعَلَّهُ أَعْجَمِيٌّ إذْ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ مِثَالُهُ أَقُولُ فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَأَمَّلْ فِيهِ «يَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ» يَغْشَاهُمْ وَيُحِيطُهُمْ نَارُ النِّيرَانِ فِي الْقَامُوسِ النَّارُ تُجْمَعُ عَلَى أَنْيَارٍ «يُسْقَوْنَ» عَلَى الْمَفْعُولِ «مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ» مَا يُعْصَرُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ لَعَلَّهَا الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ. «طِينَةِ الْخَبَالِ» بَدَلٌ مِنْ عُصَارَةِ وَالْخَبَالُ الْفَسَادُ أَيْ الطِّينَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ فَسَادِ أَبْدَانِ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ اسْمُ مَوْضِعٍ فِي جَهَنَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ كَالْحَوْضِ وَقِيلَ السُّمُّ الْقَاتِلُ وَالْهَلَاكُ وَالْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ (م) مُسْلِمٌ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ

أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ) يُنَصِّبُ خَلِيفَةً (فَيَأْتِي بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَشُقُّ السُّوقَ) يَعْنِي يَنْشَقُّ أَهْلُ السُّوقِ لَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لِيَمُرَّ هُوَ (وَ) الْحَالُ (هُوَ يَقُولُ جَاءَ الْأَمِيرُ) لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَيَقْضِي حَاجَتَهُ فَإِنَّ تِلْكَ الْحَالِيَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلْإِمَارَةِ عَادَةً فَيَحْتَاجُ إلَى التَّعْرِيفِ وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَهْلُ السُّوقِ عَزْلَهُ مِنْ صَنِيعِ حَالِهِ وَلِيُفَسَّحَ لَهُ الطَّرِيقُ فَيُتِمَّ مَصْلَحَتَهُ وَيَقْضِيَ مَهَامَّ الْمُسْلِمِينَ (وَفِي رِوَايَةٍ) يَقُولُ (طَرِّقُوا) أَيْ أَعْطُوا طَرِيقًا (لِلْأَمِيرِ حَتَّى يَنْظُرَ النَّاسُ إلَيْهِ) وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِي تَوَاضُعِهِ مَعَ عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ لِلتَّرْغِيبِ وَلِتَعْلِيمِ شَرَفِ التَّوَاضُعِ وَمُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَقَهْرِهَا (خ) الْبُخَارِيُّ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «بَيْنَمَا رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ» أَيْ التَّكَبُّرِ «خُسِفَ بِهِ» فِي الْأَرْضِ «فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ» يَتَحَرَّك وَيَضْطَرِبُ يَعْنِي يَنْزِلُ شَيْئًا فَشَيْئًا «فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قِيلَ عَنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . فَحَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ لِجَرِّ إزَارِهِ عَلَى الْأَرْضِ لِكِبْرِهِ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَبِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْكِبْرِ إذَا جُوزِيَ بِمَا تَرَى فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَّخِذُ الْكِبْرَ صَنْعَةً وَيَأْتِي بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَسِيرَتِهِ فَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالْعَاقِلُ يَنْزَجِرُ وَيَعْتَبِرُ مِنْ مِثْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ يَقُولُونَ فِي) بِالتَّشْدِيدِ (التِّيهُ) أَيْ يَنْسُبُونَ إلَيَّ الْكِبْرَ أَوْ يَكُونُونَ فِي الْكِبْرِ (وَ) الْحَالُ أَنِّي (قَدْ رَكِبْت الْحِمَارَ) . وَمَا أَنِفْت مِنْ رُكُوبِهِ (وَلَبِسْت الشَّمْلَةَ) أَيْ الصُّوفَ (وَقَدْ حَلَبْت الشَّاةَ وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ» ) أَيْ الثَّلَاثَةَ ( «فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْكِبْرِ شَيْءٌ» ) لِأَنَّهَا مِنْ عَادَاتِ أَسَافِلِ النَّاسِ غَالِبًا. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَرَاءَةٌ مِنْ الْكِبْرِ لُبْسُ الصُّوفِ وَمُجَالَسَةُ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَرُكُوبُ الْحِمَارِ وَاعْتِقَالُ الْعَنْزِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ يَعْنِي بِقَصْدٍ صَالِحٍ لَا لِإِظْهَارِ الزُّهْدِ وَإِيهَامًا لِمَزِيدِ التَّعَبُّدِ وَمُجَالَسَةُ الْفُقَرَاءِ بِقَصْدِ إينَاسِهِمْ وَالتَّوَاضُعُ مَعَهُمْ وَنَحْوُ رُكُوبِ الْحِمَارِ وَاعْتِقَالِ الْعَنْزِ يَعْنِي اعْتِقَالَ الْعَنْزِ لِيَحْلُبَ لَبَنَهَا يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُبْعِدَةٌ عَنْ الْكِبْرِ

المبحث الثالث من الخمسة في أسباب الكبر

[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مِنْ الْخَمْسَةِ فِي أَسْبَابِ الْكِبْرِ] (الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) مِنْ الْخَمْسَةِ (فِي أَسْبَابِ الْكِبْرِ) فِي النَّفْسِ أَوْ الْحَاصِلِ فِي نَفْسِهِ (وَالتَّكَبُّرِ) إظْهَارِهِ لِلْغَيْرِ أَوْ الْحَاصِلِ بِالتَّكَلُّفِ (أَعْنِي مَا بِهِ الْكِبْرُ وَالتَّكَبُّرُ، وَالْعِلَاجِ التَّفْصِيلِيِّ، وَهِيَ) أَيْ الْأَسْبَابُ (سَبْعَةٌ) الْأَوَّلُ عِلْمٌ الثَّانِي عِبَادَةٌ الثَّالِثُ نَسَبٌ الرَّابِعُ جَمَالٌ الْخَامِسُ قُوَّةٌ السَّادِسُ مَالٌ السَّابِعُ أَتْبَاعٌ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ هَذِهِ أَسْبَابَ الْكِبْرِ (بِاعْتِبَارِ الْجَهْلِ الْمُقَارَنِ بِهَا) بِالْبِنَاءِ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ نَعْتٌ لِلْجَهْلِ (لِأَنَّهَا) الْأَسْبَابَ (فِي أَنْفُسِهَا أَسْبَابٌ تَامَّةٌ وَعِلَلٌ مُوجِبَةٌ) بَلْ جُزْءُ سَبَبٍ وَعِلَّةٌ نَاقِصَةٌ فَمُحْتَاجَةٌ إلَى ضَمِّ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهَا فَبِمُجَرَّدِهَا لَا تَكُونُ كِبْرًا وَلَا تَكَبُّرًا (فَسَبَبِيَّتُهَا) أَيْ الْأَسْبَابُ (فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إلَى الْجَهْلِ) فَيَنْشَأُ مِنْهُ الْأَسْبَابُ (فَعِلَاجُهُ) أَيْ الْجَهْلِ (إزَالَتُهُ) بِالتَّعَلُّمِ (وَسَنُبَيِّنُهُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ الْعِلْمُ) الرَّسْمِيُّ (وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ) الْمُوصِلَةِ إلَى الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ النَّافِعُ فَلَا بَلْ مِنْ الْمُعَالَجَاتِ وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الضَّعَةِ وَالتَّوَاضُعِ فَالْفَضْلُ وَالشَّرَفُ الْوَارِدُ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ لَهُ لَا لِلْأَوَّلِ بَلْ هُوَ وِزْرٌ وَوَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَكَفَاهُ كَوْنُ ثَمَرَتِهِ وَنَتِيجَتِهِ نَحْوُ كِبْرٍ وَتَكَبُّرٍ (وَأَشَدُّهَا وَأَصْعَبُهَا عِلَاجًا؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْعِلْمِ) فِي نَفْسِهِ (عَظِيمٌ) مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُتَعَلَّقِهِ (عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ النَّاسِ) أَيْضًا فَيَرَى نَفْسَهُ أَعْلَى وَأَشْرَفَ مِنْ الْغَيْرِ فَيَخَافُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجُو لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو لِغَيْرِهِ وَيَنْظُرُ إلَى الْغَيْرِ نَظَرَ الْحَقَارَةِ وَالْهَوَانِ فَهَذَا أَلْيَقُ بِأَنْ يُسَمَّى جَهْلًا، بَلْ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ مَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ بِهِ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ فَيَزِيدُ خَوْفُهُ وَتَوَاضُعُهُ وَخُشُوعُهُ وَيُفْضِي إلَى أَنْ يَرَى كُلَّ النَّاسِ أَوْلَى مِنْهُ لِعِظَمِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا كَانَ قَدْرُ الْعِلْمِ عَظِيمًا مُطْلَقًا فَكَانَ الْعِلَاجُ صَعْبًا فَإِنَّ زَوَالَ الْمُسَبَّبِ بِزَوَالِ السَّبَبِ فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ شَرِيفًا مُطْلَقًا كَانَ شَرَفُهُ ذَاتِيًّا فَلَا يَزُولُ فَيَصْعُبُ زَوَالُ الْمُسَبَّبِ فَافْهَمْ. (وَقَدْ سَمِعْت) فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ الْبَابِ الثَّانِي (مَا وَرَدَ فِي فَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَكَوْنِهِ فَرْضًا) عَيْنًا وَكِفَايَةً، لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ مَا يَكُونُ سَبَبَ الْكِبْرِ هُوَ الرَّسْمِيُّ وَمَا ذُكِرَ لَيْسَ بِرَسْمِيٍّ بَلْ عِلْمٌ نَافِعٌ فَلَا تَقْرِيبَ وَأَنَّ مَا لَهُ فَضْلٌ وَوُجُوبٌ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي جُعِلَ آلَةَ الْعَمَلِ عَلَى الْخُلُوصِ وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَبِهِ يُعْلَمُ حَالُ قَوْلِهِ (فَلَا مَجَالَ لِقَلْعِهِ مِنْ أَصْلِهِ وَتَرْكِ تَعَلُّمِهِ) فَتَأَمَّلْ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فَضْلُهُ كَذَا وَحُكْمُهُ كَذَا يَمْتَنِعُ مُتَارَكَتُهُ هَكَذَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ إتْيَانَ أَصْلِ هَذَا الْعِلْمِ وَاجِبٌ وَمَا دَعَاهُ مِنْ نَحْوِ الْكِبْرِ الْمُحَرَّمِ عَرْضِيٌّ وَمِنْ قَاعِدَةِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَنَّ الْأَمْرَ الذَّاتِيَّ لَا يَزُولُ بِالْعَوَارِضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ ذَلِكَ الْعَارِضُ فِي نَفْسِهِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى جِنْسِ مَا يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ هُنَا قُلْنَا وَمِنْ قَاعِدَةِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَيْضًا دَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ فَإِذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةٌ وَمَفْسَدَةٌ قُدِّمَ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ غَالِبًا؛ لِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّرْعِ بِالْمَنْهِيَّاتِ أَشَدُّ مِنْ اعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورَاتِ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» وَرُوِيَ فِي الْكَشْفِ حَدِيثُ: «لَتَرْكُ ذَرَّةٍ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» ، وَمِنْ ثَمَّةَ تَرْكُ الْوَاجِبِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ وَلَمْ يُسَامِحْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ خُصُوصًا الْكَبَائِرَ، كَذَا فِي الْأَشْبَاهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إنْ امْتَنَعَ الطَّرِيقُ بِالْكُلِّيَّةِ فَعِنْدَ إمْكَانِهِ كَمَا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا. (فَإِنَّمَا عِلَاجُهُ) أَيْ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْكِبْرِ (بِمَعْرِفَتَيْنِ) إحْدَاهُمَا مَعْرِفَةُ أَنَّ فَضْلَهُ (إنَّمَا هُوَ بِمُقَارَنَةِ

النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ) فِي ابْتِدَائِهِ وَأَثْنَائِهِ بِأَنْ يَقْصِدَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيصَ نَفْسِهِ مِنْ الْجَهْلِ وَمَضَرَّةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَلَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْوَظَائِفِ وَالْمَدَارِسِ وَالْجَاهِ وَالرِّفْعَةِ وَسَوْقِ الدُّنْيَا وَإِلَّا لَانْقَلَبَتْ الْقَضِيَّةُ وَانْعَكَسَ الْأَمْرُ (وَالْعَمَلُ بِهِ وَنَشْرُهُ) كَالتَّدْرِيسِ (لِلَّهِ تَعَالَى بِلَا طَمَعِ نَفْعٍ مِنْ النَّاسِ وَأَخْذِ مَالٍ عَلَيْهِ وَإِلَّا) إنْ لَمْ يُقَارَنْ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ وَالنَّشْرِ وَلَمْ يَخْلُ عَنْ الطَّمَعِ وَأَخْذِ الْمَالِ (فَيَنْقَلِبُ عَلَيْهِ) الْأَمْرُ (فَيَصِيرُ أَخَسَّ مَرْتَبَةً مِنْ الْجَاهِلِ وَأَشَدَّ عَذَابًا مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ) وَعِنْدَ بَعْضٍ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ تَرَكَ فَرْضَيْنِ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ وَالْفَاسِقَ تَرَكَ الْعَمَلَ فَقَطْ. وَأُجِيبَ أَنَّ ذَلِكَ الْفَرْضَ وَإِنْ وَاحِدًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ عَنْ عِلْمٍ كَانَ أَقْبَحَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ لَيْسَ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» لَعَلَّ أَصْلَ هَذَا الْجَوَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا كَكَثْرَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشُّهْرَةِ وَإِنْ رَجَحَتْ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ وَكَذَا كَثْرَةُ الْأَجْزَاءِ وَالْفَرْقُ أَنَّ نَيْطَ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ، فَلَا تَرْجِيحَ وَإِنْ بِالْمَجْمُوعِ فَنَعَمْ أَقُولُ لَعَلَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ لَيْسَ الْجَهْلَ الصِّرْفَ وَإِلَّا فَكُفْرٌ، بَلْ فِيمَا وَرَاءَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ الْعِلْمَ الْفَرْضَ غَايَتُهُ تَرْكُ تَفْصِيلِهِ وَأَدِلَّتِهِ وَدَقَائِقِهِ فَلَا يَصِلُ رُتْبَةَ الْفَرْضِ (فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَالِمِ) الَّذِي انْقَلَبَ عِلْمُهُ عَلَيْهِ وِزْرًا وَوَبَالًا لِقَلْبِهِ الْمَوْضُوعَ وَعَكْسِهِ الْمَعْقُولَ (أَنْ يَتَكَبَّرَ بِهِ) بِعِلْمِهِ ذَلِكَ (عَلَيْهِ) عَلَى الْجَاهِلِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ رُتْبَةً (وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ فَضِيلَةً مَشْرُوطٌ بِمُقَارَنَةِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَكَوْنُ عَذَابِ الْعَالِمِ الْفَاسِقِ أَشَدَّ مِنْ الْجَاهِلِ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ مِنْ (مَا خُرِّجَ) لَكِنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى وَإِنْ دَلَّ بَعْضُهُ عَلَى التَّمَامِ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ» لِلتَّوَصُّلِ إلَى غَيْرِهِ كَالْجَاهِ وَالْمَالِ وَالْأَمَانِيِّ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدُّنْيَا كَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْحُكَّامِ «أَوْ» لَمْ يَتَعَلَّمْ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ حُصُولِهِ «أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى» كَمَا ذُكِرَ «فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» فَلْيَتَّخِذْ فِيهَا نُزُلًا فَإِنَّهَا دَارُهُ وَقَرَارُهُ وَفِي الْخَبَرِ «مَنْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ لِاكْتِسَابِ الدُّنْيَا وَالرِّفْعَةِ فِيهَا كَمَنْ رَفَعَ الْعَذِرَةَ بِمِلْعَقَةٍ مِنْ يَاقُوتٍ» فَمَا أَشْرَفَ الْوَسِيلَةَ وَمَا أَخَسَّ الْمُتَوَسَّلَ إلَيْهِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى دَاوُد عَلَيَّ نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَك عَالِمًا مَفْتُونًا فَيَصُدَّك عَنْ مَحَبَّتِي، أُولَئِكَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ عَلَى عِبَادِي وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ شَهِدَ بِقَلْبِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَعَّالُ وَأَنَّهُ لَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إلَّا هُوَ وَأَنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ بِيَدِهِ وَأَنَّهُ لَا يَنَالُ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا قُسِمَ لَهُ كَيْفَ يَقْصِدُ بِعِلْمِهِ غَيْرَهُ تَعَالَى فَمَا فِي الْفَيْضِ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى» قَالَ الْمُحَشِّي يَعْنِي الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولَيْنِ وَأَمَّا مَا عَدَاهَا فَجَائِزٌ تَعَلُّمُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَبَعْضُهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ «لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ غَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا» بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَوْ الْمُهْمَلَةِ أَيْ الْمَتَاعَ وَقِيلَ عِوَضًا بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ فَالْوَاوُ «لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا» مِنْ الرَّاوِي، وَفِي الْحَدِيثِ «وَإِنَّ عَرْفَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسَافَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» فَإِمَّا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الدُّخُولِ أَصْلًا إنْ أَوْصَلَهُ إلَى الْكُفْرِ أَوْ أَوَّلًا فَكَامِلُ الْإِيمَانِ لَا يَفْعَلُ مِثْلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ، وَحَدِيثُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَشْكُلُ بِهِ فِي مَقَامِنَا هَذَا فَافْهَمْ (طك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُلَمَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلَانِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ» بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْإِفْتَاءِ وَالْقَضَاءِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَشْمَلَ الْبَذْلَ بِإِظْهَارِ الْعَمَلِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي الْعَمَلِ «وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا» فِي مُقَابَلَةِ تَعْلِيمِهِ أَجْرًا، بَلْ طَلَبَ أَجْرَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا أُجْرَةُ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ وَأَخْذُ وَظَائِفِ الدَّرْسِ وَالْمَدْرَسَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ وَنَحْوِهَا فَقَدْ عُرِفَ مِنْ مَحَلِّهَا «وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا» يَعْنِي لَمْ يَبِعْهُ بِثَمَنٍ مِنْ أَثْمَانِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا، بَلْ طَلَبَ الْجَزَاءَ مِنْ رَبِّ الْجَزَاءِ «فَذَلِكَ» الرَّجُلُ «يَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيتَانُ» جَمْعُ حُوتٍ «الْبَحْرِ» وَكَذَا النَّهْرُ وَالْغَدِيرُ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً إمَّا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْهَا أَمْرٌ مُمْكِنٌ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَمَضْمُونُهُ وَاقِعٌ وَأَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا مَا لَمْ يَصْرِفْ صَارِفٌ قَطْعِيٌّ كَمَا مَرَّ وَقَدْ قَالَ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحشر: 1] ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] ، وَحِكْمَةُ تَسْبِيحِهِمْ لِتَنْفَعَهُمْ بِالْعِلْمِ إذْ بِالْعِلْمِ يُدْرَى أَنَّ الطَّيْرَ لَا يُؤْذَى وَلَا يُقْتَلُ وَلَا يُذْبَحُ إلَّا فِيمَا شُرِعَ وَلَا يُعَذَّبُ بِجُوعٍ وَظَمَإٍ وَحَبْسٍ فِي حَرٍّ وَبَرْدٍ لَا يُطِيقُهُ وَلَا يَجُوزُ الصَّيْدُ لِلتَّلَهِّي كَمَا فِي الْفَيْضِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ نُزُولَ الرَّحْمَةِ إنَّمَا هُوَ بِصَلَاحِ الْعَالِمِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعِلْمِ، وَإِمَّا مَجَازٌ بِمَعْنَى أَنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِعَدَدِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْأَرْضِيَّةِ اسْتِغْفَارَةً مُسْتَجَابَةً حَكَاهُ عَنْ الْحَلِيمِيِّ فِي الْفَيْضِ أَيْضًا لَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ الْعَادِيِّ وَعَلَى تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ فِي إمْكَانِ ذَلِكَ «وَدَوَابُّ الْبَرِّ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ» مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِوُصُولِ بَرَكَةِ الْعِلْمِ إلَيْهِمْ أَوْ تَعْظِيمًا لَهُمْ، وَقِيلَ إنَّ الْحَالَ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ «وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ» تَعَالَى «عِلْمًا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَمْ يُعَلِّمْ وَلَمْ يُدَرِّسْ وَلَمْ يُصَنِّفْ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ وَالْإِمْكَانِ «وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا وَشَرَى بِهِ ثَمَنًا» وَلَوْ قَلِيلًا؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّقْلِيلِ حُكِيَ عَنْ تَاجِ الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ، أَمَّا عِلْمٌ يَكُونُ مَعَهُ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّمَلُّقُ لِأَرْبَابِهَا وَصَرْفُ الْهِمَّةِ إلَى اكْتِسَابِهَا وَالْجَمْعُ وَالِادِّخَارُ وَالْمُبَاهَاةُ وَالِاسْتِكْثَارُ وَطُولُ الْأَمَلِ وَنِسْيَانُ الْآخِرَةِ فَمَا أَبْعَدَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ عِلْمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَلْ يَنْتَقِلُ الشَّيْءُ الْمَوْرُوثُ إلَى الْوَارِثِ إلَّا بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا عِنْدَ الْمَوْرُوثِ عَنْهُ، وَمَثَلُ مَنْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ أَوْصَافُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَثَلِ الشَّمْعَةِ تُضِيءُ عَلَى غَيْرِهَا وَهِيَ تُحْرِقُ نَفْسَهَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ الْعَالِمِ الَّذِي عِلْمُهُ

مَنْ هَذَا وَصِفَتُهُ هَكَذَا حُجَّةً عَلَيْهِ وَسَبَبًا فِي تَكْثِيرِ الْعُقُوبَةِ لَدَيْهِ «فَذَلِكَ يُلْجَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إذْ كُلُّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ إذْ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْجُرْمِ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَانِ الْوُجُوبِ كَالْإِفْتَاءِ عِنْدَ الِاسْتِفْتَاءِ وَالْإِرْشَادِ لَدَى الِاسْتِرْشَادِ وَتَعْلِيمِ عِلْمِ الْحَالِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ «وَيُنَادِي مُنَادٍ هَذَا» لِلتَّحْقِيرِ «الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ» بِالْمَدِّ أَيْ أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى «عِلْمًا» يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ «فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا وَشَرَى بِهِ ثَمَنًا وَذَلِكَ» أَيْ الْإِلْجَامُ «حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْحِسَابِ» مِنْ حِسَابِهِ أَوْ حِسَابِ الْخَلَائِقِ فَيُؤْمَرُ بِهِ بِمَنْزِلِهِ (خ م) الشَّيْخَانِ (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) مُحِبِّ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنِ مُحِبِّهِ وَزَيْدٍ الَّذِي اتَّخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ لَهُ ابْنًا (أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى» يُرْمَى ( «فِي النَّارِ فَيَنْدَلِقُ» يَخْرُجُ سَرِيعًا ( «أَقْتَابُ بَطْنِهِ» أَمْعَاؤُهُ «فَيَدُورُ بِهَا» أَيْ الْأَقْتَابِ ( «كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى» حَوْلَ الطَّاحُونِ لِإِدَارَتِهِ «فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ» وَهُمْ فِي عَذَابٍ «فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَك» حَتَّى نَزَلْت هَذَا الْمَنْزِلَ الْمُهَابَ «أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ» إمَّا لِرَابِطَةٍ عَقْلِيَّةٍ بَيْنَ الْعَذَابِ وَالْعَمَلِ أَوْ لِلْقَرَائِنِ «فَيَقُولُ» ذَلِكَ الرَّجُلُ «بَلَى كُنْت آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ» وَلَكِنْ لَا أَعْمَلُ فِي نَفْسِي بِمَا أَمَرْت بِهِ الْغَيْرَ «وَلَا آتِيهِ» لَا أَفْعَلُ أَنَا «وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ» لَكِنْ أَيْضًا لَمْ أَنْتَهِ عَنْهُ، بَلْ «وَآتِيهِ» قَالَ تَعَالَى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ، لَكِنْ وَإِنْ كَانَ الْإِثْمُ عَظِيمًا عِنْدَ تِلْكَ الْحَالِ لَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِعَدَمِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الْعَمَلُ فَيَأْمُرُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلَعَلَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَمْرِ وَعَدَمِ الْعَمَلِ يَشْتَدُّ الْعَذَابُ (وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ) أَيْ أُسَامَةُ (وَإِنِّي سَمِعْته - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ «مَرَرْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي» إلَى السَّمَاءِ «بِأَقْوَامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ قَالَ خُطَبَاءُ أُمَّتِك» أَيْ وُعَّاظُهُمْ «الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» أَيْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ قِيلَ أَمِيرٌ بِلَا عَدْلٍ كَسَحَابٍ بِلَا غَيْثٍ وَغَنِيٌّ بِلَا سَخَاوَةٍ كَشَجَرٍ بِلَا ثَمَرٍ وَعَالِمٌ بِلَا عَمَلٍ كَسِرَاجٍ بِلَا ضَوْءٍ (طِبّ) الطَّبَرَانِيُّ (نَعَمْ) وَأَبُو نُعَيْمٍ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ

«الزَّبَانِيَةُ أَسْرَعُ إلَى فَسَقَةِ الْقُرَّاءِ» أَيْ فَسَقَةِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ كَمَا وَقَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذَا الْمَخْرَجِ «مِنْهُمْ إلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ» الظَّرْفَانِ مُتَعَلِّقَانِ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ وَالْوَثَنُ بِفَتْحَتَيْنِ الصَّنَمُ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ «فَيَقُولُونَ» أَيْ الْفَسَقَةُ لِلزَّبَانِيَةِ وَالْقَوْلُ لِبَعْضِهِمْ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ إلَخْ «أَيُبْدَأُ بِنَا قَبْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ» تَعَجُّبًا وَإِنْكَارًا مِنْ أَجْلِ أَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَإِنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحَاذِيَ الْكَفَرَةَ فِي الْعَذَابِ فَضْلًا عَنْ السَّبْقِ لَهُمْ «فَيُقَالُ لَهُمْ» مِنْ جَانِبِ الزَّبَانِيَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ النَّاسِ فَإِنْ قِيلَ مُقْتَضَى الْعِلْمِ أَنْ يَعْلَمُوا وَجْهَ الِابْتِدَاءِ بِهِمْ قُلْنَا مُطْلَقُ الْعِلْمِ لَا يَقْتَضِي مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ رُبَّ عَالِمٍ لَا يَعْلَمُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً سِيَّمَا الْأَشْيَاءُ الَّتِي خَفِيَ وَجْهُهَا وَدَقَّ فَهْمُهَا لِعَارِضٍ كَمَا أُشِيرَ أَوْ فِي نَفْسِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَذْهَلَ عَنْهُ لِكَمَالِ دَهْشَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ «لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ» فَإِنَّ الذَّنْبَ وَالْمُخَالَفَةَ تَعْظُمُ بِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْمُخَالِفِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِلتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْنَاقِكُمْ مِنْ الشَّعْرِ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُوبِقَاتِ إذْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى أَتَمَّ فَكَانَ الصَّغَائِرُ عِنْدَهُمْ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ كَبَائِرَ، فَبِهَذَا السَّبَبِ يَعْظُمُ مِنْ الْعَالِمِ مَا لَا يَعْظُمُ مِنْ الْجَاهِلِ وَيُتَجَاوَزُ لَهُ مِنْ الْمَعَاصِي مَا لَا يُتَجَاوَزُ لِلْعَالِمِ فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَشَدِّيَّةَ عَذَابِ الْمُسْلِمِ الْفَاسِقِ مِنْ الْكَافِرِ سِيَّمَا الْمُشْرِكُ الْعَابِدُ لِلْوَثَنِ وَالْإِجْمَاعُ وَصَرِيحُ النُّصُوصِ عَلَى خِلَافِهِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنَّ كَوْنَ الْأَشَدِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَقَطْ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْأَشَدِّيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِفَسَقَةِ الْقُرَّاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ بِنَحْوٍ مِنْ التَّجَوُّزِ وَالْعَلَاقَةُ ظَاهِرَةٌ وَالسَّوْقُ قَرِينَةٌ أَوْ يُرَادُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ جِنْسُ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِنَحْوٍ مِنْ التَّمَحُّلِ أَيْضًا وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ الْمُخَالِفُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ أَوْ الْإِجْمَاعُ مُنْكَرٌ أَوْ مَوْضُوعٌ وَقَدْ قَالَ فِي الْفَيْضِ عَنْ ابْنِ حِبَّانَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ مَوْضُوعٌ وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ غَرِيبٌ وَقِيلَ عَنْ الذَّهَبِيِّ مُنْكَرٌ وَأَيْضًا فِي الْمِيزَانِ كَذَلِكَ لَكِنْ فِي الْفَيْضِ أَيْضًا عَنْ الْمُنْذِرِيِّ لَهُ مَعَ غَرَابَتِهِ شَوَاهِدُ صَحِيحَةٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي ذَاتِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ تِلْكَ الشَّوَاهِدُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ مَعَ مُخَالَفَةِ ظَاهِرِهِ لِلْقِيَاسِ كَمَا عَرَفْت وَأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَاتُ الشَّيْءِ بَاطِلًا فَهَلْ يَصِحُّ بِالْوَصْفِ الْعَرْضِيِّ فَافْهَمْ (حَكَّ) الْحَاكِمُ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) هَكَذَا فِي النُّسَخِ وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ عَلَى الْعِبَادِ» لِحِفْظِهِمْ الشَّرِيعَةَ مِنْ تَحْرِيفِ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ فَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ وَالتَّعْوِيلُ فِي أَمْرِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ، وَالْأُمَنَاءُ جَمْعُ أَمِينٍ وَهُوَ الثِّقَةُ الْحَافِظُ لِمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَوْجَبَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ سُؤَالَهُمْ حَيْثُ قَالَ - {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]- قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَإِذَا كَانُوا أُمَنَاءَهُ عَلَى خَلْقِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَكَفَّلَ كُلُّ عَالِمٍ بِإِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أَوْ مَسْجِدٍ بِتَعْلِيمِ أَهْلِهَا دِينَهُمْ وَتَمْيِيزِ مَا يَضُرُّهُمْ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يُشْقِيهِمْ مِمَّا يُسْعِدُهُمْ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ إلَى أَنْ يُسْأَلَ، بَلْ يَتَصَدَّى لِدَعْوَةِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا النَّاسَ عَلَى جَهْلِهِمْ، بَلْ كَانُوا يُنَادُونَهُمْ فِي الْمَجَامِعِ وَيَدُورُونَ عَلَى دُورِهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَطْلُبُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَيُرْشِدُونَهُمْ فَإِنَّ مَرْضَى الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُونَ مَرَضَهُمْ كَمَا أَنَّ مَنْ ظَهَرَ عَلَى وَجْهِهِ بَرَصٌ لَا يَعْرِفُ بَرَصَهُ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَعَلَى السَّلَاطِينِ أَنْ يُرَتِّبُوا فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ مَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ الْمَرْضَى إذْ لَيْسَ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ إلَّا مَيِّتٌ وَلَا عَلَى ظَهْرِهَا إلَّا سَقِيمٌ وَمَرَضُ الْقُلُوبِ أَكْثَرُ مِنْ مَرَضِ الْأَبْدَانِ وَالْعُلَمَاءُ أَطِبَّاءُ وَالسَّلَاطِينُ قُوَّامُ دِيَارِ الْمَرْضَى فَكُلُّ مَرِيضٍ لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ بِمُدَاوَاةِ الْعَالِمِ سُلِّمَ لِلسُّلْطَانِ لِيَكُفَّ شَرَّهُ عَنْ النَّاسِ كَمَا يُسَلِّمُ الطَّبِيبُ الْمَرِيضَ لِمَنْ يُحِبُّهُ. وَأَيْضًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى رِوَايَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ أُمَّتِي» قَالَ الْفَيْضُ فِي شَرْحِهِ قَالَ الْخَطِيبُ

هَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَهُمْ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عِلْمًا بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ثُمَّ أَطَالَ بِكَلَامٍ لَطِيفٍ لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» فَإِنَّ الرُّسُلَ اسْتَوْدَعُوهُمْ الشَّرَائِعَ الَّتِي جَاءُوا بِهَا وَهِيَ الْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ وَكَلَّفُوا الْخَلْقَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ فَهُمْ أُمَنَاءُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ وَافَقَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ وَوَافَقَ سِرُّهُ عَلَنَهُ كَانَ جَارِيًا عَلَى سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ الْأَمِينُ وَمَنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ فَهُوَ الْخَائِنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ دَرَجَاتٌ فَلِذَلِكَ قَالَ «مَا لَمْ يُخَالِطُوا السُّلْطَانَ» بِلَا مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ ضَرُورِيَّةٍ وَإِلَّا فَقَدْ يَجِبُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ «وَيَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا» لِأَنَّهُمْ إذَا دَخَلُوا فِيهَا تَلَطَّخُوا بِأَقْذَارِهَا وَتَدَنَّسُوا بِأَدْنَاسِهَا. «فَإِذَا دَخَلُوا فِي الدُّنْيَا» الَّتِي حُبُّهَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ «وَخَالَطُوا السُّلْطَانَ» الَّذِي لَا تَخْلُو خُلْطَتُهُ مِنْ الْمُدَاهَنَةِ وَالْخَوْضِ فِي الثَّنَاءِ وَالْإِطْرَاءِ فِي الْمَدْحِ وَفِيهِ هَلَاكُ الدِّينِ إذْ بِهِ يَهْتَزُّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ «فَقَدْ خَانُوا الرُّسُلَ فَاعْتَزِلُوهُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَاحْذَرُوهُمْ» أَيْ خَافُوا مِنْهُمْ وَاسْتَعِدُّوا وَتَأَهَّبُوا لِمَا يَبْدُو مِنْهُمْ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّ تَقَرُّبَهُمْ بِاسْتِمَالَةِ قَلْبِهِ وَتَحْسِينِ قَبِيحِ فِعْلِهِ وَمَا يُوَافِقُ هَوَاهُ وَإِنْ أَخْبَرُوهُ بِمَا فِيهِ نَجَاتُهُ اسْتَثْقَلَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ وَالْعُلَمَاءُ سَادَاتُ النَّاسِ، وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ بِلَا الْتِبَاسٍ مَا لَمْ يَتَنَجَّسُوا بِحُطَامِ الدُّنْيَا فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ سَقَطُوا مِنْ مَرَاتِبِهِمْ الْعَلِيَّةِ وَهَانُوا عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَفِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «تَعَرَّضْت أَوْ تَصَدَّيْت) شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْت لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ غُفْرًا» أَسْأَلُك مَغْفِرَةً «سَلْ عَنْ الْخَيْرِ» لِأَنَّهُ الْأَحَبُّ الْحَرِيُّ أَنْ يُسْأَلَ يَعْنِي سَلْ عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خَيْرًا «وَلَا تَسْأَلْ عَنْ الشَّرِّ» أَيْ عَنْ النَّاسِ لَا عَنْ نَفْسِ الشَّرِّ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْهُ مَمْدُوحٌ وَإِنْ تُوُهِّمَ. ثُمَّ أَجَابَ بِقَوْلِهِ «شِرَارُ النَّاسِ» إنَّمَا أَجَابَ عَنْهُ بَعْدَ مَنْعِ سُؤَالِهِ؛ لِأَنَّ فِي جَوَابِهِ فَوَائِدَ مُهِمَّةً وَمَقَاصِدَ جَمَّةً، وَالْأَقْرَبُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْمَنْعَ الْأَصْلِيَّ بَلْ بَيَانٌ لِلْأَوْلَى وَالْأَحْرَى «شِرَارُ الْعُلَمَاءِ» لِأَنَّهُمْ عَصَوْا رَبَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ، وَالْمَعْصِيَةُ مَعَ الْعِلْمِ أَقْبَحُ مِنْهَا مَعَ الْجَهْلِ قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَثَلُ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ مَثَلُ صَخْرَةٍ وَقَعَتْ عَلَى فَمِ النَّهْرِ لَا تَشْرَبُ وَلَا تَتْرُكُ الْمَاءَ يَخْلُصُ إلَى الزَّرْعِ وَمَثَلُ قَنَاةِ الْبَالُوعَةِ ظَاهِرُهَا جَصٌّ وَبَاطِنُهَا نَتْنٌ وَمَثَلُ الْقُبُورِ ظَاهِرُهَا عَامِرٌ وَبَاطِنُهَا عِظَامُ الْمَوْتَى، وَالْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ هَذَا الْمَخْرَجِ «شِرَارُ أُمَّتِي شِرَارُ الْعُلَمَاءِ فِي النَّاسِ» . (طص) الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ (هَقّ) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ» لِأَنَّ عِصْيَانَهُ

عَنْ إدْرَاكٍ وَلِذَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ لِكَوْنِهِمْ جَحَدُوا بَعْدَ الْعِلْمِ وَكَانَ الْيَهُودُ شَرًّا مِنْ النَّصَارَى لِكَوْنِهِمْ أَنْكَرُوا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْظَمَهُمْ ثَوَابًا عَالِمٌ يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَالْعِلْمُ لَا يُهْمِلُ الْعَالِمَ بَلْ يُهْلِكُهُ هَلَاكَ الْأَبَدِ أَوْ يُحْيِيهِ حَيَاةَ الْأَبَدِ فَمَنْ لَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ لَا يَنْجُو مِنْهُ رَأْسًا بِرَأْسٍ فَهَيْهَاتَ خَطَرُهُ عَظِيمٌ وَطَالِبُهُ طَالِبُ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالْعَذَابُ السَّرْمَدُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمِلْكِ أَوْ الْهَلَكِ فَهُوَ كَطَالِبِ الْمُلْكِ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ الْإِصَابَةُ لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّلَامَةِ وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ إنَّمَا كَانَ عَذَابُهُ أَشَدَّ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَعْلَمُ لَذَّةَ الْوُصُولِ بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَيَزِيدُ عَذَابُ الْعَالِمِ بِعَذَابِ عَدَمِ الْوُصُولِ عَلَى عَذَابِ الْجَاهِلِ بِالْعَذَابِ الْحِسِّيِّ وَقَدْ قَالُوا الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ أَبْلَغُ مِنْ الْجُسْمَانِيِّ ثُمَّ قَالَ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْمُنْذِرِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَالذَّهَبِيِّ هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ غَرِيبٌ سَنَدًا وَمَتْنًا وَعَنْ الْغَيْرِ مَتْرُوكٌ، وَعَنْ ابْنِ عَدِيٍّ فِيهِ عُثْمَانُ بْنُ مِقْسَمٍ وَعَامَّةُ حَدِيثِهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ إسْنَادًا وَمَتْنًا فَالِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ إلَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِإِتْيَانِهِ مُجَرَّدُ التَّأْيِيدِ لَا الدَّلِيلُ مُسْتَقِلًّا، نَعَمْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ أَصِيلٌ إذْ فِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ مَرْفُوعًا «أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ وَالْمُصَوِّرُونَ وَعَالِمٌ لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ» ، ثُمَّ قَالَ فَلَوْ عَزَاهُ الْمُؤَلِّفُ كَانَ أَحْسَنَ وَأَنَا أَقُولُ فَلَوْ عَزَاهُ هَذَا الْمُؤَلِّفُ أَيْضًا لَكَانَ أَقْوَمَ مِنْهُ فِي الْحُسْنِ لِكَوْنِ هَذَا الْمَقَامِ مَقَامَ الِاحْتِجَاجِ وَإِثْبَاتُ الْمُدَّعَى دُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (حَدّ) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ) قِيلَ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ (أَنَّهُ قَالَ «نُبِّئْت» أَيْ أُخْبِرْت يَعْنِي أَخْبَرَنِي بَعْضٌ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَإِلَّا فَجِنْسُ مِثْلِ هَذَا الْمَطْلَبِ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالرَّأْيِ وَالدِّرَايَةِ، بَلْ مِنْ النَّقْلِيَّةِ «أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ يَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ» الْمُنْتِنِ «فَيُقَالُ لَهُ» أَيْ مِنْ الْمُجَاوِرِ لَهُ فِي الْعَذَابِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الظَّاهِرُ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ أَمْكَنَ الْإِطْلَاقُ سِيَّمَا بِنَحْوِ بَعْضِ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ «وَيْلَك مَا كُنْت تَعْمَلُ» فِي الدُّنْيَا «أَمَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ» مِنْ الْعَذَابِ «حَتَّى اُبْتُلِينَا بِك وَبِنَتْنِ رِيحِك، فَيَقُولُ كُنْت عَالِمًا فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي» لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ وَيْلَك مَعَ قَوْلِهِ أَمَا يَكْفِينَا إلَى آخِرِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ الِاسْتِفْهَامِ لِنَحْوِ التَّوْبِيخِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِرَادَتُهُمَا جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ فَائِدَةَ السُّؤَالَ إنَّمَا تَكُونُ لِنَحْوِ الِانْزِجَارِ وَالِاعْتِبَارِ أَوْ لِإِخْطَارِ الْمَضَرَّةِ لِئَلَّا يَعُودَ إلَى مِثْلِهِ وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي تِلْكَ الدَّارِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ السُّؤَالُ الْحَقِيقِيُّ وَالتَّوْبِيخُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ، بَلْ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ لَا يَحْسِمُ مَادَّةَ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ تَفْضِيحِ هَذَا الْعَالِمِ وَتَخْجِيلِهِ وَلِزِيَادَةِ عَذَابٍ عَلَى عَذَابِهِ لَا يُنَاسِبُ كَوْنَ السَّائِلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ هَذَا النَّتْنِ تَعْذِيبٌ لَهُمْ بِمَا اسْتَحَقُّوا مِنْ مَعَاصِيهِمْ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَالِاحْتِجَاجُ بِمُطْلَقِ الْمُرْسَلِ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَكَلَامٌ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ لَا يَكُونُ الْمَرْءُ عَالِمًا) مُعْتَدًّا بِهِ مَرْضِيًّا بِعِلْمِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ (حَتَّى يَكُونَ بِعِلْمِهِ عَامِلًا) فَالْعِلْمُ إنَّمَا يَنْفَعُ بِالْعَمَلِ كَإِبْلِيسَ عَالِمٌ بِدَقَائِقِ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ لِعَدَمِ عَمَلِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي النَّصَائِحِ الْوَلَدِيَّةِ أَيُّهَا الْوَلَدُ لَا تَكُنْ مِنْ الْأَعْمَالِ مُفْلِسًا وَمِنْ الْأَحْوَالِ خَالِيًا تَيَقَّنْ أَنَّ الْعِلْمَ الْمُجَرَّدَ لَا يَأْخُذُ الْيَدَ مِثَالُهُ لَوْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ فِي بَرِّيَّةٍ عَشَرَةُ أَسْيَافِ

هِنْدٍ مَعَ أَسْلِحَةٍ أُخْرَى وَكَانَ الرَّجُلُ شُجَاعًا وَأَهْلَ حَرْبٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَسَدٌ مَهِيبٌ مَا ظَنُّك هَلْ تَدْفَعُ الْأَسْلِحَةُ شَرَّهُ بِلَا اسْتِعْمَالِهَا وَضَرْبِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا لَا تَدْفَعُ إلَّا بِالتَّحْرِيكِ وَالضَّرْبِ فَكَذَا لَوْ قَرَأَ مِائَةَ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَتَعَلَّمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا لَا تُفِيدُهُ إلَّا بِالْعَمَلِ وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ حَرَارَةٌ وَمَرَضٌ صَفْرَاوِيٌّ يَكُونُ عِلَاجُهُ بِالسَّكَنْجَبِينِ وَالْكُشْكَابِ فَلَا يَحْصُلُ الْبُرْءُ إلَّا بِاسْتِعْمَالِهِمَا كيرم وهزار جام مي بيمابي تامي نخوري بشدت شيدابي وَلَوْ قَرَأْت الْعِلْمَ أَلْفَ سَنَةٍ وَجَمَعْت أَلْفَ كِتَابٍ لَا تَكُونُ مُسْتَعِدًّا لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالْعَمَلِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ (حك) حَاكِمٌ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِبَادٌ» جَمْعُ عَابِدٍ «جُهَّالٌ» جَمْعُ جَاهِلٍ يَعْنِي يُكْثِرُونَ الْعِبَادَةَ لَكِنْ مَعَ جَهْلِ أَحْوَالِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ «وَعُلَمَاءُ فُسَّاقٌ» يَتَجَاسَرُونَ عَلَى الْفِسْقِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الْعِلْمِ الِامْتِنَاعُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَصَمَ رَجُلَانِ ظَهْرَيْ عَالِمٍ مُتَهَتِّكٍ وَجَاهِلٍ مُتَنَسِّكٍ وَعَنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: فَسَادٌ كَبِيرٌ عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ ... وَأَكْبَرُ مِنْهُ جَاهِلٌ مُتَنَسِّكُ . هُمَا فِتْنَةٌ فِي الْعَالَمِينَ عَظِيمَةٌ ... لِمَنْ بِهِمَا فِي دِينِهِ يَتَمَسَّكُ وَمِنْ جُمْلَةِ فِسْقِهِمْ اخْتِلَاطُهُمْ بِعَوَامِّ النَّاسِ قَالَ سُفْيَانُ فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُ فِيهِ إلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ لِلْمُلُوكِ وَعَنْهُ أَيْضًا كُنْت تَكَلَّمْت فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَجْهًا فَأَكَلْت لُقْمَةً مِنْ يَدِ السُّلْطَانِ فَنَسِيت ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ شُؤْمِ تِلْكَ اللُّقْمَةِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الذُّبَابُ عَلَى الْعَذِرَةِ أَحْسَنُ مِنْ قَارِئٍ عَلَى بَابِ هَؤُلَاءِ (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا» سَوَاءٌ عَمَّنْ طَلَبَهُ أَوْ لَمْ يَطْلُبْهُ وَلَكِنْ اقْتَضَى الْحَالُ تَعْلِيمَهُ «مِمَّا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» جَزَاءً وِفَاقًا الْمُرَادُ هُوَ الْعِلْمُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الشَّرْعِ أَوْ الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ تَوَقُّفَ وُجُودٍ كَعِلْمِ الْكَلَامِ أَوْ كَمَالٍ كَالنَّحْوِ وَالْمَنْطِقِ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا عَنْ أَهْلِهِ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِجَامًا مِنْ نَارٍ» هُوَ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النُّصُوصِ يُفَسِّرُ بَعْضَهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ كَالْحَلِيمِيِّ لَا الْمُطْلَقُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُطْلَقٌ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ، وَالْحَدِيثِ نَصَّ فِي تَحْرِيمِ الْكَتْمِ وَإِنْ خَصَّهُ بَعْضٌ بِمَا يَلْزَمُهُ أَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ عَنْ أَهْلِهِ مَنْ كَتَمَهُ عَنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَمَطْلُوبٌ، بَلْ وَاجِبٌ فَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ وَلَمْ يُجِبْ، فَقَالَ السَّائِلُ أَمَا سَمِعْت خَبَرَ «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا عَنْ أَهْلِهِ» إلَخْ اُتْرُكْ اللِّجَامَ وَاذْهَبْ فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَفْقَهُهُ فَكَتَمْته فَيُلْجِمُنِي وقَوْله تَعَالَى - {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]- تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الْعِلْمِ عَمَّنْ يُفْسِدُهُ أَوْ يَضُرُّ بِهِ أَوْلَى وَلَيْسَ الظُّلْمُ فِي إعْطَاءِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ بِأَقَلَّ مِنْ الظُّلْمِ فِي مَنْعِ الْمُسْتَحِقِّ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ حَبْسَ كُتُبِ الْعِلْمِ فِي صُورَةِ الْكَتْمِ سِيَّمَا إنْ عَزَّتْ نُسْخَتُهُ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ إيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ، قِيلَ وَمَا غُلُولُهَا قَالَ حَبْسُهَا، كَذَا فِي الْفَيْضِ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ: فَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ. (ز) الْبَزَّارُ (طط) طَبَرَانِيٌّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَظْهَرُ» يَغْلِبُ «الْإِسْلَامُ» عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ «حَتَّى يَخْتَلِفَ» يَجْرِيَ «التُّجَّارُ فِي الْبَحْرِ» سَلِيمًا وَأَمِينًا «وَحَتَّى يَخُوضَ» يَشْرَعَ «الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَظْهَرُ قَوْمٌ» يُرَاءُونَ، ن وَيَتَكَبَّرُونَ

«يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَقُولُونَ مَنْ أَقْرَأُ مِنَّا مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا مَنْ أَفْقَهُ مِنَّا» كُلُّ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ «أُولَئِكَ» الْإِشَارَةُ لِلتَّحْقِيرِ «مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ «وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ» الْوَقُودُ مَا يُوقَدُ بِهِ النَّارُ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لَا أَعْلَمُهُ) أَيْ الْحَدِيثَ الْآتِي (إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ قَالَ إنِّي عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ» لِأَنَّ الْعَالِمَ لَا يَدَّعِي الْعِلْمَ وَمُدَّعِي الْعِلْمِ لَا يَكُونُ عَالِمًا. وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ مَنْ رَأَيْته مُجِيبًا عَنْ كُلِّ مَا سُئِلَ وَمُعَبِّرًا لِكُلِّ مَا شَهِدَ وَذَاكِرًا لِكُلِّ مَا عَلِمَ فَاسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَهْلِهِ، وَدَعْوَى عَدَمِ الْعِلْمِ مِنْ الْعَالِمِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ عِلْمِهِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت صُدُورَ لَا أَدْرِي مَنْ أَفْضَلُ الْبَشَرِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ وَالتَّسْلِيمَةِ حِينَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ، وَجَبْرَائِيلُ أَيْضًا حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُ حَتَّى سُئِلَ مِنْ اللَّهِ فَأَجَابَ بِالْمَسَاجِدِ وَفِي شِفَاءِ عِيَاضٍ «حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] سَأَلَ جَبْرَائِيلُ عَنْ تَأْوِيلِهَا فَقَالَ حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ ثُمَّ ذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك، وَقَالَ لَهُ {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] » انْتَهَى وَأَيْضًا حِينَ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَالَ لَا أَدْرِي، فَقِيلَ لَهُ أَمَّا تَسْتَحْيِي وَأَنْتَ مُفْتِي الْعِرَاقِيِّينَ، فَقَالَ إنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا {لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32] فَكَيْفَ أَنَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا لَا أَدْرِي فَقِيلَ أَنْتَ تَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَذَا فَكَيْفَ تَقُولُ لَا أَدْرِي فَقَالَ آكُلُ عَلَى قَدْرِ عِلْمِي وَلَوْ أَكَلْت عَلَى قَدْرِ جَهْلِي مَا كَفَانِي مَالُ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا، وَمِثْلُهَا عَنْ عِيَاضٍ وَعَنْ الْغَيْرِ وَلَعَلَّك سَمِعْته مَعَ زِيَادَةٍ فَارْجِعْ وَنُقِلَ عَنْ الْحِكَمِ الْعَطَائِيَّةِ لَأَنْ تَصْحَبَ جَاهِلًا لَا يَرْضَى عَنْ نَفْسِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ عَالِمًا يَرْضَى عَنْ نَفْسِهِ لَعَلَّ الْمَنْعَ عِنْدَ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالتَّكَبُّرِ وَنَحْوِهِمَا وَإِلَّا فَعِنْدَ الْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ فَيَجُوزُ. قَالَ الْمُصَنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا أَدْرِي عَالِمًا مُنْصِفًا) فَإِنَّ غَيْرَ الْمُنْصِفِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ (إذَا نَظَرَ وَتَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ أَنَّهَا بَرِيئَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ) الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَخْبَارِ (بَلْ الظَّنُّ) الْغَالِبُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْيَقِينِ (أَنْ يَحْكُمَ) ذَلِكَ الْعَالِمُ (عَلَيْهَا) عَلَى نَفْسِهِ (بِهَا) بِهَذِهِ الْآفَاتِ الْمُهْلِكَاتِ (أَوْ بِبَعْضِهَا) كَمَا قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ أَيُّهَا الْعَالِمُ قَالَ لَسْت بِعَالِمٍ إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ، قَالَ الْغَزَالِيُّ الْعِلْمُ لَا يُبْعِدُ عَنْ الْمَعَاصِي وَلَا يَحْمِلُ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَنْ يُبْعِدَ غَدًا عَنْ نَارِ جَهَنَّمَ (فَتَكَبُّرُهُ بِالْعِلْمِ جَهْلٌ مَحْضٌ) لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَدَّ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ آلَةً لِلتَّوَاضُعِ لَا لِلْكِبْرِ قِيلَ لَيْتَ شِعْرِي مَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ وَسَمِعَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ قَوْلِهِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» كَيْفَ يُعَظِّمُ نَفْسَهُ وَيَتَكَبَّرُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي النَّارِ، وَالْعَظِيمُ مَنْ خَلَا مِنْ النَّارِ. وَثَانِيَةُ الْمَعْرِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتْ أُولَاهُمَا مَعْرِفَةَ فَضْلِ الْعَالِمِ يَعْنِي الثَّانِي فِي عِلَاجِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْكِبْرِ (أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ الْعِبَادِ حَرَامٌ وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى)

كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إزَارِي» وَقَالَ «إنَّ لَك عِنْدِي قَدْرًا مَا لَمْ تَرَ لِنَفْسِك قَدْرًا فَإِنْ رَأَيْت لِنَفْسِك قَدْرًا فَلَا قَدْرَ لَك» وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا مِنْ الدِّينِ فَاسْمُ الْعَالِمِ عَلَيْهِ كَذِبٌ وَمَنْ عَلِمَهُ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَتَكَبَّرَ وَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ قَدْرًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ مَا يُحِبُّ مَوْلَاهُ (وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْعَالِمَ بَرِيءٌ مِنْ الْآفَاتِ الْمَذْكُورَةِ) كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَطَبْعَهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بِأَنْ يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ عَلَى وَجْهِ الْخُلُوصِ وَالنَّشْرِ كَذَلِكَ (وَأَنَّ لِعِلْمِهِ فَضْلًا) أَيْ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ لِعِلْمِهِ فَضْلًا لِسَلَامَتِهِ مِنْ آفَاتِهِ (فَعِلْمُهُ يُورِثُ خَشْيَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] اقْتِبَاسٌ وَدَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ (وَ) يُورِثُ (تَوَاضُعًا لَا جَرَاءَةً عَلَى) مَعْصِيَةِ (اللَّهِ) تَعَالَى (وَأَمْنًا مِنْهُ) فِيهِ كَلَامٌ فَتَأَمَّلْ (وَكِبْرًا عَلَى عِبَادِهِ وَعُجْبًا) لِنَفْسِهِ ذِكْرُ الْعُجْبِ هُنَا تَطَفُّلِيٌّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ اسْتِلْزَامَ الْكِبْرِيَاءِ أَوْ عَكْسَهُ (فَلِذَا) أَيْ لِأَجْلِ إيرَاثِ الْعِلْمِ الْخَشْيَةَ وَالتَّوَاضُعَ (صَارَ الْأَنْبِيَاءُ مُتَوَاضِعِينَ) لِعِبَادِهِ تَعَالَى (خَاشِعِينَ) مِنْ جَنَابِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ ازْدَادَتْ الْخَشْيَةُ وَالتَّوَاضُعُ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ (لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كِبْرٌ وَلَا عُجْبٌ) أَصْلًا فَلَوْ كَانَ الْكِبْرُ جَائِزًا لِغَيْرِهِ تَعَالَى لَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ أَكْثَرَ كِبْرًا فَإِذَا كَانَ حَرَامًا لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ تَعَالَى (فَحَقُّ الْعَبْدِ) يَبْتَهِلُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ (أَنْ لَا يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ) مِنْ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَالْفُسَّاقِ وَالْفُجَّارِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْمُصَنِّفِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ فَإِنَّ «التَّكَبُّرَ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ» . (فَإِنْ نَظَرَ) الْعَالِمُ (إلَى جَاهِلِ) تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ عَدَمِ التَّكَبُّرِ عَلَى أَحَدٍ (يَقُولُ هَذَا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى بِجَهْلٍ وَأَنَا عَصَيْته بِعِلْمٍ) لِأَنَّ الْكَيِّسَ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا يَقْضِ مِنْ أَمْرِهِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّهُ التَّسْلِيمُ الْمَذْكُورُ آنِفًا (فَهَذَا) أَيْ هَذَا الْجَاهِلُ (أَعْذَرُ مِنِّي) أَقْرَبُ إلَى كَوْنِهِ مَعْذُورًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعِصْيَانَ مَعَ الْعِلْمِ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ مِنْهُ مَعَ الْجَهْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْجَهْلُ عُذْرًا (وَإِنْ نُظِرَ إلَى عَالِمٍ يَقُولُ هَذَا عِلْمُ مَا لَمْ أَعْلَمْ) مِنْ الْمُهِمَّاتِ الدِّينِيَّةِ (فَكَيْفَ أَكُونُ مِثْلَهُ) وَأَيْضًا يَقُولُ هَذَا يُؤَدِّي حَقَّ عِلْمِهِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْخُلُوصِ وَأَنَا لَسْت كَذَلِكَ لَكِنْ لِكَوْنِ الْكَلَامِ مَعَ نَفْسِ الْعِلْمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ إلَى جِهَةِ عَمَلِهِ لَكِنْ إنْ كَانَ سَابِقِيَّةُ عِلْمِ النَّاظِرِ أَوْضَحَ وَأَظْهَرَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ كَالْمُدَاهَنَةِ فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ (وَإِنْ نَظَرَ إلَى أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا يَقُولُ إنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلِي وَإِنْ نَظَرَ إلَى أَصْغَرَ) سِنًّا مِنْهُ (يَقُولُ إنِّي عَصَيْت اللَّهَ قَبْلَهُ)

فَيَكُونُ جُرْمِي أَكْثَرَ مِنْهُ فَكَيْفَ أَكُونُ مِثْلَهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَإِنْ نَظَرَ إلَى مُسَاوِيهِ سِنًّا يَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِحَالِي وَلَا أَعْلَمُ، وَالْمَعْلُومُ أَوْلَى بِالتَّحْقِيرِ مِنْ الْمَجْهُولِ) . نُقِلَ هُنَا عَنْ رِعَايَةِ الْمُحَاسِبِيِّ مَا حَاصِلُهُ النَّاسُ عِنْدَك إمَّا مَسْتُورٌ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْك عِنْدَك لِتَيَقُّنِك مَكْرُوهَك دُونَهُ وَإِمَّا قَلِيلُ الذَّنْبِ مِنْ ذُنُوبِك فِي طُولِ عُمُرِك فَأَفْضَلُ مِنْك عِنْدَك وَإِمَّا كَثِيرُ الذَّنْبِ عِنْدَك مِنْك وَلَا شَكَّ أَنَّك تُفَارِقُهُ فِي عُمُرِك وَلَا تُفَارِقُ عَنْ نَفْسِك فَيَجُوزُ عَدَمُ عِصْيَانِهِ عِنْدَ عَدَمِ وُقُوفِك عَلَى حَالِهِ وَأَنْتَ تَعْرِفُ نَفْسَك أَنَّك لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ مَعْصِيَةٍ مَا فِي وَقْتٍ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِك وَلَسْت بِمُطَّلِعٍ عَلَى ضَمِيرِهِ فَذُنُوبُك عِنْدَك فِي الْحَقِيقَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَأَمَّا عِظَمُ الذُّنُوبِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ الْغَيْرِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَاللُّوَاطَةِ وَالْخَمْرِ مَعَ عَدَمِهَا مِنْك فَذَلِكَ الْغَيْرُ إمَّا لَيْسَ بِعَالِمٍ فَالْخَوْفُ عَلَيْك مَعَ عِلْمِك لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِك أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِجَوَازِ الْعُذْرِ بِالْجَهْلِ فَلَا كِبْرَ بِذَلِكَ أَوْ عَالِمٌ فَاللَّازِمُ عَلَيْك هُوَ الشُّكْرُ لَهُ تَعَالَى عَلَى عِصْمَتِك مِنْ مِثْلِهَا مَعَ إمْكَانِ صُدُورِهَا مِنْك وَعَلَيْك الْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَعَلَيْك الْخَوْفُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَى مِثْلِ مَا وَقَعَ هُوَ عَلَيْهِ وَمِمَّا يُحْتَمُ عَلَيْك وَالْحَالُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَمَ هُوَ بِخَيْرٍ وَأَنْتَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنْتَ إنَّمَا مُوَكَّلٌ عَلَى نَفْسِك دُونَهُ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يُقْبَلَ صَالِحُ أَعْمَالِك وَيُقْبَلَ صَالِحُ عَمَلِهِ مِنْهُ فَيُغْفَرُ لَهُ دُونَك عَلَى أَنَّك لَا تَأْمَنُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي مُفْسِدِ الْأَعْمَالِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ حَالَك فِي عِلْمِهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَقِيًّا عِنْدَهُ وَهُوَ سَعِيدٌ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْك الْخَوْفُ مِنْ ذَنْبِ غَيْرِك، بَلْ ذَنْبُك {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] فَأَنْتَ عَلَى الْخَوْفِ عَلَى الْغَيْرِ وَاَللَّهُ رَاضٍ عَنْهُ وَلَمْ يَرْضَ عَنْك وَكَمْ مِنْ رَاحِمٍ لِلْغَيْرِ لِعِصْيَانِهِ قَدْ رَجَعَ إلَى الْمَعَاصِي حَتَّى مَاتَ عَلَيْهَا وَتَابَ الْمَرْحُومُ وَمَاتَ عَلَيْهَا فَالْخَوْفُ عَلَى نَفْسِك أَوْلَى بِك مِنْ الْخَوْفِ عَلَى غَيْرِك وَإِذَا نَظَرْت إلَى الْغَيْرِ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ عَلَى ظَنِّ خَيْرِيَّتِك مِنْهُ ذَاهِلًا عَمَّا سَلَفَ مِنْ فَرَطَاتِك وَجَاهِلًا حَالَك عِنْدَ خِتَامِك فَقَدْ جَمَعْت بَيْنَ غَضَبِ اللَّهِ وَالْكِبْرِ. (وَإِنْ نَظَرَ) ذَلِكَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ (إلَى مُبْتَدِعٍ) كَصَاحِبِ الْهَوَى (أَوْ كَافِرٍ) لَا يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَ (يَقُولُ مَا يُدْرِينِي) أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُنِي دَارِيًا وَعَالِمًا بَكَوْنِي خَيْرًا مِنْهُ (لَعَلَّهُ يُخْتَمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ وَيُخْتَمُ لِي بِمَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ) مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْكُفْرِ، فَلَيْسَ دَوَامُ الْهِدَايَةِ إلَيَّ كَمَا لَمْ يَكُنْ ابْتِدَاؤُهَا إلَيَّ وَلَيْسَ لَهُ دَوَامُ الشَّقَاوَةِ كَذَلِكَ فَبِمُلَاحَظَةِ الْخَاتِمَةِ يُنْفَى الْكِبْرُ وَعَنْ رِعَايَةِ الْمُحَاسِبِيِّ مَا حَاصِلُهُ وَعُصَارَتُهُ فَإِنْ قُلْت إنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ خُصَمَاءُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِمَّتُهُمْ إطْفَاءُ أَنْوَارِ السُّنَّةِ وَإِحْيَاءُ أَسَاسِ الضَّلَالَةِ وَمَذَلَّةُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالِافْتِرَاءُ بِالتَّأْوِيلِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا بُغْضُهُمْ وَنَحْنُ نَعْرِفُ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْعِصْمَةِ مِنْ التَّدَيُّنِ بِمِثْلِ أَدْيَانِهِمْ قُلْت نَعَمْ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ قَلْبُك نَاسِيًا لِمَا فَرَّطْت مِنْ الذُّنُوبِ وَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّك مِنْ عِلْمِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ بِالشَّقَاوَةِ أَوْ السَّعَادَةِ أَوْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ فَلَا قَطْعَ لَك أَنَّك خَيْرٌ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّك نَاجٍ وَأَنَّهُمْ الْهَالِكُونَ وَعِلْمُهُ تَعَالَى غَيْبٌ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَمُوتَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَهُمْ مَيِّتُونَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِك مَا هُمْ عَلَيْهِ عِيَاذًا بِهِ تَعَالَى فَاسْتِصْغَارُهُمْ وَظَنُّ النَّجَاةِ فِي نَفْسِك تَكَبُّرٌ فِي نَفْسِك وَاغْتِرَارٌ بِرَأْيِك. ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قُلْت إنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ وَإِنْ كَانُوا ضَالِّينَ، لَكِنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمَحْضُ فَلَا يَمْتَنِعُ قَلْبِي أَنْ أَكُونَ خَيْرًا مِنْهُ لِلْقَطْعِ فِي إيمَانِي مَعَ الْقَطْعِ فِي كُفْرِهِ وَأَنَا فِي احْتِمَالِ الْمَآلِ وَإِنْ كُنْت مُتَسَاوِيًا مَعَهُ لَكِنْ فِي اعْتِبَارِ الْحَالِ لَا ارْتِيَابَ فِي فَضْلِي عَلَيْهِ قُلْت نَعَمْ لَكِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَيَمُوتَ وَهُوَ أَعْبَدُ أَهْلِ زَمَانِهِ وَتَمُوتَ أَنْتَ أَكْفَرُ أَهْلِ زَمَانِك وَالْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ مُمْتَنِعٌ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ كَوْنِ نَحْوِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَبِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى الْأَيْمَانِ يَنْظُرُونَ إلَى نَحْوِ عُمَرَ وَيَعْرِفُونَهُ ضَالًّا وَكَافِرًا وَلَا يَدْرُونَ بِمَا يُخْتَمُ لَهُ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ فَاقَ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ وَلَا يَعْلَمُونَ إكْرَامَهُ تَعَالَى إيَّاهُ وَكَانَ هُوَ كَافِرًا وَقَدْ ارْتَدَّ قَوْمٌ أَسْلَمُوا عَلَى عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُتِلُوا وَمَاتُوا كُفَّارًا وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ كَافِرًا وَهُوَ مُؤْمِنُونَ وَقُتِلُوا شُهَدَاءَ وَمَاتُوا عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنْ خِفْت الْخَاتِمَةَ وَالْعَاقِبَةَ فَلَنْ يَغْلِبَ عَلَى

قَلْبِك نَجَاتُك وَقَدْ اُحْتُمِلَ مَوْتُك عَلَى الْكُفْرِ وَهُمْ مَيِّتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَا جَرَمَ بَعْدَ مِثْلِ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ تَنْفِي الْكِبْرَ وَالِاغْتِرَارَ. (وَإِنْ نَظَرَ) ذَلِكَ الصَّالِحُ (إلَى كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ أَوْ نَحْوِهَا) مِمَّا يُرَى شَرًّا مَحْضًا وَمُؤْذِيًا وَمُضِرًّا أَقُولُ بَعْدَمَا ذُكِرَ قِيلَ لَا حَاجَةَ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ إذْ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِمَّا قَبْلَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَالْأَوْلَى إمَّا أَنْ لَا يَذْكُرَ أَوْ يَذْكُرَ قَبْلَ ذَلِكَ لَعَلَّ الْمَقَامَ لِكَوْنِهِ مُوجِبًا لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ لَمْ يَكْتَفِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، بَلْ اعْتَنَى بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَالصَّرَاحَةِ (يَقُولُ هَذَا لَمْ يَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا عِتَابَ وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ وَأَمَّا أَنَا عَصَيْته فَأَنَا مُسْتَحِقٌّ لَهُمَا) الْعِتَابِ وَالْعَذَابِ (فَيَكُونُ مَصْرُوفَ الْهَمِّ إلَى نَفْسِهِ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِعَيْبِهِ لِخَوْفِهِ لِعَاقِبَتِهِ) مُعْرِضًا (عَنْ عَيْبِ غَيْرِهِ) . (فَإِنْ قُلْت كَيْفَ أَبْغُضُ الْمُبْتَدِعَ وَالْفَاسِقَ فِي اللَّهِ تَعَالَى) مُتَعَلِّقٌ بِأَبْغَضُ (وَ) الْحَالُ أَنِّي (قَدْ أُمِرْت بِهِ) بِبُغْضِهِمَا (فَكَيْفَ أَنْهَاهُمَا عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ رُؤْيَةِ نَفْسِي دُونَهُمَا) وَجَمْعُهُمَا تَنَافٍ وَأَيْضًا كُفْرُ الْكَافِرِ حَالًا ثَابِتٌ قَطْعًا وَإِيمَانُ الْمُؤْمِنِ حَالًا ثَابِتٌ أَيْضًا قَطْعًا بَعْدَ فَرْضِ تَسْلِيمِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْخَاتِمَةِ يَعْنِي اسْتِوَاءَ احْتِمَالِ خِتَامِ الْكَافِرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَخِتَامِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يُخْتَمَ كُلُّ مَا هُوَ عَلَيْهِ حَالًا وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِيمَانِ الْحَالِيِّ (قُلْت تُبْغِضُ وَتَنْهَى) عَمَّا هُمَا عَلَيْهِ لَا لِتَعَلِّيكَ وَتَرَفُّعِكَ عَلَيْهِ، بَلْ (لِمَوْلَاك إذْ أَمَرَك بِهِمَا) بِالْبُغْضِ وَالنَّهْيِ (لَا لِنَفْسِك وَ) الْحَالُ (أَنْتَ فِيهِمَا لَا تَرَى نَفْسَك نَاجِيًا وَصَاحِبَك هَالِكًا) فِي الْبُغْضِ وَالنَّهْيِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَمَلَ نَفْسِهِ وَانْتِهَاءَهُ وَإِنْ تَمَّ عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُهُمَا لَكِنْ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَصَحَّ هُوَ الثَّانِي وَلَوْ عِنْدَ بَعْضٍ (بَلْ يَكُونُ خَوْفُك عَلَى نَفْسِك بِمَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَفَايَا ذُنُوبِك) كَالرِّيَاءِ الْخَفِيِّ (أَكْثَرَ مِنْ خَوْفِك عَلَيْهِمَا) عَلَى الْمُبْتَدِعِ وَالْكَافِرِ لَا يَخْفَى أَنَّ خَفَايَا الذُّنُوبِ احْتِمَالٌ وَالْبِدْعَةُ وَالْكُفْرُ قَطْعِيٌّ وَالِاحْتِمَالُ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ (مَعَ الْجَهْلِ بِالْخَاتِمَةِ) أَمْرٌ احْتِمَالِيٌّ وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَإِنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ مِنْ قَبِيلِ الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ وَمِنْ قَوَاعِدِهِ أَيْضًا الْأَصْلُ الْعَدَمُ فِي الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ وَمِنْهَا أَيْضًا اسْتِدَامَةُ الشَّيْءِ تُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ فَالْأَصْلُ دَوَامُ الْحَالَةِ الْأُولَى مِنْ الْإِيمَانِ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكُفْرِ فِي الْكَافِرِ فَالْغَالِبُ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ مَا هُمَا عَلَيْهِ حَالًا فَلَعَلَّ الْجَوَابَ الْحَاسِمَ لِمَوَادِّ الْإِشْكَالِ جَمِيعًا أَنْ يُقَالَ إنَّ حُرْمَةَ الْكِبْرِ إنَّمَا هِيَ لِكَوْنِهِ صِفَةً مُخْتَصَّةً بِهِ تَعَالَى لَا لِنَحْوِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَسْبَابِ وَأَنَّ صُدُورَ مِثْلِ هَذِهِ الْفَضَائِلِ لَيْسَ الْعَبْدُ فِيهِ مُسْتَقِلًّا، بَلْ إنَّمَا هُوَ بِتَوْفِيقِهِ تَعَالَى مَحْضًا وَأَنَّ التَّكَبُّرَ بِجِنْسِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ إنَّمَا هُوَ رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَأَنَّ النُّصُوصَ لَيْسَتْ بِمُعَلَّلَةٍ وَلَوْ عِنْدَ بَعْضٍ وَقَدْ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ تَعَبُّدِيٌّ لَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لَهُ عِلَّةٌ وَوَجْهٌ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ أَنْ لَا يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ وَلَوْ كَافِرًا ثُمَّ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ مِثَالًا جُزْئِيًّا لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ لَا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قِيَاسِ الْمَعْقُولِ عَلَى الْمَحْسُوسِ عَلَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ بِضَعِيفٍ كُلَّ الضَّعْفِ، فَقَالَ (فَتَكُونُ كَغُلَامٍ مَلَكَ أَمْرَهُ) أَيْ الْمَلِكُ أَمَرَ غُلَامَهُ (بِمُرَاقَبَةِ) مُحَافَظَةِ (وَلَدِهِ) الَّذِي لَهُ عِنْدَهُ مَكَانَةٌ رَفِيعَةٌ سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغُلَامِ (وَ) أَمْرُهُ بِ (الْغَضَبِ عَلَيْهِ) فَالْعَطْفُ عَلَى الْمَجْرُورِ (وَضَرْبِهِ مَهْمَا أَسَاءَ) مِنْ السُّوءِ (فَيَغْضَبُ) (الْغُلَامُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَلَدِ

والثاني من الأسباب السبعة للكبر العبادة والورع

(وَيَضْرِبُهُ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ مَوْلَاهُ وَتَقَرُّبًا لَهُ بِهِ) بِالضَّرْبِ (بِلَا تَكَبُّرٍ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَلَدِ (بَلْ هُوَ مُتَوَاضِعٌ لَهُ) لِلْوَلَدِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَلِكَ إمَّا أَمَرَ بِالتَّكَبُّرِ صَرِيحًا أَوْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الْتِزَامًا وَلَيْسَ بِمَعْقُولٍ أَنْ يُحَصِّلَ الْمَقْصُودُ مَعَ تَوَاضُعِهِ لِلْوَلَدِ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالضَّرْبِ لَا يَأْمُرُ بِالتَّوَاضُعِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ إذْ نَهْيُهُ تَعَالَى عَنْ التَّكَبُّرِ وَأَمْرُهُ بِالتَّوَاضُعِ عِنْدَ بُغْضِ الْمُبْتَدِعِ وَالْكَافِرِ (يَرَى قَدْرَهُ) أَيْ قَدْرَ الْوَلَدِ عِنْدَ مَوْلَاهُ فَوْقَ قَدْرِ نَفْسِهِ لَكِنْ لَا يَرَى قَدْرَ الْمُبْتَدِعِ وَالْكَافِرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَوْقَ قَدْرِهِ سِيَّمَا حَالًا، وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ فَأَمْرٌ احْتِمَالِيٌّ يَنْدُرُ وُقُوعُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالُوا الْعِبْرَةُ لِلْغَالِبِ الشَّائِعِ لَا لِلنَّادِرِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْكِفَايَةِ. (فَكَذَلِكَ عَلَيْك أَنْ تَنْظُرَ إلَى الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ وَتَقُولَ رُبَّمَا كَانَ قَدْرُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمَ) مِنِّي فِي الْآخِرَةِ (لِمَا سَبَقَ) فِي عِلْمِهِ تَعَالَى (لَهُمَا مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الْأَزَلِ وَلِمَا سَبَقَ لِي مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِيهِ وَ) الْحَالُ (أَنَا غَافِلٌ عَنْهُ فَتَغْضَبُ وَتُنْهِي لِحُكْمِ الْأَمْرِ مَحَبَّةً لِمَوْلَاك إذْ جَرَى مَا يَكْرَهُهُ تَعَالَى) مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ (مَعَ التَّوَاضُعِ لِمَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ مِنْك عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ) فَهَكَذَا بُغْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَكْيَاسِ فَيُضَمُّ إلَيْهِ الْخَوْفُ وَالتَّوَاضُعُ وَأَمَّا الْغُرُورُ فَإِنَّهُ يَتَكَبَّرُ وَيَرْجُو لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو لِغَيْرِهِ مَعَ جَهْلِهِ بِالْعَاقِبَةِ فَهَذَا سَبِيلُ التَّوَاضُعِ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَاعْتَقَدَ الْبِدْعَةَ مَعَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ وَمُجَانَبَتِهِ لِحُكْمِ الْأَمْرِ. [وَالثَّانِي مِنْ الْأَسْبَابِ السَّبْعَةِ لِلْكِبْرِ الْعِبَادَةُ وَالْوَرَعُ] (وَالثَّانِي) مِنْ الْأَسْبَابِ السَّبْعَةِ لِلْكِبْرِ (الْعِبَادَةُ وَالْوَرَعُ) وَذَلِكَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْعِبَادِ وَلَا يَخْلُو عَنْ رَذِيلَةِ الْكِبْرِ وَاسْتِمَالَةِ قُلُوبِ النَّاسِ وَالزُّهَّادِ (فَإِنَّ الْعَابِدَ الْوَرِعَ قَدْ يَتَكَبَّرُ عَلَى الْفَاسِقِ، بَلْ عَلَى مَنْ لَا يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ مِنْ النَّوَافِلِ) وَسَائِرِ الْفَضَائِلِ (وَ) مِنْ (الِاحْتِرَازِ عَنْ الشُّبُهَاتِ وَفُضُولِ الْحَلَالِ وَهَذَا) أَيْ التَّكَبُّرُ بِهَذَيْنِ (أَيْضًا) كَالتَّكَبُّرِ بِالْعِلْمِ مَذْمُومٌ نَاشِئٌ (مِنْ الْجَهْلِ) قِيلَ الْعَالِمُ الْعَامِلُ إنَّمَا هُوَ الْمُتَوَاضِعُ ثُمَّ إنَّك هَلْ تَكُونُ أَعْبَدَ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ مُتَوَاضِعُونَ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ وَقَدْ مُثِّلَ الْعَالِمُ الْغَيْرُ الْعَامِلُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ دَائِمًا وَبِحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا فَأَيُّ خِزْيٍ أَعْظَمُ مِنْ التَّمْثِيلِ بِهِمَا وَأَيُّ عِتَابٍ أَشْنَعُ مِنْهُ. (فَعِلَاجُهُ أَيْضًا) كَالْعِلْمِ (مَعْرِفَتَانِ مَعْرِفَةُ أَنَّ فَضْلَ الْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ إنَّمَا يَكُونُ بِاسْتِجْمَاعِهِمَا) أَيْ الْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ (الشَّرَائِطَ) الَّتِي يَتَوَقَّفَانِ عَلَيْهَا شَرَائِطُ الْأَوَّلِ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِيَّةِ وَشَرَائِطُ الثَّانِي فِي كُتُبِ التَّصَوُّفِ (وَالْأَرْكَانَ) الَّتِي كَانَتْ فِي أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُرَاعِ أَنَّ جُزْءًا أَصْلِيًّا لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ رَأْسًا وَأَنَّ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُكَمِّلَةِ لَا تَصِحُّ كَمَالًا وَلَا كَذَا الشَّرَائِطُ، أَمَّا الْعِبَادَةُ فَكَالصَّلَاةِ الَّتِي شَرَائِطُهَا وَأَرْكَانُهَا وَمُرَاعَاتُهَا أَصْلًا وَكَمَالًا بِمُرَاعَاةِ وَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا وَمُسْتَحَبَّاتِهَا وَفَضَائِلِهَا وَمُكَمِّلَاتِهَا الَّتِي حُرِّرَتْ فِي مَحَلِّهَا، وَأَمَّا الْوَرَعُ فَبَحْرٌ عَمِيقٌ وَحِمْلٌ ثَقِيلٌ وَفِعْلٌ صَعْبٌ وَأَمْرٌ ذُو تَعَبٍ فَحُصُولُهُ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا عَقْلًا لَكِنْ فَكَالْمُحَالِ عَادَةً فَلَا يَجْرُؤُ عَلَى دَعْوَى حُصُولِهِ عَاقِلٌ إلَّا مُتَعَصِّبٌ جَاهِلٌ؛ إذْ الْوَرَعُ عَلَى مَا فِي الْقُشَيْرِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ الْوَرَعُ تَرْكُ كُلِّ شُبْهَةٍ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِيك تَرْكُ الْفَضَلَاتِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي الْحَرَامِ وَعَنْ الشِّبْلِيِّ الْوَرَعُ أَنْ تَتَوَرَّعَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الْوَرَعُ وَرَعٌ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ إلَّا بِاَللَّهِ وَوَرَعٌ فِي الْبَاطِنِ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ قَلْبَك سِوَاهُ وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ الْوَرَعُ الْخُرُوجُ عَنْ كُلِّ شُبْهَةِ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ مَعَ كُلِّ طَرْفَةٍ، وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ مَكَثَ بِالْبَصْرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ تَمْرِ الْبَصْرَةِ وَلَا مِنْ رُطَبِهَا حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُذَقْهُ فَكَانَ إذَا انْقَضَى وَقْتُ الرُّطَبِ قَالَ يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ هَذَا بَطْنِي مَا نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا زَادَ فِيكُمْ شَيْءٌ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ وَلَعَلَّك سَمِعْته سَابِقًا (وَمُجَانَبَتُهَا الْمُفْسِدَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ) بِعَدَمِ مُرَاعَاةِ بَعْضِ شَرَائِطِهِمَا أَوْ بِعَدَمِ إتْيَانِ بَعْضِ مَوَادِّهِمَا لَكِنَّ الشُّبْهَةَ الْبَعِيدَةَ لَيْسَتْ مِمَّا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهَا فِيهِمَا كَتَرْكِ التَّزْوِيجِ مِنْ نِسَاءِ بَلَدٍ كَبِيرٍ خَوْفَ الْمَحْرَمِيَّةِ لَهُ وَتَرْكِ مَاءٍ فِي فَلَاةٍ لِجَوَازِ عُرُوضِ النَّجَاسَةِ أَوْ غَسْلِ ثَوْبٍ مَخَافَةَ لُحُوقِ نَجَاسَةٍ عَلَيْهِ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهَا وَسْوَسَةٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَسَيُفَصِّلُ الْمُصَنِّفُ (وَمُقَارَنَتُهُمَا النِّيَّةَ الصَّادِقَةَ) وَقْتَهُ وَقَدْ سَبَقَ (وَالْإِخْلَاصُ) وَهُوَ إفْرَادُ الْحَقِّ فِي الطَّاعَةِ بِالْقَصْدِ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِطَاعَتِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ تَصَنُّعِ الْمَخْلُوقِ أَوْ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ مَدْحٍ مِنْ الْخَلْقِ أَوْ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي سِوَى التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْته قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْت مِنْ عِبَادِي» ، وَقِيلَ التَّوَقِّي عَنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ وَالصِّدْقُ وَالتَّنَقِّي مِنْ مُطَالَعَةِ النَّفْسِ (وَالتَّقْوَى) وَقَدْ سَبَقَ مَاهِيَّتُهَا وَتَحْقِيقُهَا وَتَفْصِيلُهَا مَتْنًا وَشَرْحًا (وَصَوْنُهُمَا عَنْ الْمُحْبِطَاتِ) مِنْ الْحَبْطِ (وَالْمُبْطِلَاتِ) كَالْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ، الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْكُفْرِيَّاتِ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا وَإِلَّا فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حُبُوطَ لِطَاعَةِ الْمُؤْمِنِ بِمَعْصِيَتِهِ وَلَا لِمَعْصِيَتِهِ بِطَاعَتِهِ، وَمَنْ قَالَ يَحْبَطُ الْأَقَلُّ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمَا مَعَ سُقُوطِ مِثْلِهِ فِي الْأَكْثَرِ كَأَبِي هَاشِمٍ أَوْ بِدُونِهِ كَأَبِي عَلِيٍّ فَقَدْ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَا فِي أُنْمُوذَجِ الْعُلُومِ لِأُسْتَاذِ الشَّيْخِ الْوَالِدِ مُحَمَّدٍ الطَّرْطُوسِيِّ عَامَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ الْقُدُّوسِيِّ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ فَيَضْمَحِلُّ مَا يُتَوَهَّمُ هُنَا مِنْ حَبْطِ مُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا زَوَالُ الْعَمَلِ بِنَحْوِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فَلَيْسَ مِنْ الْبَابِ وَقَدْ حُقِّقَ فِي مَحَلِّهِ (إلَى الْمَوْتِ وَحُصُولُ هَذِهِ) الْأُمُورِ (بِأَسْرِهَا مِنْ أَمْثَالِنَا مُتَعَسِّرَةٌ بَلْ مُتَعَذِّرَةٌ) لِأَنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْهَوَى وَأَنَّ الْمَنَاهِيَ مَطْبُوعَةٌ وَقَدْ كَانَ الشَّيْطَانُ فِي مَعِيَّتِهَا فَفِي كُلِّ عِبَادَةٍ قَلَّمَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ سُيُوفِهِمَا وَسِهَامِهِمَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُوَ الِامْتِنَاعُ الْمُطْلَقُ حَتَّى يُتَوَهَّمَ عَدَمُ لُزُومِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَا لَا يُطَاقُ، بَلْ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ تَوْضِيحًا لِمَرَامٍ الْمَقَامِ (لَا سِيَّمَا) قِيلَ الْأَوْلَى وَلَا سِيَّمَا مُسْتَنِدًا إلَى مُغْنِي اللَّبِيبِ (الْإِخْلَاصُ) الْمُضَادُّ لِلرِّيَاءِ (وَالتَّقْوَى) بَعْدَمَا تَيَقَّنْتهمَا فِيمَا قَبْلُ تَعْرِفُ وَجْهَ التَّرَقِّي الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَا سِيَّمَا فِيهِمَا (فَلِذَا) أَيْ لِتَعَذُّرِ هَذِهِ الْأُمُورِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] لَا تَمْدَحُوهَا بِأَنَّهَا أَزْكَى مِنْ غَيْرِهَا {هُوَ} [النجم: 32] أَيْ اللَّهُ {أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا أَنْتُمْ فَتَزْكِيَتُكُمْ رُبَّمَا تَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَنْ اتَّقَى حَالَ كَوْنِهِ (مُشِيرًا بِأَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّقْوَى) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّقْوَى وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ صُدُورَ التَّقْوَى مِنْكُمْ لِغَايَةِ خَفَائِهِ وَصُعُوبَةِ حُصُولِهِ (وَأَنَّهَا) أَيْ التَّقْوَى (لَا يَعْلَمُ كُنْهَهَا وَحَقِيقَتَهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى) فَلَا يَعْرِفُ حُصُولَهَا إلَّا مَنْ يَعْرِفُ مَاهِيَّتَهَا وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ الْعَبْدُ مَاهِيَّتَهَا فَلَا يَعْرِفُ حُصُولَهَا مِنْهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَعْرِفُ حُصُولَهُ مِنْهَا لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْحَصْرِ إذْ مَاهِيَّتُهَا مَعْلُومَةٌ مِنْ الشَّرْعِ كَمَا مَرَّ فَالْأَوْلَى لَا يَعْلَمُ صُدُورَهَا مِنْ الْعَبْدِ عَلَى وَجْهِ الْقَبُولِ بِأَنْ يُرَاعِيَ شَرَائِطَهَا وَأَرْكَانَهَا وَيَرْفَعَ مَوَانِعَهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَعَلَّ مُرَادَهُ هَذَا وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَتُهُ ذَلِكَ. (وَالْمَعْرِفَةُ الثَّانِيَةُ) الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهَا الْعِلَاجُ

السبب الثالث للكبر النسب

(مِثْلُ مَا سَبَقَتْ) فِي الْكِبْرِ بِالْعِلْمِ أَيْ فِي مَعْرِفَةِ الْكِبْرِ مِنْ الْعِبَادِ حَرَامٌ قَطْعِيٌّ وَأَنَّهُ صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى لَا يَلِيقُ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ فَإِذَا حَصَلَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ كَمَا يَنْبَغِي تَكْفِي لِزَجْرِهِ عَنْ الْكِبْرِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يُفْضِي إلَى مُنَازَعَةِ رَبِّ الْعِزَّةِ فَيَسْتَحِقَّ الْقَذْفَ فِي النَّارِ (فَتَذَكَّرْهَا) كَمَا أُشِيرَ آنِفًا فَحَاصِلُ الْعِلَاجِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْكِبْرَ بِالْعِبَادَةِ لَوْ تُصُوِّرَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِقَبُولِهَا وَقَبُولُهَا إنَّمَا يَكُونُ اسْتِجْمَاعَ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَإِتْيَانَهَا بِأَوْصَافِهَا الْمُكَمَّلَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ لِقُوَّةِ صُعُوبَتِهَا وَكَثْرَةِ عَوَائِقِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْكِبْرُ بِالْعِبَادَةِ وَحَاصِلُ الثَّانِي أَنَّ الْكِبْرَ صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى فَحَرَامٌ عَلَى الْعَبْدِ قِيلَ هُنَا عَنْ الرِّعَايَةِ، حَاصِلُهُ أَنَّ الْعَابِدَ الْعَالِمَ قَدْ يَحْتَقِرُ مَا هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ لِعَدَمِ عَمَلِهِ مِثْلَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ هَذَا مُضَيِّعٌ لِعِلْمِهِ وَالْحُجَّةُ تَكُونُ عَلَيْهِ آكَدُ وَكَذَا غَيْرُ الْعَالِمِ يَحْتَقِرُ مَنْ كَانَتْ عِبَادَتُهُ أَقَلَّ مِنْهُ لِعَدَمِ عَمَلِهِ مِثْلَهُ وَيَنْظُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَيْهِمْ نَظَرَ الْحَقَارَةِ وَيَتَعَظَّمُ عَلَيْهِمْ فَيَنْقَبِضُ مِنْ وَعْظِهِمْ وَسَلَامِهِمْ فَيَرْجُو زِيَارَتَهُمْ وَخِدْمَتَهُمْ وَعِيَادَتَهُمْ دُونَ كُلِّ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ بِالِاسْتِصْغَارِ وَإِلَى نَفْسِهِ بِالتَّعْظِيمِ وَيَرْجُو لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو لَهُمْ، وَكَذَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُمْ أَنَّهُمْ هَالِكُونَ دُونَهُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالرَّجُلِ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» فَإِذَا كَانَ نَظَرُهُ إلَى نَفْسِهِ كَذَا وَإِلَيْهِمْ هَكَذَا وَكَانَ نَظَرُ الْغَيْرِ إلَيْهِ بِالتَّعْظِيمِ وَإِلَى أَنْفُسِهِمْ بِالِاسْتِصْغَارِ وَخَوْفُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُونَهُ عَلَيْهِ بَلْ ظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ هَالِكُونَ وَهُوَ نَاجٍ فَكَانَ الْغَيْرُ أَعْبَدَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِمَقْتِ اللَّهِ وَحَابِطٌ لِأَجْرِ عَمَلِهِ لِكِبْرِهِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُعَرَّضُونَ لِرَحْمَةِ اللَّهِ لِتَوَاضُعِهِمْ وَحُبِّهِمْ لَهُ فَهُمْ مُتَقَرِّبُونَ إلَى اللَّهِ بِقُرْبِهِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُ وَالْحُبِّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حُبًّا لَهُ تَعَالَى وَرَجَاءً لِقُرْبَتِهِ تَعَالَى فَقَدْ تَعَرَّضُوا لِلْمَغْفِرَةِ وَالْغُفْرَانِ وَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِحَبْطِ عَمَلِهِ وَالْبُعْدِ عَنْهُ تَعَالَى. [السَّبَبُ الثَّالِثُ لِلْكِبْرِ النَّسَبُ] (وَ) السَّبَبُ (الثَّالِثُ) لِلْكِبْرِ (النَّسَبُ) الشَّرَفُ مِنْ جِهَةِ الْآبَاءِ (وَالْحَسَبُ) الْحَسَبُ مَا يَعُدُّ الْإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ وَأَيْضًا مَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ بِدُونِ آبَائِهِ (وَالْكِبْرُ بِهِمَا) بِالنَّسَبِ وَالْحَسَبِ الْأَوْلَى بِهِ كَمَا سَيَظْهَرُ وَجْهُهُ (نَاشِئٌ عَنْ الْجَهْلِ أَيْضًا) كَمَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (لِأَنَّهُ) أَيْ التَّكَبُّرُ بِالْحَسَبِ وَالنَّسَبِ الْأَوْفَقُ؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَ الْأَوْقَعَ ذَلِكَ فَافْهَمْ (تَعَزَّزَ) إظْهَارُ عِزَّةٍ أَوْ تَكَلُّفٌ فِي الْعِزَّةِ (بِكَمَالِ غَيْرِهِ) فَظَهَرَ الْمَوْعُودُ آنِفًا مِنْ الْآبَاءِ (وَلِذَا قِيلَ لَئِنْ) اللَّامُ تَوْطِئَةُ قَسَمٍ لَئِنْ (فَخَرْت بِآبَاءٍ ذَوِي شَرَفٍ لَقَدْ صَدَقْت) فِي تَفَاخُرِك (وَلَكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُوا) أَيْ الْآبَاءُ الْمَذْكُورُونَ لِخُلُوِّك عَنْ الشَّرَفِ فِي نَفْسِك (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا خَرَّجَهُ) (م) مُسْلِمٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ» الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ «لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» يَعْنِي مَنْ أَخَّرَهُ عَمَلُهُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ وُصُولِ الْمَقَامِ الرَّفِيعِ لَمْ يُفِدْ نَسَبُهُ لِعَدَمِ مَدْخَلِهِ فِيهِمَا؛ إذْ السَّبَبُ لَهُمَا إنَّمَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون: 101] (اُنْظُرْ إلَى ابْنِ آدَمَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (قَابِيلَ) قَاتِلِ هَابِيلَ (وَابْنِ نُوحٍ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (كَنْعَانَ) قِيلَ كَوْنُ كَنْعَانَ اسْمَ ذَلِكَ الِابْنِ قَوْلٌ مَرْدُودٌ. وَقِيلَ إنَّهُ اسْمُ ابْنِ زَوْجَتِهِ وَفِي الْإِتْقَانِ اسْمُ ابْنِ

والرابع الجمال من أسباب الكبر

نُوحٍ يَامْ (هَلْ نَفَعَهُمَا نَسَبُهُمَا) مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ أَوْلَادِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَوْ كَانَ لِلنَّسَبِ نَفْعٌ لَنَفَعَهُمَا وَلَيْسَ فَلَيْسَ كَمَا نُقِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعُيُونِ وَغَيْرِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ كَنْعَانَ حِينَ سَمِعَ {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43] اتَّخَذَ صُنْدُوقًا مِنْ رَصَاصٍ وَجَعَلَ فِيهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَسَدَّ بَابَهُ بِالرَّصَاصِ الْمُذَابِ، فَلَمَّا عَلَاهُ الْمَاءُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْبَوْلِ إلَى أَنْ امْتَلَأَ الصُّنْدُوقُ فَغَرَّقَهُ بِبَوْلِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيَدَعَنَّ قَوْمٌ الْفَخْرَ بِآبَائِهِمْ وَقَدْ صَارُوا فَحْمًا فِي جَهَنَّمَ» لَكِنْ يَشْكُلُ الْمَطْلَبَ الْفَخْرُ مَعَ الْإِيمَانِ وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَلَا تَقْرِيبَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] وَقَالَ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ لَا فَائِدَةَ بِالنَّسَبِ إلَّا نَسَبَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَلْيُتَأَمَّلْ (ثُمَّ اُنْظُرْ إلَى نَسَبِك الْحَقِيقِيِّ) الَّذِي كَانَ عُنْصُرُك الْأَصْلِيُّ مِنْهُ (فَإِنَّ أَبَاك الْقَرِيبَ) مِنْهُ (نُطْفَةٌ قَذِرَةٌ) يُسْتَقْذَرُ مِنْهَا لَا مَسَاغَ إلَّا إلَى غَسْلِهَا لَوْ تَلَوَّثَ بِهَا ثَوْبٌ (وَجَدُّك الْبَعِيدُ) الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ أَبُوك آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (تُرَابٌ ذَلِيلٌ) يُدَاسُ تَحْتَ الْأَقْدَامِ فَأَصْلُك تُرَابٌ مَهِينٌ يُدَاسُ بِأَقْدَامِ الْأَقْوَامِ وَفَصْلُك مِمَّا يُغْسَلُ مِنْهُ الْأَبْدَانُ (فَكَيْفَ يَلِيقُ بِك التَّكَبُّرُ بِالنَّسَبِ) . ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ أَجْدَادَك وَآبَاءَك إنْ نَجَوْا فَإِنَّمَا نَجَوْا بِنَحْوِ التَّوَاضُعِ وَكَسْبِ الصَّلَاحِ لَا بِالتَّكَبُّرِ، بَلْ لَا أَنْسَابَ فِي يَوْمِ الْهَوْلِ وَالشِّدَّةِ بَلْ تَتَلَذَّذُ الْأُمُّ الشَّفِيقَةُ الْمُؤْمِنَةُ بِعَذَابِ وَلَدِهَا الْكَافِرِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 - 36] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَجِبْت لِابْنِ آدَمَ يَفْخَرُ وَأَوَّلُهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ وَآخِرُهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ وَهُوَ بَيْنَهُمَا يَحْمِلُ الْعَذِرَةَ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَعَجَبًا مِنْ الْمُتَكَبِّرِ الْفَخُورِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَوَّلَهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ وَآخِرَهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ» وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَعَنْ آبَائِهِ الْكِرَامِ عَجِبْت أَنْ أُعَظِّمَ نَفْسِي وَقَدْ خَرَجْت مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْإِحْيَاءِ وَيَكْفِيهِمْ عَنَى آيَةٌ وَاحِدَةٌ {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: 18] {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19] {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] فَأَشَارَ إلَى أَنَّ أَوَّلَ الْإِنْسَانِ بَعْدَ كَوْنِهِ فِي كَتْمِ الْعَدَمِ دُهُورًا وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا أَذَلُّ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ مِنْ أَقْذَرِهَا إذْ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ثُمَّ جَعَلَهُ عِظَامًا ثُمَّ كَسَا الْعِظَامَ لَحْمًا فَكَانَ هَذَا بِدَايَةَ وُجُودِهِ. وَأَمَّا وَسَطُ أَحْوَالِهِ فَمُدَّةُ حَيَاتِهِ إلَى الْمَوْتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20]- فَأَحْيَاهُ بَعْدَمَا كَانَ جَمَادًا مَيِّتًا تُرَابًا أَوْ نُطْفَةً وَأَسْمَعَهُ بَعْدَ كَوْنِهِ أَصَمَّ وَبَصَّرَهُ بَعْدَ عَمَاهُ وَقَوَّاهُ بَعْدَ ضَعْفِهِ وَعَلَّمَهُ بَعْدَ جَهْلِهِ وَأَغْنَاهُ بَعْدَ فَقْرِهِ وَأَشْبَعَهُ بَعْدَ جُوعِهِ وَكَسَاهُ بَعْدَ الْعُرْيِ وَهَدَاهُ بَعْدَ الضَّلَالِ، فَكَانَ فِي ذَاتِهِ لَا شَيْءَ ثُمَّ صَارَ شَيْئًا فَإِنَّمَا خَلَقَهُ مِنْ التُّرَابِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ أَذَلُّ مِنْ كُلِّ ذَلِيلٍ وَلَا يَلِيقُ بِهِ إلَّا التَّوَاضُعُ وَلَا يَلِيقُ التَّعْظِيمُ إلَّا بِاَللَّهِ، وَأَمَّا آخِرُ أَحْوَالِهِ فَالْمَوْتُ الْمُشَارُ بِقَوْلِهِ - {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]- فَيَعُودُ جَمَادًا كَمَا فِي الْبِدَايَةِ فَيَصِيرُ جِيفَةً مُنْتِنَةً قَذِرَةً كَرِيهَةً تَبْلَى أَعْضَاؤُهُ وَتَتَفَتَّتُ أَجْزَاؤُهُ وَيَأْكُلُهُ الدُّودُ ثُمَّ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْسِ وَلَيْتَهُ بَقِيَ كَذَلِكَ، بَلْ يَحْيَا بِطُولِ الْبَلَايَا وَشَدَائِدِ الْأَحْوَالِ وَالْإِفْزَاعِ فَمَنْ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ. [وَالرَّابِعُ الْجَمَالُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ] (وَالرَّابِعُ الْجَمَالُ) ضِدُّ الْقُبْحِ وَعَنْ سِيبَوَيْهِ دِقَّةُ الْحُسْنِ (وَذَلِكَ أَكْثَرُ مَا يَجْرِي فِي النِّسَاءِ) وَقَدْ يَجْرِي فِي الْغِلْمَانِ الْحِسَانِ لِانْجِذَابِ الْقُلُوبِ يَفْتَخِرُونَ وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ سَرِيعُ الزَّوَالِ (وَهَذَا أَيْضًا) كَالْكِبْرِ بِالنَّسَبِ (جَهْلٌ إذْ هُوَ فَانٍ) مِنْ الْفَنَاءِ (سَرِيعُ الزَّوَالِ) وَكُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ فَالتَّكَبُّرُ بِهِ جَهْلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكًا لِصَاحِبِهِ، بَلْ يَدُهُ كَيَدِ مُسْتَعِيرٍ سَيَزُولُ فِي أَوَانِهِ

والخامس من أسباب الكبر القوة البدنية وشدة البطش

(لَا تَنْظُرُ إلَى ظَاهِرِك نَظَرَ الْبَهَائِمِ) الظَّاهِرُ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ أَيْ نَظَرَ الرَّجُلِ لِلْبَهَائِمِ وَقِيلَ النَّظَرُ إلَى ظَاهِرِ الْبَهَائِمِ بِدُونِ تَدَبُّرِ الْغَايَةِ هُوَ النَّظَرُ الْأَوَّلُ الَّذِي سَمَّوْهُ نَظَرَ الْحَمْقَاءِ وَهُوَ شَأْنُ الْبَهَائِمِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْنَعُ بِهِ، بَلْ يُمْعِنُ النَّظَرَ وَيَتَدَبَّرُ عَاقِبَتَهُ وَفِعْلَهُ (وَانْظُرْ إلَى بَاطِنِك) أَهُوَ مَعْمُورٌ بِمُحَافَظَةِ شَرِيعَةِ اللَّهِ وَمُمَارَسَةِ سُنَّةِ حَبِيبِ اللَّهِ (نَظَرَ الْعُقَلَاءِ أَوَّلُك نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ) بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ مُتَغَيِّرَةٌ بَيَانٌ لِطَرِيقِ نَظَرِ الْعُقَلَاءِ (خَرَجْت مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ) مَرَّتَيْنِ مِنْ ذَكَرِ الْأَبِ نُطْفَةً وَمِنْ فَرْجِ الْأُمِّ (وَدَخَلْت فِي) مَخْرَجِ الْبَوْلِ (آخَرَ وَاخْتَلَطَتْ بِأُخْرَى) بِنُطْفَةٍ مَذِرَةٍ أُخْرَى (وَهُوَ دَمُ الْحَيْضِ) مُدَّةَ حَمْلِك بَلْ هُوَ غِذَاءٌ لَك فِيهِ. (ثُمَّ خَرَجْت مِنْهُ) الْفَرْجِ الْآخَرِ (مَرَّةً أُخْرَى) بَعْدَ خُرُوجِك أَوَّلًا مِنْ فَرْجِ أَبِيك (وَآخِرُك جِيفَةٌ قَذِرَةٌ وَأَنْتَ بَيْنَهُمَا) بَيْنَ الْوِلَادَةِ وَالْمَوْتِ (حَمَّالُ الْعَذِرَةِ الرَّجِيعِ) الْغَائِطِ (فِي أَمْعَائِك وَالْبَوْلِ فِي مَثَانَتِك وَالْمُخَاطِ) مَا يَسِيلُ مِنْ الْأَنْفِ (فِي أَنْفُسِك وَالْبُزَاقِ فِي فَمِك وَالْوَسَخِ فِي أُذُنَيْك وَالدَّمِ فِي عُرُوقِك وَالصَّدِيدِ تَحْتَ بَشَرَتِك) أَيْ جِلْدِك (وَالصُّنَانِ) رَائِحَةِ الْإِبْطِ (تَحْتَ إبْطِك وَتَغْسِلُ الْغَائِطَ كُلَّ يَوْمٍ دَفْعَةً أَوْ دَفْعَتَيْنِ بِيَدِك وَتَتَرَدَّدُ إلَى الْخَلَاءِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) لِتُخْرِجَ مِنْ بَاطِنِك مَا لَوْ رَأَيْته بِعَيْنِك لَاسْتَقْذَرْتَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَمَسَّهُ أَوْ تَشُمَّهُ وَلَوْ تَرَكَ نَفْسَهُ أَيَّامًا لَصَارَ أَقْذَرَ مِنْ الْجِيفَةِ وَأَنْتَنَ مِنْ الدَّوَابِّ الْمُهْمَلَةِ فَمِنْ أَيْنَ لِلْمَزْبَلَةِ أَنْ تَفْتَخِرَ بِجَمَالِهَا وَالْإِنْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ مَزْبَلَةٌ فَإِنَّهُ مَنْبَعُ الْأَقْذَارِ وَالنَّجَاسَاتِ، بَلْ بِئْرُ بَالُوعَةٍ (وَكُلُّ هَذَا سَبَبُ الضَّعَةِ) التَّوَاضُعِ (وَالذُّلِّ وَالْحَيَاءِ فَضْلًا عَنْ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ) فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَأَمَّلَ جِنْسَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَسْتَحْيِي مِنْ الْكِبْرِ، بَلْ يَتَوَاضَعُ وَقَدْ قِيلَ اعْلَمْ أَنَّك أَشَدَّ فَضَاحَةً مِنْ الْمَزْبَلَةِ وَقَدْ سُلِّطَ عَلَيْك أَمْرَاضٌ وَآلَامٌ ثُمَّ تَكُونُ أَقْذَرَ مِنْ الْجِيَفِ وَهَلْ يَتَكَبَّرُ طَعَامُ الدِّيدَانِ وَبَعْدَمَا أَكَلَتْك الدِّيدَانُ يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضَهَا فَتَبْقَى وَاحِدَةٌ تَمُوتُ جُوعًا. وَعَنْ الرِّعَايَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ أَيُعْجِزُنِي ابْنُ آدَمَ وَإِنَّمَا خَلَقْته مِنْ مِثْلِ هَذِهِ وَبَزَقَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي كَفِّهِ» فَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَقْذَارٍ وَسَكَنَ فِي أَقْذَارٍ وَخَرَجَ مِنْ أَقْذَارٍ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ صُلْبٍ ثُمَّ مِنْ ذَكَرٍ إلَى رَحِمٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَخْرَجٍ قَذِرٍ. [وَالْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ الْقُوَّةُ الْبَدَنِيَّةُ وَشِدَّةُ الْبَطْشِ] (وَالْخَامِسُ) مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ (الْقُوَّةُ) الْبَدَنِيَّةُ (وَشِدَّةُ الْبَطْشِ) الْأَخْذُ بِالْعُنْفِ (وَالتَّكَبُّرِ بِهَا جَهْلٌ أَيْضًا إذْ الْحِمَارُ وَالْبَقَرُ وَالْجَمَلُ وَالْفِيلُ كُلُّ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الْإِنْسَانِ) وَلَوْ صَلَحَ ذَلِكَ لِذَلِكَ لَحَرِيٌّ تِلْكَ الْبَهَائِمُ أَنْ تَتَكَبَّرَ عَلَى الْكُلِّ وَأَمَّا ذُلُّهَا لِلْإِنْسَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} [يس: 72] الْآيَةَ. فَمِنْ نِعَمِهِ تَعَالَى الَّتِي تُوجِبُ التَّوَاضُعَ لِلشُّكْرِ (وَأَيُّ افْتِخَارٍ فِي صِفَةٍ يَسْبِقُك الْبَهَائِمُ فِيهَا ثُمَّ إنَّهَا تَزُولُ بِحُمَّى يَوْمٍ وَنَحْوِهَا) فَلَا تَنْجَبِرُ فِي مُدَّةٍ، بَلْ لَوْ

والسادس المال والتلذذ بمتاع الدنيا من أسباب الكبر

تَوَجَّعَ عِرْقٌ وَاحِدٌ فِي يَدِك لَصِرْت أَعْجَزَ مِنْ كُلِّ عَاجِزٍ وَأَذَلَّ مِنْ كُلِّ ذَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَوْ سَلَبَ الذُّبَابُ مِنْك شَيْئًا لَا تَسْتَنْقِذُهُ وَإِنْ بَقَّةٌ لَوْ دَخَلَتْ أَنْفَك أَوْ نَمْلَةٌ دَخَلَتْ أُذُنَك لَقَتَلَتْك وَإِنْ شَوْكَةٌ لَوْ دَخَلَتْ رِجْلَك لَأَعْجَزَتْك فَمَنْ لَا يُطِيقُ دَفْعَ أَمْثَالِ هَذِهِ فَكَيْفَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْتَخِرَ بِقُوَّتِهِ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ (فَلَا تَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهَا) أَيْ الْقُوَّةِ وَقَدْ قِيلَ حُمَّى يَوْمٍ تُذْهِبُ نَعِيمَ سَنَةٍ (وَلَا عَلَى تَحْصِيلِهَا) بَعْدَ الزَّوَالِ بِأَدْنَى عِلَّةٍ (بَلْ هِيَ كَظِلٍّ زَائِلٍ) بِالْوَصْفِ (وَنَوْمِ نَائِمٍ) فِي سُرْعَةِ التَّقَضِّي وَعَدَمِ الْحِفْظِ. [وَالسَّادِسُ الْمَالُ وَالتَّلَذُّذُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ] (وَالسَّادِسُ الْمَالُ وَالتَّلَذُّذُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا) وَعِلَاجُهُ يُعْرَفُ مِنْ السَّبَبِ السَّابِعِ. (وَالسَّابِعُ) آخِرُ الْأَسْبَابِ (الْأَتْبَاعُ مِنْ الْبَنِينَ وَالْأَقَارِبِ وَالْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي وَالتَّلَامِذَةِ وَالتَّقَرُّبُ مِنْ السُّلْطَانِ وَوُلَاتِهِ) جَمْعُ وَالٍ (وَقُضَاتِهِ) بِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ لَهُ مُكَاثَرَةٌ وَمُغَالَبَةٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ (وَهَذَانِ) السَّبَبَانِ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ (أَقْبَحُ أَنْوَاعِ أَسْبَابِ الْكِبْرِ؛ لِأَنَّهُ تَكَبُّرٌ بِمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ ذَاتِ الْإِنْسَانِ) وَيَدُهُ عَلَيْهِ يَدُ عَارِيَّةٍ (سَرِيعُ الزَّوَالِ وَالِانْقِلَابِ) فَأَيْنَ هَرَامِسَةُ الدُّهُورِ وَقَيَاصِرَةُ الْقُصُورِ وَأَيْنَ شَدَّادٌ وَعَادٌ وَأَيْنَ إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، كُلُّهُمْ مَضَوْا وَتَرَكُوا وَأَنَّهُ لَوْ تَكَبَّرَ بِفَرَسِهِ مَثَلًا وَدَارِهِ فَمَاتَ فَرَسُهُ وَهُدِمَتْ دَارُهُ لَعَادَ ذَلِيلًا فَالْمُتَكَبِّرُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ فَهُوَ ظَاهِرُ الْجَهْلِ (يَشْتَرِكُ فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) بَلْ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا جَنَّتُهُمْ (لَوْ هَلَكَ مَالُهُ أَوْ أَتْبَاعُهُ أَوْ عُزِلَ) فِعْلٌ مَجْهُولٌ أَيْ مِنْ قُرْبِ السُّلْطَانِ مَثَلًا (أَوْ مَاتَ سَنَدُهُ كَانَ أَذَلَّ الْخَلْقِ وَأَحْقَرَهُمْ فَأُفٍّ) بِالتَّنْوِينِ وَغَيْرِهِ اسْمُ صَوْتٍ بِمَعْنَى أَتَقَذَّرُ وَأَتَضَجَّرُ وَقِيلَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى مَا ذُكِرَ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ التَّضَجُّرِ وَالتَّكَرُّهِ وَالْكَرْبِ وَالْبُؤْسِ ثُمَّ حَكَى فِيهَا تِسْعًا وَثَلَاثِينَ لُغَةً وَتَفْصِيلُهَا فِيهِ (لِشَرَفٍ) فِي اعْتِقَادِك (يَسْبِقُك بِهِ الْيَهُودُ) وَهُمْ أَرْذَلُ خَلْقِ اللَّهِ (وَأُفٍّ لِشَرَفٍ يَأْخُذُهُ السَّارِقُ فِي لَحْظَةٍ) فَتَعُودُ ذَلِيلًا مُفْلِسًا وَهَذِهِ أَسْبَابٌ لَيْسَتْ فِي ذَاتِهِ وَمَا لَيْسَ فِي ذَاتِهِ لَيْسَ إلَيْهِ دَوَامُ وُجُودِهِ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ وَبَالٌ وَنَكَالٌ فَالتَّفَاخُرُ بِهِ غَايَةُ جَهْلٍ وَكُلُّ مَا لَيْسَ إلَيْك فَلَيْسَ لَك وَشَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَ إلَيْك، بَلْ إلَى وَاهِبِهِ إنْ أَبْقَاهُ بَقِيَ وَإِنْ أَزَالَهُ زَالَ وَمَا أَنْتَ إلَّا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَزُولَ كِبْرُك وَتَتَوَجَّهَ إلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ. [لَلتَّكَبُّرَ دُونَ الْكِبْرِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ أُخَرُ الْأَوَّلُ الْحِقْدُ] (ثُمَّ إنَّ التَّكَبُّرَ فَقَطْ) دُونَ الْكِبْرِ (ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ أُخَرُ) الْأَوَّلُ (الْحِقْدُ) بِالْكَسْرَةِ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ هُوَ الِانْطِوَاءُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ

السبب الثالث للتكبر الرياء

وَحَقَدَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَفِي لُغَةٍ مِنْ بَابِ تَعِبَ وَالْجَمْعُ أَحْقَادٌ وَقِيلَ كَوْنُ السَّرِيرَةِ مَطْوِيَّةً عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ (كَاَلَّذِي يَتَكَبَّرُ عَلَى مَنْ يَرَى) فِي بَصِيرَتِهِ (أَنَّهُ مِثْلُهُ) فِي أَوْصَافِ الْكَمَالِ كَالْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ وَالدِّينِ (أَوْ فَوْقَهُ وَلَكِنْ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ سَبْقٍ مِنْهُ) مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إنْفَاذِهِ (فَأَوْرَثَهُ) أَيْ الْغَضَبُ إيَّاهُ (حِقْدًا وَرَسَخَ فِي قَلْبِهِ بُغْضُهُ فَلَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لَهُ) وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ يَسْتَحِقُّ التَّوَاضُعَ (وَيَحْمِلُهُ) ذَلِكَ (عَلَى رَدِّ الْحَقِّ إذَا جَاءَ مِنْ جِهَتِهِ وَعَلَى الْأَنَفَةِ) بِفَتْحَتَيْنِ الِاسْتِنْكَافِ وَالتَّبَاعُدِ (مِنْ قَبُولِ نُصْحِهِ) وَعَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى الْبَاطِلِ (وَ) يَحْمِلُهُ (عَلَى أَنْ يَجْتَهِدَ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ) فِي الْمَجَالِسِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ وَعَلَى أَنْ يَسْتَحِلَّهُ وَأَنْ ظَلَمَهُ وَلَا يَعْتَذِرُ إلَيْهِ وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُهُ عَمَّا هُوَ جَاهِلٌ بِهِ. (وَ) الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ التَّكَبُّرِ (الْحَسَدُ) وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ (فَإِنَّهُ يَدْعُو) يُوَصِّلُ (إلَى جَحْدِ الْحَقِّ) حَتَّى يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ النُّصْحِ وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ يَشْتَاقُ إلَى الْعِلْمِ وَقَدْ بَقِيَ فِي رَذِيلَةِ الْجَهْلِ لِاسْتِنْكَافِهِ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ حَسَدًا وَبَغْيًا عَلَيْهِ (وَ) إلَى (التَّكَبُّرِ عَلَى الْمَحْسُودِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِ) أَيْ الْحَاسِدِ وَلَكِنَّ الْحَسَدَ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يُعَامِلَهُ بِأَخْلَاقِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي بَاطِنِهِ عِلْمٌ أَنَّهُ فَوْقَهُ (وَعِلَاجُ التَّكَبُّرِ بِهَذَيْنِ) السَّبَبَيْنِ (إزَالَتُهُمَا) أَيْ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ (وَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي مَبْحَثِ الْحَسَدِ وَالْغَضَبِ. [السَّبَبُ الثَّالِثُ لَلتَّكَبُّرُ الرِّيَاءُ] (وَ) السَّبَبُ الثَّالِثُ (الرِّيَاءُ) وَهُوَ أَيْضًا يَدْعُو إلَى أَخْلَاقِ الْمُتَكَبِّرِينَ (حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ) قِيلَ هَذَا حَرَامٌ لِكَوْنِهِ رِيَاءَ أَهْلِ الدِّينِ (لِيُنَاظِرَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْرِفَةٌ) أَوْ كَانَتْ مَعْرِفَةٌ (وَ) لَكِنْ (لَا حِقْدَ وَلَا حَسَدَ) بَيْنَهُمَا (وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ) مِنْهُ (وَيَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ) فِي الِاسْتِفَادَةِ (خِيفَةَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ) فَيَكُونُ بَاعِثُهُ عَلَى التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ الْمُجَرَّدُ (وَلَوْ خَلَا مَعَهُ بِنَفْسِهِ) بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ (لَكَانَ لَا يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ) لَعَلَّ هَذَا أَكْثَرِيٌّ وَإِلَّا فَمِثْلُهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالطَّبَائِعِ؛ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى ذَلِكَ الْمُنَاظِرِ إمَّا مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى إخْبَارِهِ الْغَيْرَ (وَقَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ عَلَى التَّكَبُّرِ الْمِرْآة بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا) وَحُكْمُ هَذَا هُوَ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا (كَمَنْ يَلْبَسُ فِي بَيْتِهِ مَا لَا يَلْبَسُ عِنْدَ النَّاسِ) لِئَلَّا يَنْظُرُوا إلَيْهِ نَظَرَ الِاسْتِصْغَارِ لَكِنْ قَالُوا يَنْبَغِي لِكُلٍّ أَنْ يَتَزَيَّا بِزِيِّ نَوْعِهِ سِيَّمَا لِلْعُلَمَاءِ لِيَأْمَنَ ازْدِرَاءَ النَّاسِ وَلِئَلَّا يَسْقُطَ فِي أَعْيُنِهِمْ وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَظِّمُوا عَمَائِمَكُمْ وَوَسِّعُوا أَكْمَامَكُمْ وَقَالُوا مَنْ تَزَيَّا بِغَيْرِ زِيِّ نَوْعِهِ فَأَدِّبُوهُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثٍ «كَانَ لَهُ بُرْدٌ يَلْبَسُهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ وَكَانَ يَتَجَمَّلُ لِلْوُفُودِ» أَيْضًا ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا كَانَ مِنْهُ عِبَادَةً؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَعْوَةِ النَّاسِ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي الِاتِّبَاعِ وَاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَلَوْ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِهِمْ لَمْ يَرْغَبُوا فِي اتِّبَاعِهِ وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مَحَاسِنَ أَحْوَالِهِ لِئَلَّا تَزْدَرِيَهُ أَعْيُنُهُمْ فَإِنَّ أَعْيُنَ الْعَوَامّ

المبحث الرابع في علامات الكبر والتكبر

تَمْتَدُّ إلَى الظَّاهِرِ دُونَ السَّرَائِرِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَزِيدَ فِي حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَاللِّبَاسِ وَيَتَعَمَّمَ وَيَرْتَدِيَ انْتَهَى أَقُولُ إنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُعَدُّ مِنْ الْخَوَاصِّ؛ إذْ الْأَصْلُ أَنَّهُ أُسْوَةٌ يُقْتَدَى بِهِ فِي فِعْلِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ خُصُوصِهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ جَارٍ فِي الْغَيْرِ وَالشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ كَيْفَ وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْإِطْلَاقِ لَيْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَيَسْتَنْكِفُ مِنْ حَمْلِ حَوَائِجِهِ) مِنْ السُّوقِ مَثَلًا إلَى بَيْتِهِ (بَيْنَ النَّاسِ) لِئَلَّا يُسْقِطُوهُ مِنْ نَظَرِهِمْ (وَيَحْمِلُهُ فِي اللَّيْلِ) لِأَنَّ الْأَكْثَرَ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ (أَوْ) فِي النَّهَارِ (حَيْثُ لَا يَرَاهُ النَّاسُ) عُمُومُهُ أَوْ خُصُوصُهُ كَمَا عِنْدَ أَشْرَافِهِمْ أَوْ عِنْدَ الْغُرَبَاءِ، وَكَذَا الْكَسْبُ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ عِنْدَ الْخَلْوَةِ وَيَمْتَنِعُ فِي الْجَلْوَةِ يَشْكُلُ أَنَّهُ قَدْ أُشِيرَ فِيمَا سَبَقَ كَمَا هُنَا أَيْضًا أَنَّ مِثْلَهُ مِنْ الرِّيَاءِ وَلَوْ جُعِلَ مِنْ الْكِبْرِ أَيْضًا لَزِمَ التَّوَارُدُ أَوْ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ جُزْءَ عِلَّةٍ وَعِلَّةً نَاقِصَةً أَوْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا عِلَّةً لِلْآخَرِ وَالْآخَرُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فَاعْرِفْهُ [الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي عَلَامَاتِ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ] (الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ) (فِي عَلَامَاتِ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ) الْأَوَّلُ مَا بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي مَا بِالتَّكَلُّفِ (اعْلَمْ أَنَّ الْكِبْرَ) لِقُوَّةِ خَفَائِهِ (قَدْ يَخْفَى عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَظُنَّ) يَعْتَقِدَ (أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ) وَالْحَالُ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهِ (فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَخْلَاقِ الْمُتَكَبِّرِينَ حَتَّى يَعْرِضَ كُلُّ سَالِكٍ) آخِرَةً (نَفْسَهُ عَلَيْهَا) أَيْ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمَذْكُورَةِ (فَيَمِيزُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ فَلَا يَغُرُّهُ الْغَرُورُ) قِيلَ بِالْفَتْحِ الشَّيْطَانُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] ، وَقِيلَ الْهَوَى أَوْ الدُّنْيَا (فَمِنْهَا) أَيْ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُتَكَبِّرِينَ (أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ) عِنْدَ قُدُومِهِ، قِيلَ وَقَدْ يُحِبُّ الْقِيَامَ لِكَوْنِهِ مَجْبُولًا عَلَى ذَلِكَ مِنْ صِغَرِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَوْلَادِ الْأَشْرَافِ بِلَا أَخْطَارِ كِبْرٍ وَقَدْ يُحِبُّ لِرَغْمِ أَنْفِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الدِّينِ وَقَدْ يُحِبُّ لِيُظْهِرَ عَظَمَتَهُ فَيَمْتَثِلُونَ فِي نُصْحِ الدِّينِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كِبْرًا وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي الْقُلُوبِ غَيْرُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْظُورٌ فِيهِ (أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ) كَمَا هُوَ عَادَةُ الظَّلَمَةِ فَإِنَّ خُدَّامَهُمْ وَغِلْمَانَهُمْ قِيَامٌ عِنْدَ حُضُورِهِمْ وَأَشْنَعُ مَا اعْتَادُوا كَوْنُهُمْ مُرْدًا (تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ) وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهِ عَلَيْهِمْ وَلِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِمْ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إلَى رَجُلٍ قَاعِدٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ قَوْمٌ قِيَامٌ. وَقَدْ قَالَ أَنَسٌ «لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ» . وَأَمَّا لَوْ أَحَبَّ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَرَفِ الْعِلْمِ وَإِظْهَارًا لِمَرْتَبَةِ رَوْنَقِهِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْعَيْنِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ إِسْحَاقَ السَّعِيدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَرَى يَحْيَى بْنَ الْقَطَّانِ يُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَسْتَنِدُ إلَى أَصْلِ مَنَارِ مَسْجِدِهِ فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالشَّاذَكُونِيُّ وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنْ الْحَدِيثِ وَهُمْ قِيَامٌ عَلَى أَرْجُلِهِمْ إلَى أَنْ تَجِيءَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ اجْلِسْ وَلَا يَجْلِسُونَ هَيْبَةً لَهُ وُلِدَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَيَقْرَبُ إلَى هَذَا الْجِنْسِ مَا فِي الْفَتَاوَى كَالْخُلَاصَةِ يَتَقَدَّمُ الشَّابُّ الْعَالِمُ عَلَى الشَّيْخِ الْغَيْرِ الْعَالِمِ وَالتِّلْمِيذُ لَا يَفْتَحُ الْكَلَامَ قَبْلَ أُسْتَاذِهِ وَلَا يَجْلِسُ مَكَانَهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهُ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ كَلَامَهُ وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي مَشْيِهِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ لَا يَقُومُ عِنْدَ قُدُومِ الْعُلَمَاءِ وَيَقُومُ عِنْدَ قُدُومِ الْأَعْوَانِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ إنَّ طَبِيعَتَهُمْ مَجْبُولَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَأَذَّوْنَ مِنْ تَرْكِ الْقِيَامِ دُونَ مَجَالِسِنَا انْتَهَى وَذَلِكَ رِضًا بِالْمَعْصِيَةِ وَعَوْنٌ عَلَيْهَا (بِلَا وِجْدَانِ كَرَاهَةٍ مِنْ نَفْسِهِ) بَلْ يَرْضَى وَيَكُونُ مَسْرُورًا (لِهَذَا الْحُبِّ)

حُبِّ الْقِيَامِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحُبَّ ضِدُّ الْكَرَاهَةِ النَّفْسِيَّةِ فَالْقَيْدُ لَيْسَ احْتِرَازِيًّا، بَلْ مِنْ قَبِيلِ التَّأْكِيدِ أَوْ التَّوْضِيحِ كَالتَّكْرِيرِ الْإِطْنَابِيِّ (بَلْ بِقَبُولٍ وَرُكُونٍ إلَيْهِ) حَتَّى يَزِيدَ عَلَيْهِ حُبُّهُ وَيَقْضِي لِأَجْلِهِ حَاجَتَهُ وَيُعِينُ فِي أَمْرِهِ، فَلَوْ تَرَكَ ذَلِكَ يَغْضَبُ عَلَيْهِ وَيُعَادِي (فَإِنْ وَجَدَ كَرَاهَةً وَعَدَمَ إجَابَةٍ) لِلْحُبِّ الْمَذْكُورِ (فِي نَفْسِهِ فَذَلِكَ) الْحُبُّ (مَيْلٌ طَبِيعِيٌّ) غَيْرُ ضَارٍّ لِعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ لَكِنْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ جَمْعُ هَذَا الْحُبِّ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ وَهُمَا ضِدَّانِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْحُبُّ سَابِقٌ وَضَرُورِيٌّ، وَالْكَرَاهَةُ لَاحِقٌ وَاخْتِيَارِيٌّ فَافْهَمْ (أَوْ وَسْوَسَةٌ) شَيْطَانِيَّةٌ (لَا يَضُرَّانِ) أَيْ الْمَيْلُ وَالْوَسْوَسَةُ لِعَدَمِ دُخُولِهِمَا تَحْتَ الْقُدْرَةِ (كَمَا ذَكَرْنَا فِي الرِّيَاءِ) وَالضَّرَرُ الْمَحَبَّةُ مَعَ عَدَمِ الْكَرَاهَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا صُفُوفًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ الْمُثُولَ الِانْتِصَابُ يَعْنِي يَقُومُونَ لَهُ قِيَامًا صُفُوفًا أَوْ بِأَنْ يُقَامَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ قَالَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَمَرَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ كَأَنَّهُ قَالَ مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ النَّارُ وَذَلِكَ نَاشِئٌ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَاعْتِقَادِ الْكَمَالِ وَذَا عُجْبٌ وَتَكَبُّرٌ وَجَهْلٌ وَغُرُورٌ وَلَا يُنَاقِضُهُ خَبَرُ «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ؛» لِأَنَّ سَعْدًا لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ وَالْوَعِيدُ لِمَنْ أَحَبَّ. قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَى الْحَدِيثِ زَجْرُ الْمُكَلَّفِ أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِلْقِيَامِ بِنَهْيٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَحَبَّةُ الْقِيَامِ لَهُ فَلَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ فَقَامُوا لَهُ أَوْ لَمْ يَقُومُوا فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَحَبَّهُ ثُمَّ قَامُوا أَوَّلًا فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِتَرْكِ الْقِيَامِ وَلَا يُنَافِيهِ نَدْبُ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الْكَمَالِ وَنَحْوِهِمْ انْتَهَى ثُمَّ الْمُصَنِّفُ اقْتَفَى أَثَرَ الْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْقِيَامِ وَإِلَّا فَكُلُّ مَا يُنْبِئُ عَنْ التَّرَفُّعِ وَالتَّكَبُّرِ كَالتَّقَدُّمِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَدَمِ الْمَشْيِ قُدَّامَهُ وَعَدَمِ التَّكَلُّمِ قَبْلَهُ وَعَدَمِ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ وَالتَّكَلُّمِ بِالْآدَابِ فِي حُضُورِهِ وَنَحْوِهَا مُلْحَقٌ بِمَا ذُكِرَ، فَالِاكْتِفَاءُ إمَّا لِلْمُقَايَسَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا أَنْ لَا يَمْشِيَ) فِي خَارِجِ بَيْتِهِ سِيَّمَا فِي أَسْوَاقِ مَدِينَتِهِ (إلَّا وَمَعَهُ غَيْرُهُ يَمْشِي خَلْفَهُ) أَوْ وَهُوَ رَاكِبٌ وَالْغَيْرُ كَالْخُدَّامِ وَالْغِلْمَانِ يَمْشُونَ قُدَّامَهُ وَسَائِرُ طُرَّافِهِ (دَيْلَمُ) الدَّيْلَمِيُّ (حَدّ) أَحْمَدُ (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ) مِنْ بَيْتِهِ (يَمْشِي إلَى الْبَقِيعِ» بِفَتْحِ الْبَاءِ مَقْبَرَةِ الْمَدِينَةِ ( «فَتَبِعَهُ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (أَصْحَابُهُ فَوَقَفَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمُوا وَمَشَى خَلْفَهُمْ فَسُئِلَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنِّي سَمِعْت خَفْقَ نِعَالِكُمْ» أَصْوَاتَهَا ( «فَأَشْفَقْت» حَذِرْت «أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ» لَعَلَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ لِتَعْلِيمِ الْأَمْرِ وَإِلَّا فَعُرُوضُ الْكِبْرِ لَهُ بَعِيدٌ وَلَوْ سُلِّمَ عُرُوضُهُ بَغْتَةً لَأَمْكَنَ لَهُ إخْرَاجُهُ دَفْعَةً بِلَا حَاجَةٍ إلَى هَذَا التَّقْدِيمِ فَيَضْعُفُ بِهِ مَا قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا أَمْنَ لِأَحَدٍ مِنْ الْكِبْرِ وَأَنَّ غَايَتَهُ الْمَغْلُوبِيَّةُ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَزْدَادُ بُعْدًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مَا مُشِيَ خَلْفَهُ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُعْرَفُ مِنْ عَبِيدِهِ إذْ كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُمْ فِي صُورَةٍ ظَاهِرَةٍ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَشْيَ الْغَيْرِ خَلْفَهُ سَبَبٌ لِلْكِبْرِ يَلْزَمُ احْتِرَازُهُ لَعَلَّ ذَلِكَ دَائِرٌ عَلَى الْقَلْبِ فَمَنْ لَا يَتَخَاطَرُ عَلَيْهِ شَائِبَةُ كِبْرٍ لَا يَلْزَمُ احْتِرَازُهُ. (وَمِنْهَا) مِنْ أَخْلَاقِ الْمُتَكَبِّرِينَ (أَنْ لَا يَزُورَ غَيْرَهُ) سِيَّمَا نَحْوُ أَمْثَالِهِ (وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْ زِيَارَتِهِ) لِلْغَيْرِ (خَيْرٌ لَهُ) لِلزَّائِرِ وَالْمَزُورِ (أَوْ لِغَيْرِهِ) مِنْ اسْتِفَاضَةِ أَنْوَارِ الْعُلُومِ وَانْجِذَابِ الْكِمَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ مِنْ الْمَلَكَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالسِّيَرِ السَّنِيَّةِ، وَهَذَا الْمِسْكِينُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْخَوَالِفِ حَيْثُ رَجَّحَ عَلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ تَلَهِّيَ هَوَاهُ وَأَجْرَى مُيُولَاتِهِ الشَّيْطَانِيَّةَ

(مِنْ التَّعْلِيمِ التَّوَاضُعُ) كَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا نَبَّهَ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ زِيَارَةِ الْكِبَارِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ؛ لِأَنَّ أَثَرَ التَّوَاضُعِ أَظْهَرُ فِيهِ كَمَا فِي الِاحْتِسَابِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَارَ يَوْمًا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَأَلْقَاهُ وِسَادَةً، فَقَالَ عُمَرُ لَمْ أَحْضُرْ لِهَذَا وَإِنَّمَا جِئْتُك لِتَفْتَحَ عَنِّي عُقْدَةً فِي قَلْبِي، فَقَالَ لَا تَلُمْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَخٌ مُسْلِمٌ فَأَلْقَاهُ وِسَادَةً غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا جَمِيعًا قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا» ، فَفِيهِ أَيْضًا بَيَانُ حُصُولِ الْخَيْرِ لَهُمَا وَاسْتِحْبَابُ الْقُدُومِ بِنَفْسِهِ لِأَجْلِ الْعِلْمِ وَمَسْأَلَتِهِ. (وَمِنْهَا مَنْ يَسْتَنْكِفُ مِنْ جُلُوسِ غَيْرِهِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ) فِرَارًا مِنْ إيهَامِ تَسَاوِي الْمَنْزِلَةِ مَعَهُ وَالْغَيْرُ فِي اعْتِقَادِهِ مِنْ الْخَسَائِسِ (إلَّا أَنْ يَجْلِسَ) ذَلِكَ الْغَيْرُ (بَيْنَ يَدَيْهِ) بَعِيدًا مِنْهُ كَالتِّلْمِيذِ فَرَضَاهُ فِي ذَلِكَ الْجُلُوسِ. (وَمِنْهَا أَنْ يَتَوَقَّى مُجَالَسَةَ الْمَرْضَى وَالْمَعْلُولِينَ وَيَتَحَاشَى عَنْهُمْ) لَعَلَّ هَذَا مَا يَكُونُ لِدَاعِي الْكِبْرِ وَإِلَّا فَنَقْلُ جَوَازِ الْفِرَارِ مِنْ الْأَمْرَاضِ السَّارِيَةِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى لَكِنْ فِي الْإِحْيَاءِ «دَخَلَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ جُدَرِيٌّ قَدْ تَقَشَّرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ فَمَا جَلَسَ بِجَنْبِ أَحَدٍ إلَّا قَامَ مِنْ جَنْبِهِ فَأَجْلَسَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِجَنْبِهِ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يُقْعِدُ عَلَى الْمَائِدَةِ مَنْ رَأَى مِنْ الْمَجْذُومِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمُبْتَلَى. (وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَعَاطَى) لَا يَتَنَاوَلَ (بِيَدِهِ شُغْلًا فِي بَيْتِهِ) رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَاهُ لَيْلَةً ضَيْفٌ وَكَانَ يَكْتُبُ وَكَادَ السِّرَاجُ يُطْفَأُ فَأَرَادَ الضَّيْفُ إصْلَاحَهُ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْكَرَمِ اسْتِخْدَامُ الضَّيْفِ فَأَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَ الْغُلَامَ قَالَ أَوَّلُ نَوْمَةٍ نَامَهَا فَقَامَ بِنَفْسِهِ فَمَلَأَ الْمِصْبَاحَ زَيْتًا، فَقَالَ الضَّيْفُ قُمْت أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ ذَهَبْت وَأَنَا عُمَرُ وَرَجَعْت وَأَنَا عُمَرُ وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَوَاضِعًا. (وَمِنْهَا أَنْ لَا يَحْمِلَ مَتَاعَهُ إلَى بَيْتِهِ) بِنَفْسِهِ (وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ هَذِهِ الْمَنْفِيَّاتِ) وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لَا يَنْقُصُ الرَّجُلَ مِنْ كَمَالِهِ مَا حَمَلَ مِنْ شَيْءٍ إلَى عِيَالِهِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَخْصِفُ النَّعْلَ وَيُرَقِّعُ الْقَمِيصَ وَيَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَقُولُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَلْبَسُوا الصُّوفَ وَيَحْلِبُوا الْغَنَمَ وَيَرْكَبُوا الْحِمَارَ، وَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِحَقٍّ أَقُولُ إنَّهُ مَنْ طَلَبَ الْفِرْدَوْسَ فَغِذَاءُ الشَّعِيرِ لَهُ وَالنَّوْمُ عَلَى الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ كَثِيرٌ وَفِيهِ نَدْبُ خِدْمَةِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ وَأَنَّهُ لَا دَنَاءَةَ فِي ذَلِكَ. (وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَنْكِفَ عَنْ لُبْسِ الدُّونِ مِنْ الثِّيَابِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا خَرَّجَهُ د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ «الْبَذَاذَةُ» بِفَتْحِ الْبَاءِ رَثَاثَةُ الْهَيْئَةِ وَخُلُوقَةُ الثِّيَابِ وَقِيلَ الدُّونُ مِنْ الثِّيَابِ «مِنْ الْإِيمَانِ» مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفِيسَةِ بِلَا وِجْدَانِ كَرَاهَةٍ فِي الْقَلْبِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إلَى السُّوقِ وَبِيَدِهِ الدِّرَّةُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً بَعْضُهَا مِنْ أُدْمٍ وَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَوْدَةُ الثِّيَابِ خُيَلَاءُ الْقَلْبِ وَكَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الَّذِي لِأَجْلِهِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَأَجِدُ نَفْسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ» وَكَانَ هُوَ يَجْمَعُ قِطَعَ الْخِرَقِ مِنْ الْمَزَابِلِ وَيَغْسِلُهَا وَيَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَيَلْبَسُهَا وَمِنْ أَحَادِيثِ الْجَامِعِ «أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَبَذِّلَ» أَيْ تَارِكَ الزِّينَةِ تَوَاضُعًا «الْمُحْتَرِفَ» الَّذِي لَهُ صِنَاعَةَ يَكْتَسِبُ بِهَا «الَّذِي لَا يُبَالِي مَا لَبِسَ» أَهُوَ مِنْ الْفَاخِرَةِ أَوْ أَدْنَى اللِّبَاسِ وَأَقَلِّهِ قِيمَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَأْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْهَجُ الْحُكَمَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَخْدُمُك وَلَا يَسْتَخْدِمُك قَالَ الْغَزَالِيُّ

الَّذِينَ يُنَظِّفُونَ ثِيَابَهُمْ وَيَطْلُبُونَ الثِّيَابَ الرَّفِيعَةَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَرُوسِ الَّتِي تُزَيِّنُ نَفْسَهَا طُولَ النَّهَارِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عِبَادَةِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَبَيْنَ عِبَادَتِهِ صَنَمًا وَمَنْ رَأَى ثَوْبَهُ بِحَيْثُ يَلْتَفِتُ إلَيْهِ قَلْبُهُ فَهُوَ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ وَقَالَ الْبَسْ مَا يَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَيَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَهُوَ كِسَاءٌ يُغَطِّي بِهِ رَأْسَهُ وَأَوْسَطُهُ قَمِيصٌ وَقَلَنْسُوَةٌ وَنَعْلَانِ وَأَعْلَاهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْدِيلٌ وَسَرَاوِيلُ وَرُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَبِسَ الْمُسُوحَ حَتَّى نَقَبَتْ جِلْدَهُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ الْبَسْ مَكَانَ الْمِسْحِ جُبَّةً مِنْ صُوفٍ فَفَعَلَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا يَحْيَى أَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا فَبَكَى وَنَزَعَهَا وَعَادَ كَمَا كَانَ وَقَالَ أَيْضًا «وَكَانَتْ قِيمَةُ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَاحْتَذَى نَعْلَيْنِ جَدِيدَتَيْنِ فَأَعْجَبَهُ حُسْنَهُمَا فَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ تَوَاضَعْت لِرَبِّي خَشْيَةَ أَنْ يَمْقُتَنِي ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا إلَى أَوَّلِ مِسْكِينٍ لَقِيَهُ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُمَا» وَاشْتَرَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثَوْبًا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَلَبِسَهُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ وَقَطَعَ كُمَّيْهِ مِنْ رُسْغٍ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَذَا مِنْ رِيَاشِهِ وَتَمَامُهُ فِي الْمُنَاوِيِّ. (وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَنْكِفَ عَنْ) إجَابَةِ (دَعْوَةِ الْفَقِيرِ) وَأَنْ يَحْضُرَ إلَى ضِيَافَتِهِ (لَا عَنْ دَعْوَةِ الْغَنِيِّ وَالشَّرِيفِ) حَيْثُ يُجِيبُ دَعْوَتَهُمَا وَقَدْ كَانَ الْفُقَرَاءُ أَفْضَلَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَإِنْ كَانُوا شَاكِرِينَ مَا دَامَ الْفُقَرَاءُ صَابِرِينَ وَأَيْضًا فِي طَعَامِهِمْ بَرَكَةٌ وَجَبْرُ قُلُوبِهِمْ وَكَسْرُ صَوْلَةِ النَّفْسِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ دُونَكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى» وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ «أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَأَدْنُوَ مِنْهُمْ» وَقَدْ «نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ مُخَالَطَةِ الْأَغْنِيَاءِ» وَعَنْ عُمَرَ إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى أَهْلِ السَّعَةِ وَحِينَ سَأَلَ هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَتْبَعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَوْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَقَالَ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ هِرَقْلُ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَعَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ مَرَّ بِهِ الْغَنِيُّ وَالْمِسْكِينُ فِي الْمَسْجِدِ هَذَا يَعْنِي الْمِسْكِينَ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مِثْلِ هَذَا يَعْنِي الْغَنِيَّ» . (وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَنْكِفَ عَنْ قَضَاءِ حَاجَةِ الْأَقْرِبَاءِ وَالرُّفَقَاءِ) مِنْ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ (فِي السُّوقِ خُصُوصًا شِرَاءَ الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ كَالصَّابُونِ وَالْكَبِدِ وَالْكَرِشِ وَالْحِنَّاءِ وَالنُّورَةِ وَالْمَصْطَكَى وَالْمُشْطِ وَمِنْهَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الْأَقْرَانِ فِي الْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ بِحَيْثُ) ظَرْفٌ لِتَقَدُّمٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ (فَإِنْ اتَّفَقَ ذَلِكَ) التَّقَدُّمُ فِي الْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ (فَإِمَّا أَنْ يَذْهَبَ وَيُفَارِقَ فَلَا يَمْشِي وَلَا يَجْلِسُ) مَعَهُ أَصْلًا (أَوْ يَبْعُدُ عَنْهُ فِي الْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَقْرَانِهِ (أَشْخَاصٌ مِمَّنْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُمْ) أَيْ الْأَشْخَاصَ (أَدْوَنُ مِنْهُ) مِنْ الْمُتَكَبِّرِ (لِيُظْهِرَ) بَيْنَ النَّاسِ (أَنَّهُ اخْتَارَ التَّوَاضُعَ إذْ لَوْ كَانَ مُتَّصِلًا مُؤَخَّرًا عَنْهُ) فِي الْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ (لَظَنَّ أَنَّهُ أَدْوَنُ مِنْهُ) وَذَلِكَ يَخِفُّ عَلَى نُفُوسِ الْمُتَكَبِّرِينَ إذْ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا مَكَانَهُمْ بِالِاخْتِيَارِ وَالتَّفَضُّلِ فَيَكُونُ قَدْ تَكَبَّرَ وَتَكَبَّرَ بِإِظْهَارِ التَّوَاضُعِ أَيْضًا. (وَمِنْهَا عَدَمُ قَبُولِ الْحَقِّ عِنْدَ مُنَاظَرَةِ الْأَقْرَانِ مِنْ صَاحِبِهِ) لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَعْلَمِيَّتَهُ

المبحث الخامس آخر مباحث الكبر في أسباب الضعة

وَيُهَانُ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ مِنْ نَظَرِهِمْ (وَعَدَمُ الِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِ) مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ كَوْنَهُ فِي خَطَإٍ (وَ) عَدَمُ (الشُّكْرِ لَهُ) لِصَاحِبِهِ عَلَى إعْلَامِهِ وَإِرْشَادِهِ إلَى الْحَقِّ الْأَوْلَى مَعَ أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِهِ عِنْدَ ذَلِكَ هُوَ الشُّكْرُ وَعَدَمُ ذَلِكَ الْقَبُولِ (إمَّا لِعَدَمِ الْإِصْغَاءِ وَالتَّأَمُّلِ فِي كَلَامِهِ احْتِقَارًا وَاسْتِصْغَارًا لَهُ) يَعْنِي لَا يُصْغِي لِكَلَامِهِ لِعَدَمِ اعْتِنَائِهِ بِكَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي اعْتِقَادِهِ حَقِيرٌ وَصَغِيرٌ وَكَذَا عَدَمُ تَأَمُّلِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ عَدَمُ الشُّكْرِ، وَعَدَمُ الِاعْتِرَافِ يَقْتَضِي فَهْمَ كَلَامِ صَاحِبِهِ وَقَوْلُهُ هَذَا يَقْتَضِي جَانِبَ عَدَمِ فَهْمِهِ فَافْهَمْ قِيلَ هُنَا كَمَا فَعَلَهُ الْمُدَرِّسُونَ مَعَ تَلَامِذَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي أَيْدِيهِمْ وَكَمَا فَعَلَ الْكَفَرَةُ مَعَ الْقُرْآنِ لَا يَخْفَى الْكَلَامُ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَهُمَا لَيْسَا بِمُنَاظَرَةٍ وَأَنَّ عَدَمَ اعْتِرَافِ الْأُسْتَاذِ مِنْ التِّلْمِيذِ يَجُوزُ لِمَصْلَحَةٍ كَتَشْحِيذِ الْأَذْهَانِ وَاخْتِبَارِ الْأَفْهَامِ وَعَدَمِ زَوَالِ اعْتِقَادِ التِّلْمِيذِ فِي حَقِّ أُسْتَاذِهِ فَيُخِلُّ بِتَعَلُّمِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضٍ (أَوْ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً) أَيْ إصْرَارًا عَلَى الْبَاطِلِ وَنُصْرَةً لِلْبَاطِلِ وَتَقْوِيَةً لَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ (فَكُلُّ هَذِهِ) الْمَذْكُورَاتِ (إنْ كَانَ فِي الْمَلَإِ فَقَطْ فَرِيَاءٌ) وَلَيْسَ فِيهِ كِبْرٌ فَيُعَالَجُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ قَطْعِ الطَّمَعِ عَنْ النَّاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَدْوِيَةِ الرِّيَاءِ (وَإِنْ كَانَ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَلَإِ (وَفِي الْخَلْوَةِ) جَمِيعًا (فَكِبْرٌ) فَيَنْبَغِي أَنْ يُدَاوِمَ التَّوَاضُعَ وَالْمَسْكَنَةَ حَتَّى يَظْهَرَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْوَاعُ الْعُلُومِ الرَّبَّانِيَّةِ وَأَصْنَافُ الْمَعَارِفِ السُّبْحَانِيَّةِ كَالتُّرَابِ لِتَوَاضُعِهِ تَحْتَ الْأَقْدَامِ أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْوَاعَ الثِّمَارِ وَالطَّعَامِ «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَفِيفَ الْمُؤْنَةِ لَيِّنَ الْخُلُقِ كَرِيمَ الطَّبِيعَةِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ مَحْزُونًا مِنْ غَيْرِ عُبُوسٍ رَقِيقَ الْقَلْبِ رَءُوفًا رَحِيمًا لَمْ يَتَجَشَّأْ قَطُّ مِنْ شِبَعٍ وَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ لِطَمَعٍ يَعُودُ الْمَرِيضَ وَيُشَيِّعُ الْجِنَازَةَ وَيُجِيبُ الدَّعْوَةَ» قَالَ فِي الرَّوْضَةِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ «وَلَا يَحْتَقِرُ مَا دُعِيَ إلَيْهِ وَلَوْ إلَى كُرَاعٍ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَوْ حَشَفَ التَّمْرِ وَيَعْلِفُ الْبَعِيرَ وَالشَّاةَ وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَخْصِفُ النَّعْلَ وَيَرْقَعُ الثَّوْبَ وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ وَيَطْحَنُ مَعَهُ إذَا عَيِيَ وَيُقِيمُ حَوَائِجَ الْبَيْتِ وَيَحْمِلُ حَاجَتَهُ فِي السُّوقِ إلَى أَهْلِهِ وَيَتَصَافَحُ مَعَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَيَبْدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَيُسَلِّمُ عَلَى الصِّبْيَانِ إذَا مَرَّ بِهِمْ» ، وَلِهَذَا قِيلَ مِنْ رَأْسِ التَّوَاضُعِ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ مَنْ لَقِيَهُ، كَذَا نُقِلَ عَنْ التَّوْفِيقِ وَالْإِحْيَاءِ [الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ آخِرُ مَبَاحِثِ الْكِبْرِ فِي أَسْبَابِ الضَّعَةِ] آخِرُ مَبَاحِثِ الْكِبْرِ (فِي أَسْبَابِ الضَّعَةِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ (وَالتَّوَاضُعِ وَفَوَائِدِهِمَا) مِنْ قَبِيلِ اسْتِكْشَافِ الْأَشْيَاءِ بِالْأَضْدَادِ فَالتَّوَاضُعُ ضِدُّ التَّكَبُّرِ وَقِيلَ خَفْضُ الْجَنَاحِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَقِيلَ التَّكَبُّرُ لِلْأَغْنِيَاءِ وَالتَّذَلُّلُ لِلْفُقَرَاءِ وَعَرَّفَهُ الْمُصَنِّفُ بِالرُّكُونِ إلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ دُونَ غَيْرِهِ (أَمَّا الْأُولَى) مِنْ أَسْبَابِ الضَّعَةِ (فَهِيَ مَعْرِفَةُ نَفْسِهِ مِنْ أَيْنَ إلَى أَيْنَ) مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ نُطْفَةٍ ثُمَّ عَلَقَةٍ ثُمَّ مُضْغَةٍ ثُمَّ جِسْمٍ جَمَادٍ ثُمَّ نُفِخَ الرُّوحُ فِيهِ وَوُكِّلَتْ بِهِ الْأَمْرَاضُ إلَى أَنْ كَانَ آخِرُهُ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَتَفَرُّقَ الْأَجْزَاءِ وَغِذَاءَ الدِّيدَانِ وَتَنَادِي الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ

فِي الْمَهَانِ وَالْعَذَابِ قِيلَ عَنْ الرِّعَايَةِ مَا حَاصِلُهُ أَرَأَيْت مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِضَرْبِ أَلْفِ سَوْطٍ وَحُبِسَ لِأَجْلِهِ فِي سِجْنٍ يَنْتَظِرُ مَتَى يَخْرُجُ وَيُضْرَبُ كَيْفَ ذِلَّتُهُ فِي السِّجْنِ وَتَوَقُّعُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعَرْضِ فَيُضْرَبُ، فَكَذَا مَنْ فِي سِجْنِ الدُّنْيَا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ لَا يَدْرِي مَتَى يَخْرُجُ مِنْ الدُّنْيَا فَيُعْرَضُ عَلَى الْعَذَابِ فَهُوَ فِي خَوْفِ الْعَذَابِ يَتَوَقَّعُ الْمَوْتَ فَيَعْمَى بَعْدَ الْبَصَرِ وَيَصَمُّ بَعْدَ السَّمْعِ وَيَبْكَمُ بَعْدَ النُّطْقِ وَلَوْ تُقَطَّعُ أَوْصَالُهُ فَيَكُونُ جِيفَةً مُنْتِنَةً وَقَذِرَةً مُسْتَوْحَشَةً ثُمَّ يُحْيِيهِ اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ فَزَفِيرُ جَهَنَّمَ فِي سَمْعِهِ وَرُكُوبُ الصِّرَاطِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَالْعَرْضُ عَلَى الْمَوْلَى لِلسُّؤَالِ لِكُلِّ عَمَلِهِ فَالْأَمْرُ إلَى عَذَابٍ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ فِي غَايَةِ هَوَانٍ وَضَعْفٍ وَذُلٍّ. فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ كَيْفَ كَانَ مَبْدَؤُهُ وَأَصْلُهُ وَفَصْلُهُ وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ وَالْبِلَى وَالْعَذَابِ فَلَا جَرَمَ زَالَ عَنْهُ الْكِبْرُ وَلَزِمَهُ الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ وَالتَّوَاضُعُ وَالشُّكْرُ لِلنِّعَمِ وَالِانْكِسَارُ لَعَلَّ هَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ يَكْفِي فِي هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى سَبْعِ آيَاتٍ - {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: 18] {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19] {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22]- فَقَدْ أَشَارَتْ إلَى أَوَّلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ فَخُلِقَ مِنْ كَتْمِ الْعَدَمِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا وَلَا شَيْءَ أَخَسَّ مِنْ الْعَدَمِ ثُمَّ خَلَقَهُ مِنْ أَذَلِّ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ مِنْ أَقْذَرِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ لَيْسَ لَهَا حَيَاةٌ وَقُوَّةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ ثُمَّ خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: 18] {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19]- ثُمَّ امْتَنَّ بِقَوْلِهِ - {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20]- وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ إلَى الْمَوْتِ وَهُوَ بَعْدُ عَلَى غَايَةِ النُّقْصَانِ تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْأَمْرَاضُ وَالْعِلَلُ وَتُضَادُّ فِيهِ الطَّبَائِعُ وَيَهْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَمْرَضُ كُرْهًا وَيَجُوعُ كُرْهًا وَلَا يَأْمَنُ فِي لَحْظَةٍ مِنْ الْمَوْتِ وَالْآفَاتِ ثُمَّ آخِرُهُ الْمَوْتُ وَالتَّعَرُّضُ لِلْعِقَابِ وَالْحِسَابِ فَإِنْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَالْخِنْزِيرُ خَيْرٌ مِنْهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلِيقُ بِهِ الْكِبْرُ وَهُوَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ - {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] . - (وَمَعْرِفَةُ عُيُوبِ غَوَائِلِ الْكِبْرِ) لِيَمْتَنِعَ عَنْهُ وَيَجْتَهِدَ فِي إزَالَتِهِ. (وَ) مَعْرِفَةُ (فَوَائِدُ التَّوَاضُعِ وَفَضَائِلِهِ) لِيَتَشَوَّقَ إلَى تَحْصِيلِهِ (مِنْ كَوْنِهِ) بَيَانٌ لِلْفَضَائِلِ (مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُوتِيتُ مَفَاتِحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَخُيِّرْت بَيْنَ أَنْ أَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا وَنَبِيًّا مَلِكًا بِكَسْرِ اللَّامِ فَأَوْحَى جَبْرَائِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ فَاخْتَرْت أَنْ أَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا فَأُوتِيتُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلَ شَافِعٍ» كَذَا نُقِلَ عَنْ الْقُنْيَةِ، وَفِي الْفَيْضِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى أَتَدْرِي لِمَ اصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي قَالَ لَا يَا رَبِّ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاضَعْ إلَيَّ أَحَدٌ قَطُّ تَوَاضُعَك (وَالْأَوْلِيَاءِ) رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ سَمِعْت قَرِيبًا قِصَّةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَنُقِلَ عَنْ تَفْسِيرِ أَبِي السُّعُودِ أَنَّ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ كَانَ عِنْدَهُ ضَيْفٌ فَاسْتَعْجَلَتْ جَارِيَةٌ بِالْعِشَاءِ فَأَرَاقَتْ الْقَصْعَةَ عَلَى رَأْسِ سَيِّدِهَا فَقَالَ سَيِّدُهَا أَحْرَقْتنِي فَقَالَتْ يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ وَمُؤَدِّبَ النَّاسِ ارْجِعْ إلَى مَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]- قَالَ كَظَمْت غَيْظِي قَالَتْ زِدْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ - {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]- قَالَ عَفَوْت عَنْك، قَالَتْ زِدْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ - {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]- قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْعُلَمَاءِ) الْعَامِلِينَ (وَالصَّالِحِينَ) وَكَانُوا أَعَزَّ النَّاسِ عِنْدَ الْخَلْقِ وَعِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ إلَّا زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِفْعَةً. كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَقِيلَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ حَيْثُ وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعَجْزِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ تَحْتَ أَوَامِرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَكُونَ عَبْدًا فِي كُلِّ حَالٍ

فَيَرْفَعَهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ وَعَنْ الطَّبَرِيِّ فِي التَّوَاضُعِ مَصْلَحَةُ الدَّارَيْنِ فَلَوْ اسْتَعْمَلَتْهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا زَالَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ الشَّحْنَاءُ وَاسْتَرَاحُوا مِنْ نَصَبِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ مَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَسْفَلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا فَكَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ كَيْفَ صَعِدْت هُنَا وَأَنْتَ فِي الذُّلِّ، فَقَالَ لِسَانُ حَالِهِ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ. قَالَ فِي الْحِكَمِ مَا طُلِبَ لَك شَيْءٌ مِثْلُ الِاضْطِرَارِ وَلَا أَسْرَعَ بِالْمَوَاهِبِ إلَيْك مِثْلُ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ كَذَا فِي الْفَيْضِ مُلَخَّصًا (وَ) كَوْنُهُ (مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَبًا لِرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ) وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ حَبِيبَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالتَّوَاضُعِ فَقَالَ - {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]- وَقَدْ مَدَحَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]- أَيْ تَوَاضُعًا وَفِي الرَّوْضَةِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا أَرَدْت أَنْ تَطِيرَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْجَنَّةِ فَكُنْ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْخَلْقِ كَالْهَامَةِ مَعَ الطُّيُورِ وَكُنْ بِالتَّوَاضُعِ مَعَ الضُّعَفَاءِ كَالْأَرْضِ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ وَلْيَكُنْ مَا فِي يَدَيْك كَالْمَاءِ الْجَارِي فِي النَّهْرِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَكُنْ مُشْرِفًا عَلَى الْخَلْقِ كَالشَّمْسِ عَلَى الدُّنْيَا وَكُنْ حَارًّا فِي طَاعَتِي كَالنَّارِ وَكُنْ خَائِفًا وَجِلًا كَالْوَرَقِ مَعَ شَجَرٍ وَكُنْ هَيِّنًا لَيِّنًا مَعَ الْخَلْقِ كَالْجَمَلِ فِي يَدِ الْجَمَّالِ وَكُنْ خَفِيفًا عِنْدَ حَاجَاتِ النَّاسِ كَالتُّرَابِ عِنْدَ الرِّيحِ وَكُنْ ثَقِيلًا عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ (وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُنْزِلَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ مَنْزِلَتَهُ) أَيْ الْعَبْدِ إذْ مَنْزِلَةُ الْعَبْدِ هُوَ الذُّلُّ وَالضَّعْفُ وَالْحَقَارَةُ فَتَكَبُّرُهُ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ وَقِيلَ أَيْ قِيَاسُ التَّوَاضُعِ عَلَى سَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ التَّنْزِيلُ الْمَذْكُورُ (لَا دُونَهَا وَلَا فَوْقَهَا) شَرْعًا وَعُرْفًا (كَالشَّجَاعَةِ بَيْنَ التَّهَوُّرِ) هُوَ الْوُقُوعُ فِي أَمْرٍ بِلَا رَوِيَّةٍ (وَالْجُبْنِ وَالْعِفَّةِ بَيْنَ الشَّرَهِ) الْحِرْصِ الشَّدِيدِ (وَالْخُمُودِ) مَوْتِ الشَّهْوَةِ وَسُكُونِ لَهَبِهَا فِي النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَالسَّخَاءِ) الْجُودِ وَالْكَرَمِ (بَيْنَ الْبُخْلِ وَالْإِسْرَافِ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا) وَطَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ (لَكِنْ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَكَانَ الْقِيَاسُ (لَمَّا كَانَ النَّفْسُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَانَتْ وَهُوَ الْأَقْيَسُ (مَائِلَةً بِالطَّبْعِ) إذَا خَلَتْ عَنْ الْعَوَائِقِ وَطَبْعُهَا أَنْ تَكُونَ مَائِلَةً (إلَى الْعُلُوِّ كَانَ الْأَحْوَطُ) مِنْ الِاحْتِيَاطِ (وَالْأَنْسَبُ حَطَّهَا) تَنْزِيلَ النَّفْسِ (عَنْ مَرْتَبَتِهَا قَلِيلًا إذْ رُبَّمَا لَا يَدْرِي مَرْتَبَتَهَا) شَرْعًا وَعُرْفًا (فَيُنْزِلَ) الْعَبْدُ (نَفْسَهُ فَوْقَهَا غَفْلَةً) عَنْ مَرْتَبَتِهِ (وَحُبًّا لِلْعُلُوِّ) عَلَى الْأَقْرَانِ (إذْ حُبُّ الشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ) قِيلَ هَذَا تَلْمِيحٌ لِحَدِيثِ «حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» وَاقْتِبَاسٌ مِنْهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُمَا مَفْهُومَانِ مُتَنَافِيَانِ إلَّا بِاعْتِبَارَيْنِ قَالَ فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ يَجْعَلُك أَعْمَى عَنْ عُيُوبِ الْمَحْبُوبِ وَأَصَمَّ عَنْ سَمَاعِهَا حَتَّى لَا تُبْصِرَ قَبِيحَ فِعْلِهِ وَلَا تَسْمَعَ فِيهِ نَهْيَ نَاصِحٍ، بَلْ تَرَى الْقَبِيحَ مِنْهُ حَسَنًا وَتَسْمَعُ مِنْهُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ كَثِيرٍ يُعْمِي الْعَيْنَ عَنْ النَّظَرِ إلَى مُسَاوِيهِ وَيُصِمُّ الْأُذُنَ عَنْ الْعَذَلِ فِيهِ أَيْ يُعْمِي وَيُصِمُّ عَنْ الْآخِرَةِ أَوْ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى، وَفَائِدَتُهُ النَّهْيُ عَنْ حُبِّ مَا لَا يَنْبَغِي الْإِغْرَاقُ فِي حُبِّهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ عَدَّهُ الْعَسْكَرِيُّ مِنْ الْأَمْثَالِ وَالْحُبُّ لَذَّةٌ تُعْمِي عَنْ رُؤْيَةِ غَيْرِ

الْمَحْبُوبِ وَتُصِمُّ عَنْ سَمَاعِ الْعَذَلِ فِيهِ وَالْمَحَبَّةُ إذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْقَلْبِ سَلَبَتْهُ عَنْ صِفَاتِهِ انْتَهَى وَيَقْرَبُ مِنْهُ مَا قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا صَدَقَتْ الْمَحَبَّةُ سَقَطَتْ شُرُوطُ الْأَدَبِ وَ (هَذَا) أَيْ كَوْنُ حَطِّ النَّفْسِ عَنْ مَرْتَبَتِهَا أَحْوَطَ وَأَنْسَبَ (فِي التَّوَاضُعِ) أَيْ فِي إظْهَارِ الضَّعَةِ. (وَأَمَّا فِي الضَّعَةِ) نَفْسِهَا فَالْأَوَّلُ مَا فِي الظَّاهِرِ وَالثَّانِي مَا فِي الْبَاطِنِ (فَالْأَوْلَى) الْأَحْرَى (أَنْ يَرَى) يَعْتَقِدَ (نَفْسَهُ أَدْنَى) أَذَلَّ (مِنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَهَذَا دَأْبُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ) مِنْ سَادَاتِنَا الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ (حَتَّى قَالَ الشِّبْلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قِيلَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ الْوَلِيُّ الْمَشْهُورُ بَغْدَادِيٌّ صَحِبَ الْجُنَيْدَ قُدِّسَ سِرُّهُ مَالِكِيٌّ مَذْهَبًا عَاشَ سَبْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً وَقَبْرُهُ بِبَغْدَادَ (عَطَّلَ) لَعَلَّهُ مِنْ التَّعْطِيلِ (ذُلِّي) فَأَعَلَّهُ أَيْ جَعَلَ ذُلِّي (ذُلَّ الْيَهُودِ) مُعَطَّلًا يَعْنِي صَارَ ذُلُّ الْيَهُودِ مُعَطَّلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ ذُلِّي أُعْدِمَ بَقَاءُ ذُلٍّ لَهُمْ فَجَمِيعُ الذُّلِّ حَصَلَ لَهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْيَهُودِ ذُلٌّ وَقَدْ كَانَ الْيَهُودِيُّ عَرِيفَنَا بِالذُّلِّ عِنْدَ النَّاسِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْخُ نَفْسَهُ أَدْنَى مِنْ الْيَهُودِيِّ الَّذِي هُوَ أَذَلُّ الْخَلْقِ فَانْظُرْ (وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ أَرَادَ جَمِيعُ الْخَلْقِ أَنْ يَضَعُونِي أَدْنَى مِمَّا فِي نَفْسِي مِنْ الدَّنَاءَةِ) الَّتِي حَصَلَتْ بِنَفْسِهَا فِي نَفْسِهِ (مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ) لِعَدَمِ تَصَوُّرِ رُتْبَةٍ أَدْنَى مِنْهَا إذْ كُلُّ مَنْزِلَةٍ مُتَصَوَّرَةٍ فِي الْحَقَارَةِ فَنَفْسِي أَحْقَرُ مِنْهَا (فَإِنْ اخْتَلَجَ) اضْطَرَبَ (فِي قَلْبِك أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ) لَا سِيَّمَا الْمُؤْمِنُ هَذَا سُؤَالٌ نَشَأَ مِنْ قَوْلِ الدَّارَانِيِّ وَالشِّبْلِيِّ (نَفْسَهُ أَدْنَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ) وَهُمَا فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَنِهَايَةِ الدَّنَاءَةِ لِلْقَطْعِ بِكُفْرِهِمَا وَكَوْنِ كُفْرِهِمَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ مِلَّةً وَاحِدَةً لَكِنَّهُ مُتَفَاوِتٌ كَكُفْرِ دَعْوَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَاَلَّذِي جَمَعَ فِيهِ أَنْوَاعَ جِهَةِ الْكُفْرِ وَتَفَرَّعَ عَلَى كُفْرِهِ أَنْوَاعُ الْفَضَائِحِ وَالشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ كَمَا فِي إبْلِيسَ لَعَلَّ اخْتِيَارَهُمَا فِي الْمِثَالِ لِلْإِشَارَةِ إلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَلَا يَضُرُّهُ عَدَمُ ذِكْرِهِ فِي أَمْثِلَةِ مَنْ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِكُفْرِهِ فِي وَصَايَاهُ التُّرْكِيَّةِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ الْبَعْضِ كَالدَّوَّانِيِّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسْتَقِلَّةِ مِنْ عَدَمِ إكْفَارِهِ اقْتِدَاءً بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي فُصُوصِهِ وَأَوْضَحَهُ بَعْضُ شُرَّاحِهِ كَالْجَامِيِّ بِأَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] بِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَالْأَصْلُ فِي نَفْيِ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَرْجِعَ الْقَيْدُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَا عَصَيْت يَا فِرْعَوْنُ الْآنَ وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَقَدْ أَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ كَابْنِ الْكَمَالِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ إمَّا الْكُفْرُ أَوْ الضَّلَالُ لِلْمُخَالَفَةِ إمَّا لِلنُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ أَوْ الْمُفَسَّرَةِ وَإِمَّا لِلنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ أَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْفُرَ لِكَوْنِ الِاحْتِجَاجِ بِمُحْتَمَلِ النَّصِّ وَلَوْ بَعِيدًا وَأَمَّا الشَّيْخُ ابْنُ عَرَبِيٍّ فَقَدْ طَالَ فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَكَثُرَتْ الْفُتْيَا وَالْأَقْوَالُ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَفَّرُوهُ كَسَعْدِ الدِّينِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ غَيْرُ الْمَعْرُوفِ وَكَعَلِيٍّ الْقَارِي فِي رِسَالَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ لِرَدِّ الْفُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ عَدَّ مَوَاضِعَ تَخْطِئَةِ الْفُصُوصِ وَكَفَّرَ بِكُلٍّ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ لُزُومَ التَّأْوِيلِ إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامِ الْمَعْصُومِ، وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ فَإِمَّا يَكْفُرُ وَإِمَّا يَلْزَمُ عَدَمُ فَائِدَةِ مَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فُتِحَ بَابُ التَّأْوِيلَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ لَا يَكْفُرُ مُسْلِمٌ أَصْلًا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهَا بَعِيدَةً بِالنَّظَرِ إلَى أَنْفُسِهَا لَا نُسَلِّمُ بُعْدَهَا مُطْلَقًا، بَلْ عُلُوُّ شَأْنِ قَائِلِهَا وَكَلِمَاتُهُ الْمُتَكَثِّرَةُ وَالْمُتَعَدِّدَةُ الْمُهِمَّةُ فِي مَوَاضِعَ سَائِرِ كُتُبِهِ مُسْتَلْزِمَةٌ بِالْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ وَالطُّرُقِ النَّقْلِيَّةِ تَقَرُّبُ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتُ، بَلْ تَيَقُّنُهَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ لَا يَصِحُّ كَوْنُهَا مَدْلُولًا لِأَلْفَاظِهَا وَلَوْ الْتِزَامًا وَمَجَازًا بِالدَّلَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ قُلْنَا هَذَا بَحْثٌ اسْتِقْرَائِيٌّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَنَدٍ مُحَقَّقٍ وَأَنَّهُ عِنْدَ بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ لَفْظِهِ لَا يُخَطَّأُ بِالنَّظَرِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَإِنْ خُطِّئَ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهُ وَجُهِلَ بِحَسَبِهَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحًا مَخْصُوصًا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ كَالْمُرْتَجِلِ وَأَقُولُ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ ارْتِيَابَ أُولِي الْأَفْهَامِ وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الشَّيْخِ صَادِرَةٌ حَالَ الْغَيْبَةِ وَالسَّكْرَةِ

فَيَلْحَقُ بِالْمَجَانِينِ فَلَا يَكْفُرُ وَرُدَّ بِأَنَّ كِتَابَتَهُ فِي تَصْنِيفِهِ بِالْأَدِلَّةِ الدَّقِيقَةِ آبٍ عَنْهُ وَقِيلَ إنَّ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي الْفُصُوصِ مِنْ إلْحَاقِ يَهُودِيٍّ قَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي الْمَعْرُوضَاتِ إنَّ كَوْنَهُ كَذَلِكَ مَعْرُوفٌ وَجُمْهُورُ الْمَشَايِخِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ وَالسُّيُوطِيِّ وَابْنِ الْكَمَالِ وَأَبِي السُّعُودِ نَزَّهُوهُ عَنْ الْكُفْرِ وَحَكَمُوا بِفَضْلِهِ بَلْ بِوِلَايَتِهِ وَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ، وَقَالَ بَعْضٌ لَا يُمْكِنُ تَوْفِيقُ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ فَلَيْسَ مِثْلُ ذَلِكَ إلَّا افْتِرَاءٌ وَإِلْحَاقٌ مِنْ الْغَيْرِ كَمَا يَشْهَدُهُ تَوَاتُرُ حُسْنِ حَالِهِ وَشُهْرَةُ عُلُوِّ شَأْنِهِ وَيَشْهَدُهُ أَيْضًا مَا وَقَعَ فِي مَشَاهِيرِ سَائِرِ كُتُبِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا مِنْ حَضْرَةِ الشَّيْخِ وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ رَجُلٌ صَالِحٌ صَفِيٌّ وَالنَّظَرُ إلَى كُتُبِهِ مَمْنُوعٌ وَقَعَ فِيهِ نَهْيٌ سُلْطَانِيٌّ فَلْيُعْتَقَدْ بِحُسْنِهِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى كُتُبِهِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي فَتَاوَى أَبِي السُّعُودِ وَرِسَالَةِ ابْنِ الْكَمَالِ وَرِسَالَةِ السُّيُوطِيّ (فَقُلْ) فِي دَفْعِ ذَلِكَ (إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَذَلَهُمَا) تَرَكَ عَوْنَهُ وَنُصْرَتَهُ لَهُمَا (وَأَضَلَّهُمَا) خَلَقَ فِيهِمَا الضَّلَالَةَ (فَوَقَعَا فِيمَا وَقَعَا) مِنْ دَعْوَى الْأُلُوهِيَّةِ وَتَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ لِلِاسْتِكْبَارِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَارَا مَا صَارَا يَرُدُّ عَلَيْهِ إنْ كَانَ فِي إضْلَالِهِ تَعَالَى مَدْخَلٌ مِنْهُمَا كَصَرْفِ إرَادَتِهِمَا الْجُزْئِيَّةِ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ أَهْلِ الْحَقِّ فَلَا يَحْسِمُ الْجَوَابُ مَادَّةَ الْإِشْكَالِ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ الْجَبْرُ مَا وَقَعَ فِي دِيبَاجَةِ اللَّامِيَّةِ الشَّاطِبِيَّةِ يُعَدُّ جَمِيعُ النَّاسِ مَوْلًى لِأَنَّهُمْ ... عَلَى مَا قَضَاهُ اللَّهُ يُجْرُونَ أَفْعُلَا وَمَا أَوْضَحَهُ شَارِحُهَا الْجَعْبَرِيُّ أَيْ يَعْتَقِدُ الْمُجْتَبِي كُلَّ النَّاسِ سَادَاتٍ تَوَاضُعًا مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يُحَقِّرُ أَحَدًا طَائِعًا كَانَ أَوْ عَاصِيًا وَتَعْلِيلُهُ يَرْجِعُ أَنَّهُ يَعْتَقِدُهُمْ عَبِيدًا لِلَّهِ مَسْلُوبِي الِاخْتِيَارِ وَالْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَتَقَعُ أَفْعَالُهُمْ عَلَى مَا حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَزَلِ وَعَلَيْهِ دَلَّتْ النُّصُوصُ وَمَنْ هَذَا حَالُهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يَقْطَعَ النَّظَرَ عَنْ خَيْرِهِ وَضُرِّهِ وَمَنْ نَظَرَ الْمُحْدَثَاتِ بِعَيْنِ الْفَنَاءِ لَمْ يَبْقَ فِي الْوُجُودِ إلَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ وَهَذَا مَقَامُ التَّوْحِيدِ فَلَا يُدْفَعُ ذَلِكَ بَلْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَمَا ذَكَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ بِعِنْوَانِ الدَّقِيقَةِ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ لِلْجَبْرِيَّةِ لِتَعَلُّقِ الثَّوَابِ بِالِامْتِثَالِ وَالْعِقَابِ بِالْمُخَالَفَةِ فَلَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إنَّمَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَى الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَعَلَى مَا ذُكِرَ الِامْتِثَالُ وَالْمُخَالَفَةُ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، وَالْقَوْلُ إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ بِتَأْثِيرِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَقَطْ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَلَوْ سُلِّمَ نَفْعُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّاطِبِيِّ وَالْجَعْبَرِيِّ فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ نَفْعِهِ لِلْمُصَنِّفِ، وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ بِتَأْثِيرِ مَجْمُوعِ الْقُدْرَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ لَكِنَّ أَصْلَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ فَعَلَ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ صَادِرًا بَعْدَ صَرْفِهِ عَادَةً، لَكِنْ يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ عَلَى خَرْقِ عَادَةٍ فَعَدَمُ خَلْقِ التَّخَلُّفِ بَعْدَ الصَّرْفِ يَجْعَلُ الْفِعْلَ كَالصَّادِرِ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِنَّ نِسْبَةَ الْخِذْلَانِ وَالْإِضْلَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ مِنْ قَبِيلِ التَّغْلِيبِ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ إرَادَتِهِ لَفْظًا فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَابِ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَعْنًى وَلَعَلَّ الْحَقَّ فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ الْإِشْكَالِ أَنَّ الْكِبْرَ صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْعَبْدُ بِوَجْهِهِ وَأَمَّا جَوَازُ التَّكَبُّرِ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ فَلَعَلَّ الْكِبْرَ فِيهِ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ (وَوَفَّقَنِي وَهَدَانِي لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ) يَعْنِي مَا صَدَرَ مِنِّي مِنْ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ بِمَحْضِ عِنَايَتِهِ فَالْكَلَامُ كَالْكَلَامِ (فَلَوْ عَكَسَ) بِأَنْ خَذَلَنِي وَوَفَّقَهُمَا (لَعُكِسَ) لَكُنْت فِي خِذْلَانٍ وَكَانَا فِي هِدَايَةٍ (وَلَيْسَ اجْتِنَابُ نَفْسِي مِمَّا فَعَلَاهُ) فِرْعَوْنُ وَإِبْلِيسُ (مِنْ ذَاتِهَا) مِنْ ذَاتِ نَفْسِي أَصْلًا كَمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِلسِّيَاقِ أَوْ فَقَطْ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا كَمَا أُشِيرَ (بَلْ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى) وَتَوْفِيقِهِ (وَأَنَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي مِنْ الْخَبَائِثِ الْكَثِيرَةِ وَالْعُيُوبِ الْعَظِيمَةِ مَا لَا أَعْلَمُ مِنْهُمَا) أَيْ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ (وَالْمَعْلُومُ أَدْنَى مِنْ الشُّكُوكِ وَالْمَجْهُولِ) أَقُولُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَإِنْ سُلِّمَ مَعْلُومِيَّةُ الْخَبَائِثِ الْكَثِيرَةِ فِي نَفْسِهِ وَمَجْهُولِيَّتُهَا فِيهِمَا لَكِنْ أَيْضًا مَعْلُومٌ عَدَمُ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ أَعْنِي الْكُفْرَ وَوُجُودُ أَشْرَفِ الْفَضَائِلِ أَعْنِي الْإِيمَانَ فِي نَفْسِهِ وَعَدَمُ هَذَا الْأَشْرَفِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْأَخْبَثِ فِيهِمَا فَكَيْفَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ

دُونًا مِنْهُمَا وَقَدْ كَانَ التَّرْجِيحُ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْكَثْرَةِ (وَلَا أَعْلَمُ كَيْفَ أَمُوتُ) بِالْإِيمَانِ أَوْ الْكُفْرِ الْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ فِي غَيْرِ الْمَعْصُومِينَ وَلِهَذَا كَانَ الْأَمْنُ كُفْرًا (وَيُحْتَمَلُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَمُوتَ عَلَى الْكُفْرِ) بِخِذْلَانِهِ تَعَالَى (فَأُشَارِكَهُمَا فِي الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ) وَيَرِدُ أَيْضًا أَنَّ عَاقِبَتِي مَشْكُوكَةٌ وَأَنَّ عَاقِبَتَهُمَا مَجْزُومَةٌ، وَالْمَجْزُومَةُ أَدْنَى مِنْ الْمَشْكُوكَةِ وَأَنَّ غَايَتَهُ الْمُسَاوَاةُ وَالْكَلَامُ فِي الْأَدْنَوِيَّةِ عَلَى أَنَّ التَّسَاوِيَ فِي الْعَذَابِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ إذْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ خِفَّةُ عَذَابِ الْمُؤْمِنِ طُولَ عُمُرِهِ وَالْكَافِرُ فِي خَاتِمَةِ حَالِهِ، فَالْجَوَابُ الْحَقُّ هُوَ الْجَوَابُ الْحَقُّ فَالْحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَحَقُّ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَقَامَ خَطَابِيٌّ، بَلْ شِعْرِيٌّ يَقْنَعُ بِالظَّنِّ وَدَعْوَى وُجُودِ الظَّنِّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ وَاهٍ أَيْضًا (وَلْنَذْكُرْ) أَوْرَدَ عَلَى مِثْلِهِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ شَخْصٍ وَاحِدٍ آمِرًا وَمَأْمُورًا وَيُجَابُ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّجْرِيدِ كَأَنَّهُ يُجَرِّدُ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا وَيَتَخَاطَبُ مَعَهُ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِمْ اعْلَمْ وَيُمْكِنُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ - {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] . - (مَا وَرَدَ فِي فَضَائِلِ التَّوَاضُعِ) أَيْ بَعْضِهَا أَوْ جَمِيعِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَوَفَّقَهُ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ عِيَاضٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ أَوْصَى» وَحْيُ إرْسَالٍ وَهُوَ الْأَصْلُ وَزَعْمُ أَنَّهُ وَحْيُ إلْهَامٍ خِلَافَ الْأَصْلِ بِلَا دَلِيلٍ. وَالْوَحْيُ إعْلَامٌ فِي الْخَفَاءِ «أَنْ» بِأَنْ «تَوَاضَعُوا» بِخَفْضِ جَنَاحٍ وَلِينِ الْجَانِبِ وَأَنْ مُفَسِّرَةٌ «حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ» مِنْكُمْ «عَلَى أَحَدٍ» بِتَعْدَادِ مَحَاسِنِهِ كِبْرًا وَرَفْعِ قَدْرِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ تِيهًا وَعُجْبًا. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ التَّوَاضُعُ انْكِسَارُ الْقَلْبِ لِلَّهِ وَخَفْضُ جَنَاحِ الذُّلِّ وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ حَتَّى لَا يَرَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا وَلَا يَرَى لَهُ عِنْدَ أَحَدٍ حَقًّا وَالْفَخْرُ ادِّعَاءُ الْعَظِيمِ قَالَ الطِّيبِيُّ وَحَتَّى هُنَا بِمَعْنَى كَيْ «وَلَا يَبْغِيَ» بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى تَوَاضَعُوا أَيْ لَا يَجُورُ وَلَا يَتَعَدَّى «أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» وَلَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهَدًا أَوْ مُؤَمَّنًا مِنْ الْأَمَانِ وَالْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ. قَالَ الْجَدُّ بْنُ تَيْمِيَّةَ نَهَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَنْ نَوْعَيْ الِاسْتِطَالَةِ لِلْخَلْقِ الْفَخْرِ وَالْبَغْيِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَالَةَ إنْ بِحَقٍّ فَافْتِخَارٌ وَإِنْ بِغَيْرِهِ فَبَغْيٌ فَلَا يَحِلُّ هَذَا وَلَا ذَاكَ فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَائِفَةٍ فَاضِلَةٍ كَبَنِي هَاشِمٍ فَلَا يُفَضِّلُ نَفْسَهُ فَإِنَّ فَضْلَ الْجِنْسِ لَا يَسْتَلْزِمُ فَضْلَ الشَّخْصِ فَرُبَّ حَبَشِيٍّ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُمْهُورِ قُرَيْشٍ وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ لِلشَّيْخِ التَّوَاضُعُ مَعَ طَلَبَتِهِ - {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]- وَإِذَا طَلَبَ التَّوَاضُعَ لِمُطْلَقِ النَّاسِ فَكَيْفَ لِمَنْ لَهُ حَقُّ الصُّحْبَةِ وَحُرْمَةُ التَّوَدُّدِ وَصِدْقُ الْمَحَبَّةِ، لَكِنْ لَا يَتَوَاضَعُ مَعَهُمْ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ دُونَهُ. قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ مَنْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ تَوَاضُعًا فَهُوَ الْمُتَكَبِّرُ حَقًّا فَالتَّوَاضُعُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ رِفْعَةٍ مَعَ عَظَمَةٍ وَاقْتِدَارٍ لَيْسَ الْمُتَوَاضِعُ الَّذِي إذَا تَوَاضَعَ رَأَى أَنَّهُ فَوْقَ مَا صَنَعَ، بَلْ الَّذِي إذَا صَنَعَ رَأَى أَنَّهُ دُونَ مَا صَنَعَ انْتَهَى، كَذَا فِي الْفَيْضِ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ رَكْبٍ الْمِصْرِيِّ) مِنْ حَدِيثِ نُصَيْحٍ الْعَنْسِيِّ عَنْ الذَّهَبِيِّ رَكْبٌ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَلَمْ تَصِحَّ صُحْبَتُهُ وَنَصِيحٌ ضَعِيفٌ وَعَنْ الْإِصَابَةِ هَذَا حَدِيثٌ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَعَنْ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ أَقُولُ لَا يَضُرُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ ابْتِدَاءً وَقَدْ قَالُوا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ وَالْعَمَلُ فِي الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَعَنْ الْقَامُوسِ رَكْبٌ صَحَابِيٌّ أَوْ تَابِعِيٌّ غَايَتُهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ وَمُنْقَطِعٌ. (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ» قِيلَ أَيْ فِي حَالِ الِاتِّصَافِ بِالْكَمَالِ وَإِلَّا فَالتَّوَاضُعُ فِي النَّقِيصَةِ نَقِيصَةٌ قَالَ الْمُنَاوِيُّ بِأَنْ لَا يَضَعَ نَفْسَهُ بِمَكَانٍ يُزْرِي بِهِ وَيُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ حَقِّ الْحَقِّ وَالْخَلْقِ فَإِنَّ الْقَصْدَ بِالتَّوَاضُعِ خَفْضُ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ الْخَوَّاصُ إيَّاكَ وَالْإِكْثَارَ مِنْ ذِكْرِ نَقَائِصِك؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَقِلُّ شُكْرُك فَمَا رَبِحْته مِنْ جِهَةِ

نَظَرِك إلَى عُيُوبِك خَسِرْته مِنْ جِهَةِ تَعَامِيك مِنْ مَحَاسِنِك الَّتِي أَوْدَعَهَا الْحَقُّ. وَقَالَ شُهُودُ الْمَحَاسِنِ هُوَ الْأَصْلُ وَأَمَّا نُقْصَانُك فَإِنَّمَا طَلَبُ النَّظَرِ إلَيْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْعُجْبِ. وَقَالَ إذَا أَغْضَبَك أَحَدٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلَا تَبْدَأْهُ بِالصُّلْحِ؛ لِأَنَّك تُذِلُّ نَفْسَك فِي غَيْرِ مَحِلِّ وَتُكَبِّرُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الْإِفْرَاطُ فِي التَّوَاضُعِ يُورِثُ الْمَذَلَّةَ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْمُؤَانَسَةِ يُورِثُ الْمَهَانَةَ. قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ الْخُضُوعُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ حَالٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ الْأَوْلَى فِيهِ ظُهُورُ عِزَّةِ الْإِيمَانِ وَجَبَرُوتِهِ لِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنْ يَظْهَرَ فِي الْمُؤْمِنِ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْجَبَرُوتِ مَا يُنَاقِضُ الْخُضُوعَ وَالذِّلَّةَ، فَالْأَوْلَى إظْهَارُ مَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] الْآيَةَ، وَقَالَ {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] فَهَذَا مِنْ بَابِ إظْهَارِ عِزَّةِ الْإِيمَانِ لِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِ فَإِذَا عَلِمْت أَنَّ لِلْمَوَاطِنِ أَحْكَامًا فَافْعَلْ بِمُقْتَضَاهَا تَكُنْ حَكِيمًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالْمَهَانَةِ، أَنَّ التَّوَاضُعَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَجَلَالَةِ نُعُوتِهِ، وَالْمَهَانَةَ الدَّنَاءَةُ وَالْخِسَّةُ وَبَذْلُ النَّفْسِ وَابْتِذَالُهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهَا كَتَوَاضُعِ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالضَّعَةِ أَنَّ التَّوَاضُعَ رِضَا الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةٍ دُونَ مَا تَسْتَحِقُّهُ مَنْزِلَتُهُ، وَالضَّعَةَ وَضْعُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي مَكَان يُزْرِي بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ أَنَّ التَّوَاضُعَ يُعْتَبَرُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ وَالْخُشُوعَ بِاعْتِبَارِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ إذَا تَوَاضَعَ الْقَلْبُ خَشَعَتْ الْجَوَارِحُ وَالْكِبْرُ ظَنُّ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَالتَّكَبُّرُ إظْهَارُ ذَلِكَ وَهَذِهِ صِفَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَبَّرَ عَلَيْهِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَبَّهَ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا تَكَبَّرَ عَلَى مُتَكَبِّرٍ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ التَّجَبُّرُ عَلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ «وَأَذَلَّ نَفْسَهُ» وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمَوْجُودُ فِي نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي نُسَخِ الْكِتَابِ «ذَلَّ» أَيْ اعْتَقَدَ ذُلَّ نَفْسِهِ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِهِ مَعَ وُجُودِ التَّوَاضُعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّذَلُّلَ حَرَامٌ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ «مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ» مِنْ النَّاسِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا ذُلَّ فَوْقَ السُّؤَالِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ» . قَالَ الْغَزَالِيُّ تَشَبَّثَتْ بِهِ طَائِفَةٌ فَقَلَّمَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمْ عَنْ التَّكَبُّرِ عَلَى الْأَمْثَالِ وَالتَّرَفُّعِ إلَى فَوْقِ قَدْرِهِ حَتَّى إنَّهُمْ لَيَتَقَاتَلُونَ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي الِارْتِفَاعِ وَالْقُرْبِ مِنْ وِسَادَةِ الصَّدْرِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الدُّخُولِ مُعَلِّلِينَ بِصِيَانَةِ الْعِلْمِ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَإِذْلَالُ النَّفْسِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ الْمُؤْمِنُ فَيُعَبِّرُونَ عَنْ التَّوَاضُعِ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالذُّلِّ وَعَنْ الْكِبْرِ الْمَمْقُوتِ عِنْدَ اللَّهِ بِعِزَّةِ الدِّينِ تَحْرِيفًا لِلِاسْمِ وَإِضْلَالًا لِلْخَلْقِ. (فَائِدَةٌ) رَوَى الْعَسْكَرِيُّ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى عُمَرَ وَقَدْ تَخَشَّعَ وَتَذَلَّلَ وَبَالَغَ فِي الْخُضُوعِ، فَقَالَ عُمَرُ أَلَسْت مُسْلِمًا، قَالَ بَلَى قَالَ فَارْفَعْ رَأْسَك وَامْدُدْ عُنُقَك فَإِنَّ الْإِسْلَامَ عَزِيزٌ مَنِيعٌ، كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ «وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ» بَلْ إلَى وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ أُشِيرَ بِمِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ إلَى تَرْكِ الصَّدَقَةِ بِكُلِّ الْمَالِ «وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ» أَيْ الَّذِي بِمُخَالَطَتِهِمْ تَحْيَا الْقُلُوبُ «وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ» لِنَحْوِ الْفَقْرِ «وَالْمَسْكَنَةِ» أَيْ عَطَفَ عَلَيْهِمْ وَرَقَّ لَهُمْ وَوَاسَاهُمْ بِمَقْدُورِهِ «طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَعَ قَبْلَ هَذَا «طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ نَفْسَهُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ رَأَى ذُلَّهَا وَعَجْزَهَا فَلَمْ يَتَكَبَّرْ وَتَذَلَّلَ لِحُقُوقِ الْحَقِّ وَتَوَاضَعَ لِلْخَلْقِ رُوِيَ أَنَّ الْفَارُوقَ حَمَلَ حَالَ خِلَافَتِهِ قِرْبَةً إلَى بَيْتِ امْرَأَةٍ أَرْمَلَةَ أَنْصَارِيَّةٍ وَمَرَّ بِهَا فِي الْمَجَامِعِ «وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ» بِصِفَاتِ التَّوْحِيدِ وَالثِّقَةِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخَوْفِ مِنْهُ أَوْ الرَّجَاءِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ وَالْمَحَبَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ «وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ» أَيْ ظَهَرَتْ أَنْوَارُ سَرِيرَتِهِ عَلَى جَوَارِحِهِ فَكَرُمَتْ أَفْعَالُهَا بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَكَارِمِ أَخْلَاقِ الدِّينِ بِالصِّدْقِ وَالْبِرِّ وَبِمُرَاعَاةِ الْحُقُوقِ «وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ» فَلَمْ يُؤْذِهِمْ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ لِرَاهِبٍ عِظْنِي، فَقَالَ إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَك وَبَيْنَ النَّاسِ سُوَرًا مِنْ حَدِيدٍ فَافْعَلْ، وَقِيلَ لِسُقْرَاطَ لِمَ لَا تُعَاشِرُ النَّاسَ فَقَالَ وَجَدْت الْخَلْوَةَ أَجْمَعَ لِدَوَاعِي السَّلْوَةِ «طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ» لِئَلَّا يَكُونَ عِلْمُهُ وِزْرًا وَوَبَالًا عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ زُهْدًا فَإِنَّمَا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بُعْدًا» «وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ» عَنْ حَوَائِجِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ

«مِنْ مَالِهِ» فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ لِئَلَّا يَطْغَى وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ إلَيْهِ وَيَحْظَى بِثَوَابِهِ فِي الْعُقْبَى «وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ» مِمَّا يَزِيدُ عَلَى الْحَاجَةِ بِأَنْ تَرَكَ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ مَنْ شُغِلَ بِنَفْسِهِ شُغِلَ عَنْ النَّاسِ وَمَنْ شُغِلَ بِرَبِّهِ شُغِلَ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا مَقَامُ الْعَارِفِينَ قَالَ الْغَزَالِيُّ التَّوَاضُعُ عَامِّيٌّ وَخَاصِّيٌّ فَالْعَامِّيُّ اكْتِفَاءٌ بِالدُّونِ مِنْ نَحْوِ مَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَمَرْكَبٍ وَالْخَاصِّيُّ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ مِنْ وَضِيعٍ أَوْ شَرِيفٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ. (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ تَعَالَى» لِأَجْلِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَوَاضُعًا حَقِيقِيًّا فَإِنَّ التَّوَاضُعَ لِلنَّاسِ مَعَ اعْتِقَادِ عَظَمَةٍ فِي النَّفْسِ لَيْسَ بِتَوَاضُعٍ حَقِيقِيٍّ، بَلْ هُوَ بِالتَّكَبُّرِ أَشْبَهُ «دَرَجَةً» قَلِيلَةً «يَرْفَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى دَرَجَةً» عَظِيمَةً أَوْ كَثِيرَةً وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ؛ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ أَيْ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى وَفِي إخْرَاجِ أَبِي نُعَيْمٍ أَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى أَتَدْرِي لِمَ اصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي قَالَ لَا يَا رَبِّ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاضَعْ إلَيَّ أَحَدٌ قَطُّ مِثْلَ تَوَاضُعِك وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ تَفْسِيرِ الرِّفْعَةِ هُنَا بِأَنْ يُصَيِّرَهُ فِي نَفْسِهِ صَغِيرًا وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَبِيرًا وَقِيلَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ حَيْثُ يَضَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعَجْزِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ تَحْتَ أَوَامِرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالِامْتِثَالِ وَزَوَاجِرِهِ بِالِانْزِجَارِ وَأَحْكَامِهِ بِالتَّسْلِيمِ لِلْأَقْدَارِ لِيَكُونَ عَبْدًا فِي كُلِّ حَالٍ فَيَرْفَعَهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَلْبَتَّةَ وَالْمُكَلَّفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَدْخُلَ وَمَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ فَإِنَّ الرِّفْعَةَ بِقَدْرِ النُّزُولِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَسْفَلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا، قَالَ فِي الْحِكَمِ مَا طُلِبَ لَك شَيْءٌ مِثْلُ الِاضْطِرَارِ وَلَا أَسْرَعَ بِالْمَوَاهِبِ إلَيْك مِثْلُ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ كَمَا فِي الْفَيْضِ وَفِي شَرْحِ الْحَكَمِ عَنْ الشِّبْلِيِّ مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً فَلَيْسَ لَهُ مِنْ التَّوَاضُعِ نَصِيبٌ وَعَنْ أَبِي يَزِيدَ مَا دَامَ الْعَبْدُ يَرَى أَنَّ فِي الْخَلْقِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ فَمُتَكَبِّرٌ قِيلَ فَمَتَى يَكُونُ مُتَوَاضِعًا قَالَ إذَا لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ مَقَامًا وَلَا حَالًا وَتَوَاضَعَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ «حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ» يَعْنِي كُلَّمَا ازْدَادَ التَّوَاضُعُ ازْدَادَ بِحَسَبِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي عِلِّيِّينَ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ «وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دَرَجَةً» أَيْ عَلَى عِبَادِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ التَّكَبُّرَ عَلَيْهِ تَعَالَى كُفْرٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِمَنْ كَفَرَ «يَضَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ» قِيلَ فِيهِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ لِتَأْكِيدِ مَنْطُوقِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَفْهُومَ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ، وَقِيلَ فِيهِ مُقَابَلَةٌ فِي مَوْضِعَيْنِ فَتَأَمَّلْ . (طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَاضَعَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُوجِبِ أُخُوَّتِهِ وَعَلَى مُقْتَضَى إسْلَامِهِ لَيْسَ لَهُ تَوَاضُعٌ؛ لِأَنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ كَالتَّكَبُّرِ عَلَى الْفَاسِقِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ التَّكَبُّرُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالتَّوَاضُعُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ التَّوَاضُعِ كَمَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ إخْرَاجٌ عَلَى مَخْرَجِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّك قَدْ عَرَفْت التَّوَاضُعَ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَنَحْوِهِمَا فَيُفْهَمُ غَيْرُهُ إمَّا بِالدَّلَالَةِ أَوْ بِالْمُقَايَسَةِ فَافْهَمْ «رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى» لِأَنَّهُ تَعَالَى غَيُورٌ فَيُجَازِيهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ قَالَ

فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْلِفُ الْبَعِيرَ وَيَقُمُّ الْبَيْتَ وَيَخْصِفُ النَّعْلَ وَيُرْقِعُ الثَّوْبَ وَيَحْلُبُ الشَّاةَ وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ وَيَطْحَنُ مَعَهُ إذَا عَيِيَ وَكَانَ لَا يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يَحْمِلَ بِضَاعَتَهُ مِنْ السُّوقِ إلَى أَهْلِهِ وَكَانَ يُصَافِحُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَيُسَلِّمُ مُبْتَدِئًا وَلَا يُحَقِّرُ مَا دُعِيَ إلَيْهِ وَلَوْ إلَى حَشَفِ التَّمْرِ، وَكَانَ هَيِّنَ الْمُؤْنَةِ لَيِّنَ الْخُلُقِ كَرِيمَ الطَّبِيعَةِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ مَحْزُونًا مِنْ غَيْرِ عُبُوسَةٍ مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ مَذَلَّةٍ جَوَادًا مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ رَقِيقَ الْقَلْبِ رَحِيمًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَمْ يَتَجَشَّأْ قَطُّ مِنْ شِبَعٍ وَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى طَمَعٍ» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَمَخَتْ الْجِبَالُ وَتَوَاضَعَ الْجُودِيُّ فَجَعَلَهُ اللَّهُ قَرَارًا لِسَفِينَةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَالَ الْفُضَيْلُ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْجِبَالِ إنِّي مُكَلِّمٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْكُمْ نَبِيًّا فَتَطَاوَلَتْ الْجِبَالُ وَتَوَاضَعَ طُورُ سَيْنَاءَ فَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ لِتَوَاضُعِهِ وَعَنْ ابْنِ شَيْبَانَ الشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ وَالْعِزُّ فِي التَّقْوَى وَالْحُرِّيَّةُ فِي الْقَنَاعَةِ وَعَنْ الثَّوْرِيِّ أَعَزُّ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ عَالِمٌ زَاهِدٌ وَفَقِيهٌ صُوفِيٌّ وَغَنِيٌّ مُتَوَاضِعٌ وَفَقِيرٌ شَاكِرٌ وَشَرِيفٌ سُنِّيٌّ، وَقِيلَ رَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ مَهْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا، فَقَالَ زَيْدٌ أَرِنِي يَدَك فَأَخْرَجَهَا فَقَبَّلَهَا وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عُرْوَةُ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَعَلَى عَاتِقِهِ قِرْبَةُ مَاءٍ، فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنْبَغِي لَك هَذَا، فَقَالَ لَمَّا أَتَانِي الْوُفُودُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ دَخَلَتْ نَفْسِي نَخْوَةٌ فَأَحْبَبْت أَنْ أَكْسِرَهَا وَمَضَى بِالْقِرْبَةِ إلَى حُجْرَةِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَفْرَغَهَا فِي إنَائِهَا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ مِنْ سُؤْرِ أَخِيهِ وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنًا لَهُ اشْتَرَى خَاتَمًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي بِعْ الْخَاتَمَ وَأَشْبِعْ أَلْفَ بَطْنٍ وَاتَّخِذْ خَاتَمًا مِنْ دِرْهَمَيْنِ وَاجْعَلْ فَصَّهُ حَدِيدًا صِينِيًّا وَاكْتُبْ عَلَيْهِ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مَا سُرِرْت فِي إسْلَامِي إلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مَرَّةً كُنْت فِي سَفِينَةٍ وَفِيهَا رَجُلٌ مِضْحَاكٌ كَانَ يَقُولُ كُنَّا نَأْخُذُ بِشَعْرِ الْعِلْجِ فِي بِلَادِ التُّرْكِ هَكَذَا وَيَأْخُذُ شَعْرَ رَأْسِي وَيَهُزُّنِي وَأُخْرَى كُنْت عَلِيلًا فِي مَسْجِدٍ فَدَخَلَ الْمُؤَذِّنُ وَقَالَ اُخْرُجْ فَلَمْ أُطِقْ فَأَخَذَ بِرِجْلِي وَجَرَّنِي إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ وَأُخْرَى كُنْت بِالشَّامِ وَعَلَيَّ فَرْوٌ فَلَمْ يُمَيَّزْ بَيْنَ شَعْرِهِ وَبَيْنَ الْقَمْلِ لِكَثْرَتِهِ فَسَرَّنِي ذَلِكَ، وَمَرَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - بِصِبْيَانٍ مَعَهُمْ كِسَرُ خُبْزٍ فَاسْتَضَافُوهُ فَنَزَلَ وَأَكَلَ مَعَهُمْ ثُمَّ حَمَلَهُمْ إلَى مَنْزِلِهِ وَأَطْعَمَهُمْ وَكَسَاهُمْ وَقَالَ الْيَدُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا غَيْرَ مَا طَعَّمُونِي وَنَحْنُ نَجِدُ أَكْثَرَ مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ عُصَارَةُ مَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَقَدْ انْصَرَفْت مِنْ عَرَفَاتٍ لَمْ أَشُكَّ فِي الرَّحْمَةِ لَوْلَا أَنِّي كُنْت فِيهِمْ وَقِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ اُدْعُ اللَّهَ لَنَا فَبَكَى، وَقَالَ لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ أَنَا سَبَبُ هَلَاكِكُمْ وَمِنْ عَلَامَاتِ تَحْقِيقِ هَذَا الْخُلُقِ أَنْ لَا يَغْضَبَ إذَا عِيبَ أَوْ نُقِصَ وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يُذَمَّ وَيُقْذَفَ بِالْكَبَائِرِ وَيُحْكَى عَنْ الْكَرْخِيِّ أُسْتَاذِ الْجُنَيْدِ أَنَّ رَجُلًا دَعَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إلَى طَعَامٍ ثُمَّ يَرُدُّهُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ دَارِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ قَدْ رَضِيت عَلَى الذُّلِّ عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى صِرْت بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ يُطْرَدُ فَيَنْظُرُ ثُمَّ يُدْعَى فَيَعُودُ وَيُرْمَى لَهُ عَظْمٌ فَيُجِيبُ وَلَوْ رَدَدْتنِي خَمْسِينَ مَرَّةً ثُمَّ دَعَوْتنِي بَعْدَ ذَلِكَ لَأَجَبْتُك عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْحَكَمِ. (وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَاضُعِ السُّخْرِيَةَ وَالنِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ وَالطَّمَعَ) لِمَا فِي يَدِ مَنْ تَوَاضَعَ لَهُ مِنْ الْمَالِ وَالْمَنْصِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَالْخَوْفِ) مِمَّنْ تَوَاضَعَ لَهُ (فَيَكُونُ) أَيْ التَّوَاضُعُ (رَذِيلَةً) أَيْ ذَمِيمَةً

الرابع عشر من آفات القلب العجب

(بِحَسَبِ الْعَارِضِ وَالْكَيْفِ فَعَلَيْك بِصِيَانَتِهِ) أَيْ صِيَانَةِ التَّوَاضُعِ (عَنْهَا) أَيْ عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ حَتَّى يَكُونَ تَوَاضُعُك مَمْدُوحًا. [الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْعُجْبُ] (الرَّابِعَ عَشَرَ الْعُجْبُ) فِي الصِّحَاحِ قَدْ أُعْجِبَ فُلَانٌ بِنَفْسِهِ يَعْنِي بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَهُوَ مُعْجَبٌ بِرَأْيِهِ وَبِنَفْسِهِ، وَالِاسْمُ الْعُجْبُ (وَهُوَ اسْتِعْظَامُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ) أَيْ اعْتِقَادُ عَظَمَةِ عَمَلِهِ (وَذِكْرُ حُصُولِ شَرَفِهِ بِشَيْءٍ) حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ (دُونَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النَّفْسِ أَوْ النَّاسِ) بَيَانٌ لِغَيْرِهِ تَعَالَى قِيلَ هُنَا اعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ إنَّمَا يَكُونُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ لَا مَحَالَةَ وَلِلْعَالِمِ بِكَمَالِ نَفْسِهِ مُطْلَقًا حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ خَائِفًا عَلَى تَكَدُّرِهِ أَوْ زَوَالِهِ مِنْ أَصْلِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِمُعْجَبٍ وَالْأُخْرَى أَنْ يَكُونَ خَائِفًا وَلَكِنْ يَكُونُ فَرِحًا بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا مِنْ حَيْثُ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا لَيْسَ أَيْضًا بِمُعْجَبٍ وَلَهُ حَالَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ خَائِفًا عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ فَرِحًا بِهِ مُطْمَئِنًّا إلَيْهِ حَيْثُ إنَّهُ كَمَالٌ وَنِعْمَةٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَطِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صِفَةٌ لَهُ وَمَنْسُوبٌ إلَيْهِ نَاسِيًا أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْعُجْبُ الَّذِي ذُكِرَ هُنَا (وَقَدْ يُطْلَقُ) الْعُجْبُ (عَلَى مُطْلَقِ اسْتِعْظَامِ النِّعْمَةِ وَالرُّكُونِ) أَيْ الْمَيْلِ (إلَيْهَا) دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا (مَعَ نِسْيَانِ إضَافَتِهَا إلَى الْمُنْعِمِ وَضِدُّهُ) أَيْ الْعُجْبِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ (ذِكْرُ الْمِنَّةِ) أَيْ النِّعْمَةِ وَالْعَطِيَّةِ (مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَهُوَ) أَيْ ذِكْرُهَا (أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ) أَيْ اللَّهَ تَعَالَى (الَّذِي شَرَّفَهُ وَعَظَّمَ ثَوَابَهُ وَقَدْرَهُ) بِفَضْلِهِ بِغَيْرِ صُنْعٍ مِنْهُ (وَهَذَا الذِّكْرُ فَرْضٌ) عَلَى الْعَبْدِ (عِنْدَ دَوَاعِي الْعُجْبِ) مُسْتَحَبٌّ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. (وَسَبَبُ الْعُجْبِ فِي الْحَقِيقَةِ الْجَهْلُ الْمَحْضُ) قِيلَ هُوَ مَنْشَأُ عُجْبِ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا بِكَوْنِ الْعَبْدِ خَالِقًا لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِرَارًا مِنْ الْجَبْرِ فَوَقَعُوا فِي الْعُجْبِ بِنَاءً عَلَى هَذَا (أَوْ الْغَفْلَةُ أَوْ الذُّهُولُ) هَذَا سَبَبُ عُجْبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ كَوْنَ كُلِّ شَيْءٍ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ مِنْهُ وَحْدَهُ وَالْعُجْبُ مَعَ تَذَكُّرِهِ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ، بَلْ يَحْصُلُ مِنْ الذُّهُولِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذَلِكَ. (فَعِلَاجُهُ الْجُمَلِيُّ) أَيْ الْإِجْمَالِيُّ (مَعْرِفَةُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ) فَلَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ الْجُزْءَ الِاخْتِيَارِيَّ مِنْ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ مَرْجِعُ الْكَسْبِ لَيْسَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْخَلْقُ إلَّا بِالْمَوْجُودِ كَمَا مَرَّ (وَأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ) هِيَ الْمُسْتَلَذُّ الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ (مِنْ عَقْلٍ) بَيَانٌ (وَعِلْمٍ وَعَمَلٍ وَجَاهٍ وَمَالٍ وَغَيْرِهَا) كُلُّهَا (مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ) لَا خَالِقَ وَلَا مُنْعِمَ سِوَاهُ هَذَا عِلَاجُ الْعُجْبِ النَّاشِئِ مِنْ الْجَهْلِ بِذَلِكَ وَهُوَ عُجْبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ بَعْضٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إلَى كَثْرَةِ الْعَسْكَرِ وَأَسْلِحَتِهِمْ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، قِيلَ إنَّهُ هُوَ الصِّدِّيقُ الْأَعْظَمُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

قَالَ إعْجَابًا مِنْ الْكَثْرَةِ وَالشَّوْكَةِ لَا انْهِزَامَ لَنَا فِيمَا بَعْدُ وَلَمَّا وَصَلَ إلَى سَمْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ ذَلِكَ فَرَفَعَ اللَّهُ النُّصْرَةَ فِي أَوَّلِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ تَأْدِيبًا لَهُمْ بِأَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تُغْنِي شَيْئًا بِدُونِ نُصْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا أَصَابَ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَنْبٌ إلَّا شَيْءٌ مِنْ نَحْوِ الْعُجْبِ إذْ قَالَ يَا رَبِّ مَا يَأْتِي مِنْ لَيْلَةٍ إلَّا وَإِنْسَانٌ مِنْ آلِ دَاوُد قَائِمٌ وَلَا يَأْتِي مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَإِنْسَانٌ مِنْ آلِ دَاوُد صَائِمٌ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ إلَّا بِي وَلَوْلَا عَوْنِي إيَّاكَ مَا قَوِيت عَلَى ذَلِكَ وَسَأَكِلُك إلَى نَفْسِك وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لَأَكِلَنك إلَى نَفْسِك فَابْتَلَاهُ بِمَا ابْتَلَاهُ (وَ) عِلَاجُ الْعُجْبِ النَّاشِئِ مِنْ الْغَفْلَةِ وَهُوَ عُجْبُ أَهْلِ السُّنَّةِ (التَّنَبُّهُ وَالتَّيَقُّظُ) عَنْ الْغَفْلَةِ (بِذِكْرِهِ) أَيْ بِتَذَكُّرِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى آخِرِهِ (وَإِخْطَارِهِ) كَذَلِكَ (بِالْبَالِ وَفِي الظَّاهِرِ) أَسْبَابُ الْعُجْبِ (أَسْبَابُ الْكِبْرِ السَّبْعَةِ السَّابِقَةِ) فِي الْمَبْحَثِ الثَّالِثِ (وَالْعِلَاجُ التَّفْصِيلِيُّ) لِكُلِّ سَبَبٍ مِنْهَا هُنَا (يُعْرَفُ مِمَّا سَبَقَ) فِي عِلَاجِهِ، ثُمَّ قِيلَ هُنَا عَنْ الْفَقِيهِ الْعُجْبُ يُدْفَعُ بِأَرْبَعَةٍ إذَا رَأَى تَوْفِيقًا يُشْغَلُ بِشُكْرِهِ وَإِذَا رَأَى نِعْمَةً يُشْغَلُ بِشُكْرِهَا وَأَنْ يَخَافَ عَدَمَ قَبُولِ الْعَمَلِ وَأَنْ يَخَافَ تَرْجِيحَ سَيِّئَاتِهِ وَكَيْفَ يُعْجَبُ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ وَلَا يَدْرِي مَاذَا يَخْرُجُ مِنْ كِتَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ عُجْبُهُ وَسُرُورُهُ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ (فَعَلَى السَّالِكِ) الَّذِي يَسْلُكُ مِنْ الدُّنْيَا إلَى الْعُقْبَى وَيُرِيدُ سَلَامَةَ بِضَاعَتِهِ، وَرَأْسُ مَالِ تِجَارَتِهِ فِي تِلْكَ الْعُقْبَى (الشُّكْرُ عَلَى كُلِّ مَا وَجَدَ فِيهِ مِنْ النِّعَمِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَغَيْرِهِمَا وَ) الشُّكْرُ أَيْضًا (عَلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَوْنِهِ وَنَصْرِهِ وَخَلْقِهِ وَإِعْطَائِهِ إيَّاهُ لَهُ) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وَقَالَ {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]- (وَمِنْ أَقْوَى الْعِلَاجِ مَعْرِفَةُ آفَاتِهِ) أَيْ الْعُجْبِ (وَهِيَ كَثِيرَةٌ) فَإِنَّ الْعُجْبَ يَدْعُو إلَى الْكِبْرِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَسْبَابِهِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْكِبْرُ الْحَاوِي لِآفَاتٍ كَثِيرَةٍ كَمَا قَالَ (وَيَكْفِيك أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْكِبْرِ وَنِسْيَانِ الذُّنُوبِ) الْمُتَسَبِّبِ عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ فَإِنَّ مَنْ عَدَّ عَمَلَهُ عَظِيمًا قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ الْكِبْرِ وَأَنَّ مَنْ يَتَذَكَّرُ ذُنُوبَهُ لَا يَسْتَعْظِمُ عَمَلَهُ وَلَا يَخْلُو عَنْ إضَافَةِ عَمَلِهِ إلَى رَبِّهِ وَكَذَا بَوَاقِيهِ فَلَا يُتَوَهَّمُ، بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّ نِسْيَانَ الذُّنُوبِ يَدْعُو إلَى الْكِبْرِ (وَ) نِسْيَانَ (نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّمْكِينِ) أَيْ الْأَقْدَارِ يَشْكُلُ أَنَّ اسْتِعْظَامَ الْعَمَلِ لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ التَّوْفِيقِ سِيَّمَا عَلَى قَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ إذْ لَا يَخْلُو التَّوْفِيقُ عَنْ مَدْخَلِ الْعَبْدِ عَلَى جَرْيِ عَادَتِهِ تَعَالَى فَتَأَمَّلْ فِيهِ. (وَ) سَبَبٌ (لِلْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ) فَإِنَّ مَنْ فِيهِ خَوْفُ اللَّهِ لَا يَسْتَعْظِمُ عَمَلَهُ فَإِنَّ الْعَمَلَ يُسْتَعْظَمُ عِنْدَ كَوْنِهِ مَقْبُولًا عِنْدَهُ تَعَالَى وَالْقَبُولُ يُوجِبُ الْأَمْنَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْعِلَّةَ

الْمُقْتَضِيَةَ، بَلْ السَّبَبُ الدَّاعِي فِي الْجُمْلَةِ (وَ) سَبَبٌ (لَأَنْ يَرَى أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَّةً وَحَقًّا بِأَعْمَالِهِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِهِ وَعَطِيَّةٌ مِنْ عَطَايَاهُ تَعَالَى) أَنْعَمَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ الْمُعْجَبِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ فَالْفَضْلُ لَهُ تَعَالَى وَلَا حَقَّ لِلْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ (وَ) سَبَبٌ (يَدْعُو إلَى أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ) لِأَنَّ كُلَّ فِعْلِهَا حَسَنَاتٌ فِي اعْتِقَادِهَا وَأَنَّهُ مَيْلٌ إلَى قَاعِدَةِ الِاعْتِزَالِ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ مِنْ عَدَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]- (وَبِمَنْعِهِ مِنْ الِاسْتِفَادَةِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ أَعْلَى مِنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ؛ وَلِذَا قِيلَ لَا يَنَالُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُتَكَبِّرٌ وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَيْفَ وَجَدْت الْعِلْمَ قَالَ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ تَمَلَّقْت كَالْكَلْبِ وَتَوَاضَعْت كَالسِّنَّوْرِ وَصَبَرْت كَالْحِمَارِ وَصِحْت كَالْغُرَابِ (وَالِاسْتِشَارَةِ) مَعَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا، بَلْ هِيَ مِيزَانُ الِاعْتِدَالِ (زَهَقَ) الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ» نَكِرَةٌ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ وَمِنْ ثَمَّةَ وَقَعَتْ مُبْتَدَأً أَيْ خِصَالٌ ثَلَاثٌ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ «مُهْلِكَاتٌ» أَيْ يُرْدِينَ فَاعِلَهُنَّ لِلْهَلَاكِ ( «شُحٌّ» بُخْلٌ «مُطَاعٌ» يُطِيعُهُ صَاحِبُهُ فِي مَنْعِ الْحُقُوقِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي مَالِهِ يُقَالُ أَطَاعَهُ يُطِيعُهُ فَهُوَ مُطِيعٌ وَالِاسْمُ الطَّاعَةُ أَوْ يُطِيعُ هُوَ بُخْلَهُ فَلَا يُؤَدِّي حُقُوقَ الْحَقِّ وَالْخَلْقِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] وَفِي التَّقْيِيدِ تَنْبِيهٌ أَنَّ هَذَا الذَّمَّ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالِانْقِيَادِ دُونَ نَفْسِ الْبُخْلِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الرَّاغِبِ «وَهَوًى مُتَّبَعٌ» بِأَنْ يَتَّبِعَ كُلٌّ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ الْهَوَى أَوْ هُوَ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ «وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» أَيْ تَحْسِينُ كُلِّ أَحَدٍ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ قَبِيحًا وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ مُلَاحَظَتُهُ لَهُ بِعَيْنِ الْكَمَالِ مَعَ نِسْيَانِ مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِعْجَابِ وَجَدَ أَنَّ الشَّيْءَ حَسَنًا فَثَمَرَةُ الْعُجْبِ الْهَلَاكُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَارُونَ - {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَخَسَفْنَا بِهِ} [القصص: 81] قَالَ الْغَزَالِيُّ أُمَّهَاتُ الْخَبَائِثِ الْمُهْلِكَةُ ثَلَاثٌ غَالِبَةٌ عَلَى مُتَفَقِّهَةِ الْعَصْرِ الْحَسَدُ وَالرِّيَاءُ وَالْعُجْبُ فَاجْتَهِدْ فِي تَطْهِيرِ قَلْبِك مِنْهَا فَإِنْ عَجَزْت عَنْهُ فَأَنْتَ فِي غَيْرِهِ أَعْجَزُ وَلَا تَظُنُّ أَنَّهُ يَسْلَمُ لَك بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَفِي قَلْبِك شَيْءٌ مِنْ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ، وَثَمَرَةُ الْعُجْبِ أَنْ يَقُولَ أَنَا وَأَنَا كَمَا قَالَ إبْلِيسُ وَنَتِيجَتُهُ فِي الْمَجَالِسِ التَّقَدُّمُ وَالتَّرَفُّعُ وَطَلَبُ التَّصَدُّرِ وَفِي الْمُحَاوَرَةِ الِاسْتِنْكَافُ مِنْ أَنْ يُرَدَّ كَلَامُهُ وَذَلِكَ مُهْلِكٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْكِبَارِ مِمَّا يُشْعِرُ بِالْإِعْجَابِ نَحْوُ مَا تَحْتَ خَضْرَاءِ السَّمَاءِ مِثْلِي وَنَحْوُ أَسْرَجْت وَطُفْت فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَقُلْت هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيَّ أَحَدٌ فَمَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ حَالِ السُّكْرِ كَمَا قِيلَ عَنْ الْعَوَارِفِ وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ تَفْصِيلِ الْحَدِيثِ فِي سَابِعِ آفَاتِ الْقَلْبِ وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا

الْحَدِيثِ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ وَجْهِ حِكْمَةِ مِعْرَاجِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَنَّهُ اخْتَصَمَ الْمَلَأُ الْأَعْلَى وَنَاظَرُوا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ مِقْدَارَ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ وَلَمْ يُوَفَّقُوا لِحَلِّهَا فَلَمَّا بُعِثَ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ إنَّمَا تَنْحَلُّ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَضَرَّعُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِهِ فَدَعَا اللَّهُ حَبِيبَهُ إلَى مَقَامِ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. وَمِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْوَحْيِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رَأَيْت رَبِّي بِأَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى فَقُلْت أَنْتَ تَعْلَمُ يَا رَبِّ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفِي فَوَجَدْت بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى فَقُلْت نَعَمْ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْمُنْجِيَاتِ وَالدَّرَجَاتِ وَالْمُهْلِكَاتِ، قَالَ صَدَقْت يَا مُحَمَّدُ ثُمَّ قَالَ يَا مَلَائِكَتِي وَجَدْتُمْ حَلَّالَ الْمُشْكِلَاتِ فَاسْأَلُوا أَشْكَالَكُمْ، فَقَالَ إسْرَافِيلُ مَا الْكَفَّارَاتُ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ وَمَشْيُ الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ مِيكَائِيلُ مَا الدَّرَجَاتُ؟ فَقَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ قَالَ جَبْرَائِيلُ مَا الْمُنْجِيَاتُ؟ فَقَالَ خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، ثُمَّ قَالَ عَزْرَائِيلُ مَا الْمُهْلِكَاتُ؟ فَقَالَ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلٍّ صَدَقَ مُحَمَّدٌ» (ز) الْبَزَّارُ. (عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَشِيت عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ» لِأَنَّ صَاحِبَ الذَّنْبِ لَا يَأْمَنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ وَلَا يَرَى لَهُ مِنَّةً وَحَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَكُونُ خَائِفًا مِنْ ذَنْبِهِ رَاجِيًا عَفْوَهُ «الْعُجْبَ الْعُجْبَ» لِأَنَّ الْعَاصِيَ يَعْرِفُ عِصْيَانَهُ فَيَرْجُو لَهُ التَّوْبَةَ وَالْمُعْجَبُ مَغْرُورٌ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ فَتَوْبَتُهُ بَعِيدَةٌ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا؛ وَلِذَا قِيلَ أَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَجَلِ صَوْتِ الْمُسَبِّحِينَ؛ لِأَنَّ زَجَلَهُمْ يَشُوبُهُ الِافْتِخَارُ وَأَنِينَ أُولَئِكَ يَشُوبُهُ الِانْكِسَارُ، وَالْمُؤْمِنُ حَبِيبُ اللَّهِ يَصُونُهُ وَيَصْرِفُهُ عَمَّا يُفْسِدُهُ إلَى مَا يُصْلِحُهُ وَالْعُجْبُ يَصْرِفُ وَجْهَ الْعَبْدِ عَنْ اللَّهِ وَالذَّنْبُ يَصْرِفُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ يُنْتِجُ الِاسْتِكْبَارَ وَالذَّنْبَ يُنْتِجُ الِاضْطِرَارَ وَيُؤَدِّي إلَى الِافْتِقَارِ، وَخَيْرُ أَوْصَافِ الْعَبْدِ افْتِقَارُهُ وَاضْطِرَارُهُ إلَى رَبِّهِ، قِيلَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ إنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ الذَّنْبَ يَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ لِخَوْفِهِ مِنْ أَجْلِهِ وَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ يَدْخُلُ بِهَا النَّارَ لِكِبْرِهِ وَعُجْبِهِ وَرِيَائِهِ بِهَا. (وَأَقْبَحُ الْعُجْبِ الْعُجْبُ بِالرَّأْيِ الْخَطَإِ فَيَفْرَحُ بِهِ) كَأَهْلِ الْهَوَى (وَيُصِرُّ عَلَيْهِ وَلَا يَسْمَعُ نُصْحَ نَاصِحٍ) لِكَوْنِهِ حَسَنًا فِي اعْتِقَادِهِ (بَلْ يَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ الِاسْتِجْهَالِ) مَعَ أَنَّهُ جَاهِلٌ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر: 8] بِأَنْ غَلَبَ وَهْمُهُ وَهَوَاهُ عَلَى عَقْلِهِ، وَالْمُزَيِّنُ الْحَقِيقِيُّ إمَّا اللَّهُ تَعَالَى اسْتِدْرَاجًا أَوْ الشَّيْطَانُ {فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] حَقًّا {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ) اعْتِقَادًا وَعَمَلًا (إنَّمَا أَصَرُّوا عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ (لِعُجْبِهِمْ بِآرَائِهِمْ) الَّتِي يَرَوْنَهَا حَقًّا فَبَقُوا فِي ضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ (وَعِلَاجُ هَذَا الْعُجْبِ) أَيْ الْعُجْبِ بِالرَّأْيِ الْخَطَإِ عَلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ (أَعْسَرُ وَأَصْعَبُ) رُوِيَ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْ مَعْنَى - قَوْله تَعَالَى {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]- تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ» فَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ، بَلْ الْكُفَّارَ كُلَّهُمْ مُعْجَبُونَ بِرَأْيِهِمْ مَا أَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَةِ

الخلق الخامس عشر من الستين من آفات القلب الحسد

وَلَا أَقَامُوا الْأَدِلَّةَ عَلَيْهَا فَبِهَذَا الْإِعْجَابِ وَقَعَ هَلَاكُ جَمِيعِ الْهَالِكِينَ (إذْ صَاحِبُهُ يَظُنُّهُ) ذَلِكَ الْخَطَأَ فِي الرَّأْيِ (عِلْمًا لَا جَهْلًا) فَجَهْلٌ مُرَكَّبٌ فَيَصْعُبُ دَفْعُهُ (وَنِعْمَةً لَا نِقْمَةً وَصِحَّةً لَا مَرَضًا فَلَا يَطْلُبُ الْعِلَاجَ) إنَّمَا يَطْلُبُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَى إزَالَتِهِ (وَلَا يَصْغَى) فَيَسْتَمِعُ (إلَى الْأَطِبَّاءِ) الرُّوحَانِيِّينَ الْحَاذِقِينَ فِي مُعَالَجَةِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ بِأَدْوِيَةِ الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ نَحْوِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ دَاءً، بَلْ إنَّمَا يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ صِحَّةً وَشِفَاءً بِلَا دَوَاءٍ (وَهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) كَثَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعَانَهُمْ وَخَذَلَ أَعَادِيهِمْ؛ لِأَنَّ دَوَاءَهُمْ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْدِنِ الرِّسَالَةِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا تَصَرُّفِهِمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. [الْخُلُقُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ السِّتِّينَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْحَسَدُ] الْخُلُقُ (الْخَامِسَ عَشَرَ) مِنْ السِّتِّينَ (الْحَسَدُ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَبَاحِثَ) الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِهِ وَضِدِّهِ مَعَ مُنَاسِبِهِمَا وَحُكْمِهِمَا، الثَّانِي فِي آفَاتِهِ، الثَّالِثُ فِي عِلَاجِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا، الرَّابِعُ فِي الْعِلَاجِ الْقَلَعِيِّ. (الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِهِ وَضِدِّهِ وَمُنَاسِبِهِمَا) أَيْ الْحَسَدِ وَضِدِّهِ (وَحُكْمُهُمَا) وَهُوَ الصَّوَابُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حُكْمُهَا بِلَا تَثْنِيَةِ تَعْرِيفٍ (الْحَسَدُ إرَادَةُ زَوَالِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً (عَنْ أَحَدٍ) مِنْ الْخَلْقِ (مِمَّا لَهُ فِيهِ صَلَاحٌ دِينِيٌّ) إذْ مَا لَيْسَ لَهُ صَلَاحٌ لَيْسَ بِحَسَدٍ بَلْ غَيْرَةُ دِينٍ كَمَنْ يَجْعَلُ عِلْمَهُ أَوْ مَالَهُ آلَةً لِمَعْصِيَتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ (أَوْ) صَلَاحٌ (دُنْيَوِيٌّ) كَالْمَالِ وَالْجَاهِ (مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فِي الْآخِرَةِ) ، وَأَمَّا بِهِ فَجَائِزٌ كَمَنْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَا يُعْطِي حَقَّهَا بَلْ يَجْعَلُهَا آلَةً لِمَعْصِيَةٍ فَتَمَنِّي زَوَالِ الصَّلَاحِ الدُّنْيَوِيِّ الْمُضِرِّ لَا يَكُونُ حَسَدًا (أَوْ) إرَادَةُ (عَدَمِ وُصُولِهَا) أَيْ النِّعْمَةِ (إلَيْهِ) إلَى ذَلِكَ الْأَحَدِ ابْتِدَاءً (أَوْ حُبُّهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ لَهُ) أَيْ لِلْحُبِّ كَمَنْ رَأَى أَحَدًا يَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ فَأَحَبَّ ذَلِكَ الْحَسَدَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ. (وَلَوْ وَقَعَ ` فِي قَلْبِك) ضَرُورَةً (مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ) وَقَصْدٍ مِنْك (وَوَجَدْت الْإِنْكَارَ لِوُقُوعِهِ فِيهِ) لَعَلَّهُ الْأَظْهَرُ فَأَنْكَرْت (فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ) ؛ لِأَنَّ الْخَاطِرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ إذْ الْأُمُورُ الِاضْطِرَارِيَّةُ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا - لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعُهَا - لَعَلَّ كَلِمَةَ لَا بَأْسَ هُنَا لَيْسَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْمَشْهُورِ مِمَّا كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى، إذْ التَّرْكُ اخْتِيَارِيٌّ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ وُجُودَ هَذَا اضْطِرَارِيٌّ بَلْ بِمَعْنَى لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَأْثَمُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْهِدَايَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْقُشَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ أَيْضًا بِمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ غَيْرُهُ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْكَافِي وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَكُونُ فِعْلُهُ أَوْلَى كَمَا نُقِلَ عَنْ صَاحِبِ النِّهَايَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ بَلْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْبَأْسَ وَالْجُنَاحَ كَالْمُتَسَاوِي وَنَفْيِ الْجُنَاحِ لِلْوُجُوبِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فَلْيُجِزْ أَيْضًا نَفْيَ الْبَأْسِ كَذَلِكَ كَذَا قِيلَ وَنُقِلَ عَنْ الزَّاهِدِيِّ أَنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى لَا يَجُزْ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ لَا بَأْسَ فِي النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ. (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ) الْإِنْكَارَ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِلَا اخْتِيَارٍ (أَوْ وَقَعَ بِاخْتِيَارٍ) مِنْك (وَإِرَادَةِ زَوَالِ) نِعْمَةِ اللَّهِ عَنْ أَحَدٍ (أَوْ) إرَادَةِ (عَدَمِ وُصُولِهَا) نِعْمَةٍ إلَى غَيْرِ (فَإِنْ عَمِلْت بِمُقْتَضَاهُ) بِأَنْ صَدَرَ مِنْك مَا يَكُونُ مُسَبَّبًا عَنْهُ قَوْلُهُ (أَوْ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي بَعْضِ الْجَوَارِحِ) مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَحَمْلُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]- وَإِنْ جَازَ فِي نَفْسِهِ كَالْحَمْلِ عَلَى التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]- {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] وَكَالْإِضْرَابِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]- لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ التَّفَاهُمِ (فَحَسَدٌ حَرَامٌ)

قَيْدٌ وُقُوعِيٌّ لَعَلَّهُ لَيْسَ بِاحْتِرَازِيٍّ (بِالِاتِّفَاقِ) وَمَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَأَيُّ مَعْصِيَةٍ تَزِيدُ عَلَى كَرَاهَتِك لِرَاحَةِ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَك فِيهِ مَضَرَّةٌ (وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ أَصْلًا) كُلًّا أَوْ بَعْضًا فِي أَيْ جَارِحَةٍ. (وَكَانَ الْمَوْجُودُ فِي الْقَلْبِ نَفْسِهِ) أَيْ نَفْسِ الْحَسَدِ (فَقَطْ) دُونَ الْجَوَارِحِ (فَحَسَدٌ) أَيْضًا لَكِنْ (اخْتَلَفُوا فِي حُرْمَتِهِ وَ) فِي (كَوْنِ صَاحِبِهِ آثِمًا وَمُخْتَارُ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ حُرْمَتُهُ وَظَنَّ هَذَا الْفَقِيرُ) يُرِيدُ الْمُصَنِّفَ نَفْسَهُ هَضْمًا لِنَفْسِهِ (عَدَمَهَا) قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ وَبَعْدَمَا كَتَبْت هَذَا وَجَدْت الشَّيْخَ أَكْمَلَ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ سَبَقَنِي وَاخْتَارَ فِي هَذَا عَدَمَ الْحُرْمَةِ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَوَقَعَ التَّوَارُدُ فِي الْمُدَّعَى فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ الظَّنُّ» بِالنَّاسِ سُوءًا «وَالطِّيَرَةُ» وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ أَمَارَةً لِلشَّرِّ «وَالْحَسَدُ وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِالْمَخْرَجِ» الْخَلَاصِ «مِنْ ذَلِكَ» الْمَذْكُورِ وَذَلِكَ الْمَخْرَجُ قَوْلُهُ «إذَا ظَنَنْت» السُّوءَ لِأَحَدٍ «فَلَا تُحَقِّقْ» أَيْ لَا تُخْرِجْ أَثَرَهُ فِي جَوَارِحِك مَا لَمْ تَتَيَقَّنْ «وَإِذَا تَطَيَّرْت فَامْضِ» وَلَا تَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى «وَإِذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ» لَا تَظْلِمْ عَلَى الْمَحْسُودِ عَلَيْهِ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِي الْجَوَارِحِ أَثَرُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ لَا يَخْفَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لَا تَبْغِ بِإِبْقَائِهِ فِي قَلْبِك وَاسْتِمْرَارِهِ فِيهِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا فِي كَوْنِ ابْتِدَائِهِ اضْطِرَارِيًّا وَإِبْقَائِهِ اخْتِيَارِيًّا فَالْحُرْمَةُ حِينَئِذٍ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْإِظْهَارِ بِالْجَوَارِحِ بَلْ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْرَارِ فِي الْقَلْبِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ عَلَى الشَّرِّ إنْ كَانَتْ فِي مَرْتَبَةِ التَّصْمِيمِ وَالِاسْتِمْرَارِ فَيُؤَاخَذُ بِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] . (خَرَّجَهُ دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. (وَحَمْلُ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ (هَذَا) أَيْ الْحَسَدَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ (عَلَى حُبِّ الطَّبْعِ لِزَوَالِ نِعْمَةِ الْعَدُوِّ مَعَ الْكَرَاهَةِ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ) عَلَى مَعْنَى إذَا حَسَدْت إذَا وَجَدْت حُبًّا طَبِيعِيًّا فِي قَلْبِك لِزَوَالِ نِعْمَةِ الْعَدُوِّ فَلَا تَبْغِ أَيْ فَلَا تَقْبَلْهُ بَلْ انْكِرْهُ وَاكْرَهْهُ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ (غَيْرُ مُوَجَّهٍ إذْ الْحَسَدُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِرَادَةِ) الظَّاهِرُ مُطْلَقٌ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْحَسَدَ لَيْسَ مُطْلَقَ الْإِرَادَةِ بَلْ إرَادَةَ زَوَالِ نِعْمَةِ اللَّهِ إلَخْ، وَلَيْسَ اللَّفْظُ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ حَقِيقِيًّا، بَلْ ذِكْرُ الْكُلِّ وَإِرَادَةُ الْجُزْءِ أَوْ ذِكْرُ الْخَاصِّ وَإِرَادَةُ الْعَامِّ مِنْ الْمَجَازِ، نَعَمْ اسْتِعْمَالُهُ اللَّفْظَ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ حَقِيقَةٌ قَاصِرَةٌ عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَاكَ حَقِيقَةً مُطْلَقَةً فَافْهَمْ (الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْكَرَاهَةِ) فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ

كَوْنُ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا فَتَأَمَّلْ. فِيهِ بَلْ الْمُتَبَادِرُ كَوْنُهَا بِمَعْنَى الطَّلَبِ الْقَلْبِيِّ. (فَلَا تُجَامِعُهَا) أَيْ الْإِرَادَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَدْ لَزِمَ مُجَامَعَتُهُمَا فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَقُولُ كَلَامُ الْإِمَامِ عَلَى مَا حَرَّرَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ آنِفًا لَا يَقْتَضِي اجْتِمَاعَهُمَا بَلْ يُوجَدُ أَوَّلًا الْحُبُّ الطَّبِيعِيُّ ثُمَّ لَا يَقْبَلُهُ شَرْعًا بَلْ يَكْرَهُهُ وَيُخْرِجُهُ عَنْ قَلْبِهِ فَالْمُحَالُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ مَعًا لَا وُجُودُهُمَا مُتَعَاقِبًا فَاللَّازِمُ عَلَى الْإِمَامِ هُوَ التَّعَاقُبُ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُحَالٍ وَالْمُحَالُ هُوَ الْمَعِيَّةُ وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا قَدْ خَفِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بَلْ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ نَعَمْ يُقَرِّبُهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ أَرَادَ نَفْيَ إمْكَانِ وُجُودِ الْكَرَاهَةِ مِنْ الْحَاسِدِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِتَغَايُرِ الْجِهَتَيْنِ فَإِنَّ الْحَسَدَ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ، وَالْكَرَاهَةُ عَارِضَةٌ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ كَوْنِهِ حَسَدًا مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا لِوُجُودِ تَمَامِ مَاهِيَّةِ الْحَسَدِ فِيهِ غَايَتُهُ حَسَدًا مِنْ إثْمِهِ بِتِلْكَ الْكَرَاهَةِ (كَمَا لَا تُجَامِعُ الشَّهْوَةُ أَعْنِي حُبَّ الطَّبْعِ ضِدَّهَا) أَيْ الشَّهْوَةِ (الَّذِي هُوَ النَّفْرَةُ) لَعَلَّ هَذَا تَنْظِيرٌ لِلِاسْتِظْهَارِ لَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ زِيَادَةُ. فَائِدَةٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ (بِخِلَافِ كُلٍّ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ) أَيْ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ (فَإِنَّهُ يُجَامِعُ كُلًّا مِنْ الْأُخْرَيَيْنِ) أَيْ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ إلَى آخِرِهِ فَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى فَائِدَتِهِ فِي نَفْسِهِ بَلْ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ عَلَى زَعْمِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَدَ الشَّهْوَةَ وَالنَّفْرَةَ فِي الْإِرَادَةِ مَثَلًا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمَا فِيهَا فَافْهَمْ وَقَدْ قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي أَمَّا مُجَامَعَةُ الْإِرَادَةِ مَعَ الشَّهْوَةِ فَفِي أَكْلِ الْعَسَلِ لِصَحِيحِ الْمِزَاجِ وَأَمَّا مَعَ النَّفْرَةِ فَفِي أَكْلِ الدَّوَاءِ الْمَرِّ لِمَعْلُولِ الْمِزَاجِ وَأَمَّا مُجَامَعَةُ الْكَرَاهَةِ مَعَ الشَّهْوَةِ فَفِي الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَكْلِ الْعَسَلِ لِأَجْلِ ضَرَرِهِ لِمَرَضِهِ وَمَعَ النَّفْرَةِ فَفِي الْمُمْتَنِعِ عَنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ (وَالْأُولَيَانِ) أَيْ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهَةُ (اخْتِيَارِيَّتَانِ) لِدُخُولِهِمَا تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ كَوْنُ الْإِرَادَةِ سِيَّمَا مَبَادِئُهَا اخْتِيَارِيَّةٌ مَحَلُّ خَفَاءٍ كَيْفَ وَالِاخْتِيَارِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا فِعْلًا وَالْإِرَادَةُ مِنْ قَبِيلِ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَهِيَ مَقُولَةٌ مُغَايِرَةٌ لِلْأُولَى وَأَيْضًا يَجُوزُ لِمَنْ لَهُ مَلَكَةٌ رَاسِخَةٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عُرُوضُ الْكَرَاهَةِ اضْطِرَارِيَّةً بِلَا عِلْمٍ وَخَبَرٍ مِنْهُ كَمَا نُشَاهِدُ فِي بَعْضِ مَنْ وَجِدَاتِنَا (وَالْأُخْرَيَانِ) أَيْ الشَّهْوَةُ وَالنَّفْرَةُ (اضْطِرَارِيَّتَانِ) لِعَدَمِ دُخُولِهِمَا تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ لَا يَخْفَى أَنَّهُمَا فِي نِهَايَتِهِمَا وَاسْتِمْرَارِهِمَا قَدْ تَكُونَانِ اخْتِيَارِيَّتَيْنِ (لَا تُوصَفَانِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ) كَيْفَ وَشَهْوَةُ الْمَعَاصِي وَنَفْرَةُ الطَّاعَاتِ قَدْ يُمْكِنُ اتِّصَافُهُمَا بِالْحُرْمَةِ فَافْهَمْ (وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَلَا تَبْغِ مِنْ الْبَغْي الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْجَوَارِحِ» يُرِيدُ بِهِ رَدًّا آخَرَ عَلَى الْغَزَالِيِّ فَإِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ بَلْ الْإِكْرَاهُ بِالْقَلْبِ وَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ إنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ بَلْ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ فَالْمَعْنَى لَا تَبْغِ بِالْأَفْعَالِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا بِالْقُلُوبِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَقُولُ الْمَفْهُومُ مِنْ الْقَامُوسِ بَغَى الشَّيْءَ نَظَرَ إلَيْهِ وَبَغَيْته أَبْغِيه وَبَغِيَّتُهُ بِالْكَسْرِ طَلَبْته وَأَبْغَاهُ الشَّيْءَ طَلَبَهُ لَهُ وَاسْتَبْغَى الْقَوْمَ فَبَغَوْهُ وَلَهُ طَلَبُوا وَالْبَاغِي الطَّالِبُ وَبَغَى عَلَيْهِ عَلَا وَظَلَمَ وَعَدَلَ عَنْ الْحَقِّ وَاسْتَطَالَ، وَالشَّيْءَ نَظَرَ إلَيْهِ كَيْفَ هُوَ وَرَقَبَهُ وَانْتَظَرَ. وَعَنْ الْمِصْبَاحِ بَغَى عَلَى النَّاسِ بَغْيًا ظَلَمَ وَاعْتَدَى لَا يَخْفَى أَنَّ النَّظَرَ وَالطَّلَبَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ أَيْضًا بَلْ الِانْتِظَارُ ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ وَأَنَّ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ مُتَبَادِرًا فِيمَا بِالْجَوَارِحِ لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْقَلْبِ فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْبَغْي الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْجَوَارِحِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ بِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ مُحْتَمَلِيهِ إلَّا بِمُرَجَّحٍ كَمَا فِي الْأُصُولِ وَقَدْ قِيلَ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ سِيَّمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَصْمِ سِيَّمَا الْإِمَامُ الْغَزَالِيِّ (وَسُئِلَ الْحَسَنُ) الظَّاهِرُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ (عَنْ الْحَسَدِ، فَقَالَ غُمَّةٌ) كَرْبٌ

شَدِيدٌ وَحُزْنٌ (لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تُبْدِهِ) أَيْ مَا لَمْ تُظْهِرْهُ بِالْجَوَارِحِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا تُظْهِرُهُ مِنْ الْحَسَدِ لَا يَضُرُّ بِمُجَرَّدِ مَا فِي الْقَلْبِ وَاعْلَمْ أَنَّ حُجِّيَّةَ قَوْلِ التَّابِعِيِّ وَإِنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابِيِّ كَالْحَسَنِ أَمْرٌ اخْتِلَافِيٌّ بَلْ حُجِّيَّةُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَمَذْهَبُهُ أَيْضًا اخْتِلَافِيٌّ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أُقَلِّدُهُمْ هُمْ رِجَالٌ اجْتَهَدُوا وَنَحْنُ رِجَالٌ أَيْضًا رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نَتَّبِعُهُمْ فِي الرِّوَايَاتِ وَأَمَّا فِي الدِّرَايَةِ فَهُمْ رِجَالٌ تَكَلَّمُوا بِعُقُولِهِمْ. وَنَحْنُ رِجَالٌ كَذَلِكَ وَقَدْ قَالُوا لَا حُجَّةَ مَعَ الِاخْتِلَافِ نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثًا مُرْسَلًا وَمَرَاسِيلُ الْحَسَنِ شَائِعَةٌ مَشْهُورَةٌ لَكِنْ قَالُوا إنَّ أَكْثَرَ أَحَادِيثِ الْحَسَنِ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ رِوَايَةَ كُلٍّ لِحُسْنِ الظَّنِّ بِكُلٍّ، وَلِذَا قِيلَ أَكْثَرُ أَحَادِيثِ الْمُتَصَوِّفَةِ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ فَيَقْبَلُونَ الرِّوَايَةَ مِنْ الْفَاسِقِ وَالْمَجْرُوحِ وَالْمَسْتُورِ وَالْمَطْعُونِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَقْبَلُونَهَا ثُمَّ نُقِلَ عَنْ رِعَايَةِ الْإِمَامِ الْمُحَاسِبِيِّ فِي بَابِ الرَّدِّ عَلَى كَوْنِ الْحَسَدِ بِالْجَوَارِحِ دُونَ الْقَلْبِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا لَا يَضُرُّك مَا دَامَتْ فِي قَلْبِك وَكَرِهْتهَا فَلَمْ تُظْهِرْهَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَدَمُ إظْهَارِهَا دَلِيلًا عَلَى كَرَاهَتِهَا لَعَلَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ لَفْظَ مَا لَمْ تُبْدِهِ تَجُوزُ عَنْ الْحُبِّ وَالْإِبْقَاءِ فِي الْقَلْبِ مِنْ قَبِيلِ وَضْعِ دَلِيلِ الشَّيْءِ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْء فَإِنَّ الْإِظْهَارَ دَلِيلُ الْإِبْقَاءِ وَالْحُبِّ فَمَدَارُ عَدَمِ الضَّرَرِ هُوَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ لَا مُجَرَّدُ عَدَمِ الْإِظْهَارِ ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ الْحَسَدُ إنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ وَأَمَّا الِاسْتِعْمَال بِالْجَوَارِحِ كَمَا فَعَلَ إخْوَةُ يُوسُفَ فَإِثْمٌ آخَرُ مُتَسَبِّبٌ عَنْ الْحَسَدِ كَمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْغِيبَةُ وَالْوَقِيعَةُ وَتَحْرِيمُ الْخَيْرِ عَنْهُ كَالْعِلْمِ أَوْ الصِّلَةِ أَوْ الْمُعَاوَنَةِ أَوْ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَالْإِيذَاءِ بِالْجَوَارِحِ وَلَوْ كَانَ جِنْسُ هَذَا حَسَدًا لَكَانَ جَمِيعُ إسَاءَةِ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ حَسَدًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بِعِلْمٍ أَوْ بِعَقْلٍ فَالْحَسَدُ بِالْقَلْبِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120] وَقَوْلُهُ {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] الْآيَةُ. وَقَالَ {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69] وَغَيْرُهَا فَوَصَفَ الْحَسَدَ بِكَرَاهَةِ الْقُلُوبِ لِلْحَسَنَاتِ فَأَضَافَ لِفِعْلِ الْقَلْبِ دُونَ الْجَوَارِحِ ثُمَّ قَالَ إنَّمَا فَسَّرْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَائِفَةً تَقُولُ إنَّ الْحَسَدَ بِالْجَوَارِحِ نَحْتَجُّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا وَقَدْ دَلَّنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بِالْقَلْبِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِالْجَوَارِحِ مُتَسَبِّبٌ عَنْهُ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ فِي النَّفْسِ لَا فِي الْجَوَارِحِ، وَاسْتِعْمَالُ الْجَوَارِحِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الْمُحَاسِبِيِّ ثُمَّ قِيلَ الْمُحَاسِبِيُّ إمَامٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ مِنْ رِجَالِ الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَمُتَقَدِّمٌ عَلَى الْغَزَالِيِّ فَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ مِنْهُ ثُمَّ قِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ لَا يَضُرُّك أَيْ الضَّرَرَ الدُّنْيَوِيَّ كَالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ، وَالْغَرَامَاتِ الْمَالِيَّةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرٌ بِمَا يَتَسَبَّبُ إلَى جِنْسِ مَا ذُكِرَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ وَإِنْ بَعُدَ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ الْغَايَةَ إصْلَاحُهُ لِمُعَارِضَةِ الْقُوَى كَمَا سَمِعْت لَا يَكُونُ بَعِيدًا كُلَّ الْبُعْدِ فَافْهَمْ (وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ» أَيْ تَتَكَلَّمُ «أَوْ تَعْمَلُ بِهِ» لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُدَّعَى أَعْنِي الْحَسَدَ الْبَاطِنِيَّ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ وَحَدِيثَ النَّفْسِ مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ فَلَا تَقْرِيبَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَدِيثُ حُكْمًا فِي ظَاهِرِهِ لَكَانَ نَحْوُ الْكُفْرِ وَالْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرِ مِمَّا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ مُتَجَاوَزًا عَنْهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَا يَسْتَقِرُّ وَلَوْ كُفْرًا إذْ لَوْ صَرَفَهُ مِنْ فَوْرِهِ لَا يَكُونُ كُفْرًا بَلْ مُتَجَاوَزٌ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَيْ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِمَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْقَبَائِحِ قَهْرًا ثُمَّ إنْ تَكَلَّمَ أَوْ عَمِلَ بِهِ قِيلَ يُؤَاخَذُ بِهِمَا فَقَطْ وَقِيلَ يُؤَاخَذُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَدِيثِ النَّفْسِ أَيْضًا لَعَلَّ التَّحْقِيقَ كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يُؤَاخَذُ بِحَدِيثِ النَّفْسِ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْجَزْمِ فَلَوْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ وَلَوْ بَعْدَ سِنِينَ أَثِمَ حَالًا كَمَا فِي الْفَيْضِ (أَخْرَجَهُ خ م) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا) وَأَمَّا الْحَدِيثُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «إذَا هَمَّ عَبْدٌ بِسَيِّئَةٍ فَأَنَا أَغْفِرُهَا مَا لَمْ يَعْمَلْهَا؛ فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» فَعَنْ الْقَاضِي أَنَّ الْهَمَّ هُنَا يَمُرُّ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ وَلَا تَوْطِينٍ وَإِلَّا فَعَزْمٌ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِمَا فِي الْقَلْبِ قِيلَ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ. (وَحَمْلُهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جَانِبِ (الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ عَلَى مَيْلِ الطَّبْعِ بِلَا اخْتِيَارٍ) بَلْ بِاضْطِرَارٍ (مَرْدُودٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ التَّكْلِيفِ) عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى - لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا - (فَلَا ذَنْبَ فِيهِ فَلَا عَفْوَ وَ) لَفْظُ (تَجَاوَزَ) فِي الْحَدِيثِ مُسْتَعْمَلٌ (مَعَ عَنْ بِمَعْنَى عَفَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَاشِيَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ اللُّغَةُ أَقُولُ إنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَ نَفْسُهُ اضْطِرَارِيًّا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَبَادِئُهُ اخْتِيَارِيَّةً، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تُحَدِّثُهُ إلَّا بِأَسْبَابٍ اخْتِيَارِيَّةٍ غَالِبًا فَيَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِاعْتِبَارٍ مَبَادِئِهِ وَأَسْبَابِهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ الَّذِي رَجَّحُوهُ كَوْنُ " أَنْفُسُهَا " فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا فَاعِلًا لِلْفِعْلِ حَدَّثَتْ فَيَلْزَمُ أَنْ تَخْتَرِعَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ الْأَنْفُسُ لِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ صَاحِبِهَا فَيُتَّجَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ تَجَاوَزَ عَلَى مَعْنًى مَجَازِيٍّ نَحْوُ لَا يُؤَاخِذُ. وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ لَفْظَ مَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]- عَامَّةٌ لِمَا يُطْلَقُ وَمَا لَا يُطْلَقُ حَتَّى أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ مِنْ مُحَاسَبَتِهِمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَقَالُوا كُلِّفْنَا بِمَا لَا نُطِيقُ «، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَا فَهِمُوا مِنْ الْعُمُومِ فَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ، غَايَتُهُ أَنَّهُ نُسِخَ ذَلِكَ قَبْلَ الْوُقُوعِ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ كَمَا فِي الْأُصُولِ. وَأَيْضًا عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تَكْلِيفَهُمْ بِمَا لَا يُطِيقُونَهُ مُمْكِنًا أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَكِنَّهُ تَعَالَى تَفَضَّلَ بِعَدَمِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ كَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَلَّفَ سَائِرَ الْأُمَمِ بِهَا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] مِنْ تَفْرِيطٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ أَوْ بِأَنْفُسِهَا إذْ لَا تَمْتَنِعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا عَقْلًا ثُمَّ قَالَ لَكِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ التَّجَاوُزَ عَنْهَا رَحْمَةً وَفَضْلًا وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]- وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَإِلَّا لَمَا سَأَلَ التَّخَلُّصَ عَنْهُ. وَأَقُولُ أَيْضًا النَّهْيُ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا لِيُتَصَوَّرَ النَّهْيُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ أَوْ يَأْتِيَ. وَقَالَ فِي الدُّرَرِ النَّهْيُ عَنْ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ وَعَنْ الْحِسِّيَّةِ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مَقْدُورَةً حِسًّا وَعَنْ الْعَقْلِيَّةِ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مَقْدُورَةً شَرْعًا وَإِلَّا كَانَ عَبَثًا وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدُّعَاءَ أَيْضًا كَالنَّهْيِ فِي الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ الْمَوْلَى أَبُو السُّعُودِ فِي تِلْكَ الْآيَة إنَّ تَعَاطِيَ الْمَعَاصِي لَا يَبْعُدُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْعِقَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَزِيمَةٍ وَوَعْدُهُ تَعَالَى بِعَدَمِهِ لَا يُوجِبُ اسْتِحَالَةَ وُقُوعِهِ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَمِثْلُهُ بِعَيْنِهِ فِي الْمُنَاوِيِّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبِالْجُمْلَةِ الْعَفْوُ وَالتَّجَاوُزُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُقُوعِ التَّكْلِيفِ وَالذَّنْبُ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِلَا عَزِيمَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَقَدْ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَعْضَ مَا لَا يُطْلَقُ تَكْلِيفُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا. (وَ) الْوَجْهُ (الثَّانِي أَنَّ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ لَا تُؤَاخَذُ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ) حِينَ كَوْنِ الْمُرَادِ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ (بِقَوْلِهِ أُمَّتِي) إذْ لَمْ يَبْقَ لَهُ فَائِدَةٌ حِينَئِذٍ. أَقُولُ قَدْ سَمِعْت آنِفًا جَوَازَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَكَوْنِ التَّجَاوُزِ تَفَضُّلًا مِنْهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِأُمَّتِي لِوَاقِعَةٍ أَوْ حَادِثَةٍ وُجِدَتْ عِنْدَ وُرُودِ الْحَدِيثِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ وَأَنَّ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا فِي النُّصُوصِ وَقِيلَ إنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِي لِمَا عَدَاهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي كَمَا تَجَاوَزَ

لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. (وَالثَّالِثُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ) أَيْ الْحَمْلَ عَلَى غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ (إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى رِوَايَةِ رَفْعِ أَنْفُسِهَا) بِأَنَّهَا فَاعِلُ حَدَّثَتْ (وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ نَصْبِهَا فَلَا) يَصِحُّ ذَلِكَ الْحَمْلُ (إذْ الرَّفْعُ دَالٌ عَلَى الِاضْطِرَارِ) كَمَا رُوِيَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ أَنْفُسُهَا بِالرَّفْعِ فَاعِلًا لَحَدَّثَتْ فِيمَا لَا اخْتِيَارَ وَأَيْضًا مِثْلُهُ عَنْ الْحَلَبِيِّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ النَّوَوِيِّ (وَالنَّصْبُ) دَالٌ (عَلَى الِاخْتِيَارِ) لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِمَسْأَلَةِ الْخَصْمِ إذْ لَا يَتِمُّ هَذَا بِدُونِ رَدِّ رِوَايَةِ الرَّفْعِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ بَلْ الرَّفْعُ أَظْهَرُ وَإِنْ كَانَ النَّصْبُ أَشْهَرَ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ بَلْ فِيهِ تَلْقِينُ الْجَوَابِ لِلْخَصْمِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ يَجُوزُ الِاضْطِرَارُ عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ أَيْضًا إذْ الْأَمَةُ تُحَدِّثُ أَنْفُسَهَا بِحَدِيثٍ هِيَ مُضْطَرَّةٌ فِيهِ إذْ لَيْسَ حَدِيثًا بِاللِّسَانِ حَتَّى يَلْزَمَ الِاخْتِيَارُ فَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. (وَالرَّابِعُ أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ) هُوَ قَوْلُهُ مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ (يُنَافِي ذَلِكَ الْحَمْلَ) أَيْ عَلَى غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ (لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهِ) هِيَ انْتِفَاءُ التَّجَاوُزِ (فَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أُمَّتِي كُلَّ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا إلَى أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ) أَيْ أَثَرُ مَا حَدَّثَتْ بِهِ (عَلَى الْجَوَارِحِ إمَّا بِالتَّكَلُّمِ أَوْ بِالْعَمَلِ فَيَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ الْهَمُّ وَالْعَزْمُ بِالْقَلْبِ بَعْدَ مَيْلِ الطَّبْعِ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ) الْهَمُّ وَالْعَزْمُ اخْتِيَارِيَّانِ فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ لَا يَقْصُرُ عَلَى الِاضْطِرَارِيِّ بَلْ يَشْمَلُ مُطْلَقَ مَا فِي الْقَلْبِ. أَقُولُ قَدْ عَرَفْت فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ التَّصْمِيمَ فِي الْعَزْمِ مُؤْثِمٌ وَعَنْ الْغَيْرِ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْعَزْمَ مُؤَاخَذٌ بِهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ الْقَارِي أَنَّ النِّيَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعَزِيمَةَ مُؤَاخَذٌ بِهَا وَأَيْضًا ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] عَلَى مَا صَرَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ مُنَافٍ لِإِطْلَاقِ مَا ذُكِرَ. وَقِيلَ إنَّهُ وَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ لَكِنْ جَاءَتْ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْهَمِّ وَالْعَزْمِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ (وَالْمُرَادُ بِالتَّكَلُّمِ تَكَلُّمُ مَا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ) أَيْ الْحَسَدِ لَا مُطْلَقُهُ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كَالْمُسْتَدْرَكِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ (وَمُقْتَضًى مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ كَالْغِيبَةِ وَالْقَدْحِ) أَيْ الطَّعْنِ (وَالسَّبِّ) أَيْ الشَّتْمِ (فِي الْحَسَدِ) لَفْظُ فِي مِنْ قَبِيل عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ أَيْ لِلْحَسَدِ (وَسُوءِ الظَّنِّ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَلْبِيٌّ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِمَسْأَلَةِ الْخَصْمِ وَالتَّأْوِيلُ بِالْقَوْلِ بَعْدَ كَوْنِهِ تَكَلُّفًا فِي نَفْسِهِ يُوجِبُ تَجْوِيزَ سُوءِ الظَّنِّ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ فَاسِدٌ كَمَا قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ لِلْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ سَيَذْكُرُ أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ أَيْضًا لَا يُحَرِّمُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ حَاصِلُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مَا فِي الْقَلْبِ غَيْرُ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ وَقَدْ سَمِعْت آنِفًا الْمَنْقُولَاتِ مِنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَنَحْوِهَا وَأَيْضًا عَنْ قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةِ بِإِثْمِيَّةِ الْعَزْمِ الْمُصَمَّمِ، وَعَنْ الْإِمَامِ الْمَازِرِيِّ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ طَيِّبٍ إنْ وَطَّنَ عَزْمَ الْمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَثِمَ فِي اعْتِقَادِهِ وَعَزْمِهِ وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ آخِذِينَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِظَوَاهِر النُّصُوصِ {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] وَ {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] كَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَاحْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا نُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. أَقُولُ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ الْمُنَاسِبُ لِتَوْفِيقِ الْأَدِلَّةِ فَالْإِمَامُ فِي إفْرَاطٍ وَالْمُصَنِّفُ فِي تَفْرِيطٍ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَاَللَّه أَعْلَمُ (وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ بِالْعَمَلِ) . (فَإِنْ قُلْت إنَّ مُجَرَّدَ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ) بِلَا عَمَلٍ

الظَّاهِرُ مَا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ (حَرَامٌ لَا يُعْفَى عَنْهُ) بِدُونِ أَثَرٍ خَارِجِيٍّ (فَلِمَ لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ سُوءِ الظَّنِّ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِهِمَا كَذَلِكَ) أَيْ حَرَامًا لَا يُعْفَى عَنْهُ (مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ النَّوْعَيْنِ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ وَسُوءُ الظَّنِّ مَعَ الْحَسَدِ فَالظَّاهِرُ مِنْهَا بَدَلٌ مِنْهُمَا (فِعْلٌ قَلْبِيٍّ) التَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ كَمَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ (فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا) حَتَّى كَانَ الْأَوَّلُ حَرَامًا دُونَ الثَّانِي (قُلْت الْأَوَّلُ) أَيْ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَهُوَ الْأَوْفَقُ لِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ كُلًّا مِنْهُمَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْأَوَّلَانِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى (قُبْحُهُمَا وَحُرْمَتُهُمَا لِذَاتِهِمَا) لَا لِكَوْنِهِمَا بَاعِثَيْنِ لِعَمَلٍ مَحْظُورٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ آخَرُ سِوَى ذَاتِهِمَا كَجَمِيعِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَأَهْلُ الْأُصُولِ يَقُولُونَ الْكُفْرَ مِمَّا قَبُحَ لِعَيْنِهِ لِإِدْرَاكِ مُجَرَّدِ الْعَقْلِ قُبْحِهِ (وَقُبْحُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَحُرْمَتُهُ) مِنْ سُوءِ الظَّنِّ وَالْحَسَدِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ (لِسَبَبِيَّةِ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ) فَإِنَّ أَثَرَهُ مِنْ الْقَبَائِحِ مُتَسَبِّبٌ عَنْهُ (فَإِذَا تَجَرَّدَ عَنْهُ وَلَمْ يُفِضْ إلَيْهِ لَا يَبْعُدُ) مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ (أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْهُ الْحُرْمَةُ وَالْإِثْمُ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْحُكْمِ عَلَى مُقْتَضَى النَّصِّ. وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى الشَّكِّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأَدُّبِ وَالتَّبَرُّكِ، كَيْفَ وَهَذَا قَرِيبٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّيَّاتِ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ وَظَنَّ هَذَا الْفَقِيرُ عَدَمَهَا لَعَلَّ الْمَطْلَبَ ظَنِّيٌّ فَيَقْنَعُ بِالظَّنِّ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ لِلْوَسَائِلِ أَحْكَامَ الْمَقَاصِدِ (لَا سِيَّمَا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرِ الْأُمَمِ لِتَشْرِيفِ حَبِيبِهِ وَتَكْرِيمِ صَفَّيْهِ) كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ أُمَّتِي فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَرَفْعُ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ مِنْ نَحْوِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَلَّفَ بِهَا الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنْ بَخْعِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَصَرْفِ رُبْعِ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الْحَلَالِ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ وَرَفْعِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ» وَقَالَ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَسْفُ وَالْمَسْخُ» . قِيلَ لَكِنْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]- إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]- وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا كَمَا ذَكَرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيّ. أَقُولُ قَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ قَبْلُ فَارْجِعْ إلَيْهِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْمُحَاسِبِيِّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْحَسَدَ الْقَلْبِيَّ بِلَا إفْضَاءٍ إلَى الْعَمَلِ إثْمٌ وَلَوْ اشْتَرَطَ الْجَوَارِحَ لَكَانَتْ الْغِيبَةُ الْمُتَسَبِّبَةُ عَنْ الْحَسَدِ حَسَدًا، وَكَذَا الْكَذِبُ وَالضَّرْبُ وَنَحْوُهُمَا ثُمَّ قَالَ فَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مِنْ مَعْقُولِ الدِّينِ وَقِيلَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]- وَقَوْلُهُ - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]- (نَعَمْ قَصْدُ الْمَعْصِيَةِ وَهَمُّهَا لَا سِيَّمَا الْعَزْمُ الْمُصَمِّمُ) عَلَى الْفِعْلِ (قَلَّمَا يُوجَدُ بِدُونِ الْأَثَرِ عَلَى الْجَوَارِحِ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ فَيَجُوزُ التَّخَلُّفُ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ وَالْعَزْمَ وَالْهَمَّ لَا يُؤْثِمُ (وَلَا كَلَامَ أَيْضًا أَنَّ الْكَمَالَ أَنْ يُخْلِيَ الْإِنْسَانُ قَلْبَهُ عَنْ الْعَزَائِمِ الْفَاسِدَةِ وَالصِّفَاتِ الْخَبِيثَةِ) الرَّذِيلَةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ وَالْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الِاتِّفَاقِ لَا يَخْفَى أَنَّ الصِّفَاتِ مَا لَمْ تُؤْثِمْ لَا تَكُونُ خَبِيثَةً وَلَا فَاسِدَةً فَافْهَمْ. (وَيُحَلِّيه بِالنِّيَّاتِ الصَّالِحَةِ وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ) لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى الْأَفْعَالِ الْمَرَضِيَّةِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَيُؤْجَرُ

لِأَنَّ نِيَّةَ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى (وَأَمَّا الرِّيَاءُ بِطَاعَةٍ أَوْ دَلِيلِهَا) ، نَحْوُ ذُبُولِ الشَّفَتَيْنِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ (فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ عَمَلٍ بِمُقْتَضَاهُ) فَلَا يُوجَدُ بِلَا أَثَرٍ فَلَا يُوجَدُ لَهُ التَّجَرُّدُ فَلَا تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْحُرْمَةُ (فَإِنَّ الِاجْتِنَابَ عَنْ بَعْضِ الشُّبُهَاتِ لِيَرَى النَّاسُ أَنَّهُ وَرِعٌ كَفُّ الْجَوَارِحِ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الشُّبُهَاتِ (وَهُوَ) أَيْ الْكَفُّ (عَمَلُهَا) أَيْ الْجَوَارِحِ (وَالذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ وَالتَّفَكُّرُ) بِنِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُظْهِرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَجْعَلُهُ خَطِيرًا شَرِيفًا فِي الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ، وَهَذَا رِيَاءٌ بِنَفْسِ الطَّاعَةِ (عَمَلٌ قَلْبِيٌّ) فَلَا يَنْفَكُّ الرِّيَاءُ بِحَالٍ عَنْ الْعَمَلِ (وَكِلَاهُمَا) أَيْ الذِّكْرُ وَالتَّفَكُّرُ (عَمَلٌ بِمُقْتَضَى الرِّيَاءِ) فَعَدَمُ انْفِكَاكِ الرِّيَاءِ عَنْ الْعَمَلِ فِي بَاقِي الصُّوَرِ ظَاهِرٌ (وَأَمَّا كَفُّ الْحَسُودِ وَالْجَوَارِحِ) عَنْ مُقْتَضَاهُ (فَلَيْسَ بِعَمَلٍ بِمُقْتَضَى حَسَدِهِ بَلْ عَمَلٌ بِضِدِّ مُقْتَضَاهُ) ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِ أَثَرِهِ لَا بِتَرْكِهِ قِيلَ فَلِذَا لَمْ يَأْثَمْ مَنْ وَجَدَ أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ أَوْ عَدَمُ حُصُولِهَا لِلْمَحْسُودِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ. (وَأَمَّا الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ فَمِنْ قَبِيلِ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةُ) فِي أَنَّ قُبْحَهُمَا لِذَاتِهِمَا (وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) نُقِلَ عَنْهُ فِي الْحَاشِيَةِ لَمَّا كَانَ هَذَا الْإِلْحَاقُ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ لَا بِالتَّصْرِيحِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى. أَقُولُ قَالَ فِي بَعْضِ حَوَاشِي الْكِتَابِ إنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُقَالُ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ شُبْهَةٌ وَارْتِيَابٌ لَعَلَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الِاشْتِبَاهِ بَيْنَ الْحَسَدِ وَبَيْنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ بَلْ الْأَوْلَوِيَّةُ وَالْمُقَايَسَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ وَتَرْجِيحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ تَحَكُّمٌ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ رِعَايَةِ الْمُحَاسَبِيِّ أَنَّ الْحَسَدَ الْمُحَرَّمَ يَكُونُ مِنْ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ (وَإِنْ لَمْ تُرِدْ) أَنْتَ (زَوَالَ النِّعْمَةِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْمَبْحَثِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ الْحَسَدُ إرَادَةُ زَوَالِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَكِنْ أَرَدْت لِنَفْسِك مِثْلَهَا فَهُوَ غِبْطَةٌ وَمُنَافَسَةٌ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ) عَنْ الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ الْغِبْطَةُ حُسْنُ الْحَالِ غَبَطْتَهُ غَبْطًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ إذَا تَمَنَّيْت مِثْلَ مَا نَالَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرِيدَ زَوَالَهُ عَنْهُ لِمَا أَعْجَبَك مِنْهُ وَعَظُمَ عِنْدَك وَفِي الْحَدِيثِ أَقْوَمُ مَقَامٍ يَغْبِطُنِي فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَعَنْ الرِّعَايَةِ الْحَسَدُ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ الْمُنَافَسَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] وَقَالَ - {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]- {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]- وَلَا تَكُونُ الْمُسَابَقَةُ إلَّا أَنْ يُسَابِقَ غَيْرَهُ لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ النَّاسَ» (بَلْ) هُوَ (مَنْدُوبٌ فِي الدِّينِيِّ) بَلْ قَدْ يَجِبُ كَمَا فِي الرِّعَايَةِ إنْ كَانَ مَا رَأَى فِي غَيْرِهِ إتْيَانُ فَرْضٍ وَانْتِهَاءَ مُحَرَّمَ فَحَسَدُهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ وَلَمْ يَغْتَمَّ وَيَحْزَنْ عَلَى مَا تَخَلَّفَهُ وَلَمْ يَأْتِ مِثْلَهُ يَكُنْ عَاصِيًا. (وَحِرْصٌ مَذْمُومٌ فِي الدُّنْيَوِيِّ) فَالْغِبْطَةُ إمَّا فِي دُنْيَوِيٍّ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَإِمَّا فِي دِينِيٍّ مَمْدُوحٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ (وَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي مَبْحَثِ الْحِرْصِ . وَعَنْ الرِّعَايَةِ إنْ كَانَ مَا رَأَى فِي الْغَيْرِ مِنْ اللَّذَّاتِ وَالنَّعَمَاتِ مُبَاحًا لَهُ فَاغْتَمَّ أَنْ لَا يَكُونَ مِثْلَهُ وَاجِبٌ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ فَيُوَسَّعَ عَلَيْهِ فَيَكُونَ مُتَنَعِّمًا مِثْلَهُ فَمُبَاحٌ لَهُ لَكِنْ يَنْقُصُ الْفَضْلُ وَالزُّهْدُ وَإِنْ مُحَرَّمًا كَاكْتِسَابِ الْحَرَامِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ بِالْمَعَاصِي فَاغْتَمَّ أَنْ لَا يَكُونَ مِثْلَهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ، وَلَيْسَ بِحَسَدٍ مُحَرَّمٍ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْغِشِّ

لِأَنَّهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلْحَرَامِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّعْمَةِ) الَّتِي حَسَدْتهَا (صَلَاحٌ لِصَاحِبِهَا بَلْ) فِيهَا (فَسَادٌ) لَهُ (وَمَعْصِيَةٌ فَأَرَدْت زَوَالَهَا عَنْهُ أَوْ عَدَمَ وُصُولِهَا إلَيْهِ) إلَى صَاحِبِهَا (فَذَلِكَ) أَمْرٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ (نَاشِئٌ مِنْ غَيْرَةِ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَة أَيْ أَنَفَةٌ وَامْتِنَاعِ (الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى) لِرِضَاهُ تَعَالَى (مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) . الْغَيْرَةُ أَرْبَعٌ: قِسْمٌ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَهُوَ غَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِسْمَانِ وَاجِبَانِ وَهُمَا غَيْرَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ وَلِرَبِّهِ، وَقِسْمٌ مَذْمُومٌ وَهُوَ غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى بَعْلِهَا كَذَا قِيلَ (خ) الْبُخَارِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ» مِنْ الْغَيْرَةِ أَيْ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «إنَّ اللَّه تَعَالَى يَغَارُ لِلْمُسْلِمِ» وَفَسَّرَ أَيْ يَغَارُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ شَيْطَانَهُ وَهَوَاهُ وَجَمْعَ دُنْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ حَبِيبُهُ وَغَيْرَتُهُ زَجْرٌ عَنْ ذَلِكَ «وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ وَالْمُؤْمِنُ يَغَارُ انْتَهَى وَقَالَ الصَّدْرُ الْمُنَاوِيُّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ إلَّا قَوْلَهُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ زَادَ مُسْلِمٌ عَلَى الْبُخَارِيِّ «وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ عَنْ بَعْضِهِمْ، أَشَدُّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَةً رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَلِذَلِكَ كَانَ شَدِيدًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَانْتِقَامِهِ لِلَّهِ وَلَمْ تَأْخُذْهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَصَحْبُهُ تَابِعُوهُ فِي الْغَيْرَةِ (وَإِنَّ غَيْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى) هِيَ (أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ) ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَشَرَعَ عَلَيْهَا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ وَالْقِتْلَاتِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي الْحَدِيثِ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ اقْتِحَامِ حِمَى الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْهَلَاكِ وَالطَّرْدِ عَنْ دَارِ السَّلَامِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ «يَا ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُك لِنَفْسِي وَخَلَقْت كُلَّ شَيْءٍ لَك فَبِحَقِّي عَلَيْكَ أَنْ لَا تَشْتَغِلَ بِمَا خَلَقْته لَك عَمَّا خَلَقْتُك لَهُ» وَفِي أَثَرٍ آخَرَ «خَلَقْتُك لِنَفْسِي فَلَا تَلْعَبْ وَتَكَفَّلْت بِرِزْقِك فَلَا تَتْعَبْ» . (تَنْبِيهٌ) مِنْ غَيْرَةِ الْحَقِّ تَعَالَى عَلَى الْأَكَابِرِ أَنَّهُمْ إذَا سَاكَنُوا شَيْئًا سِوَاهُ أَوْ لَاحَظُوا غَيْرَهُ شَوَّشَ عَلَيْهِمْ وَامْتَحَنَهُمْ حَتَّى تَصْفُوَ أَسْرَارُهُمْ لَهُ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِين - قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ - أَيْ مَلِكِ مِصْرَ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ وَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَعْجَبَهُ إسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُمِرَ بِذَبْحِهِ وَنَظَرَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ إلَى شَابٍّ نَظْرَةً فَإِذَا كَفٌّ مِنْ الْهَوَاءِ قَدْ لَطَمَهُ وَسَقَطَتْ عَيْنُهُ وَسَمِعَ صَوْتًا: لَطْمَةٌ بِنَظْرَةٍ وَإِنْ زِدْت زِدْنَاك وَذَلِكَ لِعُلُوِّ قَدْرِهِمْ عِنْدَهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ. (وَالْغَيْرَةُ فِي الْأَصْلِ) وَاللُّغَةِ (كَرَاهِيَةُ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ فِي حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ) وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى فَلِذَا قَالَ (وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَنْعُهُ عَبْدَهُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ؛ لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْإِقْدَامِ (مُشَارَكَةَ) الْعَبْدِ (لِلَّهِ تَعَالَى) فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى (بِأَنْ يَفْعَلَ) مُتَعَلِّقٌ بِالْمُشَارَكَةِ (مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ وَتَقَيُّدٍ بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ) كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلتَّعَبُّدِ، إذْ التَّعَبُّدُ إنَّمَا يَكُونُ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَانْزِجَارِ النَّهْيِ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِعْلَ مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى فَلَوْ أَقْدَمَ الْعَبْدُ عَلَى الْفَوَاحِشِ لَكَانَ فَاعِلًا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ فَيَلْزَمُ الْمُشَارَكَةُ لَهُ تَعَالَى مِنْ الْعَبْدِ فِيمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ فَاعِلًا بِلَا تَعَبُّدٍ؛ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ إمَّا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ أَوْ بِالِاجْتِنَابِ عَنْ النَّهْيِ وَهُمَا مُنْتَفِيَانِ فَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مُقَيَّدٌ بِالْأَمْرِ فَافْتَرَقَا. (وَغَيْرَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ) عِنْدَ فِعْلِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ (هَيَجَانٌ) تَحَرُّكٌ وَاضْطِرَابٌ

(وَانْزِعَاجٌ مِنْ قَلْبِهِ يَحْمِلُهُ) أَيْ الْعَبْدَ (عَلَى مَنْعِ الْحَرِيمِ) أَوْ ذَاتِ الْحَرِيمِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ وَهُوَ السَّاكِنُ فِي حَرِيمِهِ مِنْ الْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ (مِنْ الْفَوَاحِشِ) كَالزِّنَا وَاللُّوَاطَةِ (وَمُقَدَّمَاتِهَا) ، نَحْوُ التَّكَلُّمِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَالنَّظَرِ وَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (لِأَنَّ فِيهِ كَرَاهِيَةَ الِاشْتِرَاكِ) مِنْ الْغَيْرِ فِيمَا ذُكِرَ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ. وَحَاصِلُهُ أَيْضًا مَنْعُ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مَدْخَلٌ فِيهِ (وَهَذِهِ) الْغَيْرَةُ. (وَاجِبَةٌ) (م) مُسْلِمٌ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) الْأَنْصَارِيُّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ وَجَدْت مَعَ أَهْلِي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ» أَيْ أَلَمْ أَمَسَّهُ بِالْقَتْلِ «حَتَّى آتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ» مِنْ الرِّجَالِ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ» فَإِنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ كَذَلِكَ «قَالَ» سَعْدٌ «كَلًّا» قَالَ فِي الْحَاشِيَةُ لَيْسَ هَذَا مِنْ سَعْدٍ رَدًّا أَوْ رَدْعًا لِرَسُولِ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كُفْرٌ بَلْ إخْبَارٌ عَمَّا فِي قَلْبِهِ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَكَأَنَّهُ قَالَ إنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنَّ نَفْسِي لَا تَتَحَمَّلُ ذَلِكَ بَلْ تُبَاشِرُ الْقَتْلَ قَبْلَهُ انْتَهَى. فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْت لَكِنَّ نَفْسِي لَيْسَتْ بِقَانِعَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى الرَّدْعِ كَحَرْفِ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ وَبِمَعْنَى حَقًّا أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي قَلْبِي وَبِمَعْنَى اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ كُلُّ ذَلِكَ مَعَانٍ لَهُ ذَكَرُوهُ فِي مَحَلِّهِ «وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ» نَبِيًّا «إنْ كُنْت» أَيْ إنِّي كُنْت فَإِنْ مُخَفَّفَةٌ «لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ» أَيْ قَبْلَ قِيَامِ تِلْكَ الشُّهُودِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ شَأْنِي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُعَالَجَةُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالشُّهَدَاءِ وَإِنْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسِي لَا تَتَحَمَّلُ ذَلِكَ لِفَرْطِ غَيْرَتِهَا وَكَمَالِ حَمِيَّتِهَا كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُك هَذَا أَوْ لَمْ أَعْلَمْ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يَنْبَغِي مِنْ الصَّحَابِيِّ أَنْ يُخَالِفَ حُكْمَ الشَّرْعِ سِيَّمَا فِي مَعْرِضِ الرَّدِّ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْمَعُوا إلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ» ؛ لِأَنَّهُ سَيِّدُ الْأَنْصَارِ «إنَّهُ لَغَيُورٌ» ؛ لِأَنَّهُ لِغَايَةِ حِرْصِهِ عَلَى مَنْعِ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ يَتَجَاسَرُ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ. «وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَغْيَرُ مِنِّي» يَشْكُلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُقْتَضَى الْغَيْرَةِ الْقَتْلُ بِلَا شُهُودٍ فَكَيْفَ كَانَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيَّ التَّوَقُّفُ عَلَى الشُّهُودِ وَكَيْفَ تَكُونُ غَيْرَةُ اللَّهِ وَغَيْرَةُ رَسُولِهِ سَابِقَةً عَلَى غَيْرَةِ سَعْدٍ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ غَيْرَةٌ لَمَا مَنَعَ عَنْهُ وَتَوَقَّفَ عَلَى الشُّهُودِ بَلْ ظَاهِرُهُ تَنَافٍ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّسْخِ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضٍ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَعِيدٌ. أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَغَيُورٌ أَيْ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ فِي الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنِّي أَغْيَرُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي تَعْجِيلٌ بَلْ أُمْهِلُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ مَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ مِنْ قِيَامِ الشُّهُودِ وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَهُوَ يُمْهِلُ وَلَا يُعَجِّلُ الْعُقُوبَةَ فِي فَوْرِ الْفَوَاحِشِ وَفِي وَصْفِهِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالسِّيَادَةِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى وَجْهِ الْإِمْهَالِ مِنْ أَنَّ شَأْنَ السَّادَاتِ الِاقْتِدَارُ عَلَى الِانْتِقَامِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءُوا فَلَا فُرْصَةَ تَفُوتُ. وَبِالْجُمْلَةِ الْمَقْصُودُ هُوَ مَنْعُ سَعْدٍ عَنْ تَعْجِيلِهِ الْعُقُوبَةَ فَلَا يُتَوَهَّمُ التَّعَارُضُ بَيْنَ قَوْلِهِ اسْمَعُوا وَقَوْلِهِ نَعَمْ هَذَا لَكِنَّ ظَاهِرَهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْفِقْهِيَّةِ كَالْبَزَّازِيَّةِ رَأَى فِي مَنْزِلِهِ رَجُلًا مَعَ أَهْلِهِ يَزْنِي وَخَافَ إنْ أَخَذَهُ يَقْهَرُهُ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً لَهُ قَتَلَهُمَا وَفِي الزَّيْلَعِيِّ

وَالْبَحْرِ يَحِلُّ قَتْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِنَحْوِ الصِّيَاحِ وَفِي فَتْحِ الْغَفَّارِ يُقْتَلُ إنْ انْزَجَرَ بِنَحْوِ صِيَاحٍ وَضَرْبٍ وَفِي الْبَحْرِ عَنْ الْمُجْتَبَى الْأَصْلُ فِي كُلِّ شَخْصٍ إذَا رَأَى مُسْلِمًا يَزْنِي أَنْ يَحِلَّ لَهُ قَتْلُهُ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ خَوْفَ أَنْ يَقْتُلَ وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ زَنَى. وَنُقِلَ عَنْ جَامِعِ الْفَتَاوَى إنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ أَوْ مَحْرَمُهُ مُكْرَهَةً فِي الزِّنَا فَلَهُ قَتْلُهُ فَقَطْ وَإِلَّا قَتَلَهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ الْقَتِيلَانِ فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ فَالْيَمِينُ عَلَى الْقَاتِلِ. وَقِيلَ إنْ صَدَرَ الْقَتْلُ مِمَّنْ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ مِنْهُ هُمَا مُتَّهَمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ. وَفِي مُتَفَرِّقَاتِ فَتَاوَى مُؤَيَّدَةِ زَادَهْ عَنْ الْحَاوِي وَجَدَ أَجْنَبِيًّا مَعَ قَرَابَتِهِ فِي بَيْتٍ خَالٍ أَوْ مَفَازَةٍ خَالِيَةٍ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَزْنِي بِهَا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا إذَا بَاشَرَ الْفِعْلَ وَإِلَّا قَتَلَ الْعَامِدَ دُونَ الْآخَرِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ بَيِّنَةٍ وَقَالَ بَعْضٌ لَا يُرَخَّصُ الْقَتْلُ حَتَّى يَرَى عَلَامَةَ الْعَمْدِ كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَاللَّعِبِ، وَقَالَ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ الْمُكَابَرَةُ بِالظُّلْمِ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الْمَكْسِ وَجَمِيعُ الظَّلَمَةِ بِأَدْنَى شَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَالْأَعْوَانُ وَالسُّعَاةُ فَيُبَاحُ قَتْلُ الْكُلِّ وَيُثَابُ قَاتِلُهُمْ وَفِيهِ أَيْضًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ التَّعْزِيرَ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ بَلْ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَكُلٌّ مَأْمُورٌ بِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتُ الْفِقْهِيَّةُ مُوَافِقَةٌ لِرَأْيِ سَعْدٍ فِي تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لَا ظَاهِرِ الْحَدِيثِ (وَفِي رِوَايَةِ. خ) الْبُخَارِيُّ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَعْجَبُونَ» مَكَانَ اسْمَعُوا مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ أَيْ لَا تَعْجَبُوا «مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ وَاَللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَغْيَرُ مِنِّي» لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) الظَّاهِرُ كَالزِّنَا وَالْبَاطِنُ كَالْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ مُطْلَقًا قَبْلَ قِيَامِ أَرْبَعَة شُهَدَاءَ عِنْدَ أَحْمَدَ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَدِيَانَةً لَا قَضَاءً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ وَدَفْعًا لِتَعَارُضِ الْحَدِيثِ وَلَا يَقْتُلُهُ بَلْ يَحْرُمُ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ دَفْعُهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةَ الْغَيْرِ لِلتَّنَاقُضِ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ قَوْلِهِ كَلًّا وَبَيْنَ اسْمَعُوا أَوْ لِكَوْنِهِ خَبَرًا وَاحِدًا لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ وَيُمْكِنُ دَفْعُ التَّنَاقُضِ مِنْ قِبَلِ أَحْمَدَ بِالْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ. أَقُولُ إذَا عَرَفْت آنِفًا الْمَنْقُولَ عَنْ كُتُبِنَا فَإِطْلَاقُ الْحُرْمَةِ مُشْكِلٌ. وَقَدْ نُقِلَ أَيْضًا عَنْ الْعَتَّابِيَّةِ أَنَّهُ يَقْتُلُهُمَا إنْ طَوْعًا وَالْفَاعِلَ فَقَطْ إنْ كَرْهًا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي فَوَرَانِ غَضَبِهِ وَعِنْدَ التَّقَادُمِ لَا وَلَا يُكَلَّفُ بِالْبَيِّنَةِ بَلْ الْيَمِينُ يَقُومُ مَقَامَهَا. وَعَنْ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْأَرْبَعَةِ بَلْ يَكْفِي شَاهِدَانِ؛ لِأَنَّهَا لِلْوُجُودِ مَعَ الْمَرْأَةِ لَا عَلَى الزِّنَا. وَقِيلَ لَا بُدَّ

مِنْ أَرْبَعَةٍ وَيَجُوزُ إقَامَةُ التَّعْزِيرِ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَبَعْدَهَا إنَّمَا هُوَ لِلْحَاكِمِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ. وَفِيهِ أَيْضًا لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ إنْ انْزَجَرَ بِصِيَاحٍ وَبِلَا سِلَاحٍ وَإِلَّا حَلَّ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ الْمُحَشِّي تَبِعَ فِي إطْلَاقِ الْحُرْمَةِ عِنْدَنَا الْبَزَّازِيَّةَ فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْخَبْطُ وَالْغَلَطُ كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ. أَقُولُ الْكَلَامُ فِي إطْلَاقِ الْإِطْلَاقِ مَعَ أَئِمَّتِنَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ وَإِنْ كَثُرَتْ الْأَقْوَالُ فِي الْكُتُبِ لَكِنَّ الْمُفْتَى بِهِ لُزُومُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْقَاتِلِ وَعَدَمُ التَّصْدِيقِ بِيَمِينِهِ كَمَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمُوَافِقُ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (وَقَدْ تُطْلَقُ الْغَيْرَةُ) الظَّاهِرُ إطْلَاقٌ مَجَازِيٍّ (عَلَى كَرَاهِيَةِ الْمَرْأَةِ اشْتَرَاكَ الْغَيْرِ) مَعَهَا (فِي بَعْلِهَا) زَوْجِهَا (وَهَذِهِ) أَيْ غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ (مَذْمُومَةٌ) لِخِلَافِ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ (م) مُسْلِمٌ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا» الْتِفَاتٌ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ «فَغِرْت» أَخَذَتْنِي الْغَيْرَةُ لِخُرُوجِهِ إلَى بَعْضِ نِسْوَانِهِ «عَلَيْهِ» أَيْ عَلَى خُرُوجِهِ «فَجَاءَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فَرَأَى مَا أَصْنَعُ» مِنْ الْغَيْرَةِ «، فَقَالَ مَا لَك يَا عَائِشَةُ أَغِرْت» مِنْ الْغَيْرَةِ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ «، فَقَالَتْ» عَلَى الِالْتِفَاتِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَقُلْت «وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي» فِي مَعْرِفَةِ شَرَفِ قَدْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي كَوْنِي مِنْ خِيَارِ زَوْجَاتِك «عَلَى مِثْلِك» فِي كَوْنِك أَفْضَلَ الْمَوْجُودَاتِ وَمَظْهَرَ رَحْمَةِ الْمُكَوَّنَاتِ «، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ جَاءَك شَيْطَانُك» كِنَايَةٌ عَنْ تَحْرِيكِهِ وَوَسْوَسَتِهِ فَظَهَرَتْ الْمَذْمُومِيَّةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْغَيْرَةِ الْمَذْمُومَةِ مَا هِيَ اخْتِيَارِيَّةٌ كَاسْتِمْرَارِهَا وَإِلَّا فَالْمَجْبُولَةُ الَّتِي طُبِعَتْ لَهَا النِّسْوَانِ لَا تَكُونُ مَذْمُومَةً لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ التَّكْلِيفِ «قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ مَعِي شَيْطَانِي» قِيلَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ أَيْ أَنَا مُطِيعَةٌ وَمَعِي شَيْطَانٌ. «قَالَ نَعَمْ قُلْت وَمَعَك يَا رَسُولَ اللَّهِ» فِيهِ الْتِفَاتٌ «قَالَ نَعَمْ وَلَكِنْ أَعَانَنِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ» قَالَ الْمُحَشِّي رُوِيَ بِرَفْعِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى أَكُونَ سَالِمًا مِنْ وَسَاوِسِهِ بِسَبَبِ عِنَايَتِهِ تَعَالَى وَعَلَى الثَّانِي حَتَّى صَارَ مُسْلِمًا مُنْقَادًا لَا يَأْمُرُنِي إلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ انْتَهَى. أَقُولُ تُرَجَّحُ صِيغَةُ الْمَاضِي بِمَا نُقِلَ عَنْ الْخَطَّابِيِّ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الرُّوَاةِ إلَّا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ فَأَسْلَمُ مِنْ شَرِّهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِسْلَامُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَحَسَّنَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَأَيَّدَ الْأَوَّلَ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِحَقٍّ. وَفِي رِوَايَةٍ «؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَيْسَ يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرٍ» . وَعَنْ بَعْضٍ أَنَّ هَذَا وَإِنْ ظَاهِرًا فِي الْإِسْلَامِ لَكِنْ يُحْتَمَلُ الْقَوْلُ الْآخَرُ وَرُدَّ بِوُرُودِ إسْلَامِ الْقَرِينِ النَّبَوِيِّ صَرِيحًا بِلَا احْتِمَالِ تَأْوِيلٍ كَمَا فِي دَلَائِلِ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ «- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فُضِّلْت عَلَى آدَمَ بِخَصْلَتَيْنِ كَانَ شَيْطَانِي كَافِرًا أَعَانَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ وَكُنَّ أَزْوَاجِي عَوْنًا لِي وَكَانَ شَيْطَانُ آدَمَ كَافِرًا وَزَوْجَتُهُ عَوْنًا عَلَى خَطِيئَتِهِ» . وَقِيلَ اخْتَلَفُوا فِي تَرْجِيحِ الرِّوَايَةِ فَالْخَطَّابِيُّ رَجَّحَ الرَّفْعَ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ الْفَتْحَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرٍ» وَاخْتَلَفُوا عَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ قِيلَ أَسْلَمَ بِمَعْنَى اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ اسْتَسْلَمَ وَقِيلَ صَارَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا ثُمَّ قِيلَ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَتَأَمَّلْ. (وَغَيْرَةُ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى كَرَاهِيَةُ الْمَعْصِيَةِ) مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ (وَمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ وَاجِبَةٌ) فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهَا (وَضِدُّ الْحَسَدِ)

الْمَذْكُورِ (النُّصْحُ وَالنَّصِيحَةُ) يُقَالُ نَصَحْت لِزَيْدٍ أَنْصَحُ لَهُ نُصْحًا وَنَصِيحَةً، وَهَذِهِ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى - {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [هود: 34]- وَفِي لُغَةٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ نَصَحْته وَهُوَ الْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ فِي الْمَشُورَةِ وَالْعَمَلِ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ (وَهِيَ إرَادَةُ بَقَاءِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّا لَهُ فِيهَا صَلَاحٌ) مَنْفَعَةٌ دِينِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ (أَوْ) إرَادَةُ (حُدُوثِهَا لَهُ) أَيْ النِّعْمَةِ لِلْغَيْرِ (وَإِنْ شِئْت قُلْت) هِيَ (إرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ) فِيهِ جِنَاسٌ بَدِيعِيٌّ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ) بِالْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» وَقَالَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبَّ لِنَفْسِهِ» وَقِيلَ؛ لِأَنَّ ضِدَّهَا الْحَسَدُ الْمُحَرَّمُ (م) مُسْلِمٌ (عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) كَانَ نَصْرَانِيًّا فَوَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَسْلَمَ وَكَانَ صَاحِبَ لَيْلٍ وَقُرْآنٍ اشْتَرَى حُلَّةً بِأَلْفٍ يَخْرُجُ فِيهَا إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَصَّ بِإِذْنِ عُمَرَ كَذَا فِي الْفَيْضِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إنَّ الدِّينَ» الْحَقَّ الْكَامِلَ وَفِي الْحَاشِيَةِ قِوَامُ الدِّينِ وَعِمَادُ الشَّرِيعَةِ «النَّصِيحَةُ» وَكَرَّرَهُ فِي رِوَايَةٍ ثَلَاثًا فَقِيلَ التَّكْرِيرُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَتَأَمَّلْ. «قُلْنَا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِلَّهِ تَعَالَى» بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَوَصْفِهِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَمَالِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ جَمِيعِ مَا لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ وَبَذْلِ الطَّاقَةِ فِي طَاعَتِهِ وَتَجَنُّبِ مَعْصِيَتِهِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ بِمُوَالَاةِ مَنْ أَطَاعَهُ وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ وَالدُّعَاءِ إلَى ذَلِكَ فَمِنْ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا تُدْخِلَ فِي صِفَاتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَبْدِ فِي نَصِيحَةِ نَفْسِهِ لِلَّهِ وَاَللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ «وَلِكِتَابِهِ» الْإِضَافَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ جَمِيعِ كُتُبِهِ كَمَا فِي الْمُؤْمِنِ بِهِ وَذَلِكَ بِبَذْلِ جُهْدِهِ فِي الذَّبِّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ وَبِالْوُقُوفِ عِنْدَ أَحْكَامِهِ وَإِقَامَةِ حُرُوفِهِ فِي التِّلَاوَةِ وَالتَّخَشُّعِ عِنْدَهُ وَالِاعْتِبَارِ بِمَوَاعِظِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي عَجَائِبِهِ وَالْعَمَلِ بِمُحْكَمِهِ وَالتَّسْلِيمِ لِمُتَشَابِهِهِ «وَلِرَسُولِهِ» بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ وَنُصْرَتِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا وَإِعْظَامِ حَقِّهِ وَبَثِّ دَعَوْتِهِ وَنَشْرِ سُنَّتِهِ وَالتَّلَطُّفِ فِي تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ وَتَجَنُّبِ مَنْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ «وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ» الْخُلَفَاءِ وَنُوَّابِهِمْ بِمُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ وَإِعَانَتِهِمْ فِيهِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِرِفْقٍ وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ بِصَلَاحِهِمْ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ مَعَهُمْ وَأَدَاءِ الصَّدَقَاتِ إلَيْهِمْ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ إذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ سُوءُ سِيرَةٍ وَعَدَمِ تَغْرِيرِهِمْ بِإِفْرَاطِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءُ وَنَصِيحَتُهُمْ قَبُولُ مَا رَوَوْا إذَا انْفَرَدُوا وَتَقْلِيدُهُمْ وَمُتَابَعَتُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا «وَعَامَّتِهِمْ» بِإِرْشَادِهِمْ لِمَا يَنْفَعُ لَهُمْ فِي مَبْدَئِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا جَهِلُوهُ وَسَتْرِ عَوْرَتِهِمْ وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ بِرِفْقٍ وَشَفَقَةٍ

المبحث الثاني من الأربعة في غوائل الحسد

وَالتَّرَحُّمِ عَلَى صَغِيرِهِمْ، وَالتَّوْقِيرِ عَلَى كَبِيرِهِمْ، وَتَذْكِيرِ الْآخِرَةِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَيُعِينُهُمْ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْقَوْلِ وَيَدْفَعُ الْمُؤْذِيَاتِ مَا قَدَرَ ثُمَّ بَدَأَ أَوَّلًا بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَثَنَّى بِكِتَابِهِ الصَّادِرِ بِبَيَانِ أَحْكَامِهِ الْمُعْجِزِ بِبَدِيعِ نِظَامِهِ وَثَلَّثَ بِمَا يَتْلُو كَلَامَهُ فِي الرُّتْبَةِ وَهُوَ رَسُولُهُ الْهَادِي لِدِينِهِ الْمُوقِفُ عَلَى أَحْكَامِهِ الْمُفَصِّلُ لِمُجْمَلِ شَرِيعَتِهِ وَرَبَّعَ بِأُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ هُمْ خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ الْقَائِمُونَ بِسُنَّتِهِمْ ثُمَّ خَمَّسَ بِالتَّعْمِيمِ. قِيلَ النَّاصِحُ فِي دِينِ اللَّهِ يَحْتَاجُ إلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَفِكْرٍ صَحِيحٍ وَرَوِيَّةٍ حَسَنَةٍ وَاعْتِدَالِ مِزَاجٍ وَتُؤْدَةٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ فَالْخَطَأُ أَسْرَعُ إلَيْهِ مِنْ الْإِصَابَةِ وَمَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَدَقُّ وَلَا أَخْفَى وَلَا أَعْظَمُ مِنْ النَّصِيحَةِ. ثُمَّ قَالُوا هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ أُوجِزَ لَفْظًا أُطْنِبَ مَعْنًى؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْكَلَامِ دَاخِلٌ تَحْتَ كَلِمَةٍ أَصْلًا وَفَرْعًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِمَضْمُونِهِ جَمَعَ الشَّرِيعَةَ بِأَسْرِهَا، أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ عُصَارَةُ فَيْضِ الْقَدِيرِ وَأَكْمَلُ الْمَشَارِقِ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ» بِصَرْفِ هِمَّتَهُ وَبَذْلِ طَوْقِهِ فِي إرْشَادِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَحِمَايَتِهِمْ وَفَصْلِ خُصُومَتِهِمْ وَتَأْدِيبِ سُفَهَائِهِمْ وَجَمْعِ تَفْرِقَتِهِمْ وَرَفْعِ بُغْضِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ وَإِصْلَاحِ مَفْسَدَتِهِمْ «فَلَيْسَ مِنْهُمْ» أَيْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إمَّا غَاشٌّ لَهُمْ أَوْ سَاعٍ فِي حُظُوظِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِ مُبَالٍ بِحُدُودِهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِ رَسُولِهِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمُسْلِمِينَ لَعَلَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْكَمَالِ «وَمَنْ لَمْ يُصْبِحْ وَيُمْسِ» أَيْ يَدْخُلُ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ يَعْنِي يَدُومُ لَيْلًا وَنَهَارًا «نَاصِحًا» بِالْقَلْبِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ « (لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِإِمَامِهِ» أَيْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذْ بَعْضُ الْحَدِيثِ يُفَسِّرُ بَعْضَهُ «وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ» أَيْ جَمِيعِهِمْ فِي إعَادَةِ الْجَارِّ فِي الْمَوَاضِعِ تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ فِي النُّصْحِ وَعَدَمِ كِفَايَةِ الْإِتْيَانِ بِبَعْضِ وَعَلَى لُزُوم الِاهْتِمَامِ فِي كُلٍّ وَعَكْسُ التَّرْتِيبِ هُنَا بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي التَّبْلِيغِ وَإِنَّ ظُهُورَ الْكِتَابِ إلَى الْأُمَّةِ بِتَوَسُّطِ الرَّسُولِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ رُوعِيَ إلَى تَرْتِيبِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ أَوْ أَنَّهُ صِفَتُهُ تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَابِعَ مَوْصُوفَهُ تَعَالَى أَوْ أَنَّ ظُهُورَ الرِّسَالَةِ بِإِعْجَازِهِ فَكَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى ظُهُورِهِ «فَلَيْسَ مِنْهُمْ» مِنْ كَامِلِيهِمْ لَا يَخْفَى أَنَّ أَوَّلَ الْحَدِيثِ كَالْمُجْمَلِ وَآخِرَهُ كَالْمُفَسَّرِ إيَّاهُ فَكَأَنَّهُ فَسَّرَ الِاهْتِمَامَ بِأَمْرِهِمْ بِمُدَاوَمَةِ نُصْحِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إلَى آخِرِهِ. وَأَمَّا مَعَانِي هَذِهِ النَّصَائِحِ مُفَصَّلَةٌ فَمَشْرُوحَةٌ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَدُلُّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ النُّصْحِ حَيْثُ نَفَى الْإِسْلَامَ مَرَّتَيْنِ فِيمَنْ تَرَكَ النُّصْحَ فَدَلَالَتُهُ بِالْمُطَابَقَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَلَالَةِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَالْأَوْلَى عَكْسُ التَّرْتِيبِ لَعَلَّهُ نَظَرَ إلَى قُوَّةِ مَخْرَجِهِ إذْ قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ ثَبَتَ الْوُجُوبُ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ وَهُوَ فِي قُوَّةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَيَنْدَفِعُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْوُجُوبُ وَالدَّلِيلُ هُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ فَمِنْ قَبِيلٍ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ [الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْأَرْبَعَةِ فِي غَوَائِلِ الْحَسَدِ] (الْمَبْحَثُ الثَّانِي) مِنْ الْأَرْبَعَةِ (فِي غَوَائِلِ الْحَسَدِ) مِنْ غَالَهُ غَوْلًا أَهْلَكَهُ وَاغْتَالَهُ قَتَلَهُ عَلَى غِرَّةٍ وَالِاسْمُ الْغِيلَةُ وَالْغَائِلَةُ الْفَسَادُ وَالشَّرُّ وَغَائِلَةُ الْعَبْدِ فُجُورُهُ وَإِبَاقُهُ وَالْجَمْعُ الْغَوَائِلُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ الْغَوَائِلُ الدَّوَاهِي كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ هَذَا الْمَبْحَثِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَمِنْهُ بِالْفَاءِ إذْ التَّفْرِيعُ خَفِيٌّ وَالتَّفْسِيرُ بَعِيدٌ كَالتَّفْصِيلِ (يُعْرَفُ الْعِلَاجُ الْإِجْمَالِيُّ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ: الْأَوَّلُ إفْسَادُ الطَّاعَاتِ) قَدْ سَمِعْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ حَبْطَ الْأَعْمَالِ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ فَانْظُرْ أَوْ ارْجِعْ إلَى مَا سَبَقَ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ» احْذَرُوا قَلَقَ النَّفْسِ مِنْ رُؤْيَةِ النِّعْمَةِ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْحَقِّ وَمُعَانَدَةٌ لَهُ وَإِزَالَةُ فَضْلِهِ عَمَّنْ أَهْلُهُ لَهُ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ «فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ» أَيْ يُذْهِبُهَا وَيُحْرِقُهَا وَيَمْحُو أَثَرَهَا كَمَا فِي الْفَيْضِ «كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» أَيْ الْيَابِسَ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى اغْتِيَابِ الْمَحْسُودِ وَشَتْمِهِ وَقَدْ يُتْلِفُ مَالَهُ وَيَسْفِكُ دَمَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ مَظَالِمُ يُقْتَصُّ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ وَيَذْهَبُ فِي عِوَضِ ذَلِكَ حَسَنَاتُهُ فَكَأَنَّهُ يُفْسِدُ عَمَلَهُ فَلَا حُجَّةَ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي حَبْطِ الطَّاعَاتِ بِالْمَعَاصِي. (تَنْبِيهٌ) قَالَ الْغَزَالِيُّ الْحَاسِدُ جَمَعَ لِنَفْسِهِ بَيْنَ عَذَابَيْنِ؛ لِأَنَّ حَسَدَهُ عَلَى نِعْمَةِ الدُّنْيَا وَكَانَ مُعَذَّبًا بِالْحَسَدِ وَمَا قَنَعَ بِذَلِكَ حَتَّى أَضَافَ إلَيْهِ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ فَقَصَدَ مَحْسُودَهُ وَأَصَابَ نَفْسَهُ وَأَهْدَى إلَيْهِ حَسَنَاتِهِ فَهُوَ صَدِيقُهُ وَعَدُوُّ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا كَانَ حَسَدُهُ سَبَبَ انْتِشَارِ فَضْلِ مَحْسُودِهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ «أَوْ قَالَ الْعُشْبَ» أَيْ الْكَلَأَ وَهُوَ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي (وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ الْإِضْعَافُ) فَإِنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَيُزِيلُ الْحَسَدُ التِّسْعَةَ فَيَبْقَى الْوَاحِدُ (إذْ لَا حَبْطَ) لِعَمَلِ الْخَيْرِ (بِالْمَعَاصِي) غَيْرِ الْكُفْرِ (عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ) كَمَا مَرَّ (أَوْ تَأْدِيَتِهِ إلَى الْكُفْرِ) بِاعْتِقَادِ الْحِلِّ أَوْ بِارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ أَوْ أَفْعَالِ الِارْتِدَادِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ دَفْعُ مُنَافَاةِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ بِتِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ آنِفًا مِنْ اقْتِصَاصِ الْآخِرَةِ أَقْرَبُ مِنْهُمَا وَأَمَّا مَا قَالُوا مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا بِلَا صَارِفٍ قَطْعِيٍّ فَلَعَلَّ أَنَّ مَا ذَكَرُوا فِي إثْبَاتِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ قَطْعِيٌّ صَارِفٌ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ الزُّبَيْرِ) أَحَدِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «دَبَّ» أَيْ سَرَى «إلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ» أَيْ عَادَةُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ «الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ» سُمِّيَا دَاءً؛ لِأَنَّهُمَا دَاءُ الْقَلْبِ «وَهِيَ الْحَالِقَةُ» مِنْ حَلْقِ الرَّأْسِ «أَمَا» بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ «إنِّي لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ» بِنَحْوِ الْمُوسَى «وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ تُزِيلُهُ أَيْ الْخَصْلَةِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تَحْلِقَ أَيْ تُهْلِكَ وَتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ كَمَا يَسْتَأْصِلُ الْمُوسَى الشَّعْرَ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَحُضُورِ الصَّلَوَاتِ وَالْمَحَبَّةِ الْكَامِلَةِ فِي اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَلِئَ صَدْرُهُ حَسَدًا وَبُغْضًا لَا تَكْمُلُ مَحَبَّتُهُ وَلَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الطَّاعَاتِ فِي قَلْبِهِ وَلَا يَرْضَى بِقَضَائِهِ تَعَالَى. قِيلَ هُنَا عَنْ الْإِحْيَاءِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَةُ جَوَاهِرَ فِي جِسْمِ بَنِي آدَمَ يُزِيلُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ أَمَّا الْجَوَاهِرُ فَالْعَقْلُ وَالدِّينُ وَالْحَيَاءُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الْغَضَبُ يُزِيلُ الْعَقْلَ وَالْحَسَدُ يُزِيلُ الدِّينَ وَالْغِيبَةُ تُزِيلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالطَّمَعُ يُزِيلُ الْحَيَاءَ «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ) قَالُوا بَلَى

يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ (أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» قِيلَ هُنَا عَنْ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ وَالرَّوْضَةِ. رُوِيَ أَنَّ إبْلِيسَ جَاءَ إلَى بَابِ فِرْعَوْنَ فَقَرَعَ الْبَابَ فَاسْتَأْذَنَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ مَنْ هَذَا قَالَ إبْلِيسُ أَنَا أَمَا لَوْ كُنْت إلَهًا لَعَرَفْت مَنْ بِالْبَابِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ اُدْخُلْ يَا مَلْعُونُ. ثُمَّ قَالَ أَتَعْرِفُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَرًّا مِنِّي وَمِنْك قَالَ إبْلِيسُ نَعَمْ الْحَاسِدُ إنَّ لِي صَدِيقًا أَجَابَنِي إلَى كُلِّ مَا دَعَوْته مِنْ الشَّرِّ فَقُلْت لَهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ حَقُّك فَسَلْ مِنِّي الْحَاجَةَ، فَقَالَ لِجَارِي بَقَرَةٌ فَأَمِتْهَا فَقُلْت لَا قُوَّةَ لِي عَلَى ذَلِكَ أَتُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَك عَشْرَ بَقَرَاتٍ مَكَانَهَا، فَقَالَ لَا أُرِيدُ إلَّا هَلَاكَهَا فَعَلِمْت أَنَّ الْحَاسِدَ شَرٌّ مِنِّي وَمِنْك. (وَالثَّانِي) مِنْ الْغَوَائِلِ الثَّمَانِيَةِ لِلْحَسَدِ (الْإِفْضَاءُ) التَّأْدِيَةُ (إلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي إذْ لَا يَخْلُو الْحَاسِدُ عَنْ الْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ وَالسَّبِّ وَالشَّمَاتَةِ عَادَةً) (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ ضَمْرَةَ بِفَتْحِ الضَّادِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا» فَإِذَا تَحَاسَدُوا يَرْتَكِبُونَ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْ الْمَعَاصِي فَظَهَرَ إفْضَاءُ الْحَسَدِ إلَى الْمَعَاصِي لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهُ حُجَّةً لِلْمَطْلُوبِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ ابْتِدَاءً وَلَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّهُ رُبَّمَا تُوجَدُ الْمَعَاصِي فِي غَيْرِ التَّحَاسُدِ فَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَكْثَرِ. (وَالثَّالِثُ حِرْمَانُ الشَّفَاعَةِ) أَيْ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي تَأْيِيدِهِ لَا كَوْنُهُ مِنْ الشَّافِعِينَ كَمَا تُوُهِّمَ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ مِنِّي» أَيْ مِنْ الْمُهْتَدِينَ بِهِدَايَتِي والمتشرعين بِشَرِيعَتِي وَالْجَارِينَ عَلَى مِنْهَاجِ سُنَّتِي «ذُو حَسَدٍ وَلَا نَمِيمَةٍ» أَيْ السَّعْيِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَدِيثِ لِإِيقَاعِ فِتْنَةٍ أَوْ وَحْشَةٍ «وَلَا كَهَانَةٍ» أَيْ الْقَضَاءِ بِالْغَيْبِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ «وَلَا أَنَا مِنْهُ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] الْآيَةُ» لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ لِلْحَاسِدِ إنَّمَا هِيَ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ لَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ فَافْهَمْ. فَإِنْ قِيلَ إنَّ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ

الْكَبَائِرِ وَالْحَسَدُ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً. قُلْنَا الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْقَاقِ (وَالرَّابِعُ دُخُولُ النَّارِ) (دَيْلَمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سِتَّةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَبْلَ الْحِسَابِ» لِفَرْطِ شَقَاوَتِهِمْ وَقُوَّةِ عُتُوِّهِمْ «بِسِتَّةِ» خِصَالٍ مِنْ الْمَعَاصِي قَرِيبٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ انْقِسَامِ أَجْزَاءِ الْعِوَضِ بِأَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ فَمِنْ قَبِيلِ انْقِسَامِ الْآحَادِ إلَى الْآحَادِ فَلَوْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ كَفَى فِي ذَلِكَ الدُّخُولُ فَقِسْ عَلَيْهِ اجْتِمَاعَ تِلْكَ الْخِصَالِ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ قَالَ الْأُمَرَاءُ بِالْجَوْرِ» أَيْ بِالظُّلْمِ لِخِيَانَتِهِمْ لِأَمَانَتِهِ تَعَالَى وَكُفْرَانِهِمْ أَعْظَمَ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ فِي مَقَامِ خِلَافَةِ رَسُولِ اللَّهِ عَظُمَتْ جِنَايَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ « (وَالْعَرَبُ بِالْعَصَبِيَّةِ» بِالتَّعَصُّبِ وَالتَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ وَالْغَيْرَةِ فِيمَا لَمْ يُشْرَعْ إلَى أَنْ يَخْرِقُوا أَسْتَارَ الشَّرْعِ «وَالدَّهَاقِينَ» رَئِيسُ الْقَرْيَةِ مَثَلًا «بِالْكِبْرِ وَالتُّجَّارُ بِالْخِيَانَةِ» بِنَحْوِ الْكَذِبِ وَالرِّيَاءِ وَالْحِيلَةِ فِي أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ وَنَحْوِ سَتْرِ الْعَيْبِ «وَأَهْلُ الرُّسْتَاقِ» السَّوَادُ وَالْقُرَى «بِالْجَهْلِ» عَلَى مَا لَزِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ «وَالْعُلَمَاءُ بِالْحَسَدِ» خَصَّهُ بِالْعُلَمَاءِ، إمَّا لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِمْ أَشَدُّ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ الْحَسَدَ فِيهِمْ أَكْثَرُ سِيَّمَا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْعُلَمَاءِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْسَدُ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ أَشِدَّاءُ عَلَى الْحَسَدِ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا قِيلَ. عَدُوُّ الْمَرْءِ مَنْ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ. وَعَنْ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ قَسَّمَ الْحَسَدَ عَشَرَةً فَجَعَلَ فِي الْعُلَمَاءِ تِسْعَةً وَفِي الدُّنْيَا وَاحِدًا وَقَسَّمَ الْمَصَائِبَ عَشَرَةً فَجَعَلَ فِي الصَّالِحِينَ تِسْعَةً وَفِي الدُّنْيَا وَاحِدًا وَالذُّلَّ عَشَرَةً تِسْعَةً فِي الْيَهُودِ وَوَاحِدًا فِي الدُّنْيَا وَالتَّوَاضُعَ عَشَرَةً تِسْعَةً فِي النَّصَارَى وَوَاحِدًا فِي الدُّنْيَا وَالشَّهْوَةَ عَشَرَةً تِسْعَةً فِي النِّسَاءِ وَوَاحِدًا فِي الدُّنْيَا وَالْعِلْمَ عَشَرَةً تِسْعَةً فِي الْعِرَاقِ وَوَاحِدًا فِي الدُّنْيَا وَالْإِيمَانَ عَشَرَةً تِسْعَةً فِي الْيَمَنِ وَوَاحِدًا فِي الدُّنْيَا وَالْعَقْلَ عَشَرَةً تِسْعَةً فِي الرِّجَالِ وَوَاحِدًا فِي النِّسَاءِ وَالْبَرْكَةَ عَشَرَةً تِسْعَةً فِي الشَّامِ وَوَاحِدًا فِي الْأَرْضِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَانَتْ الْيَهُودُ قَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَاتَلُوا قَالُوا نَسْأَلُك بِالنَّبِيِّ الَّذِي وَعَدْتَنَا أَنْ تُرْسِلَهُ إلَّا مَا نَصَرْتَنَا فَكَانُوا يُنْصَرُونَ فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ وَعَرَفُوهُ كَفَرُوا بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ لَهُ حَسَدًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] الْآيَةَ. ثُمَّ نَقُولُ الْمَطْلُوبُ مُطْلَقُ دُخُولِ النَّارِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْحَدِيثِ دُخُولُ الْحَاسِدِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَقَطْ وَدَعْوَى دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَالْمُقَايَسَةِ مَمْنُوعَةٌ لِجَوَازِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْعُلَمَاءِ لِقُوَّةِ إصْرَارِهِمْ أَوْ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَلِلْعَالَمِ مَرَّتَيْنِ فَتَأَمَّلْ. (وَالْخَامِسُ الْإِفْضَاءُ إلَى إضْرَارِ الْغَيْرِ) أَيْ الْمَحْسُودِ (فَلِذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى) نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ الْحَاسِدِ) بِقَوْلِهِ - {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]- أَيْ أَظْهَرَ حَسَدَهُ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ (كَمَا أُمِرْنَا بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ) بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]- (وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ» دِينِيَّةً وَدُنْيَوِيَّةً جَلْبَ نَفْعٍ أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ «بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ» دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ «مَحْسُودٌ» يَعْنِي إنْ أَظْهَرْتُمْ حَوَائِجَكُمْ حَسَدُوكُمْ فَعَارَضُوا فِي مَرَامِكُمْ، وَمَوْضِعُ التَّحَدُّثِ مَا بَعْدَ وُقُوعِهَا. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ وَمَنْ أَفْشَاهُ كَانَ الْخِيَارُ عَلَيْهِ وَكَمْ مَنْ أَظْهَرَ سِرًّا أَرَاقَ دَمَ صَاحِبِهِ وَمَنَعَ مِنْ بُلُوغِ مَآرِبِهِ وَلَوْ كَتَمَهُ كَانَ مِنْ سَطْوَتِهِ آمِنًا وَمِنْ عَوَاقِبِهِ سَالِمًا وَبِنَجَاحِ حَوَائِجِهِ عَالِمًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ سِرُّك مِنْ دَمِك فَإِذَا تَكَلَّمَتْ أَرَقْته. وَقَالَ أَنُو شُرْوَانَ مَنْ حَصَّنَ سِرَّهُ فَلَهُ بِتَحْصِينِهِ خَصْلَتَانِ الظُّفْرُ بِحَاجَتِهِ وَالسَّلَامَةُ مِنْ السَّطَوَاتِ وَفِي مَنْشُورِ الْحِكَمِ انْفَرِدْ بِسِرِّك وَلَا تُودِعْهُ خَازِنًا فَيَزُولَ وَلَا جَاهِلًا فَيَحُولَ لَكِنْ مِنْ الْأَسْرَارِ مَا لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ مُطَالَعَةِ صَدِيقٍ وَمَشُورَةِ نَاصِحٍ فَيَتَحَرَّى لَهُ مَنْ يَأْتَمِنُهُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْدِعُهُ إيَّاهُ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ أَمِينًا عَلَى الْأَمْوَالِ أَمِينًا عَلَى الْأَسْرَارِ وَالْعِفَّةِ عَنْ الْأَمْوَالِ أَيْسَرُ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ إذَاعَةِ الْأَسْرَارِ. قَالَ الرَّاغِبُ إذَاعَةُ السِّرِّ مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَيُوصَفُ بِهِ ضَعَفَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالسَّبَبُ فِي صُعُوبَةِ كِتْمَانِ السِّرِّ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ قُوَّتَيْنِ آخِذَةً وَمُعْطِيَةً وَكِلْتَاهُمَا تَتَشَوَّقُ إلَى الْفِعْلِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَكَّلَ الْمُعْطِيَةَ بِإِظْهَارِ مَا عِنْدَهَا لَمَا أَتَاكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْهُ فَصَارَتْ هَذِهِ الْقُوَّةُ تَتَشَوَّقُ إلَى فِعْلِهَا الْخَاصِّ بِهَا فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُمْسِكَهَا وَلَا يُطْلِقَهَا إلَّا حَيْثُ يَجِبُ إطْلَاقُهَا كَذَا فِي الْفَيْضِ. وَقِيلَ اُكْتُمْ ذَهَبَك وَذَهَابَك وَمَذْهَبَك. وَقِيلَ صُدُورُ الْأَحْرَارِ قُبُورُ الْأَسْرَارِ (خَرَّجَهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ (طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (دُنْيَا) ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا) قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَفِي سَنَدِهِ سَعِيدٌ وَهُوَ كَذَّابٌ. (وَالسَّادِسُ التَّعَبُ وَالْهَمُّ) لِلْحَاسِدِ (مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ) إذْ لَا يُغَيِّرُ حَسَدَهُ تَقْدِيرَ اللَّهِ تَعَالَى (بَلْ مَعَ وِزْرٍ وَمَعْصِيَةٍ) إنْ ظَهَرَ أَثَرُهُ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا. (قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) مِنْ التَّابِعِينَ (لَمْ أَرَ ظَالِمًا أَشْبَهَ بِالْمَظْلُومِ) فِي كَثْرَةِ تَعَبِهِ وَهَمِّهِ وَحُزْنِهِ (مِنْ الْحَاسِدِ نَفْسٌ ذَائِمٌ) أَيْ ذَامٌّ وَمُحَقَّرٌ أَوْ مَعِيبٌ أَيْ لَهُ نَفْسٌ ذَائِمٌ اسْتِئْنَافُ عِلَّةِ الشَّبَهِ كَذَا قِيلَ (وَعَقْلٌ هَائِمٌ) أَيْ حَيْرَانُ وَمُتَحَيِّرٌ (وَغَمٌّ لَازِمٌ) لَا يُفَارِقُهُ يَعْنِي نَفْسَهُ نَفْسٌ ذَائِمٌ وَعَقْلُهُ عَقْلٌ هَائِمٌ وَغَمُّهُ غَمٌّ لَازِمٌ. وَفِي الْإِحْيَاءِ الْحَاسِدُ لَا يَخْلُو أَبَدًا مِنْ الْغَمِّ وَالْهَمِّ. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَالْحَسَدَ. فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ فِيك قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِي عَدُوِّك قَالَ أَبُو اللَّيْثِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِّ أَضَرَّ مِنْ الْحَسَدِ يَصِلُ إلَى الْحَاسِدِ بِهِ خَمْسُ عُقُوبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَحْسُودِ مَكْرُوهٌ: الْأُولَى غَمٌّ لَا يَنْقَطِعُ. الثَّانِيَةُ مُصِيبَةٌ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهَا. الثَّالِثَةُ مَذَمَّةٌ لَا يُحْمَدُ بِهَا. الرَّابِعَةُ يَسْخَطُ عَلَيْهِ الرَّبُّ. الْخَامِسَةُ يُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ التَّوْفِيقِ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِنِعَمِ اللَّهِ أَعْدَاءً قِيلَ وَمَنْ أُولَئِكَ قَالَ الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» وَعَنْ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَاسِدُ عَدُوٌّ لِنِعْمَتِي سَاخِطٌ لِقَضَائِي غَيْرُ رَاضٍ بِقِسْمَتِي بَيْنَ عِبَادِي. قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ أَثَرُ الْحَسَدِ يَتَبَيَّنُ فِيك قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِي عَدُوِّك. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعْمَتِي

المبحث الثالث في العلاج العلمي والعملي للحسد

(وَالسَّابِعُ: عَمَى الْقَلْبِ حَتَّى يَكَادَ لَا يَفْهَمُ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى) فَتَنْطَمِسُ بَصِيرَتُهُ وَتَعْمَى سَرِيرَتُهُ. (قَالَ سُفْيَانُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَكُنْ حَاسِدًا تَكُنْ سَرِيعَ الْفَهْمِ) فِي كُلِّ حَقٍّ وَحُكْمٍ شَرْعِيٍّ قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ عَنْ سُفْيَانَ عَلَيْك بِطُولِ الصَّمْتِ تَمْلِكُ الْوَرَعَ وَلَا تَكُنْ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا تَكُنْ حَافِظًا وَلَا تَكُنْ طَعَّانًا تَنْجُ مِنْ أَلْسُنِ النَّاسِ وَلَا تَكُنْ حَاسِدًا تَكُنْ سَرِيعَ الْفَهْمِ. (وَالثَّامِنُ الْحِرْمَانُ) مِنْ نَيْلِ الْمُرَادِ (وَالْخِذْلَانُ) عَدَمُ الْوُصُولِ إلَى الْأَمَانِي ضِدُّ التَّوْفِيقِ وَفُسِّرَ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ الشَّرِّ وَالسُّوءِ (فَلَا يَكَادُ يَظْفَرُ بِمُرَادِهِ وَلَا يُنْصَرُ عَلَى عَدُوِّهِ) كَمَا قَالَ حَاتِمٌ الطَّعِينُ غَيْرُ ذِي دِينٍ وَالَعَائِبُ غَيْرُ عَابِدٍ وَالنَّمَّامُ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالْحَسُودُ غَيْرُ مَنْصُورٍ قُلْت الْحَسُودُ كَيْفَ يَظْفَرُ بِمُرَادِهِ وَمُرَادُهُ زَوَالُ نِعَمِ اللَّهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَيْفَ يُنْصَرُ عَلَى أَعْدَائِهِ وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ كَذَا فِي الْمِنْهَاجِ (فَلِذَا قِيلَ) الْقَائِلُ بَعْضُ السَّلَفِ، وَهَكَذَا فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ فَمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ حَدِيثٌ فَمَوْضُوعٌ كَمَا فِي مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِئِ «الْحَسُودُ لَا يَسُودُ» أَيْ الْكَثِيرُ الْحَسَدِ لَا يَصِلُ إلَى مَرْتَبَةِ السِّيَادَةِ عَلَى أَحَدٍ أَصْلًا بَلْ حَالُهُ فِي انْخِفَاضٍ دَائِمًا وَأَمْرُهُ فِي نُقْصَانٍ فَلَا يَصِلُ إلَى مُرَادٍ وَمِنْ غَوَائِلِ الْحَسَدِ تَنْقِيصُ الْعُمْرِ. قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ رَأَيْت أَعْرَابِيًّا أَتَى عَلَيْهِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً فَقُلْت مَا أَطْوَلَ عُمْرَك، فَقَالَ تَرَكْت الْحَسَدَ فَبَقِيت. وَمِنْهَا الْإِفْضَاءُ إلَى ضَرْبِ أَعْمَالِهِ وَجْهَ صَاحِبِهِ قَالَ فِيهَا أَيْضًا وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ إنَّ فِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ مَلَكًا يَمُرُّ بِهِ عَمَلُ عَبْدٍ لَهُ ضَوْءٌ كَضَوْءِ الشَّمْسِ فَيَقُولُ قِفْ فَأَنَا مَلَكُ الْحَسَدِ أَضْرِبُ بِهِ وَجْهَ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ حَاسِدٌ. وَمِنْهَا عَدَاوَةُ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْدَاءً فَقِيلَ وَمَنْ ذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ. وَمِنْهَا الْإِفْضَاءُ إلَى لَعْنَةِ الْمَلَائِكَةِ وَغَضَبِهِمْ وَمِنْهَا شِدَّةُ الْمَوْتِ وَمِنْهَا الْفَضِيحَةُ وَالْعُقُوبَةُ فِي الْمَوْقِفِ» . قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْحَاسِدُ لَا يَنَالُ مِنْ الْمَجَالِسِ إلَّا مَذَمَّةً وَذُلًّا وَلَا يَنَالُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلَّا لَعْنَةً وَغَضَبًا وَلَا يَنَالُ مِنْ الْخَلْقِ إلَّا جَزَعًا وَغَمًّا وَلَا يَنَالُ عِنْدَ النَّزْعِ إلَّا شِدَّةً وَهَوْلًا وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْمَوْقِفِ إلَّا فَضِيحَةً وَنَكَالًا وَمِنْهَا عَدَمُ قَبُولِ دَعْوَةِ صَاحِبِهِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ يُقَالُ ثَلَاثَةٌ لَا تُسْتَجَابُ دَعَوْتهمْ آكِلُ الْحَرَامِ وَمِكْثَارُ الْغِيبَةِ وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ أَوْ حَسَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهَا مُبَارَزَةُ رَبِّهِ، عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ بَارَزَ الْحَاسِدُ رَبَّهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهِ: الْأَوَّلُ قَدْ أَبْغَضَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهِ. الثَّانِي سَخَطَ بِقِسْمَةِ رَبِّهِ. الثَّالِثُ بَخِلَ بِفَضْلِهِ تَعَالَى. الرَّابِعُ يُرِيدُ خِذْلَانَ مَنْ اخْتَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسُ أَعَانَ إبْلِيسَ بَلْ صَارَ شَرِيكَهُ فِي صِفَةٍ خَاصَّةٍ صَارَ بِهَا كَإِبْلِيسَ وَهِيَ حَسَدُهُ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ التَّسْلِيمَةِ وَغَيْرُهَا مِنْ الْغَوَائِلِ كَادَ أَنْ لَا يَتَنَاهَى كَمَا ذُكِرَ بَعْضُهَا هُنَا آنِفًا فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ [الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ لِلْحَسَدِ] (الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) (فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ) . (الْأَوَّلُ) أَيْ الْعِلْمِيُّ (أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْحَسَدَ ضَرَرٌ عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ) كَمَا ذُكِرَ فِي الْغَوَائِلِ الْأُولَى تَقْدِيمُ الدِّينِ، فَإِمَّا لِوُجُودِهَا أَوَّلًا، أَوْ لِأَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا يَكْثُرُ خَوْفُهُمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ أَوْ أَنَّ مُعْظَمَ سَبَبِهِ هُوَ الدُّنْيَا (وَأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَحْسُودِ فِيهِمَا) فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَمَا سَيَأْتِي وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى (بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِيهِمَا أَمَّا ضَرَرُهُ لَك) أَيُّهَا الْحَاسِدُ (فِي الدِّينِ فَلِأَنَّك بِالْحَسَدِ سَخِطْت قَضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى) بِمَا أَعْطَاهُ لِلْمَحْسُودِ (وَكَرِهْت نِعْمَتَهُ الَّتِي قَسَمَهَا لِعِبَادِهِ) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ (وَ) كَرِهْت (عَدْلَهُ) بِمَنْعِك مَا أَعْطَاهُ لِمَحْسُودِك (وَاسْتَنْكَرْت ذَلِكَ) الْفِعْلَ مِنْهُ تَعَالَى (وَغَشَشْت) غَشَّهُ غَشًّا مِنْ بَابِ قَتَلَ وَالِاسْمُ غِشٌّ بِالْكَسْرِ لَمْ يَنْصَحْهُ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ (رَجُلًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرَكْت نُصْحَهُ وَالْغِشُّ) الَّذِي صَدَرَ مِنْك بِحَسَدِك (حَرَامٌ) . قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ غَشَّ

فَلَيْسَ مِنَّا» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ خَانَ يَعْنِي لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتِنَا فِي مُنَاصَحَةِ الْإِخْوَانِ (وَالنَّصِيحَةُ وَاجِبَةٌ) وَفِي الْحَدِيثِ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» . قَالَ فِي الْفَيْضِ أَيْ عِمَادُهُ وَقِوَامُهُ النَّصِيحَةُ عَلَى وَزْنِ الْحَجُّ عَرَفَةَ فَبُولِغَ فِي النَّصِيحَةِ حَتَّى جَعَلَ الدِّينَ كُلَّهُ إيَّاهَا. وَقِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ رُبْعُ الْإِسْلَامِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ بَلْ هُوَ وَحْدَهُ فَلِذَا كَانَتْ النَّصِيحَةُ أَعْظَمَ وَصَايَا السَّلَفِ، وَظَاهِرُ الْخَبَرِ وُجُوبُ النُّصْحِ وَإِنْ عُلِمَ عَدَمُ فَائِدَتِهِ وَمَنْ قَبِلَ النَّصِيحَةَ أَمِنَ الْفَضِيحَةَ وَمَنْ أَبَى فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ وَأَيْضًا مِنْ ضَرَرِهِ الدِّينِيِّ أَنَّهُ مُفَارَقَةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُشَارَكَةُ إبْلِيسَ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ فِي مَحَبَّتِهِمْ الْبَلَايَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَزَوَالِ النِّعَمِ وَأَنَّهُ يُبْطِلُ بِهِ حَسَنَاتِهِ ثُمَّ أَنَّهُ لَوْ اكْتَفَى الْمُصَنِّفُ هُنَا بِالْإِحَالَةِ عَلَى الْغَوَائِلِ لَكَانَ أَخْصَرَ لَعَلَّهُ أَرَادَ زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ. (وَأَمَّا) ضَرَرُك (فِي الدُّنْيَا فَغَمٌّ وَحُزْنٌ وَضِيقُ نَفْسٍ) كَمَا عَرَفْت فِي الْغَوَائِلِ. (وَأَمَّا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَحْسُودِ فِيهِمَا) فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا (فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَزُولُ عَنْهُ) أَيْ الْمَحْسُودِ (بِحَسَدِك وَلَا يَأْثَمُ بِهِ) بِالْحَسَدِ فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ دُنْيَوِيٌّ أَوْ دِينِيٌّ (وَأَمَّا انْتِفَاعُهُ) أَيْ انْتِفَاعُ الْمَحْسُودِ مِنْ حَسَدِ الْحَاسِدِ (فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَتِك) وَالْمَظْلُومُ مَأْجُورٌ وَدَعَوْته عَلَى ظَالِمِهِ مُجَابَةٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» كَمَا قِيلَ إنَّ دُعَاءَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ مُجَابٌ (لَا سِيَّمَا إذَا أَخْرَجَكَ الْحَسَدُ إلَى الْقَوْلِ) فِي عِرْضِهِ وَدِينِهِ وَإِلْحَاقِ الشَّيْنِ بِهِ (وَالْفِعْلِ بِالْغِيبَةِ لَهُ وَهَتْكِ سِتْرِهِ) بَيْنَ النَّاسِ (وَالْقَدْحِ فِيهِ وَنَحْوِهَا) كَالسِّعَايَاتِ الْبَاطِلَةِ إلَى الظَّلَمَةِ لِإِضْرَارِهِ مَالًا أَوْ بَدَنًا أَوْ عِرْضًا وَتَحْرِيكِ مُدَّعٍ عَلَيْهِ (فَهَذِهِ هَدَايَا تَهْدِيهَا إلَيْهِ فَيَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ) يَعْنِي أَنَّك بِذَلِكَ تَهْدِي إلَيْهِ حَسَنَاتِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنْ كَانَتْ وَأَلَّا يُحْمَلُ عَلَيْك وِزْرُهُ فَتُلْقَى فِي النَّارِ فَأَضَفْت لَهُ نِعْمَةً إلَى نِعْمَةٍ وَأَضَفْت لِنَفْسِك شَقَاوَةً إلَى شَقَاوَةٍ وَيَكُونُ نَظِيرُك كَمَنْ رَمَى إلَى عَدُوِّهِ حَجَرًا فَلَمْ يُصَبْ وَانْقَلَبَ إلَيْهِ وَأَعْمَى عَيْنَهُ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إنَّ فُلَانًا قَدْ اغْتَابَك فَبَعَثَ إلَيْهِ طَبَقًا مِنْ الرُّطَبِ وَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّك أَهْدَيْت إلَيَّ حَسَنَاتٍ فَأَرَدْت أَنْ أُكَافِئَك عَلَيْهَا فَاعْذُرْنِي فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُكَافِئَك بِهَا عَلَى التَّمَامِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) انْتِفَاعُهُ (فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّ أَهَمَّ أَغْرَاضِ الْخَلْقِ مَسَاءَةُ الْأَعْدَاءِ وَغَمُّهُمْ) قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ الْحَاسِدُ لَا يَخْلُو أَبَدًا مِنْ الْغَمِّ وَالْهَمِّ وَالْمِحْنَةِ إذْ لَا يَزَالُ أَعْدَاؤُهُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى وَلَا عَذَابَ أَعْظَمَ مِمَّا فِي الْحَاسِدِ مِنْ أَلَمِ الْحَسَدِ وَغَايَةُ أَمَانِي أَعْدَائِك أَنْ يَكُونُوا فِي نِعْمَةٍ وَأَنْتَ فِي غَمٍّ وَحَسْرَةٍ وَقَدْ فَعَلْت بِنَفْسِك مُرَادَهُمْ مِنْ فَرَحِ عَدُوِّك بِغَمِّك وَلَوْ عَلِمَ بِخَلَاصِك مِنْ أَلَمِ الْحَسَدِ لَكَانَ أَعْظَمَ مُصِيبَةً عِنْدَهُ فَإِذَنْ أَنْتَ عَدُوُّ نَفْسِك وَصِدِّيقُ عَدُوِّك إذْ قَدْ حَزِنْت وَخَسِرْت وَآثَرْت عَلَى عَدُوِّك إبْلِيسَ (وَالْعِلَاجُ الْعَمَلِيُّ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ نَقِيضَ مُقْتَضَاهُ) أَيْ نَقِيضِ الْحَسَدِ هُوَ النُّصْحُ (فَإِنْ بَعَثَهُ) أَيْ الْحَسَدُ الْحَاسِدَ (عَلَى الْقَدْحِ فِيهِ) بِاللِّسَانِ (كَلَّفَ لِسَانَهُ الْمَدْحَ لَهُ) وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ (وَإِنْ) بَعَثَهُ (عَلَى التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ) احْتِقَارًا لَهُ. (أَلْزَمَ نَفْسَهُ التَّوَاضُعَ لَهُ) عَمَلًا لَهَا بِنَقِيضِ مُرَادِهَا (وَالِاعْتِذَارَ إلَيْهِ) مِمَّا قَدْ يَبْدُو مِنْهُ (وَإِنْ) بَعَثَهُ

المبحث الرابع أسباب الحسد ستة

(عَلَى كَفِّ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الزِّيَادَةَ فِي الْإِنْعَامِ وَإِنْ) بَعَثَهُ (عَلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِ) بِالشَّرِّ (دَعَا لَهُ بِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ الَّتِي حَسَدَهُ فِيهَا) أَيْ لِأَجْلِ هَذِهِ النِّعْمَةِ لِيَكُونَ مَا يَفْعَلهُ مَاحِيًا لِإِثْمِ مَا سَبَقَهُ. وَهَذِهِ هِيَ أَدْوِيَةُ الْحَسَدِ وَهِيَ نَافِعَةٌ جِدًّا إلَّا أَنَّهَا مُرَّةٌ قَطْعًا وَالنَّفْعُ فِي الدَّوَاءِ الْمُرِّ فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ لَمْ يَنَلْ حَلَاوَةَ الشِّفَاءِ. [الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ أَسْبَابُ الْحَسَدِ سِتَّةٌ] (الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ) مِنْ الْأَرْبَعَةِ (فِي الْعِلَاجِ الْقَلَعِيِّ وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهِ ثُمَّ إزَالَتِهَا) فَإِنَّهَا مَوَادُّ هَذَا الْمَرَضِ وَلَا يَنْقَمِعُ الْمَرَضُ إلَّا بِقَمْعِ الْمَادَّةِ وَلَوْ انْقَمَعَ لَمْ يَظْهَرْ كَثِيرًا (وَهِيَ) أَسْبَابُ الْحَسَدِ (سِتَّةٌ) أَوَّلُهَا تَعَزُّزٌ ثَانِيهَا تَكَبُّرٌ ثَالِثُهَا خَوْفُ فَوْتِ الْمَقْصُودِ رَابِعُهَا حُبُّ الرِّيَاسَةِ خَامِسُهَا خُبْثُ النَّفْسِ سَادِسُهَا الْحِقْدُ. (الْأَوَّلُ التَّعَزُّزُ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايَيْنِ أَيْ التَّكَلُّفُ مِنْ الْحَاسِدِ لِلتَّرَفُّعِ وَالْعِزَّةِ عَلَى الْمَحْسُودِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَهُوَ أَنْ يَثْقُلَ عَلَيْهِ) الْحَاسِدُ (أَنْ يَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ) بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَفُّعِ (فَإِذَا أَصَابَ بَعْضُ أَمْثَالِهِ) وَأَقْرَانِهِ (وِلَايَةً) رِيَاسَةً كَالْجَاهِ (أَوْ عِلْمًا أَوْ مَالًا) لَا سِيَّمَا أَكْثَرُ مِنْ عِلْمِهِ وَمَالِهِ (خَافَ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُطِيقُ تَكَبُّرَهُ وَلَا تَسْمَحُ) تَقْنَعُ وَتَرْضَى (نَفْسُهُ بِاحْتِمَالِ صَلَفِهِ) ادِّعَاءُ التَّكَبُّرِ فَوْقَ مَرْتَبَتِهِ (وَتَفَاخُرِهِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ غَرَضُهُ التَّكَبُّرَ عَلَيْهِ بَلْ غَرَضُهُ أَنْ يَدْفَعَ كِبْرَهُ) عَنْ نَفْسِهِ (وَيَرْضَى بِمُسَاوَاتِهِ لَهُ وَزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ) هَذَا التَّفْصِيلُ لَمْ يَقَعْ فِي الْإِحْيَاءِ بَلْ اكْتَفَى بِمَا قَبْلَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَسَدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَمَا عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ الْمُنْتَحَلِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ فَلَعَلَّ الْغَزَالِيَّ جَعَلَ مَضْمُونَ قَوْلِهِ خَافَ أَنْ يَتَكَبَّرَ إلَخْ مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْهُومَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْخَارِجِيَّاتِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْكُلُّ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ فَتَأَمَّلْ. (فَإِنْ أَرَادَ عَدَمَ وُصُولِهِ إلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ أَوْ زَوَالِهَا) إرَادَةً (مُقَيَّدَةً بِالْإِفْضَاءِ إلَى الْكِبْرِ فَلَيْسَ يُحْسَدُ لِمَا مَرَّ) فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ نَاشِئٌ مِنْ غَيْرَةِ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ لَهُ صَلَاحٌ دِينِيٌّ (وَإِنْ) أَرَادَ عَدَمَ وُصُولِهِ إلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ أَوْ زَوَالِهَا (وَإِنْ مُطْلَقًا) عَنْ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ الْقَيْدِ أَعْنِي الْإِفْضَاءَ إلَى الْكِبْرِ (فَحَسَدٌ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالْفَسَادِ) وَهُوَ الْإِفْضَاءُ إلَى الْكِبْرِ وَأَيْضًا اللَّازِمُ حَمْلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الصَّلَاحِ

(وَإِمْكَانِ التَّقْيِيدِ) بِالصَّلَاحِ فَالْإِرَادَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ عَدَمِ التَّيَقُّنِ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْحَسَدِ فِي الْقَلْبِ فَعِلَاجُهُ التَّوَاضُعُ؛ لِأَنَّ التَّعَزُّزَ أَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ شَرَفًا فِي مَرْتَبَتِهَا شَرْعًا وَعُرْفًا فَإِذَا رَآهَا أَدْنَى مِنْهَا قَلِيلًا زَالَ لَا مَحَالَةَ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ. (وَالثَّانِي التَّكَبُّرُ فَإِنَّ مَنْ فِي طَبْعِهِ التَّكَبُّرَ عَلَى إنْسَانٍ) لِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ أَرْفَعَ مِنْهُ (وَاسْتِصْغَارَهُ وَاسْتِخْدَامَهُ) وَتَوَقُّعَهُ الِانْقِيَادَ لَهُ وَالْمُتَابَعَةَ فِي أَغْرَاضِهِ (فَإِذَا نَالَ) ذَلِكَ الْإِنْسَانُ (نِعْمَةً خَافَ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَمَا فِي نُسْخَةِ الْإِحْيَاءِ أَنْ لَا يَحْتَمِلَ (تَكَبُّرَهُ وَيَتَرَفَّعَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ) بَلْ رُبَّمَا يَتَشَوَّفُ إلَى مُسَاوَاتِهِ أَوْ إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَيْهِ فَيَعُودَ مُتَكَبِّرًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ هُوَ مُتَكَبِّرًا عَلَيْهِ (فَيُرِيدُ زَوَالَهَا) أَيْ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِإِجْرَاءِ غَرَضِهِ. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ وَمِنْ التَّكَبُّرِ وَالتَّعَزُّزِ حَسَدُ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ قَالُوا كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْنَا يَتِيمٌ وَكَيْفَ نُطَأْطِئُ لَهُ رُءُوسَنَا {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أَيْ كَانَ لَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ لَهُ وَنَتَّبِعَهُ إنْ كَانَ عَظِيمًا (وَعِلَاجُهُ سَبَقَ) يَعْنِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ التَّوَاضُعَ لَهُ وَالِاعْتِذَارَ إلَيْهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ وَقِيلَ يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنْ قَضِيَّةِ الْحَسَدِ بِالْعَمَلِ بِضِدِّهِ مُجَاهَدَةً لِنَفْسِهِ وَمُخَالَفَةً لَهَا وَلِأَنَّهُ صَارَ كِبْرًا فَعِلَاجُهُ عِلَاجُهُ. (وَالثَّالِثُ) خَوْفُ (سَبَبِيَّةِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ) مِنْ نَحْوِ الْفَضْلِ وَالْكِمَالَاتِ دُنْيَوِيًّا أَوْ دِينِيًّا (لِفَوْتِ مَقْصُودِهِ) مِنْ نَحْوِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْإِحْسَانِ وَحُصُولِ الْأَمَانِي وَالْأَعْرَاضِ لِلْمُمَانَعَةِ بَيْنَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ فِي الْحَاسِدِ وَفِي الْمَحْسُودِ كُلًّا أَوْ بَعْضَهُ وَحَاصِلُهُ طَلَبُ مَضَرَّةِ الْغَيْرِ لِمَنْفَعَةٍ أَوْ تَرْجِيحِ نَفْعِهِ عَلَى نَفْعِ الْغَيْرِ (وَذَلِكَ) السَّبَبُ (يَخْتَصُّ بِمُتَزَاحِمِينَ) مُتَجَاذِبِينَ (عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ) يَعْنِي يَطْلُبُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ (فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ) مِنْهُمَا (يَحْسُدُ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ يَكُونُ زَوَالُهَا عَنْهُ) عَنْ صَاحِبِهَا (عَوْنًا لَهُ فِي الِانْفِرَادِ بِمَقْصُودِهِ) فَوُجُودُ النِّعْمَةِ فِي الْمَحْسُودِ مُنَافٍ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْحَاسِدِ كُلًّا أَوْ بَعْضَهَا (فَهَذَا الْحَسَدُ يَكُونُ بَيْنَ الْأَمْثَالِ وَالْأَقْرَانِ كَالضَّرَّاتِ) سُمِّيَتْ بِالضَّرَّةِ لِطَلَبِ كُلٍّ مِنْهُمَا ضَرَرَ الْأُخْرَى أَوْ تَكُونُ فِي ضَرَرِهَا (وَالْإِخْوَةِ) وَكَذَا الْأَخَوَاتُ (يَقْصِدُونَ الْمَنْزِلَةَ فِي قَلْبِ الزَّوْجِ) لِيَتَوَجَّهَ وَيُحْسِنَ إلَيْهَا دُونَ الْأُخْرَى (وَالْأَبَوَيْنِ) فَالْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي لِلتَّوَصُّلِ إلَى مَقَاصِدِ الْكَرَامَةِ وَالْإِحْسَانِ (وَتَلَامِذَةِ) وَالْأَوْفَقُ وَتِلْمِيذِي (أُسْتَاذٍ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فِي الْعِلْمِ وَبِالْمُهْمَلَةِ فِي الصَّنَائِعِ كَمَا فِي بَعْضِ كُتُبِ ابْنُ الْكَمَالِ وَقَدْ يُقَالُ بِالْعَكْسِ وَبِعَدَمِ الْفَرْقِ (وَاحِدٍ وَمُرِيدِي) سُمِّيَ الْمُرِيدُ مُرِيدًا لِإِرَادَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ مِنْ التَّفْرِيحِ فِي أَوْطَانِ الْغَفْلَةِ وَالرُّكُونِ إلَى أَتْبَاعِ الشَّهْوَةِ وَتَرْكِ مَا دَعَتْ إلَيْهِ الْمُنْيَةُ بِالْتِزَامِ الْمُجَاهَدَاتِ وَتَحَمُّلِ الْمُكَابَدَاتِ وَالْمَصَاعِبِ وَالْمَتَاعِبِ وَمُعَالَجَةِ الْأَخْلَاقِ وَمُمَارَسَةِ الْأَشْوَاقِ وَقَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُرِيدِينَ التَّحَبُّبُ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ وَالْخُلُوصُ فِي نَصِيحَةِ الْأُمَّةِ وَالْأُنْسُ بِالْخَلْوَةِ وَالصَّبْرُ عَلَى مُقَاسَاةِ الْأَحْكَامِ وَالْإِيثَارُ لِأَمْرِهِ وَالْحَيَاءُ مِنْ نَظَرِهِ وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي مَحْبُوبِهِ وَالتَّعَرُّضُ لِكُلِّ سَبَبٍ يُوصِلُ إلَيْهِ وَالْقَنَاعَةُ بِالْخُمُولِ وَعَدَمُ الْقَرَارِ بِالْقَلْبِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الرَّبِّ وَفِيهَا أَيْضًا إذَا رَأَيْت الْمُرِيدَ يَشْتَغِلُ بِالرُّخْصِ وَالْكَسْبِ فَلَيْسَ يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ فَالْمُرِيدُ الْمُبْتَدِئُ وَالْمُرَادُ الْمُنْتَهَى وَالْمُرِيدُ يَسِيرُ وَالْمُرَادُ يُسَارُ بِهِ وَالْمُرِيدُ يُرَاعِي سِيَاسَةَ الْعِلْمِ وَالْمُرَادُ يَتَوَلَّاهُ رِعَايَةُ الْحَقِّ، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا (شَيْخٍ وَاحِدٍ) فِي سُلُوكِ الطَّرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ (وَنُدَمَاءِ الْمَلِكِ) جَمْعُ نَدِيمٍ بِمَعْنَى صَاحِبٍ (وَخَوَاصِّهِ) مِثْلُ وُزَرَائِهِ لِلتَّوَصُّلِ بِهِ إلَى الْجَاهِ وَالْمَالِ

(وَوُعَّاظِ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ) إذَا كَانَ أَغْرَاضُهُمْ جَمْعَ الْمَالِ أَوْ الْمَقْبُولِيَّةَ أَوْ حُصُولَ الْأَمَانِي (وَطُلَّابِ وِلَايَةٍ) كَوَالِي وِلَايَةٍ (وَقَضَاءٍ) مَنْصِبٍ مُعَيَّنٍ (وَتَدْرِيسِ) مَدْرَسَةٍ مُعَيَّنَةٍ (وَتَوْلِيَةِ أَوْقَافٍ أَوْ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهَا) أَيْ جِهَاتِ الْأَوْقَافِ يَشْكُلُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ مِنْ هَذَا السَّبَبِ وَنَحْوِهِ مُجَرَّدَ مَا فِي الْقَلْبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ ظَاهِرِ عِبَارَتِهِ فَلَيْسَ بِمُوَافِقٍ لِمُخْتَارِهِ وَأَنَّ وَافَقَ مُخْتَارَ الْغَزَالِيِّ كَمَا سَبَقَ وَإِنْ أَرَادَ الثَّمَرَةَ وَالْأَثَرَ فِي الْجَوَارِحِ فَالْوِزْرُ لَهُ لَا لِلْحَسَدِ وَالْكَلَامُ فِيمَا لِلْحَسَدِ إلَّا أَنْ يُقَالَ فَعِنْدَ ظُهُورِ الْأَثَرِ فِي اللِّسَانِ أَوْ فِي الْجَوَارِحِ يَكُونُ لِمَا فِي الْقَلْبِ وِزْرُ غَيْرُ مَا فِي الْجَوَارِحِ فَتَأَمَّلْ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَسَدُ لِأَجْلِ حَسَدِ الْمَحْسُودِ لِلْحَاسِدِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ حَسَدًا، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْإِفْضَاءِ إلَى الْحَسَدِ كَالْإِفْضَاءِ إلَى الْكِبْرِ فِي التَّعَزُّزِ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْعِلَّةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَرْقَ تَحَكُّمٌ. (وَمَآلُهُ) أَيْ مَآلُ السَّبَبِ الثَّالِثِ (حُبُّ الْمَالِ) فِي الْبَعْضِ (أَوْ الرِّيَاسَةِ) فِي الْآخِرَةِ فَعِلَاجُهُ عِلَاجُهُمَا وَعِلَاجُ الْأَوَّلِ سَيَأْتِي وَعِلَاجُ الثَّانِي سَبَقَ مِنْ كَوْنِهِ كَمَالًا وَهْمِيًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ. (وَالرَّابِعُ) (مُجَرَّدُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ) لَعَلَّ التَّقْيِيدَ بِالْمُجَرَّدِ لِلْفَرْقِ عَمَّا قَبْلَهُ فَافْهَمْ (كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَدِيمَ النَّظِيرِ فِي فَنٍّ مِنْ الْفُنُونِ) لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْفَنِّ هُنَا مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ نَوْعِ الْعُلُومِ بَلْ أَعَمُّ مِنْهُ إمَّا بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ بِالْمَعْنَى كَمَا يَشْهَدُ لَهُ مَا فِي آخِرِ الْكَلَامِ. (وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ حُبُّ الثَّنَاءِ) قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ بَدَلُهُ إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ الثَّنَاءِ فَرِحَ بِمَا يُمْدَحُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ وَحِيدُ الدَّهْرِ وَفَرِيدُ الْعَصْرِ فِي فَنِّهِ (فَإِذَا سَمِعَ بِنَظِيرٍ لَهُ فِي أَقْصَى الْعَالَمِ) أَيْ فِي عَالَمٍ يُمْكِنُ مُزَاحَمَةُ رِيَاسَتِهِ أَوْ يُضْعِفُهَا لَا فِي غَايَةِ بُعْدٍ كَالْهِنْدِ وَالْيَمَنِ وَإِنْ نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ (سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَحَبَّ مَوْتَهُ وَ) أَحَبَّ (زَوَالَ النِّعْمَةِ الَّتِي بِهَا) أَوْ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ (يُشَارِكُهُ) أَيْ يُشَارِكُ الْحَاسِدُ الْمَحْسُودَ (فِي الْمَنْزِلَةِ مِنْ شَجَاعَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ) مِنْ الصَّنَائِعِ (أَوْ جَمَالٍ أَوْ ثَرْوَةٍ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ كَثْرَةُ مَالِهِ وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا السَّبَبِ عَدَاوَةٌ وَلَا تَعَزُّزٌ وَلَا تَكَبُّرٌ عَلَى الْمَحْسُودِ وَلَا خَوْفٌ مِنْ فَوَاتِ مَقْصُودِهِ سِوَى تَمَحُّضِ الرِّيَاسَةِ بِدَعْوَى الِانْفِرَادِ وَمِنْهُ إنْكَارُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِيفَةَ بُطْلَانِ رِيَاسَتِهِمْ. (وَالْخَامِسُ خُبْثُ النَّفْسِ وَشُحُّهَا بِالْخَيْرِ) أَيْ بُخْلُهَا مَعَ الْحِرْصِ (لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى) حَاصِلُهُ إرَادَةُ زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ وَضَرَرِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَدَفْعِ مَضَرَّتِهِ بَلْ لِمُجَرَّدِ خُبْثِ نَفْسِهِ (فَإِنَّك) أَيُّهَا النَّاظِرُ الْمُمْتَحِنُ (تَجِدُ مَنْ لَا يَشْتَغِلُ بِرِيَاسَةٍ وَتَكَبُّرٍ وَطَلَبِ مَالٍ) مَثَلًا (إذَا وُصِفَ عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِ عَبْدٍ) أَيَّ عَبْدٍ كَانَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَحُسْنِ حَالِهِ عَلَاقَةٌ مُمَانِعَةٌ نَفْعَهُ وَدَفْعَ مَضَرَّتِهِ. (فِي نِعْمَةٍ يَشُقُّ) مِنْ الْمَشَقَّةِ (عَلَيْهِ ذَلِكَ) أَيْ حُسْنُ الْحَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةٍ مُقْتَضِيَةٍ لِذَلِكَ (وَإِذَا وُصِفَ لَهُ اضْطِرَابُ أُمُورِ النَّاسِ) كَإِصَابَةِ الْبَلْوَى وَالْمَكَارِهِ (وَإِدْبَارُهُمْ وَفَوَاتُ مَقَاصِدِهِمْ) وَعَدَمُ الْوُصُولِ إلَى مَرَامِهِمْ وَبُطْلَانُ سِعَايَتِهِمْ وَتَضْيِيقُ عَيْشِهِمْ (فَرِحَ بِهِ فَهُوَ أَبَدًا يُحِبُّ الْإِدْبَارَ) أَيْ إدْبَارَ النِّعَمِ (لِغَيْرِهِ وَيَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ) كَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ خِزَانَتِهِ وَمِلْكِهِ، وَيُقَالُ الْبَخِيلُ مَنْ يَبْخَلُ بِمَالِ نَفْسِهِ وَالشَّحِيحُ مَنْ يَبْخَلُ بِمَالِ غَيْرِهِ فَهَذَا يَبْخَلُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ (الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ وَلَا رَابِطَةٌ) عَلَاقَةٌ مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ بَلْ لِمُجَرَّدِ خُبْثٍ فِي النَّفْسِ وَرَذَالَةٍ فِي الطَّبْعِ كَمَا قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعْمَتِي وَعَنْ

مُعَاوِيَةَ كُلُّ إنْسَانٍ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ أُرْضِيَهُ إلَّا الْحَاسِدَ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا رَأَيْت ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ الْحَاسِدِ غَمٌّ دَائِمٌ وَنَفْسٌ مُتَتَابِعٌ وَقِيلَ إذَا رَأَى الْحَاسِدُ نِعْمَةً بُهِتَ وَإِذَا رَأَى عَثْرَةً شَمِتَ وَقِيلَ إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُسَلِّطَ عَلَى عَبْدٍ عَدُوًّا لَا يَرْحَمُهُ سَلَّطَ عَلَيْهِ حَاسِدًا (وَهَذَا أَخْبَثُ الْحَسَدِ وَأَعْسَرُهُ إزَالَةً وَعِلَاجًا؛ لِأَنَّهُ طَبْعٌ وَجِبِلَّةٌ) بِخِلَافِ سَائِرِ أَسْبَابِ الْحَسَدِ؛ لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ يُتَصَوَّرُ زَوَالُهَا فَيَطْمَعُ فِي إزَالَتِهَا، وَهَذَا خُبْثٌ جِبِلِّيٌّ فَهُوَ (يَكَادُ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ زَوَالُهُ) قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ فَتَعْسُرُ إزَالَتُهُ إذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ إزَالَتُهُ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّكَلُّفِ بِإِزَالَةِ الْحَسَدِ الْمُتَسَبَّبِ عَنْ هَذَا السَّبَبِ لِكَوْنِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ أَيْضًا وَأَيْضًا مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ جَوَازِ تَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ وَمُوَافِقٌ لِبَعْضِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الِامْتِنَاعِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوا وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ زَالَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ يَعْنِي وَإِنْ فَرَّطَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ طَبْعُهُ فَمَا هُوَ إلَّا كَطَيْفِ مَنَامٍ أَوْ بَرِيقٍ لَاحَ وَحَالُ الْمُتَطَبِّعِ كَالْجِرَاحِ يَنْدَمِلُ عَلَى فَسَادٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْبَعِثَ عَنْ فَتْقٍ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ثُمَّ قَالَ، وَهَذَا الْخَبَرُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ لَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ قُلْنَا التَّمَسُّكُ لَنَا فِي أَمْثَالِهِ إنَّمَا هُوَ بِأَقْوَالِ عُلَمَائِنَا وَاتِّخَاذِ مَذَاهِبِهِمْ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَدِيثِ تَأْوِيلٌ أَوْ تَخْصِيصٌ أَوْ مُعَارِضٌ قَوِيٌّ مَثَلًا وَلَا نَطَّلِعُ عَلَيْهَا وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِمْ أَنَّهُمْ اطَّلَعُوا وَعَرَفُوا مَقْصِدَ الْحَدِيثِ وَقَدْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ الْخُلُقُ تَارَةً لِلْقُوَّةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَتَارَةً يَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْحَالَةِ الْمُكْتَسَبَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْإِنْسَانُ خَلِيقًا أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ وَتَارَةً يُجْعَلُ الْخُلُقُ مِنْ الْخَلَاقَةِ أَيْ الْمُلَامَسَةِ فَجَعَلَ الْخُلُقَ مَرَّةً لِلْهَيْئَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي النَّفْسِ الَّتِي يَصْدُرُ عَنْهَا الْفِعْلُ بِلَا فِكْرٍ وَمَرَّةً اسْمًا لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ عَنْهَا بِاسْمِهِ وَعَلَى ذَلِكَ أَسْمَاءُ أَنْوَاعِهَا مِنْ نَحْوِ عِفَّةٍ وَعَدَالَةٍ وَشَجَاعَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لِلْهَيْئَةِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا انْتَهَى فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُوَ أَصْلُ الْقُوَّةِ الْكَيْفِيَّةِ الْغَرِيزِيَّةِ قُلْنَا فَكَذَا فِي الْجَمِيعِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ. وَتَفْصِيلُ الْبَحْثِ حِينَئِذٍ إنْ أُرِيدَ مِنْ هَذَا الْحَدِّ أَصْلُ الطَّبِيعَةِ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ وَأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ بَلْ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي أُصُولِ سَائِرِ الْمَلَكَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ كَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنْ أُرِيدَ الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا مِنْ الطَّبِيعَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فَلَا يَسْتَحِيلُ زَوَالُهُ أَقُولُ التَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي وَالْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ الْعَادِيَّةِ هُوَ الِاسْتِحَالَةُ بِحَسَبِ عَادَةِ النَّاسِ لَا بِحَسَبِ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَايَتُهُ أَنَّ زَوَالَهُ عُسْرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّائِرِ إلَيْهِ قَوْلُهُ أَعْسَرَ وَقَوْلُهُ يَكَادُ فَفِي التَّعْبِيرِ مُبَالَغَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَتَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. (وَالسَّادِسُ) وَهُوَ آخِرُ الْأَسْبَابِ (الْحِقْدُ وَهُوَ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) اعْلَمْ أَنَّ الْغَزَالِيَّ جَعَلَ الْأَسْبَابَ السَّبْعَةَ وَجَعَلَ أَحَدَهَا التَّعَجُّبَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] فَتَعَجَّبُوا مِنْ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ فَحَسَدُوا وَأَرَادُوا زَوَالَ نِعْمَةِ الرِّسَالَةِ عَنْهُمْ لِخَوْفِ تَفْضِيلِ مِثْلِهِمْ عَلَيْهِمْ وَأَيْضًا عَبَّرَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَدَلَ الْحِقْدِ هُنَا لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ اعْتَبَرَ رُجُوعَ التَّعَجُّبِ إلَى أَحَدِ السِّتَّةِ كَالتَّعَزُّزِ وَالْحِقْدِ وَأَنَّ الْبُغْضَ أَثَرُ الْحِقْدِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ وَأَنَّ غَرَضَ الْمُصَنِّفِ اسْتِيفَاءُ مَبَاحِثِ الْحِقْدِ. وَالْحِقْدُ خَصْلَةٌ ذَمِيمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهِ بِخِلَافِ غَرَضِ الْإِمَامِ كَمَا يَظْهَرُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْإِحْيَاءِ (وَفِيهِ ثَلَاثُ مَقَالَاتٍ) فِي تَفْسِيرِهِ وَغَوَائِلِهِ وَأَسْبَابِهِ (الْمَقَالَةُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِهِ وَحُكْمُهُ وَهُوَ) أَيْ تَفْسِيرُهُ (أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ اسْتِثْقَالَ أَحَدٍ وَالنِّفَارَ عَنْهُ) بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ النُّفْرَةِ

(وَالْبُغْضَ لَهُ وَإِرَادَةَ الشَّرِّ) وَزِيدَ فِي الْإِحْيَاءِ وَأَنْ يَدُومَ ذَلِكَ وَيَبْقَى (وَحُكْمُهُ) شَرْعًا (إنْ لَمْ يَكُنْ بِظُلْمٍ) فِي مَالِهِ وَبَدَنِهِ وَعِرْضِهِ (أَصَابَهُ مِنْهُ) مِنْ الْحَقُودِ عَلَيْهِ (بَلْ بِحَقٍّ وَعَدْلٍ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَحَرَامٌ) ؛ لِأَنَّ اللَّازِمَ وَحِينَئِذٍ انْقِيَادُهُ وَالْإِطَاعَةُ إلَيْهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ صِيَانَةٌ وَوِقَايَةٌ مُوجِبٌ لِلْحُبِّ لَا الْحِقْدِ (وَإِنْ كَانَ بِهِ) أَيْ إنْ كَانَ الْحِقْدُ بِسَبَبِ ظُلْمٍ أَصَابَهُ مِنْهُ (فَلَيْسَ بِحَرَامٍ) بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ) لِعُتُوِّ الظَّالِمِ وَرِيَاسَتِهِ وَكَوْنِ الْمَظْلُومِ مِنْ أَخِسَّاءِ النَّاسِ (فَلَهُ التَّأْخِيرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) هَذَا الْإِطْلَاقُ وَإِنْ سَلِمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُقُوقِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَرْضِيَّةِ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِيَّةِ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَفْصِيلًا وَفِي قَاضِي خَانْ رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَمَاتَ الطَّالِبُ وَلَمْ يُؤَدِّ الْمَدْيُونُ الدَّيْنَ إلَى وَارِثِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلطَّالِبِ وَفِي الْمُنْيَةِ رَجُلٌ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَتَقَاضَاهُ فَمَنَعَهُ ظُلْمًا فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّيْنِ فَالْخُصُومَةُ فِي الظُّلْمِ بِالْمَنْعِ لِلْمَيِّتِ وَفِي الدَّيْنِ لِلْوَارِثِ هُوَ الْمُخْتَارُ وَفِي الْخُلَاصَةِ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَتَقَاضَاهُ فَمَنَعَهُ ظُلْمًا فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّيْنِ قَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ لَا يَكُونُ لِلْأَوَّلِ حَقُّ الْخُصُومَةِ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ وَفِي صُلْحِ النَّوَازِلِ لَوْ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ جَاحِدٌ فَالْأَجْرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَوَاءً اسْتَحْلَفَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ وَلَوْ قَضَى وَرَثَتَهُ بَرِئَ مِنْ الدَّيْنِ وَفِي بَعْضِ الْفَتَاوَى إنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءٌ بِالْقَاضِي أَوْ الْوَالِي فَأَهْمَلَ وَأَخَّرَ إلَى الْآخِرَةِ فَيُنْقَلُ إلَى الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَلَا بَلْ لِلطَّالِبِ وَقِيلَ ثَوَابُ وِزْرِ الْأَذَى فِي عَدَمِ الْإِعْطَاءِ لِلطَّالِبِ وَثَوَابُ نَفْسِ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ وَقِيلَ هُنَا مِثْلُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ بِطَرِيقِ الْحَقِّ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَإِلَّا كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ فَلِلطَّالِبِ فَقَطْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَقُولُ فِي دَلَالَةِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ خَفَاءٌ وَلَا بُدَّ لِمَا فَصَّلَهُ مِنْ بَيَانٍ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا حَدِيثًا لِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ وَفِي تَقْرِيبِهِ أَيْضًا خَفَاءٌ (وَ) لَهُ (الْعَفْوُ وَهُوَ أَفْضَلُ) مِنْ التَّأْخِيرِ إلَى الْآخِرَةِ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ أَخْذُ الْحَقِّ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ بِالصَّدَقَةِ وَالْعَفْوُ هُوَ أَفْضَلُ وَالظُّلْمُ بِمَا لَا تَسْتَحِقُّهُ هُوَ الْجَوْرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَرَاذِلِ وَالْفَضْلُ إحْسَانُ الصِّدِّيقِينَ وَالْعَدْلُ مُنْتَهَى دَرَجَاتِ الصَّالِحِينَ وَسَيُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وَالتَّقْوَى جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ أَيْ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ كَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ بَيْنَكُمْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ خِطَابٌ لِأُمَّتِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شِفَائِهِ وَأَمَّا الْعَفْوُ فَهُوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَهَذَا مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ « {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَأَلَ جَبْرَائِيلَ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَقَالَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ. ثُمَّ ذَهَبَ وَأَتَاهُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك» وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَزِيدُ عَلَى كَثْرَةِ الْأَذَى إلَّا صَبْرًا وَعَلَى إسْرَافِ الْجَاهِلِ إلَّا حِلْمًا أَيْ عَفْوًا. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَدِيدًا وَقَالُوا لَوْ دَعَوْت عَلَيْهِمْ، فَقَالَ إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنْ بُعِثْت دَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» اُنْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ وَدَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَرَمِ النَّفْسِ وَغَايَةِ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ إذَا لَمْ يَقْتَصِرْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ. ثُمَّ شَفِقَ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَدَعَا وَشَفَعَ لَهُمْ، فَقَالَ اهْدِ، ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ بِقَوْلِهِ قَوْمِي، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ، فَقَالَ إنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ انْتَهَى. مُلَخَّصًا - وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] آخِرُ الْآيَةِ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] عَنْ تَفْسِيرِ الْعُيُونِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] أَيْ لِيُعْرِضُوا عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْعَفْوِ فَيَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ وَلَوْ الْتِزَامًا {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] قِيلَ أَيْ إذَا عَفَوْتُمْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْآيَاتِ هُوَ الدَّالَّةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْعَفْوِ، وَاللَّازِمُ مِنْ بَعْضِهَا هُوَ أَصْلُ الْعَفْوِ لَا أَفْضَلِيَّتُهُ فَافْهَمْ. (م) مُسْلِمٌ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» قَالَ الطِّيبِيُّ مِنْ هَذِهِ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَيْ مَا نَقَصَتْ مَالًا وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِلَةً لَنَقَصَتْ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا نَقَصَتْ شَيْئًا مِنْ مَالٍ فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ فِيهِ وَدَفْعِ الْمُفْسِدَاتِ عَنْهُ وَالْإِخْلَافِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَجْدَى وَأَنْفَعُ وَأَكْثَرُ وَأَطْيَبُ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]- أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِإِجْزَالِ الْأَجْرِ وَتَضْعِيفِهِ أَوْ فِيهِمَا وَذَلِكَ جَابِرٌ لِأَوْصَافِ ذَلِكَ النَّقْصِ بَلْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْكُمَّلِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ نَقْصًا. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ فَوَزَنَهَا فَلَمْ تَنْقُصْ قَالَ وَأَنَا وَقَعَ لِي ذَلِكَ وَقَوْلُ الْكَلَابَاذِيِّ قَدْ يُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الْفَرْضُ وَبِإِخْرَاجِهَا لَمْ تُنْقِصْ مَالَهُ لِكَوْنِهَا دُنْيَا فِيهِ بُعْدٌ لَا يَخْفَى كَذَا فِي الْفَيْضِ فَحَمْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ هُنَا عَلَى الْفَرْضِ بَعِيدٌ. (وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ) أَيْ بِسَبَبِ عَفْوِهِ (إلَّا عِزًّا) فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَظِيمٌ فِي الْقُلُوبِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَعْظُمَ ثَوَابُهُ أَوْ فِيهِمَا (وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى) بِأَنْ يُثْبِتَ لَهُ فِي الْقُلُوبِ بِتَوَاضُعِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَ النَّاسِ وَكَذَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَرِيرِ خُلْدٍ لَا يَفْنَى وَمِنْبَرِ مُلْكٍ لَا يَبْلَى وَمَنْ تَوَاضَعَ فِي تَحَمُّلِ مُؤَنِ خَلْقِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ مَا يَرْفَعُهُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ وَمَنْ تَوَاضَعَ فِي قَبُولِ الْحَقِّ مِمَّنْ دُونَهُ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ مَدْخُولَ طَاعَاتِهِ وَنَفَعَهُ بِقَلِيلِ حَسَنَاتِهِ وَزَادَ رِفْعَةَ دَرَجَاتِهِ وَحَفَظَهُ بِمُعَقِّبَاتِ رَحْمَتِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. اعْلَمْ أَنَّ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ الشُّحَّ بِالْمَالِ وَمُتَابَعَةَ السَّبُعِيَّةِ مِنْ إيثَارِ الْغَضَبِ

وَالِانْتِقَامِ وَالِاسْتِرْسَالِ بِالْكِبْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ نَتَائِجِ الشَّيْطَنَةِ فَأَرَادَ الشَّارِعُ أَنْ يُقْلِعَهَا فَحَثَّ أَوَّلًا عَلَى الصَّدَقَةِ لِيَتَحَلَّى بِالسَّخَاءِ وَالْكَرَمِ. وَثَانِيًا عَلَى الْعَفْوِ لِيَتَعَزَّزَ بِالْحُكْمِ وَالْكَرَمِ. وَثَالِثًا عَلَى التَّوَاضُعِ لِيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ الْعَفْوَ سَبَبٌ لِعِزَّةِ الدَّارَيْنِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَفْضَلِيَّةُ الْعَفْوِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَالْآيَاتِ وَالْحَدِيثُ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذْ الْمُطْلَقُ سَاكِتٌ وَالْمُقَيَّدُ نَاطِقٌ وَأَنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ وَالْعَامَّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ أَنْ يَدَّعِيَ حُصُولَ الْمُسَوَّرَةِ الْكُلِّيَّةِ مِنْهَا فَالْمَطْلُوبُ حَاصِلٌ بِطَرِيقِ ضَمِّ صُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ أَوْ الْمَقَامُ ظَنِّيٌّ وَظَنُّ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا ظَاهِرٌ. (وَإِنْ قَدَرَ) عَلَى أَخْذِهِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ (فَلَهُ الْعَفْوُ أَيْضًا) كَمَا إذَا لَمْ يَقْدِرْ (وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْعَفْوِ الْأَوَّلِ) أَيْ الْعَفْوِ مَعَ الْعَجْزِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ لِعَجْزِ ذَلِكَ عَنْ الْأَخْذِ حَالًا وَأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى رِوَايَةِ مُعَاذٍ عَنْ تَخْرِيجِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَصْفَحَ عَمَّنْ ظَلَمَك. قَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ فَكَانَ أَفْضَلَ. أَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِكِلَا النَّوْعَيْنِ فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ أَوْ وَقَفَ عَلَى مَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ أَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ فَتَأَمَّلْ. قَالَ الرَّاغِبُ فَالْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَك نِهَايَةُ الْحِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ وَإِعْطَاءِ مَنْ حَرَمَك نِهَايَةُ الْإِحْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ قَابَلَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ فَهُوَ أَكْمَلُ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِقَصْرِ وَصْفِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ ادِّعَاءً وَمُبَالَغَةً وَمِنْ ثَمَرَاتِ هَذَا الْخُلُقِ صَيْرُورَةُ الْعَدُوِّ خَلِيلًا أَوْ صَيْرُورَتُهُ قَتِيلًا وَيُنَكَّلُ بِسِهَامِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ تَنْكِيلًا. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ رَأَيْت فِي الْإِنْجِيلِ قَالَ عِيسَى لَقَدْ قِيلَ لَكُمْ مِنْ قَبْلُ إنَّ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالْآنَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَقَابَلُوا الشَّرَّ بِالشَّرِّ مَنْ ضَرَبَ خَدَّك الْأَيْمَنَ فَحَوِّلْ إلَيْهِ الْأَيْسَرَ وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَك فَأَعْطِهِ إزَارَك. (تَنْبِيهٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ رَأَى ابْنُ الْحَطَّابِ شَيْخُ ابْنِ عَرَبِيٍّ رَبَّهُ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا آخُذُهُ عَنْك بِلَا وَاسِطَةٍ، فَقَالَ يَا ابْنَ الْحَطَّابِ مَنْ أَحْسَنَ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ فَقَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ شُكْرًا وَمَنْ أَسَاءَ إلَى مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ فَقَدْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، فَقَالَ يَا رَبِّ حَسْبِي، فَقَالَ حَسْبُك كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَ) مِنْ (الِانْتِصَارِ أَيْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَهُوَ) أَيْ الِانْتِصَارُ (الْعَدْلُ الْمَفْضُولُ) وَقَدْ عَرَفْت قَرِيبًا مَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ أَنَّ الْعَدْلَ مُنْتَهَى دَرَجَاتِ الصَّالِحِينَ وَالْفَضْلَ إحْسَانُ الصِّدِّيقِينَ هَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ (لَكِنْ قَدْ يَكُونُ) الْعَدْلُ (أَفْضَلَ مِنْ الْعَفْوِ بِعَارِضٍ) مُوجِبٍ لِذَلِكَ (مِثْلِ كَوْنِ الْعَفْوِ سَبَبًا لِتَكْثِيرِ ظُلْمِهِ) لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَامِ مِنْهُ لِلْعَجْزِ (وَ) كَوْنُ (الِانْتِصَارِ) سَبَبًا (لِتَقْلِيلِهِ أَوْ هَدْمِهِ) إذَا كَانَ الْحَقُّ قِصَاصًا مَثَلًا (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ الْعَوَارِضِ مِثْلِ كَوْنِهِ عِبْرَةً لِلْغَيْرِ لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا اقْتَصَّ وَرَثَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَاتِلِهِ ابْنِ مُلْجِمٍ بَعْدَمَا أَوْصَى بِالْعَفْوِ حَيْثُ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجِمٍ وَحُمِلَ إلَى مَنْزِلِهِ أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ وَالْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَغَدًا مُفَارِقُكُمْ إنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَهُوَ حَسَنَةٌ لَكُمْ فَاعْفُوا {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] وَاَللَّهُ مَا فَجَأَنِي مِنْ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْته وَلَا طَالِعٌ أَنْكَرْته {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] (وَإِنْ زَادَ) عَلَى حَقِّهِ. (فَجَوْرٌ وَظُلْمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي سُورَةِ الشُّورَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41] أَيْ اقْتَصَّ {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] إلَى الْأُمُورِ) بِالْمُعَاتَبَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42]

يَبْدَءُونَهُمْ بِالْإِضْرَارِ وَيَطْلُبُونَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ تَجَبُّرًا عَلَيْهِمْ {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] أَيْ يَتَكَبَّرُونَ فِيهَا تَجَبُّرًا وَفَسَادًا {أُولَئِكَ} [الشورى: 42] الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42] عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ {وَلَمَنْ صَبَرَ} [الشورى: 43] عَلَى الْأَذَى {وَغَفَرَ} [الشورى: 43] لِمَنْ ظَلَمَهُ وَلَمْ يَنْتَصِرْ أَوْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ ذَلِكَ} [الشورى: 43] الَّذِي ذُكِرَ مِنْ الصَّبْرِ وَالْمَغْفِرَةِ {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] أَيْ مِنْ مَعْزُومَاتِهَا الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة: 8] أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ {شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 8] أَيْ شِدَّةُ بُغْضِكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ {عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] أَيْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ بِالْمُثْلَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ بَلْ الْتَزِمُوا الْعَدْلَ مَعَ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ. وَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ مُفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ يَعْنِي لَيْسَ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ شَيْءٌ آخَرُ وَمِنْ قَوْلِهِ وَيَبْغُونَ إلَى آخِرِهِ وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَتَأَمَّلْ. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ «قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ لَقِيت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَا عُقْبَةُ أَلَا أُخْبِرُك بِأَفْضَلِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَصِلُ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَك» . قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِك أَعَزُّ عَلَيْك قَالَ الَّذِي إذَا قَدَرَ عَفَا، وَلِذَلِكَ سُئِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْ أَعَزُّ النَّاسِ قَالَ الَّذِي يَعْفُو إذَا قَدَرَ اُعْفُوا يُعِزَّكُمْ اللَّهُ. وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمٍ فَقَدْ انْتَصَرَ. وَعَنْ جَابِرٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إيمَانٍ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ وَزُوِّجَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ حَيْثُ شَاءَ مَنْ أَدَّى حَقًّا وَقَرَأَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] عَشْرَ مَرَّاتٍ وَعَفَا عَنْ قَاتِلِهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ إحْدَاهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَوْ إحْدَاهُنَّ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُغْضِبَ عَبْدًا قَيَّضَ لَهُ مَنْ يَظْلِمُهُ. وَقِيلَ إنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَكِنْ أُعْطِيَ مَا أُعْطِيَ بِأَرْبَعٍ إذَا قَدَرَ عَفَا وَإِذَا وَعَدَ وَفَّى وَإِذَا حَدَّثَ صَدَقَ وَلَا يَجْمَعُ الْيَوْمَ لِغَدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الذَّنْبُ عَظِيمًا ازْدَادَ الْعَفْوُ فَضْلًا. وَرُوِيَ أَنَّ زِيَادًا قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ الْخَوَارِجِ إنْ جِئْت بِأَخِيك وَإِلَّا أَضْرِبُ عُنُقَك، فَقَالَ أَرَأَيْت إنْ جِئْتُك بِكِتَابٍ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ تُخَلِّي سَبِيلِي قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنْ أَتَيْتُك بِكِتَابٍ مِنْ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَأُقِيمُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَتَلَا {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36] {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]-، فَقَالَ زِيَادٌ خَلُّوا سَبِيلَهُ وَقَالَ هَذَا رَجُلٌ لُقِّنَ حُجَّتَهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ أَتَيْنَا مَنْزِلَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ لَيْلًا وَجَاءَ الْحَسَنُ وَهُوَ خَائِفٌ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ مَعَ الْحَسَنِ فَذَكَرَ الْحَسَنُ قِصَّةَ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا فَعَلَ مَعَهُ إخْوَتُهُ مِنْ مَنْعِهِمْ لَهُ وَطَرْحِهِمْ لَهُ فِي الْجُبِّ، فَقَالَ بَاعُوا أَخَاهُمْ وَأَحْزَنُوا أَبَاهُمْ، وَذَكَرَ مَا لَقِيَ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ وَمِنْ الْحَبْسِ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ مَاذَا صَنَعَ اللَّهُ إذَنْ لَهُ رَفَعَ ذِكْرَهُ وَأَعْلَى كَعْبَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَمَاذَا صَنَعَ حِينَ أَكْمَلَ لَهُ أَمْرَهُ وَجَمَعَ لَهُ أَهْلَهُ قَالَ {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] فَعَرَضَ بِالْحِلْمِ وَالْعَفْوِ عَنْ أَصْحَابِهِ قَالَ الْحَكَمُ وَأَنَا أَقُولُ {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] . (الْمَقَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي غَوَائِلِهِ) أَيْ الْحِقْدِ (وَهِيَ إحْدَى عَشَرَ) . أَوَّلُهَا حَسَدٌ. ثَانِيهَا: شَمَاتَةٌ. ثَالِثُهَا: هَجْرٌ. رَابِعُهَا: اسْتِصْغَارٌ. خَامِسُهَا: كَذِبٌ. سَادِسُهَا: غِيبَةٌ. سَابِعُهَا: إفْشَاءُ سِرٍّ. ثَامِنُهَا: اسْتِهْزَاءٌ. تَاسِعُهَا: إيذَاءٌ. عَاشِرُهَا: مَنْعُ حَقٍّ. حَادِي عَشَرَ: هُنَا مَنْعُ مَغْفِرَةٍ. (الْأَوَّلُ الْحَسَدُ وَالثَّانِي الشَّمَاتَةُ بِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْبَلَايَا أَيْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالضَّحِكِ بِهِ وَهِيَ) الشَّمَاتَةُ. (السَّابِعَ عَشَرَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (ت) التِّرْمِذِيُّ قَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ (وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ» أَيْ السُّرُورَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُصِيبَةِ «بِأَخِيك فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى» حَيْثُ زَكَّيْت نَفْسَك وَرَفَعْت مَنْزِلَتَك وَشَمَخْت بِنَفْسِك وَشَمَتَ بِهِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى» بَدَلَ «فَيُعَافِيَهُ» «وَيَبْتَلِيَكَ» ، وَهَذَا مَعْدُودٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ (تَنْبِيهٌ) أَخَذَ قَوْمٌ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ فِي الشَّمَاتَةِ بِالْعَدُوِّ غَايَةً فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ نَعَمْ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّهُ لَا مَلَامَ بِالْفَرَحِ بِمَوْتِ الْعَدُوِّ وَمِنْ حَيْثُ انْقِطَاعُ شَرِّهِ عَنْهُ وَكِفَايَةُ ضَرَرِهِ كَمَا فِي الْفَيْضِ ثُمَّ إنَّهُ قِيلَ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعِ

وَالْقَزْوِينِيُّ أَيْضًا انْتَقَدَهُ عَلَى الْمَصَابِيحِ وَادَّعَى وَضْعَهُ لَكِنَّ الْعَلَائِيَّ نَازَعَهُمَا كَذَا فِي الْفَيْضِ. فَفِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ كَلَامُهُ سِيَّمَا عِنْدَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ ابْتِدَاءً. (فَالْفَرَحُ بِمُصِيبَةِ الْعَدُوِّ مَذْمُومٌ جِدًّا) لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِانْعِكَاسِ الْمُصِيبَةِ عَلَيْهِ بِابْتِلَاءِ مَنْ شَمِتَ وَعَافِيَةِ مَنْ شَمِتَ عَلَيْهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ ارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (خُصُوصًا إذَا حَمَلَهَا) أَيْ تِلْكَ الْمُصِيبَةَ (عَلَى كَرَامَةِ نَفْسِهِ) يَعْنِي يَقُولُ الْحَاقِدُ إنَّ مُصِيبَةَ عَدُوِّي إنَّمَا هِيَ مِنْ كَرَامَتِي (أَوْ) عَلَى (إجَابَةِ دُعَائِهِ) كَأَنْ يَقُولَ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ عَدُوِّي مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ إنَّمَا هُوَ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عُجْبٌ وَتَزْكِيَةُ نَفْسٍ وَغُرُورٌ (بَلْ) يَجِبُ (عَلَيْهِ) عَلَى الْحَاقِدِ (أَنْ يَخَافَ) مِنْ مُصِيبَةِ عَدُوِّهِ (أَنْ تَكُونَ مَكْرًا) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (لَهُ) وَاسْتِدْرَاجًا لِلْحَاقِدِ حَيْثُ ابْتَلَى عَدُوَّهُ وَعَافَاهُ (وَ) يَجِبُ عَلَى الْحَاقِدِ أَنْ (يَحْزَنَ) عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِهِ مَكْرَ اللَّهِ تَعَالَى (وَ) يَجِبُ أَيْضًا أَنْ (يَدْعُوَ) اللَّهَ (بِإِزَالَةِ بَلَائِهِ) أَيْ الْعَدُوِّ (وَ) يَدْعُوَ (بِأَنْ يَخْلُفَهُ) أَيْ عَدُوَّهُ اللَّهُ تَعَالَى (خَيْرًا مِمَّا فَاتَ) مِنْ النِّعَم بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ فِي الْوُجُوبِ هَذَا نَظَرٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْوُجُوبِ مَعْنًى مَجَازِيٌّ ثُمَّ إنَّ هَذَا الدُّعَاءَ سَبَبٌ لِخَلَاصِ الْحَاقِدِ مِنْ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85] . أَخْرَجَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إنَّ دَعْوَةَ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ مُسْتَجَابَةٌ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَعِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ آمِينَ وَلَك بِمِثْلِ ذَلِكَ فَدَعْوَةُ الْمَلَكِ لَا تُرَدُّ» وَالتَّفْصِيلُ فِي الْبَيْضَاوِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ) ذَلِكَ الْعَدُوُّ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْفَرَحُ مَذْمُومٌ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ (ظَالِمًا) لِلنَّاسِ (فَأَصَابَهُ بَلَاءٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ وَيَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ عِبْرَةٌ) يَعْتَبِرُونَ مِنْهُ وَيَنْزَجِرُونَ عَنْ إتْيَانِ مِثْلِهِ (وَنَكَالًا) نَكَلَ بِهِ يَنْكُلُ أَصَابَهُ بِنَازِلَةٍ (فَفَرَحُهُ حِينَئِذٍ بِزَوَالِ الظُّلْمِ) لَا بِإِصَابَةِ الْبَلَاءِ وَالْمُصِيبَةِ لَهُ فَلَا يَكُونُ مَذْمُومًا بَلْ غَيْرَةٌ فِي الدِّينِ وَالْغَيْرَةُ مِنْ الْإِيمَانِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ كُنْ غَيُورًا لِلَّهِ وَاحْذَرْ مِنْ الْغَيْرَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ أَنْ تُلَبِّسَ عَلَيْك نَفْسَك بِهَا وَالْمِيزَانُ أَنَّ الَّذِي يَغَارُ لِلَّهِ إنَّمَا يَغَارُ لِانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ. (وَالثَّالِثُ) مِنْ غَوَائِلِ الْحِقْدِ (هَجْرُهُ) أَيْ الْمَحْقُودِ (وَعَدَاوَتُهُ وَهُوَ) أَيْ الْهِجْرَةُ وَالْعَدَاوَةُ. (الثَّامِنَ عَشَرَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ» إمَّا بِالتَّغْلِيبِ أَوْ بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ مَتْبُوعٌ لِلْإِنَاثِ فَالْحُكْمُ لِلْكُلِّ قَالُوا إنَّ عَادَةَ الشَّرْعِ فِي الْحُكْمِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْأُنْثَى بِصِيغَةِ الذَّكَرِ وَفِي الْمُخْتَصِّ بِالْأُنْثَى بِصِيغَةِ الْأُنْثَى «أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا» يَتْرُكَهُ وَيُقَاطِعَ عَنْهُ لَعَلَّهُ قَيْدٌ أَكْثَرِيٌّ أَوْ الذِّمِّيُّ فِي الْمُعَامَلَاتِ تَابِعٌ لِلْمُسْلِمِ «فَوْقَ ثَلَاثٍ» لَيَالٍ لَعَلَّ الثَّلَاثَ وَمَا دُونَهَا مَعْفُوٌّ لِلْحَرَجِ أَوْ تَخْصِيصِ الْفَوْقِ لِقُوَّةِ الْإِثْمِ، أَوْ الْمَفْهُومُ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا تَأَمَّلْ. «فَإِذَا مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ» أَيْ لَيَالٍ وَالْهَجْرُ بَاقٍ «فَلْيَلْقَهُ» أَمَرَهُ بِالْمُلَاقَاةِ وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ «وَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» لِلْوَصْلِ وَالْأُنْسِ، الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ وَالْقُرْآنُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقُرْآنَ فِي الْحُكْمِ عِنْدَنَا «فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ» أَيْ عَلَى الْبَادِئِ بِالسَّلَامِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا فِي حَدِيثِ «صِلْ مَنْ قَطَعَك وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَك وَأَحْسِنْ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْك» «فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ»

الَّذِي هُوَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ كَمَا رُوِيَ «مَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً وَمَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ كُتِبَ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً» ، وَهَذِهِ نِهَايَةُ السَّلَامِ «وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ» أَيْ رَجَعَ «بِالْإِثْمِ» وَزَادَ) أَيْ أَبُو دَاوُد (فِي رِوَايَةٍ «فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ دَخَلَ النَّارَ» أَيْ يَسْتَحِقُّ دُخُولَهَا فَلَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ بِالْمَشِيئَةِ وَالشَّفَاعَةِ (وَهَذَا) الْوَعِيدُ (مَحْمُولٌ عَلَى الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَأَمَّا لِأَجْلِ الْآخِرَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالتَّأْدِيبِ فَجَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ) لِلْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَلِأَنَّهُ تَأْدِيبٌ وَتَرْبِيَةٌ كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي رَأَيْت حَوْلَ الْعَرْشِ مَنَابِرَ مِنْ النُّورِ عَلَيْهَا قَوْمٌ لِبَاسُهُمْ نُورٌ وَوُجُوهُهُمْ نُورٌ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصِفُ حَالَهُمْ لَنَا قَالَ هُمْ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ وَالْمُتَزَاوِرُونَ فِي اللَّهِ وَالْمُتَجَالِسُونَ فِي اللَّهِ» . «وَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ هَلْ عَمِلْتَ لِي عَمَلًا قَطُّ قَالَ إلَهِي صَلَّيْت وَصُمْت لَك وَتَصَدَّقْت لَك وَذَكَرْت لَك، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الصَّلَاةَ لَك بُرْهَانٌ وَالصَّوْمَ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةَ لَك ظِلٌّ وَالذِّكْرَ لَكَ نُورٌ فَأَيُّ عَمَلٍ عَمِلْت لِي، فَقَالَ مُوسَى يَا رَبِّ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ هُوَ لَك، فَقَالَ يَا مُوسَى هَلْ وَالَيْت لِي وَلِيًّا قَطُّ وَهَلْ عَادَيْت لِي عَدُوًّا قَطُّ» فَعَلِمَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ (مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ) وَقْتٍ (لِوُرُودِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَمَا هَجَرَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَخَلِّفِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِهِجْرَانِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا كَمَا فِي ابْنِ مَالِكٍ وَأَنَّهُ هَجَرَ زَوْجَاتِهِ مَرَّةً شَهْرًا لِلتَّأْدِيبِ وَمَرَّةً شَهْرَيْنِ وَنِصْفًا لِبَعْضِهِنَّ وَكَذَا يَجُوزُ لِلْوَالِدِ أَنْ يَغْضَبَ عَلَى وَلَدِهِ وَلِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَالسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قِيلَ عَنْ الْفَيْضِ وَمِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا جَاءَ مِنْ هَجْرِ بَعْضِ السَّلَفِ لِبَعْضٍ فَقَدْ هَجَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَطَاوُوسٌ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ وَالْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ إلَى أَنْ مَاتُوا وَهَجَرَ ابْنُ الْمُصِيبِ أَبَاهُ وَكَانَ زَيَّاتًا فَلَمْ يُكَلِّمْهُ إلَى أَنْ مَاتَ وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَعَلَّمُ مِنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ثُمَّ هَجَرَهُ فَمَاتَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَلَمْ يَشْهَدْ جِنَازَتَهُ وَهَجَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَمَّهُ وَأَوْلَادَهُ لِقَبُولِهِمْ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ (وَ) عَنْ (الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ لَمَا فَعَلَهُ أَفْضَلُ الْبَشَرِ وَأَصْحَابُهُ وَخِيَارُ أُمَّتِهِ. (وَالرَّابِعُ) مِنْ غَوَائِلِ الْحِقْدِ (اسْتِصْغَارُهُ) أَيْ الْمَحْقُودِ عَلَيْهِ (وَهُوَ التَّكَبُّرُ وَقَدْ مَرَّ. وَالْخَامِسُ إفْضَاؤُهُ) أَيْ الْحِقْدِ (إلَى الْكَذِبِ) وَالْبُهْتَانِ (عَلَيْهِ) بَلْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ زُورًا (وَالسَّادِسُ) إفْضَاؤُهُ (إلَى غِيبَتِهِ. وَالسَّابِعُ: إفْشَاءُ سِرِّهِ. وَالثَّامِنُ: إلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ) وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ. (وَالتَّاسِعُ إلَى إيذَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (أَوْ) إيذَائِهِ (بِأَكْثَرَ مِنْهُ) أَيْ

أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ. (وَالْعَاشِرُ إلَى مَنْعِ حَقِّهِ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ وَرَدِّ مَظْلَمَةٍ) بِالْأَدَاءِ أَوْ بِالِاسْتِحْلَالِ إنْ كَانَ مَظْلُومًا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ. (وَالْحَادِيَ عَشَرَ مَنْعُهُ) أَيْ الْحِقْدِ (عَنْ مَغْفِرَةِ صَاحِبِهِ) أَيْ صَاحِبِ الْحِقْدِ وَهُوَ الْحَاقِدُ (طكط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ» خِصَالٌ مَذْمُومَةٌ «مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ» تَعَالَى «يَغْفِرُ مَا سِوَى ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ» يَشْكُلُ بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ إنْ أَدَّتْ إلَى الْكُفْرِ فَكَلَامُنَا فِي حِقْدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكُفْرٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ لَمْ تُؤَدِّ إلَيْهِ فَمُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَفْهُومِ فَافْهَمْ فَانْظُرْ «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ» تَعَالَى (شَيْئًا) وَهُوَ ظَاهِرٌ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ «وَمَنْ لَمْ يَكُنْ سَاحِرًا مِنْ السَّحَرَةِ» كُفْرٌ إنْ رَأَى التَّأْثِيرَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَبِيرَةٌ إنْ رَأَى بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ أُرِيدَ مِنْ الشِّرْكِ مُطْلَقُ الْكُفْرِ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ فَيَكُنْ مِنْ قَبِيلِ كَوْنِ قَسِيمِ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ أَوْ لَا يَغْفِرُ غَيْرَ شِرْكٍ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ كَمَا عَرَفْت آنِفًا وَإِنْ أُرِيدَ الشِّرْكُ الْمَخْصُوصُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَغْفِرَ الْكُفْرَ غَيْرَ شِرْكٍ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ أَيْضًا. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا قُوبِلَ الْخَاصُّ بِالْعَامِّ يُرَادُ بِالْعَامِّ مَا عَدَا الْخَاصَّ فَانْظُرْ أَيْضًا. «وَمَنْ لَمْ يَحْقِدْ عَلَى أَخِيهِ» فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْحِقْدَ شُؤْمٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّهِ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ مَا لَا يُحْصَى وَهُوَ مِنْ الْبَلَايَا الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا الْمُنَاظِرُونَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ لَا يَكَادُ الْمُنَاظِرُ يَنْفَكُّ عَنْهُ إذْ لَا تَرَى مُنَاظِرًا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا يُضْمِرَ الْحِقْدَ عَلَى مَنْ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ عِنْدَ كَلَامِ خَصْمِهِ وَيَتَوَقَّفُ فِي كَلَامِهِ فَلَا يُقَابِلُهُ بِحُسْنِ إصْغَاءٍ بَلْ يُضْمِرُ الْحِقْدَ وَيُرَتِّبُهُ فِي النَّفْسِ وَغَايَةُ تَمَسُّكِهِ الْإِخْفَاءُ بِالنِّفَاقِ ثُمَّ إنَّ وَجْهَ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِلْحَاقِدِ كَمَا لَا يَغْفِرُ لِلْمُشْرِكِ وَالسَّاحِرِ فَيُرَدَّانِ، أُرِيدَ مِنْ الْحِقْدِ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ ذَاتِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَكُونُ كُفْرًا وَإِلَّا فَيُنَافِي أَيْضًا الْآيَةَ السَّابِقَةَ عَلَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ كَمَا عَرَفْت بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلِمَةَ مَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48] لَيْسَ بِعَامٍّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مَا الْمَوْصُولَةُ أَوْ الْمَوْصُوفَةُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فِي الْعُمُومِ بَلْ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَإِنْ سَلِمَ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ عَفْوُهُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ غَيْرَ الشِّرْكِ لَعَلَّ الْجَوَابَ أَنَّ السِّحْرَ وَالْحِقْدَ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كُفْرًا وَجَازَ عَفْوُهُمَا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِوَاقِعٍ أَوْ كَعَدَمِ الْوَاقِعِ لِكَمَالِ قِلَّتِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُجْعَلَ الْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْ الْبَعْضِ وَالْمُخَصِّصُ هَذَا الْحَدِيثُ فَلْيُتَأَمَّلْ جِدًّا (طط) الطَّبَرَانِيُّ وَفِي الْأَوْسَطِ (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ تُعْرَضُ) وَالْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ مَلَكٌ يُوَكِّلُهُ جَمِيعَ صُحُفِ الْأَعْمَالِ وَضَبْطُهَا كَذَا فِي الْفَيْضِ لَكِنْ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتُعْرَضُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَفْرَحُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ وَتَزْدَادُ وُجُوهُهُمْ بَيَاضًا وَإِشْرَاقًا فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَلَا تُؤْذُوا مَوْتَاكُمْ» فَالْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأُصُولُ إذْ النُّصُوصُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا آخَرَ أَوْ بِقَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَافْهَمْ. ( «الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيُغْفَرَ لَهُ وَهَلْ مِنْ تَائِبٍ فَيُتَابَ عَلَيْهِ وَيُرَدُّ أَهْلُ الضَّغَائِنِ» بِالْمُعْجَمَتَيْنِ جَمْعُ ضَغِينَةٍ مِنْ ضَغِنَ صَدْرُهُ ضَغَنًا مِنْ بَابِ تَعِبَ حَقَدَ «بِضَغَائِنِهِمْ» أَيْ بِسَبَبِهَا

«حَتَّى يَتُوبُوا» مِنْ الضَّغَائِنِ فَمَا لَمْ يَتُبْ مِنْ الْحِقْدِ لَا يُغْفَرُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ (طط. عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَطَّلِعُ» أَيْ يَنْظُرُ «اللَّهُ تَعَالَى إلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ» بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ «لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» قِيلَ هُنَا عَنْ الْقَامُوسِ وَالْمُشَاحِنُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا تَقْرِيبَ حِينَئِذٍ وَالْأَقْرَبُ مَا نُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ شَحِنْت عَلَيْهِ شَحَنًا مِنْ بَابِ تَعِبَ حَقَدْت. اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِإِيهَامِهَا التَّنَافِيَ فَافْهَمْ (وَفِي رِوَايَةٍ. هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «وَيُؤَخَّرُ أَهْلُ الْحِقْدِ كَمَا هُمْ» عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ بِلَا مَغْفِرَةٍ. (الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ فِي سَبَبِ الْحِقْدِ وَهُوَ الْغَضَبُ فَإِنَّهُ) أَيْ الْحَاقِدَ (إذَا لَزِمَ كَظْمَهُ) أَيْ كَظْمَ الْغَضَبِ (بِعَجْزِهِ عَنْ التَّشَفِّي) عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُ (فِي الْحَالِ رَجَعَ) الْغَضَبُ (إلَى الْبَاطِنِ وَاحْتَقَنَ) احْتَبَسَ (فِيهِ فَصَارَ حِقْدًا) بَعْدَ أَنْ كَانَ غَضَبًا (وَفِيهِ) أَيْ فِي الْغَضَبِ (خَمْسَةُ مَقَامَاتٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْغَضَبِ وَأَقْسَامِهِ) . الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ. الثَّالِثُ فِي عِلَاجِهِ بَعْدَ هَيَجَانِهِ. الرَّابِعُ فِي الْعِلَاجِ الْقَلَعِيِّ. الْخَامِسُ: فِي الْحِلْمِ (اعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ وَهُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ) وَالْقَلْبُ جِسْمٌ صَنَوْبَرِيٌّ تَحْتَ الثَّدْيِ الْيَسَارِ أَيْ حَرَكَةُ الدَّمِ الرَّقِيقِ فِي الْقَلْبِ دَفْعَةً (لِدَفْعِ الْمُؤْذِيَاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَلِطَلَبِ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَالِ بَعْدَ وُصُولِهَا لَيْسَ بِمَذْمُومٍ) فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا (بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ بِهِ يَحْفَظُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا وَمِنْهُ) أَيْ الِانْتِقَامُ (الشَّجَاعَةُ الْمَمْدُوحَةُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعُرْفًا) . قِيلَ الشَّجَاعَةُ هَيْئَةٌ لِلْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِهَا يُقْدِمُ عَلَى أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقْدِمَ كَالْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِخْلَاصِ مُسْلِمٍ مِنْ يَدِ مُتَعَدِّدٍ (وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ طَرَفَاهُ تَفْرِيطُهُ وَضَعْفُهُ الْمُسَمَّى بِالْجُبْنِ وَهُوَ التَّاسِعَ عَشَرَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ وَفُسِّرَ الْجُبْنُ بِأَنَّهُ ضِدُّ الْغَضَبِ أَعْنِي سُكُونَ النَّفْسِ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّك مِنْهُ وَمَبْدَؤُهُ بُطْلَانُ شَهْوَةِ الِانْتِقَامِ (وَذَلِكَ مَذْمُومٌ جِدًّا) وَمَرَضٌ رَدِيءٌ غَايَةَ الرَّدَاءَةِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ اُسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ وَمَنْ اُسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ فَهُوَ شَيْطَانٌ (لِأَنَّهُ يُثْمِرُ عَدَمَ الْغَيْرَةِ) وَالْغَيْرَةُ مِنْ الْإِيمَانِ (أَوْ قِلَّةَ الْحَمِيَّةِ) أَيْ الْأَنَفَةَ وَالِاحْتِفَاظَ (عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْأَقْرِبَاءِ وَ) يُثْمِرُ أَيْضًا (خِسَّةَ النَّفْسِ وَاحْتِمَالَ الذُّلِّ وَالضَّيْمِ) أَيْ الظُّلْمِ

(فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ) الْمَشْرُوعِ (وَالْخَوَرِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ الضَّعْفِ (وَالسُّكُوتِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْمُنْكَرَاتِ) وَيُورِثُ أَيْضًا سُوءَ الْعَيْشِ وَطَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ فِي مَالِهِ وَقِلَّةَ الثَّبَاتِ فِي الْأُمُورِ وَارْتِكَابَ مَا يُوجِبُ التَّوْبِيخَ وَالتَّعَطُّلَ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْحَيَاءِ الْمَمْدُوحِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ مُحَرِّضًا عَلَى الشَّجَاعَةِ {وَلْيَجِدُوا} [التوبة: 123] أَيْ الْكُفَّارُ {فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] أَيْ شِدَّةً فِي الْقِتَالِ وَصَبْرًا. وَفِي سُورَةِ النُّورِ - {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا} [النور: 2] أَيْ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ {رَأْفَةٌ} [النور: 2] شَفَقَةٌ وَمَرْحَمَةٌ {فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فِي طَاعَتِهِ وَإِقَامَةِ حَدِّهِ فَتُعَطِّلُوهُ أَوْ تُسَامِحُوا فِيهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْت يَدَهَا» . وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] أَيْ أَصْحَابُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَعْنِي يُظْهِرُونَ الشِّدَّةَ وَالْمَهَابَةَ وَالصَّلَابَةَ لِمَنْ خَالَفَ دِينَهُمْ. لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَذَاهِبَ عِنْدَنَا كَوْنُ الِاعْتِبَارِ بِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَلَا يَبْعُدُ الْمُقَايَسَةُ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ. وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى لِحَبِيبِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]- أَيْ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةُ هِيَ الشِّدَّةُ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ الْحَمِيَّةِ وَهُوَ الْغَضَبُ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (طس) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خَيْرُ أُمَّتِي أَحِدَّاؤُهَا» أَيْ مَنْ كَانَ كَالْحَدِيدِ فِي الصَّلَابَةِ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَسَعَى فِي رَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْحِدَّةُ تَعْتَرِي خِيَارَ أُمَّتِي وَفُسِّرَ هُنَا بِالصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ وَفِيهِ أَيْضًا الْحِدَّةُ لَا تَكُونُ أَلَا فِي صَالِحِي أُمَّتِي وَأَبْرَارِهَا الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَيْضًا «خِيَارُ أُمَّتِي أَحِدَّاؤُهُمْ إذَا غَضِبُوا رَجَعُوا» (وَقَدْ مَرَّ مَا وَرَدَ فِي الْغَيْرَةِ فَيَنْبَغِي) لِلْجَبَانِ (أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ) لِتَنْفِرَ عَنْهَا (بِإِيقَاعِهِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِإِيقَاعِهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ (فِيمَا يَخَافُ وَيَفِرُّ مِنْهُ) مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْمَعَارِكِ، وَذَكَرَ وُجُوبَ الْمَوْتِ وَعَدَمَ نَفْعِ الْحَذَرِ عِنْدَ نُزُولِ الْقَدَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ إيقَاعِ التَّهْلُكَةِ كَالْمُرُورِ مُنْفَرِدًا فِي الطَّرِيقِ الْمُهْلِكَةِ وَكَذَا الْبَيْتُوتَةُ. (بِتَكَلُّفٍ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى) حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يُسَوِّغُ الشَّرْعُ الْإِقْدَامَ (وَإِسْمَاعِهَا) أَيْ نَفْسَهُ (غَوَائِلَ الْجُبْنِ) لِتَنْفِرَ مِنْهُ (وَفَوَائِدَ الشَّجَاعَةِ) لِتَتَشَوَّقَ إلَيْهَا (وَتَذْكِيرِهَا كِرَارًا أَوْ مِرَارًا) مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى الْأَوْلَى وَتَذَكُّرِهَا (حَتَّى يَزُولَ) جُبْنُهُ (وَيَقْوَى غَضَبُهُ) الْمَرْغُوبُ (وَإِفْرَاطِهِ) أَيْ إفْرَاطِ الْغَضَبِ عَطْفٌ عَلَى تَفْرِيطِهِ (وَزِيَادَتِهِ وَغَلَبَتِهِ وَسُرْعَتِهِ وَشِدَّتِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّهَوُّرِ وَهُوَ) أَيْ التَّهَوُّرُ (الْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ وَيُثْمِرُ الْحِدَّةَ وَالْعُنْفَ (وَضِدُّهُ) أَيْ التَّهَوُّرُ (الْحِلْمُ وَهُوَ مَلَكَةُ الطُّمَأْنِينَةِ) أَيْ كَيْفِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ بَاعِثَةٌ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالسُّكُونِ

(عِنْدَ) تَحَقُّقِ (مُحَرِّكَاتِ الْغَضَبِ) أَيْ سَبَبِ حَرَكَةِ الْغَضَبِ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ وَالْمُنْفَرِدَاتِ (وَعَدَمِ هَيَجَانِهِ إلَّا بِسَبَبٍ قَوِيٍّ وَتَمَكُّنٍ) مَصْدَرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ الطُّمَأْنِينَةِ (دَفْعُهُ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الْهَيَجَانِ (بِلَا تَعَبٍ) وَالتَّمَكُّنُ مَعَ التَّعَبِ لَيْسَ بِحِلْمٍ بَلْ تَحَلُّمٍ (وَيُثْمِرُ اللِّينَ وَالرِّفْقَ وَالتَّهَوُّرُ مَرَضٌ عَظِيمُ الضَّرَرِ) ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْجُبْنِ فَإِنَّهُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ وَمِنْ أَعْظَمِ ضَرَرِ التَّهَوُّرِ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَوْذًا بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ (صَعْبُ الْعِلَاجِ فَلَا بُدَّ مِنْ شِدَّةِ الْمُجَاهَدَةِ وَالتَّشَمُّرِ وَالسَّعْيِ فِيهِ) أَيْ فِي إزَالَتِهِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْهُ. (وَعِلَاجُهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بِالْعِلْمِ) أَيْ الْعِلَاجُ الْعِلْمِيُّ (وَالْعَمَلِ) أَيْ الْعَمَلِيِّ (وَإِزَالَةِ السَّبَبِ) أَيْ الْعِلَاجُ بِإِزَالَةِ السَّبَبِ (وَتَحْصِيلِ الضِّدِّ فَلْنُبَيِّنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُقَامُ عَلَى حِدَةٍ. الْمَقَامُ الثَّانِي) مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْغَضَبِ (فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ وَهُوَ نَافِعٌ قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ التَّهَوُّرِ (وَحِينَ الْهَيَجَانِ بِالتَّذَكُّرِ) بِنَفْسِهِ (أَوْ التَّذْكِيرِ) أَيْ تَذْكِيرِ الْغَيْرِ لَهُ آفَاتِ التَّهَوُّرِ وَفَوَائِدَ الْكَظْمِ (إنْ لَمْ يَشْتَدَّ جِدًّا وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ اشْتَدَّ فَلَا يُفِيدُ شَيْءٌ مِنْ التَّذَكُّرِ وَالتَّذْكِيرِ (بَلْ قَدْ يَضُرُّ وَيَكُونُ) لِغَلَبَةِ غَضَبِهِ وَشِدَّةِ لَهَبِهِ (كَالْوَقُودِ) يَزِيدُ تَلَهُّبَ النَّارِ لِيَسْتُرَ الْعَقْلَ بِدُخَانِهِ الْمُظْلِمِ فَإِنَّ مَعْدِنَ الْفِكْرِ الدِّمَاغُ وَيَتَصَاعَدُ عِنْدَ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنْ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ دُخَانُ الدِّمَاغِ الْمُظْلِمِ فَيَسْتَوْلِي عَلَى مَعَادِنِ الْفِكْرِ وَرُبَّمَا يَتَعَدَّى عَلَى مَعَادِنِ الْحِسِّ فَيُظْلِمُ عَيْنَهُ حَتَّى لَا يَرَى شَيْئًا وَتَسْوَدُّ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا (وَهُوَ) أَيْ الْعِلَاجُ الْعِلْمِيُّ (مَعْرِفَةُ آفَاتِهِ) آفَاتِ التَّهَوُّرِ (وَفَوَائِدِ كَظْمِ الْغَيْظِ) مَعَ الْقَدَرِ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ. (أَمَّا آفَاتُهُ) أَيْ التَّهَوُّرِ (فَأَرْبَعَةٌ الْأَوَّلُ إفْسَادُ رَأْسِ الطَّاعَاتِ) وَهُوَ الْإِيمَانُ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (طك) وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ بَهْزٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ (ابْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْغَضَبُ» أَيْ التَّهَوُّرُ «يُفْسِدُ الْإِيمَانَ» أَيْ شَأْنُهُ إفْسَادُ الْإِيمَانِ «كَمَا يُفْسِدُ الصَّبِرُ» بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الدَّوَاءُ الْمُرُّ نَبْتٌ يُرَادُ عِنْدَ إطْلَاقِ عُصَارَتِهِ «الْعَسَلَ» الْمُرَادُ الْغَضَبُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي) شَرْعًا أَوْ عَقْلًا (أَوْ صُدُورُهُ فِيمَا يَنْبَغِي) مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَشْرُوعِ بِهَا (أَكْثَرَ أَوْ أَشَدَّ مِمَّا يَنْبَغِي فَهُوَ) أَيْ الْغَضَبُ الْمَوْصُوفُ بِهَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ (التَّهَوُّرُ وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْغَضَبُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى التَّهَوُّرِ مِنْ إطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ (لَا) عَلَى (أَصْلِ الْغَضَبِ) الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ (لِمَا مَرَّ أَنَّهُ) أَيْ أَصْلَهُ (أَمْرٌ لَازِمٌ) قِيلَ فَمِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ (وَقَدْ صَدَرَ) أَيْ هَذَا الْغَضَبُ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِرَارًا عِنْدَ مَحَلِّهِ) وَهُوَ الْغَضَبُ عِنْدَ

انْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ تَعَالَى قُوَّةً وَضَعْفًا فَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ مُفْسِدًا لَمَا صَدَرَ عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ «فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَغْضَبُ حَتَّى تَحْمَرَّ وَجْنَتَاهُ وَيَقُولُ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ لَعَنْته أَوْ ضَرَبْته فَاجْعَلْهُمَا مِنِّي صَلَاةً عَلَيْهِ وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَكَانَ يَقُولُ «الْغَضَبُ لَا يُخْرِجْنِي عَنْ الْحَقِّ وَعَنْ نَثْرِ الْعِطْرِ» لِلْيَافِعِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا أَنَّهُ «دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ» الْحَدِيثَ. وَفِي الْإِحْيَاءِ قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَغْضَبُ لِلدُّنْيَا فَإِذَا غَضِبَ لِلْحَقِّ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ» فَكَانَ يَغْضَبُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ. (وَوَجْهُ إفْسَادِهِ الْإِيمَانَ) الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَصْدُرُ عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يُوجِبُ الْكُفْرَ) إذْ عِنْدَهُ يَزُولُ الْعَقْلُ، وَلِذَا أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَهُ. (وَالثَّانِي) مِنْ آفَاتِ التَّهَوُّرِ (خَوْفُ الْمُكَافَأَةِ) أَيْ الْمُجَازَاةِ لَهُ عَلَى تَهَوُّرِهِ (مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْك أَعْظَمُ مِنْ قُدْرَتِك عَلَى هَذَا الْإِنْسَانِ) وَكَذَا ذَنْبُك أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِهِ عَلَيْك (فَلَوْ أَمْضَيْت غَضَبَك عَلَيْهِ) وَعَلِمْت بِمُقْتَضَاهُ (لَمْ تَأْمَنْ مِنْ أَنْ يُمْضِيَ اللَّهُ غَضَبَهُ عَلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ) حِينَ اشْتَدَّ احْتِيَاجُك إلَى الْعَفْوِ وَقَدْ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْكُتُبِ يَا ابْنَ آدَمَ اُذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرُك حِينَ أَغْضَبُ فَلَا أَمْحَقُك فِيمَنْ أَمْحَقُ» . (وَالثَّالِثُ حُصُولُ الْعَدَاوَةِ) بَيْنَك وَبَيْنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ (فَيَتَشَمَّرُ) يَجْتَهِدُ (الْعَدُوُّ لِمُقَابَلَتِك وَالسَّعْيِ فِي هَدْمِ أَغْرَاضِك وَالشَّمَاتَةِ بِمَصَائِبِك) أَيْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِمَا أَصَابَك مِنْ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ وَأَنْتَ لَا تَخْلُو عَنْ الْمَصَائِبِ فَخَفْ أَنْتَ عَوَاقِبَ الْغَضَبِ فِي الدُّنْيَا إنْ كُنْت لَا تَخَافُ فِي الْآخِرَةِ (فَيُشَوِّشُ) ذَلِكَ الْعَدُوُّ (عَلَيْك مَعَاشَك) بِمَا يُخْشَى مِنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِ مَعَك (وَمَعَادَك) أَيْ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ (فَلَا تَتَفَرَّغُ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ) وَمَا يَعْنِيك فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ مَحْرُومًا مِنْ الثَّوَابِ وَمُعَرَّضًا لِلْعِقَابِ. (وَالرَّابِعُ قُبْحُ صُورَتِك عِنْدَ الْغَضَبِ) وَقُبْحُ بَاطِنِك أَعْظَمُ مِنْ قُبْحِ ظَاهِرِك فَإِنَّ الظَّاهِرَ عِنْوَانُ الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا قَبُحَتْ صُورَةُ الْبَاطِنِ أَوَّلًا ثُمَّ انْتَشَرَ قُبْحُهَا إلَى الظَّاهِرِ فَتَغَيُّرُ الظَّاهِرِ ثَمَرَةُ تَغَيُّرِ الْبَاطِنِ فَقِسْ الْمُثْمِرَ عَلَى الثَّمَرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تُنْبِئُ عَنْ الشَّجَرَةِ (وَمُشَابَهَتُك لِلْكَلْبِ الضَّارِي) الْمُجْتَرِئِ عَلَى أَذَى النَّاسِ الْحَرِيصِ عَلَى الْعَضِّ الْمُعْتَادِ لَهُ (وَالسَّبُعِ الْعَادِي) مِنْ الْعَدَاوَةِ. (وَأَمَّا فَوَائِدُ كَظْمِ الْغَيْظِ) وَهُوَ الثَّانِي مِنْ طُرُقِ الْعِلَاجِ (فَسَبْعَةٌ) قِيلَ الْأَوْلَى فَسَبْعٌ لَعَلَّهُ لِلْمُطَابَقَةِ لِلْفَائِدَةِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الثَّانِي أَوْ الْعِلَاجِ نَعَمْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَسَبْعٌ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ (الْأَوَّلُ اعْتِدَادُ الْجَنَّةِ لَهُ) بِجَعْلِ صَاحِبِهِ مُعَدًّا وَمُهَيِّئًا لِلْجَنَّةِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] أَيْ الْمُمْسِكِينَ غَيْظَهُمْ مَعَ الْقُدْرَةِ لِمُجَرَّدِ رِضَاهُ تَعَالَى مِنْ كَظَمْت الْقِرْبَةَ إذَا مَلَأْتهَا وَشَدَدْت رَأْسَهَا

آخِرُهُ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] أَيْ التَّارِكِينَ عُقُوبَةَ مَنْ اسْتَحَقُّوا عُقُوبَتَهُ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَؤُلَاءِ قَلِيلٌ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانُوا كَثِيرًا فِي الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إنَّمَا هِيَ بِمُلَاحَظَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَعْنِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 133 - 134]- الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ مَيْمُونٍ أَنَّ جَارِيَتَهُ جَاءَتْ بِمَرَقَةٍ فَعَثَرَتْ فَصَبَّتْ الْمَرَقَةَ عَلَيْهِ فَأَرَادَ مَيْمُونٌ أَنْ يَضْرِبَهَا، فَقَالَتْ يَا مَوْلَايَ اسْتَعْمِلْ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] قَالَ فَعَلْت، فَقَالَتْ اعْمَلْ بِمَا بَعْدَهُ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] قَالَ عَفَوْت، فَقَالَتْ الْجَارِيَةُ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] قَالَ مَيْمُونٌ أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَفِي نَحْوِ هَذَا قَالَ الشَّاعِرُ إذَا اعْتَذَرَ الصَّدِيقُ إلَيْك عُذْرًا ... تَجَاوَزْ عَنْ مَعَاصِيهِ الْكَثِيرَهْ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى حَدِيثًا ... بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُغِيرَهْ بِأَنْ قَالَ الرَّسُولُ يَقْبَلُ رَبِّي ... بِعُذْرٍ وَاحِدٍ أَلْفَيْ خَطِيرَهْ لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْكَظْمِ لَا يَكُونُ مُعَدًّا لِلْجَنَّةِ بَلْ بِانْضِمَامِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَعْنِي الْعَفْوَ وَالْإِنْفَاقَ إذْ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ وَخَاصٌّ بِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِعْدَادِ مُطْلَقُهُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى مَا فِيهِ مَدْخَلٌ سِيَّمَا بِالْجُزْئِيَّةِ وَحَمْلُ الْوَاوَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَوْ صَرْفٌ عَنْ الظَّاهِرِ، وَالنُّصُوصُ عِنْدَنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ بِلَا صَارِفٍ قَطْعِيٍّ. (وَالثَّانِي) مِنْ الْفَوَائِدِ (التَّخْيِيرُ فِي الْحُورِ الْعِينِ) فِي الْبَهَاءِ وَالْحُسْنِ وَيَحْتَمِلُ فِي الْمِقْدَارِ وَالْعَدَدِ (د) أَبُو دَاوُد (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا» أَيْ أَمْسَكَ وَكَفَّ عَنْ إمْضَائِهِ «وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَهُ» أَيْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ «دَعَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ» ؛ لِأَنَّهُ قَهَرَ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ فِي مِثْلِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ وَالْمُجَازَاةِ بِالْإِسَاءَةِ، وَلِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ آدَابِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمِنْ ثَمَّةَ «خَدَمَ أَنَسٌ الْمُصْطَفَى عَشْرَ سِنِينَ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ فِي شَيْءٍ فَعَلَهُ لِمَ فَعَلْته وَلَا فِي شَيْءٍ تَرَكَهُ لِمَ تَرَكْته» «حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» فَيَخْتَارُ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ تَدَبَّرْ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ «حَتَّى يُزَوِّجَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» وَفِيهِ أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إنْفَاذِهِ زَوَّجَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحُورِ الْعِينِ. يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ تَرَكَ ثَوْبَ جَمَالٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى لُبْسِهِ كَسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى رِدَاءَ الْإِيمَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ أَنْكَحَ عَبْدًا وَضَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِهِ تَاجَ الْمُلْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» كَذَا فِي الْفَيْضِ. (وَالثَّالِثُ دَفْعُ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى) (طس) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ دَفَعَ غَضَبَهُ» حَالَ الِاسْتِطَاعَةِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ «دَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَذَابَهُ» مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى كَظْمِ غَيْظِهِ وَقَهْرِ نَفْسِهِ قَالَ فِي الْفَيْضِ ضَعَّفَهُ الْمُنْذِرِيُّ. وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ عَبْدُ السَّلَامِ وَهُوَ ضَعِيفٌ دَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ دَفْعُ الْغَضَبِ عَيْنَ كَظْمِ الْغَيْظِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لَهُ. (وَالرَّابِعُ عِظَمُ الْأَجْرِ) (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ» مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّنْفِيذِ شَبَّهَ جَرْعَ غَيْظِهِ وَرَدَّهُ إلَى بَاطِنِهِ بِتَجَرُّعِ الْمَاءِ وَهِيَ أَحَبُّ جَرْعَةً يَتَجَرَّعُهَا الْعَبْدُ وَأَعْظَمُهَا ثَوَابًا وَأَرْفَعُهَا

دَرَجَةً لِحَبْسِ نَفْسِهِ عَنْ التَّشَفِّي وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْعِظَمُ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ وَبِكَفِّ غَضَبِهِ لِلَّهِ تَعَالَى (ابْتِغَاءُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى) . (وَالْخَامِسُ حِفْظُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ) مِنْ الْمِحَنِ وَالْخِزْيِ وَالْبَلْوَى فِي الدُّنْيَا وَمِنْ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. (وَالسَّادِسُ رَحْمَتُهُ لَهُ وَالسَّابِعُ مَحَبَّتُهُ إيَّاهُ) دَلِيلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا خَرَّجَ (حك) الْحَاكِمُ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ» خِصَالٍ «مَنْ كُنَّ فِيهِ» أَيْ وُجِدْنَ بِإِيجَادِهِ تَعَالَى «آوَاهُ» أَسْكَنَهُ «اللَّهُ تَعَالَى فِي كَنَفِهِ» بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى الْجَانِبِ أَيْ أَدْخَلَهُ فِي حِمَايَتِهِ وَحِفْظِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ «وَسَتَرَ عَلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي مَحَبَّتِهِ» جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَحِبَّائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ «مَنْ إذَا أُعْطِيَ» لَهُ نِعْمَةً «شَكَرَ» بِلِسَانِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ أَوْ بِأَرْكَانِهِ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ «وَإِذَا قَدَرَ» عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى غَضَبِهِ أَوْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَأَسَاءَ إلَيْهِ «غَفَرَ» أَيْ عَفَا كَمَا فِي حَدِيثِ «وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَك» «وَإِذَا غَضِبَ فَتَرَ» مِنْ الْفُتُورِ وَالضَّعْفِ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِزَالَةِ هَذِهِ السَّبْعُ عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّفِ وَإِلَّا فَمِنْ فَوَائِدِهِ مِلْءُ الْجَوْفِ بِالْإِيمَانِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إيمَانًا وَمَلَأَ الْقَلْبَ بِالْأَمْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» وَسَتَرَ الْعَوْرَةَ كَمَا فِيهِ أَيْضًا «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ» . وَالْأَجْمَلِيَّةُ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَأَجْمَلُكُمْ مَنْ غَفَرَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَمَلَأَ الْقَلْبَ بِالرِّضَا» كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا» وَتَقْوَى اللَّه تَعَالَى فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ اتَّقَى اللَّهَ لَمْ يَتَشَفَّ غَيْظَهُ وَمَنْ خَافَ اللَّهَ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُرِيدُ. قَالَ الْمُحَشِّي هُنَا اعْلَمْ أَنَّ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ الْحِلْمُ أَيْ عَدَمُ الْغَضَبِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِهِ ثُمَّ الْعَفْوُ مَعَ الْكَظْمِ ثُمَّ الْكَظْمُ بِدُونِ الْعَفْوِ أَيْ عَدَمُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْغَضَبِ فِي الْحَالِ بَلْ بَعْدَ سَاعَةٍ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ انْتَهَى. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ الْحِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ أَغْنِنِي بِالْعِلْمِ وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى وَجَمِّلْنِي بِالْعَافِيَةِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «ابْتَغُوا الرِّفْقَ عِنْدَ اللَّهِ قَالُوا وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تَصِلُ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِي مَنْ مَنَعَك وَتَحْلُمُ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْك» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ لِيُدْرِكَ بِالْحِلْمِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَعَنْ عَطَاءٍ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا أَيْ حِلْمًا وَعَنْ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَكَهْلًا أَيْ مُنْتَهَى الْحِلْمِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ مَرُّوا كِرَامًا أَيْ إذَا أُوذُوا صَفَحُوا وَفِي حَدِيثِ أَبُو عَبَّاسٍ «ثَلَاثٌ مَنْ لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فِيهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ تَقْوَى تَحْجُرُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَحِلْمٌ يَكُفُّ بِهِ السَّفِيهَ وَخُلُقٌ يَعِيشُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ» وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَهْلُ الْفَضْلِ فَيَقُومُ نَاسٌ يَسِيرُونَ فَيَنْطَلِقُونَ سِرَاعًا إلَى الْجَنَّةِ فَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَتَقُولُ لَهُمْ مَا لَنَا نَرَاكُمْ سِرَاعًا فَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ الْفَضْلِ فَيَقُولُونَ مَا كَانَ فَضْلُكُمْ فَيَقُولُونَ كُنَّا إذَا ظُلِمْنَا صَبَرْنَا وَإِذَا أُسِيءَ إلَيْنَا غَفَرْنَا وَإِذَا جُهِلَ عَلَيْنَا حَلُمْنَا فَيَقُولُونَ لَهُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ أَوَّلَ مَا عُوِّضَ الْحَلِيمُ عَنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَعْوَانُهُ عَلَى الْجَاهِلِ وَقَالَ أَنَسٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] إلَى قَوْلِهِ {عَظِيمٍ} [فصلت: 35]- قَالَ هُوَ الَّذِي يَشْتُمُهُ أَخُوهُ فَيَقُولُ لَهُ إنْ كُنْت كَاذِبًا غَفَرَ اللَّهُ لَك وَإِنْ كُنْت صَادِقًا غَفَرَ اللَّهُ لِي وَسَبَّ رَجُلٌ ابْنِ عَبَّاسٍ

قَالَ هَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ فَتَقْضِيَهَا فَنَكَسَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ وَاسْتَحْيَا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ سَبَّهُ رَجُلٌ فَرَمَى إلَيْهِ قَمِيصَهُ وَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَرَّ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالُوا لَهُ شَرًّا، فَقَالَهُمْ خَيْرًا فَقِيلَ لَهُ إنَّهُمْ يَقُولُونَ شَرًّا وَأَنْتَ تَقُولُ خَيْرًا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ يُنْفِقُ مِمَّا عِنْدَهُ. وَفِي الْحِلْمِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ السُّرُورُ فِي نَفْسِهِ وَالْمَحْمَدَةُ عِنْدَ النَّاسِ وَالثَّوَابُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (هَذِهِ الْفَوَائِدُ) السَّبْعُ لِكَظْمِ الْغَيْظِ (لِمُجَرَّدِ الْكَظْمِ) بِلَا انْضِمَامِ الْعَفْوِ (وَأَمَّا إذَا عَفَا مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْكَظْمِ (فَأَكْثَرُ) فَوَائِدَ (وَأَعْظَمُ) عَوَائِدَ لَا يَخْفَى أَنَّ إطْلَاقَهُ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ يَظْهَرُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآيَةِ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى كَمَا فِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ فَتَأَمَّلْ. وَبِمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ «إنَّ أَفْضَلَ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك وَتُحْسِنَ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْك» وَغَيْرِهِ (فَإِنَّك إذَا عَفَوْت مَعَ عَجْزِك) لَيْسَ هَذَا الْعَجْزُ مَا يُقَابِلُ عَفْوَ الْقَادِرِ كَمَا سَبَقَ بَلْ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُؤَثِّرِ الْحَقِيقِيِّ (وَاحْتِيَاجِك) هَذَا إنَّمَا يَظْهَرُ فِي عَفْوِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ وَالْعَرْضِيَّةُ فَلَا إلَّا بِتَحَمُّلٍ وَاتِّسَاعٍ (فَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ يَعْفُوَ) عَنْك (مَعَ قُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ هَذِهِ الْأَكْثَرِيَّةُ وَالْأَعْظَمِيَّةُ بِتَطْبِيقِ أَدِلَّةِ الْعَفْوِ وَالْكَظْمِ بَلْ الْأَكْثَرِيَّةُ فِي جَانِبِ الْكَظْمِ كَمَا يَظْهَرُ بِالرُّجُوعِ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَطْلَبِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا هُوَ بِالنَّقْلِ لَا بِالرَّأْيِ وَالْعَقْلِ فَإِنَّ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ إثْبَاتَ الْمَطْلَبِ النَّقْلِيِّ بِالْعَقْلِ كَالْعَكْسِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَقِيَاسِ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ إجْرَاءُ هَذَا الدَّلِيلِ فِي كَظْمِ الْغَيْطِ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ. فِي أَدِلَّةِ الْعَفْوِ ثُبُوتًا وَدَلَالَةً حَقَّ التَّأَمُّلِ حَتَّى تَظْهَرَ حَقِيقَةُ مَطْلُوبِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِغَرَضِ الْمُصَنِّفِ فَافْهَمْ (وَيَدُلُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْعَظَمِ (قَوْله تَعَالَى - {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] هَذَا كَمَا تَرَى فَافْهَمْ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهَا فَضَائِلُ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَالْأَوَّلُ أَيْضًا أَنْ يُكْتَفَى بِمَا قَبْلَ قَوْلِهِ فَإِنَّك إذَا عَفَوْت إذْ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْعَفْوُ مَعَ الْكَظْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَظْمِ وَالدَّلِيلُ كَمَا تَرَى. (الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي الْعِلَاجِ الْعَمَلِيِّ) لِلْغَضَبِ (بَعْدَ الْهَيَجَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ. الْأَوَّلُ التَّوَضُّؤُ) (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ» مِنْ وَسْوَسَتِهِ «وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ» كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] وَقَالَ - {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]- وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ الْجَانِّ. وَعَنْ وَهْبٍ تَزَوَّجَ مَارِجٌ مَارِجَةً فَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْجِنُّ فَمِنْهُ تَفَرَّعَ قَبَائِلُ الْجِنِّ وَمِنْهُمْ إبْلِيسُ فَتَكْثُرُوا عَدَدَ الرَّمْلِ وَكَذَا تَكْثُرُ أَوْلَادُ إبْلِيسَ إلَى أَنْ امْتَلَأَتْ الْأَقْطَارُ فَأُسْكِنَ الْجَانُّ فِي الْهَوَاءِ وَإِبْلِيسُ مَعَ أَوْلَادِهِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَأَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَافْتَخَرَتْ السَّمَاءُ بِرِفْعَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْعِبَادِ فَشَكَتْ الْأَرْضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهَا بِأَنَّى خَالِقٌ مِنْك صُورَةً أَرْزُقُهَا الْعَقْلَ وَالْعِلْمَ وَاللِّسَانَ، وَأُنْزِلَ إلَيْهَا الْقُرْآنُ فَاسْتَقَرَّتْ الْأَرْضُ فَهِيَ حِينَئِذٍ بَيَاضٌ كَالْفِضَّةِ فَأُنْزِلَ الْجَانُّ عَلَى الْأَرْضِ لِطَلَبِهَا بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ فَنَزَلُوا دَهْرًا طَوِيلًا ثُمَّ أُخِذُوا بِالْمَعَاصِي وَاسْتَغَاثَتْ الْأَرْضُ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهَا أَنْ اُسْكُتِي فَأَنَا بَاعِثٌ إلَيْهِمْ رُسُلًا فَبَعَثَ اللَّهُ ثَمَانِمِائَةِ نَبِيٍّ مِنْ الْجِنِّ فِي ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ فَقَتَلُوا الْكُلَّ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إبْلِيسَ وَأَنْزَلَهُ مَعَ الْجِنِّ فَتَقَاتَلُوا مَعَ الْجَانِّ فَهَرَبُوا إلَى بُقْعَةٍ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ سَكَنَ إبْلِيسُ فِي الْأَرْضِ وَعَبَدَ اللَّهَ إلَى أَنْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَكَانَ ذَا مَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ ثُمَّ اُبْتُلِيَ مِنْ كِبْرِهِ وَعُجْبِهِ بِمَا اُبْتُلِيَ الْعِيَاذُ بِهِ تَعَالَى. «وَإِنَّمَا تُطْفَأُ» أَيْ تَخْمَدُ «النَّارُ بِالْمَاءِ» ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهَا؛ لِأَنَّ طَبْعَ النَّارِ حَارٌّ

يَابِسٌ وَالْمَاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ «فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» قِيلَ نَدْبًا مُؤَكِّدًا وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَصَوَّرَ حَالَةَ الْغَضَبِ وَمَنْشَأَهُ ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى تَسْكِينِهِ فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ هَذَا الْمَخْرَجَ لِيَكُونَ أَجْمَعَ وَأَنْفَعَ وَلِلْمَوَانِعِ أَزْجَرَ وَأَرْدَعَ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ لَا يَمْنَعُ مِنْ إجْرَائِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ الْغَضَبِ وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مَنْ اُسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ وَمَنْ اُسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ فَهُوَ شَيْطَانٌ جَبَّارٌ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْغَضَبِ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَمَعْنَاهَا غَلَيَانُ دَمِهِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ فَمَنْ فَرَّطَ فِيهَا حَتَّى انْعَدَمَ الْعَقْلُ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ ضَعُفَ أَوْ أَفْرَطَ حَتَّى جَاوَزَ حَدَّهَا الشَّرْعِيَّ ذُمَّ ذَمًّا شَدِيدًا وَمَحَلُّ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ الْأَوَّلُ وَالْحَدِيثُ الثَّانِي وَسَبَبُ ذَمِّ الْأَوَّلِ اسْتِلْزَامُهُ انْعِدَامَ الْغَيْرَةِ وَالْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ مِمَّا يُؤْنَفُ مِنْهُ. (وَالثَّانِي الْجُلُوسُ) إنْ كَانَ قَائِمًا (وَالِاضْطِجَاعُ) إنْ قَاعِدًا (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ) قَالَ (قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ» نَدْبًا «فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ» فَذَاكَ أَوْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ «وَإِلَّا» فَإِنْ اسْتَمَرَّ «فَلْيَضْطَجِعْ» عَلَى جَنْبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ مُتَأَهِّبٌ لِلِانْتِقَامِ وَالْقَاعِدَ دُونَهُ وَالْمُضْطَجِعَ دُونَهُمَا، وَالْقَصْدُ أَنْ يَبْعُدَ مِنْ هَيْئَةِ الْوُثُوبِ وَالْمُبَادَرَةِ لِلْبَطْشِ مَا أَمْكَنَ حَسْبَمَا لِمَادَّةِ الْمُبَادَرَةِ وَحَمَلَ الطِّيبِيُّ الِاضْطِجَاعَ عَلَى التَّوَاضُعِ وَالْخَفْضِ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ مَنْشَؤُهُ الْكِبْرُ صُرِفَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْغَضَبُ لِلَّهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ الدِّينِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ فِي الْحَقِّ فَبِالْغَضَبِ قُوتِلَ الْكُفَّارُ وَأُقِيمَتْ الْحُدُودُ وَذَهَبَتْ الرَّحْمَةُ عَنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ الْقُلُوبِ. (وَالثَّالِثُ الِاسْتِعَاذَةُ. خ م. عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «اسْتَبَّ» أَيْ تَسَابَّا «رَجُلَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَبَيْنَمَا يَسُبُّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مُغْضَبًا» بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ «قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ» حَالٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَدَاخِلَةٌ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً» الْمُرَادُ كَلِمَةُ التَّعَوُّذِ الْآتِي «وَلَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ» مِنْ الْغَضَبِ وَبَيَّنَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ بِقَوْلِهِ «وَلَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ» وَفِيهِ دَلَالَةُ أَنَّ الْغَضَبَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ يَسْكُنُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا غَضِبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ سَكَنَ غَضَبُهُ. قَالَ شَارِحُهُ لِمَا يَأْتِي أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ أَيْ مِنْ إغْوَائِهِ وَوَسْوَسَتِهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ أَقْوَى سِلَاحِ الْمُؤْمِنِ عَلَى دَفْعِ كَيْدِ اللَّعِينِ إبْلِيسَ وَمَكْرِهِ وَإِذَا تَأَمَّلَ مَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ وَهُوَ الِالْتِجَاءُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِصَامُ بِهِ وَضَمَّ لَهُ التَّفْكِيرَ فِيمَا وَرَدَ فِي كَظْمِهِ وَثَوَابِهِ وَاسْتِحْضَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْظَمُ قُدْرَةً مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ سَكَنَ غَضَبُهُ لَا مَحَالَةَ قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ وَسِيلَةُ الْمُقَرَّبِينَ وَاعْتِصَامُ الْخَائِفِينَ وَمُبَاسَطَةُ الْمُحِبِّينَ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (وَالرَّابِعُ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ) لِدَفْعِهِ (سِنِي) ابْنُ السُّنِّيِّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -)

وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَنَا غَضْبَى» عَلَى وَزْنِ عَطْشَى «فَأَخَذَ بِطَرَفِ الْمِفْصَلِ» بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ «مِنْ أَنْفِي فَفَرَكَهُ» أَيْ دَلَكَهُ «ثُمَّ قَالَ يَا عُوَيْشُ» تَصْغِيرُ عَائِشَةَ تَصْغِيرُ تَرْخِيمٍ لِلتَّعَطُّفِ «قُولِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي وَآجِرْنِي» خَلِّصْنِي «مِنْ الشَّيْطَانِ» . (الْمَقَامُ الرَّابِعُ فِي الْعِلَاجِ الْقَلَعِيِّ وَهُوَ بِإِزَالَةِ السَّبَبِ وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى الْجَاهِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْعُجْبِ وَصَاحِبُ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ) الْأَدْوَاءِ (يَغْضَبُ بِأَدْنَى شَيْءٍ يُوهِمُ نَقْصًا فِيهِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (مِمَّا لَا يَغْضَبُ بِهِ غَيْرُهُ عَادَةً) وَيَغْضَبُ بِأَدْنَى شَيْءٍ لِكَمَالِهِ وَعَدَمِ النَّقْصِ فِيهِ (وَعِلَاجُهَا) أَيْ عِلَاجُ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الثَّلَاثَةِ (سَبَقَ وَالْمِزَاحُ) بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْعُجْبِ أَوْ الْحِرْصِ (وَالْهَزْلُ) ضِدُّ الْجِدِّ (وَالْهُزُؤُ) أَيْ السُّخْرِيَةُ (وَالتَّعْيِيرُ) أَيْ التَّعَيُّبُ وَالتَّوْبِيخُ (وَالْمُمَارَاةُ) أَيْ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ (وَالْمُضَادَّةُ) أَيْ الْمُخَالَفَةُ وَالْمُعَانَدَةُ (وَالظُّلْمُ) أَيْ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ (بِالْقَوْلِ كَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالشَّتْمِ أَوْ) الظُّلْمِ (بِالْفِعْلِ كَالضَّرْبِ وَأَخْذِ الْمَالِ) ظُلْمًا وَعُدْوَانًا (وَمَنْعُ حَقِّهِ) بِوَجْهٍ مَا (وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُورِثُ الْغَضَبَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ فَعَلَيْك الِاجْتِنَابَ مِنْهَا) ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا خُلُقٌ مَذْمُومٌ فِي نَفْسِهَا مَعَ أَنَّهَا سَبَبٌ لِلْغَضَبِ وَبَعْضُهَا وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ مُؤَدٍّ إلَيْهِ فَيَكُونُ مَذْمُومًا بِاعْتِبَارِهِ (إلَّا أَنْ يُتَيَقَّنَ تَحَمُّلُهُ وَحِلْمُهُ فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ التَّحَمُّلِ وَالْحِلْمِ. (بِمَا حَلَّ مِنْهَا قَلِيلًا) مِثْلُ الْمِزَاحِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَلِيلِ الْمُمَازَحَةِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَيَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا هَذَا فِيمَا إذَا صَدَرَتْ مِنْك لِغَيْرِك (وَأَمَّا إذَا صَدَرَتْ) هَذِهِ الْأُمُورُ (مِنْ غَيْرِك فِيك فَعَلَيْك الْحِلْمُ وَالْعَفْوُ) لِمَا سَبَقَ (فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ) عَلَى الْحِلْمِ وَالْعَفْوِ لِكَوْنِ طَبْعِك بِخِلَافِهِ (فَعَلَيْك الصَّبْرُ وَالْكَظْمُ) فِي الْحَالِ (وَالِانْتِصَارُ) بَعْدَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ بِقَدْرِ الظُّلَامَةِ (وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِمَا) أَيْ الْكَظْمِ وَالصَّبْرِ (فَلَا تَذْهَبْ وَلَا تَجْلِسْ فِي مَظَانِّهَا) أَيْ مَكَان يُظَنُّ فِيهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ (فَإِنْ وَقَعْتَ) أَنْتَ فِيهَا (بَغْتَةً) فَجْأَةً (فَفِرَّ) مِنْهَا (فِرَارَك) أَيْ مِثْلَ فِرَارِك (مِنْ الْأَسَدِ) فَإِنَّ ضَرَرَهَا أَشَدُّ مِنْهُ (وَأَحْوَالُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) فِي تَفْسِيرِهَا وَأَحْكَامِهَا فِي الشَّرْعِ (سَتَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي آفَاتِ اللِّسَانِ. (وَمِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِ الْغَضَبِ) وَالتَّهَوُّرِ (عِنْدَ الْجَاهِلِ) ظَرْفُ الْبَوَاعِثِ (تَسْمِيَتُهُمْ إيَّاهُ) الْغَضَبَ وَالتَّهَوُّرَ (شَجَاعَةً وَرُجُولِيَّةً وَعِزَّةَ نَفْسٍ وَكِبَرَ هِمَّةٍ وَغَيْرَةً وَحَمِيَّةً) أَيْ تَلْقِيبُهُ بِالْأَلْقَابِ الْمَحْمُودَةِ غَبَاوَةً وَجَهْلًا (حَتَّى تَمِيلَ النَّفْسُ إلَيْهِ وَتَسْتَحْسِنُهُ) وَتَتَشَوَّقُ إلَى تَحْصِيلِهِ ظَنًّا مِنْهَا أَنَّهُ أَمْرٌ مَحْمُودٌ فِي نَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ التَّسْمِيَةِ (وَقَدْ يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ)

أَيْ مَيْلُ النَّفْسِ (بِحِكَايَةِ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنْ الْأَكَابِرِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ) بِالشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهَا (وَالنَّفْسُ مَائِلَةٌ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْأَكَابِرِ) فَيَهِيجُ الْغَضَبُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِهِ (وَهَذَا) الْمَذْكُورُ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمَدْحِ بِشِدَّةِ الْغَضَبِ (خَطَأٌ وَجَهْلٌ بَلْ هُوَ مَرَضُ قَلْبٍ وَنُقْصَانُ عَقْلٍ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ أَسْرَعُ غَضَبًا مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ وَالشَّيْخُ مِنْ الْكَهْلِ) لِضَعْفِ قُوَاهُ وَالْكَهْلُ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ يَبْلُغُ ثَلَاثِينَ إلَى خَمْسِينَ فَشَيْخٌ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ. (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ) الْمَعْرُوفُ مَا عُرِفَ شَرْعًا مِنْ وَاجِبٍ وَنَدْبٍ وَالْمُنْكَرُ حَرَامٌ وَمَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا (خُصُوصًا إذَا كَانَ بِالْحِدَّةِ وَالْعُنْفِ وَعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّارِعِ وَ) خُصُوصًا (فِي الْمَلَأِ) فُسِّرَ بِأَكَابِرِ الْقَوْمِ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ جَهْرًا فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ (فَيَظُنُّ الْمُخَاطَبُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ لَا) مِنْ عِنْدِ (الشَّارِعِ وَأَنَّهُ) أَيْ الْآمِرَ (يُرِيدُ بِهِ) بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ (اللَّمْزَ وَالطَّعْنَ لَا النُّصْحَ فَيَغْضَبُ لِجَهْلِهِ) بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ الْعَالِمُ يَعْرِفُهُ وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ إلَى الشَّارِعِ وَيَعْرِفُ أَنَّهُ النُّصْحُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِي حَقِّهِ فَلَا غَضَبَ (وَعِلَاجُهُ) عِلَاجُ هَذَا السَّبَبِ وَالْبَاعِثِ (التَّكَلُّمُ بِاللِّينِ وَالرِّفْقِ) وَهُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْحِسْبَةِ. قِيلَ وَعَظَ الْمَأْمُونُ وَاعِظٌ فَعَنَّفَ، فَقَالَ يَا رَجُلُ أَرْفِقْ فَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك إلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي فَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ، فَقَالَ تَعَالَى {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] الْآيَةَ. وَفِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خَرَجَا إلَى الصَّحْرَاءِ فَرَأَيَا شَيْخًا يَتَوَضَّأُ وَلَا يُحْسِنُ الْوُضُوءَ، فَقَالَا مَعَ أَنْفُسِهِمَا إنَّهُ شَيْخٌ فَكَيْفَ نَقُولُ لَهُ إنَّك لَا تَعْلَمُ الْوُضُوءَ لَعَلَّهُ يَغْضَبُ فَاتَّفَقَا أَنْ يَجِيئَا إلَيْهِ فَيُعَلِّمَاهُ الْوُضُوءَ فَدَنَوْا مِنْهُ وَقَالَا يَا شَيْخُ اُنْظُرْ إلَيْنَا أَيُّنَا أَحْسَنُ عِلْمًا بِالْوُضُوءِ فَتَوَضَّآ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِمَا، فَقَالَ إنَّكُمَا تُحْسِنَانِ الْوُضُوءَ وَلَكِنَّنِي لَا أُحْسِنُهُ فَتَعَلَّمْت مِنْكُمَا هَذَا لِلْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْ الْآمِرِ وَإِنْ وَكَانَ مِثْلَهُ فَيُشْفِقُ وَيَرْفُقُ بِهِ ثُمَّ يَأْمُرُهُ وَإِنْ أَصْغَرَ يُضَيِّفُهُ وَيُحْسِنُ إلَيْهِ ثُمَّ يَأْمُرُهُ حُكِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَضَافَ مِائَتَيْ مَجُوسِيٍّ فَلَمَّا أَكَلُوا الطَّعَامَ قَالُوا لَهُ مَا تَأْمُرُنَا يَا إبْرَاهِيمُ قَالَ إنَّ لِي إلَيْكُمْ حَاجَةً، فَقَالُوا مَا حَاجَتُك، فَقَالَ اُسْجُدُوا لِرَبِّي مَرَّةً وَاحِدَةً فَتَشَاوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا إنَّ هَذَا الرَّجُلَ اصْطَنَعَ مَعْرُوفًا كَثِيرًا فَلَوْ سَجَدْنَا لِرَبِّهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ رَجَعْنَا إلَى آلِهَتِنَا لَا تَضُرُّ تِلْكَ السَّجْدَةُ فَسَجَدُوا جَمِيعًا فَلَمَّا وَضَعُوا رُءُوسَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ نَاجَى رَبَّهُ، فَقَالَ رَبِّ إنِّي جَهَدْت جَهْدِي حَتَّى حَمَلْتهمْ عَلَى هَذَا وَلَا طَاقَةَ لِي فَوْقَ هَذَا، وَإِنَّمَا التَّوْفِيقُ بِيَدِك اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَأَسْلَمُوا جَمِيعًا (وَالْإِضَافَةُ إلَى الشَّارِعِ وَفِي السِّرِّ إنْ أَمْكَنَ) بِأَنْ عَزَمَ عَلَى فِعْلٍ مُنْكَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا إذَا بَاشَرَ بِالْفِعْلِ فَلَا يُمْكِنُ التَّكَلُّمُ حِينَئِذٍ سِرًّا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّكَلُّمِ جَهْرًا بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ قَالَ فِي النِّصَابِ يَنْبَغِي لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْمُرَ فِي السِّرِّ إنْ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَقَدْ شَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ فِي السِّرِّ فَقَدْ زَانَهُ وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْهُ الْمَوْعِظَةُ فِي السِّرِّ يَأْمُرُهُ بِالْعَلَانِيَةِ (وَتَعَلُّمُ الشَّرَائِعِ) عَطْفٌ عَلَى التَّكَلُّمِ لِيَزُولَ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ (وَأَمَّا إذَا غَضِبَ مَعَ الْعِلْمِ) بِالشَّرَائِعِ (فَمِنْ الرِّيَاءِ أَوْ الْكِبْرِ أَوْ الْعُجْبِ وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (الظَّنُّ الْخَطَأُ) لِعَدَمِ مُطَابَقَته لِلْوَاقِعِ

(وَعَدَمُ فَهْمِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ) مِنْ كَلَامِهِ بِأَنْ يُرِيدَ مِنْ كَلَامِهِ مَعْنًى مَجَازِيًّا وَهُوَ يَفْهَمُ الْحَقِيقَةَ لِخَفَاءِ قَرِينَتِهِ أَوْ مَعْنًى حَقِيقِيًّا وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الْمَجَازِيِّ أَوْ مُشْتَرَكٌ بِتَزَاحُمِ الْمَعَانِي (فَعَلَى الْمُتَكَلِّمِ التَّبْيِينُ وَالتَّفْسِيرُ) بِشَرَائِطِ التَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ ابْتِدَاءً بِكَلَامٍ يُوهِمُ الْمُخَاطَبَ غَيْرَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِجْمَالِ فِي كَلَامِهِ) الظَّاهِرُ لَيْسَ مَا فِي مُصْطَلَحِ الْأُصُولِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمُشْكِلِ وَالْخَفِيِّ بَلْ مَا يَشْمَلُ الْكُلَّ بَلْ الْمُشْتَرَكُ أَيْضًا وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَلَا يَقَعُ فِي كَلَامِ غَيْرِ الشَّارِعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِبَاسِ أَوْ بِلَفْظِ آيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ شَامِلَةٍ لِلْمُتَشَابِهِ كَمَا فِي كَلِّمْ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ وَاتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ فِي كَلَامِهِ (وَاحْتِمَالُ الْأَذَى) مِنْ جَانِبِ الْمُخَاطَبِ قَالَ فِي الشِّرْعَةِ وَشَرَائِطُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ثَلَاثَةٌ صِحَّةُ النِّيَّةِ مِنْ إعْلَاءِ كَلِمَةِ الدِّينِ وَكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ الْحُجَّةِ، وَالثَّالِثُ الصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ. قَالَ فِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ وَيَجِبُ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: رِفْقٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]- فَإِنَّ الْغِلْظَةَ لَا تَزِيدُ إلَّا فَسَادًا، وَحِلْمٌ فِي ذَلِكَ عَمَّا يُقَالُ لَهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَفِقْهٌ لِئَلَّا يَصِيرَ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ مُنْكَرًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَ أَصْحَابَهُ فِيمَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ كَمَا سَأَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَمُجَانَبَةُ التَّجَسُّسِ وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَعُسُّ لَيْلَةً مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَاطَّلَعَ مِنْ خَلَلِ بَابٍ فَإِذَا شَيْخٌ بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَابٌ وَقَيْنَةٌ تُغَنِّيهِ فَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَا أَقْبَحُ شَيْخًا مِثْلَك يَكُونُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ فَقَامَ إلَيْهِ الرَّجُلُ وَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْشُدُك اللَّهَ إلَّا مَا أَنْصَفْتنِي حَتَّى أَتَكَلَّمَ قَالَ قُلْ قَالَ إنْ كُنْت عَصَيْت اللَّهَ وَاحِدَةً فَقَدْ عَصَيْت أَنْتَ فِي ثَلَاثٍ قَالَ مَا هُنَّ قَالَ تَجَسَّسْت وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] وَتَسَوَّرْت وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] إلَى {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]- وَدَخَلْت بِغَيْرِ إذْنٍ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَدَقْت فَهَلْ أَنْتَ عَافٍ لِي، فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَك فَخَرَجَ عُمَرُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ وَيْلٌ لِعُمَرَ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ يَجِدُ الرَّجُلَ يَخْتَفِي بِهَذَا عَنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَالْآنَ يَقُولُ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَتَجَسَّسَ وَلَا يَتَسَوَّرَ وَلَا يَدْخُلَ بَيْتًا بِلَا إذْنٍ (وَعَلَى السَّامِعِ التَّثَبُّتُ) أَيْ الثَّبَاتُ (وَالتَّأَمُّلُ) فِي الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُجُرَاتِ - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] . أَيْ بِخَبَرٍ كَذِبٍ. {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]- (وَحُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ) فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى وَجْهٍ قَبِيحٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ حَسَنٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَا تَظُنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجْت مِنْ فِي أَخِيك سُوءًا وَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا ثُمَّ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ لَكِنْ قَالَ فِي الْفَيْضِ بِصُلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي حَدِيثٍ حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ وَقَالَ يَعْنِي اعْتِقَادُ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عِبَادَةٌ. وَقَدْ قِيلَ أَسْوَأُ النَّاسِ حَالًا مَنْ لَا يَثِقُ بِأَحَدٍ لِسُوءِ ظَنِّهِ وَلَا يَثِقُ بِهِ أَحَدٌ لِسُوءِ فِعْلِهِ وَقَدْ بَلَغَ حُسْنُ الظَّنِّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ إلَى أَنْ يَجِدَ الْجَلَّادَ الَّذِي يَضْرِبُ الرِّقَابَ وَيُعَذِّبُ أَخَفَّ حِسَابًا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَ إلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ (وَإِنْ اشْتَبَهَ) مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ يَعْنِي يَجْتَهِدُ أَوَّلًا لِتَأْوِيلِ كَلَامِهِ بِمَحْمَلٍ حَسَنٍ وَلَوْ بِاحْتِمَالٍ ضَعِيفٍ أَوْ قَلِيلٍ مِنْ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ أَوْ حَقِيقَةٍ مُقَابَلَةِ مَجَازٍ مَشْهُورٍ وَنَحْوِهَا (فَعَلَيْهِ الِاسْتِفْسَارُ) أَيْ يَسْأَلُهُ عَنْ مُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ (لَا الْعَجَلَةُ وَسُوءُ الظَّنِّ) فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ فَلَعَلَّ لَهُ مَحْمَلًا صَحِيحًا وَأَنْتَ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ قَالَ فِي الدُّرَرِ وَالْبَزَّازِيَّةِ إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ الْإِكْفَارَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ يَمِيلُ الْعَالِمُ إلَى مَا يَمْنَعُهُ وَلَا يُرَجَّحُ الْوُجُوهُ عَلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ. وَفِي نَحْوِ هَذَا قَالَ الشَّاعِرُ وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ... وَآفَتُهُ مِنْ الْفَهْمِ السَّقِيمِ قَالَ فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ إنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ فِي الْقَلْبِ سُوءُ الظَّنِّ وَهُوَ حَرَامٌ لِآيَةِ - {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]- الْآيَةَ وَلِحَدِيثِ «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» وَفِي الْإِحْيَاءِ وَكَمَا يَجِبُ

عَلَيْكَ السُّكُوتُ بِلِسَانِك عَنْ مَسَاوِيهِ يَجِبُ عَلَيْك بِقَلْبِك بِتَرْكِ إسَاءَةِ الظَّنِّ فَسُوءُ الظَّنِّ غِيبَةُ الْقَلْبِ وَأَمَّا إنْ انْكَشَفَ بِيَقِينٍ وَمُشَاهَدَةٍ فَلَا يُمْكِنُك أَنْ تَحْمِلَ بِمَحْمَلٍ حَسَنٍ فَعَلَيْك أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى سَهْوٍ وَنِسْيَانٍ وَخَطَأٍ مَا أَمْكَنَ. (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ الْأَشَدِّ الْمَذْكُورِ (الْفِعْلُ الضَّارُّ الصَّادِرُ خَطَأً كَمَنْ يَرْمِي إلَى صَيْدٍ فَيَقَعُ إلَى إنْسَانٍ أَوْ مَالِهِ فَيَتْلَفُ) ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَوْ مَالُهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْخَطَأُ بَاعِثًا شَدِيدًا إلَى الْغَضَبِ وَالْغَضَبُ وَصْفٌ (فَعَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْطِئِ (التَّثَبُّتُ وَالِاحْتِيَاطُ) فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْ الْخَطَأِ (وَعَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْعَفْوُ) فَإِنَّ الْعَفْوَ أَفْضَلُ كَمَا مَرَّ (وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) عَلَى الْعَفْوِ يَشْكُلُ أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالِامْتِنَاعِ وَلَوْ بِالْغَيْرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَفْوَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ بَلْ هُوَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مُطْلَقًا (فَالتَّضْمِينُ) مَا أَتْلَفَهُ نَفْسًا أَوْ مَالًا (عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ) بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَأَنَّ الْجَرِيمَةَ عَلَى قَدْرِ الْجُرْمِ (لَا التَّهَوُّرُ) وَالْغَضَبُ. (وَمِنْهُ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الدُّنْيَا (فَإِنَّ الرَّجُلَ) الْفَقِيرَ (قَدْ يَسْأَلُ مِنْ غَنِيٍّ شَيْئًا) مِنْ أَمْتِعَةِ الدُّنْيَا (فَلَا يُعْطِيهِ) ذَلِكَ الْغَنِيُّ (فَيَغْضَبَانِ) أَيْ السَّائِلُ وَالْمَسْئُولُ أَمَّا السَّائِلُ فَلِمَنْعِهِ وَأَمَّا الْمَسْئُولُ فَلِسُؤَالِ السَّائِلِ مَا هُوَ شَقِيقُ نَفْسِهِ وَرُوحِهِ أَوْ لِغَضَبِ السَّائِلِ (وَسَيَجِيءُ عِلَاجُهُ) أَيْ عِلَاجُ حُبِّ الدُّنْيَا (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ غَضَبُهُ) غَضَبُ السَّائِلِ (لِمُجَرَّدِ رَدِّ كَلَامِهِ وَعَدَمِ إجَابَتِهِ) لَا لِكَوْنِ الْغَنِيِّ مَانِعًا لِلْمَالِ عَنْهُ (فَمِنْ التَّكَبُّرِ أَوْ الْعُجْبِ) لَا مِنْ الْمَحَبَّةِ (كَمَنْ يَغْضَبُ عِنْدَ رَدِّ شَفَاعَتِهِ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ) كَالشَّفَاعَةِ لِلتَّصَدُّقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ (أَوْ حَرَامٍ) كَالشَّفَاعَةِ لِأَجْلِ عَمَلِ الْفِسْقِ وَأَمَّا الْغَضَبُ لِرَدِّ شَفَاعَتِهِ فِي أَمْرٍ وَاجِبٍ كَالشَّفَاعَةِ فِي إعْطَاءِ الْمَدْيُونِ دَيْنَهُ لِلدَّائِنِ فَإِنَّ لِمُجَرَّدِ رَدِّ كَلَامِهِ فَمِنْ التَّكَبُّرِ أَوْ الْعُجْبِ وَأَنَّ لِفِعْلِهِ أَمْرًا مُنْكَرًا وَتَرْكُهُ وَاجِبًا فَغَضَبٌ فِي اللَّهِ.

(وَمِنْهُ) مِنْ أَشَدّ بَوَاعِث الْغَضَب (الْغَدْرُ وَهُوَ نَقْضُ الْعَهْد) قِيلَ الْعَهْدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ جَانِبٍ فَوَعْدٌ وَنَقْضُهُ خُلْفُ وَعْدٍ (وَالْمِيثَاقِ) كَعَطْفِ تَفْسِيرٍ أَوْ مَا يَكُونُ عَلَى التَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَثَاقَةِ (بِلَا إيذَانٍ) أَيْ بِلَا إعْلَامٍ بِالنَّقْضِ مَثَلًا إذَا عَاهَدَ الْإِمَامُ مَعَ الْكُفَّارِ وَرَأَى نَقْضَ الْعَهْدِ خَيْرًا لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِيذَانِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعُهُودِ (وَهُوَ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) (م) مُسْلِمٌ (عَنْ) أَبِي سَعِيدٍ (الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ» وَهُوَ الْعَلَمُ دُونَ الرَّايَةِ وَالْجَمْعُ أَوْلَوِيَّةٌ كَذَا عَنْ الْمِصْبَاحِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ لِوَاءٌ لِإِظْهَارِ غَدْرِهِ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَزِيدُ عَذَابُهُ بِالْفَضَاحَةِ وَالْمَلُومِيَّةِ وَقِيلَ الْغَادِرُ الَّذِي يَقُولُ قَوْلًا وَلَا يَفِي فَشَمِلَ مَنْ لَمْ يَفِ إذَا نَذَرَ وَبِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ «عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قِيلَ وَالِاسْتُ الْعَجُزُ وَيُرَادُ بِهِ حَلْقَةُ الدُّبُرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللِّوَاءُ مُمْسِكًا لَهُ مِنْ عِنْدِ دُبُرِهِ بِيَدِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ إشَارَةً إلَى إدْبَارِهِ وَتَنْكِيسِ حَالِهِ وَقَبِيحِ أَمْرِهِ وَقِيلَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُلْصَقُ بِهِ وَيُدْنَى مِنْهُ دُنُوًّا لَا يَكُونُ مَعَهُ اشْتِبَاهٌ لِيَزْدَادَ فَضِيحَةً وَتَضَاعُفَ اسْتِهَانَةٍ. وَعَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ يُرِيدُ الشُّهْرَةَ بِهِ وَهِيَ عَظِيمَةٌ فِي النُّفُوسِ كَبِيرَةٌ عَلَى الْقُلُوبِ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ وُجُودِهَا مِنْ الْأَلَمِ فِي النُّفُوسِ مَا شَاءَ عَلَى قَدْرِهَا إنَّمَا كَانَ عِنْدَ اسْتِهِ لِتَكُونَ الصُّورَتَانِ مَكْشُوفَتَيْنِ الظَّاهِرَةُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْبَاطِنَةُ فِي الْخُلُقِ انْتَهَى «يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ» فَمَنْ عَظُمَ غَدْرُهُ رُفِعَ لِوَاؤُهُ أَكْثَرَ وَمَنْ كَانَ غَدْرُهُ أَدْنَى رُفِعَ لِوَاؤُهُ كَذَلِكَ وَقِيلَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاء عَلَامَةٌ يُشْهَرُ بِهَا فِي النَّاسِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ اللِّوَاءِ الشُّهْرَةُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمَ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ أَمَّنَهُ رَجُلٌ عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ لِوَاءَ غَدْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (وَهُوَ حَرَامٌ) لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ مِنْ التَّقْبِيحِ وَالتَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ بِالْوَعِيدِ سِيَّمَا مِنْ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ غَدْرِهِ مُتَعَدٍّ وَقِيلَ نَهَى الرَّعِيَّةُ الْإِمَامَ عَنْ الْغَدْرِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِ لَكِنْ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ خَفَاءٌ وَإِنْ كَانَ دَلَالَةُ الْمَتْنِ قَطْعِيَّةً إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْحُرْمَةِ الْكَرَاهَةُ فَتَأَمَّلْ. (وَضِدُّهُ وَاجِبٌ) وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ

(وَهُوَ حِفْظُ الْعَهْدِ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى نَقْضِهِ) أَيْ إبْطَالِ الْعَهْدِ (وَجَبَ إيذَانُهُ) أَيْ إعْلَامُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أَيْ اطْرَحْ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ لِئَلَّا يَكُونُوا عَلَى تَوَهُّمِ بَقَاءِ الْعَهْدِ فَيَكُونَ خِيَانَةً {اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] تَعْلِيلٌ لِنَبْذِ الْعَهْدِ وَعَدَمِ مُفَاجَأَةِ الْقِتَالِ بِلَا إعْلَامٍ. قِيلَ هُنَا وَمِنْ حِفْظِ الْعُهُودِ الْوَاجِبَةِ حِفْظُ عُهُودِ الْمَشَايِخِ فَمَنْ عَاهَدَ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ اللَّهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَهْدِهِ. وَفِي الْفَيْضِ إذَا ظَهَرَ لِلْمُرِيدِ أَنَّ الشَّيْخَ الْآخَرَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ لَا كَمَا لَا يَكُونُ الْمُكَلَّفُ بَيْنَ رَسُولَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الشَّرَائِعِ وَالْمَرْأَةُ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُرِيدَ تَرْبِيَةٍ فَإِنْ كَانَ مُرِيدَ صُحْبَةِ الْبَرَكَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ حُكْمِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ يَنْبَغِي لِمَنْ يَخْدُمُ كَبِيرًا كَامِلًا ثُمَّ فَقَدَهُ أَنْ لَا يَصْحَبَ إلَّا مَنْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَإِلَّا جَعَلَ صُحْبَتَهُ مَعَ اللَّهِ كَمَا قِيلَ كُنْ مَعَ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ كُنْ مَعَ مَنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] لَعَلَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ إذْنِ الشَّيْخِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ عُهُودِ الْمَشَايِخِ بِمُتَارَكَتِهِمْ وَإِيذَائِهِ إلَيْهِمْ بَلْ إلَى مَنْ يُنْسَب إلَيْهِمْ وَتَحْرِيكُ خَاطِرِهِ بِسُوءٍ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا فَإِنَّهُ غَدْرٌ. (وَمِنْهُ) مِنْ أَشَدِّ الْبَوَاعِثِ (الْخِيَانَةُ وَهُوَ) أَيْ الْخِيَانَةُ قِيلَ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الدَّاءِ وَالْأَوْجَهُ بِمَعْنَى فِعْلِ الْخِيَانَةِ بَلْ بِمَعْنَى السَّبَبِ مِنْ أَسْبَابِ الْغَضَبِ وَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ. (الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (وَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ) كَالْغَدْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ كَمَا فِي حَدِيثِ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إلَى أَنْ قَالَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ (وَضِدُّهُ) أَيْ ضِدُّ هَذَا الْأَمْرِ (وَهُوَ الْأَمَانَةُ وَاجِبٌ) كَمَا فِي حَدِيثِ «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» (حَدّ) أَحْمَدُ (ز) الْبَزَّارُ (طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَنَسِ) بْنِ مَالِكٍ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَلَّمَا» قِيلَ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةُ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ مَا الدَّاخِلَةُ كَافَّةً عَنْ الْعَمَلِ فَيَكُونُ لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ. أَقُولُ الْمَقَامُ يَقْتَضِي النَّفْيَ لَكِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى النَّفْيِ ثُمَّ هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ وَمَا كَافَّةٌ عَنْ طَلَبِ الْفَاعِلِ فَلَا فَاعِلَ لَهُ وَكَذَا طَالَ وَكَثُرَ نَحْوُ قَلَّمَا يَبْرَحُ زَيْدٌ وَطَالَمَا صَحِبْتُك وَكَثُرَ مَا قُلْت كَذَا. «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا قَالَ لَا إيمَانَ» كَامِلٌ لَا نَفْيَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إلَّا بِأَنْ يُرَادَ الِاسْتِحْلَالُ «لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مَنْ أَمَّنَهُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَمَنْ خَانَ وَجَارَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ «وَلَا دِينَ» هُوَ الْخُضُوعُ لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ وَأَمَانَتِهِ وَالْعَهْدِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يَوْمَ إقْرَارِهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ «لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» قِيلَ عَنْ التَّيْسِيرِ هَذَا وَأَمْثَالُهُ وَعِيدٌ لَا يُرَادُ بِهِ الْوُقُوعُ بَلْ الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ وَنَفْيُ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ قَالَ الْحَكِيمُ وَالْعَهْدُ هُوَ تَذْكِرَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ فَنَسِيَهُ الْأَعْدَاءُ وَحَفِظَهُ الْمُوَحِّدُونَ لَكِنْ يَعْتَرِيهِمْ الْغَفْلَةُ فَأَوْفَرُهُمْ حَظًّا مِنْ الْحِفْظِ أَوْفَرُهُمْ حَظًّا مِنْ الذِّكْرِ انْتَهَى قَالَ الْمُظْهِرُ هَذَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ. وَأَمَّا الْإِمَامُ إذَا غَدَرَ مَعَ الْحَرْبِيِّ لِمَصْلَحَةٍ فَجَائِزٌ. أَقُولُ إطْلَاقُهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ كَمَا مَرَّ قَالَ الطِّيبِيُّ فِي الْحَدِيثِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ لِمَفْهُومٍ وَاحِدٍ فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَخَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِمَعْنًى. وَجَوَابُهُ أَنَّهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَا لَفْظًا فَقَدْ اتَّفَقَا هُنَا مَعْنًى فَإِنَّ الْأَمَانَةَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّكْلِيفَاتِ فَلَازِمُ الْوُجُودِ كَالْأَمَانَةِ فِي لُزُومِ الْأَدَاءِ وَأَنَّ مَعَ الْخَلْقَ فَظَاهِرٌ وَالْعَهْدُ أَنَّ مَعَ اللَّهِ فَاثْنَانِ مَا أَخَذَهُ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِي الْأَزَلِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَمَا أَخَذَهُ عِنْدَ هُبُوطِ آدَمَ مِنْ

مُتَابَعَةِ هَدْيِ اللَّهِ بِالِاعْتِصَامِ بِكِتَابِهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رُسُلِهِ وَأَنَّ مَعَ الْخَلْقِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ تَرْجِعُ الْأَمَانَةُ وَالْعَهْدُ إلَى طَاعَتِهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ حُقُوقِهِ فَكَأَنَّهُ لَا إيمَانَ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا يَفِي بِعَهْدِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ مِيثَاقِهِ وَلَا يُؤَدِّي أَمَانَتَهُ بَعْدَ حَمْلِهَا وَهِيَ التَّكَالِيفُ انْتَهَى مُوجَزًا - ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الْهَيْثَمِيِّ ضَعْفُ الْحَدِيثِ لَكِنَّ الْغَيْرَ وَثَّقَهُ وَفِي الْجَامِعِ «لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا طَهُورَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا صَلَاةَ لَهُ وَمَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ كَمَوْضِعِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ» (وَتَجْرِي الْأَمَانَةُ وَالْخِيَانَةُ فِي الْقَوْلِ أَيْضًا) كَجَرَيَانِهَا فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَشَارُ) الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ الْمَشُورَةُ (مُؤْتَمَنٌ) أَيْ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَلُ مِنْ الْأُمُورِ فَلَا يَكْتُمُ مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْتَشِيرِ فَإِنْ كَتَمَ فَقَدْ ضَرَّهُ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُشِيرَ إلَّا بِمَا يَرَاهُ صَوَابًا فَإِنَّهُ كَالْأَمَانَةِ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ عَلَى إيدَاعِ مَالِهِ إلَّا ثِقَةً وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ مُعْظَمُ الدِّينِ وَهُوَ النُّصْحُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبِهِ يَحْصُلُ التَّحَابُبُ وَالِائْتِلَافُ. وَفِي الْجَامِعِ زِيدَ هُنَا قَوْلُهُ فَإِذَا اُسْتُشِيرَ فَلْيُشِرْ بِمَا هُوَ صَانِعٌ لِنَفْسِهِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ كَمَا تَقَرَّرَ، وَأَقْصَى مُوجِبَاتِ الْبُخْلِ أَنْ لَا يَرَى الْإِنْسَانُ لِأَخِيهِ مَا يَرَاهُ لِنَفْسِهِ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وَفِيهِ إيمَاءٌ بِطَلَبِ الِاسْتِشَارَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَقِيلَ الْمُشَاوَرَةُ حِصْنٌ مِنْ النَّدَامَةِ وَأَمْنٌ وَسَلَامَةٌ وَنِعْمَ الْعَوْنُ الْمُشَاوَرَةَ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ بَعْضُ الْكَامِلِينَ يَحْتَاجُ النَّاصِحُ وَالْمُشِيرُ إلَى عِلْمٍ كَبِيرٍ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْعِلْمُ الْعَامُّ الْمُتَضَمِّنُ لِأَحْوَالِ النَّاسِ وَعِلْمِ الزَّمَانِ وَعِلْمِ الْمَكَانِ وَعِلْمِ التَّرْجِيحِ فَيَفْعَلُ بِحَسَبِ الْأَرْجَحِ عِنْدَهُ وَإِذَا عُرِفَ مِنْ أَحْوَالِ إنْسَانِ الْمُخَالَفَةُ وَأَنَّهُ إذَا أَرْشَدَهُ بِشَيْءٍ فَعَلَ ضِدَّهُ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَنْبَغِي، وَهَذَا يُسَمَّى عِلْمَ السِّيَاسَةِ فَلِذَا قَالُوا الْمُشِيرُ وَالنَّاصِحُ يَحْتَاجُ إلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَفِكْرٍ صَحِيحٍ وَرَوِيَّةٍ حَسَنَةٍ وَاعْتِدَالِ مِزَاجٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَأَنٍّ فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ هَذِهِ الْخِصَالَ فَخَطَؤُهُ أَسْرَعُ مِنْ إصَابَتِهِ، كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَوْ عَلَى خِلَافِ عِلْمِهِ كَانَ الْإِثْمُ عَلَى الْمُفْتِي، أَمَّا لَوْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَفْتِي بَلْ إنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ (كَانَ أَثِمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) إذَا كَانَ ثِقَةً فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَغَيْرَ مَطْعُونٍ مِنْ جِهَةِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ أَوْ أَفْتَى بِالْقَوْلِ الْمَهْجُورِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَثِمُ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا إذَا اجْتَهَدَ الثِّقَةُ فَأَخْطَأَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْحَقِّ بَيِّنًا وَلَا عَلَى الْمُسْتَفْتِي بَلْ لِلْعَالِمِ أَجْرُ نَقْلٍ عَنْ الْمَوَاهِبِ لَعَلَّ هَذَا فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ. وَفِي الْجَامِعِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ) قِيلَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْهُ (بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ) أَقُولُ فِي الْجَامِعِ هَذَانِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ لَكِنْ بِالزِّيَادَةِ الْمُشَارَةِ آنِفًا، وَالثَّانِي مِنْ أَفْتَى إلَخْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْمُنَاوِيِّ لَكِنْ لَمْ أَرَهُ فِي الْمُنَاوِيِّ عَلَى شَرْحِ الْجَامِعِ. (وَمِنْهُ) مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (خُلْفُ الْوَعْدِ) إذَا قَدَرَ عَلَى إنْجَازِهِ، وَأَمَّا خُلْفُ الْوَعِيدِ فَقِيلَ كَرَمٌ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْوَعْدِ

الْأَوَّلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالثَّانِي مِنْ جَانِبٍ وَنَقْضُ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَرَامٌ مُطْلَقًا بِلَا إيذَانٍ وَالثَّانِي خُلْفُ وَعْدٍ حَرَامٌ بِنِيَّةِ الْخُلْفِ، لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَمْدٌ وَالْإِنْجَازُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ نَهْيُ مُنْكَرٍ فَبِتَرْكِهِ يُضَاعَفُ الْإِثْمُ وَبِفِعْلِهِ يَرْتَفِعُ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَمَنْ يَفْعَلْ الذَّنْبَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَوَّلِ الْفَسْخُ وَفِي الثَّانِي التَّوْبَةُ فَإِذَا فَسَخَا الْعَقْدَ وَتَابَا ارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَإِلَّا فَيَصِيرُ مُضَاعِفًا إثْمَ نَفْسِ الْعَهْدِ وَالذَّنْبِ وَإِثْمَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمُنْكَرِ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْفَسْخُ وَالتَّوْبَةُ وَجَائِزٌ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ ثُمَّ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ لَيْسَ بِعَمْدٍ حَرَامٌ فَلَا يَلْزَمُ رَفْعُهُ وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ الصِّدْقُ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (وَهُوَ) خُلْفُ الْوَعْدِ. (الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (وَضِدُّهُ إنْجَازُ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]- رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} [الصف: 4] فَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ فَنَزَلَتْ " لِمَ " مُرَكَّبَةً مِنْ لَامَ الْجَرِّ وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّة، وَالْأَكْثَرُ حَذْفُ أَلِفِهَا مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمَا مَعًا وَإِغْنَائِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ (كَبُرَ مَقْتًا) أَشَدَّ الْبُغْضِ نَصَبَهُ لِلتَّمْيِيزِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مَقْتٌ خَالِصٌ كَبِيرٌ عِنْدَ مَنْ يَحْقِرُ دُونَهُ كُلُّ عَظِيمٍ مُبَالَغَةً فِي الْمَنْعِ عَنْهُ (عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا) فَاعِلُ كَبُرَ (مَا تَفْعَلُونَ) (م) مُسْلِمٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آيَةُ» عَلَامَةُ «الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ» قِيلَ لَا يُنَافِي زِيَادَتُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ لَا يَخْفَى أَنَّ مَدَارَ الْإِشْكَالِ مِنْ إضَافَةِ الْآيَةِ إلَى الْمُحَلَّى بِاللَّامِ وَلَا عَهْدَ وَلَا دَلِيلَ لِلْجِنْسِ فَالْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَلَا دَخْلَ فِي الْجَوَابِ لِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ وَعَدَمِهِ فَتَأَمَّلْ. «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى» وَهُمَا مِنْ عِظَامِ مَا بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُمَا الْفَرْضُ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ الْعُمُومَ بِالنَّقْلِ «وَزَعَمَ» اعْتَقَدَ «أَنَّهُ مُسْلِمٌ» يَعْنِي لَا يُفِيدُ عَامَّةُ أَعْمَالِهِ وَاعْتِقَادُ إسْلَامِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ صَاحِبُ هَذِهِ الْخِصَالِ وَلَوْ مَجْمُوعُهَا فَالْمُرَادُ الِاسْتِحْلَالُ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَوْ يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَوْ عَلَى عَدَمِ نَفْعِ الْإِيمَانِ فِي الِانْزِجَارِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ كَمَا قِيلَ أَوْ عَلَى سَلْبِ الْمَدْحِ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَالْفَاسِقُونَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْمُنَافِقِ مُطْلَقُ الْفَاسِقِ عَلَى الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوْ شَبِيهُ الْمُنَافِقِ، وَمِثْلُهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَوْ يَتَجَوَّزُ فِي لَفْظِ الْآيَةِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى الْأَمَارَةِ وَالْأَمَارَةُ مِمَّا يَتَخَلَّفُ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ زَنَى نَزَعَ اللَّهُ نُورَ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ» . وَقِيلَ لَمَّا اسْتَحَالَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ قِيلَ الْمُرَادُ نِفَاقُ الْعَمَلِ كَمَا فِي قَوْلِ حُذَيْفَةَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - هَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ النِّفَاقِ أَيْ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الْفِعْلِيَّةِ. وَقِيلَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ اعْتَادَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ تَهَاوُنًا بِأَمْرِهَا فَيَكُونُ مُنَافِقًا خَالِصًا. وَقِيلَ إنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهَا آيَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي زَمَانِهِ لِاجْتِنَابِ أَصْحَابِهِ عَنْ تِلْكَ الْخِصَالِ وَلَا تُوجَدُ إلَّا فِي الْمُنَافِقِينَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - «إذَا حَدَّثَ» مِمَّا فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا «كَذَبَ» عَمْدًا وَأَمَّا الصُّوَرُ الَّتِي جُوِّزَ فِيهَا الْكَذِبُ فَبِآثَارٍ أُخَرَ فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ «وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى إتْيَانِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ وَسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ مُمْتَنِعٌ

«وَإِذَا اُؤْتُمِنَ» بِالْمَفْعُولِ وُضِعَ عِنْده أَمَانَةٌ أَمْوَالًا وَأَقْوَالًا لَا سِيَّمَا أَسْرَارًا «خَانَ» . خ م. عَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا» أَيْ شَدِيدَ الشَّبَهِ بِالْمُنَافِقِينَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخِصَالِ لِغَلَبَتِهَا عَلَيْهِ وَمَصِيرِهَا خُلُقًا وَعَادَةً وَدَيْدَنًا لَهُ قِيلَ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ أَرْبَعٌ مُبْتَدَأٌ بِتَقْدِيرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ وَإِلَّا فَهُوَ نَكِرَةٌ صِرْفَةٌ وَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرُهُ وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ الشَّرْطِيَّةِ صِفَةً وَإِذَا حَدَّثَ خَبَرُهُ. وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ أَرْبَعٌ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ قَالَ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُجْعَلَ أَرْبَعٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا وَمَنْ مُبْتَدَأُ الْخَبَرِ «وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا» يَتْرُكَهَا. عَنْ ابْنِ حَجَرٍ النِّفَاقُ لُغَةً مُخَالَفَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ فَإِنْ فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ، فَنِفَاقُ الْكُفْرِ وَإِلَّا فَنِفَاقُ الْعَمَلِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ «إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ» أَخْبَرَ عَنْ مَاضِي الْأَحْوَالِ «كَذَبَ» لِتَمْهِيدِ مَعْذِرَتِهِ فِي التَّقْصِيرِ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَلَمْ يَفِ «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» نَقَضَ الْعَهْدَ وَتَرَكَ الْوَفَاءَ بِهِ «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» مَالَ فِي الْخُصُومَةِ عَنْ الْحَقِّ وَقَالَ الْبَاطِلَ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُ هَذَا بِأَبْنَاءِ زَمَانِهِ لِعِلْمِهِ بِنُورِ الْوَحْيِ بَوَاطِنَ أَحْوَالِهِمْ وَمَيْزَ الْمُخْلِصِ وَالْمُنَافِقِ بِمَا يَخُصُّ الْمُنَافِقَ فِي زَمَانِهِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَسْمَائِهِمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ أَوْقَعُ فِي النَّصِيحَةِ وَأَجْلَبُ لِلدَّعْوَةِ وَأَبْعَدُ عَنْ النُّفُورِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ لِلتَّأْكِيدِ فِي الزَّجْرِ إيذَانًا بِأَنَّهَا طَلَائِعُ النِّفَاقِ الَّتِي هِيَ أَسْمَجُ الْقَبَائِحِ فَإِنَّهُ كُفْرٌ مُمَوَّهٌ بِاسْتِهْزَاءٍ وَخِدَاعٍ مَعَ رَبِّ الْأَرْبَابِ فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ بَالَغَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ وَنَعَى عَلَيْهِمْ بِالْخِصَالِ الشَّنِيعَةِ وَمَثَّلَهُمْ بِالْأَمْثَالِ الْقَبِيحَةِ وَجَعَلَهُمْ أَشِدَّاءَ عَلَى الْكُفَّارِ وَأَعَدَّ لَهُمْ الدَّرْكَ الْأَسْفَلَ مِنْ النَّارِ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَوْلَى الْأُمُورِ وَأَحَقُّهَا بِأَنْ يُهَاجَرَ عَنْهَا وَلَا يُؤْتَى مَرَاتِعُهَا فَإِنَّ مَنْ رَتَعَ حَوْلَ حِمَى النِّفَاقِ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَيُحْتَمَلُ إرَادَةُ النِّفَاقِ الْعُرْفِيِّ مِنْ مُخَالَفَةِ السِّرِّ الْعَلَنَ مُطْلَقًا فَيُرَاعِي أُمُورَ الدِّينِ عَلَنًا وَيَتْرُكُ مُحَافَظَتَهَا وَالنِّفَاقُ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّفَقِ وَهُوَ السَّرَبُ الَّذِي لَهُ طَرِيقَانِ وَعَنْ الطِّيبِيِّ أَقْبَحُهَا الْكَذِبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]- وَعَنْ الْغَزَالِيِّ وَالْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ قَبِيحٌ فَإِيَّاكَ وَأَنْ تَعِدَ بِشَيْءٍ إلَّا وَتَفِيَ بِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إحْسَانُك لِلنَّاسِ فِعْلًا بِلَا قَوْلٍ فَإِنْ اُضْطُرِرْت إلَى الْوَعْدِ فَاحْذَرْ أَنْ تُخْلِفَ إلَّا بِعَجْزٍ أَوْ ضَرُورَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ وَخَبَائِثِ الْأَخْلَاقِ (فَالْوَعْدُ بِنِيَّةِ الْخُلْفِ كَذِبٌ عَمْدٌ حَرَامٌ) فَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ كَالْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالتَّوْبَةِ لِلْمُذْنِبِ وَإِذَا وَفَّى ارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَإِلَّا يُضَاعَفُ هَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَالْمَوَانِعِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَسَيَأْتِي جَوَازُ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ مَثَلًا.

(وَأَمَّا بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ فَجَائِزٌ) بَلْ مَطْلُوبٌ إذَا كَانَ فِيهِ إدْخَالُ سُرُورٍ عَلَى الْمُؤْمِنِ (ثُمَّ إنَّهُ) أَيْ الْوَفَاءَ عَلَى تَقْدِيرِ نِيَّتِهِ (لَا يَجِبُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى) وَعِنْدَ غَيْرِ الْأَكْثَرِ وَاجِبٌ كَمَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا مَعَ أَنَّهُ كَذِبٌ لِعَدَمِ تَعَمُّدِهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ آنِفًا كَذِبٌ عَمْدٌ فَمَا لَا عَمْدَ فِيهِ لَا وُجُوبَ فِيهِ (بَلْ يُسْتَحَبُّ فَيَكُونُ خُلْفُهُ) بِعَدَمِ الْوَفَاءِ (مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا) وَنُقِلَ عَنْ الْعَيْنِيِّ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا وَيُكْرَهُ إخْلَافُهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْقِبَ الْوَعْدَ بِالْمَشِيئَةِ لِيَخْرُجَ عَنْ صُورَةِ الْكَذِبِ وَيُسْتَحَبُّ إخْلَافُ الْوَعِيدِ إذَا كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ انْتَهَى وَفِي الْفَتَاوَى الزَّيْنِيَّةِ لِابْنِ نَجِيمٍ عِنْدَ عَدِّ الصَّغَائِرِ وَخُلْفِ الْوَعْدِ قَاصِدًا لَهُ (بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وَعَدَ الرَّجُلُ» أَخَاهُ بِمَا يُسَوَّغُ شَرْعًا «وَنَوَى أَنْ يَفِيَ» لَهُ قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا (فَلَمْ يَفِ بِهِ) قِيلَ لِعُذْرِ مَنْعِهِ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ) لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا لَا تَقْرِيبَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ إنْ لِعُذْرٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْإِتْيَانُ مُسْتَحَبًّا وَلَا الْخُلْفُ مَكْرُوهًا بَلْ قَوْلُهُ فَلَا جُنَاحَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْفِي الْكَرَاهَةَ مُطْلَقًا نَعَمْ قَدْ يَجْتَمِعُ الْجَوَازُ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا تَسْمَعُ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ لَا جُنَاحَ فِي مَعْنَى لَا بَأْسَ، وَمِنْ مَعَانِي لَا بَأْسَ مَا هُوَ تَرْكُهُ أَوْلَى لَكِنَّ هَذَا التَّرْكَ غَيْرُ كَرَاهَةٍ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ شُمُولَ الْكَرَاهَةِ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ خَمْسَةٌ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ لَانْعَدَمَ الْحَصْرُ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَمَّا لَوْ تَخَلَّفَ عَنْ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مُلَامٌ بَلْ الْتَزَمَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ تَأْثِيمَهُ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ وَيُؤَوَّلُ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ حَيْثُ كَانَ الْوَعْدُ لَازِمًا لَهُ بِذَاتِهِ لَا لِلْوَعْدِ وَمَنَعَهُ عُذْرٌ. قَالَ فِي شَرْحِ الرِّعَايَةِ وَالْوَعْدُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ كُلُّ مَا يَدْخُلُ الشَّخْصُ فِيهِ بِسَبَبِ مُوَاعَدَتِك فِي مَضَرَّةٍ أَوْ كُلْفَةٍ وَمِنْهُ مَا لَوْ تَكَلَّفَ طَعَامًا وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ مَوْعِدَك انْتَهَى فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ ت د عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْحَدِيثُ بِهَذَيْنِ الْمَخْرَجَيْنِ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَقَعَ فِي الْجَامِعِ هَكَذَا «إذَا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ وَلَمْ يَجِئْ لِلْمِيعَادِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ» ثُمَّ قَالَ فِي الْفَيْضِ الْحَدِيث غَرِيبٌ وَسَنَدُهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ قَالَ الذَّهَبِيُّ وَفِيهِ أَبُو نُعْمَانَ مَجْهُولٌ كَشَيْخِهِ أَبِي الْوَقَّاصِ. وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ اشْتَمَلَ سَنَدُهُ عَلَى مَجْهُولَيْنِ انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ كَمَا فَهِمْت مِنْ السَّابِق (وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ تَبِعَهُ الْوَفَاءُ وَاجِبٌ) فَتَارِكُهُ آثِمٌ (وَالْخُلْفُ) بِلَا عُذْرٍ (حَرَامٌ مُطْلَقًا) عَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ لَا (فَفِيهِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ وَآيَةُ النِّفَاقِ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْخِلَافَ مِنْ غَيْرِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ هُنَا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الْفَتْوَى إلَّا أَنْ يُرَادَ طَرِيقُ التَّقْوَى كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَشَأْنُ السَّالِكِ) إلَى اللَّهِ (الِاجْتِنَابُ مِنْ الْخِلَافِ) فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ خِلَافَ كُلِّ الْأَئِمَّةِ، إذْ خِلَافُ غَيْرِ مَنْ قَلَّدَهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ خَطِئَ فِي اعْتِقَادِهِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ كَقَوْلِنَا إنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَمَذْهَبَ غَيْرِهِ خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ، وَالْمُتَوَرِّعُ التَّقِيُّ يَحْتَرِزُ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ مَهْمَا قَدَرَ لَكِنَّ قَوْلَهُ وَآيَةُ النِّفَاقِ يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ وَلَوْ ظَنًّا فَافْهَمْ (وَالْأَخْذُ بِالْوِفَاقِ) . قَالَ الْبِسْطَامِيُّ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ وَيَجِبُ عَلَى الصُّوفِيِّ أَنْ يُحَصِّلَ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَصِحُّ بِهِ عَمَلُهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ عَلَى الِاتِّفَاقِ

بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَالصُّوفِيُّ إذَا كَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ مَثَلًا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطُ فِي أَمْرِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ وَسَائِرِ عِبَادَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَإِنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ الْجَمْعُ يَأْخُذُوا بِالْأَحْوَطِ وَالْأَوْلَى، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْك إنْ لَمْ تَتَوَضَّأْ فِي الْقُلَّتَيْنِ وَأَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْك إذَا تَوَضَّأْت لِمَسِّ الذَّكَرِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يُحِبَّ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَيَدْعُوَا بِالْخَيْرِ لِجَمِيعِهِمْ وَلَا يَتَعَصَّبَ أَصْلًا. وَأَمَّا الرُّخَصُ فَيَجِبُ تَرْكُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ اتِّفَاقًا انْتَهَى هَذَا فِي التَّقْوَى فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخَصِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَتْوَى جَائِزٌ، أَمَّا فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ وَمَحَبَّتُهُ الرُّخَصَ فَمَحْمُولٌ عَلَى تَعْلِيمِ الشَّرِيعَةِ أَوْ قَبْلَ إعْلَامِ لُزُومِ الْعَزِيمَةِ. قِيلَ قَالَ الْفُقَهَاءُ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ مَا لَمْ يَشْتَدَّ ضَعْفُ مُدْرِكِهِ أَوْ يُصَادِمُ سُنَّةً صَحِيحَةً أَوْ يُوقِعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ فِي خِلَافٍ آخَرَ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وَفِيهِ أَيْضًا «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» وَفِيهِ أَيْضًا «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ» . (وَمِنْهُ) مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (التَّكَلُّمُ وَعَرْضُ الْحَاجَةِ لِمَشْغُولٍ بِمُهِمٍّ أَوْ مَهْمُومٍ) لِأَمْرٍ مُسْتَقِلٍّ (أَوْ مَغْمُومٍ) لِمَا فَاتَهُ فِي الْمَاضِي (أَوْ مَحْزُونٍ) لِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ فِي الْحَالِ (وَمِنْهُ مَا صَدَرَ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ حَيَوَانٍ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ كَبُكَاءٍ كَثِيرٍ) لِلصَّبِيِّ (وَشَتْمٍ) مِنْ الْمَجْنُونِ (وَعِثَارٍ) مِنْ الْحَيَوَانِ (فَيَغْضَبُ) مِنْهُ (وَرُبَّمَا يَشْتُمُ وَيَلْعَنُ وَيَضْرِبُ) يَجُوزُ ضَرْبُ الْحَيَوَانِ إلَّا وَجْهَهُ (وَهَذَا) النَّوْعُ (مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْغَضَبِ وَمَنْشَؤُهُ خُبْثُ الطَّبْعِ) وَرَدَاءَةُ النَّفْسِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَمَّلُ أَذَاهُمْ وَيَتَمَشَّى عَلَى هَوَاهُمْ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَوَجَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِبُكَائِهِ» فَإِنَّهُ أَوْجَزَ صَلَاتَهُ وَلَمْ يَغْضَبْ وَإِنْ اشْتَغَلَ قَلْبُهُ بِهِ (وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا) الْغَضَبِ (مَنْ يَغْضَبُ عَلَى جَمَادٍ) كَحَجَرٍ وَشَجَرٍ (بِسُقُوطِهِ) عَلَيْهِ (أَوْ عَدَمِ قَرَارِهِ) فِي مَكَانِهِ عِنْدَ الْوَضْعِ فَمَا رُوِيَ مِنْ غَضَبِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى حَجَرٍ وَضَعَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ فَفَرَّ الْحَجَرُ مَعَ الثَّوْبِ عِنْدَ إرَادَةِ أَخْذِهِ الثَّوْبَ. فَقِيلَ؛ لِأَنَّ الْحَجَرَ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ الْعُقَلَاءِ (أَوْ عَدَمِ انْقِطَاعِهِ أَوْ) عَدَمِ (انْكِسَارِهِ أَوْ نَحْوِهِ فَيَغْضَبُ) لِتَخَلُّفِهِ عَنْ مُرَادِهِ (وَيَشْتُمُ بَلْ رُبَّمَا يَضْرِبُهُ وَيُتْلِفُهُ) كَالْكَسْرِ وَالْإِحْرَاقِ وَالْبَيْعِ فَيَدْخُلُ فِي الْمُبَذِّرِينَ (مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا شُعُورَ وَلَا تَأَذِّي) مِنْ ضَرْبِهِ وَشَتْمِهِ (وَ) غَضِبَ (مَنْ يَغْضَبُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ كَالْعِثَارِ) فِي الْمَشْيِ (وَعَدَمِ إحْسَانِ شَيْءٍ) مِنْ أَعْمَالِهِ مِمَّا أَرَادَهُ (فَيَسُبُّ نَفْسَهُ وَيَلْعَنُهُ وَيَضْرِبُهُ) وَرُبَّمَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ أَوْ يُلْقِيهَا مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ (بِخِلَافِ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى نَفْسِهِ بِعِصْيَانِهِ لِلَّهِ تَعَالَى) بِتَرْكِ أَوَامِرِهِ وَارْتِكَابِ مَنَاهِيهِ (أَوْ كَسَلِهِ) عَنْ بَعْضِ الطَّاعَاتِ (أَوْ تَرْكِهِ بَعْضَ النَّوَافِلِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهِ أُمُورًا شَاقَّةً) حَتَّى يَنْقَادَ لِمَا دُونَهَا وَالْأَوْلَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا وَلَعَلَّهُ مِنْ النَّاسِخِ (وَرُبَّمَا يَحْلِفُ أَوْ يَنْذُرُ) بِالْأُمُورِ الشَّاقَّةِ كَالنَّذْرِ بِالصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ التَّصَدُّقِ (وَهَذَا حَسَنٌ وَغَيْرَةٌ) حَمِيَّةٌ (دِينِيَّةٌ) يُثَابُ بِهَا (وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا) الْمَذْكُورِ

(كُلِّهِ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ أَوْ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سُنَّتِهِ) ؛ لِأَنَّ هَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ (وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا) الْغَضَبُ (بَعْدَ الْغَضَبِ عَلَى شَيْءٍ وَ) بَعْدَ (قَوْلِ غَيْرِهِ لَهُ هَذَا أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَهْيُهُ أَوْ سُنَّةُ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَيَغْضَبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَبِيبِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَكْفُرُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ وَيَكُونُ قَوْلُ الْغَيْرِ وَقُودًا لِغَضَبِهِ حَتَّى يُوقِعَهُ فِي أَشَدِّ الْمَهَالِكِ. (فَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَضَبُ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ) الظَّاهِرُ مِنْ الْغَضَبِ الِاسْتِغْرَاقُ فَيَقْتَضِي أَنْ يُفْسِدَ كُلُّ غَضَبٍ الْإِيمَانَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ فَلِذَا إشَارَةٌ إلَى الْغَضَبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْفَاءِ وَلَوْ أُرِيدَ الْعَهْدُ لَزِمَ إثْبَاتُ الْقَرِينَةِ وَهِيَ صَعْبَةٌ وَلَوْ أُوِّلَ فَسَادُ الْإِيمَانِ لَاضْمَحَلَّ الِاسْتِدْلَال إلَّا أَنْ يُرَادَ عُمُومُ الْمَجَازِ (فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا) وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا (وَأَمَّا الْغَضَبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ فَمَحْمُودٌ، لِأَنَّهُ غَضَبٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى وَحَمِيَّةٌ لِلدِّينِ) صِيَانَةً (وَلَكِنْ بِشَرْطِ الِاعْتِدَالِ وَعَدَمِ تَجَاوُزِ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْقَوْلِ كَيَا كَافِرُ وَيَا مُنَافِقُ وَيَا زَانِي وَيَا لُوطِيُّ وَيَا سَارِقُ فَإِنَّ كُلَّهَا) أَيْ كُلَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ (حَرَامٌ فَيَكُونُ تَهَوُّرًا) خُرُوجًا عَنْ حَدِّ الشَّرْعِ، وَلِذَا يَجِبُ التَّعْزِيرُ وَلَوْ أَتَى مُتَأَوِّلًا، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ التَّعْزِيرُ لَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ (بَلْ يُكْتَفَى بِنَحْوِ يَا جَاهِلُ) ، لِأَنَّهُ إمَّا جَاهِلٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ عَالِمٌ لَمْ يَتَمَشَّ عَلَى نَهْجِ عِلْمِهِ وَالْعَالِمُ الْغَيْرُ الْعَامِلِ مُلْحَقٌ بِالْجَاهِلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] (وَيَا أَحْمَقُ) أَيْ نَاقِصَ الْعَقْلِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَحْمَقَ لَمْ يَقْرَبْ الْمُنْكَرَ (إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ) كَالْمُعَانَدَةِ وَالْإِصْرَارِ فِي الْإِظْهَارِ. فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْتِيَ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الِابْتِدَاءِ بَلْ يَرْفُقُ وَيَلِينُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ» كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ وَيَنْبَغِي اللِّينُ وَالشَّفَقَةُ وَلَا يَكُونُ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ - {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44]- وَوَعَظَ الْمَأْمُونُ الْخَلِيفَةَ وَاعِظٌ بِعُنْفٍ، فَقَالَ يَا رَجُلُ اُرْفُقْ فَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْك إلَى شَرٍّ مِنِّي فَأَمَرَ بِالرِّفْقِ، فَقَالَ {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] فَيَعِظُ بِرِفْقِ وَلِينٍ لَا بِعُنْفٍ وَتَرَفُّعٍ فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ دَاعِيَةَ الْمَعْصِيَةِ وَيَحْمِلُ الْعَاصِي عَلَى الْمُقَابَلَةِ وَالْإِيذَاءِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا رَفِيقٌ فِيمَا يَأْمُرُهُ رَفِيقٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَلِيمٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ (وَفِي الْفِعْلِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَوْلِ (كَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ) لَعَلَّ التَّجَاوُزَ فِي الشِّدَّةِ لَا فِي أَصْلِ الضَّرْبِ كَمَا فِي حَدِيثِ «إذَا رَأَيْتُمْ مُنْكَرًا فَلْتُغَيِّرُوا بِيَدِكُمْ» الْحَدِيثَ. قَالَ فِي النِّصَاب قَدْ يَكُونُ التَّعْزِيرُ بِالصَّفْحِ وَبِتَعْرِيكِ الْأُذُنِ وَبِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ وَبِالضَّرْبِ وَبِأَخْذِ الْمَالِ وَفِي الْفَتَاوَى يُقِيمُ التَّعْزِيرَ كُلُّ أَحَدٍ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ وَمَنْ حُدَّ أَوْ عُزِّرَ فَمَاتَ هُدِرَ دَمُهُ وَيَكُونُ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً وَبِهَدْمِ بَيْتِهِ وَبِالنَّفْيِ عَنْ الْبَلَدِ عَلَى حَسَبِ جِنَايَتِهِ وَرَأْيِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي (وَالْجَارِحِ وَالْمُتْلِفِ بَلْ يُكْتَفَى) فِي الْغَضَبِ بِالْفِعْلِ (بِنَحْوِ الْجَذْبِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ) الَّتِي غَضِبَ لِأَجْلِهَا (إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ بِدُونِ الضَّرْبِ) الشَّدِيدِ فَيَأْتِي بِهِ لِلضَّرُورَةِ (فَيَقْتَصِرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ)

وَلَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. (وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُحْتَسِبِينَ) أَيْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لِلِاحْتِسَابِ ذَلِكَ (يُخْطِئُونَ فِي هَذَا) فَيَضْرِبُونَ فَوْقَ حَاجَةِ الضَّرْبِ (فَيُفَرِّطُونَ) يَتَجَاوَزُونَ الْحَدَّ (فِي الْحِسْبَةِ) هُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَشْرُوعٍ وَفِي الْعُرْفِ اُخْتُصَّ بِأُمُورٍ كَإِرَاقَةِ الْخُمُورِ وَكَسْرِ الْمَعَازِفِ وَإِصْلَاحِ الشَّوَارِعِ وَالتَّفْصِيلِ فِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ (فَلَا يَفِي خَيْرُهُمْ) فِي الِاحْتِسَابِ (شَرَّهُمْ) كَالضَّرْبِ بِغَيْرِ مُبِيحٍ شَرْعِيٍّ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ. وَفِي النِّصَابِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَعُسُّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَاطَّلَعَ مِنْ خَلَلِ بَابٍ فَإِذَا شَيْخٌ بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَابٌ وَمُغَنِّيَةٌ تُغَنِّيهِ فَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَا أَقْبَحَ شَيْخًا مِثْلَك، فَقَالَ الرَّجُلُ إنْ عَصَيْت وَاحِدَةً فَقَدْ عَصَيْت فِي ثَلَاثٍ تَجَسَّسْت وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]- وَتَسَوَّرْت وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وَدَخَلْت بِغَيْرِ إذْنٍ وَقَالَ {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] ، فَقَالَ عُمَرُ صَدَقْت فَهَلْ أَنْتَ غَافِرٌ لِي، فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَك فَخَرَجَ عُمَرُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ وَيْلٌ لِعُمَرَ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَفِي آخِرِ شَرْحِ الْعَضُدِ لِلْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ وَقَعَتْ الْقِصَّةُ بِنَحْوٍ آخَرَ. (الْمَقَامُ الْخَامِسُ) مِنْ مَقَامَاتِ الْغَضَبِ (فِي الْحِلْمِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ كَظْمَ الْغَيْظِ (تَحَلُّمٌ) تَكَلُّفٌ لِلْحِلْمِ (بَعْدَ هَيَجَانِ الْغَضَبِ مُحْتَاجٌ إلَى مُجَاهِدَةٍ كَثِيرَةٍ) لِقِيَامِ الْغَضَبِ وَلَكِنْ إذَا تَعَوَّدَ ذَلِكَ مُدَّةً صَارَ ذَلِكَ اعْتِيَادًا فَلَا يَكُونُ فِي كَظْمِهِ تَعَبٌ، وَهَذَا طَرِيقُ اكْتِسَابِ الْحِلْمِ كَمَا سَيَجِيءُ (وَالْحِلْمُ) وَهُوَ (عَدَمُ الْهَيَجَانِ) عِنْدَ وُجُودِ مُحَرِّكَاتِ الْغَضَبِ (وَهُوَ) أَيْ الْحِلْمُ (دَالٌّ عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ) لِعَدَمِ غَضَبِهِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ لِكَثْرَةِ إدْرَاكِهِ وَشِدَّةِ تَأَنِّيه فِي اسْتِقْبَالِ الْوَقَائِعِ وَالنَّوَازِلِ وَاصْطِبَارِهِ عَلَيْهَا (وَ) دَالٌّ عَلَى (انْكِسَارِ قُوَّةِ الْغَضَبِ وَخُضُوعِهِ) أَيْ الْغَضَبِ يَعْنِي تَذَلُّلَهُ وَانْقِيَادَهُ (لِلْعَقْلِ) وَلَكِنْ ابْتِدَاؤُهُ التَّحَلُّمُ وَكَظْمُ الْغَيْظِ لِمَا بَيَّنَّا (وَفِيهِ) فِي الْحِلْمِ (ثَلَاثَةُ مَقَاصِدَ) : فِي فَوَائِدِ الْحِلْمِ وَفِي فَوَائِدِ ثَمَرَاتِهِ وَفِي طَرِيقِ تَحْصِيلِ الْحِلْمِ. (الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ فِي فَوَائِدِ الْحِلْمِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ رِضَاهُ عَمَّنْ اتَّصَفَ بِهِ (صف) الْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «وَجَبَتْ» صَارَتْ كَالْوَاجِبِ فِي عَدَمِ التَّخَلُّفِ أَوْ وُجُوبًا عَادِيًّا «مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أُغْضِبَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «فَحَلُمَ» فَلَمْ يُؤَاخِذْ مَنْ أَغْضَبَهُ، وَهَذَا فِي الْغَضَبِ لِغَيْرِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ فِي أَسَانِيدِهِ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ قَدْ وَثَّقَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ كَذَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ثُمَّ سَاقَ مِنْ أَكَاذِيبِهِ هَذَا الْخَبَرَ وَقَالَ فِي اللِّسَانِ ابْنُ طَاهِرٍ كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ. (طب)

الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَمِنْ مَنَاقِبِهَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - سُئِلَتْ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَتْ فَاطِمَةُ قِيلَ وَمِنْ الرِّجَالِ قَالَتْ زَوْجُهَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَقَالَ لَهَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا بُنَيَّةُ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنَّك سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ قَالَتْ يَا أَبَتِ فَأَيْنَ مَرْيَمُ قَالَ تِلْكَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا وَأَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِك أَمَا وَاَللَّهِ زَوَّجْتُك سَيِّدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَإِنْ قِيلَ قُرْبُهَا لِلنَّبِيِّ يَقْتَضِي كَثْرَةَ رِوَايَتِهَا كَعَائِشَةَ وَالْحَالُ أَنَّ أَحَادِيثَهَا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ قُلْنَا لِعَدَمِ كَثْرَةِ عُمُرِهَا بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذْ مَاتَتْ بَعْدَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِنْتُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفٍ فِي رَمَضَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَصَلَّى عَلَى أَبِيهَا وَسَلَّمَ ( «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْحَيِيَّ» صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ الْحَيَاءِ أَيْ الْعَبْدُ صَاحِبُ الْحَيَاءِ الدَّاعِي لِلْجَمِيلِ الْوَادِعِ لِلرَّذَالَةِ ( «الْحَلِيمَ الْمُتَعَفِّفَ» الْمُتَحَرِّزَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ زُهْدًا وَقَنَاعَةً بِلَا ضَرُورَةٍ ( «وَيُبْغِضُ الْبَذِيءَ» مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالسُّوءِ وَقَدْ يُفَسَّرُ بِالسَّفِيهِ «الْفَاحِشَ» الْمُتَكَلِّمَ بِالْفَوَاحِشِ وَالْقَبَائِحِ وَالْعُيُوبِ ( «السَّائِلَ الْمُلْحِفَ» الْمُلِحَّ الْمُجِدَّ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ فَدَلَّ الْحَدِيثُ أَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْحِلْمَ كَالْحَيَاءِ وَالْعِفَّةِ (وَ) الْمَطْلُوبُ (الثَّانِي كَوْنُهُ) أَيْ الْحِلْمِ (زِينَةً وَمَطْلُوبًا لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) (دِينًا عَنْ) سُفْيَانَ (بْنِ عُيَيْنَةَ) عَلَى صِيغَةِ التَّصْغِيرِ (أَنَّهُ قَالَ «كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ أَغْنِنِي بِالْعِلْمِ» الْمُرَادُ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَالْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ التَّعَبُّدِ لَهُ وَالتَّأَدُّبِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي بُسِطَ فِي الصَّدْرِ شُعَاعُهُ فَيَتَّسِعُ وَيَنْشَرِحُ لِلْإِسْلَامِ وَقِيلَ الْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَيَلْزَمُهُ الْمَخَافَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوُقُوفُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ كُلُّ عِلْمٍ لَا يُورِثُ صَاحِبَهُ الْخَشْيَةَ وَالتَّوَاضُعَ وَالنَّصِيحَةَ لِلْخَلْقِ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى حُسْنِ مُعَامَلَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَوَامِ مُوَافَقَتِهِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ وَحِفْظِ الْجَوَارِحِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَمُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَصِيَانَةِ الشَّهَوَاتِ فَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْهُ بِقَوْلِهِ «أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» وَعَنْ الْجُنَيْدِ الْعِلْمُ النَّافِعُ مَا يَدُلُّ صَاحِبَهُ عَلَى التَّوَاضُعِ وَدَوَامِ الْمُجَاهَدَةِ وَرِعَايَةِ السُّرُورِ وَمُرَاقَبَةِ الظَّاهِرِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَعَنْ طَالِبِهَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَمُجَانَبَةِ أَبْوَابِ أَرْبَابِهَا وَتَرْكِ مَا فِيهَا عَلَى مَنْ فِيهَا وَالنَّصِيحَةِ لِلْخَلْقِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَهُمْ وَمُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ وَتَعْظِيمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى مَا يَعْنِيهِ وَقَالَ الْفُضَيْلُ الْعَالِمُ طَبِيبُ الدِّينِ وَدَوَاءُ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَ الطَّبِيبُ يَجُرُّ الدَّاءَ إلَى نَفْسِهِ فَمَتَى يُبْرِئُ غَيْرَهُ قَالَ الشَّاعِرُ وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ بِهَذَا الْمَحَلِّ مِنْ الدِّينِ كَانَ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَيَهْتَدِي بِنُورِهِ كُلُّ مَنْ صَحِبَهُ وَيَسْتَضِيءُ بِعِلْمِهِ كُلُّ مَنْ تَبِعَهُ وَيَكُونُ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَبَرَكَةً فِي بِلَادِهِ كَذَا فِي شَرْحِ الْحَكَمِ «وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ» أَيْ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَالتَّجَاوُزِ بَلْ الْإِحْسَانُ وَالْإِكْرَاهُ وَتَحَمُّلُ الْأَذَى وَتَرْكُ الِانْتِقَامِ، وَلِذَا «عِنْدَ كَسْرِ رُبَاعِيَّتِهِ وَشَجِّ وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ قَالُوا لَوْ دَعَوْت اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنْ بُعِثْت دَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» وَفِي رِوَايَةٍ «اغْفِرْ لِقَوْمِي» قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ اُنْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ غَايَةِ الْحِلْمِ إذْ لَمْ يَقْتَصِرْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ ثُمَّ أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَدَعَا وَشَفَعَ لَهُمْ، فَقَالَ اغْفِرْ أَوْ اهْدِ ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ لِقَوْمِي ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ، فَقَالَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَالتَّفْصِيلُ فِي الشِّفَاءِ لِعِيَاضٍ كَمَا مَرَّ. «وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى» فَإِنَّهُ لَا أَكْرَمَ مِنْهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] «وَجَمِّلْنِي بِالْعَافِيَةِ» قَبْلَ الْعَافِيَةِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ ثُمَّ إنَّ الْعَافِيَةَ هَلْ هِيَ سَلَامَةُ الدِّينِ

مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْعَمَلُ مِنْ الْآفَةِ وَالنَّفْسُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالْقَلْبُ مِنْ الْمَنِيَّةِ أَوْ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الدِّينِ وَمُصَاحَبَةُ الصَّالِحِينَ وَزِيَادَةُ الطَّاعَاتِ عَلَى مَمَرِّ السَّاعَاتِ أَوْ قَرَارُ الْقَلْبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَحْظَةً أَوْ نَفْسٌ بِلَا بَلَاءٍ وَرِزْقٌ بِلَا عَنَاءٍ وَعَمَلٌ بِلَا رِيَاءٍ أَوْ أَنْ لَا يَكِلَك اللَّهُ تَعَالَى إلَى غَيْرِهِ أَوْ دِينٌ قَوِيمٌ وَبَدَنٌ غَيْرُ سَقِيمٍ وَقَلْبٌ سَلِيمٌ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى الرَّبِّ الْكَرِيمِ أَوْ الْخَتْمُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْبَعْثُ فِي زُمْرَةِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَالْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ بِالسَّلَامَةِ ثُمَّ دُخُولُ الْجَنَّةِ أَوْ هِيَ عَشْرٌ خَمْسٌ فِي الدُّنْيَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالْإِخْلَاصُ وَالشُّكْرُ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَخَمْسٌ فِي الْآخِرَةِ بَيَاضُ الْوَجْهِ وَرُجْحَانُ الْمِيزَانِ بِالْحَسَنَاتِ وَالْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ وَالنَّجَاةُ مِنْ النِّيرَانِ وَالدُّخُولُ فِي الْجِنَانِ هَذِهِ أَقْوَالٌ فِي الْعَافِيَةِ وَحِينَ «سُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ قَالَ سَلُوا اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ» كَذَا نُقِلَ عَنْ الْخُلَاصَةِ (وَالثَّالِثُ) مِنْ فَوَائِدِ الْحِلْمِ (كَوْنُهُ قَرِينَ الْعِلْمِ وَمَأْمُورًا بِهِ) (سِنِي) ابْنُ السُّنِّيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُطْلُبُوا الْعِلْمَ» الْأَمْرُ لِمُطْلَقِ الْوُجُوبِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً «وَاطْلُبُوا مَعَ الْعِلْمِ السَّكِينَةَ» قِيلَ الْأَمْرُ لِلنَّدَبِ وَالسَّكِينَةُ الْوَقَارُ «وَالْحِلْمَ لِيَنُوا» اجْعَلُوا أَخْلَاقَكُمْ لَيِّنَةً «لِمَنْ تُعَلِّمُونَ» مِنْ التَّلَامِذَةِ «وَلِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ» الْأَسَاتِذَةِ «وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ الْعُلَمَاءِ» مِنْ التَّجَبُّرِ وَهُوَ التَّكَبُّرُ «فَيَغْلِبُ جَهْلُكُمْ حِلْمَكُمْ) » . وَالرَّابِعُ (رَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَشَرَفُ الْبُنْيَانِ) فِي الْجِنَانِ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا أُنَبِّئُكُمْ» أُخْبِرُكُمْ «بِمَا يُشَرِّفُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْبُنْيَانَ» التَّفَعُّلُ لِلتَّصْيِيرِ أَيْ يُصَيِّرُهُ شَرِيفًا «وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تَحْلُمُ» بِضَمٍّ «عَلَى مَنْ جَهِلَ» بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ غَضِبَ «عَلَيْك وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَك وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَك» كَمَا فِي حَدِيثِ «أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك وَتَصْفَحُ عَمَّنْ ظَلَمَك» وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «أَلَا أُعَلِّمُك خَصْلَاتٍ يَنْفَعُك اللَّهُ بِهِنَّ عَلَيْك بِالْعِلْمِ فَإِنَّ الْعِلْمَ خَلِيلُ الْمُؤْمِنِ وَالْحِلْمُ وَزِيرُهُ وَالْعَقْلُ دَلِيلُهُ وَالْعَمَلُ قَيِّمُهُ وَالرِّفْقُ أَبُوهُ وَاللِّينُ أَخُوهُ وَالصَّبْرُ أَمِيرُ جُنُودِهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ إنَّمَا كَانَ الْحِلْمُ وَزِيرًا؛ لِأَنَّهُ سَعَةُ الصَّدْرِ وَطِيبُ النَّفْسِ فَإِذَا اتَّسَعَ الصَّدْرُ وَانْشَرَحَ بِالنُّورِ أَبْصَرَتْ النَّفْسُ رُشْدَهَا مِنْ غَيِّهَا وَعَوَاقِبَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَطَابَتْ وَإِنَّمَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِسَعَةِ الصَّدْرِ وَإِنَّمَا يَتَّسِعُ بِوُلُوجِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ فَإِذَا أَشْرَقَ نُورُ الْيَقِينِ ذَهَبَتْ الْحِيرَةُ وَزَالَتْ الْمَخَاوِفُ وَاسْتَرَاحَ الْقَلْبُ وَهِيَ صِفَةُ الْحِلْمِ فَهُوَ وَزِيرُ الْمُؤْمِنِ يُوَازِرُهُ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ فَإِذَا فُقِدَ الْحِلْمُ ضَاقَتْ النَّفْسُ وَانْفَرَدَتْ بِلَا وَزِيرٍ وَفِي حَدِيثٍ أَيْضًا «الْحَلِيمُ سَيِّدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَظَهَرَ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فَائِدَةَ الْحِلْمِ لَا تَنْحَصِرُ فِيمَا ذُكِرَ إذْ مِنْ فَوَائِدِهِ الْوِزَارَةُ وَالسِّيَادَةُ. (الْمَقْصِدُ الثَّانِي) مِنْ مَقَاصِدِ الْحِلْمِ (فِي فَوَائِدِ ثَمَرَاتِهِ) أَيْ نَتَائِجِ نَتِيجَتِهِ (أَعْنِي) بِهَا (اللِّينَ وَالرِّفْقَ) ضِدُّ الْعُنْفِ وَهُوَ لَطَافَةُ الْفِعْلِ وَلِينُ الْجَانِبِ (وَهِيَ) أَيْ الْفَوَائِدُ (خَمْسَةٌ الْأَوَّلُ حُرْمَةُ النَّارِ عَلَيْهِ) فَمَنْ

كَانَ حَالُهُ الرِّفْقَ وَاللِّينَ فِي كُلِّ مَنْ يُصَاحِبُهُ فَيُحَرِّمُ عَلَيْهِ النَّارَ (ت عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قِيلَ عَنْ الْهَيْثَمِيِّ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ ضَعِيفٌ وَقِيلَ عَنْ الطَّبَرَانِيِّ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ وَبِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ» لَا تَصِلُ النَّارُ إلَيْهِ «عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ» إلَى النَّاسِ فِي الْمَجَالِسِ وَالتَّلَطُّفِ وَالتَّوَاضُعِ ( «هَيِّنٍ» مِنْ الْهَوْنِ وَهُوَ السُّهُولَةُ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ «سَهْلٍ» يَقْضِي حَوَائِجَهُمْ وَيَخْدُمُهُمْ وَيَنْقَادُ لِلشَّرْعِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ بَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ وَيُحَرِّمُهُ عَلَى النَّارِ فَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ سَهْلَ الْعَرِيكَةِ لَيِّنَ الْجَانِبِ طَلْقَ الْوَجْهِ قَلِيلَ النُّفُورِ طَيِّبَ الْكَلِمَةِ. (وَالثَّانِي الْيُمْنُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ ضِدُّ الشُّؤْمِ (طس) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرِّفْقُ يُمْنٌ» سَبَبٌ لِلْيُمْنِ وَالْيُمْنُ الْبَرَكَةُ «وَالْخُرْقُ» بِضَمٍّ فَسُكُونٍ «شُؤْمٌ» الْحُمْقُ وَالْجَهْلُ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَقِيلَ قِلَّةُ التَّنَبُّهِ لِطَرِيقِ الْحَقِّ حُمْقٌ وَالْجَهْلُ بِالْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ خُرْقٌ بِأَنْ يَفْعَلَ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ أَوْ أَقَلَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ مَحْمُودٍ. وَفِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ جَرِيرٍ الرِّفْقُ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالْبَرَكَةُ وَمَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ وَفِيهِ أَيْضًا الرِّفْقُ فِي الْمَعِيشَةِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ التِّجَارَةِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَةٍ» وَفِيهِ أَيْضًا عَلَى رِوَايَةِ جَرِيرٍ الرِّفْقُ رَأْسُ الْحِكْمَةِ فَإِنَّ بِهِ تَنْتَظِمُ الْأُمُورُ وَيَصْلُحُ حَالُ الْجُمْهُورِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَتَدْرُونَ مَا الرِّفْقُ هُوَ أَنْ تَضَعَ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا، الشِّدَّةَ فِي مَوْضِعِهَا، وَاللِّينَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالسَّيْفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالسَّوْطَ فِي مَوْضِعِهِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ الْأُمُورِ أُمُورٌ لَا يَصْلُحُ فِيهَا إلَّا الشِّدَّةُ كَالْجُرْحِ يُعَالَجُ فَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى الْحَدِيدِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَ بِالشِّدَّةِ شَيْئًا إلَّا أَعْطَوْا بِاللِّينِ أَفْضَلَ مِنْهُ قَالَ بَرْزُجُمَهْرٍ كُنْ شَدِيدًا بَعْدَ رِفْقٍ لَا رَفِيقًا بَعْدَ شِدَّةٍ؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ بَعْدَ الرِّفْقِ عِزٌّ وَالرِّفْقَ بَعْدَ الشِّدَّةِ ذُلٌّ (وَالثَّالِثُ عَدَمُ الْحِرْمَانِ عَنْ الْخَيْرِ) (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ كُلَّهُ» أَيْ صَارَ مَحْرُومًا مِنْ الْخَيْرِ وَفِيهِ فَضْلُ الرِّفْقِ وَشَرَفُهُ وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الرِّفْقُ فِي الْأُمُورِ كَالْمِسْكِ فِي الْعُطُورِ. (وَالرَّابِعُ زَيْنُ صَاحِبِهِ. وَالْخَامِسُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ) (م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) قِيلَ فِيهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (إنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ» مِنْ الزَّيْنِ أَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ «الرِّفْقُ يُمْنٌ وَالْخُرْقُ شُؤْمٌ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ بَابَ الرِّفْقِ» فَإِنَّ الرِّفْقَ إلَخْ كَمَا فِي الْجَامِعِ «وَلَا يُنْزَعُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» مِنْ الشَّيْنِ ضِدُّ الزَّيْن، وَلِذَا كَثُرَ ثَنَاءُ الشَّرْعِ فِي جَانِبِ الرِّفْقِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا الرِّفْقُ قَالَ أَنْ تَكُونَ ذَا أَنَاةٍ وَتَلَايُنٍ وَالْخَرَقُ مُعَادَاةٌ مَنْ أَمَامَك وَمُنَاوَأَةُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ضُرِّك (وَفِي رِوَايَةٍ) عَنْهَا «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ» مِنْ الْأَجْرِ «مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»

أَيْ عَلَى غَيْرِ الرِّفْقِ مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي عَبْدَهُ عَلَى الرِّفْقِ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الشِّدَّةِ وَالصَّلَابَةِ. (الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ فِي طَرِيقِ تَحْصِيلِ الْحِلْمِ وَهُوَ) أَيْ الطَّرِيقُ (التَّحَلُّمُ) أَيْ تَكَلُّفُ الْحِلْمِ (أَعْنِي حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ) وَإِنْ كَانَ حَمْلُهُ شَاقًّا عَلَيْهَا (مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِالتَّكَلُّفِ) بِالْمَشَقَّةِ (حَتَّى يَكُونَ مَلَكَةً وَطَبْعًا) كَالْمَلَكَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الْغَرِيزِيَّةِ (مُسَمًّى بِالْحِلْمِ) ؛ لِأَنَّ الْخُلُقَ عِبَارَةٌ عَنْ هَيْئَةٍ فِي النَّفْسِ يَصْدُرُ عَنْهَا الْفِعْلُ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَتَكَلُّفٍ وَلَكِنْ كَوْنُ التَّكَلُّفِ طَرِيقَ تَحْصِيلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مَجْبُولًا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ جِدًّا يَشْكُلُ أَنَّ الْحِلْمَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْفِعْلِ حَتَّى يُمْكِنَ تَحْصِيلُهُ وَاكْتِسَابُهُ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْكَيْفِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إذْ الْكَيْفِيَّاتُ النَّفْسَانِيَّةُ طَبِيعَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْصَالُهَا بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ. قَالَ الْمُحَشِّي هَذَا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَجْبُولًا عَلَى الْحِلْمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ (طب قُطْن) الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» هَذَا لَيْسَ بِحَصْرٍ إضَافِيٍّ أَوْ أَكْثَرِيٍّ كَمَا تُوُهِّمَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ لَيْسَ إلَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَلُّمِ وَتَعَلُّمُهُ طَلَبُهُ مِنْ أَهْلِهِ حَيْثُ كَانُوا فَلَا عِلْمَ إلَّا بِتَعْلِيمِ الشَّارِعِ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ وَمَا تُفِيدُهُ الْعِبَادَةُ وَالتَّقْوَى وَالْمُجَاهَدَةُ وَالرِّيَاضَةُ إنَّمَا هُوَ فَهْمٌ يُوَافِقُ الْأُصُولَ وَيَشْرَحُ الصُّدُورَ وَيُوَسِّعُ الْعُقُولَ ثُمَّ هُوَ يَنْقَسِمُ لِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ دَائِرَةِ الْأَحْكَامِ وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ دَائِرَةِ الْعِبَارَةِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْإِشَارَةُ وَمَا لَا تَفْهَمُهُ الضَّمَائِرُ وَإِنْ أَشَارَتْ إلَيْهِ الْحَقَائِقُ فِي وُضُوحِهِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ وَتَحَقُّقِهِ عِنْدَ مُتَلَقِّيهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ تَعَلَّمُوا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ مَا سَبَقَنَا ابْنِ هِشَامٍ بِالْعِلْمِ إلَّا أَنَّهُ يَشُدُّ ثَوْبَهُ عِنْدَ صَدْرِهِ وَيَسْأَلُ وَكُنَّا تَمْنَعُنَا الْحَدَاثَةُ عَنْهُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَتَعَلَّمُ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُتَكَبِّرٌ وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ قَالَ بِلِسَانٍ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ «وَ» إنَّمَا «الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ» أَيْ بِبَسْطِ النَّفْسِ وَتَنْشِيطِهَا لَهُ قَالَ الرَّاغِبُ الْحِلْمُ إمْسَاكُ النَّفْسِ عَنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ وَالتَّحَلُّمُ إمْسَاكُهَا عَنْ قَضَاءِ الْوَطَرِ إذَا هَاجَ الْغَضَبُ «وَمَنْ تَحَرَّى الْخَيْرَ» أَيْ طَلَبَهُ وَقَصَدَهُ أَوْ مَنْ يَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرِ «يُعْطَهُ» أَيْ يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ «وَمَنْ يَتَّقِ» وَفِي رِوَايَةٍ يَتَوَقَّ «الشَّرَّ» مِثْلَ الْجَهْلِ وَالْغَضَبِ «يُوقَهُ» ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ بِيَدِهِ وَلَا مَانِعَ لِمَا يُعْطِيهِ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ وَيُحَصَّلُ الْعِلْمُ بِالْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ لَكِنَّهُ نَادِرٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَلِذَا تَمَّمَ الْكَلَامَ نَحْوَ الْغَالِبِ. قَالَ الرَّاغِبُ الْفَضَائِلُ ضَرْبَانِ نَظَرِيٌّ وَعَمَلِيٌّ وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ بِتَعَلُّمِ بَشَرِيٍّ يَحْتَاجُ إلَى زَمَانٍ وَتَدَرُّبٍ وَمُمَارَسَةٍ وَيَتَقَوَّى الْإِنْسَانُ فِيهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَكْفِي فِيهِ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الطَّبَائِعِ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَلَادَةِ وَالثَّانِي بِفَيْضٍ إلَهِيٍّ نَحْوُ أَنْ يُولَدَ إنْسَانٌ عَالِمًا بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ كَعِيسَى وَيَحْيَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَقَدْ يَكُونُ بِالطَّبْعِ كَصَبِيٍّ صَادِقِ اللَّهْجَةِ وَالسَّخَاءِ وَآخَرَ بِعَكْسِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْعَادَةِ فَمَنْ صَارَ فَاضِلًا طَبْعًا وَعَادَةً وَتَعَلُّمًا فَهُوَ كَامِلُ الْفَضِيلَةِ وَمَنْ كَانَ رَاذِلًا فَهُوَ كَامِلُ الرَّذِيلَةِ (وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) تَعَالَى قِيلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ (إنِّي حَصَّلْت الْحِلْمَ) حَتَّى صِرْت حَلِيمًا (بِمُسَاكَنَةِ مُتَهَوِّرٍ) فِي الْأَفْعَالِ

الرابع والعشرون من آفات القلب سوء الظن بالله تعالى

(بَذِيِّ اللِّسَانِ) بِالْمُوَحَّدَةِ فَالْمُعْجَمَةِ فَاحِشٍ (مُدَّةً مَدِيدَةً وَكُنْت أَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ) بِالتَّهَوُّرِ وَفُحْشِ اللِّسَانِ (وَأَكْظِمُ غَيْظِي) أَمْنَعُ نَفْسِي مِنْ الِانْتِقَامِ بِالتَّكْلِيفِ (حَتَّى صَارَ مَلَكَةً لِي) رُوِيَ عَنْ لُقْمَانَ إنِّي تَعَلَّمْت الْحِكْمَةَ مِنْ الْحَمْقَاءِ وَالْأَدَبَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ أَدَبٌ فَإِنِّي كُلَّمَا رَأَيْت مِنْهُمْ فِعْلًا مُخَالِفًا لِطَبْعِي وَقَبِيحًا فِي مَنْظَرِي تَعَوَّدْت الْمُخَالَفَةَ إيَّاهُمْ فَإِنْ قِيلَ أَصْلُ كُلِّ خُلُقٍ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ وَهُوَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا فِعْلٌ كَسْبِيٌّ فَكَيْفَ يَنْقَلِبُ الضَّرُورِيُّ كَسْبِيًّا بِتَكَلُّفِ الْعَبْدِ قُلْنَا لَعَلَّ أَصْلَهُ بَاقٍ عَلَى خِلْقَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَالتَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّلُ بِالتَّكَلُّفِ إنَّمَا هُوَ لِأَثَرِهِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ أَنَّ الْخُلُقَ مِنْ قَبِيلِ الْفِعْلِ فَلَا كَلَامَ فِي صِحَّةِ تَبَدُّلِهِ حِينَئِذٍ وَالسَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ مِنْ عِبَارَاتِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَمِنْ الْفِعْلِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ (وَهَكَذَا) كَتَحْصِيلِ الْحِلْمِ بِالتَّحَلُّمِ (طَرِيقُ تَحْصِيلِ كُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ كَالتَّوَاضُعِ وَالسَّخَاءِ وَالشَّجَاعَةِ أَعْنِي) بِالتَّشْبِيهِ فِي تَحْصِيلِ مَا ذُكِرَ بِتَحْصِيلِ الْحِلْمِ (الْمُمَارَسَةُ الْكَثِيرَةُ بِالتَّكَلُّفِ إلَى أَنْ تَكُونَ كَيْفِيَّةً رَاسِخَةً وَكَذَا) كَحُصُولِ الْأَخْلَاقِ بِالتَّكَلُّفِ (طَرِيقُ إزَالَةِ كُلِّ خُلُقٍ سَيِّئٍ كَالْكِبْرِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ) الْأَوَّلُ ضِدٌّ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي وَالثَّالِثُ لِلثَّالِثِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (أَعْنِي) بِجَامِعِ الشَّبَهِ (الْمُمَارَسَةَ الْكَثِيرَةَ عَلَى تَرْكِ مُقْتَضَاهُ) أَيْ الْخُلُقِ الْمَطْلُوبِ إزَالَتُهُ (وَالْعَمَلِ بِضِدِّهِ) كَمَا يُقَالُ الْأَشْيَاءُ تَنْكَشِفُ بِضِدِّهَا (إلَى أَنْ تَزُولَ تِلْكَ الْمَلَكَةُ الرَّدِيئَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى) وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ خُلُقٍ يَقْوَى بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ وَيَضْعُفُ بَلْ يُعْدَمُ بِالْعَمَلِ بِضِدِّهِ فَظَهَرَ أَنَّ طَرِيقَ التَّحْصِيلِ الْمُمَارَسَةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى الْحَسَنِ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكُونَ مَلَكَةً صَادِرَةً مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَأَنَّ طَرِيقَ الْإِزَالَةِ الْعَمَلُ بِالضِّدِّ وَتَرْكُهُ بِمُقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ ضَعْفٌ وَفُتُورٌ حَتَّى يَزُولَ بِإِذْنِهِ تَعَالَى رَأْسًا كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ أَنَّ الْخُلُقَ طَبِيعَةٌ غَرِيزِيَّةٌ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ عِنْدَ بَعْضٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقَكُمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ الْخُلُقُ جِبِلَّةٌ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا كَانَ مَحْمُودًا وَإِلَّا أُمِرَ بِالْمُجَاهَدَةِ فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ مَحْمُودًا، وَكَذَا إنْ كَانَ ضَعِيفًا فَيَرْتَاضُ صَاحِبُهُ حَتَّى يَقْوَى كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ أَقُولُ هَذَا مُسْتَنِدٌ إلَى الصُّوفِيَّةِ وَالْحُكَمَاءِ وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ كَسَبِيَّةٍ. [الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى] (الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى) بِأَنَّهُ لَا يُغْفَرُ ذَنْبُهُ وَلَا يُعْطَى أَرَبَهُ (وَبِالْمُؤْمِنِينَ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ أَوْ الشَّكِّ) بِفَسَادِهِمْ وَفِسْقِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ وَأَمَّا بِهِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ بُغْضٌ فِي اللَّهِ مَأْمُورٌ بِهِ كَذَا فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنْ قَالُوا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إنْ رَأَى عَيْبًا فِي أَخِيهِ

أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ مَا قَدَرَ بِتَأْوِيلَاتٍ فَعِنْدَ مُطْلَقِ الظَّنِّ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَجَاسَرَ عَلَى الْمُمَاشَاةِ عَلَى مُوجِبِ ظَنِّهِ وَيَحْمِلُ عَلَى الصَّلَاحِ بِأَدْنَى إمْكَانٍ إلَّا إذَا اقْتَضَى دَوَاعِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ الشَّرْعِيِّ (فَإِنَّهُ حَرَامٌ) قَالَ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ حَرَامٌ كَسُوءِ الْقَوْلِ لَكِنْ لَسْت أَعْنِي بِهِ إلَّا عَقْدَ الْقَلْبِ حُكْمَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِالسُّوءِ أَمَّا الْخَوَاطِرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ فَعَفْوٌ بَلْ الشَّكُّ عَفْوٌ أَيْضًا فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الظَّنُّ وَالظَّنُّ مَا تَرْكَنُ إلَيْهِ النَّفْسُ وَيَمِيلُ إلَيْهِ الْقَلْبُ وَسَبَبُ حُرْمَتِهِ أَنَّ أَسْرَارَ الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَيَلْزَمُ الْمُنَازَعَةُ مَعَهُ تَعَالَى فِي الْحَصْرِ بِدَعْوَى الْمُشَارَكَةِ فَلَيْسَ لَك الظَّنُّ إلَّا بِعِيَانٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَمَا قِيلَ إذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عَدُوِّهِ ... وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنْ الشَّكِّ مُظْلِمِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] كُونُوا مِنْهُ عَلَى جَانِبٍ وَإِبْهَامِ الْكَثِيرِ لِيَحْتَاطَ فِي كُلِّ ظَنٍّ وَيَتَأَمَّلُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلِ فَإِنَّ مِنْ الظَّنِّ مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ كَالظَّنِّ حَيْثُ لَا قَاطِعَ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَحْرُمُ كَالظَّنِّ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ حَيْثُ يُخَالِفُهُ قَاطِعٌ وَظَنُّ السُّوءِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَمَا يُبَاحُ كَالظَّنِّ فِي الْأُمُورِ الْمُعَايَشَةِ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْأَمْرِ وَالْإِثْمُ الذَّنْبُ الَّذِي تُسْتَحَقُّ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إثْمِيَّةِ بَعْضِ الظَّنِّ الِاجْتِنَابُ عَنْ أَكْثَرِ الظَّنِّ غَايَتُهُ إثْمِيَّةُ بَعْضِ الظَّنِّ وَأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ لَيْسَ بِإِثْمٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْبَعْضَ يَتَحَقَّقُ فِي ضِمْنِ الْأَكْثَرِ وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي النُّصُوصِ عِنْدَنَا فَيَكُونُ صُورَةُ الدَّلِيلِ إذَا كَانَ أَكْثَرُ الظَّنِّ إثْمًا فَالِاجْتِنَابُ عَنْ أَكْثَرِهِ لَازِمٌ لَكِنَّ الْمُقَدَّمَ صِدْقٌ وَهُوَ قَوْلُهُ - {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]- لَكِنْ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَكْثَرُ الْمَطْلُوبُ إلَّا أَنْ يُقَالَ جَانِبُ الْأَقَلِّ حُسْنُ الظَّنِّ وَإِنَّمَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى الْهَوَى وَدَوَاعِي الْهَوَى كَالطَّبِيعِيِّ وَخِلَافُهَا كَالْقَسْرِيِّ وَمَا هُوَ طَبِيعِيٌّ أَكْثَرُ أَوْ جَانِبُ الْأَقَلِّ سُوءُ الظَّنِّ الَّذِي طَرِيقُهُ مَا لَيْسَ بِوَهْمٍ وَشَكٍّ بَلْ عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ أَيْضًا كَمَا نَبَّهَ فَافْهَمْهُ (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ» أَيْ ظَنَّ السُّوءِ الَّذِي لَا دَلِيلَ لَهُ وَلَوْ ظَنًّا وَإِلَّا فَ يَشْكُلُ بِمَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْفَيْضِ أَيْ احْذَرُوا سُوءَ الظَّنِّ بِمَنْ لَا يُسَاءُ الظَّنُّ بِهِ مِنْ الْعُدُولِ وَالظَّنُّ تُهْمَةٌ تَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِلَا دَلِيلٍ «فَإِنَّ الظَّنَّ» أَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الضَّمِيرِ لِزِيَادَةِ تَمَكُّنٍ فِي ذِكْرِ السَّامِعِ «أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» ؛ لِأَنَّهُ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَاسْتَشْكَلَ تَسْمِيَةُ الظَّنِّ حَدِيثًا وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ قَوْلًا وَغَيْرَهُ أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْ الظَّنِّ فَوُصِفَ الظَّنُّ بِهِ مَجَازًا قَالَ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ حَكَمَ بِشَيْءٍ عَلَى غَيْرِهِ بِالظَّنِّ بَعَثَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى أَنْ يَطُولَ فِيهِ اللِّسَانُ بِالْغِيبَةِ فَيَهْلِكُ أَوْ يُقَصِّرُ فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ أَوْ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ وَيَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ، وَلِذَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلتُّهَمِ ( «وَلَا تَجَسَّسُوا» قَالَ الْمُنَاوِيُّ بِجِيمٍ أَيْ لَا تَتَعَرَّفُوا خَبَرَ النَّاسِ بِلُطْفٍ كَالْجَاسُوسِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ التَّجَسُّسُ أَنْ لَا تَتْرُكَ عِبَادَ اللَّهِ تَحْتَ سَتْرِهَا فَتَتَوَصَّلُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمْ وَالتَّجَسُّسِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَهَتْكِ السِّتْرِ حَتَّى يَنْكَشِفَ لَك مَا كَانَ مَسْتُورًا عَنْك وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا يَكُونُ طَرِيقًا لِإِنْقَاذِ مُحْتَرَمٍ مِنْ هَلَاكٍ وَنَحْوِهِ كَأَنْ يُخْبِرَ ثِقَةٌ بِأَنَّ فُلَانًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ أَوْ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا فَجَازَ التَّجَسُّسُ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَاسْتَجَادَهُ ( «وَلَا تَحَسَّسُوا» بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ لَا تَطْلُبُوا الشَّيْءَ بِالْحَاسَّةِ كَاسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَإِبْصَارِ الشَّيْءِ خُفْيَةً وَقِيلَ الْأَوَّلُ الْفَحْصُ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ وَبَوَاطِنِ

أُمُورِهِمْ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ وَقِيلَ الْأَوَّلُ يَخْتَصُّ بِالشَّرِّ وَالثَّانِي أَعَمُّ كَمَا فِي الْفَيْضِ قِيلَ عَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ لِابْنِ مَالِكٍ يَعْنِي لَا تَطْلُبُوا التَّطَلُّعَ عَلَى خَيْرِ أَحَدٍ وَلَا عَلَى شَرِّهِ؛ لِأَنَّ اطِّلَاعَ الْخَيْرِ رُبَّمَا يُفْضِي إلَى الْحَسَدِ وَاطِّلَاعَ الشَّرِّ يُفْضِي إلَى التَّعْيِيبِ وَالتَّفْضِيحِ وَفِي الْحَاشِيَةِ وَالتَّجَسُّسُ مَنْهِيٌّ إلَّا إذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِظُلْمٍ فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ عِرْضِهِ فَيَجُوزُ التَّجَسُّسُ لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَالْخَلَاصِ مِنْ شَرِّهِ وَفِيهِ أَيْضًا وَالْمُنْكَرُ الْخَفِيُّ إذَا حَصَلَ إلَى الْمُحْتَسِبِ ظَنٌّ بِهِ بِوَاسِطَةِ الْقَرَائِنِ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ هَذَا النَّهْيِ «وَلَا تَنَافَسُوا» مِنْ الْمُنَافَسَةِ وَهِيَ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ وَالِانْفِرَادُ بِهِ وَمِنْهُ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ أَيْ لَا تَرْغَبُوا فِيمَا رَغِبَ فِيهِ الْغَيْرُ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا بَعْدَ دَلِيلِ الرِّضَا وَقِيلَ التَّنَافُسُ وَالتَّحَاسُدُ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَصْلِ «وَلَا تَحَاسَدُوا» بِزَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا» «وَلَا تَبَاغَضُوا» لَا يَبْغُضُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَوْ لَا تَسْتَعْمِلُوا مَا هُوَ سَبَبُ الْبُغْضِ بَيْنَكُمْ ( «وَلَا تَدَابَرُوا» أَيْ لَا تَعْمَلُوا بِمُقْتَضَى التَّبَاغُضِ مَأْخُوذٌ مِنْ الدُّبُرِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَبَاغِضَيْنِ يُوَلِّي دُبُرَهُ صَاحِبَهُ وَقِيلَ لَا تَغْتَابُوا قَالَ فِي الْعَارِضَةِ التَّدَابُرُ أَنْ يُوَلِّيَ كُلٌّ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ دُبُرَهُ مَحْسُوسًا بِالْأَبْدَانِ وَمَعْقُولًا بِالْعَقَائِدِ وَالْآرَاءِ وَالْأَقْوَالِ «وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ» بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ أَوْ خَبَرِ كَانَ «إخْوَانًا» حَصِّلُوا مَا تَكُونُ الْأُخُوَّةُ بِهِ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا فِي الْأَخِ فِي اللَّهِ أَوْ إنْ تَرَكْتُمْ مَا ذُكِرَ فَكُنْتُمْ إخْوَانًا وَإِلَّا فَأَعْدَاءً «كَمَا أَمَرَكُمْ» الْكَافُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ أَمَرَكُمُوهُ أَوْ بِهِ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» أَيْ يَجْمَعُهُمَا دِينٌ وَاحِدٌ وَالْأُخُوَّةُ الدِّينِيَّةُ أَعْظَمُ مِنْ الْخَارِجِيَّةِ «لَا يَظْلِمْهُ» كَأَنَّهُ بَيَانٌ أَوْ تَعْلِيلٌ لِلْأُخُوَّةِ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَخِ عَدَمُ ظُلْمِ أَخِيهِ كَمَا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ آمَنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» قَالَ الْقَاضِي فَمَنْ لَمْ يُرَاعِ حُكْمَ اللَّهِ فِي ذِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَفِّ عَنْهُمْ لَمْ يَكْمُلْ إسْلَامُهُ قَالَ الْقَيْصَرِيُّ الْإِسْلَامُ مَقَامٌ عَظِيمٌ وَحَالٌ شَرِيفٌ مَنْ تَحَقَّقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَحَالُهُ حَالُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى وَمَعْنَاهُ الِانْقِيَادُ لِلْأَوَامِرِ وَتَرْكُ الِاسْتِعْصَاءِ لَهَا وَالْإِمْسَاكُ عَنْ إيذَاءِ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَنَفْعِ أَهْلِهِ وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ كَذَا فِي الْفَيْضِ «وَلَا يَخْذُلْهُ» أَيْ لَا يَتْرُكُ النُّصْرَةَ وَالْإِعَانَةَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مُؤَاخَذَةِ الظَّالِمِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ نُصْرَتِهِ «وَلَا يُحَقِّرْ» أَيْ لَا يَرَاهُ حَقِيرًا فَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ «التَّقْوَى هَاهُنَا» مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ «ثَلَاثًا» الظَّاهِرُ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «وَيُشِيرُ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ هَاهُنَا «إلَى صَدْرِهِ» أَيْ قَلْبِهِ فَإِذَا كَانَتْ التَّقْوَى فِي الصَّدْرِ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُحَقِّرَ مُسْلِمًا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا فِي قَلْبِهِ إلَّا بِعَلَامَةٍ ظَاهِرَةٍ كَتَرْكِ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَتَغَنِّي مَشَايِخِ زَمَانِنَا وَرَقْصِهِمْ أَيْضًا فَإِنَّهَا حَرَامٌ لَا يَقْبَلُ الصَّلَاحَ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ «بِحَسْبِ امْرِئٍ» أَيْ كَافِيهِ الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَالسِّينُ سَاكِنَةٌ وَأَنْ يُحَقِّرَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ بِحَسْبِ «مِنْ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَكُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ» أَيْ إهْرَاقُ دَمِهِ كَمَا فِي حَدِيثٍ «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» «وَ» هَتْكُ «عِرْضِهِ وَ» أَخْذُ «مَالِهِ» بِغَيْرِ حَقٍّ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَالرِّبَا وَالْحِيلَةِ فِي التِّجَارَاتِ

«إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إلَى صُوَرِكُمْ» كَالْحُسْنِ وَالْعِظَمِ وَالْقُوَّةِ «وَلَا إلَى أَعْمَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» إلَى طَهَارَتِهَا عَمَّا سِوَاهُ أَوْ هَلْ بِالْخُلُوصِ أَوْ لَا قِيلَ الْقُلُوبُ مَحَلُّ التَّقْوَى وَأَوْعِيَةُ الْجَوَاهِرِ وَكُنُوزُ الْمَعَارِفِ وَقَالَ الْمُحَشِّي يَعْنِي أَنَّ مَنْظَرَ اللَّهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ هُوَ الْقَلْبُ ثُمَّ الْأَعْمَالُ فَإِنْ سَالِمًا عَنْ الْعَزَائِمِ الْفَاسِدَةِ وَمُحَلًّى بِالنِّيَّاتِ الْمَحْمُودَةِ يَنْظُرُ إلَى الْأَعْمَالِ فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَجْمِعَةً لِلشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ يَقْبَلُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَلْبُ سَالِمًا لَا يَقْبَلُ الْأَعْمَالَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مَنْظَرَ اللَّهِ أَصْلًا كَمَا زَعَمَتْ الْمَلَاحِدَةُ وَلَا كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي زَمَانِنَا مِنْ أَنَّ الْمَنْظَرَ هُوَ الْقَلْبُ فَبَعْدَمَا كَانَ سَالِمًا عَنْ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ قُبِلَتْ الْأَعْمَالُ مُسْتَجْمِعَةً لِلشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ خَارِقَانِ لِلْإِجْمَاعِ مُخَالِفَانِ لِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» الْحَدِيثَ (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «وَلَا تَنَاجَشُوا» التَّنَاجُشُ أَنْ يَزِيدَ هَذَا عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ عَلَى هَذَا فِي الْبَيْعِ وَالنَّجْشُ رَفْعُ الثَّمَنِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الرِّضَا وَأَمَّا قَبْلَهُ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ وَقِيلَ النَّهْيُ عَنْ إغْرَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى الشَّرِّ وَالْخُصُومَةِ وَقِيلَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ شِرَاءٍ لِيَغْتَرَّ الرَّاغِبُ فَيَشْتَرِيَ بِمَا ذَكَرَهُ وَأَصْلُهُ الْإِغْرَاءُ وَالتَّحْرِيضُ وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ وَقِيلَ الْمُرَادُ إغْرَاءُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى الشَّرِّ وَالْخُصُومَةِ وَقِيلَ عَنْ الْقَاضِي ذَمُّ بَعْضِهِمْ بَعْضًا (وَزَادَ خ «وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ» بِكَسْرِ الْخَاءِ طَلَبُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ لِلتَّزَوُّجِ «أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ» هَذَا النَّهْيُ بَعْدَ الرِّضَا وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا، وَحُرْمَةُ مَا ذُكِرَ مِنْ الظَّنِّ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُجَاهِرِينَ أَوْ عَدَمِ دَلَالَةِ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ (وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ وَالْفِسْقِ الْمُجَاهِرِينَ) صِفَةٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَالْفِسْقِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُجَاهِرُونَ صِفَةٌ لِلْأَهْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ (أَوْ) لَمْ يُجَاهِرْ لَكِنْ (دَلَّ عَلَيْهِ) عَلَى الْفِسْقِ (قَرَائِنُ تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ) بِحُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ (فَعَلَيْنَا أَنْ نُبْغِضَهُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى) لَا لِغَرَضٍ نَفْسَانِيٍّ، وَلِذَا يَنْقَطِعُ الْبُغْضُ بِخُرُوجِهِمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ (وَلَيْسَ) بُغْضُهُمْ (مِنْ سُوءِ الظَّنِّ فِي شَيْءٍ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا) أَيْ كَوْنِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ كَافِيَةً عَلَى سُوءِ الظَّنِّ (قَوْله تَعَالَى) إنْكَارًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ {فَمَا لَكُمْ} [النساء: 88] أَيْ مَا أَمْرُكُمْ وَشَأْنُكُمْ تَفَرَّقْتُمْ {فِي} [البقرة: 10] أَمْرِ {الْمُنَافِقِينَ} [النساء: 88] وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى كُفْرِهِمْ {فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] الْآيَةَ)

فِرْقَتَيْنِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ (وَعَلَى الْأَوَّلِ) عَلَى مُجَرَّدِ الشَّكِّ وَالْوَهْمِ. (إنَّمَا يَحْرُمُ) الظَّنُّ (إذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ) أَثَرُ الظَّنِّ (عَلَى الْجَوَارِحِ) بِاغْتِيَابٍ وَنَحْوِهِ (قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) قِيلَ ثَوْرٌ بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ (الظَّنُّ ظَنَّانِ أَحَدُهُمَا إثْمٌ وَهُوَ أَنْ تَظُنَّ وَتَتَكَلَّمَ بِهِ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِإِثْمٍ وَهُوَ أَنْ تَظُنَّ) بِقَلْبِك فَقَطْ (وَلَا تَتَكَلَّمَ بِهِ، وَهَذَا) عَدَمُ الْحُرْمَةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ عَلَى الْجَوَارِحِ (هُوَ الْمُخْتَارُ) عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالشَّيْخِ أَكْمَلِ الدِّينِ خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ (وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَسَدِ وَضِدُّ سُوءِ الظَّنِّ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ أَمَّا الْأَوَّلُ) حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ (فَوَاجِبٌ) ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ غَالِبًا فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالنَّظَرِ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ كُلُّ شَيْءٍ وَفَضْلُهُ الْعَظِيمُ وَالْخَوْفُ بِالنَّظَرِ إلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعَبْدُ أَشَدَّ الِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابَ بِالنَّارِ وَاللَّائِقُ ذِكْرُ ذَلِكَ غَالِبًا فِيهَا لِلزَّجْرِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالْإِنَابَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي (م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ» تَعَالَى بِأَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَعْفُو عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَضَرَ أَجَلُهُ وَأَتَتْ رِحْلَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِخَوْفِهِ مَعْنًى بَلْ يُؤَدِّي إلَى الْقُنُوطِ قَالَ الطِّيبِيُّ نُهِيَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ حُسْنِ الظَّنِّ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَقْدُورٍ بَلْ الْمُرَادُ الْأَمْرُ بِحُسْنِ الظَّنِّ لِيُوَافِقَ الْمَوْتَ وَهُوَ عَلَيْهِ نَحْوُ وقَوْله تَعَالَى - {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ، وَهَذَا قَالَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ وَالنَّهْيُ وَإِنْ وَقَعَ عَنْ الْمَوْتِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ بَلْ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بَلْ عَنْ تَرْكِ الْخُشُوعِ وَأَفَادَ الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمُفْضِي إلَى حُسْنِ الظَّنِّ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى تَأْمِيلِ الْعَفْوِ وَتَحْقِيقِ الرَّجَاءِ فِي رُوحِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ قَالَ تَعَالَى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] (خ م ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» كَظَنِّ الْغُفْرَانِ إذَا اسْتَغْفَرَ وَالْقَبُولِ إذَا تَابَ وَالْإِجَابَةِ إذَا دَعَا وَالْكِفَايَةِ إذَا طَلَبَ الْكِفَايَةَ كَذَا نُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ كَظَنِّ قَبُولِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَذَا ظَنُّ الْعُقُوبَةِ عَلَى عِصْيَانِهِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي» أَيْ مُدَّةَ دُعَائِك لِي «وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَك ذُنُوبَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك» مِنْ عَظَائِمَ وَجَرَائِمَ أَوْ مَا دُمْت تَدْعُونِي وَتَرْجُو مَغْفِرَتِي وَلَا تَقْنَطُ مِنْ رَحْمَتِي فَأَغْفِرُ لَك وَلَا تَعْظُمُ عَلَيَّ مَغْفِرَتُك وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُك كَثِيرَةً وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَالرَّجَاءَ مُتَضَمِّنٌ لِحُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ وَهُوَ قَالَ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» وَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَوَجَّهُ

الرَّحْمَةُ لَهُ فَإِذَا تَوَجَّهَتْ لَا يَتَعَاظَمُهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَفِيهِ أَيْضًا «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدِي» أَيْ يَا عَبْدِي «أَنَا عِنْدَ ظَنِّك بِي وَأَنَا مَعَك» بِالتَّوْفِيقِ وَالْمَعُونَةِ «إذَا ذَكَرْتَنِي» وَدَعَوْتَنِي فَأَسْمَعُ مَا تَقُولُ فَأُجِيبُك قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ أَنَا مَعَك بِحَسَبِ مَا قَصَدْت مِنْ ذِكْرِك لِي بِاللِّسَانِ فَقَطْ أَوْ بِالْقَلْبِ فَقَطْ أَوْ بِهِمَا ثُمَّ دَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَعْنِي وُجُوبَ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ خُفْيَةً مَتْنًا وَسَنَدًا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ وُجُوبُ حُسْنِ ظَنِّ الْعَبْدِ بِهِ تَعَالَى قُلْنَا لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت عَنْ الْأُصُولِ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَرْعِيَّ شَرَائِطُهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ سِيَّمَا حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ فِي رُتْبَةِ الْمَشْهُورِ وَأَنَّ مَتْنَ الْحَدِيثِ لَيْسَ نَفْسَ الْمَطْلُوبِ بَلْ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ وَدَالٌّ عَلَيْهِ بِنَحْوِ أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ اللَّهُ عِنْدَ ظَنِّ الْعَبْدِ بِهِ حُسْنًا وَسُوءًا فَحُسْنُ الظَّنِّ وَاجِبٌ لَكِنَّ الْمُقَدَّمَ حَقٌّ فَالتَّالِي كَذَلِكَ أَمَّا الْمُقَدَّمُ فَلِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلَعَلَّهَا ظَاهِرَةٌ (د عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى» وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى تَخْرِيجِ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ أَيْضًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمُجَرَّدِ حُسْنِ الظَّنِّ بِلَا تَقْيِيدٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَتَعَرَّضْ شَرْحُهُ لِلُزُومِ هَذَا الْقَيْدِ فَالْحَدِيثُ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِأَيِّ الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِالرَّأْيِ لَيْسَ بِجَائِزٍ فَافْهَمْ (مِنْ) جُمْلَةِ (حُسْنِ الْعِبَادَةِ) (حب) ابْنُ حِبَّانَ (حَدّ) أَحْمَدُ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ وَاثِلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ خَيْرًا» كَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِجَابَةِ «فَلَهُ» ذَلِكَ فَضْلًا وَمِنَّةً مِنْهُ تَعَالَى «وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا» بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ «فَلَهُ» قِيلَ الْأَصْلُ فَعَلَيْهِ وَعَبَّرَ بِمَا ذُكِرَ مُشَاكَلَةً (طب) طَبَرَانِيٌّ (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاَللَّهِ الظَّنَّ إلَّا أَعْطَاهُ ظَنَّهُ) أَيْ مُقْتَضَى ظَنِّهِ وَأَوْصَلَهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَذَلِكَ) الْإِعْطَاءُ (بِأَنَّ الْخَيْرَ بِيَدِهِ) ذِكْرُ الْخَيْرِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِالذَّاتِ وَالشَّرِّ بِالْعَرْضِ إذْ لَا يُوجَدُ شَرٌّ جُزْئِيٌّ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ خَيْرًا كُلِّيًّا أَوْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ وَقَعَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ الْمُحَشِّي: هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفٌ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى السَّمَاعِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَسَمُ (هق) بَيْهَقِيٌّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى» يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبَّرَ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ ( «بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفَتِهَا» أَيْ طَرَفِهَا يُقَالُ شَفَا كُلِّ شَيْءٍ أَيْ حَرْفُهُ وَطَرَفُهُ «الْتَفَتَ» خَلْفَهُ مَثَلًا «فَقَالَ أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ» مُخَفَّفَةٌ وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ «كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنٌ» فِي الدُّنْيَا وَقَدْ خَرَجْت بِهِ «فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رُدُّوهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»

الخامس والعشرون ومن الآفات القلبية التطير

فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُحْسِنَ ظَنَّهُ بِهِ تَعَالَى. (وَأَمَّا الثَّانِي) هُوَ حُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ (فَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِيمَا يُشَكُّ فِيهِ مِنْ أَمْرِهِمْ) مِنْ الْفَسَادِ وَالصَّلَاحِ أَيْ اسْتِوَائِهَا فَعِنْدَ رُجْحَانِ جَانِبِ الصَّلَاحِ فَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ عِنْدَ رُجْحَانِ جَانِبِ الْفَسَادِ فَحُسْنُ الظَّنِّ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ بَلْ اللَّازِمُ حِينَئِذٍ الْبُغْضُ فِي اللَّهِ كَمَا مَرَّ قَرِيبًا فَافْهَمْ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ مَدَارَ الظَّنِّ هُوَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ ظَنًّا عَلَى الْحُكْمِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الظَّنُّ عِنْدَ كَوْنِ مَدَارِهِ شَكًّا وَقَدْ قِيلَ إنَّ الشَّكَّ مِنْ بَابِ التَّصَوُّرَاتِ وَالظَّنَّ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ وَتَحْصِيلُ التَّصْدِيقِ مِنْ التَّصَوُّرِ لَيْسَ بِجَائِزٍ عَلَى الْمَذْهَبِ وَأَنَّ الشَّكَّ وَالظَّنَّ مَاهِيَّتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَكَيْفَ تَتَحَصَّلُ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى فَكَيْفَ يَتَحَصَّلُ حُسْنُ الظَّنِّ عِنْدَ كَوْنِ مُوجِبِهِ شَكًّا (وَيَحْتَمِلُ الصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ) احْتِمَالًا مُسَاوِيًا (خُصُوصًا فِي الْمُسْلِمِ الظَّاهِرِ عَدَالَتُهُ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ بِانْضِمَامِ الْعَدَالَةِ إلَى التَّسَاوِي الصُّورِيِّ يَخْرُجُ مِنْ الشَّكِّ إلَى الظَّنِّ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْبَابِ (فَحَمْلُهُ عَلَى الْفَسَادِ حَرَامٌ) اللَّازِمُ إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ كَمَا فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَعَلَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى دَلَالَةِ أَدِلَّةِ سُوءِ الظَّنِّ فَافْهَمْ (وَ) حَمْلُهُ (عَلَى الصَّلَاحِ) بِحُسْنِ الظَّنِّ (مُسْتَحَبٌّ) لِأَدِلَّةِ حُسْنِ الظَّنِّ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْفَسَادِ حَرَامًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا وَقُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَاللَّازِمُ هُوَ الْوُجُوبُ لَا الِاسْتِحْبَابُ وَقَدْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا إنَّ ضِدَّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاجِبٌ إنْ قَوِيَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ وَإِلَّا فَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْحَمْلِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ بَلْ التَّوَقُّفُ فَجَائِزٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَنْدُوبٍ. [الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَمِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ التَّطَيُّرُ] (الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ) وَمِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ (التَّطَيُّرُ) مَصْدَرُ تَطَيَّرَ مِنْ الشَّيْءِ وَأُطِيرَ مِنْهُ (وَالطِّيَرَةُ) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ التَّفَاؤُلُ بِالطَّيْرِ فَإِنَّهُمْ يَتَفَاءَلُونَ بِأَسْمَائِهَا وَأَصْوَاتِهَا وَمُرُورِهَا ثُمَّ خُصَّ بِالتَّشَاؤُمِ وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَامَةً لِلشَّرِّ وَالشُّؤْمِ ضِدُّ الْيُمْنِ فَلِذَا قَالَ (وَهُوَ التَّشَاؤُمُ) وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إذَا خَرَجُوا لِحَاجَةٍ فَإِنْ رَأَوْا الطَّيْرَ يَمُرُّ يَمْنَةً يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَإِنْ يَسْرَةً يَتَشَاءَمُونَ وَيَرْجِعُونَ إلَى بُيُوتِهِمْ وَرُبَّمَا يُنَفِّرُونَ الطُّيُورَ فَإِنْ أَخَذَتْ جَانِبَ الْيَمِينِ يَتَبَرَّكُونَ أَوْ جَانِبَ الْيَسَارِ فَيَتْرُكُونَ (وَهُوَ حَرَامٌ) بِالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْكُفْرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِظَاهِرِ

مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَزَيْدٌ أَسَدٌ أَوْ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ التَّأْثِيرِ مِنْهُ قَالَ الْمُحَشِّي هَذَا إذَا عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ وَحَقَّقَهُ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُحَقِّقْ فَلَا بِالِاتِّفَاقِ بَلْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَإِنَّمَا كَانَ شِرْكًا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا يَتَشَاءَمُونَ بِهِ سَبَبٌ مُؤَثِّرٌ فِي حُصُولِ الْمَكْرُوهِ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّطَيُّرِ وَالطِّيَرَةِ أَنَّ التَّطَيُّرَ الظَّنُّ السَّيْء بِالْقَلْبِ وَالطِّيَرَةُ الْفِعْلُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ الطِّيَرَةِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ (ثَلَاثًا) أَيْ كَرَّرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ ثَلَاثًا تَأْكِيدًا اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَدَفْعًا لِتَوَهُّمِ إرَادَةِ غَيْرِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ لِخَفَاءِ النِّسْبَةِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالتَّطَيُّرِ (وَمَا مِنَّا) أَيْ لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ جَمَاعَتِنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ يَتَطَيَّرُ (إلَّا) وَيَجِدُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ) أَيْ التَّطَيُّرَ (بِالتَّوَكُّلِ) فَالتَّوَكُّلُ عِلَاجٌ لِلتَّطَيُّرِ أَوْ يُذْهِبُ إثْمَ التَّطَيُّرِ عَنْ الْخَطَّابِيِّ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا مِنَّا إلَّا مَنْ يَعْتَرِضُهُ التَّطَيُّرُ وَتَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِهِ الْكَرَاهِيَةُ فِيهِ فَحَذَفَهُ اخْتِصَارًا لِلْكَلَامِ وَاعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ قَالَ الْبُخَارِيُّ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يُنْكِرُ هَذَا وَيَقُولُ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَقَالَ إنَّ كُلَّ كَلَامٍ مَسُوقٍ فِي السِّيَاقِ لَا يَقْبَلُ دَعْوَى الدَّرَجِ فِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ وَدَلِيلٍ وَقِيلَ فَلَعَلَّهُ كَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُوَافَقَتِهِ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ الظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ وَالْحَسَدُ وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ إذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقُ وَإِذَا تَطَيَّرْت فَامْضِ وَإِذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ التَّمَائِمَ وَالرُّقَى وَالتَّوَلَةَ مِنْ الشِّرْكِ التَّمَائِمُ خَرَزَاتٌ تُعَلِّقُهَا الْعَرَبُ عَلَى أَوْلَادِهِمْ لِاتِّقَاءِ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ» وَإِنَّمَا كَانَ شِرْكًا عِنْدَ إرَادَةِ دَفْعِ الْمُقَدَّرَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إنْ اعْتَقَدَ رَدَّ الْقَدَرِ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ وَغَيْرِهِ هَذَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَحْوُ قُرْآنٍ وَإِلَّا فَمَا فِيهِ ذِكْرُهُ تَعَالَى فَلَا نَهْيَ عَنْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّعَوُّذِ بِأَسْمَائِهِ، وَكَذَا لَا نَهْيَ فِيمَا يُعَلَّقُ لِأَجْلِ الزِّينَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْخُيَلَاءَ وَالسَّرَفَ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَفِي النِّصَابِ لَكِنْ يَنْزِعُهُ عِنْدَ الْخَلَاءِ وَالْقُرْبَانِ وَعَنْ الْخَانِيَّةِ مَا صَنَعَتْ الْمَرْأَةُ لِحُبِّ زَوْجِهَا حَرَامٌ وَمَا يُتَّخَذُ لُعْبَةً لِتَفْرِيقِ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا ارْتِدَادٌ فَيُقْتَلُ إنْ اعْتَقَدَ التَّفْرِيقَ مِنْ اللُّعْبَةِ، وَكَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ (خ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا عَدْوَى»

مُجَاوَزَةُ الْعِلَّةِ مِنْ صَاحِبِهَا إلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الْمَبَارِقِ أَيْ لَا سِرَايَةَ لِعِلَّةٍ مِنْ صَاحِبِهَا لِغَيْرِهِ كَمَا يَعْتَقِدُ الطَّبَائِعِيُّونَ مِنْ سِرَايَتِهَا بِالطَّبْعِ بَلْ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالنَّهْيُ عَنْ مُدَانَاةِ الْمَجْذُومِ مِنْ قَبِيلِ اتِّقَاءِ الْجِدَارِ الْمَائِلِ وَالسَّفِينَةِ الْمَعِيبَةِ «وَلَا طِيَرَةَ» أَيْ تَشَاؤُمَ كَمَا مَرَّ وَفِي النِّصَابِ إذَا خَرَجَ إلَى السَّفَرِ فَصَاحَ الْعَقْعَقُ وَرَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ يَكْفُرُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَعَنْ الْمُحِيطِ إذَا صَاحَتْ الْهَامَةُ، فَقَالَ رَجُلٌ يَمُوتُ الْمَرِيضُ يَكْفُرُ عِنْدَ الْبَعْضِ ( «وَلَا هَامَةَ» بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ تَشْدِيدَهَا دَابَّةٌ تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْقَتِيلِ أَوْ تَتَوَلَّدُ مِنْ دَمِهِ فَلَا تَزَالُ تَصِيحُ حَتَّى يُؤْخَذَ بِثَأْرِهِ كَذَا تَزْعُمُ الْعَرَبُ فَأَكْذَبَهُمْ الشَّارِعُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَلَا يُنَافِيهِ خَبَرٌ لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ لِبِنَائِهِ عَلَى الِاعْتِقَادِ أَوْ تَشْوِيشِ النَّفْسِ وَتَأْثِيرِ الْوَهْمِ فِيهِ دَفْعُ التَّعَارُضِ بِلَا مَدْخَلٍ فِيهِ لِلنَّسْخِ وَعَنْ ابْنِ رَجَبٍ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ الِاشْتِغَالُ بِمَا يُرْجَى بِهِ دَفْعُ الْعَذَابِ مِنْ إجْمَالِ الطَّاعَاتِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ قِيلَ عَنْ شَرْحِ السُّنَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ تَطَيُّرُ الْعَامَّةِ بِصَوْتِ الْهَامَةِ ( «وَلَا صَفَرَ» بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْمُحَرَّمِ إلَى صَفَرٍ فِي النَّسِيءِ أَوْ دَابَّةٌ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ تَلْدَغُهُ إذَا جَاعَتْ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ شَهْرَ صَفَرٍ تَكْثُرُ فِيهِ الدَّوَاهِي وَعَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى سَأَلْته عَنْ جَمَاعَةٍ لَا يُسَافِرُونَ فِي صَفَرٍ وَلَا يَبْتَدِئُونَ بِالْأَعْمَالِ فِيهِ مِنْ النِّكَاحِ وَالدُّخُولِ فِيهِ وَيَتَمَسَّكُونَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ صَفَرٍ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ» هَلْ يَصِحُّ هَذَا الْخَبَرُ وَهَلْ فِيهِ نُحُوسَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ الْعَمَلِ فِيهِ، وَكَذَا لَا يُسَافِرُونَ إذَا كَانَ الْقَمَرُ فِي بُرْجِ الْعَقْرَبِ، وَكَذَا لَا يَخِيطُونَ الثِّيَابَ وَلَا يَقْطَعُونَهَا إذَا كَانَ الْقَمَرُ فِي بُرْجِ الْأَسَدِ هَلْ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا قَالَ أَمَّا مَا يَقُولُونَ فِي صَفَرٍ فَذَاكَ شَيْءٌ كَانَتْ الْعَرَبُ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا يَقُولُونَ الْقَمَرُ فِي الْعَقْرَبِ أَوْ فِي الْأَسَدِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ يَذْكُرُهُ أَهْلُ النُّجُومِ وَلِتَنْفِيذِ مَقَالَتِهِمْ يَنْسُبُونَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ انْتَهَى قَوْلُهُ كَانَتْ الْعَرَبُ إلَخْ يُشْعِرُ بِإِرَادَةِ تَجْوِيزِهِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فِعْلَ الْعَرَبِ لَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الْجَوَازِ بَلْ أَكْثَرُ أَفْعَالِهِمْ أَفْعَالُ زَمَانِ الْجَهَالَةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ثُمَّ قِيلَ وَمِنْ زَعَمَاتِ الْعَرَبِ أَنَّ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ حَيَّةً تَعَضُّهُ إذَا جَاعَ وَيُسَمُّونَهَا صَفَرًا (وَزَادَ) الْبُخَارِيُّ (فِي رِوَايَةٍ «وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ»

لِأَنَّهُ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمُعْتَدِيَةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْجَرَبِ وَالْحَصْبَاءِ وَالْوَبَاءِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا عَدْوَى يَعْنِي بِطَبْعِهِ لَا بِفِعْلِهِ تَعَالَى كَمَا تَزْعُمُ الْعَرَبُ وَعَنْ عِيَاضٍ فِي صَحِيحِ شَرْحِ مُسْلِمٍ «كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا قَدْ بَايَعْنَاك فَارْجِعْ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ» وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ وَقَالَ ثِقَةً بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَكَانَ لَنَا مَوْلًى مَجْذُومٌ وَكَانَ يَأْكُلُ فِي صِحَافِي وَيَشْرَبُ فِي أَقْدَاحِي وَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِي وَذَهَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ إلَى الْأَكْلِ مَعَهُ وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمْرَ بِاجْتِنَابِهِ مَنْسُوخٌ وَالصَّحِيحُ عَدَمُ نَسْخِهِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِحَمْلِ الْفِرَارِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاحْتِيَاطِ وَأَمَّا الْأَكْلُ فَلِتَعْلِيمِ الْجَوَازِ وَاخْتُلِفَ هَلْ لِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ عِنْدَ وِجْدَانِهَا زَوْجَهَا مَجْذُومًا وَأَيْضًا هَلْ لِلْأَمَةِ مَنْعُ نَفْسِهَا عَنْ قُرْبَانِ مَوْلَاهَا وَهَلْ يُمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّهُمْ عِنْدَ تَكَثُّرِهِمْ هَلْ يُؤْمَرُونَ بِاتِّخَاذِ مَوْضِعٍ لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً وَهَلْ نَمْنَعُهُمْ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ النَّافِعَةِ (د عَنْ قَطَنٍ) بِفَتْحَتَيْنِ (ابْنِ قَبِيصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْعِيَافَةُ» بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ قِيلَ هُوَ التَّكَهُّنُ لَكِنْ فِي الْحَاشِيَةِ زَجْرُ الطُّيُورِ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَالِاعْتِبَارُ بِأَسْمَائِهَا وَأَصْوَاتِهَا وَمَسَاقِطِهَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعِيَافَةِ (وَالطِّيَرَةُ) أَيْ التَّشَاؤُمُ بِأَسْمَاءِ الطُّيُورِ وَأَصْوَاتِهَا وَأَلْوَانِهَا وَجِهَةِ مَسِيرِهَا عِنْدَ تَنْفِيرِهَا كَمَا يُتَفَاءَلُ بِالْعِقَابِ عَلَى الْعُقُوبَةِ وَبِالْغُرَابِ عَلَى الْغُرْبَةِ وَبِالْهُدْهُدِ عَلَى الْهُدَى وَكَمَا يُنْظَرُ إنْ طَارَ إلَى جِهَةِ الْيَمِينِ تَيَمَّنَ أَوْ الْيَسَارِ تَشَاءَمَ ( «وَالطَّرْقُ» بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ الضَّرْبُ بِالْحَصَى أَوْ الْخَطُّ بِالرَّمْلِ وَمِنْهُ الضَّرْبُ بِالْبَاقِلَاءِ وَالشَّعِيرِ فِي زَمَانِنَا وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْكِهَانَةِ ( «مِنْ الْجِبْتِ» مِنْ أَعْمَالِ السِّحْرِ فَكَالسِّحْرِ فِي الْحُرْمَةِ وَعَنْ الْفِرْدَوْسِ الْجِبْتُ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ الْكَهَنَةُ وَالشَّيَاطِينُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكَهَنَةِ وَالشَّيَاطِينِ قِيلَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ يَتَيَمَّنُونَ بِكُلِّ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُمْ وَإِنْ كَانَ جَانِبَ شَرٍّ وَيَتَشَاءَمُونَ بِمَا يُخَالِفُ وَإِنْ جَانِبَ خَيْرٍ وَيَتَشَاءَمُونَ وَإِنْ كَانَ الْهَامَةُ أَنْصَحَ الطُّيُورِ لِابْنِ آدَمَ وَأَشْفَقَ بِهِ وَنُقِلَ عَنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ كُنْت عِنْدَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

فَقَالَ أَلَا أُخْبِرُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَغْرَبِ شَيْءٍ قَرَأْته فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ هَامَةً جَاءَتْ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَقَالَتْ السَّلَامُ عَلَيْك يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ وَعَلَيْك السَّلَامُ يَا هَامَةُ لِمَ لَا تَأْكُلِينَ مِنْ الزَّرْعِ قَالَتْ خَرَجَ آدَم بِسَبَبِهِ قَالَ لِمَ لَا تَشْرَبِينَ مِنْ الْمَاءِ قَالَتْ غَرِقَ فِيهِ قَوْمُ نُوحٍ قَالَ لِمَ تَرَكْت الْعُمْرَانَ وَاخْتَرْت الْخَرَابَ قَالَتْ؛ لِأَنَّ الْخَرَابَ مِيرَاثُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فَمَا صِيَاحُك فِي الدُّورِ قَالَتْ أَقُولُ وَيْلٌ لِبَنِي آدَمَ كَيْفَ يَنَامُونَ وَأَمَامَهُمْ الشَّدَائِدُ قَالَ لِمَ لَا تَخْرُجِينَ فِي النَّهَارِ قَالَتْ مِنْ كَثْرَةِ ظُلْمِ بَنِي آدَمَ لِأَنْفُسِهِمْ قَالَ مَا تَقُولِينَ فِي صِيَاحِك قَالَتْ أَقُولُ تَزَوَّدُوا يَا غَافِلُونَ وَتَهَيَّئُوا لِسَفَرِكُمْ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ فِي الطُّيُورِ أَنْصَحُ لِابْنِ آدَمَ وَأَشْفَقُ مِنْ الْهَامَةِ وَلَا فِي قُلُوبِ الْجُهَّالِ أَبْغَضُ مِنْهَا (خ م عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عَدْوَى» بِطَبْعِهَا كَالطَّبائِعِيِّينَ وَالْأَطِبَّاءِ فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ كَمَا سَبَقَ «وَلَا طِيَرَةَ وَإِنَّمَا الشُّؤْمُ» ضِدُّ الْيُمْنِ «فِي ثَلَاثٍ فِي الْفَرَسِ» بِأَنْ تَكُونَ شَمُوسًا أَوْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحَرَّمِ «وَالْمَرْأَةِ» بِأَنْ تَكُونَ بَذِيَّةَ اللِّسَانِ أَوْ عَاقِرًا أَوْ مُعَرَّضَةَ الْعَيْبِ «وَالدَّارِ» بِضِيقِ مَسَاكِنِهَا وَسُوءِ جِيرَانِهَا (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ» قِيلَ مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ لِلشُّؤْمِ وُجُودٌ لَكَانَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ فَلَيْسَ (د عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثِيرٌ فِيهَا عَدَدُنَا فِيهَا وَكَثِيرٌ فِيهَا أَمْوَالُنَا فَتَحَوَّلْنَا» نَقَلْنَا وَهَاجَرْنَا «إلَى دَارٍ أُخْرَى فَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا» بِالْمَوْتِ «وَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا» بِالتَّلَفِ وَعَدَمِ النَّمَاءِ «فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَرُوهَا ذَمِيمَةً» اخْتَلَفُوا فِي تَطْبِيقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ» بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَلَا طِيَرَةَ» وَجْهُ التَّعَارُضِ أَنَّ قَوْلَهُ «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» فِي قُوَّةٍ سَالِبَةٍ كُلِّيَّةٍ أَعْنِي لَا شَيْءَ مِنْ الطِّيَرَةِ بِمَوْجُودٍ لِقَوْلِهِ وَلَا طِيَرَةَ وَقَوْلُهُ إنَّمَا الشُّؤْمُ فِي قُوَّةٍ مُوجِبَةٍ جُزْئِيَّةٍ أَعْنِي بَعْضَ الطِّيَرَةِ مَوْجُودٌ إذْ الطِّيَرَةُ هِيَ التَّشَاؤُمُ فَإِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بَعْضٌ مِنْ مُطْلَقِ الطِّيَرَةِ فَهُمَا قَضِيَّتَانِ مُتَنَاقِضَتَانِ فَإِمَّا يُوَفِّقُ أَوْ يُرَجِّحُ إحْدَاهُمَا أَوْ يَحْكُمُ إنْ كَانَ مَوْضِعًا يَجْرِي فِيهِ النَّسْخُ بِنَسْخِ إحْدَاهُمَا إنْ عُلِمَ تَارِيخُهُمَا وَإِلَّا تَسَاقَطَا وَلَا يَحْكُمُ بِشَيْءٍ مِنْ مُوجِبِهِمَا فَيَحْكُمُ بِمَا تَقْتَضِي الْقَوَاعِدُ وَالْأُصُولُ إذَا لَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ (قَالَ بَعْضُهُمْ شُؤْمُ الثَّلَاثِ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ) وَالتَّقْدِيرِ (بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى) وَهِيَ إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ إنْ لِلشَّكِّ وَأَصْلُ الشَّكِّ الْعَدَمُ أَوْ بِمَعْنَى لَوْ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا وَأَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَةِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا كَبَعْضِ الْحَدِيثِ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ وَالْآيَةِ كَذَلِكَ فَحَاصِلُهُ مُنِعَ لِقَوْلِهِ بَعْضُ الطِّيَرَةِ مَوْجُودٌ لَكِنْ يُرَدُّ أَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ وَلَا طِيَرَةَ لَا يُلَائِمُ لِمَا ذَكَرَهُ لَا سِيَّمَا التَّعْبِيرُ بِكَلِمَةِ إنَّمَا الْمَوْضُوعَةُ لِلْحَصْرِ وَالتَّأْكِيدِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا الشُّؤْمُ بَيَانُ تَغْيِيرٍ لِمَا قَبْلَهُ إذْ يَجُوزُ كَوْنُهُ بَيَانَ تَغْيِيرٍ بِالْعَطْفِ وَعَدَمُ ذِكْرِ أَهْلِ الْأُصُولِ لَيْسَ لِعَدَمِ جَوَازِهِ بَلْ لِعَدَمِ اطِّرَادِهِ وَانْضِبَاطِهِ كَمَا فِي الْمِرْآةِ وَأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْفَرْضِ وَجْهٌ بَلْ الْجَمِيعُ فِي الْإِمْكَانِ وَالِامْتِنَاعِ مُتَسَاوٍ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ ذَرُوهَا ذَمِيمَةً آبٍ عَنْ ذَلِكَ وَتَأْوِيلُهُ أَيْضًا بَعِيدٌ (وَ) قَالَ (بَعْضُهُمْ) مَنْعًا لِتِلْكَ الْجُزْئِيَّةِ بِمَعْنَى عَدَمِ اتِّحَادِ

مَوْضُوعِهَا مَعَ مَوْضُوعِ الْكُلِّيَّةِ وَالِاتِّحَادُ شَرْطٌ فِي الْوَحَدَاتِ الثَّمَانِيَةِ (شُؤْمُ الْمَرْأَةِ سُوءُ خُلُقِهَا) مَثَلًا أَوْ فِي الْأَكْثَرِ وَإِلَّا فَيَجُوزُ بِغَيْرِهَا (وَشُؤْمُ الْفَرَسِ شُمُوسُهَا) نُفْرَتُهَا مِنْ رَاكِبِهَا وَاشْتِدَادُهَا كَمَا وَفَّقَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَيْرُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِي الْخَيْلِ» وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنَّ الشُّؤْمَ قَدْ يَكُونُ فِي الْفَرَسِ بِأَنَّ الشُّؤْمَ فِي الْفَرَسِ بِعَدَمِ كَوْنِهَا مُعَدَّةً لِلْغَزْوِ وَنَحْوِهِ وَأَنَّ الشُّؤْمَ وَالْخَيْرَ يَجْتَمِعَانِ فِيهَا لِتَفْسِيرِهِ الْخَيْرُ بِالْأَجْرِ وَالْمَغْنَمِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَلَا يَمْنَعُ مَعَ هَذَا أَنْ يُتَشَاءَمَ بِهِ انْتَهَى. (وَشُؤْمُ الدَّارِ ضِيقُهَا وَسُوءُ جِيرَانِهَا) مَثَلًا فَإِنَّ نَحْوَ بُعْدِهَا عَنْ الْمَسْجِدِ أَوْ بُعْدِهَا عَنْ الْمَاءِ وَبَعْضِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ فَحَاصِلُ ذَلِكَ مَنْعُ كَوْنِ الشُّؤْمِ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الطِّيَرَةِ بَلْ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَتَفْصِيلُهُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الطِّيَرَةِ فِي الْجُزْئِيَّةِ وَهُوَ الشُّؤْمُ بِمَعْنَى جَعْلِ الشَّيْءِ عَلَامَةً لِلشَّرِّ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ إذْ الشُّؤْمُ فِي الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَأَنَّ اللُّغَوِيَّ فَالْجُزْئِيَّةُ مُسَلَّمَةٌ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ اتِّحَادَ مَوْضُوعَيْ الْجُزْئِيَّةِ وَالْكُلِّيَّةِ إذْ مَوْضُوعُ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبَةِ هُوَ الشُّؤْمُ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ شُرِطَ فِي التَّنَاقُضِ اتِّحَادُ الْمَوْضُوعِ كَمَا مَرَّ آنِفًا لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ ذَرُوهَا ذَمِيمَةً لَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِذَلِكَ بَلْ آبٍ أَيْضًا وَأَنَّ الشُّؤْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثُرَ أَفْرَادُهُ فَلَا يَحْسُنُ تَخْصِيصُهُ بِالثَّلَاثَةِ سِيَّمَا بِأَدَاةِ الْحَصْرِ (وَقِيلَ شُؤْمُ الْمَرْأَةِ غَلَاءُ مَهْرِهَا) تَجَاوُزُهُ عَنْ الْحَدِّ (وَقِيلَ أَنْ لَا تَلِدَ) لِكَوْنِهَا عَاقِرًا (وَشُؤْمُ الْفَرَسِ أَنْ لَا يُغْزَى عَلَيْهَا) بَلْ تُعَدُّ لِلْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ مِثْلُ التَّفَاخُرِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ رَاجِعَانِ إلَى مَا قَبْلَهُ بَلْ الْأَوْلَى أَنْ يُجْمَعَ كُلُّهُ بِفَصْلٍ وَاحِدٍ (وَبَعْضُهُمْ) قَالَ (إنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَخْصُوصَةٌ مِنْ الطِّيَرَةِ) بِالْجَوَازِ لِشِدَّةِ الِابْتِلَاءِ بِهَا عَادَةً كَذَا قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّ امْتِنَاعَ الطِّيَرَةِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَاتِيًّا فَاشْتِدَادُ الِابْتِلَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَوَازِهِ وَأَمَّا حُجِّيَّةُ عُمُومِ الْبَلْوَى وَالْعُسْرِ وَالْحَرَجِ فَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا هُوَ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لَا الِامْتِنَاعَاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِيهِ يَضْعُفُ قَوْلُهُ (وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «ذَرُوهَا ذَمِيمَةً» ؛ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْأَحَادِيثِ بَلْ بِمُطْلَقِ النَّصِّ إنَّمَا يُمْكِنُ إذَا كَانَ مَضْمُونُهَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ وَإِلَّا فَتُؤَوَّلُ النُّصُوصُ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَتُرَدُّ إنْ أَمْكَنَ كَأَخْبَارِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا كَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ فَيَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ فَيَتَوَقَّفُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالشِّرْكِ فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرَهُ إذْ التَّشَاؤُمُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرُ غَيْرِهِ تَعَالَى حَقِيقَةً بَلْ مِثْلُهُ يَجْرِي فِي غَيْرِ التَّشَاؤُمِ بَلْ فِي مُطْلَقِ الْعَادِيَّاتِ بَلْ فِي الِاتِّفَاقِيَّاتِ الْغَالِبَةِ فَلَا يَحْسُنُ تَخْصِيصُهُ بِالتَّشَاؤُمِ فَلَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّهُ يَجُوزُ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الشُّؤْمَ دُونَ بَعْضٍ فَنَفَى ذَلِكَ الْبَعْضَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَأَثْبَتَ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ (وَيَكُونُ شُؤْمُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِخَاصِّيَّةِ وَضَعَهَا فِيهَا) فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا ثَبَتَ الشُّؤْمُ فِي الْبَعْضِ بِالنَّصِّ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ بِالْقِيَاسِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَى ذَلِكَ بِتِلْكَ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبَةِ النَّبَوِيَّةِ فَيَكُونُ رَأْيًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَأَنَّ ثُبُوتَ حُكْمِ الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ بِنَصٍّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَمِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ خَارِجًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ فَإِنْ قِيلَ إنَّهُمْ قَدْ يَدَّعُونَ الشُّؤْمِيَّةَ فِي غَيْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ كَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَيُسْنِدُونَ ذَلِكَ إلَى التَّجْرِبَةِ وَقَدْ عُلِمَ فِي فَنِّ الْمِيزَانِ بَلْ الْأُصُولُ أَنَّ التَّجْرِيبِيَّاتِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْبُرْهَانِ. قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ التَّجْرِبَةَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُتَصَوَّرُ عِنْدَ عَدَمِ التَّخَلُّفِ كُلَّمَا تَكَرَّرَ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْمَنْعِ وَلَوْ سَلِمَ فَلَيْسَ كُلُّ تَجْرِبَةٍ مِنْ الْيَقِينِيَّةِ بَلْ مِنْهَا ظَنِّيَّةٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا وَهْمِيَّةٌ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْوِجْدَانُ وَلَوْ سَلِمَ فَيَجُوزُ حَصْرُ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَدِيثِ بِنَاءً عَلَى الْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ فَتَأَمَّلْ. فِيهِ (كَالْأَدْوِيَةِ الْمُضِرَّةِ) وَالْعَيْنِ الْمُصِيبَةِ (لَا بِطَبْعِهَا) فَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّشَاؤُمَ جَائِزٌ فِي الثَّلَاثَةِ لَا بِطَبْعِهَا بَلْ بِإِذْنِهِ تَعَالَى

وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلَا يَجُوزُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى كَمَا لَا بِطَبْعِهَا لِعَدَمِ النَّصِّ وَلِعَدَمِ الْقِيَاسِ كَمَا عَرَفْت فَاعْتِقَادُ التَّشَاؤُمِ فِي غَيْرِ الثَّلَاثَةِ كَمَا يَكُونُ كَذِبًا بِالْعَدَمِ خَارِجٌ لِنِسْبَتِهِ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكْفُرُ إنْ عَلَى قَصْدِ التَّكْذِيبِ عِيَاذًا بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَيَكْفُرُ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ لُزُومُ الْكُفْرِ كُفْرٌ وَلَا يَكْفُرُ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ بَلْ يُشْتَرَطُ الِالْتِزَامُ فِي كَوْنِهِ كَافِرًا فَافْهَمْ لَعَلَّ هَذَا الْجَوَابَ الثَّالِثَ هُوَ الْحَقُّ لِمَا عَرَفْت فَيَكُونُ إيجَادُ الشُّؤْمِ فِيهَا كَإِيجَادِ الْحَرَارَةِ وَالطَّبْخِ وَالْإِحْرَاقِ لِلنَّارِ فِي كَوْنِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَهُ تَعَالَى لَا بِإِيدَاعِ قُوَّةٍ مُوجِبَةٍ لِمَا ذُكِرَ، وَنَحْوُهُ الْأَلَمُ عِنْدَ الْجُرْحِ وَالشِّبَعُ عِنْدَ الطَّعَامِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لِلتَّفْتَازَانِيِ وَنُقِلَ عَنْ السَّنُوسِيِّ الِاتِّفَاقُ فِي إكْفَارِ مَنْ اعْتَقَدَ تَأْثِيرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِطَبْعِهَا. (وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي تَطْبِيقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ» بِكَسْرِ الرَّاءِ مَنْ كَانَتْ إبِلُهُ مَرِيضَةً «عَلَى مُصَحِّحٍ» مَنْ كَانَتْ إبِلُهُ صَحِيحَةً (خَرَّجَهُ خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا عَدْوَى» أَكْثَرُهُمْ حَمَلُوا الْأَوَّلَيْنِ عَلَى صِيَانَةِ الِاعْتِقَادِ) مِمَّا يُكَفِّرُ صَاحِبَهُ أَوْ يُبَدِّعُهُ عِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْأَمْرَاضِ بِالْمُخَالَطَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّفَاقِ بِاعْتِقَادِ التَّأْثِيرِ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى (كَمَا) فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ (فِي) حَقِّ (الطَّاعُونِ) حَيْثُ كَرِهُوا الْقُدُومَ عَلَيْهِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَلَسْتُمْ بِهَا فَلَا تَهْبِطُوا عَلَيْهَا» وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدَمَنَّ عَلَيْهِ وَإِنْ وَقَعَ بِأَرْضٍ وَهُوَ بِهَا فَلَا يَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ» نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ هَذَا أَيْ صِيَانَةُ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - الْفِرَارُ مِنْهُ كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ (وَبَعْضُهُمْ) حَمَلَ (عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ) بِقَوْلِهِ لَا عَدْوَى. (التَّعْدِيَةُ بِالطَّبْعِ) فَيَجُوزُ السِّرَايَةُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا سِرَايَةَ مُطْلَقًا وَهُوَ الْأَكْثَرُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا (كَمَا يَعْتَقِدُهُ أَصْحَابُ الطَّبِيعَةِ) مِنْ الْفَلَاسِفَةِ (وَأَمَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ فَجَائِزٌ) وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا نُقِلَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ تَوَجَّهَ إلَى الشَّامِ وَسَمِعَ أَنَّ الطَّاعُونَ فِيهَا رَجَعَ فَقِيلَ أَتَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فِرَارِي مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ فِرُّوا مِنْ الطَّاعُونِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِرُّوا مِنْ هَذَا الرِّجْزِ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ وَفِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَإِذَا تَزَلْزَلَتْ الْأَرْضُ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِرَارُ إلَى الصَّحْرَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَفِيهِ قِيلَ الْفِرَارُ مِمَّا لَا يُطَاقُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ يُفِيدُ جَوَازَ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ إذَا نَزَلَ بِبَلَدِهِ وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِخِلَافِهِ انْتَهَى قَالَ الْحَمَوِيُّ فِي شَرْحِهِ قَوْلَهُ وَهُوَ يُفِيدُ جَوَازَ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ أَقُولُ فِي الْإِفَادَةِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ انْتَهَى قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «إذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ» إلَخْ عَنْ الْخَطَّابِيِّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ وَالْآخَرُ تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ وَعَنْ التُّورْبَشْتِيِّ أَنَّهُ شُرِعَ لَنَا التَّوَقِّي مِنْ الْمَحْذُورِ وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا بَلَغَ الْحِجْرَ مَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ دُخُولِهِ» انْتَهَى وَعَنْ فَتَاوَى أَبِي مَسْعُودٍ الْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ بِنِيَّةِ الِالْتِجَاءِ مِنْ قَهْرِهِ إلَى لُطْفِهِ جَائِزٌ وَفِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْجُذَامَ كَالْجَرَبِ وَالْحَصْبَاءِ وَالْوَبَاءِ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمُتَعَدِّيَةِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى لَا بِطَبْعِهَا كَمَا اُعْتُقِدَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا قَالَ بَعْضٌ مِنْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ مَنْ هُوَ فِي بَلَدٍ فِيهَا الطَّاعُونُ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَالْمَرِيضِ وَمَنْ فِي الْمَعْرَكَةِ

انْتَهَى. وَفِي الْأَشْبَاهِ فَلَوْ أَغْضَبَ صَبِيًّا وَمَاتَ عِنْدَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ إلَّا إذَا نَقَلَهُ إلَى مَسْبَعَةٍ أَوْ مَكَانِ الْوَبَاءِ أَوْ الْحُمَّى (وَارْتَضَاهُ الْإِمَامُ التُّورْبَشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) مِنْ فُضَلَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (لِمَا فِيهِ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ) نَفْسِهَا بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ كَمَا سَبَقَ (وَبَيْنَهَا) الظَّاهِرُ عَلَى الِاسْتِخْدَامِ (وَبَيْنَ قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ) إذْ ظَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَنْعُ السِّرَايَةِ مُطْلَقًا وَقَوْلُ الْأَطِبَّاءِ إثْبَاتُ السِّرَايَةِ فِي الْبَعْضِ وَحُمِلَ مَنْعُ السِّرَايَةِ عَلَى مَا هِيَ بِالطَّبْعِ وَحُمِلَ إثْبَاتُ السِّرَايَةِ عَلَى مَا هِيَ بِإِذْنِهِ تَعَالَى تَوْفِيقٌ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ (حَيْثُ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْعِلَلَ السَّبْعَ تَتَعَدَّى) لَا يَخْفَى إنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا التَّوْفِيقُ إذَا لَمْ يُصَرِّحُوا السِّرَايَةَ بِالطَّبْعِ وَأَنَّ عِلْمَ الطِّبِّ نَوْعٌ مِنْ عِلْمِ الْحِكْمَةِ وَالْحُكَمَاءُ يَنْفُونَ صُدُورَ الْأَشْيَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً غَيْرَ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ بَلْ يَنْسُبُونَ صُدُورَ مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا إلَى الْعَقْلِ الْفَيَّاضِ أَيْ الْعَاشِرِ (الْجُذَامُ) يُقَالُ جَذَمَ الْإِنْسَانُ إذَا أَصَابَهُ الْجُذَامُ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ اللَّحْمَ وَيُسْقِطُهُ (وَالْجَرَبُ) خَلْطٌ غَلِيظٌ يَحْدُثُ فِي الْجِلْدِ مِنْ مُخَالَطَةِ الْبَلْغَمِ الْمِلْحِ لِلدَّمِ (وَالْجُدَرِيُّ) قُرُوحٌ تَتَنَفَّطُ عَنْ الْجِلْدِ مُمْتَلِئَةٌ مَاءً ثُمَّ تَتَقَيَّحُ وَأَوَّلُ مَنْ عُذِّبَ بِهِ فِرْعَوْنُ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَهُ (وَالْحَصِبَةُ) وِزَانُ كَلِمَةٍ بَثْرٌ تَخْرُجُ بِالْجَسَدِ وَيُقَالُ هِيَ الْجُدَرِيُّ (وَالْبَخَرُ) نَتِنُ رِيحِ الْفَمِ (وَالرَّمَدُ) وَجَعُ الْعَيْنِ. (وَ) السَّابِعُ (الْأَمْرَاضُ الْوَبَائِيَّةُ) قَدْ تُفَسَّرُ بِالطَّاعُونِ وَالْحُمَّى الْمُحْرِقَةِ وَالتَّعَدِّيَةُ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى هَذِهِ السَّبْعِ بَلْ مَذَاهِبُهُمْ أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ يَكُونُ لَهَا نَتِنٌ وَرِيحٌ كَرِيهٌ لَهَا تَعْدِيَةٌ أَوْ رُدَّ عَلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ لَيْتَ شِعْرِي مَا سَبَبُ قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ بِالسِّرَايَةِ مَعَ أَنَّ سَبَبَ الْأَمْرَاضِ اخْتِلَاطُ الْأَخْلَاطِ وَالِاسْتِقْصَاءَات وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ أَسْبَابَ الْأَمْرَاضِ اخْتِلَاطُ الْأَخْلَاطِ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ مَنْ يَقْرَبُ مِنْ صَاحِبِ هَذِهِ الْأَوْرَامِ يَحْصُلُ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ تَكُونُ سَبَبًا لِاخْتِلَاطِ الْأَخْلَاطِ السَّبَبِ لِحُصُولِ الْأَمْرَاضِ فَيَمْرَضُ مِثْلَ مَرَضِهِ وَيُؤَيِّدُهُ أَمْرُهُمْ بِالتَّبَاعُدِ عَنْهُ وَبِعَدَمِ الْجُلُوسِ تَحْتَ الرِّيحِ مِنْهُ انْتَهَى أَقُولُ لَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِجَرَيَانِ عَادَةٍ مِنْهُ تَعَالَى فَيَحْصُلُ الْمَرَضُ بِمُجَرَّدِ الْقُرْبِيَّةِ فَيُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى اخْتِلَاطَ الْأَخْلَاطِ حِينَئِذٍ فَيَمْرَضُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَمْرَضَ بِلَا اخْتِلَاطٍ أَصْلًا عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ الْجَامِعُ هَهُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أَحَدُهَا مَا لَمْ يَقَعْ الضَّرَرُ بِهِ وَلَا اطَّرَدَتْ بِهِ عَادَةٌ لَا خَاصَّةٌ وَلَا عَامَّةٌ فَهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَأَنْكَرَ الشَّرْعُ الِالْتِفَاتَ إلَيْهِ وَهُوَ الطِّيَرَةُ وَالثَّانِي مَا يَقَعُ عِنْدَهُ الضَّرَرُ عُمُومًا لَا خُصُوصًا وَنَادِرًا لَا مُتَكَرِّرًا كَالْوَبَاءِ فَلَا يَقْدُمُ عَلَيْهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ وَالثَّالِثُ مَا يَخُصُّ وَلَا يَعُمُّ كَالدَّارِ وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ فَهَذَا يُبَاحُ الْفِرَارُ مِنْهُ (وَضِدُّ الطِّيَرَةِ الْفَأْلُ) بِالْهَمْزَةِ وَرُبَّمَا يُخَفِّفُهَا النَّاسُ (وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ) قِيلَ الْفَأْلُ فِيمَا يَسُرُّ وَيَسُوءُ وَالسُّرُورُ غَالِبٌ وَالطِّيَرَةُ فِيمَا يَسُوءُ فَقَطْ وَقَدْ يَتَجَوَّزُ فِي السُّرُورِ وَقِيلَ الطِّيَرَةُ فِيمَا يَسُوءُ وَالْفَأْلُ فِيمَا يَسُرُّ (خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ» ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ لِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَنَالُ بِذَلِكَ فَائِدَةً قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي الْفَأْلُ الْحَسَنُ شَرْطُهُ أَنْ لَا يَقْصِدَ الشَّرَّ وَإِلَّا فَطِيَرَةٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ ( «قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ قَالَ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» أَيْ يَحْصُلُ التَّبَرُّكُ وَالتَّيَمُّنُ بِهَا لِحُسْنِ مَدْلُولِهَا مِثْلُ يَا وَاجِدُ وَيَا سَالِمُ فَإِذَا سَمِعَ مَنْ لَهُ حُجَّةٌ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ رَجَاءَ الْوِجْدَانِ وَالسَّلَامَةِ وَبِالْجُمْلَةِ اسْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ الْمَرَامِ وَالنَّجَاحِ وَخَيْرِ الْعَاقِبَةِ

(ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْجِبُهُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ» وَهُوَ مِنْ قَضَيْت حَاجَتَهُ يَعْنِي يَتَبَرَّكُ بِهِمَا وَعَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ بُرَيْدَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ بِشَيْءٍ وَكَانَ إذَا بَعَثَ عَامِلًا سَأَلَ عَنْ اسْمِهِ فَإِنْ أَعْجَبَهُ فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ بِهَا وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ» (د عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «ذُكِرَتْ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ أَحْسَنُهَا» الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَالْأَحْسَنُ بِمَعْنَى الْحَسَنِ أَيْ حَسَنُ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْعَلَامَةِ لِلشَّيْءِ فَبِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ إذْ لَا حَسَنَ لِلطِّيَرَةِ إلَّا أَنْ يَتَجَوَّزَ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا «الْفَأْلُ» لِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَجَاءَ الْخَيْرِ وَالطِّيَرَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ «وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا» عَنْ حَاجَتِهِ الَّتِي خَرَجَ إلَيْهَا وَهُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ لَا تَرُدَّ الطِّيَرَةُ مُسْلِمًا عَنْ مَطْلُوبِهِ حَاصِلُهُ نَهْيٌ عَنْ رَدِّ الطِّيَرَةِ وَمَنْعِهَا مُسْلِمًا عَنْ مَقْصُودِهِ مِثْلِ السَّفَرِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ إذَا رَأَى شَيْئًا يَظُنُّهُ شَرًّا وَفِي النِّصَابِ إذَا خَرَجَ إلَى السَّفَرِ فَصَاحَ الْعَقْعَقُ وَرَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ يَكْفُرُ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ الْهَامَةَ إذَا صَاحَتْ، فَقَالَ رَجُلٌ يَمُوتُ الْمَرِيضُ يَكْفُرُ عِنْدَ الْبَعْضِ لَعَلَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْيَقِينِ لَا عَلَى الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ «وَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ» عَلَى الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ «فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا أَنْتَ» دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً «وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلَّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك» قَالَ الْمُنَاوِيُّ الْقُوَّةُ وَسَطُ مَا بَيْنَ الْحَوْلِ وَظَاهِرِ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يُوجَدُ فِي الْبَاطِنِ مِنْ هِمَّةِ الْعَمَلِ يُسَمَّى حَوْلًا وَمَا تُحِسُّ بِهِ الْأَعْضَاءُ مَثَلًا قُوَّةً وَظُهُورُ الْعَمَلِ بِصُورَةِ الْبَطْشِ وَالتَّنَازُلِ قُدْرَةٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ كَلِمَةُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ مَرْجِعُ الْأُمُورِ وَالْأَعْمَالِ وَعَنْ الدَّمِيرِيِّ فِي حَيَاةُ الْحَيَوَانِ اعْلَمْ أَنَّ التَّطَيُّرَ إنَّمَا يَضُرُّ مَنْ أَشْفَقَ مِنْهُ وَخَافَ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُبَالِ بِهِ وَلَمْ يَعْتَنِ بِهِ فَلَا يَضُرُّهُ أَلْبَتَّةَ لَا سِيَّمَا إنْ قَالَ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يَتَطَيَّرُ بِهِ أَوْ سَمَاعِهِ «اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُك وَلَا إلَهَ غَيْرُك اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا أَنْتَ وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك» وَأَمَّا مَنْ يَعْتَنِي بِهِ فَهُوَ إلَيْهِ أَسْرَعُ مِنْ السَّيْلِ إلَى مُنْحَدَرٍ قَدْ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْوَسَاوِسِ فِيمَا يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ وَيَفْتَحُ لَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمُنَاسَبَاتِ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ وَيُكَدِّرُ عَلَيْهِ عَيْشَهُ انْتَهَى فَإِذَا سَمِعْت هَذِهِ الْأَخْبَارَ (فَظَهَرَ) لَك (أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَأْلِ الْمَحْمُودِ لَيْسَ الْفَأْلُ الَّذِي يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا مِمَّا يُسَمُّونَهُ فَأْلَ الْقُرْآنِ أَوْ فَأْلَ دَانْيَالَ أَوْ نَحْوَهُمَا) كالنِّيرَجِيَّاتِ وَلَعَلَّ مِنْهُ الْجَفْرِيَّاتِ، وَالْكِهَانَةُ (بَلْ هِيَ) أَيْ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ

(مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ) أَيْ طَلَبُ الْقَسْمِ وَهُوَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ وَالْأَزْلَامُ جَمْعُ زَلَمٍ مِثْلُ قَلَمٍ لَفْظًا وَمَعْنًى كَانَ ذَلِكَ عَادَةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَحَرَّمَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة: 3] أَيْ الْأَقْلَامِ الثَّلَاثَةِ مَكْتُوبٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا أَمَرَنِي رَبِّي وَعَلَى آخَرَ نَهَانِي رَبِّي، وَلَيْسَ عَلَى الثَّالِثِ شَيْءٌ. فَإِذَا خَرَجَ مَا أَمَرَنِي يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَمَا نَهَانِي لَمْ يَفْعَلُوا وَإِذَا خَرَجَ الْخَالِي يَسْتَقْسِمُونَ ثَانِيًا وَثَالِثًا (فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا) أَيْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِقْسَامِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْغَيْبِ (وَلَا) يَجُوزُ (اعْتِقَادُهَا حَقًّا) لِعَدَمِ خَارِجٍ يُطَابِقُهُ (كَيْفَ وَأَنَّ فِيهَا الْخَبَرَ عَنْ الْغَيْبِ) وَعِلْمُ الْغَيْبِ مُنْفَرِدٌ بِهِ تَعَالَى لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ عِلْمُ الْغَيْبِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ وَإِنْ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَائِمِ وَإِلَّا اسْتِدْلَالٌ بِالتَّجَارِبِ فَكَوْنُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَيْبِ مَمْنُوعٌ بَلْ مِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِيمَا يَجُوزُ شَرْعًا وَلِهَذَا لَا يَكْفُرُ صَاحِبُهَا قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ وَبِالْجُمْلَةِ الْعِلْمُ بِالْغَيْبِ أَمْرٌ تَفَرَّدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى لَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِلْعِبَادِ إلَّا بِإِعْلَامٍ مِنْهُ أَوْ إلْهَامٍ بِطَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ ثُمَّ قَالَ أَوْ إرْشَادٍ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ فِيمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هَالَةِ الْقَمَرِ يَكُونُ مَطَرٌ مُدَّعِيًا عِلْمَ الْغَيْبِ لَا بِعَلَامَةِ كُفْرٍ (وَالتَّطَيُّرُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى) عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ أَخْذُ الْفَأْلِ مِنْ الْقُرْآنِ مَكْرُوهٌ أَيْ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّهُ الْمَحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عِنْدَنَا وَعَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ تَحْرِيمُهُ وَمُبَاحٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ؛ لِأَنَّهَا الْمَحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عِنْدَهُمْ وَفِي كِتَابِ أَدَبِ الدُّنْيَا لِلْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ تَفَاءَلَ يَوْمًا فِي الْمُصْحَفِ فَخَرَجَ لَهُ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15] فَمَزَّقَ الْمُصْحَفَ وَأَنْشَأَ شِعْرًا أَتَوَعَّدُ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ... فَهَا أَنَا ذَاكَ جَبَّارٌ عَنِيدُ إذَا مَا جِئْت رَبَّك يَوْمَ حَشْرٍ ... فَقُلْ يَا رَبِّ مَزَّقَنِي الْوَلِيدُ فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً حَتَّى قُتِلَ وَصُلِبَ رَأْسُهُ عَلَى قَصْرِهِ ثُمَّ عَلَى سُورِ بَلَدِهِ وَقِيلَ بِجَوَازِ التَّفَاؤُلِ دُونَ التَّشَاؤُمِ حَتَّى يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَعَلَّك سَمِعْت ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ «مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ خَطِّ الرَّمْلِ، فَقَالَ كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ إدْرِيسُ وَقِيلَ هُوَ دَانْيَالُ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ الَّذِي تَجِدُونَ إصَابَتَهُ» كَذَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي وَعَنْ الْخَطَّابِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الزَّجْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعْجِزَةً لَهُ وَمُوَافَقَةُ خَطِّ غَيْرِهِ لَهُ مُمْتَنِعٌ فَلَا يُبَاحُ لَنَا خَطُّ الرَّمْلِ قَالَ فِي الْمَبَارِقِ عَنْ النَّوَوِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ (وَإِنَّمَا الْفَأْلُ التَّيَمُّنُ وَالتَّبَرُّكُ بِالْكَلِمَةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْمُرَادِ لِمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالرَّاشِدِ وَالنَّجِيحِ) كَمَا سَبَقَ (وَيُلْحَقُ بِهَا) الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ (رُؤْيَةُ الصَّالِحِينَ) يُتَيَّمَن بِهِمْ فِي قَضَاءِ الْمَطَالِبِ (وَ) مُصَادَفَةُ (الْأَيَّامِ الشَّرِيفَةِ) الْمُعَدَّةِ لِحُصُولِ الْفَيْضِ عَادَةً كَأَيَّامِ الْأَعْيَادِ وَكَيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِبَدْءِ السَّبْقِ وَالْخَمِيسِ وَالِاثْنَيْنِ لِلسَّفَرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ التَّفَاؤُلَ مَا لَا يَكُونُ بِالْقَصْدِ وَالْأَيَّامِ

إنَّمَا تَكُونُ بِالْقَصْدِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَخْرِيجِ الطَّبَرَانِيِّ عَلَى رِوَايَةِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» وَأَيْضًا قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْله تَعَالَى {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] شُؤْمُهُ لَوْ كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ آخِرَ الشَّهْرِ أَقُولُ قَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ نُسِخَ يَوْمُ النَّحْسِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ شَرَفًا لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَمَّا الْحَدِيثُ وَأَنَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا، فَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ السَّخَاوِيِّ لَا أَصْلَ لَهُ وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ إنَّهُ لِلْأَعْدَاءِ وَأَمَّا عَلَى الْأَحِبَّاءِ فَمُبَارَكٌ وَسَعِيدٌ وَقِيلَ دَائِرٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ نَحْسًا أَوْ لَا وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ مَا بُدِئَ بِشَيْءٍ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ إلَّا وَقَدْ تَمَّ وَإِنْ طُعِنَ عَلَيْهِ أَيْضًا وَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مَوْضُوعَاتِهِ أَنَّ الْأَرْبِعَاءَ سَعْدٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَى الْأَبْرَارِ وَقَدْ اعْتَمَدَ مِنْ أَئِمَّتِنَا صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَكَانَ يَعْمَلُ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ دَرْسِهِ وَقَدْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ اشْتَكَتْ الْأَرْبِعَاءُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَشَاؤُمَ النَّاسِ بِهَا فَمَنَحَهَا أَنَّهُ مَا يُبْتَدَأُ بِشَيْءٍ فِيهَا إلَّا تَمَّ وَمِثْلُهُ أَيْضًا فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ (وَنَحْوُهُمَا فَلَيْسَ فِيهِ) أَيْ الْفَأْلُ (الْحُكْمُ عَلَى الْغَائِبِ) كَمَا فِي الْكَاهِنِ (بَلْ مُجَرَّدُ طَلَبِ الْخَيْرِ وَرَجَاءِ حُصُولِ الْمُرَادِ وَالْبِشَارَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) بِحُصُولِ مَقْصُودِهِ قِيلَ عَلَى تَخْرِيجِ مَالِكٍ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِلِقْحَةٍ تَحْلُبُ، فَقَالَ مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا اسْمُك قَالَ مُرَّةُ قَالَ اجْلِسْ ثُمَّ قَالَ. - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ مَا اسْمُك قَالَ حَرْبٌ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اجْلِسْ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ مَا اسْمُك قَالَ يَعِيشُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُحْلُبْ» وَمِثْلُهُ عَنْ الْبَزَّازِ عَنْ بُرَيْدَةَ وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِرَجُلٍ مَا اسْمُك قَالَ جَمْرَةُ، فَقَالَ ابْنُ مَنْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ مِمَّنْ قَالَ مِنْ الْحُرْقَةِ قَالَ أَيْنَ مَسْكَنُك قَالَ بِحَرَّةِ النَّارِ قَالَ بِأَيِّهَا قَالَ بِذَاتِ لَظًى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَدْرِكْ أَهْلَك فَقَدْ احْتَرَقُوا فَكَانَ كَمَا قَالَ. وَفِي السِّيرَةِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ إلَى بَدْرٍ مَرَّ بِرَجُلَيْنِ فَسَأَلَ عَنْ اسْمِهِمَا فَقِيلَ أَحَدُهُمَا مَسِيخٌ وَالْآخَرُ مَخْزِيٌّ فَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمَا» لَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذُكِرَ كُلُّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشَاؤُمِ وَقِيلَ إنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ التَّطَيُّرِ بَلْ مِنْ كَرَاهَةِ الِاسْمِ الْقَبِيحِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَامَ، فَقَالَ لَا أَدْرِي أَأَقُولُ أَمْ أَسْكُتُ، فَقَالَ لَهُ قُلْ، فَقَالَ كَيْفَ نَهَيْتنَا عَنْ الطِّيَرَةِ وَتَطَيَّرْت، فَقَالَ مَا تَطَيَّرْت

فرع في حديث الجامع من أتى عرافا فسأله عن شيء

وَلَكِنِّي آثَرْت الِاسْمَ الْحَسَنَ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ اُطْلُبُوا الْخَيْرَ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ صَبَاحِ الْوُجُوهِ أَيْ الطَّلَقَةِ الْمُسْتَبْشَرَةِ وُجُوهُهُمْ؛ لِأَنَّ طَلَاقَةَ الْوَجْهِ عِنْوَانُ مَا فِي النَّفْسِ، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبِيحٌ إلَّا وَوَجْهُهُ أَحْسَنُ مَا فِيهِ. وَلِبَعْضِهِمْ وَدَلَّ عَلَى مَعْرُوفِهِ حُسْنُ وَجْهِهِ ... فَبُورِكَ هَذَا مِنْ دَلِيلٍ مُبَارَكِ وَقِيلَ حُسْنُ الْوَجْهِ عِنْدَ طَلَبِ الْحَاجَةِ وَفِي حَدِيثِ الْخَطِيبِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «اُطْلُبُوا حَوَائِجَكُمْ عِنْدَ حِسَانِ الْوُجُوهِ إنْ قَضَاهَا قَضَاهَا بِوَجْهٍ طَلِيقٍ وَإِنْ رَدَّهَا رَدَّهَا بِوَجْهٍ طَلِيقٍ» فَرُبَّمَا يَدُلُّ حُسْنُ الْوَجْهِ عَلَى حَيَاءِ صَاحِبِهِ وَمُرُوءَتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبِيٌّ وَغَيْرُهُ نَادِرٌ وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَقَالَ يَدُلُّ عَلَى مَعْرُوفِهِ حُسْنُ وَجْهِهِ ... وَمَا زَالَ حُسْنُ الْوَجْهِ إحْدَى الشَّوَاهِدِ. [فَرْعٌ فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ] (فَرْعٌ) فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وَفِيهِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا» مَنْ يَدَّعِي عِلْمَ الْمَسْرُوقِ وَالضَّالَّةِ «أَوْ كَاهِنًا» مَنْ يَدَّعِي عِلْمَ الْكَوَائِنِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالْأَسْرَارِ وَيَدَّعِي إخْبَارَ الْجِنِّ وَالْغَيْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي إدْرَاكَهُ بِفَهْمٍ أُعْطِيَهُ وَأَمَارَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْكَاهِنُ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ بِجِنٍّ أَوْ لَا وَالْعَرَّافُ مَنْ يُخْبِرُ عَنْهَا بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَابٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَلَكِنْ فِي الْأَخِيرِ كَلَامٌ كَمَا مَرَّ وَيُفَسَّرُ الْكَاهِنُ أَيْضًا بِمَنْ يُخْبِرُ عَمَّا يَحْدُثُ أَوْ عَنْ غَائِبٍ أَوْ طَالِعِ أَحَدٍ بِسَعْدٍ أَوْ نَحْسٍ أَوْ دَوْلَةٍ أَوْ مِحْنَةٍ «فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» الْكُفْرُ عِنْدَ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ وَلَوْ ظَنًّا وَقِيلَ مُقَيَّدٌ بِالِاعْتِقَادِ الْقَطْعِيِّ لَا عِنْدَ السُّؤَالِ اسْتِهْزَاءً ثُمَّ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَ اعْتِقَادِ عِلْمِ الْكَاهِنِ الْغَيْبَ اسْتِقْلَالًا وَذَاكَ عِنْدَ اعْتِقَادِهِ بِتَلَقِّي الْجِنِّ مِمَّا سَمِعْته مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِإِلْهَامٍ مِنْ اللَّهِ فَلَا يَكْفُرُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، كَذَا فِي الْفَيْضِ فَتَأَمَّلْ. وَانْظُرْ وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ حَائِضًا أَوْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» قِيلَ عَنْ الْمُظْهِرِ فِعْلُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ

إنْ بِالِاسْتِحْلَالِ فَكُفْرٌ وَإِلَّا فَكُفْرَانُ نِعْمَةٍ قَالَ فِي الْفَيْضِ أَنَّ حُرْمَةَ إتْيَانِ الْكَاهِنِ شَدِيدَةٌ حَتَّى فِي الْمِلَلِ السَّابِقَةِ قَالَ فِي السِّفْرِ الثَّانِي مِنْ التَّوْرَاةِ لَا تَبْتَغُوا الْعَرَّافِينَ وَالْقَافَةَ وَلَا تَنْطَلِقُوا إلَيْهِمْ وَلَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ لِئَلَّا تَنَجَّسُوا بِهِمْ وَفِي الثَّالِثِ مَنْ تَبِعَهُمْ وَضَلَّ بِهِمْ أُنْزِلُ بِهِ غَضَبِي الشَّدِيدَ وَأُهْلِكُهُ مِنْ شَعْبِهِ وَفِيهِ أَيْضًا " مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ حَجَبْت عَنْهُ التَّوْبَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَإِنْ صَدَّقَهُ فِيمَا قَالَ كَفَرَ " وَفِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ إنَّ تَصْدِيقَ الْكَاهِنِ فِيمَا أَخْبَرَهُ مِنْ الْغَيْبِ كُفْرٌ. وَفِي قَاضِي خَانْ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ، فَقَالَ " خداي راو ببغمبر راكواه كرديم " فَكَفَرَ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ. وَرَجُلٌ قَالَ أَعْلَمُ الْمَسْرُوقَاتِ كَفَرَ انْتَهَى مُلَخَّصًا.

السادس والعشرون من الآفات القلبية

[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ] {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ) . مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ (الْبُخْلُ وَالتَّقْتِيرُ) زِيَادَةُ الْإِمْسَاكِ (وَهُوَ مَلَكَةُ إمْسَاكِ الْمَالِ حَيْثُ يَجِبُ بَذْلُهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ) كَالزَّكَاةِ وَالْفِطْرَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالنُّذُورِ وَالْعُشْرِ وَخَرَاجِ الْأَرْضِ وَالنَّفَقَاتِ اللَّازِمَةِ (أَوْ) بِحُكْمِ (الْمُرُوءَةِ) بِالْهَمْزَةِ، وَهِيَ التَّخَلُّقُ بِخُلُقِ أَمْثَالِهِ، الْمُرَادُ هُنَا نَحْوُ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ، وَهَدِيَّةِ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَصْحَابِ (وَهُوَ) حُكْمُ الْمُرُوءَةِ (تَرْكُ الْمُضَايَقَةِ) عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَائِلَتِهِ، وَأَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ (وَ) تَرْكُ (الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَقَّرَاتِ) الْأُمُورِ الْقَلِيلَةِ وَالْيَسِيرَةِ إنْ لِحِرْصٍ، وَإِلَّا فَلَا (وَذَلِكَ) التَّرْكُ الْمَذْكُورُ (يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ) كَحَالِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَحَالِ مُصَادَفَةِ الْأَسْخِيَاءِ وَالْمُمْسِكِينَ (مِنْ الْأَقَارِبِ) بَيَانٌ لِلْأَشْخَاصِ فَكَمْ مِنْ رِجَالٍ تُكْثِرُ الْعَطَاءَ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكَمْ مِنْ رِجَالٍ عَلَى الْعَكْسِ (وَالْأَجَانِبِ) كَمَا عَرَفْت فَقَدْ يَتْرُكُ الْمُضَايَقَةَ لِلْأَقَارِبِ دُونَ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ يَعْكِسُ (وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) كَالْبُخْلِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ دُونَ بَعْضٍ وَالْبُخْلِ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ كَرَمَضَانَ (وَأَشَدُّ الْبُخْلِ الْإِمْسَاكُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ لَا يَسْمَحَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَلْبَسَ) لَا لِغَرَضٍ دِينِيٍّ كَرِيَاضَاتِ الصُّوفِيَّةِ وَالتَّوَاضُعِ، وَقَهْرِ النَّفْسِ وَدَفْعِ الْمُيُولَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الْهَوَائِيَّةِ (أَوْ يَتَدَاوَى) إذَا مَرِضَ (وَقِيلَ يُسَمَّى) هَذَا الْبُخْلُ (شُحًّا) هُوَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ، وَالْبُخْلُ بِأَنْوَاعِهِ مَذْمُومٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]-. [السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ] (السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ، وَهُوَ مَلَكَةُ بَذْلِ الْمَالِ

حَيْثُ يَجِبُ إمْسَاكُهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ أَوْ) بِحُكْمِ (الْمُرُوءَةِ، وَهِيَ) أَيْ الْمُرُوءَةُ (رَغْبَةٌ صَادِقَةٌ لِلنَّفْسِ فِي الْإِفَادَةِ) لِلْغَيْرِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ (بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ وَالْفُتُوَّةُ) فِي اللُّغَةِ السَّخَاءُ وَالْكَرَمُ، وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ إيثَارُ الْخَلْقِ بِنَفْسِك بَعْدَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِأَنْ تَبْذُلَ نَفْسَك لِكُلِّ خَسِيسٍ وَنَفِيسٍ فِيمَا يُرِيدُ وَتُمَكِّنَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيك، وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَبَدًا فِي أَمْرِ غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزَالُ اللَّهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ» ، وَقِيلَ هِيَ الصَّفْحُ عَنْ عَثَرَاتِ الْإِخْوَانِ وَسَتْرُ عُيُوبِهِمْ، وَقِيلَ أَنْ لَا تَرَى لِنَفْسِك فَضْلًا عَلَى غَيْرِك، وَقِيلَ إظْهَارُ النِّعْمَةِ وَكِتْمَانُ الْمَحَبَّةِ (أَخَصُّ مِنْهَا، وَهِيَ) أَيْ الْفُتُوَّةُ (كَفُّ الْأَذَى وَبَذْلُ النَّدَى) أَيْ الْإِحْسَانُ (وَالصَّفْحُ عَنْ الْعَثَرَاتِ) أَيْ الْإِعْرَاضُ عَنْ الزَّلَّاتِ (وَسَتْرُ الْعَوْرَاتِ) أَيْ الْقَبَائِحِ، (وَهُمَا) أَيْ الْبُخْلُ وَالْإِسْرَافُ (فِي مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ حَرَامَانِ) كَالْبُخْلِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ فِيمَا يَحْرُمُ كَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَإِعْطَاءِ الْمَالِ بِالْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ (وَفِي مُخَالَفَةِ الْمُرُوءَةِ مَكْرُوهَانِ تَنْزِيهًا. وَضِدُّهُمَا) أَيْ الْبُخْلِ وَالْإِسْرَافِ (، وَهُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ ذَيْنِك الطَّرَفَيْنِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ) أَيْ الْإِكْثَارُ ضِدُّ التَّفْرِيطِ (مَعَ الْمَيْلِ إلَى الْبَذْلِ السَّخَاءُ) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ وَضِدُّهُمَا (وَالْجُودُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِلسَّخَاءِ (فَهُوَ مَلَكَةُ بَذْلِ الْمَالِ زَائِدًا عَلَى الْوَاجِبِ) الشَّرْعِيِّ أَوْ الْمُرُوءَةُ (لِنَيْلِ الثَّوَابِ أَوْ) تَحْصِيلِ (فَضِيلَةِ الْجُودِ وَتَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنْ رَذَالَةِ الْبُخْلِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ) مِنْ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ (مَعَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِسْرَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] أَيْ لَا تَجْعَلْ يَدَك مَرْبُوطَةً إلَى عُنُقِك مِنْ كَثْرَةِ الْبُخْلِ مَخَافَةَ أَنْ تَغْلَطَ وَتُعْطِيَ {وَلا تَبْسُطْهَا} [الإسراء: 29] أَيْ الْيَدَ {كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] فِي الْإِعْطَاءِ فَتَمْثِيلَانِ لِمَنْعِ الشَّحِيحِ، وَإِسْرَافِ الْمُبَذِّرِ نَهَى عَنْهُمَا آمِرًا بِالِاقْتِصَادِ بَيْنَهُمَا الَّذِي هُوَ الْكَرَمُ {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} [الإسراء: 29] فَتَصِيرُ مَلُومًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ النَّاسِ بِالْإِسْرَافِ وَسُوءِ التَّدْبِيرِ {مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] نَادِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا بِك قِيلَ نَزَلَتْ حِينَ «جَاءَ صَبِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّ أُمِّي تَسْأَلُك دِرْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ إلَّا قَمِيصُهُ فَقَالَ لِلصَّبِيِّ عُدْ، وَقْتًا آخَرَ فَذَهَبَ إلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ قُلْ لَهُ إنَّ أُمِّي تَسْأَلُك الدِّرْعَ الَّذِي عَلَيْك فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارِهِ فَنَزَعَ قَمِيصَهُ فَأَعْطَاهُ، وَقَعَدَ عُرْيَانًا فَأَذَّنَ بِلَالٌ وَانْتَظَرُوا لِلصَّلَاةِ فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ} [الإسراء: 29] الْآيَةَ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان: 67] » لَمْ يُجَاوِزُوا حَدَّ الْكَرَمِ {وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] ، وَلَمْ يُضَيِّقُوا تَضْيِيقَ الشَّحِيحِ، وَقِيلَ الْإِسْرَافُ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي الْمَحَارِمِ وَالتَّقْتِيرُ مَنْعُ الْوَاجِبِ

وَقِيلَ الْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ. وَإِنْ قُلْت: وَالتَّقْتِيرُ التَّضْيِيقُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِسْرَافِ {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وَسَطًا، وَعَدْلًا (وَأَعْلَى السَّخَاءِ الْإِيثَارُ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَالِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ) ، وَإِيصَالُ ذَلِكَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] أَيْ يُقَدِّمُ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قِيلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ حَتَّى إنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ نَزَلَ عَنْ وَاحِدَةٍ وَزَوَّجَهَا مِنْ أَحَدِهِمْ {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فَقْرٌ وَحَاجَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِيثَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا هُوَ غَيْرُ الْقُرُبَاتِ فَإِنَّ الْإِيثَارَ فِيهَا مَكْرُوهٌ كَمَا هُوَ فِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ فَلَا إيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ وَبِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَبِالصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْإِجْلَالِ اللَّازِمِ لِلْعَابِدِ. فَلَوْ وَهَبَ مَاءَ الْوُضُوءِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ آثَرَ الْمُضْطَرُّ إلَى طَعَامِهِ غَيْرَهُ يَجُوزُ، وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ، وَإِيثَارُ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ لِلْقُرْآنِ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ إيثَارٌ بِالْقُرَبِ، وَفِي هِبَةِ مُنْيَةِ الْمُفْتِي فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ مَعَهُ دَرَاهِمُ فَأَرَادَ أَنْ يُؤْثِرَ الْفُقَرَاءَ عَلَى نَفْسِهِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَى الشِّدَّةِ فَالْإِيثَارُ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَالْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلُ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (شَيْخٌ) أَبُو الشَّيْخِ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيُّمَا امْرِئٍ اشْتَهَى شَهْوَةً» أَيْ مُشْتَهًى مِنْ مُشْتَهَيَاتِ النَّفْسِ «فَرَدَّ شَهْوَتَهُ» ، وَلَمْ يَقْضِهَا «وَآثَرَ» قَدَّمَ غَيْرَهُ «عَلَى نَفْسِهِ» مَعَ احْتِيَاجِهِ «غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ» أَيْ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ، وَلَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ الْجِنْسِ فَلِلِاسْتِغْرَاقِ لَكِنَّ الْمُرَادَ فِي مِثْلِهِ هُوَ الصَّغَائِرُ فَإِنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ التَّوْبَةِ الْقَضَاءُ وَاسْتِرْضَاءُ الْخُصُومِ وَالْكَفَّارَاتُ فَمَا قِيلَ فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ صَغِيرَةٌ فَيَغْفِرْ الْكَبَائِرَ فَيَرُدُّهُ قَوْله تَعَالَى - {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]- الْآيَةَ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ» لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى شِبَعِهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَا مُنَافَاةَ لِعَدَمِ شِبَعِهِ أَصْلًا قَالَ فِي الشِّرْعَةِ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ الشِّبَعُ، وَفِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى بِجَامِعِ الشُّرُوحِ وَكَانَ لَا يَشْبَعُ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ بَلْ، وَلَا لَيْلَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ بَلْ أَصْلًا لِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ» ، وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جَاءَتْ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ يَا فَاطِمَةُ قَالَتْ قُرْصٌ خَبَزْته، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُك بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ فَقَالَ أَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيك مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» (وَلَوْ شِئْنَا لَشَبِعْنَا) يَعْنِي لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَجْزِنَا، وَعَدَمِ اقْتِدَارِنَا عَلَى قُوتِنَا بَلْ مِنْ إيثَارِنَا الْغَيْرَ عَلَى أَنْفُسِنَا. الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ مَقُولِ عَائِشَةَ يَعْنِي لَمْ يَكُنْ عَدَمُ شِبَعِ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَدَمُ شِبَعِنَا لِعَدَمِ وِجْدَانِنَا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عُرِضَتْ عَلَيْهِ بَطْحَاءُ مَكَّةَ مِنْ ذَهَبٍ فَأَبَى وَخُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا مِنْ كَمَالِ زُهْدِهِ (وَلَكِنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ) غَيْرَهُ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ؛ وَلِأَنَّ الشِّبَعَ مَجْلَبَةٌ لِلْآثَامِ مَنْقَصَةٌ لِلْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ فَإِنَّ مَنْ امْتَلَأَ بَطْنُهُ انْتَكَسَتْ بَصِيرَتُهُ وَتَشَوَّشَتْ فِكْرَتُهُ» ، وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَى مَعَادِنِ إدْرَاكِهِ مِنْ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنْ مَعِدَتِهِ إلَى دِمَاغِهِ فَلَا يَتَأَتَّى لَهُ نَظَرٌ صَحِيحٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَشْبَعُوا فَتُطْفِئُوا أَنْوَارَ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِكُمْ» كَذَا فِي أَكْمَلِ الْمَشَارِقِ عَنْ الْقَاضِي (قُطْن) الدَّارَقُطْنِيُّ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَعَامُ الْجَوَّادِ دَوَاءٌ»

هُوَ مَنْ بَذَلَ الْأَكْثَرَ، وَأَبْقَى الْأَقَلَّ وَالسَّخِيُّ مَنْ أَعْطَى بَعْضَ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْبَعْضَ، وَقِيلَ السَّخِيُّ مَنْ يَأْكُلُ وَيُؤَكِّلُ، وَالْجَوَّادُ لَا يَأْكُلُ وَيُؤَكِّلُ وَالسَّخِيُّ لَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّوْقِيفِ «وَطَعَامُ الْبَخِيلِ دَاءٌ» . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ طَعَامُ السَّخِيِّ دَوَاءٌ وَطَعَامُ الشَّحِيحِ دَاءٌ لِكَوْنِهِ يُطْعِمُ الضَّيْفَ مَعَ ثِقَلٍ وَتَضَجُّرٍ، وَعَدَمِ طِيبِ نَفْسٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَوَاصُّ: إنَّهُ يُظْلِمُ الْقَلْبَ فَتَنْبَغِي الْإِجَابَةُ إلَى طَعَامِ السَّخِيِّ دُونَ الْبَخِيلِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ بَخِيلًا مُوسِرًا دَعَاهُ بَعْضُ جِيرَانِهِ فَقَدَّمَ لَهُ طُبَاهَجَةَ بَيْضٍ فَأَكْثَرَ مِنْهَا فَانْتَفَخَ بَطْنُهُ وَصَارَ يَتَأَذَّى فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ تَقَيَّأْ فَقَالَ أَتَقَيَّأُ طُبَاهَجَةً أَمُوتُ وَلَا أَتَقَيَّأُهَا فَعَلَى مَنْ اُبْتُلِيَ بِدَاءِ الْبُخْلِ أَنْ يُعَالِجَهُ حَتَّى يَزُولَ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَفِي مُخْتَصَرِ حَدَائِقِ الْحَقَائِقِ كَانَ أَبُو مَرْثَدٍ مِنْ الْكِرَامِ فَمَدَحَهُ شَاعِرٌ فَقَالَ لَهُ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَدْفَعُ إلَيْك، وَلَكِنْ اذْهَبْ مَعِي إلَى الْقَاضِي وَادَّعِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ حَتَّى أُقِرَّ لَك ثُمَّ احْبِسْنِي فَإِنَّ أَهْلِي لَا يَتْرُكُونَنِي مَحْبُوسًا وَيُعْطُونَك الْمَالَ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَمَا أَمْسَى حَتَّى أَعْطَوْهُ الْمَالَ كُلَّهُ، وَقِيلَ لَمَّا قَدِمَ الشَّافِعِيُّ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى مَكَّةَ وَكَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ قِيلَ لَهُ اشْتَرِ بِهَا ضَيْعَةً فَضَرَبَ خَيْمَةً خَارِجَ مَكَّةَ وَصَبَّ الْكُلَّ تَحْتَهَا وَكَانَ يُعْطِي مَنْ دَخَلَ إلَيْهِ قَبْضَةً حَتَّى فَرَغَ الْكُلُّ قَبْلَ الظُّهْرِ ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْمِيزَانِ أَنَّهُ حَدِيثٌ كَذِبٌ، وَعَنْ السُّيُوطِيّ فِي دُرَرِهِ أَنَّ فِيهِ ضُعَفَاءَ وَمَجَاهِيلَ. (شَيْخٌ) أَبُو الشَّيْخِ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا جُبِلَ وَلِيُّ اللَّهِ» أَيْ لَمْ يُجْعَلْ مَجْبُولًا وَالْوَلِيُّ الْمُسْلِمُ الْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنِبُ عَنْ الْمُخَالَفَاتِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ (إلَّا عَلَى السَّخَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ) إذْ هُمَا أُسُّ الْكَمَالِ قِيلَ عَلَيْهِ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَضْعُهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ تَوَهَّمَ الْكَذِبَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ غَايَتُهُ كَوْنُهُ ضَعِيفًا فِي عُرْفِهِمْ لَا فِي نَفْسِهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَدَّ الْمُتَأَخِّرُونَ بِكَلَامِهِ وَخَرَّجُوا أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ فِيهِ الْوَضْعُ فِي كُتُبِهِمْ كَالسُّيُوطِيِّ فِي الْجَامِعِينَ كَذَا قِيلَ عَنْ التَّوْفِيقِ وَالتَّحْقِيقِ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ اصْطَلَحَ عَلَى الْوَضْعِ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمِ الْكَذِبِ مِنْ الرُّوَاةِ مُطْلَقًا أَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيَانٍ بَلْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ وَسُوءُ الظَّنِّ بِمِثْلِهِ يَرْفَعُ الْأَمْنَ عَنْ كُلِّ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ تَوَهُّمَ الْكَذِبِ حَاصِلٌ فِي كُلِّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ إلَّا الْمُتَوَاتِرَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِالْوَضْعِ وَكَيْفَ يَكُونُ غَايَتُهُ ضَعِيفًا، وَقَوْلُهُ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَحِيحًا إلَخْ مَنْظُورٌ أَيْضًا إذْ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَطْلُوبُ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مَوْضُوعَاتِهِ: فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لِلْمُحَدِّثِينَ مِنْ حَيْثُ نَظَرُهُمْ إلَى الْإِسْنَادِ، وَإِلَّا فَلَا مَطْمَعَ لِلْقَطْعِ فِي مَقَامِ الْإِسْنَادِ لِتَجْوِيزِ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ضَعِيفًا أَوْ مَوْضُوعًا، وَالْمَوْضُوعُ صَحِيحًا مَرْفُوعًا غَيْرُ الْمُتَوَاتِرِ. انْتَهَى (قُطْن) . الدَّارَقُطْنِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السَّخَاءُ» هُوَ بَذْلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَنْ يُوصَلَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَعَنْ الرَّاغِبِ: السَّخَاءُ هَيْئَةٌ فِي الْإِنْسَانِ دَاعِيَةٌ إلَى بَذْلِ الْمَقِيتَاتِ حَصَلَ مَعَهُ الْبَدَلُ أَوْ لَا وَمُقَابِلُهُ الشُّحُّ وَالْجُودُ بَذْلُ الْمَقِيتَاتِ بِلَا بَدَلٍ وَيُقَابِلُهُ الْبُخْلُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مَحَلَّ الْآخَرِ. وَفِي الْإِحْيَاءِ الْإِمْسَاكُ مَحَلَّ الْبَذْلِ بُخْلٌ وَالْبَذْلُ مَحَلَّ الْإِمْسَاكِ تَبْذِيرٌ وَالْوَسَطُ هُوَ الْجُودُ وَالسَّخَاءُ، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ فِعْلِ الْجَوَارِحِ بِدُونِ طِيبِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ تَسَخٍّ لَا سَخَاءٌ، وَعَنْ بَعْضٍ: السَّخَاءُ أَتَمُّ، وَأَكْمَلُ مِنْ الْجُودِ وَضِدُّ الْبُخْلِ وَضِدُّ السَّخَاءِ الشُّحُّ، وَالْجُودُ وَالشُّحُّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِمَا الِاكْتِسَابُ عَادَةً بِخِلَافِ ذَيْنِك فَإِنَّهُمَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْغَرِيزَةِ فَكُلُّ سَخِيٍّ جَوَادٌ، وَلَا عَكْسَ، وَالْجُودُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الرِّيَاءُ وَيُمْكِنُ تَطَبُّعُهُ بِخِلَافِ السَّخَاءِ. «شَجَرَةٌ» أَيْ كَشَجَرَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ «فِي الْجَنَّةِ»

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يُجَسِّدَ الْمَعَانِيَ وَيَجْعَلَ لَهَا صُورَةً كَثِيفَةً كَمَا فِي مِيزَانِ الْأَعْمَالِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «الْجَنَّةَ قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا قَوْلُك سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ (فَمَنْ كَانَ سَخِيًّا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتْرُكْهُ ذَلِكَ الْغُصْنُ حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَالشُّحُّ» قَدْ عَرَّفْته آنِفًا «شَجَرَةٌ فِي النَّارِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «أَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَاتٌ فِي الدُّنْيَا» هُنَا، وَفِي الْأَوَّلِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَمَنْ كَانَ شَحِيحًا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتْرُكْهُ ذَلِكَ الْغُصْنُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ» ، وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ كَمَا فِي الْفَيْضِ قَالَ أَنَسٌ «أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَكُمْ الْإِسْلَامَ بِالسَّخَاءِ وَحُسْنَ الْخُلُقِ أَلَا إنَّ السَّخَاءَ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَأَغْصَانُهَا فِي الدُّنْيَا فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ سَخِيًّا لَا يَزَالُ مُتَعَلِّقًا بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا حَتَّى يُورِدَهُ الْجَنَّةَ أَلَا إنَّ اللُّؤْمَ شَجَرَةٌ فِي النَّارِ، وَأَغْصَانُهَا فِي الدُّنْيَا فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَئِيمًا لَا يَزَالُ مُتَعَلِّقًا بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا حَتَّى يُورِدَهُ النَّارَ» ثُمَّ قَالَ فِيهِ ضُعَفَاءُ وَمَجَاهِيلُ يَعْنِي السَّخَاءُ يَدُلُّ عَلَى كَرَمِ النَّفْسِ، وَعَلَى تَصْدِيقِ الْخَلَفِ عَلَى مَنْ ضَمِنَ الرِّزْقَ فَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا الْأَصْلِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الْجَاذِبَةِ إلَى دِيَارِ الْأَبْرَارِ، وَالْبُخْلُ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَعَدَمُ الْوُثُوقِ بِضَمَانِهِ تَعَالَى جَاذِبٌ إلَى الْخُسْرَانِ قَائِدٌ إلَى دَارِ الْهَوَانِ. وَقِيلَ أَقْبَحُ مَا فِي الْبَخِيلِ أَنَّهُ يَعِيشُ عَيْشَ الْفُقَرَاءِ وَيُحَاسَبُ مُحَاسَبَةَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ، وَالْبَخِيلُ لَيْسَ لَهُ خَلِيلٌ. (تَنْبِيهٌ) سَخَاءُ الْعَوَامّ بِبَذْلِ الْمَوْجُودِ وَسَخَاءُ الْخَوَاصِّ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَفْقُودٍ غِنًى بِالْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ كَذَا فِي الْفَيْضِ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَيْضًا بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمِ كَذِبِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوَضْعُ يَقِينًا، وَقَدْ نَقَلَهُ الثِّقَاتُ فِي كُتُبِهِمْ، وَالْإِعْمَالُ أَوْلَى مِنْ الْإِهْمَالِ. انْتَهَى. أَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ الْخَطِيبِ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى رِوَايَةِ الدَّيْلَمِيِّ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْمُنَاوِيُّ فِي كُلِّ تِلْكَ الطُّرُقِ بَعْضُهَا بِالْوَضْعِ وَبَعْضُهَا بِالضَّعْفِ إلَّا طَرِيقَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ» مِنْ رَحْمَتِهِ «قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ» قُرْبَ مَوَدَّةٍ «قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ» لِسَبْقِهِ فِيمَا يُدْنِيهِ مِنْهَا وَسُلُوكِهِ طَرِيقَهَا قُرْبَ مَسَافَةٍ لِجَوَازِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى بِرَفْعِ الْحِجَابِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَيُبْعِدُهُ عَنْهَا كَثْرَةُ الْحُجُبِ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَحْجُوبَتَانِ عَنْ الْخَلْقِ بِمَا حُفَّتَا بِهِ مِنْ الْمَكَارِهِ وَالشَّهَوَاتِ «بَعِيدٌ مِنْ النَّارِ وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنْ» رَحْمَةِ «اللَّهِ بَعِيدٌ مِنْ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنْ النَّارِ» الْبُخْلُ ثَمَرَةُ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا «وَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَخُولِفَ لِيُفِيدَ أَنَّ الْجَاهِلَ غَيْرَ الْعَابِدِ السَّخِيَّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْعَالِمِ الْعَابِدِ الْبَخِيلِ ثُمَّ قَالَ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي قَوْلِهِ وَجَاهِلٌ سَخِيٌّ إلَخْ مُشْكِلٌ يُبَاعِدُ الْحَدِيثَ عَنْ الصِّحَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْجَاهِلَ قِسْمَانِ جَاهِلٌ بِمَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فِي عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَجَاهِلٌ بِمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْعِلْمِ فَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِهِ فَعَابِدٌ بَخِيلٌ خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَمَّا الْخَارِجُ عَنْهُ فَجَاهِلٌ سَخِيٌّ خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ وَالْعِلْمَ يَعُودَانِ إلَى الِاعْتِقَادِ وَالسَّخَاءَ وَالْبُخْلَ لِلْعَمَلِ، وَعُقُوبَةُ ذَنْبِ الِاعْتِقَادِ أَشَدُّ مِنْ ذَنْبِ الْعَمَلِ. انْتَهَى. وَقِيلَ الْجَاهِلُ هُنَا ضِدُّ الْعَابِدِ بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ فَمَنْ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ فَقَطْ فَسَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ

تَعَالَى مِمَّنْ يُكْثِرُ النَّوَافِلَ الَّذِي هُوَ بَخِيلٌ لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَدَدِ الْمَقَامِ ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ إنَّهُ غَرِيبٌ، وَعَنْ الذَّهَبِيِّ وَالْهَيْثَمِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ ضَعِيفٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِوَضْعِهِ كَمَا ظَنَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَأَنْتَ قَدْ سَمِعْت أَنَّ الْحَدِيثَ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَكِنْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَيُذْكَرُ لِتَأْيِيدِ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَخِيلُ عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ رَاهِبًا وَكَذَا الْبَخِيلُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَوْ كَانَ عَابِدًا وَالسَّخِيُّ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا فَفِي مَوْضُوعَاتِ عَلِيِّ الْقَارِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ (شَيْخٌ) أَبُو الشَّيْخِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «السَّخَاءُ خُلُقُ» بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ «اللَّهِ» تَعَالَى «الْأَعْظَمُ» بِالرَّفْعِ أَوْ بِالْجَرِّ أَيْ هُوَ وَصْفُهُ الْأَعْظَمُ أَوْ مِنْ صِفَاتِهِ الْأَعْظَمِ فَمَنْ تَخَلَّقَ بِهِ تَخَلَّقَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى قَالَ تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ (صف) الْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَلَا إنَّ كُلَّ جَوَّادٍ فِي الْجَنَّةِ» أَيْ كُلَّ مَنْ كَثُرَ جُودُهُ كَأَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ حَالًا لِعَدَمِ تَخَلُّفِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ «حَتْمٌ عَلَى اللَّهِ» يَعْنِي عَدَمَ تَخَلُّفِهِ كَالْوَاجِبِ أَوْ وَاجِبٍ عَادِيٍّ لَهُ تَعَالَى فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْوَاجِبِ شَيْءٌ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ، (وَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ) بِالشَّفَاعَةِ؛ وَلِهَذِهِ الْفَضَائِلِ كَانَ مُعْظَمُ خُلُقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ السَّخَاءَ. وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - شَيْئًا فَأَعْطَاهُ خَمْسِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ ائْتِ بِحَمَّالٍ يَحْمِلُ الْمَالَ، وَأَعْطَى طَيْلَسَانَهُ، وَقَالَ كِرَاءُ الْحَمَّالِ مِنْ قِبَلِي وَسَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ سُكْرُجَةَ عَسَلٍ فَأَمَرَ لَهَا بِزِقٍّ مِنْ عَسَلٍ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إنَّهَا سَأَلَتْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهَا وَنَحْنُ نُعْطِي عَلَى قَدْرِ هِمَّتِنَا، وَقِيلَ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ الشَّافِعِيِّ قَالَ مُرُوا فُلَانًا يُغَسِّلُنِي وَكَانَ هُوَ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَدَعَا بِتَذْكِرَتِهِ فَوَجَدَ عَلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَضَاهَا، وَقَالَ هَذَا غُسْلِي إيَّاهُ، وَقِيلَ بَكَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيك فَقَالَ لَمْ يَأْتِنِي ضَيْفٌ مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَهَانَنِي. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - زَكَاةُ الدَّارِ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا بَيْتًا لِلضِّيَافَةِ، وَقِيلَ عَطِشَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ يَوْمًا فِي طَرِيقِهِ فَاسْتَسْقَى مِنْ مَنْزِلِ امْرَأَةٍ فَأَخْرَجَتْ لَهُ كُوزًا فَشَرِبَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَاءَ، وَقَالَ لِغُلَامِهِ احْمِلْ إلَيْهَا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَتَسْخَرُ بِي فَقَالَ احْمِلْ إلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَقَالَ احْمِلْ إلَيْهَا ثَلَاثِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ يَا غُلَامُ فَرَدَّتْ الْبَابَ، وَقَالَتْ أُفٌّ لَك فَحَمَلَ إلَيْهَا ثَلَاثِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ الْجَوَّادُ الْأَوَّلُ إجَابَةُ الْخَاطِرِ الْأَوَّلِ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْبُوشَنْجِيُّ فِي الْخَلَاءِ فَدَعَا تِلْمِيذًا لَهُ، وَقَالَ انْزِعْ عَنِّي هَذَا الْقَمِيصَ وَادْفَعْهُ إلَى فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُ هَلَّا صَبَرْت فَقَالَ لَمْ أُومِنْ عَلَى نَفْسِي أَنْ يَتَغَيَّرَ عَلَيَّ لِمَا وَقَعَ لِي مِنْ الْخُلْفِ مَعَهُ بِذَلِكَ الْقَمِيصِ الْكُلُّ مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274] الْآيَةَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ عَشَرَةٍ بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٍ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٍ بِالسِّرِّ، وَعَشَرَةٍ بِالْعَلَانِيَةِ، وَقِيلَ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَمْلِكُ إلَّا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا وَدِرْهَمٍ نَهَارًا وَدِرْهَمٍ سِرًّا وَدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً. انْتَهَى. «أَلَا وَإِنَّ كُلَّ بَخِيلٍ فِي النَّارِ حَتْمٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ» الْكَفَالَةُ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي وُصُولِ الْحَقِّ الَّذِي لَهُ نَفْعٌ، وَأَمَّا الضَّرَرُ الْمَحْضُ فَلَيْسَ فِيهِ كَفَالَةٌ لَعَلَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي عَدَمِ تَخَلُّفِهِ عَنْ النَّارِ فَكَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ مَطْلُوبٌ لَهُ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ الْجَوَّادُ وَمَنْ الْبَخِيلُ» وَجْهُ السُّؤَالِ عَنْ مَاهِيَّتِهِمَا مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُهُمَا مَعْلُومَيْنِ لَهُمْ لَعَلَّ أَنَّ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَعْرِفُوا مَفْهُومَهُمَا الشَّرْعِيَّ، وَإِنْ عَرَفُوا مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيَّ أَوْ لِتَقَوِّي مَا فِي خَاطِرِهِمْ أَوْ لِاخْتِيَارِ مَا فِي خَاطِرِهِمْ هَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ لِتَعْلِيمِ غَيْرِهِمْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ فِيمَنْ

أَبْعَدَهُمْ، أَوْ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ لَيْسَ كَمَعْرِفَتِهِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ؛ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا مِنْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ غَيْرَ مَعْنَاهَا الْمَعْلُومِ لَهُمْ كَمَا يُشْعِرُهُ الْجَوَابُ «قَالَ الْجَوَّادُ مَنْ جَادَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى» كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْأُضْحِيَّةِ بَلْ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ «فِي مَالِهِ، وَالْبَخِيلُ مَنْ مَنَعَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَخِلَ عَلَى رَبِّهِ، وَلَيْسَ الْجَوَّادُ مَنْ أَخَذَ حَرَامًا» كَالْغَصْبِ «، وَأَنْفَقَ إسْرَافًا» قِيلَ عَلَى رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تَجَاوَزُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخِيِّ فَإِنَّ اللَّهَ آخِذٌ بِيَدِهِ كُلَّمَا عَثَرَ» أَقُولُ كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلسَّخِيِّ وَمَعُونَتِهِ لَهُ فِي مُهِمَّاتِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي مَحَبَّتِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَلَمَّا سَخَا بِالْأَشْيَاءِ اعْتِمَادًا وَتَوَكُّلًا عَلَى رَبِّهِ شَمِلَهُ بِعَيْنِ عِنَايَتِهِ وَكُلَّمَا، وَقَعَ فِي مَهْلَكَةٍ أَنْقَذَهُ مِنْهَا وَمَعْنَى أَخِذٌ بِيَدِهِ خَلَّصَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ خُذْ بِيَدِي خَلِّصْنِي مِمَّا وَقَعْت فِيهِ، وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «تَجَاوَزُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخِيِّ» أَيْ تَسَاهَلُوا وَخَفِّفُوا فِيهِ «وَزَلَّةِ الْعَالِمِ وَسَطْوَةِ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ فِي أَحْكَامِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى آخِذٌ بِيَدِهِمْ كُلَّمَا عَثَرَ عَاثِرٌ مِنْهُمْ» لِمَا أَنَّهُمْ مَشْمُولُونَ بِعِنَايَتِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ قِيلَ هُوَ وَهْمٌ، وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «الرِّزْقُ إلَى بَيْتٍ فِيهِ السَّخَاءُ أَسْرَعُ مِنْ الشَّفْرَةِ إلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ» قَالَ فِي شَرْحِهِ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى السَّخَاءِ سِيَّمَا عَلَى الْعِيَالِ الَّذِينَ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى رِزْقَهُمْ عَلَى يَدِهِ وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ سَبَبٌ لِجَلْبِ الرِّزْقِ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] وَمَنْ وَسَّعَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَنْ قَتَّرَ قَتَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَفِي ضِمْنِهِ تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ مِنْ الْبُخْلِ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِحِرْمَانِ بَعْضِ الرِّزْقِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ السَّخَاءُ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمِنْ أُصُولِ النَّجَاةِ. وَعَنْهُ عَبَّرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ «السَّخَاءُ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ أَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ إلَى الْأَرْضِ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا قَادَهُ إلَى الْجَنَّةِ» ، وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُلُقَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَخُلُقَانِ يُبْغِضُهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا اللَّذَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ فَحُسْنُ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءُ، وَأَمَّا اللَّذَانِ يُبْغِضُهُمَا فَسُوءُ الْخُلُقِ وَالْبُخْلُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ» وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ دُرَّةَ وَكَانَتْ تَخْدُمُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَتْ إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعَثَ إلَيْهَا بِمَالٍ فِي غَزْوَتَيْنِ ثَمَانِينَ أَلْفًا وَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَسَمَتْهَا فَلَمَّا أَمْسَتْ أَفْطَرَتْ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَقَالَتْ لَهُمْ أُمُّ دُرَّةَ مَا اشْتَرَيْت لَنَا بِدِرْهَمٍ لَحْمًا نُفْطِرُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ لَوْ كُنْت ذَكَّرْتنِي لَفَعَلْت. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ خَرَجَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - حُجَّاجًا فَمَرُّوا بِعَجُوزٍ فَسَأَلُوا الشَّرَابَ فَقَالَتْ نَعَمْ وَالطَّعَامَ قَالَتْ لَا إلَّا هَذِهِ الشَّاةُ فَذَبَحَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا وَارْتَحَلُوا ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا فَغَضِبَ فَقَالَ وَيْلَكِ تَذْبَحِينَ شَاتِي لِقَوْمٍ لَا تَعْرِفِينَهُمْ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ دَخَلَتْ الْعَجُوزُ الْمَدِينَةَ لِحَاجَةٍ فَمَرَّتْ الْعَجُوزُ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَرَآهَا الْحَسَنُ فَعَرَفَهَا، وَهِيَ لَهُ مُنْكِرَةٌ فَبَعَثَ إلَيْهَا غُلَامُهُ وَدَعَاهَا فَقَالَتْ لَا أَعْرِفُك قَالَ أَنَا ضَيْفُك يَوْمَ كَذَا فَأَمَرَ لَهَا بِأَلْفِ شَاةٍ، وَأَلْفِ دِرْهَمٍ وَبَعَثَ بِهَا مَعَ غُلَامٍ إلَى الْحُسَيْنِ فَقَالَ بِكَمْ وَصَلَك أَخِي قَالَتْ بِأَلْفِ شَاةٍ، وَأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَهَا ثُمَّ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَاسْتَخْبَرَ عَطِيَّتَهُمَا فَأَعْطَاهَا مِثْلَ مَجْمُوعِ عَطِيَّتِهِمَا فَرَجَعَتْ إلَى زَوْجِهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ شَاةٍ، وَأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَدَّثَنَا أَبِي أَنَّهُ رَفَعَ رُقْعَةً إلَى الْمَأْمُونِ يَذْكُرُ فِيهَا كَثْرَةَ دَيْنِهِ، وَقِلَّةَ صَبْرِهِ فَكَتَبَ الْمَأْمُونُ عَلَى ظَهْرِ رُقْعَتِهِ إنَّك رَجُلٌ اجْتَمَعَ فِيك خَصْلَتَانِ سَخَاءٌ وَحَيَاءٌ أَمَّا السَّخَاءُ فَهُوَ الَّذِي أَطْلَقَ مَا فِي يَدَيْك، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُك مِنْ تَبْلِيغِنَا مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرْت لَك بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ أَنْفَذَ هَارُونُ الرَّشِيدُ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ إلَى اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَبَعَثَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَغَضِبَ هَارُونُ، وَقَالَ أَعْطَيْته خَمْسَمِائَةٍ وَتُعْطِيهِ أَلْفًا، وَأَنْتَ مِنْ رَعِيَّتِي فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ غَلَّتِي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ دِينَارٍ وَاسْتَحْيَيْت أَنْ أُعْطِيَ أَقَلَّ مِنْ غَلَّةِ يَوْمٍ. وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ قَطُّ مَعَ أَنَّ دَخْلَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ دِينَارٍ، وَحُكِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يَتَصَدَّقَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ وَسِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَالَ

مبحث في غوائل البخل وسببه وآفاته

«عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أُهْدِيَ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةٌ فَقَالَ إنَّ أَخِي كَانَ أَحْوَجَ مِنِّي فَبَعَثَ بِهَا إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا سَبْعُ أَيَادِي وَرَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ وَبَاتَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ إنِّي آخَيْت بَيْنَكُمَا وَجَعَلْت عُمُرَ أَحَدِكُمَا أَطْوَلَ مِنْ الْآخَرِ فَأَيُّكُمَا يُؤْثِرُ صَاحِبَهُ بِالْحَيَاةِ فَاخْتَارَ كِلَاهُمَا الْحَيَاةَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِمَا أَفَلَا كُنْتُمَا مِثْلَ عَلِيٍّ آخَيْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ فَبَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ يَفْدِيهِ بِنَفْسِهِ وَيُؤْثِرُهُ بِالْحَيَاةِ اهْبِطَا إلَى الْأَرْضِ فَاحْفَظَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ وَكَانَ جَبْرَائِيلُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَمِيكَائِيلُ عِنْدَ رِجْلِهِ وَجَبْرَائِيلُ يُنَادِي مَنْ مِثْلُك يَا عَلِيُّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] » كُلُّهُ مُنْتَخَبٌ مِنْ الْإِحْيَاءِ. وَحُكِيَ أَنَّهُ اشْتَاقَ رَجُلٌ إلَى بِنْتِ رَجُلٍ فَقَالَ أَبُوهَا لَا سَبِيلَ إلَّا بِقَتْلِ حَاتِمِ طيئ، وَهُوَ مَعَ أُمِّهِ فِي مَفَازَةٍ، وَلَهُمَا شَاةٌ يَشْرَبَانِ لَبَنَهَا فَجَاءَ الرَّجُلُ فِي طَلَبِ حَاتِمٍ، وَلَقِيَهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَكَلَّفَهُ بِأَكْلِ شَيْءٍ مُعْتَمِدًا عَلَى لَبَنِ الشَّاةِ وَمِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ كُلَّ مَنْ مَرَّ فَإِذَا قَدْ شَرِبَاهُ، وَقَدْ نَسِيَهُ فَذَبَحَ الشَّاةَ فَأَكَلَ لَحْمَهَا، وَأَبْقَاهُ يَوْمًا ثُمَّ سَأَلَهُ حَاتِمٌ عَنْ مَصْلَحَتِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ كَذَا وَكَذَا فَكَتَمَ حَاتِمٌ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَالَ امْشِ مَعِي حَتَّى أُخْبِرَك مَكَانَهُ ثُمَّ قَالَ إنَّ حَاتِمًا رَجُلٌ شُجَاعٌ لَعَلَّك لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَيَقْتُلُنِي لَكِنْ شُدَّ يَدِي حَتَّى أَعْتَذِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ كُرْهًا ثُمَّ قَالَ شُدَّ رِجْلِي أَيْضًا لِمَصْلَحَةٍ سَأُخْبِرُك فَشَدَّ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَنَا مَطْلُوبُك حَاتِمٌ فَافْعَلْ مَا قَصَدْت فَإِنَّ رَأْسًا صَالِحًا لِمَصْلَحَةِ حَبِيبٍ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِي فَقَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَرَجَعَ فَأَخَذَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ بِقَهْرِهِ ثُمَّ اُشْتُهِرَ أَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ لِضَيْفِهِ قِرًى لَهُ ثُمَّ رُزِقَ لَهُ غِنًى فَبَنَى حُجْرَةً لِلصَّدَقَةِ وَجَعَلَ فِيهَا أَرْبَعِينَ ثُقْبًا لِلسَّائِلِينَ فَلَمَّا مَاتَ قَالَ أَخُوهُ إنِّي أَفْعَلُ مِثْلَ أَخِي فَيَوْمًا جَاءَ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ مِنْ ثُقْبٍ دِينَارًا ثُمَّ ذَلِكَ السَّائِلُ سَأَلَ مِنْ ثُقْبٍ آخَرَ فَأَعْطَاهُ أَيْضًا ثُمَّ إلَى الرَّابِعِ ثُمَّ غَلُظَ وَغَضِبَ عَلَيْهِ فَقَالَ السَّائِلُ إنَّ أَخَاك أَعْطَانِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ جَمِيعِ تِلْكَ الثُّقُوبِ، وَأَنْتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ تَغْضَبُ وَتَغْلُظُ عِنْدَ الرَّابِعِ. [مَبْحَثٌ فِي غَوَائِل الْبُخْل وَسَبَبِهِ وَآفَاتِهِ] (وَأَمَّا الْبُخْلُ فَفِيهِ مَبْحَثَانِ) (الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ) . (فِي غَوَائِلِهِ وَسَبَبِهِ وَآفَاتِهِ أَمَّا الْأُولَى) أَيْ الْغَوَائِلُ (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180] بِأَنْ مَنَعُوا حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَةَ، وَقِيلَ أَيْ مِنْ عَطَائِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِكِتْمَانِهِ {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ} [آل عمران: 180] أَيْ الْبُخْلُ {شَرٌّ لَهُمْ} [آل عمران: 180] لِاسْتِجْلَابِ الْعِقَابِ عَلَيْهِمْ {سَيُطَوَّقُونَ} [آل عمران: 180] مِنْ الطَّوْقِ {مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] بَيَانٌ لِكَوْنِهِ شَرًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] ، وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ شُجَاعًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ يَجْعَلُ مَا بَخِلَ بِهِ مِنْ الزَّكَاةِ حَيَّةً يُطَوِّقُهَا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَنْهَشُهُ مِنْ قَرْنِهِ إلَى قَدَمِهِ وَتَنْقُرُ رَأْسَهُ وَتَقُولُ أَنَا مَالُك» ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» . (ت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ» كَامِلٍ فَلَا يَرِدُ وُجُودُهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَلْزَمُ كُفْرُ مَنْ وُجِدَا فِيهِ «الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ» أَوْ الْمُرَادُ بُلُوغُ النِّهَايَةِ فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا، وَلَا يَنْفَكَّانِ عَنْهُ فَمَنْ فِيهِ بَعْضُ ذَا وَبَعْضُ ذَا وَيَنْفَكُّ عَنْهُ أَحْيَانًا فَبِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ وَالْفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ إذْ كَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْمُؤْمِنُ فِي التَّنْزِيلِ وَيُرَادُ الْمُؤْمِنُ حَقًّا الَّذِي ارْتَقَى إلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ الْحَدِيثُ غَرِيبٌ

عِنْدَ بَعْضٍ وَضَعِيفٌ عِنْدَ آخَرَ. (ت عَنْ) أَبِي بَكْرٍ (الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِلَا حِسَابٍ، وَلَا بَأْسَ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا حَتَّى يُعَاقَبَ بِمَا اجْتَرَحَهُ قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ هَذَا هُوَ السَّبِيلُ فِي تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِتُوَافِقَ أُصُولَ الدِّينِ، وَقَدْ هَلَكَ بِالتَّمَسُّكِ بِظَوَاهِرِ أَمْثَالِهَا جَمٌّ غَفِيرٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ وَمَنْ عَرَفَ وُجُوهَ الْقَوْلِ، وَأَسَالِيبَ الْبَيَانِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ هَانَ عَلَيْهِ التَّخْلِيصُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ الشُّبَهِ «خِبٌّ» بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الْخَدَّاعُ الْمُفْسِدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ هَذِهِ الْخَصْلَةِ حَتَّى يَطْهُرَ مِنْهَا إمَّا بِتَوْبَةٍ أَوْ بِعَفْوٍ مِنْ اللَّهِ أَوْ بِعَذَابٍ «، وَلَا بَخِيلٌ» قِيلَ مَانِعُ الزَّكَاةِ، وَقِيلَ عَامٌّ لِمَانِعِ مُؤْنَةِ مَنْ يَمُونُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ مُطْلَقُ حُقُوقِ الْعِبَادِ ( «، وَلَا مَنَّانٌ» مَنْ يَمُنُّ عَلَى النَّاسِ بِمَا يُعْطِيهِ فَالْمِنَّةُ تُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ أَوْ بِمَعْنَى النَّقْصِ وَالْقَطْعِ مُرَادًا بِهِ نَقْصَ الْحُقُوقِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَشَدُّ وَعِيدًا مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ؛ لِأَنَّهُ يُرْجَى مِنْهُ الْخَلَاصُ فَهُوَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالْحَدِيثُ أَيْضًا قِيلَ غَرِيبٌ، وَقِيلَ ضَعِيفٌ. (د عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ» مِنْ الْأَوْصَافِ وَالْأَخْلَاقِ «شُحٌّ هَالِعٌ» أَيْ جَازِعٌ يَعْنِي شُحًّا يَحْمِلُ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ وَالْجَزَعِ عَلَى ذَهَابِهِ قِيلَ هُوَ مَنْ لَا يَشْبَعُ كُلَّمَا وَجَدَ شَيْئًا بَلَعَهُ، وَلَا قَرَارَ لَهُ، وَلَا يَتَبَيَّنُ فِي جَوْفِهِ وَيَحْرِصُ عَلَى تَهْيِئَةِ شَيْءٍ آخَرَ قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ وَالشُّحُّ بُخْلٌ مَعَ حِرْصٍ وَكُلُّ مَا يَمْنَعُ النَّفْسَ مِنْ بَذْلِ مَالٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ طَاعَةٍ، وَالْهَلَعُ أَفْحَشُ الْجَزَعِ أَيْ أَنَّهُ يَجْزَعُ فِي شُحِّهِ أَشَدَّ الْجَزَعِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ مِنْهُ قَالُوا، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ مَعَ مَعْرِفَةٍ أَبَدًا فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ وَالْجُودِ خَوْفُ الْفَقْرِ جَهْلٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَعَدَمُ وُثُوقٍ بِوَعْدِهِ وَضَمَانِهِ وَمَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ هُوَ الرَّزَّاقُ لَمْ يَثِقْ بِغَيْرِهِ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ الْأَغْنِيَاءُ يَثِقُونَ بِالْأَرْزَاقِ وَالْفُقَرَاءُ يَثِقُونَ بِالْخَلَّاقِ «وَجُبْنٌ» أَيْ خَوْفٌ «خَالِعٌ» شَدِيدٌ كَأَنَّهُ يَخْلَعُ فُؤَادَهُ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ، وَالْمُرَادُ مَا يَعْرِضُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْكَارِ وَضَعْفِ الْقَلْبِ عِنْدَ الْخَوْفِ فَلَا يَقْدَمُ عَلَى نَحْوِ مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ وَدُخُولِ عَمَلِ الْأَبْرَارِ أَوْ يَخْلَعُ الشَّجَاعَةَ وَيَذْهَبُ بِهَا قَالَ الطِّيبِيُّ الْفَرْقُ بَيْنَ وَصْفِ الشُّحِّ بِالْهَلَعِ وَالْجُبْنِ بِالْخَلْعِ أَنَّ الْهَلَعَ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِ الشُّحِّ فَأُسْنِدَ إلَيْهِ مَجَازًا فَهُمَا حَقِيقِيَّانِ لَكِنَّ الْإِسْنَادَ مَجَازِيٌّ، وَلَا كَذَلِكَ الْخَلْعُ إذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِصَاحِبِ الْجُبْنِ حَتَّى يُسْنَدَ إلَيْهِ مَجَازًا بَلْ هُوَ وَصْفٌ لِلْجُبْنِ لَكِنَّ الْمَجَازَ حَيْثُ أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ الشِّدَّةُ، وَإِنَّمَا قَالَ شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ دُونَ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ الشُّحَّ وَالْجُبْنَ مِمَّا تُحْمَدُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ وَيُذَمُّ بِهِ الرَّجُلُ أَوْ؛ لِأَنَّ الْخَصْلَتَيْنِ تَقَعَانِ مَوْقِعًا فِي الذَّمِّ مِنْ الرِّجَالِ فَوْقَ مَا تَقَعَانِ فِي النِّسَاءِ كَمَا فِي الْفَيْضِ فَيَنْدَفِعُ مَا قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْ الرَّجُلِ هُوَ الْإِنْسَانُ فَتَدَبَّرْ. (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزَّهَادَةِ» بِالْفَتْحِ أَيْ كَرَاهِيَةِ الدُّنْيَا وَالْإِدْبَارِ عَنْهَا، وَفِي نُسْخَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِالزُّهْدِ بَدَلَ الزَّهَادَةِ «وَالْيَقِينِ» بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَقِيلَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فِي الْفَيْضِ الَّذِي يُصَيِّرُ الْعَبْدَ شَاكِرًا لِلَّهِ خَالِصًا لَهُ مُتَوَاضِعًا مُعْرِضًا مُسْلِمًا فَيَتَوَلَّى اللَّهَ وَيَتَوَلَّاهُ اللَّهُ «، وَهَلَاكُ آخِرِهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ» ، وَفِي نُسْخَةِ الْجَامِعِ وَيَهْلِكُ بَدَلَ، وَهَلَاكُ لَكِنَّ الْمُلَائِمَ لِقَوْلِهِ صَلَاحُ

هُوَ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ إلَّا مَنْ فَقَدَ الْيَقِينَ سَاءَ ظَنُّهُمْ بِرَبِّهِمْ فَبَخِلُوا وَتَلَذَّذُوا بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا فَحَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِطُولِ الْأَمَلِ - {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النساء: 120]- وَالْمُرَادُ أَنَّ غَلَبَةَ الْبُخْلِ وَالْأَمَلِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكُونُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْهَلَاكِ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ وَالْحِرْصِ وَحُبِّ الْمَالِ الْمُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْيَقِينُ تَيَقُّنُ كَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ الْمُتَكَفِّلُ لِلْأَرْزَاقِ فَمَنْ تَيَقَّنَهُ لَمْ يَبْخَلْ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْمَالِ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ وَطُولِ الْأَمَلِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ تَلَوْتُ عَلَى أَعْرَابِيٍّ {وَالذَّارِيَاتِ} [الذاريات: 1] فَلَمَّا بَلَغْتُ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] قَالَ حَسْبُك، وَقَامَ إلَى نَاقَتِهِ فَنَحَرَهَا وَوَزَّعَهَا عَلَى مَنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَعَمَدَ إلَى سَيْفِهِ فَكَسَرَهُ وَوَلَّى فَلَقِيتُهُ بِالطَّوَافِ قَدْ نَحَلَ جِسْمُهُ وَاصْفَرَّ لَوْنُهُ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَاسْتَقْرَأَنِي السُّورَةَ فَلَمَّا بَلَغْتهَا صَاحَ، وَقَالَ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ غَيْرُ هَذَا فَقَرَأْتُ - {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23]- فَصَاحَ، وَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ ذَا الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى حَلَفَ قَالَهَا ثَلَاثًا فَخَرَجَتْ مَعَهَا رُوحُهُ. وَقَالَ الْحُكَمَاءُ الْجَاهِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَمَلِ وَالْعَاقِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَمَلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْأَمَلُ كَالسَّرَابِ غُرَّ مَنْ رَآهُ وَخَابَ مَنْ رَجَاهُ قِيلَ إنَّ قِصَرَ الْأَمَلِ حَقِيقَةُ الزُّهْدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سَبَبٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَرَ أَمَلُهُ زَهِدَ وَيَتَوَلَّدُ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ الْكَسَلُ عَنْ الطَّاعَةِ وَالتَّسْوِيفُ بِالتَّوْبَةِ وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا وَنِسْيَانُ الْآخِرَةِ، وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ رِقَّتَهُ وَصَفَاءَهُ إنَّمَا يَقَعُ بِتَذَكُّرِ الْمَوْتِ فَاجْتَهِدْ فِي الطَّاعَةِ وَارْضَ بِمَا قَلَّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْأَمَلُ مَذْمُومٌ إلَّا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْلَاهُ لَمَا صَنَّفُوا ثُمَّ حَاصِلُ الْحَدِيثِ كَوْنُ الْبُخْلِ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ خَفِيفٌ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ غَرِيبًا وَضَعِيفًا، وَعَنْ الْمُنْذِرِيِّ إسْنَادُهُ مُهْمَلٌ لِلتَّحْسِينِ وَمَتْنُهُ غَرِيبٌ. (تَتِمَّةٌ) رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَإِذَا رَجُلٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يَقُولُ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ اغْفِرْ لِي قَالَ وَمَا ذَنْبُك قَالَ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْوَصْفِ قَالَ صِفْهُ قَالَ إنِّي رَجُلٌ ذُو ثَرْوَةٍ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّ السَّائِلَ لَيَأْتِينِي فَكَأَنَّمَا يَسْتَقْبِلُنِي بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَحَّ عَنِّي حَتَّى لَا تُحْرِقَنِي بِنَارِك فَوَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ رَسُولًا لَوْ قُمْت بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ ثُمَّ صَلَّيْت أَلْفَ عَامٍ وَتَبْكِي حَتَّى تَجْرِيَ مِنْ عُيُونِك الْعُيُونُ، وَأَنْتَ بَخِيلٌ لَئِيمٌ لَكَبَّك اللَّهُ عَلَى النَّارِ» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى جَنَّةَ عَدْنٍ قَالَ تَزَيَّنِي فَتَزَيَّنَتْ فَنَظَرَ إلَيْهَا فَقَالَ تَكَلَّمِي فَقَالَتْ طُوبَى لِمَنْ دَخَلَنِي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِزَّتِي لَا أُسْكِنُك بَخِيلًا» . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْمٍ شَرًّا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ وَجَعَلَ أَرْزَاقَهُمْ بِأَيْدِي بُخَلَائِهِمْ. وَقَالَ كَعْبٌ مَا مِنْ صَبَاحٍ إلَّا، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ اللَّهُمَّ عَجِّلْ لِمُمْسِكٍ تَلَفًا؛ وَلِمُنْفِقٍ خَلَفًا، وَعَنْ بِشْرٍ الْحَافِي الْبَخِيلُ لَا غِيبَةَ لَهُ وَالنَّظَرُ إلَى الْبَخِيلِ يُقْسِي الْقَلْبَ وَمُدِحَتْ امْرَأَةٌ بِأَنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ إلَّا أَنَّ فِيهَا الْبُخْلَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا خَيْرُهَا إذَنْ، وَعَنْ الْمُعْتَزِّ أَبْخَلُ النَّاسِ بِمَالِهِ أَجْوَدُهُمْ بِعَرْضِهِ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ مَا فِي الْقَلْبِ لِلْأَسْخِيَاءِ إلَّا حُبٌّ، وَلَوْ فُجَّارًا وَمَا لِلْبُخَلَاءِ إلَّا بُغْضٌ، وَلَوْ أَبْرَارًا كُلُّهُ مِنْ الْإِحْيَاءِ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِك أَنْ أُرَدَّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» . (وَأَمَّا سَبَبُ الْبُخْلِ فَحُبُّ الْمَالِ) لِذَاتِهِ وَالْمَيْلُ إلَى الدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا، وَلَذَّاتِهَا وَالْحِرْصُ عَلَى الْبَقَاءِ وَطُولُ الْأَمَلِ (لَا لِلتَّصَدُّقِ) ، وَلَا لِلصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ كَالْوَقْفِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالْقَنَاطِرِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مِنْ الرَّجُلِ» ، وَإِنَّ لِلْغَنِيِّ عِبَادَاتٍ لَيْسَتْ لِلْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ جَامِعٌ بَيْنَ عِبَادَتَيْ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ بِالْمَالِ عَلَى حَبِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ - {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]- كَمَا مَنَّ عَلَيْهِ بِالْهُدَى؛ وَلِذَا اخْتَارَ الْغِنَى كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ، وَإِبْرَاهِيمَ وَيُوسُفَ، وَأَيُّوبَ وَشُعَيْبٍ، وَأَيْضًا كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى رُوِيَ

الثامن والعشرون حب المال للحرام

أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ فَصُولِحَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ رُبْعِ ثُمُنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ فَضْلَ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى (وَ) لَا (لِقِوَامِ الْبَدَنِ) لِبَقَاءِ الْبِنْيَةِ، وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَفْسُك مَطِيَّتُك فَارْفُقْ بِهَا» (وَإِقَامَةِ الْوَاجِبِ) مِنْ دَيْنٍ وَكَذَا النَّفَقَةُ فَحُبُّ الْمَالِ لِوَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ سَبَبًا لَيْسَ لِلْبُخْلِ (وَهُوَ) أَيْ حُبُّ الْمَالِ لَا لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ. . [الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ حُبُّ الْمَالِ لِلْحَرَامِ] (الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ، وَهُوَ) حُبُّ الْمَالِ (لِلْحَرَامِ) أَيْ لِلتَّوَسُّلِ إلَى مَا يَحْرُمُ (حَرَامٌ؛ وَلِلْحَلَالِ لَا) لَيْسَ بِحَرَامٍ (وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ) مَكْرُوهٌ فِيهِ خَفَاءٌ وَتَفْصِيلٌ فَافْهَمْ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] مِحْنَةٌ وَبَلَاءٌ لَكُمْ فَالْعَاقِلُ لَا يَلْتَفِتُ بَلْ يُعْرِضُ عَنْ مِثْلِهِ رَاغِبًا إلَى مَا عِنْدَهُ تَعَالَى كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15] لِمَنْ صَبَرَ عَلَى الْفَقْرِ وَالْمِحَنِ أَوْ لِمَنْ آثَرَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالسَّعْيِ لَهُمْ - {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]- لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ إنَّمَا يَتِمُّ إنْ عَلِمَ إرَادَةَ عُمُومِ الْأَمْوَالِ، وَعُمُومِ الْأَمْلَاكِ، وَعُمُومِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ حَفِيٌّ بِمُلَاحَظَةِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي مَدْحِ الْأَمْوَالِ. (طب عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الشَّيْطَانُ لَنْ يَسْلَمَ مِنِّي صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ إحْدَى ثَلَاثِ» حِيَلٍ «أَغْدُو» صَبَاحًا «عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَرُوحُ» مَسَاءً أَيْ أَسْعَى لِوَسْوَسَتِهِ، وَإِضْلَالِهِ وَقْتَ الْغَدَاةِ وَالرَّوَاحِ بِهَذِهِ الْحِيَلِ كِنَايَةً عَنْ اسْتِمْرَارِ الْوَسْوَسَةِ إحْدَاهَا «أَخْذُهُ» أَيْ الْمَالِ «مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَإِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ» مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفِسْقِ وَمِنْهُ الْإِهْدَاءُ وَالْإِطْعَامُ إلَى الظَّلَمَةِ وَالْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى جَاهِ الدُّنْيَا «وَأُحَبِّبُهُ إلَيْهِ» الْفَاعِلُ الْمُتَكَلِّمُ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ اُخْتِيرَتْ الِاسْتِقْبَالِيَّة لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ التَّجَدُّدِيِّ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ «فَيَمْنَعُهُ» أَيْ حُبُّهُ «مِنْ حَقِّهِ» الْوَاجِبِ عَلَيْهِ كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالنَّفَقَةِ اللَّازِمَةِ عَلَيْهِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَأَدَاءِ الدُّيُونِ، وَأَدَاءِ الْجِنَايَاتِ وَالضَّمَانَاتِ وَالْأَعْشَارِ وَخَرَاجِ الْأَرْضِ. (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لُعِنَ عَبْدُ الدِّينَارِ لُعِنَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ» أَيْ طُرِدَ وَأُبْعِدَ الْحَرِيصُ عَلَى جَمْعِ الدِّينَارِ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ» قَالَ الطِّيبِيُّ الْحُرِّيَّةُ ضَرْبَانِ مَنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ السَّبْيِ وَمَنْ أَخَذَتْ الدُّنْيَا الذَّمِيمَةُ بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ وَتَمَلَّكَتْهُ فَصَارَ عَبْدًا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ أَقْوَى الرِّقَّيْنِ قَالَ وَرِقُّ ذَوِي الْأَطْمَاعِ رِقٌّ مُقَلَّدٌ، وَقِيلَ عَبْدُ الشَّهْوَةِ أَوْلَى مِنْ عَبْدِ الرِّقِّ فَمَنْ أَلْهَاهُ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ فَهُوَ مِنْ الْخَاسِرِينَ، وَإِذَا أُلْهِيَ الْقَلْبُ عَنْ الذِّكْرِ سَكَنَهُ الشَّيْطَانُ وَصَرَفَهُ حَيْثُ أَرَادَ وَمِنْ فِقْهِ الشَّيْطَانِ فِي الشَّرِّ أَنَّهُ يُرْضِيهِ بِبَعْضِ أَعْمَالِ الْخَيْرِ لِيُرِيَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِيهَا الْخَيْرَ، وَقَدْ تَعَبَّدَ لَهَا قَلْبُهُ فَأَيْنَ يَقَعُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْبِرِّ مَعَ تَعَبُّدِهِ لَهَا لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَوْنِ حُبِّ الْمَالِ سَبَبًا لِلْبُخْلِ

مبحث في سبب حب المال وعلاجه

لَا يَظْهَرُ إلَّا بِلُزُومٍ خَفِيٍّ. وَعَنْ الْحَسَنِ أَخَذَ إبْلِيسُ أَوَّلَ دِرْهَمٍ ضُرِبَ فَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ مَنْ أَحَبَّك فَهُوَ عَبْدِي، وَعَنْ وَهْبٍ قَالَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِإِبْلِيسِ مَا أَنْتَ صَانِعٌ بِأُمَّةِ عِيسَى قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَيْ لَأَشْغَلَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ إلَهَيْنِ قَالَ فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ حَتَّى يَكُونَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَشْهَى مِنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ سُلَيْمَانُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَهَبَ كَمَا فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ. (ت عَنْ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً» امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا، وَقَالَ الْقَاضِي ضَلَالًا، وَعِصْيَانًا «، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ» ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْبَالَ عَنْ الْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ وَيُنْسِي الْآخِرَةَ. [مَبْحَثٌ فِي سَبَبِ حُبِّ الْمَالِ وَعِلَاجِهِ] (الْمَبْحَثُ الثَّانِي) . (فِي سَبَبِ حُبِّ الْمَالِ وَعِلَاجِهِ. وَسَبَبُهُ ثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ: حُبُّ الْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ) فَيَجْتَهِدُ فِي الْكَسْبِ لِإِغْنَائِهِمْ عَنْ الِاحْتِيَاجِ (وَعِلَاجُهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَنَّ الَّذِي خَلَقَهَا) أَيْ الْأَنْفُسَ الْمَذْكُورَةَ (خَلَقَ مَعَهَا رِزْقَهَا) قَالَ اللَّه تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ، وَأَوْجَدَ رِزْقَ كُلٍّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَكَتَبَ آجَالَهُمْ، وَأَعْمَارَهُمْ، وَأَرْزَاقَهُمْ وَمَنْ رَامَ مِنْهُمْ فَوْقَ مَا فُرِضَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ فَقَدْ كَدَّ نَفْسَهُ، وَأَتْعَبَ جِسْمَهُ، وَلَمْ يَأْتِ إلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» ، وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا الرِّزْقُ أَشَدُّ طَلَبًا لِلْعَبْدِ مِنْ أَجَلِهِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ بِهِ وَضَمِنَهُ وَوَعْدُهُ لَا يَتَخَلَّفُ وَضَمَانُهُ لَا يَتَأَخَّرُ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضٌ: الرِّزْقُ يَطْرُقُ عَلَى صَاحِبِهِ الْبَابَ وَالرِّزْقُ يَطْلُبُ الْمَرْزُوقَ وَبِسُكُونِ أَحَدِهِمَا يَتَحَرَّكُ الْآخَرُ قَالَ الْغَزَالِيُّ قَدْ قَسَمَ اللَّهُ الْأَرْزَاقَ وَكَتَبَهَا فِي اللَّوْحِ، وَقَدَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَأْكُلُهُ وَيَشْرَبُهُ وَيَلْبِسُهُ كُلٌّ بِمِقْدَارٍ مُقَدَّرٍ وَبِوَقْتٍ مُوَقَّتٍ لَا يَزِيدُ، وَلَا يَنْقُصُ، وَلَا يَتَقَدَّمُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ كَمَا كُتِبَ بِعَيْنِهِ فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَحْرِصَ فِي رِزْقِهِ بَلْ يَكِلَهُ إلَى اللَّهِ الَّذِي تَوَلَّى الْقِسْمَةَ فِي خَلْقِهِ. (وَكَمْ مِنْ وَلَدٍ لَمْ يَرِثْ عَنْ أَبِيهِ مَالًا) كَأَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَصَابَ كُلًّا مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا مِنْ أَبِيهِ (وَحَالُهُ أَحْسَنُ مِمَّنْ وَرِثَ) عَنْ أَبِيهِ مَالًا عَظِيمًا كَأَوْلَادِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ حَيْثُ اقْتَسَمُوا الذَّهَبَ بِالْمَكَايِيلِ وَبَعْدَ زَمَانٍ قِيلَ سَأَلَ بَعْضُهُمْ النَّاسَ لِفَاقَتِهِ (وَ) أَنْ يَتَذَكَّرَ (أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا أَتْقِيَاءَ فَيَكْفِيهِمْ اللَّهُ تَعَالَى) بِوَعْدِهِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي، وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» لَكِنْ يَشْكُلُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَوُجُوبِ الْكَسْبِ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ. (وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً فَيَسْتَعِينُونَ بِمَالِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَرْجِعُ مَظْلِمَتُهُ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَالَهُ آلَةً لِفِسْقِهِمْ وَظُلْمِهِمْ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا التَّرْدِيدِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ عَيَّرَهُ وَاحِدٌ مِمَّنْ يَعُودُهُ بِعَدَمِ تَرْكِهِ شَيْئًا لِأَبْنَائِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ (إنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ) اسْتِعَانَتَهُمْ بِهِ عَلَى الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ، وَإِلَّا فَلَا تَرْجِعُ مَظْلِمَتُهُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا فِي الْفَتَاوَى: الْوَصِيَّةُ بِتَمَامِ الثُّلُثِ أَفْضَلُ عِنْدَ كَوْنِ الْوَرَثَةِ كِبَارًا فَسَقَةً. (وَ) السَّبَبُ (الثَّانِي التَّلَذُّذُ بِوُجُوبِ الْمَالِ وَرُؤْيَتِهِ وَتَقْلِيبِهِ بِيَدِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ) بِأَنْ تَمَكَّنَ حُبُّهُ فِي قَلْبِهِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُحِبِّ مَعَ مَحْبُوبِهِ

(فَلَا تَسْمَحُ) فَلَا تَرْضَى (نَفْسُهُ بِأَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ) مُحَافَظَةً عَلَى غَرَضِ التَّلَذُّذِ (وَهَذَا) السَّبَبُ (مَرَضٌ لِلْقَلْبِ عَسِيرُ الْعِلَاجِ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خُبْثِ الطَّبْعِ (لَا سِيَّمَا فِي كِبَرِ السِّنِّ) ؛ لِأَنَّهُ يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَيَشُبُّ فِيهِ خَصْلَتَانِ الْحِرْصُ وَطُولُ الْأَمَلِ، الْحَدِيثَ. (فَإِنْ قَبِلَ الْعِلَاجَ فَبِكَثْرَةِ التَّأَمُّلِ فِيمَا وَرَدَ) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ (مِنْ ذَمِّ الْبُخْلِ وَالْبُخَلَاءِ وَنُفُورِ الطَّبْعِ عَنْهُمْ وَذَمِّ الْمَالِ وَآفَاتِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]- وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «اللَّهُمَّ مَنْ أَحَبَّنِي فَارْزُقْهُ الْعَفَافَ وَالْكَفَافَ وَمَنْ أَبْغَضَنِي فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ مَاتَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَقَصْرًا فَتَخَاصَمَا فِي قِسْمَتِهِ فَتَكَلَّمَتْ لَبِنَةٌ مِنْ الْقَصْرِ بِأَنْ لَا تَخَاصَمُوا لِأَجْلِي فَلَقَدْ كُنْت مَلِكًا عَمَّرْت ثَلَاثَمِائَةٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ مِتَّ فَبَقِيتُ فِي الْقَبْرِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ رُفِعَ تُرَابِي وَجُعِلَ مِنِّي آنِيَةٌ فَبَقِيَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ انْكَسَرْتُ وَرُمِيَتْ فِي الطَّرِيقِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ ضُرِبَتْ لَبِنَةً وَوُضِعَتْ فِي هَذَا الْقَصْرِ مُنْذُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً أَفَتُخَاصِمُونَ وَسَتَصِيرُونَ مِثْلِي فَاعْتَبِرُوا بِي. وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ، وَأَفْضَلُ أَمْوَالِ الدُّنْيَا الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَآخِرُ الْأَوَّلِ هَمٌّ وَآخِرُ الثَّانِي هُوَ النَّارُ» (وَمَدْحِ السَّخَاءِ) كَمَا مَرَّ، وَفِي الْمَوَاقِفِ أَنَّهُ اُشْتُهِرَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يُؤْثِرُ الْمَحَاوِيجَ وَالْمَسَاكِينَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ حَتَّى تَصَدَّقَ فِي الصَّلَاةِ بِخَاتَمِهِ وَنَزَلَ - {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] . وَفِي حَاشِيَةِ الْمَوْلَى حَسَنٍ جَلَبِيٌّ رُوِيَ أَنَّهُ مَرِضَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَنَذَرَ عَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ وَجَارِيَتُهُمَا إنْ عُوفِيَا صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعُوفِيَا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا شَيْءٌ فَاسْتَقْرَضَ عَلِيٌّ ثَلَاثَةَ أَصْوَاعِ شَعِيرٍ مِنْ يَهُودِيٍّ وَطَحَنَتْ فَاطِمَةُ صَاعًا وَخَبَزَتْ خَمْسَةَ أَقْرَاصٍ عَلَى عَدَدِهِمْ فَعِنْدَ الْإِفْطَارِ قَالَ سَائِلٌ يَا أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ أَنَا مِسْكِينٌ مِنْ مَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ أَطْعِمُونِي أَطْعَمَكُمْ اللَّهُ مِنْ مَوَائِدِ الْجَنَّةِ فَآثَرُوهُ بِهِ وَبَاتُوا، وَلَمْ يَطْعَمُوا شَيْئًا فَأَصْبَحُوا صِيَامًا، وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ خَبَزَتْ خَمْسَةَ أَقْرَاصٍ مِنْ الصَّاعِ الثَّانِي فَعِنْدَ الْإِفْطَارِ سَأَلَ يَتِيمٌ فَآثَرُوهُ بِهِ، وَلَمْ يَطْعَمُوا شَيْئًا فَأَصْبَحُوا صِيَامًا، وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ خَبَزَتْ خَمْسَةَ أَقْرَاصٍ مِنْ الصَّاعِ الثَّالِثِ فَعِنْدَ الْإِفْطَارِ سَأَلَ أَسِيرٌ فَآثَرُوهُ بِهِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى - {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]- الْآيَاتِ لَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَدْخُولَةٌ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ (وَ) مَدْحِ (الزُّهْدِ) هُوَ مَا نُقِلَ عَنْ الْجُنَيْدِ اسْتِصْغَارُ الدُّنْيَا وَمَحْوُ آثَارِهَا مِنْ الْقَلْبِ. وَعَنْهُ أَيْضًا هُوَ خُلُوُّ الْيَدِ مِنْ الْمِلْكِ وَالْقَلْبِ مِنْ التَّتَبُّعِ، وَعِنْدَ الشِّبْلِيِّ هُوَ أَنْ تَزْهَدَ فِيمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ هُوَ تَرْكُ الدُّنْيَا وَالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ كَذَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَكْعَتَانِ مِنْ زَاهِدٍ عَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ الْمُجْتَهِدِينَ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ أَبَدًا سَرْمَدًا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِبَعْضِ التَّابِعِينَ أَنْتُمْ أَكْثَرُ أَعْمَالًا وَاجْتِهَادًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ لِكَوْنِهِمْ أَزْهَدَ مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا فَمَقَادِيرُ الْأَعْمَالِ مِنْ طَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً فِي الْحُسْنِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي التَّحَقُّقِ، وَعَمَلُ رَاغِبِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَثِيرًا فِي الْحِسِّ قَلِيلٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِعَدَمِ سَلَامَتِهِمْ مِنْ قَوَادِحِ الْخُلُوصِ، وَعَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ إنَّمَا تُمْكِنُ بِإِخْرَاجِ الدُّنْيَا مِنْ الْقَلْبِ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ شَكَا بَعْضُ النَّاسِ إلَى بَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ يَعْمَلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ، وَلَا يَجِدُ حَلَاوَةً فِي قَلْبِهِ قَالَ؛ لِأَنَّ عِنْدَك بِنْتَ إبْلِيسَ، وَهِيَ الدُّنْيَا، وَلَا بُدَّ لِلْأَبِ أَنْ يَزُورَ بِنْتَهُ فِي بَيْتِهَا، وَهُوَ قَلْبُك، وَلَا يُؤْثِرُ دُخُولَهُ إلَّا فَسَادًا. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُعْطَى الزَّاهِدُ ثَوَابَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ ثُمَّ يُقْسَمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ثَوَابُ أَعْمَالِهِ كَذَا فِي شَرْحِ الْحِكَمِ (وَ) بِكَثْرَةِ (الْبَذْلِ تَكَلُّفًا) لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِ (حَتَّى يَصِيرَ) بِالْمُدَاوَمَةِ (طَبْعًا لَهُ. وَالثَّالِثُ: حُبُّ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ الَّتِي لَا وُصُولَ لَهَا إلَّا بِالْمَالِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِحُبِّ الدُّنْيَا) كَاللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالْأَبْنِيَةِ الْعَالِيَةِ وَالْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْحَدَائِقِ. حَاصِلُ الْكُلِّ حُبُّ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ

حَدِيثًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ (وَهُوَ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (مَعَ طُولِ الْأَمَلِ) ؛ لِأَنَّهُ مَعَ قِصَرِهِ لَا يُتَصَوَّرُ حُبُّ الدُّنْيَا (وَعِلَاجُ طُولِ الْأَمَلِ كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَغَوَائِلِهِ، وَقَدْ سَبَقَ) بَيَانُهُمَا (وَأَمَّا حُبُّ الدُّنْيَا فَإِنْ كَانَ مِنْ الْحَرَامِ فَحَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْحَلَالِ فَلَا) ؛ لِأَنَّهُ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ (وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ جِدًّا) ؛ لِأَنَّهُ مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ وَمَعْدِنُ كُلِّ فِتْنَةٍ لَا يَخْفَى مَا فِي إطْلَاقِهِ بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ. . (وَفِيهِ) أَيْ فِي بَيَانِ حُبِّ الدُّنْيَا (مَقَالَتَانِ الْمَقَالَةُ الْأُولَى فِي ذَمِّهِ وَغَوَائِلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20]- الْآيَةَ) {وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد: 20] يَعْنِي أَنَّهَا أُمُورٌ خَيَالِيَّةٌ قَلِيلَةُ النَّفْعِ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ أَتْعَابٌ كَتَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَمَلْعَبَةِ الصِّبْيَانِ فِي عَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلَهْوٌ يَلْهُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا يُهِمُّهُمْ وَزِينَةٌ كَالْمَلَابِسِ الْحَسَنَةِ الْبَهِيَّةِ وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ وَتَفَاخُرٌ بِالْأَنْسَابِ وَتَكَاثُرٌ بِالْعَدَدِ فَإِنْ قِيلَ الدُّنْيَا رُبَّمَا تَكُونُ خَيْرًا كَكَوْنِ الْأَمْوَالِ مَصْرُوفَةً إلَى رِضَاهُ وَطَاعَاتِهِ وَكَوْنِ الْأَوْلَادِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْأَعْمَالِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ قُلْنَا مُثِّلَ هَذَا بِالْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْكَلَامِ إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ» مَطْرُودَةٌ وَمَبْغُوضَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ مَتْرُوكَةٌ مُبْعَدَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْ النُّفُوسَ بِزَهْرَتِهَا، وَلَذَّتِهَا وَإِمَالَتِهَا عَنْ الْعُبُودِيَّةِ إلَى الْهَوَى حَتَّى سَلَكَتْ غَيْرَ طَرِيقِ الْهُدَى «مَلْعُونٌ مَا فِيهَا» مِنْ الشَّهَوَاتِ كَحُبِّ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ» أَيْ كُلَّ شَيْءٍ مُذَكِّرٍ لِلَّهِ تَعَالَى «وَمَا وَالَاهُ» أَيْ يُحِبُّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْمُوَالَاةُ الْمَحَبَّةُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ يَعْنِي مَلْعُونٌ مَا فِي الدُّنْيَا إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا وَمَا سِوَاهُ مَلْعُونٌ «، وَعَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا» فَإِنَّ هَذِهِ مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، وَفِي عَطْفِ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي مَا وَالَاهُ عَلَى طَرِيقِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ سِوَاهُمَا هَمَجٌ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا جَامِعُوا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَرَأْسُ كُلِّ الْعِبَادَةِ وَالْحَدِيثُ مِنْ كُنُوزِ الْحِكَمِ وَجَوَامِعِ الْكَلِمِ لِدَلَالَتِهِ بِالْمَنْطُوقِ عَلَى جَمِيعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وَبِالْمَفْهُومِ عَلَى رَذَائِلِهَا الْقَبِيحَةِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ؛ لِأَنَّ مَا خُلِقَ فِيهَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مَعَ حَقَارَتِهِ أَمَدًا قَلِيلًا ثُمَّ يَنْقَضِي وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ

حَقِيرَةٌ، وَأَنَّهَا أَطْيَبُ حَلَالٍ فِي الدُّنْيَا لِحِفْظِهَا زَوْجَهَا مِنْ الْحَرَامِ، وَإِعَانَتِهَا عَلَى الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؛ وَلِكَوْنِهَا سَبَبًا لِلذَّرَارِيِّ الَّتِي هِيَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً كَانَتْ شَرَّ مَتَاعٍ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» ، وَأَيْضًا «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، وَأَيْضًا فِيهِ «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ» ، وَأَيْضًا «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى» قَدْ أَعْلَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْأَرْبَعَةِ قَبْلَهُ أَنَّ الدُّنْيَا مَبْغُوضَةٌ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا مَا فِيهِ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ أَوْ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ فَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ يَنْدَفِعُ بِهَا مَفْسَدَةُ الزِّنَا، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ جِمَاعُ الْمَنَافِعِ، وَالذِّكْرُ جِمَاعُ الْعِبَادَةِ وَمَنْشُورُ الْوِلَايَةِ وَالْكُلُّ يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا حُجَّةٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى قَالُوا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَعَنَهَا، وَأَبْغَضَهَا إلَّا مَا كَانَ لَهُ فِيهَا وَمَنْ أَحَبَّ مَا لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَبْغَضَهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلَعْنَتِهِ وَغَضَبِهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ فَضَّلَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْغَنِيِّ شَاكِرًا وَمِنْ جُمْلَةِ شُكْرِهِ جَعْلُ الدُّنْيَا وَسِيلَةً لِلْآخِرَةِ بِنَحْوِ الصَّدَقَةِ وَالصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْخَيْرِ فَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لَهُمْ قَالَ فِي شَرْحِ الْحِكَمِ، وَقِيلَ «أَوْحَى اللَّهُ إلَى الدُّنْيَا أَنْ تَضَيَّقِي وَتَشَدَّدِي عَلَى أَوْلِيَائِي وَتَرَفَّهِي وَتَوَسَّعِي عَلَى أَعْدَائِي حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِك عَنِّي فَلَا يَتَفَرَّغُوا لِذِكْرِي» ، وَقَدْ سَمِعْت حَدِيثَ «يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي، وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» . وَأَنْشَدَ أَبُو الثَّعَالِي شِعْرًا تَنَحَّ عَنْ الدُّنْيَا فَلَا تَخْطُبَنَّهَا ... وَلَا يَخْطُبَنَّ قِتَالَهُ مَنْ يُنَاكِحُ فَلَيْسَ يَفِي مَرْجُوُّهَا بِمَخُوفِهَا ... وَمَكْرُوهُهَا إمَّا تَأَمَّلْتَ رَاجِحُ (وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ) هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَذَى ... وَدَارُ الْفَنَاءِ وَدَارُ الْعِبَرْ وَلَوْ نُلْتَهَا بِحَذَافِيرِهَا ... لَمِتَّ وَلَمْ تَكُ تَقْضِي الْوَطَرْ أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْبَقَاءِ ... وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ إذَا مَا كَبِرْتَ وَبَانَ الشَّبَابُ ... فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ دَارُ الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ الْمَنَامِ ... وَسُرُورُهَا كَظِلِّ الْغَمَامِ وَأَحْدَاثُهَا كَصَوَائِبِ السِّهَامِ ... وَشَهَوَاتُهَا كَمَشُوبِ خَلْطِ السِّمَامِ وَفِتْنَتُهَا كَأَمْوَاجِ الْطَوَامِّ (ت عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» مَثَلٌ لِزِيَادَةِ الْقِلَّةِ وَغَايَةِ الْحَقَارَةِ «مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» أَيْ لَا يُمَتِّعُهُ أَدْنَى تَمَتُّعٍ هَذَا أَعْدَلُ شَاهِدٍ عَلَى حَقَارَةِ الدُّنْيَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَدْنَى عَلَامَاتِ الْفَقِيرِ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لِوَاحِدٍ فَأَنْفَقَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثُمَّ خَطَرَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهَا مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ مَاهِيَّةُ الْفَقِيرِ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاَللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ عِنْدِي أَهْوَنُ مِنْ عِرْقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ، وَقَدْ قِيلَ وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ لَا يَرَى مَا يَسُوءُهُ ... فَلَا يَتَّخِذْ شَيْئًا يَخَافُ لَهُ فَقْدًا (دُنْيَا) ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنْ الدُّنْيَا شَيْئًا» ، وَلَوْ أَقَلَّ قَلِيلٍ فَإِنَّ التَّنْوِينَ لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ «إلَّا نُقِصَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى» لَفْظَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ «، وَإِنْ كَانَ» ذَلِكَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ «عَلَيْهِ» أَيْ عَلَى اللَّهِ «كَرِيمًا» مُكْرَمًا مَحْبُوبًا لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ صَرْفِ مَا أَصَابَهُ إلَى رِضَاهُ تَعَالَى بَلْ يَتَلَذَّذُ بِمُبَاحَاتِهِ، وَقِيلَ هِيَ الدُّنْيَا أَقَلُّ مِنْ الْقَلِيلِ ... وَعَاشِقُهَا أَذَلُّ مِنْ الذَّلِيلِ تَصُمُّ بِسِحْرِهَا قَوْمًا وَتُعْمِي ... فَهُمْ مُتَحَيِّرُونَ بِلَا دَلِيلِ (حَدّ) أَحْمَدُ (ز) الْبَزَّارُ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (حك) الْحَاكِمُ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ» ؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْمَحَبَّةِ تَقْتَضِي اسْتِحْصَالَ شَهَوَاتِهَا وَالتَّوَجُّهَ إلَى مُيُولَاتِهَا فَلَا يَتَفَرَّغُ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَمَنْ نَظَرَ إلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحِسَابِ حَلَالِهَا، وَعَذَابِ حَرَامِهَا وَشَاهَدَ بِنُورِ إيمَانِهِ جَمَالَ الْآخِرَةِ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ فِي دُنْيَاهُ بِتَحَمُّلِ مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ وَتَجَنُّبِ الشَّهَوَاتِ فَصَبَرَ قَلِيلًا وَتَنَعَّمَ طَوِيلًا؛ وَلِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ شَغَلَتْهُ عَنْ تَفْرِيغِ قَلْبِهِ لِحُبِّ رَبِّهِ؛ وَلِسَانِهِ لِذِكْرِهِ فَتَضُرُّ بِآخِرَتِهِ، وَلَا بُدَّ كَمَا أَنَّ مَحَبَّةَ الْآخِرَةِ تَضُرُّ بِالدُّنْيَا. وَلَا بُدَّ كَمَا قَالَ (وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ) بِتَحَمُّلِ مَا يَنْفَعُهُ فِيهَا (أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ) أَيْ هُمَا كَكِفَّتَيْ الْمِيزَانِ فَإِذَا رَجَحَتْ إحْدَاهُمَا خَفَّتْ الْأُخْرَى وَكَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمُحَالٌ أَنْ يَظْفَرَ سَالِكُ طَرِيقِ الشَّرْقِ بِمَا يُوجَدُ فِي الْغَرْبِ وَكَالضَّرَّتَيْنِ إذَا رَضِيَتْ إحْدَاهُمَا سَخِطَتْ الْأُخْرَى فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَكَادُ يَكُونُ إلَّا لِمَنْ سَخَّرَهُ اللَّهُ لِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. «فَآثِرْ» أَنْتَ «مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» وَمَنْ أَحَبَّهَا صَيَّرَهَا غَايَتَهُ وَتَوَسَّلَ إلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ وَسَائِلَ إلَيْهِ، وَإِلَى الْآخِرَةِ فَعَكَسَ الْأَمْرَ، وَقَلَّتْ الْحِكْمَةُ فَانْتَكَسَ قَلْبُهُ، وَعَكَسَ قَضِيَّتَهُ إلَى وَرَائِهِ، وَهَذَا سِرٌّ مَنْكُوسٍ، وَقَلْبٌ مَعْكُوسٍ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ كَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إذَا قَرَبْت مِنْ إحْدَاهُمَا بَعُدْت مِنْ الْأُخْرَى، وَفِي الْحَدِيثِ «فَكُونُوا أَبْنَاءَ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا أَبْنَاءَ الدُّنْيَا» ، وَعَنْ فُضَيْلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى لَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْتَارَ خَزَفًا يَبْقَى فَكَيْفَ نَخْتَارُ خَزَفًا يَفْنَى عَلَى ذَهَبٍ يَبْقَى. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ صَاحِبِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْمَاشِي عَلَى الْمَاءِ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ لَا يَبْتَلَّ قَدَمَاهُ فَكُلُّ مَا أَلْهَاك عَنْ مَوْلَاك فَهُوَ دُنْيَاك» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَهُ فِي الْآخِرَةِ وَبَصَّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّك اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ» . (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ إلَّا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ مِنْ الذُّنُوبِ» لِإِفْضَائِهَا إلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَسْتَقِيمُ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ» ، وَعَنْ الْإِحْيَاءِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «لَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَتْ إبْلِيسَ جُنُودُهُ فَقَالُوا قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ وَأُخْرِجَتْ أُمَّةٌ قَالَ أَيُحِبُّونَ الدُّنْيَا قَالُوا نَعَمْ قَالَ لَئِنْ كَانُوا يُحِبُّونَهَا مَا أُبَالِي أَنْ لَا يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ، وَأَنَا أَغْدُو عَلَيْهِمْ، وَأَرُوحُ بِثَلَاثٍ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ، وَإِنْفَاقِهِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَإِمْسَاكِهِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ تَبَعٌ لِذَلِكَ» . (حَدّ) أَحْمَدُ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ» لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ الدَّارِ الْإِقَامَةَ

مَعَ عَيْشٍ أَبَدِيٍّ وَالدُّنْيَا بِخِلَافِهِ لَمْ تَسْتَحِقَّ أَنْ تُسَمَّى دَارًا فَمَنْ دَارُهُ الدُّنْيَا فَلَا دَارَ لَهُ قَالَ عِيسَى مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى الْمَوْجِ دَارًا تِلْكُمْ الدَّارُ فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ زِيدَ هُنَا قَوْلُهُ «وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ» ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْمَالِ الْإِنْفَاقُ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ فَمَنْ أَتْلَفَهُ فِي شَهَوَاتِهِ فَحَقِيقٌ بِأَنْ يُقَالَ لَا مَالَ لَهُ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ «، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» لِغَفْلَتِهِ عَمَّا يُهِمُّهُ فِي الْآخِرَةِ وَيُرَادُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَاقِلُ إنَّمَا يَجْمَعُ لِلْآخِرَةِ وَيَتَزَوَّدُ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى قَالَ فِي الْحِكَمِ لَا بُدَّ لِبِنَاءِ هَذَا الْوُجُودِ أَنْ تَنْهَدِمَ دَعَائِمُهُ، وَأَنْ تُسْلَبَ كَرَائِمُهُ فَالْعَاقِلُ مَنْ كَانَ بِمَا هُوَ يَبْقَى أَفْرَحَ مِنْهُ بِمَا هُوَ يَفْنَى، وَأَنْشَدَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَيَا فُرْقَةَ الْأَحْبَابِ لَا بُدَّ لِي مِنْك ... وَيَا دَارَ دُنْيَا إنَّنِي رَاحِلٌ عَنْك وَيَا قِصَرَ الْأَيَّامِ مَا لِي وَلِلْمُنَى ... وَيَا سَكَرَاتِ الْمَوْتِ مَا لِي وَلِلضَّحِكِ وَمَا لِي لَا أَبْكِي لِنَفْسِي بِعَبْرَةٍ ... إذَا كُنْت لَا أَبْكِي لِنَفْسِي فَمَنْ أَبْكِي أَلَا أَيُّ حَيٍّ لَيْسَ بِالْمَوْتِ مُوقِنًا ... وَأَيُّ يَقِينٍ مِنْهُ أَشْبَهُ بِالشَّكِّ وَعَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا طَالِبَ الدُّنْيَا لِتَبَرَّ بِهَا تَرْكُهَا أَبَرُّ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا طَلَبْتُمْ مِنْ الدُّنْيَا شَيْئًا تَعَسَّرَ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا طَلَبْتُمْ مِنْ الْآخِرَةِ تَيَسَّرَ لَكُمْ» بَيْتٌ فَارِسِيٌّ بد نيادل نه بندد هركه مرداست ... كه دُنْيَا سرتسر اندوه ودردست بكورستان نظركن تأبيني ... كه دُنْيَا همنشينان راجه كردست (هق) الْبَيْهَقِيُّ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ) مُرْسَلًا (أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» بِشَهَادَةِ التَّجْرِبَةِ فَإِنَّ حُبَّهَا يَدْعُو إلَى كُلِّ خَطِيئَةٍ سِيَّمَا مَا يَتَوَقَّفُ تَحْصِيلُهُ عَلَيْهَا فَيُسْكِرُ عَاشِقَهَا حُبُّهَا عَنْ عِلْمِهِ بِتِلْكَ الْخَطِيئَةِ وَقُبْحِهَا، وَعَنْ كَرَاهَتِهَا وَاجْتِنَابِهَا وَحُبُّهَا يُوقِعُ فِي الشُّبُهَاتِ ثُمَّ فِي الْمَكْرُوهِ ثُمَّ فِي الْحَرَامِ بَلْ كَفَّرَ جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمْ لِحُبِّ الدُّنْيَا فَأَصْلُ كُلِّ خَطِيئَةٍ فِي الْعَالَمِ هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا فَشَرُّ إبْلِيسَ لِحُبِّ الرِّيَاسَةِ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الدُّنْيَا خَمْرُ الشَّيْطَانِ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يُفِقْ مِنْ سَكْرَتِهَا إلَّا فِي عَسْكَرِ الْمَوْتَى خَاسِرًا نَادِمًا، وَفِي الْإِحْيَاءِ «مَرَّ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِرَجُلٍ، وَهُوَ يَبْكِي وَرَجَعَ، وَهُوَ يَبْكِي، وَقَالَ يَا رَبِّ عَبْدُك يَبْكِي مِنْ مَخَافَتِك فَقَالَ تَعَالَى يَا ابْنَ عِمْرَانَ لَوْ نَزَلَ دِمَاغُهُ عَلَى دُمُوعِهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَسْقُطَ لَمْ أَغْفِرْ لَهُ، وَهُوَ يُحِبُّ الدُّنْيَا» . (تَنْبِيهٌ) أَخَذَ بَعْضٌ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ الْعِلْمُ إلَّا عَنْ أَقَلِّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ أَنْوَرُ قَلْبًا فَكَيْفَ يُؤْخَذُ عِلْمٌ عَمَّنْ جَمَعَ رَأْسَ خَطِيئَاتِ الْوُجُودِ وَكَيْفَ، وَهُوَ الْمَانِعُ مِنْ دُخُولِ حَضْرَةِ اللَّهِ وَحَضْرَةِ الرَّسُولِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَخَلَّقْ بِأَخْلَاقِ صَاحِبِ الْكَلَامِ لَا يُمْكِنُهُ دُخُولُ حَضْرَتِهِ، وَعَنْ نَصْرَانِيٍّ يَقُولُ لِفَقِيهٍ كَيْفَ يَزْعُمُ عُلَمَاؤُكُمْ وِرَاثَةَ

نَبِيِّهِمْ، وَهُمْ يَرْغَبُونَ فِيمَا زَهِدَ رُهْبَانُنَا قَالَ كَيْفَ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ فِي إقَامَةِ شِعَارِ دِينِهِمْ مِنْ تَدْرِيسٍ وَخَطَابَةٍ، وَإِمَامَةٍ عَرَضَ الدُّنْيَا وَرُهْبَانُنَا جَمِيعًا يَقُومُونَ بِأَمْرِ دِينِنَا مَجَّانًا فَانْظُرْ قُوَّةَ يَقِينِ أَصْحَابِنَا وَضَعْفَ يَقِينِ أَصْحَابِكُمْ فَلَوْ صَدَّقُوا رَبَّهُمْ أَنَّ مَا عِنْدَهُ خَيْرٌ، وَأَبْقَى لَزَهِدُوا فِي الدُّنْيَا كَنَبِيِّهِمْ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْحِكَمِ عَنْ وَهْبٍ صَحِبَ رَجُلٌ بَعْضَ الرُّهْبَانِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لِلِاسْتِفَادَةِ فَوَجَدَهُ مَشْغُولًا عَنْهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْتَفَتَ فِي السَّابِعِ فَقَالَ يَا هَذَا عَلِمْت مَا تُرِيدُ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ، وَالتَّوْفِيقُ نَجَاحُ كُلِّ بَرٍّ قَالَ وَكَيْفَ أَعْرِفُ ذَلِكَ؟ . قَالَ جَدِّي مِنْ الْحُكَمَاءِ شَبَّهَ الدُّنْيَا بِسَبْعَةٍ شَبَّهَهَا بِالْمَاءِ الْمَالِحِ يَغُرُّ، وَلَا يَرْوِي وَيَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ وَبِظِلِّ الْغَمَامِ يَغُرُّ وَيَخْذُلُ وَبِالْبَرْقِ الْخُلَّبِ يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ وَبِسَحَابِ الصَّيْفِ يَغُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَبِزَهْرِ الرَّبِيعِ يَغُرُّ بِنَضْرَتِهِ ثُمَّ يَصْفَرُّ فَتَرَاهُ هَشِيمًا وَبِأَحْلَامِ النَّائِمِ يَرَى السُّرُورَ فِي مَنَامِهِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ لَمْ يَجِدْ إلَّا الْحَسْرَةَ وَبِالْعَسَلِ الْمَشُوبِ بِالسُّمِّ الزُّعَافِ يَضُرُّ وَيَقْتُلُ فَتَدَبَّرْت السَّبْعَةَ سَبْعِينَ مَرَّةً ثُمَّ زِدْت حَرْفًا وَاحِدًا فَشَبَّهْتهَا بِالْغُولِ الَّتِي تُهْلِكُ مَنْ أَجَابَهَا وَتَتْرُكُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا ثُمَّ عَنْ الْبَيْهَقِيّ هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ إلَّا مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ، وَعَنْ الْعِرَاقِيِّ مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ شِبْهُ الرِّيحِ، وَقَالُوا مَرَاسِيلُهُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَهُمْ. وَفِي شَرْحِ الْأَلْفِيَّةِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ بَلْ مِنْ كَلَامِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا أَوْ مِنْ كَلَامِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَوْ مِنْ كَلَامِ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَعَدَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ كَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ حَسَنٌ، وَأَوْرَدَهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ أَقُولُ الْقَائِلُ بِوَضْعِهِ لَمْ يُصَرِّحْ بِإِسْنَادِهِ وَالْأَسَانِيدُ مُخْتَلِفَةٌ وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إذَا صَحَّ إسْنَادُهُ؛ وَلِذَا عَنْ ابْنِ الْمَدَائِنِيِّ مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ إذَا رَوَاهَا الثِّقَاتُ صِحَاحٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي مَرَاسِيلِهِ ضَعِيفٌ فَالِاعْتِمَادُ عَلَى عِمَادِ الْإِسْنَادِ. (هق دُنْيَا مُوسَى بْنُ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ فَمُرْسَلٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ دَاوُد بْنُ الْخَيْرِ ضَعِيفٌ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ، وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الذَّهَبِيِّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ أَوْ مَتْرُوكٌ أَوْ مَوْضُوعٌ (أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا» هُوَ «أَبْغَضُ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا» ، وَإِنَّمَا أَسْكَنَ فِيهَا عِبَادَهُ - {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الكهف: 7]- وَمَا نَظَرَ إلَيْهَا أَيْ نَظَرَ رِضًا «، وَأَنَّهُ مُنْذُ خَلَقَهَا» كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهَا» بُغْضًا لَهَا؛ لِأَنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ مَنْ آذَى أَوْلِيَاءَهُ وَشَغَلَ أَحْبَابَهُ وَصَرَفَ وُجُوهَ عِبَادِهِ عَنْهُ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّيْرِ إلَيْهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالدُّنْيَا مَبْغُوضَةٌ لِأَوْلِيَائِهِ شَاغِلَةٌ لَهُمْ عَنْهُ فَصَارَتْ بَغِيضَةً لَهُ لِخِدَاعِهَا وَغُرُورِهَا فَهِيَ فِتْنَةٌ وَمِحْنَةٌ حَتَّى لِكِبَارِ الْأَوْلِيَاءِ وَخَوَاصِّ الْأَصْفِيَاءِ لَكِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُمْ وَيُظْفِرُهُمْ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي طَلَبُ الدُّنْيَا إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا يَتَنَاوَلُهَا إلَّا تَنَاوُلَ الْمُضْطَرِّ مِنْ الْمَيْتَةِ إذْ هِيَ سُمٌّ قَاتِلٌ فَالْعَاقِلُ يَطْلُبُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُصَانُ الْوَجْهُ بِهِ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْهَا لِكَوْنِهَا بَغِيضَةَ اللَّهِ، وَعَلَى تَوَقٍّ مِنْ سُمِّهَا وَحَذَرٍ مِنْ غَدْرِهَا وَغُرُورِهَا، وَفِي الْإِحْيَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ يُؤْتَى بِالدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى صُورَةِ عَجُوزٍ شَمْطَاءَ أَيْ مُصْفَرَّةِ اللَّوْنِ زَرْقَاءَ أَنْيَابُهَا بَادِيَةٌ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إلَّا كَرِهَهَا فَتَظْهَرُ عَلَى الْخَلَائِقِ فَيُقَالُ لَهُمْ أَتَعْرِفُونَ هَذِهِ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا فَيُقَالُ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي تَفَاخَرْتُمْ بِهَا وَتَقَاتَلْتُمْ عَلَيْهَا وَتَقَاطَعْتُمْ الْأَرْحَامَ لَهَا وَتَحَاسَدْتُمْ وَتَبَاغَضْتُمْ وَاغْتَرَرْتُمْ ثُمَّ تُقْذَفُ فِي جَهَنَّمَ فَتُنَادِي أَيْ رَبِّ أَيْنَ أَتْبَاعِي، وَأَشْيَاعِي فَيَقُولُ اللَّهُ أَلْحِقُوا بِهَا أَتْبَاعَهَا، وَأَشْيَاعَهَا اللَّهُمَّ احْفَظْنَا. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدُّنْيَا عَدُوَّةٌ لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ وَلِأَعْدَائِهِ أَمَّا عَدَاوَتُهَا لَهُ تَعَالَى فَلِأَنَّهَا مِنْ قُطَّاعِ طَرِيقِ عِبَادِهِ تَعَالَى إذْ لَا سَعَادَةَ إلَّا لِمَنْ قَدِمَ إلَيْهِ تَعَالَى، وَلَا قُدُومَ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا، وَأَمَّا لِأَوْلِيَائِهِ فَلِأَنَّهَا تَتَزَيَّنُ إلَيْهِمْ فَتَخْطَفُ قُلُوبَهُمْ وَتَسْلُبُ نُفُوسَهُمْ فَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا بِرِيَاضَاتٍ، وَأَتْعَابٍ شَدِيدَةٍ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ قَالَ بَعْضٌ: تُرِكَتْ الدُّنْيَا لِقِلَّةِ غَنَائِهَا وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَخِسَّةِ

شُرَكَائِهَا، وَأَمَّا لِأَعْدَاءِ اللَّهِ فَلِأَنَّهَا تَتَزَيَّنُ فِي قُلُوبِهِمْ بِالْمَكْرِ وَالْحِيَلِ حَتَّى إذَا عَلِمَتْ أَنَّهُمْ أَحَبُّوهَا تَتْرُكُهُمْ وَتَنْضَمُّ إلَى غَيْرِهِمْ كَالْقَحْبَةِ تَتَحَوَّلُ مِنْ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ لِيُعَذَّبُوا فِي الدُّنْيَا بِنَارِ الْحَسْرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِنَارِ النَّدَامَةِ بَلْ بِنَارِ الْقِيَامَةِ. (هق دُنْيَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (أَنَّهُ قَالَ الدُّنْيَا حَلَالُهَا) كَالْإِرْثِ وَكَسْبِ الْحَلَالِ (حِسَابٌ) مُفْضٍ إلَى حِسَابٍ مِنْ أَيْنَ حَصَلَ، وَفِيمَ أُنْفِقَ، وَهَلْ أَدَّى حُقُوقَهُ (وَحَرَامُهَا النَّارُ) سَبَبٌ إلَى النَّارِ لَكِنَّهَا مُغَطَّاةٌ بِحِجَابِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ زَالَ حِجَابُ الدُّنْيَا فَظَهَرَتْ النَّارُ كَمَا قَالَ - {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات: 36] فِي الْإِحْيَاءِ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ إنَّ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ، وَقَدْ غَرِقَ فِيهَا نَاسٌ كَثِيرٌ فَلْتَكُنْ سَفِينَتُك تَقْوَى اللَّهِ وَحَشْوُهَا الْإِيمَانَ وَشِرَاعُهَا التَّوَكُّلَ لَعَلَّك تَنْجُو وَمَا أَرَاك نَاجِيًا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الدُّنْيَا حَانُوتُ الشَّيْطَانِ فَلَا تَسْرِقْ مِنْ حَانُوتِهِ فَيَجِيءُ فِي طَلَبِك فَيَأْخُذُك. (طب عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ» لِنَفْسِهِ، وَعِيَالِهِ وَأَضْيَافِهِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِهِ الْمُتَعَارَفِ لِأَمْثَالِهِ «كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَهُوَ لَيْسَ بِحَامِلٍ، وَهُوَ تَكْلِيفُ تَعْجِيزٍ وَتَعْذِيبٍ قِيلَ عَنْ الشِّرْعَةِ وَالسُّنَّةِ فِي مِقْدَارِ الْبِنَاءِ هُوَ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَهَا كُلُّ ذِرَاعٍ سِتُّ قَبَضَاتٍ مَعَ أُصْبُعٍ قَائِمٍ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاحْتِيَاطِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ أَوْضَاعِ الْجَوَانِبِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ السَّاكِنِ، وَالضَّابِطُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ جَاءَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِحَدِيثِ «مَنْ بَنَى» إلَخْ، وَفِي الْأَثَرِ مَنْ رَفَعَ بِنَاءَهُ فَوْقَ سِتَّةِ أَذْرُعٍ نَادَى مُنَادٍ إلَى أَيْنَ يَا أَفْسَقِ الْفَاسِقِينَ. انْتَهَى. وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الْغَزَالِيِّ مِنْ أَبْوَابِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ حُبُّ التَّزَيُّنِ فِي الْبِنَاءِ وَالثِّيَابِ وَالْآثَارِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إذَا رَأَى ذَلِكَ غَالِبًا عَلَى قَلْبِ إنْسَانٍ فَلَا زَالَ يَدْعُوهُ إلَى عِمَارَةِ الدَّارِ وَتَزْيِينِ سُقُوفِهَا وَحِيطَانِهَا وَتَوْسِعَةِ أَبْنِيَتِهَا وَيَدْعُوهُ إلَى التَّزْيِينِ بِالْأَثْوَابِ الْفَاخِرَةِ وَالدَّوَابِّ فَلَا يَزَالُ يُدْرِجُهُ مِنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ إلَى أَجَلِهِ فَيَمُوتُ، وَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، ثُمَّ عَنْ الذَّهَبِيِّ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مُنْكَرٌ، وَعَنْ الْعِرَاقِيِّ فِيهِ لِينٌ وَانْقِطَاعٌ (طط عَنْ ابْن بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ هَوَانًا» أَيْ ذُلًّا وَحَقَارَةً، وَفِي رِوَايَةٍ سُوءًا بَدَلَ هَوَانًا «أَنْفَقَ مَالَهُ» أَنْفَدَهُ «فِي الْبُنْيَانِ» نَحْوُ أَجْرِ الصُّنَّاعِ، وَفِي رِوَايَةٍ زَادَ وَالْمَاءِ وَالطِّينِ إذَا كَانَ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ أَوْ أَدَّى لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ فَلَا يَعْمُرُهَا إلَّا الْأَشْرَارُ قِيلَ مِثْلُ هَذَا كُلِّهِ إنْ بِالْحَلَالِ، وَإِنْ بِالْحَرَامِ فَأَشَدُّ وِزْرًا كَمَا فِي حَدِيثِ «اتَّقُوا الْحَجَرَ الْحَرَامَ فِي الْبُنْيَانِ فَإِنَّهُ أَسَاسُ الْخَرَابِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ خَرَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِقِلَّةِ الْبَرَكَةِ وَشُؤْمِ الْبَيْتِ أَوْ أَسَاسُ خَرَابِ الْبِنَاءِ نَفْسِهِ بِأَنْ يُسْرِعَ إلَيْهِ الْخَرَابُ فِي أَمَدٍ قَرِيبٍ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ أَمْثَالُهُ عَلَى كَوْنِ الْبِنَاءِ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ لِأَجْلِ الْكِبَرِ دُونَ الْأَجْرِ أَوْ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ النَّاسُ إلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ كَانَ أَجْرُهُ جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى» رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ أَقُولُ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْإِطْلَاقُ الشَّامِلُ لِلْحَلَالِ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ مُطْلَقُ الْبِنَاءِ لَا الْمَالُ الْحَرَامُ وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ مَالَهُ إذْ الْأَصْلُ كَوْنُهُ مِنْ الْحَلَالِ بَلْ الْحَرَامُ لَيْسَ مَالًا لَهُ لَكِنَّ ارْتِفَاعَ الْبِنَاءِ لِدَفْعِ ثِقَلِ الْهَوَاءِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْحَاجَةِ. وَأَمَّا لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكْبِيرِ فَلَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ الدُّنْيَا دَارُ خَرَابٍ، وَأَخْرَبُ مِنْهَا قَلْبُ مَنْ يَعْمُرُهَا وَالْجَنَّةُ دَارُ عُمْرَانٍ، وَأَعْمَرُ مِنْهَا قَلْبُ مَنْ يَطْلُبُهَا، وَقِيلَ أَيْنَ قَيَاصِرَةُ الْقُصُورِ، وَهَرَامِسَةُ الدُّهُورِ، وَأَيْنَ شَدَّادٌ، وَعَادٌ، وَأَيْنَ إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ - فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ - وَتَفَكَّرُوا

يَوْمَ التَّنَادِّ لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ. (فَآفَاتُهَا) أَيْ آفَاتُ الدُّنْيَا، وَفِي نُسْخَةٍ فَأَفَادَ أَيْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (كَوْنَهَا عَدُوَّةَ اللَّهِ تَعَالَى) ؛ لِأَنَّهَا أَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَيْهِ (وَ) كَوْنَهَا (جِيفَةً وَمَلْعُونَةً) أَيْ مَطْرُودَةً عَنْ مَوَاقِعِ الرِّضَا (وَصَادَّةً) أَيْ مَانِعَةً مُلْهِيَةً (عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُفْضِيَةً إلَى الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي وَحَطِّ الدَّرَجَاتِ وَشِدَّةِ الْحِسَابِ) ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ قِلَّةً وَكَثْرَةً (بَلْ) مُفْضِيَةٌ إلَى (الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَ) آفَاتُهَا (قِلَّةُ غَنَائِهَا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ نَفْعِهَا (وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ (وَسُرْعَةُ فَنَائِهَا وَخِسَّةُ شُرَكَائِهَا) إذْ الْمُشْرِكُ وَالْفَاسِقُ شُرَكَاءُ فِيهَا، وَقِيلَ كَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْآفَاتِ. (الْمَقَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي ثَمَرَاتِهِ) أَيْ حُبِّ الدُّنْيَا (وَذَمِّهَا) أَيْ الثَّمَرَاتِ (وَضِدِّهَا) ، وَهُوَ الزُّهْدُ فِيهَا، وَفِي نُسْخَةٍ وَضِدُّهُ أَيْ ضِدُّ حُبِّ الدُّنْيَا (وَمَدْحِهِ) أَيْ مَدْحِ الضِّدِّ (وَفِيهِ) أَيْ فِيمَا ذُكِرَ (مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي ثَمَرَاتِهِ. اعْلَمْ أَنَّ حُبَّ الْمَالِ وَالدُّنْيَا يُورِثُ الْحِرْصَ الْمَذْمُومَ، وَهُوَ الثَّلَاثُونَ) مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ (وَهُوَ) أَيْ الْحِرْصُ (يُورِثُ التَّشَمُّرَ وَاسْتِغْرَاقَ الْأَوْقَاتِ) بِالْعَمَلِ (لِلصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ) إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا (أَوْ) يُورِثُ (الطَّمَعَ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ) لِلْعَاجِزِ عَنْ الْكَسْبِ أَوْ الْكَسْلَانِ مَعَ الْحِرْصِ (وَهَذَا) أَيْ الطَّمَعُ (شَرٌّ مِنْ الْأَوَّلِ) قِيلَ أَيْ مِنْ التَّشَمُّرِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ (وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ) أَيْ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ (وَضِدِّهِ) ، وَهُوَ التَّفْوِيضُ فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ (ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ» أَيْ مُعْظَمَ هِمَّتِهِ، وَقَصْدِهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي نَظَرِهِ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا بَلْ وُجُودُهُ، وَعَدَمُهُ سِيَّانِ عِنْدَهُ «جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ» فَيَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ، وَلَا يَحْرِصُ فِي طَلَبِ الْكَثِيرِ فَلَا يَتْعَبُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ غِنَى الْقَلْبِ كَوْنُهُ مَلِيًّا وَمِكْثَارًا فِي جَمْعِ ذُخْرِ الْآخِرَةِ الَّذِي كَانَ سَبَبُهُ الْقَلْبَ. وَفِي بَعْضِ الْمَوَانِعِ هَذِهِ الرُّبَاعِيَّةُ مَكْتُوبَةٌ عَلَى سَيْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا ... وَطُولَ الْعَيْشِ لَا تَطْمَعْ وَلَا تَجْمَعْ مِنْ الْمَالِ ... فَلَا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ ... وَسُوءُ الظَّنِّ لَا يَنْفَعْ فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ ... غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَعْ (وَجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ) مَا تَفَرَّقَ مِنْ أُمُورِهِ وَيُوصِلُهُ إلَى مَقْصُودِهِ بِأَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ

«، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا، وَهِيَ رَاغِمَةٌ» ذَلِيلَةٌ مُكْرَهَةٌ يُعْنَى تَنْقَادُ إلَيْهِ الدُّنْيَا مَقْهُورَةً مُحَقَّرَةً كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي، وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» «وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ» بِأَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي نَصْبِ عَيْنِهِ وَمَطْمَحِ نَظَرِهِ بِأَنْ يَصْرِفَ حَاصِلَ وَقْتِهِ إلَى تَحْصِيلِهَا وَتَكُونَ عَامَّةَ فِكْرِهِ وَتَأَمُّلِهِ حَتَّى تَكُونَ الشَّرْعِيَّاتُ فِي نَظَرِهِ كَالْعَادِيَاتِ الْغَيْرِ الْمُهِمَّةِ «جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» كَأَنَّهُ كَشَيْءٍ غَيْرِ مُنْفَكٍّ عَنْهُ بَلْ كَشَيْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ «، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ» أَيْ مَا اجْتَمَعَ بِأَنْ يَجْعَلَ أُمُورَهُ صَعْبَةً كَأَنْ يَجْعَلَ قَضَايَاهُ مَعْكُوسَةً وَآمَالَهُ مَقْلُوبَةً «، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» فَلَا يُفِيدُ جَدُّهُ وَسَعْيُهُ فِي إتْيَانِ الزِّيَادَةِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ قِيلَ يَعْنِي جَعَلَ الْفَقْرَ لَا يَزُولُ، وَلَا يَبْرَحُ عَنْ مَطْمَحِ نَظَرِهِ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنْ الْمَالِ مَهْمَا أُوتِيَ فَلَا يَزَالُ خَائِفًا مِنْ الْفَقْرِ. وَعَنْ حَاتِمٍ الْأَصَمِّ رِزْقُك مِثْلُ ظِلِّك إنْ طَلَبْته تَبَاعَدَ، وَإِنْ تَرَكْته تَتَابَعَ (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «فَلَا يُسَمَّى إلَّا فَقِيرًا وَمَا يُصْبِحُ إلَّا فَقِيرًا» أَيْ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ إلَّا حَالَ كَوْنِهِ فَقِيرًا لِعَدَمِ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يُنَادِي مُنَادٍ دَعُوا» أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ «الدُّنْيَا لِأَهْلِهَا» أَيْ اُتْرُكُوهَا لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ حَظَّهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ نَصِيبًا فِي الْآخِرَةِ فَلَا تَتَشَارَكُوا مَعَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَتَشَارَكُونَ مَعَكُمْ فِي آخِرَتِكُمْ (ثَلَاثًا) قَالَهُ ثَلَاثًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ تَمْكِينًا فِي الْخَاطِرِ أَيُّهَا مَا لِعَدَمِ زَوَالِهِ مِنْ الْخَاطِرِ إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ زِيَادَةِ الِاعْتِنَاءِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ كُلٌّ لِمَعْنًى تَأَمَّلْ. (مَنْ أَخَذَ الدُّنْيَا) أَيْ مِنْ الدُّنْيَا كَمَا فِي نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ) لِنَفْسِهِ وَمَنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَئُونَتَهُ (أَخَذَ حَتْفَهُ) أَيْ سَبَبَ مَوْتِهِ، وَهَلَاكِهِ فِي الْآخِرَةِ (وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهِ هَلَاكُهُ إذْ هِيَ السُّمُّ الْقَاتِلُ فَطَلَبُهَا شَيْنٌ، وَقِلَّتُهَا زَيْنٌ فَإِنْ طَلَبَهَا لِيَطْلُبَ بِهَا الْبِرَّ، وَفِعْلَ الصَّنَائِعِ وَاكْتِسَابَ الْمَعْرُوفِ كَانَ عَلَى خَطَرٍ وَغُرُورٍ وَتَرْكُهُ لَهَا أَبْلَغُ فِي الْبِرِّ ثُمَّ عَنْ الْمُنْذِرِيِّ وَالْهَيْثَمِيِّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ. (خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ» أَيْ يَكْبُرُ سِنُّهُ «وَيَشُبُّ مِنْهُ» مِنْ الشَّبَابِ «اثْنَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ» ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مِنْهُ خَصْلَتَانِ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْعُمُرِ وَطُولُ الْأَمَلِ» فَالْحِرْصُ فَقْرُهُ، وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا وَالْأَمَلُ تَعَبُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَذْهَبْ هَاتَانِ الْخَصْلَتَانِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ جُبِلَ عَلَى الشَّهَوَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا تُنَالُ هُنَا بِالْمَالِ وَالْعُمُرِ وَالنَّفْسُ مَعْدِنُ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَانِيُّهَا لَا تَنْقَطِعُ فَهِيَ أَبَدًا فَقِيرَةٌ لِتَرَاكُمِ الشَّهَوَاتِ عَلَيْهَا قَدْ بَرِحَ بِهَا خَوْفُ الْفَوْتِ وَضَيَّقَ عَلَيْهَا فَهِيَ مَفْتُونَةٌ بِذَلِكَ وَحَصَلَتْ فِتْنَتُهَا إلَى الْقَلْبِ فَأَصَمَّتْهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْمَتْهُ؛ لِأَنَّ الشَّهَوَاتِ ظُلُمَاتٌ ذَاتُ رِيَاحٍ خَفَّاقَةٍ وَالرِّيحُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْأُذُنِ أَصَمَّتْ وَالظُّلْمَةُ إذَا حَلَّتْ بِالْعَيْنِ أَعْمَتْ فَلَمَّا وَصَلَتْ هَذِهِ الشَّهْوَةُ إلَى الْقَلْبِ حَجَبَتْ النُّورَ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا قَذَفَ فِي قَلْبِهِ النُّورَ فَتَمَزَّقَ الْحِجَابُ. (خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ» يَعْنِي إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطُبِعَ جِنْسُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَالْأَنْبِيَاءُ وَخَوَاصُّ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَكُونُونَ نَقْضًا لِذَا

«وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ ذَهَبٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ» لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إلَيْهِ ثَانِيًا» ثُمَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ «لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا» ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ «، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ نَفْسَ بَدَلَ جَوْفَ، وَفِي أُخْرَى، وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ، وَفِي أُخْرَى، وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ، وَفِي أُخْرَى، وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ، وَفِي أُخْرَى، وَلَا يَعْلَى بَطْنَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عُضْوًا بِعَيْنِهِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّفَنُّنُ ذَكَرَهُ الْكَرْمَانِيُّ كَمَا فِي الْفَيْضِ (إلَّا التُّرَابَ) لَا يَزَالُ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا حَتَّى يَمُوتَ وَيُمْلَأَ جَوْفُهُ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» فَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ حِرْصِهِ كَمَا عَنْ سَائِرِهِ أَوْ تَابَ بِمَعْنَى وُفِّقَ يَعْنِي جُبِلَ الْآدَمِيُّ عَلَى حُبِّ الْحِرْصِ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ، وَعَصَمَهُ لِإِزَالَةِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ عَنْهُ، وَفِي ذِكْرِ ابْنِ آدَمَ دُونَ الْإِنْسَانِ إيمَاءٌ إلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ طَبْعِهِ الْقَبْضُ وَالْيُبْسُ، وَإِزَالَتُهُ مُمْكِنَةٌ بِأَنْ يُمْطِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَمَامِ تَوْفِيقِهِ. (تَنْبِيهٌ) : ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ لَوْ كَانَ لِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا ذَلِكَ لَطَلَبُوا الزِّيَادَةَ مِنْهُ بِخِلَافِ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ أَيْ لَوْ كَانَ لِبَنِي آدَمَ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى ظَاهِرِ الدُّنْيَا دُونَ بَاطِنِهَا وَادِيَانِ مِنْ ذَلِكَ لَابْتَغَوْا ثَالِثًا، وَهَكَذَا بِخِلَافِ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِبَصَرِهِمْ إلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَعَرَفُوا مَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يُبْعِدُهُمْ عَنْهَا، وَأَطَالَ وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّبَيْرُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةُ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ مُتَوَاتِرٌ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ بَعْدَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجِبِلَّةُ لِلْآدَمِيِّ مُضِلَّةً وَغَرِيزَةً مُهْلِكَةً أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَى الْقَنَاعَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَعَ بِهِ» ، وَقَالَ «مَا مِنْ أَحَدٍ غَنِيٍّ، وَلَا فَقِيرٍ إلَّا وَتَمَنَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَدْنَى قُوتٍ فِي الدُّنْيَا» ، وَفِي عِظَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَعْرَابِيٍّ «اجْمَعْ الْيَأْسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ وَالْيَأْسَ غِنًى. (الْمَقَامُ الثَّانِي فِي ضِدِّ حُبِّ الدُّنْيَا وَضِدِّ الْحِرْصِ) . وَهُوَ الْقَنَاعَةُ (وَمَدْحُهُمَا ضِدُّ الْأَوَّلِ) حُبِّ الدُّنْيَا (الزُّهْدُ أَعْنِي) بِهِ (كَرَاهَةَ الدُّنْيَا وَبُرُودَتَهَا عَلَى الْقَلْبِ وَضِدُّ الثَّانِي) ، وَهُوَ الْحِرْصُ (الْقَنَاعَةُ، وَهُوَ) أَيْ الْقَنَاعَةُ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ (الِاكْتِفَاءُ بِالْيَسِيرِ مِنْ الدُّنْيَا) مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَثِيرَةِ (بِلَا طَلَبِ الزِّيَادَةِ) فَعِنْدَهَا يَدُومُ عِزُّهُ وَيَسْلَمُ دِينُهُ؛ وَلِذَا يَقُولُونَ عَزَّ مَنْ قَنَعَ ذَلَّ مَنْ طَمِعَ وَالْعَبْدُ حُرٌّ إنْ قَنَعَ وَالْحُرُّ عَبْدٌ إنْ قَنَعَ أَيْ طَمِعَ (طب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا» أَيْ تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِيهَا «يُرِيحُ الْقَلْبَ» مِنْ آفَاتِ التَّعَلُّقِ بِهَا «وَالْجَسَدَ» . وَفِي رِوَايَةٍ وَالْبَدَنَ؛ لِأَنَّهُ يُفْرِغُهُ لِعِمَارَةِ وَقْتِهِ وَجَمْعِ قَلْبِهِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَقَطْعِ مَوَادِّ طَمَعِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَشْيَاءِ لِلْقَلْبِ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ وَاسِعٍ أَوْصِنِي قَالَ أُوصِيك أَنْ تَكُونَ مَلِكًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ كَيْفَ قَالَ الزُّهْدَ فَالْزَمْ؛ وَلِلْحَدِيثِ تَتِمَّةٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ الرَّغْبَةُ فِيهَا تُتْعِبُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَهُ سِيَّمَا لَهُ مَدْخَلِيَّةٌ لِلِاسْتِشْهَادِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهَا إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَالنَّفْسُ تَسْلَى وَتُعَوَّدُ مَا عَوَّدْتَهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ

فَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبَتْهَا ... وَإِذَا تُرَدُّ إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ وَقَالَ وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى ... فَإِنْ تُوَقِّتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالزُّهْدِ فَإِنَّ الزُّهْدَ عَلَى الزَّاهِدِ أَحْسَنُ مِنْ الْحُلِيِّ عَلَى النَّاهِدِ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ طَاوُسٍ وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا تُطِيلُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ بَدَلَ قَوْلِهِ تُتْعِبُ الْقَلْبَ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَالدُّنْيَا عَذَابٌ حَاضِرٌ يُؤَدِّي إلَى عَذَابٍ مُنْتَظَرٍ فَمَنْ زَهِدَ فِيهَا اسْتَرَاحَتْ نَفْسُهُ وَصَارَ عَيْشُهُ أَطْيَبَ مِنْ عَيْشِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ الزَّاهِدَ فِيهَا مَلِكٌ حَاضِرٌ إذْ الْعَبْدُ إذَا مَلَكَ شَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ فَهُوَ الْمَلِكُ عَلَى الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمِلْكِ حُرٌّ وَالْمَلِكُ الْمُنْقَادُ لِشَهْوَتِهِ وَغَضَبِهِ عَبْدُهُمَا فَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي صُورَةِ مَالِكٍ يَقُودُهُ زِمَامُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ كَمَا يُقَادُ الْبَعِيرُ وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ أَرَى الزُّهَّادَ فِي رَوْحٍ وَرَاحَهْ ... وَمِنْ نَصَبِ الْمَتَاعِبِ فِي اسْتِرَاحَهْ إذَا أَبْصَرْتَهُمْ أَبْصَرْتَ قَوْمًا ... هُمُو أَهْلُ الْمَكَارِمِ وَالسَّمَاحَهْ وَفِي رِوَايَةِ الْقُضَاعِيِّ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو الرَّغْبَةُ فِيهَا تُكْثِرُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ وَالْبَطَالَةُ تُقْسِي الْقَلْبَ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَأَمَّا الْعَارِفُ فَلَا قِيمَةَ لِلزُّهْدِ عِنْدَهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَا قُسِمَ لَهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَخَلُّفُهُ وَمَا لَا فَلَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ فَاسْتَرَاحَ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا لَا تَزِنُ عِنْدَهُمْ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ قِيلَ: تَجَرَّدَ عَنْ مَقَامِ الزُّهْدِ قَلْبِي ... فَأَنْتَ الْحَقُّ وَحْدَك فِي شُهُودِي وَأَزْهَدُ فِي سِوَاك وَلَيْسَ شَيْءٌ ... أَرَاهُ سِوَاك يَا سِرَّ الْوُجُودِ وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَقَرَ كُلَّ مَا فِي الدُّنْيَا مِمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَعْظِيمِهِ فَرَآهُ لِشِدَّةِ حَقَارَتِهِ عَدَمًا وَمِنْهُمْ مَنْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَأَى الْوُجُودَ كُلَّهُ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَزْهَدْ فِي شَيْءٍ بَلْ اسْتَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ فِيمَا خُلِقَ لَهُ، وَهُوَ الْكَامِلُ وَتَمَامُهُ فِيهِ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ) أَشَدُّهُمْ زُهْدًا (قَالَ «مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى» مَصْدَرُ بَلَى يَبْلَى إذَا صَارَ خَلَقًا مُفْتَنًا أَيْ لَمْ يَنْسَ كَوْنَ الْقَبْرِ مَكَانَهُ وَكَوْنَهُ فِيهِ عِظَامًا بَالِيَةً «وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا وَآثَرَ مَا يَبْقَى» ، وَهُوَ الْآخِرَةُ «عَلَى مَا يَفْنَى» ، وَهُوَ الدُّنْيَا «، وَلَمْ يَعُدَّ» أَيْ لَمْ يَحْسِبْ «غَدًا مِنْ أَيَّامِهِ» كِنَايَةً عَنْ قِصَرِ الْأَمَلِ مِنْ أَيَّامِهِ «، وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْتَى» لِقُوَّةِ خَوْفٍ مِنْ مَوْلَاهُ، وَقُوَّةِ رَغْبَتِهِ فِي تَشْيِيدِ أُخْرَاهُ. (خ م عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ الْغِنَى مِنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَاحِدُ الْعُرُوضِ أَيْ الْأَمْوَالِ «، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَيْ الْغِنَى النَّافِعُ أَوْ الْعَظِيمُ هُوَ غِنَى النَّفْسِ فَمَنْ اسْتَغْنَتْ نَفْسُهُ تَرَكَ الْمَطَامِعَ (م عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَدْ أَفْلَحَ» فَازَ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ «مَنْ أَسْلَمَ» فَنَجَا مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَوْ فَوَّضَ جَمِيعَ أُمُورِهِ إلَيْهِ تَعَالَى قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَأَسْلَمَ أَمْرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَّضَ «وَرُزِقَ كَفَافًا» أَيْ مَا يَكْفِ عَنْ الْحَاجَاتِ وَيَدْفَعُ الضَّرُورَاتِ وَالْفَاقَاتِ

وَلَا يُلْحِقُهُ بِأَهْلِ التَّرَفُّهَاتِ (وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ أَيْ جَعَلَهُ قَانِعًا بِمَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ الزِّيَادَةَ لِمَعْرِفَةِ أَنَّ رِزْقَهُ مَقْسُومٌ لَنْ يَعْدُوَ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَزِيزُ النَّفْسِ مَنْ لَزِمَ الْقَنَاعَهْ ... وَلَمْ يَكْشِفْ لِمَخْلُوقٍ قِنَاعَهْ أَنَالَتْهُ الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ ... وَهَلْ عِزٌّ أَعَزُّ مِنْ الْقَنَاعَهْ فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِك رَأْسَ مَالٍ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُوتَ» هُوَ قَدْرُ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ. وَقِيلَ الْكِفَايَةُ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ «آلِ مُحَمَّدٍ» لَعَلَّك عَرَفْت مَعْنَى الْآلِ فِيمَا قَبْلُ «كَفَافًا» قَدْرَ كِفَايَةٍ بِلَا زِيَادَةٍ، وَلَا نُقْصَانٍ أَوْ مَا يَقُوتُهُمْ وَيَكْفِيهِمْ بِحَيْثُ لَا يُشَوِّشُهُمْ الْجَهْدُ، وَلَا تُرْهِقُهُمْ، وَلَا تُذِلُّهُمْ الْمَسْأَلَةُ وَالْحَاجَةُ، وَلَا يَكُونُ فُضُولًا مُوجِبًا لِلسَّرَفِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الدُّنْيَا وَالرُّكُونِ إلَيْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى زُهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى تَقَلُّلِهِ مِنْهَا، وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ إنَّ الْكَفَافَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقْرِ وَالْغِنَى كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُفْهِمِ شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ عِنْدَ تَكَلُّمِ النَّاسِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُعْطَى الرَّجُلُ كِفَايَتَهُ ثُمَّ يُصَانَ فِيهَا وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْجَامِعِ «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنَعَ بِهِ» قَالَ فِي الْفَيْضِ سَلَكَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرِيقَ الِاقْتِصَادِ الْمَحْمُودِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ تُلْهِي، وَقِلَّتَهُ تُنْسِي فَمَا قَلَّ مِنْهُ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَفِي دُعَاءِ الْمُصْطَفَى بِهِ إرْشَادٌ لِأُمَّتِهِ كُلَّ الْإِرْشَادِ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَفَافِ بِكَثِيرٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْعَبَ الْعَاقِلُ فِي طَلَبِهَا لِكَوْنِهَا لَا خَيْرَ فِيهَا، وَحُكْمُ الْكَفَافِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ الرِّيَاضَةَ حَتَّى أَنَّهُ يَأْكُلُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً فَكَفَافُهُ، وَقُوَّتُهُ تِلْكَ الْمَرَّةُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ الْأَكْلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَكَفَافُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهُ فَتَرَ وَمِنْهُمْ كَثِيرُ الْعِيَالِ فَكَفَافُهُ مَا يَسُدُّ عِيَالَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ عِيَالُهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةٍ فَقَدْرُ الْكِفَايَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَمِقْدَارُهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّ الْمَحْمُودَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْقِوَامُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ. وَقَوْلُهُ «إنِّي أَسْأَلُك غِنَايَ وَغِنَى مَوْلَايَ» الْمُرَادُ غِنًى يَدْفَعُ الْفَاقَةَ فَقَطْ فَلَا يُخَالِفُهُ مَا هُنَا، وَقَوْلُهُ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِك عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي» لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْكَفَافِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَوْلُهُ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَتَوَفَّنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» (ت عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيْسَتْ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ» بِبَذْلِهِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي «، وَلَكِنَّ الزُّهْدَ أَنْ تَكُونَ» أَيُّهَا الْعَاقِلُ «بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ» فِي خَزَائِنِ وَعْدِهِ وَقِسْمَتِهِ «أَوْثَقَ مِنْك بِمَا فِي يَدِك» ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِك يَنْقُصُ بِالْإِنْفَاقِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ فَوُثُوقُك بِمَا عِنْدَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ وُثُوقِك بِمَا فِي يَدِك، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا عِنْدَ كَيْنُونَةِ مَجِيءِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا عِنْدَك سِيَّيْنِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْبِسْطَامِيَّ قَالَ مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ سِوَى شَابٍّ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَقَالَ يَا أَبَا يَزِيدَ مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ قُلْت إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا، وَإِذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا فَقَالَ هَكَذَا كِلَابُ بَلْخٍ قُلْت فَمَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ قَالَ إذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، وَإِذَا وَجَدْنَا آثَرْنَا قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ، وَقِيلَ مَنْ صَدَقَ فِي زُهْدِهِ أَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً؛ وَلِهَذَا قِيلَ لَوْ سَقَطَتْ قَلَنْسُوَةٌ مِنْ السَّمَاءِ لَمَا وَقَعَتْ إلَّا عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا يُرِيدُهَا، وَفِيهَا أَيْضًا مَنْ تَكَلَّمَ فِي الزُّهْدِ وَوَعَظَ النَّاسَ ثُمَّ رَغِبَ فِي أَمْوَالِهِمْ رَفَعَ اللَّهُ حُبَّ الْآخِرَةِ مِنْ قَلْبِهِ. وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ الزَّاهِدُ يَذْهَبُ كِيسُهُ قَبْلَ نَفْسِهِ وَالْمُتَزَهِّدُ يَذْهَبُ نَفْسُهُ قَبْلَ كِيسِهِ قِيلَ جَعَلَ اللَّهُ الشَّرَّ

كُلَّهُ فِي بَيْتٍ وَجَعَلَ مِفْتَاحَهُ حُبَّ الدُّنْيَا وَجَعَلَ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي بَيْتٍ وَجَعَلَ مِفْتَاحَهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا «، وَأَنْ تَكُونَ» لِكَمَالِ إيمَانِك «فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إذَا أُصِبْت بِهَا» بُنِيَ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْأَدَبَ فِي مِثْلِهِ عَدَمُ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مِنْهُ تَعَالَى «أَرْغَبَ مِنْك فِيهَا لَوْ أَنَّهَا بَقِيَتْ لَك» أَيْ كَوْنُ رَغْبَتِك فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ أَشَدَّ مِنْ رَغْبَتِك فِي مَحَلِّ الْمُصِيبَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْبَقَاءِ، وَعَلَامَتُهُ عَدَمُ الرِّضَا بِمَحَلِّهَا مَعَ فَقْدِ الثَّوَابِ (وَلْنَذْكُرْ مَا وَرَدَ فِي مَدْحِ الْفَقْرِ فَإِنَّ سَمَاعَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الزُّهْدِ) وَالْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ مَنْ لَهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، وَعِنْدَ بَعْضٍ بِالْعَكْسِ، وَعِنْدَ الصُّوفِيَّةِ هُوَ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَسْتَغْنِي إلَّا بِهِ، وَلَا يَسْتَرِيحُ إلَّا بِالْحُضُورِ مَعَهُ، وَعَلَامَتُهُ عَدَمُ الْأَسْبَابِ. (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ نِصْفِ يَوْمٍ» بِأَيَّامِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج: 47] وَنِصْفِ يَوْمٍ مَجْرُورٌ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ يَعْنِي خَمْسَمِائَةِ عَامٍ هُوَ نِصْفُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْقِيَامَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَرْبَعِينَ عَامًا» لِصَبْرِهِمْ عَلَى بَلْوَى الْفَقْرِ، وَلَا يَجْعَلُونَ فَقْرَهُمْ مَانِعًا لِطَاعَةِ رَبِّهِمْ بَلْ يَجْعَلُونَ الْغِنَى مَانِعًا فَلَا يَخْتَارُونَهُ مَعَ سُهُولَةِ سَبِيلِهِ، وَقِيلَ؛ لِأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَطُولُ حِسَابُهُمْ فَتَسْبِقُ الْفُقَرَاءِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَقِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْفُقَرَاءِ فُقَرَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ حُبُّ اللَّهِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ بِالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ ثُمَّ لَعَلَّ الْمُرَادَ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ مَعَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَعُمَّ إلَى الْفَقِيرِ الْغَيْرِ الصَّابِرِ مَعَ الْغَنِيِّ الْغَيْرِ الشَّاكِرِ، وَأَمَّا الصَّابِرُ مَعَ الْغَيْرِ الشَّاكِرِ فَبِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ قَالَ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ قُبُورِهِمْ لَهُمْ نُجُبٌ يَرْكَبُونَهَا لَهَا أَجْنِحَةٌ خُضْرٌ فَتَطِيرُ بِهِمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَأْتُوا عَلَى حِيطَانِ الْجَنَّةِ فَإِذَا رَأَتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَنْ هَؤُلَاءِ فَيَقُولُونَ مَا نَدْرِي لَعَلَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتِيهِمْ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَيَقُولُونَ مَنْ أَنْتُمْ وَمِنْ أَيِّ الْأُمَمِ أَنْتُمْ فَيَقُولُونَ نَحْنُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ

فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ هَلْ حُوسِبْتُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقُولَانِ هَلْ وُزِنْتُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقُولُونَ هَلْ قَرَأْتُمْ كُتُبَكُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ ارْجِعُوا فَكُلُّ ذَلِكَ وَرَاءَكُمْ فَيَقُولُونَ هَلْ أَعْطَيْتُمُونَا شَيْئًا فَنُحَاسَبُ عَلَيْهِ» ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ «مَا مَلَكْنَا فَنَعْدِلُ أَوْ نَجُورُ، وَلَكِنْ عَبَدْنَا رَبَّنَا حَتَّى دَعَانَا فَأَجَبْنَاهُ فَيُنَادِي مُنَادٍ صَدَقَ عِبَادِي» - {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91]-. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا نُقِلَ عَنْ الْفَيْضِ عَنْ الْعَسْكَرِيّ عَنْ مُضَرَ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ» قَالَ الْمُرَادُ بِالْأَغْنِيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مِثْلَ عُثْمَانَ وَالزُّبَيْرِ وَابْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالَ مُضَرُ فَذَكَرْته لِعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ لَا يُسْأَلُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا إنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ. انْتَهَى. كَأَنَّ ظَاهِرَهُ تَعْرِيضٌ عَلَى حَضْرَةِ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا مَعْرِفَتُهُ أَحْكَامَ الْأَشْخَاصِ الدِّينِيَّةِ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُتَبَادَرُ إطْلَاقِ ظَاهِرِهِ فَيُخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ إذْ هُوَ يَسْتَلْزِمُ تَحْقِيرَ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَعَالِمِهَا، وَأَنَّ مَعْرِفَتَهَا إنَّمَا هِيَ مِنْ النُّصُوصِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعْرِفَتُهَا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ النُّصُوصَ، وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ وَمَعْرِفَةُ مَعَانِي أَلْفَاظِ النُّصُوصِ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وَالْمُعَارِضِ وَالنَّسْخِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُمْ هُمْ الْوَاقِفُونَ عَلَى حَقِيقَةِ مُرَادِ الشَّارِعِ لَا غَيْرُهُمْ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ، وَقَدْ قَرَّرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ حَدِيثَ الْفَقِيهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِ الْفَقِيهِ، وَأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُ مِنْ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ إنَّمَا هِيَ عَنْ أَحْوَالِهِمَا الْحِسِّيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَعَنُّتٌ وَمُكَابَرَةٌ بَحْتٌ كَيْفَ، وَهُوَ أُسْتَاذُ عَامَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَلْ كُلُّ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُ مِنْ عِيَالِهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَلَوْ سُلِّمَ خَطَؤُهُ فِي هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ لَا يَقْتَضِي مِثْلَ ذَلِكَ التَّشْنِيعِ بَلْ التَّأَدُّبُ لَازِمٌ فِي تَعْبِيرِ زَلَّاتِ الْكِبَارِ وَالِاعْتِذَارِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْخَطَأِ مِنْ الرَّاوِي لَعَلَّهُ لَمْ يَضْبِطْهُ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الْجَهْلِ إلَى مَنْ أُجْمِعَ عَلَى عُلُوِّهِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْكَذِبِ إلَى الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ لِلتَّبْكِيتِ وَالْإِلْزَامِ، وَإِلَّا فَقَوْلُ الْإِمَامِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَغْنِيَاءِ فِي نَفْسِهِ مُتَبَادَرٌ فِي الْجَمِيعِ أَوْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ مَانِعَةٌ عَنْ إرَادَةِ مَا هُوَ مِثْلُ عُثْمَانَ وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْبِيرُ بِفُقَرَاءِ أُمَّتِي بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْفَرِيقَانِ عَامَّانِ لِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ بِنِسْبَةِ كُلٍّ إلَى أَمْثَالِهِ فَالْفَقِيرُ الْمُمَاثِلُ لِلْغَنِيِّ فِي جَمِيعِ طَاعَاتِهِ سَابِقٌ عَلَى هَذَا الْغَنِيِّ لِفَقْرِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِ مِائَةِ عَامٍ» فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ. ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا» لَعَلَّ الْمُعْتَرِضَ مَقْصُورٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَاجْتَرَأَ عَلَى مَا أَجْتَرَأَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْفُقَرَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَصَرُوا احْتِيَاجَهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الدُّنْيَا، وَأَمْتِعَتِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فَمِثْلُ عُثْمَانَ لَا يَضُرُّ وَيُقَرِّبُهُ مَا يُقَالُ إنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي لَهُ مَحَبَّةٌ لِلدُّنْيَا فَمِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْغَنِيَّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَحَبَّةٌ لَهَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لَفْظُ الْأَغْنِيَاءِ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَاقِعَةِ فِي حَقِّ مِثْلِ عُثْمَانَ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْفَقْرُ شَيْنٌ عِنْدَ النَّاسِ وَزَيْنٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ إلَى اللَّهِ بِبَوَاطِنِهِمْ وَظَوَاهِرِهِمْ لَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا، وَلَا غِنًى، وَلَا مَالًا؛ وَلِلْفَقِيرِ مَعَ الرِّضَا فَضْلٌ كَبِيرٌ، وَقَالَ عِنْدَ حَدِيثِ «الْفَقْرُ أَزْيَنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ الْعِذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ» وَالْفَقْرُ عِنْدَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ هُوَ الزُّهْدُ وَالْعِبَادَةُ، وَإِنْ ذَا مَالٍ وَغَيْرُهُ فَقِيرٌ، وَإِنْ فَقِيرًا. وَقَالَ أَيْضًا عِنْدَ حَدِيثِ «الْفَقْرُ أَمَانَةٌ فَمَنْ كَتَمَهُ كَانَ عِبَادَةً» الْحَدِيثَ. الْفَقْرُ عِنْدَ الْمُتَصَوِّفَةِ الِانْقِطَاعُ إلَى اللَّهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى الْفَقِيرِ إذَا كَانَ مَا ذُكِرَ كَانَ مَعْنَى الْغِنَى مُقَابِلَهُ عَلَى طَرِيقِ بَيَانِ الضَّرُورَةِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الزَّاهِدُونَ الْمُنْقَطِعُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالدُّنْيَا فَلَا غُبَارَ فِيهِ فَلَعَلَّ الْمُعْتَرِضَ حَمَلَهُ عَلَى هَذَا إذْ قِيلَ إنَّهُ أَيْ عَبْدَ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ

(خ م عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ» إمَّا فِي الْمِعْرَاجِ أَوْ بِالْكَشْفِ أَوْ فِي الْمَنَامِ أَوْ بِالْإِلْهَامِ «فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ» إمَّا مَالًا كَمَا هُوَ عِنْدَ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ زُهْدًا وَانْقِطَاعًا إلَى اللَّهِ كَمَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ كَفَى ذَا الْمَالِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّطْهِيرِ، وَلَوْلَا التَّدْنِيسُ بِهِ لَمْ تُطَهِّرْهُ الزَّكَاةُ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِعَدَمِ تَدَنُّسِهِمْ إذْ هُمْ خُزَّانُ اللَّهِ وَأُمَنَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ؛ وَلِلنَّاسِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ غَنِيٍّ شَاكِرٍ، وَفَقِيرٍ صَابِرٍ مَعَارِكُ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَتْقَاهُمَا فَإِنْ اسْتَوَيَا اسْتَوَيَا - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]- كَذَا فِي الْفَيْضِ أَقُولُ، وَقَدْ سَمِعْت أَيْضًا فَضْلَ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ عَنْ بَحْرِ الْكَلَامِ، وَفَضْلَ الْكَفَافِ مِنْهُمَا عَنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ قِيلَ الْغَنِيُّ أَفْضَلُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي ضَعْفِ الْفَقْرِ مَعَ مَزِيَّةِ الْغَنِيِّ بِالْخَيْرَاتِ، وَقِيلَ الْفَقْرُ أَفْضَلُ فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ هُوَ مَحَبَّةُ الدُّنْيَا وَذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْفَقْرَ أَبْعَدُ عَلَى الْخَطَرِ، وَقَالُوا مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ «وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» لِعَدَمِ صَبْرِهِنَّ عَلَى الشِّدَّةِ، وَعَدَمِ شُكْرِهِنَّ فِي الرَّخَاءِ وَكُفْرَانِهِنَّ النِّعْمَةَ وَكَثْرَتِهِنَّ اللَّعْنَ وَغَلَبَةِ الْهَوَى فِيهِنَّ وَمَيْلِهِنَّ إلَى زُخْرُفِ الدُّنْيَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ مَفَاخِرِ الْآخِرَةِ أَغْلَبُ لِضَعْفِ عَقْلِهِنَّ وَسُرْعَةِ انْخِدَاعِهِنَّ، وَعُورِضَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالَ كَوْنِهِنَّ فِي النَّارِ أَمَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ فَالنِّسَاءُ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ زَوْجَتَيْنِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَسَبْعِينَ مِنْ الْحَوَرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَعُورِضَ بِخَبَرِ «رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» وَأُجِيبَ أَنَّ كَثْرَتَهُنَّ فِي النَّارِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَكَثْرَتَهُنَّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ نِسَاءِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا حَثٌّ عَلَى التَّقَلُّلِ مِنْ الدُّنْيَا وَتَحْرِيضُ النِّسَاءِ عَلَى التَّقْوَى وَالْمُحَافَظَةِ فِي الدِّينِ عَلَى السَّبَبِ الْأَقْوَى، وَأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ الْآنَ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأَغْنِيَاءُ بَدَلُ النِّسَاءِ، وَفِي أُخْرَى بِهِمَا مَعًا. (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْفَقِيرَ الْمُتَعَفِّفَ» أَيْ الْمُتَكَلِّفَ فِي الْعِفَّةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ، وَعَنْ إذْلَالِ نَفْسِهِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالسَّعْيِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهَا (أَبَا الْعِيَالِ) ثِقَةٌ بِضَمَانِ مَوْلَاهُ لَعَلَّ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ أَوْ لِلتَّلَهِّي وَالِادِّخَارِ، وَإِلَّا جَاءَ فِي الْأَثَرِ «مَنْ جَاعَ فَلَمْ يَسْأَلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» ، وَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى وَالْخَضِرُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف: 77]- وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَدَّادِيُّ شَيْخُ الْجُنَيْدِ يَسْأَلُ مِنْ بَابٍ أَوْ مِنْ بَابَيْنِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَكَانَ لَهُ مَقَامٌ فِي الزُّهْدِ وَالتَّوَكُّلِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ آدَمَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا بِجَامِعِ الْبَصْرَةِ مُدَّةً وَكَانَ يُفْطِرُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْلَةً، وَلَيْلَةُ إفْطَارِهِ يَطْلُبُ مِنْ الْأَبْوَابِ وَالثَّوْرِيُّ يَسْأَلُ فِي بَوَادِي الْحِجَازِ إلَى صَنْعَاءَ قَالَ كُنْت أَذْكُرُ لَهُمْ حَدِيثًا فِي الضِّيَافَةِ فَيُخْرِجُونَ إلَيَّ طَعَامًا فَأَتَنَاوَلُ مِنْهُ حَاجَتِي، وَأَتْرُكُ مَا بَقِيَ قَالَ بِشْرٌ الْحَافِي مَا سَأَلْت قَطُّ أَحَدًا إلَّا السَّرَقُسْطِيَّ؛ لِأَنَّهُ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا وَيَفْرَحُ بِخُرُوجِ الشَّيْءِ مِنْ يَدِهِ وَيَتَبَرَّمُ بِبَقَائِهِ عِنْدَهُ، كُلُّهُ مِنْ شَرْحِ الْحِكَمِ. وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ مَكَثَ أَبُو حَفْصٍ الْحَدَّادُ عِشْرِينَ سَنَةً يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ بِدِينَارٍ وَيُنْفِقُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَيَصُومُ وَيَخْرُجُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَبْوَابِ (طب عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُتْ فَقِيرًا» دُمْ عَلَى الْفَقْرِ لِتَمُوتَ عَلَيْهِ

وَعَنْ إِسْحَاقَ الْهَرَوِيِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ الشَّرَفَ كُلَّ شَرَفٍ فَلْيَخْتَرْ سَبْعًا عَلَى سَبْعٍ فَإِنَّ الصَّالِحِينَ اخْتَارُوهَا حَتَّى بَلَغُوا سَنَامَ الْخَيْرَاتِ يَخْتَارُ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى وَالْجُوعَ عَلَى الشِّبَعِ وَالدُّونَ عَلَى الْمُرْتَفِعِ وَالذُّلَّ عَلَى الْعِزِّ وَالتَّوَاضُعَ عَلَى الْكِبْرِ وَالْحُزْنَ عَلَى الْفَرَحِ وَالْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ؛ وَلِذَا كَانَ السَّلَفُ يَفِرُّونَ إلَى الْفَقْرِ وَالْبَلْوَى كَمَا فَرَرْنَا مِنْهُمَا وَكَمَا حُكِيَ عَنْ خَيْرِ النُّسَّاجِ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْت بَعْضَ الْمَسَاجِدِ فَإِذَا فِيهِ فَقِيرٌ فَلَمَّا رَآنِي تَعَلَّقَ بِي، وَقَالَ أَيُّهَا الشَّيْخُ تَعَطَّفْ عَلَيَّ فَإِنَّ مِحْنَتِي عَظِيمَةٌ فَقُلْت وَمَا هِيَ قَالَ فَقَدْت الْبَلَاءَ، وَقُرِنْت بِالْعَافِيَةِ فَنَظَرْت فَإِذَا هُوَ قَدْ فُتِحَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْفَقِيرَ الصَّادِقَ لَيَحْتَرِزُ مِنْ الْغِنَى حَذَرَ أَنْ يَدْخُلَهُ فَيُفْسِدَ عَلَيْهِ فَقْرَهُ كَمَا أَنَّ الْغَنِيَّ يَحْتَرِزُ مِنْ الْفَقْرِ حَذَرَ أَنْ يَدْخُلَهُ فَيُفْسِدَ عَلَيْهِ غِنَاهُ. ثُمَّ إنَّمَا أَوْصَى بِدَوَامِ الْفَقْرِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ طَهَارَةِ السِّرِّ وَصَفَاءِ الْقَلْبِ بِالْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِنَحْوِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِهِمَا شَهْوَةٌ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْفَاقَاتِ لِتَبَايُنِهَا لِنَحْوِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَقِيلَ إنَّ بِنْتَ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ عَرِيَتْ فَقِيلَ لَهُ أَلَا تَطْلُبُ مَنْ يَكْسُوهَا فَقَالَ لَا دَعْهَا حَتَّى يَرَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَبْرِي عَلَيْهَا قَالَ فَكَانَ إذَا كَانَ لَيَالِي الشِّتَاءِ جَمَعَ عِيَالَهُ وَرَمَى بِكِسَائِهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَفْقَرْتنِي، وَأَفْقَرْت عِيَالِي، وَأَعْرَيْتنِي، وَأَعْرَيْت عِيَالِي وَجَوَّعْتنِي وَجَوَّعْت عِيَالِي بِأَيِّ وَسِيلَةٍ تَوَسَّلْت إلَيْك، وَإِنَّمَا تَفْعَلُ هَذَا بِأَوْلِيَائِك، وَأَحِبَّائِك فَهَلْ أَنَا مِنْهُمْ حَتَّى أَفْرَحَ وَمِثْلُهُ عَنْ الْفُضَيْلِ أَنَّهُ بَكَى فِي لَيْلَةٍ فَقَالَ إلَهِي أَفْقَرْتنِي، وَأَقْعَدْتنِي، وَأَقْعَدْت عِيَالِي فِي بَيْتٍ لَيْسَ بِهِ مِصْبَاحٌ، وَقَدِيمًا تَفْعَلُ هَذَا بِأَوْلِيَائِك، وَأَهْلِ طَاعَتِك إلَهِي فَبِأَيِّ عَمَلٍ اسْتَحْقَقْت هَذَا حَتَّى أَدُومَ عَلَيْهِ. «، وَلَا تَمُتْ غَنِيًّا» قِيلَ لَا تُخَالِطْ الْغَنِيَّ، وَلَا تُلَابِسْهُ أَبَدًا فَتَمُوتَ عَلَيْهِ. (طصس) الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «لَمْ يَكُنْ يُنْخَلْ» عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ «لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّقِيقُ» نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَكَانَ دَقِيقُهُ الشَّعِيرَ «، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ» إعْرَاضًا عَنْ زَهَرَاتِ الدُّنْيَا لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى أَكْثَرَ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ رُوِيَ «أَنَّ جَبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ وَيَقُولُ أَيُحِبُّ حَبِيبِي أَنْ أَجْعَلَ هَذِهِ الْجِبَالَ ذَهَبًا وَتَكُونَ مَعَك حَيْثُمَا كُنْتَ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ يَا جَبْرَائِيلُ إنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَبِهَا يَغْتَرُّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ إنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أَشْبَعَ يَوْمًا، وَأَجُوعَ يَوْمًا فَإِذَا جُعْت تَضَرَّعْت، وَإِذَا شَبِعْت شَكَرْت فَقَالَ جَبْرَائِيلُ ثَبَّتَك اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» . وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا مَلَكْت قَمِيصَيْنِ، وَعَنْ بَعْضٍ رَأَيْت كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَامَتْ فَيُقَالُ أَدْخِلُوا مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ الْجَنَّةَ فَنَظَرْت أَيُّهُمَا يَتَقَدَّمُ فَتَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ فَسَأَلْت عَنْ سَبَبِهِ فَقِيلَ إنَّهُ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ وَاحِدٌ؛ وَلِمَالِكٍ قَمِيصَانِ، وَعَنْ الْعَوَارِفِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَقَدْ رَأَيْت سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ يُصَلُّونَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ فَإِذَا رَكَعَ أَحَدُهُمْ قَبَضَ بِيَدَيْهِ مَخَافَةَ أَنْ تَبْدُوَ عَوْرَتُهُ. وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَقِيَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَإِذَا نَامُوا يُلْصِقُونَ جُنُوبَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ بِلَا حَائِلٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمِشْكَاةِ، وَعَنْ جَامِعِ الشُّرُوحِ

مِنْ شُرُوحِ الشِّرْعَةِ أَنَّهُ اُتُّفِقَ «لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثَوْبَانِ، وَهَبَ أَحَدَهُمَا لِفَقِيرٍ حَذَرًا مِنْ الْإِسْرَافِ أَوْ سُوءِ الْحِسَابِ» ، وَعَنْ الْحَرِيرِيِّ أَنَّهُ رَأَى فِي جَامِعِ بَغْدَادَ رَجُلًا لَا يَلْبَسُ أَكْثَرَ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ دَائِمًا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَأَيْت فِي الْمَنَامِ أَنِّي دَخَلْت الْجَنَّةَ فَرَأَيْت جَمَاعَةً مِنْ فُقَرَائِنَا عَلَى مَائِدَةٍ، وَأَرَدْت أَنْ أَجْلِسَ مَعَهُمْ فَمَنَعَنِي الْمَلَائِكَةُ، وَقَالُوا هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَك قَمِيصَانِ فَانْتَبَهْت وَنَذَرْت بِلُبْسِ ثَوْبٍ وَاحِدِ إلَى أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى كَمَا رُوِيَ عَنْ الْعَوَارِفِ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ إلَّا عَارِيَّةً وَالْبِسْطَامِيُّ كَانَ قَمِيصُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ عَارِيَّةً فَرَدُّوهُ إلَى صَاحِبِهِ، وَعَنْ الْبَعْضِ لَا يَلْبَسُ إلَّا مُسْتَأْجَرًا، وَلَا يَلْبَسُ عَلَى مِلْكٍ. وَفِي الْمِشْكَاةِ لَقَدْ تَفَضَّلْتَ عَلَيْنَا بِأَنْ لَبِسْتَ أَلْوَانًا مِنْ الْمَلْبَسِ وَأَنَّنِي كَالسَّيْفِ فِي عُرْيِهِ، وَأَنْتَ مِثْلُ الْبَصَلِ الْمُكْتَسِي. وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثَوْبًا آخَرَ يَلْبَسُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ، وَعِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْوُفُودِ، وَقَدْ قَالَ التتارخانية «إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرُبَّمَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمًا، وَعَلَيْهِ رِدَاءُ خَزٍّ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى آثَارَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» ، وَأَبُو حَنِيفَةَ كَانَ يَرْتَدِي بِرِدَاءٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَيَقُولُ لِتَلَامِذَتِهِ إذَا رَجَعْتُمْ إلَى أَوْطَانِكُمْ فَالْبَسُوا الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْخَسِيسَةَ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إلَيْكُمْ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ فَهُوَ مَعَ زَهَادَتِهِ وَوَرَعِهِ كَانَ يُوصِيهِمْ بِذَلِكَ. وَكَانَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ يَلْبَسُ النَّفِيسَةَ وَيَقُولُ لِي نِسَاءٌ وَجِوَارِي فَأَتَزَيَّنُ كَيْ لَا يَنْظُرْنَ إلَى غَيْرِي، وَعَنْ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ سِنْجَابًا وَكَانَ عَلَى الضَّحَّاكِ قَلَنْسُوَةُ سَمُّورٍ فَبِمَا ذُكِرَ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مِثْلِ لُبْسِهِ قَمِيصًا وَاحِدًا فَقَطْ وَبَيْنَ لُبْسِهِ نَحْوَ رِدَاءٍ ذِي قِيمَةٍ كَثِيرَةٍ إذْ الْقَمِيصُ الْوَاحِدُ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ، وَعِنْدَ عَدَمِ عُرُوضِ الْخَارِجِ وَكَوْنُ الرِّدَاءِ عِنْدَ عُرُوضِ دَاعٍ مِنْ الْخَارِجِ كَبَيَانِ أَصْلِ جَوَازِهِ لِأُمَّتِهِ وَتَزَيُّنِهِ لِنِسْوَانِهِ، وَإِلْقَاءِ مَهَابَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَعَدَمِ نَظَرِ الْخَلْقِ إلَيْهِ بِنَظَرِ الْحَقَارَةِ وَالْهَوَانِ وَتَحْدِيثِ النِّعْمَةِ. ثُمَّ فِي التتارخانية أَيْضًا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَلْبَسُ قَمِيصًا عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا رُقْعَةٌ لِنَوْعٍ مِنْ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَبِسَ ثِيَابًا نَفِيسَةً وَاتَّخَذَ أَلْوَانًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَاقْتَدَى بِهِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَيَظْلِمُونَ لَعَلَّ تَفْصِيلَهُ مَا فِي نَحْوِ كِتَابِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ مِنْ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمًا تَشَاوَرُوا، وَقَالُوا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا دِيَارَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَطَرَفَيْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَوُفُودُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ يَأْتُونَ عُمَرَ فَيَرَوْنَ جُبَّتَهُ الَّتِي لَهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً فَلْنَسْأَلْهُ حَتَّى يُغَيِّرَ بِثَوْبٍ لَيِّنٍ يُهَابُ فِيهِ مَنْظَرُهُ وَيُغْدَى عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ مِنْ الطَّعَامِ يَأْكُلُهُ مَعَ بَعْضِ الْكِبَارِ فَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا إلَّا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَسْت بِفَاعِلٍ ذَلِكَ فَأَشَارَ إلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَأَلُوا عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَأَجَابَتَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَضَى إلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يُرِدْ الدُّنْيَا، وَلَمْ تُرِدْهُ وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ فُتِحَ عَلَى يَدَيْك كُنُوزُ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ وَحُمِلَ إلَيْك أَمْوَالُهُمْ وَكَذَا طَرَفَا الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَرُسُلُ الْعَجَمِ وَوُفُودُ الْعَرَبِ يَرِدُونَ إلَيْك، وَعَلَيْك هَذِهِ الْجُبَّةُ فَلَوْ غَيَّرْتهَا بِلَيِّنٍ لَحَصَلَ مَهَابَةُ الْإِسْلَامِ وَيُغْدَى بِجَفْنَةِ الطَّعَامِ فَتَأْكُلُ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَبَكَى عُمَرُ بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ هَلْ تَعْلَمِينَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبِعَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ خَمْسَةً أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَشَاءٍ وَغَدَاءٍ حَتَّى لَحِقَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتَا لَا فَقَالَ يَا عَائِشَةُ هَلْ تَعْلَمِينَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قُرِّبَ إلَيْهِ طَعَامٌ عَلَى مَائِدَةٍ فِي ارْتِفَاعِ شِبْرٍ أَمَا كَانَ يَأْمُرُ بِالطَّعَامِ فَيُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَأْمُرُ بِالْمَائِدَةِ فَتُرْفَعُ قَالَتَا نَعَمْ أَنْتُمَا زَوْجَتَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ أَتَيْتُمَانِي تُرَغِّبَانِنِي فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَبِسَ جُبَّةً مِنْ الصُّوفِ فَرُبَّمَا حَكَّ جِلْدَهُ مِنْ خُشُونَتِهَا

قَالَتَا نَعَمْ فَهَلْ تَعْلَمِينَ أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَرْقُدُ عَلَى عَبَاءَةٍ عَلَى طَاقَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ لَهُ مِسْحٌ فِي بَيْتِك يَا عَائِشَةُ يَكُونُ بِاللَّيْلِ بِسَاطًا وَبِالنَّهَارِ فِرَاشًا فَنَدْخُلُ عَلَيْهِ فَنَرَى أَثَرَ الْحَصِيرِ عَلَى جَنْبِهِ أَلَا يَا حَفْصَةُ أَنْتِ حَدَّثْتنِي أَنَّك ثَنَيْت الْمِسْحَ لَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَوَجَدَ لِينَهُ فَرَقَدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا بِأَذَانِ بِلَالٍ يَا حَفْصَةُ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَغْفُورًا لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ أَمْسَى جَائِعًا وَرَقَدَ سَاجِدًا، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِعًا سَاجِدًا وَبَاكِيًا وَمُتَضَرِّعًا فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا أَكَلَ عُمَرُ طَيِّبًا، وَلَا لَبِسَ لَيِّنًا، وَلَهُ أُسْوَةٌ بِصَاحِبَيْهِ، وَلَا جَمَعَ بَيْنَ إدْمَيْنِ إلَّا الْمِلْحَ وَالزَّيْتَ، وَلَا أَكَلَ لَحْمًا إلَّا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً حَتَّى يَنْقَضِيَ مَا انْقَضَى مِنْ الْقَوْلِ قَالَتَا فَخَرَجْنَا فَخَبَّرْنَا بِذَلِكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى لَحِقَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . (طب عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ «مَا كَانَ يَبْقَى عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ قَلِيلٌ، وَلَا كَثِيرٌ» وَكَلِمَةُ كَانَ لِلِاسْتِمْرَارِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى إيثَارِ الْفَقْرِ بِوَجْهَيْنِ قِلَّةُ الطَّعَامِ، وَإِيثَارُ الشَّعِيرِ. وَفِي الشِّرْعَةِ فَمِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ أَكْلُ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَذَلِكَ أَكْثَرُ طَعَامِهِمْ «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَشْبَعُ مِنْهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ» فَلَا يَأْكُلُ الْمُؤْمِنُ إلَّا مِنْهُ أَوْ يَخْلِطُ بُرًّا بِالشَّعِيرِ، وَفِي الْحَدِيثِ «ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ الْبَيْعُ إلَى الْأَجَلِ وَالْمُعَارَضَةُ أَيْ بَيْعُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَخَلْطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ» . (ط عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ، وَقَدْ رَقَّعَ) فِي ثَوْبِهِ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِرِقَاعِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رُقْعَةٍ، وَهِيَ الْخِرْقَةُ الَّتِي تُجْعَلُ مَكَانَ الْقَطْعِ مِنْ الثَّوْبِ (ثَلَاثَ لِبَدٍ) أَيْ صَارَ مُلْبَدًا مُلْصَقًا كَاللِّبَدِ (بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ) ، وَهَذَا مِنْ زُهْدِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ سَمِعْت قَرِيبًا أَنَّ خَزَائِنَ مُلُوكِ الدُّنْيَا كَقَيْصَرَ وَكِسْرَى فِي يَدِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لِلْغَيْرِ بِمَا هُوَ اللَّائِقُ لِلْإِنْسَانِ أَوْ لِمَنْ هُوَ خَلِيفَةٌ بَعْدَهُ إذْ فُرَصُ الدُّنْيَا غَالِيَةٌ فِي مَقَامِهِمْ فَيَرَوْنَهُ أَوْ يَسْمَعُونَهُ فَيَقْتَدُونَ بِهِ فَلَا يَظْلِمُونَ الرَّعَايَا، وَلَا يَطْمَعُونَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ لِتَحْصِيلِ الْمَلَابِسِ النَّفِيسَةِ وَكَذَا الْمَآكِلَ اللَّطِيفَةَ وَكَذَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت عُمَرَ، وَعَلَيْهِ مُرَقَّعَةٌ فِيهَا سَبْعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً فَانْصَرَفَ إلَى بَيْتِي بَاكِيًا ثُمَّ عُدْت فِي طَرِيقِي فَإِذَا عُمَرُ، وَعَلَى عَاتِقِهِ قِرْبَةُ مَاءٍ، وَهُوَ يَتَخَلَّلُ النَّاسَ فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لَا تَتَكَلَّمْ، وَأَقُولُ لَك فَسِرْت مَعَهُ حَتَّى صَبَّهَا فِي بَيْتِ عَجُوزٍ، وَعُدْنَا إلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ لِي إنَّهُ حَضَرَنِي بَعْدَ مُضِيِّك رَسُولُ الرُّومِ وَرَسُولُ الْفُرْسِ فَقَالُوا لِلَّهِ دَرُّك يَا عُمَرُ قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عِلْمِك، وَفَضْلِك، وَعَدْلِك فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِي تَدَاخَلَنِي مَا تَدَاخَلَ الْبَشَرَ فَقُمْت فَعَلْت بِنَفْسِي مَا فَعَلْت، وَفِي الِاحْتِسَابِ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ جَاءَ بِهَدَايَا فَلَمْ يَجِدْ عُمَرُ فِي بَيْتِهِ وَبَيْتُهُ صَغِيرٌ مُسَوَّدٌ لِطُولِ الزَّمَانِ، وَقِيلَ إنَّهُ فِي السُّوقِ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ فَطَلَبَهُ فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ تَحْتَ ظِلِّ حَائِطٍ مُتَوَسِّدٌ بِالدِّرَّةِ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ عَدَلْت فَأَمِنْت وَأُمَرَاؤُنَا ظَلَمُوا فَاحْتَاجُوا إلَى الْحُصُونِ وَالْجُيُوشِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَفِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ أَنَّ زَوْجَةَ عُمَرَ اسْتَقْرَضَتْ دِينَارًا وَاشْتَرَتْ بِهِ عِطْرًا فِي قَوَارِيرَ، وَأَرْسَلَتْهُ هَدِيَّةً إلَى زَوْجَةِ مَلِكِ الرُّومِ، وَأَرْسَلَتْ الزَّوْجَةُ إلَى زَوْجَةِ عُمَرَ جَوَاهِرَ فَلَمَّا أَخْبَرَتْ عُمَرَ أَخَذَهَا فَبَاعَهَا وَدَفَعَ إلَى امْرَأَتِهِ دِينَارًا وَجَعَلَ مَا بَقِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا اشْتَرَى قَمِيصًا فِي خِلَافَتِهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَكَانَ

كُمُّهُ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ خَلْوَقَتِهِ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا لِأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ لِمَ لَا تَلْبَسُ جَيِّدًا قَالَ أَنَا الْيَوْمَ عَبْدٌ أَلْبَسُ لِبَاسَ الْعَبْدِ وَغَدًا إذَا أَعْتَقَنِي مَوْلَايَ يُلْبِسُنِي جَدِيدًا جَيِّدًا (ت عَنْ أَبِي طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُوعَ) لِيَدْعُوَ لَنَا بِدَفْعِ الْجُوعِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ (وَرَفَعْنَا ثِيَابَنَا عَنْ حَجَرٍ حُجِرَ إلَى بُطُونِنَا» مِنْ قَبِيلِ التَّوْزِيعِ أَيْ رَفَعَ كُلٌّ مِنَّا ثَوْبَهُ عَنْ حَجَرٍ مُلْصَقٍ وَمُنْضَمٍّ إلَى بَطْنِهِ «فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حَجَرَيْنِ» عَادَةُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ إذَا اشْتَدَّ جُوعُهُمْ أَنْ يَرْبِطُوا عَلَى بَطْنِهِمْ حَجَرًا كَيْ لَا يَسْتَرْخِيَ فَتَشُقَّ عَلَيْهِمْ الْحَرَكَةُ فَبِالشَّدِّ تَسْهُلُ الْحَرَكَةُ وَمَنْ جُوعُهُ أَشَدُّ يَرْبِطُ حَجَرَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَاءَ إلَى مَنْزِلِ فَاطِمَةَ فَشَكَتْ مِنْ الْجُوعِ فَقَالَتْ عَقَدْت عَلَى بَطْنِي ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ كُلٌّ لِجُوعِ يَوْمٍ فَكَشَفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ بَطْنِهِ الشَّرِيفِ فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَحْجَارٍ» . وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ «أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جَاءَ فِي لَيْلٍ إلَى مَنْزِلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ عَنْ سَبَبِهِ فَقَالَ لَيْسَ غَيْرُ الْجُوعِ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَا مِثْلُكُمْ فِي الِابْتِلَاءِ بِالْجُوعِ فَكَشَفَ عَنْ بَطْنِهِ فَإِذَا هُوَ عَقَدَ أَحْجَارًا فَقَالَ مُنْذُ أَيَّامٍ لَمْ آكُلْ شَيْئًا» .، وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ وَجَبْرَائِيلُ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا جَبْرَائِيلُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَمْسَى لِآلِ مُحَمَّدٍ سَفٌّ مِنْ دَقِيقٍ، وَلَا كَفٌّ مِنْ سَوِيقٍ فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ سَمِعَ هَزَّةً فِي السَّمَاءِ أَفْزَعَتْهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ اللَّهُ الْقِيَامَةَ أَنْ تَقُومَ قَالَ لَا، وَلَكِنْ أَمَرَ إسْرَافِيلَ فَنَزَلَ إلَيْك حِينَ سَمِعَ كَلَامَك فَأَتَاهُ إسْرَافِيلُ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ مَا ذَكَرْت فَبَعَثَنِي إلَيْك بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْك أَنْ أُسَيِّرَ مَعَك جِبَالَ تِهَامَةَ زُمُرُّدًا وَيَاقُوتًا وَذَهَبًا، وَفِضَّةً فَإِذَا أَرَدْت فَعَلْت فَإِنْ شِئْت نَبِيًّا مَلِكًا، وَإِنْ شِئْت نَبِيًّا عَبْدًا فَأَوْمَأَ إلَيْهِ جَبْرَائِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ فَقَالَ بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا ثَلَاثًا» . (خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا) لِلطَّبْخِ (إنَّمَا هُوَ) طَعَامُنَا بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ (التَّمْرُ وَالْمَاءُ إلَّا أَنْ نُؤْتَى) مِنْ قِبَلِ الْجِيرَانِ (بِاللُّحَيْمِ) تَصْغِيرُ اللَّحْمِ لِلتَّقْلِيلِ (وَفِي رِوَايَةٍ «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ ثَلَاثًا حَتَّى مَضَى سَبِيلَهُ» أَيْ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (وَفِي أُخْرَى «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»

وَعَنْ الْعَوَارِفِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الصُّفَّةِ «جِئْنَا جَمَاعَةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرَقَ بُطُونَنَا التَّمْرُ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ أَحْرَقَ بُطُونَنَا التَّمْرُ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ أَنَّهُ مُنْذُ شَهْرَيْنِ لَمْ يَرْتَفِعْ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ دُخَانٌ لِلْخَبْزِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إلَّا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ» (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عَقَبَةً كَؤُودًا» صَعْبَةً شَدِيدَةً «، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إلَّا كُلُّ مُخِفٍّ» أَيْ خَفِيفُ الْحِمْلِ مِنْ الذُّنُوبِ أَوْ مِنْ الدُّنْيَا وَالْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَقَبَةِ مَنَازِلُ الْآخِرَةِ، وَأَهْوَالُهَا وَشَدَائِدُهَا. وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِكُلِّ شَيْءٍ مِفْتَاحٌ وَمِفْتَاحُ الْجَنَّةِ حُبُّ الْمَسَاكِينِ، وَالْفُقَرَاءُ الصُّبُرُ هُمْ جُلَسَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَقِيلَ إنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ أَدْهَمَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَبَى، وَقَالَ تُرِيدُ أَنْ تَمْحُوَا اسْمِي مِنْ دِيوَانِ الْفُقَرَاءِ لَا أَفْعَلُ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ الْقَصَّارِ الْفَقْرُ لِبَاسٌ يُورِثُ الرِّضَا إذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ فِيهِ وَسُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ عَنْ مِسْحٍ وَقَلَنْسُوَةٍ عَلَى طَرِيقِ اللَّطِيفَةِ بِكَمْ اشْتَرَيْت قَالَ اشْتَرَيْته بِالدُّنْيَا فَطُلِبَ بِالْآخِرَةِ فَلَمْ أَبِعْهُ، وَعَنْ حَمْدُونَ الْقَصَّارِ إذَا اجْتَمَعَ إبْلِيسُ وَجُنُودُهُ لَمْ يَفْرَحُوا بِشَيْءٍ كَفَرَحِهِمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا وَرَجُلٌ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ وَرَجُلٌ فِي قَلْبِهِ خَوْفُ الْفَقْرِ، وَعَنْ الْجُنَيْدِ يَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ إنَّكُمْ تُكْرَمُونَ بِاَللَّهِ وَتُعْرَفُونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَانْظُرُوا كَيْفَ تَكُونُونَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا خَلَوْتُمْ بِهِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ لَأَنْ أَقَعَ مِنْ فَوْقِ قَصْرٍ فَأَتَحَطَّمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْغِنَى؛ لِأَنِّي سَمِعْت مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ الْمَوْتَى» يَعْنِي الْأَغْنِيَاءَ، وَعَنْ ابْنِ أَدْهَمَ طَلَبْنَا الْفَقْرَ فَاسْتَقْبَلَنَا الْغِنَى وَطَلَبَ النَّاسُ الْغِنَى فَاسْتَقْبَلَهُمْ الْفَقْرُ، وَعَنْ ابْنِ الْكَرِيمِيِّ أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّادِقَ لَيَحْتَرِزُ مِنْ الْغِنَى لِئَلَّا يُفْسِدَ فَقْرَهُ كَالْغَنِيِّ الْمُحْتَرِزِ مِنْ الْفَقْرِ لِئَلَّا يُفْسِدَ غِنَاهُ. وَعَنْ سَهْلٍ: خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ جَوْهَرِ النَّفْسِ فَقِيرٌ يُظْهِرُ الْغِنَى وَجَائِعٌ يُظْهِرُ الشِّبَعَ وَمَحْزُونٌ يُظْهِرُ الْفَرَحَ وَرَجُلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ عَدَاوَةٌ فَيُظْهِرُ الْمَحَبَّةَ وَرَجُلٌ يَصُومُ بِالنَّهَارِ وَيَقُومُ بِاللَّيْلِ، وَلَا يُظْهِرُ ضَعْفًا، وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ أَحْسَنُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ الْعَبْدُ إلَى مَوْلَاهُ دَوَامُ الْفَقْرِ إلَيْهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَمُلَازَمَةُ السُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَطَلَبُ الْقُوتِ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ. وَقِيلَ مَنْ طَلَبَ الْفَقْرَ لِشَرَفِ الْفَقْرِ مَاتَ فَقِيرًا وَمَنْ طَلَبَ الْفَقْرَ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَاتَ غَنِيًّا، وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ إنْ أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ رِضَايَ عَنْك فَانْظُرْ كَيْفَ رِضَا الْفُقَرَاءِ عَنْك، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكَاتِبِ كَانَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ فَتًى عَلَيْهِ أَطْمَارٌ رَثَّةٌ وَكَانَ لَا يُدَاخِلُنَا، وَلَا يُجَالِسُنَا فَوَقَعَتْ مَحَبَّتُهُ فِي قَلْبِي فَفُتِحَ لِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ فَوَضَعْتهَا عَلَى سَجَّادَتِهِ فَنَظَرَ إلَيَّ شَزْرًا ثُمَّ قَالَ اشْتَرَيْت هَذِهِ الْجَلْسَةَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْقِنَاعِ وَالْفَرَاغِ بِسَبْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ غَيْرَ الضِّيَاعِ وَالْمُسْتَغِلَّاتِ تُرِيدُ أَنْ تَخْدَعَنِي عَنْهَا بِهَذِهِ، وَقَامَ يَرُدُّهَا، وَقَعَدْت أَلْتَقِطُ فَمَا رَأَيْت كَعِزِّهِ حَيْثُ مَرَّ وَكَذُلِّي حَيْثُ كُنْت أَلْتَقِطُهَا. وَقَالَ بُنَانٌ الْمِصْرِيُّ يَقُولُ كُنْت بِمَكَّةَ قَاعِدًا وَشَابٌّ بَيْنَ يَدَيَّ فَجَاءَهُ إنْسَانٌ وَحَمَلَ إلَيْهِ كِيسًا فِيهِ دَرَاهِمُ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لِي

المبحث الأول في الإسراف

فِيهِ فَقَالَ فَرِّقْهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَفَرَّقَهُ فَلَمَّا كَانَ الْعِشَاءُ رَأَيْته فِي الْوَادِي يَطْلُبُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فَقُلْت لَوْ تَرَكْت لِنَفْسِك مِمَّا كَانَ مَعَك شَيْئًا فَقَالَ لَمْ أَعْلَمْ أَنِّي أَعِيشُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ انْتَهَى كَلَامُ الْقُشَيْرِيَّةِ. [الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْإِسْرَاف] (وَأَمَّا الْإِسْرَافُ) الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ (فَفِيهِ خَمْسَةُ مَبَاحِثَ.) (الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ) : (فِي ذَمِّهِ وَغَوَائِلِهِ) الثَّانِي فِي سَبَبِ مَذْمُومِيَّتِهِ. الثَّالِثُ فِي أَصْنَافِهِ. الرَّابِعُ فِي وُقُوعِهِ فِي الصَّدَقَةِ. الْخَامِسُ فِي عِلَاجِهِ. (اعْلَمْ أَنَّ الْإِسْرَافَ حَرَامٌ قَطْعِيٌّ) لِثُبُوتِهِ بِقَطْعِيٍّ (وَمَرَضٌ قَلْبِيٌّ وَخُلُقٌ رَدِيءٌ) دَنِيءٌ (وَلَا تَظُنِّنَّ أَنَّهُ أَدْنَى كَثِيرًا) فِي الْقُبْحِ (مِنْ الْبُخْلِ) وَذَلِكَ الظَّنُّ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ (بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّهِ بِخِلَافِ الْإِسْرَافِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَوْنِ أَكْثَرِ الطِّبَاعِ مَائِلَةً إلَى الْإِمْسَاكِ) عَنْ الْإِنْفَاقِ (فَاحْتَاجَ) الْإِمْسَاكُ لِذَلِكَ (إلَى كَثْرَةِ الرَّوَادِعِ) الزَّوَاجِرِ حَتَّى تَنْفِرَ مِنْهُ وَتَشْتَاقَ إلَى الْإِنْفَاقِ (كَمَا أَنَّ الْبَوْلَ فِي حُرْمَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ أَشَدُّ مِنْ الْخَمْرِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ) ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ تَرْتَفِعُ بِالِاسْتِخْلَالِ وَانْقِلَابِهِ خَلًّا بِخِلَافِ الْبَوْلِ (مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ) فِي الشَّرْعِ (مَا وَرَدَ فِي الْخَمْرِ، وَلَمْ يُشْرَعْ فِيهِ حَدٌّ) ؛ لِأَنَّ تَشَهِّيَ الطَّبْعِ وَمَيْلَهُ إلَى الْخَمْرِ اقْتَضَى كَثْرَةَ التَّأْكِيدِ وَالتَّكْرِيرِ فِي زَجْرِهِ إلَى أَنْ يُشْرَعَ الْحَدُّ، وَأَمَّا الْبَوْلُ فَلِكَوْنِ الطَّبْعِ فِي نَفْسِهِ نَافِرًا وَمُتَوَحِّشًا مِنْهُ لَمْ يَقْتَضِ مِثْلَ الْخَمْرِ مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ الرَّادِعُ الطَّبْعِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّادِعِ الشَّرْعِيِّ (وَحَسْبُك) أَيْ كَافِيك (فِي الْإِسْرَافِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] حَيْثُ عَلَّلَ الْإِسْرَافَ بِعَدَمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا شَيْءَ أَقْبَحُ مِمَّا يَمْنَعُ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى إذْ الْإِسْرَافُ مُوجِبُ نَفْيِ مَحَبَّتِهِ تَعَالَى وقَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] بِصَرْفِ مَالِك فِيمَا لَا يَنْبَغِي فَفِي تَأْكِيدِهِ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّهْيِ {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] أَيْ أَمْثَالَهُمْ فِي الشَّرَارَةِ وَالْخَبَاثَةِ أَوْ أَحِبَّاءَ الشَّيَاطِينِ وَاتِّبَاعَهُمْ. (وَأَخُو الشَّيْطَانِ شَيْطَانٌ) فَإِنَّ الْأُخُوَّةَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ فَانْظُرْ مَا فِي رُتْبَةِ الْأُخُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَلَا شَيْءَ أَخْبَثُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى الْتِزَامًا، وَعَلَى الثَّانِيَةِ مُطَابَقَةً الْكُفْرُ قُلْنَا الْمُرَادُ نَفْيُ الْمَحَبَّةِ الْكَامِلَةِ لَا أَصْلِهَا وَالْمُرَادُ الْأُخُوَّةُ فِي ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ الْقَوِيَّةِ مُطْلَقًا لَا فِي الْكُفْرِ بَلْ أَنَّ بِاعْتِقَادِ حِلِّهِ يَكُونُ حَقِيقَةً أَوْ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ فِي أَصْلِ مَعْنَى الشَّيْطَانِيَّةِ مِنْ بَعْدِ الْخَيْرِ أَوْ الْبَاطِلِ. (وَلَا اسْمَ أَقْبَحُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلَا ذَمَّ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا) أَيْ الْأُخُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَقَطْ أَوْ مَعَ عَدَمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى (وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إيتَاءِ الْمُسْرِفِينَ أَمْوَالَهُمْ مُعَبِّرًا عَنْهُمْ بِاسْمٍ مِنْ أَقْبَحِ الْأَسْمَاءِ

فَقَالَ {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وَالْمَالُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِلسُّفَهَاءِ لَكِنْ لِكَوْنِهِ فِي تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْحُكَّامِ نُسِبَ إلَيْهِمْ مَجَازًا، وَقِيلَ نَهْيٌ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْمِدَ إلَى مَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَالِ فَيُعْطِي امْرَأَتَهُ، وَأَوْلَادَهُ ثُمَّ يَنْطُرُ إلَى أَيْدِيهِمْ ثُمَّ سَمَّاهُمْ سُفَهَاءَ اسْتِخْفَافًا بِعَقْلِهِمْ وَاسْتِهْجَانًا لِجَهْلِهِمْ لِجَعْلِهِمْ قُوَّامًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَالَهُ الْقَاضِي (وَذَمَّ فِرْعَوْنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] وَ) ذَمَّ (قَوْمَ لُوطٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] لَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الْمُرَادُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَتَأَمَّلْهُ. (وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» بِإِنْفَاقِهِ فِي غَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ (وَيَكْفِي الْعَاقِلَ) فِي كَمَالِ قُبْحِهِ وَالِانْزِجَارِ عَنْهُ (مَا خَرَّجَهُ ت عَنْ أَبِي بَرْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ» عَنْ مَوْقِفِهِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلَا يَذْهَبُ لِجَنَّةٍ أَوْ نَارٍ «حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ» فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالْقِيَاسُ كَوْنُ الْأَلِفِ مَحْذُوفَةً، وَلَكِنَّ الرَّاوِيَةَ وُجِدَتْ هَكَذَا، وَأَبْقَاهَا الْمُحَدِّثُونَ عَلَى حَالِهَا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» «، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ» مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَامٍ «، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ» فِي طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ «، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ» أَيْ أَفْنَاهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ أَوْ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَفِي رِضَا رَبِّهِ أَوْ هَوَى نَفْسِهِ لَا بُدَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مِنْ تَأَمُّلٍ ثُمَّ لَعَلَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ، وَإِلَّا فَنَحْوُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» يُعَارِضُهُ فَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ لِكُلِّ سَالِكٍ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ لِيَخِفَّ حِسَابُهُ وَيَسْهُلَ جَوَابُهُ فَإِنَّ كُلَّ آنٍ مِنْ آنَاءِ الْعُمُرِ جَوْهَرٌ لَا قِيمَةَ لَهُ لِكَوْنِهِ أَصْلَ مَالِ بِضَاعَةِ النِّعَمِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلَوْ ضَاعَ دَقِيقَةٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا، وَلَوْ جَمَعَ الْمُلُوكُ عَسَاكِرَهُمْ وَبَذَلُوا خَزَائِنَهُمْ وَصَرَفُوا وُسْعَهُمْ، وَأَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ وَظِيفَةً فَلَوْ تُرِكَ وَظِيفَةُ هَذَا لَا يُوجَدُ وَقْتٌ خَالٍ حَتَّى يُقْضَى فِيهِ فَالِاهْتِمَامُ بِهِ لَيْسَ كَالِاهْتِمَامِ بِأَشْرَفِ مَتَاعِ الدُّنْيَا كَالدَّنَانِيرِ فَالْعَاقِلُ لَا يُخْرِجُ دَقِيقَةً مِنْ عُمُرِهِ بِلَا طَاعَةٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا فَكُلُّ حَرَكَةٍ ظَهَرَتْ مِنْك بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَهِيَ عَلَيْك لَا لَك فَأَدْوَمُ النَّاسِ عَلَى الذِّكْرِ أَوْفَرُهُمْ حَظًّا، وَأَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً، وَأَشْرَفُهُمْ مَنْزِلَةً ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ الذِّكْرِ مُطْلَقُ مَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَيِّ طَاعَةٍ وَحَسَنَةٍ. (وَمِنْ الدَّلَائِلِ) الدَّالَّةِ (عَلَى مَذْمُومِيَّتِهِ) أَيْ الْإِسْرَافِ (جِدًّا حُرْمَةُ الرِّبَا الَّذِي هُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ) لَا يَخْفَى أَنَّ أَدِلَّةَ الْإِسْرَافِ فِي النُّصُوصِ أَظْهَرُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُرْمَةِ، وَأَكْثَرُ فِي التَّكَرُّرِ، وَقَدْ قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ ثُبُوتِ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ وَكَذَا ثُبُوتُ الْأَوْسَطِ

المبحث الثاني العلة الخفية والسبب الأصلي في ذم الإسراف

لِلْأَصْغَرِ أَظْهَرُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَكْبَرِ لِلْأَصْغَرِ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ مَثَلًا كَالتَّعْرِيفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُعَرَّفِ (إذْ عِلَّتُهَا) أَيْ عِلَّةُ حُرْمَةِ الرِّبَا (فِي الْحَقِيقَةِ) ؛ لِأَنَّهَا فِي الظَّاهِرِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ الضَّيَاعِ فِي الْمُبَايَعَاتِ لَكِنَّ الضَّيَاعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِوَضَيْنِ) الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ (صُورَةً وَمَعْنًى مَعَ زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا) يَشْكُلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْعِلَّةُ تِلْكَ الصِّيَانَةَ يَتَحَقَّقُ مُطْلَقًا فَلَوْ قُيِّدَ بِذَلِكَ الشَّرْطِ لَفُهِمَ أَنَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ تَعَبُّدِيٌّ. وَ (الْأَوَّلُ) أَيْ اتِّحَادُ الصُّورَةِ (بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالثَّانِي) أَيْ الِاتِّحَادُ مَعْنًى (بِاتِّحَادِ الْقَدْرِ أَعْنِي الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ (فَقِيلَ الْعِلَّةُ الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ تَيْسِيرًا) لِلنَّاسِ فِي الْفَهْمِ. (فَغَوَائِلُ الْإِسْرَافِ) عَشَرٌ (مُشَارَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَفِرْعَوْنُ، وَقَوْمُ لُوطٍ، وَعَدَمُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ) كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ (وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ) قَبْلَ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 279] أَيْ إنْ لَمْ تَتْرُكُوا الزِّيَادَةَ، وَلَمْ تُقِرُّوا بِتَحْرِيمِ الرِّبَا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] إذْ الْحَرْبُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْبُغْضِ أَقُولُ فَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ فَغَوَائِلُ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُجْعَلَ كَعَطْفِ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ، وَعَدَمُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَازِمًا مِنْهُ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ (وَتَسْمِيَتُهُ إيَّاهُ سَفِيهًا) قِيلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] (وَاسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ) ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ يُوجِبُ ذَلِكَ (فِي الْآخِرَةِ، وَ) اسْتِحْقَاقُ (الذِّلَّةِ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَالِاحْتِيَاجُ) إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ ذَهَابِ مَالِهِ (وَالنَّدَامَةُ فِي الدُّنْيَا) لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَسَارَةِ. [الْمَبْحَثُ الثَّانِي الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ وَالسَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي ذَمِّ الْإِسْرَاف] (الْمَبْحَثُ الثَّانِي) . (فِي السِّرِّ) الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ (وَالسَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي مَذْمُومِيَّتِهِ هُوَ أَنَّ الْمَالَ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ) بِالصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَحَاوِيجِ كَمَا فِي حَدِيثِ «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَالِيَّةَ نَوْعٌ مُسْتَقِلٌّ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ (إذْ بِهِ يَنْتَظِمُ الْمَعَاشُ وَالْمَعَادُ وَبِهِ صَلَاحُ الدَّارَيْنِ وَسَعَادَةُ الْحَيَاتَيْنِ) فِي الدُّنْيَا بِإِغْنَائِهِ الْخَلْقَ وَالْآخِرَةِ بِقُرْبِهِ مِنْ الْحَقِّ إذْ السُّؤَالُ إذْلَالُ النَّفْسِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ وَذَلِكَ فِي الذِّلَّةِ لِغَيْرِ مَوْلَاهُ (وَبِهِ) أَيْ بِالْمَالِ (يَحُجُّ) ، وَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ (وَبِهِ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ) الَّذِي هُوَ سَنَامُ الدِّينِ وَيُعِزُّ بِهِ كَلِمَةَ اللَّهِ الْعُلْيَا وَيُبْقِي شَرِيعَةَ اللَّهِ تَعَالَى الْوُثْقَى (وَبِهِ قِوَامُ الْبَدَنِ، وَقِيَامُهُ الَّذِي هُوَ مَطِيَّةُ الْفَضَائِلِ وَآلَةُ الطَّاعَاتِ) وَمَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الْعِبَادَةِ فَعِبَادَةٌ (إذْ بِهِ يَحْصُلُ الْغِذَاءُ وَاللِّبَاسُ وَالْمَسْكَنُ)

وَالْمَنْكَحُ وَضَرُورَاتُ الْمَعِيشَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَاجَاتِ إذَا لَمْ تَتَيَسَّرْ كَانَ الْقَلْبُ مُنْصَرِفًا إلَى تَدْبِيرِهَا فَلَا يَتَفَرَّغُ لِلدِّينِ (وَبِهِ يُصَانُ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ) ، وَقَدْ عَرَفْت آنِفًا (وَبِهِ يُنَالُ دَرَجَاتُ الْمُتَصَدِّقِينَ) بَلْ يَلْحَقُ بِهِمْ الَّذِينَ لَهُمْ قُرْبَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ تَعَالَى (وَبِهِ يُوصَلُ الرَّحِمُ) الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْفَضَائِلِ (وَبِهِ يُدْفَعُ حَاجَاتُ الْفُقَرَاءِ) الْمُحْتَاجِينَ؛ وَلِقَضَاءِ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَوَائِدُ جَمَّةٌ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ (وَيَقْضِي دُيُونَهُمْ) فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَوْنِ الْبِرِّ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (وَيُذْهِبُ هُمُومَهُمْ) الَّتِي تُهَيِّئُ لِلْوُصُولِ (وَغُمُومَهُمْ) الَّتِي قَدْ وَقَعَتْ وَمَنْ سَرَّ مُؤْمِنًا فَقَدْ سَرَّ اللَّهَ تَعَالَى (وَيُسَلِّي قُلُوبَهُمْ) مِنْ مُضَايَقَةِ الْفَقْرِ، وَأَفْكَارِ الدَّيْنِ وَمِنْ خَوْفِ نَفَقَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ (وَبِهِ يَحْصُلُ نَفْعُ النَّاسِ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ) الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءُ بَيْتٍ لِلَّهِ، وَإِعَانَةٌ لِلْخَلْقِ عَلَى أَفْضَلِ طَاعَاتِهِمْ، وَأَقْرَبِ قُرُبَاتِهِمْ وَقَدْ جَاءَ «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» (وَالْمَدَارِسِ) ، وَإِنْ كَانَتْ بِدْعَةً لَكِنْ قَدْ عَرَفْت سَابِقًا مِنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهَا مِنْ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ بَلْ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ لِإِعَانَتِهَا عَلَى أَفْضَلِهَا وَهُوَ الْعِلْمُ مُطْلَقًا (وَالرِّبَاطَاتِ) لِسُكْنَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَرَامِلِ وَالْيَتَامَى، وَإِجْرَاءِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ (وَالْقَنَاطِرِ) عَلَى الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ (وَسَدِّ الثُّغُورِ) أَيْ مَوَاضِعِ الْمَخَافَةِ مِنْ هُجُومِ الْأَعْدَاءِ قِيلَ وَدَارِ الْمَرْضَى وَنَصْبِ الْجِبَابِ فِي الطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَافِ الْمُرْصَدَةِ لِلْخَيْرَاتِ، وَهِيَ مِنْ الْخَيْرَاتِ الْمُؤَبَّدَةِ الدَّرَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ الْمُسْتَجْلِبَةِ لِبَرَكَةِ أَدْعِيَةِ الصَّالِحِينَ إلَى أَوْقَاتٍ مُتَمَادِيَةٍ وَنَاهِيك بِهِ خَيْرًا فَهَذِهِ جُمْلَةُ فَوَائِدِ الْمَالِ فِي الدِّينِ سِوَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ مِنْ الْخَلَاصِ مِنْ حَقَارَةِ الْفَقْرِ وَالْوُصُولِ إلَى الْعِزِّ وَالْمَجْدِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَكَثْرَةِ الْإِخْوَانِ وَالْأَعْوَانِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَالْوَقَارِ وَالْكَرَامَةِ فِي الْقُلُوبِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمَالُ مِنْ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ أَوْصَافٌ مَادِحَةٌ لِلْمَالِ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْقُرْآنِ خَيْرًا، وَقَدْ عَلِمْت آفَاتِ الْمَالِ وَغَوَائِلَهُ قُلْت قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِبَيَانِ آفَاتِ الْمَالِ، وَفَوَائِدِهِ. اعْلَمْ أَنَّ الْمَالَ مِثْلُ حَيَّةٍ فِيهَا سُمٌّ وَتِرْيَاقٌ فَمَنْ عَرَفَ فَوَائِدَهَا وَغَوَائِلَهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ شَرِّهَا وَيَسْتَدِرَّ مِنْ خَيْرِهَا أَمَّا الْفَوَائِدُ فَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ؛ وَلِهَذَا يَتَهَالَكُونَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الدِّينِيَّةُ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ الْأَوَّلُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ إمَّا فِي الْعِبَادَاتِ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ أَوْ فِي الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ كَالْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَنْكَحِ وَضَرُورَاتِ الْمَعِيشَةِ، وَإِنَّمَا حُظُوظُ الدُّنْيَا مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا مِنْ التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ. الثَّانِي: مَا يَصْرِفُهُ إلَى النَّاسِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا الصَّدَقَةُ وَثَانِيهَا الْمُرُوءَةُ كَالضِّيَافَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْإِعَانَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الدِّينِيَّةِ إذْ بِهِ يَكْتَسِبُ الْإِخْوَانَ وَالْأَصْدِقَاءَ، وَصِفَةُ السَّخَاءِ وَالْجُودِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةِ فَفِيهَا مَثُوبَاتٌ أَيْضًا وَثَالِثُهَا وِقَايَةُ الْعِرْضِ كَدَفْعِ هَجْوِ الشَّاعِرِ أَوْ سَبِّ السُّفَهَاءِ، وَقَطْعِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَفَائِدَتُهَا دِينِيَّةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ فِي وِقَايَةِ الْعِرْضِ مَنْعَ الْمُغْتَابِ وَدَفْعَ آفَةِ الِانْتِقَامِ وَرَابِعُهَا الِاسْتِخْدَامُ إذْ الْإِنْسَانُ لَوْ تَوَلَّى جَمِيعَ مَصَالِحِهِ لَضَاعَتْ أَوْقَاتُهُ كَشِرَاءِ الطَّعَامِ وَطَبْخِهِ وَكَنْسِ الْبَيْتِ حَتَّى نَسْخِ الْكِتَابِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَالٍ يَدْفَعُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْحَوَائِجِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ الْخَيْرُ لِلْعَامَّةِ كَبِنَاءِ نَحْوِ الْمَسَاجِدِ، وَهِيَ مِنْ الْخَيْرَاتِ الْمُؤَبَّدَةِ هَذِهِ هِيَ الدِّينِيَّةُ مَعَ مَا فِي الْمَالِ مِنْ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ مِنْ الْخَلَاصِ مِنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَحَقَارَةِ الْفَقْرِ وَالْوُصُولِ إلَى الْعِزِّ وَالْمَجْدِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَكَثْرَةِ الْإِخْوَانِ وَالْأَعْوَانِ وَالْكَرَامَةِ وَالْوَقَارِ، وَأَمَّا الْآفَاتُ فَإِمَّا دِينِيَّةٌ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَشْعَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ الْمَعَاصِي فَإِنْ اقْتَحَمَ ذَلِكَ هَلَكَ، وَإِنْ صَبَرَ وَقَعَ فِي شِدَّةٍ. الثَّانِي أَنَّهُ يَجُرُّ إلَى التَّنَعُّمِ فِي الْمُبَاحَاتِ ثُمَّ يَأْلَفُهُ ثُمَّ يَجُرُّ الْبَعْضَ إلَى الْبَعْضِ حَتَّى لَا يَكْفِيَهُ الْحَلَالُ فَيَقْتَحِمَ الشُّبُهَاتِ فَيَدْعُوَ إلَى الرِّبَا فَضْلًا عَنْ الشُّبُهَاتِ وَالْمُدَاهَنَةِ وَالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ تُؤْذِي. الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَحَدٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ خُسْرَانٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ

وَأَمَّا آفَاتُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَالْخَوْفُ وَالْحُزْنُ وَالْهَمُّ وَالتَّعَبُ فِي دَفْعِ الْحُسَّادِ وَتَجَشُّمِ الْمَصَاعِبِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَكَسْبِهَا فَإِذَنْ تِرْيَاقُ الْمَالِ أَخْذُ الْقُوتِ مِنْهُ وَصَرْفُ الْبَاقِي إلَى الْخَيْرَاتِ وَمَا عَدَاهُ سَمُومٌ وَآفَاتٌ. انْتَهَى. فَقَدْ عَلِمْت مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ كَوْنَ الْمَالِ خَيْرًا مِنْ جِهَةٍ وَآفَةً مِنْ جِهَةٍ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَتَّصِفُ بِالضِّدَّيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ (وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْكَسْبَ لِأَجْلِ التَّصَدُّقِ) فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ الْبَابِ الثَّانِي (أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ) لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ مُتَعَدٍّ وَنَفْعَ ذَلِكَ قَاصِرٌ (وَبِهِ) أَيْ بِالْكَسْبِ لِذَلِكَ (يُحَصِّلُ أَفْضَلَ الْمَنَازِلِ) فِي الْجَنَّةِ (ت عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا، وَعِلْمًا» نُقِلَ الْحَدِيثُ عَنْ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ، وَهُوَ «ثَلَاثٌ أُقْسِمَ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةٌ صَبَرَ عَلَيْهَا إلَّا زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ مَسْأَلَةً إلَّا فَتَحَ لَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى» إلَخْ (فَهُوَ) أَيْ ذَلِكَ الْعَبْدُ (يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ) بِأَنْ يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ وَيُؤَدِّيَ حُقُوقَ مَالِهِ (وَيَصِلَ فِيهِ) أَيْ الْمَالِ (رَحِمَهُ) وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا (وَيَعْمَلَ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا) يُجَازَ بِهِ (بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ) الرَّفِيعَةِ فِي الْجَنَّةِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْمَالِ وَالْعِلْمِ وَجَوَّزَهُ لِفَضْلِهِمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَآخِرُ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا تَخَبَّطَ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَمْ يَتَّقِ فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ مِنْهُ رَحِمَهُ وَلَا يَعْمَلُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا، وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ» ثُمَّ إنَّ قَطْعَ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ مِنْ آخِرِهِ قَدْ مَنَعَ بَعْضٌ مُطْلَقًا وَجَوَّزَ بَعْضٌ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ارْتِبَاطُ الْمَذْكُورِ لِلْمَتْرُوكِ نَعَمْ وَإِلَّا لَا، لَعَلَّ هُوَ الْمُخْتَارُ فَافْهَمْ. وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ ظَاهِرٌ إذْ لَا أَفْضَلَ مِنْ الْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إلَى الْمَقَامِ الرَّفِيعِ. (خ م عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ» يَعْنِي لَا تَكُونُ الْغِبْطَةُ مَمْدُوحَةً إلَّا فِي حَقِّ رَجُلَيْنِ لَيْسَ هَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمُحَرَّمُ بَلْ بِمَعْنَى الْغِبْطَةِ، وَهُوَ تَمَنِّي مِثْلِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ إرَادَةِ الزَّوَالِ عَنْهُ قِيلَ لَا بَأْسَ فِيهِ، وَقِيلَ مَرْضِيٌّ إذَا كَانَ الْمُتَمَنَّى مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَطَلَبِ الْمَالِ لِلْإِنْفَاقِ فِي الْخَيْرِ وَالْعِلْمِ لِلْعَمَلِ وَالْإِرْشَادِ، وَعَنْ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغْبَطَ إلَّا عَلَى هَذَيْنِ «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ» أَيْ الْعِلْمَ النَّافِعَ وَدَوَامَ الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ، وَقِيلَ أَيْ الْعِلْمُ الْمَصْحُوبُ بِنَفَاذِ الْبَصِيرَةِ وَنُورِ السَّرِيرَةِ «فَهُوَ يَقْضِي بِهِ» بِمُقْتَضَاهُ «وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ» بِفَتَحَاتٍ كَغَلَبَةٍ بِمَعْنَى إهْلَاكِهِ «فِي» طَرِيقِ «الْحَقِّ» فَمَا يَكُونُ مَحْسُودًا شَرْعًا لَا يَكُونُ إلَّا مَمْدُوحًا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ - {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]

خُصُوصًا عِنْدَ مَنْ قَالَ الْقِرَانُ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ (وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» وَصَلَاحُهُ بِصَرْفِهِ عَلَى الْمَحَاوِيجِ كَمَا فُصِّلَ قَرِيبًا وَبَعِيدًا. «وَدَعَا) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لِأَنَسِ) بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (وَكَانَ فِي آخِرِ دُعَائِهِ» الطَّوِيلِ كَمَا قِيلَ «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ» فَلَوْلَا فَضْلُ الْمَالِ لَمَا دَعَا بِهِ وَالْحَدِيثُ قِيلَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَقِيلَ فِي مُسْلِمٍ فَيَكُونُ مِمَّا اتَّفَقَا عَلَيْهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَعْزِ بِهِ إلَيْهِمَا أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَعَادَتِهِ فِي سَائِرِهِ لَعَلَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ وَكَانَ أَنَسٌ يَخْدُمُ لَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَعَاشَ مِائَةً وَسِتِّينَ سَنَةً وَتُوُفِّيَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالْعُمُرِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَأَطِلْ حَيَاتَهُ وَوُلِدَ مِنْ صُلْبِهِ مِائَةٌ وَسِتَّةُ أَوْلَادٍ كَذَا فِي الْوَسِيلَةِ، وَلَمْ يَعْزِهِ إلَى كِتَابٍ لَكِنْ قَالَ كَمَا حَقَّقَهُ الْمُحَقِّقُونَ فَإِمَّا ضَعِيفٌ أَوْ رِوَايَةٌ أُخْرَى قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَسٍ لِعِلْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِنُورِ الْمُعْجِزَةِ أَمْنَهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. أَقُولُ الْأَصْلُ هُوَ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَا يُرْتَكَبُ إلَّا بِضَرُورَةٍ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْبُسْتَانِ اُخْتُلِفَ هَلْ الْأَفْضَلُ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ أَوْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ فَقِيلَ بِالْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] ، وَإِلَّا لَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَحْسَنَ الْغِنَى مَعَ التُّقَى» ؛ وَلِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا أَكْرَمَكُمْ كَرَمُكُمْ وَشَرَّفَكُمْ غِنَاكُمْ، وَعَنْ بَعْضٍ الْفَقْرُ فِي أَوْطَانِنَا غُرْبَةٌ ... وَالْمَالُ فِي الْغُرْبَةِ أَوْطَانُ ، وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ الْغَنِيُّ التَّقِيُّ يُضَاعَفُ لَهُ الْأَجْرُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَجْمَعُ الْمَالَ لِيَصِلَ بِهِ رَحِمَهُ مِنْ حِلِّهِ وَيُخْرِجَ مِنْهُ حَقَّهُ وَيَصُونَ بِهِ عِرْضَهُ، وَقِيلَ بِالثَّانِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7] لِحَمْلِ الْمَالِ عَلَى الطُّغْيَانِ؛ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] فَدَلَّ أَنَّ الْفُقَرَاءَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْفَقْرُ وَالْجِهَادُ حِرْفَتِي وَمَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي» لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ مَنْ أَحَبَّنِي فَارْزُقْهُ الْعَفَافَ وَالْكَفَافَ وَمَنْ أَبْغَضَنِي فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ» . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ كَرِيمًا عِنْدَ اللَّهِ، وَعَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْفَقْرُ مَشَقَّةُ الدُّنْيَا مَيْسَرَةُ الْآخِرَةِ؛ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا» الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ الْفَقْرُ أَفْضَلُ مِنْ الْغِنَى، وَلَكِنْ لَا عَيْبَ فِي الْغِنَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَغْنِيَاءُ كَثِيرًا فِي زَمَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَرْكِهِ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ عَلَى صَاحِبِهِ عِنْدَ فِعْلِهِ خِلَافَ مَا أُمِرَ بِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي زَمَانِهِمْ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَالْفَقْرُ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِ غَالِبِ أَمْوَالِهِمْ الْحَرَامَ أَوْ الشُّبْهَةَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. أَقُولُ قَدْ سَمِعْت مِرَارًا فَارْجِعْ لَكِنَّ قَوْلَهُ لِكَوْنِ غَالِبِ أَمْوَالِهِمْ إلَخْ خَارِجٌ عَنْ نَظَرِ الْمَقَامِ وَدَعْوَى عُمُومِ الْأَشْخَاصِ مُكَابَرَةٌ وَسُوءُ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِينَ وَبِالْجُمْلَةِ إنْ أُرِيدَ عُمُومُ الْأَفْرَادِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ يَعْنِي الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، وَأَنَّ النَّاقِصَ فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ وَدَعْوَى ظَنِّيَّةِ الْمَطْلُوبِ، وَأَنَّ الْفَرْدَ مُلْحَقٌ بِالْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ

وَإِنْ لَزِمَ الْخَصْمُ لَكِنْ لَا يُفِيدُ فِي مَقَامِ التَّحْقِيقِ فَتَأَمَّلْ. «وَقَالَ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لِكَعْبٍ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك فَهُوَ خَيْرٌ لَك» مِنْ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهِ كُلَّهُ لِمَعَاشِك وَلِخَلَاصِك مِنْ نَحْوِ ذُلِّ السُّؤَالِ (حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ) لَمَّا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ، وَإِنَّ مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ (وَكُلُّ هَذِهِ) الْأَحَادِيثِ (فِي) الْأَحَادِيثِ (الصِّحَاحِ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْمَالَ خَيْرًا) فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ (وَامْتَنَّ عَلَى حَبِيبِهِ بِهِ حَيْثُ قَالَ {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أَيْ بِمَالِ خَدِيجَةَ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ) الْمَذْكُورَةِ فِي تَفْسِيرِهِ يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِمَا قَالُوا إنَّهُ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ (وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْمَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ سِلَاحٌ) يُدْفَعُ بِهِ شَرُّ الْأَعْدَاءِ وَيُعَانُ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ فَإِنَّ بِالْمَالِ يُنْتَصَرُ عَلَى الْعَدُوِّ وَيُنْصَرُ دِينُ اللَّهِ وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إذْلَالِ أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَقَمْعِ شَوْكَتِهِمْ وَبِهِ يُوقَعُ الْهَيْبَةُ (عَرْضُهُ) مَنْ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ. (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَطْلُبُ الْمَالَ) حَتَّى (يَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ وَيَصُونَ) بِهِ ذُلَّ الْفَاقَةِ وَشَمَاتَةَ الْأَعْدَاءِ كَمَا قِيلَ الْعِلْمُ وَالْمَالُ يَسْتُرَانِ كُلَّ عَيْبٍ وَالْفَقْرُ وَالْجَهْلُ يَكْشِفَانِ كُلَّ عَيْبٍ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَلَمْ تَرَيَا أَنِّي مُقِيمٌ بِبَلْدَةٍ ... مَرَاتِبُ أَهْلِ الْفَضْلِ فِيهَا مَجَاهِلُ فَكَامِلُهُمْ مِنْ قِلَّةِ الْمَالِ نَاقِصٌ ... وَنَاقِصُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الْمَالِ كَامِلُ (فَإِنْ مَاتَ تَرَكَهُ مِيرَاثًا لِمَنْ بَعْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْحَافِظُ الصِّدِّيقُ الْحَنْبَلِيُّ مِنْ نُقَّادِ الْمُحَدِّثِينَ (مَتَى صَحَّ الْقَصْدُ) وَالنِّيَّةُ (فَجَمْعُ الْمَالِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ) قِيلَ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ. أَقُولُ لَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ فَمَا لَمْ يَصِحَّ الْقَصْدُ لَا يَكُونُ الْغَنِيُّ شَاكِرًا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْفَتَاوَى هَلْ التَّقَاعُدُ لِلْعِبَادَةِ وَالتَّفَرُّغُ لَهَا أَفْضَلُ أَوْ الِاكْتِسَابُ بِنِيَّةِ التَّصَدُّقِ (وَمَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْمَالِ وَالدُّنْيَا) الْمَذْكُورُ بَعْضُهُ مِنْ الْآيَاتِ وَالسُّنَنِ وَكَلَامِ السَّلَفِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ هُوَ الْآيَاتُ وَالسُّنَنُ فَمَا وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِكَلَامِ السَّلَفِ؟ . قُلْنَا كَلَامُ السَّلَفِ إنَّمَا لَا يَصْلُحُ احْتِجَاجًا إذَا كَانَ اسْتِقْلَالًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي تَأْيِيدِ نَصٍّ فَلَا عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْتِهَاءً لِأَخْذِهِ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً أَوْ عِنْدَ كَوْنِ الْمَطْلُوبِ ظَنِّيًّا قَدْ يُحْتَجُّ بِهِ غَايَتُهُ أَنَّهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْخَطَابِيَّةِ الْمَقْبُولَةِ كَمَا مَرَّ (رَاجِعٌ إلَى صِفَتِهِ الضَّارَّةِ، وَهِيَ) أَيْ الصِّفَةُ الضَّارَّةُ (الْإِطْغَاءُ) أَيْ جَعْلُ صَاحِبِهِ طَاغِيًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7] (وَالْإِنْسَاءُ) مِنْ النِّسْيَانِ لِغَلَبَةِ الْحُبِّ (وَالْإِلْهَاءُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

المبحث الثالث للإسراف في أصناف الإسراف

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] (وَعَنْ الْمَوْتِ وَالْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ) الضَّارَّةُ (غَالِبَةٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَالِ (قَلَّمَا يَنْفَكُّ صَاحِبُهُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الضَّارَّةِ (فَلِذَلِكَ كَثُرَ الذَّمُّ) لِلْمَالِ وَالدُّنْيَا (فَلِلْمَالِ جِهَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ خَيْرٌ وَشَرٌّ فَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ حَقَّانِ فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ نِعْمَةً عَظِيمَةً فَإِسْرَافُهُ اسْتِحْقَارٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِهَانَةٌ لَهَا، وَإِضَاعَةٌ وَكُفْرَانٌ بِهَا وَتَرْكٌ لِشُكْرِهَا فَيَسْتَوْجِبُ الْمَقْتَ وَالْبُغْضَ وَالْعِتَابَ وَالْعَذَابَ مِنْ مُعْطِيهَا) ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى (وَ) يَسْتَوْجِبُ (سَلْبَهَا) أَيْ سَلْبَ النِّعْمَةِ (وَإِزَالَتَهَا عَنْ مَحَلِّهَا) ، وَهُوَ الْعَبْدُ (لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ قَدْرَهَا، وَ) عَدَمِ (رِعَايَتِهِ حَقِّهَا كَمَا أَنَّ شُكْرَهَا وَحِفْظَهَا عَمَّا ذُكِرَ) مِنْ الْبُخْلِ وَالْإِسْرَافِ أَوْ مِنْ الِاسْتِحْقَارِ وَالْإِهَانَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ الْأَنْسَبُ (يَسْتَوْجِبُ ثَبَاتَهَا وَزِيَادَتَهَا) عَلَى الشَّاكِرِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] قِيلَ هُنَا وَالْخِطَابُ، وَإِنْ كَانَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَحْرَى بِحَوْزِ الْكَمَالَاتِ مِنْهُمْ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ بَلْ الْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ أَنْ يُبْتَنَى عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ بِلَا نَكِيرٍ. [الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ لِلْإِسْرَافِ فِي أَصْنَافِ الْإِسْرَافِ] (الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) لِلْإِسْرَافِ (فِي أَصْنَافِ الْإِسْرَافِ) لَمَّا أَثْبَتَ مَذْمُومِيَّةَ الْإِسْرَافِ وَحُرْمَتَهُ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَحَصَلَ لِلسَّالِكِ نَفْرَةٌ مِنْهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَصْنَافَهُ لِيُمْكِنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. (اعْلَمْ أَنَّ الْإِسْرَافَ إهْلَاكُ الْمَالِ وَإِضَاعَتُهُ، وَإِنْفَاقُهُ) قِيلَ الْأَوْلَى، وَإِنْفَاذُهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَحَلَّ الْقَافِ لِمَا أَنَّ الْإِنْفَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْخَيْرِ. انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ فَافْهَمْ (مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ مُعْتَدٍّ بِهَا) قُيِّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ لَا يَصْدُرُ عَنْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ إلَّا بَعْدَ التَّحْقِيقِ بِفَائِدَةٍ مَا، وَلَكِنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهَا يُقَالُ لَهُ فِي الْمَالِ إسْرَافٌ، وَفِي غَيْرِهِ عَبَثٌ (دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ مُبَاحَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ إنْفَاقِهِ بِفَائِدَةٍ مُعْتَدَّةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ غَيْرِ مُبَاحَةٍ فِي الشَّرْعِ كَإِنْفَاقِهِ فِي الثِّيَابِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةِ (فَمِنْهُ) مِنْ الْإِسْرَافِ (ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ) يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ (كَإِلْقَاءِ الْمَالِ فِي الْبَحْرِ وَالْبِئْرِ وَالنَّارِ وَنَحْوِهَا) مِنْ الْمُتْلِفَاتِ كَصَبِّ الدِّبْسِ وَالزَّيْتِ عَلَى الْأَرْضِ (مِمَّا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيهِ وَخَرْقِهِ وَكَسْرِهِ، وَقَطْعِهِ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ)

قِيلَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مَعَ مَا ذُكِرَ انْتِفَاعٌ مَا بِهِ لَمْ يَكُنْ إسْرَافًا لِحُصُولِ النَّفْعِ مَعَ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ (وَكَعَدِمِ اجْتِنَاءِ الثِّمَارِ) أَيْ أَخْذِهَا مِنْ الشَّجَرِ وَجَمْعِهَا (وَالزُّرُوعِ) مِنْ الْأَرْضِ (حَتَّى تَهْلِكَ وَتَفْسُدَ، وَعَدَمِ إيوَاءِ الْمَوَاشِي) أَيْ ضَمِّهَا جَمْعُ مَاشِيَةٍ هِيَ نَحْوُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ (وَالْأَرِقَّاءِ) جَمْعُ رَقِيقٍ (دَارًا) تُحَصِّنُهَا (أَوْ نَحْوَهَا) مِمَّا يُصَانُ فِيهِ عَادَةً مِنْ التَّلَفِ (فِي مَوْضِعٍ يُخَافُ فِيهِ) مِنْ الْهَلَاكِ (وَعَدَمِ الْإِطْعَامِ وَالْإِلْبَاسِ حَتَّى يَهْلِكَ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ أَوْ الْجُوعِ وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِسْرَافِ (مَا فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ يَحْتَاجُ إلَى تَنْبِيهٍ وَتَذْكِيرٍ) لِمَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ الْإِسْرَافِ (كَعَدَمِ تَعَهُّدِهِ) تَفْتِيشِ أَحْوَالِهِ (بَعْدَ جَمْعِهِ وَحِفْظِهِ) فِي مَكَان (حَتَّى يَتَعَفَّنَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوُصُولِ رُطُوبَةٍ) أَرْضِيَّةٍ (أَوْ بَلَلٍ أَوْ نَحْوِهَا) مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِتَلَفِهِ كَمَنْ جَمَعَ بَصَلَهُ وَزَرْعَهُ وَبِطِّيخَهُ، وَعَدَسَهُ وَشَعِيرَهُ وَحِنْطَتَهُ وَغَيْرَهَا وَأَصَابَهَا بَلَلُ مَاءٍ وَنَحْوُهُ فَهَلَكَتْ وَضِيعَتْ (أَوْ) حَتَّى (يَأْكُلَهُ السُّوسُ) هُوَ دُودُ الْحَبِّ وَالْفَوَاكِهِ (أَوْ الْفَأْرَةُ) عَنْ الْمِصْبَاحِ يُهْمَزُ، وَلَا يُهْمَزُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (أَوْ النَّمْلُ أَوْ نَحْوُهَا) مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ وَالْحَشَرَاتِ (وَأَكْثَرُ وُقُوعِ هَذَا فِي الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَرَقِ وَالْجُبُنِ) بِضَمَّتَيْنِ مُشَدَّدُ النُّونِ أَوْ مُخَفَّفُهُ (وَنَحْوِهَا) مِمَّا يَتَعَفَّنُ كَالدُّهْنِ وَالسَّمْنِ وَالشَّيْرَجُ (وَفِي الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ كَالْبِطِّيخِ وَالْبَصَلِ، وَقَدْ يَقَعُ فِي الْيَابِسَةِ كَالتِّينِ وَالزَّبِيبِ وَالْمِشْمِشِ) وَالْعُنَّابِ وَالتُّوتِ. (وَقَدْ يَكُونُ) مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَسَادِ (فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهَا) كَالْمَاشِّ وَالْأَرُزِّ (وَقَدْ يَكُونُ) الْفَسَادُ (فِي الثِّيَابِ وَالْكُتُبِ وَكَصَبِّ مَا فَضَلَ مِنْ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ وَكَغَسْلِ الْقِطْعَةِ وَالْمِلْعَقَةِ وَالْيَدِ قَبْلَ اللَّعْقِ أَوْ الْمَسْحِ) بِالْيَدِ أَوْ الْخُبْزِ (فَالْأَكْلُ) عَقِيبَهُ يَعْنِي أَنَّ غَسْلَ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَ وُجُودِ اللَّعْقِ، وَقَبْلَ وُجُودِ الْمَسْحِ بِالْيَدِ أَوْ الْخُبْزِ بَعْدَهُ سَوَاءٌ لَمْ يُوجَدْ الْمَسْحُ أَوْ وُجِدَ، وَلَمْ يُوجَدْ الْأَكْلُ بَعْدَهُ يَكُونُ مِنْ الْإِسْرَافِ وَمَنْ قَالَ الظَّاهِرُ فِي الْأَكْلِ بَدَلٌ فَالْأَكْلُ لَمْ يُصَبَّ لِعَدَمِ انْحِصَارِهِ فِي صُورَةِ الْأَكْلِ كَمَا فِي نَقْلِ الْعَسَلِ مِنْ ظَرْفٍ إلَى ظَرْفٍ بِيَدِهِ مَثَلًا فَإِنَّ غَسْلَ يَدِهِ قَبْلَ اللَّعْقِ مِنْ الْإِسْرَافِ كَذَا قِيلَ. وَأَقُولُ كَعَدَمِ إصَابَةِ مَنْ قَالَ إنَّهُ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ، وَالظَّاهِرُ فِي الْأَكْلِ أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ إسْرَافٌ فِي الْأَكْلِ أَيْ فِي الْمَأْكُولِ، وَلَوْ لَبَنًا كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ. انْتَهَى. ثُمَّ أَقُولُ بَلْ لَا حَاصِلَ لِقَوْلِهِ فِي الْأَكْلِ إذْ الْإِسْرَافُ إنَّمَا يَنْدَفِعُ بِالْأَكْلِ بَعْدَ اللَّعْقِ وَالْمَسْحِ لَا بِمُجَرَّدِ اللَّعْقِ وَالْمَسْحِ وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّوَايَاتِ أَيْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ

(وَعَدَمِ الْتِقَاطِ مَا سَقَطَ مِنْ كِسْرَاتِ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ) كِبْرًا وَكَسَلًا كَحَبَّاتِ الْأُرْزِ وَالْعَدَسِ السَّاقِطِ، وَفِي الْبُسْتَانِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَكَلَ مَا سَقَطَ مِنْ الْمَائِدَةِ لَمْ يَزَلْ فِي سَعَةٍ مِنْ الرِّزْقِ وَوُقِيَ الْحُمْقَ عَنْهُ، وَعَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ» (مِنْ أَيْدِي الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ) مِنْ الشُّيُوخِ وَالْمُغَفَّلِينَ (عَلَى الْأَرْضِ أَوْ عَلَى سُفْرَةٍ) . قِيلَ الْإِثْمُ فِي عَدَمِ الْتِقَاطِ مَا سَقَطَ مِنْ أَيْدِي الصِّبْيَانِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَفِي غَيْرِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَكَذَا الْإِثْمُ عَلَى الْأَضْيَافِ فِي طَعَامِ الضِّيَافَةِ لَا عَلَى صَاحِبِهَا. أَقُولُ لَيْسَ الْإِثْمُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَقَطْ بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ يَحْضُرُ عِنْدَهُمْ وَيَقْدِرُ عَلَى الِالْتِقَاطِ هَذَا ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ فِيمَا فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ بَذْلِ الْمَالِ، وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا بِبَذْلِ الْمَالِ أَوْ بِإِهْلَاكِ الْمَالِ وَجَعْلِ الْبَذْلِ أَيْ الصَّرْفِ أَعَمَّ إلَى جِنْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعَدَمِيَّاتِ بِجَعْلِ الْبَذْلِ بِمَا يَكُونُ ابْتِدَاءً أَوْ الْتِزَامًا لَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ سِيَّمَا مِثْلَ مَا سَقَطَ مِنْ يَدِ الصِّبْيَانِ خُصُوصًا بِلَا إسْقَاطٍ وَبَعْدَ هَذَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ تَعْرِيفًا بِالْأَخْفَى وَمَا سَيَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ لَهُ تَقْرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَسَيُعْلَمُ (م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ» أَيْ الْقَصْعَةِ الصَّغِيرَةِ وَجَمْعُهَا صِحَافٌ، وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ قَصْعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ، وَعَنْ الْكِسَائِيّ أَعْظَمُ الْقِصَاعِ الْجَفْنَةُ ثُمَّ الْقَصْعَةُ تَلِيهَا تُشْبِعُ الْعَشَرَةَ ثُمَّ الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الرَّجُلَ. وَفِي بُسْتَانِ أَبِي اللَّيْثِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى الَّذِينَ يَلْعَقُونَ أَصَابِعَهُمْ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «الْقَصْعَةُ تَسْتَغْفِرُ لِمَنْ يَلْعَقُهَا» ، وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ «إذَا طَعِمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَمُصَّهَا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ طَعَامٍ يُبَارَكُ لَهُ» ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ كَمَا قِيلَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْرَافِ إذْ الْإِسْرَافُ حَرَامٌ، وَتَرْكُ النَّدْبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ فَلَا تَقْرِيبَ فَانْتَظِرْ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «إنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ» صِفَةُ شَيْءٍ أَيْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ شَأْنِ أَحَدِكُمْ وَحَالِهِ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ حَالٍ وَشَأْنٍ يَصْدُرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَالشَّيْطَانُ حَاضِرٌ «حَتَّى يَحْضُرَهُ» أَيْ الشَّيْطَانُ كُلَّ أَحَدٍ «عِنْدَ طَعَامِهِ» لِيَأْكُلَ مِنْ سَقَطَاتِ لُقْمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ فَظَهَرَ ضَعْفُ مَا يُقَالُ لِيَشْغَلَهُ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ «فَإِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ» قِيلَ بِضَمِّ اللَّامِ «فَلْيَأْخُذْهَا» ، وَإِلَّا فَيَأْخُذُهَا الشَّيْطَانُ وَيَأْكُلُهَا «فَلْيُمِطْ» أَيْ لِيُزِلْ بَعْدَ الْأَخْذِ «مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى» مِنْ تُرَابٍ وَسِخٍ طَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ يُمْكِنُ إزَالَتُهُ «، وَلْيَأْكُلْهَا» فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إزَالَتُهُ النَّجَسَ فَلَا يَأْكُلُهَا بَلْ يَدَعُهَا، وَقِيلَ يُطْعِمُهَا كَلْبًا أَوْ هِرَّةً لِمَا فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ أَكَلَ كِسْرَاتِ الْخُبْزِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى إلَّا فَضْلَ إطْعَامِ نَحْوِ الشَّاةِ، وَلَا يُلْقَ فِي النَّهْرِ أَوْ الطَّرِيقِ إلَّا لِأَجْلِ النَّمْلِ كَمَا فَعَلَهُ السَّلَفُ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ بَلْ لَا بُدَّ فِي جَوَازِ إطْعَامِ النَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ إلَى الْحَيَوَانِ مِنْ حُجَّةٍ وَبَيَانٍ فَإِنَّ تَبَادَرَ قَوْلُهُ يُطْعِمُهَا الْحَمْلَ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْأَكْلِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ فِي دَجَاجَةٍ نَجِسَتْ لَا طَرِيقَ لِأَكْلِهَا إلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْهِرَّةُ إلَيْهَا فَتَأْكُلَهَا نَعَمْ فِي التَّتَارْخَانِيَّة الْمَاءُ وَالدُّهْنُ إذَا، وَقَعَتْ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا فِي غَيْرِ الْبَدَنِ كَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَبَلِّ الطِّينِ وَالِاسْتِصْبَاحِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا «فَلَا يَدَعُهَا لِلشَّيْطَانِ» يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ إشَارَةِ النَّصِّ أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا يَأْكُلُهَا الشَّيْطَانُ فَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَكْلِ كَمَا أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلنِّعْمَةِ وَتَحْقِيرُهَا وَاقْتِدَاءٌ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَقِيلَ هُنَا يَعْنِي أَنَّ تَرْكَ اللُّقْمَةِ إسْرَافٌ، وَهُوَ حَرَامٌ مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ نَاشِئٌ مِنْ وَسْوَسَتِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَمَسَّ فِي مَقْصُودِ الْمَقَامِ لَكِنَّ دَلَالَةَ الْعِبَارَةِ عَلَى الْإِسْرَافِ الْمُحَرَّمِ لَا تَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَوْنِ التَّرْكِ لِأَكْلِ نَحْوِ حَيَوَانٍ فَافْهَمْ. نَعَمْ فِي الْخُلَاصَةِ وَمِنْ السَّرَفِ أَنْ يَتْرُكَ لُقْمَةً مِنْ يَدِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِتِلْكَ اللُّقْمَةِ «فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اللَّعْقَ لَا يَكُونُ فِي وَسَطِ الْأَكْلِ بَلْ فِي خِتَامِهِ قَالُوا

لِأَنَّ اللَّعْقَ فِي أَثْنَائِهِ خِلَافُ الْأَدَبِ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: أَيْضًا وَمِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا بِالْمِنْدِيلِ وَمِنْ السُّنَّةِ لَعْقُ الْقَصْعَةِ قِيلَ يَبْدَأُ فِي اللَّعْقِ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِالسَّبَّابَةِ ثُمَّ بِالْإِبْهَامِ. (م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ» عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُشَارِ إلَيْهِ آنِفًا وَتَرْكُهُ فِعْلُ الْأَعَاجِمُ وَالْجَبَابِرَةِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ وَالْأَمْرُ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ وَحَمَلَهُ الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ هُوَ فَرْضٌ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ إمَّا لَعْقُهَا أَوْ إلْعَاقُهَا فَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّدْبَ وَالْإِرْشَادَ يُبْعِدُ حُسْنَ الِاسْتِشْهَادِ بَلْ حُسْنُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ الْفَرْضِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى لَيْسَ بِمَذْهَبٍ نَعَمْ جَمْعُ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ هُوَ الْعَزِيمَةُ وَالْأَحْوَطُ لَكِنْ لَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ. ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ وَسُنَّةٌ جَمِيلَةٌ لِإِشْعَارِهِ بِعَدَمِ الشَّرَهِ فِي الطَّعَامِ وَبِالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يَحْتَاجُهُ وَالثَّلَاثُ فِيمَا يُمْكِنُ، وَإِلَّا فَيَسْتَعِينُ بِمَا يَحْتَاجُهُ مِنْ أَصَابِعِهِ ثُمَّ قَالَ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ لَعْقَ الْأَصَابِعِ اسْتِقْذَارًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَابَ قَوْمٌ أَفْسَدَ عُقُولَهُمْ التَّرَفُّهُ لَعْقَ الْأَصَابِعِ وَاسْتَقْبَحُوهُ كَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي لُعِقَ جُزْءٌ مِنْ الْمَأْكُولِ، وَإِذَا لَمْ يُسْتَقْذَرْ الْكُلُّ فَلَا يُسْتَقْذَرُ الْبَعْضُ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ قَالَ كَمَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحِسَ أَصَابِعَهُ فَقَالَ السَّامِعُ " أَيْنَ بِي ادبست " يَكْفُرُ (فَفِي اللَّعْقِ) كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ (وَأَخْذِ السَّاقِطِ) كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. (فَوَائِدُ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِسْرَافِ) ، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا قَطْعًا (وَرَفْعُ الْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ) فَهُمَا أَيْضًا كَمَا تَرَى فَلْيُتَأَمَّلْ (وَاحْتِمَالُ وُصُولِ الْبَرَكَةِ) إلَيْهِ كَمَا فِي حَدِيث إنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ (وَالِاقْتِدَاءُ بِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ) ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُهُ بَلْ عَادَتُهُ (وَالِامْتِثَالُ لِأَمْرِهِ) كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (وَرَبْطُ الْعَتِيدِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ الْحَاضِرِ عِنْدَهُ مِنْ نِعَمِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ قَدْرَهَا (وَجَلْبُ الْمَزِيدِ) فِيمَا يُسْتَقْبَلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] . (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِسْرَافِ الْخَفِيِّ (عَدَمُ الْتِقَاطِ مَا سَقَطَ مِنْ الْأُرْزِ وَالْحِمَّصِ وَنَحْوِهِمَا لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْغَسْلِ) أَيْ غَسْلِ نَحْوِ الْأُرْزِ لِتَنْحِيَةِ نَحْوِ الْحَصَى وَالتُّرَابِ (حَتَّى يُرْمَى) عَلَى الْأَرْضِ (وَيُكْنَسَ) عَلَى الْقَمَائِمِ (فَإِنْ أَطْعَمَ كِسْرَاتِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِ الدَّجَاجَةَ) كَمَا اجْتَمَعَ مِنْ الْأُرْزِ وَنَحْوِهِ كَمَا قِيلَ. أَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى الِاجْتِمَاعِ بَلْ يَحْمِلُ الدَّجَاجَةَ إلَى تِلْكَ الْحُبُوبِ الْمُتَفَرِّقَةِ (أَوْ الشَّاةَ أَوْ الْبَقَرَةَ أَوْ النَّمْلَ أَوْ الطَّيْرَ لَا يَكُونُ إسْرَافًا) لِعَدَمِ إضَاعَتِهِ بَلْ فِيهِ أَجْرٌ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ «فِي كُلِّ» أَيْ إرْوَاءٍ «ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّاءَ» تَأْنِيثُ أَحَرَّ «أَجْرٌ» عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِحَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، وَهُوَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهِ وَنُبِّهَ بِالسَّقْيِ عَلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ مِنْ الْإِطْعَامِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْسَانَ إلَى الْحَيَوَانِ

مِمَّا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَتَعْظُمُ بِهِ الْأُجُورُ، وَلَا يُنَاقِضُهُ الْأَمْرُ بِقَتْلِ بَعْضِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أُمِرْنَا بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ كَذَا فِي الْقَبْضِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَكُنْ رَحِيمًا لِنَفْسِك؛ وَلِغَيْرِك، وَلَا تَسْتَبِدَّ بِخَيْرِك فَارْحَمْ الْجَاهِلَ بِعِلْمِك وَالذَّلِيلَ بِجَاهِك وَالْفَقِيرَ بِمَالِك وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ بِشَفَقَتِك وَرَأْفَتِك وَالْعُصَاةَ بِدَعْوَتِك وَالْبَهَائِمَ بِعَطْفِك وَدَفْعِ غَضَبِك فَأَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَرْحَمُهُمْ لِخَلْقِهِ فَكُلُّ مَا تَفْعَلُهُ مِنْ خَيْرٍ دَقَّ أَوْ جَلَّ فَصَادِرٌ عَنْ صِفَةِ الرَّحْمَةِ بَادِرْ إلَى الْخَيْرِ يَا ذَا اللُّبِّ مُغْتَنِمَا ... وَلَا تَكُنْ مِنْ قَلِيلِ الْخَيْرِ مُحْتَشِمَا وَاشْكُرْ لِمَوْلَاك مَا أَوْلَاك مِنْ نِعَمٍ ... فَالشُّكْرُ يَسْتَوْجِبُ الْأَفْضَالَ وَالْكَرَمَا وَارْحَمْ بِقَلْبِك خَلْقَ اللَّهِ وَارْعَهُمُوا ... فَإِنَّمَا يَرْحَمُ الرَّحْمَنُ مَنْ رَحِمَا وَلَعَلَّك قَدْ سَمِعْت مَغْفُورِيَّةَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَرْحَمَتِهِ نَمْلَةً، وَعُمَرَ بِمَرْحَمَتِهِ عُصْفُورًا، وَأَبِي حَنِيفَةَ بِمَرْحَمَتِهِ ذُبَابًا (وَمِنْهُ عَدَمُ تَحَفُّظِ الْعِمَامَةِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّعْلِ عَمَّا يُبْلِيهِ) مِنْ الْبِلَى أَيْ مَا يُسْرِعُ بِهِ الْبِلَى (أَوْ يُحْرِقُهُ) مِنْ إلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ النَّدِيَّةِ قِيلَ مِنْهُ نَشْرُ ثِيَابِ الْكَتَّانِ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ فَإِنَّهُ يُبْلِيهَا (وَكَثْرَةُ اسْتِعْمَالِ الصَّابُونِ فِي الْغَسْلِ) زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ (وَالدُّهْنِ وَالشَّمْعِ) ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَسَلِ يَلْحَقُ بِهِ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّحْمِ (فِي السِّرَاجِ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْقَلِيلِ، وَكَذَا اسْتِعْمَالُ الْحَطَبِ وَرَاءَ الْحَاجَةِ (وَمِنْهُ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ بِالنُّقْصَانِ) عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ إجَارَةِ الْمِثْلِ (وَالشِّرَاءُ وَالِاسْتِئْجَارُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ إذَا لَمْ يُضْطَرَّ) فَإِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ (أَوْ لَمْ يَنْوِ الصَّدَقَةَ) قِيلَ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ لَعَلَّ لِكَوْنِهَا مِنْ قَبِيلِ الصَّدَقَةِ الْخَفِيَّةِ (وَنَحْوَهَا) نَحْوُ صِيَانَةِ الْعِرْضِ وَكَفِّ اللِّسَانِ وَخَوْفِ لُحُوقِ ضَرَرٍ (وَإِنْ كَانَ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ (بِطَرِيقِ الْغَبْنِ فَقَدْ وَرَدَ) فِي الْحَدِيثِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (الْمَغْبُونُ لَا مَحْمُودَ) عِنْدَ النَّاسِ (وَلَا مَأْجُورَ) عِنْدَ اللَّهِ لَعَلَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ دَلِيلِ التَّالِي مَقَامَ التَّالِي فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إسْرَافًا وَحَرَامًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَمْدُوحٍ، وَلَا مَأْجُورٍ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَحْتَسِبْ بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ فَيُؤْجَرْ، وَلَمْ يَتَحَمَّدْ إلَى بَائِعِهِ فَيُحْمَدْ لَكِنْ اسْتَرْسَلَ فِي وَقْتِ الْمُبَايَعَةِ وَاسْتَغْبَنَ فَلَمْ يَقَعْ عِنْدَ الْبَائِعِ مَوْقِعَ الْمَعْرُوفِ فَيُحْمَدْ بَلْ رَجَعَ لِنَفْسِهِ فَقَالَ خَدَعْته فَذَهَبَ الْحَمْدُ، وَلَمْ يَحْتَسِبْ فَذَهَبَ الْأَجْرُ. (وَمِنْهُ الزِّيَادَةُ فِي الْكَفَنِ كَمًّا) بِكَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ فِيهِ وَالْخَمْسَةُ فِيهَا وَيَكُونُ الْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ مِنْ الْقَرْنِ إلَى الْقَدَمِ لَا أَزْيَدَ مِنْهُ وَيَكُونُ الْقَمِيصُ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ، وَقِيلَ إلَى السَّاقِ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ بِالتَّتَبُّعِ كَذَا قِيلَ (أَوْ كَيْفًا) بِأَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا يَلْبَسُهُ فِي حَيَاتِهِ فِي الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ فِي الرِّقَّةِ وَالْحُسْنِ وَالْقِيمَةِ

وَلِمَا تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ زِيَارَةِ أَبَوَيْهَا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ لِمَا يُلْبَسُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فَإِنْ وَصَّى بِالزِّيَادَةِ فَمُشَارِكٌ لِلْوَلِيِّ فِي الْإِثْمِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الْوَلِيِّ (وَ) الزِّيَادَةُ (فِي الْوُضُوءِ) كَمًّا وَكَيْفًا وَكَذَا الْغُسْلُ. (حَدّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَعْدِ) بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ يَتَوَضَّأُ» مَعَ الْإِسْرَافِ «فَقَالَ مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ قَالَ أَوَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ» ، وَهُوَ طَاعَةٌ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ أَتَقُولُ هَكَذَا، وَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلْحَلَبِيِّ «قَالَ نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ» لَعَلَّ هَذَا فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ فَسَعْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ كِبَارِ أَعْيَانِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَدَمُ عِرْفَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا الَّذِي تَعُمُّ فِيهِ الْبَلْوَى بَعِيدٌ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ صُدُورَ أَصْلِ السَّرَفِ مِنْهُ عَلَى السَّهْوِ وَالذُّهُولِ أَوْ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْتَبَةِ سَرَفٍ وَالسُّؤَالُ إمَّا لِتَعْلِيمِ الْغَيْرِ أَوْ لِزِيَادَةِ تَمْكِينِ الْخَاطِرِ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ لَيْسَ كَمَعْرِفَتِهِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَبِالسُّؤَالِ يُسْتَحْصَلُ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ ثُمَّ إنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ إنْ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ أَوْ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْكَافِي لَكِنَّ قَوْلَهُ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ هُنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْحُدُودِ الْمَحْدُودَةِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إنَّمَا تَكُونُ سَرَفًا إذَا لَمْ تَكُنْ بِنِيَّةِ طُولِ الْغُرَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمَصَابِيحِ مَنْ «اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» نَعَمْ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فَاحِشَةً فِعْلُهَا سَرَفٌ أَيْضًا لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مَكْرُوهَةٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْإِسْرَافَ حَرَامٌ. أَقُولُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحُرْمَةِ فِي الْإِسْرَافِ إمَّا تَغْلِيبٌ أَوْ عُمُومُ مَجَازٍ أَوْ مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ حُكْمِ أَكْثَرِ أَفْرَادِهِ أَوْ أَعْظَمِهِ، وَإِلَّا فَالْإِسْرَافُ كَمَا تَرَى يَتَحَقَّقُ فِي ضِمْنِ الْكَرَاهَةِ بَلْ فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى، فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ أَكْثَرُ الشُّبَهِ الْمُشَارَةِ إلَيْهَا فِيمَا مَرَّ ثُمَّ إنَّ كَوْنَ الزِّيَادَةِ مَكْرُوهَةً إنْ كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لَهُ أَوْ مَاءً مُبَاحًا، وَإِلَّا فَإِنْ وَقْفًا فَحَرَامٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَمِيرِ الْحَاجِّ (وَمِنْهُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ) بِأَنْ لَا يَصِيرَ لَهُ مَيْلٌ إلَى الطَّعَامِ لَا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ، وَقِيلَ فَوْقَ الشِّبَعِ أَكْلُ طَعَامٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ أَفْسَدَ مَعِدَتَهُ وَكَذَا فِي الشُّرْبِ، وَهَذَا حَرَامٌ قَطْعِيٌّ يَكْفُرُ مَنْ يَتَمَنَّى حِلَّهُ فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ كَالزِّنَى وَاللُّوَاطَةِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِحِلِّهِ فِي بَعْضِ الْأَدْيَانِ، وَفِي أَوَائِلِ هَذَا الدِّينِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ فِي الْجَمِيعِ كَخِلَافِهِ لِحِكْمَتِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ إضَاعَةُ الْمَالِ وَإِسْرَافٌ، وَأَصْلُ كُلِّ دَاءٍ كَالْجُوعِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبِطْنَةُ أَصْلُ الدَّاءِ وَالْحِمْيَةُ أَصْلُ الدَّوَاءِ» فَأَكْثَرُ الْأَمْرَاضِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالْمَرَضُ يَمْنَعُ الْعِبَادَاتِ وَيُشَوِّشُ الْقَلْبَ وَيَمْنَعُ الذِّكْرَ وَالْفِكْرَ وَيَمْنَعُ الْعَيْشَ وَيُحْوِجُ إلَى الدَّوَاءِ وَالطَّبِيبِ. وَنُقِلَ عَنْ جَامِعِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَ كِسْرَى أَرْبَعَةٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ عِرَاقِيٌّ رُومِيٌّ هِنْدِيٌّ سُودَانِيٌّ فَقَالَ لَهُمْ مَا الدَّوَاءُ الَّذِي لَا دَاءَ مَعَهُ فَأَشَارَ الْكُلُّ غَيْرَ السُّودَانِيِّ إلَى دَوَاءٍ وَسَكَتَ هُوَ، وَهُوَ أَحْذَقُهُمْ فَقَالَ هُوَ أَنْ لَا تَأْكُلَ إلَّا بَعْدَ الْجُوعِ، وَأَنْ تَرْفَعَ يَدَك قَبْلَ الشِّبَعِ فَصَدَّقَهُ كُلُّهُمْ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] الطِّبَّ كُلَّهُ كَمَا قِيلَ كرجه خدا كفت كُلُوا وَاشْرَبُوا ليك عقبش كفت وَلَا تُسْرِفُوا. وَفِي الْحَدِيثِ «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ» . وَرُوِيَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قِيلَ لَهُ أَلَا نَتَّخِذُ لَك الْجَوَارِشَ قَالَ وَمَا الْجَوَارِشُ قَالُوا هَاضُومٌ يَهْضِمُ الطَّعَامَ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوَيَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فَوْقَ الشِّبَعِ. وَعَنْ الِاخْتِيَارِ «تَجَشَّأَ رَجُلٌ فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ نَحِّ عَنَّا جُشَاءَك أَمَا عَلِمْت أَنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ

شِبَعًا» (إلَّا لِأَجْلِ الضَّيْفِ حَتَّى لَا يَخْجَلَ) وَكَذَا لِتَطْيِيبِ قَلْبِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (أَوْ لِصَوْمِ الْغَدِ) إنْ عَلِمَ الضَّعْفَ، وَإِلَّا فَإِقْلَالُ السَّحُورِ لِلصَّائِمِ مَطْلُوبٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ فَيَضْعُفُ مَا يُقَالُ هُنَا سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ ضَعْفٌ بِعَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الشِّبَعِ أَوْ لَا قِيلَ فِي الْخَيْرِ لَا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَى مَا يَأْكُلُهُ مَعَ إخْوَانِهِ وَكَذَا عَلَى أَكْلِهِ السَّحُورَ وَمَا أَفْطَرَ عَلَيْهِ. عَنْ الْمُبْتَغَى مَنْ نَزَلَ ضَيْفًا عَلَى إنْسَانٍ فَلَمْ يُضِفْهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْهَرَ بِالشِّكَايَةِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] يَعْنِي مُنِعَ مِنْهُ حَقُّهُ فِي الْقِرَى (وَمِنْهُ الْأَكْلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ) أَيْ فِي بَيَاضِ نَهَارِهِ فَقَطْ كَمَا سَيُعْلَمُ لَكِنْ يُخَالِفُهُ مَا فِي الشِّرْعَةِ، وَلَا يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ الْإِسْرَافِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِفْطَارَ وَالسَّحُورَ لِلصَّائِمِ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ بَلْ اسْتِحْبَابِيٌّ. (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أَكَلْت فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ» مُنْكِرًا «يَا عَائِشَةُ أَمَا تُحِبِّينَ أَنْ لَا يَكُونَ لَك شُغْلٌ إلَّا جَوْفُكِ» الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ أَيْ لَا يَنْبَغِي لَك أَنْ لَا تُحِبِّي شَيْئًا غَيْرَ جَوْفِك (الْأَكْلُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ الْإِسْرَافِ) الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّ ظَاهِرَ الصِّيغَةِ الْعُمُومُ كَاقْتِضَاءِ قَاعِدَةِ أُصُولِنَا لَكِنْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَصَّ ذَلِكَ بِعَائِشَةَ لِعِرْفَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَوْنَ أَكْلِهَا بِعَدَمِ الْجُوعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْمَأْلُوفَاتِ وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ فِي الْكَفَّارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ لُزُومِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَعَلَّ لِمِثْلِ هَذَا يُبَادِرُ الْمُصَنِّفُ التَّأْوِيلَ (وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) اقْتِبَاسٌ فِي مَقَامِ تَعْلِيلٍ. (وَمِنْهُ أَكْلُ كُلِّ مَا اُشْتُهِيَ مج) ابْنُ مَاجَهْ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْإِسْرَافِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ» ؛ لِأَنَّهُ إلْهَاءٌ عَمَّا يُهِمُّ وَإِتْعَابٌ لِلنَّفْسِ لِتَحْصِيلِهِ لِمُجَرَّدِ حَظِّهَا وَاشْتِغَالٌ بِالدُّنْيَا عَنْ الْآخِرَةِ قِيلَ: وَلَمْ يُرِدْ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِ كُلِّ مَا اشْتَهَيْتَ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَتَخَيَّرُ الْمَاءَ مِنْ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ وَيَطْلُبُ شُرْبَ الْعَذْبِ الزُّلَالِ مِنْهُ مَعَ كَمَالِ زُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ لِلْمُنَاوِيِّ ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ) حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَنَسٍ (الْأَكْلَ فَوْقَ الشِّبَعِ أَوْ قَبْلَ الْهَضْمِ وَ) قَبْلَ (الْجُوعِ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إمَّا لِمَجْمُوعِ الْحَدِيثَيْنِ أَوْ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ أَوْ الْمَجْمُوعِ لِلْبَعْضِ وَالْبَعْضِ لِلْبَعْضِ وَالْكُلُّ مَنْظُورٌ فِيهِ إذْ إرَادَةُ فَوْقَ الشِّبَعِ مِنْ الْمَرَّتَيْنِ بَعِيدٌ وَكَذَا قَبْلِيَّةُ الْهَضْمِ وَالْأَعَمُّ الْأَغْلَبُ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَجُوعُ وَيَزُولُ شِبَعُهُ وَكَذَا يَهْضِمُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ دَاعِيَ التَّشَهِّي هُوَ الْجُوعُ فَلَعَلَّ التَّأْوِيلَ الْأَوْلَى مَا أُشِيرَ إلَيْهِ آنِفًا فَحِينَئِذٍ لَا تَقْرِيبَ عَلَى أَنَّهُ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ لَا نُنْكِرُ تَغَيُّرَ الْأَحْكَامِ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ فَافْهَمْ فَإِنَّ قَوْلَهُ (إذْ الْغَالِبُ أَنَّ الْأَكْلَ مَرَّتَيْنِ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَيَّامِ الْقَصِيرَةِ خُصُوصًا لِمَنْ لَا يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ عَنْ جُوعٍ صَادِقٍ) لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ بَلْ يَشْعُرُ بِعَدَمِ التَّقْرِيبِ بِوَجْهٍ آخَرَ إذْ الْمَطْلُوبُ الْمُطْلَقُ وَمَا أَشْعَرَ بِهِ التَّعْلِيلُ التَّقْيِيدُ بِأَقْصَرَ وَالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْمَطْلُوبُ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ (وَإِنْ أَكَلَ كُلَّ مَا اشْتَهَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الشِّبَعِ) غَالِبًا فَيَكُونُ إسْرَافًا لَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ التَّشَهِّي فَالْأَوْلَى عَدَمُ التَّقَيُّدِ بِقَوْلِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ فِي

ظَاهِرِهِ نَوْعَ مُخَالَفَةٍ لِمَا يَذْكُرُهُ هُنَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ الدَّافِعِ لِتِلْكَ الْمُخَالَفَةِ (وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ) مِنْ الْحَدِيثَيْنِ (التَّشْبِيهُ) بِالْإِسْرَافِ يَعْنِي بِمَنْزِلَةِ الْإِسْرَافِ لَا نَفْسِهِ فِي كَوْنِهِ حَظْرًا مُطْلَقًا (لَا التَّحْرِيمُ) إذْ هُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَوْ تَنْزِيهًا فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً وَوَجْهُ الشَّبَهِ مُطْلَقُ الْحَظْرِيَّةِ وَغَرَضُهُ التَّأَكُّدُ فِي الْإِنْكَارِ وَالْمُبَالَغَةِ لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ وَمِنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَافِ لَا مِنْ بَابِ الْإِسْرَافِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَشْمَلُ مَا لَا يَكُونُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ مُلْحَقِهِ وَتَابِعِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي كَمَا نَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَحْمَدُ الْإِيَادِيُّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِغُفْرَانِهِ عَنْ الْبَعْضِ. (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِسْرَافِ الْخَفِيِّ (الْإِكْثَارُ فِي الْبَجَّاتِ) أَيْ فِي أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ (إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِكْثَارِ لَكِنْ بِشَرْطِ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ (بِأَنْ يَمَلَّ مِنْ بَجَّةٍ) أَيْ مِنْ نَوْعٍ (فَيَسْتَكْثِرَ) الْبَجَّاتِ (حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ) مِنْهَا (شَيْئًا) الظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْوِينَ لِلتَّقْلِيلِ أَوْ التَّحْقِيرِ (فَيَجْتَمِعَ) مِنْ الْبَجَّاتِ (قَدْرُ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ أَوْ قَصَدَ) بِتَكْثِيرِهَا (أَنْ يَدْعُوَ الْأَضْيَافَ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ إلَى أَنْ يَأْتُوا إلَى آخِرِ الطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) أَيْ بِإِكْثَارِ الْبَجَّاتِ عَنْ السُّيُوطِيّ هُنَا الْبَأْسُ الْحَرْبُ ثُمَّ كَثُرَ فِي الْخَوْفِ أَيْ لَا خَوْفَ، وَعَنْ الْغَيْرِ هِيَ كَلِمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُتَرَدَّدُ فِي أَمْرِهِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت فِيمَا سَبَقَ تَفْصِيلَهَا لَكِنَّ الْأَكْثَرَ فِيمَا تَرَكَهُ أَوْلَى (كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ) فِي خَامِسٍ الْكَرَاهِيَةُ لَكِنْ ذَكَرَ فِي قُبَيْلِهِ أَيْضًا وَمِنْ الْإِسْرَافِ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ إلَّا لِأَجْلِ الضَّيْفِ أَوْ يُرِيدُ صَوْمَ الْغَدِ وَإِذَا أَكَلَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ لِيَسْتَقِيَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ قَالَ رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَأْكُلُ أَلْوَانًا مِنْ الطَّعَامِ وَيُكْثِرُ ثُمَّ يَتَقَيَّأُ وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ. انْتَهَى. فِي التتارخانية عَنْ الْخَانِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَلَا يَخْفَى حِينَئِذٍ مَا فِي الْحَصْرِ مِنْ الْخَفَاءِ (وَغَيْرِهِ) قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَمِنْ الْإِسْرَافِ فِي الطَّعَامِ الْإِكْثَارُ فِي الْبَجَّاتِ وَالْأَلْوَانِ إلَخْ ثُمَّ لَا عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَا خُلَاصَةَ مَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ فِي أَمْرِ الضِّيَافَةِ هِيَ سُنَّةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ خَرَجَ مِيلًا أَوْ مِيلَيْنِ يَلْتَمِسُ مَنْ يَتَغَدَّى مَعَهُ؛ وَلِصِدْقِ نِيَّتِهِ فِيهَا دَامَتْ ضِيَافَتُهُ فِي مَشْهَدِهِ. «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الْإِسْلَامُ فَقَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَبَذْلُ السَّلَامِ» ، وَفِيهَا خَمْسَةُ آدَابٌ أَحَدُهَا الدَّعْوَةُ فَيَدْعُو الْأَتْقِيَاءَ دُونَ الْفُسَّاقِ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ» وَيَقْصِدُ الْفُقَرَاءَ وَلَا يَخُصُّ الْأَغْنِيَاءَ وَفِي الْحَدِيثِ «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ تُدْعَى إلَيْهِ الْأَغْنِيَاءُ وَيُذَادُ عَنْهُ الْفُقَرَاءُ» وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْمِلَ أَقَارِبَهُ فَإِنَّهُ قَطْعُ رَحِمٍ، وَأَنْ لَا يَقْصِدَ الْمُبَاهَاةَ وَالتَّفَاخُرَ بَلْ اسْتِمَالَةَ قُلُوبِ الْإِخْوَانِ وَالتَّسَنُّنَ بِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إطْعَامِ الطَّعَامِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَدْعُو مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَشُقُّ الْإِجَابَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَضَرَ تَأَذَّى بِالْحَاضِرِينَ فَيَدْعُو مَنْ يُحِبُّ دَعْوَتَهُ. وَثَانِيهَا الْإِجَابَةُ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ دُعِيتُ إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ» ، وَلَهَا آدَابٌ خَمْسَةٌ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يُمَيِّزَ الْغَنِيَّ بِالْإِجَابَةِ عَنْ الْفَقِيرِ إلَّا إذَا عَلِمَ فِي دَعْوَتِهِ فَخْرًا وَتَكَلُّفًا فَيَتَعَلَّلُ وَلَا يُجِيبُ الثَّانِي أَنْ لَا يَمْتَنِعَ عَنْ الْإِجَابَةِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ، وَقِيلَ يُجِيبُ قَدْرَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ. الثَّالِثُ أَنْ يَحْضُرَ، وَلَوْ صَائِمًا تَطَوُّعًا، وَلْيَنْوِ إدْخَالَ السُّرُورِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ الدَّاعِي تَكَلُّفًا فَيَتَعَلَّلُ، وَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ فَضِيَافَتُهُ الطِّيبُ وَالْكَلَامُ الطَّيِّبُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْإِجَابَةِ أَنَّ فِي الطَّعَامِ شُبْهَةً أَوْ الْمَوْضِعِ أَوْ الْبِسَاطِ أَوْ فِي الْمَقَامِ مُنْكَرًا مِنْ فُرُشِ دِيبَاجٍ أَوْ إنَاءِ فِضَّةٍ أَوْ تَصْوِيرِ حَيَوَانٍ أَوْ سَمَاعِ الْمَلَاهِي أَوْ الْهَزْلِ أَوْ اللَّعِبِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ وَكَذَا إذَا كَانَ الدَّاعِي ظَالِمًا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ شِرِّيرًا أَوْ مُتَكَلِّفًا طَلَبًا لِلْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ

وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالْإِجَابَةِ قَضَاءَ شَهْوَةِ الْبَطْنِ بَلْ الِاقْتِدَاءَ بِالسُّنَّةِ وَيَنْوِي التَّحَرُّزَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى» أَوْ يَنْوِي إكْرَامَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكْرَمَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فَإِنَّمَا يُكْرِمُ اللَّهَ تَعَالَى» وَيَنْوِي إدْخَالَ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَرَّ مُؤْمِنًا فَقَدْ سَرَّهُ اللَّهُ» وَيَنْوِي أَيْضًا سُنَّةَ الزِّيَادَةِ. وَثَالِثُهَا آدَابُ الْحُضُورِ فَيَدْخُلُ بِلَا تَصَدُّرٍ بَلْ يَتَوَاضَعُ وَلَا يُطَوِّلُ عَلَيْهِمْ الِانْتِظَارَ، وَلَا يُفَاجِئُ قَبْلَ اسْتِعْدَادِهِمْ وَلَا يَزْحَمُ الْحَاضِرِينَ فِي الْمَكَانِ بَلْ يَجْلِسُ حَيْثُ يَأْمُرُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ، وَلَا يُكْثِرُ النَّظَرَ إلَى مَوْضِعِ خُرُوجِ الطَّعَامِ، وَإِذَا بَاتَ الضَّيْفُ فِي مَنْزِلِهِ فَلْيُعَرِّفْهُ الْقِبْلَةَ وَمَوْضِعَ الطَّهَارَةِ وَالْوُضُوءِ وَيَغْسِلْ رَبُّ الْبَيْتِ أَوَّلًا يَدَهُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ يَتَأَخَّرُ، وَإِذَا رَأَى فِي الْبَيْتِ مُنْكَرًا غَيَّرَ بِيَدِهِ إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ وَانْصَرَفَ كَفُرُشِ الدِّيبَاجِ وَأَوَانِي الْفِضَّة. وَرَابِعُهَا إحْضَارُ الطَّعَامِ، وَلَهُ آدَابٌ خَمْسَةٌ. الْأَوَّلُ التَّعْجِيلُ. الثَّانِي تَرْتِيبُ الْأَطْعِمَةِ فَتَقْدِيمُ الْفَاكِهَةِ أَوَّلًا شَرْعًا وَطِبًّا ثُمَّ اللَّحْمُ وَالثَّرِيدُ؛ لِأَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ فَإِنْ جَمَعَ إلَيْهِ حَلَاوَةً فَقَدْ جَمَعَ الطَّيِّبَاتِ وَتَمَامُهَا بِشُرْبِ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَزِينَةُ الْمَائِدَةِ الْبُقُولُ لِخُضْرَتِهَا وَتُسْتَحَبُّ. الثَّالِثُ أَنْ يُقَدِّمَ مِنْ الْأَلْوَانِ أَلْطَفَهَا حَتَّى يَسْتَكْفِئَ مِنْهَا مَنْ يُرِيدُ، وَعَادَةُ الْمُتَرَفِّهِينَ تَقْدِيمُ الْغَلِيظِ لِيُكْثِرَ مِنْ اللَّطِيفِ بَعْدَهُ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ وَمِنْ سُنَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنْ يُقَدِّمُوا الْأَلْوَانَ جُمْلَةً دَفْعَةً لِيَأْكُلَ كُلٌّ مِمَّا يَشْتَهِي. الرَّابِعُ أَنْ لَا يُبَادِرَ إلَى رَفْعِ الْأَلْوَانِ بَلْ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى يَرْفَعُوا الْأَيْدِيَ، وَأَيْضًا لَا يَرْفَعُ يَدَهُ قَبْلَ الضِّيفَانِ بَلْ يَكُونُ آخِرَهُمْ أَكْلًا. الْخَامِسُ أَنْ يُقَدِّمَ قَدْرَ الْكِفَايَةِ إذْ النَّقْصُ مِنْهُ نَقْصٌ فِي الْمُرُوءَةِ وَالزِّيَادَةُ تَضْيِيعٌ إلَّا أَنْ تَطِيبَ نَفْسُهُ بِأَكْلِهِمْ الْجَمِيعَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ لَيْسَ فِي الطَّعَامِ سَرَفٌ. وَخَامِسُهَا الِانْصِرَافُ، وَلَهُ آدَابٌ ثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ مِنْ سُنَّةِ الْمُضِيفِ أَنْ يُشَيِّعَ إلَى بَابِ الدَّارِ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَطَيِّبُ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ يَنْصَرِفَ الضَّيْفُ طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِنْ جَرَى فِي حَقِّهِ تَقْصِيرٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ الْمَنْزِلِ، وَإِذْنِهِ وَيُرَاعِي قَلْبَهُ فِي قَدْرِ الْإِقَامَةِ، وَإِذَا نَزَلَ ضَيْفًا فَلَا يُقِيمُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا إذَا أَلَحَّ رَبُّ الْمَنْزِلِ عَنْ خُلُوصِ قَلْبٍ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْمَلَ كَلَامُهُ) أَيْ الْخُلَاصَةِ (هَذَا عَلَى حَصْرِ الْحَاجَةِ فِي هَذَيْنِ) مِنْ الْمَلَالِ وَالضِّيَافَةِ (بَلْ يَعُمُّ إرَادَةَ التَّلَذُّذِ وَالتَّنَعُّمِ مِنْ غَيْرِ ضَيَاعٍ وَنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ) مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالتَّكَبُّرِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] مِنْ النَّبَاتِ وَالْحُبُوبِ وَالْمَعَادِنِ كَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ {قُلْ هِيَ} [الأعراف: 32] أَيْ الطَّيِّبَاتُ {لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْكَافِرُ {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الْآيَةَ) - {وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]- أَيْ لَا تُبَالِغُوا فِي التَّضْيِيقِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي تَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ - {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]- لَا يَرْضَى عَنْ تَجَاوُزِ الْحَدِّ نَزَلَتْ فِي جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - هَمُّوا بِاعْتِزَالِ نَحْوِ النِّسَاءِ وَتَرْكِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ (وَقَدْ صَرَّحُوا) أَيْ الْفُقَهَاءُ (بِجَوَازِ التَّفَكُّهِ بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ مُسْتَدِلِّينَ بِالْآيَتَيْنِ وَرَوَوْهُ) أَيْ الصَّحَابَةُ التَّفَكُّهَ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لَعَلَّ الْأَوْلَى

إرْجَاعُ الضَّمِيرِ الثَّانِي إلَى مَا أُرْجِعَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لَكِنْ لَمْ نَظْفَرْ فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ الْفِقْهِيَّةِ عَلَى عَيْنِ هَذَا التَّصْرِيحِ وَحُمِلَ هَذَا التَّصْرِيحُ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَمْعِ الْفَوَاكِهِ وَالْبَجَّاتِ) بَعِيدٌ مِنْ تَبَادُرِ اللَّفْظِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ دَلِيلٌ آخَرُ ظَاهِرُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ إذْ عَدَمُ الْفَرْقِ إنَّمَا يَتَحَصَّلُ عِنْدَ التَّسَاوِي لَكِنَّ الْمُتَبَادَرَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ فَلَا يَرِدُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَالنَّصُّ مَوْجُودٌ عَلَى دَعْوَى الْمُصَنِّفِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَمْثَالِهِ سِيَّمَا عَلَى عَادَةِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ دَلِيلَ الْمُقَلِّدِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالنُّصُوصِ إنَّمَا هُوَ مَنْصِبُ الْمُجْتَهِدِ، وَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَى انْقِرَاضِ الْمُجْتَهِدِ فِي زَمَانِنَا وَالْأَصَحُّ عَدَمُ تَجَزِّي الِاجْتِهَادِ سِيَّمَا قَدْ اُحْتُجَّ هُنَا أَوَّلًا بِصَرِيحِ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فَالِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ. (خ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَلَامٌ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّهِ لَا يَخْلُو عَنْ إشْكَالٍ لَعَلَّ الْحَقَّ فِي الْجَوَابِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ بَلْ لِتَأْيِيدِهِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْحُجَّةِ فَكَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَخَذَ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ هَذَا النَّصِّ أَوْ أَنْ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاجْتِهَادِ لَيْسَ كُلَّ الْحُكْمِ فَإِنَّ بَعْضَ النُّصُوصِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى يَفْهَمُهُ كُلُّ عَالِمٍ عَامِّيٍّ، وَأَنَّ كُلَّ نَصٍّ مُوَافِقٌ لِقِيَاسِ الْفُقَهَاءِ فَيُحْتَجُّ بِهِ مُطْلَقًا فَاحْفَظْهُ فَإِنَّهُ يَنْفَعُك فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. «كُلْ مَا شِئْتَ» مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ «وَالْبَسْ مَا شِئْتَ» فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ نَحْوِ الْمَكْرُوهِ وَمَا فِيهِ شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ الْمُحَرَّمِ «مَا أَخْطَأَك سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ» أَيْ مُدَّةُ خَطَأِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ عَنْك. حَاصِلُهُ أَنَّ أَكْلَ كُلِّ مَأْكُولٍ، وَلُبْسَ كُلِّ مَلْبُوسٍ جَائِزٌ لَك مَا لَمْ يَصِلْ إلَى رُتْبَةِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالسَّرَفُ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا عَرَفْت أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الشِّبَعِ مَثَلًا، وَفِي اللِّبَاسِ كَأَنْ يَكُونَ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَيْسَا لِلنَّدَبِ كَمَا لَا يَكُونَانِ لِلْوُجُوبِ بَلْ لِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يُنَافِي مَمْدُوحِيَّةَ قِلَّتِهِمَا خُصُوصًا قِلَّةَ الْأَكْلِ قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى طِبٌّ قَالَ نَعَمْ جُمِعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ - {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]- يَعْنِي أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَنْشَأُ الْأَمْرَاضِ، وَقِيلَ مَنْ قَلَّ أَكْلُهُ كَانَ أَصَحَّ جِسْمًا، وَأَجْوَدَ حِفْظًا، وَأَذْكَى فَهْمًا وَأَقَلَّ نَوْمًا، وَأَخَفَّ بَدَنًا وَزِيدَ فِي الْبُسْتَانِ، وَفِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ مَضَارُّ كَثِيرَةٌ مِنْهَا التُّخَمَةُ وَتَوَلُّدُ الْأَمْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ وَفِي الْحَدَائِقِ الْجُوعُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْمُجَاهَدَةِ وَبِسَبَبِهِ تَنْفَجِرُ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ، وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ مِفْتَاحُ الدُّنْيَا الشِّبَعُ وَمِفْتَاحُ الْآخِرَةِ الْجُوعُ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيّ الْجُوعُ نُورٌ وَالشِّبَعُ نَارٌ، وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ أَيْضًا عَنْ الرَّازِيّ الْجُوعُ لِلْمُرِيدِينَ رِيَاضَةٌ؛ وَلِلتَّائِبِينَ تَجْرِبَةٌ؛ وَلِلزَّاهِدِينَ سِيَاسَةٌ. (وَمِنْهُ أَكْلُ مَا انْتَفَخَ مِنْ الْخُبْزِ أَوْ) أَكْلُ (وَسَطِهِ مَعَ تَرْكِ جَوَانِبِهِ إنْ لَمْ يَأْكُلْهَا أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ يَخَالُ يَأْكُلُهَا غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْهُ وَضْعُ الْخُبْزِ عَلَى الْمَائِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ كَذَا فِي الِاخْتِيَار وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا) أَيْ كَلَامُ الِاخْتِيَارِ (أَيْضًا) كَكَلَامِ الْخُلَاصَةِ

(عَلَى أَنْ يَضِيعَ مَا فَضَلَ مِنْ الْكِسْرَاتِ، وَلَا يَأْكُلُهُ أَحَدٌ أَوْ عَلَى أَنْ يَقْصِدَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَالشُّهْرَةَ، وَإِلَّا فَلَا إسْرَافَ) فِيهِ وَكَذَا لَا حَظْرَ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ لَكِنَّ قَوْلَهُ أَوْ عَلَى أَنْ يَقْصِدَ الرِّيَاءَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودُ الْمَقَامِ فَافْهَمْ (وَأَمَّا أَكْلُ النَّفَائِسِ) جَمْعُ نَفِيسَةٍ، وَهِيَ مَا يُرْغَبُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَارَاةِ وَيَجِيءُ بِمَعْنَى الْخَطِيرِ (مِنْ الْأَطْعِمَةِ، وَلُبْسِ اللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالرَّقِيقِ) ، وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا أَنَّ قِيمَةَ رِدَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقِيمَةَ رِدَاءِ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ (وَبِنَاءُ الْأَبْنِيَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ الشَّارِعُ تَحْرِيمًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِسْرَافٍ إذَا كَانَ مِنْ حَلَالٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْكِبْرَ وَالْفَخْرَ) عَنْ الْقُنْيَةِ لُبْسُ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ مُبَاحٌ إذَا لَمْ يَتَكَبَّرْ وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَهَا. انْتَهَى. فِي الْخُلَاصَةِ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ إذَا كَانَ لَا يَتَكَبَّرُ، وَلَا يُضَيِّعُ الْفَرَائِضَ، وَلَا يَمْنَعُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فِي التتارخانية يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبْسُطَ فِي بَيْتِهِ مَا شَاءَ مِنْ الثِّيَابِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الصُّوفِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْمُنَقَّشَةِ، وَلَهُ سَتْرُ الْجُدْرَانِ بِالْإِزَارِ مِنْ اللِّبْدِ وَغَيْرِهِ وَيَجُوزُ بَسْطُ مَا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ يَتَّخِذَ مَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ الْمُصَلُّونَ. وَفِي الْبُسْتَانِ الْبِسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا لَا يُزْرِيك بِهِ السُّفَهَاءُ وَلَا يَعِيبُ الْفُقَهَاءُ، وَعَنْ عُمَرَ إذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَوَسِّعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَأَمَّا الْأَبْنِيَةُ فَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ، وَلَا اعْتِدَاءٍ كَانَ أَجْرُهُ جَارِيًا مَا انْتَفَعَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَنَى بِنَاءً أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ وَبَالًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَكَذَا قَوْلُهُ «مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى عُنُقِهِ» وَكَذَا قَوْلُهُ «مَنْ بَنَى فَوْقَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ إلَى أَيْنَ تُرِيدُ» كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَكَذَا مَا رُوِيَ «الْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إلَّا شَيْئًا جَعَلَهُ فِي التُّرَابِ وَالْبِنَاءِ» كَمَا نُقِلَ عَنْ شِهَابِ الْأَخْبَارِ وَكَذَا قَوْلُهُ «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ مَالَهُ فِي الطَّبِيخَيْنِ» أَيْ الْآجُرِّ وَالْخَشَبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْكِفَايَةِ وَنَحْوِهَا فَلَعَلَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ الْمُشَارِ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ مَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ الشَّارِعُ وَكَذَا مَا حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاكٍ أَنَّهُ قَالَ لِهَارُونَ الرَّشِيدِ حِينَ بَنَى دَارًا رَفِيعًا رَفَعْت الطِّينَ وَوَضَعْت الدِّينَ إنْ كَانَ هُوَ مِنْ مَالِك فَأَنْتَ مِنْ الْمُسْرِفِينَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ غَيْرِك فَأَنْتَ مِنْ الظَّالِمِينَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَفِي رِوَايَةٍ، وَأَنْتَ خَائِنٌ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ فَاللَّائِقُ بِمَنْ بَنَى أَنْ يَنْوِيَ بِبِنَائِهِ عِبَادَتَهُ تَعَالَى فِيهِ وَحِفْظَهُ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَلَا يُنْفِقُ مَالًا كَثِيرًا فِي الْبِنَاءِ إذْ لَا خَيْرَ فِيمَا يُنْفَقُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ كَمَا فِي الشِّرْعَةِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لَكِنَّهُ خُصَّ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ بِنَحْوِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَالرِّبَاطِ وَمَوَاضِعِ التَّعَبُّدِ يُؤْجَرُ الْبَانِي اتِّفَاقًا، وَعَنْ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ: مِنْ أَبْوَابِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ حُبُّ التَّزَيُّنِ فِي نَحْوِ الْبِنَاءِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ فِيهِ فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَإِنْ كَانَ شَبِيهًا بِهِ) صُورَةً (وَ) إنْ كَانَ (يُعَدُّ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِسْرَافِ (مَجَازًا وَمَكْرُوهًا تَنْزِيهًا) يُشِيرُ إلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَيَجُوزُ جَمْعُ الْكَرَاهَةِ مَعَ عَدَمِ السَّرَفِ لَكِنْ قَدْ عُدَّ مِنْ السَّرَفِ بَعْضُ الْمَكْرُوهَاتِ فَافْهَمْ (إذْ اللَّائِقُ بِطَالِبِ الْآخِرَةِ أَنْ يَقْنَعَ) بِمُجَرَّدِ الْكَفَافِ كَمًّا وَكَيْفًا (وَيَتَصَدَّقَ) بِمَا يَزِيدُ عَلَى دَفْعِ ضَرُورَتِهِ (لِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) . (وَمِنْ الْإِسْرَافِ كُلُّ مَا صُرِفَ إلَى الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي) كَمَا صُرِفَ إلَى الْخَمْرِ

وَآلَاتِ الْمَعَازِفِ وَصَاحِبِ اللَّهْوِ وَالتَّغَنِّي وَالنَّائِحَةِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي كَمَنْ اسْتَأْجَرَ لِيُزَخْرِفَ لَهُ بَيْتًا بِالتَّمَاثِيلِ وَمِنْ الْمُشْكِلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا فِي الْفَتَاوَى كَقَاضِي خَانْ وَلَا بَأْسَ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَاجِرَ دَارًا مِنْ ذِمِّيٍّ لِيَسْكُنَهَا، وَإِنْ شَرِبَ فِيهَا الْخَمْرَ أَوْ عَبَدَ فِيهَا الصَّلِيبَ أَوْ أَدْخَلَ الْخَنَازِيرَ فَذَاكَ بَذْلٌ لَا يَلْحَقُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ قَالَ كَمَنْ بَاعَ غُلَامًا مِمَّنْ يَقْصِدُ بِهِ الْفَاحِشَةَ أَوْ بَاعَ جَارِيَةً لَهُ مِمَّنْ يَأْتِيهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتِيِّ أَوْ لَا يَسْتَبْرِئُهَا ثُمَّ قَالَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لِيَنْحِتَ لَهُ طُنْبُورًا أَوْ يَرْبِطَا فَفَعَلَ طَابَ لَهُ الْأَجْرُ إلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِهِ وَزَادَ فِي التتارخانية قَوْلَهُ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة أَيْضًا رَجُلٌ جَمَعَ الْمَالَ وَهُوَ كَانَ مُطْرِبًا مُغَنِّيًا إنْ بِغَيْرِ شَرْطٍ يُبَاحُ لَهُ، وَإِنْ بِشَرْطٍ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ تَصَدَّقَ بِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا اسْتَأْجَرَ لِضَرْبِ الطَّبْلِ إنْ لِلَّهْوِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لِلْغُزَاةِ وَالْقَافِلَةِ يَجُوزُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَائِحَةٍ أَوْ صَاحِبِ طَبْلٍ أَوْ مِزْمَارٍ اكْتَسَبَ مَالًا إنْ بِشَرْطِ مَالٍ بِإِزَاءِ النِّيَاحَةِ أَوْ الْغِنَاءِ لَا يَجُوزُ، وَفِي الْإِنَابَةِ الْأَخْذُ إذَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ الْمَعْصِيَةِ كَانَ مَعْصِيَةً وَالسَّبِيلُ فِي الْمَعَاصِي رَدُّهَا وَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ عَنْهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ لِيَصِلَ إلَيْهِ. مَالُ الْمُغَنِّيَةِ إنْ قُضِيَ بِهِ دَيْنٌ لَمْ يَسَعْ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهَا بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ، وَفِي الْيَنَابِيعِ رَجُلٌ مَاتَ وَكَسْبُهُ خَبِيثٌ الْأَوْلَى تَوَرُّعُ الْوَرَثَةِ فَإِنْ عَلِمُوا أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ يَرُدُّونَهَا عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَالْمِيرَاثُ حَلَالٌ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ التَّصَدُّقُ ثُمَّ قَالَ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ بَلْ هُوَ حَرَامٌ وَكَذَا مَا هُوَ ظُلْمٌ فَالتَّوَرُّعُ أَوْلَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِيَّةِ خُصَمَاءِ أَبِيهِ، وَفِي الْيَنَابِيعِ وَمَا جَمَعَ السَّائِلُ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ خَبِيثٌ، وَأَمَّا الَّذِي تَأْخُذُهُ النَّائِحَةُ وَالْقَوَّالُ وَالْمُغَنِّي فَالْأَمْرُ فِيهِ أَيْسَرُ لِأَنَّ فِيهِ إعْطَاءً بِرِضًا وَمِنْ غَيْرِ عَقْدٍ.

المبحث الرابع الإسراف هل يقع في الصدقة

[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ الْإِسْرَافَ هَلْ يَقَعُ فِي الصَّدَقَةِ] (الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ) (فِي أَنَّ الْإِسْرَافَ هَلْ يَقَعُ فِي الصَّدَقَةِ) فَيَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ كَمَا عَرَفْت (رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ) أَحَدُ أَعْلَامِ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُفَسِّرِينَ قَرَأَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، وَعَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَةٍ يُقَالُ مَاتَ، وَهُوَ سَاجِدٌ (أَنَّهُ قَالَ لَوْ كَانَ أَبُو قُبَيْسٍ) جَبَلٌ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَيُقَالُ لَهُ جَبَلُ الْأَمِينِ (ذَهَبًا لِرَجُلٍ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا) لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، وَعَدَمِ تَنَافِي مَاهِيَّةِ الصَّدَقَةِ وَعَدَمِ شُمُولِ مَاهِيَّةِ الْإِسْرَافِ (، وَلَوْ أَنْفَقَ) أَيْ أَعْطَى فَلِلْمُشَاكَلَةِ أَوْ لِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (دِرْهَمًا) وَاحِدًا (أَوْ مُدًّا) رُبْعَ صَاعٍ (فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُسْرِفًا) فَمَا أُنْفِقَ فِي سَبِيلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كَثُرَ فَلَيْسَ بِسَرَفٍ، وَفِي مَعْصِيَتِهِ فَسَرَفٌ، وَإِنْ قَلَّ لَكِنْ لَعَلَّ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِعَدَمِ ضَرُورَتِهِ كَاضْطِرَارِ قُوتِهِ الْيَوْمِيِّ مَثَلًا إذْ لَا يَجُوزُ تَصَدُّقُ نَحْوِ هَذَا الْقَدْرِ حِينَئِذٍ (وَفِي هَذَا الْمَعْنَى) أَيْ فِي حَقِّ عَدَمِ كَوْنِ الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى سَرَفًا وَلَوْ كَثُرَ، وَرُدَّ (قَوْلُ حَاتِمٍ) الطَّائِيِّ قِيلَ هُوَ الْمَشْهُورُ بِالسَّخَاءِ وَالْجُودِ (حِينَ قِيلَ لَهُ لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ فَقَالَ لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ) لَعَلَّ حَاتِمًا مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ لِعِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ وَزُهْدِهِ وَرِيَاضَتِهِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا يُقَالُ إنَّ حَاتِمًا كَافِرٌ فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ هُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ كَلَامٌ عَقْلِيٌّ مُطَابِقٌ لِلنَّقْلِ فَيُطَابِقُ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ فِي مَضْمُونِهِ (فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ ظَاهِرِهِ) أَيْ ظَاهِرِ كَلَامِ مُجَاهِدٍ وَحَاتِمٍ مَثَلًا (أَنْ لَا سَرَفَ فِي الصَّدَقَةِ مُطْلَقًا) سَوَاءٌ كَانَ لَهُ ضَرُورَةُ احْتِيَاجٍ أَوْ لَا (وَهَذَا) الظَّنُّ (فَاسِدٌ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ يَظْهَرُ مِمَّا نُورِدُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) مِنْ قَوْلِنَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْقَاضِي وَ) الْإِمَامُ الْفَخْرُ (الرَّازِيّ) صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ (وَغَيْرُهُمْ) لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُنْصِفْ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ بَلْ لَمْ يُصِبْ فِي الِاحْتِجَاجِ قَالَ فِي مِعْيَارِ السَّعَادَةِ فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ بَاطِلَةً، وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى رَأْيِهِمْ وَأُصُولِ مَذْهَبِهِمْ مِثْلُ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ الْأَصَمِّ وَالْجُبَّائِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ يَدُسُّ الْبِدَعَ فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ حَتَّى قَالَ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَشَّافَ كِتَابٌ عَظِيمٌ فِي بَابِهِ وَمُصَنِّفَهُ إمَامٌ فِي فَنِّهِ إلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ مُبْتَدِعٌ مُتَجَاهِرٌ بِبِدْعَتِهِ يَضَعُ مِنْ قَدْرِ النُّبُوَّةِ كَثِيرًا وَيُسِيءُ أَدَبَهُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالْوَاجِبُ كَشْطُ مَا فِي كِتَابِ الْكَشَّافِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا أَنَّ الْأَعَاجِمَ يَدْرُسُونَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَجِبُ مَنْعُ مَنْ لَا يَرْسَخُ فِي الشَّرِيعَةِ وَالسُّنَّةِ قَدَمُهُ عَنْهَا، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي إتْقَانِ السُّيُوطِيّ. وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا الرَّازِيّ مَلَأَ تَفْسِيرَهُ بِأَقْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ وَخَرَجَ مِنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ حَتَّى يَقْضِيَ النَّاظِرُ الْعَجَبَ مِنْ عَدَمِ مُطَابَقَةِ الْآيَةِ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ جَمَعَ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيرِهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً طَوِيلَةً لَا حَاجَةَ بِهَا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا التَّفْسِيرَ إلَى آخِرِ مَا قَالَ فِيهِ ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ شَافِعِيُّونَ، وَلَا خَيْرَ فِي الِاحْتِجَاجِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إذْ لَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْخِلَافِيَّاتِ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ عَلَى هَذَا الِاحْتِجَاجِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي دَفْعِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إنَّ الِاحْتِجَاجَ رَاجِعٌ إلَى جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ اُعْتُرِفَ أَنَّهُ كِتَابٌ عَظِيمٌ فِي بَابِهِ أَيْ الْعَرَبِيَّةِ فَافْهَمْ. (إدْخَالُ مِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ) أَيْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [البقرة: 3] (لِلْكَفِّ عَنْ الْإِسْرَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ) فَفِي الْإِنْفَاقِ أَيْ الصَّدَقَةِ سَرَفٌ

(بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ) أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ (أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ صَرْفُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ هِدَايَتِهِ تَعَالَى وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْفَلَاحُ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا هُوَ نَافِلَةٌ، وَهَذَا الْإِنْفَاقُ زَكَاةُ فَرْضٍ (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141] أَيْ الْوَاجِبَ فِيهِ (يَوْمَ حَصَادِهِ) يُرِيدُ بِهِ مَا كَانَ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْحَصَادِ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ لَا الزَّكَاةَ الْمُقَدَّرَةَ فَإِنَّهَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقِيلَ الزَّكَاةَ، وَالْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَالْأَمْرُ بِإِتْيَانِهِ يَوْمَ الْحَصَادِ لِيُهْتَمَّ بِهِ حِينَئِذٍ حَتَّى لَا يُؤَخَّرَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْأَدَاءِ؛ وَلِيُعْلَمَ أَنَّ الْوُجُوبَ بِالْإِدْرَاكِ لَا بِالتَّنْقِيَةِ. {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]- قَالَ السَّابِقُونَ) أَيْ الْمَذْكُورُونَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ (أَيْ، وَلَا تُسْرِفُوا فِي الصَّدَقَةِ) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّدَقَةِ سَرَفٌ لَمَا نَهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُتَصَوَّرًا (لِمَا رُوِيَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّهُ صَرَمَ» أَيْ قَطَعَ «خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ» أَيْ قَطَعَ ثَمَرَهَا وَجَمَعَهُ «ثُمَّ قَسَمَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ» عَلَى الْفُقَرَاءِ «وَلَمْ يَتْرُكْ لِأَهْلِهِ شَيْئًا فَنَزَلَتْ {وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141] أَيْ لَا تُعْطُوا كُلَّهُ» . وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ) (- رَحِمَهُ اللَّهُ - «قَالَ جَدَّ» أَيْ قَطَعَ «مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نَخْلَةً فَلَمْ يَزَلْ يَتَصَدَّقُ» بِالتَّمْرِ «حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ» لِأَهْلِهِ «فَنَزَلَ {وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام: 141] » ، وَقَالَ السُّدِّيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ، وَلَا تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ) بِالْكُلِّيَّةِ إلَى الْفُقَرَاءِ (فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ) أَيْ فَتَصِيرُوا مُحْتَاجِينَ بِالْإِسْرَافِ (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] . وَقَالَ جَابِرٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «جَاءَ غُلَامٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّ أُمِّي تَسْأَلُك كَذَا وَكَذَا» كِنَايَةً عَنْ تَعْدَادِ الشَّيْءِ، وَعِدَّتِهِ، وَتَعَدُّدُ الْأَمْرِ كِنَايَةٌ عَمَّا يُرَادُ بِهِ «فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا عِنْدَنَا الْيَوْمَ شَيْءٌ) فَذَهَبَ إلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ قُلْ لَهُ إنَّ أُمِّي تَسْتَكْسِيك الدِّرْعَ الَّذِي عَلَيْك فَجَاءَ، وَ (قَالَ فَتَقُولُ لَك) أُمِّي (اُكْسُنِي قَمِيصَك) فَدَخَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْتَهُ (فَخَلَعَ قَمِيصَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ وَجَلَسَ فِي الْبَيْتِ عُرْيَانًا» ، وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «فَأَذَّنَ بِلَالٌ لِلصَّلَاةِ وَانْتَظَرُوا رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَخْرُجُ» أَيْ أَنْ يَخْرُجَ، وَلَمْ يَخْرُجْ «وَاشْتَغَلَتْ الْقُلُوبُ» وَتَرَدَّدَتْ بِعَدَمِ خُرُوجِهِ «فَدَخَلَ بَعْضُهُمْ فَإِذَا هُوَ عَارٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ» {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] {فَتَقْعُدَ} [الإسراء: 29] فِي بَيْتِك {مَلُومًا} [الإسراء: 29] عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ {مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] مَكْشُوفًا مِنْ حَسَرَ عَنْ ذِرَاعِهِ أَيْ كَشَفَ (كَذَا ذَكَرَهُ السَّابِقُونَ) مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمَذْكُورِينَ

(خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» لَفْظُ ظَهْرِ مُقْحَمٌ وَالْغِنَى هُنَا مُجَرَّدُ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْغَيْرِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ لَا الْغِنَى الشَّرْعِيُّ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَنْدَمُ غَالِبًا وَنُكِّرَ غِنًى لِلتَّفْخِيمِ، وَلَا يُنَافِيهِ «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جَهْدُ الْمُقِلِّ» ؛ لِأَنَّ الْفَضِيلَةَ تَتَفَاوَتُ حَسْبَ الْأَشْخَاصِ، وَقُوَّةِ التَّوَكُّلِ أَوْ الْمُرَادُ بِالْمُقِلِّ الْغَنِيُّ الْقَلْبِ كَمَا فِي الْفَيْضِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرْضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» قَالَ النَّوَوِيُّ مَذْهَبُنَا أَنَّ التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِ الْمَالِ مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَلَا لَهُ عِيَالٌ لَا يَصْبِرُونَ وَيَكُونُ هُوَ يَصْبِرُ عَلَى الْفَقْرِ فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ هَذِهِ الشُّرُوطَ فَمَكْرُوهٌ. آخِرُ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «وَابْدَأْ» أَمْرٌ مِنْ الْبَدْءِ أَيْ ابْتَدِئْ «بِمَنْ تَعُولُ» أَيْ بِمَنْ تَلْزَمُك نَفَقَتُهُ وَالْمَعْنَى أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ قَدْرِ كِفَايَةِ عِيَالِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِظَهْرِ الْغِنَى مَا يَفْضُلُ عَنْ الْعِيَالِ، وَعَنْ النَّوَوِيِّ أَيْ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ بَعْدَهَا غِنًى يَسْتَظْهِرُ بِهِ صَاحِبُهَا عَلَى مَصَالِحِهِ إذْ الْمُتَصَدِّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَنْدَمُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَقِيلَ أَيْ مَا كَانَ بَعْدَ الصَّدَقَةِ مَا يَقُومُ بِحُقُوقِ النَّفْسِ وَالْعِيَالِ، وَعَلَيْهِ يَشْكُلُ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] إذْ نُزُولُهَا لِأَنْصَارِيٍّ آثَرَ عَلَى احْتِيَاجِ نَفْسِهِ أَوْ عَلَى احْتِيَاجِ صَبِيِّهِ فَقِيرًا مُهَاجِرِيًّا وقَوْله تَعَالَى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] أَيْ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَقُوَّةِ الشَّهْوَةِ لَهُ لَعَلَّ الْجَوَابَ عَنْ الْحَدِيثِ السَّابِقِ جَوَابٌ هُنَا أَيْضًا ثُمَّ فِي فَصْلِ الْهَمْزَةِ مِنْ الْجَامِعِ وَقَعَ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْحَدِيثَ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ تَبْقِيَةَ بَعْضِ الْمَالِ أَفْضَلُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِكُلِّهِ إلَّا لِأَهْلِ الْيَقِينِ كَالصِّدِّيقِ وَأَضْرَابِهِ، وَمَحْصُولُهُ أَنَّ الْفَضِيلَةَ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ، وَقُوَّةِ التَّوَكُّلِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ كَمَا مَرَّ. وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ غِنًى» أَيْ مَا بَقِيَتْ لَك بَعْدَ إخْرَاجِهَا كِفَايَةٌ لَك؛ وَلِعِيَالِك، وَقِيلَ مَا حَصَلَ بِهِ لِلسَّائِلِ غِنًى عَنْ سُؤَالٍ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَلْفٍ فَأَعْطَاهُ لِمِائَةِ رَجُلٍ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ الْغِنَى بِخِلَافِ إعْطَائِهِ لِوَاحِدٍ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . (غ) الْبَغَوِيّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عِنْدِي دِينَارٌ» قِيلَ وَزْنُهُ إحْدَى وَسَبْعُونَ شَعِيرَةً وَالْمَشْهُورُ أَنَّ تَدْوِيرَهُ فِي خِلَافَةِ الْفَارُوقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ قَبْلَهُ عَلَى شَبَهِ النَّوَاةِ بِلَا نَقْشٍ ثُمَّ نُقِشَ فِي زَمَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ «فَقَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «ابْدَأْ بِنَفْسِك» «قَالَ عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِك قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِك قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِك قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ» أَيْ أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَبَيْنَ الِادِّخَارِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . (م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْدَأْ بِنَفْسِك» أَيْ بِمَا تَحْتَاجُهُ

«فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا» ؛ لِأَنَّك الْمَخْصُوصُ بِالنِّعْمَةِ الْمُنْعَمِ عَلَيْك بِهَا وَكَوْنُهُ صَدَقَةً؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْوُجُوبِ إنْ مِنْ حَلَالٍ «فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِك» فَهُوَ زَوْجُك قَدَّمَ الزَّوْجَةَ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا مُعَاوَضَةٌ وَمَا بَعْدَهَا مُوَاسَاةٌ «فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِك» شَيْءٌ «فَلِذِي قَرَابَتِك» ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْك فَصِلَةُ أَرْحَامٍ «فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِك شَيْءٌ فَهَكَذَا، وَهَكَذَا» أَيْ بَيْنَ يَدَيْك، وَعَنْ يَمِينِك وَشِمَالِك كَنَّى بِهِ عَنْ تَكْثِيرِ الصَّدَقَةِ وَتَنْوِيعِ جِهَاتِهَا قَالَ الْمُحَقِّقُ أَبُو زُرْعَةَ: مَحَلُّ تَقْدِيمِ النَّفْسِ فِيمَنْ لَا يَصْبِرُ، وَإِلَّا فَالْإِيثَارُ مَحْبُوبٌ وَمَحْمُودٌ جَاءَ بِمَدْحِهِ الْقُرْآنُ. وَفِيهِ أَنَّ الْحُقُوقَ وَالْفَضَائِلَ إذَا تَزَاحَمَتْ قُدِّمَ الْآكَدُ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ فِي صَدَقَةِ النَّفْلِ تَنْوِيعُهَا فِي وُجُوهِ الْبِرِّ بِالْمَصْلَحَةِ، وَلَا يَحْصُرُهَا فِي النَّفَقَةِ وَمِثْلُهُ التَّصَدُّقُ بِثَمَنِ الْعَبْدِ إلَى الْفُقَرَاءِ الْمُتَكَثِّرَةِ أَفْضَلُ مِنْ إعْتَاقِ عَيْنِ الْعَبْدِ كَمَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَالْعَمَلُ بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ النُّطْقِ إذَا فُهِمَ الْمُرَادُ بِهَا إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَمْ يَكْتَفُوا بِإِشَارَةِ النَّاطِقِ إلَّا فِي الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ كَذَا فِي الْفَيْضِ ثُمَّ إنَّهُ لَوْ أَنْفَقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ مَعَ احْتِيَاجِهِ بِدُونِ الصَّبْرِ مِنْهُ أَوْ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ يَكُونُ مُسْرِفًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الْحَاشِيَةِ. (وَقَالَ خ وَمَنْ تَصَدَّقَ، وَ) الْحَالُ (هُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ) ، وَأَوْلَى أَوْ أَوْجَبُ (أَنْ يُقْضَى مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ، وَهُوَ) أَيْ الصَّدَقَةُ (رَدٌّ عَلَيْهِ) مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَقِيلَ أَيْ غَيْرُ نَافِذٍ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ سَفِيهٌ مُسْرِفٌ وَتَصَرُّفُهُ مَرْدُودٌ مُطْلَقًا عِنْدَ الْبَعْضِ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ نَافِذٌ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي مَرْدُودٌ بَعْدَهُ وَالْحَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَافِذٌ إلَّا أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي عَلَى قَوْلِهِمَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي حَجْرُهُ عِنْدَهُ كَذَا قِيلَ (وَقَالَ) أَيْ الْبُخَارِيُّ (فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ) أَيْ الْأَهْلِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ (بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ) بَلْ يَجِبُ تَرْكُ الصَّدَقَةِ لِيُوصِلَ حَقَّ كُلِّ ذِي حَقٍّ إلَيْهِ فَاسْتِخْرَاجُ الْبُخَارِيِّ الْحُكْمَ مِنْ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُجْتَهِدًا كَمَا قِيلَ، وَقِيلَ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ فَيَكُونُ الِاسْتِخْرَاجُ لَا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ مَا يَعْرِفُهُ الْعَالِمُ الْعَامِّيُّ مِنْ النَّصِّ لِوُضُوحِ دَلَالَتِهِ فَحِينَئِذٍ لَا حُسْنَ فِي تَخْصِيصِ التَّفْرِيعِ إلَى الْبُخَارِيِّ فَتَأَمَّلْ. (وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ) ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ مُجْتَهِدِي الْمَشَايِخِ آثَرَ كَوْنَ الْعَمَلِ أَفْضَلَ مِنْ الْعِلْمِ فَتَقَاعَدَ عَنْ التَّصْنِيفِ وَالتَّدْرِيسِ فَتَفَرَّغَ لِلزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ (أَنَّهُ قَالَ لَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَنْ يَصْطَبِغَ) خُبْزَهُ (بِالزَّيْتِ أَوْ بِالْخَلِّ مَا لَمْ يَقْضِ دَيْنَهُ) ؛ لِأَنَّ هَذَا تَرَفُّهٌ، وَقَضَاءُ الْحَقِّ الْوَاجِبِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ هَذَا إمَّا مَذْهَبٌ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الْوَلِيِّ أَوْ أَنَّ مَالَهُ لَا يَفِي دَيْنَهُ لِتَسَاوِي الدَّيْنِ أَوْ لِغَلَبَتِهِ عَلَى الْمَالِ (وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ) الْعَسْقَلَانِيُّ (قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ) الْمَالِكِيُّ أَحَدُ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ (أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمِدْيَانَ) أَيْ مَنْ كَثُرَ دَيْنُهُ (لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَيَتْرُكَ قَضَاءَ الدَّيْنِ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ

المبحث الخامس في علاج الإسراف

الْتِزَامَ مَا لَمْ يَلْزَمْ مَعَ وُجُودِ مَا لَزِمَ وَمُقْتَضَى عَدَمِ الْجَوَازِ وُجُوبُ الِاسْتِرْدَادِ أَوْ التَّضْمِينِ عِنْدَ الْإِهْلَاكِ سِيَّمَا الْغُرَمَاءُ وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ التَّصَدُّقُ فَأَوْلَى عَدَمُ جَوَازِ هِبَتِهِ سِيَّمَا لِنَحْوِ، وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ لَكِنْ لَمْ أَقِفْ. (وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ الْجُمْهُورُ مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ فِي صِحَّةِ بَدَنِهِ وَ) صِحَّةِ (عَقْلِهِ حَيْثُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَكَانَ صَبُورًا عَلَى الْإِضَاقَةِ) مِنْ الضِّيقِ وَالْمُضَايَقَةِ (وَلَا عِيَالَ لَهُ أَوْ لَهُ عِيَالٌ يَصْبِرُونَ أَيْضًا فَهُوَ) أَيْ التَّصَدُّقُ بِكُلِّ مَالِهِ (جَائِزٌ) كَمَا «تَصَدَّقَ الصِّدِّيقُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَحَسَّنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا مَعَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا سِرًّا، وَعَلَانِيَةً حَتَّى تَخَلَّلَ بِالْعَبَاءِ، وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَجِئْ فِي الْمَرْفُوعِ (فَإِنْ فَقَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كُرِهَ) تَحْرِيمًا مَعَ نَفَاذِ تَصَرُّفِهِ قَالَ فِي قَاضِي خَانْ رَجُلٌ مُحْتَاجٌ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي مَعَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ قَالُوا إنْ كَانَ لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ يَصْبِرُ عَلَى الشِّدَّةِ فَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْبِرُ عَلَى الشِّدَّةِ فَالْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلُ. (وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ) أَيْ التَّصَدُّقُ (مَرْدُودٌ) غَيْرُ نَافِذٍ أَوْ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (وَرُوِيَ) أَيْ مَرْدُودِيَّتُهُ (عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَكِنْ يُخَالِفُ مَا فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ الْإِنْسَانُ إذَا وَقَفَ وَقْفًا، وَعَلَيْهِ دُيُونُ إلَخْ (فَظَهَرَ) مِمَّا تَقَدَّمَ (أَنَّ السَّرَفَ يَقَعُ فِي الصَّدَقَةِ أَيْضًا) كَمَا فِي غَيْرِهَا (إذَا كَانَ مَدْيُونًا، وَلَا يَفِي مَا فَضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ لِدَيْنِهِ أَوْ كَانَ ذَا عِيَالٍ لَا يَصْبِرُونَ) عَلَى شَدَائِدِ الْفَاقَةِ (وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ كِفَايَةً) فَيُفْضِي إلَى السُّؤَالِ وَدَوْرِ الْأَبْوَابِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ، وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ أَوْ خُدُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا» كَذَا نُقِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْبَغَوِيّ فَفُهِمَ أَنَّ الْكِفَايَةَ هَذَا الْخَمْسُونَ (أَوْ كَانَ مُحْتَاجًا لَا يَثِقُ بِنَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الْإِضَاقَةِ) أَيْ مُضَايَقَةِ الْفَقْرِ. [الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي عِلَاجِ الْإِسْرَافِ] (الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ) : (فِي عِلَاجِ الْإِسْرَافِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ) عِلْمِيٌّ وَعَمَلِيٌّ، وَقَلْعِيٌّ (الْأَوَّلُ عِلْمِيٌّ وَهُوَ مَعْرِفَةُ غَوَائِلِهِ السَّابِقَةِ) مِنْ مُشَارَكَةِ الشَّيْطَانِ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهَا (وَاسْتِمَاعُ مَا ذَكَرْنَا) فِي ذَمِّهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ (وَالتَّأَمُّلُ فِيهِ) أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا (وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى التَّذَكُّرِ) حَتَّى يَنْقَلِعَ مِنْهُ. (وَالثَّانِي عَمَلِيٌّ، وَهُوَ التَّكَلُّفُ فِي الْإِمْسَاكِ) إذَا كَانَ طَبْعُهُ عَلَى الْجُودِ (وَنَصْبُ رَقِيبٍ عَلَيْهِ) مِنْ الْأَحِبَّاءِ وَالْأَقَارِبِ (يُعَاتِبُهُ) فِيمَا أَسْرَفَ (وَيُذَكِّرُهُ آفَاتِ الْإِسْرَافِ. وَالثَّالِثُ قَلْعِيٌّ) يَقْلَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ

(وَهُوَ) أَيْ الْقَلَعِيُّ (مَعْرِفَةُ أَسْبَابِهِ ثُمَّ إزَالَتُهَا) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الشَّيْءِ إذَا زَالَ زَالَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِالْمَرَّةِ (وَهِيَ) أَيْ الْأَسْبَابُ (سِتَّةٌ) سَفَهٌ وَجَهْلٌ وَرِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ وَكَسَلٌ وَبَطَالَةٌ وَضَعْفُ نَفْسٍ وَضَعْفُ دِينٍ (الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْغَالِبُ) فِي السَّبَبِيَّةِ (السَّفَهُ، وَهُوَ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ، وَهُوَ ضَعْفُ الْعَقْلِ وَخِفَّتُهُ وَسَخَافَتُهُ) السَّخِيفُ ضِدُّ الثَّخِينِ (وَرَكَاكَتُهُ) مِنْ رَكَّ يَرِكُّ رَكَاكَةً أَيْ ضَعُفَ فِي عَقْلِهِ وَرَأْيِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ. اعْلَمْ أَنَّ السَّفَهَ هُوَ النُّقْصَانُ فِي الْعَقْلِ كَيْفًا وَضِدُّهُ الرُّشْدُ، وَالْبَلَادَةُ نُقْصَانٌ فِيهِ كَمًّا وَضِدُّهُ الذَّكَاءُ وَالْغَبَاوَةُ الْبُطْءُ، وَعَدَمُ السُّرْعَةِ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَبَادِئِ إلَى الْمَطْلُوبِ بِدُونِ النُّقْصَانِ فِي الْكُمِّ وَالْكَيْفِ وَضِدُّهَا الْفَطِنَةُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (وَضِدُّهُ الرُّشْدُ وَهُوَ قُوَّةُ الْعَقْلِ وَبُلُوغُهُ كَمَالَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] الْمَنْسُوبَةَ إلَيْكُمْ تَصَرُّفًا وَإِلَيْهِمْ مِلْكًا (ثُمَّ قَالَ {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أَيْ أَبْصَرْتُمْ رُشْدًا {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] أَعْطُوهَا إلَيْهِمْ لِرَفْعِ الْحَجْرِ بِزَوَالِ السَّفَهِ (وَأَكْثَرُ السَّفَهِ طَبِيعِيٌّ) يُخَالِفُهُ عَدُّ الْأُصُولِيِّينَ السَّفَهَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ قَالَ فِي الْمِرْآةِ فَإِنَّ السَّفِيهَ بِاخْتِيَارِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ فَلَا يَكُونُ سَمَاوِيًّا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّبِيعِيَّ سَمَاوِيٌّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الطَّبِيعِيِّ الْمَبْدَأُ وَمِنْ الِاكْتِسَابِ الْأَثَرُ (وَقَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا يُقَوِّيهِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى كَثْرَةِ الْإِسْرَافِ) بِأَنْ يَنْضَمَّ إلَى مَا هُوَ طَبِيعَةٌ لَهُ مَا يُقَوِّيهِ (وَهُوَ) أَيْ مَا يُقَوِّيهِ (تَمَلُّكُ الْمَالِ بِغَيْرِ كَسْبٍ وَتَعَبٍ) كَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَإِنَّ كُلْفَةَ الْكَسْبِ، وَإِتْعَابَ التَّحْصِيلِ تُصَعِّبُ الْإِنْفَاقَ وَالْإِهْدَارَ وَتُذَكِّرُ فَوَائِدَ الْمَالِ وَمَنَافِعَهُ (وَحَثُّ جُلَسَائِهِ) إيَّاهُ فَمِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى فَاعِلِهِ، وَالْمَفْعُولُ مَتْرُوكٌ (عَلَى الْإِنْفَاقِ وَتَنْفِيرُهُمْ) إيَّاهُ (عَنْ الْإِمْسَاكِ لِيَأْكُلُوا مَالَهُ) عِنْدَ تَبْذِيرِهِ (وَيَأْخُذُوهُ فَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ جَلِيسِ السُّوءِ) كَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحِيحَيْنِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَك، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا مُنْتِنَةً» قَوْلُهُ يُحْذِيَكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يُعْطِيك قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ مَنْ تُؤْذِي مُجَالَسَتُهُ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا وَالتَّرْغِيبُ فِي مُجَالَسَةِ مَنْ تَنْفَعُ مُجَالَسَتُهُ فِيهِمَا، وَفِيهِ إيذَانُ بِطَهَارَةِ الْمِسْكِ وَحِلِّ بَيْعِهِ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ تَجَنَّبْ قَرِينَ السُّوءِ وَاصْرِمْ حِبَالَهُ ... فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِنْهُ مَحِيصًا فَدَارِهِ وَلَازِمْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاتْرُكْ مِرَاءَهُ ... تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لَمْ تُمَارِهِ ؛ وَلِلَّهِ فِي عَرْضِ السَّمَوَاتِ جَنَّةٌ ... وَلَكِنَّهَا مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ (وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِسْرَافِ يَكْثُرُ) وُجُودُهُ (فِي أَوْلَادِ الْأَغْنِيَاءِ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْعَبُونَ فِي تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ فَلَا يَعْرِفُونَ قَدْرَهَا فَيُضَيِّعُونَهَا فِي سَفَاهَتِهِمْ كَالتُّجَّارِ، وَأَهْلِ الْمَنَاصِبِ (وَقَدْ يَحْصُلُ السَّفَهُ أَوْ يَزِيدُ بِرِعَايَةِ النَّاسِ لَهُ وَبِتَعْظِيمِهِمْ إيَّاهُ وَتَغْرِيرِهِمْ) أَيْ مُخَادَعَتِهِمْ لَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِيَنَالُوا مِنْهُ وَيُقَالُ غَرَّتْهُ الدُّنْيَا غُرُورًا خَدَعَتْهُ بِزِينَتِهَا هَذَا إنْ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَإِنْ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَزَايٍ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ نَصْرَتِهِمْ لَهُ

وَتَعْظِيمِهِمْ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ التَّعْزِيرُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَتُعَزِّرُوهُ} [الفتح: 9] النُّصْرَةُ وَالتَّعْظِيمُ، وَإِنْ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَزَاءَيْنِ أَيْ إجْلَالِهِمْ لَهُ، وَهَيْبَتِهِمْ لِمَقَامِهِ (وَثَنَائِهِمْ) أَيْ مَدْحِهِمْ لَهُ (كَمَا فِي أَوْلَادِ الْكُبَرَاءِ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَالْمَشَايِخِ) الْمَشْهُورِينَ بِالْوَعْظِ أَوْ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ فِي أَوْلَادِ الْأَغْنِيَاءِ نَعَمْ إنَّ أَوْلَادَ الْكُبَرَاءِ مَجْبُولَةٌ بِنَحْوِ التَّعْظِيمِ الْمَذْكُورِ دُونَ أَوْلَادِ الْأَغْنِيَاءِ (وَنَحْوِهِمْ) مِنْ أَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَأَرْبَابِ الْوَجَاهَةِ. (وَالثَّانِي) مِنْ أَسْبَابِ السَّفَهِ (الْجَهْلُ بِمَعْنَى الْإِسْرَافِ أَوْ بِبَعْضِ أَصْنَافِهِ) أَيْ الْإِسْرَافِ (فَلَا يَظُنُّهُ) أَيْ لَا يَعْتَقِدُ مَا فَعَلَهُ (سَرَفًا) حَتَّى يَجْتَنِبَهُ (بَلْ يَظُنُّهُ سَخَاءً) مَمْدُوحًا (لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي بَذْلِ غَيْرِ الْوَاجِبِ) ، وَإِنْ افْتَرَقَا بِصَرْفِ الْمَالِ فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ وَفِي مُسْتَحِقِّهِ (أَوْ) الْجَهْلُ (بِحُرْمَتِهِ وَضَرَرِهِ. وَالثَّالِثُ: الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ) ؛ لِأَنَّهُ يُسْرِفُ لِنَيْلِ الثَّنَاءِ مِنْ النَّاسِ وَمَدْحِهِمْ. (وَالرَّابِعُ: الْكَسَلُ) أَيْ الْفُتُورُ، وَعَدَمُ النَّشَاطِ فِي الْخَيْرِ وَالتَّقَاعُدُ عَنْ تَحْصِيلِ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ فَيَطْلُبُ حُصُولَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ بِالْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ (وَالْبَطَالَةُ) أَيْ تَرْكُ الْعَمَلِ لِمُجَرَّدِ الْحُضُورِ وَالرَّاحَةِ (وَالْخَامِسُ ضَعْفُ النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعَوَامُّ) لَا الْخَوَاصُّ (حَيَاءً) فَإِنَّ الْحَيَاءَ الْحَقِيقِيَّ مَمْدُوحٌ وَمِنْ الْإِيمَانِ كَمَنْ يُنْفِقُ الْمَالَ فِي مَعْصِيَةٍ بِنَاءً عَلَى إنْفَاقِ الْغَيْرِ عِنْدَهُ فِيهَا فَلَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ لِضَعْفِهَا وَعَدَمِ قُوتِهَا بَلْ رُبَّمَا يَسْتَدِينُ لِذَلِكَ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ لَعَلَّ لَيْسَ مِنْهُ بَذْلُهُ خَوْفًا عَلَى عِرْضِهِ وَنَفْسِهِ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ إعْطَاءُ شَيْءٍ لِمَنْ يَخَافُ هَجْوَهُ جَائِزٌ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَشْكُلُ بِمَا سَبَقَ وَصَرَّحَ فِي قَاضِي خَانْ أَيْضًا وَالرَّجُلُ إذَا كَانَ مُطْرِبًا مُغَنِّيًا إنْ أُعْطِيَ بِغَيْرِ شَرْطٍ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ عَلَى شَرْطٍ رُدَّ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ يَعْرِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ إذْ مَا يُبَاحُ أَخْذُهُ يُبَاحُ إعْطَاؤُهُ وَمَا فِي الْأَشْبَاهِ فِي قَاعِدَةِ مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إعْطَاؤُهُ مِنْ قَوْلِهِ كَالرِّبَا وَمَهْرِ الْبَغْيِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَالرِّشْوَةِ وَأُجْرَةِ النَّائِحَةِ وَالزَّامِرِ فَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ أَوْ نَقُولُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَتَقُولُ إذَا ثَبَتَ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ قِيَاسٍ، وَلَوْ مِنْ أَئِمَّتِنَا لَا يَجُوزُ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ (وَالسَّادِسُ ضَعْفُ الدِّينِ فَلَا يَهْتَمُّ لَهُ) إلَى الْإِسْرَافِ لِضَعْفِ دِيَانَتِهِ مَعَ عِلْمِهِ مَفْسَدَتَهُ. (وَعِلَاجُهُ) أَيْ الْإِسْرَافُ (أَمَّا السَّفَهُ الطَّبِيعِيُّ) مِنْهُ (فَزَوَالُهُ عَسِيرٌ جِدًّا) فَتَذَكَّرْ مَا سَبَقَ فَتَأَمَّلْ فِيهِ (فَلِذَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ إيتَاءِ الْمَالِ لَهُ) أَيْ لِلسَّفِيهِ بِقَوْلِهِ {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] (وَأَمَرَ بِحَجْرِهِ) بِقَوْلِهِ {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} [البقرة: 282] الْآيَةَ - هَذَا عِنْدَهُمَا، وَأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ فِيمَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ دُونَ مَا لَا يَقْبَلُهُ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلَا حَجْرَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ فَتَصَرُّفُهُ صَادِرٌ عَنْ أَهْلِهِ مُضَافٌ إلَى مَحَلِّهِ؛ وَلِذَا يُخَاطَبُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ وَيُحْبَسُ فِي دُيُونِ الْعِبَادِ وَيَصِحُّ مِنْهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَسْبَابِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مَعَ أَنَّ ضَرَرَ النَّفْسِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَالِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا لَا يُحْجَرُ بِمُجَرَّدِ السَّفَهِ بَلْ يُحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقٍ

(فَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ) لَعَلَّ الْأَكْثَرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى أَقْوَالِ السَّائِرِينَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ الْإِمَامَيْنِ ذَهَبَا إلَى الْحَجْرِ، وَأَبَا حَنِيفَةَ إلَى عَدَمِهِ لَكِنْ قَالُوا إنْ خَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ صَاحِبَاهُ يُخَيَّرُ وَيَعْمَلُ بِمَا أَفْضَى إلَيْهِ رَأْيُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ اخْتِلَافَ عَصْرٍ وَزَمَانٍ فَيَخْتَارُ قَوْلَهُمَا لِتَغَيُّرِ الْأَحْكَامِ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ كَمَا فِي قَاضِي خَانْ فَعَلَى هَذَا لَا يُفِيدُ التَّقْيِيدُ بِالْأَكْثَرِيَّةِ نَفْعًا كَثِيرًا، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْكُثْرِ فَافْهَمْ. (ذَهَبُوا إلَى وُجُوبِ حَجْرِ السَّفِيهِ الْمُسْرِفِ) عَلَى الْقَاضِي (مَعَ أَنَّهُ) أَيْ الْحَجْرَ (إهْدَارٌ لِلْآدَمِيَّةِ) فَضَرَرُ السَّفَهِ بَالِغٌ لِمَرْتَبَةٍ تُهْدِرُ آدَمِيَّةَ الْآدَمِيِّ (وَإِلْحَاقٌ بِالْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمِ) الَّتِي لَا شُعُورَ لَهَا بَلْ (وَ) إلْحَاقٌ (بِالْجَمَادَاتِ) ، وَأَنَّ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ تَصَرُّفَاتِهَا أَوْ كَوْنِ تَصَرُّفِهِ كَعَدَمِ التَّصَرُّفِ فَلَا يُتَوَهَّمُ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى فِي إلْحَاقِ الْجَمَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْجَمَادَاتِ لَيْسَ لَهُمْ حَرَكَاتٌ اخْتِيَارِيَّةٌ وَالسَّفِيهُ لَهُ ذَلِكَ (فَإِنْ قَبِلَ الْعِلَاجَ) أَيْ إنْ أَمْكَنَ قَبُولُ الْعِلَاجِ (فَبِالْمَنْعِ عَنْ جُلَسَاءِ السُّوءِ) الَّذِينَ يُحَرِّضُونَهُ وَيُغْرُونَهُ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَيُنَفِّرُونَهُ مِنْ الْإِمْسَاكِ فَإِنَّ الْمُقَارِنَ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الصُّحْبَةُ سَارِيَةٌ وَالطَّبِيعَةُ سَارِقَةٌ نَظْمٌ يَا ربد بدتر بود ازماربد ... بِحَقِّ ذَات ياك اللَّهِ الصَّمَدِ يَا ربد آردتر سِوَى جَحِيمٍ ... يَا رينكوكيرنا يَأْبَى نعيم (وَبِإِلْزَامِهِ مُجَالَسَةَ الْعُقَلَاءِ) الَّذِينَ اسْتَعْمَلُوا عُقُولَهُمْ بِمَوَاضِعِهَا لَعَلَّهُمْ الْعُلَمَاءُ الظَّاهِرِيُّونَ (وَالْحُكَمَاءِ) لَعَلَّهُمْ الْمُتَصَوِّفَةُ الْمُتَشَرِّعُونَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا رَزَقَهُ خَلِيلًا صَالِحًا إنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ» ، وَعَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: تَحَبَّبُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِبُغْضِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَتَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّبَاعُدِ عَنْهُمْ وَالْتَمِسُوا رِضَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَخَطِهِمْ قَالُوا يَا رُوحَ اللَّهِ فَمَنْ نُجَالِسُ قَالَ جَالِسُوا مَنْ تُذَكِّرُكُمْ رُؤْيَتُهُ وَمَنْ يَزِيدُ فِي عَمَلِكُمْ كَلَامُهُ وَمَنْ يُرَغِّبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُهُ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ إنْ عَرَضَتْ لَك حَاجَةٌ فَاصْحَبْ مَنْ إذَا خَدَمْته صَانَك، وَإِنْ صَحِبْته زَانَك أَيْ حَفِظَك، وَإِنْ قَعَدَ بِك مَانَك أَيْ حَمَلَ مُؤْنَتَك اصْحَبْ مَنْ إذَا مَدَدْت يَدَك بِخَيْرٍ مَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْك حَسَنَةً عَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً سَدَّهَا اصْحَبْ مَنْ إذَا سَأَلْته أَعْطَاك، وَإِنْ سَكَتَ ابْتَدَاك، وَإِنْ نَزَلَتْ بِك نَازِلَةٌ وَاسَاك أَيْ جَعَلَك كَنَفْسِهِ اصْحَبْ مَنْ إذَا قُلْت صَدَّقَ قَوْلَك، وَإِنْ حَاوَلْت أَمْرًا آمَرَكَ، وَإِنْ تَنَازَعْتُمَا آثَرَك، وَإِنَّ أَخَاك الْحَقَّ مَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَك. (وَإِسْمَاعِهِ مَا وَرَدَ فِي آفَاتِ الْإِسْرَافِ) كَمَا مَرَّ (وَحَمْلِهِ عَلَى تَكَلُّفِ الْإِمْسَاكِ) الَّذِي هُوَ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِ (وَلَوْ) كَانَ الْحَمْلُ (بِالْعِتَابِ وَالْعِقَابِ، وَأَمَّا الْجَهْلُ فَيُزَالُ بِالتَّعَلُّمِ) لِزَوَالِ الْمُسَبَّبِ بِزَوَالِ السَّبَبِ. (وَعِلَاجُ الرِّيَاءِ سَبَقَ، وَأَمَّا الْكَسَلُ وَالْبَطَالَةُ) الْمَذْكُورَانِ (وَهُوَ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ فَمَذْمُومٌ جِدًّا وَحَسْبُك فِيهِ) أَيْ يَكْفِيك فِي ذَمِّهِ (قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فَإِذَا قَصُرَ نَفْعُ الْإِنْسَانِ عَلَى سَعْيِهِ فَمَنْ لَا سَعْيَ لَهُ لَا نَفْعَ لَهُ وَيَلْزَمُ أَيْضًا مِنْهُ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ مِنْ عَمَلِ الْغَيْرِ. وَأَمَّا نَحْوُ الشَّفَاعَةِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ فَقِيلَ إنَّهَا مِنْ سَعْيِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، وَقِيلَ الْكُلُّ بِالسَّعْيِ لَكِنَّ أَسْبَابَ السَّعْيِ قَدْ تَكُونُ بِوَاسِطَةِ قَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ فَيَدْعُو لَهُ وَيَتَصَدَّقُ وَكَذَا مَحَبَّةُ الصُّلَحَاءِ مُتَسَبِّبَةٌ عَنْ سَعْيِهِ فِي خِدْمَةِ الدِّينِ أَقُولُ وَكَذَا النَّسَبُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] فَإِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَكَذَا الصَّلَاحُ، وَلَوْ لَمْ يُمَاثِلْ صَلَاحَ الْأَسْلَافِ كَمَا قَالُوا فِي مَحَبَّةِ الصُّلَحَاءِ، وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» كَمَا فِي الْمَشَارِقِ وقَوْله تَعَالَى - سَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ - فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُتَسَبَّبٌ مِنْ سَعْيِهِ وَبِالْجُمْلَةِ الْمَحْذُورُ يَنْدَفِعُ بِتَعْمِيمِ السَّعْيِ إلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ هَذَا لَكِنَّ الْإِشْكَالَ

بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] بَاقٍ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْكُلِّ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ، وَلَوْ بِنَوْعِ التَّحَمُّلِ. (وَاسْتِعَاذَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ) أَيْ الْكَسَلِ (رَوَاهَا) فِي الِاسْتِعَاذَةِ (خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) الْقِيَاسُ تَقْدِيمُ الذَّكَرِ عَلَى الْإِنَاثِ كَمَا فِي الشَّهَادَاتِ لَكِنْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَائِشَةَ عَلَى أَنَسٍ فِي الْعِلْمِ وَالْفَقَاهَةِ، وَقُرْبِ النُّبُوَّةِ وَالشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ قَدَّمَهَا فِي التَّرْتِيبِ فَأَمَّا عَنْ عَائِشَةَ فَعَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرَمْزِ الشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ» إلَى آخِرِهِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ الْكَسَلُ التَّثَاقُلُ وَالتَّرَاخِي عَمَّا يَنْبَغِي مَعَ الْقُدْرَةِ أَوْ هُوَ عَدَمُ انْبِعَاثِ النَّفْسِ لِفِعْلِ الْخَيْرِ وَالْعَاجِزُ مَعْذُورٌ وَالْكَسْلَانُ لَا وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ حَالَةٌ رَدِيئَةٌ، وَلَوْ مَعَ عُذْرٍ فَلِذَلِكَ تَعَوَّذَ مِنْهُ. وَأَمَّا عَنْ أَنَسٍ فَكَمَا فِي الْجَامِعِ بِرَمْزِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ» إلَخْ عَنْ النَّوَوِيِّ الْكَسَلُ انْبِعَاثُ النَّفْسِ لِلْخَيْرِ، وَقِلَّةُ الرَّغْبَةِ فِيهِ مَعَ إمْكَانِهِ. (وَكَوْنُ مُقْتَضَاهُ هَلَاكَ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ) عِنْدَ التَّفْرِيطِ فِي أَمْرِهِمَا (وَكَوْنُهُ تَشَبُّهًا بِالْجَمَادِ) فِي عَدَمِ التَّحَرُّكِ وَكَمَالِ الْجُمُودِ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَرَكَةٌ إرَادِيَّةٌ (وَ) كَوْنُهُ (إبْطَالًا لِلْحِكْمَةِ) مِنْ خَلْقِهِ تَعَالَى وُجُودَهُ لِيَعْبُدَهُ تَعَالَى أَوْ مِنْ خَلْقِهِ الْحَوَاسَّ لِيَصْرِفَهَا لِلْمَنَافِعِ الَّتِي تَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهَا. (وَالْعِلَاجُ الْعَمَلِيُّ لِلْكَسَلِ مُجَالَسَةُ أَرْبَابِ الْجِدِّ وَالسَّعْيِ) فَإِنَّ الصُّحْبَةَ سَارِيَةٌ وَالطَّبِيعَةَ سَارِقَةٌ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ اسْتَكْثِرْ مِنْ الْإِخْوَانِ مَا قَدَرْت فَإِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ شَفَاعَةً فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ قِيلَ عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِينَهُ ... فَإِنَّ الْقَرِينَ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي فَإِنْ كَانَ ذَا شَرٍّ فَجَنِّبْهُ سُرْعَةً ... وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ فَقَارِنْهُ تَهْتَدِي وَيَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّهُمْ حَتَّى تَنْعَكِسَ مِنْهُمْ أَحْوَالُهُ كَمَا قِيلَ وَمِنْ آثَارِ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتَعَدَّى مِنْ الْمَحْبُوبِ إلَى مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيُنَاسِبَهُ، وَلَوْ مِنْ بُعْدٍ مِنْ مَحْبُوبِ مَحْبُوبِهِ وَمَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ حَتَّى مَنْزِلِهِ وَمَحَلَّتِهِ وَجِيرَانِهِ حَتَّى قِيلَ إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَحَبَّ الْمُؤْمِنَ أَحَبَّ كَلْبَهُ وَيَنْبَغِي فِيمَنْ تُرِيدُ صُحْبَتَهُ خَمْسُ خِصَالٍ الْعَقْلُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَتَرْكُ الْفِسْقِ وَالِابْتِدَاعِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا (وَمُجَانَبَةُ الْكَسَالَى وَالْبَطَّالِينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28] لِئَلَّا يَسْرِيَ إلَيْهِ حَالُهُمْ قَالَ فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ، وَأَنْشَدْت هَذَا الشَّعْرَ عِنْدِي لَا تَصْحَبْ الْكَسْلَانَ فِي حَالَاتِهِ ... كَمْ صَالِحٍ بِفَسَادِ آخَرَ يَفْسُدُ عَدْوَى الْبَلِيدِ إلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ ... كَالْجَمْرِ يُوضَعُ فِي الرَّمَادِ فَيَخْمُدُ وَفِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ لَا تَصْحَبْ مِنْ النَّاسِ إلَّا مَنْ يَكْتُمُ وَيَسْتُرُ عَيْبَك وَيَكُونُ مَعَك فِي النَّوَائِبِ وَيُؤْثِرُك فِي الرَّغَائِبِ وَيَنْشُرُ حَسَنَتَك وَيَطْوِي سَيِّئَتَك فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَلَا تَصْحَبْ إلَّا نَفْسَك (وَالضَّعْفُ يُعَالَجُ بِالتَّأَمُّلِ فِي أَنَّ الْحَيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ، وَعَذَابَهُ أَشَدُّ) فَلَا تَدَعْ الطَّاعَةَ لِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» (وَمُجَالَسَةُ الْأَقْوِيَاءِ) فِي عَمَلِ الطَّاعَةِ (وَذَوِي الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ) قَالَ فِي الْحِكَمِ الْعَطَائِيَّةِ فِي بَابِ الصُّحْبَةِ لَا تَصْحَبْ مِنْ لَا يُنْهِضُك حَالُهُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَقَالُهُ قَالَ فِي شَرْحِهِ: الصُّحْبَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الْقَوْمِ، وَفِيهَا مَنَافِعُ، وَفَوَائِدُ وَالْحَالُ هُنَاكَ كَوْنُ هِمَّتِهِ مُنْحَصِرَةً بِهِ تَعَالَى مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ وَحَصْرُ الْتِجَائِهِ إلَيْهِ تَعَالَى، وَإِسْقَاطُ نَظَرِهِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَإِسْقَاطُ نَفْسِهِ مِنْ عَيْنِهِ فَلَا يُشَاهِدُ لَهَا فِعْلًا فَصُحْبَةُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَإِنْ قَلَّتْ عِبَادَتُهُ جَالِبَةٌ لِكُلِّ نَفْعٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ. قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: لَا تُعَاشِرْ مِنْ النَّاسِ إلَّا مَنْ تَزِيدُ عِنْدَهُ بِبِرٍّ وَتَنْقُصُ عِنْدَهُ بِإِثْمٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُنْ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا بِالْأَدَبِ وَمَعَ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ بِالْعِلْمِ وَمَعَ الْعَارِفِينَ كَيْفَ شِئْت، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - شَرُّ الْأَصْدِقَاءِ مَنْ أَحْوَجَك

الثالث والثلاثون من الأخلاق الذميمة العجلة

إلَى الْمُدَارَاةِ، وَأَلْجَأَك إلَى الِاعْتِذَارِ. وَقِيلَ مَنْ جَلَسَ عَلَى دُكَّانِ الْعَطَّارِ لَمْ يَفْقِدْ الرَّائِحَةَ الطَّيِّبَةَ (وَالِاحْتِرَازُ عَنْ مُصَاحَبَةِ الْفُسَّاقِ) فَإِنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ اللَّهَ وَمَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ لَا تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُ، وَلَا يُوثَقُ بِصَدَاقَتِهِ بَلْ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَعْرَاضِ، وَأَنَّ فِي صُحْبَتِهِمْ خَطَرَ سِرَايَةِ الْبِدْعَةِ وَالْفِسْقِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَطِيعَةِ فَكَيْفَ الصُّحْبَةُ (وَالْمُدَاهِنِينَ وَالضُّعَفَاءِ فِي الدِّينِ فَعَلَيْك بِالتَّشَمُّرِ وَالسَّعْيِ الْبَلِيغِ فِي إزَالَةِ صِفَةِ الْإِسْرَافِ فَإِنَّهُ خُلْقٌ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (ذَمِيمٌ قَبِيحٌ جِدًّا وَمَرَضٌ مُدْمِنٌ) أَيْ مُهْلِكٌ قَدْ لَا يُفَارِقُ مَنْ قَامَ بِهِ (عَسِيرُ الْعِلَاجِ) أَيْ قَوِيٌّ (إلَّا أَنْ يَتَدَارَكَ اللَّهَ تَعَالَى بِتَوْفِيقِهِ فَإِنَّهُ مُيَسِّرٌ كُلَّ عَسِيرٍ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) . [الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ الْعَجَلَةُ] (الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ) مِنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ (الْعَجَلَةُ) ، وَهِيَ عَنْ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي ثَلَاثٌ: الْعَجَلَةُ فِي حُصُولِ الْمَرَامِ بِسُرْعَةٍ قَبْلَ وَقْتِهِ كَمَنْ يُرِيدُ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَيُعَجِّلُ فِي حُصُولِهِ، وَفِي شُرُوعِ عَمَلٍ بِمُجَرَّدِ خُطُورِهِ فِي قَلْبِهِ بِلَا تَأَمُّلٍ فِي أَنَّ لَهُ فِيهِ رُشْدًا وَصَلَاحًا أَوْ لَا كَمَنْ يَرَى رَجُلًا يَقِفُ دَرَاهِمَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَيُعَجِّلُ بِمِثْلِهِ بِلَا طَلَبٍ وَتَفْتِيشٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ. وَقِسْمٌ فِي إتْمَامِ الْعَمَلِ بِدُونِ تَوْفِيَةِ حَقِّهِ كَمَنْ يَشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ التِّلَاوَةِ فَيُعَجِّلُ فِي الْإِتْمَامِ بِدُونِ تَوْفِيَةِ كُلِّ جُزْءٍ حَقَّهُ بِعَدَمِ رِعَايَةِ الْآدَابِ وَكَذَا التَّجْوِيدُ فِي الْقُرْآنِ، وَفَصَّلَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَهِيَ) الْعَجَلَةُ (الْمَعْنَى الرَّاتِبُ) أَيْ الثَّابِتُ (فِي الْقَلْبِ الْبَاعِثُ عَلَى) إرَادَةِ (حُصُولِ الْمَرَامِ بِسُرْعَةٍ أَوْ) الْبَاعِثُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى شَيْءٍ بِأَوَّلِ خَاطِرٍ (دُونَ تَأَمُّلٍ وَاسْتِطْلَاعٍ وَنَظَرٍ بَالِغٍ) فِي عَاقِبَتِهِ (أَوْ) الْبَاعِثُ (عَلَى الْإِتْمَامِ بِدُونِ تَوْفِيَةِ كُلِّ جُزْءٍ حَقَّهُ) فَلِلْعَجَلَةِ أَقْسَامٌ مَذْكُورَةٌ. (وَضِدُّ الْعَجَلَةِ مُطْلَقًا الْأَنَاةُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ يُقَالُ تَأَنَّيْت فِي هَذَا الْأَمْرِ أَيْ تَمَكَّثْت فِيهِ، وَلَمْ أُعَجِّلْ (وَضِدُّ الْأَوَّلِ) ، وَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَى حُصُولِ الْمَرَامِ بِسُرْعَةٍ (حُسْنُ الِانْتِظَارِ) أَيْ الِانْتِظَارُ بِارْتِيَاحٍ وَسَعَةِ خَاطِرٍ إلَى وَقْتِ حُصُولِهِ (وَضِدُّ الثَّانِي) وَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِقْدَامِ بِأَوَّلِ خَاطِرٍ (التَّوَقُّفُ وَالتَّثَبُّتُ) أَيْ التَّرَوِّي فِي ذَلِكَ (حَتَّى يَسْتَبِينَ لَهُ رُشْدُهُ) فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُرِيدُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ (وَضِدُّهُ) أَيْ خَطَؤُهُ (وَضِدُّ الثَّالِثِ) ، وَهُوَ الْبَاعِثُ عَلَى إتْمَامِ الشَّيْءِ قَبْلَ تَوْفِيَةِ الْأَجْزَاءِ حُقُوقَهَا (التَّأَنِّي وَالتُّؤَدَةُ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ أَوْ فَسُكُونٍ مَشْيٌ ثَقِيلٌ يُقَالُ اتَّأَدَ فِي أَمْرِهِ إذَا تَرَفَّقَ، وَلَمْ يُعَجِّلْ فِيهِ (حَتَّى يُؤَدِّيَ لِكُلِّ جُزْءٍ حَقَّهُ) اللَّائِقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ وَنُقْصَانٍ. (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) هَذَا شُرُوعٌ فِي إثْبَاتِ مَذْمُومِيَّةِ الْعَجَلَةِ مُطْلَقًا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَتَيْنِ أَنَّ النَّهْيَ وَالذَّمَّ يَقْتَضِيَانِ قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ

{خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] الْآيَةَ) قَالَ الْإِمَامُ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ الْعَجَلَةُ طَلَبُ الشَّيْءِ قَبْلَ أَوَانِهِ وَعَنْ تَفْسِيرِ أَبِي السُّعُودِ الْعَجَلُ الطِّينُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ فَقِيلَ فَحِينَئِذٍ لَا تَقْرِيبَ لَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ التَّقْرِيبِ عِنْدَ إرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَلَيْسَ فَلَيْسَ {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37] فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ كَانَتْ الْعَجَلَةُ طَبْعًا غَرِيزِيًّا فَمَا مَعْنَى النَّهْيِ، وَالنَّهْيُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَقْلِ الِاخْتِيَارِيِّ؟ . أُجِيبَ أَنَّ الْعَائِقَ كُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ أَكْمَلَ فَافْهَمْ (وَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} [طه: 114] الْآيَةَ) . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] عَنْ الْمُبَرِّدِ مِنْ شَأْنِهِ الْعَجَلَةُ، وَقِيلَ أَيْ تَعْجِيلٌ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ كُنْ، وَقِيلَ عَلَى الْقَلْبِ بِمَعْنَى خُلِقَ الْعَجَلُ مِنْ الْإِنْسَانِ، وَعَنْ بَعْضٍ خُلِقَتْ الْعَجَلَةُ مِنْ الْإِنْسَانِ وَحَقِيقَتُهُ تَدُلُّ عَلَيْهَا وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلَّذِي يُكْثِرُ الشَّيْءَ خُلِقْتَ مِنْهُ، وَقِيلَ مِنْ أَخْلَاقِ الشَّيْطَانِ الْعَجَلَةُ وَالطَّيْشُ وَالْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ عَجُولٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَهُ الْعَقْلَ، وَأَرْشَدَهُ إلَى التَّثَبُّتِ وَالتَّأَنِّي فَمَنْ اسْتَعْمَلَ عَقْلَهُ فِي تَحْصِيلِ هَذَيْنِ الْخُلُقَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ فَقَدْ فَارَقَ الشَّيْطَانَ فِي الطِّبَاعِ. وَعَنْ الْبَيْهَقِيّ عَلَى رِوَايَةِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ» أَيْ التَّثَبُّتُ فِي الْأُمُورِ «وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ» . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إنَّمَا كَانَتْ الْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهَا خِفَّةٌ وَطَيْشٌ وَحِدَّةٌ فِي الْعَبْدِ تَمْنَعُهُ مِنْ التَّثَبُّتِ وَالْوَقَارِ وَالْحِلْمِ وَتُوجِبُ وَضْعَ الشَّيْءِ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ وَتَجْلُبُ الشُّرُورَ وَتَمْنَعُ الْخُيُورَ، وَعَنْ الْغَزَالِيِّ الْعَجَلَةُ فِعْلُ الشَّيْءِ قَبْلَ أَوَانِهِ الْأَلْيَقِ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَتْ الْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْعَجَلَةِ قُلْت لِتَكُونَ الْعَجَلَةُ مَطِيَّةً فِي طَرِيقِ الْآخِرَةِ فَإِذَا جَمَحَتْ بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَبَسَهَا بِزِمَامِ الْعَقْلِ. وَعَنْ حَاتِمٍ الْأَصَمِّ الْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا فِي خَمْسٍ فَإِنَّهَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إطْعَامُ الضَّيْفِ وَتَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَتَزْوِيجُ الْبِكْرِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ وَالتَّوْبَةُ مِنْ الذُّنُوبِ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثَلَاثَةٌ لَا تُؤَخِّرُهَا الصَّلَاةُ إذَا أَتَتْ وَالْجِنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا. (ت) (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «السَّمْتُ الْحَسَنُ» أَيْ الْهَيْئَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَالسَّمْتُ الطَّرِيقُ وَالْقَصْدُ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ «وَالتُّؤَدَةُ» التَّأَنِّي وَالتَّثَبُّتُ وَتَرْكُ الْعَجَلَةِ، وَقِيلَ التَّرَفُّقُ وَالتَّمَهُّلُ فِي الْأُمُورِ «وَالِاقْتِصَادُ» بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ «جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» أَيْ هَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ شَمَائِلِ أَهْلِ النُّبُوَّةِ وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ فَضَائِلِهِمْ فَاقْتَدُوا بِهِمْ فِيهَا وَتَابِعُوهُمْ عَلَيْهَا فَإِنَّ أَمْرَ النُّبُوَّةِ لَا يَتِمُّ بِدُونِهَا، وَأَمْثَالُ هَذِهِ التَّقَادِيرِ مِمَّا لَا يُهْتَدَى إلَى تَعَيُّنِهَا إلَّا بِنُورِ الْوَحْيِ فَمَعْرِفَةُ مِثْلِهَا بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مَسْدُودَةٌ ثُمَّ الْعَجَلَةُ إنَّمَا تَكُونُ مَذْمُومَةً فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِاحْتِيَاجِهَا إلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفْكِيرِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِعَوَاقِبِهَا. وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلَيْسَتْ بِمَذْمُومَةٍ فِي الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]- وَكَانَ الْبُوشَنْجِيُّ فِي الْخَلَاءِ

فَدَعَا خَادِمَهُ فَقَالَ انْزِعْ قَمِيصِي، وَأَعْطِهِ فُلَانًا فَقَالَ هَلَّا صَبَرْت حَتَّى تَخْرُجَ قَالَ خَطَرَ لِي بَذْلُهُ، وَلَا آمَنُ عَلَى نَفْسِي التَّغَيُّرَ (وَآفَةُ الْعَجَلَةِ الْأُولَى) هِيَ إرَادَةُ حُصُولِ الْمَرَامِ بِسُرْعَةٍ (الْفُتُورُ) أَيْ السُّكُونُ وَالضَّعْفُ (وَالِانْقِطَاعُ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَعَدَمُ حُصُولِ الْمَرَامِ بِأَنْ يَقْصِدَ مَثَلًا مَنْزِلَةً فِي الْخَيْرِ وَيُعَجِّلَ فِي حُصُولِهَا فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ فَإِمَّا أَنْ يَفْتُرَ) مِنْ الْفُتُورِ (وَيَيْأَسَ) مِنْ الْيَأْسِ (أَوْ يَغْلُوَ) مِنْ الْغُلُوِّ التَّجَاوُزُ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ (فِي الْجَهْدِ) أَيْ الْمَشَقَّةِ (وَأَتْعَبَ النَّفْسَ) قِيلَ الْأَوْلَى وَتُتْعِبُ (فَيَنْقَطِعَ) ، وَلَا يَنَالَ مَا يَتَمَنَّاهُ (فَإِنَّ الْمَنْبَت) اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ الْمُنْقَطِعُ عَنْ السَّفَرِ بِسَبَبِ حَمْلِ دَابَّتِهِ عَلَى مَا لَا تُطِيقُهُ أَوْ السَّيْرِ عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا بِدُونِ اسْتِرَاحَةٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ (لَا أَرْضًا قَطَعَ) كَلِمَةُ لَا نَافِيَةٌ، وَأَرْضًا مَفْعُولُ قَطَعَ قُدِّمَ عَلَيْهِ أَيْ لَا قَطَعَ أَرْضًا بِالسَّيْرِ وَمَا وَصَلَ إلَى مَطْلُوبِهِ (وَلَا ظَهْرًا) أَيْ مَرْكَبًا (أَبْقَى) بَلْ أَهْلَكَهُ. وَكَذَا النَّفْسُ مَطِيَّةُ الْعَمَلِ فَإِذَا حَمَلَ عَلَيْهَا مَا لَا تُطِيقُهُ يَنْقَطِعُ عَنْ السَّيْرِ إلَى الْآخِرَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الرِّفْقِ وَالتَّدْرِيجِ كَيْ لَا يَضْعُفَ فَيَصِلَ إلَى الْمَقْصُودِ (أَوْ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى فِي حَاجَةٍ وَيَسْتَعْجِلُ الْإِجَابَةَ فَلَا يَجِدُهَا) أَيْ لَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ بِسُرْعَةٍ (فَيَتْرُكُ الدُّعَاءَ) حُمْقًا

(فَيُحْرَمُ مَقْصُودُهُ) مِنْ أَدَاءِ عِبَادَتِهِ وَحُصُولِ طَلَبِهِ الْمُعَلَّقِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى بِدُعَائِهِ لَوْ دَامَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمَصَابِيحِ «يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْت قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يَسْتَجِبْ فَيَتَحَسَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ» فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَجَّلَ، وَلَا يَمَلَّ مِنْ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ لَا تَعْجَلَنَّ لِأَمْرٍ أَنْتَ طَالِبُهُ ... فَقَلَّمَا يُدْرِكُ الْمَطْلُوبَ ذُو الْعَجَلِ فَذُو التَّأَنِّي مُصِيبٌ فِي مَقَاصِدِهِ ... وَذُو التَّعَجُّلِ لَا يَخْلُو عَنْ الزَّلَلِ (وَالْآفَةُ الثَّانِيَةُ) أَيْ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى شَيْءٍ بِأَوَّلِ خَاطِرٍ بِدُونِ التَّأَمُّلِ (فَوْتُ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ) ؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ يُنَافِي التَّقْوَى وَالْوَرَعَ (لِأَنَّ أَصْلَهُ) أَيْ الْوَرَعِ (النَّظَرُ الْبَالِغُ) الْكَامِلُ (وَالْبَحْثُ التَّامُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ بِصَدَدِهِ) حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَيَحْتَرِزَ عَمَّا يَلْزَمُ احْتِرَازُهُ وَيَفْعَلَ مَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ إذْ قَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ مَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ فَضْلًا عَمَّا ظَهَرَ بُطْلَانُهُ. (وَ) الْآفَةُ الثَّانِيَةُ أَيْضًا (إصَابَةُ مَكْرُوهٍ لِنَفْسِهِ بِأَنْ يُعَجِّلَ فِي شُرُوعِ أَمْرٍ فِيهِ ضَرَرٌ بِلَا تَأَمُّلٍ أَوْ كَانَ) أَيْ، وَقَعَ (فِي بَلِيَّةٍ) مِثْلَ الْمَرَضِ أَوْ الظُّلْمِ (فَلَا يَتَحَمَّلُهَا) لِصُعُوبَتِهَا (فَيَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ) بِبَلَاءٍ أَشَدَّ مِمَّا هُوَ فِيهِ (فَيُسْتَجَابُ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11] أَيْ يَسْأَلُ اللَّهَ عِنْدَ غَضَبِهِ الشَّرَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَوْلَادِهِ وَأَمْوَالِهِ، الْآيَةَ. {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] ؛ وَلِهَذَا يُسَارِعُ إلَى مَا لَا يَعْلَمُ خَيْرِيَّتَهُ بِالْفِكْرَةِ الْأُولَى الْمُسَمَّاةِ بِنَظَرِ الْحَمْقَاءِ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ لَا يَجْتَرِئُونَ بِلَا تَأَمُّلٍ فِي الْعَوَاقِبِ. حُكِيَ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ أَنَّهُ قَالَ إنِّي تَعَلَّمْت الْحِكْمَةَ مِنْ الْعُمْيَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ قَبْلَ الْفَحْصِ فَإِنَّ فِيهِ تَمْكِينًا يَضَعُونَ وَيَمْشُونَ، وَإِلَّا فَيَتْرُكُونَ وَيَطْلُبُونَ جِهَةً أُخْرَى فِيهَا تَمْكِينٌ فَلِذَا لَا أَفْعَلُ شَيْئًا بِلَا تَأَمُّلِ مَا فِيهِ، وَفِي عَاقِبَتِهِ (أَوْ) إصَابَةُ مَكْرُوهٍ (لِغَيْرِهِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِنَفْسِهِ (بِأَنْ يَظْلِمَهُ مَثَلًا إنْسَانٌ فَيُعَجِّلَ) لِصَدَاقَتِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ (فِي الِانْتِقَامِ وَالِانْتِصَارِ لَهُ) بِدُونِ تَأَمُّلٍ فِي كَوْنِ الْعَفْوِ أَفْضَلَ مِنْهُ فَيُصِيبُ الْغَيْرَ بِمَكْرُوهٍ (أَوْ يَدْعُو) إلَى اللَّهِ تَعَالَى (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ بِالْهَلَاكِ (فَيُسْتَجَابُ) فَيَلْحَقُهُ ضَرَرٌ قَدْ يَنْدَمُ عَلَيْهِ (وَرُبَّمَا يَتَجَاوَزُ) فِي الِانْتِقَامِ وَالدُّعَاءِ (عَنْ الْحَدِّ فَيَقَعُ فِي مَعْصِيَةٍ) فِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى شَخْصٍ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَصْلًا أَوْ اسْتَحَقَّ بِمَا دُونَ دَعَا عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ بَلْ قَدْ يُرَدُّ عَلَى نَفْسِ الدَّاعِي فَيَنْعَكِسُ الضَّرَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ إنَّمَا يَكُونُ مِثْلَهَا وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِدَاءُ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلِ مَا اُعْتُدِيَ بِهِ عَلَيْهِ (وَ) آفَتُهَا أَيْضًا (خَوْفُ فَوْتِ النِّيَّةِ) وَالْأَعْمَالُ إنَّمَا تَكُونُ بِالنِّيَّةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ مَسْبُوقَةٌ بِالْقَصْدِ أَلْبَتَّةَ وَدَعْوَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ هُنَا تَحَكُّمٌ كَيْفَ؟ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ النِّيَّةَ هُوَ الْقَصْدُ نَعَمْ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ هِيَ انْبِعَاثُ الْقَلْبِ نَحْوَ مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ

نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ حَالًا أَوْ مَآلًا فَيُمْكِنُ فَرْقُهُمَا. (وَالْإِخْلَاصِ وَالْآفَةُ الثَّالِثَةُ) أَيْ عَدَمُ إجْزَاءِ الْعَمَلِ (نُقْصَانُ الْعَمَلِ بَلْ بُطْلَانُهُ) لِانْتِفَاءِ الْكُلِّ بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ (بِفَوْتِ آدَابِهِ وَسُنَنِهِ بَلْ بِفَوْتِ وَاجِبَاتِهِ) فَالْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي (وَفَرَائِضِهِ) فَالْمُرَادُ مِنْ الْبُطْلَانِ مَا يَعُمُّ الْأَصْلَ وَالْوَصْفَ لَا الْأَصْلَ فَقَطْ كَمَا تُوُهِّمَ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ كَلِمَةُ بَلْ فِي الْمَقَامَيْنِ فَافْهَمْ (مَثَلًا مَنْ عَجَّلَ فِي إتْمَامِ الصَّلَاةِ فَرُبَّمَا يَفُوتُ مِنْهُ تَثْلِيثُ تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ أَوْ يُغَيِّرُ الْأَذْكَارَ وَيَنْقُلُهَا مِنْ مَحَالِّهَا فَيَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا) كَأَنْ يُسَبِّحَ تَسْبِيحَةً رَاكِعًا ثُمَّ يُثَلِّثَ قَائِمًا ثُمَّ يَقُولَ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ هَاوِيًا لِلسُّجُودِ ثُمَّ يُكَبِّرَ عِنْدَ السُّجُودِ فَتَحْصُلَ الْأَذْكَارُ فِي غَيْرِ مَحَالِّهَا (وَرُبَّمَا يُخَالِفُ الْإِمَامَ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ بِالسَّبْقِ وَالتَّقَدُّمِ) كَأَنْ يَرْفَعَ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ فَيَسْبِقَهُ بِالتَّأْخِيرِ هَذَا قَدْ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِثَالًا لِبُطْلَانِ الْعَمَلِ، وَقَدْ لَا يَفْسُدُ بَلْ يُكْرَهُ فَيَكُونُ مِثَالًا لِلنُّقْصَانِ كَمَا قَبْلَهُ (وَرُبَّمَا يَفُوتُ تَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ) فَلَعَلَّهُ مِمَّا دَعَا إلَى بُطْلَانِ الْعَمَلِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ إذْ التَّعْدِيلُ فَرْضٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَوَاجِبٌ عِنْدَهُمَا. (وَالتَّجْوِيدُ) أَيْ أَدَاءُ الْحُرُوفِ حَقُّهَا، وَهُوَ وَاجِبٌ قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَالْأَخْذُ بِالتَّجْوِيدِ حَتْمٌ لَازِمُ ... مَنْ لَمْ يُجَوِّدْ الْقُرْآنَ آثِمُ لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إنْ غَيَّرَ اللَّحْنُ الْكَلِمَةَ وَالْمَعْنَى تَفْسُدُ، وَإِلَّا فَتُكْرَهُ قَالَ فِي قَاضِي خَانْ: وَلَوْ قَرَأَ بِالْأَلْحَانِ إنْ غَيَّرَ الْكَلِمَةَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا عُرِفَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ مَا ذَكَرَ قَبْلَهُ مِنْ مَسَائِلِ زَلَّةِ الْقَارِئِ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ كَانَ فِي حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ، وَهِيَ الْيَاءُ وَالْأَلِفُ وَالْوَاوُ، لَا تَغَيُّرَ إلَّا إذَا فَحُشَ ثُمَّ قَالَ، وَإِنْ قَرَأَ بِالْأَلْحَانِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ كَرِهُوا ذَلِكَ وَكَرِهُوا الِاسْتِمَاعَ أَيْضًا (وَيَقَعُ) لِلْعَجَلَةِ (زَلَّةٌ) بِفَتْحِ الزَّايِ أَيْ الْمَرَّةُ مِنْ الزَّلَلِ (مُفْسِدَةٌ لِلصَّلَاةِ) الظَّاهِرُ مَا ذَكَرُوا فِي زَلَّةِ الْقَارِئِ فَمَا مُثِّلَ بِنَحْوِ الْقَهْقَهَةِ لَيْسَ بِحَسَنٍ (وَلَا تَظُنِّنَّ أَنَّ الْأَنَاةَ) أَيْ التَّأَنِّي الْمَحْمُودَ (بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ وَالتَّسْوِيفِ) بِعَمَلِهَا، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْعَمَلِ رَجَاءَ أَنْ يُفْعَلَ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا غَيْرُ مَحْمُودَيْنِ؛ وَلِذَا قَالَ (وَهُوَ) أَيْ التَّأْخِيرُ وَالتَّسْوِيفُ بِتَأْوِيلِ الْمُسَمَّى بِهِمَا. (الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ) (فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ جِدًّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ) لَعَلَّهُ قَيْدٌ وُقُوعِيٌّ، وَإِلَّا فَطُولُ أَمَلٍ مَذْمُومٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ مَذْمُومًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَنْ يُعْرَفَ وُصُولُهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ أُعْطِيَ لَهُ عِبَادَةٌ فَلَوْ تَرَكَ عِبَادَةَ وَقْتٍ مَا فَأَيْنَ يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ وَلِلْوَقْتِ الْآخَرِ أَيْضًا وَظِيفَةُ عِبَادَةٍ، وَأَنَّ عِبَادَةَ الشَّابِّ أَفْضَلُ مِنْ الشَّيْخِ فَتَفْوِيتُ الْأَفْضَلِ

سِيَّمَا مَعَ الْقُدْرَةِ لَا يَخْلُو عَنْ الذَّمِّ. لَكِنْ يَرِدُ هُنَا إشْكَالٌ أُصُولِيٌّ مِنْ أَنَّ الْمُتَبَادِرَ هُنَا مَا يَعُمُّ تَسْوِيفَ الْفَضَائِلِ لَا تَسْوِيفَ الْوَاجِبَاتِ فَقَطْ، وَالذَّمُّ إنَّمَا يَكُونُ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ إلَّا أَنْ يُرَادَ هُنَا غَيْرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَوْ مَجَازًا وَيَدُلُّ عَلَى مَذْمُومِيَّتِهِ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلَكَ الْمُسَوِّفُونَ» (وَضِدُّهُ) أَيْ التَّسْوِيفِ (الْمُسَارَعَةُ وَالْمُبَادَرَةُ) هِيَ الْعَجَلَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ (وَالْمُسَابَقَةُ) إلَى الطَّاعَةِ كَالْأَوَّلِينَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ التَّعْرِيفَ بِالضِّدِّ، وَهُوَ عَادَةُ الْمُصَنِّفِ كَثِيرًا قَالُوا الْأَشْيَاءُ تَنْكَشِفُ بِالْأَضْدَادِ؛ وَلِهَذَا عَدَّهُ أَهْلُ الْمِيزَانِ مِنْ الرَّسْمِ النَّاقِصِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي مَدْحِ مَنْ يُسَارِعُ إلَى مُطْلَقِ الْخَيْرَاتِ {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [آل عمران: 114] فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُسَارَعَةُ مَمْدُوحَةً فَكَانَ ضِدُّهَا، وَهُوَ التَّسْوِيفُ مَذْمُومًا {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] أَيْ إلَى سَبَبِهَا مِنْ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ (الْآيَةَ) أَيْ كَمِّلْ الْآيَةَ أَيْ {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ آخِرَهَا لَيْسَ لَهُ نَفْعٌ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي دَلَالَةٍ أَصْلًا بَلْ الدَّلَالَةُ إنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ قَوْلِهِ {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133] ثُمَّ قِيلَ: وَالْأَصْلُ سَارِعُوا إلَى التَّوْبَةِ فَوُضِعَتْ الْمَغْفِرَةُ مَوْضِعَهَا تَطْمِينًا لِقُلُوبِ الْعُصَاةِ وَتَنْشِيطًا لَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ. أَقُولُ لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ تَقْرِيبٌ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهَا حُجَّةً فِي الْمَقَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَفْرُوضِ فِي الْمَقَامِ كَمَا عَرَفْت هُوَ الْعُمُومُ فَاعْرِفْهُ. (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ» فِي الْخِطَابِ الشِّفَاهِيِّ إشَارَةٌ إلَى كَمَالِ عِلْمِهِ بِعِصْيَانِ الْعُصَاةِ قِيلَ، وَإِلَى عِلْمِهِ بِتَوْبَتِهِمْ، وَفِي كَلِمَةِ يَا تَنْبِيهٌ عَلَى بُعْدِهِمْ عَنْ سَاحَةِ قُرْبِهِ تَعَالَى بِعَدَمِ التَّوْبَةِ وَمُبَادَرَةِ الْأَعْمَالِ، وَكَذَا فِي إيثَارِ لَفْظِ النَّاسِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ كُلُّ آيَةٍ بِنَحْوِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] مَكِّيَّةٌ لِغَلَبَةِ الْكُفَّارِ وَكُلُّ آيَةٍ بِنَحْوِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] مَدَنِيَّةٌ لِكَثْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِكُلُّ هُوَ الْكَثْرَةُ لِتَخَلُّفِ ذَلِكَ بِبَعْضِ آيَةٍ «تُوبُوا إلَى اللَّهِ» أَيْ ارْجِعُوا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى طَاعَتِهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا دُونَ مَا قِيلَ أَيْ بَادِرُوا إلَى التَّوْبَةِ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ تُوبُوا هُوَ مُطْلَقُ التَّوْبَةِ لَا مُسَارَعَتُهَا فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ كَالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَدُونَ مَا قِيلَ أَيْضًا أَيْ ارْجِعُوا عَنْ ذُنُوبِكُمْ فَتَأَمَّلْ وَأَيْضًا فَانْتَظِرْ فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ إلَى اللَّهِ أَيْ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ «قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا» . كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «تُوبُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا مَاتَ يَنْقَطِعُ كُلُّ عِلْمِهِ» «وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ» بِلَا تَسْوِيفٍ، وَلَا تَأْخِيرٍ مَتَى أَمْكَنَكُمْ فِعْلُهَا «قَبْلَ أَنْ تُشْغَلُوا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِمَا يُلْهِيكُمْ عَنْهَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ وَبِالْجُمْلَةِ بِكُلِّ مَا يَمْنَعُ بَلْ يُوجِبُ الْكَسَلَ وَالْفُتُورَ «وَصِلُوا» أَمْرٌ مِنْ الْوَصْلِ «الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ» بِذِكْرِ الْعَهْدِ الَّذِي أُخِذَ مِنْكُمْ فِي عَالَمِ الْمِيثَاقِ «بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ لَهُ» تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالسِّرِّ وَالْجَهْرِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَسَائِرِ الْحَالَاتِ إلَى أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ «وَكَثِّرُوا الصَّدَقَةَ» الصِّيغَةُ لِتَكْثِيرِ الْفِعْلِ أَوْ الْمَفْعُولِ بِهِ أَوْ كِلَيْهِمَا «فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ» قِيلَ السِّرُّ فِي النَّوَافِلِ وَالْعَلَانِيَةُ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيهِمَا «تُرْزَقُوا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ يَرْزُقُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ يُسَهِّلُ لَكُمْ أَسْبَابَ الرِّزْقِ «وَتُنْصَرُوا» أَيْ يَنْصُرُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَعْدَائِكُمْ «وَتُجْبَرُوا» مِنْ كَسْرِ الزَّمَانِ وَنَوَائِبِهِ. (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلْ تَنْتَظِرُونَ»

وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ هَلْ تَنْظُرُونَ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَا تُسَوِّفُوا وَبَادِرُوا بِهَا قَبْلَ وُقُوعِ أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَعْنِي لَا يَجِيءُ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ إلَّا أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ الْعِبَادَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّسْوِيفُ «إلَّا غِنًى مُطْغِيًا» يَكُونُ سَبَبًا لِلطُّغْيَانِ إمَّا لِعَدَمِ إعْطَاءِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا بَلْ نَدْبًا وَاسْتِحْبَابًا لِأَنَّ الطُّغْيَانَ كُلِّيٌّ مُشَكِّكٌ يَتَفَاوَتُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَقَدْ قِيلَ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ أَوْ لِعَدَمِ جَهْدِ الطَّاعَاتِ وَدَوَامِهَا لَا سِيَّمَا حُضُورُ الْقَلْبِ وَالْخَشْيَةُ فِيهَا لِشَغْلِ الْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ بِالْأَمْوَالِ «أَوْ فَقْرًا مُنْسِيًا» ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْفَقِيرَ يَنْسَى طُرُقَ الْعِبَادَاتِ لِمُضَايَقَةِ الْمَعَاشِ «أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا» ؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ وَيُفْسِدُ الْقُوَى الَّتِي هِيَ مَنْبَتُ الطَّاعَاتِ وَمَعْدِنُ الْحَسَنَاتِ بَلْ فَاعِلُ الْخَيْرَاتِ «أَوْ هَرَمًا» ضَعْفًا مِنْ الْكِبَرِ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَمَنْ بَلَغَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ وَمَنْ قَالَ هُوَ دَاءٌ طَبِيعِيٌّ لَا دَوَاءَ لَهُ أَبَدًا فَقَدْ بَعُدَ عَنْ مَرَامِ الْمَقَامِ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ «مُفَنِّدًا» مِنْ الْفَنَدِ، وَهُوَ ضَعْفُ الرَّأْيِ مِنْ هَرَمٍ كَالْعَتَهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الطَّاعَةِ أَوْ لَا يُحْسِنُ «أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا» يُوجِبُ التَّجْهِيزَ كَالْكَفَنِ وَسَائِرِ دَوَاعِي الدَّفْنِ يُقَالُ جَهَزَ عَلَيْهِ إذَا أَعْجَلَ قَتْلَهُ «أَوْ الدَّجَّالَ» الْمَعْهُودَ الْمَعْرُوفَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ الْفِتَنِ وَالْمَصَائِبِ الْمَانِعَةِ عَنْ الطَّاعَاتِ كَمَا قِيلَ إنَّ الْعَجَلَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَعَدَمَ التَّعْدِيلِ إنَّمَا ظَهَرَ وَأُبْدِعَ عِنْدَ فِتَنِ هُلَاكُو أَوْ تَيْمُورْ كُورْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ الصَّلَاةَ خَوْفًا مِنْ إدْرَاكِهِمْ وَاطِّلَاعِهِمْ ثُمَّ صَارَ سُنَّةً سَيِّئَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَسَرَى عَلَى مَنْ رَآهُمْ، وَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ إمَّا اعْتِمَادًا عَلَى تَعْرِيفِهِ الْمُؤْذِنِ بِكَيْفِيَّةِ مَانِعِيَّتِهِ لِلطَّاعَةِ أَوْ لِقَوْلِهِ «وَالدَّجَّالُ شَرٌّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ» لَعَلَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ قِيلَ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَظِرُ إلَى خُرُوجِهِ الْيَهُودُ كَمَا يَنْتَظِرُ النَّصَارَى إلَى نُزُولِ عِيسَى لَعَلَّ أَنَّ الْكُلَّ يَنْتَظِرُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيَخْرُجُ «أَوْ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى» أَشَدُّ دَاهِيَةً هِيَ بَلِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا يُرْجَى زَوَالُهَا «، وَأَمَرُّ» أَيْ أَشَدُّ مَرَارَةً مِمَّا فِي الدُّنْيَا وَأَصْعَبُ. وَأَشْكَلُ بِقَوْلِ النُّحَاةِ إنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُصَاغُ مِنْ الْأَلْوَانِ وَالْعُيُوبِ وَدُفِعَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا عَدَا الْوَارِدَ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ «مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ» أَقُولُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ نَظَرٌ لَا يَخْفَى ثُمَّ أَقُولُ حَاصِلُ الْحَدِيثِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ التَّسْوِيفَ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَالُ الْمُكَلَّفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ مَوَانِعِ الْعِبَادَةِ فَالتَّسْوِيفُ لَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُكَلَّفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إمَّا غِنًى أَوْ فَقْرٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ هَرَمٌ أَوْ مَوْتٌ أَوْ مُقَارَنَةُ الدَّجَّالِ أَوْ السَّاعَةِ وَالْغِنَى مُطْغٍ وَالْفَقْرُ مُنْسٍ إلَخْ وَالْكُلُّ مُنَافٍ لِلْعِبَادَةِ وَمَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ فَالتَّسْوِيفُ لَا يَنْبَغِي لَهُ. (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (حك) الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ، وَهُوَ يَعِظُهُ اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ حَيَاتَك قَبْلَ مَوْتِك» أَيْ: اغْتَنِمْ مَا تَلْقَى نَفْعَهُ بَعْدَ مَوْتِك فَإِنَّ مَنْ مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَفَاتَهُ أَمَلُهُ وَحَقَّ نَدَمُهُ وَتَوَالَى هَمُّهُ «وَصِحَّتَك قَبْلَ سَقَمِك» فَإِنَّ الْمَرَضَ يَمْنَعُ الْعِبَادَةَ فَتَقْدُمَ الْمَعَادَ بِغَيْرِ زَادٍ «، وَفَرَاغَك» فِي هَذِهِ الدَّارِ «قَبْلَ شُغْلِك» بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ الَّتِي أَوَّلُ مَنَازِلِهَا الْقَبْرُ فَاغْتَنِمْ فُرْصَةَ الْإِمْكَانِ لَعَلَّك تَسْلَمُ مِنْ الْعَذَابِ وَالْهَوَانِ «وَشَبَابَك قَبْلَ هَرَمِك» اغْتَنِمْ الطَّاعَةَ حَالَ قُدْرَتِك قَبْلَ هُجُومِ الْكِبَرِ فَتَنْدَمَ عَلَى مَا فَرَّطْت فِي جَنْبِ اللَّهِ

الخامس والثلاثون الفظاظة وغلظة القلب

«وَغِنَاك قَبْلَ فَقْرِك» اغْتَنِمْ التَّصَدُّقَ بِفُضُولِ مَالِك قَبْلَ عُرُوضِ حَالَةٍ تُفْقِرُك فَتَصِيرُ فَقِيرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهَا إلَّا بَعْدَ زَوَالِهَا؛ وَلِذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» . (تَنْبِيهٌ) قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: الدُّنْيَا مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَدَنُ مَرْكَبٌ وَمَنْ ذَهَلَ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ وَالْمَرْكَبِ لَمْ يَتِمَّ سَفَرُهُ وَمَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا لَا يَتِمُّ أَمْرُ التَّبَتُّلِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ السُّلُوكُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ نَوْعُ مُغَايَرَةٍ فِي التَّرْتِيبِ قَالَ فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ ك عَلَى شَرْطِهِمَا، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ فِي التَّلْخِيصِ وَاغْتَرَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَرَمَزَ لِصِحَّتِهِ، وَهُوَ عَجِيبٌ فَفِيهِ جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ نَفْسُهُ فِي الضُّعَفَاءِ وَالْمَتْرُوكِينَ، وَقَالَ أَحْمَدُ يُخْطِئُ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ ابْنُ هُزَيْمَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. انْتَهَى. فَاحْتِجَاجُ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي نَعَمْ قَدْ سَمِعْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الضَّعِيفَةَ يُحْتَجُّ بِهَا إنْ وَافَقَتْ الْقِيَاسَ، وَأَيْضًا يُرْوَى إنْ فِي تَأْيِيدِ نَصٍّ، وَأَيْضًا قَالُوا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ الْمَقَامُ كَالْخَطَابِيِّ فَمُطْلَقُ الظَّنِّ كَافٍ. وَأَيْضًا نَقُولُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى تَخْرِيجِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُرْسَلًا قَالَ شَارِحُهُ هُوَ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ وَقَدْ خَرَّجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ مِنْ السِّتَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى كَلَامٌ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مُرَادِ الْمَقَامِ. [الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْفَظَاظَةُ وَغِلْظَةُ الْقَلْبِ] (الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْفَظَاظَةُ وَغِلْظَةُ الْقَلْبِ) يُقَالُ رَجُلٌ فَظٌّ شَدِيدٌ غَلِيظُ الْقَلْبِ يُقَالُ مِنْهُ فَظَّ يَفَظُّ مِنْ بَابِ تَعِبَ فَظَاظَةً إذَا غَلُظَ حَتَّى يُهَابَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} [آل عمران: 159] سَيِّئَ الْخُلُقِ {غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] قَاسِيَهُ بِحَيْثُ لَا تَلِينُ لِأَحَدٍ {لانْفَضُّوا} [آل عمران: 159] أَيْ تَفَرَّقُوا {مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ صَدْرَ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]- قِيلَ، وَهَذَا مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ (الْآيَةَ) ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْهَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِذَلِكَ. أَقُولُ آخِرُ الْآيَةِ - {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ} [آل عمران: 159]-، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلًّا مِنْ الْعَفْوِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْمُشَاوَرَةِ مِنْ أَضْدَادِ الْفَظَاظَةِ أَوْ لَازِمٌ لَهَا وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ تَأَمَّلْ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: إنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ مَضْمُونُ حَدِيثِ «أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك وَتُحْسِنَ لِمَنْ أَسَاءَ إلَيْك» ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبٍ غَلِيظٍ (وَضِدُّهَا اللِّينُ) اللَّيِّنَةُ فِي الْخُلُقِ (وَالرِّفْقُ وَالرِّقَّةُ) يُقَالُ فُلَانٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ (وَهِيَ) أَيْ الرِّقَّةُ (التَّأَذِّي مِنْ أَذًى يَلْحَقُ الْغَيْرَ وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ، وَهُوَ صَرْفُ الْهِمَّةِ إلَى إزَالَةِ الْمَكْرُوهِ عَنْ النَّاسِ. خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَا يَرْحَمُ» بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ «لَا يُرْحَمُ»

بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ بِالْإِحْسَانِ لَا يُثَابُ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] أَوْ مَنْ لَا يَكُونُ فِيهِ رَحْمَةُ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا لَا يُرْحَمُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ مَنْ لَا يَرْحَمُ نَفْسَهُ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَتَجَنُّبِ النَّهْيِ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ عَهْدٌ. فَالرَّحْمَةُ الْأُولَى بِمَعْنَى الْأَعْمَالِ وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَلَا يُثَابُ إلَّا مَنْ عَمِلَ صَالِحًا أَوْ الْأُولَى الصَّدَقَةُ وَالثَّانِيَةُ الْبَلَاءُ أَيْ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْبَلَاءِ إلَّا مَنْ تَصَدَّقَ، وَهُوَ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْخَبَرِ وَبِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ أَوْ شَرْطِيَّةٌ وَرُفِعَ الْأَوَّلُ وَجُزِمَ الثَّانِي، وَعَكْسُهُ، وَأَفَادَ الْحَثَّ عَلَى رَحْمَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَحُرٍّ، وَقِنٍّ وَبَهِيمَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَدَخَلَ فِي الرَّحْمَةِ التَّعَهُّدُ بِنَحْوِ إطْعَامٍ وَتَخْفِيفِ حَمْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَسَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبَّلَ الْحُسَيْنَ، وَقَالَ الْأَقْرَعُ لِي عَشَرَةٌ مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا فَنَظَرَ إلَيْهِ» فَذَكَرَهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هَذَا حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ ثُمَّ مَعْنَى رَحْمَتِهِ تَعَالَى هُوَ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ مَنْ رَقَّ لَهُ الْقَلْبُ فَقَدْ عَرَضَ لَهُ الْإِنْعَامُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَنْ «لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللَّهُ» فَهَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعَانِي السَّابِقَةِ غَيْرُ ذَلِكَ كَالْمُمْتَنِعِ إرَادَتُهُ، وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ وَمَنْ لَا يَغْفِرُ لَا يُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ» ، وَأَيْضًا فِي الْحَدِيثِ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «ارْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ» وَفِي رِوَايَةٍ «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» ، وَأَيْضًا فِي الْحَدِيثِ «إنَّ الْعَبْدَ لَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَطُولُ وُقُوفُهُ حَتَّى يُصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ كَرْبٌ شَدِيدٌ فَيَقُولُ يَا رَبِّ ارْحَمْنِي الْيَوْمَ فَيَقُولُ لَهُ هَلْ رَحِمْت شَيْئًا مِنْ خَلْقِي مِنْ أَجْلِي فَأَرْحَمُك» قِيلَ، وَفِيهِ نَدْبٌ إلَى الْعَطْفِ إلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَأَهَمُّهَا الْآدَمِيُّ مُطْلَقًا قِيلَ وَرُئِيَ الْغَزَالِيُّ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك فَقَالَ أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ بِمَ جِئْتنِي فَذَكَرْت أَنْوَاعًا مِنْ الطَّاعَاتِ فَقَالَ مَا قَبِلْت مِنْهَا شَيْئًا لَكِنْ جَلَسْت تَكْتُبُ فَوَقَفَتْ ذُبَابَةٌ عَلَى الْقَلَمِ فَتَرَكْتهَا تَشْرَبَ مِنْ الْحِبْرِ رَحْمَةً لَهَا فَكَمَا رَحِمْتَ رَحِمْتُك اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْت لَك. (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت أَبَا الْقَاسِمِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) هَذَا مِنْ كُنْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي التتارخانية: وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُكَنَّى بِكُنْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا رُوِيَ «سَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي» فَقِيلَ إنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سَمَّى ابْنًا لَهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّاهُ بِأَبِي الْقَاسِم بِإِذْنٍ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي وَلَدْت غُلَامًا فَسَمَّيْته مُحَمَّدًا وَكَنَّيْته أَبَا الْقَاسِمِ وَذَكَرْت أَنَّك تَكْرَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي أَوْ مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلَّ اسْمِي» ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ سَمَّى بِاسْمِ رَسُولِ اللَّهِ كُرِهَ أَنْ يُكَنَّى بِكُنْيَتِهِ ثُمَّ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ يُكَنَّى بِأَوَّلِ وَلَدِهِ يُقَالُ أَبُو فُلَانٍ وَأُمُّ فُلَانٍ، وَلَا يُكَنَّى بِلَا وَلَدٍ. وَأَمَّا لَوْ كَنَّى بِمِثْلِ أَبِي بَكْرٍ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَقِيلَ يُكْرَهُ لِكَذِبِهِ وَالْأَصَحُّ لَا لِلتَّفَاؤُلِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. (يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ» ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ فِي الْخَلْقِ رِقَّةُ الْقَلْبِ وَرِقَّتُهُ عَلَامَةُ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَا رِقَّةَ لَهُ لَا إيمَانَ لَهُ وَمَنْ لَا إيمَانَ لَهُ شَقِيٌّ فَمَنْ لَا يُرْزَقُ الرَّحْمَةَ فَشَقِيٌّ فَعُلِمَ أَنَّ غِلْظَةَ الْقَلْبِ مِنْ عَلَامَةِ الشَّقَاوَةِ وَعَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: حَقِيقَةُ الرَّحْمَةِ إرَادَةُ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا ذَهَبَتْ إرَادَتُهَا مِنْ قَلْبٍ فَلَزِمَ إرَادَةُ مَكْرُوهٍ لِغَيْرِهِ فَشَقِيٌّ وَذَهَبَ عَنْهُ الْإِيمَانُ كَمَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ كَذَلِكَ يَلْزَمُ سَلَامَتُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَعَقِيدَتِهِ وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ الرَّحْمَةُ رِقَّةٌ

السادس والثلاثون الوقاحة قلة الحياء

يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ مُبْتَلًى أَوْ صَغِيرٍ أَوْ ضَعِيفٍ تَحْمِلُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ لَهُ وَاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ بِهِ وَالسَّعْيِ فِي كَشْفِ مَا بِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الرَّحْمَةَ فِي الْحَيَوَانِ كُلِّهِ يَعْطِفُ الْحَيَوَانُ عَلَى نَوْعِهِ وَوَلَدِهِ وَيَحِنُّ عَلَيْهِ حَالَ ضَعْفِهِ وَحِكْمَتُهَا تَصْغِيرُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي ثَمَرَتُهَا هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ حِفْظُ النَّوْعِ رَحْمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ مِائَةٍ ادَّخَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ فَمَنْ كَانَ فِيهِ الرَّحْمَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَسَيَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الدَّارِ عَلَى قَدْرِ رَحْمَتِهِ فَمَنْ سُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ بِالْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ، وَعَدَمِ اللُّطْفِ بِضَعِيفٍ وَشَفَقَةٍ بِمُبْتَلًى فَقَدْ شَقِيَ حَالًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى شِقْوَتِهِ مَآلًا نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى. هَذَا ثُمَّ قِيلَ هُنَا بِنَحْوِ أَمْثَالِ الْعَرَبِ لَا تَكُنْ رَطْبًا فَتُعْصَرْ، وَلَا يَابِسًا فَتُكْسَرْ وَبِنَحْوِ حَدِيثِ «لَا تَكُنْ مُرًّا فَتُعْقَى أَيْ تُكْرَهَ، وَلَا حُلْوًا فَتُسْرَطَ» وَيَقُولُ لُقْمَانُ لِابْنِهِ لَا تَكُنْ حُلْوًا فَتُؤْكَلَ، وَلَا مُرًّا فَتُلْفَظَ فَفِي هَذَا كُلِّهِ نَهْيٌ عَنْ اللِّينِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا أَقُولُ لَا يَخْفَى أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَصْلُحُ إشْكَالًا عَلَى الْحَدِيثِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ «الْمُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ جَوَّادٌ سَمْحٌ لَهُ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَالْكَافِرُ فَظٌّ غَلِيظٌ لَهُ خُلُقٌ سَيِّئٌ» . وَأَسْبَابُهَا أَيْ الْفَظَاظَةِ النَّوْمُ عَلَى الطَّعَامِ قَبْلَ انْهِضَامِهِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى اللَّحْمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ وَالتَّوَغُّلُ عَلَى الْقِيلِ وَالْقَالِ وَالتَّكَلُّمُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَالتَّوَغُّلُ عَلَى الْفِقْهِ دُونَ عِلْمِ الزُّهْدِ، وَعَلَامَتُهَا جُمُودُ الْعَيْنِ، وَعَبُوسَةُ الْوَجْهِ وَكَثْرَةُ الْمُجَادَلَةِ وَالتَّعَصُّبُ، وَلُزُومُ الظَّوَاهِرِ، وَالْعَمَلُ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ وَتَرْكُ الصَّدَقَةِ وَآفَاتُهَا السُّقُوطُ فِي نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبُعْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْخِذْلَانُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَعِلَاجُهَا مَسْحُ رَأْسِ الْيَتِيمِ، وَإِكْثَارُ الصَّدَقَةِ وَمُجَالَسَةُ الْفُقَرَاءِ وَالْجُوعُ وَالذِّكْرُ، وَضِدُّهَا اللِّينُ وَرِقَّةُ الْقَلْبِ وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَالْأُلْفَةُ وَيُقَالُ الْعُنْفُ نَتِيجَةُ الْفَظَاظَةِ وَالرِّفْقُ نَتِيجَةُ اعْتِدَالِ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «يَا عَائِشَةُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ الْخَيْرِ الْحَدِيثَ: إذْ بِهِ تُنَالُ الْمَطَالِبُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَبِفَوْتِهِ يَفُوتَانِ [السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْوَقَاحَةُ قِلَّةُ الْحَيَاءِ] (السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْوَقَاحَةُ قِلَّةُ الْحَيَاءِ) . (وَضِدُّهَا الْحَيَاءُ، وَهُوَ انْحِصَارُ النَّفْسِ) احْتِبَاسُهَا (خَوْفَ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ) أَوْ خَوْفَ تَرْكِ الْجَمِيلِ أَوْ خَوْفَ لُحُوقِ الْعُيُونِ، وَعَنْ شَرْحِ الْقُرْطُبِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ الْحَيَاءُ انْقِبَاضٌ وَحِشْمَةٌ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَمَا يُطَّلَعُ مَا مِنْهُ عَلَى مَا يُسْتَقْبَحُ وَيُذَمُّ عَلَيْهِ، وَأَصْلُهُ غَرِيزِيٌّ فِي الْفِطْرَةِ وَمِنْهُ مُكْتَسَبٌ لِلْإِنْسَانِ كَمَا قِيلَ فِي الْعَقْلِ رَأَيْت الْعَقْلَ عَقْلَيْنِ ... فَمَطْبُوعٌ وَمَصْنُوعٌ وَلَا يَنْفَعْ مَصْنُوعٌ إذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعٌ ... كَمَا لَا تَنْفَعُ الْعَيْنُ وَضَوْءُ الشَّمْسِ مَمْنُوعٌ أَقُولُ تَخْصِيصُ الْغَرِيزِيِّ بِالْحَيَاءِ تَحَكُّمٌ إذْ هُوَ مُشْتَرَكٌ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ كَمَا مَرَّ. وَقَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ الْمَطْلَبُ الثَّانِي فِي تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ قَبُولُ الْأَخْلَاقِ التَّغْيِيرَ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ التَّغْيِيرَ بَعْضُ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ وَالْبَطَالَةُ، وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِأَنْ يُجَرِّبَ ذَلِكَ لِقُصُورِهِ وَنَقْصِهِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْخُلُقُ الْبَاطِنُ بِمَنْزِلَةِ الْخُلُقِ الظَّاهِرِ وَإِذَا لَا يَتَغَيَّرُ هَذَا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَاكَ. وَالثَّانِي أَنَّ الْغَضَبَ مَثَلًا مِنْ مُقْتَضَى الْمِزَاجِ وَالطَّبْعِ وَكَذَا الشَّهْوَةُ فَكَيْفَ يَتَبَدَّلَانِ،. فَنَقُولُ لَوْ لَمْ تَقْبَلْ التَّغْيِيرَ لَبَطَلَتْ الْوَصَايَا وَالْمَوَاعِظُ وَالتَّأْدِيبَاتُ، وَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَسِّنُوا أَخْلَاقَكُمْ» مَعْنًى، وَإِذَا أَمْكَنَ تَغْيِيرُ أَخْلَاقِ الْبَهَائِمِ فَالْإِنْسَانُ أَوْلَى، وَكَشْفُ الْغِطَاءِ فِيهِ أَنَّ قَمْعَ الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِنُ لَنَا بِالرِّيَاضَةِ تَعْدِيلُهُمَا وَصَرْفُهُمَا إلَى مَا خُلِقَا لِأَجْلِهِ نَعَمْ الْجِبِلَّاتُ مُخْتَلِفَةٌ بِالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ فِي التَّغْيِيرِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا قُوَّةُ الْغَرِيزَةِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَامْتِدَادِ مُدَّةِ الْوُجُودِ وَثَانِيهِمَا تَأَكُّدُهُ

بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ وَرُؤْيَةِ مَرَضِيَّاتِهِ، وَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: الْأَوَّلُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ الْعِلْمِ بِالْقُبْحِ وَالْحُسْنِ وَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ فِطْرَتُهُ فَهَذَا أَسْرَعُ الْقَبُولِ لِلْعِلَاجِ فَإِنْ صَادَفَ مُرْشِدًا يَحْسُنُ خُلُقُهُ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ. الثَّانِي أَنْ يَعْرِفَ الْقَبِيحَ وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَمَعَ ذَلِكَ عَلِمَ تَقْصِيرَهُ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ الْأَوَّلِ إذْ تَضَاعَفَتْ فِيهِ الْوَظِيفَةُ بِقَلْعِ مَا رَسَخَ فِيهِ أَوَّلًا وَبِغَرْسِ مَوَادِّ الصَّلَاحِ ثَانِيًا. الثَّالِثُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْأَخْلَاقَ الْقَبِيحَةَ حَقًّا وَجَمِيلًا وَتَرَبَّى عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا يَكَادُ يَمْتَنِعُ مُعَالَجَتُهُ، وَلَنْ يُرْجَى صَلَاحُهُ إلَّا عَلَى النُّدْرَةِ وَذَلِكَ تَضَاعَفَ فِيهِ أَسْبَابُ الضَّلَالِ. الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ نَشْؤُهُ عَلَى الضَّلَالِ الْفَاسِدِ وَمَعَ ذَلِكَ يَرَى الْفَضْلَ فِيهِ وَيَتَبَاهَى بِهِ، وَهَذَا هُوَ أَضْعَفُ الْمَرَاتِبِ فَالْأَوَّلُ جَاهِلٌ، وَالثَّانِي جَاهِلٌ وَضَالٌّ، وَالثَّالِثُ جَاهِلٌ وَضَالٌّ وَفَاسِقٌ، وَالرَّابِعُ جَاهِلٌ وَضَالٌّ وَفَاسِقٌ وَشِرِّيرٌ. (ت عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ» بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَالنَّهِمَاتِ وَتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى تَصِيرَ مَدْبُوغَةً فَعِنْدَهَا تَطْهُرُ الْأَخْلَاقُ وَتُشْرِقُ أَنْوَارُ الْأَسْمَاءِ فِي صَدْرِ الْعَبْدِ فَيُقَرِّرُ عِلْمَهُ بِاَللَّهِ فَيَعِيشُ غَنِيًّا بِاَللَّهِ مَا عَاشَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَيْسَ حَقُّ الْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ إنَّهُ يَحْفَظُ نَفْسَهُ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ عَمَّا لَا يَرْضَاهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ الْحَيَاءُ حَقُّ التَّقْوَى، وَلَا يَخَافُ الْعَبْدُ حَتَّى يَسْتَحْيِيَ، وَهَلْ وَجِلَ أَهْلُ التَّقْوَى إلَّا مِنْ الْحَيَاءِ. «قُلْنَا إنَّا لَنَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ» أَيْ لَيْسَ مَا تَسْتَحْيُونَ حَيَاءً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ «، وَلَكِنْ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ» كَعَدَمِ السَّجْدَةِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَعَدَمِ صَلَاةٍ بِرِيَاءٍ «وَمَا وَعَى» أَيْ مَا جَمَعَهُ الرَّأْسُ مِنْ اللِّسَانِ وَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ قِيلَ مِنْ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ حَتَّى لَا تَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا لَا يَحِلُّ «وَالْبَطْنَ» بِأَكْلِ الْحَلَالِ بَلْ الطَّيِّبِ مِنْهُ «وَمَا حَوَى» مَا جَمَعَهُ الْبَطْنُ مِنْ نَحْوِ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ فَإِنَّ هَذِهِ لِأَعْضَاءٍ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ أَيْ الْبَطْنِ، وَالتَّعْبِيرُ فِي الْأَوَّلِ بِمَا وَعَى، وَفِي الثَّانِي بِمَا حَوَى لِلتَّفَنُّنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُفَّ عَنْك لِسَانَك فَلَا تَنْطِقْ بِهَا إلَّا خَيْرًا، وَأَنَّهُ شَطْرُ الْإِنْسَانِ كَمَا قِيلَ لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ كَمَا فِي خَبَرِ «مَنْ صَمَتَ نَجَا» ، وَعَدَمُ ذِكْرِ اللِّسَانِ لِيَشْمَلَ نَحْوَ الْفَمِ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ سُدَّ سَمْعَك أَيْضًا مِنْ الْإِصْغَارِ إلَى مَا لَا يَعْنِيك وَاغْضُضْ عَيْنَيْك عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وَلَا تَمُدَّ عَيْنَيْك إلَى مَا تَمَتَّعَ بِهِ أَعْدَاؤُهُ تَعَالَى مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا كَيْفَ لَا، وَهُوَ رَائِدُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ سُلْطَانُ الْجَسَدِ وَمُضْغَةٌ إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. وَهُنَا نُكْتَةٌ فِي عَطْفِ مَا وَعَى عَلَى الرَّأْسِ فَحِفْظُ الرَّأْسِ مُجْمَلًا عِبَارَةٌ عَنْ التَّنَزُّهِ عَنْ الشِّرْكِ فَلَا يَضَعُ رَأْسَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ سَاجِدًا وَلَا يَرْفَعُهُ تَكَبُّرًا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَعَلَ الْبَطْنَ قُطْبًا يَدُورُ عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مِنْ نَحْوِ الْقَلْبِ وَالْفَرْجِ، وَفِي عَطْفِ مَا حَوَى عَلَى الْبَطْنِ إشَارَةٌ إلَى حِفْظِهِ مِنْ الْحَرَامِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْ أَنْ يُمْلَأَ مِنْ الْمُبَاحِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُهُ «وَتَذْكُرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى» يَعْنِي، وَلْيَذْكُرْ صَيْرُورَتَهُ فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بَالِيَةً؛ لِأَنَّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ عِظَامَهُ تَصِيرُ بَالِيَةً، وَأَعْضَاءَهُ مُتَمَزِّقَةً هَانَ عَلَيْهِ مَا فَاتَهُ مِنْ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ، وَأَهَمَّهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ طَلَبِ الْآجِلَةِ، وَعَمِلَ عَلَى إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ «وَمَنْ أَرَادَ» سَعَادَةَ «الْآخِرَةَ» ، وَفَوْزَهُ بِنَعِيمِهَا «تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا وَآثَرَ الْآخِرَةَ عَلَى الْأُولَى» ؛ لِأَنَّهُمَا ضَرَّتَانِ مَتَى أَرْضَيْت إحْدَاهُمَا أَسْخَطْت الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ خُلِقَتْ لِحُظُوظِ الْأَرْوَاحِ وَالدُّنْيَا لِلْمُيُولَاتِ الْهَوَائِيَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ فَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَتَشَبَّثَ بِالدُّنْيَا كَانَ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ مَلِكٍ دَعَاهُ لِضِيَافَتِهِ، وَعَلَى عَاتِقِهِ جِيفَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ حَيَاؤُهُ مِنْ الْمَلِكِ فَكَذَا مُرِيدُ الْآخِرَةِ مَعَ تَمَسُّكِهِ بِالدُّنْيَا فَمَنْ أَرَادَ اللَّهَ فَلْيَرْفُضْ جَمِيعَ مَا سِوَاهُ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَرَى إلَّا إيَّاهُ «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ» كُلَّهُ

«فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ الْحَيَاءِ» عَنْ الطِّيبِيِّ فَمَنْ أَهْمَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَةِ الِاسْتِحْيَاءِ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ جِبِلَّةَ الْإِنْسَانِ مِنْ رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ مَعْدِنُ الْعَيْبِ، وَمَكَانُ الْمُحَارَبَةِ فَرَأْسُ حَقِّ الْحَيَاءِ تَرْكُ الْمَرْءِ مَا لَا يَعْنِيهِ وَشُغْلُهُ بِمَا يَعْنِيهِ عَلَيْهِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْرَثَهُ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءُ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ اللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُوَ مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ الْمُوصِلُ إلَى مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَالْمَرِيضُ أَوْلَى. وَقِيلَ حَقُّ الْحَيَاءِ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَتَحَمُّلُ الْمَكَارِهِ وَالْمَشَاقِّ، وَإِيثَارُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَوَى نَفْسِهِ، وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ لَيْلًا، وَأَخَذَ بِيَدِ امْرَأَةٍ وَدَعَاهَا إلَى الْفُجُورِ وَخَلَا بِهَا فِي مَوْضِعٍ فَقَالَتْ أَفَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ الَّذِي خَلَقَنَا وَيَطَّلِعُ عَلَيْنَا فَتَرَكَهَا وَتَابَ فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ غُفِرَ لِي بِتَرْكِي ذَنْبًا وَاحِدًا مَخَافَةً مِنْهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] الْآيَةَ ثُمَّ إنَّهُ، وَإِنْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَكِنْ عَنْ الْمِيزَانِ أَنَّهُ وَاهٍ، وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ غَرِيبٌ وَبَعْضٌ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الْحَيَاءُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ هُوَ غَرِيزِيٌّ أَصْلًا وَاكْتِسَابِيٌّ كَمَالًا، وَقَدْ عَرَفْت كَرَّتَيْنِ «مِنْ الْإِيمَانِ» لِمَنْعِهِ مِنْ الْفَوَاحِشِ، وَإِقْدَامِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالْخَيْرِ عَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ جُعِلَ كَالْبَعْضِ مِنْهُ لِمُنَاسَبَتِهِ لَهُ فِي مَنْعِ الْمَعَاصِي. «وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ» أَيْ يُوصِلُهُ إلَيْهَا «وَالْبَذَاءُ» بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَمَدٍّ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ «مِنْ الْجَفَاءِ» بِالْمَدِّ أَيْ الطَّرْدِ وَالْإِعْرَاضِ وَتَرْكِ الصِّلَةِ وَالْبِرِّ «وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ» يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي خَبَرٍ آخَرَ «، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» . (تَنْبِيهٌ) سُئِلَ بَعْضُهُمْ هَلْ كَوْنُ الْحَيَاءِ مِنْ الْإِيمَانِ مُقَيَّدٌ أَوْ مُطْلَقٌ؟ . فَقَالَ مُقَيَّدٌ بِتَرْكِ الْحَيَاءِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا، وَإِلَّا فَعَدَمُهُ مَطْلُوبٌ فِي النُّصْحِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَرْكُهُ فِيهَا مِنْ النُّعُوتِ الْإِلَهِيَّةِ {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] ، {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] وَأَنْشَدُوا إنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ جَاءَ بِهِ ... لَفْظُ النَّبِيِّ وَخَيْرٌ كُلُّهُ انْتَبِهْ إنَّ الْحَيَاءَ لَمِنْ أَسْمَاءِ الْإِلَهِ وَقَدْ ... جَاءَ التَّخَلُّقُ بِالْأَسْمَاءِ فَاحْفَظْ بِهِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «الْحَيَاءُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ» قِيلَ فِي شَرْحِهِ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَهُ وَمُنْتَهَاهُ يُفْضِيَانِ إلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ، وَتَرْكُ الْقَبِيحِ خَيْرٌ لَا مَحَالَةَ فَكَأَنَّهُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ؛ وَلِأَنَّ مَنْ اسْتَحْيَا مِنْ الْخَلْقِ قَلَّ شَرُّهُ، وَكَثُرَ خَيْرُهُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ السَّخَاءُ وَالسَّمَاحُ الْمُوصِلَانِ إلَى دِيَارِ الْأَفْرَاحِ. وَفِيهِ أَيْضًا الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ مَقْرُونَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا جَمِيعًا قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ رَائِحَةُ التَّجْرِيدِ حَيْثُ جَرَّدَ مِنْ الْإِيمَانِ شُعْبَةً مِنْهُ وَجَعَلَهَا قَرِينًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ كَأَنَّهُمَا رَضِيعَا لِبَانِ ثَدْيٍ أَيْ تَقَاسَمَا أَنْ لَا يَفْتَرِقَا. وَفِيهِ أَيْضًا الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا فَإِذَا

رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ قِيلَ عَنْ الرَّاغِبِ الْحَيَاءُ انْقِبَاضُ النَّفْسِ عَنْ الْقَبَائِحِ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ خَيْرٍ وَعِفَّةٍ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُسْتَحْيِي فَاسِقًا، وَلَا الْفَاسِقُ مُسْتَحِيًا لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْعِفَّةِ وَالْفِسْقِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ الشُّجَاعُ مُسْتَحِيًا لِتَنَافِي الشَّجَاعَةِ مَعَ الْجُبْنِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» وَفِي آخَرَ «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ» ؛ لِأَنَّ الْحَيَاءَ مِنْ النَّاسِ يُفْضِي إلَى الْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَكُونُ الْحَيَاءُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالْإِمَامَةِ وَالْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ وَتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ، وَأَدَاءِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ قُلْنَا هَذَا لَيْسَ بِحَيَاءٍ حَقِيقَةً، وَإِنْ اصْطَلَحَهُ النَّاسُ بَلْ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ وَخَوْرٌ إذْ كَمَا عَرَفْت أَنَّهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ وَيَمْنَعُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ كَسَا الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ» أَيْ سُكُوتُ اللِّسَانِ تَحَرُّزًا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْبُهْتَانِ «شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ» فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيَاءِ فَيَتْرُكُ الْقَبَائِحَ وَيَمْنَعُ الِاجْتِرَاءَ عَلَى الْكَلَامِ خَوْفًا مِنْ عَثْرِ اللِّسَانِ وَالْوَقِيعَةِ فِي الْبُهْتَانِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ فِي قَرْنٍ - أَيْ هُمَا فِي حَبْلٍ - فَإِذَا أُسْلِبَ أَحَدُهُمَا تَبِعَهُ الْآخَرُ» وَالْمُرَادُ هُوَ الْحَيَاءُ الشَّرْعِيُّ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ فَمَذْمُومٌ جِدًّا كَمَا عَرَفْت، وَفِي آخَرَ أَيْضًا «الْحَيَاءُ زِينَةٌ» ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الرُّوحِ وَالرُّوحُ سَمَاوِيٌّ، وَعَمَلُ أَهْلِ السَّمَاءِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالنَّفْسُ شَهْوَانِي أَرْضِيٌّ مَيَّالٌ إلَى شَهْوَةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا لَا يَهْدَأُ، وَلَا يَسْتَقِرُّ فَأَعْمَالُنَا مُخْتَلِفَةٌ فَمَرَّةً عُبُودِيَّةٌ وَمَرَّةً رُبُوبِيَّةٌ وَمَرَّةً عَجْزٌ وَمَرَّةً اقْتِدَارٌ فَإِذَا رِيضَتْ وَذُلِّلَتْ وَأُدِّبَتْ، وَكَانَ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ لِلرُّوحِ جَاءَ الْحَيَاءُ، وَهُوَ خَجِلُ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَصْلُحُ فِي السَّمَاءِ، وَذَلِكَ يُزَيِّنُ الْجَوَارِحَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ. وَمِنْهُ الْوَقَارُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ فِي النِّسَاءِ وَوَاحِدَةٌ فِي الرِّجَالِ» كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ فَيْضِ الْقَدِيرِ. (ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا كَانَ الْفُحْشُ» مِثْلُ قُبْحٍ وَزْنًا، وَالْمَعْنَى: كُلُّ شَيْءٍ جَاوَزَ الْحَدَّ فَهُوَ فَاحِشٌ وَالْقَوْلُ السَّيِّئُ. «فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» مِنْ الشَّيْنِ أَيْ الْعَيْبِ «وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ» مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ «إلَّا زَانَهُ» مِنْ الزِّينَةِ عَنْ الطِّيبِيِّ أَيْ لَوْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ الْفُحْشُ أَوْ الْحَيَاءُ فِي جَمَادٍ لَشَانَهُ أَوْ زَانَهُ فَكَيْفَ بِالْإِنْسَانِ، وَأَشَارَ بِهَذَيْنِ إلَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ الرَّذِيلَةَ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ بَلْ هِيَ الشَّرُّ كُلُّهُ وَالْحَسَنَةُ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ بَلْ هِيَ الْخَيْرُ كُلُّهُ (، وَأَفْضَلُ الْحَيَاءِ الْحَيَاءُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي (ثُمَّ) الْحَيَاءُ (مِنْ النَّاسِ فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ، وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ. وَأَمَّا مَا فِيهِ إحْدَاهُمَا كَالْحَيَاءِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَرْكِ السُّنَنِ كَالسِّوَاكِ) لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْوُضُوءِ، وَكَذَا عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَإِنْ قِيلَ بِعَدَمِ سُنِّيَّتِهِ عِنْدَ الصَّلَاةِ عَلَى مَا حَقَّقْنَا فِي رِسَالَةٍ (وَالطَّيْلَسَانُ) هُوَ ثَوْبٌ يُجْعَلُ فَوْقَ الْعِمَامَةِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ هُوَ ثَوْبٌ طَوِيلٌ عَرِيضٌ قَرِيبٌ مِنْ الرِّدَاءِ مُرَبَّعٌ يُجْعَلُ فَوْقَ الْعِمَامَةِ إلَخْ ثُمَّ قَالَ هُوَ مَنْدُوبٌ اتِّفَاقًا وَيَتَأَكَّدُ لِصَلَاةٍ وَجُمُعَةٍ، وَعِيدٍ وَمَجْمَعٍ وَيُقَالُ لَهُ الْقِنَاعُ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ لِلتَّطَيْلُسِ التَّقَنُّعُ، وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ التَّقَنُّعُ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي خَبَرٍ «لَا يُقَنَّعُ إلَّا مَنْ اسْتَكْمَلَ الْحِكْمَةَ» فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَلِلطَّيْلَسَانِ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ كَصَلَاحِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَاسْتِحْيَاءِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ إذْ شَأْنُ الْخَائِفِ الْآبِقِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، وَكَجَمْعِهِ الْكُفْرَ؛ لِأَنَّهُ يُغَطِّي أَكْثَرَ الْوَجْهِ فَيَجْمَعُ هِمَّتَهُ وَيُحْضِرُ قَلْبَهُ مَعَ رَبِّهِ وَيَمْتَلِئُ بِشُهُودِهِ وَذِكْرِهِ وَتُصَانُ جَوَارِحُهُ عَنْ الْمُخَالَفَاتِ وَنَفْسُهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ، وَهَذِهِ أَسْبَابٌ لِإِفَاضَةِ أَنْوَاعِ الْجَلَالَةِ وَالْمَهَابَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضٌ: الطَّيْلَسَانُ الْخَلْوَةُ الصُّغْرَى. انْتَهَى مُلَخَّصًا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ التَّقَنُّعُ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ بِطَرَفِ الْعِمَامَةِ وَبِرِدَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِيَقِيَ نَحْوَ الْعِمَامَةِ مِمَّا بِهِ مِنْ الدُّهْنِ وَصَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَتَى بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ لِلْهِجْرَةِ مُتَقَنِّعًا بِثَوْبِهِ» ثُمَّ قَالَ أَنْكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ الطَّيْلَسَانَ لِعَدَمِ النَّقْلِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا عَنْ صَحَابَتِهِ بَلْ هُوَ فِعْلُ الدَّجَّالِ وَلِإِنْكَارِ أَنَسٍ؛ وَلِكَرَاهَةِ جَمْعٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلِضَرُورَةِ الِاخْتِفَاءِ بِلَا عَادَةٍ، وَكَذَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ يُكْثِرُ التَّقَنُّعَ ثُمَّ أَجَابَ الْهَيْتَمِيُّ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَلْبَسْهُ يَرُدُّهُ خَبَرُ «كَانَ يُكْثِرُ الْقِنَاعَ» . وَقَوْلُهُ

وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ يَرُدُّهُ خَبَرُ الْحَاكِمِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى لِرَجُلٍ مُقَنَّعٍ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» ، وَأَيْضًا رُئِيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُقَنَّعٌ، وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الطَّيَالِسَةَ ثُمَّ قَالَ هُوَ مُبَاحٌ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بَلْ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ صَارَ شِعَارَ قَوْمٍ كُرِهَ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّهُ إخْلَالٌ بِالْمُرُوءَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا أَيْضًا. ثُمَّ أَقُولُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الطَّيْلَسَانِ هُنَا التَّسْوِيمُ لِكَوْنِ سُنِّيَّتِهِ آكَدُ؛ وَلِكَوْنِهِ فِي نَظَرِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَهَمَّ إذْ التَّسْوِيمُ الَّذِي هُوَ إرْخَاءُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَسَوَّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ سَوَّمَتْ» وَكَيْفِيَّتُهُ إرْسَالُهُ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ قَرِيبًا إلَى الْقَفَا مِنْ جَانِبِ الْيَسَارِ، وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ذَنِّبُوا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُذَنِّبُ» ، وَعَنْهُ أَيْضًا «رَكْعَتَانِ مَعَ الذَّنَبِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً بِلَا ذَنَبٍ» ، وَعَنْ الطِّيبِيِّ التَّسْوِيمُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَفِي الْفَتَاوَى سُنَّةٌ أَيْضًا، وَقِيلَ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي صُرَّةِ الْفَتَاوَى سُئِلَ صَاحِبُ الْمِنَحِ عَنْ إرْسَالِ الْعَذَبَةِ هَلْ هِيَ سُنَّةٌ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، وَهَلْ تَارِكُ الْعَذَبَةِ يَكُونُ فَاسِقًا أَوْ لَا، وَلَوْ ضَحِكَ إنْسَانٌ عَلَى مَنْ يُرْسِلُ الْعَذَبَةِ هَلْ يَكْفُرُ أَوْ لَا، وَأَجَابَ الْمَنْقُولُ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ كَالْخُلَاصَةِ وَالزَّيْلَعِيِّ وَشَرْحِ الشِّرْعَةِ أَنَّ الْعَذَبَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهُوَ إرْسَالُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ قِيلَ شِبْرٌ وَقِيلَ إلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَقِيلَ إلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، وَلَا يَفْسُقُ بِتَرْكِهِ لَكِنَّهُ مُسِيءٌ، وَكَرَاهِيَةٌ فَيَأْثَمُ، وَلَوْ بِيَسِيرٍ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَمَّا كَانَتْ طَرِيقَةَ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ، وَكَانَ سَبِيلُهَا الْإِحْيَاءَ دُونَ الْإِمَاتَةِ كَانَتْ حَقًّا عَلَيْنَا فَعُوتِبْنَا عَلَى تَرْكِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ عَلَى طَرِيقِ التَّهَاوُنِ وَالِاسْتِخْفَافِ فَحِينَئِذٍ يَكْفُرُ أَوْ يَفْسُقُ لِرُجُوعِ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِهَا ثُمَّ هَذَا إذَا تَرَكَ سُنَّةَ الْهَدْيِ. وَأَمَّا سُنَنُ الزَّوَائِدِ فَتَارِكُهَا لَا يَسْتَوْجِبُ إسَاءَتَهُ وَبِهِ صَرَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَعَنْ الْخُلَاصَةِ لَوْ قَالَ قَصَصْت شَارِبَك، وَأَلْقَيْت الْعِمَامَةَ عَلَى الْعَانِقِ اسْتِخْفَافًا يَكْفُرُ أَوْ قَالَ مَا أَقْبَحَ امْرَأً قَصَّ شَارِبَهُ، وَلَفَّ طَرَفَ الْعِمَامَةِ عَلَى الْعُنُقِ كَفَرَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَعَنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ أَنَّ الشِّبْرَ لِلْعَوَامِّ، وَإِلَى وَسَطِ الظَّهْرِ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَإِلَى الْمَقْعَدِ لِلْمُفْتِي، وَإِرْسَالُهُ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ كَمَا عَرَفْت، وَقِيلَ مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ، وَقِيلَ أَيُّ مَوْضِعٍ كَانَ، فَفَوْقَ الْأُذُنَيْنِ أَوْ قُدَّامَهُ بِدْعَةٌ، وَقِيلَ إرْسَالُهُ تَحْتَ الْحَنَكِ، وَقِيلَ إرْسَالُهُ مِنْ الْقُدَّامِ سُنَّةٌ، وَعَنْ الطِّيبِيِّ قَدْرُ ثَلَاثِ قَبَضَاتٍ لِضَعِيفِ الْإِيمَانِ، وَقَبْضَتَانِ لِمُتَوَسِّطِ الْإِيمَانِ، وَأَزْيَدُ مِنْهَا لِكَامِلِ الْإِيمَانِ. وَنُقِلَ عَنْ فَتَاوَى الْحُجَّةِ أَنَّ التَّسْوِيمَ لِلْقَاضِي قَدْرُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أُصْبُعًا؛ وَلِلْخَطِيبِ إحْدَى وَعِشْرِينَ؛ وَلِلْعُلَمَاءِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - سَبْعَةَ عَشْرَةَ؛ وَلِلْعَوَامِّ سَبْعٌ؛ وَلِلصُّوفِيِّ الْعَامِّيِّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، وَفِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ لِابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ عَمَّمَ ابْنُ عَوْفٍ وَسَدَلَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ قَالَ فَالسُّنَّةُ تَحْصُلُ بِكُلٍّ لَكِنْ الْأَفْضَلُ مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ السَّدْلَ مِنْ وَرَاءُ، وَأَمَامُ لِمَنْ أَرَادَ إرْخَاءَ طَرَفَيْهَا، وَإِلَّا فَالْمُكَتَّفِي بِوَاحِدٍ فَالْأَفْضَلُ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ ثُمَّ الْمَنْكِبِ، وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُسْدِلُ دَائِمًا، وَعَنْ عَبْدِ الْحَقِّ السُّنَّةُ إرْخَاءُ طَرَفِهَا وَيَتَحَنَّكُ بِهِ، وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ قِيلَ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ عَمَائِمُ الشَّيْطَانِ. (وَ) تَرْكُ (تَقْصِيرِ الثِّيَابِ) إذْ السُّنَّةُ جَعْلُهَا لِأَنْصَافِ السَّاقِ، وَهُوَ مُبَاحٌ إلَى الْكَعْبِ وَمَا جَاوَزَهُ حَرَامٌ مَعَ الْخُيَلَاءِ مَكْرُوهٌ عِنْدَ فَقْدِهَا قَالَ فِي الشِّرْعَةِ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ قَمِيصًا تَارَةً إلَى الرُّسْغِ ذَيْلُهُ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مُسْتَوِيَ الْكُمَّيْنِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَعَلَى هَذَا تَقْصِيرُ الثِّيَابِ سُنَّةٌ، وَفِي شَرْحِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَطَعَ قَمِيصَهُ مِنْ رَأْسِ الْأَصَابِعِ فَعَابَهُ الْخَوَارِجُ فَقَالَ أَتَعِيبُونَنِي عَلَى لِبَاسٍ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْكِبْرِ، وَأَجْدَرُ أَنْ يُقْتَدَى فِي الْمُسْلِمِ ثُمَّ قَالَ فِي الشِّرْعَةِ وَإِسْبَالُ الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ بِدْعَةٌ أَيْ تَطْوِيلُهُمَا، وَفِي شَرْحِهِ عَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ، وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . (وَ) تَرْكُ (تَرْقِيعِهَا) قَالَ فِي الشِّرْعَةِ، وَعَنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ لُبْسُ الْمُرَقَّعِ وَالْخَشِينِ، وَأَيْضًا هُوَ مِنْ سُنَّةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ

لِعِيسَى عَلَيْهِ، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قَصْعَةٌ لِلشُّرْبِ وَمُشْطٌ لِلِحْيَتِهِ، وَإِبْرَةٌ لِخَيْطِ خِرْقَتِهِ فَلَمَّا رَأَى وَاحِدًا يَشْرَبُ بِكَفِّهِ رَمَى الْقَصْعَةَ وَرَأَى آخَرَ يُخَلِّلُ لِحْيَتِهِ بِأَصَابِعِهِ فَرَمَى الْمُشْطَ وَبَقَّى الْإِبْرَةَ فَلَمَّا عَرَجَ إلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ اجْتَمَعَتْ الْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ يَتَبَرَّكُونَ وَيَمْسَحُونَ بِمُرَقَّعَتِهِ فَعَدُّوا رِقَاعَ خِرْقَتِهِ قَرِيبًا إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَبَكَوْا، وَقَالُوا إلَهَنَا أَمَا كَانَ عِيسَى عِنْدَك يُسَاوِي قَمِيصًا جَدِيدًا مِنْ دُنْيَاك فَنُودِيَ بِهِمْ أَنَّ جَمِيعَ الدُّنْيَا لَا يُسَاوَى بِعُضْوِ حَبِيبِي عِيسَى لَكِنْ فَتِّشُوا هَلْ تَجِدُونَ مَعَهُ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا فَوَجَدُوا إبْرَةً فَقَالَ تَعَالَى، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ هَذِهِ الْإِبْرَةُ لَرَفَعْته إلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ، وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَأْكُلُ مِنْ الشَّجَرِ وَيَبِيتُ حَيْثُ أَمْسَى. وَفِي الْبُسْتَانِ كَانَ عُمَرُ يَخْطُبُ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ لَهُ سَبْعُ رِقَاعٍ نَعَمْ يَجُوزُ تَرْكُ الرِّقَاعِ فِيمَا يُخَافُ عَيْبَةُ النَّاسِ وَتَحْقِيرُهُمْ كَمَا فِي مُطْلَقِ الثِّيَابِ الْخَشِنَةِ قَالَ فِي الْبُسْتَانِ عَنْ الشَّعْبِيِّ الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا لَا يُزْرِيك السُّفَهَاءُ، وَلَا يَعِيبُك الْفُقَهَاءُ (وَ) تَرْكُ (الْمَشْيِ حَافِيًا) بِلَا نَعْلَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ (وَرُكُوبُ الْحِمَارِ) عَارِيًّا أَوْ عَلَى الْإِكَافِ (وَالْإِكَافُ، وَلَعْقُ الْأَصَابِعِ) بَعْدَ الطَّعَامِ لَا فِي أَثْنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْأَدَبِ (وَ) لَعْقُ (الْقَصْعَةِ) ، وَفِي الْبُسْتَانِ وَمِنْ السُّنَّةِ لَعْقُ أَصَابِعِهِ قَبْلَ الْمَسْحِ بِالْمِنْدِيلِ وَتَرْكُهُ مِنْ أَمْرِ الْعَجَمِ، وَأَمْرِ الْجَبَابِرَةِ وَيُقَالُ الْقَصْعَةُ تَسْتَغْفِرُ لِمَنْ يَلْعَقُهَا، وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، وَعَلَى الَّذِينَ يَلْعَقُونَ أَصَابِعَهُمْ» ، وَكَانَ «يَأْمُرُ بِلَعْقِ الْقَصْعَةِ» ، «وَكَانَ لَا يَمْسَحُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُصَّهَا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ طَعَامٍ يُبَارَكُ لَهُ» (وَأَكْلُ مَا سَقَطَ عَلَى السُّفْرَةِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الطَّعَامِ) فِي الْبُسْتَانِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَكَلَ مَا سَقَطَ مِنْ الْمَائِدَةِ لَمْ يَزَلْ فِي سَعَةٍ مِنْ الرِّزْقِ وَوُقِيَ الْحُمْقَ عَنْهُ، وَعَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ» ، وَعَنْهُ أَيْضًا «إذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا، وَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى، وَلَا يَتْرُكُهَا لِلشَّيْطَانِ» (وَالْجَهْرُ بِالسَّلَامِ وَرَدُّهُ) قَالَ فِي الْبُسْتَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَيْتُمْ الْمَجْلِسَ فَسَلِّمُوا عَلَى الْقَوْمِ، وَإِذَا رَجَعْتُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى» ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَوْتِ فَقِيلَ الرَّدُّ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]- وَالْأَمْرُ لِلْفَرِيضَةِ، وَقِيلَ التَّسْلِيمُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ سَابِقٌ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ إنْ لَمْ يَرُدُّوا السَّلَامَ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، وَلَعَنَتْهُمْ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ يَكْفِي رَدُّ وَاحِدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى الْكُلِّ ثُمَّ قَالَ الْإِسْمَاعُ فِي الرَّدِّ وَالسَّلَامِ لَازِمٌ، وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ الْفَرْضُ، وَلَمْ تَحْصُلْ السُّنَّةُ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَى وَاحِدٍ يَقُولُ وَعَلَيْكُمْ بِخِطَابِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ الْمَلَائِكَةَ. انْتَهَى إيجَازًا. (وَالْأَذَانُ وَالْإِمَامَةُ) عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ جَمَعَ اثْنَانِ فِي وَقْتٍ فَتَرَكَا الْإِمَامَةَ فَصَلَّيَا فُرَادَى أَثِمَا بِإِثْمَيْنِ إثْمٌ بِتَرْكِ الْإِمَامَةِ، وَإِثْمٌ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا أَمَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يَأْثَمَا. انْتَهَى. (وَ) تَرْكُ (نَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ السُّنَنِ كَالِاعْتِكَافِ وَتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ (فَمَذْمُومٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الِامْتِنَاعَ (فِي الْحَقِيقَةِ جُبْنٌ) أَيْ ضَعْفُ قَلْبٍ، وَقِلَّةُ شَجَاعَةٍ (وَضَعْفٌ فِي الدِّينِ) إذْ لَوْ كَانَ قَوِيًّا لَمَا يَخَافُ لَوْمَةَ لَائِمٍ (أَوْ رِيَاءٌ أَوْ كِبْرٌ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ حَيَاءٌ فَحَيَاءٌ مِنْ النَّاسِ وَوَقَاحَةٌ) أَيْ عَدَمُ حَيَاءٍ (لِلَّهِ تَعَالَى؛ وَلِرَسُولِهِ وَجُرْأَةٌ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَوْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَعَ الْمَدِّ (عَلَيْهِمَا) عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ (وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ بِالْحَيَاءِ مِنْ النَّاسِ) أَمَّا اللَّهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الرَّسُولُ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْفِيفِ، وَإِلَّا فَكُفْرٌ قَالُوا مَنْ خَفَّفَ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَحُكْمُهُ السَّيْفُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِكُفْرِهِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ (فَمَا حَالُ مَنْ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ خَالِقِهِ) الَّذِي هُوَ الْمُبْدِئُ وَالْمُعِيدُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ الَّذِي

السابع والثلاثون الجزع والشكوى

أَحَاطَ بِكُلِّ النِّعَمِ (وَرَازِقِهِ) بِأَنْوَاعِ الْأَرْزَاقِ (وَهَادِيهِ) إلَى أَنْوَاعِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ (وَمُنْجِيهِ) مِنْ الْمَصَائِبِ وَالْبَلِيَّاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (بِتَرْكِ الْأَوَامِرِ) فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا (الْإِلَهِيَّةِ) فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ (وَالسُّنَنِ الْمُحَمَّدِيَّةِ) يَشْمَلُ النَّدْبَ (وَيَسْتَحْيِي مِنْ الْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ) فَإِنَّ النَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَكَذَا الْمُعْطِي وَالْمَانِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (لِطَلَبِ ثَنَائِهِمْ) الْأَوْلَى ثَنَائِهِ إذْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَخْلُوقِ فَلَعَلَّهُ أَرْجَعَهُ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِغْرَاقِ (وَرِضَاهُمْ وَحُطَامِهِمْ) قِيلَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى وَتَخْفِيفِ الثَّانِيَةِ هُوَ الْمَالُ الْحَرَامُ (وَيَفِرُّ) مِنْ الْفِرَارِ (مِنْ تَعْيِيرِهِمْ، وَلَا يَفِرُّ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ) وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى بِتَرْكِ أَوَامِرِهِ (وَلَا مِنْ حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ) بِتَرْكِ سُنَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّ تَرْكَ السُّنَنِ مُوجِبٌ لِاسْتِحْقَاقِ حِرْمَانِهَا، وَإِنْ جَازَ شَفَاعَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمُجَرَّدِ إحْسَانِهِ، وَكَرَمِهِ فَيَنْدَفِعُ مَا أُورِدَ عَلَى مِثْلِهِ بِنَحْوِ حَدِيثِ «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» فَإِنَّهُ إذَا شَفَعَ لَهُمْ فَكَيْفَ لِتَارِكِي سُنَّتِهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ اتِّفَاقًا بَلْ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَحْوُ حَدِيثِ «مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي» (فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ فَهَلْ تَرْضَى لِنَفْسِك أَيُّهَا الْأَخُ الْعَاقِلُ أَنْ تُحْرَمَ مِنْ شَفَاعَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَحَبِيبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي يَرْجُوهَا وَيَطْلُبُهَا كُلُّ الْخَلَائِقِ حَتَّى الْأَوْلِيَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَالنَّبِيِّينَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَيُّ عَمَلٍ مَقْبُولٍ يُنْجِيك مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ وَيُدْخِلُك الْجَنَّةَ إنْ لَمْ تَنَلْك شَفَاعَةُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا إلَى آخِرِ مَا قَالَ. [السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْجَزَعُ وَالشَّكْوَى] (السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ) : (الْجَزَعُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالزَّايِ (وَالشَّكْوَى) عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَقِيلَ الْجَزَعُ قِلَّةُ الصَّبْرِ وَضَعْفُ الْهِمَّةِ عَنْ حَمْلِ مَا نَزَلَ بِهِ وَالشَّكْوَى التَّظَلُّمُ مِمَّا يُلَائِمُهُ مِنْ الْمَضَرَّاتِ (وَهُوَ عَدَمُ تَحَمُّلِ الْمِحَنِ) جَمْعُ مِحْنَةٍ الْبَلِيَّةُ (وَالْمَصَائِبِ، وَإِظْهَارُهُمَا) أَيْ الْمِحَنِ وَالْمَصَائِبِ (قَوْلًا أَوْ فِعْلًا تَضَجُّرًا) مِنْهُمَا قَالَ الْمُحَشِّي أَمَّا الْإِظْهَارُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّضَجُّرِ كَالْإِظْهَارِ لِلطَّبِيبِ لِلْعِلَاجِ أَوْ لِأَجْلِ الِاعْتِذَارِ أَوْ تَسْلِيَةِ الْغَيْرِ بِنَاءً عَلَى خُلْفِ الْوَعْدِ فَلَيْسَ بِجَزَعٍ وَقَدْ يَكُونُ بَاعِثًا لِإِظْهَارِ الرِّيَاءِ تَدَبَّرْ انْتَهَى (وَضِدُّهُ) أَيْ الْجَزَعِ (الصَّبْرُ، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ الْجَزَعِ) قِيلَ الصَّبْرُ ثَبَاتُ الْقُوَّةِ الْمُضَادَّةِ لِلشَّهْوَةِ فِي مُقَاوَمَةِ الشَّهْوَةِ وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ لِلْبَهَائِمِ شَهْوَةً بِلَا عَقْلٍ؛ وَلِلْمَلَائِكَةِ عَقْلًا بِلَا شَهْوَةٍ؛ وَلِلْإِنْسَانِ كِلَاهُمَا مَعًا وَالصَّبْرُ مُقَاوَمَةُ الْعَقْلِ الشَّهْوَةَ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِنْسَانِ دُونَ الْبَهَائِمِ لِنُقْصَانِهِمْ وَدُونَ الْمَلَائِكَةِ لِكَمَالِهِمْ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] فَلَيْسَ لَهُمْ مِيزَانٌ كَمَا لَيْسَ لَهُمْ حِسَابٌ لِعَدَمِ دُخُولِ الصَّبْرِ تَحْتَ إحْصَاءِ عَدَدٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ فَتُوزَنُ أُجُورُهُمْ، وَلَا يُنْصَبُ لِأَهْلِ الْبَلَاءِ بَلْ يُصَبُّ عَلَيْهِمْ الْأَجْرُ صَبًّا حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ الْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ أَجْسَادَهُمْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ مِمَّا يَذْهَبُ بِهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنْ الْفَضْلِ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ صَبَرَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَهُ ثَلَاثُمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ فَلَهُ سِتُّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ فَلَهُ تِسْعُمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ الْعَرْشِ إلَى الثَّرَى»

كَذَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ وَوَقَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] (طب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أُصِيبَ» فِعْلٌ مَجْهُولٌ «بِمُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ» ، وَلَوْ بِالْجَرْحِ «فَكَتَمَهَا» أَيْ أَخْفَاهَا صَبْرًا عَلَيْهَا وَطَلَبًا لِثَوَابِهَا «، وَلَمْ يَشْكُهَا لِأَحَدٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ» ، وَعَنْ الْبُدُورِ السَّافِرَةِ لِلسُّيُوطِيِّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا لَيْسَ لَهَا مَعَالِيقُ مِنْ فَوْقِهَا، وَلَا عِمَادٌ مِنْ تَحْتِهَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَدْخُلُهَا أَهْلُهَا قَالَ يَدْخُلُونَهَا أَشْبَاهَ الطَّيْرِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ قَالَ لِأَهْلِ الْأَسْقَامِ وَالْأَوْجَاعِ وَالْبَلْوَى» ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يُنَاقِضُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي مَرَضِهِ وَارَأْسَاهُ» ، وَقَوْلُ سَعْدٍ قَدْ اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَارَأْسَاهُ فَإِنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ لَا الشَّكْوَى فَإِذَا حَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ أَخْبَرَ بِعِلَّتِهِ لَمْ يَكُنْ شَكْوَى بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخْبَرَ بِهَا بِتَسَخُّطٍ مَثَلًا فَإِنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يُثَابُ عَلَيْهَا وَقَدْ يُعَاقَبُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «مَنْ أُصِيبَ فِي جَسَدِهِ بِشَيْءٍ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ» . (دَيْلَم) الدَّيْلَمِيُّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الْإِيمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ» بِصَرْفِ كُلِّ نِعْمَةٍ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَعْمَالِ هُوَ الْإِيمَانُ. وَحَاصِلُ التَّصْدِيقِ بِالْمَعَارِفِ الْيَقِينُ وَحَاصِلُ التَّصْدِيقِ بِالْأَعْمَالِ الصَّبْرُ إذْ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الطَّاعَةِ إلَّا بِالصَّبْرِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا يُطْلَقُ الْإِيمَانُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُثْمِرَةِ لِلْأَعْمَالِ لَا الْمَعَارِفِ وَالْأَعْمَالُ إمَّا ضَارٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ نَافِعٌ فِيهِمَا وَالصَّبْرُ فِي الْأَوَّلِ وَالشُّكْرُ فِي الثَّانِي. وَفِي الْحَدِيثِ «الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» فَيَكُونُ الصَّوْمُ رُبُعَ الْإِيمَانِ

(وَأَفْضَلُ الصَّبْرِ مَا عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى) أَيْ عِنْدَ فَوْرَةِ الْمُصِيبَةِ وَابْتِدَائِهَا قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ التَّسَلِّي بِشَيْءٍ مِنْ التَّسَلِّيَاتِ لِكَثْرَةِ الْمَشَقَّةِ حِينَئِذٍ، وَأَصْلُ الصَّدْمِ الضَّرْبُ فِي شَيْءٍ صُلْبٍ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي كُلِّ مَكْرُوهٍ وَوَقَعَ بَغْتَةً وَمَعْنَاهُ أَنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ قُوَّةِ الْمُصِيبَةِ أَشَدُّ فَالثَّوَابُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ فَإِنَّ بِطُولِ الْأَيَّامِ يَتَسَلَّى الْمُصَابُ فَيَصِيرُ الصَّبْرُ طَبْعًا، وَقَدْ بَشَّرَ اللَّهُ تَعَالَى - الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةً قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ -. وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ قِيلَ حُبِسَ الشِّبْلِيُّ وَقْتًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَقَالَ مَنْ أَنْتُمْ قَالُوا أَحِبَّاؤُك جَاءُوك زَائِرِينَ فَأَخَذَ يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، وَأَخَذُوا يَهْرُبُونَ فَقَالَ يَا كَذَّابُونَ لَوْ كُنْتُمْ أَحِبَّائِي لَصَبَرْتُمْ عَلَى بَلَائِي. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْقُدْسِيَّةِ «مَنْ يَتَحَمَّلُ مَا يَتَحَمَّلُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَجْلِي» ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُنْت بِمَكَّةَ فَرَأَيْت فَقِيرًا طَافَ بِالْبَيْتِ، وَأَخْرَجَ مِنْ جَيْبِهِ رُقْعَةً وَنَظَرَ فِيهَا وَمَرَّ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَتَرَقَّبْته أَيَّامًا وَهُوَ يَفْعَلُ مِثْلَهُ فَيَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ طَافَ وَنَظَرَ فِي الرُّقْعَةِ وَتَبَاعَدَ قَلِيلًا وَسَقَطَ مَيِّتًا فَأَخْرَجْنَا الرُّقْعَةَ مِنْ جَيْبِهِ فَإِذَا فِيهَا - {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] ؛ وَلِمِثْلِ ذَلِكَ الْفَضْلِ كُلِّهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْمُصِيبَةُ وَاحِدَةٌ فَإِذَا جَزَعَ صَاحِبُهَا تَكُونُ ثِنْتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْمُصِيبَةُ وَثَانِيَتُهُمَا ذَهَابُ أَجْرِ الْمُصِيبَةِ بَلْ الْمُصِيبَةُ هِيَ هَذَا لَا نَفْسُ الْمُصِيبَةِ. (خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّبْرُ» أَيْ الْكَامِلُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ الْجَزِيلُ «عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» إذْ بَعْدَ ذَلِكَ يَهُونُ الْأَمْرُ وَتَنْكَسِرُ حِدَةُ الْمُصِيبَةِ فَإِنَّ مُفَاجَأَةَ الْمُصِيبَةِ بَغْتَةً بِهَا رَوْعَةٌ تُزْعِجُ الْقَلْبَ (وَالصَّبْرُ أَصْلُ كُلِّ عِبَادَةٍ) قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ فَإِنَّ مَبْنَى أَمْرِ الْعِبَادَةِ كُلِّهِ عَلَى الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى فَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَبُورًا لَمْ يَصِلْ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَجَرَّدَ لَهَا اسْتَقْبَلَتْهُ الشَّدَائِدُ وَالْمَصَائِبُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا لَا عِبَادَةَ إلَّا بِقَمْعِ الْهَوَى، وَقَهْرِ النَّفْسِ، وَلَا أَشَدَّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا حِفْظُ عَمَلِهِ عَمَّا يُفْسِدُهُ وَاتِّقَاءُ الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ وَثَالِثُهَا مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْمِحْنَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمُصِيبَةِ نَفْسًا، وَأَوْلَادًا أَوْ أَقْرِبَاءَ، وَعِرْضًا وَغَيْرَهَا فَكُلُّهَا تُوجِبُ الصَّبْرَ، وَإِلَّا فَالْجَزَعُ يَمْنَعُ الْعِبَادَةَ وَرَابِعُهَا كُلَّمَا ازْدَادَ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَصَائِبُ لَهُ أَكْثَرُ وَالْبَلَاءُ عَلَيْهِ أَشَدُّ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» فَإِذَنْ مَنْ تَجَرَّدَ لِلْعِبَادَةِ تَكْثُرُ عَلَيْهِ الْمِحَنُ ثُمَّ قَالَ فِي الصَّبْرِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: أَوَّلُهَا كَالنَّجَاةِ وَالنَّجَاحِ - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]- الْآيَةَ أَيْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بِالصَّبْرِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ الشَّدَائِدِ. وَثَانِيهَا: وَكَالظَّفَرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] . وَثَالِثُهَا: وَكَالظَّفَرِ بِالْمُرَادِ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] . وَرَابِعُهَا: وَكَالتَّقَدُّمِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِمَامَةِ - {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]-. وَخَامِسُهَا: وَكَالثَّنَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 44] . وَسَادِسُهَا: وَكَالْبِشَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالرَّحْمَةِ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] إلَى قَوْله تَعَالَى {هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] . وَسَابِعُهَا: وَكَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] . وَثَامِنُهَا: وَكَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْجَنَّةِ - {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] . وَتَاسِعُهَا: وَكَالتَّكْرِمَةِ الْعَظِيمَةِ - {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] . وَعَاشِرُهَا: وَكَالثَّوَابِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِي - {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]- فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى صَبْرِ سَاعَةٍ؛ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ» ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمِيعُ خَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ

الثامن والثلاثون كفران النعمة

الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرْجَى ... وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُونُ اصْبِرْ وَإِنْ طَالَتْ اللَّيَالِي ... فَرُبَّمَا أَمْكَنَ الْحَرُونُ وَرُبَّمَا نِيلَ بِاصْطِبَارٍ ... مَا قِيلَ هَيْهَاتَ لَا يَكُونُ ثُمَّ قَالَ فَعَلَيْك بِاغْتِنَامِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الشَّرِيفَةِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِيهَا تَكُنْ مِنْ الْفَائِزِينَ. (وَ) الصَّبْرُ أَيْضًا أَصْلُ كُلِّ (كَفٍّ عَنْ مَعْصِيَةٍ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَكُونُ بِلَا صَبْرٍ عَلَى تَعَبِهَا، وَلَا يَحْتَرِزُ الْعَبْدُ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ إلَّا بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمًا لَهُ قِيلَ الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: أَنْ تَقْهَرَ دَوَاعِيَ الْهَوَى فَلَا يَبْقَى لَهُ قُوَّةُ الْمُنَازَعَةِ هَذَا لِلْمُقَرَّبِينَ. وَثَانِيهَا: أَنْ تَغْلِبَ دَوَاعِي الْهَوَى وَيَسْقُطَ بِالْكُلِّيَّةِ مُنَازَعَةُ بَاعِثِ الدِّينِ فَسَلَّمَ نَفْسَهُ إلَى جُنْدِ الشَّيْطَانِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْغَافِلُونَ، وَهُمْ الَّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ شِقْوَتُهُمْ وَاسْتَرَقَّتْهُمْ شَهَوَاتُهُمْ، وَعَلَامَتُهَا الْقُنُوطُ وَالْغُرُورُ بِالْأَمَانِيِّ، وَهُوَ غَايَةُ الْحُمْقِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ سِجَالًا بَيْنَ الْجُنْدَيْنِ فَتَارَةً لَهُ الْيَدُ عَلَيْهَا وَتَارَةً لَهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ الْمُجَاهِدِينَ لَا مِنْ الْفَائِزِينَ، وَهُمْ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. (تَتِمَّةٌ) : قَالَ الْفَاضِلُ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا ابْتَلَاهُ» لِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ أَيْ تَذَلُّلَهُ وَمُبَالَغَتَهُ فِي السُّؤَالِ «فَإِذَا دَعَا قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ صَوْتٌ مَعْرُوفٌ وَقَالَ جِبْرِيلُ يَا رَبِّ اقْضِ حَاجَتَهُ فَيَقُولَ دَعُوا عَبْدِي فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ» قَالَ الْغَزَالِيُّ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَرَاهُ يُكْثِرُ ابْتِلَاءَ أَوْلِيَائِهِ، وَأَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ هُمْ أَعَزُّ عِبَادِهِ، وَإِذَا رَأَيْت اللَّهَ يَحْبِسُ عَنْك الدُّنْيَا وَيُكْثِرُ عَلَيْك الشَّدَائِدَ وَالْبَلْوَى فَاعْلَمْ أَنَّك عَزِيزٌ عِنْدَهُ، وَأَنَّك عِنْدَهُ بِمَكَانٍ، وَأَنَّهُ لَيَسْلُكَ بِك طَرِيقَ أَوْلِيَائِهِ أَمَا تَسْمَعُ قَوْله تَعَالَى - {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]- بَلْ اعْرِفْ مِنَّتَهُ عَلَيْك فِيمَا يَحْفَظُ عَلَيْك مِنْ صَلَوَاتِك وَيُكْثِرُ مِنْ أُجُورِك وَثَوَابِك وَيُنْزِلُك مَنْزِلَ الْأَبْرَارِ. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ الْعَارِفُ الْجِيلَانِيُّ التَّلَذُّذُ بِالْبَلَاءِ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ لَكِنْ لَا يُعْطِيهِ اللَّهُ لِعَبْدٍ إلَّا بَعْدَ بَذْلِهِ جَهْدَهُ فِي مَرْضَاتِهِ فَإِنَّ الْبَلَاءَ تَارَةً بِمُقَابَلَةِ جَرِيمَةٍ وَتَارَةً تَكْفِيرٌ وَتَارَةً رَفْعٌ لِلدَّرَجَاتِ وَتَبْلِيغُ الْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ؛ وَلِكُلٍّ مِنْهَا عَلَامَةٌ فَعَلَامَةُ الْأَوَّلِ عَدَمُ الصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَكَثْرَةُ الْجَزَعِ وَالشَّكْوَى لِلْخَلْقِ، وَعَلَامَةُ الثَّانِي الصَّبْرُ، وَعَدَمُ الشَّكْوَى وَخِفَّةُ الطَّاعَاتِ عَلَى بَدَنِهِ، وَعَلَامَةُ الثَّالِثِ الرِّضَا وَالطُّمَأْنِينَةُ وَخِفَّةُ الْعَمَلِ عَلَى الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ. اهـ. وَيَدُورُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ بِصَبِّ الْبَلَاءِ وَالْمَصَائِبِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» كَمَا فِي الْجَامِعِ. [الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ] (الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ) جُحُودُهَا وَسَتْرُهَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) - {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112] جَمْعُ نِعْمَةٍ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] أَجْرَى الْإِذَاقَةَ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ لِشُيُوعِهَا فِي الشَّدَائِدِ وَاسْتَعَارَ اللِّبَاسَ لِمَا غَشِيَهُمْ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ. قِيلَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ الْجُوعُ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالدَّمَ وَالْخَوْفُ مِنْ سَرَايَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ وَمَعْنَى أَذَاقَهَا لِبَاسَ الْجُوعِ أَنَّ الْمَذُوقَ هُوَ الطَّعَامُ فَلَمَّا فَقَدُوهُ صَارُوا كَأَنَّهُمْ يَذُوقُونَ الْجُوعَ، وَأَيْضًا لَمَّا اسْتَوْلَى الْجُوعُ عَلَيْهِمْ أَحَاطَ بِهِمْ إحَاطَةَ الْمَلْبُوسِ فَحَصَلَ الشَّبَهَانِ فَذِكْرُ الْمَذُوقِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجُوعَ طَعَامُهُمْ، وَاللِّبَاسِ إشَارَةٌ إلَى اشْتِمَالِهِ عَلَيْهِمْ (وَضِدُّهُ) أَيْ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ (الشُّكْرُ، وَهُوَ تَعْظِيمُ الْمُنْعِمِ) بِذِكْرِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَأَفْعَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الثَّنَاءِ (عَلَى مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ عَلَى حَدٍّ يَمْنَعُهُ عَنْ جَفَاءِ الْمُنْعِمِ) لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْجَفَاءِ هُوَ عَدَمُ الرِّضَا وَالْخِذْلَانُ (وَقِيلَ مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ) مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا نِعْمَةً؛ لِأَنَّهَا مُوصِلَةٌ إلَى مَعْرِفَةِ مُنْعِمِهَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى)

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] قِيلَ عِبَارَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَوْلَى بِجَوَازِ السَّعَادَةِ. عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ لَئِنْ شَكَرْتُمْ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ مَا أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ مِنْ الْإِنْجَاءِ وَغَيْرِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَأَزِيدَنَّكُمْ نِعْمَةً، وَعَنْ ابْنِ عَطَاءٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَئِنْ شَكَرْتُمْ هِدَايَتِي لَأَزِيدَنَّكُمْ خِدْمَتِي، وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ خِدْمَتِي لَأَزِيدَنَّكُمْ رُؤْيَتِي وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ الْإِيمَانَ لَأَزِيدَنَّكُمْ الْإِحْسَانَ، وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ الْإِحْسَانَ لَأَزِيدَنَّكُمْ الْمَعْرِفَةَ، وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ الْمَعْرِفَةَ لَأَزِيدَنَّكُمْ الْوَصْلَةَ. وَعَنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مِنْ ذَنْبِك مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الشُّكْرِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا خُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ، وَكُلُّ ذَرَّةٍ لَا تَخْلُوا عَنْ حِكَمٍ كَثِيرَةٍ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى عَشْرٍ بَلْ إلَى أَلْفٍ فَمَنْ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا فِيمَا خُلِقَ لَهُ مِنْ الْحِكَمِ صَارَ شُكْرًا، وَإِلَّا صَارَ كُفْرًا مَثَلًا الْيَدُ خُلِقَتْ لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا يُهْلِكُهُ وَيَأْخُذَ مَا يَنْفَعُهُ لَا لِيُهْلِكَ بِهَا غَيْرَهُ فَمَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ غَيْرَهُ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْيَدِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَنْجَى بِالْيَمِينِ فَقَدْ كَفَرَ مَا خُلِقَتْ لَهُ الْيَمِينُ، وَكَذَا الْبَصَرُ لِيَنْظُرَ مَا يَنْفَعُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَتَّقِي مَا يَضُرُّ فِيهِمَا فَلَوْ نَظَرَ إلَى الْمُحَرَّمِ مَثَلًا فَكَفَرَ نِعْمَةَ الْإِبْصَارِ. وَكَذَا سَائِرُ الْأُمُورِ كَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ كُلَّ نِعْمَةٍ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ قَالَ الْحَسَنُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حَقِيقَةُ الشُّكْرِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ بِجَمِيعِ جَوَارِحِك فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فَشُكْرُ الْعَيْنِ أَنْ لَا تَنْظُرَ إلَى الْحَرَامِ، وَأَنْ تَسْتُرَ عَيْبًا تَرَاهُ لِصَاحِبِك وَشُكْرُ السَّمْعِ أَنْ لَا تَسْمَعَ إلَّا الْحَقَّ، وَأَنْ تَسْتُرَ عَيْبًا سَمِعْته وَشُكْرُ اللِّسَانِ أَنْ لَا تَكْذِبَ وَتَغْتَابَ وَشُكْرُ الْقَلْبِ أَنْ لَا تَغْفُلَ وَشُكْرُ الْيَدَيْنِ أَنْ لَا تَتَنَاوَلَ بِهِمَا الْحَرَامَ وَشُكْرُ الرِّجْلَيْنِ أَنْ لَا تَمْشِيَ بِهِمَا الْحَرَامَ وَشُكْرُ الْبَطْنِ أَنْ لَا تَأْكُلَ الْحَرَامَ وَشُكْرُ الْفَرْجِ أَنْ لَا تَزْنِيَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] قَالَ الْحَسَنُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَحَقُّ النَّاسِ بِالنِّعَمِ أَشْكَرُهُمْ لَهَا وَنِعْمَةٌ لَا تُشْكَرُ خَطِيئَةٌ لَا تُغْفَرُ» . (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ» أَشْكَلَ أَنَّ نَتِيجَةَ النَّعْمَاءِ الشُّكْرُ وَنَتِيجَةَ الْبَلَاءِ الصَّبْرُ فَلَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّشْبِيهُ؟ . وَأُجِيبَ بِأَنَّ نِصْفَ الْإِيمَانِ صَبْرٌ وَنِصْفَهُ الْآخَرَ شُكْرٌ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الشُّكْرَ يَقْصُرُ عَنْ الصَّبْرِ فَكَيْفَ الْمُنَاصَفَةُ فَأُزِيلَ بِأَنَّهُمَا سِيَّانِ فِي الثَّوَابِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَصْلَ كَوْنُ وَجْهِ الشَّبَهِ قَوِيًّا فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ فَكَيْفَ يَدُلُّ عَلَى التَّسَاوِي عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ أَنَّ الصَّبْرَ لَا يَعْدِلُهُ عَمَلٌ؟ . وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ الشَّاكِرَ لَمَّا رَأَى النِّعْمَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَصَبَّرَ نَفْسَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْمُنْعِمِ بِالْقَلْبِ، وَإِظْهَارِهَا بِاللِّسَانِ نَالَ دَرَجَةَ الصَّابِرِ قَالَ الْغَزَالِيُّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الصَّبْرِ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي إلْحَاقِ الشُّكْرِ إلَيْهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ أَقُولُ تَفْصِيلُهُ مَا فِي الْمِفْتَاحِ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ الصَّبْرُ أَفْضَلُ مِنْ الشُّكْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ آخَرُونَ سِيَّانِ، وَقَالَ آخَرُونَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. اعْلَمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْأَخْبَارِ أَفْضَلِيَّةُ الصَّبْرِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ الْفَقْرِ وَالشُّكْرَ حَالُ الْغِنَى إلَّا أَنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ يُفَصِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعُلُومَ الظَّاهِرَةَ تُرَادُ لِلْأَحْوَالِ وَالْأَحْوَالُ لِلْأَعْمَالِ، وَأَمَّا الْعُلُومُ الْبَاطِنَةُ فَإِنَّمَا تُرَادُ الْأَحْوَالُ لِأَجْلِهَا وَالْأَعْمَالُ لِأَجْلِ الْأَحْوَالِ فَأَفْضَلُ الْكُلِّ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُتَوَسَّلُ إلَيْهَا بِأَحْوَالِ الْقَلْبِ فِي تَصْفِيَتِهِ عَنْ الْمُكَدِّرَاتِ ثُمَّ الْأَعْمَالُ إمَّا أَنْ تُظْلِمَ

الْقَلْبَ أَوْ تُنَوِّرُهُ ثُمَّ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مَثَلًا مَنْ غَلَبَهُ الشُّحُّ فَلَيْسَ لَهُ صَوْمُ النَّافِلَةِ بَلْ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لَهُ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ النَّافِلَةِ، وَكَذَا مَنْ غَلَبَتْهُ شَهْوَةُ الْبَطْنِ فَلَهُ الصَّوْمُ دُونَ إخْرَاجِ الْمَالِ ثُمَّ قَالَ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ قَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا ذُكِرَ، وَقَدْ يُغَايَرَانِ فَإِنْ كَانَتْ النِّعْمَةُ ضَرُورِيَّةً كَالْعَمَى فَصَبْرُهُ لَمْ يَشْكُ وَيَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْبَصِيرُ الْمُسْتَعْمِلُ فِي طَاعَتِهِ فَقَدْ شَكَرَ وَصَبَرَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَكَذَا إنْ كَفَّ عَنْ الْحَرَامِ فَقَدْ شَكَرَ وَصَبَرَ أَيْضًا عَنْ الْحَرَامِ فَالْأَعْمَى فِيهِ فَضِيلَةُ الصَّبْرِ فَقَطْ، وَفِي الْبَصِيرِ الْمُتَّقِي عَنْ الْحَرَامِ أَوْ الْمُسْتَعْمِلِ فِي الطَّاعَةِ فَضِيلَةُ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ فَالْبَصِيرُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَعْمَى وَالْأَعْمَى أَفْضَلُ مِنْ الْبَصِيرِ الْغَيْرِ الْغَاضِّ بَصَرَهُ عَنْ الْحَرَامِ، وَإِنْ كَانَتْ النِّعْمَةُ غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ، وَلَمْ تَكُنْ فَاضِلَةً عَنْ الْحَاجَةِ فَفِي الصَّبْرِ عَنْ الزِّيَادَةِ مُجَاهَدَةٌ، وَهَذَا الصَّبْرُ أَتَمُّ، وَأَقْوَى مِنْ صَبْرِ الْغَنِيَّ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُبَاحِ وَيُمْسِكُ مَالَهُ عَنْ الْفُقَرَاءِ، وَأَمَّا الْغَنِيُّ الَّذِي يَصْرِفُ مَالَهُ إلَى الْخَيْرَاتِ فَفِيهِ الشُّكْرُ وَالصَّبْرُ وَمَجْمُوعُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ صَبْرُ الْفَقِيرِ أَفْضَلَ مِنْ جِهَةِ صَبْرِ هَذَا الْغَنِيِّ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَفْضَلُ مِنْ الْغَنِيِّ الصَّابِرِ فَقَطْ وَمِنْ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ الْغَنِيُّ الصَّابِرُ الشَّاكِرُ أَفْضَلَ مِنْ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ فَقَطْ وَمَا قِيلَ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ فَذَلِكَ لِعَدَمِ انْفِكَاكِ الشُّكْرِ عَنْ الصَّبْرِ وَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ فَضِيلَةِ الصَّبْرِ عَلَى الشُّكْرِ فَإِنَّمَا هُوَ فَضِيلَةٌ عَلَى الشُّكْرِ بِحَسَبِ مُتَفَاهَمِ عُرْفِ الْعَامَّةِ مِنْ أَنَّ النِّعْمَةَ الْمَالُ فَقَطْ. (حَدّ) أَحْمَدُ (عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) الْأَنْصَارِيِّ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِلْأَنْصَارِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ» تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ يَعْنِي أَنَّ الشُّكْرَ لِمَنْ وَصَلَ الْغِنَى مِنْ يَدِهِ بِالْمُكَافَآتِ أَوْ الدُّعَاءِ لَهُ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَاجِبٌ كَشُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ الْمَأْمُورِ بِهِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ سَبَبًا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لِوُصُولِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْمُنْعِمُ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قِيلَ فِي وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ مَعَ مَا يَرَى مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى حُبِّ الثَّنَاءِ عَلَى الْإِحْسَانِ فَأَوْلَى بِأَنْ يَتَهَاوَنَ فِي شُكْرِ مَنْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الشُّكْرَانُ وَالْكُفْرَانُ. وَإِنَّمَا أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي الشُّكْرِ مَعَ أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مَقْصُورَةٌ لَهُ تَعَالَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْثِيرِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» رُوِيَ بِرَفْعِ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَنَصْبِهِمَا وَرَفْعِ أَحَدِهِمَا وَنَصْبِ الْآخَرِ (وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى شُكْرٌ لَهُ تَعَالَى وَتَرْكُهَا) أَيْ النِّعْمَةِ (كُفْرٌ) أَيْ كُفْرَانُ نِعْمَةٍ أَوْ سَتْرٌ وَتَغْطِيَةٌ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى - {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]- فَإِنَّ التَّحْدِيثَ بِهَا شُكْرٌ. قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ الشُّكْرُ إمَّا بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ، وَإِمَّا بِالْبَدَنِ وَالْأَرْكَانِ، وَهُوَ اتِّصَافٌ بِالْوِفَاقِ وَالْخِدْمَةِ، وَإِمَّا بِالْقَلْبِ وَهُوَ اعْتِكَافُهُ عَلَى بِسَاطِ الشُّهُودِ بِإِدَامَةِ حِفْظِ الْحُرْمَةِ (وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ) أَيْ لُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ مُوصِلٌ إلَى الرَّحْمَةِ - {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]- وَقِيلَ أَيْ الصَّلَاةُ مَعَهُمْ أَوْ اتِّبَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَقِيلَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْحَقِّ (وَالْفُرْقَةُ) بِالضَّمِّ عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ السَّابِقَةِ (عَذَابٌ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى

التاسع والثلاثون السخط والتضجر

مَعْرِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ لِيَأْلَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي اللَّهِ وَبِاَللَّهِ فَيَكُونُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَمَنْ انْفَرَدَ عَنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ انْفَرَدَ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَأَوْقَعَهُ فِي النِّيرَانِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْحَقُّ مَعَ الْجَمَاعَةِ الْأُولَى مِنْ الصَّحْبِ، وَعَنْ الْبَيْهَقِيّ إذَا فَسَدَ الْجَمَاعَةُ فَعَلَيْك بِمَا كَانُوا قَبْلُ، وَإِنْ كُنْت وَحْدَك فَإِنَّك إذًا هُوَ الْجَمَاعَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» فَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ الْأُمَّةِ الْكَامِلَةِ، وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَقِيلَ يَدْخُلُ فِيهِ اخْتِلَافُ أَرْبَابِ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ، وَفِي حَدِيثِ الْمَصَابِيحِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي، وَلَمْ يَشْكُرْ نَعْمَائِي، وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي فَلْيَطْلُبْ رَبًّا سِوَايَ» . وَعَنْ الْإِحْيَاءِ شَكَا بَعْضُهُمْ مِنْ فَقْرِهِ إلَى بَعْضِ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ فَقَالَ لَهُ أَيَسُرُّك أَنَّك أَعْمَى، وَلَك عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ قَالَ لَا قَالَ أَيَسُرُّك أَنَّك أَخْرَسُ، وَلَك عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ قَالَ لَا قَالَ أَيَسُرُّك أَنَّك أَقْطَعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ثُمَّ كَذَا، وَكَذَا قَالَ لَا فَقَالَ أَمَّا تَسْتَحْيِي أَنْ تَشْكُوَ مَوْلَاك، وَلَهُ عِنْدَك عُرُوضٌ بِخَمْسِينَ أَلْفًا. وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ قَالَ عَطَاءٌ دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «فَقُلْت أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ مَا رَأَيْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَكَتْ، وَقَالَتْ، وَأَيُّ شَأْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَجَبًا أَنَّهُ أَتَانِي فِي لَيْلَةٍ فَدَخَلَ مَعِي فِي فِرَاشِي حَتَّى مَسَّ جِلْدِي جِلْدَهُ ثُمَّ قَالَ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي قُلْت إنِّي أُحِبُّ قُرْبَك فَأَذِنْت لَهُ فَقَامَ إلَى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ فَأَكْثَرَ صَبَّ الْمَاءِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ رَكَعَ فَبَكَى ثُمَّ سَجَدَ فَبَكَى ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَبَكَى فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى جَاءَ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُبْكِيك، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؛ وَلِمَ لَا أَفْعَلُ، وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 164] » الْآيَةَ. [التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ السُّخْطُ وَالتَّضَجُّرُ] (التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ السُّخْطُ) أَيْ غَضَبُ الْعَبْدِ (بِعَدَمِ حُصُولِ الْمُرَادِ وَهُوَ) أَيْ السُّخْطُ (ذِكْرُ غَيْرِ مَا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى) فِيمَا مَنَعَ مِنْهُ (بِأَنَّهُ) أَيْ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ. الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّكْرِ (أَوْلَى بِهِ، وَأَصْلَحُ لَهُ) الضَّمِيرُ أَنَّ لِلْعَبْدِ أَوْ الذِّكْرِ (فِيمَا لَا يَسْتَيْقِنُ صَلَاحَهُ، وَفَسَادَهُ) فِي أَمْرِ الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا (وَالتَّضَجُّرُ) عَطْفٌ عَلَى الذِّكْرِ (بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ الْمَقْضِيُّ بِمَا لَا يُلَائِمُ مِزَاجَهُ (وَضِدُّهُ) أَيْ السُّخْطِ (الرِّضَا) بِالْمَقْصُورَةِ وَالْمَمْدُودَةِ كَمَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ قِيلَ مِنْ سَهْوِ النَّاسِخِ (وَهُوَ) أَيْ الرِّضَا (طِيبُ النَّفْسِ فِيمَا يُصِيبُهُ، وَفِيمَا يَفُوتُهُ) لِاسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ عِنْدَهُ لِإِيمَانِهِ بِالْقَدْرِ (مَعَ عَدَمِ التَّغَيُّرِ) لِلْعِلْمِ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ صُنْعٍ حِكْمَةً يَتَعَجَّبُ الْعَاقِلُ مِنْ سِرِّهَا كَمَا فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَإِذَا عَلِمَ السَّالِكُ هَذَا غَلَبَ الْحُبُّ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْأَلَمِ كَمَا لِلْمَرِيضِ وَالتَّاجِرِ الْمُتَحَمِّلَيْنِ شِدَّةَ الْحِجَامَةِ وَالسَّفَرِ (وَالتَّسْلِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى) عَطْفٌ عَلَى الرِّضَا (وَهُوَ) أَيْ التَّسْلِيمُ (الِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى) بِالظَّاهِرِ (وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ) بِالْبَاطِنِ (فِيمَا لَا يُلَائِمُ طَبْعَهُ) مِنْ الْمُنَافِرَاتِ كَمَا قِيلَ الْفَقْرُ بَلَاءٌ وَمِحْنَةٌ وَالْعِيَالُ هَمٌّ وَتَعَبٌ وَالِاحْتِرَافُ كَدٌّ وَمَشَقَّةٌ كُلُّ ذَلِكَ قَادِحٌ فِي الرِّضَا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ التَّدْبِيرُ لِمُدَبِّرِهِ وَالْمَمْلَكَةُ لِمَالِكِهَا كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا أُبَالِي أَصْبَحْت غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَإِنِّي لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا خَيْرٌ لِي كَذَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ. (طك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي هِنْدَ الدَّارِيِّ) قِيلَ هُوَ يَزِيدُ، وَقِيلَ غَيْرُهُ لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ اسْمُهُ بِرُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَزِينٍ صَحَابِيٌّ سَكَنَ فِلَسْطِينَ، وَأَخُو تَمِيمٍ الدَّارِيِّ لِأُمِّهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ فِيهِ

سَعْدَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ الذَّهَبِيُّ مَتْرُوكٌ (أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي» لَا الْمَقْضِيِّ إذْ قَدْ يَكُونُ الرِّضَا بِهِ كُفْرًا كَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كَمَا فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْكَلَامِيَّةِ «، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي فَلْيَلْتَمِسْ رَبًّا سِوَايَ» فَإِنَّ شَأْنَ الرَّبِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي عَبْدِهِ مَا يَشَاءُ فَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِرُبُوبِيَّتِهِ فِي حَقِّهِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ هَذَا لَا يَرْضَانَا رَبًّا حَتَّى سَخِطَ فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا آخَرَ يَرْضَاهُ، وَلَيْسَ فِي السُّخْطِ إلَّا الْهَمُّ وَالضَّجَرُ فِي الْحَالِ وَالْوِزْرُ وَالْعُقُوبَةُ فِي الْمَآلِ إذْ لَا يَنْصَرِفُ الْقَضَاءُ بِالْهَلَعِ وَالْجَزَعِ كَمَا قِيلَ مَا قَدْ قَضَى يَا نَفْسُ فَاصْطَبِرِي لَهُ ... وَلَك الْأَمَانُ مِنْ الَّذِي لَمْ يُقَدَّرْ وَتَيَقُّنِي أَنَّ الْمُقَدَّرَ كَائِنٌ ... حَتْمٌ عَلَيْك صَبَرْت أَمْ لَمْ تَصْبِرِي فَتَرْكُ التَّسْلِيمِ إضَاعَةُ ثَوَابِ الصَّابِرِينَ - وَاخْتِيَارُ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ - فَمَنْ رَضِيَ بِمَكْرُوهِ الْبَلَاءِ تَلَذَّذَ بِالْبَلَاءِ. فَإِنْ قِيلَ الشَّرُّ وَالْمَعْصِيَةُ بِقَضَائِهِ تَعَالَى فَكَيْفَ الرِّضَا بِهِ - قُلْنَا الرِّضَا إنَّمَا يَلْزَمُ بِالْقَضَاءِ، وَقَضَاءُ الشَّرِّ لَيْسَ بِشَرٍّ بَلْ الشَّرُّ الْمَقْضِيُّ وَلَعَلَّك سَمِعْت فِي الِاعْتِقَادِ تَفْصِيلَهُ ثُمَّ قَالَ قَالُوا وَالْمَقْضِيَّاتُ أَرْبَعَةٌ نِعْمَةٌ وَشِدَّةٌ وَخَيْرٌ وَشَرٌّ فَالنِّعْمَةُ يَجِبُ الرِّضَا فِيهَا بِالْقَاضِي وَالْقَضَاءِ وَالْمَقْضِيِّ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْمِنَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَفَّقَهُ وَالشَّرُّ يَجِبُ فِيهِ الرِّضَا بِالْقَاضِي وَالْقَضَاءِ وَالْمَقْضِيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَقْضِيٌّ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرٌّ. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ فِي شَرْحِ الْعَوَارِفِ «أَوَّلُ مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي اللَّوْحِ إنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، وَلَمْ يَشْكُرْ نَعْمَائِي، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي فَلْيَطْلُبْ رَبًّا سِوَايَ» قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، وَقَدَرِي فَلْيَلْتَمِسْ رَبًّا غَيْرِي» قَالَ شَارِحُهُ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْضَى وَيَشْكُرَ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَصْلَحَةِ عَبْدِهِ، وَأَيُّ شَيْءٍ يَنْفَعُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ غَدًا يَشْكُرُ عَلَى الْبَلَايَا كَمَا يَشْكُرُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى تَأْدِيبِ مُؤَدِّبِهِ وَضَرْبِهِ فَإِنَّ الْبَلَاءَ تَأْدِيبٌ مِنْ اللَّهِ، وَعَنْ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا أَعْرَابِيُّ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَقَالَ إلَى أَيْنَ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَقَالَ كَأَنَّك مَجْنُونٌ لَا أَرَى لَك مَرْكَبًا، وَلَا زَادًا وَالسَّفَرُ طَوِيلٌ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ إنَّ لِي مَرَاكِبَ كَثِيرَةً، وَلَكِنْ لَا تَرَاهَا فَقَالَ مَا هِيَ فَقَالَ إذَا نَزَلَتْ عَلَيَّ بَلِيَّةٌ رَكِبْت مَرْكَبَ الصَّبْرِ، وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيَّ نِعْمَةٌ رَكِبْت مَرْكَبَ الشُّكْرِ، وَإِذَا نَزَلَ بِي الْقَضَاءُ رَكِبْت مَرْكَبَ الرِّضَا، وَإِذَا دَعَتْنِي النَّفْسُ إلَى شَيْءٍ عَلِمْت أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعُمُرِ أَقَلُّ مِمَّا مَضَى فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ سِرْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْتَ الرَّاكِبُ، وَأَنَا الرَّاجِلُ. قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكَادُ يَرْضَى عَنْ الْحَقِّ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ الْحَقُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8] قَالَ تِلْمِيذٌ لِشَيْخِهِ إذَا وَجَدْت قَلْبِي رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلِمْت أَنَّهُ رَاضٍ عَنِّي فَقَالَ الشَّيْخُ أَحْسَنْت يَا غُلَامُ، وَقِيلَ: قَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَهِي دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته رَضِيتَ عَنِّي فَقَالَ لَهُ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا مُتَضَرِّعًا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا ابْنَ عِمْرَانَ إنَّ رِضَايَ فِي رِضَاك بِقَضَائِي. (حك عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَلْيَنْظُرْ مَنْزِلَةَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ» قِيلَ حَاصِلُهُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَاَللَّهُ رَاضٍ عَنْهُ فَلْيَنْظُرْ مَنْزِلَةَ اللَّهِ مِنْهُ

الأربعون التعليق ذكر قوام بنيتك عن شيء

(فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ) فَمَنْزِلَةُ اللَّهِ عِنْدَ الْعَبْدِ فِي قَلْبِهِ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ إيَّاهُ وَعِلْمِهِ بِهِ، وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَإِقَامَةِ الْحُرْمَةِ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ أَحْكَامِهِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ بَدَنًا وَرُوحًا، وَقَلْبًا وَمُرَاقَبَةِ تَدْبِيرِهِ فِي أُمُورِهِ، وَلُزُومِ ذِكْرِهِ وَالنُّهُوضِ بِأَثْقَالِ نِعَمِهِ وَمَنِّهِ وَتَرْكِ مَشِيئَتِهِ لِمَشِيئَتِهِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَالنَّاسُ فِي ذَلِكَ دَرَجَاتٌ وَحُظُوظُهُمْ بِقَدْرِ حُظُوظِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَأَوْفَرُهُمْ حَظًّا مِنْهَا أَعْظَمُهُمْ دَرَجَةً عِنْدَهُ، وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ. وَعَنْ ابْنِ عَطَاءٍ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَقَامَك عِنْدَهُ فَانْظُرْ مَا أَقَامَك فِيهِ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَك عِنْدَهُ فَانْظُرْ فِيمَا يُقِيمُك مَتَى رَزَقَك الطَّاعَةَ. وَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ مَا قِيلَ: حَاصِلُهُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا فَعَلَ فَاَللَّهُ رَاضٍ عَنْهُ (وَالشُّرُورُ وَالْمَعَاصِي مَقْضِيَّانِ لَا قَضَاءً) كَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَرَدَ عَلَى قَوْلِهِ وَضِدُّهُ الرِّضَا إلَخْ. حَاصِلُهُ إذَا أُلْزِمَ الرِّضَاءُ بِالْقَضَاءِ لَزِمَ الرِّضَا بِالشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَبِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ لُزُومُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالشُّرُورُ وَالْمَعَاصِي مَقْضِيَّانِ لَا قَضَاءَانِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (فَلَا يُرَادُ أَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَبِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ) . [الْأَرْبَعُونَ التَّعْلِيقُ ذِكْرُ قِوَامِ بِنْيَتِك عَنْ شَيْءٍ] (الْأَرْبَعُونَ التَّعْلِيقُ، وَهُوَ ذِكْرُ قِوَامِ بِنْيَتِك عَنْ شَيْءٍ) مُتَعَلِّقٍ بِالذِّكْرِ (دُونَ اللَّهِ تَعَالَى) يَعْنِي أَنَّ التَّعْلِيقَ تَعْلِيقُ الْخَاطِرِ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَشْيَاءِ فِيمَا يُقِيمُ بِهِ الْبِنْيَةَ وَرَبْطُ النَّفْسِ بِذَلِكَ كَالطَّعَامِ وَالدَّوَاءِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَلْبَسِ (وَضِدُّهُ) أَيْ التَّعْلِيقِ (التَّوَكُّلُ، وَهُوَ ذِكْرُ قِوَامِ بَدَنِك عَنْ اللَّهِ تَعَالَى) لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِغَيْرِهِ. اعْلَمْ أَنَّ التَّوَكُّلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَكَالَةِ، وَهِيَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَى الْغَيْرِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِيهِ وَيُسَمَّى الْمَوْكُولُ إلَيْهِ وَكِيلًا وَالْمُفَوِّضُ مُتَّكِلًا وَمُتَوَكِّلًا فَالتَّوَكُّلُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى الْوَكِيلِ وَحْدَهُ (وَقِيلَ كِلَةُ الْأَمْرِ) عَلَى وَزْنِ عِدَةٍ وَزِنَةٍ مِنْ وَكَلَ أَيْ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ (كُلِّهِ إلَى مَالِكِهِ وَالتَّعْوِيلُ عَلَى، وَكَالَتِهِ، وَقِيلَ تَرْكُ السَّعْيِ فِيمَا لَا يَسَعُهُ قُدْرَةُ الْبَشَرِ أَعْنِي الْمُسَبِّبَاتِ فَلَا يَضُرُّهُ السَّعْيُ فِي الْأَسْبَابِ) الْعَادِيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] فَإِنَّهُ هُوَ الرَّزَّاقُ إذْ الِابْتِغَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِتَشَبُّثِ الْأَسْبَابِ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أَيْ كَافِيهِ فَفِيهِ تَعْوِيلٌ عَلَى وَكَالَتِهِ تَعَالَى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23] أَيْ فَوِّضُوا الْأَمْرَ إلَيْهِ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ التَّوَكُّلُ رَدُّ الْعَيْشِ إلَى يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَإِسْقَاطُهُمْ غَدٌ. وَعَنْ سَهْلٍ هُوَ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يُرِيدُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ هُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَك الْإِكْثَارُ وَالتَّقَلُّلُ، وَعَنْ ابْنِ مَسْرُوقٍ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِجَرَيَانِ الْقَضَاءِ وَالْأَحْكَامِ، وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِاَللَّهِ مَعَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ هُوَ الْأَكْلُ بِلَا طَمَعٍ، وَقِيلَ هُوَ

الثِّقَةُ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَقِيلَ هُوَ فَرَاغُ السِّرِّ عَنْ التَّفَكُّرِ لِلتَّقَاضِي فِي طَلَبِ الرِّزْقِ. (طب عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنْ اسْتَرْقَى» الرُّقْيَةُ مَا يُقْرَأُ مِنْ الدُّعَاءِ وَآيَاتِ الْقُرْآنِ لِطَلَبِ الشِّفَاءِ «أَوْ اكْتَوَى» مِنْ الْكَيِّ (وَتَأْوِيلُهُ سَبَقَ) لَعَلَّ الْمُرَادَ نَفْيُ كَمَالِ التَّوَكُّلِ أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الشِّفَاءِ، وَإِلَّا فَقَدْ سَبَقَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ جَوَازُهُمَا، وَكَوْنُهُمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَوْهُومَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا فِي الْحِصْنِ أَنَّهُ يُرْقَى الْمَعْتُوهُ بِالْفَاتِحَةِ، وَأَيْضًا اللَّدِيغُ بِالْفَاتِحَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَغَيْرُهُمَا وَوَقَعَ فِي الْفَتَاوَى، وَأَمَّا أَخْذُ الْأُجْرَةِ فَظَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الْجَوَازِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى التَّأْوِيلِ. قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة بَيْعُ التَّعَاوِيذِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَحِلُّ، وَإِنْ قَالَ إنِّي أَدْفَعُ هَدِيَّةً وَفِي بُسْتَانِ أَبِي اللَّيْثِ إنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّدَاوِي وَالرُّقَى مَنْسُوخَةٌ إلَخْ (ت عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ تَوَكُّلِهِ» ، وَهُوَ كَمَالُ التَّوَكُّلِ إذْ الْمُتَوَكِّلُ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى كَحَالِ الطِّفْلِ فِي حَقِّ أُمِّهِ إذْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهَا، وَلَا يَفْزَعُ إلَى سِوَاهَا، وَلَا يَعْتَمِدُ إلَّا إيَّاهَا، وَإِنْ نَابَهُ مُرٌّ فِي غَيْبَتِهَا لَا يَسْبِقُ إلَى لِسَانِهِ إلَّا يَا أُمَّاهُ، وَإِذَا غَضِبَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ لَا يَفْزَعُ إلَّا إلَيْهَا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالُهُ كَصَبِيٍّ مُمَيِّزٍ وَثِقَ بِكَفَالَةِ أُمِّهِ وَشَفَقَتِهَا، وَلَا يَطْلُبُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا يَخْطِرُ فِي قَلْبِهِ إلَّا أُمُّهُ دُونَ ضَمَانِهَا، وَكَفَالَتِهَا لَهُ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَعْلَاهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِثْلَ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ، وَهَذَا الْمَقَامُ يُثْمِرُ تَرْكَ الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ مِنْهُ ثِقَةً بِكَرَمِهِ وَيَنْفِي التَّدْبِيرَ رَأْسًا وَالثَّانِي يُثْمِرُ تَرْكَ السُّؤَالِ دُونَ الدُّعَاءِ وَيَنْفِي كُلَّ تَدْبِيرٍ إلَّا الدُّعَاءَ وَالْأَوَّلُ يُثْمِرُ تَرْكَ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِهِ فَقَطْ، وَلَا يَنْفِي أَصْلَ التَّدْبِيرِ بَلْ بَعْضَ التَّدْبِيرَاتِ وَالْأَوَّلُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ وَالْأَخِيرَانِ نَادِرَانِ، وَلَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا لَا يَدُومُ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ فَحَقُّ التَّوَكُّلِ الثَّالِثُ أَوْ الْأَخِيرُ إنْ مُطْلَقًا لَكِنْ قَوْلُهُ «لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ» شَامِلٌ لِلْأَوَّلِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ حَقِّ التَّوَكُّلِ حَقِيقَتُهُ الشَّامِلَةُ لِلْكُلِّ ثُمَّ بَيَّنَ رِزْقَ الطَّيْرِ بِقَوْلِهِ «تَغْدُو» تُصْبِحُ «خِمَاصًا» جِيَاعًا «وَتَرُوحُ بِطَانًا» شِبَاعًا فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّعْطِيلَ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ التَّوَكُّلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّوَسُّلِ وَالِاكْتِسَابِ؛ لِأَنَّ مَرْزُوقِيَّةَ الطَّيْرِ بِالسَّعْيِ وَالطَّلَبِ فَالْمَعْنَى لَوْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فِي حَرَكَاتِهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ الْخَيْرَ بِيَدِهِ لَمْ يَنْصَرِفُوا إلَّا غَانِمِينَ سَالِمِينَ كَالطَّيْرِ لَكِنْ اعْتَمَدُوا عَلَى قُوَّتِهِمْ وَكَسْبِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ

مَحَلُّ التَّوَكُّلِ الْقَلْبُ وَالْحَرَكَةُ بِالظَّاهِرِ لَا تُنَافِيهِ وَاعْلَمْ أَنَّ عَمَلَ الْعَبْدِ إمَّا جَلْبُ نَفْعٍ مَفْقُودٍ أَوْ حِفْظُ نَفْعٍ مَوْجُودٍ أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ لَمْ يَنْزِلْ أَوْ قَطْعُ ضُرٍّ نَزَلَ فَسَبَبُ جَلْبِ النَّفْعِ إمَّا مَقْطُوعٌ كَمَدِّ الْيَدِ إلَى الطَّعَامِ فَتَرْكُ مِثْلِهِ جَهْلٌ وَحُمْقٌ لَا تَوَكُّلٌ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى لَا مِنْ الْيَدِ وَالْأَسْنَانِ أَوْ مَظْنُونٌ كَزَادِ مَنْ سَافَرَ الْبَرَارِيَّ فَتَرْكُهُ لَيْسَ مِنْ التَّوَكُّلِ عِنْدَ الْمُتَوَسِّطِينَ، وَإِنْ جَائِزًا عِنْدَ الْخَوَاصِّ أَوْ مَوْهُومٌ كَالرُّقْيَةِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَيِّ فَتَرْكُهُ تَوَكُّلٌ وَمُبَاشَرَتُهُ تُخِلُّ بِالتَّوَكُّلِ ثُمَّ الْمُتَوَكِّلُونَ إمَّا خَوَاصُّ فَهُمْ يَتْرُكُونَ أَكْثَرَ الْقَطْعِيَّةِ كَتَرْكِهِمْ الزَّادَ عِنْدَ سِيَاحَةِ الْبَرَارِيِّ، وَإِمَّا مُتَوَسِّطُونَ كَالتَّقَاعُدِ عَنْ الْكَسْبِ فِي الْمِصْرِ ثِقَةً بِكِفَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا عَوَامُّ يَكْتَسِبُونَ وَلَكِنْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْكَسْبِ فَصَاحِبُ الْعِيَالِ يَتَرَجَّحُ لَهُ هَذَا الْقِسْمُ عَلَى الَّذِي فَوْقَهُ كَمَا اكْتَسَبَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْدَمَا بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ، وَأَيْضًا الْمُتَجَرِّدُ عَنْ الْعِيَالِ إنْ اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ إلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَالْكَسْبُ لَهُ أَفْضَلُ (أَشَارَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى أَنَّ حَقَّ التَّوَكُّلِ) الْمَطْلُوبَ مِنْ التَّوَكُّلِ (وَأَعْلَى كَمَالِهِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ طَلَبُ الرِّزْقِ كِفَايَةَ الْيَوْمِ) بَدَلٌ مِنْ الرِّزْقِ (إلَى كِفَايَةِ الْغَدِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَنْ لَا يُجَاوِزَ (وَلَا يَدَّخِرَهُ لَهُ) أَيْ لِلْغَدِ (فَيُحْمَلُ هَذَا) أَيْ عَدَمُ الِادِّخَارِ لِلْغَدِ (عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ لَا) عَلَى حَقٍّ (فِي عِيَالِهِ إذْ ثَبَتَ) صَحَّ «ادِّخَارُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَزْوَاجِهِ قُوتَ سَنَةٍ» وَالْأَصْلُ فِي فِعْلُهُ أَنْ يَكُونَ شَرْعًا لَنَا إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ كَوْنِهِ خَاصًّا بِهِ خِلَافًا لِمَنْ عَكَسَ وَمَعَ ادِّخَارِهِ لَهُنَّ كَانَ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي الْبِرِّ. وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ التَّوَكُّلَ تَرْكُ الِادِّخَارِ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَصْرِ الْأَمَلِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ فَمَا دُونَهُ، وَأَكْثَرُهَا عُمُرُ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَدَّخِرَ أَصْلًا ثُمَّ كُلَّمَا قَلَّ ادِّخَارُهُ كَثُرَ فَضْلُهُ هَذَا لِمَنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَّا إلَى الْوَكِيلِ الْحَقِّ، وَإِلَّا فَالِادِّخَارُ أَفْضَلُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَجَرُّدُ الْقُلُوبِ لِذِكْرِ اللَّهِ وَرُبَّ شَخْصٍ شَغَلَهُ وُجُودُ قُوتٍ وَرُبَّ شَخْصٍ شَغَلَهُ عَدَمُهُ هَذَا حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِيَالِ فَلَهُ ادِّخَارُ قُوتِ سَنَةٍ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلتَّوَكُّلِ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ تَتَكَرَّرُ عِنْدَ تَكَرُّرِ السِّنِينَ فَادِّخَارُ مَا يَزِيدُ عَلَيْهِ سَبَبُهُ ضَعْفُ الْقَلْبِ وَالْمُتَوَكِّلُ مُوَحِّدٌ قَوِيُّ الْقَلْبِ مُطْمَئِنُّ النَّفْسِ إلَى فَضْلِ اللَّهِ وَاثِقٌ بِتَدْبِيرِهِ دُونَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ وَقَدْ ادَّخَرَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَةٍ لِيُبَيِّنَ ذَلِكَ لِضُعَفَاءِ أُمَّتِهِ وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ نَهَى بِلَالًا عَنْ الِادِّخَارِ فِي كِسْرَةِ خُبْزٍ ادَّخَرَهَا لِيُفْطِرَ عَلَيْهَا فَقَالَ «أَنْفِقْ يَا بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا» وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ «أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ الضُّعَفَاءِ فَإِنَّ الْغَرَضَ فَرَاغُ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ أَمْكَنَ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ بِالرُّخْصَةِ فَالنَّاسُ فِيهِ مُخْتَلِفٌ. (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ» ، وَفِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ أَيْ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ يَأْتِيهِ أَلْبَتَّةَ فَتَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي طَلَبِهِ وَالِانْهِمَاكُ لِشَأْنِهِ وَالْحِرْصُ عَلَى اسْتِزَادَتِهِ لَا يُنْتِجُ إلَّا شُغْلَ الْقُلُوبِ عَنْ خِدْمَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَالْعَمَى عَنْ مَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَسُوءَ الظَّنِّ بِالْحَضْرَةِ الرَّازِقَةِ قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ اجْتِهَادُك فِيمَا ضُمِنَ لَك وَتَقْصِيرُك فِيمَا طُلِبَ مِنْك دَلِيلٌ عَلَى انْطِمَاسِ بَصِيرَتِك. (حب هق عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى تَمْرَةً غَابِرَةً» دَاخِلَةً فِي التُّرَابِ مُتَلَطِّخَةً «فَأَخَذَهَا فَنَاوَلَهَا سَائِلًا فَقَالَ أَمَا» بِالتَّخْفِيفِ حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ «إنَّك لَوْ لَمْ تَأْتِهَا لَأَتَتْك» عَلَى حُكْمِ الْقِسْمَةِ الْأَزَلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا رِزْقُك الَّذِي سَاقَهُ اللَّهُ لَك فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُهُ لُزُومُ التَّقَاعُدِ عَنْ

مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ رِزْقَك يَأْتِيك عِنْدَ عَدَمِ إتْيَانِك إلَيْهِ قُلْنَا أُجِيبَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَهْيٍ عَنْ الْأَسْبَابِ بَلْ عَنْ الرُّكُونِ إلَيْهَا وَتَحْرِيضٌ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَنَانِ. أَقُولُ يَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَهُمْ تَوَكُّلٌ تَامٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنْ ابْنِ الْمَلَكِ وَحُكِيَ أَنَّ فَرْخَ الْغُرَابِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْضَتِهِ يَكُونُ أَبْيَضَ اللَّوْنِ فَيُنْكِرُهُ الْغُرَابُ فَيَتْرُكُهُ وَيَذْهَبُ وَيَبْقَى الْفَرْخُ جَائِعًا فَيُرْسِلُ اللَّهُ إلَيْهِ الذُّبَابَ وَالنَّمْلَةَ فَيَلْتَقِطُهَا إلَى أَنْ يَكْبَرَ قَلِيلًا وَيَسْوَدَّ فَيَرْجِعُ الْغُرَابُ فَيَرَاهُ أَسْوَدَ فَيَضُمُّهُ إلَى نَفْسِهِ فَيَصِلُ إلَيْهِ الرِّزْقُ بِلَا سَعْيٍ حُكِيَ أَنَّ حَاتِمًا الْأَصَمَّ رَأَى رَجُلًا يَعْدُو فَقَالَ مَا تَطْلُبُ قَالَ أَطْلُبُ رِزْقِي قَالَ أَتَدْرِي أَيْنَ هُوَ قَالَ لَا قَالَ فَإِنْ اسْتَقْبَلَك تَعْرِفُهُ قَالَ لَا قَالَ حَاتِمٌ مَا رَأَيْت أَعْجَبَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ يَعْدُو فِي طَلَبِ شَيْءٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ، وَإِنْ اسْتَقْبَلَهُ لَا يَعْرِفُهُ يَا هَذَا إنَّك لَمْ تُؤْمَرْ بِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَلَكِنْ الرِّزْقُ أُمِرَ بِطَلَبِك، وَإِنَّك لَا تَعْرِفُهُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ، وَهُوَ يَعْرِفُك فِي نِصْفِ اللَّيْلِ أَيْ كَرِيمِي كه أزخزانه غَيْب كبر وَتُرْسًا وَظِيفه خوار دارى دوستانرا كجا كنى مَحْرُوم توكه بادشمنان نَظَرٌ دارى. (ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْقِلُهَا» عَلَى التَّكَلُّمِ أَيْ أَرْبِطُ يَدَهَا بِالْعَقْلِ «، وَأَتَوَكَّلُ» فِي حِفْظِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِقَالِ يَعْنِي يَكُونُ تَوَكُّلِي عَلَى اللَّهِ بِالْعِقَالِ لَا بِدُونِهِ «أَوْ أُطْلِقُهَا» أَيْ أَتْرُكُهَا فَلَا أَعْقِلُهَا «، وَأَتَوَكَّلُ» عَلَى اللَّهِ فِي حِفْظِهَا وَالْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ أَيَفْعَلُ السَّبَبَ أَمْ يَتْرُكُهُ «قَالَ اعْقِلْهَا» احْبِسْهَا بِالْعَقْلِ امْتِثَالًا لِلْحِكْمَةِ الْعَلِيَّةِ «وَتَوَكَّلْ» يَعْنِي اجْمَعْ بَيْنَهُمَا فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَاشَرَةِ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ (فَالْأَوَّلَانِ) أَيْ حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي أَنَّ الرِّزْقَ يَطْلُبُ الْعَبْدَ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي التَّمْرَةِ الْغَائِرَةِ (مَحْمُولَانِ عَلَى) وُجُوبِ (اعْتِقَادِ الْقَدَرِ) أَيْ عَلَى أَنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ رِزْقًا لِعَبْدِهِ يَطْلُبُهُ، وَلَا يَتَجَاوَزُ غَيْرَهُ أَلْبَتَّةَ إمَّا لِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِشَيْءٍ آخَرَ (وَ) الْحَدِيثُ (الْأَخِيرُ) حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْعَقْلِ وَالتَّوَكُّلِ (عَلَى التَّمَسُّكِ بِالسَّبَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ) بِالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَالتَّدَاوِي

وَالِاكْتِوَاءِ وَمُعَاطَاةِ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ (فَلَا مُنَافَاةَ) بَيْنَ الْأَحَادِيثِ أَوْ نَقُولُ الْأَوَّلَانِ لِلْخَوَاصِّ وَالْأَخِيرُ لِلْعَوَامِّ إذْ حَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْخَوَاصِّ غَيْرُ حَالِهِ بِالْعَوَامِّ؛ وَلِهَذَا تَرَى حَالَ الصَّالِحِينَ أَكْثَرَ فِي التَّفْوِيضِ. قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ إنَّهُ كَانَ فِي الْبَادِيَةِ فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِأَنَّك مُتَجَرِّدٌ، وَهَذِهِ بَادِيَةٌ لَا عُمْرَانَ فِيهَا، وَلَا نَاسَ فَعَزَمَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى تَجَرُّدِهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ الطَّرِيقَ حَتَّى لَا يُقْعِدَهَا بِأَحَدٍ، وَلَا يَأْكُلَ شَيْئًا حَتَّى يُجْعَلَ فِي فِيهِ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ ثُمَّ عَدَلَ عَنْ الشَّارِعِ وَمَرَّ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسِرْت مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا بِقَافِلَةٍ قَدْ ضَلَّتْ الطَّرِيقَ فَلَمَّا أَبْصَرْتهمْ رَمَيْت بِنَفْسِي إلَى الْأَرْضِ لَعَلَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَنِي فَسَيَّرَهُمْ اللَّهُ حَتَّى وَقَفُوا عَلَيَّ فَغَمَّضْت عَيْنِي فَدَنَوْا مِنِّي، وَقَالُوا هَذَا مُنْقَطِعٌ قَدْ غُشِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ فَهَاتُوا سَمْنًا وَعَسَلًا نَجْعَلُهُ فِي فِيهِ لَعَلَّهُ يُفِيقُ فَأَتَوْا بِعَسَلٍ وَسَمْنٍ فَسَدَدْت فَمِي وَأَسْنَانِي فَأَتَوْا بِسِكِّينٍ فَعَالَجُوا فَمِي حَتَّى فَتَحُوا فَضَحِكْت، وَفَتَحْتُ فَايَ فَقَالُوا أَنْتَ مَجْنُونٌ فَأَخْبَرْتهمْ الْقِصَّةَ، وَفِي الْمِنْهَاجِ أَيْضًا، وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا كُنْت مُتَجَرِّدًا فِي مَسْجِدٍ فَوَسْوَسَ إلَيَّ الشَّيْطَانُ بِأَنَّ هَذَا مَسْجِدٌ بَعِيدٌ مِنْ النَّاسِ، وَلَوْ صِرْت إلَى مَسْجِدٍ بَيْنَ النَّاسِ لَزَارَك أَهْلُهُ، وَقَامُوا بِكِفَايَتِك فَعَهِدْت عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا آكُلَ شَيْئًا إلَّا الْحَلْوَى، وَلَا آكُلَهُ حَتَّى يُوضَعَ فِي فِي لُقْمَةً لُقْمَةً وَصَلَّيْت، وَأَغْلَقْت الْبَابَ فَلَمَّا مَضَى صَدْرٌ مِنْ اللَّيْلِ إذَا أَنَا بِإِنْسَانٍ يَدُقُّ الْبَابَ وَمَعَهُ سِرَاجٌ فَلَمَّا أَكْثَرَ الدَّقَّ فَتَحْت الْبَابَ فَإِذَا بِعَجُوزٍ قَدْ دَخَلَتْ فَوَضَعَتْ بَيْنَ يَدَيْ طَبَقًا مِنْ الْخَبِيصِ، وَقَالَتْ هَذَا الشَّابُّ، وَلَدِي صَنَعْت لَهُ هَذَا الْخَبِيصَ وَجَرَى مِنِّي كَلَامٌ فَحَلَفْت أَنْ لَا يَأْكُلَ حَتَّى يَأْكُلَ مَعَهُ رَجُلٌ غَرِيبٌ فَكُلْ رَحِمَك اللَّهُ فَأَخَذَتْ تَضَعُ فِي فَمِي لُقْمَةً، وَفِي فَمِ وَلَدِهَا لُقْمَةً. فَفِي أَمْثَالِهِمَا فَوَائِدُ أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَفُوتُ مَنْ قُدِّرَ لَهُ وَالتَّوَكُّلَ أَمْرٌ مُهِمٌّ لَازِمٌ وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ غَوَائِلُ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْ غَائِلَتِهِ الْمُنْتَهِي فَضْلًا عَنْ الْمُبْتَدِئِ (فَظَهَرَ أَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ) الْعَادِيَةِ (الْمَظْنُونَةِ الْوُصُولِ إلَى الْمُسَبِّبَاتِ لَا تَنَافِي التَّوَكُّلَ) بِشَرْطِ عَدَمِ اعْتِقَادِ التَّأْثِيرِ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لِاخْتِلَافِ دَاعِيهِمَا وَمَحَلِّهِمَا إذْ دَاعِي الْأَوَّلِ الْيَقِينُ وَمَحَلُّهُ الْبَاطِنُ وَدَاعِي الثَّانِي عَدَمُ الْيَقِينِ وَمَحَلُّهُ الظَّاهِرُ (أَصْلًا) لَا فِي أَصْلِهِ، وَلَا فِي كَمَالِهِ لَعَلَّ فِي الْأَخِيرِ نَوْعُ خَفَاءٍ يُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ آنِفًا (فَلِذَا فُرِضَ الْكَسْبُ) لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ كَمَا فِي التتارخانية (لِلْمُحْتَاجِ) ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا حَاصِلُهُ هُوَ فَرْضٌ عَلَى قَدْرِ مَا يَقُومُ بِهِ صَلْبُ نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ مُبَاحٌ إذَا لَمْ يُرِدْ الْفَخْرَ ثُمَّ كُلُّ الْكَسْبِ مُبَاحٌ خِلَافًا لِمَنْ جَعَلَ الزِّرَاعَةَ مَذْمُومَةً وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ التِّجَارَةِ، وَأَمَّا الِاكْتِسَابُ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ فَإِنْ تَعَيَّنَ لَيْسَ لَهُ أَجْرٌ خِلَافًا لِحَفْرِ الْقَبْرِ وَحَمْلِ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا أَجْرُ ضَرْبِ الطَّبْلِ فَإِنْ لِلْغُزَاةِ وَالْقَافِلَةِ جَازَ، وَإِنْ لِلَّهْوِ لَا وَضَابِطُهُ كُلُّ مَا أُخِذَ بِمُقَابَلَةِ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ فَيَجِبُ الرَّدُّ أَوْ التَّصَدُّقُ إنْ لَمْ يُعْرَفْ وَمَا تَأْخُذُهُ النَّائِحَةُ وَالْمُغَنِّي وَنَحْوُهُمَا بِالرِّضَا وَبِلَا عَقْدٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَمَا جُمِعَ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ وَمِنْ الْغَرَامَاتِ فَلَا يُؤْكَلُ دِيَانَةً وَيَسَعُ حُكْمًا إنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ وَالرِّشْوَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. (وَلَوْ سُؤَالًا) ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْمَكَاسِبِ حَتَّى لَوْ مَاتَ وَلَمْ يَسْأَلْ يَأْثَمُ وَمَا فِي التتارخانية عَنْ الْيَنَابِيعِ وَمَا جَمَعَ السَّائِلُ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ خَبِيثٌ فَعِنْدَ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ (وَ) وَجَبَ (الْأَكْلُ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ) فَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْأَكْلِ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ التَّدَاوِي (وَأُمِرَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ) مِنْ الْعَدُوِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «خُذُوا حِذْرَكُمْ» (وَالسِّلَاحِ) «خُذُوا أَسْلِحَتَكُمْ» ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَتَحَصَّنَ مِنْ الْعَدُوِّ فِي الْخَنْدَقِ لِعَدَمِ تَنَافِيهِ التَّوَكُّلَ لِكَوْنِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَظْنُونَةِ.

الحادي والأربعون حب الفسقة

[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ حُبُّ الْفَسَقَةِ] (الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ حُبُّ الْفَسَقَةِ) جَمْعُ فَاسِقٍ مِنْ فَسَقَتْ الرُّطَبَةُ عَنْ قِشْرِهَا إذَا خَرَجَتْ، وَأَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ عَنْ الْقَصْدِ وَالْفَاسِقُ فِي الشَّرْعِ الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، وَلَهُ دَرَجَاتٌ ثَلَاثٌ: الْأُولَى: التَّغَابِي وَهُوَ أَنْ يَرْتَكِبَهَا أَحْيَانًا مُسْتَقْبِحًا إيَّاهَا. وَالثَّانِيَةُ: الِانْهِمَاكُ وَهُوَ أَنْ يَعْتَادَ ارْتِكَابَهَا غَيْرَ مُبَالٍ بِهَا. وَالثَّالِثَةُ: الْجُحُودُ وَهُوَ أَنْ يَرْتَكِبَهَا مُسْتَصْوِبًا إيَّاهَا فَالْأَوَّلَانِ لَا يُكَفِّرَانِ لَعَلَّهُمَا الْمُرَادُ هُنَا (وَالرُّكُونُ إلَى الظَّلَمَةِ) جَمْعُ ظَالِمٍ، وَهُوَ الْمُعْتَدِي عَلَى الْغَيْرِ، وَأَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَرْكَنُوا} [هود: 113] أَيْ لَا تَعْتَمِدُوا أَوْ تَمِيلُوا بِقُلُوبِكُمْ بِأَدْنَى مَيْلٍ فَإِنَّ الرُّكُونَ هُوَ الْمَيْلُ الْيَسِيرُ كَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَتَعْظِيمِ ذِكْرِهِمْ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] أَوْ لَا تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِهِمْ {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] لِلْمَيْلِ فَإِذَا كَانَ الرُّكُونُ إلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُسَمَّى ظُلْمًا كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّك بِالرُّكُونِ إلَى الظَّالِمِينَ أَيْ الْمَوْسُومِينَ بِالظُّلْمِ ثُمَّ بِالْمَيْلِ إلَيْهِمْ كُلَّ الْمَيْلِ ثُمَّ بِالظُّلْمِ نَفْسِهِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ أَبْلَغُ مَا يُتَصَوَّرُ فِي النَّهْيِ عَنْ الظُّلْمِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ (الْآيَةَ) أَيْ كَمِّلْ الْآيَةَ - {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: 113]- يَعْنِي لَا أَحَدَ بَعْدَ اللَّهِ يَمْنَعُكُمْ عَنْ النَّارِ، وَعَذَابِهَا - {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]- بِمَيْلِكُمْ إلَى الظُّلْمِ وَقِيلَ، وَلَا تَرْكَنُوا أَيْ لَا تَمِيلُوا بِالْقُلُوبِ، وَلَا تُخَالِطُوهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، وَقِيلَ، وَلَا تَنْظُرُوا، وَقِيلَ، وَقَعَ التَّحَابُبُ بَيْنَ صَالِحٍ وَظَالِمٍ فَعُذِّبَ الصَّالِحُ بِمَيْلِهِ لِلظَّالِمِ وَغُفِرَ لِلظَّالِمِ بِمَحَبَّتِهِ لِلصَّالِحِ - وَحُكِيَ أَنَّهُ الْتَقَى عَالِمٌ كَبِيرٌ مُفْتٍ بِصَالِحٍ تَقِيٍّ فَقَالَ الْعَالِمُ إنِّي أُحِبُّك، وَقَالَ الصَّالِحُ أَمَا إنِّي لَا أُحِبُّك؛ لِأَنِّي سَمِعْت أَنَّك لَا تُدَاوِمُ الْجَمَاعَةَ، وَلَا تُصَلِّي نَحْوَ الضُّحَى فَاعْتَذَرَ الْعَالِمُ بِأَنِّي مُشْتَغِلٌ بِمَهَامِّ الْأَنَامِ، وَلَا أَتَفَرَّغُ وَقْتًا لِذَلِكَ فَقَالَ الصَّالِحُ فَإِذَنْ آثَرْت خِدْمَةَ الْمَخْلُوقِ عَلَى خِدْمَةِ مَوْلَاك فَبَكَى الْعَالِمُ، وَقَالَ لَعَلَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَك لِعَدَمِ مَحَبَّتِك إيَّايَ وَيَغْفِرُ لِي لِمَحَبَّتِي إيَّاكَ. وَعَنْ الْكَشَّافِ، وَقَالَ سُفْيَانُ فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُهُ إلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ لِلْمُلُوكِ وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَالِمٍ يَزُورُ عَامِلًا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الذُّبَابُ عَلَى الْعَذِرَةِ أَحْسَنُ مِنْ قَارِئٍ عَلَى بَابِ هَؤُلَاءِ، وَقَالَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ دَعَا لِلظَّالِمِ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ» ، وَلَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ ظَالِمٍ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فِي بَرِّيَّةٍ هَلْ يُسْقَى شَرْبَةَ مَاءٍ فَقَالَ لَا فَقِيلَ لَهُ يَمُوتُ فَقَالَ دَعْهُ يَمُوتُ. انْتَهَى. اعْلَمْ أَنَّ فِي مُخَالَطَةِ السَّلَاطِينِ ثَلَاثَ أَحْوَالٍ الْأُولَى الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ إمَّا حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ وَذَلِكَ إمَّا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالسُّكُوتِ أَوْ بِالْقَوْلِ أَمَّا الْفِعْلُ فَإِنْ كَانَتْ دَارُهُمْ مَغْصُوبَةً فَيَحْرُمُ الدُّخُولُ، وَإِلَّا فَإِنْ سَجَدَ أَوْ رَكَعَ أَوْ أَكْرَمَ فَيَعْصِي فَإِنَّ التَّوَاضُعَ لِغَنِيٍّ غَيْرِ ظَالِمٍ يُنْقِصُ ثُلُثَيْ دِينِهِ فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ، وَأَمَّا تَقْبِيلُ الْيَدِ وَالِانْحِنَاءُ فِي الْخِدْمَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَادِلًا فَمَعْصِيَةٌ، وَإِلَّا فَجَائِزٌ كَمَا قَبَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

وَالْجُلُوسُ عَلَى بِسَاطِهِمْ إنْ كَانَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ حَرَامًا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ، وَأَمَّا السُّكُوتُ فَإِنْ رَأَى مِنْ فُرُشِهِمْ، وَأَوَانِيهِمْ وَمَلْبُوسَاتِهِمْ الْحَرَامَ أَوْ سَمِعَ الْفُحْشَ وَالْكَذِبَ فَالسُّكُوتُ فِي كُلِّهِ حَرَامٌ إلَّا أَنْ يَكْرَهَ، وَأَمَّا الْقَوْلُ فَإِنْ دَعَا لَهُ أَوْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَوْ صَدَّقَهُ فِي بَاطِلِهِ بِتَصْرِيحٍ أَوْ بِتَحْرِيكِ رَأْسٍ أَوْ بِاسْتِبْشَارٍ أَوْ بِإِظْهَارِ حُبٍّ وَاشْتِيَاقٍ وَحِرْصٍ عَلَى طُولِ عُمُرِهِ فَكُلُّهُ حَرَامٌ وَرَدَتْ فِيهِ الْأَخْبَارُ فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ إلَّا لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْكَذِبِ وَالثَّنَاءِ، وَلَا يَدَعُ النَّصِيحَةَ إنْ تَوَقَّعَ قَبُولَهَا. وَالثَّانِيَةُ: دُخُولُ السُّلْطَانِ الظَّالِمِ عَلَيْك زَائِرًا فَإِنْ فِي جَمْعٍ يَقُومُ عِنْدَ دُخُولِهِ رِعَايَةً لِحِشْمَتِهِ، وَإِنْ فِي خَلْوَةٍ جَازَ الْقِيَامُ لَكِنْ الْأَوْلَى عَدَمُهُ إظْهَارًا لِعِزِّ الدِّينِ وَرَغْمًا لِلظُّلْمِ وَيُظْهِرُ غَضَبَهُ لِلدِّينِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ مَعَ السُّلْطَانِ ثُمَّ يُخَوِّفُهُ مِمَّا ارْتَكَبَهُ لَكِنْ بِاللِّينِ وَالرِّفْقِ بَلْ بِالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ وَالنُّصْحِ بِالْمَصْلَحَةِ وَالْإِرْشَادِ عَمَّا غَفَلَ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ وَنِظَامِ الرَّعَايَا. وَالثَّالِثَةُ: الِاعْتِزَالُ عَنْهُمْ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُمْ، وَلَا يَرَوْنَهُ، وَهُوَ الْأَسْلَمُ فَلَا يَسْتَخْبِرُ عَنْهُمْ، وَلَا يُصَاحِبُ مُصَاحِبَهُمْ، وَأَمَّا حَالُ دُخُولِ السَّلَفِ عَلَيْهِمْ فَكَالْمُحَالِ فِي حَقِّنَا؛ لِأَنَّهُمْ يُعَاتِبُونَ وَيَعِظُونَ، وَلَا يَخَافُونَ فِي الْحَقِّ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَنَجْتَهِدُ فِي التَّقَرُّبِ إلَيْهِمْ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الرُّخَصِ فِيمَا يُوَافِقُ أَغْرَاضَهُمْ، وَلَنَا فِي ذَلِكَ غُرُورُ أَنَّ إظْهَارَ إصْلَاحِهِمْ، وَإِرَادَةَ الشُّهْرَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِمْ، وَإِظْهَارَ الشَّفَاعَةِ فِي دَفْعِ ظِلَامَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَإِرَادَةَ نَحْوِ الْأُلْفَةِ مَعَهُمْ كُلُّ ذَلِكَ تَلْخِيصُ مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ. (ت عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدٌ» مِنْ سَادَ يَسُودُ سِيَادَةً وَالِاسْمُ السُّؤْدَدُ، وَهُوَ الْمَجْدُ وَالشَّرَفُ فَهُوَ سَيِّدٌ وَالْأُنْثَى سَيِّدَةٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ يَعْنِي لَا تَصِفُوا الْمُنَافِقَ بِالسِّيَادَةِ «فَإِنَّهُ إنْ يَكُ» أَيْ إنْ يَكُنْ «سَيِّدًا» بِزَعْمِكُمْ بِجَاهِهِ وَنَسَبِهِ وَمَالِهِ «فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ اللَّهَ» بِتَعْظِيمِ مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18] قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ تَبْجِيلُ الْكَافِرِ كُفْرٌ فَلَوْ سَلَّمَ عَلَى الذِّمِّيِّ تَبْجِيلًا كَفَرَ، وَلَوْ قَالَ لِمَجُوسِيٍّ يَا أُسْتَاذُ تَبْجِيلًا كَفَرَ (وَضِدُّهُ) أَيْ ضِدُّ حُبِّ الْفَسَقَةِ (الْبُغْضُ فِي اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ لِأَجْلِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ» (لِكُلِّ عَاصٍ) قِيلَ، وَلَوْ بِصَغِيرَةٍ أَوْ بِمَكْرُوهٍ (لِعِصْيَانِهِ) لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ. وَعَنْ الْحَسَنِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ هَلْ عَمِلْت لِي عَمَلًا قَطُّ قَالَ إلَهِي صَلَّيْت لَك وَصُمْت لَك وَتَصَدَّقْت لَك وَذَكَرْت لَك فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الصَّلَاةَ لَك بُرْهَانٌ وَالصَّوْمَ لَك جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةَ لَك ظِلٌّ وَالذِّكْرَ لَك نُورٌ فَأَيُّ عَمَلٍ عَمِلْت لِي فَقَالَ مُوسَى إلَهِي دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ هُوَ لَك فَقَالَ يَا مُوسَى هَلْ وَالَيْت لِي وَلِيًّا قَطُّ، وَهَلْ عَادَيْت لِي عَدُوًّا قَطُّ فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ قَالَ الْمُحَشِّي هَذَا إذَا كَانَ مُتَيَقَّنًا أَوْ مَظْنُونًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ عِصْيَانُهُ مَوْهُومًا أَوْ مَشْكُوكًا فَلَا يَجُوزُ الْبُغْضُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِمْ بَلْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الصَّلَاحِ لَا عَلَى الْفَسَادِ (لَا سِيَّمَا الْمُبْتَدِعِينَ) اعْتِقَادًا، وَعَمَلًا (وَالظَّلَمَةَ لِكَوْنِ مَعْصِيَتِهِمْ) أَيْ مَعْصِيَةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَالظَّلَمَةِ فَافْهَمْ (مُتَعَدِّيَةً) دِينًا وَدُنْيَا (فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ الْبُغْضِ لَهُمْ) لِيَرْتَدِعُوا مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِئَلَّا يَشْتَرِكَ فِي وِزْرِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا مِنْ قَوْمٍ يَكُونُ فِيهِمْ رَجُلٌ يَعْمَلُ الْمَعَاصِيَ وَيَقْدِرُونَ أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلَا يُغَيِّرُونَ إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِالْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا» . وَفِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ، وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ الْمَعَاصِي فَلَمْ يُنْكِرُوهَا فَقَدْ اسْتَحَلَّ الْقَوْمُ جَمِيعًا الْعُقُوبَةَ وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى يُوشَعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنِّي مُهْلِكٌ مِنْ قَوْمِك أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِهِمْ وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ شِرَارِهِمْ فَقَالَ يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ فَمَا بَالُ الْأَخْيَارِ فَقَالَ إنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ كَذَا أَيْضًا فِي النِّصَابِ وَنَقَلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ الْمُبَارَكِ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ رَبُّك بِك فَقَالَ عَاتَبَنِي، وَأَوْقَفَنِي رَبِّي ثَلَاثِينَ سَنَةً بِسَبَبِ أَنِّي نَظَرْت بِاللُّطْفِ يَوْمًا إلَى مُبْتَدِعٍ فَقَالَ إنَّك لَمْ تُعَادِ عَدُوِّي فِي الدِّينِ فَكَيْفَ حَالُ الْقَاعِدِ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

الثاني والأربعون بغض العلماء

(إنْ لَمْ يَخَفْ) عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَوْلَادِهِ أَوْ أَتْبَاعِهِ (بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا) أَيْ غَيْرِ ذَوِي الِابْتِدَاعِ وَالظُّلْمِ (مِنْ الْعُصَاةِ) بَلْ يُكْتَفَى حِينَئِذٍ بِبُغْضِ الْقَلْبِ فِي الْحَاشِيَةِ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ إظْهَارُ الْبُغْضِ لَهُمْ وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِهِ بَلْ اللَّازِمُ التَّعَطُّفُ عَلَيْهِمْ وَالتَّلَطُّفُ بِهِمْ، وَقَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ لَكِنْ مَحَلُّ النِّزَاعِ مَا إذَا لَمْ يُفِدْ الْإِظْهَارُ فِي دَفْعِ الْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا إذَا أَفَادَ فَإِظْهَارُ الْبُغْضِ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ. انْتَهَى. (تَتِمَّةٌ) : عِنْدَ اجْتِمَاعِ الصَّلَاحِ وَالْفِسْقِ يُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ فَأَمَّا عِنْدَ التَّسَاوِي فَتَجِبُ مِنْ جِهَةِ طَاعَتِهِ وَتُبْغِضُ مِنْ جِهَةِ فِسْقِهِ لَكِنْ تُبَالِغُ فِي حُبِّهِ وَبُغْضِهِ كَمَا تُبَالِغُ فِي تَمَحُّضِهِ ثُمَّ إظْهَارُ الْبُغْضِ إمَّا بِالْقَوْلِ فَبِتَرْكِ مُكَالَمَتِهِ مَرَّةً وَالِاسْتِخْفَافِ وَالتَّغْلِيظِ أُخْرَى، وَإِمَّا بِالْفِعْلِ فَلَا يُسِيءُ مَرَّةً وَيَسْعَى فِي إسَاءَتِهِ أُخْرَى، وَأَمَّا دَرَجَاتُ الْمَعْصِيَةِ فَإِنْ بِهَفْوَةٍ فَالْأَوْلَى السَّتْرُ وَالْإِغْمَاضُ، وَإِنْ بِإِصْرَارِ صَغِيرَةٍ أَوْ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ فَإِنْ مُتَعَدِّيَةً فَيُنْكِرُ عَلَى قَدْرِ ارْتِدَاعِهِ، وَعَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ، وَإِنْ مُتَعَدِّيَةً إلَيْك فَقَطْ فَالْأَوْلَى الْعَفْوُ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا إلَى زِيَادَةِ ضَلَالِهِ، وَإِنْ عَظِيمَةً كَمَا تَرَكَ الصِّدِّيقُ الْأَعْظَمُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نَفَقَةَ مِسْطَحٍ حِينَ تَكَلَّمَ فِي الْإِفْكِ ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِعَادَةِ نَفَقَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} [النور: 22] الْآيَةَ، وَأَيُّ جَرِيمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِحُرْمَةٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَدِّيَةً فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْبُغْضِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا بِحَسَبِ مَرْتَبَةِ الِانْزِجَارِ وَالْقُدْرَةِ، وَأَقَلُّهُ قَطْعُ الرِّفْقِ وَالْعَوْنِ، وَأَقْوَاهُ إفْسَادُ أَغْرَاضِهِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ بَعْضٍ فِي الْغَيْرِ الْمُتَعَدِّيَةِ النَّظَرُ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّ الْقَدَرَ لَا يَنْفَعُ مِنْهُ الْحَذَرُ لَكِنْ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ. فَإِنْ قُلْت هَلْ يَجِبُ الْإِعْرَاضُ، وَقَطْعُ النَّفَقَةِ وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْعَاصِي بِحَيْثُ يَأْثَمُ مَنْ يَتْرُكُهُ قُلْت لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ الظَّاهِرِ تَحْتَ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يُغَلِّظُ الْقَوْلَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتَفِي بِالْإِعْرَاضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ فَهَذِهِ دَقَائِقُ دِينِيَّةٌ تَخْتَلِفُ فِيهَا طَرَائِقُ السَّالِكِينَ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ. [الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بُغْضُ الْعُلَمَاءِ] (الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بُغْضُ الْعُلَمَاءِ) الشَّرْعِيِّينَ لَا الْمُتَفَلْسِفَةِ، الَّذِينَ صَرَفُوا أَعْمَارَهُمْ فِي التَّدْرِيسِ وَالتَّصْنِيفِ بَلْ الْإِفْتَاءِ وَالْقَضَاءِ وَالنُّصْحِ وَالْعِظَةِ لَا إلَى التَّعْطِيلِ وَالْهَوَى لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْبُغْضُ لِذَاتِهِ أَوْ لِأَمْرٍ غَيْرِ عَمَلِهِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْبُغْضُ لِأَجْلِ عَمَلِهِ فَيَكْفُرُ فَلَا وَجْهَ

لِذِكْرِهِ هُنَا قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ كُفْرٌ، وَعَنْ مُنْيَةِ الْمُفْتِي تَخْفِيفُ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ كُفْرٌ، وَعَنْ الْخِزَانَةِ مَنْ أَذَلَّ الْعُلَمَاءَ يُنْفَى مِنْ الْبَلَدِ بَعْدَ تَجْدِيدِ الْإِيمَانِ، وَعَنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ إهَانَةُ عُلَمَاءِ الدِّينِ كُفْرٌ، وَعَنْ الْمُحِيطِ إنْ شَتَمَ عَالِمًا فَقَدْ كَفَرَ فَتَطْلُقُ امْرَأَتُهُ وَهَكَذَا، وَهَكَذَا وَدَعْوَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا نُقِلَ وَبَيْنَ الْغَضَبِ قَرِيبٌ إلَى التَّحَكُّمِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ الِاسْتِلْزَامِ غَايَةُ الْجَوَابِ اخْتِيَارُ الْأَوَّلِ وَيَدَّعِي أَنَّ الْبُغْضَ إلَيْهِمْ، وَإِنْ لِغَيْرِ عِلْمِهِمْ لَكِنْ الْوِزْرُ فَوْقَ مَا لِلْغَيْرِ (وَالصَّالِحِينَ) الَّذِينَ صَرَفُوا أَعْمَارَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْوَالَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ (وَضِدُّهُ حُبُّهُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى) . (حَكَّ) الْحَاكِمُ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» سَيْرُهُ «عَلَى الصَّفَا» أَيْ الصَّخْرِ الْأَمْلَسِ، وَهُوَ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَسْبَابِ كَالْمَطَرِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِهَتْكِ الْأَسْبَابِ وَمُشَاهَدَةِ الْكُلِّ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ قِيلَ هُنَا عَنْ الرَّازِيّ السَّلَامَةُ عَلَى قَدْرِ نَفْيِ الشُّرَكَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ ظَاهِرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرًا لَكِنَّهُ يَقُولُ قَوْلًا يَهْدِمُهُ كَإِضَافَةِ السَّعَادَةِ وَالنُّحُوسَةِ إلَى الْكَوَاكِبِ أَوْ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ إلَى الدَّوَاءِ أَوْ الْفِعْلِ إلَى الْعَبْدِ اسْتِقْلَالًا وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ كُلَّ ذَلِكَ لَكِنْ بِطَبْعِ الشَّهْوَةِ كَمَا أَشَارَ بِهِ بِقَوْلِهِ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ. وَحَاصِلُهُ الِالْتِفَاتُ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى فَالْبَشَرُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فَلِهَذَا السَّبَبِ تَضَرَّعَ الْأَنْبِيَاءُ فِي أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُمْ الْأَسْبَابَ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلِذَلِكَ الْخَفَاءُ عَجَزَ عَنْ وُقُوفِهِ أَوْحَدِيُّ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ الْعُلَمَاءُ الْمُجِدُّونَ فِي سُلُوكِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ كَدِّهِمْ فِي قَهْرِ النَّفْسِ إلَى أَنْ يُقْطَعَ طَمَعُ الْمَعَاصِي، وَإِلَى أَنْ تَكُونَ الطَّاعَاتُ طَبِيعَةً لَهُمْ تَمِيلُ نُفُوسُهُمْ إلَى لَذَّةِ الْقَبُولِ عِنْدَ الْخَلْقِ فَلَا يَخْلُونَ عَنْ الْإِخْبَارِ، وَإِظْهَارِ الْأَعْمَالِ أَوْ مَحَبَّةِ اطِّلَاعِ الْخَلْقِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِهِمْ أَوْ الْفَرَحِ بِمَحْمَدَةِ النَّاسِ، وَلَا يَقْنَعُونَ بِاطِّلَاعِ الْخَالِقِ وَمَحْمَدَتِهِ طَمَعًا فِي احْتِرَامِهِمْ، وَالنَّاسُ يَتَبَرَّكُونَ بِدُعَاءِ أَحَدِهِمْ؛ وَلِقَائِهِ وَخِدْمَتِهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ، وَهُوَ يَظُنُّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ حَيَاتَهُ بِاَللَّهِ وَبِعِبَادَتِهِ الْمَرَضِيَّةِ، وَإِنَّمَا حَيَاتُهُ بِهَذِهِ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَعْمَى عَنْ دَرْكِهَا إلَّا أُولُو الْعُقُولِ النَّافِذَةِ الْقَوِيَّةِ، وَيَرَى أَنَّهُ يُخْلِصُ فِي طَاعَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ أُثْبِتَ اسْمُهُ فِي جَرِيدَةِ الْمُنَافِقِينَ كَذَا فِي الْفَيْضِ مُلَخَّصًا. «فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ» قَالَ فِي الْفَيْضِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الشِّرْكَ مُتَلَاشٍ فِي الْأُمَّةِ لِفَضْلِ يَقِينِهِمْ فَإِنَّهُ وَإِنْ خَطَرَ لَهُمْ فَهُوَ خُطُورٌ خَفِيٌّ لَا يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسٍ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ دَبِيبُ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا بَلْ إذَا عَرَضَ لَهُمْ خَطَرَاتُ الْأَسْبَابِ رَدَّتْهَا صَلَابَةُ قُلُوبِهِمْ بِاَللَّهِ. انْتَهَى. «وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْجَوْرِ» أَيْ ظُلْمِ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ كَمَحَبَّةِ مَنْ قَتَلَ سَارِقًا لِقَتْلِهِ وَجَزَاؤُهُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا هُوَ الْقَطْعُ وَنَحْوُهُ. «وَ» أَنْ «تُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعَدْلِ» كَبُغْضِ مَنْ حَكَمَ عَلَى نَهْجِ الشَّرْعِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ «، وَهَلْ الدِّينُ إلَّا الْحُبُّ فِي اللَّهِ» أَيْ الْحُبُّ لِمَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ لِعِبَادَتِهِ وَتَرْكِ مَنْهِيَّاتِهِ لَعَلَّ الْمُرَادَ كَمَالُ الدِّينِ فَمَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الْحُبُّ لَيْسَ بِكَافِرٍ وَيُؤَيِّدُ حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ فِي الْمَشَارِقِ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ» بِاسْتِلْذَاذِ الطَّاعَةِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ فِي طَلَبِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ «أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ» يَعْنِي لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِغَرَضِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ حَتَّى تَكُونَ كَمَحَبَّةِ أَبَوَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا وَمَحَبَّةِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ بِالدُّعَاءِ الصَّالِحِ لَهُ، وَعَلَى هَذَا كَذَا فِي الْمَشَارِقِ الْحَدِيثَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْصِدَ رِضَاهُ تَعَالَى عِنْدَ مَحَبَّةِ كُلِّ شَيْءٍ «وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» أَيْ الْبُغْضُ لِمَنْ يُبْغِضُهُ اللَّهُ لِارْتِكَابِهِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي الْفَيْضِ أَيْ مَا دِينُ الْإِسْلَامِ إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّعَلُّقِ بِمَحْبُوبٍ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ وَحْدَهُ مَحْبُوبَهُ وَمَعْبُودَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَبَّدَ قَلْبُهُ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الشِّرْكُ الْمُبِينُ فَمِنْ ثَمَّةَ كَانَ الْحُبُّ فِي اللَّهِ هُوَ الدِّينُ

«قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] » هَذَا مِنْ الْحَدِيثِ قَالَ فِي الْفَيْضِ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ الشِّرْكُ شِرْكَانِ ثُمَّ قَالَ وَالثَّانِي الشِّرْكُ فِي عِبَادَتِهِ، وَهُوَ أَخَفُّ، وَأَسْهَلُ فَإِنَّهُ مُوَحِّدٌ لَكِنَّهُ لَا يُخْلِصُ فِي مُعَامَلَتِهِ فَتَارَةً يَعْمَلُ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَتَارَةً لِطَلَبِ الدُّنْيَا وَالرِّفْعَةِ وَالْجَاهِ فَلِلَّهِ مِنْ عَمَلِهِ نَصِيبٌ؛ وَلِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ نَصِيبٌ؛ وَلِلشَّيْطَانِ نَصِيبٌ، وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا فَالرِّيَاءُ كُلُّهُ شِرْكٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. ثُمَّ وَجَدَ الدَّلَالَةَ بِالْحَدِيثِ أَمَّا عَلَى كَوْنِ الْمَطْلُوبِ بُغْضُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَبِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ «وَتُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعَدْلِ» إذْ الْعِلْمُ وَالصَّلَاحُ مِنْ الْعَدْلِ أَوْ عَلَى كَوْنِ الْمَطْلُوبِ الضِّدُّ الَّذِي هُوَ حُبُّهُمْ فِي اللَّهِ فَبِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ، وَهَلْ الدِّينُ إلَخْ لَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ التَّقْرِيبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَفْظُ الْعَدْلِ، وَلَفْظُ الْحُبِّ عَامَّانِ مَقْصُورُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِينَ لَكِنْ حِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ تَخْصِيصِ الْمَطْلُوبِ بِالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ بَلْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ هُوَ الْعُمُومُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَيْضِ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُنْكَرٌ، وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. (د) (عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» لَفْظُ فِي هُنَا بِمَعْنَى اللَّامِ إشَارَةٌ إلَى الْإِخْلَاصِ أَيْ الْحُبُّ فِي جِهَتِهِ وَوَجْهِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] أَيْ فِي حَقِّنَا وَمِنْ أَجْلِنَا؛ وَلِوَجْهِنَا خَالِصًا فَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَا لِحَظٍّ نَفْسَانِيٍّ كَالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَذَا أَنْ يَكْرَهَهُ لِكُفْرِهِ، وَعِصْيَانِهِ لَا لِنَحْوِ إيذَائِهِ لَهُ. وَالْحَاصِلُ لَا تَكُونُ مُعَامَلَتُهُ مَعَ الْخَلْقِ إلَّا لِلَّهِ وَمِنْ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ بُغْضُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ، وَأَعْدَاءِ الدِّينِ وَالْمُجَاهَدَةُ مَعَ النَّفْسِ بِحَسَبِهِمَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ وَجَازَتِهِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَمَنْ تَدَبَّرَهُ وَقَفَ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقِ اللَّهِ، وَفَنَاءِ السَّالِكِ فِي اللَّهِ ثُمَّ إنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ أَفْضَلَ مِنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ. قُلْنَا مَنْ أَحَبَّ فِي اللَّهِ يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ، وَأَوْلِيَاءَهُ وَمِنْ شَرْطِ مَحَبَّتِهِ إيَّاهُمْ أَنْ يَقْفُوَ أَثَرَهُمْ وَيُطِيعَ أَمْرَهُمْ قَالَ الْقَائِلُ تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّك صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَكَذَا مِنْ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ بُغْضُ أَعْدَائِهِ وَبَذْلُ جُهْدِهِ فِي مُجَاهَدَتِهِمْ قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ أَعْدَاءٌ يُبْغِضُهُمْ فِي اللَّهِ كَمَا لَهُ أَصْدِقَاءٌ يُحِبُّهُمْ فِي اللَّهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَمِنْ حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. «أَفْضَلُ الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ لِلَّهِ وَتُبْغِضَ لِلَّهِ وَتُعْمِلَ لِسَانَك فِي ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ» مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ «مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِك» مِنْ الْمَكَارِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، «وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا» كَلِمَةً تَجْمَعُ الطَّاعَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ «أَوْ تَصْمُتَ» أَيْ تَسْكُت، وَالْمَقْصُودُ ائْتِلَافُ الْقُلُوبِ وَانْتِظَامُ الْأَحْوَالِ. (حَدّ) أَحْمَدُ (طب عَنْ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ» حَقِيقَتَهُ وَحَلَاوَتَهُ «حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ وَيُبْغِضَ لِلَّهِ فَإِذَا أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ لِلَّهِ» أَيْ: اسْتَحَقَّ

أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهُ تَعَالَى عَنْ الْمَصَابِيحِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعْته يَقُولُ «إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنْ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ فَقَالَ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى وَقَبَائِلَ شَتَّى لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَلَا دَنَانِيرُ يَتَبَاذَلُونَ بِهَا يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ تَعَالَى يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ قُدَّامَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَفْزَعُ النَّاسُ، وَلَا يَفْزَعُونَ يَخَافُ النَّاسُ، وَلَا يَخَافُونَ» . (طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الْإِيمَانِ» أَيْ مِنْ شُعَبِهِ وَثَمَرَاتِهِ «أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ رَجُلًا لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى» لَا لِغَرَضٍ غَيْرِهِ فَلِذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ «مِنْ غَيْرِ مَالٍ أَعْطَاهُ» صِفَةٌ لِرَجُلٍ «فَذَلِكَ» الْحُبُّ «الْإِيمَانُ» كَأَنَّهُ حَقِيقَتُهُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَقْوَى فُرُوعِهِ كَحَدِيثِ «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ» وَحَدِيثِ «الْحَجُّ عَرَفَةَ» . عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَحَبَّةُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَصِّلَةُ لِحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِالْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْحُظُوظِ الْبَشَرِيَّةِ عَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ وَالْإِحْيَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى عَمُودٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ فِي رَأْسِ الْعَمُودِ سَبْعُونَ أَلْفَ غُرْفَةٍ يُشْرِفُونَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يُضِيءُ حُسْنُهُمْ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ انْطَلِقُوا بِنَا نَنْظُرُ إلَى الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ فَيُضِيءُ حُسْنُهُمْ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ لِلدُّنْيَا عَلَيْهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ مَكْتُوبٌ عَلَى جِبَاهِهِمْ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ» . (خ م عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ» لَمْ أَقِفْ) أَيْ لَمْ أَعْرِفْ «إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ» فِي عَمَلِ الصَّلَاحِ لِقُصُورِهِ فِي الْعَمَلِ كَعَمَلِهِمْ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» بِمُرَافَقَتِهِ وَزِيَارَتِهِ أَوْ فِي بَعْضِ مَرَاتِبِهِ لَا فِي جَمِيعِهَا لَكِنْ بِشَرْطِ اقْتِدَائِهِ بِهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلَوْ لَمْ يَقْتَدِ أَصْلًا لَا يَلْحَقُ أَصْلًا إذْ عَدَمُ ذَلِكَ الِاقْتِدَاءِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْمَحَبَّةِ، وَعَلَى كَذِبِ دَعْوَاهُ وَنَظِيرُهُ مَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ «أَنَّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَتَى يَوْمًا، وَقَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ فَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ مَا بِي مِنْ وَجَعٍ غَيْرَ أَنِّي إذَا لَمْ أَرَك اشْتَقْتُ إلَيْك وَاسْتَوْحَشْتُ وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاك ثُمَّ ذَكَرْتُ الْآخِرَةَ فَخِفْتُ أَنْ لَا أَرَاك هُنَاكَ؛ لِأَنِّي عَرَفْتُ أَنَّك مَعَ النَّبِيِّينَ، وَأَنِّي إنْ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ كُنْتُ فِي مَنْزِلٍ دُونَ مَنْزِلِك، وَإِنْ لَمْ أَدْخُلْ لَا أَرَاك أَبَدًا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] » . وَفِي الشِّرْعَةِ وَمِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُوَاخِيَ مُوَاخَاةً إلَّا مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ وَصَلَاحِهِ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ بِعَمَلِهِ، وَفِي شَرْحِهِ قَالَ الْحَسَنُ لَا يَغُرُّنَّكُمْ هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّك لَنْ تَلْحَقَ الْأَبْرَارَ إلَّا بِأَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُحِبُّونَ أَنْبِيَاءَهُمْ، وَلَيْسُوا مَعَهُمْ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ أَوْ كُلِّهَا لَا يَنْفَعُ ثُمَّ قَالَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ الْوَلِيَّ بِحُرْمَةِ وَلِيِّهِ وَيُلْحِقُهُ بِهِ وَلَا يُنْقِصُ مِنْ عَمَلِ وَلِيِّهِ شَيْئًا كَمَا يُلْحِقُ الذُّرِّيَّةَ فِي قَوْله تَعَالَى - {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]- قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ طَبْعًا، وَعَقْلًا وَجَزَاءً وَمَحَلًّا فَكُلُّ مُهْتَمٍّ بِشَيْءٍ فَهُوَ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ، وَإِلَى أَهْلِهِ بِطَبْعِهِ، وَكُلُّ امْرِئٍ يَمِيلُ إلَى مُنَاسِبِهِ سَاءَ أَمْ سَخِطَ فَالرُّوحُ الْعَلَوِيَّةُ تَنْجَذِبُ إلَى الْأَعْلَى وَالنُّفُوسُ الدَّنِيَّةُ تَنْجَذِبُ إلَى الْأَسْفَلِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ هَلْ هُوَ مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى أَوْ الْأَسْفَلِ فَلْيَنْظُرْ مَنْ صَحِبَهُ فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ فَهُوَ مَعَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ تَكَلَّمَ فَبِاَللَّهِ، وَإِنْ نَطَقَ فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ تَحَرَّكَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ سَكَتَ فَمَعَ اللَّهِ فَهُوَ بِاَللَّهِ؛ وَلِلَّهِ وَمَعَ اللَّهِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِتَوْحِيدِ الْمَحْبُوبِ، وَأَنَّ مَنْ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ ثُمَّ لَمْ يَحْفَظْ حُدُودَهُ فَلَيْسَ بِصَادِقٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُمْ لِثُبُوتِ التَّقَرُّبِ مَعَ قُلُوبِهِمْ. قَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي ضِمْنِهِ حَثٌّ عَلَى حُبِّ الْأَخْيَارِ رَجَاءَ الْإِلْحَاقِ بِهِمْ فِي دَارِ الْقَرَارِ وَالْخَلَاصِ مِنْ النَّارِ وَالْقُرْبِ مِنْ الْجَبَّارِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالتَّنْفِيرِ مِنْ التَّبَاغُضِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ رَمْزٌ إلَى أَنَّ التَّحَابُبَ بَيْنَ الْكُفَّارِ يُنْتِجُ لَهُمْ الْمَعِيَّةَ فِي النَّارِ بِئْسَ الْقَرَارُ - {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30]-. (فَائِدَةٌ) : قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ قُلْت لِشَيْخِنَا يَا سَيِّدِي إذَا ارْتَقَى الْوَلِيُّ إلَى مَرْتَبَةِ الْقُطْبِيَّةِ مَثَلًا هَلْ يَرْقَى بَعْضُ جَمَاعَتِهِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ فَتَبَسَّمَ وَحَسَّنَ رَجَائِي، وَقَالَ مَا لَا يُحَالُ كَشْفُهُ، وَفِي أَثْنَائِهِ هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ قَالَ الْعَلَائِيُّ الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ وَمُتَوَاتِرٌ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَعَدَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْكُلُّ عُصَارَةُ الْفَيْضِ ثُمَّ يُقِرُّ بِهِ قَوْله تَعَالَى - {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]-، وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ اصْحَبُوا مَعَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تُطِيقُوا فَاصْحَبُوا مَعَ مَنْ يَصْحَبُ مَعَ اللَّهِ لِتُوصِلَكُمْ بَرَكَاتُ صُحْبَتِهِمْ إلَى اللَّهِ، وَفِيهَا صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ، وَفِيهَا اصْطَحَبَ رَجُلَانِ مُدَّةً ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا

الثالث والأربعون الجرأة

الْمُفَارَقَةُ فَاسْتَأْذَنَ صَاحِبَهُ فَقَالَ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَصْحَبَ أَحَدًا إلَّا إذَا كَانَ فَوْقَنَا، وَإِنْ كَانَ مِثْلَنَا فَلَا تُصَاحِبْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ زَالَ مِنْ قَلْبِي إرَادَةُ الْمُفَارَقَةِ، وَفِيهَا صَحِبَ رَجُلٌ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَهُ قَالَ نَبِّهْ عَيْبِي فَقَالَ إنِّي أُحِبُّك فَاسْتَحْسَنْتُ مِنْك مَا رَأَيْتُ فَسَلْ غَيْرِي عَنْ عَيْبِك وَفِيهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَتَى أَلْقَى أَحِبَّائِي فَقَالَ أَصْحَابُهُ بِأَبِينَا أَنْتَ وَأُمِّنَا أَوَلَسْنَا أَحِبَّاءَك فَقَالَ أَنْتُمْ أَصْحَابِي أَحِبَّائِي قَوْمٌ لَمْ يَرَوْنِي وَآمَنُوا بِي، وَأَنَا إلَيْهِمْ بِالْأَشْوَاقِ» . وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُولُ كُلُّ إنْسَانٍ يَأْنِسُ بِشَكْلِهِ كَمَا أَنَّ كُلَّ طَيْرٍ يَأْنِسُ مَعَ جِنْسِهِ فَرَأَى يَوْمًا غُرَابًا مَعَ حَمَامَةٍ فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا طَارَا فَإِذَا هُمَا أَعْرَجَانِ فَقَالَ مِنْ هُنَا اتَّفَقَا وَرُوِيَ أَنَّ كَلْبًا لِحُبِّهِ الْمُطِيعِينَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِ إذَا أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَحَبَّ أَوْلِيَاءَهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْعُيُونِ، وَأَنَا أَقُولُ عَشَرَةٌ مِنْ الْحَيَوَانِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِشَرَفِ الصُّحْبَةِ [الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْجُرْأَةُ] (الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ) (الْجُرْأَةُ) وَهِيَ الْإِقْدَامُ وَالتَّهَوُّرُ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا تَفَكُّرٍ وَقِيلَ عَنْ التَّحْقِيقِ وَالْمُجْتَرِئُونَ (عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) كَالْفَرَاعِنَةِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَلَى اللَّهِ وَالدَّجَاجِلَةِ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَالزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي الْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ وَالظَّلَمَةِ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْفَسَقَةِ الَّذِينَ يُجَاهِرُونَ بِالْمَعَاصِي عَلَانِيَةً وَلَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ يَبْتَدِعُونَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنْهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ آنِفًا. (وَالْأَمْنُ مِنْ عَذَابِهِ وَسَخَطِهِ) أَيْ غَضَبِهِ وَبَطْشِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَمْنَ كُفْرٌ وَالْمَقَامُ فِيمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَا يَكُونُ كُفْرٌ إمَّا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا هُوَ بِالظَّنِّ فَفِيهِ أَيْضًا تَأَمُّلٌ (وَضِدُّهُ الْخَوْفُ فَإِنْ كَانَ مَعَ الِاسْتِعْظَامِ) لَهُ تَعَالَى بِاعْتِقَادِ عَظَمَتِهِ (وَالْمَهَابَةِ) أَيْ هَيْبَتِهِ (يُسَمَّى) ذَلِكَ الْخَوْفُ (خَشْيَةٌ) فَالْخَوْفُ مُطْلَقٌ وَالْخَشْيَةُ مُقَيَّدٌ وَالثَّانِيَةُ مَا يَكُونُ فِي الْأَنْبِيَاءِ إذْ لَيْسَ لَهُمْ خَوْفٌ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ وَلَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ بَلْ لِكَمَالِ عِرْفَانِهِمْ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَا أَعْرَفُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» فَكُلَّمَا ازْدَادَتْ الْمَعْرِفَةُ ازْدَادَتْ الْخَشْيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَذَلِكَ مُشَارٌ بِمَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فَتَكُونُ الْخَشْيَةُ خَاصَّةً دُونَ الْخَوْفِ (وَحَقِيقَتُهُ رَعْدَةٌ تَحْدُثُ) أَيْ حَرَكَةُ تَحْصُلُ (فِي الْقَلْبِ عَنْ ظَنٍّ مَكْرُوهٍ) يَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ مُطْلَقًا (يَنَالُهُ) أَيْ الْخَائِفَ (وَسَبَبُهُ) أَيْ الْخَوْفِ (ذِكْرُ الذُّنُوبِ) وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْعِقَابِ عَاجِلًا وَآجِلًا (وَ) ذِكْرُ (شِدَّةِ عُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَ) ذِكْرُ (ضَعْفِ النَّفْسِ عَنْ احْتِمَالِهَا) أَيْ الْعُقُوبَةِ (وَقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْك مَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَأَنْتَ عَبْدٌ ذَلِيلٌ عَاجِزٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ خَلَقَك وَرَزَقَك)

حِسِّيًّا هُوَ مَا يُقِيمُ بِهِ بِنْيَتَك أَوْ مَعْنَوِيًّا مَا يُقِيمُ بِهِ بُنْيَانَ نَفْسِك وَرُوحِك مِنْ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْفُهُومِ (وَهَدَاك) إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوَصِّلِ إيَّاكَ إلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ (وَأَنْتَ) مَعَ ذَلِكَ (تُخَالِفُهُ) بِتَرْكِ مَأْمُورَاتِهِ وَإِتْيَانِ مَنْهِيَّاتِهِ (وَتَعْصِيهِ) بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَحَارِمِهِ (وَيُثْمِرُ) أَيْ الْخَوْفُ (الْحُزْنَ وَهُوَ) أَيْ الْحُزْنُ (حَصْرُ النَّفْسِ) وَحَبْسُهَا (عَنْ النُّهُوضِ) أَيْ الشُّرُوعِ وَالْإِقْدَامِ (فِي الطَّرَبِ) فِي السُّرُورِ. (وَ) يُثْمِرُ (التَّوَجُّعَ عَلَى الذَّنْبِ الْمَاضِي وَالتَّأَسُّفَ عَلَى الْعُمْرِ وَالطَّاعَةِ الْفَائِتَيْنِ) وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ صَاحِبُ الْحُزْنِ يَقْطَعُ مِنْ طَرِيقِ اللَّهِ مَا لَا يَقْطَعُهُ مَنْ فَقَدَ حُزْنَهُ سِنِينَ وَفِي الْخَبَرِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبَّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ» وَقِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْبِ حُزْنٌ خَرِبَ كَمَا أَنَّ الدَّارَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ تَخْرَبُ وَسَمِعَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رَجُلًا يَقُولُ وَاحُزْنَاه قَالَتْ قُلْ وَاقِلَّةَ حُزْنَاهُ وَلَوْ كُنْت مَحْزُونًا لَمْ يَتَهَيَّأْ لَك تَنَفُّسٌ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ أَكْثَرُ مَا يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ فِي صَحِيفَتِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْهَمُّ وَالْحُزْنُ وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ إنَّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ زَكَاةً وَزَكَاةُ الْعَقْلِ طُولُ الْحُزْنِ (وَ) يُثْمِرُ الْخَوْفُ أَيْضًا (الْخُشُوعَ وَهُوَ قِيَامُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَقِّ) (بِهَمٍّ) أَيْ حُزْنٍ (مَجْمُوعٍ) عَلَى التَّوَجُّهِ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (وَقِيلَ تَذَلُّلُ الْقُلُوبِ لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ) لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ وَنِهَايَةِ شَرَفِهِ وَعِزَّتِهِ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَمْ يَقْرَبْهُ شَيْطَانٌ وَقِيلَ عَلَامَةُ الْخُشُوعِ أَنَّهُ إذَا أُغْضِبَ أَوْ خُولِفَ أَوْ رُدَّ عَلَيْهِ يَسْتَقْبِلُ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ وَقَالَ بَعْضٌ خُشُوعُ الْقَلْبِ قَيْدُ الْعُيُونِ عَنْ النَّظَرِ وَالْخَاشِعُ مَنْ خَمَدَتْ نِيرَانُ شَهْوَتِهِ وَسَكَنَ دُخَانُ صَدْرِهِ وَأَشْرَقَ نُورُ التَّعْظِيمِ مِنْ قَلْبِهِ فَمَاتَتْ شَهَوَاتُهُ وَحَيَّ قَلْبُهُ فَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ. وَعَنْ الْحَسَنِ الْخُشُوعُ الْخَوْفُ الدَّائِمُ اللَّازِمُ وَرَأَى بَعْضُهُمْ رَجُلًا مُنْقَبِضَ الظَّاهِرِ مُنْكَسِرَ الشَّاهِدِ قَدْ زَوَى مَنْكِبَيْهِ فَقَالَ يَا فُلَانُ الْخُشُوعُ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى صَدْرِهِ لَا هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى مَنْكِبَيْهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ فِي صَلَاتِهِ بِلِحْيَتِهِ «لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» وَيُقَالُ الْخُشُوعُ مُقَدِّمَاتُ غَلَبَةِ الْهَيْبَةِ وَيُقَالُ هُوَ قُشَعْرِيرَةٌ تَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ بَغْتَةً عِنْدَ مُفَاجَأَةِ كَشْفِ الْحَقِيقَةِ (وَالْيَقِينَ) أَيْ يُثْمِرُ الْيَقِينَ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْمَقَامُ (عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ اسْتِيلَاءُ الْعِلْمِ) قِيلَ اللَّدُنِّي (عَلَى الْقَلْبِ) فَيَخْرُجُ بِهِ مَا لِلدُّنْيَا وَلِلنَّفْسِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكَرْبِ (وَاسْتِغْرَاقِهِ) أَيْ الْقَلْبِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ فَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ تَدْبِيرِهِ فَيَكُونُ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (يُقَالُ لَا يَقِينَ لِفُلَانٍ لِلْمَوْتِ) قِيلَ الْأَوْلَى بِالْمَوْتِ لِأَنَّ تَعْدِيَتَهُ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْبَاءِ عَلَى مَا فِي الْمِصْبَاحِ أَقُولُ فَحِينَئِذٍ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْأَوْلَى بِالْمَوْتِ أَوْ الْمَوْتُ بِلَا جَارٍّ بَلْ أَنْ يُقَالَ الصَّوَابُ بَدَلَ الْأَوْلَى فَافْهَمْ. وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ أَنَّ أَقَلَّ الْيَقِينِ إذَا وَصَلَ إلَى الْقَلْبِ يَمْلَأُ الْقَلْبَ نُورًا أَوْ يَنْفِي عَنْهُ كُلَّ قَرِيبٍ يَمْتَلِئُ الْقَلْبُ بِهِ شُكْرًا وَمِنْ اللَّهِ خَوْفًا. وَعَنْ سَهْلٍ ابْتِدَاءُ الْيَقِينِ الْمُكَاشَفَةُ وَحَرَامٌ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ أَنْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْيَقِينِ وَفِيهِ سُكُونٌ إلَى غَيْرِ اللَّهِ. وَعَنْ ذِي النُّونِ الْيَقِينُ دَاعٍ إلَى قَصْرِ الْأَمَلِ وَقَصْرُ الْأَمَلِ إلَى الزُّهْدِ وَالزُّهْدُ يُوَرِّثُ الْحِكْمَةَ وَالْحِكْمَةُ تُوَرِّثُ النَّظَرَ فِي الْعَوَاقِبِ وَعَنْهُ أَيْضًا ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْيَقِينِ قِلَّةُ مُخَالَطَةِ النَّاسِ وَتَرْكُ الْمَدْحِ لَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ ذَمِّهِمْ عِنْدَ الْمَنْعِ وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ يَقِينِ الْيَقِينِ - النَّظَرُ إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ - وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ - وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ (إذَا لَمْ يَسْتَوْلِ ذِكْرُهُ) أَيْ الْمَوْتِ (عَلَى قَلْبِهِ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ)

لِلْمَوْتِ (وَالْعُبُودِيَّةَ) أَيْ يُثْمِرُ الْعُبُودِيَّةَ (وَهِيَ أَنْ تَكُونَ) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ (عَبْدَهُ) بِأَنْ تَكُونَ فِي طَاعَتِهِ (فِي كُلِّ حَالٍ) فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْخَطْبِ وَالرَّخَاءِ وَالسِّرِّ وَالْعَلَنِ (كَمَا أَنَّهُ رَبُّكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ) فَكَمَا لَمْ يَخْرُجْ هُوَ عَنْ رُبُوبِيَّتِك فَلَا تَخْرُجُ أَنْتَ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ (وَهِيَ) أَيْ الْعُبُودِيَّةُ (أَتَمُّ مِنْ الْعِبَادَةِ) قِيلَ هُنَا فَأَوَّلًا عِبَادَةٌ ثُمَّ عُبُودِيَّةٌ ثُمَّ عُبُودَةٌ فَالْعِبَادَةُ لِلْعَوَامِّ وَالْعُبُودِيَّةُ لِلْخَوَاصِّ وَالْعُبُودَةُ لِخَاصِّ الْخَاصِّ أَوْ الْعِبَادَاتُ لِمَنْ لَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ وَالْعُبُودِيَّةُ لِمَنْ لَهُ عَيْنُ الْيَقِينِ وَالْعُبُودَةُ لِمَنْ لَهُ حَقُّ الْيَقِينِ أَوْ الْعِبَادَةُ لِأَصْحَابِ الْمُجَاهَدَاتِ وَالْعُبُودِيَّةُ لِأَرْبَابِ الْمُكَابَدَاتِ وَالْعُبُودَةُ أَهْلُ الْمُشَاهَدَاتِ (وَيَلْزَمُهَا) أَيْ الْعُبُودِيَّةَ (الْحُرِّيَّةُ وَهِيَ) أَيْ الْحُرِّيَّةُ (أَنْ لَا يَكُونَ الْعَبْدُ تَحْتَ رِقِّ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ سُلْطَانُ الْمُكَوِّنَاتِ) وَعَلَامَةُ صِحَّتِهِ سُقُوطُ التَّمْيِيزِ عَنْ قَلْبِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ فَإِذَا صَدَقَتْ لِلَّهِ عُبُودِيَّتُهُ خَلَصَتْ عَنْ رِقِّ الْأَغْيَارِ حُرِّيَّتُهُ. اعْلَمْ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ هِيَ الِانْطِلَاقُ عَنْ رِقِّ الْأَغْيَارِ فَحُرِّيَّةُ الْعَامَّةِ عَنْ رِقِّ الْمُرَادَاتِ لِفِنَاءِ إرَادَتِهِمْ فِي إرَادَةِ الْحَقِّ وَحُرِّيَّةُ الْخَوَاصِّ عَنْ رِقِّ الرُّسُومِ وَالْآثَارِ لِانْمِحَاقِهِمْ فِي تَجَلِّي نُورِ الْأَنْوَارِ (وَيَلْزَمُهَا) أَيْ الْعُبُودِيَّةَ (الْإِرَادَةُ أَيْضًا) كَمَا لَزِمَهَا الْحُرِّيَّةُ (وَهِيَ نُهُوضُ الْقَلْبِ) جِدَّةً (فِي طَلَبِ الْحَقِّ) أَيْ الْمَعْرِفَةِ الذَّوْقِيَّةِ الْوِجْدَانِيَّةِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْكَشْفِ لَا الْمَعْرِفِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْأَدِلَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]- (بِالْخُرُوجِ عَنْ الْعَادَةِ) إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا سِوَاهُ قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ الْإِرَادَةُ بَدْءُ طَرِيقِ السَّالِكِينَ وَهِيَ اسْمٌ لِأَوَّلِ مَنْزِلِ الْقَاصِدِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا سَمَّى ذَلِكَ إرَادَةً لِتَقَدُّمِهَا عَلَى كُلِّ أَمْرٍ فَمَا لَمْ يُرِدْ الْعَبْدُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ فَالْمُرِيدُ مَنْ لَهُ إرَادَةٌ كَالْعَالِمِ مَنْ لَهُ عِلْمٌ ثُمَّ قَالَ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ فَكُلٌّ عَبَّرَ بِمَا لَاحَ لِقَلْبِهِ فَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ هِيَ تَرْكُ مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ وَعَادَةُ النَّاسِ التَّفْرِيجُ فِي أَوْطَانِ الْغَفْلَةِ وَالرُّكُونُ إلَى اتِّبَاعِ الشَّهْوَةِ وَالْإِخْلَادُ إلَى مَا دَعَتْ إلَيْهِ الْمَنِيَّةُ وَالْمُرِيدُ مُنْسَلِخٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَصَارَ خُرُوجُهُ أَمَارَةً عَلَى صِحَّةِ الْإِرَادَةِ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَادَةِ أَمَارَةُ الْإِرَادَةِ وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ كُنْت فِي الْبَادِيَةِ وَحْدِي فَضَاقَ صَدْرِي فَقُلْت يَا إنْسُ كَلِّمُونِي يَا جِنُّ كَلِّمُونِي فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ إيشْ تُرِيدُ فَقُلْت اللَّهَ فَقَالَ الْهَاتِفُ مَنْ قَالَ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَلِّمُونِي مَتَى يُرِيدُ اللَّهَ وَالْمُرِيدُ لَا يَفْتُرُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الظَّاهِرِ بِنَعْتِ الْمُجَاهَدَاتِ وَفِي الْبَاطِنِ بِوَصْفِ الْمُكَابَدَاتِ فَارَقَ الْفِرَاشَ وَلَازَمَ الِانْكِمَاشَ وَتَحَمَّلَ الْمَصَائِبَ وَرَكِبَ الْمَتَاعِبَ وَعَالَجَ الْأَخْلَاقَ وَمَارَسَ الْأَشْوَاقَ وَعَانَقَ الْأَهْوَالَ وَفَارَقَ الْأَشْكَالَ. وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ الْإِرَادَةُ لَوْعَةٌ فِي الْفُؤَادِ وَلَذْعَةٌ فِي الْقَلْبِ وَغَرَامٌ فِي الضَّمِيرِ وَانْزِعَاجٌ فِي الْبَاطِنِ وَقِيلَ مِنْ صِفَةِ الْمُرِيدِينَ التَّحَبُّبُ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ وَالْخُلُوصُ فِي نَصِيحَةِ الْأُمَّةِ وَالْأُنْسُ بِالْخَلْوَةِ وَالصَّبْرُ عَلَى مُقَاسَاةِ الْأَحْكَامِ وَالْإِيثَارُ لِأَمْرِهِ وَالْإِحْيَاءُ مِنْ نَظَرِهِ وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي مَحْبُوبِهِ وَالتَّعَرُّضُ لِكُلِّ سَبَبٍ يُوَصِّلُ إلَيْهِ وَالْقَنَاعَةُ بِالْخُمُولِ وَعَدَمُ الْقَرَارِ بِالْقَلْبِ إلَى أَنْ يُوَصِّلَ إلَى الرَّبِّ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ آفَةُ الْمُرِيدِ ثَلَاثَةٌ التَّزْوِيجُ وَكَتْبُهُ الْحَدِيثَ وَالْأَسْفَارُ وَقِيلَ لِبَعْضٍ لِمَ تَرَكْت كِتَابَةَ الْحَدِيثِ قَالَ مَنَعَنِي مِنْهَا الْإِرَادَةُ وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ إذَا رَأَيْت الْمُرِيدَ يُرِيدُ غَيْرَ مُرَادِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَظْهَرَ نَذَالَتَهُ. وَعَنْ الْجُنَيْدِ إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْمُرِيدِ خَيْرًا أَوْقَعَهُ إلَى الصُّوفِيَّةِ وَمَنَعَهُ عَنْ صُحْبَةِ الْقُرَّاءِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ لَا يَكُونُ الْمُرِيدُ مُرِيدًا حَتَّى لَا يَكْتُبَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشِّمَالِ عِشْرِينَ وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمُرِيدُ إذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنْ عُلُومِ الْقَوْمِ فَعَمِلَ بِهِ صَارَ حِكْمَةً إلَى آخِرِ عُمْرِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهِ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ وَمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ عُلُومِهِمْ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ حِكَايَةً يَحْفَظُهَا أَيَّامًا ثُمَّ يَنْسَاهَا وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ أَشَدُّ شَيْءٍ عَلَى الْمُرِيدِ مُعَاشَرَةُ الْأَضْدَادِ وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ حُسَيْنٍ إذَا رَأَيْت الْمُرِيدَ يَشْتَغِلُ بِالرُّخَصِ وَالْكَسْبِ فَلَيْسَ يَجِيءُ

مِنْهُ شَيْءٌ. وَعَنْ الْجُنَيْدِ حِينَ سُئِلَ عَنْ مُجَارَاةِ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ الْحِكَايَاتُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَوِّي بِهَا قُلُوبَ الْمُرِيدِينَ وَعَنْهُ أَيْضًا الْمُرِيدُ الصَّادِقُ غَنِيٌّ عَنْ عِلْمِ الْعُلَمَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَالْمُرَادُ عِنْدَ الْقَوْمِ أَنَّ الْمُرِيدَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ وَالْمُرَادُ هُوَ الْمُنْتَهَى أَوْ الْمُرِيدُ الَّذِي نُصِّبَ بِعَيْنِ التَّعَبِ وَأُلْقَى فِي مُقَاسَاةِ الْمَشَاقِّ وَالْمُرَادُ الَّذِي لَقِيَ الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَسُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الْقَاصِدِينَ مُخْتَلِفَةٌ فَأَكْثَرُهُمْ يُوَفَّقُونَ لِلْمُجَاهَدَاتِ ثُمَّ يَصِلُونَ بَعْدَ مُقَاسَاةِ اللَّتَيَّا وَاَلَّتِي إلَى سَنِيِّ الْمَعَالِي فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُكَاشَفُونَ فِي الِابْتِدَاءِ بِجَلِيلِ الْمَعَانِي وَيَصِلُونَ إلَى مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الرِّيَاضَاتِ إلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يُرَدُّونَ إلَى الْمُجَاهَدَاتِ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْأَحْكَامِ يَعْنِي مِنْ أَحْكَامِ آدَابِ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ. وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ أَنَّ مُوسَى مُرِيدٌ حَيْثُ قَالَ - {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]- وَنَبِيَّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُرَادٌ حَيْثُ - قَالَ لَهُ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]- وَقَالَ مُوسَى - {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]- وَقَالَ لِنَبِيِّنَا - {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45]- وَقِيلَ أَرْسَلَ ذُو النُّونِ إلَى أَبِي يَزِيدَ رَجُلًا وَقَالَ لَهُ إلَى مَتَى النَّوْمُ وَالرَّاحَةُ وَقَدْ جَاوَزَتْ الْقَافِلَةُ فَقَالَ أَبُو يَزِيدَ قُلْ لِأَخِي ذِي النُّونِ الرَّجُلُ مَنْ يَنَامُ اللَّيْلَ كُلَّهُ ثُمَّ يُصْبِحُ فِي الْمَنْزِلِ قَبْلَ الْقَافِلَةِ فَقَالَ ذُو النُّونِ هَنِيئًا لَهُ هَذَا الْكَلَامُ لَا تَبْلُغُهُ أَحْوَالُنَا انْتَهَى كَلَامُ الْقُشَيْرِيَّةِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) لَعَلَّهُ حُجَّةٌ لِمَا مَرَّ مِنْ كَوْنِ الْخَشْيَةِ خَوْفًا مَعَ الِاسْتِعْظَامِ وَالْمَهَابَةِ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُمَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْعِلْمِ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] الْعَارِفُونَ بِجَلَالِ ذَاتِهِ وَعَظَمَةِ صِفَاتِهِ قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى انْحِصَارِ الْخَوْفِ مَعَ الِاسْتِعْظَامِ أَيْ الْخَشْيَةِ فِي الْعُلَمَاءِ وَإِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّهِ عَالِمًا وَلِذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ فَلَيْسَ بِعَالَمٍ كَمَا فِي الْحَاشِيَة وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الْخَشْيَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِمَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُوجِبُ الْخَوْفَ وَاحْتِرَاقَ الْقَلْبِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ بِالنُّحُولِ وَالْبُكَاءِ وَقَدْ تَنْشَقُّ الْمَرَارَةُ فَيَمُوتُ، وَالْجَوَارِحِ بِالْكَفِّ عَنْ الْمَعَاصِي وَالْتِزَامِ الطَّاعَاتِ وَفِي الصِّفَاتِ بِقَمْعِ الشَّهَوَاتِ إلَى أَنْ تَصِيرَ مَكْرُوهَةً عِنْدَهُ فَلَا يَتَفَرَّغُ إلَّا لَهُ تَعَالَى بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي الْأَنْفَاسِ فَقُوَّةُ الْمُرَاقَبَةِ عَلَى قُوَّةِ الْخَوْفِ وَقُوَّةُ الْخَوْفِ عَلَى قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِجَلَالِهِ تَعَالَى وَعُيُوبِ النَّفْسِ وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ الْخَوْفِ الْكَفُّ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ وَيُسَمَّى وَرَعًا وَإِنْ زَادَ إلَى الْكَفِّ عَنْ الشُّبُهَاتِ فَتَقْوَى لِأَنَّهَا فَرْطُ الصِّيَانَةِ وَتَرْكُ مَا يُرِيبُهُ إلَى مَا لَا يُرِيبُهُ وَتَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ لَعَلَّ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ شَيْخِ شَيْخِنَا مُحَمَّدٍ مُرَادٍ الْبُخَارِيِّ النَّقْشَبَنْدِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ أَنَّهُ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَوْقَ سُوقٍ سَقْفٌ بُنِيَ بِالظُّلْمِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَمُرَّ مِنْ تَحْتِهِ وَلَا يَرُوحَ مِنْ ظِلِّهِ وَإِذَا وَصَلَ مِنْ التَّجَرُّدِ إلَى أَنْ لَا يَبْنِيَ مَا لَا يَسْكُنُهُ وَلَا يَجْمَعَ مَا لَا يَلْبَسُهُ وَلَا يَأْكُلَهُ وَلَا يَلْتَفِتَ إلَى دُنْيَا يُفَارِقُهَا وَلَا يَصْرِفَ نَفَسًا مِنْ أَنْفَاسِهِ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى فَيُسَمَّى صَاحِبُهُ صِدِّيقًا فَسَبَبُ الْجَمِيعِ الْخَشْيَةُ وَسَبَبُهَا الْمَعْرِفَةُ وَالْمَعْرِفَةُ بِدَوَامِ الْفِكْرِ وَهُوَ بِدَوَامِ الذِّكْرِ وَإِنَّمَا يَتَيَسَّرُ هَذَا بِانْقِلَاعِ حُبِّ الدُّنْيَا وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بِقَمْعِ الشَّهَوَاتِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بِنَارِ الْخَوْفِ فَالْخَشْيَةُ شَيْءٌ يَحْصُلُ بِهِ الْعِفَّةُ وَالْوَرَعُ وَالتَّقْوَى وَالْمُجَاهَدَةُ {ذَلِكَ} [البينة: 8] أَيْ الْمَذْكُورُ مِنْ الْجِنَانِ وَالرِّضْوَانِ {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] فَإِنَّ الْخَشْيَةَ كَمَا عَرَفْت مِلَاكُ الْأَمْرِ وَبَاعِثُ كُلُّ خَيْرٍ لَعَلَّ هَذِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى فَضْلِ الْخَشْيَةِ (دُنْيَا صف) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَ أَتَّقِي النَّارَ؟ قَالَ بِدُمُوعِ عَيْنَيْك» أَيْ بِكَثْرَةِ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى فُرُطَاتِهِ وَسَقَطَاتِهِ «فَإِنَّ عَيْنًا بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» مِنْ قَبِيلِ وَصْفِ النَّكِرَةِ الْعَامَّةِ بِالصِّفَةِ الْعَامَّةِ

«لَا تَمَسُّهَا النَّارُ أَبَدًا» إنْ لَمْ يَعْرِضْ مُنَافِيَهُ أَوْ مَا دَامَ عَلَى الْخَشْيَةِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ دُخُولِ النَّارِ وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ» فَهُوَ فِي الْمَعْنَى تَعَلَّقَ بِالْمُحَالِ (حب. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِيه عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ) حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ وَهُوَ مَا يَكُونُ لَفْظُهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَعْنَاهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْآنُ مَا يَكُونُ مِنْ اللَّهِ لَفْظًا وَمَعْنَى وَالْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ مَا يَكُونُ مِنْ النَّبِيِّ لَفْظًا وَمَعْنَى وَفِي الْمَشَارِقِ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالْإِلْهَامِ أَوْ الْمَنَامِ فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ مِنْ نَفْسِهِ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلَا أَمْنَيْنِ إذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا آمَنْته» بِالْمَدِّ أَيْ جَعَلْته آمِنًا مِنْ الْعَذَابِ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا أَمِنَنِي» بِالْقَصْرِ «فِي الدُّنْيَا» بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ وَالِانْكِبَابِ عَلَى الْمَعْصِيَاتِ «أَخَفْته» مِنْ الْإِخَافَةِ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» كِنَايَةٌ عَنْ عِقَابِهِ فِيهَا لَعَلَّ هَذَا الْأَمْنَ شَامِلٌ لِمَا يَكُونُ كُفْرًا وَمَا دُونَهُ لَكِنْ احْتِجَاجُ الْمُصَنِّفُ بِمَا لَا يَكُونُ كُفْرًا فَمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا خَوْفُهُ أَشَدَّ كَانَ أَمْنُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدَّ وَبِالْعَكْسِ لِأَنَّ مَنْ أُعْطِيَ عِلْمَ الْيَقِينِ فِي الدُّنْيَا طَالَعَ الصِّرَاطَ وَأَهْوَالَهُ بِقَلْبِهِ فَذَاقَ مِنْ الْخَوْفِ وَرَكِبَ مِنْ الْأَهْوَالِ مَا لَا يُوصَفُ فَيَضَعُهُ عَنْهُ غَدًا وَلَا يُذِيقُهُ مَرَارَتَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَنْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا يَصْنَعُ اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْ سُؤَالِهِ فِي الْقِيَامَةِ وَلَمْ يَجْمَعْ عَلَيْهِ حَيَاءَيْنِ كَمَا لَمْ يَجْمَعْ عَلَيْهِ خَوْفَيْنِ. قَالَ الْعَارِفُونَ الْخَوْفُ خَوْفَانِ خَوْفُ عِقَابٍ وَخَوْفُ

جَلَالٍ وَالْأَوَّلُ نَصِيبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَالثَّانِي نَصِيبُ أَهْلِ الْقُلُوبِ وَالْأَوَّلُ يَزُولُ وَالثَّانِي لَا يَزُولُ. قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ كُلَّمَا صِرْت أَقْرَبَ فَأَمْرُك أَخْوَفُ وَالْمُعَامَلَةُ أَشَدُّ وَالْخَطَرُ أَعْظَمُ فَإِذَنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَمْنِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يَقُولُ كَيْفَ تَأْمَنُ وَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] وَيُوسُفُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101] وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَا يَزَالُ يَقُولُ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ كَأَنَّهُ فِي سَفِينَةٍ يَخْشَى الْغَرَقَ وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَبْكِي كُلَّ لَيْلَةٍ فَقِيلَ أَبُكَاؤُك لِلذُّنُوبِ فَحَمَلَ تِبْنًا فَقَالَ الذُّنُوبُ عَلَى اللَّهِ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا إنَّمَا أَخْشَى أَنْ يَسْلُبَنِي الْإِسْلَامَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى (ت. عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي أَرَى» فِي مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتِهِ مِنْ الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْجَلَّالِيَّةِ وَالْجَمَالِيَّةِ «مَا لَا تَرَوْنَ» لِانْحِجَابِ الْقُلُوبِ وَقُصُورِ الْبَصَائِرِ عَنْ النُّفُوذِ فِي عَوَالِمِ الْغُيُوبِ «وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ» أَنْتُمْ بِالِالْتِهَاءِ بِالْأَغْيَارِ وَالِاشْتِغَالِ بِحَوَادِثِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَامْتِلَاءِ الْأَفْكَارِ مِنْ أَوْسَاخِ الْأَكْدَارِ «أَطَّتْ» مِنْ أَطَّ الرَّجُلُ يَئِطُّ أَطِيطًا وَأَطِيطُ الْإِبِلِ حَنِينُهَا مِنْ ثِقَلِ الْأَحْمَالِ «السَّمَاءُ» مِنْ ثِقَلِ مَا فِيهَا وَهَذَا مَثَلٌ لِكَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ كَثْرَةً لَا يَسَعُهَا عَقْلُ الْبَشَرِ فَهُوَ تَقْرِيبٌ أُرِيدَ بِهِ تَقْرِيبُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى «وَحُقَّ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَوْ الْفَاعِلِ «لَهَا» أَيْ السَّمَاءِ «أَنْ تَئِطَّ» أَيْ يَظْهَرَ لَهَا ذَلِكَ الصَّوْتُ «مَا فِيهَا» أَيْ فِي السَّمَاءِ «مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى سَاجِدًا» تَعْظِيمًا لِجَلَالِهِ وَأَدَاءً لِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ «وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ» مِنْ عِظَمِ جَلَالَتِهِ «لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ وَالشَّفَقَةِ مِنْ الِانْتِقَامِ «وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ» مِنْ هَوْلِ مَا عَلِمْتُمْ «وَلَخَرَجْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ» أَيْ إلَى وُجُوهِ الْأَرَاضِي «تَجْأَرُونَ» تَسْتَغِيثُونَ بِالدُّعَاءِ «إلَى اللَّهِ تَعَالَى» مِنْ رُؤْيَتِكُمْ إفْرَاطَ قُصُورِكُمْ فِي خِدْمَةِ مَوْلَاكُمْ وَقُوَّةِ تَقَاعُدِكُمْ عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ أَيْ لَخَرَجْتُمْ إلَى الْمَفَاوِزِ الصَّحَارِي وَتَوَطَّنْتُمْ فِي الْجِبَالِ وَالْمَغَارَاتِ لِلتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَلِلْعُزْلَةِ وَالْوِحْدَةِ لِتَحْصِيلِ الطَّاعَاتِ وَرَغَبَاتِ الْعِبَادَاتِ (لَوَدِدْت) تَمَنَّيْت مِنْ عِظَمِ مَا أَرَى وَأَسْمَعُ وَأَعْلَمُ (أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ) تُقْطَعُ بِالْعَضُدِ وَهُوَ حَدِيدَةٌ تُتَّخَذُ لِقَطْعِ الشَّجَرِ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوَدِدْت» أَيْ تَمَنَّيْت «أَنِّي كُنْت شَجَرَةً تُعْضَدُ» أَيْ تُقْطَعُ فَيُوقَدُ بِهَا كَذَا قِيلَ لَكِنْ الظَّاهِرُ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ فَاعِلَ قَالَ ضَمِيرٌ لِأَبِي ذَرٍّ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى كَالثَّانِيَةِ لِأَبِي ذَرٍّ أَدْرَجَهُ بِكَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ

فِي صُدُورِ مِثْلِهِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَوْعَ بُعْدٍ لِكَوْنِهِ مَغْفُورًا لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ أَقُولُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ «لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا» وَقَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ خَوْفَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِمْ فَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ لِخَوْفِ الْعَذَابِ بَلْ لِمَهَابَتِهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ قَدْرِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ (وَعَنْ الْفُضَيْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) بْنِ عِيَاضٍ الْوَلِيِّ الْجَلِيلِ خُرَاسَانِيِّ الْأَصْلِ مِنْ نَاحِيَةِ مَرْوَ مَاتَ فِي مَكَّةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَمِنْ مَقُولِهِ إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَكْثَرَ غَمَّهُ وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا أَوْسَعَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ إذَا مَاتَ الْفُضَيْلُ ارْتَفَعَ الْحُزْنُ وَمِنْ مَقُولِهِ لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا بِزَخَارِفِهَا عُرِضَتْ عَلَيَّ وَلَا أُحَاسَبُ عَلَيْهَا لَكُنْت أَتَقَذَّرُ عَلَيْهَا كَمَا يَتَقَذَّرُ أَحَدُكُمْ مِنْ الْجِيفَةِ إذَا مَرَّ بِهَا أَنْ تُصِيبَ ثَوْبَهُ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرَّازِيّ صَحِبْت الْفُضَيْلَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا رَأَيْته ضَاحِكًا وَلَا مُتَبَسِّمًا إلَّا يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ فَقُلْت لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَمْرًا فَأَحْبَبْته كَذَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ (إنِّي لَا أَغْبِطُ) مِنْ الْغِبْطَةِ (مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا وَلَا عَبْدًا صَالِحًا) هُوَ مَنْ صَرَفَ عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ تَعَالَى الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّنَزُّلِ خِلَافُ التَّرَقِّي لَكِنْ ذِكْرُ الْآخَرِ بَعْدَ الْأَوَّلَيْنِ لِمُجَرَّدِ الْبَسْطِ وَالْإِطْنَابِ وَإِلَّا فَكَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِمَا وَأَشَارَ إلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ (أَلَيْسَ هَؤُلَاءِ يُعَايِنُونَ الْقِيَامَةَ) أَهْوَالَهَا وَأَحْوَالَهَا لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَعْصُومَ لَيْسَ لَهُ خَوْفُ الْقِيَامَةِ فَظَاهِرُهُ يُنَافِي عِصْمَتَهُمْ إلَّا أَنْ يُقَالَ خَوْفُهُمْ مِنْ الْمُعَايَنَةِ لَا لِنَفْسِهِمْ بَلْ لِغَيْرِهِمْ كَالْأُمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ يَزْدَادُ خَوْفُ الْمَهَابَةِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ لِازْدِيَادِ الْمَعْرِفَةِ بِظُهُورِ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْقَوِيَّةِ (إنَّمَا أَغْبِطُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ) فِيهِ مُسَامَحَةٌ إذْ الْغِبْطَةُ: تَمَنِّي مِثْلِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ كَانَ الْفُضَيْلُ شَاطِرًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ بَيْنَ أَبِي وَرْدٍ وَسَرْخَسَ وَكَانَ سَبَبُ تَوْبَتِهِ أَنَّهُ عَشِقَ جَارِيَةً فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَرَقَّى الْجُدْرَانَ إلَيْهَا سَمِعَ تَالِيًا يَتْلُو - {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]- فَقَالَ يَا رَبِّ قَدْ تُبْت فَرَجَعَ فَأَدَّاهُ اللَّيْلُ إلَى خَرِبَةٍ فَإِذَا فِيهَا رِفْقَةٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَرْتَحِلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ حَتَّى نُصْبِحَ فَإِنَّ فُضَيْلًا عَلَى الطَّرِيقِ يَقْطَعُ عَلَيْنَا قَالَ فَتَابَ الْفُضَيْلُ وَآمَنَهُمْ وَجَاوَرَ الْحَرَمَ حَتَّى مَاتَ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي رَوْضَةِ الزَّنْدَوَسْتِيِّ بِغَيْرِ هَذَا (وَعَنْ عَطَاءِ) بْنِ أَبِي رَبَاحٍ التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ (لَوْ أَنَّ نَارًا أُوقِدَتْ فَقِيلَ مَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِيهَا صَارَتْ) أَيْ تِلْكَ النَّفْسُ (لَا شَيْئًا)

أَيْ مَعْدُومًا لَا يَرَى الْقِيَامَةَ وَالْحِسَابَ كَالْحَيَوَانَاتِ (لَخَشِيت أَنْ أَمُوتَ مِنْ الْفَرَحِ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ) مِنْ الْوُصُولِ (إلَى النَّارِ) لِأَنَّ الْفَرَحَ الْغَالِبَ قَدْ يُؤَدِّي إلَى الْمَوْتِ وَإِنَّمَا قَالَ لَخَشِيت إلَخْ لِعَدَمِ حُصُولِ مَقْصُودِهِ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى النَّارِ فَيُحْشَرُ فِي الْقِيَامَةِ فَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ لَخَشِيت أَنْ أَمُوتَ مِنْ الْفَرَحِ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إلَى النَّارِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومَ الْوُجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَقُولُ هَذَا مِثْلُهُ تَصْوِيرٌ لِرُتْبَةِ خَوْفِ اللَّهِ وَتَنْظِيرٌ لِشِدَّةِ هَوْلِ الْقِيَامَةِ وَتَهْوِيلُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْعُصَاةِ وَإِلَّا فَالْوُجُودُ مِنْ أَشْرَفِ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ وَطَلَبَ شُكْرَهَا مِنْهُمْ فَلَا يَلْزَمُ الْكُفْرَانُ أَيْضًا (وَعَنْ السَّرِيِّ) السَّقَطِيِّ خَالِ الْجُنَيْدِ وَأُسْتَاذِهِ وَتِلْمِيذِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ أَوْحَدِ زَمَانِهِ فِي الْوَرَعِ وَالْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ رَوَى أَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ فِي السُّوقِ فَجَاءَ مَعْرُوفٌ يَوْمًا وَمَعَهُ صَبِيٌّ يَتِيمٌ فَقَالَ اُكْسُ هَذَا الْيَتِيمَ فَكَسَاهُ فَفَرِحَ بِهِ وَقَالَ بَغَّضَ اللَّهُ إلَيْك الدُّنْيَا وَأَرَاحَك مِمَّا كُنْت فِيهِ فَقَامَ مِنْ الْحَانُوتِ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَنُقِلَ عَنْهُ: كُلُّ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ بَرَكَاتِ مَعْرُوفٍ وَيُحْكَى عَنْهُ أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً فِي الِاسْتِغْفَارِ مِنْ قَوْلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ مَرَّةً قِيلَ لَهُ كَيْفَ ذَلِكَ قَالَ وَقَعَ بِبَغْدَادَ حَرِيقٌ فَاسْتَقْبَلَنِي وَاحِدٌ فَقَالَ لَمْ يُحْرَقْ حَانُوتُك فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَمُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَنَا نَادِمٌ عَلَى مَا قُلْت حَيْثُ أَرَدْت لِنَفْسِي خَيْرًا مِمَّا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ وَعَنْ الْجُنَيْدِ يَقُولُ سَمِعْت السَّرِيَّ يَقُولُ أُعَرِّفُك طَرِيقًا مُخْتَصَرًا قَصْدًا إلَى الْجَنَّةِ فَقُلْت لَهُ مَا هُوَ فَقَالَ أَنْ لَا تَسْأَلَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا تَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا يَكُونَ مَعَك شَيْءٌ تُعْطِي أَحَدًا وَعَنْ الْجُنَيْدِ يَقُولُ دَخَلْت يَوْمًا عَلَى السَّرِيِّ وَهُوَ يَبْكِي فَقُلْت مَا يُبْكِيك فَقَالَ جَاءَتْنِي الْبَارِحَةَ الصِّبْيَةُ فَقَالَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ حَارَّةٌ فَخُذْ الْكُوزَ فَعَلِّقْهُ هَاهُنَا ثُمَّ إنِّي غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَرَأَيْت جَارِيَةً مِنْ أَحْسَنِ الْخَلْقِ قَدْ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ فَقُلْت لِمَنْ أَنْتِ فَقَالَتْ لِمَنْ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ الْمُبَرَّدَ فِي الْكِيزَانِ فَتَنَاوَلْت الْكُوزَ فَضَرَبْت بِهِ الْأَرْضَ (أَنَّهُ قَالَ أَنَا أَنْظُرُ فِي أَنْفِي فِي الْيَوْمِ كَذَا وَكَذَا) قِيلَ كِنَايَةٌ عَنْ إحْدَى وَعِشْرِينَ (مَرَّةً) تَمْيِيزٌ لِكَذَا وَكَذَا لَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِي الْفِقْهِ (مَخَافَةَ أَنْ تَسْوَدَّ صُورَتِي لِمَا أَتَعَاطَاهُ) مِنْ الْفُرُطَاتِ وَالتَّقْصِيرَاتِ (وَعَنْهُ) أَيْ السَّرِيِّ (أَنَّهُ قَالَ أَشْتَهِي) أُحِبُّ (أَنْ أَمُوتَ بِبَلْدَةٍ غَيْرِ بَغْدَادَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَقْبَلَنِي قَبْرِي) فَيَلْفِظَنِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ (فَأَفْتَضِحَ) بَيْنَ الْأَحْبَابِ وَالْأَبَاعِدِ الْكُلُّ مَتْنًا وَشَرْحًا مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ هَذَا خَوْفُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَمَّا خَوْفُ غَيْرِهِمْ فَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى جَبْرَائِيلَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَصْرُخُ إلَهِي لَا تُغَيِّرْ اسْمِي وَلَا تُبَدِّلْ جِسْمِي وَإِنَّ إبْلِيسَ بَعْدَ عِبَادَتِهِ ثَمَانِينَ أَلْفَ سَنَةٍ آلَى أَنْ لَا يَتْرُكَ مَوْضِعَ قَدَمٍ إلَّا وَقَدْ سَجَدَ فَتَرَكَ أَمْرًا وَاحِدًا فَلَعَنَهُ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا أَلِيمًا أَبَدَ الْآبِدِينَ وَأَنَّ آدَمَ صَفِيَّ اللَّهَ وَنَبِيَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ وَحَمَلَهُمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ إلَى جِوَارِهِ ثُمَّ بِأَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ فَأَوْقَعَهُ بِالْأَرْضِ وَبَكَى إلَى مِائَتَيْ سَنَةٍ وَتَبِعَتْهُ ذُرِّيَّتُهُ فِيهَا إلَى الْأَبَدِ وَأَنَّ نُوحًا مَعَ كَوْنِهِ شَيْخَ الْمُرْسَلِينَ الَّذِي احْتَمَلَ فِي أَمْرِ دِينِهِ مَا احْتَمَلَ فَبِقَوْلِهِ كَلِمَةً وَاحِدَةً نُودِيَ - {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]- حَتَّى قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَيَاءً مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلَّا هَفْوَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَمْ خَافَ وَتَضَرَّعَ إلَى أَنْ قَالَ - {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء: 82]- حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ بَكَى مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ إلَى أَنْ أَرْسَلَ

تَعَالَى جَبْرَائِيلَ يَقُولُ يَا إبْرَاهِيمُ هَلْ رَأَيْت خَلِيلًا يُعَذِّبُ خَلِيلَهُ بِالنَّارِ فَقَالَ يَا جَبْرَائِيلُ إذَا ذَكَرْتُ خَطِيئَتِي نَسِيت خُلَّتَهُ وَأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إلَّا لَطْمَةٌ عَلَى خَدِّهِ كَمْ خَافَ وَتَضَرَّعَ وَقَالَ {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] وَفِي زَمَانِهِ بَلْعَمُ بْنُ بَاعُورَا كَانَ لَهُ قُوَّةُ رُؤْيَةِ الْعَرْشِ وَيُوضَعُ فِي مَجْلِسِهِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَحْبَرَةٍ لِلْمُتَعَلِّمِينَ فَمَيْلُهُ إلَى الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا مَيْلَةً وَاحِدَةً وَتَرْكُهُ لِوَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ سَلَبَ اللَّهُ مَعْرِفَتَهُ وَأَوْقَعَهُ فِي بَحْرِ الضَّلَالَةِ أَبَدَ الْآبِدِينَ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ سُخْطِهِ وَقَطِيعَةِ خِذْلَانِهِ الَّذِي لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ فَانْظُرْ حُبَّ الدُّنْيَا وَشُؤْمَهَا مَاذَا يَجْلِبُ لِلْعُلَمَاءِ خَاصَّةً فَتَنَبَّهْ فَالْأَمْرُ خَطِيرٌ وَالْعُمْرُ قَصِيرٌ وَفِي الْعَمَلِ تَقْصِيرٌ وَالنَّاقِدُ بَصِيرٌ وَأَنَّ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَذْنَبَ ذَنْبًا وَاحِدًا فَبَكَى إلَى أَنْ نَبَتَ الْعُشْبُ فِي الْأَرْضِ مِنْ دُمُوعِهِ وَقَالَ: أَمَا تَرْحَمُ بُكَائِي وَتَضَرُّعِي فَأُجِيبَ يَا دَاوُد نَسِيت ذَنْبَك وَذَكَرْت بُكَاءَك وَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَنَّ يُونُسَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِغَضَبٍ وَاحِدٍ سَجَنَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَسَبَّحَ وَشَفَعَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49]- وَأَنَّ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قَوْله تَعَالَى - {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ - الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2 - 3] وَ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]- «كَانَ يُصَلِّي كُلَّ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَيَقُولُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . «وَكَانَ يَقُولُ لَوْ أَنِّي وَعِيسَى أُخِذْنَا بِمَا كَسَبْت هَاتَانِ لَعُذِّبْنَا عَذَابًا لَمْ يُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ» . «وَكَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ وَيَقُولُ أَعُوذُ بِعَفْوِك مِنْ عِقَابِك وَبِرِضَاك مِنْ سَخَطِك» . الْكُلُّ مِنْ مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ وَالتَّأْوِيلِ لِمَا ذُكِرَ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ فَافْهَمْ. ثُمَّ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ نُصْحَ الْإِخْوَانِ اسْتِشْفَاقًا بِهِمْ فَقَالَ (فَيَا أَيُّهَا الْإِخْوَانُ) الْفَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَعْلُولِ إذْ مَا ذُكِرَ مِنْ خَوْفِ الْمُقَرَّبِينَ عِلَّةٌ لِمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وَعَبَّرَ بِالْإِخْوَانِ إذْ مَعْنَى الْأُخُوَّةِ يُوجِبُ الشَّفَقَةَ فَالنَّصِيحَةُ لَهُمْ تَرْغِيبًا لِمَا يَنْفَعُهُمْ وَتَرْهِيبًا مِمَّا يَضُرُّهُمْ (ذَوُو الْإِجْرَامِ) جَمْعُ جُرْمٍ قِيلَ أَيْ أَصْحَابُ الْمَعَاصِي الْعَظِيمَةِ وَالْأَوْزَارِ الْفَخِيمَةِ (اُنْظُرُوا إلَى هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامِ الْكِرَامِ) مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الْعِظَامِ بَلْ الْأَنْبِيَاءِ الْفِخَامِ (وَالْمَشَايِخِ الْبَرَرَةِ) جَمْعُ بَرٍّ (الْخِيرَةِ) بِمَعْنَى الْخِيَارِ (الْعِظَامِ) أَشْكَلَ بِأَنَّهُ جَمْعُ عَظْمٍ وَجَمْعُ عَظِيمٍ إنَّمَا هُوَ عُظَمَاءُ (كَيْفَ خَافُوا) أَيْ كَيْفِيَّةُ خَوْفِهِمْ مِنْ الْقُوَّةِ (مَخَافَةً لَيْسَ فِينَا عُشْرُ عُشْرِهَا) مَعَ مَا كَانَ فِينَا مِنْ التَّقْصِيرَاتِ وَالزَّلَّاتِ وَالْمُيُولَاتِ الْفَاسِدَةِ وَتَبَعِيَّةِ النَّفْسِ الْأَمَارَةِ الْكَاسِدَةِ وَارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِصْرَارِ الصَّغَائِرِ دَائِمًا مَعَ عَدَمِ إتْيَانِ طَاعَتِهِ بِشَرَائِطِهَا وَعَدَمِ أَدَاءِ عِبَادَتِهِ بِكَمَالِهَا وَهُمْ مُتَجَرِّدُونَ عَنْ عَوَائِقِ أَنْفُسِهِمْ وَمُتَبَحِّرُونَ فِي اسْتِغْرَاقِ قُدْسِهِمْ صَارِفُونَ دَقَائِقَ أَوْقَاتِهِمْ إلَى رِضَا رَبِّهِمْ وَبَاذِلُونَ جُهْدَهُمْ إلَى تَبَعِيَّةِ نَبِيِّهِمْ (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِهَا) بِالْمُخَالَفَةِ (مِنْهُمْ بِمَرَاتِبَ) كَثِيرَةٍ (لَا تُحْصَى وَلَا سَبَبَ لِهَذَا) الْأَمْنِ مِنَّا وَالْخَوْفِ مِنْهُمْ (إلَّا أَنَّ قُلُوبَنَا غَافِلَةٌ) عَنْ اللَّهِ لَاهِيَةٌ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا عَنْ مُطَالَعَةِ اللَّاهُوتِ وَالْجَبَرُوتِ (قَاسِيَةٌ) غَلِيظَةٌ لَا تَتَّعِظُ بِالْمَوَاعِظِ (وَقُلُوبُهُمْ ذَاكِرَةٌ) لَهُ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا تَغِيبُ لَحْظَةً (زَاكِيَةٌ) طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ عَنْ الْأَوْسَاخِ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مُلْهٍ عَنْ اللَّهِ فَهُوَ نَجِسٌ (صَافِيَةٌ) مِنْ أَكْدَارِ الشَّوَاغِلِ وَالْحُظُوظِ النَّفْسَانِيَّةِ (فَمَا بَقِيَ فِينَا) عَلَى حَسْبِ عَادَتِهِ تَعَالَى (سَبَبُ رَجَاءِ) رَحْمَتِهِ تَعَالَى وَخَلَاصِ قَهْرِهِ (إلَّا أَنَّ كُلَّنَا اشْتَاقَ) لَعَلَّ الْأَوْلَى نَشْتَاقُ (إلَيْهِمْ وَأَحَبَّ) فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ مُوجِبَةٌ لِلْوَصْلَةِ كَمَا قَالَ (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَمَا مَرَّ «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» فَعَلَى قَدْرِ الْمَحَبَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ قَدْرُ الْمَعِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ لَكِنْ

فِي أَصْلِ الْكَرَامَةِ لَا فِي جَمِيعِ الدَّرَجَاتِ كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ كَمَا نُسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْت مِنْهُمْ ... وَلَكِنِّي بِهِمْ أَرْجُو الشَّفَاعَةَ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حَشَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي زُمْرَتِهِمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا وَوَالَاهُمْ حَشَرَهُ اللَّهُ فِيهِمْ» قَالَ فِي شَرْحِهِ فَمَنْ أَحَبَّ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَنَ فَهُوَ مَعَهُمْ فِي الْجِنَانِ وَمَنْ أَحَبَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ مَعَهُمْ فِي النِّيرَانِ فَالْمُحِبُّ مَعَ مَحْبُوبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِي حَدِيثِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إلَّا جَعَلَهُ مِنْهُمْ» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ بِعَمَلِهِمْ ثُمَّ قَالَ أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَعَ مَنْ أَحْبَبْت فَأَعَادَهَا أَبُو ذَرٍّ فَأَعَادَهَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» لَكِنْ يُعَارِضُ مِثْلَهُ قَوْلُ الْحَسَنِ يَا ابْنَ آدَمَ لَا يَغُرَّنَّكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ فَإِنَّك لَنْ تَلْحَقَ الْأَبْرَارَ إلَّا بِأَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُحِبُّونَ أَنْبِيَاءَهُمْ وَلَيْسُوا مَعَهُمْ. وَعَنْ الْغَزَالِيِّ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْمَحَبَّةِ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ لَيْسَتْ بِمُفِيدَةٍ. وَعَنْ الْفُضَيْلِ أَتُرِيدُ أَنْ تَسْكُنَ الْفِرْدَوْسَ وَتُجَاوِرَ الرَّحْمَنَ فِي دَارِهِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِأَيِّ عَمَلٍ عَمِلْت بِأَيِّ شَهْوَةٍ تَرَكْت بِأَيِّ غَيْظٍ كَظَمْت بِأَيِّ رَحِمٍ وَصَلْت وَأُجِيبَ الْمُحِبُّ لِقَوْمٍ إمَّا مُوَافِقٌ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَإِمَّا مُخَالِفٌ فِي الْكُلِّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ وَلَا يُحْشَرُ مَعَهُمْ وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْغَزَالِيُّ كَلَامَ الْحَسَنِ وَإِمَّا مُوَافِقٌ فِي الْبَعْضِ مُخَالِفٌ فِي الْبَعْضِ فَإِنْ خَالَفَهُمْ فِي الْإِيمَانِ فَلَيْسَ مِنْهُمْ قَطْعًا فَمَحَبَّةُ الْيَهُودِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَإِنْ الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِيمَانِ وَالْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ تَرْجِيحًا لِلْغَيْرِ وَكَسَلًا بِلَا اعْتِنَاءٍ لَهَا فَلَا يَنْفَعُهُ مُجَرَّدُ الْمَحَبَّةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرْجِيحًا وَكَسَلًا بَلْ عَجْزٌ مَعَ اجْتِهَادٍ وَتَقْصِيرٌ بِضَرُورَةٍ فَيُرْجَى لُحُوقُهُ بِهِمْ وَحَشْرُهُ مَعَهُمْ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلِهَذَا اشْتَدَّ فَرَحُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ لَعَلَّ تَحْقِيقَهُ شَرْطِيَّةُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُحِبُّ جِنْسَ عَمَلِ الْمَحْبُوبِينَ حَسْبَمَا اسْتَطَاعَ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَمْثَالِ أَعْمَالِهِمْ أَعْيَانًا وَأَفْرَادًا فَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِهِ (إنْ كَانَ مُجَرَّدُ الْمَحَبَّةِ مِنْهَا) لَهُمْ لِصَلَاحِهِمْ (بِدُونِ الِاتِّبَاعِ) فِي الْجَمِيعِ (يُعْتَدَّ بِهَا) أَيْ بِالْمَحَبَّةِ وَبِالْجُمْلَةِ مَحَبَّةُ الصَّالِحِينَ أَمْرٌ مُهِمٌّ رَجَاءَ اللِّحَاقِ بِهِمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا قَالَ شَاءَ الْكَرْمَانِيُّ مَا تَعَبَّدَ مُتَعَبِّدٌ بِأَكْثَرَ مِنْ التَّحَبُّبِ إلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَإِذَا أَحَبَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ فَأَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ مَنْ صَحِبَ الْأَوْلِيَاءَ بِصِدْقٍ أَلْهَاهُ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَمِيعِ أَشْغَالِهِ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَشُمَّ رَائِحَةَ الِاشْتِغَالِ بِاَللَّهِ أَبَدًا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ قَالَ فَقُلْت يَا سَيِّدِي أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ فَقَالَ وُقُوفُك بَيْنَ يَدَيْ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَحَلْبِ شَاةٍ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ إرَبًا إرَبًا فَقُلْت حَيًّا وَمَيِّتًا؟ فَقَالَ نَعَمْ. ثُمَّ أَقُولُ تَفْصِيلًا آخَرَ لَعَلَّك لَا تَسْأَمُ وَلَا تَمَلُّ لِنَفَاسَتِهِ وَعِزَّةِ مَطْلُوبِهِ إذْ إنَّ الْمَحَبَّةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِشَيْءٍ مَا لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى الْغَيْرِ كَالدَّرَاهِمِ فَإِنْ أُرِيدَ التَّوَسُّلُ إلَى مَذْمُومٍ فَمَذْمُومٌ وَإِنْ إلَى مَمْدُوحٍ فَمَمْدُوحٌ وَإِلَى مُبَاحٍ فَمُبَاحٌ إذْ لِلْوَسَائِلِ أَحْكَامُ الْمَقَاصِدِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَحَبَّةُ اللَّهِ قَصْدًا وَأَمَّا لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ لِحَظٍّ أُخْرَوِيٍّ كَمَنْ يُحِبُّ شَيْخَهُ وَأُسْتَاذَهُ لِتَوَسُّلِهِمَا إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا الْفَوْزُ وَكَذَا مَحَبَّةُ الْأُسْتَاذِ تِلْمِيذَهُ وَكَذَا مَحَبَّةُ الْمَالِ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إلَيْهِ تَعَالَى أَوْ لِيَتَفَرَّغَ بِهِ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَكَذَا مَحَبَّةُ امْرَأَتِهِ الصَّالِحَةِ لِيَتَحَصَّنَ بِهَا عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ فَهُوَ مُحِبٌّ لِلَّهِ وَإِمَّا لِذَاتِهِ يَعْنِي يُحِبُّ لِلَّهِ وَفِي اللَّهِ لَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَمْرٍ وَرَاءَ ذَاتِهِ وَهَذَا أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَمِنْ آثَارِ هَذَا الْحُبِّ أَنْ يَتَعَدَّى مِنْ الْمَحْبُوبِ إلَى مُتَعَلَّقَاتِهِ وَمُنَاسَبَاتِهِ حَتَّى مَنْزِلَتِهِ وَمَحَلَّتِهِ وَجِيرَانِهِ حَتَّى قِيلَ إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَحَبَّ الْمُؤْمِنَ أَحَبَّ كَلْبَهُ فَكَذَا إذَا غَلَبَ حُبُّ اللَّهِ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَاهُ لِأَنَّهُ مِنْ آثَارِهِ كَمَنْ أَحَبَّ خَطَّ حَبِيبِهِ وَصَنْعَتِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا حَمَلَ إلَيْهِ بَاكُورَةً مَسَحَ بِهَا عَيْنَهُ وَأَكْرَمَهَا وَقَالَ إنَّهَا قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِرَبِّهَا وَإِنْ كَانَ الْحُبُّ لَحَظٍّ يَنَالُ مِنْ الْمَحْبُوبِ كَحُبِّ الْمَوْتَى مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ لِيَنَالَ مِنْهُمْ مَا يَنَالُ حَالًا وَمَآلًا فَحُبٌّ لِلَّهِ

أَيْضًا ثُمَّ تَضَرَّعَ الْمُصَنِّفُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهَمُّ (فَيَا غِيَاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ) الْغَوْثُ الْمَدَدُ (وَيَا مُجِيبَ الْمُضْطَرِّينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] وَقَالَ - {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] وَقَالَ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]- (وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ) وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ قَالَ ثَلَاثًا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ نَادَاهُ مُنَادِيَانِ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَقْبَلَ عَلَيْك فَسَلْ مَا شِئْت» (وَيَا غَافِرَ الْمُذْنِبِينَ بِحُرْمَةِ حَبِيبِك الْمُصْطَفَى وَنَبِيِّك الْمُجْتَبَى) الْمُخْتَارِ مِنْ بَيْنَ الْخَلْقِ (عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ أَزْكَاهَا) أَنْمَاهَا وَأَزْيَدُهَا (وَمِنْ التَّحِيَّاتِ) التَّعْظِيمَاتِ (أَوْفَاهَا) أَكْمَلُهَا وَأَعْلَاهَا (وَجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ وَ) بِحُرْمَةِ (أَصْحَابِ حَبِيبِك) الْإِضَافَةُ لِلتَّعْظِيمِ وَالِاشْتِشْفَاقِ (هُمْ السَّابِقُونَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ السَّابِقِينَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] (رَضِيتَ) يَا رَبَّنَا (عَنْهُمْ وَهُمْ عَنْك رَاضُونَ) وَقُلْت فِي شَأْنِهِمْ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] الْآيَةَ وَقُلْت {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8] (وَ) بِحُرْمَةِ (التَّابِعِينَ لَهُمْ) أَيْ لِلصَّحَابَةِ (بِإِحْسَانٍ عَلَيْهِمْ) أَيْ التَّابِعِينَ (الرَّحْمَةُ وَالْغُفْرَانُ) كَأَنَّهُ بَدَلُ دُعَاءِ الصَّحَابَةِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ رَضِيت وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَالُوا يَنْبَغِي التَّرْضِيَةُ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّرَحُّمُ لِسَائِرِ الْمَشَايِخِ (ارْحَمْنَا فَإِنَّا مُجْرِمُونَ وَبِالْآثَامِ وَالْخَطَايَا مُعْتَرِفُونَ) . قَالَ فِي الْحِصْنِ الْحَصِينِ عِنْدَ تَعْدَادِ آدَابِ الدُّعَاءِ وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْعِظَامِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَيَتَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْبِيَائِهِ وَالصَّالِحِينَ وَيَعْتَرِفَ بِالذَّنْبِ وَلَا يَخُصَّ نَفْسَهُ إنْ إمَامًا وَيَسْأَلَ بِعَزْمٍ وَرَغْبَةٍ وَجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ بِحُسْنِ رَجَاءٍ وَيُكَرِّرَ الدُّعَاءَ وَيُلِحَّ فِيهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ هُنَا مُرَاعَاةً لِمَا ذُكِرَ (وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا فِي الْفَيْضِ عَنْ الشَّعْرَانِيِّ عَنْ الْبُرْهَانِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ وَاحِدٍ طُولَ عُمْرِهِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الرِّضَا وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ الْعَفْوَ فَإِذَا حَصَلَ حَصَلَ الرِّضَا كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْكُمَّلِ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى فَلَعَلَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ بَلْ الْأَحْوَالِ وَلِذَا قَالُوا الْأَوْلَى لِلْعَوَامِّ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ وَلِلْخَوَاصِّ الدُّعَاءُ بِإِلْحَاقِ الرُّفَقَاءِ الْعَلِيَّةَ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةَ وَلِذَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْفَوْزَ بِالْقَضَاءِ وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ وَمُرَافَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ» . وَقَدْ قِيلَ مِنْ دُعَاءِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اللَّهُمَّ اجْعَلْ دَرَجَاتِنَا فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَاحْشُرْنَا مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَفِي الْحَدِيثِ فِي الدُّعَاءِ «وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا» قَالَ فِي شَرْحِهِ وَلَعَمْرِي إنَّهُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) أَيْ الصَّالِحِينَ - وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِمْ (إنَّك أَنْتَ الرَّحِيمُ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يُخَصُّ بِالْآخِرَةِ وَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ يَصِفَهُ تَعَالَى بِمَا يُنَاسَبُ دُعَاءَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ وَلِذَا قَالَ أَيْضًا (الْغَفَّارُ وَلِعُيُوبِ عِبَادِك) فِي الْإِضَافَةِ اسْتِعْطَافٌ وَاسْتِرْحَامٌ (الْمُذْنِبِينَ سَتَّارُ) لَعَلَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ فَافْهَمْ (آمِينَ آمِينَ) تَكْرِيرٌ لِرِعَايَةِ نَدْبِيَّةِ الْإِلْحَاحِ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا مَعْنَاهُ اسْتَجِبْ دُعَاءَنَا وَقِيلَ وَقِيلَ (يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ) قِيلَ هُمَا

الرابع والأربعون اليأس

مِنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ أَيْ الْبَالِغِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ الْغَايَةَ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا يُقَالُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ الصِّفَةِ إلَى غَايَةٍ لَا تُدْرِكُهَا الْخَلْقُ. فَإِنْ قِيلَ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ تَقْتَضِيَانِ ثُبُوتَ الرَّحْمَةِ وَزِيَادَةَ الْكَرَمِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى قُلْنَا أَوَّلًا قَدْ سَقَطَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا آنِفًا وَثَانِيًا مِثْلُهُمَا مِنْ قَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ كَمَا فِي أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ أَوْ لِلْمُشَارَكَةِ فِي جِنْسِ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ وَلَوْ صُورَتَيْنِ أَوْ وَلَوْ فِي اعْتِقَادِهِمْ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. ثُمَّ فَلْنُوَاظِبْ بِأَدْعِيَةٍ صَحَّتْ عَنْ عَارِفِي خَوَاصِّ الْأَدْعِيَةِ وَمَبْلَغِ مَا هُوَ أَهَمُّ وَأَنْفَعُ لَنَا سِيَّمَا الْمُنَاسِبُ فِي مَقَامِنَا نَحْوُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك حُبَّك وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّك وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّك اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّك أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمَالِي وَمِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي حُبَّك وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَك اللَّهُمَّ فَمَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوتًا لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْت عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك» اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَبِيَّنَا لَنَا فَرَطًا وَحَوْضَهُ لَنَا مَوْرِدًا اللَّهُمَّ اُحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ وَاسْتَعْمِلْنَا بِسُنَّتِهِ وَتَوَفَّنَا عَلَى مِلَّتِهِ وَاجْعَلْنَا فِي حِزْبِهِ اللَّهُمَّ وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ كَمَا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَرَهُ اللَّهُمَّ وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَتَّى تُدْخِلَنَا مُدْخَلَهُ وَاجْعَلْنَا مِنْ رُفَقَائِهِ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا آمِينَ ثُمَّ آمِينَ بِحُرْمَةِ مَنْ بَعَثْته رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَأْسُ] (الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ) (الْيَأْسُ) أَيْ قَطْعُ الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ (مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ تَذَكُّرُ فَوَاتِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ) لِغَلَبَةِ ذَنْبِهِ وَمُبَالَغَةِ فُرُطَاتِهِ (وَقَطْعِ الْقَلْبِ عَنْ ذَلِكَ) بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ قَلْبِهِ رَجَاءُ الرَّحْمَةِ (وَهُوَ كُفْرٌ) يُرِيدُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ جَعْلِ قَسِيمِ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ إذْ الْكُفْرُ ذُكِرَ مُقَدَّمًا وَإِنْ اُعْتُبِرَ مَا يُقَالُ إنَّهُ إذَا قُوبِلَ الْخَاصُّ بِالْعَامِ يُرَادُ مِنْ الْعَامِ مَا عَدَا الْخَاصِّ فَبَعْدَهُ تَسْلِيمُ صِحَّتِهِ هُنَا بَعْدَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْكَثِيرَةِ يُوجَدُ الْكُفْرُ أَيْضًا فِي ضِمْنِ أَكْثَرِ الْأَقْسَامِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِهِ تَضَمُّنًا وَمُطَابَقَةً لَكِنْ الْمُنَاسِبُ بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ فَافْهَمْ (كَالْأَمْنِ وَضِدُّهُ الرَّجَاءُ وَهُوَ ابْتِهَاجٌ) سُرُورٌ (فِي الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِرْوَاحُهُ) طَلَبُ رَاحَتِهِ (إلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ) أَيْ إلَى رَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] «وَأَنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ عَلَى غَضَبِي» وَفِي الْخَبَرِ «إذَا قَالَ الْعَبْدُ يَا كَرِيمُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا عَبْدِي مَاذَا رَأَيْت مِنْ كَرَمِي وَأَنْتَ فِي السِّجْنِ اصْبِرْ حَتَّى تَرَى كَرَمِي فِي الْجَنَّةِ» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إنَّ إبْلِيسَ لَيَرْفَعَ رَأْسَهُ لِمَا يَرَى مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ وَفِي الْمَشَارِق عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنْ النَّارِ وَلَا أَنَا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِي إلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَوْهِينَ أَمْرِ الْعَمَلِ بَلْ نَفْيَ الِاغْتِرَارِ بِهِ (وَسَبَبُهُ ذِكْرُ سَوَابِقِ فَضْلِهِ إلَيْنَا مِنْ غَيْرِ أَمَلٍ وَلَا شَفِيعٍ) لَعَلَّهَا نَحْوُ نِعْمَةِ الْوُجُودِ وَالْعَقْلِ وَسَائِرِ الْحَوَاسِّ وَالصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنْ النِّعَمِ الْخَارِجِيَّةِ بَلْ نَحْوُ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ (وَمَا وَعَدَ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ) مِنْ الْجِنَانِ وَالرِّضْوَانِ وَرُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ (دُونَ اسْتِحْقَاقِنَا إيَّاهُ) كَمَا هُوَ مُعْتَقَدُنَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ كَمَا سَبَقَ (وَمَا وَعَدَ مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] . وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي تَفْسِيرِ الْمَقَامِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى إلَى رَاهِبٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لَا فَقَتَلَهُ وَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى نِصْفَ الطَّرِيقِ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ فَأَوْحَى إلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي

وَإِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ» وَأَيْضًا فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِطَرِيقٍ آخَرَ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الْآيَةَ) بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالظُّلْمِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي الْإِسْرَافُ الْإِفْرَاطُ فِي الْجِنَايَةِ وَعَنْ الرَّاغِبِ هُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي فِعْلٍ يُجَبُّ وَالذَّنْبُ عَامٌ فِيهِ وَفِي التَّقْصِيرِ {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أَيْ مَغْفِرَةِ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] . عَنْ مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ الْكَبِيرِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ وَحْشِيٍّ حَيْثُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ وَحْشِيًّا قَاتِلَ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنِّي أُرِيدُ الْإِسْلَامَ لَكِنْ مَنَعَنِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]- فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} [الفرقان: 70] الْآيَةَ فَكَتَبَهَا إلَى وَحْشِيٍّ فَكَتَبَ وَحْشِيٌّ وَلَا أَدْرِي هَلْ أَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]- فَكَتَبَهَا إلَى وَحْشِيٍّ فَكَتَبَ وَحْشِيٌّ أَيْضًا إنَّ فِيهَا شَرْطًا لَا أَدْرِي هَلْ يَشَاءُ مَغْفِرَتِي أَوْ لَا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ} [الزمر: 53] الْآيَةَ» انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ إلَّا مِنْ سِعَةِ رَحْمَتِهِ وَأَنَّهَا أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] فَإِنَّهُ الَّذِي يَهَبُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً بِإِيمَانِ سَاعَةٍ

كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] كَسَحَرَةِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ إلَى أَنْ حَلَفُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ فَبِقَوْلِهِمْ مَرَّةً آمَنَّا عَنْ اعْتِقَادٍ وَهَبَ لَهُمْ جَمِيعَ فُرُطَاتِهِ إلَى أَنْ جَعَلَهُمْ رُءُوسَ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ فَهَذَا حَالُ مَنْ وَجَدَهُ سَاعَةً بَعْدَ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ فَكَيْفَ حَالُ مَنْ أَفْنَى عُمُرَهُ فِي تَوْحِيدِهِ لَا يَرَى لَهُ أَهْلًا غَيْرَهُ تَعَالَى فِي الدَّارَيْنِ أَمَا تَرَى أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ طُولَ أَعْمَارِهِمْ فَبِقَوْلِهِمْ {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 14] قَبِلَهُمْ وَأَعَزَّهُمْ إلَى أَنْ قَالَ {وَنُقَلِّبُهُمْ} [الكهف: 18] وَأَعْظَمَ لَهُمْ الْحُرْمَةَ وَالْمَهَابَةَ حَتَّى قَالَ لِأَكْرَمِ خَلْقِهِ {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18] الْآيَةَ بَلْ كَيْفَ أَكْرَمَ كَلْبًا تَبِعَهُمْ حَتَّى ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ تَعَالَى مِرَارًا وَأَدْخَلَهُ فِي جَنَّتِهِ فَهَذَا فَضْلُهُ لِكَلْبٍ خَطَا خُطُوَاتٍ مَعَ قَوْمٍ عَرَفُوهُ أَيَّامًا مِنْ غَيْرِ عِبَادَةٍ فَكَيْفَ فَضْلُ الْمُؤْمِنِ خَدَمَهُ سَبْعِينَ سَنَةً وَلَوْ عَاشَ سَبْعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَقْصِدُ الْعُبُودِيَّةَ أَمَا سَمِعْت عِتَابَهُ تَعَالَى إبْرَاهِيمَ فِي دُعَائِهِ عَلَى الْمُجْرِمِينَ بِالْهَلَاكِ وَعَاتَبَ مُوسَى فِي أَمْرِ قَارُونَ فَقَالَ اسْتَغَاثَ بِك قَارُونُ فَلَمْ تُغِثْهُ فَوَعِزَّتِي لَوْ اسْتَغَاثَ بِي لَعَفَوْت عَنْهُ ثُمَّ كَيْفَ عَاتَبَ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ فِيمَا رُوِيَ أَنَّهُ «دَخَلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ فَرَأَى قَوْمًا يَضْحَكُونَ فَقَالَ لِمَ تَضْحَكُونَ لَا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ الْحَجَرِ رَجَعَ إلَيْهِمْ الْقَهْقَرَى فَقَالَ جَاءَنِي جَبْرَائِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَك لَا تُقَنِّطْ عِبَادِي مِنْ رَحْمَتِي {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49] » . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِالْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ الْوَالِدَةِ الشَّفِيقَةِ بِوَلَدِهَا» (دُنْيَا. عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيَغْفِرَنَّ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفِرَةً» عَظِيمَةً أَوْ كَثِيرَةً «مَا خَطَرَتْ قَطُّ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ» لِغَايَةِ الْكَثْرَةِ وَنِهَايَةِ الْجَلَالَةِ عَلَى أَصْحَابِ الْإِجْرَامِ وَالْقَبَائِحِ «حَتَّى إنَّ إبْلِيسَ» مَعَ غَايَتِهِ فِي الْجِنَايَةِ وَعِرْفَانِهِ بِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ الرَّحْمَةِ أَبَدَ الْآبِدِينَ «لَيَتَطَاوَلُ» أَيْ يَمُدُّ عُنُقَهُ وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ «رَجَاءَ أَنْ تُصِيبَهُ» قِيلَ السِّرُّ الْمَخْفِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى - {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]- «أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِحَبِيبِهِ وَهَبْتُك ثُلُثَ أُمَّتِك فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ حَتَّى تَرَى رَحْمَتِي بِعِبَادِي وَأَهَبُ لَك الثُّلُثَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَرَى أَهْلُ الْمَحْشَرَةِ مَنْزِلَتَك عِنْدِي» (خ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ» أَيْ خَلَقَ «كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ» أَيْ أَثْبَت فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ قَالَ الْقَاضِي يَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ حَكَمَ حُكْمًا جَازِمًا وَوَعَدَ وَعْدًا لَازِمًا لَا خُلْفَ فِيهِ فَشَبَّهَ الْحُكْمَ الْجَازِمَ الَّذِي لَا يَعْتَرِيهِ نَسْخٌ وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَغْيِيرٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا اقْتَضَى أَمْرًا وَأَرَادَ إحْكَامَهُ عَقَدَ عَلَيْهِ سِجِلًّا وَحَفِظَهُ لِيَكُونَ حُجَّةً بَاقِيَةً مَحْفُوظَةً مِنْ

التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ «إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» وَفِي رِوَايَةٍ «تَغْلِبُ غَضَبِي» أَيْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ بِكَثْرَةِ آثَارِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قِسْطَ الْخَلْقِ مِنْ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِمْ مِنْ الْغَضَبِ لِنَيْلِهِمْ إيَّاهَا بِلَا اسْتِحْقَاقٍ وَإِنَّ قَلَمَ التَّكْلِيفِ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ إلَى الْبُلُوغِ وَلَا يُعَجِّلُ لَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ إذَا عَصَوْا بَلْ يَرْزُقُهُمْ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ وَمَا تَعَلَّقَ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ فِعْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَضَبِ وَيُرْوَى أَنَّهُ «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَ اللَّهُ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فِيهِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَتْ النَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيُخْرِجُ مِثْلِيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَيُرْوَى «فَيَقْبِضُ قَبْضَةً فَيَخْرُجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ» (خ م. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا» قِيلَ التَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ تَعْظِيمًا لِرَحْمَتِهِ تَعَالَى (فَمِنْ) أَجْلِ «ذَلِكَ الْجَزَاءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ» أَوْ تَرَاحُمُ جَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَنْشَأُ مِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ فَمَحَبَّةُ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ لِأَوْلَادِهِمَا مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ «حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ» كَالْفَرَسِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ «حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» بِحَافِرِهَا فَيَتَوَجَّعَ. قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ الْعُلَمَاءِ إذَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي هَذِهِ إلَّا كَدَارِ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَالْقُرْآنِ وَالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِهِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمِائَةِ رَحْمَةٍ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَالْجَزَاءِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ وَلَا يَخْفِي أَنَّ فِيهِ إشَارَةً إلَى مَا فِي شَرْحِ الْحَاكِمِ مِنْ أَنَّ الرَّجَاءَ إنَّمَا يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَعْمَالِ لِأَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ. وَأَمَّا الرَّجَاءُ بِلَا عَمَلٍ وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمَعَاصِي فَلَيْسَ بِرَجَاءٍ بَلْ أَمْنِيَّةٌ وَاغْتِرَارٌ مَذْمُومٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169] كَمَا قَالَ الْكَرْخِيُّ رَجَاءُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ وَرَجَاءُ الشَّفَاعَةِ بِلَا سَبَبٍ نَوْعٌ مِنْ الْغُرُورِ وَرَجَاءُ رَحْمَةِ مَنْ لَا يُطَاعُ جَهْلٌ وَحُمْقٌ قَالُوا الرَّجَاءُ مَعَ الْإِصْرَارِ كَطَلَبِ النَّارِ مِنْ الْجَمْرِ كَمَا فِي حَدِيثِ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ» وَقَالَ الْحَسَنُ إنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الدُّنْيَا بِلَا حَسَنَةٍ بِاعْتِقَادِ حُسْنِ الظَّنِّ وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ فَلَوْ صَادِقًا لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] كَتَبَ أَبُو عُمَرَ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك قَدْ أَصْبَحْت تَأْمُلُ بِطُولِ عُمْرِك وَتَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْأَمَانِيَ بِسُوءِ فِعْلِك وَإِنَّمَا تَضْرِبُ حَدِيدًا بَارِدًا. (وَ) زَادَ (فِي رِوَايَةٍ م «وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَالْمُرَادُ بِمِثْلِ ذَلِكَ التَّمْثِيلِ لِيُفْهَمَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقِسْطَيْنِ مِنْ الرَّحْمَةِ لِأَهْلِ الدَّارَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ السَّالِكَ الْعَارِفَ لَا يَغْتَرُّ بِظَاهِرِ مِثْلِ هَذِهِ النُّصُوصِ بَلْ لَا يَتْرُكُ الْعَمَلَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: 110]- ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْآخَرِ لِأَنَّ الرَّجَاءَ بِلَا خَوْفٍ أَمْنٌ وَالْخَوْفَ بِلَا رَجَاءٍ قُنُوطٌ قَالُوا هُمَا كَزَوِّجِي الْمِقْرَاضِ وَجَنَاحَيِّ الطَّيْرِ إذَا اعْتَدَلَا طَارَ وَإِذَا زَادَ أَحَدُهُمَا يَطِيرُ تَامًّا وَإِذَا ذَهَبَا بِالْكُلِّيَّةِ صَارَ كَالْمَيِّتِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَرْجُوهَا وَإِنَّمَا يَنْجُو مِنْ النَّارِ مَنْ يَخَافُهَا» (م. عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَوْتَهُ لَيْسَ بِالشَّهَادَةِ كَمَا قِيلَ إنَّهُ اُسْتُشْهِدَ فِي نَاحِيَةِ إسْلَامْبُولَ فِي مَعْرَكَةٍ حِينَ جَاءَ مَعَ يَزِيدَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ مَبْطُونًا فِي ذَلِكَ الْعَسْكَرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ (أَنَّهُ قَالَ كُنْت كَتَمْت عَنْكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ) أَيْ أُخْبِركُمُوهُ وَأَصْلُ سَوْفَ لِاسْتِقْبَالِ الْبَعِيدِ وَالْوَقْتُ هُنَا ضَيِّقٌ فَلِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ كَمَا قِيلَ لَعَلَّ وَجْهَ الْكَتْمِ وَهْمُ اغْتِرَارِ الْعَوَامّ بِظَاهِرِهِ فَيَضْعُفُوا فِي الْعَمَلِ وَوَجْهَ الْإِخْبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْوَهْمَ قَدْ زَالَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْ مَنْ أَخْبَرَهُمْ هُمْ الْخَوَاصُّ أَوْ قَدْ خَرَجَ مِنْ خَاطِرِهِ فَخَطَرَ بِبَالِهِ عِنْدَ دَوَاعِي هَوْلِ الْمَوْتِ بِمُلَاحَظَةِ دَوَاعِي الرَّحْمَةِ (وَقَدْ أُحْبِطَ بِنَفْسِي) بِمَجِيءِ الْمَوْتِ (سَمِعْته يَقُولُ «لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ» أَيْ أَذَهَبَكُمْ

الخامس والأربعون الحزن في أمر الدنيا

«وَخَلَقَ خَلْقًا يُذْنِبُونَ» لِيَتَحَقَّقَ مَظْهَرُ صِفَةِ الْغُفْرَانِ «فَيَغْفِرُ لَهُمْ» قَالَ فِي الْمَبَارِقِ لَيْسَ هَذَا تَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الذُّنُوبِ بَلْ كَانَ صُدُورُهُ لِتَسْلِيَةِ الصَّحَابَةِ وَإِزَالَةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْخَوْفَ كَانَ غَالِبًا عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّ بَعْضُهُمْ إلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ لِلْعِبَادَةِ وَبَعْضُهُمْ اعْتَزَلَ النِّسَاءَ وَبَعْضُهُمْ النَّوْمَ وَفِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى رَجَاءِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَتَحْقِيقُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَغْفِرَ لِلْعَاصِي فَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ عَاصٍ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَعْصِيهِ فَيَغْفِرُ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ لَوْ عَلِمَ عَبْدِي أَنِّي لَذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْت لَهُ وَلَا أُبَالِي مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا» انْتَهَى قَوْلُهُ لِتَسْلِيَةِ الصَّحَابَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَمْرِ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ وَإِلَّا فَلَا كَذِبَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَإِنْ قِيلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ الْمُحَالِ بِالْمُحَالِ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُذْنِبِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَخَبَرِهِ يَجْعَلُ تَخَلُّفَهُ مُحَالًا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنْ لَيْسَ مُحَالًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْغَيْرِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ فَافْهَمْ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الذُّنُوبِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالِانْتِقَامِ وَالْغَضَبِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا أَنَّ انْتِظَارَ الْمَغْفِرَةِ إنَّمَا يُسَمَّى رَجَاءً إذَا تَمَهَّدَتْ جَمِيعُ أَسْبَابِهِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ بَثِّ بَذْرِ الْإِيمَانِ وَسَقْيِهِ بِمَاءِ الطَّاعَاتِ وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنْ شَوْكِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَانْتَظِرْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّبَاتَ عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ انْتِظَارُهُ رَجَاءً حَقِيقِيًّا مَحْمُودًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا ذُكِرَ مِنْ الشَّرَائِطِ ثُمَّ انْتَظَرَ الْمَغْفِرَةَ فَانْتِظَارُهُ حُمْقٌ وَغُرُورٌ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ فِي حَاصِلِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَحَبَّ أَنْ يُحْسِنَ إلَى الْمُحْسِنِ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ الْمُسِيءِ. [الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا] (الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ التَّوَجُّعُ وَالتَّأَسُّفُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ) الَّتِي غَرَّتْ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ مَعَ أَنَّهَا سَمُومٌ قَاتِلَةٌ وَعَوْرَاتٌ بَادِيَةٌ وَفَضَائِحُ مُرْدِيَةٌ وَقَبَائِحُ مُهْلِكَةٌ تَعْلَمُهَا الْعُقَلَاءُ وَتَغْفُلُ عَنْهَا الْجُهَلَاءُ إذْ هِيَ حُظُوظٌ نَفْسَانِيَّةٌ وَأَعْرَاضٌ شَهْوَانِيَّةٌ حَيْثُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ (وَيَلْزَمُهُ الْفَرَحُ بِإِتْيَانِهَا وَإِقْبَالِهَا وَكَثْرَتِهَا وَمَنْشَؤُهُ) أَيْ الْحُزْنِ الْمَذْكُورِ

(حُبُّ الدُّنْيَا) الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَمَعْدِنُ كُلِّ شَرٍّ وَمَقَرُّ كُلِّ هَوَى وَبِضَاعَةُ كُلِّ فَسَادٍ اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ مَا يَصْحَبُك فِي الْآخِرَةِ وَيَبْقَى مَعَك ثَمَرَتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْعِلْمِ وَهُوَ لَذَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ عَاجِلَةٌ وَكَذَا الْعِبَادَاتُ لِمَنْ يَتَلَذَّذُ بِهَا وَالثَّانِي مَا فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَالتَّلَذُّذِ بِالْمَعَاصِي وَالْمُبَاحَاتِ وَالثَّالِثُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا كَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إنْ جُعِلَ وَسِيلَةً إلَى الْأَوَّلِ فَمِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ وَإِنْ إلَى الثَّانِي فَمِنْ الدُّنْيَا وَلَا يَبْقَى مَعَ الْعَبْدِ إلَّا صَفَاءُ الْقُلُوبِ وَذَلِكَ بِالْكَفِّ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَالْأُنْسِ بِاَللَّهِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ الْحَاصِلَةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَهِيَ تَتَوَلَّدُ مِنْ الْفِكْرِ فَالْمُرَادُ هُنَا الثَّانِي مُطْلَقًا وَبَعْضُ الثَّالِثِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا إمَّا أَعْيَانٌ كَالْأَرَاضِيِ لِلْبِنَاءِ وَالزِّرَاعَةِ وَإِمَّا مَعَادِنُ كَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَإِمَّا نَبَاتٌ كَالْمَلْبُوسِ وَالدَّوَاءِ وَالْغِذَاءِ وَإِمَّا حَيَوَانٌ كَالْبَهَائِمِ لِلْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ وَإِمَّا إنْسَانٌ لِلْخِدْمَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْجَاهِ ثُمَّ لِلْعَبْدِ عَلَاقَتَانِ الْأُولَى بِالْقَلْبِ هُوَ حُبُّهُ لَهَا وَحَظُّهُ مِنْهَا وَانْصِرَافُ هَمِّهِ إلَيْهَا حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالْعَبْدِ وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ أَكْثَرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَحُبِّ الثَّنَاءِ وَالتَّفَاخُرِ وَالثَّانِيَةُ بِالْبَدَنِ وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِصْلَاحِ مَا ذُكِرَ وَيُشِيرُ إلَيْهَا قَوْلُهُ (وَتَوَقُّعُ) انْتِظَارِ (حُصُولِ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ وَبَقَائِهَا) وَتَفْصِيلُ تِلْكَ الْمَطَالِبِ عَلَى مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ مُضْطَرٌّ إلَى الْقُوتِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَلْبَسِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى الْفِلَاحَةِ لِتَحْصِيلِ النَّبَاتِ وَالرِّعَايَةِ لِحِفْظِ الْحَيَوَانِ وَإِنْمَائِهِ وَالِاقْتِنَاصِ لِتَحْصِيلِ نَحْوِ صَيْدٍ وَمَعْدِنٍ أَوْ حَطَبٍ وَالْحِيَاكَةِ كَالْغَزْلِ وَالْخِيَاطَةِ لِلْمَلْبَسِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَسْكَنِ ثُمَّ هَذِهِ الصِّنَاعَاتُ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْأَدَوَاتِ وَالْآلَاتِ فَاحْتِيجَ إلَى النِّجَارَةِ وَهِيَ الْعَمَلُ فِي الْخَشَبِ وَالْحِدَادَةِ هِيَ الْعَمَلُ فِي الْمَعْدِنِ وَالْخَرْزِ هِيَ الْعَمَلُ فِي جُلُودِ الْحَيَوَانِ فَهَذِهِ أُمُّ الصِّنَاعَاتِ ثُمَّ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مَدَنِيًّا بِالطَّبْعِ احْتَاجَ إلَى مُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَهَكَذَا وَهَكَذَا هِيَ الْمَطَالِبُ الدُّنْيَوِيَّةُ الْمَشَارَةُ (وَهُوَ) أَيْ تَوَقُّعُ حُصُولِ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ وَبَقَائِهَا (جَهْلٌ) بِحَقِيقَةِ الْحَالِ إذْ النَّيْلُ لِجَمِيعِ تِلْكَ الْمُنَى مُحَالٌ لَا مَحَالَةَ إنَّ مَنْ جَدَّ إلَى نَيْلِ الْمُنَى ... كَدَّ فِيمَا سَعْيُهُ لَنْ يُوصِلَا فَاتْرُكِي نَفْسِي سَعْيًا فِي الْمُنَى ... لِتَنَالِي وَصْلَ مَنْ لَنْ يَفْصِلَا (فَلْتَتَوَجَّهْ) أَيُّهَا السَّالِكُ (إلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ) مِنْ مُرْضِيَاتِ الْحَسَنَاتِ مُعْرِضًا عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الزَّائِلَاتِ الْفَانِيَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ تِلْكَ الصَّالِحَاتِ هِيَ الْمُطْلَقَةُ الْعَامَّةُ وَإِنْ فُسِّرَتْ بِنَحْوِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْحَجِّ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ تَأْتِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُجَنِّبَاتٍ وَمُعَقِّبَاتٍ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ فَلَعَلَّهُ مَجَازٌ لِكَوْنِهَا جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا فِي الْفَيْضِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) تَحْذِيرًا مِنْ الْحُزْنِ الْمَذْكُورِ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] عِلَّةٌ لِلتَّقْرِيرِ وَالْكَتْبِ أَيْ أَثْبَتَ وَكَتَبَ لِكَيْ لَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] بِمَا أَعْطَاكُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْكُلَّ مُقَدَّرٌ هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْحُزْنِ الْمَانِعِ مِنْ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَرَحِ الْمُوجِبِ لَلْبَطِرِ وَالِاخْتِيَالِ. اعْلَمْ أَنَّ الْآفَاتِ إمَّا دِينِيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ الْأُولَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَشْعَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ بِالْمَالِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَإِنْ أَقْدَمَ هَلَكَ وَإِنْ صَبَرَ وَقَعَ فِي شِدَّةٍ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْمَالَ يَجُرُّهُ إلَى التَّنَعُّمِ بِالْمُبَاحَاتِ ثُمَّ

السادس والأربعون الخوف في أمر الدنيا

يَجُرُّ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ إلَى أَنْ لَا يَفِيَ الْحَلَالَ فَيَقْدَمُ الشُّبُهَاتِ وَيَتْبَعُهُ أَنْ يُصَانِعَ النَّاسَ بِالرِّيَاءِ وَالْمُدَاهَنَةِ وَالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ الثَّالِثَةُ أَنَّهُ يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ خُسْرَانٌ عَظِيمٌ وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ كَالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالتَّعَبِ فِي دَفْعِ الْحُسَّادِ وَتَجَشُّمِ الْمَصَاعِبِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ فَإِذَنْ تِرْيَاقُ الْمَالِ أَخْذُ الْقُوتِ مِنْهُ وَصَرْفُ الْبَاقِي إلَى الْخَيْرَاتِ وَمَا عَدَاهُ سَمُومٌ وَآفَاتٌ وَإِلَى بَعْضِ مَا ذَكَرَ يُشِيرُ قَوْلُهُ (اعْلَمْ أَنَّ الْحُزْنَ إذَا أَخْرَجَ صَاحِبَهُ مِنْ الصَّبْرِ إلَى الْجَزَعِ) وَالشَّكْوَى (وَ) أَنَّ (الْفَرَحَ) إذَا أَخْرَجَ صَاحِبَهُ (مِنْ الشُّكْرِ إلَى الطُّغْيَانِ وَالْبَطَرِ) أَيْ الْكِبْرِ أَوْ الْأَشَرِ (فَحَرَامَانِ) قِيلَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ (وَإِلَّا) وَإِنْ لَمْ يُخْرِجَا (فَلَا) بَلْ مَذْمُومَانِ وَمَكْرُوهَانِ تَنْزِيهًا (وَلَكِنَّ الْكَمَالَ اسْتِوَاءُ إتْيَانِ الدُّنْيَا وَفَوَاتِهَا) لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ أُخْبِرَ إلَيْهِ بِعَطَايَا كَثِيرَةٍ فَحَمِدَ ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ أَخَذُوهَا فَحَمِدَ أَيْضًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ وِجْدَانِي فِي قَلْبِي سُرُورًا مِنْهَا وَالثَّانِي لِعَدَمِ وِجْدَانِي حُزْنًا مَا. (وَهُوَ مَقَامُ التَّسْلِيمِ) قِيلَ هُوَ انْقِيَادُ إظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ (وَالتَّفْوِيضِ) هُوَ أَنْ لَا يَخْتَارَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَنْ يَرْضَى بِاخْتِيَارِ مَوْلَاهُ وَقِيلَ التَّفْوِيضُ قَبْلَ نُزُولِ الْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمُ بَعْدَهُ (وَذَلِكَ) الْمَقَامُ (عَزِيزٌ) نَادِرٌ (جِدًّا) لَا يُوجَدُ إلَّا فِي أَقَلِّ قَلِيلٍ. [السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْخَوْفُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا] (السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْخَوْفُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ انْقِبَاضُ الْقَلْبِ كَرَاهَةَ أَنْ يُصِيبَهُ) فِي الِاسْتِقْبَالِ (مَكْرُوهٌ دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ غَيْرُ الْحُزْنِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْحُزْنَ (لِمَا مَضَى) وَنَزَلَ مِنْ الْمَصَائِبِ أَوْ فَوَاتِ الْمَطَالِبِ (وَالْخَوْفُ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَغَيْرُ الْجُبْنِ لِأَنَّهُ نُقْصَانُ الْغَضَبِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ) الْجُبْنُ (الْخَوْفَ وَهُوَ) أَيْ الْخَوْفُ (إمَّا مِنْ الْفَقْرِ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ إصَابَةِ مَكْرُوهٍ) كَأَخْذِ أَمْوَالٍ وَإِتْلَافِ نَفْسٍ وَضَرْبٍ وَحَبْسٍ (مِنْ مَخْلُوقٍ أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْخَوْفُ مِنْ الْفَقْرِ (فَمَذْمُومٌ جِدًّا لِأَنَّ الْفَقْرَ حَالُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالُ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعِلْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْفَقْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَذَالَةِ الْغِنَى الَّذِي هُوَ مَعْدِنُ أَكْثَرِ الشُّرُورِ وَلِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ (وَ) أَكْثَرُ (الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ) كَالصِّدِّيقِ الْأَعْظَمِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ

الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ» وَفِي الْخَبَرِ «الْفَقْرُ مَشَقَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَمَسَرَّةٌ فِي الْآخِرَةِ» لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَإِبْرَاهِيمَ وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَشُعَيْبٍ كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَكَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَيْثُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ فَصُولِحَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ رُبْعِ ثُمُنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ أَقُولُ فِي التَّقْيِيدِ بِالْأَكْثَرِ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَالْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ وَنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اخْتَارُوا الْفَقْرَ حَتَّى قِيلَ مَاتَ أَرْبَعُونَ نَبِيًّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجُوعِ وَالْقَمْلِ كَمَا فِي بَحْرِ الْكَلَامِ لِأَبِي الْمُعِينِ النَّسَفِيِّ عَلَى أَنَّ غِنَى الْأَنْبِيَاءِ صُورِيٌّ لِعَدَمِ مَيْلِهِمْ وَحُبِّهِمْ وَاطْمِئْنَانِهِمْ بِالْمَالِ بَلْ أَكَلُوا مِنْ كَسْبِ أَنْفُسِهِمْ وَلَعَلَّك قَدْ سَمِعْت سَابِقًا أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِيوَانًا يَزْدَحِمُ الْأَغْنِيَاءُ الْتِجَاءً مِنْهُمْ بِإِحْسَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَحُكِيَ أَنَّهُ أُعْطِيَ لِابْنِ أَدْهَمَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَرَدَّهَا فَقَالَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَمْحُوا اسْمِي مِنْ دِيوَانِ الْفُقَرَاءِ (فَهُوَ نِعْمَةٌ وَعَلَامَةُ سَعَادَةٍ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ لِأَفْضَلِ الْخَلَائِقِ وَأَنَّ الرَّاحَةَ فِي السَّلَامَةِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْمُحْتَمَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ فَإِنَّ نَفْعَ الْفَقْرِ كَالْمُتَيَقَّنِ وَنَفْعَ الْغِنَى كَالْمُحْتَمَلِ وَالْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ (فَالْخَوْفُ مِنْهُ عَدَّهُ مِحْنَةً وَبَلِيَّةً) كَيْفَ وَالْفُقَرَاءُ الصَّابِرُونَ يَخَافُونَ مِنْ الْغِنَى كَمَا يَخَافُ الْأَغْنِيَاءُ مِنْ الْفَقْرِ وَذَلِكَ لِصِدْقِ عَقِيدَتِهِمْ بِمَا لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْفُقَرَاءُ الصُّبُرُ جُلَسَاءُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ» اعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ وَإِنْ كَانَ نِعْمَةً وَسَعَادَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْفَظَ آدَابَهُ كَأَنْ لَا يَكْرَهَ الْفَقْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا الْفَقِيرَ وَيَفْرَحَ بِهِ بَلْ يَطْلُبُهُ لِعِلْمِهِ بِغَوَائِلِ الْغِنَى وَيَكْرَهَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَفَافِ وَكَأَنْ يُظْهِرَ التَّعَفُّفَ وَالتَّجَمُّلَ وَلَا يُظْهِرَ الشَّكْوَى وَالْفَقْرَ بَلْ يَجْتَهِدُ بِسَتْرِ فَقْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] وَلَا يَتَوَاضَعْ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ بَلْ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَلَا يُخَالِط الْأَغْنِيَاءَ وَلَا يُدَاهِنْهُمْ فِي الْحَقِّ طَمَعًا فِي عَطَائِهِمْ وَلَا يَفْتُرْ عَنْ عِبَادَتِهِ لِفَقْرِهِ وَيَبْذُلَ قَلِيلَ مَا فَضَلَ عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جَهْدَ الْمُقِلِّ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرِ الْغِنَى وَلَا يَدَّخِر بَعْدَ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَفِي الِادِّخَارِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ دَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ أَنْ لَا يَدَّخِرَ إلَّا لِيَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَدَرَجَةُ الْمُتَّقِينَ أَنْ يَدَّخِرَ لِأَرْبَعَيْنِ يَوْمًا وَمَا زَادَ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ وَقَدْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ مِيعَادِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَدَرَجَةُ الصَّالِحِينَ أَنْ يَدَّخِرَ لِسَنَةٍ فَمَا زَادَ خَارِجٌ عَنْ حَيِّزِ الْخُصُوصِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَعَلَى التَّسْلِيمِ) أَيْ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْفَقْرَ مِحْنَةٌ وَبَلِيَّةٌ (فَفِيهِ) أَيْ فِي خَوْفِ الْفَقْرِ (سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى) الَّذِي وَعَدَ وَتَكَفَّلَ بِإِيصَالِ رِزْقِ كُلٍّ إلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ حَرَامٌ (ز) الْبَزَّارُ (يعل) أَبُو يَعْلَى (طكط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ» مِنْ الْعِيَادَةِ فِي الْمَرَضِ «بِلَالًا فَأَخْرَجَ لَهُ صُبَرًا» بِضَمٍّ فَفَتْحٍ: الْمَجْمُوعُ «مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا هَذَا يَا بِلَالُ» النِّدَاءُ لِزِيَادَةِ التَّلَطُّفِ وَالْمُؤَانَسَةِ «فَقَالَ ادَّخَرْته لَك» لَا لِنَفْسِي (وَفِي رِوَايَةٍ «لِأَضْيَافِك قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَا تَخْشَى أَنْ يُجْعَلَ لَك» أَيْ يَصِيرَ لَك فِي الْآخِرَةِ بِذَلِكَ «بُخَارٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» الْبُخَارُ وَالدُّخَانُ ضَرَرٌ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّارِ نَفْسِهَا (وَفِي رِوَايَةٍ «أَنْ يَفُورَ لَك» مِنْ الْفَوْرِ وَهُوَ الْغَلَيَانُ «بُخَارٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» وَفِي أُخْرَى «أَنْ يَكُونَ لَك دُخَانٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَنْفِقْ بِلَالًا» قِيلَ أَصْلُهُ بِلَالِي قُلِبَتْ يَاءُ الْإِضَافَةِ أَلِفًا «وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا» وَيَجُوزُ النَّصْبُ

لِلسَّجْعِ بَعْدَ حَذْفِ الْيَاءِ أُورِدَ هُنَا بِمَا مَرَّ مِنْ جَوَازِ الِادِّخَارِ سَنَةً وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنْعَ لِمَنْ خَافَ مِنْ الْفَقْرِ فَمَنْعُ بِلَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ أَقُولُ تَصَوُّرُ مِثْلِهِ عَنْ نَحْوِهِ بَعِيدٌ بَلْ سُوءُ ظَنٍّ فَالْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِينَ هَذَا لَكِنْ يَشْكُلُ بِأَنَّ ادِّخَارَ بِلَالٍ لَيْسَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ بَلْ لِأَضْيَافِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ وَلَا تَخْشَ إلَخْ أَقُولُ لَعَلَّ الْمُرَادَ تَقْرِيرُ بِلَالٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الضِّيَافَةِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْإِنْفَاقِ مَا يَشْمَلُ الضِّيَافَةَ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْفَيْضِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَرَدَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ الِادِّخَارُ مَمْنُوعًا وَالضِّيَافَةُ وَاجِبَةً ثُمَّ نُسِخَ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ ذِي الْعَرْشِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَتَخَافُ مِنْ ذِي الْعَرْشِ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَنْ لَا يُوَصِّلَ إلَيْك رِزْقَك الَّذِي تَكَفَّلَ وَوَعَدَ قَالَ سُفْيَانُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ سِلَاحٌ كَخَوْفِ الْفَقْرِ فَإِذَا قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ أَخَذَ بِالْبَاطِلِ وَمَنَعَ مِنْ الْحَقِّ وَتَكَلَّمَ بِالْهَوَى وَظَنَّ بِرَبِّهِ ظَنَّ سُوءٍ وَفِي تَخْرِيجِ الْحَاكِمِ عَنْ بِلَالٍ «يَا بِلَالُ الْقَ اللَّهَ تَعَالَى فَقِيرًا وَلَا تَلْقَهُ غَنِيًّا قَالَ إذَا رُزِقْت فَلَا تَمْنَعْ قَالَ وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ قَالَ هُوَ ذَاكَ وَإِلَّا فَالنَّارُ» ثُمَّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ حَسَنٌ وَعَنْ الْهَيْتَمِيِّ لَهُ إسْنَادَانِ أَحَدُهُمَا حَسَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ قَيْسُ بْنُ رَبِيعٍ وَفِيهِ كَلَامٌ لَكِنْ فِي أَسَانِيدِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ فِيهِ كَلَامٌ (وَعِلَاجُهُ) أَيْ خَوْفِ الْفَقْرِ (الْقَلَعِيُّ إزَالَةُ أَسْبَابِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ خَوْفُ الْمَوْتِ أَوْ الْمَرَضِ مِنْ الْجُوعِ وَخَوْفُ فَوْتِ التَّنَعُّمِ الْمُعْتَادِ) عِنْدَ سَعَةِ الدُّنْيَا (وَحُصُولِ الْقَلِقِ) الِاضْطِرَابِ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْفَوْتِ فَيَمْتَنِعُ عَنْ التَّفَرُّغِ لِلْأَعْمَالِ (وَخَوْفُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْكَسْبِ) لِمَنْ قَدَرَ (أَوْ) إلَى (السُّؤَالِ) لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ مَثَلًا (وَطَرِيقُ إزَالَتِهَا) أَيْ الْأَسْبَابِ (إجْمَالًا أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّا مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى) كَمَا سَبَقَ فَهُوَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَخِلَافُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ (وَ) طَرِيقُ إزَالَتِهَا (تَفْصِيلًا أَنَّ الْمَوْتَ مُتَيَقَّنٌ) مِنْ الْيَقِينِ (وَآتٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ) حَالَ الْغِنَى وَحَالَ الْفَقْرِ (إمَّا بَغْتَةً) فَجْأَةً قِيلَ أَكْثَرُ سَبَبِهِ شُيُوعُ الزِّنَا لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ أَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْأَبْرَارِ وَعُقُوبَةٌ لِلْأَشْرَارِ (وَإِمَّا بِسَبَبٍ مُقَدَّرٍ) فِي الْأَزَلِ كَالْقَتْلِ وَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ (فَإِنْ قُدِّرَ) فِي الْأَزَلِ (كَوْنُهُ) أَيْ سَبَبِ مَوْتِهِ (جُوعًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ) لِأَنَّ إرَادَتَهُ تَعَالَى لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ مُرَادِهِ وَأَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ (وَإِنْ كَانَ عِنْدَك مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا) لَكِنْ يَشْكُلُ بِالْأَجَلِ الْمُعَلَّقِ وَبِأَقْسَامِ الْكَسْبِ مِنْ الْفَرْضِ وَالْوُجُوبِ وَغَيْرِهِمَا فَتَأَمَّلْ (وَإِلَّا) وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ الْجُوعَ (فَلَا) تَمُوتَنَّ مِنْ الْجُوعِ (أَصْلًا) كُنْت غَنِيًّا أَوْ لَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَك حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ الْمَالِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِتَرْتِيبِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَالضَّمَانِ فِي إتْلَافِ الْحَيَوَانِ إذْ الْمُقَدَّرُ لَا يَزُولُ بَلْ يَقَعُ أَلْبَتَّةَ فَلْيُتَأَمَّلْ أَيْضًا (وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَوْتِ جُوعًا وَشِبَعًا) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْخَلَاصُ مِنْ الْمَوْتِ سِيَّمَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا (فَعَلَيْك الرِّضَا بِالْقَضَاءِ) وَلَا تَلْتَفِتْ إلَى الْفَقْرِ وَالْغِنَى فَإِنَّ

الْأَجَلَ وَاحِدٌ وَالْمُقَدَّرَ كَائِنٌ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ الْمَقْتُولُ لَجَازَ أَنْ يَمُوتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنْ لَا يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِامْتِدَادِ الْعُمْرِ وَلَا بِالْمَوْتِ بَدَلَ الْقَتْلِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ (وَكَذَا الْمَرَضُ إنْ قُدِّرَ فَآتٍ) لَا مَحَالَةَ (وَإِلَّا فَلَا وَلَا دَخْلَ فِيهِ) أَيْ فِي إتْيَانِ الْمَرَضِ وَعَدَمِهِ (لِلْغِنَى وَالْفَقْرِ بَلْ تَرَى الْأَغْنِيَاءَ أَكْثَرَ أَمْرَاضًا مِنْ الْفُقَرَاءِ) لِاعْتِيَادِهِمْ أَكْلَ الْأَطْعِمَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَكَثْرَةِ هُمُومِهِمْ وَخِدْمَةِ الدُّنْيَا وَكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ (وَتَنَعُّمَك وَتَلَذُّذَك سَيَزُولُ) بِالْمَوْتِ (لَا مَحَالَةَ فَكَيْفَ يَخَافُ الْعَاقِلُ مِنْ تَقَدُّمِهِ) مِنْ تَقَدُّمِ زَوَالِ النِّعَمِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْفَقْرِ (أَيَّامًا قَلَائِلَ لَوْ سَلِمَ) فَوْتُ التَّلَذُّذِ (وَالْكَسْبُ قَدْ صَدَرَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ) كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا رَعَى الْغَنَمَ» كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ (وَالْأَوْلِيَاءِ) كَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]- وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» - وَفِي رِوَايَةٍ «التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ مَعَ النَّبِيِّينَ بَعْدَ قَوْلِهِ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مِنْ قَوْلِهِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ} [النساء: 69]- الْآيَةَ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ لَا يُحْجَبُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ أَيْ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَلَا يَمْنَعُهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَكَانَتْ لَهُ تِجَارَةٌ يُقَلِّبُهَا لَوْلَا تَمَنْدُلُ بَنِي الْعَبَّاسِ بِي جَعَلُونِي كَالْمِنْدِيلِ يَمْسَحُونَ بِي أَوْسَاخَهُمْ مَا فَعَلْت هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَشَرْحُهَا مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا تَعَفُّفًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى عِيَالِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ لَقِيَ اللَّهَ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» هَذَا إنْ كَانَ لِلتَّعَفُّفِ وَالتَّصَدُّقِ وَإِلَّا فَإِنْ لِلشُّهْرَةِ وَالِادِّخَار فَمَذْمُومٌ (فَالْخَوْفُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْكَسْبِ (إمَّا لِلرِّيَاءِ) فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْكَسْبِ رِيَاءً (أَوْ الْكِبْرِ أَوْ الْبَطَالَةِ) وَكُلُّهَا مَذْمُومَةٌ (وَالسُّؤَالُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ) لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ فِي عِيَالِهِ (جَائِزٌ) جَوَابٌ عَنْ خَوْفِ الِاحْتِيَاجِ إلَى السُّؤَالِ (فَأَيُّ ضَرَرٍ فِيهِ) بَلْ وَاجِبٌ عَلَى حَسْبِ ضَرُورَتِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَسْأَلْ فَمَاتَ جُوعًا يَكُونُ آثِمًا اعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ بِلَا ضَرُورَةٍ حَرَامٌ لِاسْتِلْزَامِهِ الشَّكْوَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ إذْلَالُ النَّفْسِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ إيذَاءٌ لِلْمَسْئُولِ غَالِبًا وَهُوَ حَرَامٌ إذْ رُبَّمَا لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِمَا يَبْذُلُهُ عَنْ طِيبِ قَلْبِهِ فَيَكُونُ بَذْلُهُ رِيَاءً أَوْ حَيَاءً فَأَخْذُهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا السُّؤَالُ بِالِاضْطِرَارِ كَسُؤَالِ الْجَائِعِ الْخَائِفِ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْمَرَضِ وَالْعَارِي الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَا يُوَارِي بَدَنَهُ فَجَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الِاضْطِرَارِ كَمَنْ لَهُ جُبَّةٌ وَلَكِنْ يَتَأَذَّى بِالْبَرْدِ وَكَمَنْ يُرِيدُ الْكِرَاءَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ لَكِنْ يَتْعَبُ فَجَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ وَأَمَّا الْحَاجَةُ الْخَفِيفَةُ كَمَنْ يُرِيدُ ثَوْبًا عَلَى ثَوْبِهِ لِسَتْرِ خُرُوقِهِ أَوْ كَمَنْ يَسْأَلُ لِأَجْلِ الْإِدَامِ وَلَهُ خُبْزٌ وَكَمَنْ يَكْتَرِي الْفَرَسَ وَهُوَ يَجِدُ كِرَاءَ الْحِمَارِ فَمُبَاحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الشَّكْوَى وَالذُّلِّ وَالْإِيذَاءِ فَإِنْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرَ فَحَرَامٌ وَسَيَجِيءُ. (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ الْخَوْفُ مِنْ الْمَرَضِ (فَأَمَّا) خَوْفُهُ (لِفَوْتِ التَّنَعُّمِ) بِسَبَبِهِ (فَقَدْ عَرَفْت عِلَاجَهُ) أَنَّهُ سَيَزُولُ لَا مَحَالَةَ فَكَيْفَ يَصْدُرُ عَنْ الْعَاقِلِ الْخَوْفُ مِنْ تَقْدِيمِ الزَّوَالِ أَيَّامًا قَلَائِلَ (وَأَمَّا) خَوْفُهُ (لِفَوْتِ الطَّاعَةِ الْمُعْتَادَةِ وَنَقْصِ الثَّوَابِ) بِفَوَاتِهَا (فَجَهْلٌ إذْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْمَرِيضَ يُكْتَبُ لَهُ مَا اعْتَادَهُ) أَيْ

ثَوَابُ مَا اعْتَادَهُ (فِي الصِّحَّةِ بَلْ يَزِيدُ ثَوَابُهُ إنْ صَبَرَ) وَلَمْ يُظْهِرْ الْجَزَعَ وَالشِّكَايَةَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا» قَالَ فِي شَرْحِهِ حَمَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى النَّفْلِ فَقَطْ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْفَرْضَ قَاعِدًا كَالْفَرْضِ قَائِمًا فِي الْأَجْرِ وَأَخَذَ مِنْهُ أَنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ تُثَابَانِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَرُدَّ بِالْفَرْقِ بِالْأَهْلِيَّةِ وَعَدَمِهَا وَبِالنِّيَّةِ وَعَدَمِهَا وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ اُكْتُبُوا لِعَبْدِي مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا» وَجَاءَ مَرْفُوعًا «خُذْ مِنْ صِحَّتِك لِمَرَضِك وَمِنْ حَيَاتِك لِمَوْتِك» وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «مَا مِنْ امْرِئٍ يَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِاللَّيْلِ فَيَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً» (لِمَا وَرَدَ أَنَّ الْأَصِحَّاءَ يَتَمَنَّوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ كَانَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (يُقْرَضُ) أَيْ تُقَطَّعُ (أَبْدَانُهُمْ بِالْمَقَارِيضِ لَمَّا رَأَوْا مِنْ كَثْرَةِ ثَوَابِ الْمَرِيضِ) فِي الشِّرْعَةِ فِي الْحَدِيثِ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا ابْتَلَاهُ حَتَّى يَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ» وَفِي شَرْحِهِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ هُوَ «فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جِيءَ بِأَهْلِ الْأَعْمَالِ فَوُفُّوا أَعْمَالَهُمْ بِالْمِيزَانِ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ ثُمَّ يُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ فَلَا يُنْصَبُ لَهُمْ الْمِيزَانُ وَلَا يُنْشَرُ لَهُمْ الدِّيوَانُ يُصَبُّ عَلَيْهِمْ الْأَجْرُ صَبًّا فَيَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا لَوْ أَنَّهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ أَجْسَامُهُمْ بِالْمَقَارِيضِ لِمَا يَرَوْنَ مِمَّا يَذْهَبُ بِهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنْ الثَّوَابِ» (فَعَلَيْك الْعَزْمُ عَلَى الصَّبْرِ) عَلَى الْمَرَضِ (إنْ وَقَعَ) حَتَّى تَنَالَ الْأَجْرَ وَقَدْ قَالَ - {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]- {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزَائِهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلَاثَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» (وَإِنْ خِفْت مِنْ نَفْسِك عَدَمَ الصَّبْرِ) عَلَى مِحْنَةِ الْمَرَضِ (فَعَلَيْك أَنْ تَسْأَلَ الْعَافِيَةَ) وَقَدْ عَرَفْت بَعْضَ تَفَاصِيلِ مَعْنَى الْعَافِيَةِ وَفُسِّرَ هُنَا بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا وَفِي الْحِصْنِ الْحَصِينِ عَنْ التِّرْمِذِيِّ «سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ» . وَعَنْهُ أَيْضًا «مَا سَأَلَ الْعِبَادُ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ وَيُعَافِيَهُمْ» . وَعَنْ الْبَزَّارِ «وَمَرَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْمٍ مُبْتَلِينَ فَقَالَ أَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ يَسْأَلُونَ الْعَافِيَةَ» وَعَنْ الْبَزَّارِ أَيْضًا «وَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَدْعُو اللَّهَ بِهِ فَقَالَ سَلْ رَبَّك الْعَافِيَةَ قَالَ فَمَكَثْت أَيَّامًا ثُمَّ جِئْت فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ يَا عَمِّ سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ «وَكَانَ يَقُولُ يَا عَمِّ أَكْثِرْ الدُّعَاءَ بِالْعَافِيَةِ» وَعَنْهُ أَيْضًا فَلِيَنْظُرْ الْعَاقِلُ مِقْدَارَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ مِنْ دُونِ الْكَلِمِ وَلِيُؤْمِنْ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَتْ لَهُ الْحِكَمُ فَإِنَّ مَنْ أُعْطِيَ الْعَافِيَةَ فَازَ بِمَا يَرْجُوهُ قَلْبُهُ قَلْبًا وَقَالَبًا وَدُنْيَا وَدِينًا وَرَقَى مِمَّا يَخَافُهُ فِي الدَّارَيْنِ عِلْمًا يَقِينًا فَلَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدُّعَاءُ بِالْعَافِيَةِ وَوَرَدَ عَنْهُ لَفْظًا وَمَعْنَى مِنْ خَمْسِينَ طَرِيقًا هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَهُوَ الْمَعْصُومُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَقِيقِيًّا فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ غَرَضٌ لِسِهَامِ الْقَدَرِ وَعَرَضٌ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» انْتَهَى مَا فِي الْحِصْنِ (مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ تُدَاوِمَ عَلَى دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - د عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فُسِّرَ هُنَا بِدِفَاعِ اللَّهِ عَنْ الْعَبْدِ الْأَسْقَامَ وَالْآلَامَ وَالْمِحَنَ وَالْبَلَايَا وَشَدَائِدَهَا

وَنَكَالَهَا «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ» عَنْ الذُّنُوبِ وَالزَّلَلِ «وَالْعَافِيَةَ» عَنْ جَمِيعِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَضَارِّ «فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اُسْتُرْ عَوْرَاتِي» مَا فِي مِنْ الْعُيُوبِ وَالْخَلَلِ وَالتَّقْصِيرِ وَالزَّلَلِ وَهِيَ مَا يُسْتَهْجَنُ ذِكْرُهُ مِنْ الْقَبَائِحِ «وَآمِنْ» بِالْمَدِّ «رَوْعَاتِي» أَيْ مَا أَخَافُهُ «اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» مِنْ الشَّرِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ «وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي» مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ نَكْبَةٍ وَفِتْنَةٍ فَإِنَّ مَا يَحِيقُ بِهِ وَيَصِلُ إلَيْهِ مِنْ إحْدَى هَذِهِ الْجِهَاتِ فَلِذَلِكَ سَأَلَ أَنْ يَحْفَظَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ قِيلَ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ وَأَمَّا جِهَةُ الْفَوْقِ فَإِنَّ مِنْهَا يَنْزِلُ الْبَلَاءُ وَالصَّوَاعِقُ وَالْعَذَابُ «وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِك أَنْ أُغْتَالَ» أَيْ أَهْلَك. عَنْ الرَّاغِبِ: الْغَوْلُ: إهْلَاكُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ لَا يُحَسُّ بِهِ «مِنْ تَحْتِي» وَقَعَ فِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الْبَزَّارِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - هَكَذَا اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَافِيَةَ فِي دُنْيَايَ وَدِينِي وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اُسْتُرْ عَوْرَاتِي إلَخْ ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِهِ خَرَّجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَكَذَا الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَعُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَيُصْبِحُ انْتَهَى فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ فَافْهَمْ. (وَأَمَّا الثَّالِثُ) وَهُوَ خَوْفُ إصَابَةِ مَكْرُوهٍ مِنْ مَخْلُوقٍ (فَعِلَاجُهُ تَرْكُ السَّبَبِ) وَهُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِصَابَتِهِ مِنْ جِهَتِهِمْ (إنْ أَمْكَنَ بِلَا ضَرَرٍ دِينِيٍّ) بِأَنْ يَلْزَمَ مِنْ تَرْكِهِ تَرْكُ وَاجِبٍ أَوْ ارْتِكَابُ حَرَامٍ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِلَا ضَرَرٍ دِينِيٍّ (فَالتَّوْطِينُ) فَاللَّازِمُ هُوَ التَّوْطِينُ أَيْ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَالْفِرَارُ مِنْ ضَرَرِ الدِّينِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ فِي النَّارِ بِخِلَافِ ضَرَرِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ ضَرَرٌ يَسِيرٌ سَيَزُولُ لَا مَحَالَةَ (إذْ الْمُقَدَّرُ) مِنْ الْفَقْرِ وَالْغِنَى (كَائِنٌ) أَلْبَتَّةَ (وَالْأَجَلُ وَاحِدٌ) فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ (وَنِعَمُ الدُّنْيَا ظِلٌّ زَائِلٌ وَنَوْمٌ نَائِمٌ) بَلْ وِزْرٌ وَوَبَالٌ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مَقَرٍّ كَمَا قَالَ الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا. كُنْيَةُ الدُّنْيَا أَبُو الْفَنَاءُ وَكُنْيَةُ الْآدَمِيِّ أَبُو الْجَفَاءُ وَلَا تَطْلُبْ مِنْ الْفَنَاءِ بَقَاءً وَلَا تَطْلُبْ مِنْ الْجَفَاءِ وَفَاءً فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَعُبُورٍ لَا دَارُ بَقَاءٍ وَسُرُورٍ أَوَّلُهَا خِزْيٌ وَفُتُورٌ وَآخِرُهَا مَوْتٌ وَقُبُورٌ وَدَارُ مِحْنَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَفِرَاقٍ لَا دَارُ مَسَرَّةٍ وَمَحَبَّةٍ وَتَلَاقٍ أَيْنَ قَيَاصِرَةُ الْقُصُورِ وَأَيْنَ هَرَامِسَةُ الدُّهُورِ وَأَيْنَ شَدَّادٌ وَعَادٌ وَأَيْنَ إرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ أَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَأَيْنَ الْأَحْبَابُ وَالْأَحْفَادُ أَيْنَ الشُّيُوخُ وَالْعُلَمَاءُ وَأَيْنَ الْأَسْلَافُ الْعُظَمَاءُ كُلُّهُمْ مَضَوْا وَتَرَكُونَا يَتَامَى غَابُوا عَنَّا وَتَرَكُونَا كَالْأَيَامَى فَيَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ فُرْصَتِنَا يَا مَوْلَانَا وَيَا غَايَةَ رَغْبَتِنَا ارْحَمْ غُرْبَتَنَا وَاكْشِفْ كُرْبَتَنَا وَلَا تَكِلْنَا إلَى أَنْفُسِنَا وَمِنْ كُلِّ بُؤْسٍ وَخِزْيٍ احْفَظْنَا (فَلَيْسَ مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْمُرُوءَةِ) وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنْ الْإِيمَانِ

السابع والأربعون الغش والغل

وَمِمَّا أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي حَدِيثِ «عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنْ الْإِيمَانِ» وَحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» (أَنْ يُبَالِيَ) يَهْتَمَّ (بِزَوَالِ مِثْلِهِ بَلْ هُوَ مِنْ الْخَسَاسَةِ وَالدَّنَاءَةِ) وَنَظِيرُهُ قَنَاعَةُ الْكِلَابِ بِالْعِظَامِ مَعَ التَّرْكِ لِنَفَائِسِ الطَّعَامِ [السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْغِشُّ وَالْغُلُّ] (السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْغِشُّ وَالْغُلُّ وَهِيَ عَدَمُ تَمْحِيصِ النُّصْحِ) أَيْ عَدَمُ قَصْدِ غَيْرِ خَالِصٍ (بِأَنْ لَا يَجْتَنِبَ مِنْ إصَابَةِ الشَّرِّ لِلْغَيْرِ) نَفْسًا أَوْ مَالًا أَوْ غَيْرَهُمَا (وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ) أَيْ الشَّرَّ (ابْتِدَاءً وَقَصْدًا كَمَنْ يُرِيدُ إزَالَةَ مَتَاعٍ مَعِيبٍ لَهُ فَيَكْتُمُ عَيْبَهُ فَيَبِيعُهُ) فَيَلْحَقُ الشَّرُّ بِالْمُشْتَرِي لَا يَقْصِدهُ لَكِنْ يُرِيدُ إخْرَاجَ الْمَعِيبِ عَنْ يَدِهِ (وَهَذَا غَيْرُ الْحَسَدِ) إذْ هُوَ إرَادَةُ زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ أَوْ عَدَمِ وُصُولِهِ (وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ تَمْحِيصِ النُّصْحِ (أَيْضًا) كَالْحَسَدِ (حَرَامٌ) بِالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْحُكْمِ يَكُونُ صَاحِبُهُ فَاسِقًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِذَلِكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ لَا تُوجِبُ الْفِسْقَ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحُرْمَةَ كَيْفَ تَنْفَكُّ عَنْ الْفِسْقِ بَلْ الْفَاسِقُ مَنْ يَرْتَكِبُ الْحَرَامَ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْحَرَامِ الْمَكْرُوهُ التَّحْرِيمِيِّ (م. عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ غَشَّنَا» أَيْ خَانَ وَالْغِشُّ سَتْرُ حَالِ الشَّيْءِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ أَوْ مَنْ لَمْ يُعْرِضْ عَنْ إصَابَةِ الشَّرِّ بِنَا كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ أَوْ مَنْ لَمْ يُمَحِّصْ النُّصْحَ لَنَا كَمَا يَقْتَضِي السِّيَاقُ «فَلَيْسَ مِنَّا» أَيْ مِنْ مُتَابَعِينَا وَعَلَى مِنْهَاجِ شَرْعِنَا لِأَنَّ وَصْفَ الْمُصْطَفَى وَطَرِيقَتَهُ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةُ عَنْهَا وَعَدَمُ شَرَرِ الطَّمَعِ قَالَ الطِّيبِيُّ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ بَلْ نَفْيَ خُلُقِهِ عَنْ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ لَيْسَ هُوَ عَلَى سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتِنَا فِي مُنَاصَحَةِ الْإِخْوَانِ فِي الْفَيْضِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقِيلَ إنَّهُ مُتَوَاتِرٌ «وَقَالَ حِينَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَعْجَبَتْهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَ» أَيْ أَصَابَ «أَصَابِعَهُ بَلَلٌ فَقَالَ مَا هَذَا» لِلتَّوْبِيخِ «يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ» أَيْ الْمَطَرُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَفَلَا جَعَلْته فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ» الظَّاهِرُ أَنَّ الطَّعَامَ مُعَدٌّ لِلْبَيْعِ وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْبُرِّ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «وَالْمُنْكِرُ وَالْخَدَّاعُ فِي النَّارِ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ صَاحِبُهُمَا يَسْتَحِقُّ دُخُولَهَا وَأَخَذَ الذَّهَبِيُّ مِنْ الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ مِنْ الْكَبَائِرِ فَعَدَّهَا مِنْهَا اهـ فَتَأَمَّلْ (فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ بَائِعٍ إظْهَارُ عَيْبِ مَتَاعِهِ أَوْ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ إنْ كَانَ) الْعَيْبُ (خَفِيًّا) لَا يُمْكِنُ إظْهَارُهُ كَالْبَوْلِ عَلَى الْفِرَاشِ وَالسَّرِقَةِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ أَخْفَاهُ كَانَ ظَالِمًا غَاشًّا فَحَرَامٌ وَتَرْكُ وَاجِبٍ فَلَوْ أَحْسَنَ ظَهْرَ الثَّوْبِ خِلَافَ مَا فِي بَطْنِهِ كَانَ غَاشًّا وَنَحْوُهُ بَيْعُ مَا يَحْسُنُ فِي الظُّلَمِ لِئَلَّا يَرَى الْمُشْتَرِي قُبْحَهُ وَعَيْبَهُ وَكَذَا السَّمْنُ الرَّدِيءُ وَأَمْثَالُهُمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا اضْمَحَلَّتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» قِيلَ نَزْعُ الْبَرَكَةِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّدْلِيسُ وَقِيلَ عَامٌّ فَيَعُودُ شُؤْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. (وَكَذَا يَجِبُ) شُرُوعٌ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْغُلِّ (عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ مَنْ يُرِيدُ بَيْعًا أَوْ إجَارَةً

أَوْ نِكَاحًا) لِامْرَأَةٍ (أَوْ نَحْوِهَا) مِنْ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ (أَنْ يُخْبِرَ) فِي الْخَلْوَةِ فِي النِّكَاحِ (بِعَيْبِ الْمَبِيعِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَالْمَنْكُوحَةِ إنْ عَلِمَ بِهِ) أَيْ بِالْعَيْبِ (وَ) عَلِمَ (بِعَدَمِ عِلْمِ الْآخِذِ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ) أَوْ عَلَى غَيْرِهِ وَكَذَا إذَا عَلِمَ رَجُلٌ مَعْصِيَة عِيَالِ رَجُلٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَهُ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرَائِطِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا إذَا عَلِمَ تَوْبَتَهُمْ فَلَا وَيَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ عِلْمِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِهَا وَالنَّفْعِ فِي إخْبَارِهِ وَكَوْنُ الْإِخْبَارُ سِرًّا فِرَارًا مِنْ كَشْفِ السَّتْرِ وَالْغَيْبَةِ وَعَدَمِ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ (وَمِنْ الْغِشِّ الْغَبْنُ) فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ إنْ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ عَدَمُ التَّخَيُّرِ مُطْلَقًا وَالتَّخَيُّرُ مُطْلَقًا وَالتَّفْصِيلُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى فَإِنَّهُ إنْ وَجَدَ التَّقْدِيرَ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا فَيُخَيَّرُ وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا إنْ كَانَ مُشْتَرِيًا لِغَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ فَلِلْمُوَكِّلِ وِلَايَةُ التَّخَيُّرِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (إذَا وَجَدَ التَّغْرِيرَ مِنْهُ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا مِثْلُ) أَنْ يَكْذِبَ فِي قِيمَتِهِ هَذَا تَصْرِيحٌ وَالتَّعْرِيضُ قَوْلُهُ (أَوْ يَمْدَحَهُ بِحَيْثُ يَشْعُرُ أَنَّهُ بِيعَ بِقِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا) مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ (فَهَذَا غِشٌّ حَرَامٌ حَتَّى يَتَخَيَّرَ الْمُشْتَرِي) فِي فَسْخِ الْبَيْعِ (وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ) فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ (تَغْرِيرٌ أَصْلًا) لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا (فَلَيْسَ بِحَرَامٍ) فَلَا يَجِب الْإِخْبَارُ وَلَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ (فَلِذَا لَا يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي الصَّحِيحِ) وَكَذَا الْبَائِعُ عَلَى مَا يَقْتَضِي كَلَامُ الْفُقَهَاءِ إذَا لَمْ يُوجَدْ فَرْقٌ بَيْنَ غَبْنِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الصُّرَّةِ وَفِي الْوَاقِعَاتِ لِلْجَصَّاصِ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَهُ الرَّدُّ وَفِيهِ عَنْ الْمِنَحِ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْكَثِيرِ إذَا ثَبَتَ الْغَبْنُ مَعَ التَّغْرِيرِ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلْبَائِعِ ثُمَّ مَاتَ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَدَمُ انْتِقَالِ حَقِّ الرَّدِّ إلَى الْوَرَثَةِ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ فَتَخْصِيصُ الْمُصَنِّفِ الْمُشْتَرِيَ إمَّا لِلْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاكْتِفَاءِ أَوْ الْبَحْثُ عَرْضِيٌّ لَا قَصْدِيٌّ (وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ) وَمَكْرُوهٌ وَلَوْ تَنْزِيهًا وَعَنْ الْإِحْيَاءِ إنْ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ ضَعِيفٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ فَقِيرٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْتَمِلَ الْغَبْنَ وَيَتَسَاهَلَ فَيَكُونَ بِهِ مُحْسِنًا وَدَاخِلًا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَحِمَ اللَّهُ سَهْلَ الْبَيْعِ سَهْلَ الشِّرَاءِ» فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى مِنْ غَنِيٍّ تَاجِرٍ يَطْلُبُ الرِّبْحَ زِيَادَةً عَلَى حَاجَتِهِ فَاحْتِمَالُ الْغَبْنِ مِنْهُ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ بَلْ تَضْيِيعُ مَالٍ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ وَلَا حَمْدٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ «الْمَغْبُونُ لَا مَحْمُودًا وَلَا مَأْجُورًا» (وَأَمَّا الْخَدِيعَةُ) أَيْ الْمُخَادَعَةُ إظْهَارُ الْجَمِيلِ وَإِضْمَارُ ضِدِّهِ (وَالْمَكْرُ) بِمَعْنَى الْخَدْعِ (وَهُوَ إرَادَةُ إصَابَةِ الْمَكْرُوهِ لِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ) أَيْ الْغَيْرُ (فَإِنْ كَانَ) أَيْ الْغَيْرُ (مُسْتَحِقًّا لَهُ) أَيْ لِلْمَكْرِ كَالْحَرْبِيِّ وَالظَّلَمَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالسُّرَّاقِ (فَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِدَفْعِ شَرِّهِ لِوُرُودِ أَنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ وَإِلَّا) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهُ (فَحَرَامٌ لِأَنَّهُ غِشٌّ وَتَرْكُ نُصْحٍ وَاجِبٍ

الثامن والأربعون الفتنة

فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ الْغِشِّ أَوْ شُبْهَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا خَرَّجَهُ الشَّيْخَانِ) الْمَرْمُوزِ لَهُمَا بِقَوْلِهِ (خ م. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ» إيمَانًا كَامِلًا مِنْ قَبِيلِ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ «حَتَّى يُحِبَّ» بِالنَّصْبِ فَجَارَّةٍ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ لَا عَاطِفَةٍ إذْ عَدَمُ الْإِيمَانِ لَيْسَ سَبَبًا لِلْمَحَبَّةِ «لِأَخِيهِ» مِنْ مُطْلَقِ الْخَيْرِ فَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى كَفِّ الْأَذِي فَقَدْ قَصَّرَ وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ لِإِخْرَاجِ نَحْوِ وَطْءِ حَلِيلَتِهِ لِأَنَّهُ يُحِبُّ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ إذْ لَيْسَ نَحْوُهُ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ وَالْخَيْرُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ تَعُمُّ الطَّاعَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ وَتُخْرِجُ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمَحَبَّةُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ الْمَيْلُ إلَى مَا يُوَافِقُ الْمُحِبَّ وَقَدْ يَكُونُ بِحَوَاسِّهِ كَحُسْنِ الصُّورَةِ أَوْ بِعَقْلِهِ إمَّا لِذَاتِهِ كَالْفَضْلِ وَالْكَمَالِ أَوْ لِإِحْسَانِهِ كَجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَيْلُ الِاخْتِيَارِيُّ دُونَ الْقَهْرِيِّ. «مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ يُبْغِضَ لِأَخِيهِ مَا يُبْغِضُ لِنَفْسِهِ مِنْ السُّوءِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِأَنَّ حُبَّ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ بُغْضَ نَقِيضِهِ وَذَلِكَ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ أَشْكَلَ عَلَى الْحَدِيثِ بِأَنَّ كُلًّا مَجْبُولٌ عَلَى إيثَارِ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَكْمُلُ إيمَانُ أَحَدٍ إلَّا نَادِرًا وَأَنْتَ خَبِيرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا هُوَ اخْتِيَارِيٌّ لَا قَهْرِيٌّ وَاضْطِرَارِيٌّ وَيَقْرُبُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مَا هُوَ أَثَرُ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ لَا أَصْلُهُ الَّذِي هُوَ إيجَابِيٌّ ثُمَّ ذِكْرُ الْأَخِ غَالِبِيٌّ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ الْإِسْلَامَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْخُيُورِ وَالْأُجُورِ بَلْ مُطْلَقُ مَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي ذِمَّةِ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ إرَادَةُ الْأُخُوَّةِ الطِّينِيَّةِ بِمُسَامَحَةٍ يَسِيرَةٍ وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ انْتِظَامُ أَحْوَالِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَالْجَرْيُ عَلَى قَانُونِ السَّدَادِ وَأَمَّا مَحَبَّةُ خَيْرٍ كَانَ فِي غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ عَلَى طَرِيقِ الْحَسَدِ فَحَرَامٌ وَإِنْ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ بِأَنْ حَزِنَ فِي خَيْرٍ فَاقَ فِيهِ غَيْرَهُ عَلَى تَقْصِيرٍ مِنْهُ فَجَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ وَأَمَّا خَبَرُ «لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ» فَنَهْيٌ عَنْ الْحَسَدِ هَذَا تَلْخِيصُ مَا فِي الْفَيْضِ ثُمَّ قِيلَ عَنْ الرَّوْضَةِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ شَرِيكٌ فِي التِّجَارَةِ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ فَخَرَجَ بِتِجَارَةٍ إلَى مِصْرَ فَبَعَثَ إلَيْهِ الْإِمَامُ سَبْعِينَ ثَوْبًا وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنَّ فِيهَا ثَوْبًا مَعِيبًا بِعَلَامَةِ كَذَا فَإِذَا بِعْته فَبَيِّنْ عَيْبَهُ فَعِنْدَ مَجِيءِ بِشْرٍ سُئِلَ مِنْهُ هَلْ بَيَّنْت ذَلِكَ الْعَيْبَ قَالَ بِشْرٌ نَسِيته فَتَصَدَّقَ الْإِمَامُ بِجَمِيعِ مَا أَصَابَهُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ وَكَانَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِنْهُ النَّجْشُ الَّذِي هُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ بِلَا إرَادَةِ الشِّرَاءِ لِمُجَرَّدِ تَحَرِّيك رَغْبَةِ الْمُشْتَرِي وَمِنْهُ السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ وَمِنْهُ تَلَقِّي الْجَلْبِ إنْ ضَرَّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ وَمِنْهُ بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي عِنْدَ الْقَحْطِ لِزِيَادَةِ الثَّمَنِ وَمِنْهُ الِاحْتِكَارُ عِنْدَ تَضَرُّرِ أَهْلِ الْبَلَدِ. [الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ الْفِتْنَةُ] (الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ الْفِتْنَةُ وَهِيَ إيقَاعُ النَّاسِ فِي الِاضْطِرَابِ أَوْ الِاخْتِلَالِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ بِلَا فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ) وَهُوَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ فَسَادٌ

فِي الْأَرْضِ وَإِضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَزَيْغٌ وَإِلْحَادٌ فِي الدِّينِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] الْآيَةَ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا» قَالَ الْمُنَاوِيُّ الْفِتْنَةُ كُلُّ مَا يَشُقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ وَكُلُّ مَا يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ وَعَنْ ابْنِ الْقَيِّمِ الْفِتْنَةُ قِسْمَانِ فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ وَفِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْعَبْدِ وَقَدْ يَنْفَرِدَانِ (كَأَنْ يُغْرِيَ) مِنْ الْإِغْرَاءِ (النَّاسَ عَلَى الْبَغْيِ) مِنْ الْبَاغِي فَقَوْلُهُ (وَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ وَكَذَا اعْزِلُوهُ وَلَوْ ظَالِمًا لِكَوْنِهِ فِتْنَةً أَشَدَّ مِنْ الْقَتْلِ وَكَذَا الْمُعَاوَنَةُ لِقَوْمٍ مَظْلُومِينَ مِنْ جِهَتِهِ إذَا أَرَادُوا الْخُرُوجَ عَلَيْهِ وَكَذَا الْمُعَاوَنَةُ لَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِكَوْنِهِ إعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لَعَلَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْأَخْذِ بِأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا إذْ الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ الظَّالِمِ لِظُلْمِهِ يُفْضِي إلَى سَفْكِ دِمَاءٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَمُحَارَبَاتٍ وَمُقَاتَلَاتٍ أَكْثَرَ ضَرَرًا مِنْ ظُلْمِ السُّلْطَانِ (وَكَتَطْوِيلِ الْإِمَامِ الصَّلَاةَ) زِيَادَةً عَلَى السُّنَّةِ وَهِيَ الْفَجْرُ أَرْبَعُونَ آيَةً غَيْرُ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَكَذَا فِي الظُّهْرِ فِي رِوَايَةٍ وَفِي أُخْرَى ثَلَاثُونَ آيَةً وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ عِشْرُونَ آيَةً غَيْرُهَا فَالزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ بِلَا رِضَا الْقَوْمِ وَمَعَهُ تَجُوزُ وَكَذَا النَّقْصُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْقَوْمُ لِأَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ وَذَا لَا يَجُوزُ لِكُلِّ الْقَوْمِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ اسْتَحْسَنُوا لِتَيَسُّرِ الْأَمْرِ طِوَالَ الْمُفَصَّلِ وَهِيَ مِنْ الْحُجُرَاتِ إلَى عَبَسَ فِي رِوَايَةٍ وَإِلَى الْبُرُوجِ فِي أُخْرَى فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَأَوْسَاطَهُ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ وَهِيَ مِنْ إحْدَاهُمَا إلَى سُورَةِ وَالضُّحَى فِي رِوَايَةٍ وَإِلَى لَمْ يَكُنْ فِي أُخْرَى وَقِصَارَهُ فِي الْمَغْرِبِ وَهِيَ مِنْ إحْدَاهُمَا إلَى الْآخِرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ لَمَّا أَطَالَ الصَّلَاةَ فَشَكَا مِنْهُ «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ» وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ صَلَاتَهُ نَدْبًا وَقِيلَ وُجُوبًا بِشَرْطِ عَدَمِ إخْلَالِ السُّنَّةِ وَقِيلَ بِأَنْ يَنْظُرَ مَا يَحْتَمِلُهُ أَضْعَفُ الْقَوْمِ فَيُصَلِّيَ بِحَسَبِهِ وَهُوَ مِنْ الْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ فَرُبَّ تَطْوِيلٍ بِقَوْمٍ تَخْفِيفٌ لِلْآخَرِينَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاخْتِصَارَ وَالنُّقْصَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ «نَهَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ» . «وَرَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ وَقَالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» وَقَالَ «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ لِمَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ» . «فَإِنَّ فِيهِمْ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَالْمَرِيضَ وَذَا الْحَاجَةِ» وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ لِلتَّعْلِيمِ فَيَشْمَلُ أَيَّةَ صَلَاةٍ كَانَتْ فَإِذَا عَلِمَ عَدَمَ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ فَلَا يُطَالُ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْغَالِبِ لَا النَّادِرِ فَيُسَنُّ التَّخْفِيفُ مُطْلَقًا وَقَدْ قَالُوا لَا يَنْتَفِي الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ بِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ الْجُزْئِيِّ وَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الْعَامِ بِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ الْخَاصِّ وَإِنَّ الْعِلَّةَ كَثِيرًا مَا تُؤَثِّرُ جِنْسَ الْحُكْمِ لَا فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ كَمَشَقَّةِ السَّفَرِ حَيْثُ قَدْ تَنْتَفِي الرُّخْصَةُ نَعَمْ إذَا أَمَّ بِقَوْمِ مَخْصُوصِينَ رَاضِينَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِهِمْ حَقٌّ لَهُ التَّطْوِيلُ وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ وَيُكْرَهُ لِلْمُنْفَرِدِ إفْرَادُ التَّطْوِيلِ الْمُؤَدِّي إلَى نَحْوِ سَهْوٍ أَوْ فَوْتِ خُشُوعٍ وَفِيهِ الِاهْتِمَامُ بِتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ وَالرِّفْقُ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَفِيهِ جَوَازُ تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ وَالْقُعُودِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لَكِنْ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ تَطْوِيلَهُمَا مُبْطِلٌ وَنَزَّلُوا الْخَبَرَ عَلَى الْأَرْكَانِ الطَّوِيلَةِ انْتَهَى مَعَ زِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ

(وَكَأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا لَا يَفْهَمُونَ مُرَادَهُ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ) أَيْ عَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ فَيَقَعُونَ فِي الضَّلَالِ وَالِاخْتِلَالِ (فَلِذَا وَرَدَ «كَلِّمُوا النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَلَى تَخْرِيجِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «دَعُوا مَا يُنْكِرُونَ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» مِنْ التَّكْذِيبِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِأَنَّ السَّامِعَ حِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ اسْتِحَالَتَهُ فَيُكَذِّبُ وَلَا يَذْكُرُ الْمُتَشَابِهَ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا قَالَ أَنَا اللَّهُ عُزِّرَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ وَيَنْبَغِي لِلْمُدَرِّسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى قَدْرِ فَهْمِ تِلْمِيذِهِ وَلَا يُجِيبُهُ بِمَا لَا يَتَحَمَّلُ حَالُهُ فَإِذَا سُئِلَ عَنْ دَقَائِقِ الْعُلُومِ فَإِنْ كَانَ لَهُ اسْتِعْدَادُ فَهْمِ الْجَوَابِ أَجَابَ وَإِلَّا رَدَّ وَمَنْ شَرَعَ فِي حَقَائِقِ الْعُلُومِ ثُمَّ لَمْ يَبْرَعْ فِيهَا تَوَلَّدَتْ لَهُ الشُّبَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا فَيَضِلُّ وَيُضِلُّ فَيَعْظُمُ ضَرَرُهُ وَمِنْ هَذَا قِيلَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ نِصْفِ فَقِيهٍ أَوْ مُتَكَلِّمٍ وَنِصْفُ الْفَقِيهِ يَهْدِمُ الدِّينَ (أَوْ) كَأَنْ (لَا يَحْتَاطَ فِي التَّأَمُّلِ وَالْمُطَالَعَةِ فَيُخْطِئَ فِي فَهْمِ مَسْأَلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا) مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ أَوْ الْحَدِيثِ (وَمِنْ الْكِتَابِ فَيَذْكُرَ) مِنْ التَّذَكُّرِ (لِلنَّاسِ) مَا لَا يَعْرِفُ بِكُنْهِهِ فَيُضِلَّهُمْ وَيُوقِعَ الْفِتْنَةَ بَيْنَهُمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكْثَرِ الْقُصَّاصِ وَالْوُعَّاظِ فِي زَمَانِنَا (أَوْ يَذْكُرَ وَيُفْتِيَ قَوْلًا مَهْجُورًا) فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَلَا يُفْتَى بِالْأَقْوَالِ الْمَهْجُورَةِ لِجَرِّ مَنْفَعَتِهِ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُسَوَّغُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِالرَّأْيِ إلَّا مَنْ عَرَفَ أَحْكَامَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَأَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ وَالْمُتَشَابِهَ وَوُجُوهَ الْكَلَامِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ إذَا كَانَ صَوَابُ الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ نَضْرَ بْنَ يَحْيَى عَنْ مَسْأَلَةِ طَلَاقٍ فَقَالَ اذْهَبْ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ اذْهَبْ إلَى نَضْرِ بْنِ يَحْيَى فَسَأَلَهُ فَقَالَ كَالْأَوَّلِ فَمَلَّ الرَّجُلُ وَقَالَ امْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلَاثًا هَلْ بَقِيَ فِيهِ لِأَحَدٍ إشْكَالٌ (أَوْ ضَعِيفًا أَوْ قَوْلًا يَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يَعْلَمُونَ بِهِ) قِيلَ كَأَنْ يَقُولَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ بِلَا وَزْنٍ وَكَذَا الِاسْتِقْرَاضُ لِأَنَّهُ نَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْوَزْنِيَّةِ فِيهَا فَلَا يَخْرُجَانِ عَنْهَا أَبَدًا وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ فَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَقْوَى لِأَنَّهُ قَوْلُ الْإِمَامَيْنِ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَكِنْ النَّاسُ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي زَمَانِنَا قَطْعًا بَلْ الْعَمَلُ بِالرِّوَايَةِ الْغَيْرِ الظَّاهِرَةِ عَنْهُ وَهِيَ خُرُوجُهُمَا عَنْ الْوَزْنِيَّةِ بِتَعَامُلِ النَّاسِ إلَى الْعَدَدِيَّةِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً رِوَايَةً قَوِيَّةً دِرَايَةً فَالْقَوْلُ بِهَا أَلْزَمُ فِرَارًا مِنْ الْفِتْنَةِ (بَلْ يُنْكِرُونَهُ أَوْ يَتْرُكُونَ بِسَبَبِهِ طَاعَةً أُخْرَى كَمَنْ يَقُولُ لِأَهْلِ الْقُرَى) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ أَنَّ الْمُفْرَدَ يَلْحَقُ بِالْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ وَإِلَّا فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي الْمِصْرِ بَلْ الْأَكْثَرُ فِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ (وَالْعَجَائِزِ وَالْإِمَاءِ) أَمَّا الْإِمَاءُ فَلِخِدْمَةِ مَوْلَاهُنَّ وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَلِانْتِفَاءِ قَابِلِيَّةِ التَّعَلُّمِ بِكِبَرِ السِّنِّ بَلْ بِوُصُولِهِنَّ إلَى سِنِّ الِانْحِطَاطِ وَكَذَا الشُّيُوخُ بِالْمُقَايَسَةِ وَخَصَّهَا لِلْكَثْرَةِ فِيهِنَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشُّيُوخِ (لَا تَجُوزُ) مَقُولٌ لِقَوْلِ (الصَّلَاةُ بِدُونِ التَّجْوِيدِ وَهُمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّجْوِيدِ) لِلُكْنَةِ أَلْسِنَتِهِمْ (أَوْ لَا يَتَعَلَّمُونَهُ) لِمُجَرَّدِ التَّسَاهُلِ (فَيَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ رَأْسًا) لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْقَوْلَ لِمِثْلِهِمْ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ (وَهِيَ) أَيْ الصَّلَاةُ بِدُونِ تَجْوِيدٍ (جَائِزَةٌ عِنْدَ الْبَعْضِ) إذْ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ قُرْبُ

الْمَخْرَجِ فَيَجُوزُ قِرَاءَةُ " الْخَمْدُ لِلَّهِ " بِالْخَاءِ أَوْ بِالْهَاءِ وَنَحْوِهِمَا (وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا) عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ تَكَاسُلًا مَعَ الْقُدْرَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ بِخِلَافِ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَصْلًا وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَأَخْطَأَ أَوْ لَحَنَ أَوْ كَانَ أَعْجَمِيًّا كَتَبَهُ الْمَلَكُ كَمَا أُنْزِلَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ قَوَّمَهُ الْمَلَكُ وَلَا يُرْفَعُ إلَّا قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ وَفِيهِ أَنَّ الْقَارِئَ يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ قِرَاءَتِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ وَلَحَنَ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي التَّعَلُّمِ كَمَا مَرَّ (فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ التَّرْكِ أَصْلًا فَعَلَى الْوُعَّاظِ وَالْمُفْتِينَ مَعْرِفَةُ أَحْوَالِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ وَالسَّعْيِ وَالْكَسَلِ وَنَحْوِهَا) كَمَا يُقَالُ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ وَلِكُلِّ مَيْدَانٍ رِجَالٌ وَكَمَا قِيلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ عُرْفَ زَمَانِهِ فَهُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ وَالْأَشْخَاصِ كَمَا فُهِمَ مِنْ الزَّيْلَعِيِّ (فَيَتَكَلَّمُونَ بِالْأَصْلَحِ وَالْأَوْفَقِ لَهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ كَلَامُهُمْ فِتْنَةً لِلنَّاسِ) إمَّا بِعَدَمِ الْفَهْمِ أَوْ بِعَدَمِ الْقَبُولِ أَوْ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِالْكُلِّيَّةِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِقَاعِدَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ بَلْ اللَّائِقُ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعْلِيمِ ضَرُورِيَّاتِهِمْ بِالرِّفْقِ وَالْكَلَامِ اللَّيِّنِ أَوْ الْغِلْظَةِ وَالتَّشْدِيدِ أَوْ بِإِعْلَامِ الْحَاكِمِ أَوْ الْوَلِيِّ عَلَى حِسَابِ حَالِهِمْ وَإِنْ ظَنَّ عَدَمَ قَبُولِ سُوءِ الظَّنِّ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَكَذَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ) بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَطَبَائِعِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ (إذْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْمُنْكَرِ) تَعَنُّتًا وَتَعَصُّبًا قَالَ فِي النِّصَابِ يَنْبَغِي لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْمُرَ فِي السِّرِّ إنْ اسْتَطَاعَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَقَدْ شَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ فِي السِّرِّ فَقَدْ زَانَهُ (أَوْ) يَكُونُ سَبَبًا (لِإِصَابَةِ مَكْرُوهٍ لِغَيْرِهِ) بِالْإِعْرَاضِ عِنَادًا (فَيَكُونُ) أَيْ الْغَيْرُ (آثِمًا نَعَمْ إنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَإِنْ قَلَّ يَقْبَلُهُ) بِإِتْيَانِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ (وَيَعْمَلُ بِهِ أَوْ إصَابَةُ مَكْرُوهٍ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَيْهِ فَجَائِزٌ وَجِهَادٌ) بَلْ أَفْضَلُ كَمَا فِي حَدِيثِ «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَالَ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ فَقَتَلَهُ» وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرَجُلٌ قَامَ إلَى

التاسع والأربعون المداهنة

إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ» لَعَلَّ هَذَا أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ ذَلِكَ وَإِلَّا فَمِنْ قَبِيلِ إلْقَاءِ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ (وَقِسْ عَلَى هَذَا) فَمَا أَدَّى إلَى فِتْنَةٍ دِينِيَّةٍ فَاجْتَنِبْهُ أَوْ إلَى فِتْنَةٍ بَدَنِيَّةٍ إنْ كَانَ لِغَيْرِك فَاجْتَنِبْهُ أَيْضًا إنْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا وَإِنْ كَانَ لَك وَأَنْتَ صَابِرٌ فَجَائِزٌ وَجِهَادٌ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْهُ (وَحَسْبُك فِي آفَةِ الْفِتْنَةِ قَوْله تَعَالَى - {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] أَيْ الْمِحْنَةُ الَّتِي يُفْتَتَنُ بِهَا الْإِنْسَانُ أَصْعَبُ مِنْ الْقَتْلِ بِدَوَامِ تَعَبِهَا وَتَأَلُّمِ النَّفْسِ بِهَا وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ اجْتَنَبَ الْفِتَنَ» أَيْ بَعُدَ عَنْهَا كَلُزُومِ الْبَيْتِ «وَلَمَنْ اُبْتُلِيَ» أَيْ بِالْفِتَنِ بِفَتْحِ اللَّامِ جَوَابُ قَسَمٍ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ «فَصَبَرَ» عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ وَصَبَرَ عَلَى ظُلْمِ النَّاسِ لَهُ وَتَحَمَّلَ أَذَاهُمْ، وَفِيهِ أَيْضًا الْفِتْنَةُ تَجِيءُ فَتَنْسِفُ الْعِبَادَ أَيْ تُهْلِكُهُمْ وَيَنْجُو الْعَالِمُ مِنْهَا بِعِلْمِهِ قَدْ تَكُونُ فِي النُّفُوسِ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا كَالْمَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْجَاهِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الْقُلُوبِ بِالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ إلَى أَنْ تَرْتَقِيَ إلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَالْفِتَنُ فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ وَهِيَ الْعُظْمَى وَفِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ وَأَصْلُ الْكُلِّ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الشَّرْعِ فَفِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ إنَّمَا تُدْفَعُ بِكَمَالِ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ وَفِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ إنَّمَا تُدْفَعُ بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالصَّبْرِ وَالدِّينِ فَالنَّجَاةُ إنَّمَا هِيَ بِالْعِلْمِ وَمَا عَدَاهُ فِي الْهَلَاكِ هَذَا عُصَارَةُ مَا فِي الْفَيْضِ [التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْمُدَاهَنَةُ] (التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْمُدَاهَنَةُ) مِنْ الدُّهْنِ كَأَنَّ صَاحِبَهَا بِمَنْزِلَتِهِ فِي عَدَمِ الصَّلَابَةِ. قِيلَ هِيَ فِي الشَّرْعِ: عَدَمُ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ رِعَايَةً لِجَانِبِ مُرْتَكِبِهِ أَوْ لِجَانِبِ غَيْرِهِ أَوْ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالدِّينِ وَقِيلَ مُعَاشَرَةُ الْفُسَّاقِ وَإِظْهَارُ الرِّضَا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ بَذْلُ الدِّينِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا (وَهِيَ الْفُتُورُ وَالضَّعْفُ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَالسُّكُوتِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ بِلَا ضَرَرٍ) دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ (فَهَذَا) أَيْ الْفُتُورُ أَوْ السُّكُوتُ حِينَئِذٍ (حَرَامٌ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ «السَّاكِتَ عَنْ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ»

لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الرِّضَا سِيَّمَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الصَّمْتُ خَيْرٌ إلَّا فِي الْخَيْرِ وَيُقَالُ قُلْ الْحَقَّ وَإِلَّا فَاسْكُتْ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قِيلَ أَوْ قُلْت «يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْسَفُ الْأَرْضُ وَفِيهَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ بِإِدْهَانِهِمْ وَسُكُوتِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي» وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يُحْشَرُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ بِمَا دَاهَنُوا وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ وَجَالَسُوهُمْ» وَعَنْ حُسْنِ التَّنْبِيهِ لِلنَّجْمِ الْغَزِّيِّ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَا آتَى اللَّهُ تَعَالَى عَالِمًا عِلْمًا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ مِنْ الْمِيثَاقِ مَا أَخَذَ مِنْ النَّبِيِّينَ مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] وَلِهَذَا كَانَ الثَّوْرِيُّ إذَا رَأَى الْمُنْكَرَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ بَالَ دَمًا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ الْمَعَاصِي فَلَمْ يُنْكِرُوا فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْقَوْمُ جَمِيعًا الْعُقُوبَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَحْيُهُ تَعَالَى إلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ مِنْ إهْلَاكِ قَوْمِهِ خِيَارُهُمْ كَذَا وَشِرَارُهُمْ كَذَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] (وَضِدُّهُ الصَّلَابَةُ فِي أَمْرِ الدِّينِ قَالَ تَعَالَى {يُجَاهِدُونَ} [المائدة: 54] أَيْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة: 54] ابْتِغَاءَ رِضَا اللَّهِ {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] عَلَى ذَلِكَ مِنْ النَّاسِ «وَقَالَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَبِي ذَرٍّ (قُلْ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا» عَلَى الْمَأْمُورِ وَعَلَى الْآمِرِ لِلْأَوْهَامِ الْهَائِلَةِ مِنْ قَوْلِهِ رأضيم در بَاطِن ارحكم بركرجة ... رويم ترتش شدكه الْحَقّ مَرَّ وَفِي النِّصَابِ أَنَّ زَاهِدًا كَسَرَ مَلَاهِيَ مَرْوَانَ الْخَلِيفَةِ فَأَمَرَ بِأَنْ يُلْقَى بَيْنَ يَدَيْ الْأُسُودِ فَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَاجْتَمَعَتْ الْأُسُودُ وَقَدْ لَحِسَتْهُ بِأَلْسِنَتِهَا وَهُوَ يُصَلِّي وَلَا يُبَالِي فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ اُنْظُرُوا فَنَظَرُوا فَإِذَا الْأُسُودُ قَدْ اسْتَأْنَسُوا بِهِ فَحَمَلُوهُ إلَى الْخَلِيفَةِ قَالَ أَمَا كُنْت تَخَافُ مِنْهُمْ قَالَ الزَّاهِدُ لَا كُنْت مَشْغُولًا مُتَفَكِّرًا طُولَ اللَّيْلِ لَمْ أَتَفَرَّغْ إلَى خَوْفِهِمْ فَقَالَ فِيمَ تَتَفَكَّرُ قَالَ هَذِهِ الْأُسُودُ لَحِسُونِي أَلُعَابُهُمْ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ فَهَذَا التَّفَكُّرُ مَنَعَنِي مِنْ الْخَوْفِ فَتَعَجَّبَ وَخَلَّى سَبِيلَهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا. (فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ) عَنْ أَمْرٍ بِالْبِرِّ وَالنَّهْيِ عَنْ الْوِزْرِ (لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ) أَيْ السُّكُوتُ (مُدَارَةً جَائِزَةٌ) مَعْنَى الْمُدَارَاةِ أَنْ يَبْتَسِمَ وَيَضْحَكَ وَإِنْ كَانَ قَلْبُهُ يُنْكِرُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مُدَارَةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» قَالَ فِي شَرْحِهِ الْمُدَارَاةُ اللِّينُ وَالتَّعَطُّفُ يَعْنِي مَنْ اُبْتُلِيَ بِمُخَالَطَةِ النَّاسِ مُعَامَلَةً وَمُعَاشَرَةً وَتَلَطَّفَ وَلَمْ يُنَفِّرْهُمْ كُتِبَ لَهُ صَدَقَةٌ وَالْمُدَارَةُ مَحْثُوثٌ عَلَيْهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ اتَّسَعَتْ دَارُ مَنْ يُدَارِي ... وَضَاقَتْ أَسْبَابُ مَنْ يُمَارِي وَفِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ الْمُدَارَاةُ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيمِ وَبِالْفَاسِقِ فِي النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَتَرْكِ الْأَغْلَاطِ عَلَيْهِ وَالْمُدَاهَنَةُ مُعَاشَرَةُ الْفَاسِقِ وَإِظْهَارُ الرِّضَا بِمَا هُوَ فِيهِ الْأُولَى مَنْدُوبَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُحَرَّمَةٌ. وَعَنْ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمْ: مِثْلُ الْغِذَاءِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَالْآخَرُ مِثْلُ الدَّوَاءِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَالثَّالِثُ مِثْلُ الدَّاءِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لَكِنْ الْعَبْدُ قَدْ يُبْتَلَى بِهِ وَهُوَ الَّذِي لَا أُنْسَ فِيهِ وَلَا نَفْعَ فَتَجِبُ مُدَارَاتُهُ إلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «أُمِرْت بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أُمِرْت بِالْفَرَائِضِ» كَمَا فِي شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ (بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ)

الخمسون الأنس بالناس والوحشة لفراقهم

كَمَا إذَا ظَنَّ عُمُومَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ أَوْ عَدَمَ صَبْرِهِ عَلَيْهِ كَمَا قِيلَ وَدَارِهِمْ مَادُمْت فِي دَارِهِمْ ... وَأَرْضِهِمْ مَا دُمْت فِي أَرْضِهِمْ وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ مَنْ عَصَى أَمْرَ وَالِدَيْهِ لَمْ يَرَ السُّرُورَ مِنْ وَلَدِهِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَشِرْ فِي الْأُمُورِ لَمْ يَنَلْ حَاجَتَهُ وَمَنْ لَمْ يُدَارِ أَهْلَهُ ذَهَبَتْ لَذَّةُ عَيْشِهِ قِيلَ مَرَّ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالُوا لَهُ شَرًّا فَقَالَ لَهُمْ خَيْرًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ يُنْفِقُ مِمَّا عِنْدَهُ وَفِي الْبُسْتَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَفَعَهُ «رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ مُدَارَاةُ النَّاسِ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ» . وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إنَّا لَنَبَشُّ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ رَجُلٌ أَخُو الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْت لَهُ مَا قُلْت ثُمَّ أَلَنْت لَهُ الْقَوْلَ فَقَالَ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ أَكْرَمَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» انْتَهَى عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ غَيْبَةِ الْمُعْلِنِينَ بِالْفِسْقِ مَعَ جَوَازِ مُدَارَاتِهِمْ اتِّقَاءَ شَرِّهِمْ مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى الْمُدَاهَنَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ وَالْمُدَارَاةِ أَنَّ الْمُدَارَةَ بَذْلُ الدُّنْيَا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا أَوْ الدِّينِ أَوْ هُمَا مَعًا فَمُبَاحَةٌ وَرُبَّمَا اُسْتُحْسِنَتْ. وَالْمُدَاهَنَةُ بَذْلُ الدِّينِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا بَذَلَ لَهُ مِنْ دُنْيَاهُ لِحُسْنِ عِشْرَتِهِ وَالرِّفْقِ فِي مُكَالَمَتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَمْدَحْهُ بِقَوْلِهِ فَلَمْ يُنَاقِضْ قَوْلُهُ فِيهِ فِعْلَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ فِيهِ قَوْلُ حَقٍّ وَفِعْلُهُ حُسْنُ عِشْرَةٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ التَّنَاقُضُ [الْخَمْسُونَ الْأُنْسُ بِالنَّاسِ وَالْوَحْشَةُ لِفِرَاقِهِمْ] (الْخَمْسُونَ الْأُنْسُ بِالنَّاسِ وَالْوَحْشَةُ لِفِرَاقِهِمْ) بِدُونِ فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ إذْ الْأُنْسُ بِالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ مَمْدُوحٌ (وَهَذَا مَذْمُومٌ) لِأَنَّهُ نَاشِئٌ مِنْ نِسْيَانِ الْآخِرَةِ وَمُفْضٍ إلَى تَعْطِيلِ الْأَوْقَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِلطَّاعَةِ وَأَنَّ أَكْثَرَ الْمَعَاصِي كَالْكِبْرِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالرِّيَاءِ وَحُبِّ رَأْسِ كُلِّ خَطِئَةٍ يَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]- (فَلِذَا قِيلَ) الْقَائِلُ أَبُو بَكْرٍ الشِّبْلِيُّ (وَمِنْ عَلَامَةِ الْإِفْلَاسِ) خُلُوُّ الْقَلْبِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَبُعْدُهُ عَنْ جَنَابِ قُدْسِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَذَّةِ الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ (الِاسْتِئْنَاسُ بِالنَّاسِ) طَلَبُ الْأُنْسِ بِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ فِي بَابِ الْخَلْوَةِ قَالَ سَمِعْت الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ يَقُولُ الشِّبْلِيُّ يَقُولُ الْإِفْلَاسَ الْإِفْلَاسَ يَا نَاسُ فَقِيلَ لَهُ مَا عَلَامَةُ الْإِفْلَاسِ فَقَالَ مِنْ عَلَامَةِ الْإِفْلَاسِ الِاسْتِئْنَاسُ بِالنَّاسِ وَقِيلَ مَنْ خَالَطَ النَّاسَ دَارَاهُمْ وَمَنْ دَارَاهُمْ رَاءَاهُمْ مِنْ الرِّيَاءِ وَعَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَرْبٍ دَخَلْت عَلَى مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ وَهُوَ فِي دَارِهِ وَحْدَهُ فَقُلْت أَمَا تَسْتَوْحِشُ وَحْدَك فَقَالَ مَا كُنْت أَرَى أَنْ أَحَدًا يَسْتَوْحِشُ مَعَ اللَّهِ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ فَقَالَ مَا جَاءَ بِك فَقَالَ أَكُونُ مَعَك قَالَ إنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ بِالشَّرِكَةِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْنِسْ بِاَللَّهِ لَمْ يَسْتَأْنِسْ بِشَيْءٍ لَكِنْ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ كَمَا أُشِيرُ بِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ الدِّينِيِّ مِنْ تِلْكَ النَّاسِ وَإِلَّا قَالُوا كُنْ مَعَ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَكُنْ مَعَ مَنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَفِي رِسَالَةِ تَاجِ الدِّينِ النَّقْشَبَنْدِيِّ كَانَ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ تِلْمِيذٌ فَقَالَ لَهُ إنَّ مَقَامَك سَبَقَ مَقَامِي فَاذْهَبْ إلَى الْبِسْطَامِيِّ قَدَّسَ سِرَّهُ الْعَزِيزُ فَقَالَ الْمُرِيدُ إنِّي أَصِلُ إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَقَالَ الشَّيْخُ إذَا كَانَ وِصَالُك إلَيْهِ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً فَصُحْبَتُك مَعَ أَبِي يَزِيدَ خَيْرٌ لَك فَلَمْ يَذْهَبْ ثُمَّ يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ ذَهَبَ الْمُرِيدُ لِبَعْضِ مَصْلَحَةٍ إلَى مَدِينَة أَبِي يَزِيدَ فَذَهَبَ إلَى زِيَارَتِهِ فَلَمَّا رَآهُ اسْتَغْرَقَ فَمَاتَ فَسُئِلَ الشَّيْخُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ كَانَ قَبْلُ يَصِلُ إلَيْهِ تَعَالَى بِمَقَامِهِ فَلَمَّا وَصَلَ فِي حُضُورِنَا وَوَسَاطَتِنَا بِمَقَامٍ مِنَّا لَمْ يَحْتَمِلْ وُجُودَهُ فَمَاتَ (وَكَذَا الْأُنْسُ بِسَائِرِ مَتَاعِ الدُّنْيَا كَالْكَرْمِ وَالْبُسْتَانِ وَالرَّحَى وَالضَّيْعَةِ وَنَحْوِهَا) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَيْسَ

إلَّا مَتَاعَ الْغُرُورِ وَإِيثَارَ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى لِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِثْلُهُ مِلْكًا لِمَالِكِهِ إذْ يَدُهُ يَدُ عَارِيَّةٍ وَأَمَانَةٍ وَقَدْ يُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ فِي حَيَاتِهِ وَعِنْدَ مَمَاتِهِ بَلْ مَا أَكَلَهُ أَيْضًا لَيْسَ مِلْكَهُ لِفَنَائِهِ وَمَا لَبِسَهُ لَيْسَ مِلْكَهُ لِبَلَاهُ وَإِنَّمَا مِلْكُهُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ وَقِيلَ مَا هَمَّ، فَلَيْسَ فِي كَثِيرِهِ إلَّا إمَاتَةُ الْقَلْبِ وَصَرْفُهُ عَنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى (بَلْ اللَّائِقُ) وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا (لِسَالِكِ الْآخِرَةِ) مُرِيدِ ثَوَابِهَا وَخَلَاصِ عِقَابِهَا بَلْ رِفْعَةِ دَرَجَاتِهَا (الْأُنْسُ بِذِكْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ بِالْإِطْلَاقِ وَأَقْرَبُ الْقُرُبَاتِ بِالِاتِّفَاقِ وَبِهِ وَصَلَ الْوَاصِلُونَ وَبِتَرْكِهِ سَقَطَ السَّاقِطُونَ إذْ شَرَفُ الذِّكْرِ عَلَى قَدْرِ شَرَفِ مَذْكُورِهِ لَكِنْ الظَّاهِرُ هُنَا عُمُومُ الْمَجَازِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ ذِكْرٍ مِنْ أَيِّ عِبَادَةٍ قَوْلِيَّةٍ أَوْ بَدَنِيَّةٍ أَوْ مَالِيَّةٍ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ (وَطَاعَتُهُ) يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ إذْ الْمُتَبَادَرُ هُوَ عَطْفُ الْعَامِ عَلَى الْخَاصِّ لَا نَحْوُ عَطْفِ التَّفْسِيرِ وَفِي النَّصَائِحِ الْوَلَدِيَّةِ لِحُجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ الشَّلَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَدَمَ أَرْبَعَمِائَةِ أُسْتَاذٍ وَقَالَ قَرَأْت أَرْبَعَةَ آلَافِ حَدِيثٍ ثُمَّ اخْتَرْت مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا عَمِلْت بِهِ وَخَلَّيْت مَا سِوَاهُ لِأَنَّى تَأَمَّلْت فَوَجَدْت خَلَاصِي وَنَجَاتِي فِيهِ وَكَانَ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ «اعْمَلْ لِدُنْيَاك بِقَدْرِ مَقَامِك فِيهَا وَاعْمَلْ لِآخِرَتِك بِقَدْرِ بَقَائِك فِيهَا وَاعْمَلْ لِلَّهِ بِقَدْرِ حَاجَتِك إلَيْهِ وَاعْمَلْ لِلنَّارِ بِقَدْرِ صَبْرِك عَلَيْهَا» فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَجْعَلَ الذِّكْرَ وَالطَّاعَةَ كَالْغِذَاءِ لَهُ وَذَا إنَّمَا يَتَحَصَّلُ بِتَطْهِيرِ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَتَنْوِيرِهِ بِذِكْرِهِ إلَى أَنْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَحِفْظِ الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ بِصَرْفِ كُلٍّ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ فَإِنَّ امْرَأً لَوْ ذَهَبَ سَاعَةً مِنْ عُمْرِهِ إلَى غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ لَجَدِيرٌ أَنْ تَطُولَ حَسْرَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي الْحَدِيثِ «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا» قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِهِ الْحِصْنُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَاجْعَلْهَا طَاعَةً كَيْ لَا تُحَصِّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَدَامَةً وَعَنْ شَرْحِ الصُّدُورِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ إنْسَانٍ ثَلَاثَةُ أَخِلَّاءٍ أَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ مَا أَنْفَقْتَ فَلَكَ وَمَا أَمْسَكْتَ فَلَيْسَ لَك فَذَلِكَ مَالُهُ وَأَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ أَنَا مَعَك فَإِذَا أَتَيْت بَابَ الْمَلِكِ تَرَكْتُك وَرَجَعْتُ فَذَاكَ أَهْلُهُ وَحَشَمُهُ وَأَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ أَنَا مَعَك حَيْثُ دَخَلْت وَحَيْثُ خَرَجْت فَذَاكَ عَمَلُهُ» (وَالْوَحْشَةُ وَالضَّجَرُ عِنْدَ مُلَاقَاتِ الْعَوَامّ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَحَّشُ مِنْ الْخَوَاصِّ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّاسِ هُنَا هُمْ الْعَوَامُّ فَإِنَّ مُرِيدَ الْآخِرَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ بَلْ لِصُحْبَتِهِمْ وَزِيَارَتِهِمْ مَنَافِعُ دِينِيَّةٌ وَفَوَائِدُ أُخْرَوِيَّةٌ وَلِهَذَا قَالُوا مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَصِلُ بِمُجَرَّدِ الصُّحْبَةِ وَالْخِدْمَةِ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالْأَخْيَارِ وَلَا تَصْحَبْ مَعَ اللَّهِ إلَّا بِالْمُوَافَقَةِ وَلَا مَعَ الْخَلْقِ إلَّا بِالْمُنَاصَحَةِ وَلَا مَعَ النَّفْسِ إلَّا بِالْمُخَالَفَةِ وَلَا مَعَ الشَّيْطَانِ إلَّا بِالْعَدَاوَةِ اصْحَبُوا مَعَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تُطِيقُوا فَاصْحَبُوا مَنْ يَصْحَبُ مَعَ اللَّهِ لِتَصِلَكُمْ بَرَكَاتُ صُحْبَتِهِ إلَى اللَّهِ وَمِنْ شَأْنِ الْمَرِيدِ التَّبَاعُدُ عَنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ صُحْبَتَهُمْ سُمٌّ مُجَرَّبٌ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَهُوَ يَنْقُصُ بِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] (لَا لِلْكِبْرِ وَالْعُجْبِ بَلْ لِمَنْعِهِمْ عَنْ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالطَّاعَةِ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ الْمَنْعِ عَنْ صُحْبَةِ مَنْ كَانَتْ إعَانَتُهُ عَلَى الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْرِفَةِ وَاحِدٍ وَشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ لِيَأْلَفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِاَللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَمَنْ انْفَرَدَ عَنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ انْفَرَدَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَأَوْقَعَهُ فِيمَا يُؤَدِّي بِهِ إلَى عَذَابِ النِّيرَانِ وَلَفْظُ الْجَمَاعَةِ يَنْصَرِفُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اجْتَمَعَ فِيهِمْ مِنْ جَمِيلِ خِصَالِ الْإِسْلَامِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَتَرَقِّي السَّابِقِينَ مِنْهُمْ إلَى دَرَجَةِ الْإِحْسَانِ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَتْ التَّقْوَى وَالْإِحْسَانُ فِي وَاحِدٍ كَانَ هُوَ الْجَمَاعَةُ وَالْعَذَابُ فِي مُخَالَفَتِهِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ

الحادي والخمسون الطيش والخفة

أَيْضًا «الْجَمَاعَةُ بَرَكَةٌ» أَيْ لُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ زِيَادَةٌ فِي الْخَيْرِ «وَالسُّجُودُ بَرَكَةٌ» «وَالثَّرِيدُ بَرَكَةٌ» [الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ] (الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ) (وَالطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ) بِالْكَسْرِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ (وَيَظْهَرُ ذَلِكَ) أَيْ الْخِفَّةُ (فِي الْأَعْضَاءِ فِي الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ يَلْتَفِتُ) يَمِينًا وَشِمَالًا بِرَأْسِهِ (وَيَنْظُرُ) بِعَيْنِهِ (لِكُلِّ جَاءٍ وَذَاهِبٍ وَمُتَحَرِّكٍ وَيُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ كُلَّ قَوْلٍ وَ) يَظْهَرُ (فِي اللِّسَانِ بِأَنْ يُكْثِرَ الْكَلَامَ وَالِاسْتِفْسَارَ عَمَّا لَا يُهِمُّ) فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا (وَالِاسْتِعْجَالِ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ) بِلَا تَأَمُّلٍ وَقَبْلَ تَحَرِّي الْمَنَاطِ (وَ) يَظْهَرُ (فِي الْيَدِ بِالتَّحْرِيكِ الْكَثِيرِ) بِلَا دَاعٍ (وَحَكِّ الْعُضْوِ وَتَسْوِيَةِ الْعِمَامَةِ وَاللِّحْيَةِ وَالثَّوْبِ بِلَا حَاجَةٍ) بَلْ لِمُجَرَّدِ الْخِفَّةِ (وَعَبَثِهَا) وَهُوَ اللَّعِبُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ لَذَّةٌ وَلَا فَائِدَةٌ (وَ) يَظْهَرُ (فِي الْقَدَمِ بِالْمَشْيِ فِيمَا لَا حَاجَةَ فِيهِ وَتَحْرِيكِهِ أَوْ) يَظْهَرُ (فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِالتَّمَدُّدِ وَتَحْرِيكِ الْكَتِفَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَذَلِكَ) الْخِفَّةُ فِي الْأَعْضَاءِ (نَاشِئٌ مِنْ السَّفَهِ وَخِفَّةِ الْعَقْلِ) وَعِنْدَ الْمُتَصَوِّفَةِ أَنَّ خِفَّةَ الْأَعْضَاءِ مِنْ خَرَابِ الْبَاطِنِ فَلَوْ رَكَدَ الْقَلْبُ لَاضْمَحَلَّتْ الْحَرَكَاتُ فِي الظَّاهِرِ وَلِذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي النِّسْوَانِ لِقِلَّةِ عُقُولِهِنَّ وَالشُّبَّانِ وَالْمَرْضَى (وَضِدُّهُ) أَيْ الطَّيْشِ (الْوَقَارُ) وَهُوَ الْحِلْمُ وَالرَّزَانَةُ وَقِيلَ الْوَقَارُ الْعَظَمَةُ (وَالسُّكُونُ) أَيْ عَدَمُ الْحَرَكَةِ بِلَا فَائِدَةٍ (فَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ فُضُولِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالْحَرَكَةِ فَهُوَ عَلَامَةُ قُوَّةِ الْحِلْمِ وَالْعِلْمِ) النَّاشِئَيْنِ مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ وَرَصَانَتِهِ (وَسِيمُ الصَّالِحِينَ) أَيْ عَلَامَتُهُمْ وَعَادَتُهُمْ وَعَنْ حُسْنِ التَّنْبِيهُ وَمِنْ أَخْلَاقِ الصَّالِحِينَ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ خُصُوصًا فِي إتْيَانِ الصَّلَاةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] أَيْ بِرِقٍّ وَاقْتِصَادٍ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «سُرْعَةُ الْمَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ الْمُؤْمِنِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «سُرْعَةُ الْمَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ الْوَجْهِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] أَيْ اقْصِدْ فِيهِ لَا مَشْيَ الْمُتَمَاوِتِينَ وَلَا مَشْيَ الْجَبَّارِينَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا وَقَدْ يَحْسُنُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ كَالِاخْتِيَارِ فِي الْحَرْبِ وَكَالْإِسْرَاعِ إلَى حُضُورِ جَنَائِزِ الصَّالِحِينَ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ كَمَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْرَعَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إسْرَاعًا كُلِّيًّا» وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا» أَيْ الْجَوَانِبَ أَيْ السَّهْلُ الْكَرِيمُ الْمِضْيَافُ كَذَا قِيلَ وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ أَرَادَ الَّذِينَ جَوَانِبُهُمْ وَطِيئَةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مَنْ يُصَاحِبُهُمْ وَلَا يَتَأَذَّى «وَشِرَارُكُمْ الثَّرْثَارُونَ» الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ تَكَلُّفًا وَتَشَدُّقًا وَالثَّرْثَرَةُ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَتَرْدِيدِهِ «الْمُتَفَيْهِقُونَ» الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِأَشْدَاقِهِمْ وَمَا فِي الشِّرْعَةِ فِي آدَابِ الْمَشْيِ وَيُسْرِعُ فِي الْمَشْيِ كَأَنَّهُ يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الزَّهْوِ أَيْ الْكِبْرِ فَلَعَلَّهُ نَفْيُ غَايَةِ الْبُطْءِ لَا إثْبَاتُ غَايَةِ السُّرْعَةِ وَفِيهِ أَيْضًا وَلَا يَتَمَطَّى فِي مَشْيِهِ وَفِيهِ أَفْضَلُ خِصَالِ الْمُؤْمِنِ الصَّمْتُ وَفِي الصَّمْتِ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعَافِيَةِ. وَعَنْ عِيسَى حِين قِيلَ لَهُ دُلَّنَا عَلَى عَمَلٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ قَالَ لَا تَنْطِقُوا أَبَدًا وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَنْطِقُوا إلَّا بِخَيْرٍ» وَقَالَ سُلَيْمَانُ الْكَلَامُ مِنْ فِضَّةِ وَالصَّمْتُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِيهِ وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ وَكَانَ الصِّدِّيقُ يَضَعُ حَجَرًا فِي فِيهِ لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْكَلَامِ

الثاني والخمسون العناد ومكابرة الحق وإنكاره

(لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ) الِاحْتِرَازُ (لِلرِّيَاءِ وَالتَّكَبُّرِ وَعَلَامَةُ الْإِخْلَاصِ) فِي الِاحْتِرَازِ عَنْهُمَا (اسْتِوَاءُ الْخَلْوَةِ وَالْخِلْطَةِ) [الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ الْعِنَادُ وَمُكَابَرَةُ الْحَقِّ وَإِنْكَارُهُ] (الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ) (الْعِنَادُ وَمُكَابَرَةُ الْحَقِّ وَإِنْكَارُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ) كَإِنْكَارِ أَبِي جَهْلٍ نُبُوَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ كُفْرُ أَبِي طَالِبٍ لِخَوْفِ لَوْمِ قَوْمِهِ رِيَاءً (وَهُوَ نَاشِئٌ مِنْ الرِّيَاءِ) خَوْفًا مِنْ سُقُوطِ نَظَرِهِمْ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ شَرِيفًا وَعَالِيًا وَخَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْمُتَابَعَةِ وَهُوَ مَتْبُوعُهُمْ (أَوْ الْحِقْدِ أَوْ الْحَسَدِ) مِمَّنْ لَهُ الرِّيَاءُ (أَوْ الطَّمَعِ) فِي حُصُولِ أَمْرٍ يَفُوتُ لَوْ جَرَى مَعَ الْحَقِّ وَعَنْ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» وَضِدُّهُ قَبُولُ الْحَقِّ وَهُوَ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ وَصِفَاتِ الصَّالِحِينَ وَفِي الْجَامِعِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ» مِنْ الْهَوْنِ بِمَعْنَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ «لَيِّنُونَ» مِنْ اللِّينِ ضِدُّ الْخُشُونَةِ وَفُسِّرَ الْهَيِّنُ بِسُهُولَتِهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَمُهِمَّاتِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا فِي دِينِهِ فَكَمَا قَالَ عُمَرُ صِرْت فِي الدِّينِ أَصْلَبَ مِنْ الْحَجَرِ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الْجَبَلُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْحَتَ وَلَا يُنْحَتُ مِنْ دِينِ الْمُؤْمِنِ وَاللِّينُ لِينُ الْجَانِبِ وَسُهُولَةُ الِانْقِيَادِ إلَى الْخَيْرِ وَقَبُولُ الْحَقِّ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْمُسَامَحَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ أُشْكِلَ بِمِثْلِ لَا تَكُنْ رَطْبًا فَتُعْصَرَ وَلَا يَابِسًا فَتُكْسَرَ وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ لَا تَكُنْ حُلْوًا فَتُبْلَعَ وَلَا مُرًّا فَتُلْفَظَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الِاقْتِصَادُ إذْ خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا لَا الْإِفْرَاطُ وَلَا التَّفْرِيطُ وَلَعَلَّك سَمِعْت قِصَّةَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهِيَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ فِي آخِرِ شَرْحِ عَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ أَنَّهُ دَخَلَ مِنْ السَّطْحِ دَارَ رَجُلٍ فَوَجَدَهُ عَلَى حَالَةٍ مُنْكَرَةٍ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ عَصَيْتُ مِنْ وَجْهٍ فَقَدْ عَصَيْتَ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ - {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]- وَقَدْ تَجَسَّسْت وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]- وَقَدْ دَخَلْت مِنْ السَّطْحِ قَالَ تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وَمَا سَلَّمْت فَتَرَكَهُ عُمَرُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ التَّوْبَةَ وَأَيْضًا رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِ امْرَأَةٍ بَعْدَ حُكْمِهِ عَلَى خِلَافِهِ قَائِلًا كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى نِسْوَانِهِمْ مَعْرُوفٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَرَضِيَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُكْمَ نَائِبِهِ عَلَيْهِ فِي مُخَاصَمَةِ النَّصْرَانِيِّ بِدِرْعٍ أَيْضًا مَعْرُوفٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَالْمَشَايِخِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى [الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ التَّمَرُّدُ] (الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ) (التَّمَرُّدُ) الْخَارِجُ عَنْ الْحَقِّ (وَالْإِبَاءُ) شِدَّةُ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْحَقِّ (وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ الْعِظَةِ) أَيْ الْوَعْظِ (وَ) عَدَمُ (الْإِطَاعَةِ لِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ) مِنْ وَلِيِّ أَمْرٍ أَوْ عَالِمٍ أَوْ وَالِدٍ أَوْ أُسْتَاذٍ لَا نَحْوَ غَنِيٍّ أَوْ ظَالِمٍ (وَسَبَبُهُ الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ وَالرِّيَاءُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَالطَّمَعُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى) وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ

الرابع والخمسون الصلف

وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا وَلَهَا وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا وَطَغَى وَنَسِيَ الْمُبْتَدَا وَالْمُنْتَهَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ» الْحَدِيثَ. وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيُصَدُّ عَنْ الْحَقِّ» وَرُئِيَ رَجُلٌ جَالِسًا فِي الْهَوَاءِ فَقِيلَ لَهُ بِمَ نِلْت هَذَا فَقَالَ تَرَكْت الْهَوَى فَسُخِّرَ لِي الْهَوَى وَاعْلَمْ أَنَّ مُوَافَقَةَ هَوَى النَّفْسِ طَاعَةُ الشَّيْطَانِ فَلَا تَتْبَعْ كُلَّ مَا يَشْتَهِي خَاطِرُك وَاعْتَبِرْ حَالَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ بِمَيْلِ مَا اشْتَهَى خَاطِرُهُ مَرَّةً جَرَى عَلَيْهِ مَا جَرَى وَنُوحٌ لَمَّا أَتْبَعَ فِي طَلَبِ تَخْلِيصِ ابْنِهِ مِنْ الْغَرَقِ رَدَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ - {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]- الْآيَةَ وَإِبْرَاهِيمُ لَمَّا اسْتَرَاحَ سَاعَةً فِي مَضْجَعِهِ اُبْتُلِيَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَيَعْقُوبُ فَرِحَ بِلِقَاءِ يُوسُفَ سَاعَةً فَحُبِسَ فِي بَيْتِ الْأَحْزَانِ أَرْبَعِينَ وَيُوسُفُ الْتَفَتَ يَوْمًا إلَى جَمَالِهِ وَقَالَ لَوْ كُنْت عَبْدًا مَاذَا كُنْت أُسَاوِي فَبِيعَ بِثَمَنٍ بَخْسٍ وَحُبِسَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَمُوسَى ظَنَّ أَنَّهُ أَعْلَمُ أَهْلَ زَمَانِهِ فَابْتُلِيَ بِالْخَضِرِ وَدَاوُد مَالَ إلَى حَظّ نَفْسِهِ نَفَسًا فَابْتُلِيَ بِالْبُكَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى نَاحَتْ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ مَعَهُ وَسُلَيْمَانُ اسْتَعْظَمَ مُلْكَهُ فَسُلِبَ مِنْهُ وَأُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدٌ وَيَحْيَى الْتَجَأَ إلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَتَرَ فِي بَطْنِ شَجَرَةٍ فَشُقَّ بِالْمِنْشَارِ [الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الصَّلَفُ] (الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ) (الصَّلَفُ) بِفَتْحَتَيْنِ (وَهُوَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ) بِالثَّنَاءِ عَلَيْهَا بِالْمَحَاسِنِ وَالْخَلَاصِ عَنْ الْمَعَايِبِ (وَإِظْهَارُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ) مِنْ التَّوَارِيخِ الْمَاضِيَةِ الْمُسْتَغْرَبَةِ أَوْ الْأُمُورِ الَّتِي سَتَحْدُثُ بِالتَّكَهُّنِ أَوْ بِالرَّمْلِ أَوْ الْجَفْرِ وَنَحْوِهِ (مَعَ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ مِنْ الْكَذِبِ وَ) مِنْ عَدَمِ (التَّصْدِيقِ) أَيْ تَصْدِيقِ الْغَيْرِ لَهُ (وَهُوَ) أَيْ هَذَا الْخُلُقُ (نَاشِئٌ عَنْ الْكَذِبِ) طَلَبًا لِاسْتِطْرَافِ السَّامِعِينَ لِحَدِيثِهِ (وَالْعُجْبِ) قِيلَ إنَّ الصَّلَفَ وَالتَّصَلُّفَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ كَإِظْهَارِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأُمُورِ الصَّعْبَةِ وَالْأَخْبَارِ الْعَجِيبَةِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَمَدُّحُ النَّفْسِ وَجَلْبُ الْقُلُوبِ وَتَرْغِيبُ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ اقْتِضَاءِ الْمَقَامَاتِ وَذَلِكَ قَدْ يَنْشَأُ مِنْ الْكِبْرِ وَالْكَذِبِ وَالْعُجْبِ كَإِخْبَارِ الْأَغْنِيَاءِ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ فَوْقَ الْحَدِّ وَالْأُمَرَاءِ بِالصَّلَابَةِ وَالشُّجَاعَةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْعُلَمَاءِ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمَشَايِخِ بِالرِّيَاضَاتِ وَالْكَشْفِ وَالْكَرَامَاتِ (وَيَنْشَأُ مِنْهُ النِّفَاقُ) الْعِلْمِيُّ (وَهُوَ) أَيْ النِّفَاقُ الْخُلُقِيُّ. (الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ) (وَمَعْنَاهُ عَدَمُ مُوَافَقَةِ الظَّاهِرِ لِلْبَاطِنِ وَالْقَوْلِ لِلْفِعْلِ) هَذَا هُوَ نِفَاقُ الْعَمَلِ وَأَمَّا نِفَاقُ الِاعْتِقَادِ فَهُوَ إظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِبْطَالُ الْكُفْرِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُنَافِقِ فِي الْقُرْآنِ وَأَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ

السادس والخمسون الجربزة

لِشَرَفِ مَا جَرَى فِي لِسَانِهِمْ أَوَّلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فَلَمَّا رَأَى قُوَّةَ الْإِسْلَامِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَعَلِمَ عِزَّةَ كَلِمَةِ اللَّهِ الْعُلْيَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ أَتْبَاعِهِ وَكَبَّرَ وَقِيلَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ إظْهَارُ الصَّدَاقَةِ وَإِبْطَانُ الْعَدَاوَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]- وَعَنْ حَدِيثِ الدَّيْلَمِيِّ «مَنْ تَهَيَّأَ لِلنَّاسِ بِقَوْلِهِ وَلِبَاسِهِ وَخَالَفَ ذَلِكَ بِأَعْمَالِهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَعَنْ حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» [السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ الْجَرْبَزَةُ] (السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ) (الْجَرْبَزَةُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهَا مَلَكَةُ إدْرَاكٍ تَدْعُو إلَى اطِّلَاعِ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ كَالْمُتَشَابِهَاتِ وَبَحْثِ الْقَدَرِ (وَعِلَاجُهُ تَأَمُّلُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] اعْلَمْ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا هُوَ مَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ كَمَا فُهِمَ مِنْ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ أَسْلَمُ وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَعِنْدَ الْبَعْضِ يُمْكِنُ اطِّلَاعُهُ وَمِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَمَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا حَتَّى قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]- إنَّا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَعَنْ النَّوَوِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَعَنْ ابْنِ الْحَاجِبِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ حَرَّمَ التَّأْوِيلَ وَنَقَلَ إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى مَنْعِهِ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا الْمَاتُرِيدِيَّةُ وَتَوَسَّطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ التَّأْوِيلَ إنْ قَرِيبًا إلَى مُخَاطَبَاتِ الْعَرَبِ فَنَعَمْ وَإِلَّا فَنَتَوَقَّفُ وَابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى التَّأْوِيلِ الْخَلَلُ فِي فَهْمِ الْعُمُومِ فَنَعَمْ وَإِلَّا فَلَا انْتَهَى. قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ وَفِي خَتْمِ آيَاتِهِ بِقَوْلِهِ {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] تَعْرِيضٌ بِالزَّائِغِينَ وَمَدْحٌ لِلرَّاسِخِينَ يَعْنِي مَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَلَمْ يُخَالِفْ هَوَاهُ فَلَيْسَ مِنْ أُولِي الْعُقُولِ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الرَّاسِخُونَ - {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] إلَخْ فَخَضَعُوا لِبَارِئِهِمْ بَعْدَ أَنْ اسْتَعَاذُوا بِهِ مِنْ الزَّيْغِ النَّفْسَانِيِّ وَلَعَلَّك سَمِعْت أَيْضًا فِيمَا سَبَقَ (وَضَرَرُهُ الْأَذَى) [السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الْبَلَادَةُ وَالْغَبَاوَةُ وَالْحَمَاقَةُ] (السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ) (الْبَلَادَةُ وَالْغَبَاوَةُ) وَالْحَمَاقَةُ وَهِيَ مَلَكَةٌ يَقْصُرُ صَاحِبُهَا عَنْ إدْرَاكِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ (وَضِدُّهُمَا) بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ (الذَّكَاءُ وَالْفِطْنَةُ) قِيلَ أَوَّلُ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ الْحَمَاقَةُ وَآخِرُهَا الْجَهْلُ وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى قَالَ مَا عَجَزْت عَنْ إحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَعَجَزْت عَنْ مُعَالَجَةِ الْحَمْقَى وَقَدْ قِيلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ بِهِ ... إلَّا الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا (وَعِلَاجُهُ السَّعْيُ وَالْجِدُّ وَالْمُوَاظَبَةُ فِي التَّعَلُّمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَبِي يُوسُفَ كُنْت) أَنْتَ (بَلِيدًا) أَحْمَقَ (أَخْرَجَتْك مُوَاظَبَتُك مِنْ الْبَلَادَةِ) حَتَّى صَارَ إمَامًا ثَانِيًا مَعَ كَوْنِهِ عَلَى الْبَلَادَةِ بِنَاءً عَلَى الْجِدِّ وَالسَّعْيِ وَالْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مَعَ شِدَّةِ ذَكَائِهِ صَارَ إمَامًا ثَالِثًا لِعَدَمِ سَعْيِهِ مِثْلَ سَعْيِ أَبِي يُوسُفَ اعْتِمَادًا عَلَى ذَكَائِهِ فَانْظُرْ إلَى الْمُوَاظَبَةِ كَيْفَ أَخْرَجَتْ صَاحِبَهَا مِنْ الْبَلَادَةِ وَأَوْصَلَتْهُ إلَى مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا إلَّا الْأَفْرَادُ وَقَدْ قَالُوا إذَا تَعَارَضَ قَوْلُهُمَا يُرَجَّحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ الْوَلْوَالِجيَّةِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ صَاحِبُ حَدِيثٍ حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَحْفَظُ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ فَمَا ظَنُّك فِي النَّاسِخِ وَكَانَ صَاحِبَ فِقْهٍ وَمَعَانٍ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ يَعْرِفُ أَحْوَالَ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ وَصَاحِبَ فِقْهٍ وَمَعَانٍ قَلَّ رُجُوعُهُ فِي الْمَسَائِلِ وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَالْإِعْرَابِ وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْأَحَادِيثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ كَانَ مُقَدَّمًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا أَنَّهُ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ لِمَذْهَبٍ خَاصٍّ

الثامن والخمسون الشره

لَهُ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ إنَّمَا يُحِلُّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ مِنْ حِينِ سُمِعَ إلَى أَنْ يُرْوَى انْتَهَى ثُمَّ فِي الْمَنْقُولِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ إشْكَالِ أَنَّ الْبَلَادَةَ طَبِيعَةٌ غَرِيزِيَّةٌ كَيْفَ يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَجْهُ الْإِشَارَةِ أَنَّهُ يَدْفَعُ ثَوْرَتَهَا وَشِدَّتَهَا بِالْمُجَاهَدَةِ [الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ الشَّرَهُ] (الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ الشَّرَهُ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ قُوَّةُ الْحِرْصِ وَفِي الِاصْطِلَاحِ مَلَكَةٌ بِهَا يُتَنَاوَلُ الْمُشْتَهَيَاتُ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ أَوْ لَا (عَلَى الطَّعَامِ وَالْجِمَاعِ) قَالَ فِي الْفَيْضِ وَيُكْرَهُ مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْجِمَاعِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُرُوءَةِ وَلِهَذَا قَالَ الْأَحْنَفُ جَنِّبُوا مَجَالِسَكُمْ ذِكْرَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ فَكَفَى بِالرَّجُلِ ذَمًّا أَنْ يَكُونَ وَصَّافَا لِفَرْجِهِ وَبَطْنِهِ وَقِيلَ الْحِرْصُ انْبِعَاثُ النَّفْسِ لِنَيْلِ مَا تَهْوَاهُ فَهُوَ جِنْسٌ تَحْتُهُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ النَّهَمُ وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّبَقُ وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى الْجِمَاعِ وَالشَّرَهُ وَهُوَ الشِّدَّةُ عَلَى الْمَحْرُوصِ مُطْلَقًا فَالْأَوَّلَانِ مِنْ خَوَاصِّ الْحَيَوَانِ فَيَلْتَحِقُ صَاحِبُهُمَا بِالْحَيَوَانَاتِ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ وَيَنْحَطُّ عَنْ دَرَجَةِ الْكَمَالَاتِ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْجِمَاعَ سَفْكُ مَنِيٍّ فِي مُشْتَهًى وَجَوْهَرُ الْمَنِيِّ قُوَّةُ الْبَدَنِ وَنُورُ الْبَصَرِ وَضِيَاءُ الْعَقْلِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ إضَاعَةُ هَذَا الْجَوْهَرِ الثَّمِينِ وَالدُّرِّ الْكَمِينِ وَالْكَنْزِ الدَّفِينِ بِمُجَرَّدِ مُقْتَضَى هَيَجَانِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَقَدْ أَوْصَى بَعْضُهُمْ وَلَدَهُ بِقِلَّةِ الْجِمَاعِ فَقَالَ أَقْلِلْ نِكَاحَك مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّهُ ... مَاءُ الْحَيَاةِ يُصَبُّ فِي الْأَرْحَامِ قِيلَ اتَّفَقَ أَطِبَّاءُ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَالْهِنْدِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمْرَاضِ تَتَوَلَّدُ مِنْ سِتَّةٍ كَثْرَةُ الْجِمَاعِ وَقِلَّةُ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ وَكَثْرَةُ النَّوْمِ فِي النَّهَارِ وَحَبْسُ الْبَوْلِ وَشُرْبُ الْمَاءِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَإِدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ وَفِي الْبُسْتَانِ أَرْبَعَةٌ يَهْدِمْنَ الْعُمْرَ وَرُبَّمَا يَقْتُلْنَ دُخُولُ الْحَمَّامِ مَعَ الْبِطْنَةِ وَأَكْلُ الْقَدِيدِ الْجَافِّ وَالْغَشَيَانُ عَلَى الِامْتِلَاءِ وَمُجَامَعَةُ الْعَجُوزِ لَكِنْ فِي الشِّرْعَةِ وَلَا يُدَاوِمُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ فَإِنَّ الْبِئْرَ إذَا لَمْ تُنْزَحْ ذَهَبَ مَاؤُهَا وَفِي شَرْحِهِ وَرُبَّمَا عُرِضَ لِتَارِكِهِ أَمْرَاضٌ مِثْلُ الدُّوَّارِ وَظُلْمَةِ الْعَيْنِ وَثِقْلِ الْبَدَنِ وَوَرَمِ الْخُصْيَةِ لَعَلَّ ذَلِكَ إمَّا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ أَوْ الْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ [التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْخُمُودُ] بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ نُقْصَانُ الْقُوَّةِ الشَّهْوِيَّةِ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْإِفْرَاطَ فُجُورٌ وَالتَّفْرِيطَ

الستون آخر الأخلاق الذميمة

خُمُودٌ وَالْوَسَطَ عِفَّةٌ فَالْخُمُودُ مَلَكَةٌ يَقُصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ اسْتِيفَاءِ مَا يَنْبَغِي مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ كَالْعِنِّينِ يُقَالُ خَمَدَتْ النَّارُ إذَا سَكَنَ لَهَبُهَا (فَإِنْ كَانَ مُتَأَهِّلًا) يَحْتَاجُ إلَى الْجِمَاعِ (أَوْ بِهِ مَرَضٌ فِي الْمَعِدَةِ فَعِلَاجُهُ بِالطِّبِّ) وَنَحْوِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُجَرَّبَةِ فَافْهَمْ (وَإِلَّا) إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَهِّلًا أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَرَضٌ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْعِلَاجِ فَقَدْ كَفَى) الْخُمُودُ (مَئُونَتَهُمَا) أَيْ الطَّعَامِ وَالْجِمَاعِ لِضَعْفِ دَاعِيَتِهِمَا (وَنَجَا مِنْ غَوَائِلِهِمَا) أَيْ التَّأَهُّلِ وَالْمَرَضِ أَوْ مَفَاسِدِهِمَا وَالْمُؤْمِنُ الْقَلِيلُ الْمُؤْنَةِ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الْكَثِيرِ الْمُؤْنَةِ (وَأَمَّا تَفَاسِيرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَدْ سَبَقَتْ) فِي تَفْسِيرِ الْخُلُقِ وَبَيَانِ مَنْشَئِهِ [السِّتُّونَ آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ] (السِّتُّونَ) آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ (الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي) الظَّاهِرُ غَيْرُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا أَوْ شَامِلٌ لَهَا إذْ صُدُورُ شَيْءٍ مُغَايِرٌ لِإِصْرَارِهِ (وَهُوَ) أَيْ الْإِصْرَارُ (دَوَامُ قَصْدِ الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي وَلَوْ صَدَرَتْ مِنْهُ أَحْيَانَا أَوْ مَرَّةً) وَقَدْ عَرَفْت مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْقَصْدَ سِيَّمَا هُنَا لَا يَشْمَلُ الْهِمَّةَ وَاللَّمَّةَ وَالْخَطِرَةَ بَلْ الْمُرَادُ مَا يَشْمَلُ النِّيَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعَزِيمَةَ فَإِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْقَسَمِ الْأَخِيرِ لَا الْأَوَّلِ قِيلَ هُنَا وَأَمَّا إذَا لَمْ تَصْدُرْ أَصْلًا فَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالشَّيْخِ أَكْمَلِ الدِّينِ لَا يَكُونُ إصْرَارًا بِخِلَافِ الْغَزَالِيِّ كَمَا مَرَّ فَتَأَمَّلْ (وَلَوْ تَخَلَّلَ النَّدَامَةَ) بَيْنَهُمَا (وَالرُّجُوعَ) عَنْهَا (فَلَيْسَ بِإِصْرَارٍ وَلَوْ صَدَرَتْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعِينَ مَرَّةً هَكَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِي الْحَدِيثِ الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ فَإِنَّ رَحْمَتَهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا غَايَةَ فَذُنُوبُ الْعَالَمِ كُلُّهَا مُتَلَاشِيَةٌ عِنْدَ حِلْمِهِ وَعَفْوِهِ إذْ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ إلَى الْغَايَةِ ثُمَّ اسْتَقَالَ مِنْهَا بِالِاسْتِغْفَارِ غُفِرَتْ لَهُ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْإِقَالَةَ مِنْ كَرِيمٍ وَالْكَرِيمُ مَحَلُّ الْإِقَالَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ مُقَارَنَةِ عَدَمِ الْإِصْرَارِ الَّذِي هُوَ تَوْبَةٌ نَصُوحٌ وَأَمَّا مَعَ الْإِصْرَارِ فَمُجَرَّدُ ادِّعَاءٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ نَفَعَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ وَفِي خَبَرٍ «الْمُسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبٍ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ» وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلِي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَالِاسْتِغْفَارُ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ قُلْت هُوَ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ بِدُونِ تَوَاطُؤِ الْقَلْبِ كَمَا يُقَالُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَلَا جَدْوَى لَهُ فَإِنْ أَضَافَ لَهُ تَضَرُّعَ الْقَلْبِ وَابْتِهَالَهُ فَحَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا دَافِعَةٌ لِلسَّيِّئَةِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ هَذَا الْخَبَرُ وَلِلتَّوْبَةِ دَرَجَاتٌ أَوَائِلُهَا لَا تَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلَى أَخِرِهَا وَلِذَاكَ قَالَ سَهْلٌ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍّ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مَوْلَاهُ فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَإِنْ عَصَى قَالَ يَا رَبِّ اُسْتُرْ عَلَيَّ فَإِنْ فَرَغَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ قَالَ يَا رَبِّ تُبْ عَلَيَّ فَإِذَا تَابَ قَالَ يَا رَبِّ اعْصِمْنِي فَإِذَا عَمِلَ قَالَ تَقَبَّلْ مِنِّي. وَسُئِلَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ فَقَالَ أَوَّلُ الِاسْتِغْفَارِ الْإِجَابَةُ ثُمَّ الْإِنَابَةُ التَّوْبَةُ فَالِاسْتِجَابَةُ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَالْإِنَابَةُ أَعْمَالُ الْقَلْبِ وَالتَّوْبَةُ إقْبَالُهُ عَلَى مَوْلَاهُ بِأَنْ يَتْرُكَ الْخَلْقَ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَمِنْ الْجَهْلِ بِالنِّعْمَةِ وَتَرْكِ الشُّكْرِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُغْفَرُ لَهُ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ الثَّبَاتِ ثُمَّ الْبَيَانِ ثُمَّ الْقُرْبِ ثُمَّ الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ الْمُنَاجَاةِ ثُمَّ الْمُصَافَاةِ ثُمَّ الْمُوَالَاةِ ثُمَّ الْمُحَادَثَةِ وَهُوَ الْخُلَّةُ وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي قَلْبِ عَبْدٍ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ غِذَاءً وَالذِّكْرُ قِوَامَهُ وَالرِّضَا زَادَهُ وَالتَّوَكُّلُ صَاحِبَهُ ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى يَرْفَعُهُ إلَيْهِ فَيَرْفَعُهُ إلَى الْعَرْشِ فَيَكُونُ مَقَامُهُ مَقَامَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلتَّكْفِيرِ دَرَجَاتٍ فَبَعْضُهَا مَحْوٌ لِلذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَبَعْضُهَا مُخَفِّفٌ بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ التَّوْبَةِ فَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ وَالتَّدَارُكُ بِالْحَسَنَاتِ وَإِنْ خَلَا عَنْ حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ مِنْ أَوَائِلِ دَرَجَاتِ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ أَنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا. قَالَ أَقُولُ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ حَسَنَةٌ أَيْضًا إذْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِهِ عَنْ غَفْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ حَرَكَتِهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِغِيبَةٍ أَوْ فُضُولٍ بَلْ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ قِيلَ لِأَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ لِسَانِي يُحَرَّكُ بِالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَقَلْبِي غَافِلٌ فَقَالَ اُشْكُرْ اللَّهَ الَّذِي اسْتَعْمَلَ جَارِحَةً مِنْ جَوَارِحِك وَعَوِّدْهُ الذِّكْرَ لَا الْفُضُولَ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنَاوِيِّ. قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مُقَدَّمَةِ حِزْبِهِ الْأَعْظَمِ فَعَلَيْك حِفْظُ مَبَانِيهِ وَالتَّأَمُّلُ فِي مَعَانِيهِ فَقِيلَ ظَاهِرُهُ لَا ثَوَابَ

لِمَنْ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهُ أَوْ يَعْرِفُهَا وَلَكِنْ لَا يَتَأَمَّلُهَا وَأُيِّدَ بِقَوْلِ الْإِمَامِ الْغَيْطِيِّ وَرُدَّ بِأَنَّ مُرَادَهُ نَفْيُ كَمَالِ الثَّوَابِ لَا أَصْلِهِ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ ثَوَابُ الْقُرْآنِ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ لِلتَّعَبُّدِ بِلَفْظِهِ وَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَلَا ثَوَابَ إلَّا بِفَهْمِ مَعْنَاهَا وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا وَرُدَّ أَيْضًا بِمَنْعِ الْفَرْقِ بَلْ الْقِيَاسُ عَدَمُ فَرْقِهِمَا نَعَمْ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْفَهْمِ وَعَدَمِهِ وَاقِعٌ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ وَبَقِيَ أَنَّهُ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ زَلَّةٌ وَاحِدَةٌ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَقْبَحُ مِنْ سَبْعِينَ قَبْلَهَا فَتَأَمَّلْ حَتَّى يَحْصُلَ التَّوْفِيقُ. (وَضَرَرُهُ) أَيْ ضَرَرُ الْإِصْرَارِ (غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ وَيَكْفِيك) فِي الضَّرَرِ (جَعْلُهُ) أَيْ الْإِصْرَارِ (الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً لِوُرُودِ أَنْ «لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ» لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا كَبِيرَةً بِالْمُوَاظَبَةِ فَعَفْوُ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتْبَعُهَا مِثْلُهَا أَرْجَى مِنْ صَغِيرَةٍ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا «وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ» وَالْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ عَلَى رَمْزِ الدَّيْلَمِيِّ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَفِي شَرْحِهِ وَفِيهِ أَبُو شَيْبَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يُتَابَعُ حَدِيثُهُ وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ انْتَهَى لَكِنْ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. اعْلَمْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةٌ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الْإِصْرَارُ وَمِنْهَا اسْتِصْغَارُ الذَّنْبِ كَمَا أَنَّ اسْتِعْظَامَهُ يَجْعَلُهُ صَغِيرَةً وَمِنْهَا الْفَرَحُ وَالتَّمَدُّحُ كَمَا يُقَالُ أَمَا رَأَيْتَنِي كَيْفَ هَتَكْت عِرْضَ فُلَانٍ وَذَكَرْت سَيِّئَاتِهِ حَتَّى أَخْجَلْته وَكَيْفَ رَوَّجْت عَلَيْهِ الزَّائِفَ وَخَدَعْته وَمِنْهَا أَنْ يَتَهَاوَنَ بِسِتْرِ اللَّهِ وَإِمْهَالِهِ إيَّاهُ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ إنَّمَا أَمْهَلَهُ لِيَزْدَادَ إثْمًا فَيَظُنَّ أَنَّهُ تَمْكِينٌ وَعِنَايَةٌ مِنْهُ تَعَالَى وَهُوَ اسْتِدْرَاجٌ وَمَقْتٌ وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ ذَنْبَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ عَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِذَا عُلِمَ مِنْهُ كَبُرَ ذَنْبُهُ كَلُبْسِهِ الْحَرِيرَ وَدُخُولِهِ عَلَى الظَّلَمَةِ مَعَ تَرْكِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَإِطْلَاقِهِ فِي الْأَعْرَاضِ وَتَعَدِّيهِ بِاللِّسَانِ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَقَصْدِهِ الِاسْتِخْفَافَ وَاشْتِغَالِهِ مِنْ الْعُلُومِ بِمَا لَا يَقْصِدُ مِنْهُ إلَّا الْجَاهَ كَعِلْمِ الْجَدَلِ اعْلَمْ أَنَّ لَك عَلَيْنَا أَنْ نُفَصِّلَ الْمَعْصِيَتَيْنِ بَعْضَ تَفْصِيلٍ وَقَدْ سَبَقَ فِي الِاعْتِقَادِ ذِكْرُ الْكَبِيرَةِ وَبَعْضِ تَفَاصِيلِهَا فَلْنَذْكُرْ بَقِيَّتَهَا عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى الزَّيْنِيَّةِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَإِنْ قَلَّ وَلَمْ يُسْكِرْ وَالنَّبِيذِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ لَا حِلَّهُ إلَّا إذَا رَامَ مُنَادَمَةً عَلَيْهِ وَحُضُورًا مَعَ الْفَسَقَةِ وَلِلْمُقَلِّدِ حُكْمُ مُقَلَّدِهِ وَالْغَصْبُ بِمِقْدَارِ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَتَرْكُ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ عَنْ وَقْتِهِ وَالْحَجُّ إذَا فَاتَ وَالسِّحْرُ تَعْلِيمًا أَوْ تَعَلُّمًا أَوْ عَمَلًا وَإِحْرَاقُ حَيَوَانٍ عَبَثًا وَأَكْلُ مَيْتَةٍ بِلَا اضْطِرَارٍ وَالنَّمِيمَةُ وَالْغِيبَةُ لِمَنْ لَا يَتَظَاهَرُ بِفِسْقِهِ وَالْقِمَارُ وَالسَّرَفُ وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فِي الْمَالِ وَالدِّينِ وَعُدُولُ الْحَاكِمِ عَنْ الْحَقِّ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ وَإِدْمَانُ الصَّغِيرِ وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْحَثُّ عَلَيْهَا وَالتَّغَنِّي لِلنَّاسِ وَتَغَنِّي الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَمَّامِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَالْبُخْلُ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبٍ وَتَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَى الشَّيْخَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَقَتْلُ نَفْسِهِ أَوْ إتْلَافُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَاتِلِ غَيْرِهِ وَعَدَمُ اسْتِنْزَاهِ الْبَوْلِ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى فِي الصَّدَقَةِ وَالتَّكْذِيبُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ وَالْغَدْرُ بِأَمِيرِهِ وَتَصْدِيقُ كَاهِنٍ أَوْ مُنَجِّمٍ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالذَّبْحُ لِمَخْلُوقٍ وَإِسْبَالُ الْإِزَارِ خُيَلَاءَ وَالدُّعَاءُ إلَى ضَلَالَةٍ وَسَنُّ سُنَّةٍ وَالْإِشَارَةُ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ وَالْجِدَالُ وَالْمِرَاءُ وَخَصْيُ الْعَبْدِ وَقَطْعُ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَتَعْذِيبُهُ وَكُفْرَانُ نِعْمَةِ الْمُحْسِنِ وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ وَالتَّجَسُّسُ وَاللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالطَّابِ وَالْمِنْقَلَةِ وَكُلِّ لَهْوٍ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَعَدَّ الْعَلَائِيُّ أَكْلَ الْحَشِيشِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَوْلُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ يَا كَافِرُ وَعَدَمُ الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي الْقَسْمِ وَنَاكِحُ الْكَفِّ وَوَاطِئُ الْحَائِضِ وَالسُّرُورُ بِالْغَلَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ وَعَدَمُ عَمَلِ الْعَالِمِ بِعِلْمِهِ وَعَيْبُ الطَّعَامِ وَالرَّقْصُ بِالرَّبَابِ وَمَحَبَّةُ الدُّنْيَا وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ وَإِلَى دَاخِلِ بَيْتِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَقَالُوا النَّظَرُ إلَى مُحَرَّمٍ وَالتَّقْبِيلُ وَاسْتِمْنَاءٌ بِقَصْدِ الشَّهْوَةِ لَا لِتَسْكِينِهَا وَاللَّمْسُ وَالْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَاللَّعْنُ وَلَوْ لِبَهِيمَةٍ وَكِذْبٌ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا إضْرَارَ وَهَجْوُ مُسْلِمٍ وَلَوْ تَعْرِيضًا وَصِدْقًا وَالْإِشْرَافُ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ

وَهَجْرُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَا عُذْرٍ وَكَثْرَةُ الْمُخَاصَمَةِ بِلَا عِلْمٍ وَضَحِكُ مُصَلٍّ اخْتِيَارًا وَالنَّوْحُ وَنَحْوُهُ اخْتِيَارًا وَلُبْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ حَرِيرٍ وَتَبَخْتُرُ الْمَاشِي وَجُلُوسٌ مَعَ فَاسِقٍ لَا يُنَاسِبُهُ وَالصَّلَاةُ فِي وَقْتِ كَرَاهَةٍ وَالصَّوْمُ فِي يَوْمٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَإِدْخَالُ الْمَسْجِدِ نَجَاسَةً أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا يَغْلِبُ تَنَجُّسُهُ وَتَلْطِيخُهُ ثَوْبَهُ أَوْ بَدَنَهُ بِنَجَاسَةٍ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا بِبَوْلٍ وَغَائِطٍ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ بِحَمَّامٍ بِغَيْرِ مَرْأَى النَّاسِ أَوْ خَلْوَةٍ عَبَثًا وَوِصَالُ صَائِمٍ وَوَطْءُ مُظَاهِرٍ قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَمُسَافَرَةُ امْرَأَةٍ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَالنَّجْشُ وَالِاحْتِكَارُ وَالْبَيْعُ وَالسَّوْمُ وَالْخِطْبَةُ عَلَى بَيْعِ أَوْ سَوْمِ أَوْ خِطْبَةِ غَيْرِهِ وَبَيْعُ الْحَاضِرِ وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَالتَّصْرِيَةُ وَالْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ مُحَرَّمٌ مِنْهُ وَكِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ وَاقْتِنَاءُ كَلْبٍ لِغَيْرِ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ وَإِمْسَاكُ خَمْرٍ لَا لِتَخْلِيلِهَا وَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَبَيْعُ خَمْرٍ وَشِرَاؤُهَا وَسَرِقَةُ اللُّقْمَةِ وَاشْتِرَاطُ الْأَجْرِ عَلَى الْحَدِيثِ وَالْبَوْلُ قَائِمًا وَفِي الْمُغْتَسَلِ وَالْمَوَارِدِ وَالسَّدْلُ فِي الصَّلَاةِ وَالْآذَانُ جُنُبًا وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ كَذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَالِاخْتِصَارُ فِي الصَّلَاةِ وَالْعَبَثُ فِيهَا وَاسْتِقْبَالُ الْمُصَلِّي بِوَجْهِهِ وَالِالْتِفَاتُ فِيهَا وَالتَّكَلُّمُ فِي الْمَسْجِدِ بِكَلَامِ الدُّنْيَا وَفِعْلُ مَا لَيْسَ عِبَادَةً فِيهِ وَمُبَاشَرَةُ الصَّائِمِ وَتَقْبِيلُهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ وَدَفْعُ الزَّكَاةِ مِنْ أَرْدَإِ الْمَالِ وَالنَّخْعُ فِي الذَّبْحِ وَأَكْلُ السَّمَكِ الطَّافِي وَالْمُنْتِنِ وَالْمِيتَةِ مِنْ غَيْرِهِ وَمِنْ اللُّحُومِ الْمَثَانَةِ وَالْغُدَّةِ وَالْخُصْيَتَيْنِ وَالذَّكَرِ وَالتَّسْعِيرُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَ عَدَمِ تَعَدِّي السُّوقَةِ وَإِنْكَاحُ الْمُكَلَّفَةِ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا عِنْدَ عَدَمِ الْعَضْلِ وَنِكَاحُ الشِّغَارِ وَتَطْلِيقُ الزَّوْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَبَائِنًا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَتَطْلِيقُهَا فِي الْحَيْضِ إلَّا فِي الْخُلْعِ وَفِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ وَالرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ وَالْمُضَارَرَةُ فِيهَا وَفِي الْإِنْفَاقِ وَالْإِيلَاءُ وَالتَّفْضِيلُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ إلَّا لِعِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ وَتَرْكُ الْقَاضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مَجْلِسًا وَإِقْبَالًا لَا بِالْقَلْبِ وَقَبُولُ جَائِزَةِ السُّلْطَانِ وَمَنْ غَلَبَ الْحَرَامُ عَلَى مَالِهِ وَالْأَكْلُ مِنْ طَعَامِهِ وَإِجَابَةُ دَعَوَاتِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَالْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ وَدُخُولُهَا وَالصَّلَاةُ وَالْمَشْيُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالْمُثْلَةُ بِحَيَوَانٍ وَقَتْلُ حَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ وَتَأْخِيرُ السَّجْدَةِ التِّلَاوِيَّةِ وَتَرْكُهَا مُطْلَقًا وَتَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ لِلصَّلَاةِ وَحَمْلُ الْجِنَازَةِ بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ وَدَفْنُ اثْنَيْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ بِلَا ضَرُورَةٍ وَالصَّلَاةُ عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ وَالسُّجُودُ عَلَى صُورَةٍ وَصَلَاتُهُ وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ بِحِذَائِهِ أَوْ أَمَامَهُ وَشَدُّ الْأَسْنَانِ بِالذَّهَبِ وَاسْتِعْمَالُ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَتَقْبِيلُ فَمِ الرَّجُلِ وَمُعَانَقَتُهُ وَجَعْلُ الرَّايَةِ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ وَابْتِدَاءُ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ إلَّا لِحَاجَةٍ عِنْدَهُ وَبَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَاسْتِخْدَامُ الْخَصِيِّ وَتَمَلُّكُهُ وَكَسْبُهُ وَإِلْبَاسُ صَبِيٍّ مَا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلْبَالِغِ وَتَغَنِّي الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ أَوْ الْأَمَةِ بِحَضْرَةِ مَنْ يَعْقِلُ وَلَوْ نَائِمًا وَالْخُرُوجُ لِقُدُومِ أَمِيرٍ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ أَوْ يَسْتَحِقُّهُ وَيُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ وَانْتِظَارُ الْإِقَامَةِ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ وَالْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ لِغَيْرِ صَوْمٍ وَضَيْفٍ وَالْأَكْلُ لِغَيْرِ جُوعٍ وَتَقْبِيلُ يَدِ غَيْرِ عَالِمٍ وَصَالِحٍ وَأَبٍ وَالسَّلَامُ بِالْيَدِ وَقِيَامُ الْقَارِئِ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَمُعَلِّمِهِ وَوَطْءُ الْحَائِضِ وَالْأَمَةِ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ مِنْهَا سُوءَ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَالْحَسَدَ وَالْكِبْرَ وَالْعُجْبَ وَسَمَاعَ اللَّهْوِ وَجُلُوسَ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا عُذْرٍ وَالسُّكُوتَ عِنْدَ سَمَاعِ غِيبَةِ مُسْلِمٍ وَالْبُكَاءَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَلَطْمَ الْخُدُودِ وَإِمَامَتَهُ بِقَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ وَتَخَطِّيَ رِقَابِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِلْقَاءَ نَجَاسَةٍ عَلَى سَطْحِهِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ وَنَوْمَهُ مَعَ وَلَدِهِ وَعُمْرُهُ سَبْعُ سِنِينَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا انْتَهَى. وَمِنْهَا الْخَوْضُ بِالْبَاطِلِ كَذِكْرِ تَنَعُّمِ الْمُلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالتَّكَلُّمُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَعْنِيهِ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْمَدْحِ. وَمِنْهَا الْمُتَقَعِّرُ فِي الْكَلَامِ بِالتَّشَدُّقِ وَتَكَلُّفِ السَّجْعِ وَالْفَصَاحَةِ وَالتَّصَنُّعِ فِيهِ، وَالْفُحْشُ وَالسَّبُّ وَبَذَاءَةُ اللِّسَانِ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْمِزَاحِ وَإِفْشَاءُ السِّرِّ وَالتَّهَاوُنُ بِحَقِّ الْمَعَارِفِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَخُلْفُ

الْوَعْدِ وَالْغَضَبُ لِغَيْرِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الدِّينِ وَضَعْفُ الْحَمِيَّةِ كَالتَّهَاوُنِ بِتَرْكِ الْمُتَعَرِّضِ لِحَرَمِهِ وَعِرْضِهِ وَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ عَنْ أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ وَلَكِنْ فِي الْفَتَاوَى سُقُوطُ الْعَدَالَةِ بِهِ، وَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ اسْتِخْفَافًا وَشَغْلُ الطَّرِيقِ بِوُقُوفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ وَالتَّعَصُّبُ وَالْمُدَاهَنَةُ وَقَوْلُ الْمُسْلِمِ لِذِمِّيٍّ يَا كَافِرُ وَالدُّعَاءُ بِمَقْعَدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَبِحَقِّ فُلَانٍ (وَأَمَّا حَدُّهُمَا) فَإِذَا عُلِمَ حَدُّ الْكَبِيرَةِ عُلِمَ حَدُّ الصَّغِيرَةِ وَكَثُرَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ وَزُيِّفَتْ كُلُّهَا لَكِنْ هِيَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأُورِدَ بِأَنَّ نَحْوَ النَّوْحِ لِلْمُصِيبَةِ صَغِيرَةٌ مَعَ وُرُودِ وَعِيدٍ وَفِي الْعَيْنِيِّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ هِيَ مَا كَانَ شَنِيعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلُ الْقَلْبِ الْمَذْمُومُ كَالْحَسَدِ الْمُتَعَمَّدِ عِنْدَنَا عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِمُجَرَّدِهِ وَصَغِيرَةٌ إنْ صَمَّمَ وَعَزَمَ وَكَبِيرَةٌ إذَا فَعَلَ وَأَصَرَّ لَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ الشَّرْعِ وَلَمْ يَرِدْ حَدُّهَا وَلَا عَدُّهَا فَلَا مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَتِهَا وَرُبَّمَا قَصَدَ الشَّرْعُ إبْهَامَهُ كَإِبْهَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثُمَّ إنَّ الصَّغَائِرَ إنَّمَا تَكُونُ وَاحِدَةً صَغِيرَةً إذَا كَانَ مُسْتَعْظِمًا لِفِعْلِهَا خَائِفًا مِنْ عِقَابِهَا وَأَمَّا إذَا فَعَلَهَا مُتَهَاوِنًا بِهَا فَكَبِيرَةٌ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ وَاسْتِخْفَافُ الصَّغِيرَةِ كُفْرٌ إذَا ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ وَإِصْرَارُ الصَّغِيرَةِ غَلَبَةٌ لِلْمَعَاصِي عَلَى الطَّاعَاتِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَقِيلَ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى صَغِيرَةٍ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ وَالْمَكْرُوهُ التَّحْرِيمِيُّ مِنْ الصَّغَائِرِ إلَى هُنَا مِنْ الزَّيْنِيَّةِ وَفِيهِ زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ (وَضِدُّهُ) أَيْ الْإِصْرَارِ (الْإِبَانَةُ وَالتَّوْبَةُ وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنْ قَصْدِ الْمَعْصِيَةِ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهَا تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ) لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كَالضَّرَرِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَالِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ بَعْضٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى أُخْرَى وَتَصِحُّ وَلَوْ بَعْدَ نَقْضِهَا مِرَارًا وَالْكَبِيرَةُ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَهَا مُكَفِّرَاتٌ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ وَالِاسْتِغْفَارِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَقَبُولُ التَّوْبَةِ مِنْ الْكُفْرِ قَطْعِيٌّ اتِّفَاقًا وَمِنْ الْمَعَاصِي أَيْضًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ظَنِّيٌّ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْحَجَّ الْمَبْرُورَ لَا يُكَفِّرُ الْكَبِيرَةَ وَمُرَادُ مَنْ قَالَ بِالتَّكْفِيرِ لَيْسَ سُقُوطَ قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَالْمَظَالِمِ وَالدُّيُونِ بَلْ يُكَفِّرُ إثْمَ تَأْخِيرٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حِينَ فَرَاغِ الْحَجِّ فَقَدْ ارْتَكَبَ الْآنَ كَبِيرَةً وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ حِفْظُهُ كَذَا فِي الزَّيْنِيَّةِ أَيْضًا وَعَنْ شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ حَدِيثَ تَكْفِيرِ الْحَجِّ التَّبِعَاتِ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْحُفَّاظِ بَلْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى شِدَّةِ ضَعْفِهِ فَمَا فِي الْمُبَارِقِ الْمَغْفُورُ هُوَ الصَّغَائِرُ إنْ وُجِدَتْ وَإِلَّا رَجَوْنَا أَنْ يَغْفِرَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِعُمُومِ وقَوْله تَعَالَى - {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]- وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْهُمَا كُتِبَ بِهِ الْحَسَنَاتُ فَيَكَادُ أَنْ يَكُونَ رَأْيًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِعَدَمِ مَنْ سَبَقَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ بَلْ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ مَكْفَرِيَّةِ الْكَبَائِرِ بِشَيْءٍ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَكَذَا أَيْضًا فِي الْمَبَارِقِ فِي حَدِيثِ «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . قَالَ شَارِحُهُ حُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تُغْفَرُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي الْخُلُوِّ عَمَّا سِوَاهَا لَكِنْ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ أَنْ يَغْفِرَ مَظَالِمَ الْحُجَّاجِ وَجَدَّ فِيهِ حَتَّى يَسْتَجِيبَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فَضَحِكَ مُسْتَبْشِرًا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي التَّشْبِيهِ فِي الْخُلُوِّ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ انْتَهَى، وَكَذَا أَيْضًا مَا فِيهِ فِي حَدِيثِ «أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ» إلَى قَوْلِهِ وَأَنَّ «الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» رُوِيَ «عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُزْدَلِفَةِ أَنْ يَغْفِرَ ذُنُوبَ جَمِيعِ الْحُجَّاجِ وَقَالَ فِي دُعَائِهِ حَتَّى الدِّمَاءَ وَالْمَظَالِمَ وَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ» . وَكَذَا قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ حَتَّى الدِّمَاءَ وَالْمَظَالِمَ وَأَخَذَ بِهِ جَمْعٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْكَبَائِرَ وَالتَّبِعَاتِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُرْطُبِيُّ وَعِيَاضٌ لَكِنْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ مَحْمُولٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَظَالِمِ عَلَى مَنْ تَابَ وَعَجَزَ عَنْ وَفَائِهَا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا الْعِبَادِ وَلَا يَسْقُطُ الْحَقُّ نَفْسُهُ بَلْ مَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ يَسْقُطُ عَنْهُ إثْمُ تَأْخِيرِهَا لَا نَفْسُهَا فَلَوْ أَخَّرَهَا بَعْدَهُ تَجَدَّدَ إثْمٌ آخَرُ انْتَهَى كَمَا سَمِعْت آنِفًا لَعَلَّ لَيْسَ مَعْنَى النَّصِّ

إذْهَابَ مُطْلَقِ الْحَسَنَةِ مُطْلَقَ السَّيِّئَةِ بَلْ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ صَالِحَةٌ لِإِذْهَابِهَا كَقَضَاءِ الصَّلَاةِ مَثَلًا حَسَنَةٌ مُذْهِبَةٌ لِسَيِّئَةِ فَوْتِ الصَّلَاةِ وَكَذَا أَدَاءُ الدُّيُونِ وَهَكَذَا وَبِالْجُمْلَةِ يَعْمَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ حَسَنَةٌ لَكِنْ مِنْ جِنْسِهَا وَقَضَائِهَا وَكَذَا فِي مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَالْإِعْتَاقُ حَسَنَةٌ مَكَانَ الْقَتْلِ أَوْ حِنْثِ الْيَمِينِ وَالثَّنَاءُ وَالِاسْتِحْلَالُ حَسَنَةٌ فِي الْغِيبَةِ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ) قَالَ فِي الزَّيْنِيَّةِ التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى الْفَوْرِ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً فَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْوَاجِبُ التَّوْبَةُ وَالنَّدَمُ وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّفْكِيرِ بِحَسَنَةٍ تُضَادُّهَا فَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ نَفْسُهُ عَلَى الْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ فَقَدْ فَاتَهُ أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفُوتَهُ الْوَاجِبُ الْآخَرُ وَهُوَ مَحْوُهَا بِالْحَسَنَةِ لِيَكُونَ مِمَّنْ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَتِلْكَ الْحَسَنَاتُ إمَّا بِالْقَلْبِ كَالتَّضَرُّعِ وَطَلَبِ الْعَفْوِ وَالتَّذَلُّلِ وَإِمَّا بِاللِّسَانِ كَالِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَإِمَّا بِالْجَوَارِحِ كَالطَّاعَاتِ وَالصَّدَقَاتِ. وَفِي الْآثَارِ ثَمَانِيَةٌ يُرْجَى بِهَا الْعَفْوُ أَرْبَعَةٌ لِلْقَلْبِ التَّوْبَةُ وَالْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ وَحُبُّ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَخَوْفُ الْعِقَابِ عَلَيْهِ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ الْجَوَارِحِ وَهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ عَقِيبَ الذَّنْبِ رَكْعَتَيْنِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَهُمَا سَبْعِينَ مَرَّةً وَيَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ يَصُومَ يَوْمًا كَمَا فِي الْمِفْتَاحِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْفَوْرِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْفَوْرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ كَالشَّافِعِيِّ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] الْآيَةَ) أَيْ التَّوْبَةَ الْبَالِغَةَ فِي النُّصْحِ وَقِيلَ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إلَى مَا تَابَ عَنْهُ أَبَدًا وَنُقِلَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ فِي التَّوْبَةِ النَّصُوحِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ قَوْلًا وَأَحْسَنُهَا مَا رَوَى أَبُو اللَّيْثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ أَنَّهَا النَّدَمُ بِالْقَلْبِ وَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ وَالْإِضْمَارُ أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ أَبَدًا وَسُئِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ تَجْمَعُهَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ عَلَى الْمَاضِي مِنْ الذُّنُوبِ النَّدَامَةُ وَلِلْفَرَائِضِ الْإِعَادَةُ وَرَدُّ الْمَظَالِمِ وَاسْتِحْلَالُ الْخُصُومِ وَأَنْ تَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا تَعُودَ وَأَنْ تُذِيبَ نَفْسَك فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا رَبَّيْتهَا فِي الْمَعْصِيَةِ وَأَنْ تُذِيقَهَا مَرَارَةَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتهَا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] أَيْ كَثِيرِي التَّوْبَةِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفْتَتَنٍ تَوَّابٍ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ مُمْتَحَنٍ يَمْتَحِنُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالذَّنْبِ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يَعُودُ ثُمَّ يَتُوبُ. قَالَ بَعْضٌ رُبَّ ذَنْبٍ يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْفَعَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الطَّاعَاتِ مِنْ وَجَلِهِ وَإِنَابَتِهِ فَيَكُونُ تَوَّابًا يَعْنِي كُلَّمَا تَكَرَّرَ الذَّنْبُ تَكَرَّرَتْ التَّوْبَةُ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَعَاصِيَ إمَّا كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَارْتِدَادٌ فَتَوْبَتُهُ نِدَامٌ كَامِلٌ وَإِسْلَامٌ خَالِصٌ فَهَلْ يُثَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ حَالَ الْكُفْرِ بَعْدَ إسْلَامِهِ أَوْ لَا؟ قِيلَ نَعَمْ لَكِنْ بِلَا تَضْعِيفٍ بِعَشَرَةِ حَسَنَاتٍ وَقِيلَ لَا وَإِمَّا بِدْعَةٌ فِي الِاعْتِقَادِ فَتَوْبَتُهُ أَيْضًا نَدَمٌ كَامِلٌ وَاعْتِقَادُ حَقٍّ وَإِمَّا مَعَاصٍ فَرْعِيَّةٌ فَإِنْ بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَاةِ فَفِيهِ مَعْصِيَتَانِ مَعْصِيَةُ التَّأَخُّرِ فَتَوْبَتُهُ نَدَمٌ كَامِلٌ وَمَعْصِيَةُ التَّرْكِ فَتَوْبَتُهُ قَضَاءٌ فَوْرًا فَتَأْخِيرُ الْقَضَاءِ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ أُخْرَى فَيَتُوبُ لَهُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ وَقْتُهُ كَمَرَضِ مَوْتِهِ فَيُوصِي بِالْفِدْيَةِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي أُدِّيَتْ بِالْكَرَاهِيَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ كَتَرْكِ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقَوْمَةِ وَالْجِلْسَةِ فَقَضَاؤُهَا لَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنْ وَاجِبٌ عَلَى مَا نَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَلَاءِ عَنْ الْهِدَايَةِ وَالْوَاقِعُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ مُعَدَّلِ الصَّلَاةِ لَهُ اللَّازِمُ هُوَ الْإِعَادَةُ فَلْيُتَأَمَّلْ وَكَذَا الصَّلَاةُ الَّتِي أَفْسَدَهَا وَلَوْ نَفْلًا ثُمَّ الزَّكَاةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالنُّذُورُ وَالضَّحَايَا فَتُقْضَى لَكِنْ بِلَا حِيلَةٍ إذْ الصَّحِيحُ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ فَالتَّصَدُّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ الصَّوْمُ إنْ قَضَاءً فَقَطْ أَوْ مَعَ الْكَفَّارَةِ فَكَذَا ثُمَّ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَيُوصِي بِهِ وَإِنْ حَجَّ لِاحْتِمَالِ صُدُورِ الْكُفْرِ عَلَى مَا اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ وَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَعَلَيْهِ الْكَسْبُ أَوْ السُّؤَالُ لِلْحَجِّ وَإِنْ صَدَرَ عَنْهُ الْكُفْرُ اعْتِقَادًا أَوْ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْحَجِّ دُونَ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَلَا تَجِبُ بَعْدَ الْكُفْرِ وَإِنْ بَطَلَ ثَوَابُهَا وَإِنْ كَانَتْ الْمَعَاصِي بِفِعْلِ الْمُنْهَيَاتِ فَإِنْ مِمَّا بَيْنَهُ

وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَعَلُّقِ حَقِّ عَبْدٍ كَالْقُعُودِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ جَنَابَةً وَكَلَامِ الدُّنْيَا وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ وَالْمُسَافِرِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ بِلَا وُضُوءٍ وَكَضَرْبِ الْمَلَاهِي وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا طَوْعًا فَيَتُوبُ تَوْبَةً نَصُوحًا بِلَا لُزُومِ أَنْ يَفْضَحَ نَفْسَهُ وَيَهْتِكَ وَيَلْتَمِسَ مِنْ الْوَالِي الِاسْتِيفَاءَ بَلْ يَسْتُرُ وَيُقِيمُ حُدُودَهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ وَالضَّرَعَاتِ فِي الْخَلَوَاتِ سِيَّمَا الْأَسْحَارُ وَلَوْ رَفَعَ أَمْرَهُ إلَى الْوَالِي لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَكَانَ أَفْضَلَ كَمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَإِنْ مِمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْحَيَوَانِ كَالْوَطْءِ وَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ بِلَا عُذْرٍ وَكَضَرْبِ وَجْهِهِ وَلَوْ بِعُذْرٍ وَالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ فَوْقَ الطَّاقَةِ وَعَدَمِ إعْطَاءِ الْعَلَفِ وَالْمَاءِ فَمُشْكِلٌ جِدًّا فَلَيْسَ لَهُ إلَّا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَالتَّضَرُّعُ وَالْبُكَاءُ وَإِنْ بِمَظْلِمَةِ الْعِبَادِ فَخَمْسَةٌ مَالِيٌّ وَنَفْسِيٌّ وَعِرْضِيٌّ وَمَحْرَمِيٌّ وَدِينِيٌّ فَالْمَالِيٌّ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَالْغَبْنِ وَتَرْوِيجِ زَيْفٍ وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ بِالْيَدِ أَوْ بِشَهَادَةِ الزُّورِ أَوْ بِالْغَمْزِ إلَى الظَّالِمِ أَوْ بِالْحُكْمِ جَوْرًا أَوْ بِالرِّشْوَةِ وَغَيْرِهَا فَيَتُوبُ ثُمَّ يَسْتَحِلُّ وَلَوْ حَبَّةً أَوْ ذَرَّةً وَإِنْ صَدَرَ حَالَ الصِّبَا إذْ الْغَرَامَاتُ الْمَالِيَّةُ لَازِمَةٌ عَلَى الصَّبِيِّ فَإِنْ لَمْ يَسْتَرْضِهِ فِي الدُّنْيَا فَسَيُعْطِهِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنْ مَاتَ الْمَالِكُ فَلْيُعْطِهِ إلَى وَارِثِهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ الْمَالِكُ فَلْيُعْطِهِ إلَى الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ تَعَالَى وَيُوصِلْهَا إلَى صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ يَصْرِفُهُ إلَى الْمَصَالِحِ نَحْوُ الْقَنَاطِرِ وَلَوْ صَرَفَ إلَى فُقَرَاءِ الْوَالِدَيْنِ أَوْ الْمَوْلُودِينَ لَكَانَ مَعْذُورًا كَمَا قِيلَ وَإِنْ عَجَزَ فَبِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى إنْ شَاءَ يُعْطِي مِنْ حَسَنَاتِهِ أَوْ يَحْمِلُ سَيِّئَاتِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ يُرْضِيهِ عَنْهُ وَأَمَّا حَقُّ الْكَافِرِ إنْ لَمْ يُسْتَرْضَ فَمُشْكِلٌ جِدًّا قِيلَ يَجُوزُ إرْضَاؤُهُ تَعَالَى بِتَخْفِيفِ عَذَابِهِ وَأَمَّا النَّفْسِيُّ فَإِنْ مِمَّا يُوجِبُ الْقَوَدَ فِي النَّفْسِ أَوْ فِي الْإِفْرَاطِ فَيَتُوبُ أَوَّلًا وَيُسَلِّمُ نَفْسَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثَانِيًا إنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حَقَّهُ وَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى مَالٍ وَإِنْ مِمَّا يُوجِبُ الدِّيَةَ فَيَتُوبُ وَيُعْطِي أَيْضًا أَوْ يَسْتَحِلُّ وَأَمَّا الْعَرْضِيُّ كَالْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالشَّتْمِ فَالتَّوْبَةُ وَالِاسْتِحْلَالُ وَشُرِطَ فِي الْبُهْتَانِ تَكْذِيبُ نَفْسِهِ عِنْدَ مَنْ بَهَتَهُ عِنْدَهُمْ وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِحْلَالُ بِالْوَارِثِ فِي هَذَا النَّوْعِ. وَأَمَّا الْمَحْرَمِيُّ كَالْخِيَانَةِ لِأَهْلِ الْغَيْرِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَتُوبُ وَيَسْتَحِلُّ وَإِنْ خَافَ تَهَيُّجَ فِتْنَةٍ فَيَضْرَعُ وَيَبْكِي وَيَدْعُو لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَيَتَصَدَّقُ لَهُ وَأَمَّا الدِّينِيُّ كَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ فَيَتُوبُ وَيَسْتَرْضِي وَيُكَذِّبُ نَفْسَهُ كَمَا مَرَّ وَاعْلَمْ أَنَّ فِيمَا ذُكِرَ كُلُّهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ يَقِينًا فَيَعْمَلُ بِغَلَبَةِ ظَنِّهِ مِنْ أَوَانِ الْبُلُوغِ أَوْ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ إلَى أَوَانِ التَّوْبَةِ ثُمَّ الِاسْتِحْلَالُ الْمُبْهَمُ لَا يَكْفِي عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَيَكْفِي عَلَى الْأَصَحِّ عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ حَلِّلْنِي مِنْ كُلِّ حَقٍّ لَك عَلَيَّ فَأَبْرَأَهُ فَإِنْ عَلِمَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ بَرِئَ مُطْلَقًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا فَبَرِئَ قَضَاءً إجْمَاعًا. وَأَمَّا دِيَانَةً فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْرَأُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْرَأُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَلِهَذَا قِيلَ الِاسْتِحْلَالُ الْمُبْهَمُ مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الْأَمَةِ قَالَ رَجُلٌ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ الْمَدْيُونُ أَبْرِئْنِي مِمَّا عَلَيَّ فَقَالَ أَبْرَأْتُك قَالَ النَّضْرُ لَا يَبْرَأُ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يَبْرَأُ مِنْ الْكُلِّ وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ مَا قَالَهُ النَّضْرُ حُكْمُ الْآخِرَةِ وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ حُكْمُ الْقَضَاءِ قَالَ أَبْرَأْت جَمِيعَ غُرَمَائِي أَوْ كُلَّ غَرِيمٍ لِي فَهُوَ حِلٌّ أَوْ لَيْسَ لِي بِالدَّيْنِ شَيْءٌ لَا يَبْرَأُ وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ يَبْرَأُ وَتَمَامُ ذَلِكَ قُبَيْلَ الثُّلُثَيْنِ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ لِلتَّتَارْخَانِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْإِبْرَاءُ لَا سِيَّمَا الْمُعْسِرَةُ. وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» (هق. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» فِي مُجَرَّدِ الْخُلُوِّ عَنْ الْإِثْمِ لَا فِي الْمَرْتَبَةِ وَلَكِنْ فِي الزَّيْنِيَّةِ عَنْ جَابِرٍ التَّائِبُ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ

(وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنْ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ) بِعَدَمِ النَّدَمِ (كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ) لِأَنَّهُ كَذَبَ فَمُحْتَاجٌ إلَى تَوْبَةٍ أُخْرَى. قَالَ ذُو النُّونِ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ تَوْبَةٌ الْكَذَّابِينَ فَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَقَلْبُهُ مُصِرٌّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسْتِغْفَارُهُ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِغْفَارٍ آخَرَ - لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا قَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك سَرِيعًا قَالَ يَا هَذَا إنَّ سُرْعَةَ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ فَلْيُتَأَمَّلْ (حب عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ) وَصْفُهُ (أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» قَالَ) أَيْ أَنَسٌ (نَعَمْ) قِيلَ مِنْ قَبِيلِ «الْحَجُّ عَرَفَةَ» أَيْ مُعْظَمُ أَرْكَانِهَا النَّدَمُ وَقِيلَ يَكْفِي النَّدَمُ الْمُجَرَّدُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ (حك. عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا

(عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً عَلَى ذَنْبٍ إلَّا غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ مِنْهُ» بِاللِّسَانِ أَوْ مُطْلَقًا كَمَا مَرَّ آنِفًا (مج عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى يَبْلُغَ السَّمَاءَ» مِنْ الْكَثْرَةِ وَالْعَظَمَةِ «ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ» لَعَلَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَغَيْرِ الْكُفْرِ لِمَا فِي الزَّيْنِيَّةِ عَنْ سَلْمَانَ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ وَذَنْبٌ لَا يُتْرَكُ وَذَنْبٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ فَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ فَمَظَالِمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي يُغْفَرُ فَذَنْبُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْت لَك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَنَّك لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ فِي الْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَرَفَعَ أَحَدَهُمَا فَدُونَكُمْ الْآخَرُ فَتَمَسَّكُوا بِهِ» أَمَّا الْمَرْفُوعُ فَرَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْبَاقِي مِنْهُمَا فَالِاسْتِغْفَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]

(وَأَمَّا كَيْفِيَّةٌ خُرُوجِ التَّائِبِ عَنْ تَبِعَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَظَالِمِ فَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي جِلَاءِ الْقُلُوبِ) أَقُولُ قَدْ لَخَّصْنَا مَا فِيهِ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ غَيْرِهِ آنِفًا (وَلْنَذْكُرْ جُمْلَةَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ الْمَزْبُورَةِ وَالرَّذَائِلَ الرَّدِيئَةَ الْمَذْكُورَةَ لِيَسْهُلَ حِفْظُهَا لِلطَّالِبِ كُفْرٌ بِدْعَةٌ رِيَاءٌ كِبْرٌ عُجْبٌ حَسَدٌ بُخْلٌ إسْرَافٌ جَهْلٌ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ سَخَطُ الْقَضَاءِ جَزَعٌ أَمْنٌ يَأْسٌ حُبُّ الظَّلَمَةِ بُغْضُ الصَّالِحِينَ تَعْلِيقُ قَلْبٍ بِأَسْبَابٍ حُبُّ جَاهٍ خَوْفُ ذَمٍّ حُبُّ مَدْحٍ اتِّبَاعُ هَوًى تَقْلِيدٌ طُولُ أَمَلٍ طَمَعٌ تَذَلُّلٌ حِقْدٌ شَمَاتَةٌ عَدَاوَةٌ وَجُبْنٌ تَهَوُّرٌ غَدْرٌ خِيَانَةٌ، خُلْفُ وَعْدٍ، سُوءُ ظَنٍّ طِيَرَةٌ حُبُّ مَالٍ حُبُّ دُنْيَا حِرْصٌ سَفَهٌ بَطَالَةٌ عَجَلَةٌ تَسْوِيفُ عَمَلٍ فَظَاظَةٌ وَقَاحَةٌ حُزْنٌ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا خَوْفٌ فِيهِ، غِشٌّ فِتْنَةٌ مُدَاهَنَةٌ أُنْسٌ بِمَخْلُوقٍ خِفَّةٌ عِنَادٌ تَمَرُّدٌ صَلَفٌ نِفَاقٌ جَرْبَزَةٌ غَبَاوَةٌ شَرَهٌ خُمُودٌ إصْرَارٌ

وَمِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ ضِمْنًا وَتَبَعًا الِاسْتِقَامَةُ وَهِيَ الْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ كُلِّهَا) أَيْ عُهُودِ اللَّهِ وَعُهُودِ النَّاسِ (وَمُلَازَمَةُ الْعَدْلِ وَالتَّوَسُّطُ فِي كُلِّ الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وَهُوَ أَصْعَبُ الْأُمُورِ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ السُّلَمِيُّ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ رُوِيَ عَنْك شَيَّبَتْنِي هُودٌ فَمَا الَّذِي شَيَّبَك مِنْهَا أَقَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَهَلَاكُ الْأُمَمِ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ قَوْلُهُ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] . وَعَنْ الْمَطَالِعِ عَنْ الْحُكَمَاءِ هِيَ خَمْسَةٌ اسْتِقَامَةُ اللِّسَانِ عَلَى الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَاسْتِقَامَةُ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَةِ مَعَ الْحَيَاءِ وَاسْتِقَامَةُ الْقَلْبِ عَلَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَاسْتِقَامَةُ الرُّوحِ عَلَى الصِّدْقِ وَالصَّفَاءِ وَاسْتِقَامَةُ السِّرِّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْوَفَاءِ وَقَدْ عَرَفْت تَمَامَهَا فِيمَا مَرَّ (وَ) مِنْهَا (الْأَدَبُ وَهُوَ حِفْظُ الْحَدِّ بَيْنَ الْغُلُوِّ) مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْوَسَطِ (وَالْجَفَاءِ) بِتَفْرِيطِ حَدٍّ (بِمَعْرِفَةِ ضَرَرِ التَّعَدِّي) قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي حَدِيثٍ «أَدَّبَنِي رَبِّي» أَيْ عَلَّمَنِي رِيَاضَةَ النَّفْسِ وَمَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَالْأَدَبُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْعُلُومِ الْمُكْتَسَبَةِ «فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي» بِأَفْضَالِهِ عَلَيَّ بِالْعُلُومِ الْوَهْبِيَّةِ مِمَّا لَمْ يُعْطَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ قَالَ بَعْضُهُمْ أَدَّبَهُ بِآدَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَهَذَّبَهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الرَّبَّانِيَّةِ قَالُوا الْآدَابُ صُورَةُ الْعَقْلِ فَصَوِّرْ عَقْلَك كَيْفَ شِئْت وَالْفَضْلُ بِالْعَقْلِ وَالْأَدَبِ لَا بِالْأَصْلِ وَالنَّسَبِ لِأَنَّ مَنْ أَسَاءَ أَدَبَهُ أَضَاعَ نَسَبَهُ وَمَنْ ضَلَّ عَقْلُهُ ضَلَّ أَصْلُهُ وَحُسْنُ الْأَدَبِ يَسْتُرُ قَبِيحَ النَّسَبِ وَفِي الْعَوَارِفِ بِالْأَدَبِ يُفْهَمُ الْعِلْمُ وَبِالْعِلْمِ يَصْلُحُ الْعَمَلُ وَبِالْعَمَلِ تَنَالُ رِضَا رَبِّك وَلَمَّا وَرَدَ. أَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْعِرَاقِيُّ جَاءَهُ الْجُنَيْدُ فَرَأَى أَصْحَابَهُ وُقُوفًا عَلَى رَأْسِهِ يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ. قَالَ أَدَّبْتَ أَصْحَابَكَ أَدَبَ الْمُلُوكِ قَالَ لَا وَلَكِنْ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الظَّاهِرِ عُنْوَانُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ الْعَارِفُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مَدَدْت رِجْلِي تُجَاهَ الْكَعْبَةِ فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ الْعَارِفَاتِ فَقَالَتْ إنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تُجَالِسْ إلَّا بِأَدَبٍ وَإِلَّا مُحِيَ اسْمُك مِنْ دِيوَانِ الْقُرْبِ وَقَالَ السَّقَطِيُّ مَدَدْت رِجْلِي لَيْلَةً فِي الْمِحْرَابِ فَنُودِيت مَا هَكَذَا تُجَالِسُ الْمُلُوكَ فَقُلْت وَعِزَّتِك لَا مَدَدْتُهَا أَبَدًا فَلَمْ يَمُدَّهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَقِيلَ الْأَدَبُ اسْتِعْمَالُ مَا يُحْمَدُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَقِيلَ الْأَخْذُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَقِيلَ الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا أَدِّبُوا أَوْلَادَكُمْ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ حُبُّ نَبِيِّكُمْ بِنَحْوِ أَنَّهُ بُعِثَ بِمَكَّةَ إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ وَاجِبُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَحُبُّ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَابْنَيْهِمَا أَوْ مُؤْمِنِي بَنِي هَاشِمٍ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ أَيْ حَفَظَتَهُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ الْمُدَاوِمِينَ لِتِلَاوَتِهِ الْعَامِلِينَ بِأَحْكَامِهِ يَكُونُونَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ الْأَدَبُ الْوَقْفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ بِمَعْنَى أَنْ تُعَامِلَ اللَّهَ بِالْأَدَبِ سِرًّا وَعَلَنًا إنْ كُنْت أَدِيبًا وَإِنْ كُنْت أَعْجَمِيًّا وَعَنْ الْجَرِيرِيِّ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً مَا مَدَدْت رِجْلِي وَقْتَ جُلُوسِي فِي الْخَلْوَةِ فَإِنَّ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ أَوْلَى وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ إذَا تَرَكَ الْعَارِفُ أَدَبَهُ مَعَ مَعْرِفَتِهِ فَقَدْ هَلَكَ مَعَ الْهَالِكِينَ وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ مَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبِسَاطِ رُدَّ إلَى الْبَابِ وَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبَابِ رُدَّ إلَى سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ مَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ مِنْ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ نَحْنُ إلَى قَلِيلٍ مِنْ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعِلْمِ قِيلَ مَدَّ ابْنُ عَطَاءٍ يَوْمًا رِجْلَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ تَرْكُ الْأَدَبِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ أَدَبٌ وَعَنْ الْجُنَيْدِ إذَا صَحَّتْ الْمَحَبَّةُ سَقَطَتْ شُرُوطُ الْأَدَبِ وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ إذَا صَحَّتْ الْمَحَبَّةُ تَأَكَّدَتْ عَلَى الْمُحِبِّ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ وَعَنْ الثَّوْرِيِّ مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ لِلْوَقْتِ فَوَقْتُهُ مَقْتٌ وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ الْأَدَبُ ثَلَاثَةٌ أَدَبُ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي نَحْوِ الْفَصَاحَةِ وَحِفْظِ الْعُلُومِ وَأَسْمَارِ الْمُلُوكِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ وَأَدَبُ أَهْلِ الدِّينِ فِي نَحْوِ رِيَاضَةِ النُّفُوسِ وَتَأَدُّبِ الْجَوَارِحِ وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَأَدَبُ أَهْلِ الْخُصُوصِ فِي نَحْوِ طَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَمُرَاعَاةِ الْأَسْرَارِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَحِفْظِ الْوَقْتِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْخَوَاطِرِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ فِي مَوَاقِفِ الطَّلَبِ وَأَوْقَاتِ الْحُضُورِ وَمَقَامَاتِ الْقُرْبِ انْتَهَى كَلَامُ الْقُشَيْرِيَّةِ

(وَ) مِنْهَا (الْفِرَاسَةُ وَهِيَ خَاطِرٌ يَنْشَأُ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ فَيَنْفِي مَا يُضَادُّهُ قَشّ) الْقُشَيْرِيُّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ» قَالَ فِي الْفَيْضِ الْفِرَاسَةُ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ وَقِيلَ مُكَاشَفَةُ الْيَقِينِ وَمُعَايَنَةُ الْغَيْبِ وَقِيلَ سَوَاطِعُ أَنْوَارٍ تَلْمَعُ فِي الْقَلْبِ تُدْرَكُ بِهَا الْمَعَانِي وَقَالَ الرَّاغِبُ الِاسْتِدْلَال بِهَيْئَاتِ الْإِنْسَانِ وَأَشْكَالِهِ وَأَلْوَانِهِ وَأَقْوَالِهِ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَفَضَائِلِهِ وَرَذَائِلِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]- {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273]- وَذَلِكَ ضَرْبَانِ مَا يَحْصُلُ عَنْ خَاطِرٍ لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَهُوَ مِنْ الْإِلْهَامِ وَمَا يَحْصُلُ بِإِلْهَامٍ حَالَ الْيَقَظَةِ أَوْ الْمَنَامِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ «فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ» أَيْ يُبْصِرُ بِعَيْنِ قَلْبِهِ الْمُشْرِقِ بِنُورِهِ تَعَالَى وَبِاسْتِنَارَةِ الْقَلْبِ تَصِحُّ الْفِرَاسَةُ قَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى بَعْضِ الْغُيُوبِ جَائِزٌ انْتَهَى وَمِنْ ثَمَّةَ شَرَطُوا لِحُصُولِ النُّورِ الْغَضَّ عَنْ نَظَرِ الْمَحَارِمِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا أَطْلَقَ نَظَرَهُ تَنَفَّسَتْ نَفْسُهُ الصُّعَدَاءَ فِي مِرْآةِ قَلْبِهِ فَطَمَسَتْ نُورَهَا - {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]- قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ يَتَرَدَّدُ بِكُمْ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ فَيَسْتَغِيثُونَ بِكُمْ فَلَا يُغَاثُونَ فَكَانَ مِنْهُمْ فِي شَأْنِ الْحُسَيْنِ مَا كَانَ ثُمَّ قِيلَ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ مُصْعَبُ بْنُ سَلَّامٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَعَنْ ابْنِ حِبَّانَ كَثِيرُ الْغَلَطِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ الْكُلُّ مِنْ الْفَيْضِ وَقَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ كَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُنَاوِيُّ مَرِيضًا فَعَادَهُ الْبُوشَنْجِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْحَدَّادُ وَاشْتَرَيَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ تُفَّاحًا نَسِيئَةً وَحَمَلَاهُ فَلَمَّا قَعَدَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ مَا هَذِهِ الظُّلْمَةُ فَخَرَجَا فَقَالَا أَيُّ شَيْءٍ فَعَلْنَا فَتَفَكَّرَا فَقَالَا لَعَلَّنَا لَمْ نُؤَدِّ ثَمَنَ التُّفَّاحِ فَأَعْطَيَا الثَّمَنَ وَعَادَا إلَيْهِ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِمَا قَالَ أَيُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الظُّلْمَةِ بِهَذِهِ السُّرْعَةِ أَخْبِرَانِي عَنْ شَأْنِكُمَا فَذَكَرَا لَهُ الْقِصَّةَ فَقَالَ نَعَمْ كَانَ يَعْتَمِدُ كُلٌّ فِي إعْطَاءِ الثَّمَنِ عَلَى صَاحِبِهِ وَالرَّجُلُ يَسْتَحْيِ مِنْكُمَا فِي التَّقَاضِي فَكَانَ تَبَعَةً وَأَنَا السَّبَبُ وَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ مِنْكُمَا وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ هَذَا يَدْخُلُ السُّوقَ كُلَّ يَوْمٍ يُنَادِي فَإِذَا وَقَعَ بِيَدِهِ مَا فِيهِ كِفَايَتُهُ مِنْ دَانِقٍ إلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ خَرَجَ وَعَادَ إلَى رَأْسِ وَقْتِهِ وَمُرَاعَاةِ قَلْبِهِ وَكَانَ شَاهْ الْكَرْمَانِيّ حَادَّ الْفِرَاسَةِ لَا تُخْطِئُ فِرَاسَتُهُ وَيَقُولُ مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ إذَا جَالَسْتُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ فَجَالِسُوا بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُمْ جَوَاسِيسُ الْقُلُوبِ يَدْخُلُونَ فِي قُلُوبِكُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا وَأَنْتُمْ لَا تُحِسُّونَ وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْفِرَاسَةَ وَلَكِنْ يَتَّقِيَ الْفِرَاسَةَ مِنْ الْغَيْرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ» وَلَمْ يَقُلْ تَفَرَّسُوا وَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْفِرَاسَةِ لِمَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ اتِّقَاءِ الْفِرَاسَةِ. وَعَنْ الزُّبَيْرِيِّ قَالَ كُنْت فِي مَسْجِدٍ بِبَغْدَادَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ فَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيَّ بِشَيْءٍ أَيَّامًا فَأَتَيْت الْخَوَاصَّ لِأَسْأَلَهُ شَيْئًا فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيَّ قَالَ الْحَاجَةُ الَّتِي جِئْت لِأَجْلِهَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ أَمْ لَا فَقُلْت بَلَى فَقَالَ اُسْكُتْ وَلَا تُبْدِهَا لِمَخْلُوقٍ فَرَجَعْت فَلَمْ أَلْبَثْ إلَّا قَلِيلًا حَتَّى فُتِحَ عَلَيْنَا بِمَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ الْكُلُّ مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ (وَ) مِنْهَا (التَّفَكُّرُ فِي نَفْسِهِ هَلْ هِيَ مُتَّصِفَةٌ بِمَعْصِيَةٍ فَيَتُوبُ عَنْهَا أَوْ مُتَعَرِّضَةٌ لَهَا فَيَحْتَرِزُ أَوْ لَا) اتِّصَافٌ بِهَا (فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى التَّوْفِيقِ وَفِي الطَّاعَاتِ) هَلْ تَرَكَ أَوْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَمْ لَا (لِيَتَدَارَكَ مَا فَاتَ مِنْهَا) وَمَا اخْتَلَّ (وَيَحْتَرِزَ عَنْ تَرْكِهَا وَيَشْكُرَ عَلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا حَصَلَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الطَّاعَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ التَّفَكُّرُ إمَّا فِي الْمَعَاصِي فَيُحَاسِبُهَا صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ مَثَلًا الْأَعْضَاءُ السَّبْعَةُ بَلْ جَمِيعُ بَدَنِهِ فَإِنْ مُلَابِسًا بِمَعْصِيَةِ فِي الْحَالِ يَتْرُكُهَا أَوْ فِي الْأَمْسِ فَيَتْرُكُ وَيَنْدَمُ وَإِنْ فِي نِيَّتِهِ التَّعَرُّضُ فِي نَهَارِهِ فَيَسْتَعِدُّ بِالِاحْتِرَازِ وَالتَّبَاعُدِ فَيُفَتِّشُ كُلَّ عُضْوٍ عُضْوٍ عَلَى الِانْفِرَادِ وَإِمَّا فِي الطَّاعَاتِ فَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي الْفَرَائِضِ كَيْفَ أَكْمَلَهَا أَوْ جَبَرَ

نُقْصَانَهَا بِالنَّوَافِلِ ثُمَّ يُفَتِّشُ كُلَّ عُضْوٍ فِي صَرْفِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ. وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ الْمُهْلِكَةِ الَّتِي مَحِلُّهَا الْقَلْبُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْبُخْلِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِهَا فَيَتَأَمَّلْ مَا ذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ فَيَمْتَحِنُ قَلْبَهُ وَيَسْتَشْهِدُ بِالْعَلَامَاتِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى ادِّعَاءِ النَّفْسِ التَّنَزُّهَ عَنْهَا ثُمَّ يُبَاشِرُ عِلَاجَهُ بِمَا مَرَّ وَأَمَّا فِي الْمُنْجِيَاتِ مِنْ نَحْوِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَلْيَتَفَكَّرْ كُلَّ يَوْمٍ فِي قَلْبِهِ وَمَا الَّذِي يَفُوزُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُقَرِّبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا افْتَقَرَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَا يُثْمِرُهَا إلَّا عُلُومٌ وَأَنَّ الْعُلُومَ لَا يُثْمِرُهَا إلَّا الْأَفْكَارُ وَأَنْفَعُ الْأُمُورِ فِي هَذَا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَيُرَدِّدُ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى التَّفَكُّرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ وَيَتَوَقَّفُ فِي التَّأَمُّلِ وَلَوْ لَيْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَسْرَارًا لَا تُحْصَى وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِهِ بَحْرٌ مِنْ بِحَارِ الْحِكْمَةِ وَلَوْ تَأَمَّلَهُ الْعَالِمُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَمْ يَنْقَطِعْ فِيهِ نَظَرُهُ طُولَ عُمْرِهِ فَهَذَا هُوَ طَرِيقُ التَّفَكُّرِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدِئُ مُسْتَغْرِقَ الْوَقْتِ فِي هَذِهِ الْأَفْكَارِ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْمَقَامَاتِ الشَّرِيفَةِ فَهَذَا التَّفَكُّرُ مَعَ كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ غَايَةَ الْمَطْلَبِ بَلْ مَحْجُوبٌ عَنْ مَطْلَبِ الصِّدِّيقِينَ مِنْ التَّفَكُّرِ فِي جَلَالِ اللَّهِ وَجَمَالِهِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهِ بِحَيْثُ يَفْنَى عَنْ نَفْسِهِ وَالْفَنَاءُ فِي الْوَاحِدِ الْحَقِّ غَايَةُ الْمَقَاصِدِ وَعِمَارَةُ الْبَاطِنِ وَبِالْجُمْلَةِ تَعْمِيرُ الظَّاهِرِ بِالْعِبَادَاتِ لَا يُثْمِرُ إلَّا الْجَنَّةَ دُونَ الْمُجَالَسَةِ وَتَعْمِيرُ الْبَاطِنِ بِالْمُنْجِيَاتِ يُثْمِرُ الِاسْتِعْدَادَ لِلِّقَاءِ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ. (وَ) التَّفَكُّرُ (فِي خَلْقِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ) أَيْ فِي الذَّوَاتِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْعَالَمِ مَوْجُودٌ مِثَالُهُ فِي الْإِنْسَانِ كَمَا قِيلَ وَتَحْسِبُ أَنَّك جِرْمٌ صَغِيرٌ ... وَفِيك انْطَوَى الْعَالَمُ الْأَكْبَرُ وَلِذَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ إنَّهُ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ وَقِيلَ وَلْنَضْرِبْ لَك مِثَالًا مِنْ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ لِتَقِيسَ سَائِرَهَا عَلَيْك وَهِيَ أَنَّ نَفْسَك مَخْلُوقَةٌ مِنْ نُطْفَةٍ قَذِرَةٍ أَخْرَجَهَا تَعَالَى مِنْ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ وَلِإِخْرَاجِهَا مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ إلَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ أَلْقَى الْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ بَيْنَهُمَا وَقَادَهُمَا بِسِلْسِلَةِ الشَّهْوَةِ إلَى الِاجْتِمَاعِ ثُمَّ الْخَلْقُ مِنْ النُّطْفَةِ عَلَقَةً بَيْضَاءَ مُشْرِقَةً ثُمَّ جَعَلَهَا مُضْغَةً ثُمَّ مَعَ تَشَابُهِ أَجْزَائِهَا قَسَّمَهَا إلَى الْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ وَالْآثَارِ وَاللَّحْمِ ثُمَّ قَدَّرَ مِنْهَا الرَّأْسَ وَشَقَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْأَنْفَ وَالْفَمَ ثُمَّ مَدَّ الْيَدَ وَالرِّجْلَ وَقَسَّمَ رُءُوسَهُمَا بِالْأَنَامِلِ وَوَضَعَ فِيهَا الْأَظْفَارَ ثُمَّ الْبَاطِنَةَ مِنْ الْقَلْبِ وَالْمَعِدَةَ وَالطِّحَالَ وَالرِّئَةَ وَالْمَثَانَةَ وَالرَّحِمَ وَالْأَمْعَاءَ كُلٌّ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ بِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبْنَا إلَى تَفْصِيلِهَا لَعَيِيَتْ الْقُوَى وَتَحَيَّرَتْ النُّهَى مَثَلًا كَيْفِيَّةُ إبْصَارِ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ وَالذَّوْقِ لَدَهَشْت مِنْ عَجَائِبِهَا الْعُقُولُ فَانْظُرْ إلَى الْحَدَقَةِ وَهِيَ مِقْدَارُ عَدَسَةٍ كَيْفَ تُحِيطُ بِنِصْفِ السَّمَاءِ دَفْعَةً مَعَ عِظَمِهَا وَانْظُرْ إلَى السَّمْعِ كَيْفَ يُدْرِكُ الْأَصْوَاتَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَثَلًا مَجْمُوعُ عِظَامِ الْبَدَنِ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَظْمًا سِوَى صِغَارِهَا وَلَوْ تَكَلَّمْنَا فِي كُلٍّ مِنْهَا لَمْ نَقْضِ مِنْ حِكْمَةِ كُلٍّ مِنْهَا عُشْرَ أَعْشَارِهَا فَضْلًا عَنْ سَائِرِهَا عَلَى نَظَرِ أَهْلِ الْبَصَائِرِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى جَلَالَةِ خَلْقِهَا فَسُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ وَأَظْهَرَ بُرْهَانَهُ فَهَذِهِ عَجَائِبُ بَدَنِك الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِقْصَاؤُهَا وَأَنْتَ غَافِلٌ عَنْهَا مَشْغُولٌ بِبَطْنِك وَفَرْجِك لَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِك إلَّا أَنْ تَجُوعَ فَتَأْكُلَ وَتَشْبَعَ فَتَنَامَ وَتَشْتَهِيَ فَتُجَامِعَ وَتَغْضَبَ فَتُقَاتِلَ وَيُشَارِكُك فِي ذَلِكَ الْبَهَائِمُ وَإِنَّمَا خَاصِّيَّةُ الْإِنْسَانِ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَجَائِبِ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ إذَا بِهَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَيُحْشَرُ فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ (وَالْآفَاقِ) أَيْ فِي سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا لَا يَعْرِفُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى سُبْحَانَ {الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]- وَفِي الْجَامِعِ «تَفَكَّرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِيهِ «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ» كَالتَّفَكُّرِ فِي دَوَرَانِ الْفُلْكِ وَارْتِفَاعِ هَذَا السَّقْفِ

الْمَرْفُوعِ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَمَجَارِي هَذِهِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَفِي النَّصَائِحِ امْلَأْ عَيْنَيْك مِنْ زِينَةِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَأَجْلِهِمَا فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْعَجَائِبِ مُتَفَكِّرًا فِي قُدْرَةِ مُقَدِّرِهَا وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْضًا كَالسَّمَوَاتِ بِكَوَاكِبِهَا وَحَرَكَتِهَا وَدَوَرَانِهَا فِي طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَالْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنْ جِبَالِهَا وَمَعَادِنِهَا وَأَنْهَارِهَا وَبِحَارِهَا وَحَيَوَانَاتِهَا وَنَبَاتِهَا وَمَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْجَوُّ بِغُيُومِهِ وَأَمْطَارِهِ وَرَعْدِهِ وَبَرْقِهِ وَصَوَاعِقِهِ فَلَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ مِنْهُ إلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى أُلُوفٌ مِنْ الْحِكْمَةِ فِيهَا شَاهِدَةٌ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ دَالَّةٌ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ ثُمَّ قَالَ قَالُوا كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا تَعَبَّدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَظَلَّتْهُ سَحَابَةٌ فَفَعَلَهُ رَجُلٌ فَلَمْ تُظِلَّهُ فَشَكَا لِأُمِّهِ فَقَالَتْ لَعَلَّك أَذْنَبْت قَالَ لَا فَقَالَتْ هَلْ نَظَرْت إلَى السَّمَاءِ فَرَدَدْت طَرْفَك غَيْرَ مُتَفَكِّرٍ فِيهَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ مِنْ هُنَا أَذْنَبْت فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُهْمِلَ التَّفَكُّرَ وَمِنْ الْجَوَائِزِ أَنْ تَرُوحَ غَدًا مَعَ الْجَنَائِزِ فَالْعَاقِلُ يَتَفَكَّرُ فِي نَهَارٍ يَحُولُ وَلَيْلٍ يَزُولُ وَشَمْسٍ تَجْرِي وَقَمَرٍ يَسْرِي وَسَحَابٍ مُكْفَهِرٍّ وَبَحْرٍ مُسْتَطِرٍ وَخَلْقٍ تَمُورُ وَوَالِدٍ يَتْلَفُ وَوَلَدٍ يَخْلُفُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا بَاطِلًا وَإِنَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْوَابًا وَأَحْقَابًا وَحَشْرًا وَنَشْرًا وَثَوَابًا وَعِقَابًا وَالتَّفَكُّرُ أَرْبَعَةٌ فِكْرٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَفِكْرٌ فِي خَلْقِهِ وَعَلَامَتُهُ تَوَلُّدُ الْمَحَبَّةِ وَفِكْرٌ فِي وَعْدِ اللَّهِ بِالثَّوَابِ وَعَلَامَتُهُ تَوَلُّدُ الرَّغْبَةِ وَفِكْرٌ فِي وَعِيدِهِ بِالْعَذَابِ وَعَلَامَتُهُ تَوَلُّدُ الرَّهْبَةِ وَفِكْرٌ فِي جَفَاءِ النَّفْسِ مَعَ إحْسَانِ اللَّهِ وَعَلَامَتُهُ تَوَلُّدُ الْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (حَتَّى يَزِيدَ وَيَعْظُمَ) أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّفَكُّرِ (مَعْرِفَةُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَيَحْصُلُ فِيهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّوْقُ إلَيْهِ وَالْأُنْسُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 191] اسْتِدْلَالًا وَاعْتِبَارًا وَهُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ. كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ» {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا} [آل عمران: 191] أَيْ يَتَفَكَّرُونَ قَائِلِينَ ذَلِكَ وَفِي الْجَامِعِ فِكْرُ سَاعَةٍ أَيْ صَرْفُ الذِّهْنِ لَحْظَةً مِنْ الْعَبْدِ فِي تَدَبُّرِ تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ فِي حُقُوقِ الْحَقِّ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَحُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُحَاسَبَتِهِ وَخَوْفِ خُسْرَانِهِ وَجَوَازِهِ عَلَى الصِّرَاطِ وَشِدَّتِهِ وَحِدَّتِهِ وَنَحْوِهَا خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً بِلَا تَفَكُّرٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ تَفَكُّرَهُ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ يُقَوِّي خَوْفَهُ وَيَجْمَعُ هِمَّتَهُ وَصَارَتْ الْآخِرَةُ نُصْبَ عَيْنِهِ فَتَقَعُ الْعِبَادَةُ بِفَرَاغِ قَلْبٍ وَنَشَاطٍ وَجِدٍّ وَمَنْ قَلَّ تَفَكُّرُهُ

قَسَا قَلْبُهُ وَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ فَهُوَ وَإِنْ تَعَبَّدَ فَقَلْبُهُ هَائِجٌ بِاشْتِغَالِ الدُّنْيَا مُتَّكِلٌ عَلَى عَقْلِهِ غَيْرُ مُعْتَمِدٍ عَلَى رَبِّهِ لَا يَتَأَثَّرُ بِقَوَارِعِ التَّخْوِيفِ وَلَا يَنْزَجِرُ بِزَوَاجِرِ التَّذْكِيرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ لَا عِبَادَةَ إلَّا بِتَفَكُّرٍ كَمَا فِي الْفَيْضِ {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفَكُّرَ قَائِدُ الْإِنْسَانِ إلَى الْخَيْرِ وَدَلِيلُهُ إذَا كَانَ صَحِيحًا مَقْصُودًا بِهِ الْفِرَارُ مِنْ الْخَلْقِ إلَى الْخَالِقِ (وَ) مِنْهَا (الصِّدْقُ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (وَهُوَ فِي سَبْعٍ فِي الْقَوْلِ ضِدِّ الْكَذِبِ) الَّذِي هُوَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ حُكْمِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ (وَفِي النِّيَّةِ الْإِخْلَاصُ) الَّذِي هُوَ تَجْرِيدُ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَفِي الْوَعْدِ وَفِي الْعَزْمِ) عَلَى وَفَاءِ الْعَهْدِ (قُوَّتُهُمَا) أَيْ الْوَعْدِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ (وَخُلُوُّهُمَا مِنْ الضَّعْفِ وَالتَّرَدُّدِ فِيهِ وَفِي الْوَفَاءِ تَحْقِيقُهُ وَإِنْجَازُهُ عَلَى وَفْقِ الْوَعْدِ) وَوَفْقِ (الْعَزْمِ) مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ وَنَقْضٍ (وَفِي الْعَمَلِ مُوَافَقَتُهُ لِلْبَاطِنِ) بِلَا رِيَاءٍ (وَعَدَمَ دَلَالَتِهِ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ وَفِي نَحْوِ الْخَوْفِ) كَالْفَزَعِ وَالْهَيْبَةِ (قُوَّتُهُ وَكَثْرَتُهُ) وَالصِّدِّيقُ بِكَسْرِ أَوَّلَيْهِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِي. (مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ جَمِيعًا) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ وَالْأَوَّلُ أَعْنِي الْقَوْلَ يَدْخُلُ فِيهِ وَفَاءُ الْعَهْدِ وَتَرْكُ التَّعْرِيضِ لِأَنَّهُ تَفْهِيمُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَلَحَ لِغَيْرِهِ نَعَمْ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ فِي بَابِ تَأْدِيبِ الصَّبِيَّانِ وَالنِّسْوَانِ وَالْحَذَرِ مِنْ الظَّلَمَةِ وَالْحَرْبِ وَيَلْزَمُ مُرَاعَاةُ مَا فِي لَفْظِهِ فَلَوْ قَالَ عِنْدَ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] الْآيَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِ تَعَالَى وَكَذَا لَوْ قَالَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْرِكَ أَحَدًا فِي عِبَادَتِهِ وَلَوْ نَحْوَ الرِّيَاءِ وَالثَّانِي هُوَ أَيْ الْإِخْلَاصُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا وَالثَّالِثُ كَأَنْ تَقُولُ إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا تَصَدَّقْت بِجَمِيعِهِ أَوْ شَطْرِهِ أَوْ إنْ أَعْطَانِي وِلَايَةً عَدَلْت فَصِدْقُهَا عَدَمُ التَّرَدُّدِ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ بَلْ يَجْزِمُ فَإِنْ بِمَيْلٍ وَضَعْفٍ فَلَا يَصْدُقُ عَزْمُهُ وَالرَّابِعُ أَيْ الْوَفَاءُ فَالنَّفْسُ قَدْ تَسْخُو فِي الْعَزْمِ وَالْوَعْدِ لِعَدَمِ مُؤْنَتِهِ وَعِنْدَ الْإِنْجَازِ تُخْلِفُهُ فَلَا تَصْدُقُ وَالْخَامِسُ أَيْ الْعَمَلُ بِأَنْ لَا تَدُلَّ أَعْمَالُهُ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهِ كَمَا ذَكَرَهُ وَالسَّادِسُ أَيْ الْخَوْفُ وَكَذَا الرَّجَاءُ وَالتَّعْظِيمُ وَالزُّهْدُ وَالرِّضَا وَالْحُبُّ وَالتَّوَكُّلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّدْقِ وَأَعَزُّهَا فَإِذَا غَلَبَ الشَّيْءُ وَتَمَّ يُسَمَّى صَاحِبُهُ صَادِقًا فِيهِ كَمَنْ يَخَافُ مِنْ النَّارِ صِدْقُهُ اصْفِرَارُ لَوْنِهِ وَتَغَيُّرُ عَيْشِهِ وَتَبْدِيلُ أُنْسِهِ وَحْشَةً وَرَاحَتِهِ تَعَبًا فَالصَّادِقُ فِي جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ عَزِيزٌ جِدًّا ثُمَّ دَرَجَاتُ الصِّدْقِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ صِدْقٌ فِي بَعْضِ أُمُورٍ دُونَ أُخَرَ فَإِنْ صَادِقًا فِي الْجَمِيعِ فَيُسَمَّى صِدِّيقًا وَهُوَ نَادِرٌ جِدًّا. (وَ) مِنْهَا (الْمُرَابَطَةُ) الَّتِي هِيَ مُلَازَمَةُ الْخَيْرِ وَالْعُكُوفُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ (وَهِيَ رَبْطُ النَّفْسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَمْسٍ الْمُشَارَطَةِ عَلَى النَّفْسِ أَوَّلًا بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَتَرْتِيبِ الْوَظَائِفِ وَالْأَوْرَادِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) وَقَدْ يُوقِعُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ لِعِرْفَانِهِ أَنَّ الْوَقْتَ سَيْفٌ قَاطِعٌ لَوْ لَمْ تَقْطَعْهُ بِالطَّاعَاتِ سَيَقْطَعُك بِالْفَوَاتِ (ثُمَّ الْمُرَاقَبَةُ بِمُرَاعَاةِ الْقَلْبِ لِلرَّقِيبِ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ نَاظِرًا عَلَى عِبَادِهِ (بِاسْتِدَامَةِ الْعِلْمِ بِاطِّلَاعِ الرَّبِّ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ) إلَى الْقَلْبِ (فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ هَلْ يَفِي بِالْمَشْرُوطِ عَلَى وَجْهِهِ) اللَّائِقِ (أَمْ يَزِيغُ) يَمِيلُ إلَى الْبَاطِلِ (عَنْهُ) بِعَدَمِ الْإِتْيَانِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ اعْلَمْ أَنَّ مُرَاقَبَةَ الصِّدِّيقِينَ هِيَ مُرَاقَبَةُ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ قَلْبُهُ فِي مُلَاحَظَةِ ذِي الْجَلَالِ وَيَصِيرَ مُنْكَسِرًا تَحْتَ الْهَيْبَةِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ مُتَّسَعٌ لِلْغَيْرِ أَصْلًا وَتَبْقَى جَوَارِحُهُ مُتَعَطِّلَةً عَنْ التَّلَفُّتِ إلَى الْمُبَاحَاتِ فَضْلًا عَنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُدَبِّرٍ فِي حِفْظِهَا عَلَى سُنَنِ السَّدَادِ وَمِثْلُهُ يَغْفُلُ عَنْ الْخَلْقِ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُ مَنْ عِنْدَهُ وَعَيْنُهُ نَاظِرٌ إلَيْهِ وَلَا يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَلَيْسَ بِهِ صَمَمٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ وَأَنَّ مُرَاقَبَةَ الْمُتَوَرِّعِينَ وَهُمْ قَوْمٌ غَلَبَتْ مُطَالَعَةُ جَمَالِهِ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ وَظَوَاهِرِهِمْ لَكِنْ

لَمْ يُدْهِشْهُمْ ذَلِكَ بَلْ بَقِيَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ مُتَّسِعَةً لِلتَّلَفُّتِ إلَى الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ مُمَارَسَةِ الْأَعْمَالِ وَالْمُرَاقَبَةِ بِغَلَبَةِ الْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَيَثْبُتُ أَحَدُهُمْ فِيهِ وَيَفِرُّ مِنْ الْفَضِيحَةِ فِي الْقِيَامَةِ فَيَنْظُرُ قَبْلَ الْعَمَلِ إنْ لِلَّهِ فَيُمْضِيهِ أَوْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَسْتَحْيِ مِنْ اللَّهِ فَيَكُفُّ عَنْهُ فَيَلُومُ نَفْسَهُ فِي رَغْبَتِهَا فِيهِ وَيَرُدُّهَا فَإِنَّهَا عَدُوَّةُ نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهَا اللَّهُ بِعِصْمَتِهِ ثُمَّ مُرَاقَبَةُ الطَّاعَةِ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِكْمَالِ وَمُرَاعَاةُ الْآدَابِ وَحِرَاسَتُهَا مِنْ الْآفَاتِ وَمُرَاقَبَةُ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّفَكُّرِ. وَمُرَاقَبَةُ الْمُبَاحِ بِمُرَاعَاتِ الْآدِبِ ثُمَّ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ فِي النِّعْمَةِ وَبِالشُّكْرِ (ثُمَّ الْمُحَاسَبَةُ بَعْدَ الْعَمَلِ) هَلْ أَتَمَّ الْمَشْرُوطَ بِشَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ (أَوْ نَقَصَ) مِنْهُ اعْلَمْ أَنَّ تَفْصِيلَ الْمُحَاسَبَةِ عَلَى مَا فِي الْمِفْتَاحِ كَالْمُرَاقَبَةِ أَنَّ التَّاجِرَ يَسْتَعِينُ بِشَرِيكِهِ فَيُشَارِطُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُرَاقِبُهُ ثَانِيًا ثُمَّ يُحَاسِبُهُ ثَالِثًا ثُمَّ يُعَاتِبُهُ رَابِعًا كَذَلِكَ الْعَقْلُ هُوَ التَّاجِرُ فِي مَتَاعِ الْآخِرَةِ وَشَرِيكُهُ النَّفْسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَاسِبَهَا لِأَنَّ كُلَّ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِ الْعُمْرِ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لَا عَرَضٌ يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَى بِهَا كُنُوزٌ لَا تَتَنَاهَى أَبَدَ الْآبَادِ فَيَقُولُ لِلنَّفْسِ فِي صَبِيحَةِ كُلِّ يَوْمٍ مَالِي بِضَاعَةٌ إلَّا الْعُمْرَ فَمَهْمَا فَنِيَ فَقَدْ فَنِيَ رَأْسُ الْمَالِ وَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ التِّجَارَةِ وَهَذَا الْيَوْمُ الْجَدِيدُ قَدْ أَمْهَلَنِي اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَأَنْسَأَ فِي أَجَلِي وَلَوْ تَوَفَّانِي لَأَتَمَنَّى أَنْ أَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَأَعْمَلَ صَالِحًا وَإِيَّاكِ ثُمَّ إيَّاكِ أَنْ تُضَيِّعِي هَذَا الْيَوْمَ فَإِنَّ كُلَّ نَفْسٍ جَوْهَرَةٌ لَا قِيمَةَ لَهَا فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ لِنَفْسِهِ فِي أَوْقَاتِهِ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ لَهَا وَصِيَّةً فِي أَعْضَائِهِ السَّبْعَةِ وَيُسَلِّمُهَا إلَيْهَا فَإِنَّهَا رَعَايَا خَادِمَةٌ لَهَا فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ صَارَتْ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ لِجَهَنَّمَ. أَمَّا الْعَيْنُ فَيَحْفَظُهَا عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ عَنْ مُطْلَقِ الْفُضُولِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِصَرْفِهَا إلَى مَا خُلِقَتْ لَهُ وَكَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ يُرَاقِبُ عِنْدَ الْعَمَلِ وَالْمُرَاقَبَةُ مِنْ مَبَادِئِ مَرْتَبَةِ الْإِحْسَانِ ثُمَّ رَأْسُ مَالِ السَّالِكِ فِي دِينِهِ الْفَرَائِضُ وَرِبْحُهُ النَّوَافِلُ وَخُسْرَانُهُ الْمَعَاصِي وَمَوْسِمُ التِّجَارَةِ جُمْلَةُ النَّهَارِ فَإِنْ وَقَعَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ عَلَى الْكَمَالِ فَيَشْكُرُ وَيَرْغَبُ فِي مِثْلِهَا وَإِنْ فَوَّتَهَا يَقْضِي وَإِنْ أَدَّاهَا نَاقِصَةً يَجْبُرُهَا بِالنَّوَافِلِ وَإِنْ صَدَرَتْ مَعْصِيَةٌ اشْتَغَلَ بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَمُعَاتَبَتِهَا لِيَتَدَارَكَهَا ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَنْ خَوَاطِرِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ حَتَّى عَنْ سُكُوتِهِ لِمَ سَكَتَ مَثَلًا إذَا أَكَلَ لُقْمَةً بِشُبْهَةٍ يُعَاقِبُهَا بِالْجُوعِ وَإِذَا نَظَرَ إلَى مُحَرَّمٍ يُعَاقِبُ الْعَيْنَ بِمَنْعِ النَّظَرِ وَهَكَذَا وَهَكَذَا (ثُمَّ الْمُعَاتَبَةُ وَالْمُعَاقَبَةُ) إنْ نَقَصَ مِنْهُ (بِنَحْوِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالسَّهَرِ وَالنَّذْرِ بِالتَّصَدُّقِ وَنَحْوِهِ) مِنْ الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ كَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ (حَتَّى لَا يَرْجِعَ إلَيْهِ ثَانِيًا) . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَعْدَى عَدُوِّك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك وَقَدْ خُلِقَتْ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ فَإِنْ أَهْمَلْت فِي مَنْعِهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا شَرَدَتْ وَجَمَحَتْ وَإِنْ عَاتَبْتهَا تَكُونُ لَوَّامَةً وَعَسَى أَنْ تَصِيرَ مُطْمَئِنَّةً فَلَا تَغْفُلْ عَنْ وَعْظِهَا سَاعَةً وَقُلْ لَهَا أَنْتِ تَدَّعِينَ الْحِكْمَةَ وَالْفَطِنَةَ وَأَنْتِ الْحَمْقَاءُ أَمَا تَعْرِفِينَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأَنَّك صَائِرَةٌ إلَى إحْدَاهُمَا فَمَالَك تَشْتَغِلِينَ بِالْهَوَى وَاللَّهْوِ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنْ كُلَّ آتٍ قَرِيبٌ (فَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ تَبَعًا) أَيْ فِي ضِمْنِ آفَاتِ الْقَلْبِ (وَأَصَالَةً) كَمَا بَعْدَ تَمَامِ ذَلِكَ (ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ) لَعَلَّهُ تَقْسِيمٌ اسْتِقْرَائِيٌّ بَلْ جَعْلِيٌّ (إيمَانُ اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ إخْلَاصٌ، إحْسَانٌ، تَوَاضُعٌ، ذِكْرٌ، مِنْهُ نَصِيحَةٌ، تَصَوُّفٌ، غَيْرَةٌ، غِبْطَةٌ، فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ سَخَاءٌ، إيثَارٌ، مُرُوءَةٌ، قُوَّةٌ، حِكْمَةٌ، شُكْرٌ، رِضًا صَبْرٌ، خَوْفٌ، مِنْ اللَّهِ حُزْنٌ لَهُ رَجَاءٌ، بُغْضٌ، فِي اللَّهِ حُبٌّ فِي اللَّهِ تَوَكُّلٌ، حُبٌّ، خُمُولٌ، اسْتِوَاءٌ، ذَمٌّ، وَمَدْحٌ، مُجَاهَدَةٌ، تَحْقِيقٌ، قِصَرُ أَمَلٍ ذِكْرُ مَوْتٍ تَفْوِيضٌ، تَسْلِيمٌ، تَمَلُّقٌ، فِي طَلَبِ الْعِلْمِ سَلَامَةٌ صَدْرٍ عَنْ حِقْدٍ شُجَاعَةٌ، حِلْمٌ، رِفْقٌ، أَمَانَةٌ، وَفَاءُ عَهْدٍ إنْجَازُ وَعْدٍ حُسْنُ ظَنٍّ زُهْدٌ، قَنَاعَةٌ، رُشْدٌ، سَعْيٌ، أَنَاةٌ، مُبَادَرَةٌ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ رِقَّةٌ، شَفَقَةٌ، حَيَاءٌ، صَلَابَةٌ، فِي أَمْرِ الدِّينِ أُنْسٌ بِاَللَّهِ شَوْقٌ إلَيْهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَارٌ، ذَكَاءٌ، عِفَّةٌ، اسْتِقَامَةٌ، أَدَبٌ، فِرَاسَةٌ،

تَفَكُّرٌ، صِدْقٌ، مُرَابَطَةٌ، مُشَارَطَةٌ، مُرَاقَبَةٌ، مُحَاسَبَةٌ، مُعَاتَبَةٌ، مُعَاقَبَةٌ، كَظْمُ غَيْظٍ عَفْوِيَّةٌ إرَادَةُ طُولِ حَيَاةٍ لِلْعِبَادَةِ تَوْبَةٌ، خُشُوعٌ، يَقِينٌ، عُبُودِيَّةٌ، حُرِّيَّةٌ، إرَادَةٌ. وَلِلْمُتَقَدِّمَيْنِ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ضَبْطِ الْفَضَائِلِ وَحُدُودِهَا طَرِيقَةٌ لَا بَأْسَ أَنْ نَذْكُرَهَا) بَلْ لَا بُدَّ أَنْ نَذْكُرَهَا تَكْمِلَةً لِلْفَوَائِدِ اعْتِنَاءً بِشَأْنِ الْمَقَامِ فَإِنَّ لِكَلِمَةِ لَا بَأْسَ مَسَاغًا إلَى الْوُجُوبِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكُلِّيَّةٍ فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى أَوْ لِمُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ (وَإِنْ وَقَعَ تَكْرَارٌ فِي بَعْضٍ لِعَدَمِ خُلُوِّهَا عَنْ الْفَائِدَةِ) لَكِنْ يُرَاد أَنَّ مَا تَضَمَّنَ تِلْكَ الْفَائِدَةَ يُوجِبُ أَوْلَوِيَّةَ الْإِتْيَانِ فَذِكْرُهُ أَوْلَى وَأَيْضًا اللَّائِقُ حِينَئِذٍ عَدَمُ ذِكْرِ مَا تَكَرَّرَ. فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَا تَكَرَّرَ يُوجِبُ أَوْلَوِيَّةَ التَّرْكِ وَالْفَائِدَةُ تُوجِبُ أَوْلَوِيَّةَ الْإِتْيَانِ فَتَعَارَضَا وَتَسَاقَطَا قُلْنَا ذَلِكَ عِنْدَ مَعْلُومِيَّةِ مُسَاوَاةِ الطَّرَفَيْنِ لَعَلَّ جَانِبَ الْفَائِدَةِ رَاجِعٌ (وَهِيَ) أَيْ الطَّرِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ (حَصْرُ أُصُولِهَا وَتَفْرِيعُ شُعَبِ كُلٍّ مِنْهَا عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ أُصُولَهَا أَرْبَعَةٌ ثَلَاثَةٌ مُفْرَدَةٌ وَهِيَ الْحِكْمَةُ) وَهِيَ مَلَكَةٌ لِلنَّفْسِ تُدْرِكُ بِهَا الصَّوَابَ مِنْ الْخَطَأِ (وَالشَّجَاعَةُ) هِيَ مَلَكَةٌ بِهَا تُقْدِمُ عَلَى أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقْدَمَ عَلَيْهَا (وَالْعِفَّةُ) هِيَ مَلَكَةٌ بِهَا يُبَاشَرُ الْمُشْتَهَيَاتِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ وَالْمُرُوءَةِ (وَ) أَصْلٌ (وَاحِدٌ مُرَكَّبٌ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ) الْأُصُولِ الْمُفْرَدَةِ (الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ) مَلَكَةٌ تَحْمِلُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنَاهِي وَالتَّخَلُّقِ مِمَّا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ (فَشُعَبُ الْحِكْمَةِ) سَبْعٌ رَمَزَ لَهَا بِقَوْلِهِ (زَ) عَلَى حِسَابِ أَبْجَدٍ (الْأَوَّلُ صَفَاءُ الذِّهْنِ) جُودَةُ الذَّكَاءِ وَهُوَ (اسْتِعْدَادُ النَّفْسِ) لِاسْتِخْرَاجِ الْمَطْلُوبِ بِلَا تَشْوِيشٍ. (الثَّانِي جَوْدَةُ الْفَهْمِ) وَهُوَ (صِحَّةُ الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ) ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ لَكِنْ الْمُنَاسِبُ فِي اللَّازِمِ الْبَيِّنِ. (الثَّالِثُ الذَّكَاءُ سُرْعَةُ اقْتِدَاحِ) إنْتَاجِ (النَّتَائِجِ) لَعَلَّ مَا يُقَالُ بِالْحَدْسِ. (الرَّابِعُ حُسْنُ التَّصَوُّرِ) هُوَ (الْبَحْثُ عَنْ الْأَشْيَاءِ بِقَدْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ) بِلَا قُصُورٍ بَلْ بِكِفَايَةٍ. (الْخَامِسُ سُهُولَةُ التَّعَلُّمِ) هُوَ (قُوَّةُ النَّفْسِ عَلَى دَرْكِ الْمَطْلُوبِ بِالْكَلَامِ بِلَا زِيَادَةِ سَعْيٍ. السَّادِسُ الْحِفْظُ ضَبْطُ الصُّوَرِ الْمُدْرَكَةِ) بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. (السَّابِعُ الذُّكْرُ) بِالضَّمِّ فِي الْقَلْبِ وَبِالْكَسْرِ فِي اللِّسَانِ (اسْتِحْضَارُ الْمَحْفُوظَاتِ) الْمُودَعَةِ فِي الْحَافِظَةِ وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ الْحِفْظِ وَهُوَ تَدَارُكُ مَا عَلِمَهُ فِي الْمَاضِي حِينَ احْتِيَاجِهِ (وَشُعَبُ الشَّجَاعَةِ " يب ") ثِنْتَا عَشْرَةَ (الْأَوَّلُ كِبَرُ النَّفْسِ اسْتِحْقَارُ الْيَسَارِ وَالْفَقْرِ وَالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ) أَيْ اسْتِوَاءُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَهُ. (الثَّانِي الْعَفْوُ تَرْكُ الْمُجَازَاةِ بِسُهُولَةٍ مِنْ

النَّفْسِ مَعَ الْقُدْرَةِ) عَلَى الِانْتِقَامِ. (الثَّالِثُ عِظَمُ الْهِمَّةِ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ) أَيْ الِاهْتِمَامِ (بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَشَقَاوَتِهَا) بَلْ هِمَّتُهُ أَدَاءُ حَقِّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (الرَّابِعُ الصَّبْرُ) هُوَ قُوَّةُ مُقَاوَمَةِ الْآلَامِ وَالْأَهْوَالِ. (الْخَامِسُ النَّجْدَةُ عَدَمُ الْجَزَعِ عِنْدَ الْمَخَاوِفِ) وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُصُولِ مَلَكَةِ الثَّبَاتِ حَتَّى لَا يَعْتَرِيَهُ الْجَزَعُ عِنْدَ الْمَهَالِكِ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ الْأَفْعَالُ الْغَيْرُ الْمُنْتَظِمَةِ. (السَّادِسُ الْحِلْمُ الطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ ثَوْرَةِ الْغَضَبِ) أَيْ شِدَّتِهِ. (السَّابِعُ السُّكُونُ) وَهُوَ (التَّأَنِّي فِي الْخُصُومَاتِ) مَعَ الْخُصَمَاءِ (وَالْحُرُوبِ) مَعَ الْأَعْدَاءِ. (الثَّامِنُ التَّوَاضُعُ اسْتِعْظَامُ ذَوِي الْفَضَائِلِ وَمَنْ دُونَهُ) فِي الْمَرْتَبَةِ وَتَنْزِيلُ مَنْزِلَتِهِ دُونَ مَنَازِلِهِمْ (وَفِي الْمَالِ وَالْجَاهِ التَّاسِعُ الشَّهَامَةُ) هِيَ (الْحِرْصُ عَلَى مَا) أَيْ عَلَى مُبَاشَرَةِ أُمُورٍ عَظِيمَةٍ (يُوجِبُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ) لِنَعْتِهِ فِيهِ (مِنْ الْعَظَائِمِ الْعَاشِرُ الِاحْتِمَالُ إتْعَابُ النَّفْسِ فِي الْحَسَنَاتِ الْحَادِيَ عَشَرَ) مِنْ شُعَبِ الشَّجَاعَةِ (الْحَمِيَّةُ) وَهِيَ (الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحُرُمِ وَالدِّينِ مِنْ التُّهْمَةِ) فَوَقَى صَاحِبُهَا أَهْلَهُ مَوَاطِنَ التُّهْمَةِ (وَثَانِيَ عَشْرَهَا) مِنْ شُعَبِهَا (الرِّقَّةُ) وَهِيَ (التَّأَذِّي مِنْ أَذًى يَلْحَقُ الْغَيْرَ مُطْلَقًا وَشُعَبُ الْعِفَّةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ: أَحَدُهَا الْحَيَاءُ) وَهُوَ (انْحِصَارُ النَّفْسِ خَوْفَ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ) قَبِيحًا شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا إمَّا مَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهِ أَوْ مَا لَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ أَوْ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ وَيُقَالُ لِمُبَاشِرِ الْأَوَّلِ الْعَاشِقُ وَالثَّانِي الْمَجْنُونُ وَالثَّالِثُ الْأَبْلَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَ الْحَيَاءِ يُصَانُ عَنْ هَذِهِ الْأَلْقَابِ. (الثَّانِي الصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى) وَهُوَ غَيْرُ الصَّبْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ شُعَبِ الشَّجَاعَةِ فَإِنَّهُ هُنَالِكَ مُدَافَعَةُ حُلُولِ الْآلَامِ وَالْأَهْوَالِ بِالنَّفْسِ وَهَاهُنَا مُدَافَعَةُ النَّفْسِ عَنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَلَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ قُوَّةِ الْمُقَاوَمَةِ. (الثَّالِثُ الدَّعَةُ) وَهِيَ (السُّكُونُ عِنْدَ هَيَجَانِ الشَّهْوَةِ) وَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ مَلَكَةِ التَّثَبُّتِ. (الرَّابِعُ النَّزَاهَةُ) وَهِيَ (اكْتِسَابُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مُهَانَةٍ وَلَا ظُلْمٍ وَإِنْفَاقُهُ فِي الْمَصَارِفِ الْحَمِيدَةِ) بِمَعْنَى طِيبِ الْمَدْخَلِ وَالْمَصْرِفِ. (الْخَامِسُ الْقَنَاعَةُ) وَهِيَ (الِاقْتِصَارُ عَلَى الْكَفَافِ) بِمَعْنَى تَسْوِيَةِ الْمَدْخَلِ مَعَ الْمَخْرَجِ. (السَّادِسُ الْوَقَارُ) وَهُوَ (التَّأَنِّي فِي التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْمَطْلَبِ) وَأُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّأَنِّي مِنْ الرَّحْمَنِ» وَالْعَجَلَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ. (السَّابِعُ الرِّفْقُ حُسْنُ الِانْقِيَادِ لِمَا يُؤَدِّي إلَى الْجَمِيلِ الثَّامِنُ حُسْنُ السَّمْتِ مَحَبَّةُ مَا يُكْمِلُ النُّفُوسَ

التَّاسِعُ الْوَرَعُ مُلَازَمَةُ الْأَعْمَالِ الْجَمِيلَةِ) بِمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ وَالْمُرُوءَةِ. (الْعَاشِرُ الْمُرُوءَةُ الرَّغْبَةُ الصَّادِقَةُ لِلنَّفْسِ فِي الْإِفَادَةِ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ الْحَادِيَ عَشَرَ الِانْتِظَامُ تَقْدِيرُ الْأُمُورِ وَتَرْتِيبُهَا بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ الثَّانِيَ عَشَرَ السَّخَاءُ إعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَنْبَغِي وَهَذَا تَحْتَهُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: الْكَرَمُ الْإِعْطَاءُ بِالسُّهُولَةِ وَطِيبِ النَّفْسِ. الثَّانِي الْإِيثَارُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْكَفِّ عَنْ حَاجَتِهِ) يَعْنِي لَا يَأْكُلُ وَيُعْطِي. (الثَّالِثُ النُّبْلُ) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ (أَنْ يَكُونَ مَعَ السُّرُورِ الرَّابِعُ الْمُوَاسَاةُ أَنْ يَكُونَ مَعَ مُشَارَكَةِ الْأَصْدِقَاءِ) يَعْنِي فِي فِي النِّعْمَةِ بَعْدَ بَذْلِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ. (الْخَامِسُ السَّمَاحَةُ) بَذْلُ مَا لَا يَجِبُ تَفَضُّلًا. (السَّادِسُ الْمُسَامَحَةُ) تَرْكُ مَا لَا يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ أَيْ يَتْرُكُهُ (تَنَزُّهًا) مِثْلَ بَاعَ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو فَرَسًا بِمِائَةٍ فَأَسْقَطَ مِنْ الْمِائَةِ عَشَرَةً بِلَا تَوَقُّفِ الْمُجَازَاةِ (وَشُعَبُ الْعَدَالَةِ) أَرْبَعَةَ عَشَرَ. (الْأَوَّلُ الصَّدَاقَةُ: الْمَحَبَّةُ الصَّادِقَةُ بِحَيْثُ لَا يَشُوبُهَا غَرَضٌ وَيُؤْثِرُ) أَيْ صَاحِبُ الصَّدَاقَةِ مَنْ يُحِبُّهُ (عَلَى نَفْسِهِ فِي الْخَيْرَاتِ) أَيْ فِي أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] . (الثَّانِي الْأُلْفَةُ اتِّفَاقُ الْآرَاءِ فِي الْمُعَاوَنَةِ عَلَى تَدْبِيرِ الْمَعَاشِ) هَذَا بِمَعْنَى الْمُشَاوَرَةِ. (الثَّالِثُ الْوَفَاءُ مُلَازَمَةُ طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ وَمُحَافَظَةُ عُهُودِ الْخُلَطَاءِ) بِمَعْنَى الصَّاحِبِ وَالْخَلِيطِ. (الرَّابِعُ التَّوَدُّدُ طَلَبُ مَوَدَّةِ الْأَكْفَاءِ بِمَا يُوجِبُ ذَلِكَ) الْكُفْءُ الْمِثْلُ وَالنَّظِيرُ. (الْخَامِسُ الْمُكَافَأَةُ مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ زِيَادَةٍ السَّادِسُ حُسْنُ الشَّرِكَةِ رِعَايَةُ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ

السَّابِعُ حُسْنُ الْقَضَاءِ تَرْكُ النَّدَمِ وَالْمَنِّ فِي الْمُجَازَاةِ) أَيْ إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَأَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ فَلْيَتَجَنَّبْ النَّدَمَ وَالْمَنَّ فَإِنَّ الْمَنَّ مَذْمُومٌ فِي الْإِنْفَاقِ فَضْلًا عَنْ أَمْرٍ يَقْتَضِي الْمُجَازَاةَ (الثَّامِنُ صِلَةُ الرَّحِمِ مُشَارَكَةُ ذَوِي الْقُرْبَى فِي الْخَيْرَاتِ التَّاسِعُ الشَّفَقَةُ صَرْفُ الْهِمَّةِ إلَى إزَالَةِ الْمَكْرُوهِ عَنْ النَّاسِ الْعَاشِرُ الْإِصْلَاحُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْخُصُومَاتِ بِمَا يَدْفَعُهَا الْحَادِيَ عَشَرَ التَّوَكُّلُ تَرْكُ السَّعْيِ فِيمَا لَا يَسَعُهُ قُدْرَةُ الْبَشَرِ الثَّانِيَ عَشَرَ التَّسْلِيمُ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ فِيمَا لَا يُلَائِمُ) الطَّبِيعَةَ وَالنَّفْسَ. (الثَّالِثَ عَشَرَ الرِّضَا طِيبُ النَّفْسِ فِيمَا يُصِيبُهُ وَيَفُوتُهُ مُطْلَقًا مَعَ عَدَمِ التَّغَيُّرِ الرَّابِعَ عَشَرَ: الْعِبَادَةُ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَهْلِهِ وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَتَرْكُ مَحَارِمِهِ فَمَجْمُوعُ الْأُصُولِ وَالشُّعَبِ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ) فُرُوعٌ وَأَرْبَعَةٌ أُصُولٌ (وَفِيهِ) أَيْ فِيمَا نَقَلَ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ (زِيَادَةُ ثَلَاثِينَ فَضِيلَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي أَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ ثَلَاثِينَ فَضِيلَةً لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ لِأَنَّهُ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ (وَهِيَ هَذِهِ) صَفَاءُ الذِّهْنِ جَوْدَةُ الْفَهْمِ حُسْنُ التَّصَوُّرِ سُهُولَةُ التَّعَلُّمِ الْحِفْظُ الذِّكْرُ كِبَرُ النَّفْسِ عِظَمُ الْهِمَّةِ النَّجْدَةُ السُّكُونُ الشَّهَامَةُ الِاحْتِمَالُ الْحَمِيَّةُ الدَّعَةُ النَّزَاهَةُ حُسْنُ السَّمْتِ الِانْتِظَامُ الْكَرَمُ النُّبْلُ الْمُوَاسَاةُ السَّمَاحَةُ الْمُسَامَحَةُ الصَّدَاقَةُ الْأُلْفَةُ التَّوَدُّدُ الْمُكَافَأَةُ حُسْنُ الشَّرِكَةِ حُسْنُ الْقَضَاءِ صِلَةُ الرَّحِمِ الْإِصْلَاحُ فَهِيَ سِتٌّ مِنْ شُعَبِ الْحِكْمَةِ وَسَبْعٌ مِنْ شُعَبِ الشَّجَاعَةِ وَتِسْعٌ مِنْ شُعَبِ الْعِفَّةِ وَثَمَانٍ مِنْ شُعَبِ الْعَدَالَةِ (فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ جَمِيعِ الْخَبَائِثِ الْمَذْكُورَةِ وَدَفْعِهَا وَحِفْظِ أَضْدَادِهَا وَ) حِفْظِ (بَاقِي الْفَضَائِلِ أَيْضًا) الْمَذْكُورَةِ بِالْأَصَالَةِ وَفِي طَرِيقَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ يَلْتَبِسُ بِك شَيْءٌ مِنْ الرَّذَائِلِ (أَوْ إزَالَتِهَا) كُلًّا أَوْ بَعْضًا مِنْهَا فِيك (وَدَفْعِهَا) إنْ يَلْتَبِسْ شَيْءٌ مِنْهَا وَتَحْصِيلِ أَضْدَادِهَا وَسَائِرِ الْفَضَائِلِ (حَتَّى) غَايَةٌ لِلْحِفْظِ (تَبْقَى) عِنْدَك فِي صُورَةِ الِاتِّصَافِ بِالْفَضَائِلِ (أَوْ تَحْصُلَ لَك) فِي صُورَةِ الِاتِّصَافِ بِالرَّذَائِلِ (تَزْكِيَةُ النَّفْسِ) بِسَبَبِ الْإِزَالَةِ (وَتَصْفِيَةُ الرُّوحِ) مِنْ كَدُورَاتِهَا (وَتَخْلِيَةُ الْقَلْبِ) بِالْمُعْجَمَةِ (وَتَحْلِيَتُهُ فَإِنَّ التَّصَوُّفَ) الْمُفَسَّرَ بِالْخُرُوجِ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيءٍ وَالدُّخُولُ فِي كُلِّ خُلُقٍ سَنِيٍّ (وَالطَّرِيقَةُ) الظَّاهِرُ الطَّرِيقَةُ الصُّوفِيَّةُ (عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ) وَقِيلَ التَّصَوُّفُ اسْتِرْسَالُ النَّفْسِ مَعَ اللَّهِ عَلَى مَا يُرِيدُ أَوْ أَنْ تَكُونَ مَعَ اللَّهِ بِلَا عَلَاقَةٍ

أَوْ الْأَخْذُ بِالْحَقَائِقِ وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي الْخَلَائِقِ أَوْ عَنْوَةٌ لَا صُلْحَ فِيهَا أَوْ ذِكْرٌ مَعَ اجْتِمَاعٍ وَعَمَلٌ مَعَ اتِّبَاعٍ أَوْ إبَاحَةٌ عَلَى بَابِ الْحَبِيبِ وَإِنْ طَرَدَ أَوْ وَقْتٌ فَارِغٌ وَقَلْبٌ طَيِّبٌ أَوْ الْجُلُوسُ مَعَ اللَّهِ بِلَا هَمٍّ أَوْ بِرِقَّةٍ مُحْرِقَةٍ أَوْ عِصْمَةٍ مِنْ رُؤْيَةِ الْكَوْنِ أَوْ مُوَافَقَةُ الْأَحْوَالِ وَلُزُومُ الْأَدَبِ أَوْ الِانْقِيَادُ إلَى الْحَقِّ أَوْ إسْقَاطُ الْجَاهِ وَسَوَادُ الْوَجْهِ فِي الدَّارَيْنِ كَمَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنَّمَا يُوَافِقُ الْبَعْضَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِلْزَامَ وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ أَخَافُ عَلَيْهِ سُوءَ الْخَاتِمَةِ وَأَدْنَى النَّصِيبِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَتَسْلِيمُهُ لِأَهْلِهِ كَمَا مَرَّ (وَخُصُوصًا سَبْعَةٌ مِنْ الرَّذَائِلِ) لِشِدَّةِ قُبْحِهَا (فَإِنَّهَا أُمَّهَاتُ الْخَبَائِثِ فَعَسَى إنْ نَجَوْت مِنْهَا) بِالتَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ (أَنْ تَنْجُوَ مِنْ غَيْرِهَا) فَإِنَّ الْأُصُولَ إذَا قُطِعَتْ تَيْبَسُ الْفُرُوعُ (أَيْضًا وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ وَالرِّيَاءُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ وَالْبُخْلُ وَالْإِسْرَافُ بَلْ أَزِيدُ) عَلَى التَّكَلُّمِ (وَأَقُولُ إنْ نَجَوْت مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ فَلَعَلَّك تَفُوزُ وَتَنْجُو مِنْ بَاقِيهَا لِأَنَّ الْبَوَاقِيَ إمَّا أَسْبَابُهَا) أَيْ أَسْبَابُ الْأَرْبَعَةِ (أَوْ ثَمَرَاتُهَا) الْحَاصِلَةُ مِنْهَا كَالْكِبْرِ فَإِنَّهُ يُثْمِرُ الْحَسَدَ وَالرِّيَاءَ بِأَنَّهُ يُثْمِرُ الْإِسْرَافَ (أَوْ مُتَعَلِّقَاتُهَا فَزَوَالُهَا) أَيْ الْأَرْبَعَةِ (بِالتَّمَامِ يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ) الْبَاقِيَةِ مِنْهَا (وَالْأَوَّلَانِ) أَيْ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ (ظَاهِرًا الْفَسَادِ بَيِّنَا الْغَوَائِلِ) ظَاهِرَا الْمَهَالِكِ (غَنِيَّانِ عَنْ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ وَالْأَخِيرَانِ) الرِّيَاءُ وَالْكِبْرُ (قَدْ كَانَ أَكْثَرُ اهْتِمَامِ السَّلَفِ فِيهِمَا) قِيلَ أَيْ فِي الْوَقْتِ عَلَى قُبْحِهِمَا وَعَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُمَا (حُكِيَ) فِي حَقِّ الرِّيَاءِ (عَنْ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ مَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِي) بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ فَعَلْنَهَا فِي الْخَلْوَةِ (لَا أَعُدُّهُ شَيْئًا) لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ شَوْبِ الرِّيَاءِ لَعَلَّ لِهَذَا اخْتَارَ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ وَلَعَلَّ الِاحْتِجَاجَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَقَامِ الْخَطَّابِيِّ وَإِلَّا فَلَا يَصْلُحُ مِثْلُهَا حُجَّةً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ إظْهَارَ الْعَمَلِ وَإِخْفَاءَهُ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ (وَعَنْ بَعْضِهِمْ) قِيلَ هُوَ الْبِسْطَامِيُّ (قَالَ قَضَيْت صَلَاةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً كُنْت صَلَّيْتهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ أَنِّي تَأَخَّرْت يَوْمًا بِعُذْرٍ) عَنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ (فَصَلَّيْت فِي الصَّفِّ الثَّانِي فَاعْتَرَتْنِي) أَيْ عَرَضَتْ لِي (خَجْلَةٌ) أَيْ حَيَاءٌ (مِنْ النَّاسِ حَيْثُ رَأَوْنِي قَدْ صَلَّيْت فِي الصَّفِّ الثَّانِي فَعَرَفْت أَنَّ نَظَرَ النَّاسِ إلَيَّ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ كَانَ يَسُرُّنِي بِسَبَبِ اسْتِرْوَاحِ نَفْسِي مِنْ حَيْثُ لَا أَشْعُرُ) أَيْ لَا أَعْلَمُ فَخِفْت مِنْ شَوْبِ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَضَيْت مِقْدَارَ ذَلِكَ الَّذِي صَلَّيْته فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ فِي مِثْلِهِ وَلَوْ احْتِيَاطًا لَا يُوجَدُ فِي الْفِقْهِيَّةِ وَأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي أَدَّيْت بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ إنَّمَا تُعَادُ فِي الْوَقْتِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ خَارِجَهُ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ عَلَى أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِي مِثْلِهِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَضْلًا عَنْ التَّحْرِيمِيَّةِ وَقَوْلُهُمْ

حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ إنَّمَا يَجْرِي فِيمَا يُعْلَمُ مَشْرُوعِيَّتُهُ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ فَلَوْ لَزِمَ قَضَاءُ مِثْلِهَا وَلَوْ نَدْبًا لَنُقِلَ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ تَدَبَّرْ (وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ) فِي حَقِّ الْكِبْرِ (مَا دَامَ الْعَبْدُ يَظُنُّ أَنَّ فِي الْخَلْقِ شَرًّا مِنْهُ) وَلَوْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَشْكَالِهِ تَفْصِيلًا (فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ فَقِيلَ لَهُ مَتَى يَكُونُ مُتَوَاضِعًا فَقَالَ إذَا لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ مَقَامًا) عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ النَّاسِ (وَلَا حَالًا) مِنْ الْأَحْوَالِ الْمَرْضِيَّةِ، الْحَالُ: مَا يَتَحَوَّلُ وَيَنْتَقِلُ وَالْمُقَدَّمُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ لَكِنْ إذَا تَحَقَّقَا وَثَبَتَا عِنْدَهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ بَلْ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْكَذِبَ وَكُفْرَانَ النِّعْمَةِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ عَدَمُ جَعْلِهَا آلَةً لِلْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ (وَعَنْهُ) أَبِي يَزِيدَ (أَنَّهُ قَالَ كَابَدْت) الْمُكَابَدَةُ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ (الْعِبَادَةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَرَأَيْت قَائِلًا يَقُولُ لِي يَا أَبَا يَزِيدَ خَزَائِنُهُ تَعَالَى مَمْلُوءَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ) لِكَثْرَةِ عِبَادَةِ الْعِبَادِ (إنْ أَرَدْت الْوُصُولَ إلَيْهِ) إلَى اللَّهِ تَعَالَى (فَعَلَيْك بِالذُّلِّ وَالِاحْتِقَارِ) فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا ذَلِكَ كَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا (وَعَنْ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَجْلِسِهِ لَوْلَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ زَعِيمُ الْقَوْمِ» أَيْ أَمِيرُهُمْ وَرَئِيسُهُمْ «أَرْذَلَهُمْ» مِنْ الرَّذَالَةِ (مَا تَكَلَّمْت عَلَيْكُمْ) بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامُ الرَّئِيسِ وَرَئِيسُهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَرْذَلُهُمْ وَأَنَا أَرْذَلُكُمْ فَلِهَذَا تَكَلَّمْت عَلَيْكُمْ (وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ قَالَ مَا سُرِرْت فِي إسْلَامِي) أَيْ بَعْدَ تَرْكِ السَّلْطَنَةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَعُدَّ نَفْسَهُ مُسْلِمًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَذَا قِيلَ (إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ كُنْت فِي سَفِينَةٍ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِضْحَاكٌ) مُبَالَغَةٌ مِنْ الضَّحِكِ (يَقُولُ كُنَّا فِي الْغَزْوِ نَأْخُذُ بِشَعْرِ الْعِلْجِ) بِالْكَسْرِ وَالسُّكُونِ كَافِرٌ غَلِيظٌ مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ (فِي بِلَادِ التُّرْكِ هَكَذَا) إشَارَةً إلَى كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِ (وَكَانَ يَأْخُذُ بِشَعْرِ رَأْسِي فَيَهُزُّنِي) أَيْ يُحَرِّكُنِي وَيَجْعَلُنِي آلَةَ ضَحِكٍ لَهُمْ (فَسَرَّنِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ أَحَدٌ أَحْقَرُ) مِنْ حَيْثُ الدُّنْيَا (فِي عَيْنِهِ مِنِّي) يُرَادُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ مِنْهُ أَنْ يُعْلِمَهُ كَوْنَهُ عَالِمًا وَصَالِحًا فَيَفْعَلُهُ لِعِلْمِهِ وَصَلَاحِهِ فَكُفْرٌ وَإِلَّا فَأَذَى الْمُسْلِمِ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ السُّرُورُ عَلَى كُفْرِ الْغَيْرِ وَعِصْيَانِهِ وَأَنَّ الْمَرْءَ مَأْمُورٌ بِالتَّزَيُّنِ الَّذِي يُوجِبُ عَدَمَ الْمُهَانَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَوْعِهِ وَالْقَوْلُ إنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْفَتْوَى وَعَمَلُهُمْ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ التَّقْوَى غَيْرُ مَعْلُومٍ جَرْيُهُ هُنَا (وَ) ثَانِيهَا (كُنْت عَلِيلًا فِي مَسْجِدٍ) مِنْ الْمَسَاجِدِ (فَدَخَلَ الْمُؤَذِّنُ عَلَيَّ فَقَالَ لِي اُخْرُجْ) لَعَلَّهُ لِخَوْفِ سَرِقَةِ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الْمَسْجِدِ (فَلَمْ أَطِقْ) الْخُرُوجَ لِغَايَةِ الضَّعْفِ فَلَمْ يَتَرَحَّمْ (فَأَخَذَ بِرِجْلِي وَجَرَّنِي إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ) فَسَرَّنِي ذَلِكَ لِلتَّحْقِيرِ وَالِاسْتِخْفَافِ (وَ) ثَالِثُهَا (كُنْت بِالشَّامِ

الصنف الثاني في آفات اللسان وهو قسمان

وَعَلَيَّ فَرْوٌ فَنَظَرْت فِيهِ فَلَمْ أُمَيِّزْ بَيْنَ شَعْرِهِ وَبَيْنَ الْقَمْلِ) لِكَثْرَتِهِ وَتَدَاخُلِهِ (فَسَرَّنِي ذَلِكَ) لِاسْتِلْزَامِهِ حَقَارَةَ النَّفْسِ وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إلَى الرَّوْنَقِ النَّفْسَانِيِّ وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ اهْتِمَامِ السَّلَفِ بِالْكِبْرِ أَيْ بِاحْتِرَازِهِ فَبَعْضُ الثَّلَاثَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً وَبَعْضُهَا الْتِزَامًا (وَعَنْهُ) أَيْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ (مَا سُرِرْت بِشَيْءٍ كَسُرُورِي فِي يَوْمٍ كُنْت جَالِسًا فَجَاءَ إنْسَانٌ وَبَالَ عَلَيَّ) وَجْهُ السُّرُورِ اسْتِلْزَامُ حَقَارَةِ نَفْسِهِ وَالْحَقَارَةُ إنَّمَا هِيَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَفِيهِ إيذَانٌ بِرُتْبَةِ النَّفْسِ وَعِظَتِهِ لِلنَّفْسِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهَا يَا نَفْسِي هَلْ عَرَفْت مَقَامَك وَمَنْزِلَتَك فَلَا تَتَكَبَّرِي فِي شَيْءٍ لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الْحَصْرَيْنِ مِنْ الْمُنَافَاةِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَا عَلَى الْإِضَافِيِّ أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْ حَصْرِ السُّرُورِ بِأَحَدِهِمَا فِي وَقْتٍ وَبِالْآخَرِ فِي وَقْتٍ آخَرَ (وَقِيلَ مَنْ رَأَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْ فِرْعَوْنَ) الَّذِي حُكِمَ بِكُفْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْهُ ذَمًّا (فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ) قَالُوا لِأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ فِرْعَوْنَ إنَّمَا صَدَرَ بِقَضَائِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَخِذْلَانِهِ وَمَا صَدَرَ مِنْك إنَّمَا صَدَرَ بِتَوْفِيقِهِ تَعَالَى وَلَمْ تَكُنْ أَنْتَ مُحَصِّلًا مُؤَثِّرًا فِيمَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ (وَقَدْ مَرَّ وَجْهُهُ) أَقُولُ وَقَدْ مَرَّ أَيْضًا الْبَحْثُ عَلَيْهِ فِي الرَّابِعِ مِنْ الرِّيَاءِ (وَقَوْلُ الشِّبْلِيِّ) عَطْفٌ عَلَى الْوَجْهِ (ذُلِّي) عِنْدَ أَنْفُسِي (عَطَّلَ ذُلَّ الْيَهُودِ) الَّذِي ضُرِبَ الْمَثَلُ بِهِ لِقُوَّتِهِ فِيهِمْ وَكَثْرَتِهِ قِيلَ وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ سُلْطَانٌ وَلَا أَمِيرٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكُفَّارِ قَالُوا لِأَنَّ ذَمَّ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ فِي الْقُرْآنِ أَبْلَغُ مِنْ ذَمِّ النَّصَارَى (وَ) قَوْلُ (أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ لَوْ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يَضَعُونِي كَاتِّضَاعِي عِنْدَ نَفْسِي مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ) لِكَوْنِ ضَعَتِي غَايَةً فِي الْكَمَالِ بِحَيْثُ لَا ضِعَةَ فَوْقَهَا وَدَلَالَةُ ذَلِكَ مُطَابَقَةٌ عَلَى الضَّعَةِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَيْ الْكِبْرِ إنَّمَا هِيَ بِالِالْتِزَامِ. ثُمَّ إنَّمَا أَكْثَرَ السَّلَفُ اهْتِمَامَ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ لِقُوَّةِ غَائِلَتِهِمَا وَكَثْرَةِ مَضَرَّتِهِمَا كَحَبْطِ الْأَعْمَالِ وَالنِّزَاعِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي صِفَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ تَعَالَى كَمَا سَبَقَ (وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ تَيَقَّنَ) نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ هَذَا التَّيَقُّنُ عَلَى اصْطِلَاحِ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْقَلْبِ (بِأَنَّ نَفْسَهُ أَعْدَى عَدُوِّهِ) وَلِهَذَا شُرِعَ الصَّوْمُ لِقَهْرِهَا وَصَارَتْ الْمُجَادَلَةُ وَالْمُجَاهَدَةُ مَعَهَا أَفْضَلَ الطَّاعَاتِ (لَمْ يَسْتَبْعِدْ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ عِنْدَ لُحُوقِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ لَهَا) أَيْ لِلنَّفْسِ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَعْدَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ قَالَ سَهْلٌ مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِثْلِ مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَعَنْ الْجُنَيْدِ هِيَ الدَّاعِيَةُ إلَى الْمَهَالِكِ الْمُعْنِيَةُ لِلْأَعْدَاءِ الْمُتَّبِعَةُ لِلْهَوَى الْمُنْهَمَّةُ بِأَصْنَافِ الْأَسْوَاءِ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ» وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ غَوَائِلِ النَّفْسِ (وَأَمَّا مَنْ اتَّخَذَهَا) لِعَدَمِ تَنْبِيهِهِ لِدَسَائِسِهَا (أَصْدَقَ أَصْدِقَائِهِ فَيُعِدُّهُ) أَيْ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ عِنْدَ لُحُوقِ الذُّلِّ لِنَفْسِهِ (مُمْتَنِعًا وَمُحَالًا) إذَا صَدَقَ الصَّدِيقُ لَا يَرْضَى وَلَا يُسَرُّ عِنْدَ لُحُوقِ الذُّلِّ لِصَدِيقِهِ بَلْ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ أَبِي حَفْصٍ مَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ وَلَمْ يُخَالِفْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَلَمْ يَجُرَّهَا إلَى مَكْرُوهِهَا فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ كَانَ مَغْرُورًا وَمَنْ نَظَرَ إلَيْهَا بِاسْتِحْسَانِ شَيْءٍ فَقَدْ أَهْلَكَهَا وَكَيْفَ يَصِحُّ لِعَاقِلٍ الرِّضَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ يَقُولُ - {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]-. [الصِّنْفُ الثَّانِي فِي آفَاتِ اللِّسَانِ وَهُوَ قِسْمَانِ] [الْقِسْم الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ حِفْظِهِ] (الصِّنْفُ الثَّانِي) مِنْ التِّسْعَةِ (فِي آفَاتِ اللِّسَانِ وَهُوَ قِسْمَانِ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ حِفْظِهِ) يَحْفَظُهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي

(وَعِظَمِ جُرْمِهِ) اللِّسَانُ عُضْوٌ صَغِيرٌ جِرْمُهُ، كَبِيرٌ جُرْمُهُ (إجْمَالًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} [ق: 18] أَيْ مَلَكٌ يَرْقُبُ عَمَلَهُ {عَتِيدٌ} [ق: 18] مُعِدٌّ حَاضِرٌ لِكِتَابَةِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ خَفَاءِ التَّقْرِيبِ ثُمَّ الْمُرَادُ جِنْسُ الرَّقِيبِ وَالْعَتِيدِ وَإِلَّا فَفِي الْحَدِيثِ «كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِيرٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا مَلَكُ الْيَمِينِ عَشْرًا وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ دَعْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ» فَإِذَا كَانَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ مَكْتُوبًا فِي دِيوَانِهِ مُقَرَّرًا عِنْدَ حُضُورِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ فَاللَّازِمُ لَهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ فُضُولِ الْكَلَامِ لِئَلَّا يَعْتَرِيَهُ الْخَجْلَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ الْحَرَامِ قِيلَ يَكْتُبَانِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَنِينَهُ فِي مَرَضِهِ وَقِيلَ لَا يَكْتُبَانِ إلَّا مَا فِيهِ أَجْرٌ أَوْ وِزْرٌ وَقِيلَ يَجْتَنِبَانِهِ عِنْدَ الْغَائِطِ وَالْجِمَاعِ. نَقَلَ عَنْ الْعُيُونِ (ت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَسْتَكْفِي) أَيْ تَطْلُبُ الْكِفَايَةَ وَالِانْدِفَاعَ مِنْ شَرِّهِ وَفِي رِوَايَةٍ تُكَفِّرُ اللِّسَانَ أَيْ تَذِلُّ وَتَخْضَعُ وَالتَّكْفِيرُ هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْإِنْسَانُ وَيُطَأْطِئَ رَأْسَهُ قَرِيبًا إلَى الرُّكُوعِ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُرِيدُ تَعْظِيمَ صَاحِبِهِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (اللِّسَانَ فَتَقُولُ) أَيْ الْأَعْضَاءُ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَوَاقِعٌ وَالتَّأْوِيلُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ كَمَا قِيلَ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَوْ مَجَازًا بِلِسَانِ الْحَالِ (اتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى فِينَا) أَيْ فِي حِفْظِ حُقُوقِنَا (فَإِنَّمَا نَحْنُ بِك) إنَّمَا اسْتِقَامَتُنَا عَلَى نَهْجِ الشَّرْعِ وَانْحِرَافُنَا عَنْهُ مُلَابِسٌ وَمُرْتَبِطٌ بِاسْتِقَامَتِك عَلَيْهِ وَاعْوِجَاجِك عَنْهُ (إنْ اسْتَقَمْت اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا) لَا يَخْفَى أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ. وَشَهِدَ عَلَيْهِ الْأَثَرُ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى الْقَلْبِ لَا اللِّسَانِ فَلَعَلَّهُ أَصَابَ مَنْ قَالَ هُنَا الْمُرَادُ بِاللِّسَانِ هُنَا الْقُوَّةُ النَّاطِقَةُ وَلِذَا كَانَ اسْتِقَامَةُ الْأَعْضَاءِ وَاعْوِجَاجُهَا تَابِعَةً لَهُ لِأَنَّهَا تَخْدِمُهُ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَانْقِيَادِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللِّسَانَ لِأَنَّهُ مَصْدَرُ النُّطْقِ الَّذِي بِهِ الِاسْتِقَامَةُ وَالِاعْوِجَاجُ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا وَرَدَ الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ (حَدّ) أَحْمَدُ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ» بِالْعَزْمِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالتَّجَنُّبِ عَنْ الْمَنْهِيَّاتِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ طَوَارِقِ الْغَفَلَاتِ وَتَرْكِ اللَّذَائِذِ وَالشَّهَوَاتِ وَعَدَمِ الِانْهِمَاكِ فِي الْغَرَضِ الْفَانِي مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّاتِ «وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» أَيْ لَا تُعْلَمُ اسْتِقَامَةُ قَلْبِهِ إلَّا بِاسْتِقَامَةِ لِسَانِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ فَعَدَمُ اسْتِقَامَةِ اللِّسَانِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ وَإِلَّا فَالْقَلْبُ أَمِيرٌ وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ مَأْمُورٌ يَعْمَلُ عَلَى نَهْجِ أَمْرِهِ فَلَا تُؤَثِّرُ اسْتِقَامَةُ اللِّسَانِ فِي اسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ بَلْ الْأَمْرُ عَلَى عَكْسٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ مَا رَسَخَ فِي

اللِّسَانِ قَدْ يَعُودُ إلَى الْقَلْبِ كَمَا قَالُوا فِي الذِّكْرِ فَقَدْ يَنْقَادُ الْقَلْبُ لِمَا يَتَعَوَّدُ عَلَيْهِ اللِّسَانُ. (ططص) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ» لُبِّهِ وَكَمَالِهِ «حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ» كَالشَّيْءِ الْمَحْفُوظِ فِي الْخَزِينَةِ بِأَنْ لَا يُظْهِرَهُ بِلَا احْتِيَاجٍ سِيَّمَا عَنْ أَعْرَاضِ الْخَلْقِ وَاعْتِرَاضِ الْخَالِقِ. قَالَ فِي الْفَيْضِ أَيْ يَجْعَلُ فَمَه خِزَانَةً لِلِسَانِهِ فَلَا يَفْتَحُهُ إلَّا بِمِفْتَاحِ إذْنِ اللَّهِ وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ يَخْزُنُ لِسَانَهُ مِمَّا كَانَ بَاطِلًا لَغْوًا عَاطِلًا فَيَخْزُنُهُ مِنْ الْبَاطِنِ خَوْفَ الْعِقَابِ وَمِنْ اللَّغْوِ وَالْهَذَيَانِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُبَاحِ خَوْفَ الْعِقَابِ ثُمَّ قَالَ وَاللِّسَانُ أَشْبَهُ الْأَعْضَاءِ بِالْقَلْبِ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ فَإِذَا خَفَّ بِنُطْقِهِ بِطَبْعِهِ وَسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ أُورِثَ الْقَلْبُ سَقَمًا وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَطْنُ وَالظَّاهِرُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَا يَسْتَقِيمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ» . (طب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْقُوفًا أَنَّهُ قَالَ «وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجُ إلَى طُولِ سِجْنٍ» أَيْ إلَى الْمَوْتِ «مِنْ لِسَانٍ» لِكِبَرِ جُرْمِهِ مَعَ صِغَرِ حَجْمِهِ وَكَثْرَةِ جِنَايَتِهِ وَصُعُوبَةِ حِفْظِهِ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَإِنَّ الْجَرِيمَةَ عَلَى قَدْرِ الْجُرْمِ وَرُوِيَ أَنَّ قُسَّ بْنَ سَاعِدَةَ وَأَكْتَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ اجْتَمَعَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ كَمْ وَجَدْت فِي بَنِي آدَمَ مِنْ الْعُيُوبِ فَقَالَ مَا أَصَبْته ثَمَانِيَةُ آلَافِ عَيْبٍ وَوَجَدْت خَصْلَةً إنْ اسْتَعْمَلَهَا سَتَرَتْ الْعُيُوبَ كُلَّهَا أَعْنِي حِفْظَ اللِّسَانِ وَرُوِيَ عَنْ ذِي النُّونِ أَنَّهُ حِينَ قِيلَ لَهُ مَنْ أَصْوَنُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ قَالَ أَمْلَكَهُمْ لِلِّسَانِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ بَكَّارَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ بَابَيْنِ وَجَعَلَ لِلِّسَانِ أَرْبَعَةَ أَبْوَابٍ فَالشَّفَتَانِ مِصْرَاعَانِ وَالْأَسْنَانُ مِصْرَاعَانِ (شَيْخُ هق) أَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ فَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى» لِزِيَادَةِ تَمْكِينِ خَاطِرِهِمْ لِقُوَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَإِلَّا فَعِلْمُهُمْ مُقْتَبَسٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ السُّؤَالُ مَعَ عِلْمِ السَّائِلِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اسْتِفَادَةُ النَّبِيِّ مِنْ الْأُمَّةِ خُصُوصًا فِي الشَّرْعِيَّاتِ «قَالَ فَسَكَتُوا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ» لِعَدَمِ سَبْقِيَّةِ سَمَاعِهِمْ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا دَخْلَ فِيهِ لِلرَّأْيِ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ» أَيْ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ «حِفْظُ اللِّسَانِ» مِنْ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرِ خَيْرٍ فَيَلْزَمُ أَنْ تَحْفَظَ كَلَامَكَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ وَهُوَ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِكُلِّ مَا لَوْ سَكَتَّ عَنْهُ لَمْ تَأْثَمْ وَلَمْ تَتَضَرَّرْ حَالًا أَوْ مَآلًا كَمَا حَكَيْت لِقَوْمٍ أَسْفَارَك وَمَا رَأَيْت فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَتِلَالٍ وَأَنْهَارٍ وَالْبِلَادَ وَأَحْوَالَهَا فَإِنَّك فِي ذَلِكَ مُضَيِّعٌ أَوْقَاتَك وَأَوْقَاتَ الْمُسْتَمِعِينَ وَمُحَاسَبٌ عَلَى عَمَلِ لِسَانِك وَإِنْ مَزَجْت بِحِكَايَاتِكَ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا وَتَزْكِيَةَ نَفْسٍ فَأَنْتَ آثِمٌ وَكَذَا صَاحِبُك، مَثَلًا إذَا سَأَلْت رَجُلًا أَنْتَ صَائِمٌ فَإِنْ سَكَتَ تَأَذَّيْت وَإِنْ قَالَ لَا كَذَبَ وَإِنْ قَالَ نَعَمْ اسْتَبْدَلَ سِرَّ عَمَلِهِ جَهْرًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ وَأَيْضًا يَلْزَمُ التَّوَقِّي عَنْ فُضُولِ الْكَلَامِ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آثِمًا كَمَا سَيَأْتِي. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ حِفْظَ اللِّسَانَ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ وَأَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ إذْ هُوَ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَنْظَرُ الرَّبِّ فَلَا يَنْبَغِي لِلتُّرْجُمَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَإِلَّا فَيَسْتَحِقُّ الْمُعَاتَبَةَ (ت «عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) الثَّقَفِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ» مِنْ النَّارِ وَمِنْ النَّدَامَةِ يَوْمَ الْبَوَارِ «قَالَ»

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قُلْ» بِلِسَانِك أَوْ بِقَلْبِك أَوْ بِحَالِك وَشُهُودِك وَعِيَانِك يَعْنِي جَدِّدْ إيمَانَك بِاَللَّهِ ذِكْرًا بِقَلْبِك وَنُطْقًا بِلِسَانِك بِأَنْ تَسْتَحْضِرَ جَمِيعَ مَعَانِي الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ «رَبِّي اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ» قِيلَ الِاسْتِقَامَةُ امْتِثَالُ كُلِّ مَأْمُورٍ وَتَجَنُّبُ كُلِّ مَنْهِيٍّ وَقِيلَ الْمُتَابَعَةُ لِلسُّنَنِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مَعَ التَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الْمُرْضِيَةِ وَقِيلَ الِاتِّبَاعُ مَعَ تَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَقِيلَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى أَخْلَاقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ وَهِيَ دَرَجَةٌ بِهَا كَمَالُ الْأُمُورِ وَتَمَامُهَا وَبِوُجُودِهَا حُصُولُ الْخَيْرَاتِ وَنِظَامِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُطِيقُهَا إلَّا الْأَكَابِرُ لِأَنَّهَا الْخُرُوجُ عَنْ الْمَعْهُودَاتِ وَمُفَارَقَةُ الرُّسُومِ وَالْعَادَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30]- وَأَيْضًا قَدْ مَرَّ «قُلْت» أَيْ سُفْيَانُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ» مِمَّا يُهْلِكُنِي «فَأَخَذَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ هَذَا» فَهُوَ أَشَدُّ مَا يُخَافُ لِمَا عَرَفْت أَنَّهُ مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ «عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ قَالَ احْفَظْ عَلَيْك لِسَانَك» الْحَدِيثَ (ط عَنْ أَسْلَمَ) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ) مَقْلُوبُ يَجْذِبُ لِسَانَهُ مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ وَأَنْكَرَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ فِي نَفْسِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ. (فَقَالَ عُمَرُ لَهُ مَهْ) أَيْ اُكْفُفْ لِأَنَّهُ عَبَثٌ (غَفَرَ اللَّهُ لَك) لِاهْتِمَامِك بِهَذَا الشَّأْنِ (فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ) مَوَاضِعَ الْهَلَاكِ وَفِي الشَّرْعِيَّةِ وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالنُّطْقِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَضَعُ حَجَرًا فِي فِيهِ لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْكَلَامِ بِمَا لَا يُهِمُّ وَفِي الْإِحْيَاءِ عَنْ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ فِضَّةٍ فَالصَّمْتُ مِنْ ذَهَبٍ. (خ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ تَضَمَّنَ لِي» تَكَفَّلَ تَفَعَّلَ مِنْ التَّكَلُّفِ «مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» مِنْ الْفَرْجِ «وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ» أَيْ اللِّسَانِ «تَضَمَّنْت لَهُ بِالْجَنَّةِ» اللَّحْي بِفَتْحِ اللَّامِ مَنْبَتُ اللِّحْيَةِ تَضَمَّنْت بِالْجَنَّةِ إمَّا بِالشَّفَاعَةِ أَوْ لِوُثُوقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ حِفْظَهُمَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ لِعِلْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالرَّابِطَةِ بَيْنَهُمَا وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ حِفْظَ اللِّسَانِ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ (وَحِفْظُ اللِّسَانِ) عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي (لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا بِالِاحْتِرَازِ عَنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ) لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ مَلَامُهُ وَقِيلَ مَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّ السَّقَطَ مَا لَا عِبْرَةَ بِهِ وَلَا نَفْعَ فَإِنْ لَغْوًا لَا إثْمَ فِيهِ حُوسِبَ عَلَى تَضْيِيعِ عُمْرِهِ وَكُفْرَانِ النِّعْمَةِ بِصَرْفِ نِعْمَةِ اللِّسَانِ عَنْ الذِّكْرِ إلَى الْهَذَيَانِ وَقَلَّمَا سَلِمَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى مَا يُوجِبُ الْآثَامَ فَتَصِيرُ النَّارُ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ لَا تَبْسُطَنَّ لِسَانَك فَيُفْسِدَ عَلَيْك شَأْنَك وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ رُبَّ كَلِمَةٍ تَقُولُ لِصَاحِبِهَا دَعْنِي دَعْنِي وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى رَجُلٍ مِكْثَارٍ فَقَالَ يَا هَذَا وَيْحَك إنَّمَا تُمْلِي كِتَابًا إلَى رَبِّك يُقْرَأُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ وَأَنْتَ عَطْشَانُ عُرْيَانُ جَوْعَانُ فَانْظُرْ مَاذَا تُمْلِي وَلِابْنِ الْمُبَارَكِ

لِتَحْفَظْ لِسَانَك إنَّ اللِّسَانَ ... سَرِيعٌ إلَى الْمَرْءِ فِي قَتْلِهِ وَإِنَّ اللِّسَانَ دَلِيلُ الْفُؤَا ... دِ يَدُلُّ الرَّجُلَ عَلَى عَقْلِهِ وَقَالَ عُمَرُ لِلْأَحْنَفِ يَا أَحْنَفُ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَوْ وَلَدَ أَبُو سُفْيَانَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ فَقَالَ رَجُلٌ قَدْ وَلَدَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فَكَانَ فِيهِمْ الْعَاقِلُ وَالْأَحْمَقُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَمُلَازَمَةِ الصَّمْتِ) فَإِنَّ مَنْ صَمَتَ نَجَا وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْلَمَ فَلْيَلْزَمْ الصَّمْتَ (إلَّا فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ) فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ (بَعْدَ التَّأَمُّلِ) إنْ فِيهِ نَجَاةٌ أَوْ هَلَاكٌ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُتَكَلِّمٍ أَنْ يَتَأَمَّلَ فَيَتَكَلَّمَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لِسَانُ الْمُؤْمِنِ وَرَاءَ قَلْبِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ تَدَبَّرَهُ بِقَلْبِهِ ثُمَّ أَمْضَاهُ بِلِسَانِهِ وَإِنَّ لِسَانَ الْمُنَافِقِ أَمَامَ قَلْبِهِ فَإِذَا هَمَّ بِشَيْءٍ أَمْضَاهُ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُ بِقَلْبِهِ» قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِسَانُ الْعَاقِلِ فِي قَلْبِهِ وَقَلْبُ الْأَحْمَقِ فِي لِسَانِهِ (وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ) قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ كَثُرَ عَقْلُهُ قَلَّ كَلَامُهُ وَمَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ قَلَّ عَقْلُهُ وَفِي الشِّرْعَةِ أَفْضَلُ خِصَالِ الْمُؤْمِنِ الصَّمْتُ وَأَنَّهُ إذَا قُسِمَتْ الْعَافِيَةُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ يَكُونُ عُشْرُهَا فِي النُّطْقِ وَالْبَاقِي فِي الصَّمْتِ (ت. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ» إيمَانًا كَامِلًا «بِاَللَّهِ» تَعَالَى «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا» يُثَابُ عَلَيْهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِيمَا يُرِيدُ التَّكَلُّمَ بِهِ فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا يَجُرُّ إلَيْهَا أَتَى بِهِ «أَوْ لِيَصْمُتْ» عَمَّا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ حَتَّى عَنْ الْمُبَاحِ لِإِفْضَائِهِ إلَى مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ وَلِأَنَّهُ ضَيَاعُ الْوَقْتِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ «وَمِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» وَأَفَادَ الْخَبَرُ أَنَّ قَوْلَ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ الصَّمْتِ لِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ قَوْلِ الْخَيْرِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ إنَّ آفَاتِ اللِّسَانِ أَسْرَعُ الْآفَاتِ لِلْإِنْسَانِ وَأَعْظَمُهَا فِي الْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ فَالْأَصْلُ مُلَازَمَةُ الصَّمْتِ إلَى أَنْ يَتَحَقَّقَ السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ وَالْحُصُولُ عَلَى الْخَيْرَاتِ فَحِينَئِذٍ يُخْرِجُ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَخْطُومَةً وَمَذْمُومَةً وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّ الْقَوْلَ كُلَّهُ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ أَوْ آيِلٌ إلَى أَحَدِهِمَا فَدَخَلَ فِي الْخَيْرِ كُلُّ مَطْلُوبٍ فَرْضًا أَوْ نَدْبًا أَوْ غَيْرَهُ فِي غَيْرِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْعَظِيمَةِ الْعَمِيمَةِ لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ جَمِيعَ أَحْكَامَ اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ الْجَوَارِحِ عَمَلًا كَذَا فِي الْفَيْضِ. (ت. عَنْ ابْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ» يَعْنِي بِغَيْرِ مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ «فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ» 98 أَظْهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ التَّمَكُّنِ فِي الْخَاطِرِ وَتَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ «قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ» بِمَعْنَى عَدَمِ قَبُولِهِ لِلذِّكْرِ وَالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْحُزْنِ وَالشَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ «وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْقَاسِي الْقَلْبِ» لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ بَعِيدًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا نَسْلَخُهُ عَنْ جَمِيعِ خِصَالِ الْخَيْرِ وَفَقْدِهَا مِنْ قَلْبِهِ فَيَكُونُ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقَلْبُ فَاعِلُ الْقَاسِي لِكَوْنِهِ صِلَةَ الـ (طص) الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ (شَيْخُ) وَأَبُو الشَّيْخِ (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ

وَعَلَيْك بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أَيْ فِي طَاعَتِهِ تَعَالَى فَدَخَلَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ فِي طَاعَتِهِ تَعَالَى سِيَّمَا تَخْلِيَةُ الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْجِهَادُ الْأَصْغَرُ مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الْمُجَاهَدَةَ مَعَ النَّفْسِ الْجِهَادَ الْأَكْبَرَ حِينَ رُجُوعِهِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِقَوْلِهِ «رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ» مِنْ الْمُبَارِقِ «فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ» تَعَبُّدُهُمْ الْمَخْصُوصُ بِهِمْ «وَعَلَيْك بِذِكْرِ اللَّهِ» تَعَالَى مُطْلَقًا مَا يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ مَآلًا لِحَدِيثِ «مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ ذَكَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ بِلِسَانِهِ، وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ نَسِيَهُ وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ، وَأَيْضًا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ كَثُرَتْ» الْحَدِيثَ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ: هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ طَاعَةُ اللَّهِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَتَجَنُّبِ نَهْيِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ هَذَا يُعْلِمُك بِأَنَّ أَصْلَ الذِّكْرِ إجَابَةُ الْحَقِّ مِنْ حَيْثُ اللَّوَازِمُ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ فِي مِثْلِهِ يَتَبَادَرُ مَا بِاللِّسَانِ سِيَّمَا نَحْوُ التَّهْلِيلِ «وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ فَإِنَّهَا» أَيْ التِّلَاوَةَ «نُورٌ لَك فِي الْأَرْضِ» لِمَا فِي التِّلَاوَةِ مِنْ جَلَاءِ الصُّدُورِ أَوْ يَهْدِيَك إلَى الْحَقِّ كَالنُّورِ «وَذِكْرٌ لَك فِي السَّمَاءِ» أَيْ سَبَبُ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فِيمَا بَيْنَهُمْ «وَاخْزُنْ لِسَانَك» أَيْ احْبِسْهُ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالِاسْتِشْهَادُ مِنْ الْحَدِيثِ «إلَّا مِنْ خَيْرٍ» تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ كَذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَتَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ «فَإِنَّك بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ» لِأَنَّ اللِّسَانَ أَعْظَمُ آلَةِ الشَّيْطَانِ فِي اسْتِغْوَاءِ الْإِنْسَانِ فَمَنْ أَطْلَقَ عَذَّبَهُ اللِّسَانُ وَأَهْمَلَهُ مُرْخِيَّ الْعِنَانِ فِي كُلِّ مَيْدَانٍ سَاقَهُ إلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ وَلَا يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يُنَجِّي مِنْ شَرِّ اللِّسَانِ إلَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِلِجَامِ الشَّرْعِ فَلَا يُطْلَقُ إلَّا فِيمَا يُنْتَفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَكُفُّ عَنْ كُلِّ مَا يَخْشَى غَائِلَتَهُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ. ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَلَاءِ هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ جَمِيعَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ الْهَيْتَمِيُّ وَفِيهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَقَدْ وُثِّقَ وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ (طِبّ. عَنْ أَبِي وَائِلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ أَكْثَرُ خَطَإِ ابْنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ» لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْأَعْضَاءِ عَمَلًا وَأَصْغَرُهَا جِرْمًا وَأَعْظَمُهَا زَلَلًا لِأَنَّهُ صَغِيرٌ جِرْمُهُ عَظِيمٌ جُرْمُهُ وَفِي الْحَدِيثِ «أَكْثَرُ النَّاسِ ذُنُوبًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ كَلَامًا فِيمَا لَا يَعْنِيهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ يَشْغَلُهُ فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعٌ أُخْرَوِيٌّ لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقْطُهُ وَجَازَفَ وَلَمْ يَتَحَرَّ فَتَكْثُرَ ذُنُوبُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» . وَفِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ «مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَلَا تَدْرِي فَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ يُخِلُّ بِمَا يَعْنِيهِ» وَالْإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ عَدَّهُ الْقَوْمُ مِنْ الْأَغْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْأَمْرَاضِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي التَّدَاوِي مِنْهَا مِنْ الْفُرُوضِ الْعَيْنِيَّةِ وَعِلَاجُهُ أَنْ تَسْتَحْضِرَ أَنَّ وَقْتَك أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْك فَتَشْغَلَهُ بِأَعَزِّهَا وَهُوَ الذِّكْرُ وَفِي ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إشْعَارٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ لَا تُكَفِّرُ عَنْ صَاحِبِهَا بِمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْمَصَائِبِ قَالَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ ارْتَقَى ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الصَّفَا فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ الشَّرِّ تَسْلَمْ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمَ ثُمَّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

يَقُولُ فَذَكَرَهُ انْتَهَى وَقِيلَ لِسَانُك أَسَدُك إنْ أَطْلَقْته يَفْتَرِسْك. (ت. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ» الْوَاحِدَةِ «لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا» يَعْنِي لَا يَظُنُّ كَوْنَهَا ذَنْبًا وَلَا مُؤَاخَذَةَ - {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]- «يَهْوِي بِهَا» يَسْقُطُ بِسَبَبِهَا (سَبْعِينَ خَرِيفًا) أَيْ دَائِمًا أَوْ سَنَةً «فِي النَّارِ» لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْزَارِ الَّتِي لَيْسَ عِنْدَ الْعَاقِلِ الْمِسْكَيْنِ مِنْهَا إشْعَارٌ فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ أَشْكَالِ الْكَلَامِ قَبْلَ نُطْقِهِ مِنْ فَمِهِ فَمَا كَانَ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ وَإِظْهَارِ صِفَاتِ الْمَدْحِ وَنَحْوِهِ تَجَنَّبَهُ وَمَنْ آمَنَ بِهَذَا الْخَبَرِ حَقَّ إيمَانِهِ اتَّقَى اللَّهَ فِي لِسَانِهِ وَقَلَّلَ كَلَامَهُ حَسَبَ إمْكَانِهِ سِيَّمَا فِيمَا يُنْهَى عَنْ الْكَلَامِ فِيهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ اللِّسَانُ إنَّمَا خُلِقَ لَك لِتُكْثِرَ بِهِ ذِكْرَ اللَّهِ وَتِلَاوَةَ كِتَابِهِ وَتُرْشِدَ بِهِ الْخَلْقَ إلَى طَرِيقِهِ أَوْ تُظْهِرَ بِهِ مَا فِي ضَمِيرِك مِنْ حَاجَاتِ دِينِك وَدُنْيَاك فَإِذَا اسْتَعْمَلْته لِغَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ فَقَدْ كَفَرْت نِعْمَةَ اللَّهِ فِيهِ وَهُوَ أَغْلَبُ أَعْضَائِك وَلَا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ فَاسْتَظْهِرْ بِغَايَةِ قُوَّتِك حَتَّى لَا يَكُبَّك فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمَ الْكَلِمَةَ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا لِيُضْحِكَ بِهَا الْقَوْمَ» أَيْ: لِأَجْلِ أَنْ يُضْحِكَهُمْ «وَإِنَّهُ لَيَقَعَ بِهَا أَبْعَدَ مِنْ السَّمَاءِ» أَيْ يَقَعُ فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِنْ وُقُوعِهِ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَعَلَى الْعَاقِلِ ضَبْطُ جَوَارِحِهِ فَإِنَّهَا رَعَايَاهُ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36]- وَإِنَّ مِنْ أَكْثَرِ الْمَعَاصِي عَدَدًا وَأَيْسَرِهَا وُقُوعًا آثَامَ اللِّسَانِ إذْ آفَاتُهُ تَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]-. (تَنْبِيهٌ) أَخَذَ الشَّافِعِيُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ اعْتِيَادَ حِكَايَاتٍ تُضْحِكُ أَوْ فِعْلَ خَيَالَاتٍ كَذَلِكَ رَادٌّ لِلشَّهَادَةِ وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ حَرَامٌ وَآخَرُونَ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَخَصَّهُ بَعْضٌ بِمَا يُؤْذِي الْغَيْرَ كُلُّهُ مِنْ الْفَيْضِ (دُنْيَا. عَنْ أَمَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ الرَّجُلَ لَيَدْنُو» يَقْرَبُ «مِنْ الْجَنَّةِ» بِالطَّاعَاتِ وَجْهُ التَّأْكِيدِ مَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِعْبَادِ الْعَادِيِّ الْعَقْلِيِّ «حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا قِيدُ» قَدْرَ «رُمْحٍ فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ» الْوَاحِدَةِ الْقَبِيحَةِ شَرْعًا «فَيَتَبَاعَدُ مِنْهَا» أَيْ مِنْ الْجَنَّةِ «أَبْعَدَ مِنْ صَنْعَاءَ» بِالْمَدِّ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ فِي الْيَمَنِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ مِنْ مَكَّةَ وَبِغَيْرِ مَدٍّ بَلْدَةٌ بِالشَّامِ مِقْدَارَ خَمْسِينَ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَكَّةَ (نُعَيْمٌ) أَبُو نُعَيْمٍ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ» أَيْ زَلَّتُهُ سَبَقَ قَرِيبًا تَفْصِيلٌ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ جَعَلْت عَلَى نَفْسِي بِكُلِّ كَلِمَةٍ فِيمَا لَا يَعْنِي صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ فَسَهُلَ ذَلِكَ فَجَعَلْت لِكُلِّ كَلِمَةٍ صَوْمَ يَوْمٍ فَسَهُلَ عَلَيَّ فَلَمْ أَنْتَهِ حَتَّى جَعَلْت عَلَى نَفْسِي بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَصَدُّقًا بِدِرْهَمٍ فَصَعُبَ عَلَيَّ فَانْتَهَيْت (زَ) الْبَزَّازُ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طُوبَى» تَأْنِيثُ أَطْيَبَ أَيْ رَاحَةٌ وَطِيبُ عَيْشٍ لَعَلَّك سَمِعْت تَفْصِيلَ مَعْنَاهَا لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَحَادِيثُ تَفْسِيرٍ لِمَعْنَاهَا نَحْوَ «طُوبَى: شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ

مِنْ أَكْمَامِهَا» جَمْعُ كُمٍّ وِعَاءُ الطَّلْعِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ هِيَ شَجَرَةٌ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ وَفِي كُلِّ دَارٍ وَغَرْفَةٍ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ تَعَالَى لَوْنًا وَلَا زَهْرَةً إلَّا وَفِيهَا مِنْهَا إلَّا السَّوَادَ وَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ فَاكِهَةً وَلَا ثَمَرَةً إلَّا وَفِيهَا مِنْهَا يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ الْكَافُورُ وَالسَّلْسَبِيلُ كُلُّ وَرَقَةٍ مِنْهَا تُظِلُّ أُمَّةً عَلَيْهَا مَلَكٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ وَنَحْوُ «طُوبَى شَجَرَةٌ غَرَسَهَا اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ تُنْبِتُ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَأَنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ لِطُولِهَا» . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَشَجَرَةُ طُوبَى هَذِهِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29] وَحَكَى الْأَصَمُّ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ فِي دَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي دَارِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهَا غُصْنٌ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ " مُتَهَدِّلَةٌ " أَيْ مُتَدَلِّيَةٌ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَفِي تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ عَنْ قُرَّةَ يَرْفَعُهُ: «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهَا تَفَتَّقِي لِعَبْدِي فَتُفَتَّقُ لَهُ عَنْ الْخَيْلِ بِسُرُوجِهَا وَلُجُمِهَا وَعَنْ الْإِبِلِ بِأَزِمَّتِهَا وَعَمَّا شَاءَ مِنْ الْكِسْوَةِ وَمَا مِنْ الْجَنَّةِ أَهْلٌ إلَّا وَغُصْنٌ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مُتَدَلٍّ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَدَلَّتْ فَأَكَلُوا مِنْهَا مَا شَاءُوا» وَنَحْوُ: «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا يَعْلَمُ طُولَهَا إلَّا اللَّهُ فَيَسِيرُ الرَّاكِبُ تَحْتَ غُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا وَرَقُهَا الْحُلَلُ يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّيْرُ كَأَمْثَالِ الْبَخْتِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ «فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا يَجِيءُ الطَّيْرُ فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ قَدِيدًا وَشِوَاءً ثُمَّ يَطِيرُ» . كُلُّ الشَّرْحِ مِنْ الْفَيْضِ مُلَخَّصًا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّفَاسِيرَ لِلَفْظِ طُوبَى الْمُخَالَفَةَ لِمَا ذُكِرَ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ الرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ بَلْ النُّصُوصِ إلَّا إذَا وَقَعَ مَقَامَ لَا يُمْكِنُ إرَادَةُ نَحْوِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِيهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِي كَوْنَهُ مِنْ تَأْوِيلِ مَعْنَى الْحَدِيثِ «لِمَنْ أَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ كَلَامِهِ» بِأَنْ تَرَكَ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَسْلَمُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْخُسْرَانِ. وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ يَا كَثِيرَ الْفُضُولِ قَصِّرْ قَلِيلًا ... قَدْ فَرَشْت الْفُضُولَ طُولًا طَوِيلًا كَمْ مِنْ الْقُبْحِ قَدْ أَخَذْت بِحَظٍّ ... فَاسْكُتْ الْآنَ إنْ أَرَدْت جَمِيلًا وَفِي الْجَامِعِ «طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ» «وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ» وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ وَلَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا إلَى الْبِدْعَةِ وَفِيهِ أَيْضًا «طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ» لِأَنَّ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ السَّلَامَةَ مِنْ آفَاتِ الدُّنْيَا وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ، وَالنُّطْقُ بِلَا حَاجَةٍ إمَّا مَحْظُورٌ فَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِمَّا مُبَاحٌ فَإِشْغَالُ الْكِرَامِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ «وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ» بِاعْتِزَالِ النَّاسِ «وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ» (دُنْيَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) قِيلَ هُوَ مُرْسَلٌ (أَنَّهُ قَالَ «تَكَلَّمَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكْثَرَ الْكَلَامَ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» إنْكَارًا لَهُ «كَمْ دُونَ» قُدَّامَ «لِسَانِك مِنْ حِجَابٍ قَالَ شَفَتَايَ وَأَسْنَانِي فَقَالَ أَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ» الْحِجَابِ اسْتِفْهَامٌ لِلتَّوْبِيخِ «مَا يَرُدُّ كَلَامَك» أَيْ يَمْنَعُ مِنْ إكْثَارِهِ كَأَنَّهُ مَنَعَ الْحُكْمَ أَيْ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِحُجَّةٍ فَيَقْتَرِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ لِزِيَادَةِ الِاعْتِنَاءِ لَكِنْ يَشْكُلُ إنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ الْكَثِيرُ خَيْرًا فَمَنْعُهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِالْكَثِيرِ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ خَيْرًا مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا وَلَوْ قَلِيلًا نَعَمْ الْمَنْعُ فِي الْكَثْرَةِ آكَدُ وَيَجُوزُ أَنَّ الْكَلَامَ وَإِنْ خَيْرًا لَيْسَ بِأَدَبٍ عِنْدَ حُضُورِ الْكَلَامِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَلِذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطِيلُ الصَّمْتَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَقَفَ سَاعَةً يَتَفَكَّرُ فِيهِ وَفِي الشِّرْعَةِ مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ فَقَدْ سَتَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَوْرَتَهُ وَفِي الْحَدِيثِ «الصَّمْتُ حِكْمَةٌ» نَافِعٌ يَمْنَعُ مِنْ الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ أَوْ مِنْ رَدِيءِ الْكَلَامِ وَمَا لَا يُعْنِي يُثْمِرُ حِكْمَةً فِي قَلْبِ الصَّامِتِ يَنْطِقُ عَنْهَا وَيَنْتَفِعُ بِهَا " وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ " قَلَّ مَنْ يَصْمُتُ عَمَّا لَا يُعْنِيهِ وَيَمْنَعُ نَفْسَهُ مِمَّا يَشِينُهُ وَيُؤْذِيهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. وَأَيْضًا الصَّمْتُ أَرْفَعُ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْخَطَايَا مِنْ اللِّسَانِ. قَالَ وَهْبٌ أَجْمَعَ الْحُكَمَاءُ عَلَى أَنَّ رَأْسَ الْحِكْمَةِ الصَّمْتُ وَقَالَ الْفُضَيْلُ لَا حَجَّ

القسم الثاني من قسمي آفات اللسان وفيه ستة مباحث

وَلَا رِبَاطَ وَلَا جِهَادَ أَشَدُّ مِنْ حَبْسِ اللِّسَانِ إذَا تَمَّ عَقْلُ الْمَرْءِ قَلَّ كَلَامُهُ وَأَيْقِنْ بِحُمْقِ الْمَرْءِ إنْ كَانَ مُكْثِرَا وَأَيْضًا الصَّمْتُ زَيْنٌ لِلْعَالِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَقَارِ وَالْهَذْرُ عَارٌ سِيَّمَا لِلْعَالِمِ الْمُقْتَدَى بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَقَدْ يَنْطِقُ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ فَيَسْبِقُ لِسَانُهُ بِكَلِمَةٍ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا فَيَهْوِي بِهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا كَمَا فِي الْخَبَرِ " وَسِتْرٌ لِلْجَاهِلِ " لِأَنَّهُ يَتَّضِحُ جَهْلُهُ بِكَلَامِهِ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الصَّمْتُ إمَّا بِاللِّسَانِ عَمَّا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى جُمْلَةً وَاحِدَةً أَوْ الْقَلْبِ عَنْ خَاطِرِ النَّفْسِ فِي كَوْنٍ مِنْ الْأَكْوَانِ فَمَنْ صَمَتَ لِسَانُهُ فَقَطْ خَفَّ وِزْرُهُ وَمَنْ صَمَتَ لِسَانُهُ وَقَلْبُهُ ظَهَرَ لَهُ بِشْرُهُ وَتَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ وَمَنْ صَمَتَ قَلْبُهُ فَقَطْ فَنَاطِقٌ بِلِسَانِ الْحِكْمَةِ وَمَنْ لَمْ يَصْمُتْ بِلِسَانِهِ وَلَا بِقَلْبِهِ كَانَ مَمْلَكَةَ الشَّيْطَانِ وَمَسْخَرَةً لَهُ فَصَمْتُ اللِّسَانِ مِنْ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ وَأَرْبَابِ السُّلُوكِ وَصَمْتُ الْقَلْبِ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ بَيْنَ أَهْلِ الْمُشَاهَدَاتِ وَحَالُ صَمْتِ السَّالِكِينَ السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ وَحَالُ الصَّمْتِ الْمُقِرِّ بَيْنَ مُخَاطَبَاتِ التَّأْنِيسِ فَمَنْ الْتَزَمَ الصَّمْتَ مِنْ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ حَدِيثٌ إلَّا مَعَ رَبِّهِ. ثُمَّ الصَّمْتُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا قُوَّةَ لَهُ لِلنُّطْقِ وَفِيمَا لَهُ ذَلِكَ وَالسُّكُوتُ لِمَا لَهُ نُطْقٌ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَالْإِنْصَاتُ سُكُوتٌ مَعَ اسْتِمَاعٍ وَمَتَى انْفَكَّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لَمْ يُقَلْ لَهُ إنْصَاتٌ وَالْإِصَاخَةُ اسْتِمَاعُ مَا يَصْعُبُ كَالسِّرِّ وَالصَّوْتِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ. وَأَيْضًا الصَّمْتُ سَيِّدُ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى الرِّيَاضَةِ وَهُوَ الْأَهَمُّ فِي حُكْمِ الْمُنَازَلَةِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ عَذَابِ الْأَخْلَاقِ وَمَنْ مَزَحَ اُسْتُخِفَّ بِهِ أَيْ هَانَ عَلَى النَّاسِ وَنَظَرُوا إلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ فَاحْفَظْ لِسَانَك مِنْهُ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَيُرِيقُ مَاءَ الْوَجْهِ وَيُؤْذِي الْقُلُوبَ وَيُورِثُ الْحِقْدَ فَلَا تُمَازِحْ أَحَدًا وَإِنْ مَازَحَك غَيْرُك فَأَعْرِض عَنْهُ حَتَّى يَخُوضَ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَكُنْ مِنْ الَّذِينَ إذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا. قَالَ الدَّيْلَمِيُّ مَاتَ حَبْرٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَلَمَّا وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَجَدُوا عَلَى عُنُقِهِ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَسْطُرٍ هِيَ هَذِهِ. الْكُلُّ مِنْ الْفَيْضِ (ت طِبّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَمَتَ نَجَا» مِنْ الْمَخَاوِفِ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً أَوْ مِنْ ضَرَرِ لِسَانِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ هَذَا مِنْ فَضْلِ الْخِطَابِ وَجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَجَوَاهِرِ الْحِكَمِ وَلَا يَعْرِفُ مَا تَحْتَ كَلِمَاتِهِ مِنْ بِحَارِ الْمَعَانِي إلَّا خَوَاصُّ الْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ خَطَرَ اللِّسَانِ عَظِيمٌ وَآفَاتِهِ كَثِيرَةٌ مِنْ نَحْوِ كَذِبٍ وَغِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَرِيَاءٍ وَنِفَاقٍ وَمَعَ ذَلِكَ النَّفْسُ تَمِيلُ إلَيْهَا لِأَنَّ لَهَا حَلَاوَةً فِي الْقَلْبِ وَعَلَيْهَا بَوَاعِثَ مِنْ الطَّبْعِ وَالشَّيْطَانِ فَفِي الْخَوْضِ خَطَرٌ وَفِي الصَّمْتِ سَلَامَةٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْهَمِّ وَدَوَامِ الْوَقَارِ وَفَرَاغِ الْفِكْرِ لِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ تَبِعَاتِ الْقَوْلِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ حِسَابِهِ فِي الْآخِرَةِ وَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ التَّعَارُضِ فِي أَحَادِيثِ الصَّمْتِ وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ صَمْتِ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ فَمَدْفَعُ بِأَنَّ الصَّمْتَ الْمُرَغَّبَ فِيهِ تَرْكُ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَكَذَا الْمُبَاحُ الْمُفْضِي إلَيْهِ وَالصَّمْتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ تَرْكُ الْكَلَامِ فِي الْحَقِّ لِمَنْ يَقْدِرُ وَكَذَا الْمُبَاحُ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ قِيلَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَعَنْ النَّوَوِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ سَنَدُ التِّرْمِذِيِّ ضَعِيفٌ وَقِيلَ رُوَاةُ الطَّبَرَانِيِّ ثِقَاتٌ [الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَفِيهِ سِتَّةُ مَبَاحِثَ] [الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ وَهُوَ سِتُّونَ] [الْأَوَّلُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ] (الْقِسْمُ الثَّانِي) مِنْ قِسْمَيْ آفَاتِ اللِّسَانِ (فِي آفَاتِهِ تَفْصِيلًا اعْلَمْ أَنَّ آفَاتِهِ إمَّا فِي السُّكُوتِ) لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ (أَوْ فِي الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ) كَالْكَذِبِ (وَالْإِذْنُ لِعَارِضٍ) كَالْإِكْرَاهِ وَالْإِصْلَاحِ. (وَ) الثَّانِي (مَا عَلَى الْعَكْسِ) أَيْ الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ وَالْمَنْعُ لِعَارِضٍ (وَالثَّانِي) أَيْ الْإِذْنُ (إمَّا مِنْ الْعَادَاتِ) كَالْبَيْعِ (أَوْ مِنْ الْعِبَادَاتِ) كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ (وَمَا مِنْ الْعَادَاتِ

إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنِظَامِ الْعَالَمِ وَانْتِظَامِ الْمَعَاشِ أَوْ لَا وَمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ إمَّا مُتَعَدِّيَةٌ) كَالْأَعْمَالِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ (أَوْ قَاصِرَةٌ) كَالذِّكْرِ (فَفِيهِ سِتَّةُ مَبَاحِثَ الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ) أَيْ الْمَنْعُ وَالْحُرْمَةُ (وَهُوَ سِتُّونَ الْأَوَّلُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ) اتِّفَاقًا أَوْ اخْتِلَافًا بَيْنَ فُقَهَائِنَا (الْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ إنْ كَانَ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ لِسَانٍ إحْبَاطُ الْعَمَلِ كُلِّهِ) لَمَّا كَانَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ رُكْنَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَانَ الْمُنَافِي لِكُلٍّ مِنْهَا كُفْرًا أَمَّا مُنَافِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ وَالْوَهْمُ وَالشَّكُّ وَالظَّنُّ فَكُفْرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَأَمَّا مُنَافِي الثَّانِي فَكُفْرٌ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ إنْ صَدَرَ بِلَا سَبْقِ لِسَانٍ جِدًّا أَوْ هَزْلًا وَأَمَّا مَعَهُ فَمَعْفُوٌّ وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ فَإِنْ بِالْمُلْجِئِ أَعْنِي تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ فَفِيهِ رُخْصَةٌ لِلْعُذْرِ وَالْعَزِيمَةُ عَدَمُهُ فَإِنْ قُتِلَ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ مِثْلَ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْحَبْسِ الْمَدِيدِ وَتَلَفِ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ صَارَ كَافِرًا دِيَانَةً وَقَضَاءً (ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ) عِنْدَ أَئِمَّتِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الِاخْتِلَافُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَالشَّافِعِيُّ حَمَلَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] عَلَى قَوْلِهِ {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [البقرة: 217] الْآيَةُ فَاشْتَرَطَ فِي الْإِحْبَاطِ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ وَأَمَّا أَئِمَّتُنَا فَلَمْ يَحْمِلُوا بَلْ عَمِلُوا بِكِلَيْهِمَا لِإِمْكَانٍ الْعَمَلِ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهِ الْمَوْتَ الْمَذْكُورَ فَعَلَى قَوْلِهِمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْكُفْرُ ثُمَّ تَابَ فِي عَدَمِ الْخَيْرِ بَلْ أَشَدُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ تَخَلَّصَ عَنْ جَمِيعِ الْآثَارِ بِخِلَافِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْكُفْرُ فَإِنَّ مَعَاصِيَهُ لَا تَذْهَبُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَضَاءُ مَا فَاتَ فِي إسْلَامِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ كَذَا فِي بَعْضِ مَنْهِيَّاتِ الْمُصَنِّفِ (فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَيَجِبُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ثَانِيًا (إنْ كَانَ غَنِيًّا) أَيْ مُسْتَطِيعًا فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْغِنَى لَيْسَ بِمُوجِبٍ (وَلَوْ حَجَّ أَوَّلًا وَلَا يَجِبُ قَضَاءُ مَا صَلَّى وَصَامَ وَزَكَّى) قَبْلَ الرِّدَّةِ فِي حَالِ إسْلَامِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَلِعَدَمِ تَقَرُّرِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ بَقَاءِ سَبَبِ وُجُوبِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهُوَ الْوَقْتُ وَالشُّهُودُ وَالنِّصَابُ (وَيَجِبُ قَضَاءُ مَا فَاتَ مِنْهَا) فِي حَالِ إسْلَامِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ (لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَذْهَبُ بِالْكُفْرِ) فَيَجِبُ قَضَاءُ جَمِيعِ فَوَائِتِهِ الْمَفْرُوضَةِ

وَالْوَاجِبَةِ (وَانْفِسَاخُ النِّكَاحِ) عَطْفٌ عَلَى إحْبَاطِ الْعَمَلِ (وَلَوْ مِنْ الْمَرْأَةِ) إلَّا أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ بِزَوْجِهَا الْأَوَّل خِلَافًا لِمَشَايِخ بَلْخٍ كَأَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ فَلَا تُؤَثِّرُ رِدَّةُ الْمَرْأَةِ فِي فَسَادِ النِّكَاحِ وَلَا يُؤْمَرُ بِتَجْدِيدِ النِّكَاحِ حَسْمًا لِهَذَا الْبَابِ عَلَيْهِنَّ (بِلَا طَلَاقٍ) فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا فِي الرَّجُلِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَلَاقٌ فَيَلْزَمُ التَّحْلِيلُ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَلَى قَوْلِهِ خِلَافًا لَهُمَا فَقَوْلُهُ (فَلَا يَلْزَمُ الْحِلُّ) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (بَعْدَ الثَّلَاثِ فَلَوْ صَدَرَتْ) كَلِمَةُ الْكُفْرِ (مِنْ الْمَرْأَةِ تُجْبَرُ عَلَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ بَعْدَ التَّوْبَةِ) مَعَ زَوْجِهَا (وَإِنْ) أَيْ لَوْ صَدَرَتْ (مِنْ الرَّجُلِ تَتَخَيَّرُ الْمَرْأَةُ إنْ تَابَ وَ) حُكْمُهُ أَيْضًا (حُرْمَةُ ذَبِيحَتِهِ وَحِلُّ قَتْلِهِ) فَدَمُهُ هَدَرٌ لَا تَلْزَمُ الدِّيَةُ عَلَى قَاتِلِهِ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ قَبْلَ الْعَرْضِ وَالْإِبَاءِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (وَالْإِجْبَارُ عَلَى التَّوْبَةِ) بِنَحْوِ الضَّرْبِ وَالْوَجِيعِ وَالْحَبْسِ الْمَدِيدُ (وَهِيَ) أَيْ التَّوْبَةُ (الرُّجُوعُ عَمَّا قَالَهُ لَا مُجَرَّدُ الشَّهَادَتَيْنِ) فَلَوْ كَانَ كُفْرُهُ مِنْ إنْكَارِ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ يَقُولُ رَجَعْت مِنْ إنْكَارِي ذَلِكَ لَكِنْ يَسْبِقُ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّهُ لَوْ لَاحَظَ عِنْدَ إتْيَانِهِ الشَّهَادَتَيْنِ الرُّجُوعَ مِنْ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ لِأَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مُتَضَمِّنٌ وَمُسْتَلْزِمٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمَنِ بِهِ وَلَوْ لُزُومًا غَيْرَ بَيِّنٍ (وَالْجُحُودُ) أَيْ إنْكَارُ ارْتِدَادِهِ (تَوْبَةٌ) قَضَاءً وَحُكْمًا لَكِنْ يَسْبِقُ إلَى الْخَاطِرِ الْفَاتِرِ أَنَّ لُزُومَ التَّوْبَةِ بِالْإِنْكَارِ لَيْسَ أَقْوَى مِنْ لُزُومِهَا لِلشَّهَادَتَيْنِ فَمَا وَجْهُ كَوْنِ الْأَوَّلِ تَوْبَةً دُونَ الثَّانِي

الثاني ما فيه خوف الكفر

(فَإِنْ لَمْ يَتُبْ يَجِبُ قَتْلُهُ) عَلَى الْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ إنْ أَهْمَلُوا (فَيَتَأَبَّدُ فِي النَّارِ) إنْ مَاتَ بِلَا تَوْبَةٍ بِلَا فَرْقٍ عَنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ فَلَا يَشْكُلُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إكْفَارُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ مَنْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِهِ فِيهِ وَمِنْ حُكْمِ الِارْتِدَادِ مَا فِي الْأَشْبَاهِ مِنْ أَنَّهُ يُبْطِلُ مَا رَوَاهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحَدِيثِ وَبُطْلَانُ وَقْفِهِ مُطْلَقًا وَإِذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِ أَهْلِ مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ وَإِنَّمَا يُلْقَى فِي حَفِيرَةٍ كَالْكَلْبِ [الثَّانِي مَا فِيهِ خَوْفُ الْكُفْرِ] (الثَّانِي) مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ (مَا فِيهِ خَوْفُ الْكُفْرِ) وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجْزِمْ الْفُقَهَاءُ بِإِيجَابِهِ كُفْرًا بَلْ قَالُوا فِيهِ خَوْفُ الْكُفْرِ أَوْ خِيفَ فِيهِ الْكُفْرُ أَوْ خَطَأٌ عَظِيمٌ كَتَعْبِيرِ مَنْ أَرَادَ اشْتِرَاءَ أَمَةٍ أُخْرَى وَلَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَأَلْفُ أَمَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6]- وَالتَّفْصِيلُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَالْكَرَاهَةُ وَالِاسْتِحْسَانُ مِنْ الْفِقْهِيَّةِ (وَحِكْمَةُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالتَّوْبَةِ وَتَجْدِيدِ النِّكَاحِ احْتِيَاطٌ) لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ كُفْرًا [الثَّالِثُ الْخَطَأُ] (الثَّالِثُ الْخَطَأُ) وَهُوَ مَا قِيلَ فِيهِ خَطَأٌ كَأَنْ يَقُولَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَان لِإِيهَامِهِ كَوْنِهِ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ وَالْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الصَّحِيحِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ وَرَأْسِ ابْنِي أَوْ جَدِّي أَوْ السُّلْطَانِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (وَحُكْمُهُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَقَطْ) بِدُونِ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ (وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يُعْرَفُ مِنْ الْفَتَاوَى وَأَسْبَابِهَا وَعِلَاجِهَا مَرَّ)

الرابع الكذب

فِي الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ [الرَّابِعُ الْكَذِبُ] (الرَّابِعُ) (الْكَذِبُ) هُوَ مِنْ قَبَائِحِ الذُّنُوبِ وَفَوَاحِشِ الْعُيُوبِ (وَهُوَ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ) فِي الْوَاقِعِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَمْدٍ فَمَعْفُوٌّ بِدَلِيلِ يَمِينِ اللَّغْوِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] وَهِيَ حَلِفُهُ كَاذِبًا يَظُنُّهُ صَادِقًا كَمَا إذَا حَلَفَ أَنَّ فِي هَذَا الْكُوزِ مَاءً بِنَاءً عَلَى رُؤْيَتِهِ وَقَدْ أُرِيقَ وَلَمْ يَعْرِفْ لَكِنَّ قَوْلَهُ فَمَعْفُوٌّ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْفُوٍّ بَلْ هُوَ يُرْجَى عَفْوُهُ. فَإِنْ قِيلَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْآيَةِ هُوَ الْقَطْعُ قُلْنَا إنَّمَا تَدُلُّ قَطْعًا أَنْ أُرِيدَ قَطْعًا مِنْ اللَّغْوِ مَا ذَكَرَ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ الْمُرَادُ مِنْ اللَّغْوِ مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ كَانَ يَقْصِدُ التَّسْبِيحَ فَيَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ كَمَا فِي الدُّرَرِ (وَإِنْ كَانَ عَنْ عَمْدٍ فَحَرَامٌ قَطْعِيٌّ) لِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]- (إلَّا فِي مَوَاضِعَ) قَلِيلَةٍ (عِنْدَ الْبَعْضِ وَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] مُؤْلِمٌ مِنْ الْأَلَمِ {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] بِسَبَبِ كَ ذِبِهِمْ فَإِنَّ الْوَعِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْحَرَامِ لَكِنْ إنْ كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ لِكَذِبٍ مَخْصُوصٍ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ إذْ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْمُطْلَقُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَنَا بِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ صُوَرِ الْكَذِبِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِيهِمَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَا أَقَلَّ مِنْ الِاحْتِمَالِ وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَطْلُوبِ الْيَقِينِيِّ لَا يُقَالُ إنَّ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ إذَا كُثْرَ يُفِيدُ الْقَطْعَ كَمَا فُهِمَ مِنْ مَوَاضِعِ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا عِنْدَنَا وَدَعْوَى اجْتِمَاعِ كُلِّ تِلْكَ الظُّنُونِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذَلِكَ أَجْزَاءً لِمُرَكَّبٍ وِجْدَانِيٍّ حَتَّى يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ كَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ بَعِيدٌ فَلَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّ قَطْعِيَّةَ حُرْمَتِهِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمِثْلُ تِلْكَ النُّصُوصِ أَسَانِيدُ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ حُمِلَ كُلُّ لَفْظٍ عَلَى تَبَادُرِهِ عَلَى وَجْهٍ يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ وَاجِبٍ {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] أَيْ الْكَذِبَ {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج: 31] أَيْ مَائِلِينَ عَنْ كُلِّ مَا عَدَا التَّوْحِيدَ مِنْ الْأَدْيَانِ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لِلْوُجُوبِ عِنْدَنَا وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ضِدَّ الْمَأْمُورِ بِهِ إنْ فَوَّتَ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ وَلَوْ مُتَعَدِّدًا فِي الْأَصَحِّ فَحَرَامٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَافْهَمْ (حَدُّ) أَحْمَدُ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ» بِالْبِنَاءِ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ أَيْ يُجْبَلُ وَيُخْلَقُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِصَالِ «كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» فَالْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ إيجَابُهُمَا الْكُفْرَ لَكِنَّ إيهَامَهُمَا ذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُرْمَةِ أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ لَكِنْ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ مُرَادِ الْمَقَامِ (يَعْلَى) أَبُو يَعْلَى (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ» حَقِيقَتَهُ وَكَمَالَهُ «حَتَّى يَدَعَ الْمِزَاحَ» أَيْ الْمَذْمُومَ مِنْهُ أَوْ كَثْرَتَهُ «وَالْكَذِبَ وَيَدَعَ الْمِرَاءَ» بِالْكَسْرِ الْمُجَادَلَةُ

«وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا» لِمَا يُورِثُ مِنْهُ وَيُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ الْبُغْضِ وَالْفِتْنَةِ (حُبٌّ. عَنْ أَبِي بَرْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إنَّ «الْكَذِبَ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ فِي الدَّارَيْنِ» لِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]- قَالَ الْبَيْهَقِيُّ الْكَذِبُ مَرَاتِبُ أَعْلَاهُ فِي الْقُبْحِ وَالتَّحْرِيمِ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ رَسُولِهِ ثُمَّ كَذِبُ الْمَرْءِ عَلَى عَيْنِهِ فَلِسَانِهِ فَجَوَارِحِهِ وَكَذِبُهُ عَلَى وَالِدَيْهِ ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ (وَالنَّمِيمَةُ) نَقْلُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ (عَذَابُ الْقَبْرِ) مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ (ت. عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا» ثُلُثُ الْفَرْسَخِ «مِنْ نَتْنِ» رَائِحَتِهِ الْكَرِيهَةِ «مَا جَاءَ بِهِ» مِنْ الْكَذِبِ الْمُرَادُ مَلَكُ الرَّحْمَةِ وَالْحَفَظَةُ وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْقَوْلِ رِيحٌ قُلْنَا تَعَلُّقُ الرَّوَائِحِ بِالْأَجْسَامِ وَخَلْقُهَا فِيهَا عَادَةٌ لَا طَبِيعَةٌ فَإِذَا شَاءَ الْبَارِي خَلَقَهَا مَقْرُونَةً بِالْأَعْرَاضِ فَنُسِبَتْ إلَيْهَا وَأُخِذَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُدْرِك مِنْ الْآدَمِيِّ رِيحًا خَبِيثَةً عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِالْمَعْصِيَةِ وَهَلْ هَذِهِ الرِّيحُ حِسِّيَّةٌ أَوْ مَعْنَوِيَّةٌ احْتِمَالَانِ رَجَّحَ بَعْضٌ الْأَوَّلَ وَعَدَمَ إدْرَاكِنَا لِلْحِجَابِ فَيُدْرِكُ الْكَامِلُ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ أَحْمَدَ بْنِ جَابِرٍ «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَارْتَفَعَتْ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ» وَأَخَذَ مِنْهُ جَمْعُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَابِدِ أَنْ يُطَهِّرَ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ لِئَلَّا يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْحَضْرَةِ الْآلِهِيَّةِ مِنْ أَنْبِيَاءَ وَمَلَائِكَةٍ وَأَوْلِيَاءَ بِنَتْنِ الرِّيحِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الذُّنُوبِ سِيَّمَا الْفَمُ إذَا أُنْطِقَ بِمَا لَا يَحِلُّ فَإِنَّهُمْ يَشُمُّونَ رَائِحَةَ الْمُخَلَّفَاتِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ النَّاسُ يَشُمُّونَ رِيحَ الْمَعَاصِي كَمَا أَشُمُّهَا مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يُجَالِسَنِي مِنْ نَتْنِ رِيحِي وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ عَلَى قُبْحِ الْكَذِبِ حَتَّى الْكُفَّارُ كَمَا فِي الْكَشَّافِ. (تَنْبِيهٌ) الْعَالَمُ مَشْحُونٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَأَذِيَّتُهُمْ وَأَذِيَّةُ مَوَاطِنِهِمْ كَالْمَسَاجِدِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْنَا فَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ مَوْضِعُ شِبْر إلَّا وَفِيهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ فَالْعَالَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ لَهُمْ فَأَذِيَّتُهُمْ بِالْمَعَاصِي وَرِيحِ الذُّنُوبِ وَإِكْرَامُهُمْ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَكَفُّ الْأَذَى بِتَرْكِ الْكَذِبِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ وَالْقَبَائِحِ فَالْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ إكْرَامٌ لِلْمَلَأِ الْأَعْلَى الْمُجَاوِرِينَ لِلْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَالنُّفُوسِ فِي الْعَالَمِ فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ وَالْأَجْسَامِ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (ز. عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ «مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكَذِبِ مَا اطَّلَعَ» كُلَّمَا اطَّلَعَ «عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ» الْكَذِبِ «بِشَيْءٍ» قَلِيلٍ «فَيَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ» فَلَوْ اطَّلَعَ مِنْ أَحَدٍ قَلِيلًا مِنْ الْكَذِبِ يَخْرُجُ هُوَ مِنْ قَلْبِهِ أَوْ يُخْرِجُهُ هُوَ مِنْ قَلْبِهِ «حَتَّى يَعْلَمَ» إلَى أَنْ يَعْلَمَ «أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ تَوْبَةً» يَعْنِي: ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ يَسْتَمِرُّ إلَى وَقْتِ التَّوْبَةِ فَعِنْدَ عِلْمِهِ تَوْبَتَهُ يُدْخِلُهُ قَلْبَهُ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا فَرُتْبَةُ فُحْشِ الْكَذِبِ مَعْلُومَةٌ مِنْ رُتْبَةِ بُغْضِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

(هَقّ. عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْكَذِبُ مُجَانِبُ الْإِيمَانِ» مُضَادُّ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فَهُمَا مَانِعَا الْجَمْعِ. (وَأَشَدُّهُ) أَيْ الْكَذِبِ (الْبُهْتَانُ) هُوَ إسْنَادُ مَا لَمْ يَصْدُرْ وَوَصْفُهُ بِمَكْرُوهٍ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيهِ (حَدٌّ) أَحْمَدُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ» سَاتِرَةٌ إثْمَهَا: «الشِّرْكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبَهْتُ» مِنْ الْبُهْتَانِ «الْمُؤْمِنِ» أَيْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى حَيَّرَهُ فِي أَمْرِهِ وَأَدْهَشَهُ فَالتَّقْيِيدُ بِالْمُؤْمِنِ إمَّا لِأَنَّ الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ فِي الشِّدَّةِ لِإِلْحَاقِهِ بِهِ «وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ» حَيْثُ لَمْ يَجُزْ الْفِرَارُ كَالْمُسَاوَاةِ فَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ ثَلَاثَةُ وَالْمُسْلِمُ وَاحِدٌ يَجُوزُ الْفِرَارُ وَلَوْ اثْنَيْنِ فَالْأَوْلَى عَدَمُ الْفِرَارِ فَالْفِرَارُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ «وَيَمِينٌ ضَائِرَةٌ» الَّتِي يَتَعَمَّدُ بِهَا إذْهَابَ مَالِ مُسْلِمٍ كَذِبًا «يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» كَمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لِآخَرَ أَنْكَرَهُ فَقَطَعَهُ بِيَمِينِهِ (وَأَشَدُّ الْبُهْتَانِ شَهَادَةُ الزُّورِ) وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَإِنْ كَانَ مُؤَوِّلًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ شَجَرِ السِّوَاكِ» . (د. عَنْ خُزَيْنِ بْنِ فَاتِكٍ أَنَّهُ «قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا فَقَالَ عَدَلَتْ» سَاوَتْ «شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى» أَيْ جُعِلَتْ الشَّهَادَةُ الْكَاذِبَةُ مُمَاثِلَةً لِلْإِشْرَاكِ فِي مُطْلَقِ الْإِثْمِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ مُطْلَقَ الْمَعَاصِي مُشْتَرِكٌ بِالِاشْتِرَاكِ بِهَذَا الْمَعْنَى تَفْصِيلُهُ إنْ أُرِيدَ الْمُطْلَقُ فَيُورَدُ بِذَلِكَ وَإِنْ الْمُمَاثَلَةُ فَيَلْزَمُ الْكُفْرُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَالْأَنْسَبُ إمَّا الشَّهَادَةُ بِاعْتِقَادِ الْحِلِّ وَإِمَّا الْقُرْبُ مِنْ الْإِشْرَاكِ فَسَائِرُهَا وَإِنْ شَارَكَ أَصْلَ الْعِصْيَانِ لَكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا مِنْ الْإِشْرَاكِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ الْإِشْرَاكُ مِنْ غَيْرِ كُفْرٍ كَالرِّيَاءِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ الْكَذِبِ وَاللَّازِمُ مِنْ الْحَدِيثِ الْكَذِبُ الْمَخْصُوصُ لَكِنْ لَا ضَيْرَ فَافْهَمْ «ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «ثُمَّ قَرَأَ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] »

أَيْ الْكَذِبَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ بِحَسَبِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَجْهُ الْمُعَادَلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ الرِّجْسِ وَالزُّورِ فِي الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ عَنْهُمَا (خ م. عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا» كَرَّرَهُ ثَلَاثًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ أَوْ لِلتَّشْوِيقِ إلَى الْجَوَابِ «الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» بِمَا يَتَأَذَّيَانِ بِهِ «وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَوْلُ الزُّورِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ» لِئَلَّا يَتْعَبَ وَيَسْتَرِيحَ مِنْ هَذَا التَّكْرِيرِ الْكَثِيرِ، وَالْجُلُوسُ بَعْدَ الِاتِّكَاءِ لِتَأْكِيدِ حُرْمَتِهَا وَشَنَاعَةِ قُبْحِهَا وَعِظَمِ جُرْمِهَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْعُقُوقَ وَمَا بَعْدَهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهِمَا كَبِيرَتَيْنِ لَا شَكَّ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ كَالْإِشْرَاكِ فَكَيْفَ جَمَعَهَا فِي كَوْنِهِمَا أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ وَاعْتَنَى بِشَأْنِ الْأَخِيرِ بِالْجُلُوسِ وَالتَّكْرَارِ دُونَ الْأَوَّلِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِلْجَمِيعِ بِحَسَبِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ يَعْنِي الْأَوَّلَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَوْ يُرَادُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ مَا هُوَ الْأَعَمُّ مِنْ الْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ فَالْأَخِيرَانِ أَكْبَرَانِ مِمَّا تَحْتَهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِنْ كَانَا أَصْغَرَيْنِ مِمَّا فَوْقَهُمَا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِشْرَاكِ مَا لَا يَبْلُغُ كُفْرًا كَالرِّيَاءِ كَمَا مَرَّ وَأَمَّا أَمْرُ الِاعْتِنَاءِ فَلِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَ الْأَخِيرِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ أَوْ فِيهِمْ مَنْ يُبْتَلَى بِهَذِهِ الْبَلِيَّةِ دُونَ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَيْضًا فِي اقْتِرَانِ الْأَوَاخِرِ بِالْأُوَلِ مَزِيدُ تَهْدِيدٍ وَزِيَادَةُ تَحْذِيرٍ وَتَخْوِيفٍ (وَ) أَشَدُّ الْبُهْتَانِ أَيْضًا (الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ) لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى هَدْمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَإِفْسَادِ الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ} [الأنعام: 21] اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] أَيْ لَا أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِشِدَّةِ جُرْأَتِهِ وَقُوَّةِ جَرِيمَتِهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [يونس: 69]-) لَا يَظْفَرُونَ بِمُرَادَاتِهِمْ وَلَا يَنْجُونَ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (خ م. عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ» فَأَنَّهُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ بَعْدَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِتَأْدِيَتِهِ إلَى هَدْمِ قَوَاعِدِ الدِّينِ قِيلَ وَلِهَذَا كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إكْثَارَ الْحَدِيثِ خَوْفًا مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَخَافَ بَعْضٌ مِنْ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ رَفْعِ الْحَدِيثِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَوْقَفَهُ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَقَالَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ أَهْوَنُ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِقَتْلِ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَإِحْرَاقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] «فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» مَسْكَنَهُ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَوْ بِمَعْنَى التَّحْذِيرِ أَوْ التَّهَكُّمِ

أَوْ الدُّعَاءِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَيْ بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ أَمْرًا حَقِيقَةً وَالْمُرَادُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَأْمُرْ نَفْسَهُ بِالتَّبْوِئَةِ بَعِيدٌ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يُفِيدُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَلْ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ. قَالَ الذَّهَبِيُّ وَتَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَحْرِيمِ حَلَالٍ أَوْ عَكْسِهِ كُفْرٌ مَحْضٌ وَلَاحَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ رِوَايَةَ الْمَوْضُوعِ لَا تَحِلُّ كَذَا فِي الْفَيْضِ. وَعَنْ النَّوَوِيِّ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَضْعُهُ وَقِيلَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِائَتَانِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا يَرْوِيه الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةِ غَيْرُ هَذَا وَلِهَذَا قِيلَ لَوْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ تَوَاتُرٌ لَفْظِيٌّ لَكَانَ هَذَا فَقَطْ وَعَنْ مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِي وَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ يَتَّقُونَ كَثْرَةَ الْحَدِيثِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَطْلُبَانِ مَنْ رَوَى لَهُمَا حَدِيثًا لَمْ يَسْمَعَاهُ بَيِّنَةً وَيَتَوَعَّدَانِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ بَعْضُ الْمُحْتَاطِينَ خَوْفًا مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يَقُولُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا أَوْ نَحْوَ هَذَا أَوْ شِبْهَ هَذَا وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُحْتَاطِينَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا فَرْقَ فِي الْحُرْمَةِ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْمَوَاعِظِ فَإِنَّ كُلَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ كَذَا نُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْأَحْكَامِ وَقَدْ سَبَقَ زِيَادَةُ تَفْصِيلِهِ قَبْلُ (فَمِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْإِفْتَاءُ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 116] مَفْعُولُ لَا تَقُولُوا وَهَذَا حَلَالٌ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِتَصِفُ عَلَى إرَادَةِ الْقَوْلِ أَيْ وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ فَتَقُولُوا {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ " لِمَا تَصِفُ " وَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي وَمِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى التَّوَاجُدُ وَهُوَ ادِّعَاءُ الْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (د. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا) هُوَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ صِفَةً «مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» إنْ كَانَ الْمُفْتِي مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ وَالثِّقَةِ وَلَمْ يَكُنْ خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فَالْإِثْم عَلَيْهِمَا أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا وَكَانَ خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ فَلَا إثْمَ بَلْ الْأَجْرُ لَازِمٌ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ فِي التتارخانية وَلَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ

بِبَعْضِ الْأَقَاوِيلِ الْمَهْجُورَةِ لِجَرِّ مَنْفَعَةٍ لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ بِمَا اخْتَارَهُ الْمَشَايِخُ وَمِنْ شَرَائِطِ الْفَتْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي حَافِظًا لِلتَّرْتِيبِ وَالْعَدْلِ لَا يَمِيلُ إلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَأْخُذَ الْكِتَابَ بِالْحُرْمَةِ يَقْرَأُ الْمَسْأَلَةَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِيَتَّضِحَ السُّؤَالُ وَلَا يَرْمِي الْكَاغَدَ ثُمَّ الْفَتْوَى بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ثُمَّ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (وَمِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحَدِّثَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ت. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي» لَا تُحَدِّثُوا عَنِّي «إلَّا مَا عَلِمْتُمْ» تَتَيَقَّنُونَ صِحَّةَ نِسْبَتِهِ إلَيَّ وَقَالَ الطِّيبِيُّ احْذَرُوا رِوَايَةَ الْحَدِيثِ عَنِّي أَوْ احْذَرُوا مِنْ الْحَدِيثِ عَنِّي لَكِنْ لَا تَحْذَرُوا مِمَّا تَعْلَمُونَهُ وَالْحَدِيثُ عُرْفًا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الْمُصْطَفَى قِيلَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ فِعْلِهِمْ أَوْ تَقْرِيرِهِمْ وَقَدْ يُخَصُّ بِمَا يُرْفَعُ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا فِي التَّلْوِيحِ قِيلَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا وَقَالَ وَرُوِيَ أَوْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ وَلَمْ يَقُلْ صَرِيحًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْثَمْ تَتِمَّةُ الْحَدِيثِ «فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» قَالَ الْقَارِيّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ وَإِنْ اتَّفَقَ كَوْنُهُ صَحِيحًا إثْمٌ لِكَوْنِهِ نَقْلًا بِلَا عِلْمٍ وَعَنْهُ أَيْضًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِمَّنْ هُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنْ يَنْقُلَ حَدِيثًا مِنْ الْكُتُبِ وَلَوْ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ مَا لَمْ يَقْرَأْ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَعَنْ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا حَتَّى يَكُونَ مَرْوِيًّا عِنْدَهُ وَلَوْ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِ الرِّوَايَاتِ. وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْقَصَصِ

فَأَبَى ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ فَقَالَ إنْ شِئْت وَأَشَارَ بِيَدِهِ يَعْنِي الذَّبْحَ قَالَ الْعِرَاقِيُّ فَانْظُرْ تَوَقُّفَ عُمَرَ عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فَاعْتَبِرْ قَصَّاصَ زَمَانِنَا. وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ الْعَبَادِلَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقَاصُّ يَنْتَظِرُ الْمَقْتَ» وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِيّ (وَتَوْبَةُ الْبُهْتَانِ بِثَلَاثٍ عَزْمُهُ عَلَى تَرْكِهِ وَاسْتِحْلَالُهُ إنْ أَمْكَنَ) بِكَوْنِهِ حَيًّا حَاضِرًا وَلَا يُؤَدِّي إلَى فِتْنَةٍ وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالتَّضَرُّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى رَجَاءَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى (وَتَكْذِيبُ نَفْسِهِ عِنْدَ السَّامِعِينَ) لِبُهْتَانِهِ (وَمِنْ الْكَذِبِ الِادِّعَاءُ) مِنْ الدَّعْوَى (إلَى غَيْرِ أَبِيهِ) بِالِانْتِسَابِ كَادِّعَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَإِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ) أَيْ مُعْتَقِهِ (خ م. عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ» وَالْحَالُ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ «غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» يَعْنِي أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ دُخُولِهَا أَوَّلًا وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْحُرْمَةِ تَشْدِيدًا فِي الزَّجْرِ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ إلَى الْفَسَادِ الْكَثِيرِ أَوْ حَرَامٌ قَبْلَ عُقُوبَةِ كَذِبِهِ أَوْ أَبَدًا إنْ اسْتَحَلَّ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ الَّذِي لَمْ تَطْرُقْهُ تَأْوِيلَاتُ الْمُجْتَهِدِينَ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ عَلَيْهِ جَنَّةٌ مُعَيَّنَةٌ كَجَنَّةِ عَدْنٍ أَوْ وَرَدَ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّخْوِيفِ أَوْ أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ قَدْ يُعْفَى عَنْهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْعَ مَنْ مَضَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَكْفُرُونَ بِهَا كَذَا فِي الْفَيْضِ (حَدُّ مَجَّ حُبّ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى» أَيْ: اتَّخَذَ وَلِيًّا «غَيْرَ مُوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ طَرْدُهُ عَنْ دَرَجَةِ الْإِبْرَارِ وَمَقَامِ الِاخْتِبَارِ لَا عَنْ رَحْمَةِ الْغَفَّارِ «وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» لِمُعَارَضَتِهِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَأَنَّهُ يَقُولُ خَلَقَنِي اللَّهُ مِنْ مَاءِ فُلَانٍ وَإِنَّمَا خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ يُفِيدُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ (خ م. عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ» وَاتَّخَذَ أَبًا لَعَلَّ هَذَا عَلَى قَصْدِ حَقِيقَتِهِ وَإِلَّا فَإِنْ أَرَادَ التَّجَوُّزَ لِنَحْوِ الِاسْتِشْفَاقِ فَلَيْسَ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْمُحَرَّمِ «وَ» الْحَالُ «هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ إلَّا كَفَرَ» إنْ اسْتَحَلَّ أَوْ كُفْرَانَ نِعْمَةٍ كَذَا قِيلَ لَكِنْ تَعَقَّبَهُ الْمُنَاوِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ إلَّا كَفَرَ بِاَللَّهِ فَتَأَبَّى تَأْوِيلُهُ بِكُفْرَانِ نِعْمَةٍ لَا يَخْفَى أَنَّ دَعْوَى الْآبَاءِ لَيْسَ يَحْسُنُ غَايَتُهُ عَدَمُ الْحُسْنِ وَقُيِّدَ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ الْإِثْمَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ الْمُتَعَمِّدِ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ «وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ» هَذَا بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةَ مَالِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا «فَلَيْسَ مِنَّا» لَيْسَ مِنْ مُلْتَزِمِ شَرِيعَتِنَا وَقِيلَ أَهْلِ مِلَّتِنَا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ لَعَلَّ الْأَوْلَى مَا قِيلَ أَيْ لَيْسَ عَلَى هَدْيِنَا وَجَمِيلِ طَرِيقَتِنَا وَقِيلَ لَيْسَ مِمَّنْ عَمِلَ بِسُنَّتِنَا وَاسْتَحَقَّ شَفَاعَتَنَا «وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» لِيَتَّخِذْ مَنْزِلًا مِنْ النَّارِ دُعَاءٌ أَوْ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ يَعْنِي جَزَاؤُهُ إلَّا أَنْ يُعْفَى عَنْهُ أَوْ يَتُوبَ «وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ» اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ «أَوْ قَالَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا حَارَ عَلَيْهِ» أَيْ رَجَعَ عَلَى الْقَائِلِ وَيَكْفُرُ عَلَى قَوْلٍ

وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ بَلْ اللَّازِمُ التَّعْزِيرُ. قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَكْفُرُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَفِي الرَّوْضَةِ عَنْ التَّتِمَّةِ قَالَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ بِلَا تَأْوِيلٍ كَفَرَ وَإِنْ بِتَأْوِيلٍ كُفْرَانَ نِعْمَةٍ لَا كَذَا فِي الْفَيْضِ وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ يَا كَافِرُ وَلَمْ يَقُلْ الْمُخَاطَبُ شَيْئًا قَالَ الْفَقِيهُ الْأَعْمَشُ يَكْفُرُ وَأَبُو اللَّيْثِ وَبَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخٍ لَا يَكْفُرُ وَالْمُخْتَارُ إنْ أَرَادَ الشَّتْمَ لَا يَكْفُرُ وَإِنْ اعْتَقَدَ كُفْرَهُ يَكْفُرُ كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ قَالَ يَا كَافِرُ فَقَالَ بَلْ أَنْتَ لَا يَكْفُرُ قَالَ يَا يَهُودِيُّ فَقَالَ لَبَّيْكَ يَكْفُرُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ. (وَمِنْهُ) أَيْ الْكَذِبِ (مَا فِي قِصَّةِ الرُّؤْيَا خ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلُمٍ لَمْ يَرَهُ» بِضَمَّتَيْنِ: الرُّؤْيَا وَحَلَمَ بِالْفَتْحِ يَحْلُمُ بِالضَّمِّ حُلْمًا رَأَى الرُّؤْيَا وَتَحَلَّمَ إذَا ادَّعَى مَا لَمْ يَرَهُ «كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ» أَيْ عُذِّبَ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ لِعَدَمِ إمْكَانِهِ وَفِي الشَّرْعِيَّةِ وَيَقُصُّ الرُّؤْيَا عَلَى وَجْهِهَا وَلَا يَكْذِبُ فِيهَا شَيْئًا وَفِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ «وَلَنْ يَعْقِدَ بَيْنَهُمَا» بَدَلَ وَلَنْ يَفْعَلَ فَكَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ التَّعْذِيبِ عَلَى الدَّوَامِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ إنَّمَا تُتَوَهَّمُ عِنْدَ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ. وَالْعَجَبُ مِمَّا قَالَهُ بَعْدَ هَذَا التَّأْوِيلِ حَيْثُ قَالَ وَإِنَّمَا شَدَّدَ الْوَعِيدَ لِأَنَّ الْكَذِبَ فِي النَّوْمِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَهِيَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَكَذَبَ عَلَيْهِ تَعَالَى ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ رُؤْيَا صَادِقَةً وَجُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الرُّؤْيَا إمَّا بِشَارَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِمَّا وَسْوَسَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ فَيَغْتَمُّ بِهَا وَإِمَّا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرُّؤْيَا إمَّا مُحْكَمٌ أَوْ مُتَشَابِهٌ أَوْ أَضْغَاثٌ وَالْأَضْغَاثُ مَا رَآهُ مَنْ فِي طَبْعِهِ فَسَادٌ وَمَنْ أَكَلَ أَطْعِمَةً غَلِيظَةً وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ. وَأَمَّا الْمُحْكَمُ مَا أَرَاهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ وَهُوَ إمَّا تَيَسُّرٌ أَوْ تَحْذِيرٌ أَوْ إلْهَامٌ وَالتَّبْشِيرُ إمَّا بِشَارَةُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ نَصِيحَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ لِتَسْجِيلِ حُجَّةٍ لِكَافِرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالتَّحْذِيرُ تَخْوِيفٌ لِمُسْلِمٍ لِقُرْبَانِهِ مَعْصِيَةً أَوْ تَرْكِهِ طَاعَةً وَالْإِلْهَامُ مَا يَدْعُو إلَى طَاعَةٍ كَالْحَجِّ وَصَلَاةِ التَّهَجُّدِ وَالصَّدَقَةِ وَتَوْبَةٍ مِنْ مَعْصِيَةٍ، وَالرُّؤْيَا الْغَيْرُ الصَّادِقَةِ إمَّا رُؤْيَا هِمَّةٍ وَهِيَ الَّتِي يَرَى مَا اهْتَمَّ بِهِ وَتَأَمَّلَهُ فِي يَقِظَةٍ وَإِمَّا رُؤْيَا عِلَّةٍ وَهِيَ رُؤْيَا الْمَرْضَى مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ وَإِمَّا أَضْغَاثٌ مِنْ الشَّيْطَانِ كَمَا عَرَفْت فَإِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَمَا يَكُونُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ وَهُوَ أَقَلُّ أَقْسَامِ الرُّؤْيَا فَلَعَلَّ الْمُرَادَ إمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى اعْتِقَادِ الرَّائِي أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجِنْسِ أَوْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ تَمَامَ الدَّلَالَةِ بَلْ يَكْفِي الْإِشْعَارُ فَافْهَمْ. وَمِنْ غَرَائِبِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ مَا يُحْكَى فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَأَى كَأَنَّهُ يُنْبَشُ قَبْرُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيُجْمَعُ عِظَامُهُ إلَى صَدْرِهِ فَهَالَتْهُ الرُّؤْيَا فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ هَذِهِ رُؤْيَا أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ أَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ اكْشِفْ عَنْ ظَهْرِك فَكَشَفَ فَرَأَى خَالًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَالَ أَنْتَ الَّذِي قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَالٌ يُحْيِي اللَّهُ تَعَالَى دِينِي عَلَى يَدَيْهِ» ثُمَّ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا تَخَفْ إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَأَنْتَ تَصِلُ إلَيْهَا فَكَانَ كَمَا قَالَ لَكِنْ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ كُلُّ حَدِيثٍ فِي مَدْحِ أَبِي حَنِيفَةَ مَوْضُوعٌ نَعَمْ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ تَصْحِيحُ بَعْض طُرُقِ بَعْضٍ

حَدِيثِ مَدْحِهِ . وَمِنْ لَطَائِفِ الْمَقَامِ مَا فِي الْفَيْضِ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مُرْ أُمَّتِي بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَنْ يُعِيدُوا بَعْدَهَا وَيَخْطُبُونَ فَهَلْ يَجِبُ الصَّوْمُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يَجُوزُ أَوْ يَحْرُمُ فَأَجَابَ لَا يَجِبُ شَيْء مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُنْدَبُ بَلْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ وَلَكِنْ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الرُّؤْيَا فَلَهُ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرُ شَرْعٍ وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّائِي أَنْ يَقُولَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا بَلْ يَأْتِي بِمَا رَآهُ وَسُئِلَ أَيْضًا بِأَنَّهُ هَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَسَمَّى إبْلِيسُ بِاسْمِ النَّبِيِّ كَأَنْ يَقُولَ أَنَا النَّبِيُّ وَيَأْمُرَ بِالطَّاعَةِ كَمَا يَمْتَنِعُ التَّشْكِيلُ بِهِ فَأَجَابَ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَقْلًا وَقَالَ إنَّ رُؤْيَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِصِفَتِهِ الْمَعْلُومَةِ إدْرَاكٌ لِذَاتِهِ وَبِغَيْرِ صِفَتِهِ إدْرَاكٌ لِمِثَالِهِ فَالْأُولَى لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّغْيِيرِ وَالثَّانِيَةُ تَحْتَاجُ إلَيْهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ بِصِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ أَوْ لَا فَإِنْ رَآهُ بِصُورَةٍ حَسَنَةٍ فَذَلِكَ حُسْنُ دِينِ الرَّائِي وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ جَوَارِحِهِ شَيْنٌ أَوْ نَقْصٌ فَذَلِكَ خَلَلٌ فِي دِينِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي كَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَنَامِهِ مَا يُخَالِفُ شَرِيعَتَهُ فَخَلَلٌ فِي سَمْعِ الرَّائِي وَقَدْ سَبَقَ زِيَادَةُ تَفْصِيلِ الْمَقَامِ فِي الْبِدْعِيَّةِ. «وَمَنْ اسْتَمَعَ إلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» لَا يُرِيدُونَ اسْتِمَاعَهُ جُمْلَةً وَهُمْ لَهُ حَالٌ أَوْ صِفَةُ قَوْمٍ وَالْوَاوُ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِهَا بِالْمَوْصُوفِ كَمَا فِي سَبْعَةٍ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ( «صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ» بِفَتْحِ الْمَمْدُودَةِ وَضَمِّ النُّونِ الرَّصَاصُ أَوْ الْخَالِصُ مِنْهُ وَلَمْ يَجِئْ مُفْرَدُ هَذَا الْوَزْنِ غَيْرُهُ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لَمْ يَكُنْ لَفْظُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَلْ انْتَهَى الْحَدِيثُ بِمَا قَبْلَهُ وَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَهُ مَنْ اسْتَمَعَ ابْتِدَاءَ حَدِيثٍ وَكَذَا قَوْلُهُ مِنْ صُوَرِ ابْتِدَاءِ حَدِيثٍ آخَرَ فِيهِ لَكِنَّ الْجَمِيعَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَمَوْضُوعُهُ فِيمَنْ يَسْتَمِعُ لِمَفْسَدَةٍ كَنَمِيمَةٍ وَأَمَّا لِقَصْدِ النَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ أَوْ الِاحْتِرَازِ عَنْ شَرِّهِمْ فَلَا بَلْ يُنْدَبُ أَوْ يَجِبُ بِحَسَبِ الْمَوَاطِنِ وَلِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ انْتَهَى «وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً» ذَاتَ رُوحٍ «عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ» يَوْمَ الْقِيَامَةِ «وَ» هُوَ «لَيْسَ بِنَافِخٍ» كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ تَعْذِيبِهِ قَالَ فِي الْفَيْضِ اُسْتُفِيدَ مِنْهُ جَوَازُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ فِي الدُّنْيَا كَمَا جَازَ فِي الْآخِرَةِ وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ أَمْرًا تَكْلِيفِيًّا بَلْ لِلتَّعْذِيبِ وَالتَّعْجِيزِ وَلِإِظْهَارِ قُبْحِ فِعْلِهِ. وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ التَّصْوِيرَ كَبِيرَةٌ وَعَنْ بَعْضٍ أَنَّهُ أَغْلَظُ مِنْ الْقَتْلِ لِأَنَّ وَعِيدَهُ يَنْقَطِعُ بِحَمْلِ قَوْله تَعَالَى - {خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]- عَلَى الْأَمَدِ الطَّوِيلِ وَهُنَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهُ كَانَ مُغَيَّا بِمَا لَا يُمْكِنُ مِنْ نَفْخِ الرُّوحِ وَلِذَا حَكَمَ الْمُعْتَزِلَةُ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ حَمَلُوهُ عَلَى التَّصْوِيرِ بِنَحْوِ قَصْدِ أَنْ يُعْبَدَ أَوْ إنْ اسْتَحَلَّ وَأَوَّلُوا بِنَحْوِ زِيَادَةِ الرَّوْعِ وَالتَّهْوِيلِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِلُحُوقِ الْوَعِيدِ لِمَنْ تَشَبَّهَ بِالْخَالِقِ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ حَقِيقَةً وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى خَلْقِ الْجَوَاهِرِ لَا الْأَفْعَالِ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمْ يَقُولُوا بِخَلْقِ الْجَوَاهِرِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِالشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَوْهَرٍ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَا كَانَ تَصْوِيرُ غَيْرِ ذِي الرُّوحِ مُمْتَنِعًا وَمُنِعَ بِأَنَّ ذَا رُخِّصَ فِيهِ وَبِأَثَرٍ وَرَدَ فِيهِ نَعَمْ الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ غَيْرُ مَرَضِيٍّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ وَالدَّلِيلُ مِنْ الْآحَادِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا ذَاتَ حَيَاةٍ فَتُعَذِّبُهُ نَفْسُ الصُّورَةِ فِي جَهَنَّمَ» قَالَ فِي الْمَبَارِقِ وَأَمَّا تَصْوِيرُ مَا لَا رُوحَ لَهُ فَرُخِّصَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِي وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِتَصْوِيرِ ذِي الرُّوحِ إذَا كَانَ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ انْتَهَى إذْ عِلَّةُ الْكَرَاهَةِ جَارِيَةٌ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ بَيْتًا فِيهِ صُورَةُ ذِي رُوحٍ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ» يَعْنِي مَلَائِكَةَ الْبَرَكَةِ لَا الْحَفَظَةَ.

(وَمِنْهُ خُلْفُ الْوَعْدِ إذَا كَانَ فِي نِيَّتِهِ الْخُلْفُ وَقَدْ مَرَّ) فِي الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي نِيَّتِهِ الْوَفَاءُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إنْجَازِهِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ وَقَدْ قِيلَ وَعْدُ الْكَرِيمِ دَيْنُ الْغَرِيمِ وَفِي الْحَدِيثِ «الْعِدَةُ دَيْنٌ» (وَمِنْهُ) أَيْ الْكَذِبِ (تَحْدِيثُ كُلِّ مَا سَمِعَ) قِيلَ أَيْ بِلَا نِسْبَةٍ إلَى قَائِلِهِ لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ رَفْعِ الْإِيجَابِ الْكُلِّيِّ لَا السَّلْبِ الْكُلِّيِّ (م. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالْمَرَأِ إثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَذِبٌ سِوَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ لَكَفَاهُ مِنْ الذُّنُوبِ فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ عَنْ حَالِ الرَّاوِي أَنَّهُ عَدَلَ أَمْ لَا وَعَنْ الْمَظْهَرِ هَذَا زَجْرٌ عَنْ التَّحْدِيثِ بِمَا لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ أَوْ مَظْنُونٍ عِنْدَهُ وَتَحْرِيضٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ بِمَا يُحَدِّثُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ لِأَنَّهُ يَسْمَعُ عَادَةً الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ لَا مَحَالَةَ يَكْذِبُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ لَكِنَّ التَّعَمُّدَ شَرْطُ الْإِثْمِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «كَفَى بِالْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» قَالَ شَارِحُهُ وَفِيهِ زَجْرٌ عَنْ الْحَدِيثِ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُ صِدْقَهُ ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّف (وَالْجِدُّ) أَيْ الْعَمْدُ (وَالْهَزْلُ فِيهِ) أَيْ الْكَذِبِ وَيَشْمَلُ الْمِزَاحَ (سَوَاءٌ) فِي الْإِثْمِ لَكِنْ فِيهِ نَوْعُ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذُكِرَ آنِفًا فَافْهَمْ (وَيَجُوزُ الْكَذِبُ فِي ثَلَاثٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا) مِمَّا دَعَا إلَيْهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي دَرْءِ مَفْسَدَةٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ مُعْتَدٍّ بِهَا لَمَّا أَثْبَتَ حُرْمَةَ الْكَذِبِ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُبَاحُ فِيهِ الْكَذِبُ إمَّا صَرِيحًا وَهُوَ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ أَوْ دَلَالَةً وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي وَالْحَقُّ إلَخْ (ت. عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ رَجُلٍ كَذَبَ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا» وَيُحْسِنُ الْمُعَاشَرَةَ وَعَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَمَّا كَذِبُهُ لِزَوْجَتِهِ وَكَذِبُهَا فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ يَعْنِي لَعَلَّ مُرَادَهُ كَذِبُ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا لِلْإِرْضَاءِ «وَرَجُلٌ كَذَبَ فِي الْحَرْبِ» لِأَجْلِ الظَّفَرِ وَالْقَهْرِ «فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ» فِي تَعْلِيلِهِ بِالْخُدْعَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَحِلُّ إذَا كَانَ لِلْكَذِبِ مَدَارٌ عَلَى الْخُدْعَةِ فِيهِ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ وَجْهِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِالثَّانِي أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَزِيدِ الْحِيلَةِ حِينَئِذٍ «وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ» الظَّاهِرُ التَّثْنِيَةُ «لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا» أَيْ لِيُبْدِلَ فِرَاقَهُمَا وِفَاقًا وَشِقَاقَهُمَا اتِّفَاقًا فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْكَذِبِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِإِيلَافِ قُلُوبِهِمَا وَكَذَا بَيْنَ الضَّرَّاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِأَنْ يُظْهِرَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّهَا أَحَبُّ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ لَا تُطِيعُهُ إلَّا لِوَعْدِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ يَعِدُهَا فِي الْحَالِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا (وَزَادَ فِي رِوَايَةِ د. عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «وَالْمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زَوْجَهَا» كَذِبًا لِحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ لَا يُفْتَحُ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِئَلَّا تَتَعَوَّدَ النَّفْسُ بِذَلِكَ وَأَيْضًا فِيهِ غُرُورٌ كَثِيرٌ إذْ قَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ حَظَّهُ وَغَرَضَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ أَهَمُّ فِي الشَّرْعِ مِنْ الصِّدْقِ أَوْ لَا وَذَلِكَ غَامِضٌ جِدًّا فَالْحَزْمُ فِي تَرْكِهِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ رُخْصَةً فِي تَرْكِهِ أَصْلًا وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ خَطَأُ مَنْ ظَنَّ جَوَازَ وَضْعِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ إذْ هَذَا الْغَرَضُ لَا يُقَاوِمُ مَحْذُورَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الَّذِي لَا يُقَاوِمُهُ شَيْءٌ (وَأُلْحِقَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ) بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ

(دَفْعُ ظُلْمِ الظَّالِمِ) كَمَنْ أَخْفَى مُسْلِمًا عَنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ ظُلْمَهُ أَوْ أَخْفَى مَالَهُ وَسُئِلَ عَنْهُ وَجَبَ الْكَذِبُ بِإِخْفَائِهِ وَكَذَا نَظَائِرُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقَاصِدِ فَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٌ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ وَإِلَّا جَازَ الْكَذِبُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مُبَاحًا فَالْكَذِبُ مُبَاحٌ وَإِنْ وَاجِبًا فَوَاجِبٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ وَيُؤَيِّدُهُ قَاعِدَةُ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ لَكِنْ يَشْكُلُ عَلَى الْمَقَامِ بِقَوْلِهِمْ دَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ وَقَوْلُهُمْ لَا يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْقَوِيُّ الْكُلُّ لِلْوَصْلَةِ إلَى النَّفْعِ الْجُزْئِيِّ وَقَوْلُهُمْ تُرَجَّحُ الْمَفْسَدَةُ الْقَوِيَّةُ عَلَى الضَّعِيفَةِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا إذْ ضَرَرُ عَدَمِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَوْنِهِ مُبَاحًا لَيْسَ بِضَرَرٍ مُعْتَدٍّ بِهِ وَالْكَذِبُ كَبِيرَةٌ فَانْظُرْ (وَإِحْيَاءُ الْحَقِّ) وَأَيْضًا نُقِلَ عَنْ الرِّيَاضِ وَوَقَعَ فِي الْجَامِعِ خَبَرُ «لَيْسَ الْكَذَّابُ» أَيْ لَيْسَ يَأْثَمُ فِي الْكَذِبِ «الَّذِي يُصْلِحُ» بِضَمِّ الْيَاءِ «بَيْنَ النَّاسِ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ يُعَارِضُهُ خَبَرُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى الْكَذَّابَ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ بِالْكُلَّابِ مِنْ حَدِيدٍ قُلْنَا الْعَذَابُ عَلَى الْكَذَّابِ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَا كُلُّ حَدِيثٍ يُؤَدِّي إلَى خَيْرٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَيُنْمِي أَيْ يُبْلِغُ خَيْرًا وَيَقُولُ خَيْرًا أَيْ يُخْبِرُ بِمَا عَمِلَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَيَسْكُتُ عَنْ عَمَلِهِ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ مَحْمُودٌ بَلْ قَدْ يُنْدَبُ بَلْ قَدْ يَجِبُ ثُمَّ قَالَ وَرُخِّصَ فِي الْيَسِيرِ مِنْ الْفَسَادِ لِمَا يُؤْمَلُ فِيهِ مِنْ الصَّلَاحِ وَكُلُّ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ إيصَالُهُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ جَمِيعًا فَالْكَذِبُ فِيهِ حَرَامٌ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْكَذِبِ إنَّمَا هِيَ لِلضَّرُورَةِ فَإِذَنْ لَيْسَ فِيهِ ضَرُورَةٌ وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَلِهَذَا قِيلَ الْكَذِبُ مُبَاحٌ لِإِحْيَاءِ حَقِّهِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَفِي الْحَدِيثِ «الْكَذِبُ إثْمٌ كُلُّهُ إلَّا مَا نُفِعَ بِهِ مُسْلِمٌ أَوْ دُفِعَ بِهِ عَنْ دِينٍ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ لِأَنَّهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ غِشٌّ وَخِيَانَةٌ وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَ الْكَذِبُ أَشَدَّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا وَالصِّدْقُ أَشَدَّهَا نَفْعًا وَقُبْحُ الْكَذِبِ مَشْهُورٌ وَأَجْمَعُوا عَلَى حُرْمَتِهِ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ هُوَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ وَإِذَا عُرِفَ الْإِنْسَانُ بِالْكَذِبِ سَقَطَتْ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ وَازْدَرَتْهُ الْعُيُونُ وَاحْتَقَرَتْهُ النُّفُوسُ قَالَ وَمِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا إثْمَ فِيهِ مَا اُعْتِيدَ فِي الْمُبَالَغَةِ كَجِئْتُ أَلْفَ مَرَّةٍ وَمِمَّا اُعْتِيدَ فِي الْكَذِبِ أَنْ يَقُولَ لَا أَشْتَهِي الطَّعَامَ عِنْدَ تَكْلِيفِ الْأَكْلِ فَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَحَرَامٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَقَالَ الرَّاغِبُ الْكَذِبُ عَارٌ لَازِمٌ وَذُلٌّ دَائِمٌ فَلَا يَتَرَخَّصُ فِي أَدْنَى كَذِبٍ بِشَيْءٍ فَمَنْ اسْتَحَلَّهُ عَسُرَ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ كُلُّ ذَنْبٍ يُرْجَى تَرْكُهُ بِتَوْبَتِهِ إلَّا الْكَذِبَ فَكَمْ رَأَيْنَا شَارِبَ خَمْرٍ أَقْلَعَ وَلِصًّا نَزَعَ وَلَمْ نَرَ كَذَّابًا رَجَعَ وَعُوتِبَ كَذَّابٌ فِي كَذِبِهِ فَقَالَ لَوْ تَغَرْغَرْتَ بِهِ وَتَطَعَّمْتَ حَلَاوَتَهُ مَا صَبَرْتَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ انْتَهَى (كَمَا فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ) لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا وَجَدِّهَا (تَقُولُ) لِزَوْجِهَا (فِي النَّهَارِ بَلَغْتُ الْآنَ وَفَسَخْت النِّكَاحَ مَعَ أَنَّهَا بَلَغَتْ بِاللَّيْلِ) فَأُبِيحَ لِإِحْيَاءِ حَقِّهَا وَفِي الدُّرَرِ وَإِنْ رَأَتْهُ بِاللَّيْلِ تَخْتَارُ بِلِسَانِهَا فَتَقُولُ فَسَخْت نِكَاحِي تُشْهِدُ إذَا أَصْبَحَتْ وَتَقُولُ رَأَيْت الدَّمَ الْآنَ (قِيلَ وَمِنْهُ) أَيْ الْكَذِبِ الْمُبَاحِ (الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ الْكَاذِبَانِ لِلصَّبِيِّ إذْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْمَكْتَبِ) وَأَعْرَضَ فَيَجُوزُ لِمَصْلَحَةِ تَعَلُّمِهِ قِيلَ فِيهِ نَوْعُ ضَعْفٍ لِإِمْكَانِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ كَالضَّرْبِ وَلِذَا قَالَ قِيلَ وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ جَوَازَ الضَّرْبِ مَحَلُّ بَيَانٍ خُصُوصًا فِيمَا دُونَ عَشْرِ سِنِينَ وَلَعَلَّ لِهَذَا قَالَ نَوْعُ ضَعْفٍ أَقُولُ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْمِثَالِ لَيْسَ بِحَسَنٍ نَعَمْ إنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِمْكَانِ يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِمَّا أُبِيحَ فِيهِ الْكَذِبُ. (وَ) مِنْهُ (الْإِنْكَارُ لِسِرِّ الْغَيْرِ) لِئَلَّا يُفْشِيَ سِرَّهُ الَّذِي أُودِعَ عِنْدَهُ لِأَنَّ صُدُورَ الْأَحْرَارِ قُبُورُ الْأَسْرَارِ (وَ) مِنْهُ إنْكَارُ (مَعْصِيَةِ نَفْسِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ

الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ» وَذَلِكَ لِأَنَّ إظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى (وَ) إنْكَارُ (جِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ لِتَطْيِيبِ قَلْبِهِ) أَيْ قَلْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَفِي الْجَامِعِ «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ» أَيْ بِالْمَعَاصِي كَأَنْ يُحَدِّثَ بَعْضٌ بَعْضًا بِعِصْيَانِهِ وَجَعَلَ مِنْهُ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْمُبَاحِ «وَإِنَّ مِنْ الْجَهْرِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَقُولَ عَمِلْت الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَأَصْبَحَ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» . (وَهَذَا) الْأَخِيرُ وَهُوَ الظَّاهِرُ (مِنْ الصُّلْحِ) فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ بَلْ بِنَصِّ الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَنُقِلَ عَنْ كِتَابِ الْبَرَكَةِ فِي الْحُرْمَةِ وَمِنْ الْكَذِبِ الْمُبَاحِ إخْفَاءُ مَالِهِ وَمَالِ أَخِيهِ عَنْ الْمَظَالِمِ وَإِنْكَارُهُ مَحَبَّةَ بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْأُخْرَى وَتَزْيِينُ كَلَامِهِ لِأَخِيهِ عِنْدَ اعْتِذَارِهِ إلَيْهِ هَذَا ثُمَّ الْأَسْلَمُ أَنْ لَا يُفْتَحَ هَذَا الْبَابُ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِئَلَّا تَتَعَوَّدَ النَّفْسُ بِذَلِكَ وَأَيْضًا فِيهِ غُرُورٌ كَثِيرٌ إذْ قَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ حَظَّهُ وَغَرَضَهُ فَلْيَعْلَمْ هَلْ الْمَقْصُودُ أَهَمُّ فِي الشَّرْعِ مِنْ الصِّدْقِ أَوْ لَا فَيَزِنُ أَحَدَهُمَا بِالْآخِرِ فَأَيُّهُمَا أَشَدُّ فَيُرَجِّحُهُ وَإِنْ تَسَاوَيَا فَيَمِيلُ إلَى جَانِبِ الصِّدْقِ إذْ إبَاحَةُ الْكَذِبِ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِمُهِمَّةٍ (وَقِيلَ الْمُبَاحُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ التَّعْرِيضُ) . قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ ثُمَّ السَّلَفُ قَالُوا «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَذَا عَنْ عُمَرَ هَذَا إذَا دَعَتْهُ حَاجَةٌ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ وَالتَّعْرِيضُ مَعًا وَلَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَهْوَنُ كَقَوْلِك اللَّهُ يَعْلَمُ مَا قُلْت مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ وَكَلِمَةُ مَا عِنْدَك لِلْإِبْهَامِ وَيَتَوَهَّمُهُ الْمُسْتَمِعُ حَرْفُ النَّفْيِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ إذَا طَلَبَهُ مَنْ يَكْرَهُهُ قَالَ لِلْجَارِيَةِ قُولِي اُطْلُبْهُ فِي الْمَسْجِد وَكَانَ لَا يَقُول لَيْسَ هُوَ هَاهُنَا كَيْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا هَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ تَفْهِيمٌ لِلْكَذِبِ إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ فِي الْمَعَارِيضِ خَفِيفَةٌ كَتَطْيِيبِ قَلْبِ الْغَيْرِ بِالْمِزَاحِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» . وَأَمَّا صَرِيحُ الْكَذِبِ مُطَايَبَةً فَلَيْسَ بِفِسْقٍ وَلَكِنَّهُ يُتْرَكُ (وَهُوَ) أَيْ التَّعْرِيضُ (الْخَامِسُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَهُوَ إرَادَةُ غَيْرِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ الْكَلَامِ) كَالتَّوْرِيَةِ (وَلَا بُدَّ مِنْ احْتِمَالِهِ الْمُرَادَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ) كَمَا مَرَّ آنِفًا (وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ النِّيَّةِ) كَأَنْ تَقُولَ لَا آكُلُ نَاوِيًا الْخُصُوصَ فَلَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْعُمُومِ كَذَا فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ يُعْرَفُ فِي الْفِقْهِيَّةِ (وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إذْ مَفْهُومُ التَّصْنِيفِ مُعْتَبَرٌ (كَالصُّوَرِ السَّابِقَةِ) مِنْ الْكَذِبِ (عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً) أَيْ سَعَةً وَخَلَاصًا مِنْ الْكَذِبِ (وَيُكْرَهُ بِدُونِهَا) أَيْ بِدُونِ الْحَاجَةِ (وَأَمَّا الْكَذِبُ) الصَّرِيحُ (فَحَرَامٌ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ) مُطْلَقًا عِنْدَ ذَلِكَ الْبَعْضِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ

بِالتَّعْرِيضِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّعْرِيضِ مَا فِي الشِّرْعَةِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَرْسَلَ بِنْتَه إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ لِيَتَزَوَّجَهَا وَقَالَ لَهَا قُولِي لَهُ هَلْ رَضِيت الْحُلَّةَ وَأَرَادَ بِهِ الزَّوْجَةَ أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]- فَقَالَ عُمَرُ رَضِيتهَا وَرِضَا الْحُلَّةِ كِنَايَةٌ عَنْ رِضَا الزَّوْجَةِ (وَمِنْ التَّعْرِيضِ تَقْيِيدُ الْكَلَامِ بِلَعَلَّ وَعَسَى وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَخْرَجُ مِنْ الْكَذِبِ» أَيْ طَرِيقُ الْخُرُوجِ مِنْ الْكَذِبِ «أَرْبَعٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ اللَّهُ وَلَعَلَّ وَعَسَى» كَذَا فِي التتارخانية) لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوْلَى لِلْمُصَنَّفِ عَلَى هَذَا أَنْ يَضُمَّ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إلَى الْأَخِيرَيْنِ لَعَلَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ التَّعْرِيضِ إذْ التَّعْرِيضُ لَيْسَ بِجَائِزٍ بِلَا ضَرُورَةٍ وَهُمَا لَيْسَا كَذَلِكَ فَافْهَمْ (وَمِنْ التَّعْرِيضِ أَنْ تَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا بِخَمْسَةٍ مَثَلًا وَقَدْ اشْتَرَيْته بِسِتَّةٍ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مَوْجُودٌ فِي الْكَثِيرِ فَلَا يَكُونُ كَذِبًا) بِخِلَافِ الْعَكْسِ لِأَنَّ الْكَثِيرَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْقَلِيلِ (وَقَدْ يَكُونُ ذِكْرُ الْعَدَدِ كِنَايَةً عَنْ الْكَثْرَةِ فَلَا يُرَادُ بِهِ خُصُوصُهُ) أَيْ خُصُوصُ الْعَدَدِ بَلْ يُرَادُ الْمُبَالَغَةُ (كَمَا تَقُولُ دَعَوْتُك سَبْعِينَ مَرَّةً أَوْ مِائَةً أَوْ أَلْفًا فَلَا يَكُونُ كَذِبًا إذَا لَمْ يَبْلُغْ عَدَدَ دَعْوَتِك إلَى أَحَدِ هَذِهِ وَلَكِنْ عُدَّتْ) تِلْكَ الدَّعْوَةُ (بَيْنَ النَّاسِ كَثِيرَةً) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبُهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مِرَارًا وَلَكِنْ لَمْ تُعَدَّ بَيْنَ النَّاسِ كَثِيرَةً كَانَ كَذِبًا وَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ فَقَالَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ هِيَ تُفَارِقُ الْكَذِبَ بِالْبِنَاءِ عَلَى التَّأْوِيلِ وَنَصْبِ الْقَرِينَةِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ (وَضِدُّ الْكَذِبِ الصِّدْقُ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ) فِي الْوَاقِعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِمُطَابِقَةِ الِاعْتِقَادِ أَوْ لِمَنْ قَالَ بِمُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ وَالِاعْتِقَادِ مَعًا (خ م. عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي» يُوَصِّلُ «إلَى الْبِرِّ» التَّوَسُّعِ فِي الْخَيْرِ وَقِيلَ: اسْمٌ لِجَمِيعِ الْخَيْرِ كُلِّهِ وَقِيلَ: اكْتِسَابُ الْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابُ السَّيِّئَاتِ «وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ» فَهُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِهَا نَحْوُ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ» يُلَازِمُ الصِّدْقَ «حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا» مُبَالَغَةً فِي الصِّدْقِ أَيْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الصِّدْقُ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْمُبَالَغَةِ وَيَشْتَهِرَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا فَالْمُرَادُ

الْكِتَابَةُ فِي اللَّوْحِ أَوْ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ وَحَتَّى لِلتَّدْرِيجِ «وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ» وَهُوَ هَتْكُ سِتْرِ الدِّيَانَةِ وَالْمَيْلُ إلَى الْفَسَادِ وَالِانْبِعَاثُ فِي الْمَعَاصِي وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَرٍّ «وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ» دَاعٍ لِدُخُولِهَا «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ» يُكْثِرُ الْكَذِبَ «حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» مُبَالَغَةً فِي الْكَذِبِ هُوَ كَالصِّدِّيقِ فَيَصْدُقُ وَيَكْذِبُ لِلِاسْتِمْرَارِ فَالْكَذِبُ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا وَالصِّدْقُ أَشَدُّهَا نَفْعًا وَلِهَذَا عَلَتْ رُتْبَتُهُ عَلَى رُتْبَةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ إيمَانٌ وَزِيَادَةٌ قَالَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَفِيهِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ حَثٌّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ الْكَذِبِ فَإِنَّهُ إذَا تَسَاهَلَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْهُ وَعُرِفَ بِهِ. (تَنْبِيهٌ) : الصِّدْقُ أَحَدُ أَرْكَانِ بَقَاءِ الْعَالَمِ حَتَّى لَوْ تُوُهِّمَ مُرْتَفِعًا لَمَا صَحَّ نِظَامُهُ وَبَقَاؤُهُ وَهُوَ أَصْلُ الْمَحْمُودَاتِ وَرُكْنُ النُّبُوَّاتِ وَنَتِيجَةُ التَّقْوَى وَلَوْلَاهُ لَبَطَلَتْ أَحْكَامُ الشَّرَائِعِ وَالِاتِّصَافُ بِالْكَذِبِ انْسِلَاخٌ مِنْ الْإِنْسَانِيَّةِ لِخُصُوصِيَّةِ الْإِنْسَانِ بِالنُّطْقِ (ت. عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حَفِظْت مِنْهُ «دَعْ» اُتْرُكْ «مَا يَرِيبُك» مَا يُوقِعُك فِي الرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالتُّهْمَةِ وَأَصْلُهُ قَلَقُ النَّفْسِ وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَالتَّوَقِّي عَنْ الشُّبُهَاتِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الْفَيْضِ «إلَى مَا لَا يَرِيبُك» يَعْنِي إذَا وَجَدْت نَفْسَك مُضْطَرِبَةً فِي أَمْرٍ فَدَعْهُ وَإِذَا وَجَدْتهَا مُطْمَئِنَّةً فَاسْتَمْسِكْ بِهِ لِأَنَّ اضْطِرَابَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فِي شَيْءٍ عَلَامَةُ كَوْنِهِ بَاطِلًا وَطُمَأْنِينَتَهُ عَلَامَةُ كَوْنِهِ حَقًّا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةُ) الْقَلْبِ السَّلِيمِ أَيْ مَحَلُّ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْب (وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ) اضْطِرَابٌ وَشَكٌّ فَإِذَا ارْتَابَتْ نَفْسُك فِي شَيْءٍ فَاتْرُكْهُ وَطُمَأْنِينَتُهُ لِشَيْءٍ مُشْعِرٌ بِحَقِّيَّتِهِ وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِذَوِي النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ عَنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ وَوَسَخِ الْعُيُوبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا فَجَأَ الْقَلْبَ الْكَامِلَ امْتَزَجَ نُورُهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ فَاطْمَأَنَّ وَانْطَفَأَ سِرَاجُ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ ظُلْمَةٌ وَالظُّلْمَةُ لَا تُمَازِجُ النُّورَ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَنَحْوُهُ فِي الْحَاشِيَةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْعَقْلِ السَّلِيمِ بَلْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوَسْوِسِينَ فَاللَّازِمُ الْعَمَلُ بِالشَّرْعِ الْمَتِينِ لَا بِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ وَرَيْبِهِ انْتَهَى فَالتَّقْرِيبُ لَيْسَ بِحَسَنٍ وَفِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا وَقَعَ قَوْلُهُ «فَإِنَّ الصِّدْقَ يُنَجِّي» أَيْ أَنَّ فِيهِ النَّجَاةَ وَإِنْ ظَنَّ فِيهِ الْهَلَكَةَ فَإِنْ ارْتَابَتْ النَّفْسُ فِي شَيْءٍ فَدَعْهُ فَإِنَّ نَفْسَ الْكَامِلِ تَطْمَئِنُّ إلَى مَا فِيهِ نَجَاةٌ مِنْ الصِّدْقِ وَتَرْتَابُ فِي الْكَذِبِ فَالِارْتِيَابُ أَمَارَةُ الْحُرْمَةِ وَالِاطْمِئْنَانُ عَلَامَةُ الْحَقِّ فَخُذْ بِهِ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْته لِلَّهِ تَعَالَى» وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْوَرَعُ كُلُّهُ فِي تَرْكِ مَا يَرِيبُ إلَى مَا لَا يَرِيبُ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عُمُومٌ يَقْتَضِي أَنَّ الرِّيبَةَ تَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَأَنَّ تَرْكَ الرِّيبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَعٌ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأَصْلٌ فِي الْوَرَعِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْيَقِينِ وَرَاحَةٌ مِنْ ظُلْمِ الشُّكُوكِ وَالْأَوْهَامِ الْمَانِعَةِ لِنُورِ الْيَقِينِ. (تَنْبِيهٌ) : لَوْ تَأَمَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ لَتَيَقَّنَ اسْتِيعَابَهُ كُلَّ مَا قِيلَ فِي تَجَنُّبِ الشُّبُهَاتِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (حَدُّ دُنْيَا حب حك. عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اضْمَنُوا لِي مِنْ أَنْفُسِكُمْ سِتًّا» أَيْ: الْتَزِمُوا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى فِعْلِ سِتِّ خِصَالٍ «أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ» أَلْتَزِمْ لَكُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ السَّابِقِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ وَالْمُرَادُ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ اللُّغَوِيُّ عَبَّرَ بِهِ لِتَحْقِيقِ حُصُولِهِ الْوَعْدَ إنْ حُوفِظَ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ «اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ»

السادس الغيبة

لَا تَكْذِبُوا فِي شَيْءٍ إلَّا عِنْدَ تَرَجُّحِ مَصْلَحَةٍ أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ الصِّدْقِ كَحِفْظِ مَعْصُومٍ «وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ» فَإِنَّ الْعِدَةَ دِينٌ وَوَعْدُ الْكَرِيمِ دَيْنُ الْغَرِيمِ «وَأَدُّوا» الْأَمَانَاتِ «إذَا ائْتُمِنْتُمْ» {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَدَخَلَ فِيهِ مَا تَقَلَّدَ الْمُؤْمِنُ بِإِيمَانِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ نَفْسِهِ وَزَوْجِهِ وَأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ وَأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ نُصْحِهِ وَحَقِّ مَمْلُوكِهِ أَوْ مَالِكِهِ أَوْ مُوَالِيهِ فَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاجِبٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا الرَّعَايَا لِلْمُلُوكِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ لِلْقَضَاءِ وَالْعُلُومُ لِلْعُلَمَاءِ وَحِفْظُ الْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ تَلَامِيذُ الْمَشَايِخِ عَنْهُمْ «وَاحْفَظُوا» أَيُّهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ «فُرُوجَكُمْ» عَنْ الْفُحْشِ «وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ» عَمَّا لَا يَجُوزُ نَظَرُهُ «وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» عَنْ أَخْذِ مَالِ الْغَيْر ظُلْمًا وَضَرْبِهِ وَلَمْسِ الْمُحَرَّمِ [السَّادِسُ الْغِيبَةُ] (السَّادِسُ) مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ (الْغِيبَةُ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ (وَهِيَ ذِكْرُ مَسَاوِئِ) جَمْعُ سُوءٍ (أَخِيك الْمُعَيَّنِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ) فَإِنْ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ الْمَعْلُومِ عِنْدَهُ فَلَيْسَ بِغِيبَةٍ (أَوْ مُحَاكَاتُهَا) أَيْ الْمَسَاوِئِ كَأَنْ يَمْشِيَ مُتَعَارِجًا حِكَايَةً لِفِعْلِ أَعْرَجَ (وَتَفْهِيمُهَا) لِلْمُخَاطِبِ (بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْجَوَارِحِ) فَالتَّعْرِيضُ كَالتَّصْرِيحِ وَالْفِعْلُ كَالْقَوْلِ بَلْ هُمَا أَشَدُّ أَنْوَاعِهَا لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ فِي التَّصْوِيرِ وَالتَّفْهِيمِ. قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةٌ فَلَمَّا وَلَّتْ أَوْمَأْتُ بِيَدِي إلَى أَنَّهَا قَصِيرَةٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ اغْتَبْتِيهَا» (عَلَى وَجْهِ السَّبِّ وَالْبُغْضِ) أَيْ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِفْهَامِ وَبِالْجُمْلَةِ الْغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاك بِمَا يَكْرَهُهُ لَوْ بَلَغَهُ سَوَاءٌ ذَكَرْت نُقْصَانًا فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي نَسَبِهِ أَوْ فِي خُلُقِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ أَوْ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ حَتَّى فِي ثَوْبِهِ وَدَارِهِ وَدَابَّتِهِ ثُمَّ لَا نَقْصُرُ عَلَى اللِّسَانِ بَلْ التَّعْرِيضُ فِيهِ كَالتَّصْرِيحِ وَالْفِعْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ وَالْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ وَالرَّمْزُ وَالْغَمْزُ وَالْحَرَكَةُ وَالْكِتَابَةُ وَكُلُّ مَا يُفْهِمُ الْمَقْصُودُ وَمِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ الْمُصَنَّفِينَ شَخْصًا مُعَيَّنًا وَتَهْجِينُ كَلَامِهِ إلَّا لِعُذْرٍ مُحْوِجٍ وَمِنْ أَخْبَثِ أَنْوَاعِهَا قَوْلُ الْقُرَّاءِ الْمُرَائِينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَبْتَلِنَا بِالدُّخُولِ عَلَى السُّلْطَانِ وَالتَّبَذُّلِ فِي طَلَبِ الْحُطَامِ عِنْدَ ذِكْرِ شَخْصٍ حَالُهُ كَذَلِكَ أَوْ يَقُولُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ ذَمًّا لِلْغَيْرِ مَعَ الرِّيَاءِ وَكَذَا يَقُولُ مَا أَحْسَنَ فُلَانًا لَوْلَا تَقْصِيرُهُ فِي الْعِبَادَاتِ لَكِنَّهُ اُبْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِينَا فَيَذُمُّ غَيْرَهُ وَيَمْدَحُ نَفْسَهُ بِالتَّشْبِيهِ بِالصَّالِحِينَ فِي ذَمِّ أَنْفُسِهِمْ فَيَغْتَابُ وَيُرَائِي وَيُزَكِّي نَفْسَهُ (وَهُوَ حَرَامٌ قَطْعِيٌّ) فِي الْفَيْضِ عَنْ الْأَذْكَارِ الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ مُحَرَّمَتَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْحُرْمَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ أَلْفَاظِهِ مُفَسَّرَةً أَوْ مُحْكَمَةً عِنْدَ بَعْضٍ وَيَكْفِي كَوْنُهَا ظَاهِرَةً أَوْ نَصُّهُ وَأَيْضًا أَنَّ دَلَالَةَ مِثْلِ هَذَا النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَهْيٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ أَوْ الْحِسِّيَّاتِ أَوْ لِقُبْحٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ أَوْ لِمُجَاوِرِهِ كَمَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ مُتَأَمِّلًا {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] تَمْثِيلٌ لِمَا يَنَالُهُ الْمُغْتَابُ مِنْ عِرْضِ الْمُغْتَابِ عَلَى أَفْحَشِ وَجْهٍ مَعَ مُبَالَغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَرِّرِ وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى أَحَدٍ لِلتَّعْمِيمِ وَتَعْلِيقُ الْمَحَبَّةِ بِمَا هُوَ غَايَةُ الْكَرَاهَةِ وَتَمْثِيلُ الِاغْتِيَابِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ وَجَعْلُ الْمَأْكُولِ أَخًا مَيِّتًا وَتَعْقِيبُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] تَحْقِيقٌ وَتَقْرِيرٌ لِذَلِكَ وَالْمَعْنَى إنْ صَحَّ ذَلِكَ أَوْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ هَذَا فَكَرِهْتُمُوهُ وَلَا يُمْكِنُكُمْ إنْكَارُ كَرَاهِيَتِهِ وَانْتِصَابُ مَيِّتًا عَلَى الْحَالِ مِنْ اللَّحْمِ أَوْ الْأَخِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] لِمَنْ اتَّقَى مَا نُهِيَ عَنْهُ وَتَابَ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَّابِ لِأَنَّهُ بَلِيغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ بِهِ إذْ يَجْعَلُ صَاحِبَهَا كَمَنْ لَمْ يُذْنِبْ أَوْ لِكَثْرَةِ الْمَتُوبِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ كَذَا فِي الْقَاضِي

(حُبّ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ صَبْ أَصْبَهَانِيٌّ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الرَّجُلَ لَيُؤْتَى كِتَابَهُ» أَيْ كِتَابَ حَسَنَاتِهِ «مَنْشُورًا فَيَقُولُ يَا رَبِّ فَأَيْنَ حَسَنَاتُ كَذَا وَكَذَا عَمِلْتهَا» فِي الدُّنْيَا «لَيْسَتْ فِي صَحِيفَتِي فَيَقُولُ لَهُ مُحِيَتْ بِاغْتِيَابِكَ النَّاسَ وَكُتِبَتْ فِي كِتَابِ مَنْ اغْتَبْتَهُ» هَذَا وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْحُرْمَةِ صَرِيحًا لَكِنْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحُرْمَةُ فَلَوْ كَانَ مَا يَلْزَمُ مِنْ الدَّلِيلِ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَطْلُوبِ فَالتَّقْرِيبُ تَامٌّ قِيلَ عَنْ الْخَرَائِطِيِّ فِي مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الْعَبْدَ لَيُعْطَى كِتَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْشُورًا فَيَرَى فِيهِ حَسَنَاتٍ لَمْ يَعْمَلْهَا فَيَقُولُ يَا رَبِّ لَمْ أَعْمَلْ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ فَيَقُولُ إنَّهَا كُتِبَتْ لَك بِاغْتِيَابِ النَّاسِ إيَّاكَ» وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ وَقِيلَ مَنْ اُغْتِيبَ بِغِيبَةٍ غَفَرَ اللَّهُ نِصْفَ ذُنُوبِهِ (صَبْ. عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ تَحُتَّانِ» بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ تَفْرُقَانِ وَتَحُكَّانِ ثَمَرَاتِ «الْإِيمَانِ كَمَا يَعْضُدُ الرَّاعِي» أَيْ يَقْطَعُ «الشَّجَرَةَ» لِلْمَاشِيَةِ فَأَصْلُ الْإِيمَانِ كَالشَّجَرَةِ وَالْأَعْمَالُ فُرُوعٌ لَهُ كَأَغْصَانِ الشَّجَرَةِ وَبِسَبَبِهَا تُمْحَى تِلْكَ الْأَعْمَالُ وَتُكْتَبُ فِي كِتَابِ مَنْ اغْتَبْته فَيَبْقَى الْإِيمَانُ كَالشَّجَرَةِ الَّتِي يَعْضُدُهَا الرَّاعِي لِتَأْكُلَ الْأَغْنَامُ أَوْرَاقَهَا وَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُحْبِطُ الطَّاعَةَ فَقَدْ عَرَفْت جَوَابَهُ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ (حَدّ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ «قَالَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ» لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ «بِنَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَظَرَ فِي النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ قَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ» الْإِشَارَةُ لِلتَّحْقِيرِ «يَا جَبْرَائِيلُ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ» بِالِاغْتِيَابِ لَعَلَّ ذَلِكَ تَمْثِيلُ أَرْوَاحِ الْمُغْتَابِينَ فِيمَا قَبْلُ أَوْ صُوَرُهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ (يَعْلَى طَبْ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَكَلَ لَحْمَ أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا» بِاغْتِيَابِهِ لَا يَخْفَى مَا فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَأَكْلِ اللَّحْمِ لِأَنَّ حُرْمَةَ عِرْضِ الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ «قُرِّبَ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: كُلْهُ مَيِّتًا كَمَا أَكَلْته حَيًّا فَيَأْكُلُهُ وَيَكْلَحُ» أَيْ يَعْبِسُ وَجْهُهُ قِيلَ عَنْ التِّرْمِذِيِّ تَشْوِيهِ النَّارُ فَتُقَلِّصُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ رَأْسَهُ وَتَسْتَرْخِي السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ وَذَلِكَ مِنْ مَرَارَةِ مَا أَكَلَهُ لَعَلَّ لَيْسَ مَا أَكَلَهُ عَيْنَ أَخِيهِ بَلْ مِثَالُهُ وَصُورَتَهُ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا «وَيَضِجُّ» يَصِيحُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ وَأَنِينَهُ (يَعْلَى. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ رَجُلٌ» وَذَهَبَ لِحَاجَةٍ

«فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْجَزَ فُلَانًا أَوْ قَالُوا مَا أَضْعَفَ فُلَانًا» شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي يَعْنِي تَعَجَّبُوا مِنْ ذَهَابِهِ وَضَعْفِهِ فِي دِينِهِ «فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَبْتُمْ صَاحِبَكُمْ وَأَكَلْتُمْ لَحْمَهُ» . فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ غِيبَةً لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ غَرَضِهِمْ هُوَ الْغَيْرَةُ وَالزَّجْرُ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ صُحْبَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قُلْنَا لَعَلَّ لَهُ ضَرُورَةً دَاعِيَةً يَعْرِفُهَا النَّبِيُّ دُونَهُمْ (دُنْيَا. عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ «قُلْت لِامْرَأَةٍ مَرَّتْ وَأَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ هَذِهِ لَطَوِيلَةٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفِظِي الْفِظِي» ارْمِي مَا فِي فِيك وَجْهُ التَّأْكِيدِ أَنَّهُ كَانَ فِي اعْتِقَادِهَا لَيْسَ فِي فِيهَا شَيْءٌ فَفِيهِ إمَارَةُ إنْكَارٍ أَوْ دَفْعُ تَوَهُّمٍ نَاشِئٍ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ لِلشَّفَقَةِ كَأَنَّهُ يُسْرِعُ فِي إخْرَاجِ مَا فِي فِيهَا مِنْ الْخَبَثِ «فَلَفَظَتْ بِضْعَةً» قِطْعَةً «مِنْ لَحْمٍ» فَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى تَبْدِيلِ الْأَعْرَاضِ جَوَاهِرَ كَمَا فِي ذَبْحِ الْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ وَامْتِنَاعُ انْقِلَابِ الْحَقَائِقِ مُخْتَصٌّ فِيمَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ أَوْ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ لَحْمَ الْمُغْتَابِ بِقَرِينَةِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَيَنْقُلُهُ تَعَالَى مِنْهُ إلَيْهِ وَيَخْلُقُ غَيْرَهُ بَدَلَهُ بِلَا شُعُورِهِ وَعِرْفَانِهِ فَبَعِيدٌ غَايَةَ الْبُعْدِ وَإِنْ أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ ذَاتِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى ثُمَّ إنَّ وَجْهَ كَوْنِهِ غِيبَةً كَرَاهَتُهَا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ وَاقِعًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي «الْغِيبَةُ ذِكْرُكَ أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ لَوْ بَلَغَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ خُلُقِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ خَادِمِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ سُكُونِهِ أَوْ حَرَكَتِهِ أَوْ طَلَاقَتِهِ أَوْ عَبُوسَتِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِلَفْظٍ أَوْ إشَارَةٍ أَوْ رَمْزٍ أَوْ كِنَايَةٍ أَوْ مُحَاكَاةٍ بَلْ أَوْ بِقَلْبٍ وَمِنْهُ مَا فِي التَّصَانِيفِ نَحْوُ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ أَوْ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ لِلصَّلَاحِ «قِيلَ أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» (د. عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَمَّا عُرِجَ بِي رَبِّي مَرَرْت بِقَوْمِ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ) يَجْرَحُونَ وَيَخْدِشُونَ وَيَضْرِبُونَ (بِهَا وُجُوهَهُمْ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» بِمَا يَغْتَابُونَ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الطِّيبِيِّ لَمَّا كَانَ خَمْشُ الْوَجْهِ وَالصَّدْرِ مِنْ صِفَاتِ النِّسَاءِ النَّائِحَات جَعَلَهُمَا جَزَاءَ مَنْ يَغْتَابُ إشْعَارًا بِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ بَلْ هُمَا مِنْ صِفَاتِ النِّسَاءِ فِي أَقْبَحِ حَالَةٍ وَأَسْوَإِ صُورَةٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ يُحْشَرُ الْمُمَزِّقُ لِأَعْرَاضِ النَّاسِ كَلْبًا ضَارِيًا وَالشَّرِهُ لِأَمْوَالِهِمْ ذِئْبًا وَالْمُتَكَبِّرُ نَمِرًا وَطَالِبُ الرِّيَاسَةِ أَسَدًا لِأَنَّ الصُّورَةَ فِي هَذَا الْعَالَمِ غَالِبَةٌ عَلَى الْمَعَانِي وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى الْغِيبَةِ (د ت. عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ حَسْبُك مِنْ صَفِيَّةَ» بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ أَيْ كَافِيك مِنْ عَيْبِهَا « (قِصَرُهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ قُلْت كَلِمَةً لَوْ مُزِجَ بِهَا الْبَحْرُ لَمَزَجَتْهُ) »

الْمَزْجُ التَّغْيِيرُ وَقِيلَ أَيْ غَلَبَتْهُ فِي الْمَزْجِ لِعِظَمِهَا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الزَّوَاجِرِ عَنْ الْغِيبَةِ وَمَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْأَحَادِيثِ يَبْلُغُ فِي الذَّمِّ بِهِ هَذَا الْمَبْلَغَ - {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]- الْآيَةُ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ أَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّشْدِيدُ مُخْتَصًّا بِهَا إمَّا لِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ مَنْصِبِ عَائِشَةَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الْغِيبَةِ عَلَى صَفِيَّةَ لِكَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ لِمَجْمُوعِهَا وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ وَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ مَاتَ تَائِبًا مِنْ الْغِيبَةِ فَهُوَ آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَمَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَقَالَ عَوْفٌ دَخَلْت عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فَتَنَاوَلْت بِالِاغْتِيَابِ مِنْ الْحَجَّاجِ فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ إنَّ اللَّهَ حَكَمٌ عَدْلٌ وَكَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْحَجَّاجِ يَأْخُذُ لِلْحَجَّاجِ وَإِنَّك إذَا لَقِيت اللَّهَ غَدًا كَانَ أَصْغَرُ ذَنْبٍ أَصَبْته أَشَدَّ عَلَيْك مِنْ أَعْظَمِ ذَنْبٍ أَصَابَهُ الْحَجَّاجُ وَقِيلَ دُعِيَ ابْنُ أَدْهَمَ إلَى دَعْوَةٍ فَحَضَرَ فَذَكَرُوا رَجُلًا لَمْ يَأْتِهِمْ وَقَالُوا إنَّهُ ثَقِيلٌ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ إنَّمَا فَعَلَ هَذَا فِي نَفْسِي حَيْثُ حَضَرْت مَوْضِعًا يُغْتَابُ النَّاسُ فِيهِ فَخَرَجَ وَلَمْ يَأْكُلْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقِيلَ مَثَلُ الَّذِي يَغْتَابُ النَّاسَ كَمَثَلِ مَنْ نَصَبَ مَنْجَنِيقًا يَرْمِي حَسَنَاتِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا يَغْتَابُ وَاحِدًا خُرَاسَانِيًّا وَآخَرَ حِجَازِيًّا وَآخَرَ تُرْكِيًّا فَيُفَرِّقُ حَسَنَاتِهِ وَيَقُومُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ (م. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «هَلْ تَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» فِيهِ نَدْبُ إسْنَادِ مَا لَا عِلْمَ بِهِ لِلْعَبْدِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ «قَالَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُهُ قِيلَ أَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَهَتَّهُ» مِنْ الْبُهْتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا مَشْرُوحًا لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُذْكَرَ قُبَيْلَ قَوْلِهِ وَهُوَ حَرَامٌ قَطْعِيٌّ وَعَنْ سُفْيَانَ كُنْت جَالِسًا عِنْدَ إيَاسٍ فَنِلْتُ مِنْ إنْسَانٍ فَقَالَ هَلْ غَزَوْت الرُّومَ وَالتُّرْكَ فَقُلْت لَا فَقَالَ سَلِمَ مِنْك التُّرْكُ وَالرُّومُ وَمَا سَلِمَ مِنْك أَخُوك الْمُسْلِمُ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ لِيَكُنْ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْك ثَلَاثَ خِصَالٍ إنْ لَمْ تَنْفَعْهُ فَلَا تَضُرَّهُ وَإِنْ لَمْ تَسُرَّهُ فَلَا تَغُمَّهُ وَإِنْ لَمْ تَمْدَحْهُ فَلَا تَذُمَّهُ قَالَ الْجُنَيْدُ كُنْت جَالِسًا فِي مَسْجِدِ شُونِيزِيَّةَ أَنْتَظِرُ جِنَازَةً أُصَلِّي عَلَيْهَا وَأَهْلُ بَغْدَادَ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ فَرَأَيْت فَقِيرًا يَسْأَلُ النَّاسَ فَقُلْت فِي نَفْسِي لَوْ عَمِلَ هَذَا عَمَلًا يَصُونُ بِهِ نَفْسَهُ كَانَ أَجْمَلَ بِهِ فَلَمَّا انْصَرَفْتُ إلَى مَنْزِلِي وَكَانَ لِي شَيْءٌ مِنْ الْوَرْدِ فِي اللَّيْلِ مِنْ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ فَثَقُلَ عَلَيَّ جَمِيعُ أَوْرَادِي فَسَهِرْت وَأَنَا قَاعِدٌ وَغَلَبَتْنِي عَيْنِي فَرَأَيْت ذَلِكَ الْفَقِيرَ جَاءُوا بِهِ عَلَى خُوَانٍ مَمْدُودٍ وَقَالُوا لِي كُلْ لَحْمَهُ فَقَدْ اغْتَبْته وَكَشَفَ لِي عَنْ الْحَالِ فَقُلْت مَا اغْتَبْته إنَّمَا قُلْت فِي نَفْسِي شَيْئًا فَقِيلَ مَا أَنْتَ مِمَّنْ يُرْضَى مِنْك بِمِثْلِهِ اذْهَبْ فَاسْتَحِلَّهُ فَأَصْبَحْت وَلَمْ أَزَلْ أَتَرَدَّدُ حَتَّى رَأَيْته فِي مَوْضِعٍ يَلْتَقِطُ مِنْ الْمَاءِ عِنْدَ تَزَايُدِهِ أَوْرَاقًا مِنْ الْبَقْلِ مِمَّا يَتَسَاقَطُ مِنْ غَسْلِ الْبَقْلِ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ تَعُودُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقُلْت لَا أَعُودُ قَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَك (اعْلَمْ أَنَّ الْغِيبَةَ تَعُمُّ ذِكْرَ عُيُوبِ الدِّينِ) نَحْوُ فُلَانٌ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَشَارِبُ الْخَمْرِ وَسَارِقٌ وَنَمَّامٌ (وَالدُّنْيَا) نَحْوُ فُلَانٌ أَعْرَجُ أَوْ أَصَمُّ أَوْ زَمِنٌ أَوْ أَعْوَرُ رَخَّصَ بَعْضٌ بِعُيُوبِ الدُّنْيَا وَقَالَ لَا غِيبَةَ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ ذَمُّ مَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فَذِكْرُهُ بِالْمَعَاصِي وَذَمُّهُ يَجُوزُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْعُمُومِ يُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ ذَكَرَ غَيْرَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ فَهُوَ مُغْتَابٌ سَوَاءٌ دُنْيَا أَوْ دِينًا، لَعَلَّ الْحَقَّ التَّفْصِيلُ؛ إنْ لِغَرَضٍ نَفْسَانِيٍّ فَغِيبَةٌ وَإِنْ لِغَرَضٍ دِينِيٍّ فَلَا (لَكِنْ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمُخَاطَبِ) أَيْ الْمُغْتَابِ (وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ السَّبِّ) وَالْقَدْحِ فِيهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاهْتِمَامِ (عِنْدَ عُلَمَائِنَا) الْحَنَفِيَّةِ أَمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّرَحُّمِ أَوْ التَّظَلُّمِ مِنْهُ فَلَا (قَالَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ رَجُلٌ اغْتَابَ أَهْلَ قَرْيَةٍ فَقَالَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ كَذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غِيبَةً لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ)

لِمَا فِيهِمْ مِنْ نَحْوِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالصِّبْيَانِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ عَامٍّ خَصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ (فَكَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْبَعْضُ وَهُوَ مَجْهُولٌ) فَلَا تَعْيِينَ وَلَا عِلْمَ لِلْمُخَاطَبِ فَدَلَّ عَلَى شَرْطِيَّةِ مَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِ لَعَلَّ هَذَا إنْ لَمْ تَكُنْ الْغِيبَةُ بِوَصْفٍ يُوجِبُ التَّعْيِينَ مِنْهُمْ أَوْ إنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى خُصُوصِهِمْ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ عِلَّةَ حُرْمَةِ الْغِيبَةِ هُوَ الْأَذَى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَذَى حَاصِلٌ فِي اغْتِيَابِ مُطْلَقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَوْ لِأَجْلِ مَنْ اُغْتِيبَ لَهُ مِنْهُمْ (الرَّجُلُ إذَا كَانَ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَضُرُّ النَّاسَ بِالْيَدِ) كَالضَّرْبِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ (وَاللِّسَانِ) كَالشَّتْمِ وَالْبُهْتَانِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ (فَذُكِرَ بِمَا فِيهِ لَا يَكُونُ غِيبَةً) ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ وَحُجِّيَّتُهُ فِي الْمَقَامِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِهِ لَا عَلَى وَجْهِ السَّبِّ وَحَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِهَذَا بَعِيدٌ بَلْ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ عَدَمَ كَوْنِهِ غِيبَةً لِكَوْنِهِ مُجَاهِرًا بِالْفِسْقِ وَلَا يَسْتَنْكِفُ مِنْ ذِكْرِهِ (وَإِنْ أَخْبَرَ السُّلْطَانَ أَوْ غَيْرَهُ) مَثَلًا (بِذَلِكَ لِيَزْجُرَهُ) عَنْ أَضْرَارِهِ (فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ) لَعَلَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِطَرِيقِ غَيْرِ السُّلْطَانِ فَلَا يَضْمَنُ بِمَا أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مِنْ الْجَرَائِمِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَهَلْ الْأَوْلَى الرَّفْعُ إلَيْهِ أَوْ لَا فَإِنْ مِمَّنْ يَزِيدُ أَذَاهُ عِنْدَ الْإِهْمَالِ نَعَمْ وَإِلَّا فَلَا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِكَوْنِ السُّلْطَانِ قَادِرًا وَغَيْرَ مُهْمِلٍ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ زِيَادَةُ غَيْظٍ قَالَ قَاضِي خَانْ أَيْضًا رَجُلٌ عَلِمَ أَنَّ فُلَانًا يَتَعَاطَى مِنْ الْمُنْكَرِ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى أَبِيهِ بِذَلِكَ قَالُوا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ إلَى أَبِيهِ يَمْنَعُهُ الْأَبُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَإِلَّا فَلَا يَكْتُبُ كَيْ لَا تَقَعَ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ أَوْ بَيْنَ السُّلْطَانِ وَالرَّعِيَّةِ وَالْحَشَمِ إنَّمَا يَجِبُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ انْتَهَى (رَجُلٌ ذَكَرَ مَسَاوِئَ أَخِيهِ عَلَى وَجْهِ الِاهْتِمَامِ) لَا عَلَى وَجْهِ السَّبِّ وَالْقَدَحِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاهْتِمَامِ الْأَعْذَارُ الَّتِي تُرَخَّصُ بِهَا الْغِيبَةُ كَمَا يُشِيرُ الْمُصَنِّف وَهِيَ سِتَّةٌ أَوَّلُهَا التَّظَلُّمُ ثَانِيهَا الِاسْتِغَاثَةُ لِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَالرَّدِّ إلَى مَنْهَجِ الْحَقِّ ثَالِثُهَا الِاسْتِفْتَاءُ رَابِعُهَا تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ خَامِسُهَا كَوْنُ اسْمِهِ مُؤْذِيًا كَالْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ إلَّا إنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ سَادِسُهَا الْمُجَاهِرُ بِالْفِسْقِ (لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غِيبَةً) لِضَرُورَةٍ مُبِيحَةٍ (إنَّمَا الْغِيبَةُ أَنْ يَذْكُرَ) مَسَاوِئَ أَخِيهِ (عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ يُرِيدُ بِهِ السَّبَّ انْتَهَى وَهَكَذَا) ذَكَرَ (فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهِمَا فَذِكْرُ الْعَيْبِ لِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ أَوْ لِلِاسْتِفْتَاءِ) طَلَبُ الْفَتْوَى مِنْ الْمُفْتِي (أَوْ لِلتَّحْذِيرِ) أَيْ تَحْذِيرِ الْغَيْرِ (مِنْ شَرِّهِ أَوْ التَّعْرِيفِ كَالْأَعْرَجِ وَنَحْوِهَا) قِيلَ كَذِكْرِ عَيْبِ مَبِيعٍ يَكْتُمُ عَيْبَهُ وَذِكْرِ عَيْبِ امْرَأَةٍ يُرَادُ نِكَاحُهَا وَلَا يَعْلَمُ عَيْبَهَا فَإِنَّهُ مِنْ النُّصْح الْوَاجِبِ وَتَفْرِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَعَانِيَ لِلِاهْتِمَامِ وَكَوْنِهَا مَعْنًى لِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْحَصْرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ إنَّمَا الْغِيبَةُ إلَخْ (لَيْسَ بِغِيبَةٍ وَكَذَا) لَا يَكُونُ غِيبَةً (إنْ كَانَ مُجَاهِرًا

لِلْفِسْقِ وَالظُّلْمِ فَذَكَرَهُمَا وَأَمَّا إنْ ذَكَرَ عَيْبًا آخَرَ) لِكُلٍّ مِنْهُمَا (فَغِيبَةٌ) لَعَلَّهُ أَنَّهُ كَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ الْعَيْبِ الْآخَرِ مُتَسَبِّبًا عَنْ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ فَالظَّاهِرُ لَيْسَ بِغِيبَةٍ كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ لِغَرَضٍ نَفْسَانِيٍّ آخَرَ لَيْسَ بِغِيبَةٍ (شَيْخٌ) أَبُو الشَّيْخِ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ» أَيْ الْحَيَاءَ الَّذِي هُوَ كَجِلْبَابِ النِّسَاءِ وَمِلْحَفَتِهِنَّ فَجَهَرَ بِالْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ لُجَيْنِ الْمَاءِ وَالْجِلْبَابُ كُلُّ مَا يُسْتَرُ بِهِ مِنْ نَحْوِ ثَوْبٍ «فَلَا غِيبَةَ لَهُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ يَعْنِي الْمُجَاهِرَ الْمُتَظَاهِرَ بِالْفَوَاحِشِ لَا غِيبَةَ لَهُ إذَا ذُكِرَ بِمَا فِيهِ فَقَطْ لِيُعْرَفَ وَيُحْذَرَ وَهَذَا فِيمَنْ أَظْهَرَهُ وَتَرَكَ الْحَيَاءَ فِيهِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْغِيبَةِ إنَّمَا هُوَ لِإِيذَائِهِ الْمُغْتَابَ وَعَنْ الْبَيْهَقِيّ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ، وَإِنْ صَحَّ فَعَلَى فَاسِقٍ مُعْلِنٍ بِفِسْقِهِ وَعَنْ الذَّهَبِيِّ فِي رِجَالِهِ مَجْهُولٌ وَأَوْرَدَهُ الْعِرَاقِيُّ فِي الضَّعِيفِ وَأَبُو الشَّيْخِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا. (دُنْيَا. عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ وَجَدُّهُ صَحَابِيٌّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ وَمَاتَ بِخُرَاسَانَ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَتَرُوعُونَ» أَتَخَافُونَ وَتَحْذَرُونَ «مِنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ مَتَى يَعْرِفُهُ النَّاسُ» أَيُّ وَقْتٍ يَعْرِفُهُ النَّاسُ إنْ لَمْ تُعَرِّفُوهُمْ بِهِ «اُذْكُرُوا الْفَاجِرَ» الْفَاسِقَ «بِمَا فِيهِ» مِنْ الْفُجُورِ وَهَتْكِ سِتْرِ الدِّيَانَةِ فَذِكْرُهُ بِذَلِكَ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مُسْلِمٌ فَيَقْتَدِيَ بِهِ فِي فِعْلَتِهِ أَوْ يُضِلَّهُ بِبِدْعَتِهِ أَوْ يَسْتَرْسِلَ لَهُ فَيُؤْذِيَهُ بِخُدْعَتِهِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ «يَحْذَرُهُ» أَيْ لِكَيْ يَحْذَرَهُ «النَّاسُ» إلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ ذِكْرِهِ بِذَلِكَ مَشْرُوطَةٌ بِقَصْدِ الِاحْتِسَابِ وَإِرَادَةِ النَّصِيحَةِ دَفْعًا لِلِاغْتِرَارِ وَنَحْوِهِ مِمَّا ذُكِرَ فَمَنْ ذَكَرَ أَحَدًا مِنْ هَذَا الصِّنْفِ تَشَفِّيًا لِغَيْظِهِ أَوْ انْتِقَامًا لِنَفْسِهِ أَوْ احْتِقَارًا أَوْ ازْدِرَاءً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ النَّفْسَانِيَّةِ فَهُوَ آثِمٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ السُّبْكِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَلَدُهُ قَالَ كُنْت جَالِسًا بِدِهْلِيزِ دَارِنَا فَأَقْبَلَ كَلْبٌ فَقُلْت اخْسَأْ كَلْبَ ابْنَ كَلْبٍ فَزَجَرَنِي الْوَالِدُ فَقُلْت أَلَيْسَ هُوَ كَلْبَ ابْنَ كَلْبٍ قَالَ شَرْطُ الْجَوَازِ عَدَمُ قَصْدِ التَّحْقِيرِ فَقُلْت هَذِهِ فَائِدَةٌ قَالَ فِي الْفَيْضِ لَمْ يَصِحَّ عَنْ بَهْزٍ بِشَيْءٍ وَقَالَ أَحْمَدُ حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ وَقَالَ عَدِيٌّ لَا أَصْلَ لَهُ وَكُلُّ مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَضَعَهُ جَارُودُ ثُمَّ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ سَنَدُ مَنْ يَخُصُّ الْغِيبَةَ بِذِكْرِ الْعُيُوبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوا الْفَاجِرَ عَلَى الْمُعْلِنِ بِفِسْقِهِ لَا عَلَى مُطْلَقِهِ (وَالْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ ضَيَّقَ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطْ السَّبَّ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى الِاهْتِمَامِ) بَلْ شَرَطَ الْكَرَاهَةَ مِنْ الْمُغْتَابِ فَقَطْ قِيلَ هُوَ مَسْلَكُ الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَخْبَارِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوُجُودِ الْغِيبَةِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ السَّبُّ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ خُصُوصًا تَفْسِيرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْغِيبَةَ بِقَوْلِهِ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاك بِمَا يَكْرَهُهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ فَالْأَوْلَى الِاحْتِرَازُ عَنْ ذِكْرِ سَوْأَةِ الْغَيْرِ مَا لَمْ يُنَطْ بِهِ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ انْتَهَى أَقُولُ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ عِنْدَنَا وَأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إنْ فِي الْحُكْمِ وَاتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالْحَادِثَةُ وَكَانَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَإِنَّ تَوْفِيقَ النُّصُوصِ لَازِمٌ عِنْدَ إمْكَانِهِ فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ إنْ كَانَ عَدَمُ الْقَرِينَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَإِنْ مُطْلَقًا فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ إذْ بَعْضُ الْحَدِيثِ يَكُونُ قَرِينَةً لِلْمُرَادِ لِمَا فِي بَعْضٍ آخَرَ فِيهِ يُعْلَمُ حَالُ قَوْلِهِ خُصُوصًا إلَخْ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ عَلَى مَا مَهَّدَهُ أَنْ يُقَالَ بِنَحْوِ الصَّوَابِ وَأَيْضًا لَا يَخْلُو ذَلِكَ عَنْ اعْتِرَافِ مَسْأَلَةِ الْخَصْمِ فَافْهَمْ . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْغِيبَةِ أَحَدَ عَشَرَ الْأَوَّلُ أَنْ تَشْفِيَ الْغَيْظَ بِذِكْرِ مَسَاوِئِهِ الثَّانِي مُوَافَقَةُ الْأَقْرَانِ زَاعِمًا كَوْنَهَا حُسْنَ مُعَاشَرَةٍ الثَّالِثُ أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ إنْسَانٍ أَنَّهُ سَيَقْصِدُهُ

وَيُطَوِّلُ لِسَانَهُ فِيهِ أَوْ يُقَبِّحُ عِنْدَ مُحْتَشِمٍ فَيُبَادِرُهُ وَيَطْعَنُ فِيهِ لِيَسْقُطَ أَثَرُ شَهَادَتِهِ الرَّابِعُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ شَيْءٌ فَيَذْكُرَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ فُلَانٌ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَعَ أَنَّ التَّبَرُّؤَ يَحْصُلُ بِأَنْ لَا يَذْكُرَ الْغَيْرَ بِشَخْصِهِ الْخَامِسُ أَنْ يَنْسِبَ النَّقْصَ إلَى غَيْرِهِ وَيَقْصِدَ بِذَلِكَ إثْبَاتَ فَضْلِ نَفْسِهِ السَّادِسُ الْقَدْحُ عِنْدَ مَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ الشَّخْصَ حَسَدًا لِإِكْرَامِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ السَّابِعُ أَنْ يَقْصِدَ اللَّعِبَ وَالْهَزْلَ وَالْمُطَايَبَةَ وَيُضْحِكَ النَّاسَ عَلَيْهِ الثَّامِنُ الِاسْتِهْزَاءُ اسْتِحْقَارًا لَهُ فِي الْغِيبَةِ التَّاسِعُ أَنْ يَتَعَجَّبَ بِفِعْلِهِ الْمُنْكَرِ وَهَذَا مِنْ الدِّينِ لَكِنْ أَدَّى إلَى الْغِيبَةِ بِذِكْرِ اسْمِهِ فَصَارَ مُغْتَابًا مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي الْعَاشِرُ أَنْ يَغْتَمَّ لِسَبَبِ مَا يُبْتَلَى بِهِ فَيَقُولَ مِسْكِينٌ فُلَانٌ قَدْ غَمَّنِي أَمْرُهُ وَمَا اُبْتُلِيَ بِهِ وَغَمُّهُ وَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ لَكِنْ سَاقَهُ إلَى شَرٍّ وَهُوَ الْغِيبَةُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْهَا الْغَضَبُ لِلَّهِ عَلَى مُنْكَرٍ قَارَفَهُ إنْسَانٌ فَيُظْهِرُ غَضَبُهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَى فَاعِلِهِ وَلَا يُظْهِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ يَسْتُرُ اسْمَهُ وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ مِمَّا تَغْمُضُ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ إذَا عَرَفْت أَسْبَابَ الْغِيبَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ عِلَاجَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ أَنْ يَذْكُرَ مَضَرَّةَ الْغِيبَةِ وَأَنَّهَا تَحُطُّ حَسَنَاتِهِ وَتُثْقِلُ حَسَنَاتِ غَيْرِهِ أَوْ يُنْقَلُ إلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ فَهَذَا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ وَالسُّؤَالِ وَالْحِسَابِ وَعِلَاجُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَسْبَابِهَا وَيُعَالِجَهَا بِمَا مَرَّ فِي الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ مِنْ نَحْوِ الْغَضَبِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّا نُبِّهَ عَلَيْهِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْغِيبَةِ مَا بِالْقَلْبِ وَهُوَ سُوءُ الظَّنِّ أَيْ عَقْدُ الْقَلْبِ وَالْحُكْمُ بِالسُّوءِ وَذَلِكَ حَرَامٌ كَمَا نُبِّهَ عَلَيْهِ قَبْلُ وَأَمَّا الْخَوَاطِرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْقَلْبُ مَعَهُ عَمَّا كَانَ فَيَنْفِرَ عَنْهُ نُفُورًا وَيَسْتَثْقِلَهُ وَيَفْتُرَ عَنْ مُرَاعَاتِهِ وَإِكْرَامِهِ وَمِنْ ثَمَرَاتِ سُوءِ الظَّنِّ التَّجَسُّسُ فَيَطْلُبُ التَّحْقِيقَ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ. (ثُمَّ إنَّ الْغِيبَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ الْأُولَى أَنْ تَغْتَابَ وَتَقُولَ لَسْت أَغْتَابُ لِأَنِّي أَذْكُرُ مَا فِيهِ فَهَذَا كُفْرٌ) ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الْغِيبَةِ جَارِيَةً فِي الْعُيُوبِ الدِّينِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدْنَى دَرَجَةِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ شُبْهَةٍ فَكَيْفَ يَكْفُرُ فِي حُكْمٍ كَانَ فِيهِ شُبْهَةٌ إلَّا أَنْ يَخُصَّ بِالْعُيُوبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ قَرِينَةٌ لِلتَّخْصِيصِ (ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي التَّنْبِيهِ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَالٌ لِلْحَرَامِ الْقَطْعِيِّ) قِيلَ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ بِالنَّصِّ الْقُرْآنِيِّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى حُرْمَةِ الْغِيبَةِ لَا عَلَى كَوْنِ مَا ذُكِرَ فِيهِ غِيبَةً وَالْمَطْلُوبُ ذَلِكَ. (وَالثَّانِي أَنْ يَغْتَابَ وَتَبْلُغَ غِيبَتُهُ الْمُغْتَابَ فَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ لَا تَتِمُّ التَّوْبَةُ عَنْهَا إلَّا بِالِاسْتِحْلَالِ) مِنْ الْمُغْتَابِ (لِأَنَّهُ آذَاهُ) بِبُلُوغِ غِيبَتِهِ إلَيْهِ (فَكَانَ فِيهِ) فِي بُلُوغِ الْغِيبَةِ (حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا) أَيْ كَمَا كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَبِاعْتِبَارِ نَهْيِهِ تَعَالَى حَقُّهُ تَعَالَى وَبِاعْتِبَارِ إيذَائِهِ لِلْعَبْدِ حَقُّ الْعَبْدِ لَكِنَّ السَّابِقَ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ هُوَ الْأَذَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْعَبْدِ فَقَطْ لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ (وَهَذَا مُجْمَلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا خَرَّجَهُ " دُنْيَا طط " عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا قِيلَ وَكَيْفَ؟» تَكُونُ أَشَدَّ «قَالَ الرَّجُلُ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوبُ عَنْهُ فَيَتُوبُ» أَيْ يَقْبَلُ «اللَّهُ عَلَيْهِ» تَوْبَتَهُ هَذَا إذَا كَانَ الزِّنَا طَوْعًا لَا كَرْهًا وَلَمْ تَكُنْ الْمُزَنِّيَةُ مَنْكُوحَةً أَوْ أَمَةً لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ عَارٌ لِأَحَدٍ وَإِلَّا فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ لِاخْتِلَاطِ حَقِّ الْعَبْدِ حِينَئِذٍ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ الِاسْتِحْلَالِ وَطَرِيقُهُ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ التَّعْمِيمِ عَلَى قَوْلِهِ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى بِأَنْ يَقُولَ إنِّي أَطْلُبُ مِنْك اسْتِحْلَالَ جَمِيعِ حُقُوقِك الْمُتَعَلِّقَةِ بِدَارِ الْآخِرَةِ إذْ لَوْ صَرَّحَ لَزِمَ الْوُقُوعُ فِي مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ «وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ» مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى «حَتَّى يَغْفِرَ» أَيْ يَتُوبَ وَيُحَلِّلَ «صَاحِبُهُ» يَشْكُلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فَتَأَمَّلْ تَصِلْ. (وَالثَّالِثُ إنْ لَمْ تَبْلُغْ الْغِيبَةُ)

الْمُغْتَابَ (فَيَكْفِيهِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَلِمَنْ اغْتَابَهُ) وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِحْلَالٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا قُدِّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ هُوَ الْأَذَى فَإِذَا انْتَفَى الْأَذَى فَيَلْزَمُ أَنْ تَنْتَفِيَ الْحُرْمَةُ إلَّا أَنْ يُمْنَعَ كَوْنُ الْعِلَّةِ ذَلِكَ أَوْ يُقَالُ يَكْفِي فِي الْعِلَّةِ الْجِنْسُ وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَقَدْ يُشْرَعُ الْحُكْمُ الْعَامُّ بِالْعِلَّةِ الْخَاصَّةِ كَالْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ لِلرُّخْصَةِ (دُنْيَا. عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ» إذَا لَمْ تَصِلَ إلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ أَيْضًا بِمَا إذَا تَعَذَّرَتْ مُرَاجَعَتُهُ وَاسْتِحْلَالُهُ وَإِلَّا تَعَيَّنَ كَمَا عَرَفْت فِي الْفَيْضِ عَنْ الْغَزَالِيِّ يَحْتَجُّ الْحَسَنُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كِفَايَةِ الِاسْتِغْفَارِ دُونَ الِاسْتِحْلَالِ وَلَوْ تَابَ قَبْلَ الْوُصُولِ ثُمَّ بَلَغَ لَا تَبْطُلُ التَّوْبَةُ بَلْ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمَا الْمُغْتَابِ بِالتَّوْبَةِ وَالْمُغْتَابِ مِنْهُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ. كَمَا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الشِّرْعَةِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ ثُمَّ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَوْضُوعٌ وَعَنْ عَبَسَةَ مَتْرُوكٌ وَعَنْ السُّيُوطِيّ ضَعِيفٌ وَعَنْ الْعِرَاقِيِّ أَيْضًا فِي تَخْرِيجِ الْإِحْيَاءِ ضَعِيفٌ (وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْأَصَحُّ الَّذِي اخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِحْلَالِ مُطْلَقًا) وَصَلْتَ أَوْ لَا هَذَا عَلَى قِيَاسِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ مَنْ سَرَقَ مَالَ أَحَدٍ يَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ بِالِاتِّفَاقِ مُطْلَقًا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ فَارِقٍ لِأَنَّ الْمَالَ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِخِلَافِ الْغِيبَةِ فَإِنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِالْغِيبَةِ لَمْ يَفُتْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ أَذًى أَصْلًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَقٌّ جِدًّا مَعَ أَنَّهُ عَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مَعَ الْمُخَالَفَةِ لِلثَّانِي مِنْهُمَا فَالْحَقُّ قَوْلُ الْفَقِيهِ إذْ حِينَئِذٍ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْوُصُولِ وَالثَّانِي عَلَى عَدَمِهِ. كَذَا ذَكَرَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي لَا يَخْفَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ لَيْسَ بِمَ قُبُولٍ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَحْكُمَ الْمَقَامَ بِمَسْأَلَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوْ تَرْجِيحِ النَّصِّ الْمُوَافِقِ لِلْقِيَاسِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ (وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا) يَحْتَاجُ إلَيْهِ (مُطْلَقًا بَلْ يَكْفِيهِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ) اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الثَّانِي لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يُعَارِضُهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذَا بَلْ الْقِيَاسُ أَيْضًا تَدَبَّرْ. وَعَنْ الْإِحْيَاءِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ وَالِاعْتِذَارِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ مَيِّتًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ وَالدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَسَبِيلُ الْمُعْتَذِرِ أَنْ يَبْلُغَ فِي الثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَالتَّوَدُّدِ وَيُلَازِمَ ذَلِكَ حَتَّى يَطِيبَ قَلْبُهُ فَإِنْ لَمْ يَطِبْ قَلْبُهُ كَانَ اعْتِذَارُهُ وَتَوَدُّدُهُ مَحْسُوبًا لَهُ يُقَابِلُ بِهِ سَيِّئَةَ الْغِيبَةِ فِي الْآخِرَةِ. (ثُمَّ أَعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ بِمَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ رَجُلٌ أَوْ بُهِتَ) عَلَيْهِ مِنْ الْبُهْتَانِ (أَنْ يَنْصُرَهُ أَوْ يَذُبَّ) أَيْ يَدْفَعَ (عَنْهُ) غِيبَتَهُ أَوْ بُهْتَانَهُ كَمَا قَالَ «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقِيلَ كَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قِيلَ تَدْفَعُ ظُلْمَهُ»

السابع من آفات اللسان النميمة

(دُنْيَا. عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِالْغَيْبِ» بِأَيِّ نُصْرَةٍ كَانَتْ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا نَحْنُ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا «نَصَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» جَزَاءً وِفَاقًا وَنُصْرَةُ الْمَظْلُومِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إنْ قَدَرَ كَمَا فِي الْجَامِعِ «مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى نَصْرِهِ مَفْسَدَةٌ أَشَدُّ مِنْ مَفْسَدَةِ التَّرْكِ فَلَوْ عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ سَقَطَ الْوُجُوبُ وَنُفِيَ أَصْلُ النَّدْبِ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فَلَوْ تَسَاوَتْ الْمَفْسَدَتَانِ خُيِّرَ وَشَرْطُ النَّاصِرِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِكَوْنِ الْفِعْلِ ظُلْمًا قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي التَّهْذِيبِ وَأَخْطَأَ مَنْ رَفَعَهُ (شَيْخٌ. عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ أَدْرَكَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» دُنْيَا. عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ حَمَى» حَفِظَ «عِرْضَ أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا» كَمَنْعِ مَنْ اغْتَابَهُ وَزَجْرِ مَنْ بَهَتَهُ وَبِهِ يَظْهَرُ مَحَلُّ الِاسْتِشْهَادِ لَكِنَّ تَمَامَهُ يَظْهَرُ بِحَمْلِ إضَافَةِ لَفْظِ عِرْضِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ كَإِضَافَةِ لَفْظِ أَخٍ وَهُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ الْعَهْدِ وَدَلِيلِ الْجِنْسِ «بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِيهِ مِنْ النَّارِ» لِحِفْظِهِ أَخَاهُ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا أَعْنِي الْوُقُوعَ فِي عِرْضِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى غَيُورٌ يَحْمِي مَنْ يَحْمِي عَبْدَهُ (شَيْخٌ. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَنْ ذَبَّ» أَيْ مَنَعَ «عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ» شَيْئًا عَلَى مُوجِبِ الْأُخُوَّةِ مِنْ النُّصْرَةِ وَالْقَهْرِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مَا اقْتَضَاهُ مَعْنَى الْأُخُوَّةِ مِنْ الْغَيْرَةِ «رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الظَّاهِرُ فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ صَغَائِرِهِ وَفِي الْجَامِعِ «مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقِيَهُ مِنْ النَّارِ» . قَالَ شَارِحُهُ وَفِي رِوَايَة أَنْ يُعْتِقَهُ زَادَ فِي رِوَايَةٍ - {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]- وَفِيهِ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ لَا يَخْرُجُ مِنْ إثْمِ الْغِيبَةِ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ بِلِسَانِهِ فَإِنْ خَافَ فَبِقَلْبِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أَوْ قَطْعِ الْكَلَامِ لَزِمَهُ وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ اُسْكُتْ وَهُوَ نِفَاقٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ وَلَا يَكْفِي الْإِشَارَةُ بِالْيَدِ أَنْ اُسْكُتْ أَوْ بِحَاجِبِهِ أَوْ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ احْتِقَارٌ لِلْمَذْكُورِ بَلْ يَنْبَغِي الذَّبُّ عَنْهُ صَرِيحًا كَمَا دَلَّتْ الْأَخْبَارُ انْتَهَى «وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» دَلِيلُ وُجُوبِ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْكِفَايَةِ « {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] » إنْ قَدَرَ عَلَى مَنْعِهِ (تَتِمَّةٌ) قَالَ فِي الْمِفْتَاحِ وَأَمَّا كَفَّارَةُ الْغِيبَةِ فَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ وَيَتُوبَ وَيَتَأَسَّفَ عَلَى فِعْلِهِ ثُمَّ يَسْتَحِلَّ الْمُغْتَابَ لِيُحِلَّهُ فَيَخْرُجَ عَنْ مَظْلِمَتِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّلَهُ وَهُوَ حَزِينٌ مُتَأَسِّفٌ نَادِمٌ عَلَى فِعْلِهِ وَأَمَّا الَّذِي يَسْتَحِلُّ بِلَا نَدَمٍ فَمُرَاءٍ وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى وَمَا قِيلَ: الْعِرْضُ لَا عِوَضَ لَهُ كَالْمَالِ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ كَلَامٌ ضَعِيفٌ إذْ وَجَبَ فِي الْعِرْضِ حَدُّ الْقَذْفِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِتَحْلِيلِ الْغِيبَةِ الْعَفْوُ عَنْ الْمَظْلِمَةِ لَا أَنْ يَنْقَلِبَ الْحَلَالُ حَرَامًا كَمَا ظُنَّ وَقِيلَ إنَّ التَّحْلِيلَ غَيْرُ مُمْكِنٍ. [السَّابِعُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ النَّمِيمَةُ] (السَّابِعُ) مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ (النَّمِيمَةُ وَهِيَ كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ وَإِفْشَاءُ السِّرِّ) أَيْ سِرُّ الْغَيْرِ سَوَاءٌ كَرِهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوْ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ أَوْ كَرِهَهُ ثَالِثٌ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ أَوْ الْكَتْبِ أَوْ الرَّمْزِ أَوْ الْإِيمَاءِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْقُولُ مِنْ الْأَقْوَالِ أَوْ الْأَعْمَالِ وَسَوَاءٌ كَانَ

عَيْبًا أَوْ نُقْصَانًا عَلَى الْمَنْقُولِ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَحَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ بَلْ كُلُّ مَا يَرَاهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ إلَّا مَا فِي حِكَايَتِهِ فَائِدَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفْعٌ لِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ كَانَ مَا يَنِمُّ بِهِ نُقْصَانًا أَوْ عَيْبًا فِي مَحْكِيٍّ عَنْهُ فَهُوَ غِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ مَعًا وَالْبَاعِثُ عَلَى النَّمِيمَةِ إمَّا إرَادَةُ السُّوءِ بِالْمَحْكِيِّ عَنْهُ أَوْ إظْهَارُ الْحُبِّ لِلْمَحْكِيِّ لَهُ أَوْ التَّفَرُّجُ بِالْحَدِيثِ وَالْخَوْضُ فِي الْفُضُولِ. وَأَمَّا الَّذِي نَمَّ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ سِتَّةُ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ لِأَنَّ النَّمَّامَ فَاسِقٌ وَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ وَيَنْصَحَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَبْغُضَهُ فِي اللَّهِ لِأَنَّهُ يَغِيض عِنْدَ اللَّهِ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَظُنَّ بِأَخِيهِ الْغَائِبِ سُوءًا. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَحْمِلَ كَلَامَهُ عَلَى الْبَحْثِ وَالتَّفَحُّصِ. السَّادِسُ: أَنْ لَا تَرْضَى لِنَفْسِك مَا نَهَيْتَ عَنْهُ النَّمَّامَ فَلَا تَحْكِي نَمِيمَتَهُ (وَفِي الْأَكْثَرِ تُطْلَقُ عَلَى نَقْلِ الْقَوْلِ الْمَكْرُوهِ إلَى الْمَقُولِ فِيهِ وَهِيَ حَرَامٌ) لِثُبُوتِهِ قَطْعًا بِمَا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ) لِلْمَقُولِ لَهُ (ضَرَرٌ فِيهِ) فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ (وَلَمْ يَعْلَمْهُ) أَيْ الْمَقُولُ فِيهِ الضَّرَرُ (وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ إلَّا بِالْإِعْلَامِ فَيَجِبُ) حِينَئِذٍ الْإِعْلَامُ (لِأَنَّهُ نُصْحٌ) وَاجِبٌ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} [القلم: 10] كَثِيرِ الْحَلِفِ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ {مَهِينٍ} [القلم: 10] حَقِيرِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ الْمَهَانَةِ وَهِيَ الْحَقَارَةُ {هَمَّازٍ} [القلم: 11] عَيَّابٍ طَعَّانٍ {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] نَقَّالٍ لِلْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِ السِّعَايَةِ وَالْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] مَنْ يَعِيبُ فِي الْغَيْبِ {لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] مَنْ يَعِيبُ فِي وَجْهِهِ. وَقِيلَ بِالْعَكْسِ وَالْهُمَزَةُ فِي الْأَصْلِ الْكَسْرُ وَاللَّمْزُ الطَّعْنُ فَشَاعَا فِي الْكَسْرِ مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ وَبِنَاءُ فِعْلِهِ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِيَادِ فَلَا يُقَالُ: ضُحَكَةٌ وَلُعَنَةٌ إلًّا لِلْمُكْثِرِ الْمُتَعَوِّدِ الظَّاهِرِ أَنَّ الْأُولَى لِلْمَعْنَى الثَّانِي وَالثَّانِيَةَ لِلْأَوَّلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ دَلَالَتَهُمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ إنَّمَا هِيَ بِانْضِمَامِ الْأَحَادِيثِ (خ م. عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» . إنْ اسْتَحَلَّ أَوْ مَعَ السَّابِقِينَ «قَتَّاتٌ» أَيْ نَمَّامٌ (وَفِي رِوَايَةٍ نَمَّامٌ) وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّمَّامَ مَنْ يَتَحَدَّثُ مَعَ الْقَوْمِ فَيَنِمُّ وَالْقَتَّاتَ مَنْ يَتَسَمَّعُ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَعَنْ بَعْضٍ عَمَلُ النَّمَّامِ أَضَرُّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ عَمَلَهُ بِالْوَسْوَسَةِ وَعَمَلَ النَّمَّامِ بِالْمُعَايَنَةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَشَى بَيْنَ اثْنَيْنِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ نَارًا تَحْرُقُهُ فِي قَبْرِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَعَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّمَّامِينَ يُحْشَرُونَ

الثامن السخرية والاستهزاء

يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ. وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ أَصَابَ بَنِي إسْرَائِيلَ قَحْطٌ فَخَرَجَ بِهِمْ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَسْتَسْقِيهِ فَقَالَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَهِي إنَّ عِبَادَك قَدْ خَرَجُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ تَسْتَجِبْ لَهُمْ دُعَاءَهُمْ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ أَنِّي لَا أَسْتَجِيبُ لَك وَلِمَنْ مَعَك لِأَنَّ فِيكُمْ رَجُلًا نَمَّامًا قَدْ أَصَرَّ عَلَى النَّمِيمَةِ فَقَالَ مُوسَى يَا رَبِّ مَنْ هُوَ حَتَّى نُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِنَا فَقَالَ يَا مُوسَى أَنْهَاكُمْ عَنْ النَّمِيمَةِ وَأَكُونُ نَمَّامًا فَتَابُوا بِأَجْمَعِهِمْ فَسُقُوا كَمَا نُقِلَ عَنْ التَّنْبِيهِ وَفِي الْجَامِعِ «النَّمِيمَةُ وَالشَّتِيمَةُ وَالْحَمِيَّةُ فِي النَّارِ لَا يَجْتَمِعْنَ فِي صَدْرِ مُؤْمِنٍ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ بِلَا مَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَإِلَّا فَيَجُوزُ بَلْ قَدْ يَجِبُ (حَكَّ. عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَعَى بِالنَّاسِ» بِالنَّمِيمَةِ «فَهُوَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ» هِيَ التَّوَالُدُ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ «أَوْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا» أَيْ مِنْ غَيْرِ الرِّشْدَةِ لِأَنَّ الْعَاقِلَ الرَّشِيدَ لَا يَتَسَبَّبُ إلَى عَطَبِ النَّاسِ بِلَا سَبَبٍ وَلِذَا قِيلَ النَّمِيمَةُ مِنْ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ تَدُلُّ عَلَى نَفْسٍ سَقِيمَةٍ وَطَبِيعَةٍ لَئِيمَةٍ مَشْغُوفَةٍ بِهَتْكِ الْأَسْتَارِ وَكَشْفِ الْأَسْرَارِ هَذَا لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ " مَنْ سَعَى بِالنَّاسِ " أَيْ وَشَى بِهِمْ إلَى سُلْطَانٍ جَائِرٍ لِيُؤْذِيَهُمْ إلَخْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ فِي غَرَضِ الْمَقَامِ بِشَيْءٍ عَلَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ لَفْظِ السَّعْيِ هُوَ هَذَا وَقَدْ قَالَ أَيْضًا الْحَدِيثُ مُنْكَرُ الرِّوَايَةِ وَقَالَ بَعْضٌ لَا أَصْلَ لَهُ. (شَيْخٌ. عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْهَمَّازُونَ» مَنْ يَعِيبُ فِي الْغَيْبِ «وَاللَّمَّازُونَ» مَنْ يَعِيبُ فِي الْوَجْهِ «وَالْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْبَاغُونَ» الطَّالِبُونَ «الْبُرَآءِ مِنْ الْعَيْبِ» أَيْ الْمُبَرَّئِينَ مِنْ الْعُيُوبِ «يَحْشُرُهُمْ اللَّهُ فِي وُجُوهِ الْكِلَابِ» إذْلَالًا وَإِهَانَةً لَهُمْ يَشْكُلُ عَلَى مِثْلِهِ أَنَّ تَبْدِيلَ الصُّورَةِ وَالْمَسْخَ مَرْفُوعٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالدُّنْيَا وَمَا فِي الْحَدِيثِ فِي الْآخِرَةِ وَعَنْ بَعْضِ الْأَشْرَارِ يَتْبَعُونَ مَسَاوِئَ النَّاسِ وَيَتْرُكُونَ مَحَاسِنَهُمْ كَمَا يَتْبَعُ الذُّبَابُ الْمَوَاضِعَ الْوَجِعَةَ مِنْ الْجَسَدِ وَيَتْرُكُ الصَّحِيحَةَ [الثَّامِنُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ] (الثَّامِنُ السُّخْرِيَةُ) وَالِاسْتِهْزَاءُ (وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِصْغَارَ وَالِاسْتِخْفَافَ) وَهِيَ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ بِالْمُحَاكَاةِ وَبِالْإِشَارَاتِ وَالْإِيمَاءِ (وَهِيَ

التاسع اللعن

حَرَامٌ) عَنْ الْإِحْيَاءِ هَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ فِي حَقِّ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَسْخَرَةً وَرُبَّمَا فَرِحَ بِأَنْ يُسْخَرَ مِنْهُ صِنَاعَةً وَلَعِبًا كَانَتْ السُّخْرِيَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمِزَاحِ وَقَدْ سَبَقَ مَا يُذَمُّ مِنْهُ وَمَا يُمْدَحُ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ اسْتِصْغَارٌ يَتَأَذَّى مِنْهُ الْمُسْتَهْزَأُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحْقِيرِ وَالتَّهَاوُنِ انْتَهَى ثُمَّ قِيلَ فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ يَحْتَاجُ إلَى التَّقْيِيدِ لَكِنَّ الْأَدِلَّةَ تُعِينُ الْمُصَنِّفَ تَدَبَّرْ انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّعْلِيلِ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي الْحُكْمُ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ الْخَاصَّةِ وَقَدْ يَكُونُ تَشْرِيعُ الْحُكْمِ بِالْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنْسٌ مُطْلَقًا لَا بِحَسَبِ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ وَأَنَّ تَقْيِيدَ إطْلَاقِ النَّصِّ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ لَيْسَ بِجَائِزٍ لَعَلَّ ذَلِكَ وَجْهُ التَّدَبُّرِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] أَيْ لَا يَسْخَرْ بَعْضٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنْ بَعْضٍ إذْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْمَسْخُورِ مِنْهُ خَيْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ السَّاخِرِ فَإِنَّ مَنَاطَ الْخَيْرِيَّةِ فِي الْفَرِيقَيْنِ لَيْسَ مَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَوْضَاعِ وَالْأَطْوَارِ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا أَمْرُ السُّخْرِيَةِ غَالِبًا بَلْ إنَّمَا هُوَ الْأُمُورُ الْكَائِنَةُ فِي الْقُلُوبِ فَلَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ عَلَى اسْتِحْقَارِ أَحَدٍ فَلَعَلَّهُ أَجْمَعُ مِنْهُ لِمَا نِيطَ بِهِ الْخَيْرِيَّةُ عِنْدَهُ تَعَالَى فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ بِتَحْقِيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللَّهُ وَالِاسْتِهَانَةِ بِمَنْ عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ التَّعْلِيلِ أَنَّ مَدَارَ النَّهْيِ هُوَ الْخَيْرِيَّةُ فَسُخْرِيَةُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ إذَا الْخَيْرِيَّةُ أَمْرُ غَيْبٍ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَالِاحْتِمَالُ مُؤَثِّرٌ فِي إثْبَاتِ الْحُرُمَاتِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمَظْنُونَاتِ الدَّاخِلَةَ تَحْتَ خَطَرٍ قَطْعِيٍّ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ تَجَنُّبُهَا (دُنْيَا. عَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) قِيلَ كَذَا فِي نُسْخَةٍ وَهُوَ السِّبْطُ وَفِي أُخْرَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ الْبَصْرِيُّ مُرْسَلًا (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالنَّاسِ يُفْتَحُ لِأَحَدِهِمْ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلُمَّ هَلُمَّ» أَيْ تَعَالَ تَعَالَ «فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ» لِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْخِزْيِ لَهُ وَلِاقْتِضَاءِ الرُّجُوعِ عَنْ بَابِ الْجَنَّةِ « (فَإِذَا جَاءَ أُغْلِقَ الْبَابُ دُونَهُ فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ) » زِيَادَةً فِي هَوَانِهِ فَلَعَلَّهُ يُكَرِّرُ الِاسْتِهْزَاءَ فِي الدُّنْيَا كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ إنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالنَّاسِ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا «حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيُفْتَحُ لَهُ الْبَابُ فَيُقَالُ لَهُ هَلُمَّ هَلُمَّ فَمَا يَأْتِيهِ» لِحُصُولِ الْيَأْسِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا اسْتِهْزَاءٌ فَإِذَا كَانَ حَرَامًا فَكَيْفَ يُعَذَّبُ بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ قُلْنَا لَيْسَ هَذَا بِدَارِ التَّكْلِيفِ وَيَجُوزُ كَوْنُ حُرْمَتِهِ مُخْتَصَّةٌ بِالدُّنْيَا وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَقْبَلُ النَّسْخَ فَافْهَمْ. ثُمَّ أَقُولُ هَذَا إنْ لَمْ يَتُبْ وَلَمْ يَلِقْ بِهِ مَشِيئَةُ الْغُفْرَانِ وَشَفَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِينَ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُهَا وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا إلَّا أَنْ يَسْتَحِلَّهَا فَفِيهِ أَيْضًا كَلَامٌ [التَّاسِعُ اللَّعْنُ] (التَّاسِعُ اللَّعْنُ) (وَهُوَ) لُغَةً الطَّرْدُ مُطْلَقًا وَشَرْعًا (الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) بِالدُّعَاءِ

(فَلَا يَجُوزُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِطَرِيقِ الْجَزْمِ) احْتِرَازٌ عَنْ لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ وَقَوْلِك لِلْكَافِرِ وَالْمُبْتَدِعِ لَعَنَهُ اللَّهُ إنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَالِابْتِدَاعِ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ لَا بِطَرِيقِ الْجَزْمِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّعْلِيقِ وَأَمَّا إذَا لَعَنَ بِطَرِيقِ الظَّنِّ لَا بِطَرِيقِ الْقَطْعِ فَلَعَلَّهُ كَذَلِكَ وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا» . «وَلَعَنَ اللَّهُ الرِّبَا وَآكِلَهُ وَمُوكِلَهُ» «وَلَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ» . «وَلَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ» . «وَلَعَنَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَاشِرَةَ وَالْمُقَشَّرَةَ» . «وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» . «وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . «وَلَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ» . «وَلَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» . «لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» . «وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي» «وَلَعَنَ اللَّهُ عَبْدَ الدِّينَارِ» . «وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا» الْأَحَادِيثَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فَلَيْسَ بِطَرِيقِ الشَّخْصِ بَلْ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ أَكْثَرَهَا مُسَوَّرَاتٌ كُلِّيَّةٌ فَبِضَمِّ صُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ يَنْتِجُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ بَدِيهِيُّ الْإِنْتَاجِ شَخْصِيَّاتٌ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا صُرِّحَ بِعَيْنِهِ وَبَيْنَ مَا لَزِمَ وَلَعَلَّك سَمِعْت جِنْسَ مَا ذُكِرَ تَأَمَّلْ (إلَّا أَنْ يَثْبُتَ مَوْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ كَأَبِي جَهْلٍ) وَإِبْلِيسَ وَأَبِي لَهَبٍ وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَذَا فِي التَّحْقِيقِ بِنَاءً عَلَى النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] وَ {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88]- الْآيَةَ {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 98] {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 60]- الْآيَةَ وَنَحْوَهَا وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَلَى إيمَانِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] بِمَعْنَى مَا عَصَيْت يَا فِرْعَوْنُ الْآنَ عَلَى طَرِيقِ تَسْلِيطِ النَّفْيِ الْمَفْهُومِ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى الْقَيْدِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَتَبِعَهُ الدَّوَانِيُّ وَأَوْضَحَهُ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَأَيْضًا تَبِعَهُ الْجَامِيُّ فِي شَرْحِ الْفُصُوصِ بِأَنَّ إيمَانَهُ لَيْسَ إيمَانَ يَأْسٍ بَلْ بِرُؤْيَةِ مُعْجِزَةِ مُوسَى حَيْثُ رَأَى حَالَ الْبَحْرِ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ مَعَهُ فَحَصَلَ الْعِلْمُ بِنُبُوَّتِهِ وَآمَنَ فَقَدْ رَدَّهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْكَمَالِ بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِأَجْوِبَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ ثُمَّ قَالَ هَذِهِ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ إيمَانِ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ إمَّا مُحْكَمَاتٌ أَوْ مُفَسَّرَاتٌ فَيُكَفَّرُ الْمُنْكِرُ بِمُوجِبِهَا وَإِمَّا نُصُوصٌ أَوْ ظَوَاهِرُ فَيُضَلَّلُ مُنْكِرُهَا وَيُنْسَبُ إلَى الْبِدْعَةِ ثُمَّ قَالَ وَالتَّوَقُّفُ فِي أَمْرِ فِرْعَوْنَ كَبَعْضِ الْمُتَمَشْيِخَةِ

مَعَ كَوْنِهِ إحْدَاثَ قَوْلٍ جَدِيدٍ فِي الدِّينِ لَا يَصِحُّ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ فِي الْقُوَّةِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَأَمَّا يَزِيدُ وَالْحَجَّاجُ وَأَعْوَانُهُمَا فَعَنْ فَتَاوَى الْكَرْدَرِيِّ اللَّعْنُ عَلَى يَزِيدَ يَجُوزُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْعَلَ وَعَنْ الْإِمَامِ الصَّفَّارِ لَا بَأْسَ بِاللَّعْنِ عَلَى يَزِيدَ وَلَا يَجُوزُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَكَذَا عَنْ أَحْمَدَ وَكَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ تَجْوِيزُهُ عَلَى يَزِيدَ وَكَذَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ لِلِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ظُلْمًا أَخَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وَيَزِيدُ غَزَا الْمَدِينَةَ وَأَخَافَ أَهْلَهَا حَتَّى قِيلَ فَضَّ ثَلَاثَمِائَةِ بَكْرٍ سِوَى سَائِرِ إفْسَادَاتِهِ فِي جَيْشِهِ مِنْ قَتْلِ الْأَصْحَابِ وَسَبْعِمِائَةِ نَفْسٍ مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَإِبَاحَةِ الْمَدِينَةِ أَيَّامًا إلَى أَنْ بَطَلَتْ الْجَمَاعَةُ وَدَخَلَتْ الْكِلَابُ وَبَالَتْ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَيْضًا سَمِعْتَ سَابِقًا غَيْرَ مَا ذُكِرَ كَمَا مَرَّ عَنْ الْخُلَاصَةِ مِنْ جَوَازِ اللَّعْنِ عَلَيْهِ. وَعَنْ التَّفْتَازَانِيِّ وَعِنْدَ آخَرِينَ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ وَعَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ لِجَوَازِ تَوْبَتِهِ وَإِيمَانِهِ فِي الْخَاتِمَةِ وَأَمَّا نَفْسُ قَاتِلِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمَنْ أَجَازَهُ أَوْ رَضِيَ بِهِ فَيَجُوزُ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّوَاعِقِ الْمُحْرِقَةِ وَبِالْجُمْلَةِ الْأَكْثَرُ وَالْمُخْتَارُ عَلَى عَدَمِ لَعْنِهِ كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ (وَلَا) يَجُوزُ (لِحَيَوَانٍ وَلَا جَمَادٍ أَيْضًا وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهْيِ عَنْ لَعْنِ الرِّيحِ وَالْبُرْغُوثِ» كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَلْعَنْهَا أَيْ الرِّيحَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ مُسَخَّرَةٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعْت عَلَيْهِ» وَعَنْ الْبَيْهَقِيّ وَالتِّرْمِذِيِّ «لَا تَلْعَنْهُ» أَيْ الْبُرْغُوثَ «فَإِنَّهُ نَبَّهَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ» وَعَنْ الْبُخَارِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَسُبَّهُ أَيْ الْبُرْغُوثَ فَإِنَّهُ أَيْقَظَ نَبِيًّا لِصَلَاةِ الْفَجْرِ» كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ عَلِيٍّ الْقَارِيّ (وَإِنَّمَا يَجُوزُ اللَّعْنُ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ الْمَذْمُومِ) كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَكَلَعْنَةِ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَالْكَافِرِينَ (إذْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَعَنَ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى) كَأَنْ يَقُولَ بِاسْمِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ بِاسْمِ مُحَمَّدٍ. وَعَنْ قَاضِي خَانْ وَلَوْ ذَكَرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ غَيْرَهُ إنْ بِالْعَطْفِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بِاسْمِ اللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ يَحْرُمُ وَإِنْ بِغَيْرِ عَطْفٍ يُكْرَهُ (وَ) لَعَنَ (مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ) بِالتَّصْرِيحِ أَوْ بِالتَّسَبُّبِ كَمَا فُهِمَ عَنْ الْفَيْضِ

(وَمَنْ آوَى مُحْدِثًا) أَيْ ضَمَّ إلَيْهِ مَنْ أَحْدَثَ فِعْلًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ مِثْلَ السَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ قِيلَ إنْ بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ جَانِيًا بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ وَيَمْنَعَهُ الْقَوَدَ وَإِنْ بِفَتْحِهَا وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُبْتَدَعُ وَالْإِيوَاءُ التَّقْرِيرُ وَالرِّضَا (وَمِنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ) عَلَامَتَهَا وَحُدُودَهَا الْوَاقِعَةَ بَيْنَ حَدَّيْنِ لِلْجَارَيْنِ وَقَالَ بَعْضٌ الْمُرَادُ مِنْ غَيَّرَ أَعْلَامَ الطَّرِيقِ لِيُتْعِبَ النَّاسَ وَمَنَعَهُمْ عَنْ الْجَادَّةِ فِي الْجَامِعِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنَّفِ أَنْ يَذْكُرَهُ عَلَى تَرْتِيبِ الْحَدِيثِ (وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِّلَهُ) أَيْ مُعْطِيَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ (وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ وَالْوَاشِمَةَ) وَهِيَ الَّتِي جَعَلَتْ فِي أَعْضَائِهَا أَوْ أَعْضَاءِ غَيْرِهَا زَرْقَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ بِنَحْوِ الْإِبْرَةِ (وَالْمُسْتَوْشِمَةَ) هِيَ الَّتِي فُعِلَ بِهَا الْوَشْمُ كَمَا فِي الْجَامِعِ «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ» فَالْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ لَعَنَ عَلَى قَوْلِهِ وَالْوَاشِمَةَ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ الْوَشْمُ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ لِتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَإِبْطَالِ حِكْمَتِهِ تَعَالَى فَجَدِيرٌ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ (وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ) الْمَفْرُوضَةِ. (وَالْمُحَلِّلَ) مَنْ يُثْبِتُ الْحِلَّ وَهُوَ الزَّوْجُ الثَّانِي (وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْحِلُّ وَهُوَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ قِيلَ هَذَا إنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ بِالطَّلَاقِ وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ عِنْدَنَا وَلَا لَعْنَ بَلْ قَدْ يُؤْجَرُ وَفِي جَوَازِ النِّكَاحِ عِنْدَ الِاشْتِرَاطِ رِوَايَتَانِ وَتَجْوِيزُ الْحِيلَةِ بِنَحْوِ أَنْ يُجْعَلَ أَمْرُ الطَّلَاقِ بِيَدِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَوْ الزَّوْجَةِ وَالْمُوجِبُ مِنْ جَانِبِهَا فَصَّلْنَاهُ فِي حَاشِيَةِ الدُّرَرِ وَحَدِيثُهُ تَقَدَّمَ أَيْضًا وَاللَّعْنُ لِهَتْكِ الْمُرُوءَةِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى خِسَّةِ النَّفْسِ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِ الْعَقْدِ فَاسِدًا أَوْ أَنَّ هَذَا عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ وَإِلَّا فَإِنْ شَرْطَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ بَطَلَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي كَذَا فِي الْفَيْضِ فَافْهَمْ. (وَالْمُخْتَفِيَ وَالْمُخْتَفِيَةَ) النَّبَّاشُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (وَمِنْ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ) إنْ نُقْصَانًا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَإِنْ مِنْ جِهَةِ الدُّنْيَا فَلَا لَعْنَ وَلَا كَرَاهَةَ (وَامْرَأَةٌ زَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ) فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ وَإِلَّا فَلَا بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا عَدَمُهُ إذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (وَرَجُلًا سَمِعَ الْأَذَانَ وَلَمْ يُجِبْ) بِالْقَوْلِ فِي قَوْلٍ وَبِالْفِعْلِ فِي آخَرَ وَهُوَ الْأَقْوَى دِرَايَةً وَالْأَوْلَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَالْأَوَّلُ لِصَاحِبِ التُّحْفَةِ وَالْبَدَائِعِ وَالثَّانِي لِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَقَاضِي خَانْ (وَالرَّاشِيَ) إنْ لِنَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ كَالْقَضَاءِ وَالتَّدْرِيسِ وَالْوِصَايَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَإِنْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ لِأَخْذِ حَقٍّ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِدُونِ رِشْوَةٍ فَلَا لَعْنَ وَمِنْهَا مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ إذَا كَانَ بِالسُّؤَالِ أَوْ إعْطَاءُ الزَّوْجِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ عَدَمَ رِضَاهُ عَلَى

تَقْدِيرِ عَدَمِهِ وَأَمَّا إنْ بِلَا سُؤَالٍ وَلَا ظَنِّ عَدَمِ رِضَاهُ فَهَدِيَّةٌ جَائِزَةٌ (وَالْمُرْتَشِيَ) مَنْ يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ (وَعَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَحَامِلَهَا) إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْإِرَاقَةِ (وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا أَوْ مُبْتَاعَهَا وَوَاهِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا) أَيْ مُتَنَاوِلَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَخَصَّ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ وَالْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَكَذَا «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الطِّيبِيِّ وَمَنْ بَاعَ الْعِنَبَ مِنْ الْعَاصِرِ فَأَخَذَ ثَمَنَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِاللَّعْنِ، التَّرْتِيبُ مِنْ جِهَةِ الْوُجُودِ: الْمُعْتَصِرُ فَالْعَاصِرُ فَالْبَائِعُ فَآكِلُ الثَّمَنِ فَالْمُشْتَرِي فَالْحَامِلُ فَالْمَحْمُولُ إلَيْهِ فَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ فَالسَّاقِي فَالشَّارِبُ وَأَمَّا التَّرْتِيبُ فِي كَثْرَةِ الْإِثْمِ فَالشَّارِبُ فَالْآكِلُ لِثَمَنِهَا فَالْبَائِعُ فَالسَّاقِي وَجَمِيعُهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الدَّرَكَاتِ فِي الْإِثْمِ وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْكُلُّ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَفِيهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ الْمُسْكِرِ وَبَيْعُ الْحَشِيشَةِ لِمَنْ يَسْكَرُ بِهَا وَيُعَزَّرُ بَائِعُهَا وَآكِلُهَا لِلسُّكْرِ (وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَصْدُرَ اللَّعْنُ عَنْ الْمُؤْمِنِ) لِشَيْءٍ مُطْلَقًا لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذِكْرِ اللَّهِ أَهَمُّ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَفِي السُّكُونِ السَّلَامَةُ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ عَلَيْنَا لَعْنَ أَحَدٍ وَلَوْ إبْلِيسَ فَفِيهِ عِبْرَةٌ لِمَنْ اعْتَبَرَ) مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ وَوَعْظٌ لِمَنْ اتَّعَظَ فَلَيْسَ فِي تَرْكِ اللَّعْنِ حَظْرٌ وَلَوْ لِإِبْلِيسَ وَأَمَّا لَعْنُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقِيلَ إنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَا لَا يَعْلَمُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ لَعْنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُعَاءٌ لِأُمَّتِهِ فَتَأَمَّلْ وَفِي حِلْيَةِ الْأَبْرَارِ لِلنَّوَوِيِّ وَيَقْرَبُ مِنْ اللَّعْنِ الدُّعَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالشَّرِّ حَتَّى الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ كَقَوْلِهِ لِإِنْسَانٍ: لَا أَصَحَّ اللَّهُ جِسْمَهُ وَلَا سَلَّمَهُ اللَّهُ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ كُلُّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ انْتَهَى (خ م. عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» فِي الْإِثْمِ وَالْجَرِيمَةِ وَلَا يَلْزَمُ الْمُسَاوَاةُ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ أَقْوَى فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ (ت. عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمُؤْمِنُ لَيْسَ بِطَعَّانٍ» كَثِيرِ الطَّعْنِ فِي الْأَنْسَابِ كَمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ «وَلَا لَعَّانٍ وَلَا فَاحِشٍ» مُتَكَلِّمٍ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ «وَلَا بَذِيءٍ» مَنْ لَيْسَ لَهُ حَيَاءٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَكِنْ يُشْعِرُ نَفْيَ أَصْلِ الْإِيمَانِ لِلُزُومِ كَمَالِ الْمُجَانَبَةِ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤْمِنٌ مُنَافَاةُ ذَلِكَ (م. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَمَنْ كَثُرَ لَعْنُهُ يُحْرَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رُتْبَةِ

العاشر السب

الشَّهَادَةِ لِلرُّسُلِ عَلَى أُمَمِهِمْ بِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ وَمِنْ الشَّفَاعَةِ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ وَأَيْضًا لَا يُقْبَلُ فِي الدُّنْيَا قَالَ فِي التتارخانية لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّتَّامِ (د. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا لَعَنَ الْعَبْدُ شَيْئًا» وَلَوْ حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا «صَعِدَتْ اللَّعْنَةُ إلَى السَّمَاءِ» فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَ اللَّعْنَةَ عَلَى صُورَةِ شَيْءٍ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الصُّعُودُ فَإِنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا مَا لَمْ يَصْرِفْهَا قَطْعِيٌّ «فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا» لِقُبْحِهَا «ثُمَّ تَهْبِطُ» أَيْ تَنْزِلُ «إلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا فَتَأْخُذُ» تَتَرَدَّدُ «يَمِينًا وَشِمَالًا» مِنْ الْهَوَاءِ «فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا» مَرْجِعًا وَمَذْهَبًا وَمَدْخَلًا «رَجَعَتْ» اللَّعْنَةُ «إلَى الَّذِي لُعِنَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ إلَى الْمَلْعُونِ «إنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا» بِالظُّلْمِ وَالْغِوَايَةِ وَتَجَاوُزِ الْحَدِّ «وَإِلَّا رَجَعَتْ إلَى قَائِلِهَا» فَلَعَلَّ حَاصِلَهُ أَنَّ دُعَاءَ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكَارِهِ كَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ اسْتَحَقَّ الْمَدْعُوُّ عَلَيْهِ أَصَابَهُ فَيُسْتَجَابُ فِي حَقِّهِ وَإِلَّا فَيُسْتَجَابُ فِي حَقِّ الدَّاعِي فَيُصِيبُهُ فَيَلْزَمُهُ أَنَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الدُّعَاءَ شَرْعًا لَا يَضُرُّهُ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَضُرُّ الدَّاعِيَ لَكِنَّ ظَاهِرَ بَعْضِ الْآثَارِ بَلْ النُّصُوصِ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَجَابُ كَقِصَّةِ بَلْعَمَ فِي حَقِّ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ لَيْسَتْ بِكُلِّيَّةٍ بَلْ فِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِيَّةٌ (وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُلْعَنَ بِشَيْءٍ وَلَوْ أَهْلَهَا) لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ عَلَيْهِ بِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ شُمُولُهُ عَلَى مَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَقَدْ سَمِعْت كَثْرَةَ وُرُودِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] الْآيَةُ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ جَوَازَ الدُّعَاءِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ بَلْ اسْتِحْبَابَهُ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِمَا وَقَعَ بِلَفْظِ اللَّعْنِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا بِإِرَادَةِ مَعْنًى آخَرَ [الْعَاشِرُ السَّبُّ] (الْعَاشِرُ السَّبُّ) أَيْ الشَّتْمُ (خ م. عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا» أَيْ رَجَعَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ «أَحَدُهُمَا» مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ «فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ» فَقَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ «وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ» قِيلَ ذَهَبَ بَعْضٌ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ إلَى كُفْرِ مَنْ قَالَ لِلْمُسْلِمِ يَا كَافِرُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يَأْثَمُ وَيَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ أَقُولُ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ مُرَادُ عَدَمِ الْكُفْرِ بِمَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ الشَّتْمِ وَمُرَادُ الْكُفْرِ بِمَا يَكُونُ رِضَا كُفْرِهِ وَاعْتِقَادُ كُفْرِهِ لِمَا فِي نَحْوِ الْبَزَّازِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الشَّتْمَ وَلَا يَعْتَقِدُهُ كَافِرًا لَا يَكْفُرُ وَإِنْ اعْتَقَدَهُ كَافِرًا يَكْفُرُ وَنَاسَبَهُ مَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ إنْ قَالَهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ لَا يَكْفُرُ وَإِنْ فِي حَالِ رِضَاهُ يَكْفُرُ وَبِهِ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ أَيْضًا بَيْنَ مَا نُقِلَ عَنْ أَئِمَّةِ بَلْخٍ لَا يَكْفُرُ وَعَنْ بَعْضٍ يَكْفُرُ وَفِي الْخُلَاصَةِ إنْ قَالَ لِغَيْرِهِ، أَيْ مغ أَوْ تُرْسًا أَوْ جُحُودًا لَا يَكْفُرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ

(خ م. عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سِبَابُ» بِكَسْرِ السِّينِ «الْمُسْلِمِ» أَيْ سَبُّهُ «فُسُوقٌ» لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى «وَقِتَالُهُ» أَيْ مُحَارَبَتُهُ «كُفْرٌ» إنْ مُسْتَحِلًّا أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالتَّشْدِيدِ أَوْ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ مِنْ الْمُؤْمِنِ أَوْ كُفْرَانُ نِعْمَةٍ وَفِي الْحَدِيثِ سِبَابُ الْمُؤْمِنِ كَالْمُشْرِفِ عَلَى الْمَهْلَكَةِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ يَكَادُ أَنْ يَقَعَ فِي الْهَلَاكِ الْأُخْرَوِيِّ (م. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمُسْتَبَّانِ» اللَّذَانِ يَسُبُّ كُلٌّ مِنْهَا الْآخَرَ «مَا قَالَا» أَيْ إثْمُ مَا قَالَاهُ «فَعَلَى الْأَوَّلِ» أَيْ الْبَادِئِ مِنْهَا (وَفِي رِوَايَةٍ «فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا» لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لَهُ «حَتَّى يَعْتَدِيَ الْمَظْلُومُ» أَيْ يَتَعَدَّى الْحَدَّ فِي السَّبِّ فَيَعُمُّهُمَا عَلَى قَدْرِ اعْتِدَائِهِ فَإِنَّ مَنْ اعْتَدَى عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّمَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بِمِثْلِ اعْتِدَائِهِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ جَوَازُ الْمُقَابَلَةِ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ شَتْمُ الْمُقَابِلِ شَتْمَ الْبَادِئِ وَقَدْ وَقَعَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ عَنْ الْقُنْيَةِ فَإِنْ تَشَاتَمَا يَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ عَلَيْهِمَا وَعَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ الْأَوْلَى لِلْإِنْسَانِ فِيمَا إذَا قِيلَ لَهُ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ أَنْ لَا يُجِيبَهُ قَالُوا لَوْ قَالَ لَهُ يَا خَبِيثُ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ أَيْضًا لَوْ أَجَابَ فَقَالَ لَهُ لَا بَلْ أَنْتَ لَا بَأْسَ وَأَيْضًا فِي الْمِنَحِ إنْ قَالَ لِغَيْرِهِ يَا خَبِيثُ فَجَازَاهُ بِمِثْلِهِ جَازَ لِأَنَّهُ انْتِصَارٌ بَعْدَ الظُّلْمِ وَذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَإِنْ كَانَتْ الْكَلِمَةُ مُوجِبَةً لِلْحَدِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَهُ بِمِثْلِهَا تَحَرُّزًا عَنْ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ قَالَ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ فَقَالَ بَلْ أَنْتَ فَتَكَافَآ لَا يُعَزَّرَانِ فَمَا فِي الْقُنْيَةِ إمَّا مَحْمُولٌ عَلَى الِاعْتِدَاءِ أَوْ عَلَى مَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَكِنْ قَوْلُهُ فَتَكَافَآ يُفْهَمُ مِنْهُ سُقُوطُ الْإِثْمِ عَنْ الْبَادِئِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ تَأَمَّلْ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الْإِثْمِ عَلَى الْبَادِئِ فَقَطْ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ (فِي نَحْوِ يَا جَاهِلُ وَيَا أَحْمَقُ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ الْمُقَابَلَةُ) لَعَلَّهُ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّعْزِيرُ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ آنِفًا (وَأَمَّا فِي نَحْوِ يَا زَانٍ وَيَا لُوطِيُّ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ الْمُقَابَلَةُ) مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ كَمَا مَرَّ (فَكِلَاهُمَا آثِمٌ وَإِنْ كَانَ إثْمُ الْمُبْتَدِئِ أَكْثَرَ) لِلتَّسَبُّبِ وَالْمُبَاشَرَةِ لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ هُوَ الشُّمُولُ كَمَا ذُكِرَ مِنْ الْآيَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَ بِنَصٍّ آخَرَ فَيَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ قَالَ فِي الْفَتَاوَى إنْ قَالَ لِآخَرَ يَا زَانٍ فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتَ يُحَدَّانِ (فَعَلَى الثَّانِي حِينَئِذٍ إمَّا الصَّبْرُ مَعَ الْعَفْوِ) وَهُوَ الْأَفْضَلُ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى زِيَادَةِ فَسَادِ الْأَوَّلِ وَإِفْضَاءِ غُلُوِّهِ كَمَا مَرَّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا» (أَوْ الدَّعْوَةُ إلَى الْقَاضِي) فَيَدَّعِي مُوجِبَهُ وَيَجْزِيهِ تَأْدِيبًا وَتَشَفِّيًا (أَوْ الْمُقَابَلَةُ بِنَحْوِ يَا جَاهِلُ) مِنْ جِنْسِ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْمُقَابَلَةُ فَحِينَئِذٍ يَسْتَوْفِي ظِلَامَتَهُ وَبَرِئَ الْأَوَّلُ مِنْ حَقِّهِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ إثْمُ الِابْتِدَاءِ أَوْ الْإِثْمُ الْمُسْتَحَقُّ لَهُ تَعَالَى وَقِيلَ يَرْتَفِعُ عَنْهُ جَمِيعُ الْإِثْمِ بِالِانْتِصَارِ مِنْهُ وَيَكُونُ مَعْنَى فَعَلَى الثَّانِي عَلَيْهِ اللَّوْمُ وَالذَّمُّ مِمَّا قَالَاهُ (وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ) عَنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» كَانَ

عَادَتُهُمْ سَبَّ الدَّهْرِ عِنْدَ نُزُولِ الْحَوَادِثِ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ تِلْكَ مِنْ الدَّهْرِ فَكَانَ هَذَا اللَّعْنُ كَاللَّعْنِ لِلْفَاعِلِ وَلَا فَاعِلَ لِكُلِّ شَيْءٍ إلَّا اللَّهُ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأَيْضًا عَنْ الصَّحِيحَيْنِ «وَلَا تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» أَيْ مُقَلِّبُهُ وَمُصَرِّفُهُ أَوْ بِمَعْنَى الدَّهْرِ قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ بَعْضٍ إنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْأَزَلِيِّ الْأَبَدِيِّ (وَ) سَبُّ (الدِّيكِ) فِي الْجَامِعِ «لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ فَإِنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلَاةِ» بِصِيَاحِهِ فِي اللَّيْل فَيَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ لِإِعَانَتِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ» . قَالَ فِي الْفَيْضِ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ «لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ فَإِنَّهُ صَدِيقِي وَأَنَا صَدِيقُهُ وَعَدُوُّهُ عَدُوِّي وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ يَعْلَمُ بَنُو آدَمَ مَا فِي صَوْتِهِ لَاشْتَرَوْا لَحْمَهُ وَرِيشَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنَّهُ لَيَطْرُدُ مَدَى صَوْتِهِ مِنْ الْجِنِّ» انْتَهَى فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ اُسْتُفِيدَ مِنْهُ خَيْرٌ لَا يُسَبُّ وَلَا يُسْتَهَانُ بَلْ حَقُّهُ الْإِكْرَامُ وَالشُّكْرُ وَالْإِحْسَانُ، وَفِيهِ أَيْضًا الدِّيكُ يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ «مَنْ اتَّخَذَ دِيكًا أَبْيَضَ حُفِظَ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْطَانٍ وَسَاحِرٍ وَكَاهِنٍ» قَالَ الْحَافِظُ زَعَمَ أَهْلُ التَّجْرِبَةِ أَنَّ ذَابِحَ الدِّيكِ الْأَفْرَقِ لَمْ يَزَلْ يَنْكَبُّ مِنْ مَالِهِ وَعَنْ الدَّرَارِيِّ يُتَعَلَّمُ مِنْهُ خَمْسٌ حُسْنُ الصَّوْتِ وَقِيَامُ السَّحَرِ وَالْغَيْرَةُ وَالسَّخَاءُ وَكَثْرَةُ الْجِمَاعِ وَلِلدِّيكِ مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ اللَّيْلِيِّ وَمِنْ ثَمَّةَ أَفْتَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِاعْتِمَادِ الدِّيكِ الْمُجَرَّبِ فِي الْوَقْتِ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَفِيهِ أَيْضًا فِي مَحَلٍّ آخَرَ فَعَادَةُ الدِّيكِ الصِّيَاحُ عِنْدَ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ غَالِبًا فَمَنْ جَرَّبَ مِنْهُ مَا لَا يَخْلُفُهُ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ بِصُرَاخِهِ وَإِلَّا فَلَا وَفِيهِ أَيْضًا «الدِّيكُ الْأَبْيَضُ صَدِيقِي» لِقُرْبِ صَوْتِهِ إلَى الذَّاكِرِ وَلِحِفْظِهِ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ وَإِيقَاظِهِ إلَيْهَا وَإِعَانَتِهِ إلَى الرَّحْمَةِ وَفِيهِ أَيْضًا «الدِّيكُ الْأَبْيَضُ صَدِيقِي وَصَدِيقُ صَدِيقِي» وَلَهُ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى غَالِبًا وَفِيهِ أَيْضًا «الدِّيكُ الْأَبْيَضُ الْأَفْرَقُ حَبِيبِي وَحَبِيبُ حَبِيبِي جِبْرِيلُ وَيَحْرُسُ بَيْتَهُ وَسِتَّةَ عَشَرَ بَيْتًا مِنْ جِيرَانِهِ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ «وَكَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُبَيِّتُهُ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ» وَفِي رِوَايَةٍ «يَحْرُسُ دَارَ صَاحِبِهِ وَتِسْعَ دُورٍ حَوْلَهَا» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَفْرَدَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ أَخْبَارَ الدِّيكِ بِتَأْلِيفٍ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُجَرِّبِينَ إنَّهُ مَا ذُبِحَ فِي دَارٍ إلَّا وَأَصَابَ أَهْلَهُ نَكْبَةٌ لَكِنْ قَالَ فِي الْمُنَاوِيُّ إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي الدِّيكِ بَعْضُهَا مُنْكَرٌ وَبَعْضُهَا قِيلَ سَنَدُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَبَعْضُهَا قِيلَ مَوْضُوعٌ وَبَعْضُهَا مَتْرُوكٌ وَضَعِيفٌ حَتَّى قَالَ السَّخَاوِيُّ أَخْبَارُ الدِّيَكَةِ كُلُّهَا فِيهَا رَكَاكَةٌ وَلَا رَوْنَقَ انْتَهَى لَكِنْ قِيلَ الضَّعِيفُ يَتَقَوَّى بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ وَعَنْ عَلِيٍّ الْقَارِيّ كُلُّ أَحَادِيثِ الدِّيكِ كَذِبٌ إلَّا حَدِيثَ «إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيكِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا» وَفِي الْحِصْنِ الْحَصِينِ الدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ صِيَاحِ الدِّيكِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ شَرَفٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ (وَالْأَمْوَاتُ) فِي الْجَامِعِ أَيْضًا «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ سَبَّ الْكُفَّارِ قُرْبَةٌ «فَإِنَّهُمْ أَفْضَوْا إلَى مَا قَدَّمُوا» وَفِي رِوَايَةٍ «فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ مِنْ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ أُخِذَ مِنْهُ جَمْعُ حُرْمَةِ ذِكْرِ أَبَوَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

الحادي عشر الفحش

بِمَا فِيهِ نَقْصٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ وَأَذَاهُ كُفْرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا وَقَدْ أَطْنَبَ الْمُصَنِّف فِي الِاسْتِدْلَالِ لِعَدَمِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا بِكُفْرٍ انْتَهَى لَعَلَّهُ يُرِيدُ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً لِلسُّيُوطِيِّ فِي حَقِّ إسْلَامِ أَبَوَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطُرُقٍ ثَلَاثَةٍ لَعَلَّك سَمِعْتهَا فِيمَا قِيلَ وَأَيْضًا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الرِّيحِ بِحَدِيثِ «لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» بَلْ عَنْ سَبِّ الشَّيْطَانِ بِحَدِيثِ «لَا تَسُبُّوا الشَّيْطَانَ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَإِنَّ السَّبَّ لَا يَدْفَعُ عَنْكُمْ ضَرَرَهُ وَلَا يُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ عَدَاوَتِهِ شَيْئًا [الْحَادِي عَشَرَ الْفُحْشُ] (الْحَادِيَ عَشَرَ) (الْفُحْشُ وَهُوَ التَّعْبِيرُ عَنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَحَةِ بِالْعِبَارَةِ الصَّرِيحَةِ وَيَجْرِي) أَكْثَرُ (ذَلِكَ فِي أَلْفَاظِ الْوِقَاعِ) وَالْجِمَاعِ مِنْ نَحْوِ الذَّكَرِ وَالْفَرْجِ (وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ) كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْفَسَادِ عِبَارَاتٍ فَاحِشَةً يَسْتَعْمِلُونَهَا فِيهِ وَأَهْلُ الصَّلَاحِ يَتَحَاشَوْنَ عَنْ التَّعَرُّضِ لَهَا بَلْ يُكَنُّونَ عَنْهَا وَيَدُلُّونَ عَلَيْهَا بِالرُّمُوزِ وَيَذْكُرُونَ مَا يُقَارِبُهَا وَيَتَعَلَّقُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ (وَهَذَا) التَّعْبِيرُ (مَكْرُوهٌ) يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْفُحْشِ بَعْضُهَا أَفْحَشُ مِنْ بَعْضٍ وَالْبَاعِثُ إمَّا قَصْدُ الْإِيذَاءِ وَإِمَّا الِاعْتِيَادُ الْحَاصِلُ مِنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ (عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ) أَمَّا عِنْدَهَا فَلَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهِنَّ أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا» أَيْ قُولُوا لَهُ أُعْضَضْ عَلَى أَيْرِ أَبِيكَ تَبْكِيتًا لَهُ وَمُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ وَلَا تُكَنُّوا بِالْهَنِ وَنَحْوِهِ كَذَا قِيلَ وَأُورِدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91]- وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ فَرْجُ الْقَمِيصِ أَيْ لَمْ

الثاني عشر الطعن في الأنساب والتعيير

يَعْلَقْ بِثَوْبِهَا رِيبَةٌ فَهِيَ طَاهِرَةُ الثَّوْبِ كَمَا يُقَالُ نَقِيُّ الثَّوْبِ وَعَفِيفُ الذَّيْلِ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] وَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ نَفْخَ جَبْرَائِيلَ وَقَعَ فِي فَرْجِهَا وَإِنَّمَا نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَيُقَرِّبُ إلَيْهِ مَا قَالُوا فِي عَدَمِ تَكَرُّرِ قِصَّةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ تَكْرَارِ أَكْثَرِ الْقَصَصِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْجَمَالِ وَافْتِتَانِ النِّسْوَانِ بِأَبْدَعِ النَّاسِ جَمَالًا وَلِذَا نُهِيَ عَنْ تَعْلِيمِ سُورَةِ يُوسُفَ لَلنِّسْوَانِ وَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ مَرْيَمَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ الْأَشْرَافَ يَجْتَنِبُونَ عَنْ التَّصْرِيحِ بِاسْمِ حَرَائِرِهِمْ وَيُكَنُّونَ عَنْهُنَّ بِنَحْوِ الْفَرْشِ وَصَاحِبَةِ الْبَيْتِ فَلَمَّا قَالَ النَّصَارَى فِي مَرْيَمَ مَا قَالُوا صَرَّحَ اللَّهُ بِاسْمِهَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِعِيسَى أَبٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ صَرَّحَ بِاسْمِهَا لِيُنْسَبَ إلَيْهَا كَذَا فِي الْإِتْقَانِ (وَالْأَدَبُ أَنْ يُذْكَرَ بِالْكِنَايَةِ) قَالَ فِي الْإِتْقَانِ أَيْضًا إنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْكِنَايَةِ تَرْكَ اللَّفْظِ إلَى مَا هُوَ أَجْمَلُ كَكِنَايَةِ النَّعْجَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْقُرْآنِ امْرَأَةً بِاسْمِهَا إلَّا مَرْيَمَ وَمِنْهَا كَوْنُ التَّصْرِيحِ مِمَّا يُسْتَقْبَحُ كَكِنَايَتِهِ تَعَالَى عَنْ الْجِمَاعِ بِالْمُلَامَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَالْإِفْضَاءِ وَالرَّفَثِ وَالدُّخُولِ وَالسِّرِّ - {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235]- وَالْغَشَيَانِ {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْمُبَاشَرَةُ الْجِمَاعُ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي وَأُخْرِجَ عَنْهُ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي مَا شَاءَ وَإِنَّ الرَّفَثَ هُوَ الْجِمَاعُ وَكَنَّى عَنْ طَلَبِهِ بِالْمُرَاوَدَةِ فِي وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا وَعَنْهُ وَعَنْ الْمُعَانَقَةِ بِاللِّبَاسِ فِي هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَبِالْحَرْثِ فِي {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] وَعَنْ الْبَوْلِ بِالْغَائِطِ بِمَعْنَى الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ انْتَهَى (وَهُوَ دَأْبُ الصَّالِحِينَ) بَلْ دَأْبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ قَالَ تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ فِي الْعُيُوبِ الْمُسْتَهْجَنِ ذِكْرُهَا كَالْبَرَصِ وَالْبَخَرِ (دُنْيَا نُعَيْمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْجَنَّةُ حَرَامٌ عَلَى الْفَاحِشِ أَنْ يَدْخُلَهَا» الْفَاحِشُ ذُو الْفُحْشِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَيْ لَا يَدْخُلُهَا مَعَ الْأَوَّلِينَ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا بِلَا تَعْذِيبٍ إلَّا إنْ عُفِيَ عَنْهُ لَكِنْ يَرِدُ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ الْفُحْشِ الْقَوْلِيِّ هُنَا مَا يَكُونُ كَبِيرَةً مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ فَإِنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَكُونُ إلَّا لَهَا وَظَاهِرٌ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ بَلْ فِي كَوْنِهِ صَغِيرَةً خَفَاءٌ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ الْعِرَاقِيِّ سَنَدُ هَذَا الْحَدِيثِ لَيِّنٌ. [الثَّانِيَ عَشَرَ الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالتَّعْيِيرُ] (الثَّانِيَ عَشَرَ) (الطَّعْنُ) فِي الْأَنْسَابِ (وَالتَّعْيِيرُ) (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أَيْ لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَوْ لَا تَفْعَلُوا مَا تَلْمِزُونَ بِهِ فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ اللَّمْزَ فَقَدْ لَمَزَ نَفْسَهُ (ت عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ بِذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ فَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَنَا لَا بَلْ نَعْمَلُ بِهِمَا إنْ أَمْكَنَ كَذَا قِيلَ لَكِنْ يُحْمَلُ عِنْدَنَا أَيْضًا عِنْدَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالْحَادِثَةِ وَدَخَلَا عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ وَوَقَعَا فِي الْإِثْبَاتِ لَا النَّفْيِ تَدَبَّرْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ وَقَالَ الْبَغَوِيّ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ خَالِدًا لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا أَوْ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ كَذَّابٌ وَمِنْ ثَمَّةَ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعِ انْتَهَى لَعَلَّ عَلِيَّ

الثالث عشر النياحة

الْقَارِيَّ تَبَعٌ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَضْعِ ثُمَّ قِيلَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مُنَيْعٍ وَالدَّيْلَمِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ مُعَاذٍ وَبَعْدَ أَخْذِ هَؤُلَاءِ الْحُفَّاظِ لَا وَجْهَ لِذِكْرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لَهُ مِنْ الْمَوْضُوعِ انْتَهَى لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا بَنَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَلَامَهُ عَلَى كَوْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ كَذَّابًا فَلَا يَخْلُو عَنْ الْوَجْهِ فِي جَعْلِهِ مِنْ الْمَوْضُوعِ نَعَمْ إنَّ لَهُ شَاهِدًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ كَانُوا يَقُولُونَ مَنْ رَمَى أَخَاهُ بِذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَبْتَلِيَهُ اللَّهُ بِهِ [الثَّالِثَ عَشَرَ النِّيَاحَةُ] (الثَّالِثَ عَشَرَ النِّيَاحَةُ) عَلَى وَزْنِ دِرَايَةٍ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِهِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ بُكَاءٍ (م عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا» قِيلَ أَيْ زَمَنَ الِاعْتِدَادِ بِتَوْبَتِهَا وَإِلَّا فَالتَّوْبَةُ حِينَ الْمُعَايَنَةِ وَالِاحْتِضَارِ لَا أَثَرَ لَهَا لَعَلَّهُ تَبِعَ فِي ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ التُّورْبَشْتِيِّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ قَبْلَ حُضُورِ مَوْتِهَا لِأَنَّ شَرْطَ التَّوْبَةِ عِنْدَ أَمَلِ الْبَقَاءِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ انْتَهَى أَقُولُ إنَّ ذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَإِلَّا فَتَوْبَةُ الْيَأْسِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَنَا «تُقَامُ» أَيْ تُحْشَرُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُقَامُ حَقِيقَةً عَلَى تِلْكَ الْحَالِ بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ وَالْمَوْقِفِ جَزَاءً عَلَى قِيَامِهَا فِي النِّيَاحَةِ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ» قَمِيصٌ «مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ» قَمِيصٌ مَخْصُوصٌ بِالنِّسَاءِ «مِنْ جَرَبٍ» أَيْ يَصِيرُ جِلْدُهَا أَجْرَبَ حَتَّى يَكُونَ جِلْدُهَا كَقَمِيصٍ عَلَى أَعْضَائِهَا فَيَشْتَمِلُ عَلَى لَذْعِ الْقَطِرَانِ وَحُرْقَتِهِ وَإِسْرَاعِ النَّارِ فِي الْجِلْدِ وَاللَّوْنِ وَالْوَحْشِ وَنَتْنُ الرِّيحِ جَزَاءً وِفَاقًا فَخُصَّتْ بِذَلِكَ الدِّرْعِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَجْرَحُ بِكَلِمَاتِهَا الْمُؤَنَّقَةِ قَلْبَ الْمُصَابِ ثُمَّ هَذَا الْوَعِيدُ هُنَا مُطْلَقٌ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْقَيْدِ فَائِدَةٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَعَلَّ هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْحَنَفِيُّ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَتِهِ فَيَصِحُّ عِنْدَنَا أَيْضًا وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ هَذِهِ النَّوَائِحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَّانِ لِأَهْلِ جَهَنَّمَ صَفٌّ عَنْ يَمِينِهِمْ وَصَفٌّ عَنْ يَسَارِهِمْ يَنُحْنَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا نُقِلَ عَنْ بَرْدِ الْأَكْبَادِ لِلسُّيُوطِيِّ (م أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَتَانِ» مِنْ الْخِصَالِ «فِي» بَعْضِ «النَّاسِ هُمَا» مُبْتَدَأٌ ثَانٍ «بِهِمْ» أَيْ فِيهِمْ «كُفْرٌ» كُفْرَانُ نِعْمَةٍ سُمِّيَ بِذَلِكَ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا أَوْ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ أَوْ الِاتِّسَاعِ أَوْ مِنْ - أَعْمَالِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ خِصَالِ الْأَبْرَارِ «الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ» . وَالْوُقُوعُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ بِهِ نَحْوُ الْقَدْحِ فِي نَسَبٍ ثَبَتَ بِظَاهِرِ الشَّرْعِ وَقِيلَ بِحَمْلِ آبَائِهِ عَلَى آبَاءِ غَيْرِهِ «وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»

وَلَوْ بِغَيْرِ بُكَاءٍ وَلَا شَقِّ جَيْبٍ خِلَافًا لِعِيَاضٍ وَهِيَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ طَعَنَ فِي نَسَبِ غَيْرِهِ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ سَلَامَةِ نَسَبِهِ مِنْ الطَّعْنِ وَمَنْ نَاحَ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ وَهُوَ الْمُحْيِي وَالْمُمِيتُ وَفِيهِ أَنَّ هَاتَيْنِ كَبِيرَةٌ وَبِهِ صَرَّحَ الذَّهَبِيُّ كَابْنِ الْقَيِّمِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَلَاءِ عَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالنِّيَاحَةُ حَرَامٌ وَالْمَعْدُودُ مِنْ الْحَرَامِ حَرَامٌ قَالَ فِي شَرْحِهِ عَنْ كَبِيرٍ الْحَلَبِيِّ «إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَجَعَ مِنْ دَفْنِ أَنْصَارِيٍّ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَتِهِ فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ وَوَضَعَ الْقَوْمُ فَأَكَلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلُوكُ أَيْ يَمْضُغُ لُقْمَةً فِي فِيهِ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ وَضْعِ أَهْلِ الْمَيِّتِ الطَّعَامَ وَالدَّعْوَةِ إلَيْهِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ. (وَمِنْهَا) أَيْ مِنْ النِّيَاحَةِ (اتِّخَاذُ الطَّعَامِ وَالضِّيَافَةِ لِلْمَيِّتِ) لِلنِّيَاحَةِ لَا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِشُغْلِهِمْ بِمَوْتِ قَرِيبِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ ابْنِ الْهُمَامِ وَيُكْرَهُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ يُشْرَعُ فِي السُّرُورِ لَا فِي الشُّرُورِ وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ (حدمج) رُوِيَ (عَنْ) أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ (جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَتَهُمْ الطَّعَامَ مِنْ النِّيَاحَةِ) وَكَذَا نُقِلَ عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ وَيُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَالْأَقْرِبَاءِ الْأَبَاعِدِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لَهُمْ لِيُشْبِعَهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» كَذَا نُقِلَ عَنْ الْجَلَاءِ. وَفِي الْجَامِعِ «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» أَيْ عَنْ صُنْعِ الطَّعَامِ لِأَنْفُسِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِذُهُولِهِمْ عَنْ حَالِهِمْ بِحُزْنِهِمْ عَلَى مَيِّتِهِمْ وَهَذَا قَالَهُ لِنِسَائِهِ لَمَّا قُتِلَ جَعْفَرٌ وَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِهِ فَطَحَنَتْ سَلْمَى مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعِيرًا ثُمَّ آدَمَتْهُ بِزَيْتٍ وَجَعَلَتْ عَلَيْهِ فُلْفُلًا ثُمَّ أَرْسَلُوهُ إلَيْهِمْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْمَيِّتِ التَّصَدُّقُ بِالْفَاضِلِ أَوْ إهْدَاؤُهُ. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ الْقُرْطُبِيُّ الِاجْتِمَاعُ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَتُهُمْ الطَّعَامَ وَالْمَيِّتُ عِنْدَهُمْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ وَنَحْوٌ مِنْهُ الطَّعَامُ الَّذِي يَصْطَنِعُهُ أَهْلُ الْمَيِّتِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِلتَّرَحُّمِ لِلْمَيِّتِ وَلَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ الِاقْتِدَاءُ بِأَهْلِ الْكُفْرِ وَيَنْهَى كُلُّ إنْسَانٍ أَهْلَهُ عَنْ الْحُضُورِ لِمِثْلِ هَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ قَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ وَقَالَ أَحْمَدُ هُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قِيلَ لَهُ أَلَيْسَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا» إلَخْ قَالَ لَمْ يَكُونُوا اتَّخَذُوا إنَّمَا اتَّخَذَهُ لَهُمْ فَهَذَا كُلُّهُ وَاجِبٌ فَمَنْ أَبَاحَهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَأَعَانَهُمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَإِنَّمَا يُسَنُّ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْمَوْتِ فَقَطْ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَقَدْ فَصَلْنَاهُ فِي جَلَاءِ الْقُلُوبِ)

الرابع عشر حكم المراء

وَفِيهِ أَيْضًا بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْخَرَائِطِيِّ الطَّعَامُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا قَدْ صَارَتْ عِنْدَ النَّاسِ الْآنَ سُنَّةً وَتَرْكُهَا بِدْعَةً فَانْقَلَبَ الْحَالُ وَتَغَيَّرَتْ الْأَحْوَالُ ثُمَّ قَالَ وَأَمَّا كَرَاهَةُ الْإِجَابَةِ لِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَلِأَنَّهَا إعَانَةٌ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَقَدْ قَدَّمَ فِي الْخَبَرِ السَّابِقِ كَوْنَ الِاجْتِمَاعِ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ ثُمَّ صَنْعَتِهِمْ الطَّعَامَ مَعْدُودَيْنِ مِنْ النِّيَاحَةِ ثُمَّ إنَّ النُّصُوصَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الضِّيَافَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ وَيُكْرَهُ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ لِلضِّيَافَةِ فِي أَيَّامِ الْمُصِيبَةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ تَأَسُّفٍ فَلَا يَلِيقُ بِهَا مَا يَكُونُ لِلسُّرُورِ وَإِنْ اُتُّخِذَ الطَّعَامُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ حَسَنًا ثُمَّ قَالَ وَلَا تَظُنَّ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي زَمَانِنَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ قَاضِي خَانْ فَإِنَّهُ ظَنٌّ بَاطِلٌ إذْ الْمُعْتَادُ دَعْوَةُ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْجِيرَانِ بِلَا تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ الْأَغْنِيَاءُ وَيَنْظِمُونَ لَهُمْ مَكَانًا مَخْصُوصًا وَيَبْسُطُونَ فُرُشًا كَثِيرَةً وَوُسُدًا رَفِيعَةً كَمَا يَفْعَلُونَ فِي الْوَلِيمَةِ وَدَعْوَةِ الْخِتَانِ فَهَلْ لِلضِّيَافَةِ مَعْنًى غَيْرُ هَذَا ثُمَّ قَالَ مُرَادُ قَاضِي خَانْ إرْسَالُ الطَّعَامِ إلَى الْفُقَرَاءِ لَا الدَّعْوَةُ وَالِاجْتِمَاعُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَفِيهِ أَيْضًا مَا حَاصِلُهُ عَنْ قَاضِي خَانْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالطَّعَامِ لِمَنْ يَحْضُرُ التَّعْزِيَةَ وَإِنْ لَمْ يَطُلْ مَقَامُهُ أَوْ لِمَنْ يَجِيءُ مِنْ بَعِيدٍ وَلَوْ غَنِيًّا فَجَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ وَإِلَّا فَلَا وَالْوَصِيَّةُ بِالطَّعَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَاطِلَةٌ فَيَكُونُ مِيرَاثًا وَإِنْ فَعَلَهُ الْوَرَثَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَمَكْرُوهٌ وَبِدْعَةٌ وَكَذَا إجَابَةُ دَعْوَتِهِمْ وَفِيهِ زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ [الرَّابِعَ عَشَرَ حُكْمُ الْمِرَاء] (الرَّابِعَ عَشَرَ الْمِرَاءُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (وَهُوَ طَعْنٌ فِي كَلَامِ الْغَيْرِ) وَاعْتِرَاضٌ عَلَيْهِ (بِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ إمَّا) بِالْكَسْرِ (فِي اللَّفْظِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ) صَرْفًا أَوْ نَحْوًا أَوْ بَلَاغَةً (أَوْ فِي الْمَعْنَى أَوْ فِي الْمُتَكَلِّمِ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ قَصْدُك مِنْهُ الْحَقَّ) وَإِنَّمَا أَنْتَ فِيهِ صَاحِبُ غَرَضٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَقَوْلِك لِمَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ لَيْسَ مُرَادُك حَقًّا بَلْ مُرَادُك رِيَاءً أَوْ سُمْعَةً (وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْتَبِطَ بِهِ غَرَضٌ سِوَى تَحْقِيرِ الْغَيْرِ) فَلَوْ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ وَالدَّلَالَةِ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْوَاقِعِ فَلَيْسَ مِنْ الْآفَاتِ بَلْ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ أَشَارَ الشَّارِعُ إلَى الْأَمْرِ بِهِ بِقَوْلِهِ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] الْآيَةَ (وَإِظْهَارِ مَزِيَّةِ الْكِيَاسَةِ)

وَكَمَالِ الذَّكَاءِ (وَهَذَا) الطَّعْنُ بِهَذَا الْغَرَضِ (حَرَامٌ) لِكَوْنِهِ أَذَى مُسْلِمٍ وَمُسْتَلْزِمًا لِلْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ (وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ إذَا سَمِعَ كَلَامًا إنْ كَانَ حَقًّا أَنْ يُصَدِّقَهُ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِأُمُورِ الدِّينِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ بَاطِلًا إلَّا بِالْكَذِبِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ عَدَمُ كَوْنِهِ مِنْ بَابِ الدِّينِ بَلْ كُلٌّ كَذِبٌ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَادِيَّاتِ وَالْمُحَاوَرَاتِ وَلَوْ عَلَى طَرِيقِ الْمِزَاحِ حَرَامٌ وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِنَحْوِ الشِّعْرِ وَالْهَيْئَةِ وَالْمِسَاحَةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَكُونُ بَاطِلًا مِنْهَا فَحَرَامٌ دِينِيٌّ صَرَّحَ بِهِ فِي الْفَتَاوَى وَقَدْ سَبَقَ (وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهَا) أَيْ بِأُمُورِ الدِّينِ (يَجِبُ إظْهَارُ الْبُطْلَانِ) فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ لِلْمُتَكَلِّمِ أَوْ لِلنَّاسِ (وَالْإِنْكَارُ إنْ رَجَا الْقَبُولَ) مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ مِنْ الْغَيْرِ (لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ) (ت عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ» بِفَتْحَتَيْنِ حَوَالَيْهَا مِنْ دَاخِلِهَا لَا مِنْ خَارِجِهَا «وَمَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ مُحِقٌّ» مُتَكَلِّمٌ بِصِدْقٍ «بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» لَا سِيَّمَا فِي الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ «بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا» لِأَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَكَانَ وَارِثًا لَهُمْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «حُسْنُ الْخُلُقِ خُلُقُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «حُسْنُ الْخُلُقِ يُذْهِبُ الْخَطَايَا كَمَا تُذْهِبُ الشَّمْسُ الْجَلِيدَ» وَفِي آخَرَ «حُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ» وَعَنْ بَعْضٍ إيَّاكَ أَنْ تَشْتَغِلَ بِهَذَا الْجِدَالِ الَّذِي ظَهَرَ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ يُبْعِدُ عَنْ الْفِقْهِ وَيُضِيعُ الْعُمْرَ وَيُورِثُ الْوَحْشَةَ وَالْعَدَاوَةَ وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَارْتِفَاعِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ كَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ أَرَى فُقَهَاءَ هَذَا الْعَصْرِ طُرًّا ... أَضَاعُوا الْعِلْمَ وَاشْتَغَلُوا بِلَمْ لَمْ إذَا نَاظَرْتَهُمْ لَمْ تَلْقَ مِنْهُمْ ... سِوَى حَرْفَيْنِ لَمْ لَمْ لَا نُسَلِّمْ (دُنْيَا طب هق عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَوَّلَ مَا عَهِدَ» أَوْصَى «إلَيَّ رَبِّي وَنَهَانِي عَنْهُ بَعْدَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ مُلَاحَاةُ» مُنَازَعَةُ «الرِّجَالِ» لِأَنَّهُمْ مَظِنَّةُ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَأَنَّهُ بَاعِثٌ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَدَوَامِ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ وَفِي السِّيَاقِ تَنْبِيهٌ عَلَى عِظَمِ الْجُرْمِ بَلْ يَقْتَضِي كَوْنَهُ كَبِيرَةً لَعَلَّ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ غَرَضًا صَحِيحًا وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ فِي الْمِفْتَاحِ فَائِدَةُ عِلْمِ الْجَدَلِ كَثِيرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْإِلْزَامِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ وَدَفْعِ شُكُوكِهِمْ ثُمَّ قَالَ قُلْت وَالْإِنْصَافُ أَنَّ الْجَدَلَ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ لَا بَأْسَ بِهِ وَرُبَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي تَشْحِيذِ الْأَذْهَانِ وَتَصْقِيلِ الْخَوَاطِرِ وَالْمَمْنُوعُ مَا فِيهِ تَضْيِيعُ الْأَوْقَاتِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ طَائِلٌ وَكَثِيرًا مَا لَا يَخْلُو عَنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّنَافُسِ فَعَلَيْك الِاحْتِيَاطُ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْمَهَالِكِ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُ انْتَهَى (دُنْيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ» الْكَامِلِ «حَتَّى يَذَرَ» يَتْرُكَ «الْمِرَاءَ» الْجَدَلَ «وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا» وَقَالَ غَرِيبٌ. (ت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُمَارِ أَخَاك» لَا تُخَاصِمْهُ «وَلَا تُمَازِحْهُ» بِمَا يَتَأَذَّى بِهِ قَالُوا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَا فِيهِ إفْرَاطٌ أَوْ مُدَاوَمَةٌ أَوْ أَذًى قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ إنَّ لِلْمُزَاحِ إزَاحَةً عَنْ الْحُقُوقِ وَمَخْرَجًا إلَى الْعُقُوقِ يُصِمُّ الْمَازِحَ وَيُؤْذِي الْمُمَازَحَ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ الْمِزَاحُ يُرِيقُ مَاءَ الْوَجْهِ وَيُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَيَسْتَجِرُّ الْوَحْشَةَ وَيُؤْذِي الْقُلُوبَ وَمَبْدَأٌ لِلتَّضَارُبِ وَاللَّجَاجِ وَمَغْرِسُ الْحِقْدِ فَإِنْ

الخامس عشر الجدال

مَازَحَك غَيْرُك فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَكُنْ مِنْ الَّذِينَ إذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا انْتَهَى وَقَالَ فِي الْأَذْكَارِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَا فِيهِ إفْرَاطٌ وَمُدَاوَمَةٌ لِإِيرَاثِهِ الضَّحِكَ وَقَسْوَةَ الْقَلْبِ وَيَشْغَلُ عَنْ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَمُهِمَّاتِ الدِّينِ فَيُورِثُ الْحِقْدَ وَيُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَالْوَقَارَ وَمَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي كَانَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ نَادِرًا لِمُصْلِحَةٍ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ (وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفْهُ) فَإِنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بَلْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ [الْخَامِسَ عَشَرَ الْجِدَالُ] (الْخَامِسَ عَشَرَ الْجِدَالُ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِهَا) اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ الْجَدَلِ فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ هُوَ عِلْمٌ بَاحِثٌ عَنْ الطَّرِيقِ الَّتِي يُقْتَدَرُ بِهَا عَلَى إبْرَامِ أَيِّ وَضْعٍ أُرِيدَ وَعَلَى هَدْمِ أَيِّ وَضْعٍ كَانَ وَهُوَ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ لَكِنَّهُ مِنْ فُرُوعِ عِلْمِ الْأُصُولِ وَعِلْمِ الْخِلَافِ وَهُوَ الْجِدَالُ الْوَاقِعُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْفَرْعِيَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الْمِفْتَاحِ ثُمَّ قَالَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَدَلِ بِالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَإِنَّ الْجَدَلَ بَحْثٌ عَنْ مَوَادِّ الْأَدِلَّةِ الْخِلَافِيَّةِ وَالْخِلَافُ بَحْثٌ عَنْ صُورَتِهَا فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَدَلِ هُوَ الْخِلَافُ بَلْ الْجَدَلُ أَشْبَهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْمِرَاءِ فَتَأَمَّلْ (فَإِنْ قَصَدَ بِهِ تَخْجِيلَ الْخَصْمِ وَإِظْهَارَ فَضْلِهِ) لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ دَوَاعٍ شَرْعِيَّةٍ (فَحَرَامٌ بَلْ كُفْرٌ عِنْدَ الْبَعْضِ وَقَدْ مَرَّ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ) لَعَلَّ ذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ (ت عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ» أَيْ مَا ضَلَّ قَوْمٌ مَهْدِيُّونَ كَائِنِينَ عَلَى حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا بِإِيتَاءِ الْجَدَلِ أَيْ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ وَقَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ التَّعَصُّبُ لِتَرْوِيحِ الْمَذَاهِبِ الْكَاسِدَةِ وَالْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ لَا بِالْمُنَاظَرَةِ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَاسْتِكْشَافِ الْحَالِ وَاسْتِعْلَامِ مَا لَيْسَ مَعْلُومٌ أَوْ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ خَارِجٌ عَمَّا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ الْإِشَارَةُ إلَى الْخِلَافَاتِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَأُبْدِعَ فِيهَا مِنْ التَّحْرِيرَاتِ وَالتَّصْنِيفَاتِ وَالْمُجَادَلَاتِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَحُومَ حَوْلَهَا وَاجْتَنِبْهَا اجْتِنَابَ السُّمِّ الْقَاتِلِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ « (ثُمَّ تَلَا {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} [الزخرف: 58] مَا ضَرَبُوا هَذَا الْمَثَلَ إلَّا لِأَجْلِ الْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ لَا لِتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] » شِدَادُ الْخُصُومَةِ حِرَاصٌ عَلَى اللَّجَاجِ (وَإِنْ قَصَدَ إظْهَارَ الْحَقِّ وَهُوَ نَادِرٌ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ تَرْكِهِ لِأَنَّ النَّادِرَ كَالْمَعْدُومِ وَأَنَّ أَكْثَرَ مَدَارِ الشَّرْعِ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ لَكِنْ قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ وَلَوْ كِفَايَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا يُشِيرُ إلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ وَإِلَّا فَإِطْلَاقُ الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ مُشْكِلٌ لَعَلَّ مُرَادَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تُصَرِّحْ بِهِ عِبَارَتُهُ (فَجَائِزٌ بَلْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) فَالتَّفَاوُتُ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ وَالْوَقَائِعِ لَعَلَّ الْأَوْلَى فَمَنْدُوبٌ بَلْ وَاجِبٌ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَعَنْ حِلْيَةِ الْأَبْرَارِ لِلنَّوَوِيِّ اعْلَمْ أَنَّ الْجَدَلَ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ وَقَدْ يَكُونُ بِبَاطِلٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وَقَالَ {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقَالَ {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] فَإِنْ لِلْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِّ وَتَقْرِيرِهِ فَمَمْدُوحٌ وَإِنْ لِمُدَافَعَةِ الْحَقِّ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَذْمُومٌ وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ تَنْزِلُ النُّصُوصُ قَالَ بَعْضُهُمْ مَا رَأَيْت شَيْئًا أَذْهَبَ لِلدِّينِ وَلَا أَنْقَصَ لِلْمُرُوءَةِ وَلَا أَضْيَعَ لِلَّذَّةِ وَلَا أَشْغَلَ لِلْقَلْبِ مِنْ الْخُصُومَةِ انْتَهَى ثُمَّ لَا يَخْفَى

السادس عشر الخصومة

أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلنَّدَبِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَمُطْلَقَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضٌ إلَى وُجُوبِهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ثُمَّ الشَّرْطُ حِينَ النَّدْبِ أَنْ يَكُونَ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ وَعُذُوبَةِ اللِّسَانِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَاسْتِعْمَالِ الْقَرِينَةِ إلَى التَّفْهِيمِ كَمَا يُفِيدُهُ التَّقْيِيدُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَفِي سِرِّ الْأَسْرَارِ لِلشَّيْخِ الْعَارِفِ الْكِيلَانِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ مَجْمُوعُ هَذِهِ أُعْطِيَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ تُعْطَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ وَأَمَّا انْفِرَادُهَا فَالْحِكْمَةُ أَيْ عِلْمُ الْحَالِ وَهُوَ لُبُّهَا أُعْطِيَ لِلْمَشَايِخِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «هِمَّةُ الرِّجَالِ تَقْلَعُ الْجِبَالَ فَإِنَّ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ الَّتِي هِيَ كَالْجِبَالِ تُقْلَعُ بِدُعَائِهِمْ وَنَظَرِهِمْ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» وَالْمَوْعِظَةُ لِعُلَمَاءِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْقِشْرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَالِمُ يَعِظُ بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالْجَاهِلُ يَعِظُ بِالضَّرْبِ وَالْغَضَبِ» وَالْجِدَالِ وَهُوَ الْعَدْلُ وَالسِّيَاسَةُ لِلْأُمَرَاءِ وَهُوَ قِشْرُ الْقِشْرِ وَمَقَامُ الْمُتَصَوِّفَةِ هُوَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْ خَلْقِ الشَّجَرِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَاسْتِمَاعِ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقَلْبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَلِمَةُ الْحِكْمَةِ ضَالَّةُ الْحَكِيمِ أَخَذَهَا حَيْثُ وَجَدَهَا» [السَّادِسَ عَشَرَ الْخُصُومَةُ] (السَّادِسَ عَشَرَ الْخُصُومَةُ وَهِيَ لَجَاجٌ) أَيْ عِنَادٌ (فِي الْكَلَامِ لِيُسْتَوْفَى بِهِ مَالٌ أَوْ حَقٌّ مَقْصُودٌ فَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا أَوْ) (خَاصَمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَنَّهُ مُحِقٌّ أَوْ مُبْطِلٌ كَوَكِيلِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَتَوَكَّلُ فِي الْخُصُومَةِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَيِّ جَانِبٍ فَهُوَ يُخَاصِمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ (أَوْ) (مَزَجَ) أَيْ خَلَطَ (بِالْخُصُومَةِ) الْحَقَّةِ (كَلِمَاتٍ) وَالْمُرَادُ مَا يَشْمَلُ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ (مُؤْذِيَةً لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي نُصْرَةِ الْحُجَّةِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ) فَلَوْ لَزِمَ الْأَذَى فِيمَا فِيهَا نُصْرَةُ الْحُجَّةِ لَا يَحْرُمُ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ مُجَرَّدَ إحْيَاءِ حَقِّهِ بِدُونِ قَصْدِ أَذَاهُ لَعَلَّ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ الْخَصْمُ مُعَانِدًا مُكَابِرًا مُؤْذِيًا وَإِلَّا فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَيَنْبَغِي إمَّا تَرْكٌ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَذَى وَلَا يَتَجَاوَزْ عَلَى قَدْرِ أَذَى خَصْمِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعْزِيرِ وَالتَّعْزِيرُ يُقِيمُهُ كُلُّ أَحَدٍ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا الِاخْتِصَاصُ بِالْحَاكِمِ وَالْمُحْتَسَبِ فَفِيمَا بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ كَمَا اسْتَوْفَى فِي الْفَتَاوَى (أَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ لِقَهْرِ الْخَصْمِ وَكَسْرِهِ فَقَطْ) لَا لِأَخْذِ الْحَقِّ فَلَوْ لَهُ حَقٌّ (فَحَرَامٌ) لَكِنْ لَا يُرِيدُهُ مِنْ الْخُصُومَةِ بَلْ مُجَرَّدُ إجْرَاءِ النَّفْسَانِيَّةِ فَمُحَرَّمٌ أَيْضًا (وَإِنْ خَلَا عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ) الْأَرْبَعَةِ (وَهُوَ) أَيْ الْخَالِي عَنْهَا (نَادِرٌ فَجَائِزٌ) وَإِلَّا فَيَبْطُلُ حَقُّهُ وَالرَّجُلُ مَأْمُورٌ بِعَدَمِ إضَاعَةِ حَقِّهِ بَلْ تَرْكُهُ بِلَا نِيَّةٍ حَمِيدَةٍ إنْ لِخَصْمٍ فَمِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَافِ وَفِي قَوْلِهِ نَادِرٌ إيمَاءٌ إلَى تَرْكِهِ الْإِطْلَاقَ إذْ النَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ (وَلَكِنَّ تَرْكَهُ) أَيْ الِاخْتِصَامِ (أَوْلَى) لِأَنَّ مَا يَدُورُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ رُجْحَانُ جَانِبِ الْحَظْرِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَثْرَةِ خِلَافِهِ (مَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِطِيبِ الْخَاطِرِ وَرِضَا النَّفْسِ كَالْمُطَالَبَةِ بِحُسْنِ الْحَالِ وَتَوْسِيطِ الرِّجَالِ إلَى الْمُصَالَحَةِ فَحَسَنٌ بَلْ يَجْتَهِدُ إلَيْهِ فَمَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ لَا يُبَاشِرُ الْخُصُومَةَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَخْتَصِمُ لَكِنْ يَتَدَبَّرُ وَيَتَأَنَّى فِي ضَبْطِ لِسَانِهِ وَإِمْسَاكِ كَلَامِهِ عَمَّا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ وَعَنْ حِلْيَةِ الْأَبْرَارِ لِلنَّوَوِيِّ إنَّمَا كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى لِأَنَّ ضَبْطَ اللِّسَانِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ مُتَعَذِّرٌ وَالْخُصُومَةُ تُوغِرُ الصُّدُورَ وَتُهَيِّجُ الْغَضَبَ وَإِذَا هَاجَ الْغَضَبُ حَصَلَ الْحِقْدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْرَحَ كُلٌّ بِمُسَاءَةِ الْآخَرِ وَيَحْزَنَ بِمُسِرَّتِهِ وَيُطْلِقَ اللِّسَانَ فِي عِرْضِهِ فَمَنْ خَاصَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْآفَاتِ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ اشْتِغَالُ الْقَلْبِ حَتَّى إنَّهُ يَكُونُ فِي صَلَاتِهِ وَخَاطِرُهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُحَاجَّةِ وَالْخُصُومَةِ فَلَا يَبْقَى حَالُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالْخُصُومَةُ مَبْدَأُ الشَّرِّ انْتَهَى فَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يَفْتَحَ بَابَ الْخُصُومَةِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ يَحْفَظُ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ عَنْ تَبِعَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاجِبِ فِي الْخُصُومَةِ فَزِيَادَةُ مَأْجُورٍ لِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ التَّعَبُ زَادَ الْأَجْرُ لِأَنَّ أَجْرَكُمْ عَلَى قَدْرِ تَعَبِكُمْ

السابع عشر الغناء

وَبِالْجُمْلَةِ فَعَلَيْهِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ الضَّرُورِيَّةِ طِيبُ الْكَلَامِ وَالرِّفْقُ فِي أَدَاءِ الْمَرَامِ بِلَا تَغْلِيظٍ وَلَا تَشْدِيدٍ وَلَا خُشُونَةٍ وَلَا عَبُوسَةٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]- وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» (خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْأَلَدُّ» بِتَشْدِيدِ الدَّالِ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ (الْخَصِمُ) بِكَسْرِ الصَّادِ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ فَيَكُونُ صِفَةَ تَأْكِيدٍ لَكِنَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ الْخُصُومَةِ وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْحَدِيثِ الْخُصُومَةُ الشَّدِيدَةُ بَلْ الْأَكِيدَةُ يَعْنِي الْمَمْنُوعُ بِالْحَدِيثِ مَا تَكُونُ مُشْتَدَّةً وَالْمَطْلُوبُ مُطْلَقٌ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ شَدِيدَةً لَا يَتِمُّ تَقْرِيبُهُ لَا سِيَّمَا قِيلَ فِي شَرْحِهِ الْمُرَادُ مِنْ الْخُصُومَةِ فِي الْحَدِيثِ إنْكَارُ الْبَعْثِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77]- إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُقَايَسَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ بِالنَّصِّ فَتَأَمَّلْ (ت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كَفَى بِك إثْمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا» لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمُخَاصَمَةِ تُفْضِي غَالِبًا إلَى مَا يَذُمُّ صَاحِبَهُ وَقَدْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي تَرْكِ الْمُخَاصَمَةِ قَالَ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِابْنِهِ يَا بُنَيُّ إيَّاكَ وَالْمِرَاءَ فَإِنَّ نَفْعَهُ قَلِيلٌ وَهُوَ يُهَيِّجُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْإِخْوَانِ وَعَنْ بَعْضٍ مَا رَأَيْت شَيْئًا أَذْهَبَ لِلدِّينِ وَلَا أَنْقَصَ لِلْمُرُوءَةِ وَلَا أَضْيَعَ لِلَّذَّةٍ وَلَا أَشْعَلَ لِلْقَلْبِ مِنْ الْخُصُومَةِ فَإِنْ قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ الْخُصُومَةِ لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الذَّمَّ الْمُتَأَكِّدَ إنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِبَاطِلٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَوَاهِر النُّصُوص مُطْلَقَةٌ وَلَا بُدَّ لِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ مِنْ بَيَانٍ لَعَلَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ تَصْلُحُ مُقَيَّدَةً بِمِثْلِ هَذَا فَافْهَمْ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ إذَا رَأَيْت الرَّجُلَ لَجُوجًا مُرَائِيًا مُعْجَبًا بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ ثُمَّ قِيلَ الْحَدِيثُ غَرِيبٌ وَقِيلَ ضَعِيفٌ كَمَا فِي الْفَيْضِ (دُنْيَا صف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ جَادَلَ فِي خُصُومَةٍ» تَعَصُّبًا لَا بِحَقٍّ كَمَا عَرَفْت «بِغَيْرِ عِلْمٍ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَنْزِعَ» أَيْ يَتْرُكَ ذَلِكَ وَيَتُوبَ مِنْهُ تَوْبَةً صَحِيحَةً وَأَخَذَ مِنْهُ الذَّهَبِيُّ أَنَّ الْجِدَالَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ الْكَبَائِرِ قَالَ الْغَزَالِيُّ الْمِرَاءُ طَعْنٌ فِي كَلَامِ الْغَيْرِ لِإِظْهَارِ خَلَلٍ وَالْجِدَالُ عِبَارَةٌ عَنْ مِرَاءٍ يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمَذْهَبِ وَتَقْرِيرِهَا وَالْخُصُومَةُ لَجَاجُ الْكَلَامِ لِيُسْتَوْفَى بِهِ مَالٌ أَوْ حَقٌّ مَقْصُودٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَيَكُونُ اعْتِرَاضًا وَالْمِرَاءُ لَا يَكُونُ بِاعْتِرَاضٍ قِيلَ عَنْ الْبَيْهَقِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إيَّاكُمْ وَمُشَارَّةَ النَّاسِ فَإِنَّهَا تَدْفِنُ الْغُرَّةَ وَتُظْهِرُ الْعَرَّةَ» وَالْمُشَارَّةُ الْمُخَاصَمَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الشَّرِّ وَالْغُرَّةُ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْحُسْنُ وَقِيلَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْعَرَّةُ بِالْمُهْمَلَةِ الْعَيْبُ أَيْ تُخْفِي الْمَحَاسِنَ وَتُظْهِرُ الْمَعَايِبَ [السَّابِعَ عَشَرَ الْغِنَاءُ] (السَّابِعَ عَشَرَ الْغِنَاءُ) أَيْ التَّغَنِّي (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قِيلَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ الْغِنَاءُ حَتَّى

الوصية للمغنين والمغنيات

حَلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى كَوْنِهِ هَذَا وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ هُوَ مَا يُلْهِي عَمَّا يُعْنَى كَالْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَالْأَسَاطِيرِ لَا اعْتِبَارَ فِيهَا وَالْأَضَاحِيكِ وَفُضُولِ الْكَلَامِ وَالْإِضَافَةِ بِمَعْنَى مَنْ وَهِيَ بَيَانِيَّةٌ إنْ أَرَادَ بِالْحَدِيثِ الْمُنْكَرَ وَتَبْعِيضِيَّةٌ إنْ أَرَادَ الْأَعَمَّ مِنْهُ وَعَنْ مُحْيِي السُّنَّةِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي حُرْمَةِ الْغِنَاءِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ الْغِنَاءُ قِيلَ أَبَاحَهُ قَوْمٌ إنْ أَمِنَ الْفِتْنَةَ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَصَحِّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ عَنْ الْإِحْيَاءِ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْغِنَاءَ الَّذِي لَيْسَ بِالْقَصَائِدِ الزُّهْدِيَّةِ وَنَحْوِهَا حَرَامٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَكَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَالنَّخَعِيُّ وَحَكَاهُ الثَّوْرِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (دهق عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ) آخِرُهُ وَالذِّكْرُ يُنْبِتُ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ قِيلَ لَفْظَةُ الْغِنَاءِ هُنَا بِالْقَصْرِ بِمَعْنَى غِنَى الْمَالِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَقْرِ فَحِينَئِذٍ نَقُولُ لَا احْتِجَاجَ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَالْجَوَابُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ بَعْدَمَا ذَكَرَ وَصَوَّبَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ بِالْمَدِّ بِمَعْنَى التَّغَنِّي وَاسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى بِآخِرِهِ أَعْنِي وَالذِّكْرُ إلَخْ لِأَنَّ مُقَابَلَةَ الْغِنَاءَ بِالذِّكْرِ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّغَنِّي ثُمَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ حَدِيثًا مَوْقُوفًا وَهُوَ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ وَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ كَوْنُهُ مَوْقُوفًا نَعَمْ فِي الْجَامِعِ عَنْ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا عَلَى كَوْنِهِ مُسْنَدًا وَأَيْضًا فِيهِ «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ» عَلَى رِوَايَةِ جَابِرٍ مُسْنَدًا فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يَذْكُرَهُمَا أَوْ وَاحِدًا مِنْهَا بَدَلَهُ أَوْ مَعَهُ لَعَلَّهُ لَمْ يَفْقَهْهُمَا ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَيَالَهَا مِنْ صَفْقَةٍ فِي غَايَةِ الْخُسْرَانِ حَيْثُ بَاعَ سَمَاعَ الْخِطَابِ مِنْ الرَّحْمَنِ بِسَمَاعِ الْمَعَازِفِ وَالْأَلْحَانِ وَالْجُلُوسِ فِي مَجَالِسِ الْفُسُوقِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ وَأَخَذَ جَمْعٌ بِظَاهِرِهِ فَحَرَّمُوا فِعْلَهُ وَاسْتِمَاعَهُ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَزُعِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغِنَاءِ غِنَى الْمَالِ وَرُدَّ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ إنَّمَا هِيَ بِالْمَدِّ وَغِنَى الْمَالِ مَقْصُورٌ (دُنْيَا طك عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا رَفَعَ أَحَدٌ عَقِيرَتَهُ» أَيْ صَوْتَهُ «بِغِنَاءٍ إلَّا بَعَثَ اللَّهُ لَهُ شَيْطَانَيْنِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ يَضْرِبَانِ بِأَعْقَابِهِمَا عَلَى صَدْرِهِ» تَشْوِيقًا وَتَحْرِيضًا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ «حَتَّى يُمْسِكَ» إلَى إمْسَاكِهِ عَنْ الْغِنَاءِ نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْأَشْعَارِ أَمْ بِالْقُرْآنِ أَمْ بِالذِّكْرِ وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا زِيَادَةٍ فَلَا بَأْسَ وَحُمِلَ عَلَيْهِ زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ الْآتِي انْتَهَى (وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة اعْلَمْ أَنَّ التَّغَنِّيَ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ [الْوَصِيَّةُ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ] (إذَا أَوْصَى بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا

وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَكَرَ) أَنْوَاعًا (مِنْهَا الْوَصِيَّةُ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ وَحُكِيَ عَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ) صَاحِبِ الْهِدَايَةِ تِلْمِيذِ مُفْتِي الثَّقَلَيْنِ نَجْمِ الدِّينِ عُمَرَ النَّسَفِيِّ وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ وَمِنْ أَشْعَارِهِ وَلَمْ أَدْخُلْ الْحَمَّامَ مِنْ أَجْلِ لَذَّةٍ ... وَكَيْفَ وَنَارُ الشَّوْقِ بَيْنَ جَوَانِحِي وَلَكِنَّنِي لَمْ يَكْفِنِي فَيْضُ عَبْرَتِي ... دَخَلْتُ لِأَبْكِيَ مِنْ جَمِيعِ جَوَارِحِي (أَنَّهُ قَالَ لِمُقْرِئِ زَمَانِنَا أَحْسَنْت عِنْدَ قِرَاءَتِهِ يَكْفُرُ انْتَهَى) لَعَلَّ إضَافَةَ مُقْرِئٍ لَيْسَ لِلِاسْتِغْرَاقِ إلَّا أَنْ يُرَادَ ادِّعَائِيًّا أَوْ ضَافِيًا بَلْ إمَّا لِلْعَهْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَانِ الْمَرْغِينَانِيِّ أَوْ لِلْجِنْسِ عَلَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ فِي ضِمْنِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَافْهَمْ (وَوَجْهُهُ) أَيْ وَجْهُ كَوْنِهِ كُفْرًا لَعَلَّهُ مِنْ الْمُصَنِّفِ (أَنَّ التَّغَنِّيَ لِلنَّاسِ) أَيْ لِمُجَرَّدِ تَلَهِّي النَّاسِ لَا لِأَجْلِ الْعُرْسِ وَالْأَعْيَادِ وَدَفْعِ الْوَحْشَةِ فِي نَفْسِهِ وَقِيلَ وَلِلْخَوَاصِّ الَّذِينَ يَبْلُغُونَ مَرْتَبَةَ النَّفْسِ الْمُطَمْئِنَةِ أَوْ الرَّاضِيَةِ إنْ صَحَّ فَإِنَّهَا مَحِلُّ اجْتِهَادٍ وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضٌ كَمَا سَيُشِيرُ إلَيْهِ (لَمَّا كَانَ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ) لَعَلَّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَأْخُوذَةٌ مِمَّا سَبَقَ آنِفًا وَقَدْ سَمِعْت الِاخْتِلَافَ آنِفًا صَرَاحَةً وَإِشَارَةً ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَوْلَى أَبَا السُّعُودِ الْعِمَادِيَّ قَالَ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إلَى الْمُصَنِّفِ قَدْ طَالَعْت أَيُّهَا الْأَخُ رِسَالَتَك زَادَ اللَّهُ تَعَالَى اهْتِمَامَك بِأَمْرِ الدِّينِ وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ وَإِنْكَارِ الْبِدَعِ فَقَدْ أَحْسَنْت فِي إنْكَارِ التَّغَنِّي وَاللَّحْنِ فِي الْأَذْكَارِ ثُمَّ قَالَ فِي حَقِّ التَّغَنِّي مَا حَاصِلُهُ عَنْ الْأَكْمَلِ أَبَاحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَعَنْ الْقُشَيْرِيِّ مِمَّنْ أَبَاحَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَعَنْ ابْنِ الْهُمَامِ وَالْعَيْنِيِّ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَهُ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ مُطْلَقًا ثُمَّ قَالَ وَمَا وَرَدَ فِي جَوَازِ التَّغَنِّي وَاللَّحْنِ فِي الْقُرْآنِ فَوَارِدٌ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَذْكَارِ دَلَالَةً وَأَفْرَدَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ بَابًا فِي جَوَازِ الْغِنَاءِ وَالْقُشَيْرِيُّ كَذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ وَصَاحِبُ الْعَوَارِفِ ذَكَرَ فِي جَوَازِهِ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ لِلْمُصَنِّفِ وَرُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إبَاحَةُ الْغِنَاءِ ثُمَّ قَالَ فَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِنَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَيَلْزَمُ إكْفَارُ مُسْتَحِلِّهِ بَلْ مُتَمَنِّي حِلِّهِ وَبَعْضُهُمْ أَجَازَهُ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَبَعْضُ الْمُفْتِينَ كَابْنِ كَمَالٍ أَفْرَطَ وَأَفْتَى بِكُفْرِ الْمُسْتَحِلِّ بَلْ الْفَاعِلِ وَبَعْضُهُمْ كَالْعَلِيِّ الْجَمَالِيِّ فَرَّطَ وَأَفْتَى بِإِبَاحَةِ اللَّحْنِ وَالتَّغَنِّي فِي الْأَذْكَارِ اهـ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ يُغَنِّي ثُمَّ قَالَ هُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ لَا بَأْسَ بِالتَّغَنِّي لِأَنَّ الْبَرَاءَ مِنْ أَزْهَدِ الصَّحَابَةِ إذَا عَرَفْت مَا قَدَّمْنَا لَك مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِمْ فَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ مُشْكِلَةٌ غَايَةَ الْإِشْكَالِ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْمَوَاقِعِ الْخِلَافِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَرُدُّهُ ذِكْرُهُمْ تِلْكَ الصُّوَرِ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ (كَانَ) تَحْرِيمُهُ (قَطْعِيًّا) هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ جَمِيعُ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيًّا أَوْ عُلِمَ كَوْنُهُ مِنْ الْقَطْعِيِّ وَنُقِلَ إلَيْنَا تَوَاتُرًا وَالْكُلُّ مَطْلُوبُ الْبَيَانِ بَلْ اُخْتُلِفَ فِي إكْفَارِ مُنْكِرِي الْقَطْعِيِّ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ كُفْرَهُ عِنْدَنَا (فَتَحْسِينُهُ تَحْلِيلٌ لِلْحَرَامِ) الْقَطْعِيِّ (وَكَذَا كُلُّ تَحْسِينِ الْقَبِيحِ الْقَطْعِيِّ كُفْرٌ) ظَاهِرُهُ الشُّمُولُ إلَى مَا يَكُونُ قُبْحُهُ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ كَغَيْرِهِ أَنَّ الْكُفْرَ فِيمَا يَكُونُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ وَحُرْمَتُهُ ثَابِتَةٌ قَطْعِيَّةٌ فَتَأَمَّلْ (وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَالذَّخِيرَةِ) مَا جَعَلَاهُ كُفْرًا بَلْ (سَمَّيَاهُ كَبِيرَةً هَذَا) أَيْ الْحُرْمَةُ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ (فِي التَّغَنِّي لِلنَّاسِ فِي غَيْرِ الْأَعْيَادِ وَالْعُرْسِ)

وَأَمَّا فِيهِمَا فَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ (وَيَدْخُلُ فِيهِ) أَيْ فِي التَّغَنِّي الْحَرَامِ (تَغَنِّي صُوفِيَّةِ زَمَانِنَا فِي الْمَسَاجِدِ) فِي (الدَّعَوَاتِ) أَيْ الضِّيَافَاتِ أَوْ مِنْ الدُّعَاءِ (بِالْأَشْعَارِ وَالْأَذْكَارِ مَعَ اخْتِلَاطِ أَهْلِ الْهَوَى) الْفَسَقَةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ (وَالْمُرْدِ) جَمْعُ الْأَمْرَدِ قِيلَ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا سُوءُ ظَنٍّ وَتَجَسُّسُ عَيْبٍ وَإِظْهَارُ فُحْشِ مُؤْمِنٍ وَالِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ أَمْرٌ تَفَرَّدَ بِهِ تَعَالَى لَا يَخْفَى أَنَّ الشَّرْعَ كَثِيرًا مَا يَدُورُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى قَرِينَتِهِ وَأَمَارَاتِهِ وَالظَّنُّ كَافٍ فِي غَيْرِ الْبُرْهَانِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ وَقَدْ قِيلَ قَدْ تَكُونُ الْقَرِينَةُ قَطْعِيَّةً وَأَيْضًا قَدْ يُصَرِّحُ أَكْثَرُهُمْ بِعَدَمِ خُلُوصِهِمْ بَلْ بِغَرَضٍ فَاسِدٍ وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَانْسَدَّ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ (بَلْ هَذَا أَشَدُّ مِنْ كُلِّ تَغَنٍّ لِأَنَّهُ) أَيْ هَذَا التَّغَنِّي (مَعَ اعْتِقَادِ الْعِبَادَةِ) قِيلَ هُنَا فَتَأَمَّلْ لَعَلَّ وَجْهَ لُزُومِ الْكُفْرِ حِينَئِذٍ أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ بِلِسَانِك عَنْ مَسَاوِئِ أَخِيك يَجِبُ السُّكُوتُ بِقَلْبِك بِتَرْكِ سُوءِ الظَّنِّ وَفِي الْأَمَالِي احْذَرْ أَنْ تَحْمِلَ فِعْلَ أَخِيكَ عَلَى وَجْهٍ فَاسِدٍ مَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ حَسَنٍ وَأَمَّا عِنْدَ التَّيَقُّنِ فَعَلَيْكَ أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى سَهْوٍ وَنِسْيَانٍ مَا أَمْكَنَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» انْتَهَى وَأَنْتَ عَرَفْت جَوَابَهُ آنِفًا وَأَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (وَأَمَّا التَّغَنِّي وَحْدَهُ) لَا لِلنَّاسِ (بِالْأَشْعَارِ لِدَفْعِ الْوَحْشَةِ) قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا كَانَ التَّغَنِّي لِاسْتِفَادَةِ نَظْمِ الْقَوَافِي وَصَيْرُورَةِ فَصَاحَةِ اللِّسَانِ لَا بَأْسَ وَإِذَا كَانَ وَحْدَهُ يَتَغَنَّى لِدَفْعِ الْوَحْشَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ السَّرَخْسِيُّ وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مَا يَكُونُ لَهْوًا وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ كَانَ يَتَغَنَّى فِي مَرَضِهِ وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ أَنَسٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ تَلَهِّيًا وَلَكِنْ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَطْمَعُ لِلشَّهَادَةِ وَخَشِيَ أَنْ يَمُوتَ فِي مَرَضِهِ فَاسْتَوْحَشَ مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلَ يَتَغَنَّى لِدَفْعِ الْوَحْشَةِ وَالْوَحْدَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَعَرَفْت أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا بَأْسَ بِهِ وَعَنْ الْأَكْمَلِ لَوْ كَانَ غِنَاؤُهُ فِي نَفْسِهِ لِإِزَالَةِ وَحْشَةٍ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ (أَوْ فِي الْأَعْيَادِ وَالْعُرْسِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ)

التغني بمعنى حسن الصوت بلا لحن ولا زيادة وإسقاط حرف من القرآن

وَعَنْ الذَّخِيرَةِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْأَعْيَادِ وَعَنْ الزَّيْلَعِيِّ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَازَ الْغِنَاءَ فِي الْعُرْسِ قَالَ فِي التتارخانية مَنْ يَقُولُ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْوَلِيمَةِ لَا يَرَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِضَرْبِ الدُّفُوفِ فِي الْأَعْرَاسِ وَالْوَلِيمَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ» وَكَذَلِكَ التَّغَنِّي رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ يَوْمَ الْعِيدِ وَفِي دِهْلِيزِهِ جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَتُغَنِّيَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعْهُمَا فَإِنَّ هَذَا الْيَوْمَ عِيدٌ» انْتَهَى وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ «قَالَ دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا» . وَفِي الْأَكْمَلِ فِي حَدِيثِ اتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ «يَا أَبَا بَكْرٍ إنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا» وَأَبَاحَ الْغِنَاءَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَحَرَّمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ احْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْمَانِعُونَ خَصُّوهُ بِالشُّجَاعَةِ وَالْقِتَالِ وَنَحْوِهِمَا وَالْكَلَامُ فِيهَا يَهِيجُ إلَى الشُّرُورِ وَالْبَطَالَةِ انْتَهَى ثُمَّ قِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْعُرْسِ مِنْ أَئِمَّتِنَا بَلْ هُوَ حَرَامٌ فِيهِمَا أَيْضًا عِنْدَنَا بِخِلَافِ التَّغَنِّي وَحْدَهُ لِدَفْعِ الْوَحْشَةِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ مَشَايِخِنَا أَقُولُ قَدْ عَرَفْت مِمَّا نَقَلْنَا عَنْ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَهُ (وَالصَّوَابُ مَنْعُهُ مُطْلَقًا) أَيْ سَوَاءٌ لِلنَّاسِ أَوْ لِدَفْعِ الْوَحْشَةِ أَوْ فِي الْأَعْيَادِ وَالْعُرْسِ (فِي هَذَا الزَّمَانِ) لِأَنَّهُ زَمَانُ فَسَادٍ وَفِسْقٍ لَعَلَّ هَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ فَيَرُدُّ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الرَّأْيِ وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ مُنْقَرِضُونَ فِي زَمَانِهِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْأَصْلَ الْكُلِّيَّ لَا يَسْقُطُ بِالْعَوَارِضِ وَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ هُوَ الْعَدَمُ وَإِنَّهُ مُؤَدٍّ إلَى سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ مَعَ كَوْنِهِ قِيَاسَ شَاهِدٍ عَلَى غَائِبٍ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْفَاسِدَ لَا يَكُونُ مَقِيسًا عَلَيْهِ وَأَيْضًا إنْ عُلِمَ فَسَادُ أَهْلِ الزَّمَانِ بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ فَلَيْسَ بِمَسْمُوعٍ وَإِنْ بِالنَّاقِصِ فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ فَتَأَمَّلْ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَ جَانِبَ الْمَنْعِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْمَذَاهِبِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ مَعَ الِاتِّفَاقِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ وَهُوَ طَرِيقُ الْوَرَعِ (وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا) التَّغَنِّيَ وَحْدَهُ (بِالْأَشْعَارِ لِأَنَّ التَّغَنِّيَ بِالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ) الظَّاهِرُ سَوَاءٌ أُخِذَا مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ لَا (يَسْتَلْزِمُ اللَّحْنَ وَاللَّحْنُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ) الظَّاهِرُ قَيْدٌ لِحُرْمَةِ اللَّحْنِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ حُرْمَةَ اللَّحْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَاللَّحْنُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ وَفِي رِسَالَةِ الْمَوْلَى أَبِي السُّعُودِ وَقَدْ أَجَازَ هُوَ أَيْ السَّرَخْسِيُّ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ التَّغَنِّيَ وَاللَّحْنَ فِي الْأَذَانِ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغْلٍ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ وَقَالَ لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْت» وَفِي رِوَايَةٍ بِلَفْظِ «الْأَلْحَانِ مَكَانَ التَّرْجِيعِ» وَفِي الْعَتَّابِيَّةِ وَكَانَ يَقْرَأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِالْأَلْحَانِ وَيُعْجِبُهُمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَمَا وَرَدَ فِي جَوَازِ التَّغَنِّي وَاللَّحْنِ فِي الْقُرْآنِ وَارِدٌ فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ دَلَالَةً ثُمَّ قَالَ وَقَوْلُ الْبَزَّازِيِّ وَاللَّحْنُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِإِكْفَارِ مُسْتَحِلِّ الرَّقْصِ إلَخْ انْتَهَى مُلَخَّصًا فَدَعْوَى الِاتِّفَاقِ فِي حُرْمَةِ اللَّحْنِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَلَوْ جُعِلَ قَوْلُهُ بِلَا خِلَافٍ قَيْدًا لِلِاسْتِلْزَامِ بِمَعْنَى إذَا تَغَنَّى فِي الْقُرْآنِ لَزِمَ اللَّحْنُ الْحَرَامَ إلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا اللُّزُومُ بِلَا خِلَافٍ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ وَجْهُ حُسْنٍ عَلَى أَنَّ فِي اسْتِلْزَامِ التَّغَنِّي لِلَّحْنِ خَفَاءٌ [التَّغَنِّي بِمَعْنَى حُسْنِ الصَّوْتِ بِلَا لَحْنٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَإِسْقَاطِ حَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنُ] (وَأَمَّا) (التَّغَنِّي بِمَعْنَى حُسْنِ الصَّوْتِ بِلَا لَحْنٍ) وَلَا زِيَادَةٍ وَإِسْقَاطِ حَرْفٍ (فَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ رَزَّاقٌ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» أَيْ الْهَجُوا بِقِرَاءَتِهِ وَاشْغَلُوا أَصْوَاتَكُمْ بِهِ وَاتَّخِذُوهُ شِعَارًا وَزِينَةً لِأَصْوَاتِكُمْ وَزِيدَ فِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ «فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يُزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا» وَفِي الْفَيْضِ وَفِي رِوَايَةٍ بِحُسْنِ الصَّوْتِ وَجُودَةِ الْأَدَاءِ بَعْثٌ لِلْقُلُوبِ لِاسْتِمَاعِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالْإِصْغَاءِ إلَيْهِ قَالَ التوربشتي هَذَا إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ التَّغَنِّي عَنْ التَّجْوِيدِ وَإِلَّا عَادَ الِاسْتِحْبَابُ كَرَاهَةً وَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِأَوْزَانِ الْمُوسِيقَى فَمِنْ أَسْوَأِ الْبِدَعِ فَيَجِبُ عَلَى التَّالِي التَّعْزِيرُ وَعَلَى السَّامِعِ النَّكِيرُ قِيلَ فِيهِ: نُدِبَ سَمَاعُ حَسَنِ الصَّوْتِ (وَفِي رِوَايَةِ د س «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ

بِأَصْوَاتِكُمْ» يَعْنِي زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْخَشْيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى حَالَ الْقِرَاءَةِ كَمَا «سُئِلَ مَنْ أَحْسَنُ صَوْتًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ إذَا سَمِعْته رَأَيْت أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ» وَقِيلَ فِيهِ حَثٌّ عَلَى تَرْتِيلِهِ وَرِعَايَةِ إعْرَابِهِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ بِهِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى تَرْكِ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ فَإِنَّهُ أَوْقَعُ لِلْقَلْبِ وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا وَأَرَقُّ (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَذِنَ اللَّهُ» بِمَعْنَى اسْتَمَعَ وَتَقَرَّبَ فَإِنَّ مَعْنَى الْإِصْغَاءِ مُحَالٌ هُنَا فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِنَحْوِ إجْزَالِ الثَّوَابِ وَقَبُولِ الْقِرَاءَةِ وَالرِّضَا وَالْإِقْبَالِ بِالرَّأْفَةِ «لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» أَيْ يَجْهَرَ وَيُحْسِنَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ بِخُضُوعٍ وَخُشُوعٍ وَتَرْقِيقٍ وَتَحْسِينٍ يَعْنِي مَا رَضِيَ اللَّهُ مِنْ الْمَسْمُوعَاتِ شَيْئًا هُوَ أَرْضَى عِنْدَهُ وَلَا أَحَبُّ لَهُ مِنْ قَوْلِ نَبِيٍّ يَجْهَرُ وَيُحَسِّنُ صَوْتَهُ إلَخْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَكْثِيرَ الْأَلْحَانِ كَمَا يَفْعَلُهُ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ إذْ الْقُلُوبُ اللَّاهِيَةُ وَالْأَفْئِدَةُ السَّاهِيَةُ تَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ وَلَا تَطْرُدُ الْخَنَّاسَ بَلْ تَزِيدُ فِي الْوَسْوَاسِ (وَفِي رِوَايَةٍ «لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» فَذَلِكَ شَأْنُ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا «لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ وَكَانَ نَبِيُّكُمْ أَحْسَنَهُمْ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُمْ صَوْتًا» وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ كَانَ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ إذَا قَرَأَ الزَّبُورَ وَكَانَ يُحْمَلُ فِي مَجْلِسِهِ أَرْبَعُمِائَةِ جِنَازَةً مِمَّنْ قَدْ مَاتَ مِمَّنْ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ؛ وَلِذَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد» - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» خ عَنْهُ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مَرْفُوعًا «لَيْسَ مِنَّا» أَيْ: الْعَامِلِينَ بِسُنَّتِنَا الْجَارِينَ عَلَى طَرِيقَتِنَا أَوْ مُسْتَحِقِّ شَفَاعَتِنَا «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» لَمْ يُحْسِنْ صَوْتَهُ بِهِ لِأَنَّ التَّطْرِيبَ بِهِ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ وَأَدْعَى لِلِاسْتِمَاعِ وَهُوَ كَالْحَلَاوَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُغَيِّرَ اللَّفْظَ وَلَا يُخِلَّ بِالنَّظْمِ وَلَا يُخْفِيَ حَرْفًا وَإِلَّا حَرُمَ إجْمَاعًا قَالَ ابْنُ مُلَيْكٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ حَسَّنَهُ مَا اسْتَطَاعَ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ يَسْتَغْنِي رَدَّهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الِاسْتِغْنَاءَ لَقَالَ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ وَعَنْ شَرْحِ الْآثَارِ لِلشَّيْخِ الْكَلَابَاذِيِّ إذَا أَصَابَ إنْسَانًا غَمٌّ أَوْ ضَاقَ صَدْرُهُ مِنْ أَمْرِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَسَلَّى وَيَتَفَرَّجَ رُبَّمَا تَغَنَّى وَهُوَ أَنْ يُنَغِّمَ وَيُرَجِّعَ صَوْتَهُ بِشَيْءٍ مِنْ نَحْوِ الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَالْمَنْظُومِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَفَاضِلُ الْأَوْلِيَاءِ هُمُومُهُمْ الْمَعَادُ وَكَرْبُهُمْ الدِّينُ وَوَحْشُهُمْ مِمَّا دُونَ اللَّهِ وَضِيقُ صَدْرِهِمْ عَمَّا يَشْغَلُهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ فَهَلْ لَا يَتَفَرَّجُونَ إلَّا بِذِكْرِ رَبِّهِمْ وَلَا يَتَسَلَّوْنَ مِنْ غُمُومِهِمْ وَهُمُومِهِمْ إلَّا بِمَوْلَاهُمْ فَيُرَجِّعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مِنْ مَحْبُوبِهِمْ اللَّهِ تَعَالَى بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ بِخَشْيَةٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَرِقَّةٍ مِنْ أَفْئِدَتِهِمْ وَنِيرَانُ مَحَبَّتِهِ بَيْنَ ضُلُوعِهِمْ وَمَاءُ الِاشْتِيَاقِ يَجْرِي عَلَى خُدُودِهِمْ فَتَحْسُنُ لِذَلِكَ أَصْوَاتُهُمْ لِأَنَّ الصَّوْتَ بِالْقُرْآنِ هُوَ قِرَاءَتُهُ عَلَى خَشْيَةٍ مِنْ اللَّهِ (وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّغَنِّي فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورُ مِنْهُ) أَيْ التَّغَنِّي وَهُوَ التَّرَنُّمُ وَالتَّنْغِيمُ مَعَ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ بَيْنَ أَهْلِ الْمُوسِيقَى فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ إثَارَةِ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ بِالْقُلُوبِ اللَّاهِيَةِ وَالْأَفْئِدَةِ السَّاهِيَةِ تَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ وَلَا تَطْرُدُ الْخَنَّاسَ وَتَزِيدُ فِي الْوَسْوَاسِ

بِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ الْأَوَّلُ أَنْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ (قَارِئَ الْقُرْآنِ مُثَابٌ مِنْ غَيْرِ تَحْسِينٍ مِنْهُ صَوْتَهُ) مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ (فَضْلًا عَنْ التَّغَنِّي) بِالْمَعْنَى غَيْرِ الْمَشْهُورِ (فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ) تَارِكُهُ وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ أَنَّ تَارِكَ التَّغَنِّي مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ (وَهَذَا الْوَجْهُ للتوربشتى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) شَارِحِ الْمَصَابِيحِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي حَدِيثِ لَيْسَ مِنَّا آنِفًا الْمُرَادُ مِنْ التَّغَنِّي تَحْسِينُ الصَّوْتِ كَمَا مَرَّ ثُمَّ قَالَ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ يَسْتَغْنِي رَدَّهُ الشَّافِعِيُّ كَمَا سَبَقَ ثُمَّ قَالَ نَعَمْ اعْتَرَضَ التوربشتي عَلَى الْأَوَّلِ بَعْدَمَا رَجَّحَ مَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ مِنَّا وَعِيدٌ وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ قَارِئَ الْقُرْآنِ يُثَابُ مِنْ غَيْرِ تَحْسِينِ صَوْتِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعِيدِ وَهُوَ مَأْجُورٌ لَعَلَّ حَاصِلَهُ أَنَّ التَّغَنِّيَ فِي الْحَدِيثِ إمَّا بِمَعْنَى تَحْسِينِ الصَّوْتِ أَوْ بِمَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ لَكِنَّ الْمُقَدَّمَ بَاطِلٌ أَيْ لَيْسَ التَّغَنِّي تَحْسِينَ الصَّوْتِ فَالتَّالِي أَنَّ كَوْنَهُ بِمَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ حَقٌّ أَمَّا بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الِاسْتِثْنَائِيَّة أَنَّ التَّغَنِّيَ فِي الْحَدِيثِ تَرْكُهُ مُوجِبٌ لِلْوَعِيدِ وَحُسْنَ الصَّوْتِ لَيْسَ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِلْوَعِيدِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى الثَّوَابِ بِلَا تَحْسِينِ صَوْتٍ إذَا عَرَفْت هَذَا فَقَوْلُ التوربشتي عَلَى الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ فَقَطْ وَمَطْلُوبُ الْمُصَنِّفِ جَمِيعُ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ يَعْنِي الْمَطْلُوبُ عَدَمُ كَوْنِ التَّغَنِّي فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ وَاللَّازِمُ مِنْ التوربشتي هُوَ فِي بَعْضِهَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ وَأَيْضًا التَّغَنِّي الْمَنْفِيُّ فِي مَطْلُوبِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى التَّرَنُّمِ كَمَا أُشِيرَ لَهُ وَالتَّغَنِّي فِي التوربشتي بِمَعْنَى الصَّوْتِ الْحَسَنِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَرَنُّمٌ فَلَا تَقْرِيبَ وَأَيْضًا قَوْلُهُ فَضْلًا عَنْ التَّغَنِّي مَعَ عَدَمِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا فِي كَلَامِ التوربشتي لَيْسَ لَهُ مَحْصُولٌ بَلْ اخْتِلَالٌ وَأَيْضًا فِي كَلَامِهِ بَحْثٌ تَأَمَّلْ تَنَلْ (وَالثَّانِي أَنَّهُ يُعَارِضُ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ إرَادَةِ الْمَشْهُورِ فِي الْأَحَادِيثِ (مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ) فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ لَعَلَّهُ غَيْرُ التِّرْمِذِيِّ الْمُحَدِّثِ الْمَشْهُورِ لِتَغْيِيرِهِ الْأُسْلُوبَ (عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ» أَيْ نَظْمِهَا «وَأَصْوَاتِهَا» أَيْ تَرَنُّمَاتِهَا الْحَسَنَةِ الَّتِي لَا يَخْتَلُّ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ الْحُرُوفِ عَنْ مَخْرَجِهِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ النَّظْمِ يُورِثُ نَشَاطًا لِلْقَارِئِ فَإِذَا قَرَأَ بِالْأَلْحَانِ الْمَذْكُورَةِ تَضَاعَفَ فِيهِ النَّشَاطُ وَالِانْبِسَاطُ وَحَنَّتْ إلَيْهِ الْقُلُوبُ الْقَاسِيَةُ وَكُشِفَتْ عَنْ الْبَصَائِرِ الْغَشَاوَةُ الْغَاشِيَةُ اعْلَمْ أَنَّ اللَّحْنَ قَدْ يَكُونُ بِتَحْرِيفِ الْكَلِمَاتِ بِزِيَادَةِ حَرْفٍ سَوَاءٌ كَانَ حَرْفَ مَدٍّ أَوْ غَيْرَهُ أَوْ بِنَقْصٍ وَقَدْ يَكُونُ بِتَغْيِيرِ صِفَاتِ حُرُوفِهَا بِأَنْ يُنْقِصَ أَوْ يَزِيدَ شَيْئًا مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْحُرُوفِ كَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْمَدَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْإِدْغَامِ وَالْإِخْفَاءِ وَإِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ وَتَوْفِيرِ الْغُنَّاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّوْحِيدِ كَمَا فُهِمَ مِنْ كَلَامِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ اللَّحْنُ بِمَعْنَى التَّغَنِّي وَبِمَعْنَى مُجَرَّدِ حُسْنِ الصَّوْتِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ شَيْءٍ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ وَتَفْصِيلُ لُحُونِ الْعَرَبِ الْأَصْوَاتُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي هِيَ مَدُّ الْمَمْدُودِ وَقَصْرُ الْمَقْصُورِ وَتَرْقِيقُ الْمُرَقَّقِ وَتَفْخِيمُ الْمُفَخَّمِ وَإِدْغَامُ الْمُدْغَمِ وَإِظْهَارُ الْمُظْهَرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ «وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْفِسْقِ» مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُخْرِجُونَ الْقُرْآنَ عَنْ مَوْضِعِهِ بِالتَّمْطِيطِ بِحَيْثُ يُزَادُ حَرْفٌ وَيُنْقَصُ حَرْفٌ فَإِنَّهُ حَرَامٌ إجْمَاعًا كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ كَذَا فِي الْفَيْضِ فَتَأَمَّلْ

«وَلُحُونِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ» الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى «فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ» بِالتَّشْدِيدِ أَيْ يُرَدِّدُونَ «الْقُرْآنَ» يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِقِرَاءَتِهِ مَرَّةً وَيَخْفِضُونَ أُخْرَى وَمِنْهُ تَرْجِيعُ الْأَذَانِ إذْ هُوَ تَفَاوُتُ ضُرُوبِ الْحَرَكَاتِ فِي الصَّوْتِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ «تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ» أَيْ أَهْلِ الْغِنَاءِ «وَالرَّهْبَانِيَّةِ» وَهُمْ النَّصَارَى «وَ» أَهْلُ «النَّوْحِ لَا يُجَاوِزُ» مَعْنَاهُ وَحُكْمُهُ «حَنَاجِرَهُمْ» جَمْعُ حَنْجَرَةٍ وَهِيَ الْحُلْقُومُ مَجْرَى النَّفَسِ «مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ» بِأَنْوَاعِ الْفِتَنِ نَحْوُ مَحَبَّةِ الشُّبَّانِ وَالنِّسَاءِ «وَقُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ» أَيْ حَالُهُمْ الْقَبِيحَةُ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهُمْ وَفِي الْبُخَارِيِّ «إنَّ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَرَجَّعَ فِيهَا» وَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ التَّلْحِينِ الْمَذْمُومِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ الْمَطْلُوبِ وَأَنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ إخْرَاجُ الْحَرْفِ عَمَّا يَجُوزُ لَهُ فِي الْأَدَاءِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ الْجُمْهُورِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْهُ فِي الْقِرَاءَةِ فَمَنَعَهُ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ مَا اسْمُك قَالَ مُحَمَّدٌ قَالَ أَيُعْجِبُك أَنْ يُقَالَ لَك يَا مُوحَامَدُ كَذَا فِي الْفَيْضِ فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ تَأْوِيلُ التَّغَنِّي فِي الْأَحَادِيثِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ قُلْنَا بَلْ هُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْحَظْرَ يَرْجِعُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَإِنَّ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ فِي جَانِبِهِ تَأَمَّلْ ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى تَخْرِيجِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ شَارِحُهُ عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لَا يَصِحُّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ مِنْ رِجَالِهِ مَجْهُولٌ وَبِوَاقِيهِ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالتَّدْلِيسِ وَعَنْ الْمِيزَانِ لَيْسَ بِمُعْتَمَدٍ وَمُنْكَرٌ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ السَّابِقُ فَمِنْ تَخْرِيجِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَمِنْ مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَالْكُلُّ عَلَى رِوَايَةِ سَعْدٍ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِطَعْنِهِ كَمَا فِي الْفَيْضِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ وَأَمَّا تَرْجِيحُ الْحَظْرِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ عِلَّتِهِ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ ثُبُوتِ الصِّحَّةِ وَسَلَامَةِ السَّنَدِ فَافْهَمْ (وَ) يُعَارِضُ (مَا خَرَّجَهُ بِرّ) ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَنْبَسٍ) قِيلَ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ (وَسَيَجِيءُ فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ) وَفِيهِ نَشْءٌ يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لِيُغْنِيَهُمْ بِالْقُرْآنِ وَإِنْ أَقَلَّهُمْ فِقْهًا قَالَ فِي الْفَيْضِ فِيهِ عُثْمَانُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يُعَارِضُ الْأَوَّلَ أَيْضًا فَلَعَلَّ التَّعْوِيلَ عَلَى أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فَكَانَ التَّرْتِيبُ عَلَى صَنْعَةِ التَّرَقِّي (وَالثَّالِثُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِكَوْنِ التَّالِي بِالتَّغَنِّي وَالسَّامِعِ لَهُ آثِمِينَ) فِي التَّغَنِّي لِفِعْلِ الْأَوَّلِ وَرِضَا الثَّانِي (قَالَ الْبَزَّازِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ مَعْصِيَةٌ وَالتَّالِي وَالسَّامِعُ آثِمَانِ وَكَذَا فِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى وَقَالَ الْبَزَّازِيُّ أَيْضًا اللَّحْنُ فِيهِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُدَّعَى هُوَ التَّغَنِّي وَالْمَذْكُورُ فِي الدَّلِيلِ اللَّحْنُ وَدَعْوَى اتِّحَادِهِمَا لَيْسَ بِمَسْمُوعٍ كَمَا سَبَقَ وَدَعْوَى أَنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ اللَّحْنِ التَّغَنِّي قَرِيبٌ إلَى التَّحَكُّمِ وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَقَدْ سَمِعْت عَنْ أَبِي السُّعُودِ أَنَّ قَوْلَ الْبَزَّازِيِّ وَاللَّحْنُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِوُجُودِ الْمُخَالِفِ (وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ لَا يَحِلُّ التَّرْجِيعُ) أَيْ الْإِخْلَالُ بِحَقِّ الْحَرْفِ مُطْلَقًا كَمَا مَرَّ (فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَا التَّطْرِيبُ فِيهِ وَلَا يَحِلُّ الِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ لِأَنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِفِعْلِ الْفَسَقَةِ فِي حَالِ فِسْقِهِمْ وَهُوَ التَّغَنِّي) ظَاهِرُهُ أَنَّ التَّرْجِيعَ وَالتَّطْرِيبَ لَيْسَ نَفْسَ التَّغَنِّي بَلْ شُبِّهَ بِهِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ نَفْسُ التَّغَنِّي فَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّغَنِّيَ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ بِحَلَالٍ

لِشَبَهِهِ بِتَغَنِّي الْفَسَقَةِ ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْفَتَاوَى أَنَّ الْمُتُونَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الشُّرُوحِ وَالشُّرُوحَ عَلَى الْفَتَاوَى فِي الْوَثَائِقِ فَالْأَوْلَى عَكْسُ التَّرْتِيبِ عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَقْصُودِ أَوْضَحُ مِمَّا فِيهِ قَبْلَهُ وَقَدْ أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَقَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ وَالْأَلْحَانُ إنْ لَمْ يُغَيِّرْ الْكَلِمَةَ عَنْ مَوْضِعِهَا بَلْ يُحَسِّنُهُ) وَهُوَ التَّغَنِّي الْمَمْدُوحُ الْمُتَقَدِّمُ (تَحْسِينُ الصَّوْتِ وَتَزْيِينُ الْقِرَاءَةِ فَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا) كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ فِي الْإِتْقَانِ يُسَنُّ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَتَرْتِيبُهَا لِحَدِيثِ «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا وَحَدِيثِ «حُسْنُ الصَّوْتِ زِينَةٌ» وَفِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ حَسَّنَهُ مَا اسْتَطَاعَ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ إلَى حَدِّ التَّمْطِيطِ (وَإِنْ كَانَ يُغَيِّرُ الْكَلِمَةَ) وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ النَّقْلِ (عَنْ مَوْضِعِهَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) لَعَلَّ الْمُرَادَ فَسَادُ كَمَالِ الصَّلَاةِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ تَغْيِيرِ الْكَلِمَةِ التَّغْيِيرُ الْفَاحِشُ الْمُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ عَلَى مَا ذَكَرُوا وَإِلَّا فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ تَغْيِيرٍ مُفْسِدًا (وَقَالَ التوربشتي الْقِرَاءَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُهِيجُ) مِنْ التَّهْيِيجِ أَيْ التَّحْرِيكِ (الْوَجْدَ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ وَيُورِثُ الْحُزْنَ وَيَجْلِبُ الدَّمْعَ مُسْتَحَبَّةٌ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ التَّغَنِّي عَنْ التَّجْوِيدِ وَلَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ مُرَاعَاةِ النَّظْمِ فِي الْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفِ) بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ (فَإِذَا انْتَهَى إلَى ذَلِكَ وَعَادَ الِاسْتِحْبَابُ فِيهِ كَرَاهَةً) أَيْ تَحْرِيمِيَّةً (وَأَمَّا الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُتَكَلِّفُونَ) فِي تَرْوِيجِ التَّغَنِّي (وَأَبْدَعَهُ الْمُرْتَهِنُونَ) الْمُرْتَكِبُونَ (بِمَعْرِفَةِ الْأَوْزَانِ وَعِلْمِ الْمُوسِيقَى) عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الْأَنْغَامُ وَأَقْسَامُهَا وَشُعَبُهَا (فَيَأْخُذُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ مَأْخَذَهُمْ) أَيْ كَأَخْذِهِمْ وَمَشْرُوعِهِمْ (فِي النَّشِيدِ) ضَرْبٌ مِنْ الشِّعْرِ (وَالْغَزَلِ) مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّسَاءِ مِنْ الْأَبْيَاتِ (وَالْمَثْنَوِيَّاتِ) مَا يَكُونُ مَثْنَى مَثْنَى (حَتَّى لَا يَكَادَ السَّامِعُ يَفْهَمُهُ مِنْ كَثْرَةِ النَّغَمَاتِ وَالتَّقْطِيعَاتِ) بِاعْتِبَارِ مِيزَانِ الْأَوْزَانِ (فَإِنَّهُ مِنْ أَشْنَعِ الْبِدَعِ) كَذَا نُقِلَ عَنْ أَكْمَلِ الْمَشَارِقِ (وَأَسْوَأِ الْأَحْدَاثِ فِي الْإِسْلَامِ) لِأَنَّهُ تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ فِي كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى (وَنَرَى أَدْنَى الْأَقْوَالِ وَأَهْوَنَ الْأَحْوَالِ فِيهِ أَنْ نُوجِبَ عَلَى السَّامِعِ النَّكِيرَ) مِنْ الْإِنْكَارِ (وَعَلَى التَّالِيَ التَّعْزِيرَ) لِأَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَتَقَدَّرْ فِيهَا حَدٌّ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْحُكَّامِ إقَامَتُهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى انْدِرَاسِ الْمَعَانِي بِفَسَادِ الْمَبَانِي وَإِلَى ذَهَابِ الْأَحْكَامِ وَالْتِبَاسِ الشَّرِيعَةِ عَلَى أُولِي الْأَفْهَامِ قِيلَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ شَرَعَ فِي أَقْوَالِ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ (وَقَالَ النَّوَوِيُّ) أَقُولُ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ إنَّ التُّورْبَشْتِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا مَرَّ وَالنَّوَوِيُّ رَجُلٌ عَظِيمٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ أَبِي يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ قِيلَ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى جَعْلِهِ فِي مَذْهَبِهِ وَيَفْتَخِرُ بِهِ

القراءة بالألحان الموضوعة المحدثة الموافقة لعلم الموسيقى

[الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ الْمُحْدَثَةِ الْمُوَافِقَةِ لِعِلْمِ الْمُوسِيقَى] (قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ) هُوَ الْإِمَامُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ (فِي كِتَابِ الْحَاوِي الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ) الْمُحْدَثَةِ الْمُوَافِقَةِ لِعِلْمِ الْمُوسِيقَى احْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْأَلْحَانِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَلْحَانُ الْعَرَبِ (إنْ أَخْرَجَتْ لَفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ صِيغَتِهِ) الَّتِي يَجِبُ أَدَاؤُهُ بِهَا (بِإِدْخَالِ حَرَكَاتٍ فِيهِ أَوْ إخْرَاجِ حَرَكَاتٍ مِنْهُ أَوْ قَصْرِ مَمْدُودٍ أَوْ مَدِّ مَقْصُورٍ أَوْ تَمْطِيطٍ) أَيْ تَطْوِيلٍ (يَخْفَى بِهِ اللَّفْظُ) الْقُرْآنِيُّ (وَيَلْتَبِسُ بِهِ الْمَعْنَى) الْفُرْقَانِيُّ وَعَنْ عَلِيٍّ الْقَارِي فِي شَرْحِ ابْنِ الْجَزَرِيِّ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ جَمِيعَ قَوَاعِدِ التَّجْوِيدِ وُجُوبًا فِيمَا يُغَيِّرُ الْمَبْنَى وَيُفْسِدُ الْمَعْنَى وَاسْتِحْبَابًا فِيمَا يَحْسُنُ بِهِ اللَّفْظُ وَيُسْتَحْسَنُ بِهِ النُّطْقُ حَالَ الْأَدَاءِ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالِاسْتِحْبَابِ فِي هَذَا النَّوْعِ لِأَنَّ اللَّحْنَ الْخَفِيَّ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَهَرَةُ الْقُرَّاءِ مِنْ تَكْرِيرِ الرَّاءَاتِ وَتَطْنِينِ النُّونَاتِ وَتَغْلِيظِ اللَّامَّاتِ مِنْ غَيْرِ مَحِلِّهَا وَتَرْقِيقِ الرَّاءَاتِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فَرْضَ عَيْنٍ يَتَرَتَّبُ الْعِقَابُ عَلَى فَاعِلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَرَجٍ عَظِيمٍ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ أَيْضًا اللَّحْنُ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ فَالْجَلِيُّ خَطَأٌ يَعْرِضُ لِلَّفْظِ وَيُخِلُّ بِالْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ كَرَفْعِ الْمَجْرُورِ وَنَصْبِهِ وَنَحْوِهِمَا سَوَاءٌ تَغَيَّرَ الْمَعْنَى بِهِ أَمْ لَا وَالْخَفِيُّ خَطَأٌ يُخِلُّ بِالْعُرْفِ كَتَرْكِ الْإِخْفَاءِ وَالْقَلْبِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالْغُنَّةِ وَكَتَرْقِيقِ الْمُفَخَّمِ وَعَكْسِهِ وَمَدِّ الْمَقْصُورِ وَقَصْرِ الْمَمْدُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِمَّا لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ لَيْسَ فِيهِ الْعِقَابُ وَإِنَّمَا فِيهِ خَوْفُ الْعِقَابِ (فَهُوَ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ إلَى الِاعْوِجَاجِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا) أَيْ عَدَمُ إرَادَةِ الْمَشْهُورِ مِنْ التَّغَنِّي فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ لَا يَخْفَى أَنَّك عَرَفْتَ عَدَمَ تَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ لِكَوْنِ بَعْضِهَا صَحِيحًا وَبَعْضِهَا ضَعِيفًا وَشَرْطُ التَّعَارُضِ هُوَ التَّسَاوِي وَأَمَّا أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ عَرَفْت أَخْتِلَافَهُمْ فِيهِ فَالنَّفْيُ عَلَى إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِحَسَنٍ عَلَى قَوَانِينِ الْمُنَاظَرَةِ (فَالْمُرَادُ بِالتَّغَنِّي فِي حَدِيثِ الْوَعِيدِ) كَحَدِيثِ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ (أَمَّا الْجَهْرُ وَالْإِعْلَانُ وَالْإِفْصَاحُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ) لَعَلَّهُ قَيْدٌ لِلْجَمِيعِ لَا لِلْأَخِيرِ فَقَطْ أَمَّا الْأَوَّلُ فَعِنْدَنَا يَجِبُ الْجَهْرُ كَالْإِمَامِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَعِنْدَ إيقَاظِ غَافِلٍ وَتَنْبِيهِ نَائِمٍ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ عَنْ بَعْضٍ يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارُ بِبَعْضِهَا لِأَنَّ الْمُسِرَّ قَدْ يَمَلُّ فَيَأْنَسُ بِالْجَهْرِ وَالْجَاهِرُ قَدْ يَكِلُّ فَيَسْتَرِيحُ بِالْإِسْرَارِ (وَيُؤَيِّدُهُ وُقُوعُهُ) أَيْ يَجْهَرُ بِهِ (مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ لِلتَّغَنِّي فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ) وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ هَذَا عِنْدَ كَوْنِ قَوْلِهِ يَجْهَرُ بِهِ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ يَتَغَنَّى وَهُوَ لَيْسَ بِمَجْزُومٍ بَلْ يَجُوزُ كَوْنُهُ حَالًا فَافْهَمْ نَعَمْ الْأَحَادِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالنُّصُوصِ [الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ عَنْ الْأَشْعَارِ وَأَحَادِيثِ النَّاسِ] (وَأَمَّا الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ عَنْ الْأَشْعَارِ وَأَحَادِيثِ النَّاسِ) فَيَكُونُ مِنْ الْغِنَى ضِدِّ الْفَقْرِ لَا مِنْ الْغِنَاءِ الْمَمْدُودِ وَالْمَعْنَى لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ عَنْ الْأَبْيَاتِ وَالْأَشْعَارِ وَأَحَادِيثِ النَّاسِ مِنْ

الْمُهْمَلَاتِ لَكِنْ يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا فِي الْفَيْضِ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْمَدِّ لَا بِالْقَصْرِ (وَقَدْ وَرَدَ التَّغَنِّي بِهَذَا الْمَعْنَى) أَيْ الِاسْتِغْنَاءِ فَيَكُونُ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ لَكِنَّهُ قِيلَ بِقِلَّتِهِ عَنْ الْمِصْبَاحِ وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مَعْنَى مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُقَالُ تَغَنَّيْت تَغَنِّيًا بِمَعْنَى اسْتَغْنَيْت لَكِنْ سَمِعْت رَدَّ الشَّافِعِيُّ إيَّاهُ (أَوْ) الْمُرَادُ بِالتَّغَنِّي (التَّجْوِيدُ) أَدَاءُ الْحُرُوفِ حَقَّهَا (وَالتَّرْتِيلُ) بِالْإِفْصَاحِ بِالْحُرُوفِ وَقِيلَ التَّجْوِيدُ عَدَمُ اللَّحْنِ الْجَلِيِّ وَالتَّرْتِيلُ عَدَمُ اللَّحْنِ الْخَفِيِّ (فَإِنَّهُ) كُلًّا مِنْ التَّجْوِيدِ وَالتَّرْتِيلِ (زَيْنُ الْقُرْآنِ لَا سِيَّمَا) فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وَلَا سِيَّمَا بِالْوَاوِ وَاجِبٌ وَعَنْ ثَعْلَبٍ تَرْكُ الْوَاوِ خَطَأٌ وَعَنْ غَيْرِهِ جَائِزٌ (مَعَ حُسْنِ الصَّوْتِ) وَلَوْ بِتَكَلُّفٍ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُغَيِّرَ اللَّفْظَ وَلَا يُخِلَّ بِنَظْمِ الْكَلَامِ (وَأَمَّا) التَّغَنِّي (فِي حَدِيثِ مَا أَذِنَ إلَى آخِرِهِ فَأَحَدُ هَذِهِ الْوُجُوهِ) الثَّلَاثَةِ مِنْ الْجَهْرِ وَالِاسْتِغْنَاءِ وَالتَّجْوِيدِ أَقُولُ رِوَايَةُ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ يَجْهَرُ بِهِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ التَّغَنِّي إذْ بَعْضُ الرِّوَايَةِ يُفَسِّرُ آخَرَ (مَعَ زِيَادَةِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ) لَعَلَّ لِذَلِكَ قَالَ (بَلْ هُوَ أَوْلَى الْوُجُوهِ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ (عَلَى رِوَايَةِ حُسْنِ الصَّوْتِ) بَلْ الِاحْتِمَالُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لَا غَيْرُ قَالَ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ إنْ عَلِمَ رُجْحَانَ بَعْضِ الِاحْتِمَالِ لَا يَسْوِ غَيْرُهُ وَلَوْ لِتَشْحِيذِ الذِّهْنِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لِوُجُوبِ حَمْلِهَا عَلَى أَصَحِّ الِاحْتِمَالَاتِ وَأَقْوَى الْوُجُوهِ وَفِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ عَنْ بَعْضِ الشُّرَّاحِ إيرَادٌ عَلَى احْتِمَالِ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ عَنْ النَّاسِ وَتَكَلُّمُهُمْ يُفْضِي إلَى مَفَاسِدَ مِنْ تَضْيِيعِ الْقَارِئِ وَفَوْتِ التَّبْلِيغِ عَلَى أَنَّ مَجِيءَ تَفَعَّلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ قَلِيلٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَعَ مَحْمَلٍ آخَرَ صَحِيحٍ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ اسْتِغْنَاءَهُ بِكَوْنِ وَقْتِ قِرَاءَتِهِ إذْ لَا دَلِيلَ فِي اللَّفْظِ عَلَى اسْتِغْرَاقِ اسْتِغْنَائِهِ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ فَلَا مَفَاسِدَ مَعَ أَنَّ قِلَّةَ الِاسْتِعْمَالِ لَا تَمْنَعُ احْتِمَالَ الْإِرَادَةِ أَقُولُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ مَعَ عَمَلٍ آخَرَ صَحِيحٍ وَقَدْ قَالُوا الْمُفْرَدُ يُلْحَقُ بِالْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ وَقَدْ قِيلَ عَنْ الْكِفَايَةِ الْعِبْرَةُ لِلْغَالِبِ الشَّائِعِ لَا لِلنَّادِرِ وَقَدْ عَلِمْت آنِفًا الْمَقْبُولَ مِنْ مُغْنِي اللَّبِيبِ فَافْهَمْ (وَهَذِهِ الْوُجُوهُ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ التوربشتي وَ) الشَّيْخُ أَكْمَلُ الدِّينِ (فِي شَرْحِ) الْمَشَارِقِ وَفِي شَرْحِ (هَذِهِ الْأَحَادِيثِ) أَيْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَوْ بَعْضِهَا أَوْ الْإِشَارَةِ إلَى بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فَتَأَمَّلْ قَوْلَ التوربشتي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا مَرَّ فَالْأَوْلَى عَكْسُ التَّرْتِيبِ لِأَنَّ الْأَكْمَلَ مِنْ أَعْيَانِ شُرَّاحِ الْهِدَايَةِ الْمُقَدَّمِ قَوْلُهُ عَلَى الْفَتَاوَى (وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) وَاعْلَمْ أَنَّك بَعْدَ مَا سَمِعْت الْأَقْوَالَ فِي حَقِّ التَّغَنِّي فَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ

الثامن عشر إفشاء السر

فِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ بِتَرْجِيعِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِرَاءَةِ إنَّا فَتَحْنَا لَك قَالَ شَارِحُهُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَرْوِيُّ عَنْ صِفَةِ تَرْجِيعِهِ مَدُّ الصَّوْتِ فِي الْقِرَاءَةِ آآ آثُمَّ قَالَ وَالْحَقُّ فِي تَغَنِّي الْقِرَاءَةِ أَنَّ طَبِيعَتَهُ بِلَا تَكَلُّفٍ فَمَحْمُودٌ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ وَمِثْلُهُ أَيْضًا فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ حَيْثُ قَالَ مَا حَاصِلُهُ إنْ سَمَحَتْ الطَّبِيعَةُ بِالْغِنَاءِ بِلَا تَعَلُّمٍ وَلَا تَكَلُّفٍ فَجَائِزٌ وَإِنْ بِاكْتِسَابٍ وَتَصَنُّعٍ فَمَكْرُوهٌ قَالَ حَفِيدُ السَّعْدِ فِي مَجْمُوعَةِ الْعُلُومِ عَنْ التَّتَارْخَانِيَّة لِأَنَّ التَّغَنِّيَ وَاسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ حَرَامٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَبَالَغُوا فِيهِ وَعَنْ الْمُسْتَصْفَى شَرْحِ النَّافِعِ التَّغَنِّي حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَعَنْ الزِّيَادَاتِ مِنْ الْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْوَصِيَّةُ لِلْغِنَاءِ وَعَنْ الْمَرْغِينَانِيِّ مَنْ قَالَ لِمُقْرِئِ زَمَانِنَا أَحْسَنْت يَكْفُرُ وَعَنْ جَامِعِ الْمَحْبُوبِيِّ مُجَرَّدُ الْغِنَاءِ وَالِاسْتِمَاعِ إلَيْهِ مَعْصِيَةٌ وَعَنْ الشِّرْعَةِ صَوْتُ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْغِنَاءُ فِتْنَةٌ وَالتَّرْجِيعُ بِالْقُرْآنِ قِيلَ لَا بَأْسَ وَالْأَكْثَرُ مَكْرُوهٌ وَقِيلَ التَّغَنِّي لِنَفْسِهِ جَائِزٌ وَلِغَيْرِهِ مَكْرُوهٌ إلَّا فِي نَحْوِ الْعُرْسِ وَالْوَلِيمَةِ وَقِيلَ إنْ لِلَهْوٍ مَكْرُوهٌ وَإِلَّا فَلَا وَعَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ جَمِيعُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا وَعَنْ النِّهَايَةِ رَخَّصَ عُمَرُ فِي غِنَاءِ الْأَعْرَابِ وَهُوَ صَوْتٌ كَالْحِدَاءِ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْغِنَاءُ يُطْلَقُ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَالتَّرَنُّمِ وَالْحِدَاءِ فَلَا يُسَمَّى فَاعِلُهُ مُغَنِّيًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِذَلِكَ مَنْ يُنْشِدُ بِتَمْطِيطٍ وَتَكْثِيرٍ وَتَهَيُّجٍ وَتَشْوِيقٍ بِمَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْفَوَاحِشِ وَعَنْ الْكَرْمَانِيِّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ كَانَ الشِّعْرُ الَّذِي يُغَنَّى بِهِ فِي مَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي نَحْوِ وَصْفِ الشَّجَاعَةِ وَأَمَّا بِالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرِ فَمَحْظُورٌ وَأَجَازَتْ الصَّحَابَةُ غِنَاءَ الْعَرَبِ الَّذِي هُوَ إنْشَادُ التَّرَنُّمِ وَأَجَازُوا الْحِدَاءَ وَفَعَلُوهُ بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ مِثْلُهُ بِحَرَامٍ فَيَجُوزُ هَذَا الْغِنَاءُ لِأَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ دُونَ الْعَوَامّ بَلْ لِلْعُلَمَاءِ أَهْلِ الْقُدْرَةِ وَعَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْغِنَاءَ وَسَمَاعَهُ مَكْرُوهَانِ وَلَيْسَا بِمُحَرَّمَيْنِ إلَّا مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَحَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَرَاهَتُهُ وَإِبَاحَتُهُ وَوَفَّقَ بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي الْأَشْعَارِ الْمُرَغِّبَةِ فِي الْآخِرَةِ وَالْكَرَاهَةَ فِي غَيْرِهَا وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ الْغِنَاءِ الْمُعْتَادِ وَعَنْ الطَّبَرِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَرَاهَتُهُ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَهْوٌ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ وَمُسْتَكْثِرُهُ سَفِيهٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَمَنْ نَسَبَ جَوَازَهُ إلَى الشَّافِعِيَّةِ كَذَبَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَمَنْعِهِ وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي ذَلِكَ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ وَغَلَبَهُ هَوَاهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا قَالَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ لَوْ فِي الْغِنَاءِ وَعْظٌ وَحِكْمَةٌ فَجَائِزٌ اتِّفَاقًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي الْعُرْسِ كَمَا جَازَ ضَرْبُ الدُّفِّ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ مُطْلَقًا وَفِي الشُّرُنْبُلَالِيُّ فِي حَاشِيَةِ الدُّرَرِ عَنْ الْكَمَالِ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَكْرَهُهُ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهْوِ وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ جَمِيعَ ذَلِكَ وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ لَعَلَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ مَا فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنَّ الْمَذْهَبَ حُرْمَتُهُ مُطْلَقًا فَانْقَطَعَ الْخِلَافُ بَلْ ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا لَوْ لِنَفْسِهِ انْتَهَى لِكَثْرَةِ قَائِلِهِ وَوَثَاقَتِهِ وَقُوَّةِ أَدِلَّتِهِ وَأَنَّ الْحَظْرَ يَرْجَحُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْحُرْمَةَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الِاتِّفَاقِ وَأَنَّ تَأْوِيلَ أَدِلَّةِ الْجَوَازِ أَقْرَبُ مِنْ تَأْوِيلِ أَدِلَّةِ الْمَنْعِ وَأَنَّ النَّفْيَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَقَدْ سَمِعْت أَيْضًا أَنَّ أَدْنَى دَرَجَةِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبْهَةِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ وَالْحَرَامُ كُلِّيٌّ مُشْكِلٌ أَقْوَاهُ التَّغَنِّي بِالْفُحْشِيَّاتِ كَالنِّسْوَانِ وَهَجْوُ الْمُسْلِمِ لَعَلَّهُ هُوَ مَحْمَلُ الْحُرْمَةِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَالَ فِي أَكْمَلِ الْمَشَارِقِ مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ مُطْلَقًا وَالْحَقُّ إنْ اشْتَمَلَ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ أَوَالْحَثَّ عَلَى الطَّاعَةِ وَنَحْوَهُمَا فَجَائِزٌ حَسَنٌ إنْشَادُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ وَمِثْلُهُ فِي مَجْمُوعَةِ الْحَفِيدِ الْأَشْعَارُ الَّتِي يُنْشِدُهَا الْمُتَزَهِّدُونَ بِتَطْرِيبٍ وَتَلْحِينٍ وَيُزْعِجُ الْقُلُوبَ إلَى ذِكْرِ الْآخِرَةِ مُبَاحَةٌ وَإِلَّا فَحَظْرٌ [الثَّامِنَ عَشَرَ إفْشَاءُ السِّرِّ] (الثَّامِنَ عَشَرَ إفْشَاءُ السِّرِّ) سَوَاءٌ سِرُّ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ سِيَّمَا الْوَاقِعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَمِنْ شِعَارِ الْفَسَقَةِ وَلَهُ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ كَالْحِقْدِ وَالْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَإِيقَاظِ الْفِتْنَةِ وَفِي حَدِيثِ الْمَشَارِقِ «لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إلَّا سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي مَعَاصِيَ ذَلِكَ السَّاتِرِ مِنْ إشَاعَتِهَا فِي الْمَوْقِفِ

(د عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ» أَيْ لَا يُشِيعُ حَدِيثَ جَلِيسِهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْأَمَانَةِ وَتَجَنُّبِ أَهْلِ الْخِيَانَةِ وَعَنْ الْعَسْكَرِيِّ يُرِيدُ أَنَّ الرَّجُلَ يَجْلِسُ إلَى الْقَوْمِ فَيَخُوضُونَ فِي حَدِيثٍ رُبَّمَا كَانَ فِيهِ مَا يَكْرَهُونَ فَيَأْمَنُونَهُ عَلَى سِرِّهِمْ فَذَلِكَ الْحَدِيثُ كَالْأَمَانَةِ عِنْدَهُ فَمَنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ قَتَّاتٌ وَفَسَّرَ أَيْضًا أَيْ الْمَجَالِسَ إنَّمَا تَحْسُنُ بِالْأَمَانَةِ لِحَاضِرِيهَا عَلَى مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ «إلَّا ثَلَاثَةَ» مَجَالِسَ «سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ» فَيُفْشِي مَا سَمِعَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِإِهْرَاقِ دَمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَلْحَقُهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّرْبِ وَالْجَرْحِ «وَفَرْجٍ حَرَامٍ» أَيْ الزِّنَا «وَاقْتِطَاعُ مَالٍ» أَيْ وَمَجْلِسٌ يُقْتَطَعُ فِيهِ مَالُ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ «بِغَيْرِ حَقٍّ» شَرْعِيٍّ مُبِيحٍ فَيَظْهَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ أَوْ التَّلَفِ وَالْإِهْدَارِ أَوْ غَمْزِ الظَّالِمِ فَلَا يَجُوزُ لِلسَّامِعِ كَتْمُهُ قَالَ فِي الْفَيْضِ قَالَ الْقَاضِي يُرِيدُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي إذَا حَضَرَ مَجْلِسًا وَوَجَدَ أَهْلَهُ عَلَى مُنْكَرٍ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِهِمْ وَلَا يُشِيعُ مَا يَرَى مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَإِخْفَاؤُهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَمَنْ قَالَ فِي مَجْلِسٍ أُرِيدُ قَتْلَ فُلَانٍ أَوْ الزِّنَا بِفُلَانَةَ أَوْ أَخْذَ مَالِ فُلَانٍ فَلَا يَجُوزُ كَتْمُهُ بَلْ يَجِبُ إعْلَامُهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ السَّتْرُ عَلَى الْمُحَرَّمِ إنَّمَا يَكُونُ مَنْدُوبًا إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ بِالْفَسَادِ وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْأَمْرِ إلَى الْوَالِي إنْ لَمْ يَخَفْ لِأَنَّ السَّتْرَ حِينَئِذٍ تَقْوِيَةٌ عَلَى فِعْلِهِ (دت عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا حَدَّثَ رَجُلٌ رَجُلًا بِحَدِيثٍ» وَكَذَا الْمَرْأَةُ إمَّا بِعُمُومِ مَجَازٍ بِمَعْنَى إنْسَانٍ أَوْ بِطَرِيقِ دَلَالَةٍ أَوْ الْحُكْمُ عَلَى الْمَتْبُوعِ حُكْمٌ عَلَى التَّابِعِ أَوْ بِمُقَايَسَةٍ «ثُمَّ الْتَفَتَ» أَيْ غَابَ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ الْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَظَهَرَ مِنْ حَالِهِ بِالْقَرَائِنِ أَنَّ قَصْدَهُ أَنْ لَا يُطْلِعَ عَلَى حَدِيثِهِ غَيْرَ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ «فَهُوَ أَمَانَةٌ» عِنْدَ الْمُحَدَّثِ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا فَإِنْ حَدَّثَ بِهَا غَيْرَهُ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ حَيْثُ أَدَّى الْأَمَانَةَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهَا فَيَكُونُ مِنْ الظَّالِمِينَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ كَتْمُهَا إذْ الْتِفَاتُهُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِكْتَامِهِ بِالنُّطْقِ قَالُوا وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِمَا فِي هَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ مِنْ آدَابِ الْعِشْرَةِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَكَتْمِ السِّرِّ وَحِفْظِ الْوُدِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ النَّمِيمَةِ بَيْنَ الْإِخْوَانِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلشَّنَآنِ مَا لَا يَخْفَى قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ وَإِفْشَاءُ السِّرِّ خِيَانَةٌ وَهُوَ حَرَامٌ إذَا كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ إظْهَارُ الرَّجُلِ سِرَّ غَيْرِهِ أَقْبَحُ مِنْ إظْهَارِ سِرِّ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ الْخِيَانَةِ وَالنَّمِيمَةِ قَالَ الرَّاغِبُ السِّرُّ ضَرْبَانِ ثُمَّ قِيلَ إنَّ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ عُرْوَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. (حك) الْحَاكِمُ (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يَتَجَالَسُ الْمُتَجَالِسَانِ بِالْأَمَانَةِ» فِيمَا يَحْدُثُ وَيُرَادُ كَتْمُهُ سَوَاءٌ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً وَذَلِكَ عِنْدَ كَرَاهَةِ إفْشَائِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَيَانُهُ فَقَوْلُهُ «لَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْشِيَ عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَكْرَهُ» فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَكْرَهُهُ فَلَا بَأْسَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسَرُّ مِنْ إفْشَائِهِ فَيَحْسُنُ مُطْلَقًا

(م عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ» أَشَدِّهِمْ شَرًّا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَشَرُّ بِالْأَلِفِ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ شَرٌّ فِيهِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ وَلَا يُقَالُ أَشَرُّ إلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ وَقَالَ الْقَاضِي الرِّوَايَةُ وَقَعَتْ بِالْأَلِفِ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رَدَاءَتِهِ أَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى فَلَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرَّدَاءَةِ عَلَى أَنَّهُ قَالَ السُّيُوطِيّ إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَتَكَلَّمُ مَعَ الْفَصِيحِ وَالْمُوَلَّدِ وَغَيْرِهِمَا فَيَتَكَلَّمُ مَعَ كُلٍّ قُدْرَةَ فَهْمِهِ فَلَا يُحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ نَعَمْ قَالَ فِي الْفَيْضِ فِي رِوَايَةٍ أَشَرُّ بِالْأَلِفِ قَالَ عِيَاضٌ تَقُولُ النُّحَاةُ لَا يَجُوزُ أَشَرُّ وَأَخْيَرُ بَلْ خَيْرٌ وَشَرٌّ وَقَدْ جَاءَتْ اللُّغَتَانِ فِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَهُوَ حُجَّةٌ لِلْجَوَازِ فَافْهَمْهُ «عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إلَى امْرَأَتِهِ» سِرًّا «وَتُفْضِي إلَيْهِ» بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْجِمَاعِ «ثُمَّ يَنْشُرُ أَحَدُهُمَا سِرَّ صَاحِبِهِ» أَيْ يَتَكَلَّمُ كُلٌّ بِمَا جَرَى بَيْنَهُمَا قَوْلًا أَوْ فِعْلًا بَيْنَ النَّاسِ قَالَ النَّوَوِيُّ تَحْرِيمُ إفْشَاءِ هَذَا السِّرِّ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ وَأَمَّا إذَا تَرَتَّبَ بِأَنْ تَدَّعِيَ الْعَجْزَ عَنْ الْجِمَاعِ أَوْ إعْرَاضَهُ عَنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ فِي ذِكْرِهِ قَالَ الْأَحْنَفُ جَنِّبُوا مَجَالِسَكُمْ ذِكْرَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ فَكَفَى بِالرَّجُلِ ذَمًّا أَنْ يَكُونَ وَاصِفًا لِفَرْجِهِ وَبَطْنِهِ فَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي حُرْمَةِ إفْشَاءِ سِرِّ زَوْجِهَا كَأَنْ تَقُولَ هُوَ سَرِيعُ الْإِنْزَالِ أَوْ كَبِيرُ الْآلَةِ ثُمَّ قِيلَ الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَقِيلَ مُنْكَرٌ وَقِيلَ حَسَنٌ لَا صَحِيحٌ (اعْلَمْ أَنَّ) (مَا وَقَعَ أَوْ قِيلَ) مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ (فِي مَجْلِسٍ مِمَّا يُكْرَهُ إفْشَاؤُهُ إنْ لَمْ يُخَالِفْ الشَّرْعَ) (يَلْزَمُ كِتْمَانُهُ) إذَا كَانَ فِيهِ إضْرَارُ الْغَيْرِ وَيُنْدَبُ مُؤَكَّدًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إضْرَارٌ (وَإِنْ خَالَفَ فَإِنْ كَانَ) أَيْ مَا وَقَعَ أَوْ قِيلَ (حَقَّ اللَّهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ) كَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ عَلَى مَا قِيلَ (كَالْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرِ) قَيْدٌ لِلنَّفْيِ لَا لِلْمَنْفِيِّ يَعْنِي الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ كَالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ ضَابِطَ التَّعْزِيرِ هُوَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَتَقَدَّرْ فِيهَا حَدٌّ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ فَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ مَعْصِيَةٌ وَكُلَّ مَعْصِيَةٍ فَفِيهَا إمَّا تَعْزِيرٌ أَوْ حَدٌّ فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ وَبَيْنَ عَدَمِ وَاحِدٍ مِنْ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ (فَكَذَلِكَ) يَلْزَمُ الْكِتْمَانُ لِعَدَمِ حَقِّ الْعَبْدِ فِيهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ حَتَّى يَنْزَجِرَ بِإِجْرَائِهِ لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ تَعَلُّقِ مَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَالنَّصِيحَةِ لِلْغَيْرِ لِيَتَجَنَّبَ عَنْ صُحْبَةِ مِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ وَقَدْ وَقَعَ اُذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ لِيَتَحَرَّزَ النَّاسُ مِنْهُ (وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ) حُكْمٌ شَرْعِيٌّ (فَلَكَ الْخِيَارُ) بَيْنَ الْكِتْمَانِ وَالْإِعْلَامِ (وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ) إنْ لَمْ يُفِضْ إلَى الِاعْتِيَادِ وَزِيَادَةِ الْفَضَاحَاتِ وَلَعَلَّ السَّتْرَ وَاجِبٌ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ أَوْ زِيَادَةِ الْفَسَادِ (كَالزِّنَا) عِنْدَ تَحَقُّقِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الرِّجَالِ وَإِلَّا لَزِمَ حَدُّ الْقَذْفِ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْفِقْهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الزِّنَا لَيْسَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فَقَطْ مُطْلَقًا فَافْهَمْ (وَشُرْبِ الْخَمْرِ) عِنْدَ اثْنَيْنِ مِنْ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» كَمَا قِيلَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ نَوْعُ خَفَاءٍ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْتَجَّ بِنَحْوِ حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فِي الدُّنْيَا فِي قَبِيحِ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ فَلَمْ يَفْضَحْهُ بِأَنْ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى مَا يَشِينُهُ فِي دِينِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَهْتِكْهُ بِالتَّحَدُّثِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ لِحَاكِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَيْ لَمْ يَفْضَحْهُ بِإِظْهَارِ عُيُوبِهِ وَذُنُوبِهِ بَلْ يُسَهِّلُ حِسَابَهُ وَيَتْرُكُ عِقَابَهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيٌّ كَرِيمٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مِنْ الْحَيَاءِ وَالْكَرَمِ تَخَلُّقٌ بِخُلُقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ يُحِبُّ التَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِهِ وَدُعِيَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى قَوْمٍ عَلَى رِيبَةٍ فَانْطَلَقَ لِيَأْخُذَهُمْ فَتَفَرَّقُوا فَلَمْ يُدْرِكْهُمْ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يَكُونَ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ خِزْيُ مُسْلِمٍ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُؤْمِنٍ عَوْرَةً بَدَنًا أَوْ عِرْضًا أَوْ مَالًا حِسِّيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً فَكَأَنَّمَا أَحْيَا مَيِّتًا» هَذَا وَمِثْلُهُ إنْ لَمْ يُعْرَفْ بِأَذًى وَلَمْ يَتَجَاهَرْ بِالْفَسَادِ وَإِلَّا نُدِبَ رَفْعُهُ لِلْحَاكِمِ مَا لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً لِأَنَّ السَّتْرَ حِينَئِذٍ يُقَوِّيهِ عَلَى فِعْلِهِ. (تَنْبِيهٌ) إظْهَارُ السِّرِّ كَإِظْهَارِ الْعَوْرَةِ فَكَمَا يَحْرُمُ كَشْفُهَا يَحْرُمُ إفْشَاؤُهُ وَكِتْمَانُ الْأَسْرَارِ وَقَدْ تَطَابَقَ

التاسع عشر الخوض في الباطل

عَلَى الْأَمْرِ بِهِ الْمِلَلُ وَقَالُوا صُدُورُ الْأَحْرَارِ قُبُورُ الْأَسْرَارِ وَقِيلَ قَلْبُ الْأَحْمَقِ فِي فِيهِ وَلِسَانُ الْعَاقِلِ فِي قَلْبِهِ وَقِيلَ لِبَعْضٍ كَيْفَ أَنْتَ فِي كَتْمِ السِّرِّ قَالَ أَسْتُرُهُ وَأَسْتُرُ أَنِّي أَسْتُرُهُ (وَإِنْ كَانَ) الْمَكْتُومُ (حَقَّ الْعَبْدِ) (فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ ضَرَرٌ لِأَحَدٍ أَوْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْقِصَاصِ وَالتَّضْمِينِ) لِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ (فَعَلَيْك) يَجِبُ إنْ تَعَيَّنَتْ (الْإِعْلَامُ إنْ جَهِلَ) إلَّا إذَا تَيَقَّنَ الشَّاهِدُ الضَّرَرَ بِشَهَادَتِهِ (وَالشَّهَادَةُ إنْ طَلَبَ) ذُو الْحَقِّ الشَّهَادَةَ مِنْك (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ضَرَرٌ مَالِيٌّ أَوْ بَدَنِيٌّ لِأَحَدٍ أَوْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ جَاهِلًا وَلَا طَالِبًا (فَالْكَتْمُ) لَازِمٌ كَمَنْ بَلَغَ لَهُ خَبَرُ الْغِيبَةِ فَإِنَّ الضَّرَرَ فِيهِ وَهُوَ الْأَذَى قَلْبِيٌّ وَفِي النَّوَادِرِ إذَا رَأَى رَجُلًا مَشْغُولًا بِذَنْبٍ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ بِحَيْثُ لَا يَفْضَحُهُ فَإِنَّ تَفْضِيحَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ وَفِي صَدْرِ الشَّرِيعَةِ وَسَتْرُهَا فِي الْحُدُودِ أَفْضَلُ وَأَبَرُّ وَفِي النِّصَابِ رَجُلٌ يَرْتَكِبُ الْمَعَاصِيَ فَإِنْ أَعْلَمَ رَجُلٌ بِحَالِهِ السُّلْطَانَ لِيَزْجُرَهُ فَلَا إثْمَ فِيهِ وَفِي الْخَانِيَّةِ إنْ عَلِمَ أَنَّ السُّلْطَانَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ الرَّعِيَّةِ وَالْحَشَمِ عَنْ مَعَاصِيهِمْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ لَا يَكْتُبُ كَيْ لَا تَقَعَ الْعَدَاوَةُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ رَجُلًا يَأْتِينِي وَيُرِيدُ مَالِي فَقَالَ ذَكِّرْهُ بِاَللَّهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ قَالَ اسْتَعِنْ بِالسُّلْطَانِ قَالَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سُلْطَانٌ قَالَ اسْتَعِنْ بِمَنْ حَوْلَك مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ حَتَّى تَكُونَ شَهِيدًا فِي الْآخِرَةِ أَوْ يُمْنَعَ مَالِكٌ» انْتَهَى [التَّاسِعَ عَشَرَ الْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ] (التَّاسِعَ عَشَرَ الْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْمَعَاصِي) لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (كَحِكَايَاتِ مَجَالِسِ الْخَمْرِ وَالزُّنَاةِ) جَمْعُ زَانٍ (وَالزَّوَانِي) جَمْعُ زَانِيَةٍ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ) كَرِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَالشَّهَادَةِ وَالدَّعْوَى (وَهَذَا حَرَامٌ لِأَنَّهُ إظْهَارُ مَعْصِيَةِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ) دِينِيَّةٍ إلَى إظْهَارِهَا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَوْضُ فِي حِكَايَاتِ الْبِدَعِ وَالْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ وَحِكَايَاتِ مَا جَرَى مِنْ مَثَالِبِ الصَّحَابَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوهِمُ الطَّعْنَ فِي بَعْضِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَالْخَوْضُ فِيهِ خَوْضٌ بَاطِلٌ (دُنْيَا طب عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْقُوفًا) حَيْثُ لَمْ يَقُلْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ كَذَا قِيلَ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْ

العشرون سؤال المال والمنفعة الدنيوية ممن لا حق فيه

الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنْ يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فَافْهَمْ (أَنَّهُ) أَيْ ابْنَ مَسْعُودٍ (قَالَ أَعْظَمُ النَّاسِ خَطَايَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ خَوْضًا فِي الْبَاطِلِ) أَيْ فِي الدُّنْيَا وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا الْمَرْمُوزُ لَهُ بِقَوْلِهِ (دُنْيَا مُرْسَلًا) بِأَنْ يَقُولَ التَّابِعِيُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ فَفِي قَبُولِهِ خِلَافٌ لَكِنْ عِنْدَنَا مَقْبُولٌ مُطْلَقًا وَفِيهِ تَفْصِيلٌ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ (عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ) التَّابِعِيِّ الْحَافِظِ الْمَشْهُورِ، وَالْمَرْفُوعُ مَا أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ كَمَا فِي أُصُولِ الْحَدِيثِ [الْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِمَّنْ لَا حَقَّ فِيهِ] (الْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِمَّنْ لَا حَقَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَسْئُولِ مِنْهُمَا (وَهُوَ حَرَامٌ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ) كَالْفَقْرِ وَقُوَّةِ الْحَاجَةِ وَغَيْرِهِ مِمَّا سَيَجِيءُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (خ م عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَ» الْحَالُ أَنَّهُ «لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِزْعَةُ» قِطْعَةُ «لَحْمٍ» وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَلْحَقُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْهَوَانِ وَذُلِّ السُّؤَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَحْمُ وَجْهِهِ سَاقِطٌ إمَّا عُقُوبَةً لَهُ أَوْ عَلَامَةً يَعْرِفُ النَّاسُ بِهَا أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ سَأَلَ سُؤَالًا لَا يَجُوزُ لَهُ وَتَخْصِيصُ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِهِ لَهَا وَقْعٌ لِبَذْلِ وَجْهِهِ الَّذِي أُمِرَ بِصَوْنِهِ عَنْهُ وَصَرْفِهِ فِي غَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ كَذَا عَنْ الْقُرْطُبِيِّ شَرْحِ مُسْلِمٍ (د س) دَاوُد وَابْنُ السُّنِّيِّ (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْمَسَائِلُ» جَمْعُ مَسْأَلَةٍ بِمَعْنَى السُّؤَالِ «كُدُوحٌ» بِالْفَتْحِ مُبَالَغَةٌ نَحْوُ صَبُورٍ وَالْكَدْحُ الْجُرْحُ مِنْ نَحْوِ خَدْشٍ أَوْ عَضٍّ يَعْنِي يُرِيقُ بِالسُّؤَالِ مَاءَ وَجْهِهِ «يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ» بِمَا يَعْلُوهُ مِنْ الْهَوَانِ بِسَبَبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ «فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى اللَّحْمَ عَلَى وَجْهِهِ» بِتَقْلِيلِ السُّؤَالِ «وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» بِلَا لَحْمٍ «إلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ» ذَا رَأْيٍ وَحُكْمٍ وَمَالِكٌ بِيَدِهِ بَيْتُ الْمَالِ وَهُوَ مِمَّنْ لَهُ حَقٌّ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ حَقَّهُ مِنْهُ «أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا» أَيْ فِي حَقِّ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ وَسَيَجِيءُ حَاصِلُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْمَسَائِلِ سَبَبٌ لِكُدُوحِ الْوَجْهِ وَجُرُوحِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَسْأَلَةَ الَّذِي هُوَ مَصْرِفُ بَيْتِ الْمَالِ حَقُّهُ مِنْهُ وَمَسْأَلَةَ رَجُلٍ فِي حَقِّ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ لِاضْطِرَارِهِ (طط عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً عَنْ ظَهْرِ غِنًى» أَيْ بِلَا ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ «اسْتَكْثَرَ بِهَا مِنْ رَضْفِ» حِجَارَةٌ مُحْمَاةٌ «جَهَنَّمَ قَالُوا وَمَا ظَهْرُ غِنًى قَالَ عَشَاءُ لَيْلَةٍ» قُوتُ لَيْلَةٍ وَمَا يَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ مِنْ الثِّيَابِ وَأَثَاثِ الْمَنْزِلِ

بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُهَا وَيَلْحَقُ بِهِ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ فَمَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمٍ لَا يَحِلُّ لَهُ السُّؤَالُ (ت عَنْ حُبْشِيٍّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى وَزْنِ كُرْسِيٍّ (بْنِ جُنَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ) قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ» قُوَّةٍ عَلَى الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ (سَوِيٍّ) صَحِيحِ الْأَعْضَاءِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ قِيلَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ كَانَ كَسُوبًا إلَّا الْعَامِلَ وَالْغَازِيَ الْمُنْقَطِعَ وَالْغَارِمَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَإِنَّ الدَّاعِيَ إلَى إعْطَائِهِمْ لَيْسَتْ الْحَاجَةُ «لَا تَحِلُّ إلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ» مُلْصِقٍ بِالدَّقْعَاءِ أَيْ التُّرَابِ كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ الْفَقْرِ «أَوْ غُرْمٍ» أَيْ دَيْنٍ «مُفْظِعٍ» مِنْ الْفَظَاعَةِ شَدِيدٍ غَايَةَ الشِّدَّةِ بِأَنْ يَكُونَ دَيْنًا جَاوَزَ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ «أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ» كَالدِّيَةِ فَيَجُوزُ السُّؤَالُ لِيُؤَدِّيَ الدِّيَةَ وَيَقْطَعَ الْخُصُومَةَ. «وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ» لِيُكْثِرَ «بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا» جِرَاحَةً وَأَثَرًا «فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَضْفًا» حَجَرًا مَحْمِيًّا «يَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ» الْأَمْرُ لِلتَّهْدِيدِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرَ جَهَنَّمَ فَلْيَسْتَقِلَّ مِنْهُ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» قَالَ الشَّارِحُ أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالُوا مَنْ قَدَرَ عَلَى قُوتِ يَوْمٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ السُّؤَالُ وَالْقِيَاسُ أَنَّ الدَّافِعَ إنْ عَلِمَ بِحَالِهِ أَثِمَ لِإِعَانَتِهِ عَلَى مُحَرَّمٍ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ هِبَةً لِصِحَّتِهَا لِلْغَنِيِّ. (فَائِدَةٌ) أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ مُصَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يَقُولُ لِابْنِ أَخِيهِ إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ فَاكْتُبْهَا فِي رُقْعَةٍ فَإِنِّي أَصُونُ وَجْهَك عَنْ الذُّلِّ يَا أَيُّهَا الْبَاغِي نَوَالَ الرِّجَالْ ... وَطَالِبَ الْحَاجَاتِ مِنْ ذِي النَّوَالْ لَا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ الْبِلَى ... فَإِنَّمَا الْمَوْتُ سُؤَالُ الرِّجَالْ كِلَاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنَّ ذَا ... أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ذُلُّ السُّؤَالْ وَفِيهِ أَيْضًا مَنْ سَأَلَ النَّاسَ مِنْ غَيْرِ فَقْرٍ بَلْ لِتَكْثِيرِ الْمَالِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الْجَمْرَ يَعْنِي يُعَاقَبُ بِالنَّارِ وَقَدْ يُجْعَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ يَطْعَمُهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى صُورَةِ الْجَمْرِ كَمَا يُكْوَى مَانِعُ الزَّكَاةِ بِهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَاتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنْ السُّؤَالِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَفِي الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ حَرَامٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَالثَّانِي يَحِلُّ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُذِلَّ نَفْسَهُ وَلَا يُلِحَّ فِي السُّؤَالِ وَلَا يُؤْذِيَ الْمَسْئُولَ وَإِلَّا حَرُمَ اتِّفَاقًا كَمَا فِي الْفَيْضِ «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَا تَسْأَلُنَّ» بِضَمِّ اللَّامِ «أَحَدًا شَيْئًا» التَّنْوِينُ لِلتَّحْقِيرِ «وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَثَوْبَانُ يَنْزِلَانِ عِنْدَ سُقُوطِ سَوْطِهِمَا فِي أَجْمَعِ مَا يَكُونُ مِنْ النَّاسِ» أَيْ أَجْمَعِ الْجَمْعِ الَّذِي مِنْ النَّاسِ وَقِيلَ ضَمِيرُ مَا فِي يَكُونُ مِنْهُمْ مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ مِنْ النَّاسِ أَيْ يَنْزِلَانِ عِنْدَ سُقُوطِهِ فِي أَجْمَعِ أَوْقَاتِ كَوْنِ النَّاسِ عِنْدَهُمَا وَلَا يَسْأَلَانِ أَحَدًا بِأَنْ يَقُولَ نَاوِلُونِيهِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ قَالَ فِي الْحُكْمِ رُبَّمَا اسْتَحْيَا الْعَارِفُ أَنْ يَرْفَعَ حَاجَتَهُ إلَى مَوْلَاهُ

اكْتِفَاءً بِمَشِيئَتِهِ فَكَيْفَ لَا يَسْتَحِيُ أَنْ يَرْفَعَهَا إلَى خَلِيقَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ احْتَاجَتْ رَابِعَةٌ فَقِيلَ لَهَا لَوْ أَرْسَلْت إلَى قَرِيبِك فُلَانٍ فَبَكَتْ وَقَالَتْ اللَّهُ أَعْلَمُ أَنِّي أَسْتَحْيِي مِنْ سُؤَالِهِ الدُّنْيَا وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَكَيْفَ أَسْأَلُهَا مَنْ لَا يَمْلِكُهَا كَمَا فِي الْفَيْضِ وَأَنَا أَقُولُ إنَّ الْأُسْتَاذَ الْوَالِدَ الْمَرْحُومَ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِغُفْرَانِهِ وَأَسْكَنَهُ فِي فَرَادِيسِ جِنَانِهِ كَانَ مُبْتَلًى بِالْفَقْرِ سِيَّمَا فِي أَوَّلِ حَالِهِ فَعِنْدَ حِكَايَتِهِ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ فَقْرِهِ قِيلَ لَهُ هَلْ تَدْعُوا إلَى اللَّهِ بِحُصُولِ كِفَايَتِك قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَدْعُ إلَيْهِ قَطُّ لِأَجْلِ الدُّنْيَا بَلْ كُلَّمَا أَرَدْت ذَلِكَ غَلَبَ عَلَيَّ الْحَيَاءُ وَلَمْ أَقْدِرْ (وَلَا يَقُولَانِ لِلْمُشَاةِ عِنْدَهُمَا نَاوِلْنِيهِ) لِامْتِثَالِهِمَا أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَالَ الِامْتِثَالِ (فَدَلَّ أَنَّ حُرْمَةَ السُّؤَالِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْمَالِ بَلْ تَعُمُّ الِاسْتِخْدَامَ خُصُوصًا إنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ) لِأَنَّ جَمِيعَ مَنَافِعِهِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوَالِي فَيَكُونُ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلَا إذْنٍ وَذَا لَا يَجُوزُ. (وَأَمَّا صَبِيُّ نَفْسِهِ) مِنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ (فَيَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُ إنْ كَانَ فَقِيرًا) ضِدَّ غِنَى الْأُضْحِيَّةِ (أَوْ أَرَادَ تَهْذِيبَهُ) أَيْ تَطْهِيرَهُ عَنْ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ (وَتَأْدِيبَهُ) لِيُعَرِّفَهُ مَا يَنْفَعُ دِينًا أَوْ دُنْيَا قَالَ الْإِيثَارُ عَنْ الذَّخِيرَةِ إذَا مَلَأَ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ الْكُوزَ مِنْ مَاءِ الْحَوْضِ وَأَرَاقَ بَعْضَهُ فِي الْحَوْضِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْحَوْضِ لِأَنَّهُ خَلَطَ بِهِ مِلْكَهُ وَلَا يُمْكِنُ تَمَيُّزُهُ وَكَذَا لَوْ جَاءَ صَبِيٌّ بِالْكُوزِ مِنْ مَاءٍ مُبَاحٍ لَا يَحِلُّ لِأَبَوَيْهِ أَنْ يَشْرَبَا مِنْهُ إذَا كَانَا غَنِيَّيْنِ لِأَنَّ الْمَاءَ صَارَ مِلْكَهُ بَعْدَ الْأَخْذِ وَلَا يَحِلُّ لَهُمَا الْأَكْلُ مِنْ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ (وَالضَّرُورَةُ الَّتِي تُبِيحُ السُّؤَالَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْكَسْبِ لِلْمَرَضِ أَوْ الضَّعْفِ) مِنْ نَحْوِ الْهَرَمِ وَالْكِبَرِ (وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمٍ) لِأَنَّهُ آخِرُ الْكَسْبِ (وَسُؤَالُ الصَّدَقَةِ) النَّفْلِ (وَالزَّكَاةِ سَوَاءٌ) فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ (بِخِلَافِ سُؤَالِ حَقِّهِ مِنْ الدَّيْنِ) لِأَنَّهُ طَلَبُ حَقِّهِ (أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَصْرِفِهِ) أَيْ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهُ مِمَّنْ هُوَ أَمِينٌ لَهُ (وَاسْتِخْدَامِ مَمْلُوكِهِ وَأَجِيرِهِ وَزَوْجَتِهِ فِي مَصَالِحِ الْبَيْتِ) كَطَبْخِ الطَّعَامِ وَغَسْلِ الْأَوَانِي وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَكَنْسِ الْبَيْتِ وَبَسْطِ الْفِرَاشِ وَرَفْعِهِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ دِيَانَةً لَا قَضَاءً وَلَا يَجُوزُ ضَرْبُهَا عِنْدَ عَدَمِ فِعْلِهَا وَلَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهَا فِي خَارِجِ الْبَيْتِ وَلَا يَجُوزُ إطَاعَتُهَا لِلزَّوْجِ إنْ أُمِرَ بِهَا لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي. أَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إتْيَانُهَا بِخَادِمَةٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْعُرْفُ مَرْجِعُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَفِي التَّنْوِيرِ إنْ امْتَنَعَتْ مِنْ الطَّحْنِ وَالْخَبْزِ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَخْدُمُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامٍ مُهَيَّئٍ وَإِلَّا لَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ امْرَأَةِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَعْلِفُ فَرَسَ زَوْجِهَا وَتَكْفِيهِ مُؤْنَتَهُ وَتَسُوسُهُ وَتَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ وَتَعْلِفُهَا وَتَسْقِي الْمَاءَ وَتَعْجِنُ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَالْمُرُوآتِ الَّتِي أَطْبَقَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْدُمُ زَوْجَهَا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا تَبَرُّعًا وَإِحْسَانًا مِنْهَا إلَى زَوْجِهَا وَحُسْنَ مُعَاشَرَةٍ وَفِعْلَ مَعْرُوفٍ مَعَهُ بِلَا وُجُوبٍ فَلَا تَأْثَمُ بِالتَّرْكِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ إلْزَامُهَا شَيْئًا بَلْ تَفَضُّلِيٌّ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسٍ وَمُلَازَمَةُ الْبَيْتِ (وَتِلْمِيذِهِ بِإِذْنِهِ إنْ كَانَ بَالِغًا أَوْ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ صَبِيًّا) فَإِنَّ الصَّبِيَّ

مَحْجُورٌ عَلَيْهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ حَتَّى فِي مَنَافِعِ نَفْسِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ (وَأَقْبَحُ السُّؤَالِ مَا كَانَ بِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى) اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إعْطَاءِ مَنْ يَسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ رِعَايَةً لِجَانِبِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَمَنْ تَابَعَهُ لَا يُعْطَى لَهُ زَجْرًا لَهُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ أَقُولُ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ التَّفْصِيلُ إنَّ السُّؤَالَ مِنْ قَبِيلِ الْجَوَازِ سِيَّمَا الْوَاجِبُ فَيُعْطَى لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِوَجْهِ اللَّهِ وَإِلَّا فَلَا لِعَدَمِ الصَّلَاحِيَّةِ لَهُ اعْلَمْ أَنَّ مِقْدَارَ الْغِنَى الْمُحَرِّمِ لِلسُّؤَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفْصِيلٍ وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَا حَقَّ لِابْنِ آدَمَ إلَّا فِي ثَلَاثٍ طَعَامٌ يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ وَثَوْبٌ يُوَارِي بِهِ عَوْرَتَهُ وَبَيْتٌ يَسْكُنُهُ فَمَا زَادَ فَهُوَ حِسَابٌ؛ هَذِهِ أَجْنَاسُهَا. وَأَمَّا أَقْدَارُهَا فَالثَّوْبُ مَثَلًا يُرَاعَى فِيهِ مَا يَلِيقُ بِذَوِي الدَّيْنِ وَهُوَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَقَمِيصٌ وَمِنْدِيلٌ وَسَرَاوِيلُ وَمَدَاسٌ» وَكَذَا أَثَاثُ الْبَيْتِ لَا يُطْلَبُ كَوْنُ الْأَوَانِي مِنْ النُّحَاسِ وَالصُّفْرِ فِيمَا يَكْفِي فِيهِ الْخَزَفُ فَيَقْتَصِرُ مِنْ الْعَدَدِ عَلَى وَاحِدٍ وَمِنْ النَّوْعِ عَلَى أَخَسِّ أَجْنَاسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ الْعَادَةِ وَأَمَّا الطَّعَامُ فَقَدْرُهُ فِي الْيَوْمِ مُدٌّ وَهُوَ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ وَنَوْعُهُ مَا يُقْتَاتُ وَلَوْ الشَّعِيرَ وَالْأُدْمَ عَلَى الدَّوَامِ فَضْلٌ وَقَطْعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ إضْرَارٌ وَفِي طَلَبِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ رُخْصَةٌ وَأَمَّا الْمَسْكَنُ فَأَقَلُّهُ مَا يَجْزِي مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زِينَةٍ ثُمَّ هَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ حَقِيقَةً ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا إمَّا فِي الْحَالِ مِنْ طَعَامِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ ثَوْبٍ يَلْبَسُهُ أَوْ مَأْوًى يَسْكُنُهُ فَلَا شَكَّ فِي حِلِّ السُّؤَالِ وَأَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَثَلَاثُ دَرَجَاتٍ أَمَّا مَا يُحْتَاجُ فِي غَدٍ وَبَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ خَمْسِينَ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ فَالسَّائِلُ الَّذِي لَهُ وَلِعِيَالِهِ قُوتُ سَنَةٍ فَسُؤَالُهُ حَرَامٌ لِأَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ الْغِنَى وَأَمَّا مَا دُونَ السَّنَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ السُّؤَالُ إنْ كَانَ غَنِيًّا فِي الْحَالِ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْفُرْصَةِ فِي الِاسْتِقْبَالِ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ لَا يُعْطِيهِ إذَا أَخَّرَ لِأَنَّ الْبَقَاءَ سَنَةً مُمْكِنٌ عَادَةً وَيَدْخُلُ فِيهِ خُرُوجُ طَلَبَةِ الْعُلُومِ فِي الْمَوَاسِمِ لِإِدْخَارِ قُوتِ سَنَةٍ لِأَنَّهُمْ يَتَفَرَّغُونَ لِلْعِلْمِ وَلَا يَعْتَدُّونَ لِلْكَسْبِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَمْوَالٌ صَالِحَةٌ لِمَصَارِفِهِمْ الضَّرُورِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةِ خَوْفِ الْعَجْزِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ضَعِيفًا وَكَانَ مَا لِأَجْلِهِ السُّؤَالُ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى تَخْوِيفِ الشَّيْطَانِ وَحَالُ مَنْ يَسْأَلُ لِحَاجَةٍ وَرَاءَ يَوْمِهِ وَحَالُ مَنْ مَلَكَ مَالًا مَوْرُوثًا وَادَّخَرَهُ لِحَاجَةٍ وَرَاءَ السَّنَةِ سِيَّانِ فِي كَوْنِهِمَا مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَا مُبَاحَيْنِ فِي الْفَتْوَى الظَّاهِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (طب عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَلْعُونٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ» تَتِمَّةُ الْحَدِيثِ - «وَمَلْعُونٌ مَنْ يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ هُجْرًا» - أَيْ قَبِيحًا لَا يَلِيقُ بِالسُّؤَالِ قَالَ الْعِرَاقِيُّ لَعْنَةُ فَاعِلِ ذَلِكَ لَا يُنَاقِضُهَا اسْتِعَاذَةُ النَّبِيِّ بِوَجْهِ اللَّهِ لِأَنَّ مَا هُنَا جَانَبَ طَلَبَ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَذَاكَ فِي سُؤَالِ الْخَالِقِ أَوْ الْمَنْعُ فِي الْأَمْرِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْجَوَازُ فِي الْأُخْرَوِيِّ قِيلَ عَنْ الْهَيْتَمِيِّ فِي رِجَالِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ لَمْ أَعْرِفْهُ (د عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إلَّا الْجَنَّةُ» اُسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ سُؤَالَ اللَّهِ بِوَجْهِهِ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا مَنْهِيٌّ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا بَلْ يُسْأَلُ بِهِ الْجَنَّةُ نَحْوُ نَسْأَلُك الْجَنَّةَ بِوَجْهِك الْكَرِيمِ وَنَسْأَلُك بِوَجْهِك الْكَرِيمِ أَنْ تُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ رُوِيَ نَفْيًا وَنَهْيًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَسْأَلُوا مِنْ النَّاسِ شَيْئًا بِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوَ أَعْطِنِي شَيْئًا بِوَجْهِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُطَامِ وَذِكْرُ الْجَنَّةِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّنْبِيهِ بِهِ عَلَى الْأُمُورِ الْعِظَامِ لَا لِلتَّخْصِيصِ فَلَا يُسْأَلُ اللَّهُ بِوَجْهِهِ فِي الْأُمُورِ الدَّنِيَّةِ بِخِلَافِ الْأُمُورِ الْعِظَامِ تَحْصِيلًا أَوْ دَفْعًا (وَمِنْ

الحادي والعشرون سؤال العوام عن كنه ذات الله تعالى وصفاته

السُّؤَالِ الْمَذْمُومِ سُؤَالُ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ أَوْ الْخُلْعَ عَنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ) ضَرَرٍ دِينِيٍّ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَارْتِكَابِ الْفُحْشِيَّاتِ أَوْ دُنْيَوِيٍّ كَالضَّرْبِ بِغَيْرِ وَجْهٍ وَعَدَمِ إنْفَاقِ النَّفَقَةِ اللَّازِمَةِ لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَرْكَ الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ (دت عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقَهَا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ» وَشِدَّةٍ «فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ» وَقَدْ تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ (وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ) أَيْ سَائِلَاتِ الْخُلْعِ (هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ) أَيْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَبَأْسٍ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ فِي مِثْلِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِلَّا فَيَتَعَارَضُ بِمَا قَبْلَهُ وَالنِّفَاقُ هُوَ الْعَمَلِيُّ لَا الِاعْتِقَادِيُّ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْهُنَّ قِلَّةُ الرِّضَا وَالصَّبْرِ فَهُنَّ يَنْشُزْنَ عَلَى الرِّجَالِ وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُنَّ مُنَافِقَاتٍ. هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ عَنْ ثَوْبَانَ عَلَى تَخْرِيجِ التِّرْمِذِيِّ لَكِنْ فِي شَرْحِهِ كَلَامٌ يُوجِبُ نَوْعَ طَعْنٍ لَعَلَّ ذَلِكَ تَرْكُ طَرِيقَتِهِ الْمَعْهُودَةِ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ (وَمِنْهُ سُؤَالُ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ الْبَيْعَ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ السُّؤَالِ (التَّعْزِيرَ وَالتَّأْدِيبَ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوْ دُونَ التَّعْزِيرِ [الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْعَوَامّ عَنْ كُنْهِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ] (الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْعَوَامّ عَنْ كُنْهِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) وَهُوَ مُمْتَنِعٌ اطِّلَاعُهُ عِنْدَ قَوْمٍ وَمُمْكِنٌ عِنْدَ آخَرِينَ وَغَيْرُ وَاقِعٍ عِنْدَ بَعْضٍ وَوَاقِعٌ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً قَالَ الدَّوَانِيُّ غَيْرُ وَاقِعٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَمُمْتَنِعٌ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ (وَصِفَاتِهِ) أَيْ عَنْ كُنْهِ صِفَاتِهِ وَإِلَّا فَالسُّؤَالُ عَنْ مُطْلَقِهَا لَازِمٌ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يُعْرَفُ كُنْهُ ذَاتِهِ لَا يُعْرَفُ كُنْهُ صِفَاتِهِ وَلِذَا قَالُوا حَقَائِقُ صِفَاتِهِ مُتَشَابِهَاتٌ فَإِنْ قِيلَ فَإِذَنْ لَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ بِالْعَوَامِّ قُلْنَا فَأَمَّا مَا لَا يُسْأَلُ عَنْهُمَا الْخَوَاصُّ أَوْ لَا يَتَشَوَّشُونَ بِعَدَمِ الْجَوَابِ وَلَا يَبْعُدُ الْجَوَابُ لَهُمْ بِالْإِمْكَانِ قَالَ الدَّوَانِيُّ لِعَدَمِ وُجُودِ بُرْهَانِ الْوَسِيطِ الْعَقْلِيِّ يَجُوزُ الْحَدُّ التَّامُّ الْمُوصِلُ إلَى الْكُنْهِ لَهُ تَعَالَى (وَكَلَامِهِ) حُرُوفٍ أَمْ مَعْنًى قَدِيمٍ أَوْ حَدِيثٍ (وَعَنْ الْحُرُوفِ) حُرُوفِ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظِهِ (أَهِيَ قَدِيمَةٌ) كَمَا لِلْحَنَابِلَةِ (أَمْ مُحْدَثَةٌ) كَمَا نُسِبَ إلَى الْمُحَقِّقِينَ. (وَعَنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ) مِمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ فَهْمُهُمْ كَأَنَّهُ يُقَالُ إذَا كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَائِهِ تَعَالَى وَالْقَضَاءُ جَارٍ فِي الْأَزَلِ وَمُمْتَنِعٌ تَخَلُّفُهُ فَمَا فَائِدَةُ السَّعْيِ فِي الْكُسُوبِ وَالْعِبَادَاتِ، وَمَا فَائِدَةُ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْمَضَرَّاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْمُشْكِلَاتِ وَمِنْ حَقِّهِمْ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَاتِ وَالتَّسْلِيمُ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ وَهُوَ كَسُؤَالِ سَاسَةِ الدَّوَابِّ عَنْ أَسْرَارِ الْمَلِكِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ» عَنْ أَسْرَارِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ «حَتَّى يُقَالُ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ» يَعْنِي يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ فِي صَدْرِ أَحَدِكُمْ نَحْوَ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ

الثاني والعشرون السؤال عن المشكلات الظاهرة في الأصول الاعتقادية

وَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَمَنْ خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَى أَنْ يَقُولَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ وَغَرَضُهُ إيقَاعُ الْمَفَاسِدِ وَإِبْطَالُ الْعَقَائِدِ. «فَمَنْ وَجَدَ فِي قَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ» الْقَوْلِ «شَيْئًا» قَلِيلًا «فَلْيَقُلْ آمَنْت بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ» يَعْنِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَالرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ وَأَنَّ وُجُودَهُ مِنْ ذَاتِهِ وَمُسْتَغْنٍ عَنْ الْعَالَمِ (وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ» بِأَنْ يَشْرَعَ فِي كَلَامٍ آخَرَ (وَزَادَ د «فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ» السَّيِّدُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْحَوَائِجِ « {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ثُمَّ لِيَتْفُلْ» أَيْ لِيُخْرِجْ الرِّيحَ مَعَ الرِّيقِ مِنْ فِيهِ «عَنْ يَسَارِهِ» اسْتِهَانَةً لِلشَّيْطَانِ الْمُوقِعِ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَنْ وَجَدَ جِيفَةً مُنْتِنَةً فَكَرِهَ رِيحَهَا وَتَفِلَ مِنْ نَتْنِهَا «وَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ» فَلَا يَصِلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَذَاهُ شَيْءٌ (خ م عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قِيلَ وَقَالَ» اسْمَانِ يُطْلَقَانِ عَلَى مَا لَا يَهُمُّ وَلَا يُغْنِي فِي الدِّينِ كَمَا فِي حَدِيثِ كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَحَدِيثِ عَلَامَةُ إعْرَاضِ اللَّهِ عَنْ الْعَبْدِ اشْتِغَالُهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَإِنَّ امْرَأً لَوْ ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ عُمْرِهِ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ لَجَدِيرٌ أَنْ تَطُولَ حَسْرَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ عَلَى شَرِّهِ فَلْيَتَجَهَّزْ إلَى النَّارِ «وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ» نَحْوِ سُؤَالِ بَنِي إسْرَائِيلَ فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ كَثْرَتِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى ضَرُورَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَنَحْوِهَا وَإِلَّا فَكَثْرَةُ السُّؤَالِ عَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الدِّينِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَمُطْلَقِ الْعَمَلِيَّةِ مَأْمُورٌ بِهَا بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى - فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ - «وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» فِيمَا يُعَدُّ سَرَفًا وَتَلَفًا وَفِي الْحَدِيثِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. [الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ] (الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ) (السُّؤَالُ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ) الظَّاهِرَةِ عَمَّا أَشْكَلَ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أَوْ الدَّقِيقَةِ الْخَفِيَّةِ مُطْلَقًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ (وَمَوَاضِعِ الْغَلَطِ) لَا لِلْغَرَضِ الصَّحِيحِ (بَلْ لِلتَّغْلِيظِ وَالتَّخْجِيلِ) وَإِظْهَارِ الْفَضْلِ أَيْضًا (وَهُوَ حَرَامٌ) إلَّا عَلَى الْمُغَالِطِ الْمُعَانِدِ وَالْمُكَابِرِ الْمُتَعَنِّتِ (د عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْأُغْلُوطَاتِ» جَمْعُ أُغْلُوطَةٍ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي لَا تُدْرَكُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَيَقَعُ الْخَصْمُ فِي الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ مَا يُغَالِطُ بِهِ الْعَالِمُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ لِيُشَوِّشَ فِكْرَهُ وَيَسْتَسْقِطَ رَأْيَهُ لِمَا فِيهَا مِنْ إيذَاءِ الْمَسْئُولِ وَإِظْهَارِ فَضْلِ السَّائِلِ مَعَ عَدَمِ نَفْعِهَا فِي الدِّينِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَحْرِمَ عَبْدَهُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ الْمَغَالِيطَ وَكَانَ أَفَاضِلُ الصَّحَابَةِ إذَا سُئِلُوا عَنْ شَيْءٍ قَالُوا أَوَقَعَ فَإِنْ قِيلَ نَعَمْ أَفْتَوْا وَإِلَّا قَالُوا دَعْ حَتَّى يَقَعَ فَمِنْهُمْ

الثالث والعشرون الخطأ في التعبير ودقائق الخطأ

مَنْ كَرِهَهُ مُطْلَقًا حَتَّى قَلَّ فَهْمُ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَصَارَ حَامِلُ فِقْهٍ غَيْرَ فَقِيهٍ وَهُمْ أَتْبَاعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَسَّعَ فَتَوَلَّدَتْ مِنْهُ الْأَهْوَاءُ وَالْبَغْضَاءُ وَالتَّبَاهِي فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ الْعُلَمَاءُ وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ فَوَجَّهُوا هِمَمَهُمْ إلَى الْبَحْثِ عَنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ صَفَاءُ الْقُلُوبِ وَالْإِخْلَاصُ لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ وَهَذَا مَحْمُودٌ وَمَطْلُوبٌ اهـ مُلَخَّصًا قِيلَ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ مَجْهُولٌ وَعَنْ السَّاجِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي ضُعَفَاءِ الشَّامِ (بِخِلَافِ) (السُّؤَالِ عَنْهَا لِلتَّعَلُّمِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ اخْتِبَارِ أَذْهَانِهِمْ) كَامْتِحَانِ الْأُسْتَاذِ أَفْهَامَ التَّلَامِذَةِ (أَوْ تَشْحِيذِهَا) أَيْ تَحْصِيلِ الْحِدَةِ فِيهَا لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا فِي آخِرِ الْأَشْبَاهِ أَنَّهُ لَمَّا جَلَسَ أَبُو يُوسُفَ لِلتَّدْرِيسِ مِنْ غَيْرِ إعْلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَيْهِ رَجُلًا فَسَأَلَهُ عَنْ مَسَائِلَ خَمْسٍ مِنْهَا هَلْ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ بِالْفَرْضِ أَوْ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ بِالْفَرْضِ فَقَالَ أَخْطَأْت فَقَالَ بِالسُّنَّةِ فَقَالَ أَخْطَأْت فَتَحَيَّرَ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ الرَّجُلُ بِهِمَا لِأَنَّ التَّكْبِيرَ فَرْضٌ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ سُنَّةٌ وَتَمَامُهَا فِيهِ وَمِنْهَا أَيْضًا أَلْغَازُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَهُوَ أَيْضًا فِي الْفَنِّ الرَّابِعِ مِنْ الْأَشْبَاهِ (أَوْ حَثِّهِمْ) وَإِغْرَائِهِمْ (عَلَى التَّأَمُّلِ) وَالسَّعْيِ فِي اكْتِسَابِ الْعُلُومِ (فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى فَهْمِ الْعِلْمِ وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «أَيُّ شَجَرَةٍ إذَا قُطِعَ رَأْسُهَا مَاتَتْ فَوَقَعَ الْقَوْمُ فِي شَجَرَةِ الْبَادِيَةِ ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هِيَ النَّخْلَةُ» وَأَيْضًا عَنْ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ إنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مِثْلُ الْمُؤْمِنِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ الْأَصْحَابُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ فَلَمْ يَعْرِفُوهَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَا أَنْ يَسْبِقَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هِيَ النَّخْلَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَذَكَرْت مَا وَقَعَ فِي نَفْسِي لِأَبِي فَقَالَ لَوْ قُلْته كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» فَوَجْهُ الشَّبَهِ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهَا كَالْإِنْسَانِ فِي اسْتِوَاءِ الْقَامَةِ وَأَنَّ لَهَا أَغْصَانًا كَجَوَارِحِ الْإِنْسَانِ وَأَنَّ لَهَا ثَمَرَةً حُلْوَةً كَالْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ لِلْإِنْسَانِ وَأَنَّهَا إذَا قُطِعَ رَأْسُهَا يَبِسَتْ كَالْإِنْسَانِ يَمُوتُ عِنْدَ قَطْعِ رَأْسِهِ [الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الْخَطَأُ فِي التَّعْبِيرِ وَدَقَائِقُ الْخَطَأِ] (الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الْخَطَأُ فِي التَّعْبِيرِ وَدَقَائِقُ الْخَطَأِ) (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ» قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ رَجُلٌ كَرْمٌ بِسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا بِمَعْنَى كَرِيمٍ وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْعِنَبَ فِي شَجَرَتِهِ كَرْمًا لِأَنَّ الْخَمْرَ الْمُتَّخَذَ مِنْهُ يَحْمِلُ شَارِبَهُ عَلَى الْكَرَمِ فَكَرِهَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لِئَلَّا يَتَذَكَّرُوا بِهِ الْخَمْرَ وَيَدْعُوَهُمْ حُسْنُ الِاسْمِ إلَى شُرْبِهِ «وَإِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ» وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَصَابِيحِ فَإِنَّ الْكَرْمَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ فَقَوْلُهُ الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ إشَارَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمُقْتَضِي لِلنَّهْيِ وَالْمَانِعُ مِنْ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَتَقْرِيرِهِ أَنَّهُ لَوْ سُمِّيَ بِالْكَرْمِ شَيْءٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ سَبَبًا وَمَبْدَأً لَهُ لَكِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِهَذَا الِاسْمِ هُوَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ الْحَامِلُ عَلَى قَضِيَّةِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ الْقَوِيمَيْنِ لَا الْخَمْرُ الْمُؤَدِّي إلَى اخْتِلَالِ الْعَقْلِ وَفَسَادِ الرَّأْيِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ وَصَرْفِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ (وَزَادَ د فِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ لِمُسْلِمٍ

(عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ وَلَكِنْ «قُولُوا الْعِنَبَ وَالْحَبَلَةَ» بِفَتْحِ أَوَّلَيْهِ وَقَدْ يُسَكَّنُ ثَانِيهِ هِيَ أَصْلُ شَجَرِ الْعِنَبِ فَدَلَّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِالْكَرْمِ وَإِطْلَاقَهُ خَطَأٌ فَإِنْ قِيلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْأَعْلَامِ هُوَ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ الذَّاتُ وَمَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ مَنْعِهِ إنَّمَا يُلَائِمُ كَوْنَهُ وَصْفًا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنْ اعْتَبَرُوا إيهَامَ اللَّفْظِ فِي الْمَنْقُولَاتِ لِمَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ كَاسْمِ مُحَمَّدٍ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْتَبَرُ إيهَامُهُ بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ مِنْ كَثْرَةِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ كَمَا مَرَّ (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا سَمِعْتُمْ الرَّجُلَ يَقُولُ هَلَكَ النَّاسُ» إعْجَابًا بِنَفْسِهِ وَاعْتِنَاءً بِعِلْمِهِ أَوْ عَمَلِهِ وَاسْتِصْغَارًا لِشَأْنِ النَّاسِ وَازْدِرَاءً لِمَا هُمْ عَلَيْهِ لَا تَفَجُّعًا وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ «فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» بِالرَّفْعِ أَيْ أَشَدُّهُمْ هَلَاكًا وَبِالْفَتْحِ أَيْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ مِنْ قِبَلَ نَفْسِهِ فَهُوَ جَعَلَهُمْ هَالِكِينَ لَا إنَّهُمْ هَلَكُوا حَقِيقَةً أَوْ فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ لِكَوْنِهِ قَنَّطَهُمْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَيَأَّسَهُمْ مِنْ غُفْرَانِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ إنَّمَا قَالَهُ لِأَنَّ الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُزْدَرٍ لِخَلْقِ اللَّهِ آمِنٌ مِنْ مَكْرِهِ غَيْرُ خَائِفٍ مِنْ سَطْوَتِهِ وَقَهْرِهِ حَيْثُ رَأَى النَّاسَ هَالِكِينَ وَرَأَى نَفْسَهُ نَاجِيًا وَهُوَ الْهَالِكُ تَحْقِيقًا وَيَكْفِيهِ شَرًّا احْتِقَارُ الْغَيْرِ فَالْخَلْقُ يُدْرِكُونَ النَّجَاةَ بِتَعْظِيمِهِمْ إيَّاهُ فَهُمْ مُتَقَرِّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالدُّنُوِّ مِنْهُ وَهُوَ حَمُقَ إلَى اللَّهِ بِالتَّنَزُّهِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْهُمْ كَأَنَّهُ يَتَرَفَّعُ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ فَمَا أَجْدَرَهُ بِالْهَلَاكِ انْتَهَى كَذَا فِي الْفَيْضِ (هَذَا إذَا قَالَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ مُزْرِيًا) مُحَقِّرًا (بِغَيْرِهِ وَأَمَّا إذَا قَالَهُ وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ مَعَهُمْ وَهُوَ لِنَفْسِهِ أَشَدُّ احْتِقَارًا مِنْهُ) مِنْ احْتِقَارِهِ (لِغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) كَذَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - د عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» لِأَنَّ كَلِمَةَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَتُوهِمُ الشَّرِكَةَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَبْدِهِ بِخِلَافِ كَلِمَةِ ثُمَّ لِأَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي وَعَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ أَعُوذ بِاَللَّهِ وَبِك وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ بِك قَالُوا أَوْ يَقُولَ لَوْلَا اللَّهُ ثُمَّ فُلَانٌ لَفَعَلْت كَذَا وَلَا يَقُولُ لَوْلَا اللَّهُ وَفُلَانٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ حِلْيَةِ الْأَبْرَارِ وَفِيهِ مُرَاعَاةُ مَوَاقِعِ الْأَلْفَاظِ وَعَدَمُ التَّسَاهُلِ فِي أَمْرِهَا كَمَا عَنْ الْمَوَاهِبِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) فِي فِقْهِ الْحَنَفِيِّ لِلْإِمَامِ مُحَمَّدٍ (يُكْرَهُ) قِيلَ تَحْرِيمًا لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي الْكَمَالَ (أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ بِحَقِّ نَبِيِّك أَقُولُ وَكَذَا كُلُّ مَخْلُوقٍ) يُكْرَهُ الْقَسَمُ بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْمُلْكِ وَالْعَرْشِ وَالْأَوْلِيَاءِ (لِأَنَّهُ عَلَّلَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ) الْكَرَاهِيَةَ (بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ) وَهَذَا التَّعْلِيلُ جَارٍ فِي الْجَمِيعِ وَفِي الدُّرَرِ عَنْ الْكَافِي قَالَ لِغَيْرِهِ بِحَقِّ اللَّهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ

أَنْ يَأْتِيَ بِهِ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَقِيلَ لَوْ عَلَّلَ بِمَعْنَى أَنَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَيْك حَقًّا بِمُقْتَضَى جَعْلِكَ لَهُمْ عَلَيْك حَقًّا فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الرَّأْيِ بِمُقَابَلَةِ النَّصِّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ إبْهَامِ الشَّيْنِ وَيُقِرُّ بِهِ مَا قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَسَمِ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ رُتْبَةً عَلِيَّةً وَحَقًّا عَلَيْهِ قَبُولُ شَفَاعَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَهُوَ لَا يُنَافِي التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ مَا بِحَسَبِ الذَّاتِ وَالْمُثْبَتَ بِحَسَبِ الْجَعْلِ وَأَيْضًا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِاخْتِصَاصِ الْقَسَمِ بِهِ تَعَالَى وَكَذَا مَا قِيلَ إنَّهُ لَوْ جَعَلَ لَفْظَ الْحَقِّ مَصْدَرًا لَا صِفَةً مُشَبَّهَةً بِمَعْنَى حَقِيقَةِ رُسُلِك فَلَا مَنْعَ لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ الْإِيهَامِ عَلَى أَنَّ الْمُتَبَادَرَ هُوَ الصِّفَةُ نَعَمْ لَوْ كَانَ لِلرَّأْيِ فِيهِ مَسَاغٌ لَقُلْنَا الْمُرَادُ بِحَقِّ نَبِيِّك الَّذِي نُبُوَّتُهُ حَقٌّ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ فَيُؤَوَّلُ إلَى نَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّك» الْحَدِيثَ وَجَوَّزَهُ فِي الْبَزَّازِيَّةِ تَأَمَّلْ فِيهِ وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي بَعْضِ الدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ نَحْوِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْك آمِينَ كَمَا فِي الْحِزْبِ الْأَعْظَمِ لِعَلِيٍّ الْقَارِيّ الَّذِي الْتَزَمَ أَنْ لَا يَجْعَلَ فِيهِ شَيْئًا غَيْرَ الْحَدِيثِ وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْرِدِهِ لَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ لِوُرُودِ مِثْلِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ فَتَأَمَّلْ (وَجَوَّزَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ أَنْ يَقُولَ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ) وَفِي الْمُنْيَةِ وَفِي الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ أَقُولُ بَلْ الِاسْتِحْبَابُ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ إذَا سَأَلْتُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا فَأَسْأَلُوهُ بِي فَإِنِّي أَنَا الْوَاسِطَةُ الْآنَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ وَعَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَسَّلْ لِقَضَائِهَا بِالْغَزَالِيِّ وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ فِي الْكُتُبِ كَالْحِصْنِ الْحَصِينِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ بِمَقْعَدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك بِتَقْدِيمِ الْعَيْنِ أَوْ تَأْخِيرِهَا) قَالَ فِي الدُّرَرِ وَلَا شَكَّ فِي كَرَاهَةِ الثَّانِيَةِ لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَاهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا الْأُولَى لِأَنَّهَا تُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ وَالْعَرْشُ حَادِثٌ وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ بِهَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ حَادِثًا وَعِزُّ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو اللَّيْثِ وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي تَجْوِيزِهِمَا جَعْلُ الْعِزِّ صِفَةً لِلْعَرْشِ لِأَنَّ الْعَرْشَ مَوْصُوفٌ فِي الْقُرْآنِ بِالْمَجْدِ وَالْكَرَمِ فَكَذَا بِالْعِزِّ قِيلَ إنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إنْكَارُهُ (وَفِي الْخُلَاصَةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ إيمَانِي كَإِيمَانِ جَبْرَائِيلَ وَلَكِنْ يَقُولُ آمَنْت بِمَا آمَنَ بِهِ جَبْرَائِيلُ) لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بِحَسَبِ الْكَمِّ لَكِنْ يَقْبَلُ بِحَسَبِ الْكَيْفِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَإِيمَانُ جَبْرَائِيلَ أَقْوَى بِلَا شَكٍّ فَلَا وَجْهَ لِلتَّشْبِيهِ (وَفِي السِّرَاجِيَّةِ يُكْرَهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَالْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بِاسْمِهِ) لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَدَبِ (خ م عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي» لِأَنَّ فِي إطْلَاقِ الْخَبَاثَةِ عَلَيْهَا نَوْعُ تَشَاؤُمٍ «وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي» عَنْ الْقَامُوسِ لَقِسَتْ نَفْسُهُ إلَى الشَّيْءِ كَفَرِحَ نَازَعَتْهُ إلَيْهِ وَمِنْهُ غَثَتْ وَخَبُثَتْ وَعَنْ الْمُجْمَلِ لَقِسَتْ نَفْسُهُ مِنْ الشَّيْءِ غَثَتْ قِيلَ إنَّمَا كُرِهَ لَفْظُ خَبُثَتْ لِقُبْحِهِ وَلِئَلَّا يَنْسِبَ الْمُسْلِمُ الْخُبْثَ إلَى نَفْسِهِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْوُرُودِ وَأَنَّ مَجْمُوعَ عِلَّتَيْهِ رَاجِعٌ إلَى وَاحِدٍ وَقِيلَ هَذَا وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ إطْلَاقُهُ عَلَى خَبَاثَةِ النَّفْسِ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ التَّشَاؤُمُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَيْضًا كَمَا تَرَى لَعَلَّ الْأَوْجَهَ أَنَّ الْخُبْثَ صَرِيحٌ فِي نِسْبَةِ الْخَبَاثَةِ إلَى النَّفْسِ وَاللَّقْسُ وَإِنْ كَانَ الْخُبْثُ مِنْ مَعَانِيهِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي ذَلِكَ لِاحْتِمَالِهِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَيَجْرِي فِي كُلِّ مَا فِيهِ فُحْشٌ وَخَبَاثَةٌ مُقَايَسَةً أَوْ دَلَالَةً (د عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ جَاشَتْ»

غَثَتْ «نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي» قِيلَ وَجْهُ النَّهْيِ صِيَانَةُ اللِّسَانِ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْمَكَارِهِ وَمَا تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ قِيلَ مَرَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى قَوْمٍ أَوْقَدُوا نَارًا فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الضَّوْءِ وَلَمْ يَقُلْ يَا أَهْلَ النَّارِ لِأَنَّهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ يَا أَهْلَ جَهَنَّمَ «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَا أَكْبَرُ أَمْ أَنْتَ أَكْبَرُ فَقَالَ أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي وَأَكْبَرُ رُتْبَةً وَأَنَا أَقْدَمُ مِنْك سِنًّا» وَلَمْ يَقُلْ أَنَا أَكْبَرُ مِنْك لِئَلَّا يُوهِمَ الْكِبَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ إنَّمَا سَمَّى الْعَرَبُ الْفَلَاةَ مَفَازَةً وَالْعَطْشَانَ نَاهِلًا وَاللَّدِيغَ سَلِيمًا وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ لِلتَّفَاؤُلِ فَإِنَّ الْمَفَازَةَ هِيَ النَّجَاةُ وَالنَّاهِلَ هُوَ الرَّيَّانُ وَالسَّلِيمَ هُوَ ذُو السَّلَامَةِ (مج عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَهُ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فَقَالَ الرَّجُلُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت» أَنْتَ «فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ تَعَالَى عِدْلًا» بِالْكَسْرِ مِثْلًا وَمُعَادِلًا «قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» مَعْمُولٌ لِلَفْظِ قُلْ؛ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَقْرَبُ إلَيْهِ قَوْلُ الْأَصْحَابِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَتَأَمَّلْ فِي فَرْقِهِمَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي هَذَا الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ قَوْلُ الْعَامَّةِ فِي الْأَكْثَرِ إنِّي أَعْلَمُ هَذَا مِنْ اللَّهِ وَمِنْك وَقَوْلُهُمْ أَعْلَمُ هَذَا مِنْ اللَّهِ أَوَّلًا وَمِنْك وَقَوْلُهُمْ أَعْتَمِدُ فِي هَذَا عَلَى اللَّهِ أَوَّلًا وَعَلَيْك ثَانِيًا (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إمَاءُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي» لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ قِيلَ إنَّمَا كُرِهَ إذَا قَالَ بِطَرِيقِ التَّطَاوُلِ وَالتَّحْقِيرِ وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] «وَلَا يَقُولَنَّ الْمَمْلُوكُ رَبِّي وَلَا رَبَّتِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي فَكُلُّكُمْ عَبِيدٌ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ» وَغَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْمَ عَاصِيَةَ) بِنْتِ عُمَرَ (إلَى جَمِيلَةَ) وَرُبَّمَا يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ فِي دِيَارِنَا فَيُغَيِّرُهُ عُلَمَاؤُنَا لَكِنَّ السَّابِقَ أَنَّهُ آسِيَةُ لَا عَاصِيَةُ فَلَا يُغَيَّرُ بَلْ يُتَفَاءَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَحَزْنٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مَا غَلُظَ مِنْ الْأَرْضِ (إلَى سَهْلٍ) وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ (وَعَزِيزٍ) بِمُهْمَلَةِ وِزَاءَيْنِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْغَالِبُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ يَرُدُّهُ مَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِاسْمِ اللَّهِ يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعَلِيِّ وَالْكَبِيرِ وَالرَّشِيدِ وَالْبَدِيعِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَيُرَادُ بِهِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَا يُرَادُ بِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (وَعَتَلَةَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ لِأَنَّ الْعَتْلَ الْجَرُّ بِالْعُنْفِ وَالْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ وَالْمُؤْمِنُ

هَيِّنٌ لَيِّنٌ سَهْلٌ (وَشَيْطَانَ) وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَحَكَمٍ) لِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى (وَغُرَابٍ) لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِعِزَّةِ النَّاسِ أَنْ يُشَارِكُوا طَيْرًا فِي الِاسْمِ وَهُوَ يُعَدُّ مِنْ الدَّنِيءِ بَلْ قَدْ يُتَشَاءَمُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُصِبْ وَلِأَنَّهُ مِنْ الْغُرُوبِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ فِي التَّفَاؤُلِ (وَشِهَابٍ) شُعْلَةِ نَارٍ (وَحَرْبٍ إلَى سِلْمٍ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (وَبَرَّةَ إلَى زَيْنَبَ فَقَالَ لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) فَعُلِمَ مِنْ هَذَا كَرَاهَةُ كُلِّ اسْمٍ يُشْعِرُ بِالتَّزْكِيَةِ (وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ) وَمِنْ هَذَا عُلِمَ كَرَاهَةُ كُلِّ اسْمٍ لَا يُسْتَحْسَنُ فِي التَّفَاؤُلِ لَعَلَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا سَمْعِيٌّ تَوْفِيقِيٌّ وَعِلَلُهُ قَاصِرَةٌ لَا مُتَعَدِّيَةٌ أَوْ وَارِدٌ عَلَى خِلَافِ قِيَاسٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِلَّا فَيَجْرِي أَكْثَرُهَا فِي أَكْثَرِ الْأَسْمَاءِ الْمُرَخَّصَةِ وَالْمَأْذُونَةِ فَافْهَمْ (وَمُرَّةَ) مِنْ الْمَرَارَةِ (إلَى جُوَيْرِيَةَ) تَصْغِيرُ جَارِيَةٍ عَنْ الْمِصْبَاحِ أَصْلُ الْجَارِيَةِ السَّفِينَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِجَرَيَانِهَا فِي الْبَحْرِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَمَةِ الْجَارِيَةُ عَلَى التَّشْبِيهِ لِجَرَيَانِهَا مَسْخَرَةً فِي أَشْغَالِ مَوَالِيهَا وَالْأَصْلُ الشَّابَّةُ لِخِفَّتِهَا ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ حَتَّى سَمُّوا كُلَّ أَمَةٍ جَارِيَةً وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا تَقْدِرُ عَلَى السَّعْيِ تَسْمِيَةً بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَالْجَمْعُ الْجَوَارِي قِيلَ هُنَا وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَمُرَّةَ إلَى جُوَيْرِيَةَ سَهْوٌ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ فَتَدَبَّرْ انْتَهَى لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ تَصْغِيرَ جَارِيَةٍ لَيْسَ بِجُوَيْرِيَةَ بَلْ جُوَيْرَةُ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَوْ جُورِيَةُ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْضًا فَتَدَبَّرْ أَيْضًا (وَسَمَّى الْمَضْجَعَ) لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالْكَسَلِ وَالْبَطَالَةِ (الْمُنْبَعِثَ) لِتَنَاسُبِ التَّضَادِّ (وَ) غَيَّرَ (أَرْضًا تُسَمَّى عَفْرَةَ) الْعَفْرَةُ تُرَابٌ أَوْ وَجْهُ أَرْضٍ أَوْ لَوْنُ تُرَابٍ عَلَى مَا قِيلَ (خَضِرَةَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَى خَضِرَةَ أَرْضٍ ذَاتِ عُشْبٍ وَكَثْرَةِ نَبَاتٍ (شَعْبَ الضَّلَالِ إلَى شَعْبِ الْهُدَى) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِلَا لَفْظِ إلَى وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى تَقْدِيرِ لَفْظِ غَيَّرَ (وَ) سَمَّى (بَنِي الزِّينَةَ بَنِي الرِّشْدَةَ وَبَنِي مُغْوِيَةَ) مِنْ غَوَى انْهَمَكَ فِي الضَّلَالِ خِلَافُ الرُّشْدِ (بَنِي رِشْدَةَ) إصَابَةُ الصَّوَابِ (وَ) سَمَّى (أَصْرَمَ) قَبِيلَةً كَالسَّوَابِقِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالذَّهَابِ وَالشَّجَاعَةِ (زَرْعَةَ) وِزَانُ هَمْزَةٍ وَثَمَرَةٍ كَثِيرُ الزَّرْعِ قِيلَ إنَّمَا غَيَّرَ هَذِهِ الْأَسَامِيَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِشْعَارِ بِمَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ كَمَا سَمِعْته آنِفًا لَعَلَّ الْأَصْلَ فِيهِ مَا فِي التتارخانية أَنَّ التَّسْمِيَةَ بِاسْمٍ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ وَلَا ذَكَرَهُ رَسُولُهُ وَلَا اسْتَعْمَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا تَكَلَّمُوا فِيهِ؛ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُقَالَ. انْتَهَى (وَمَنَعَ عَنْ التَّكْنِيَةِ) مِنْ الْكُنْيَةِ (بِأَبِي الْحَكَمِ) قِيلَ لِأَنَّ الْحَكَمَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا وَالِدِيَّةَ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا سَمِعْت مِنْ التتارخانية يَصْلُحُ لِصِحَّتِهِ إذْ إطْلَاقُهُ لِغَيْرِهِ تَعَالَى يَكُونُ بِمَعْنًى غَيْرِ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْوَالِدِيَّةَ إنَّمَا تُمْنَعُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ لَهُ تَعَالَى وَالْكَلَامُ فِيمَا لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَالْأَشْبَهُ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ سَابِقًا مِنْ الْمَنْعِ الشَّرْعِيِّ عَلَى عَيْنِهِ كَمَا عَنْ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «لَمَّا وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يُكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِحُكْمِي» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَانَ يُغَيِّرُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ وَفِي شَرْحِهِ عَنْ النَّوَوِيِّ يُسْتَحْسَنُ تَغْيِيرُ الِاسْمِ الْقَبِيحِ إلَى حَسَنٍ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ قَالَ

الرابع والعشرون النفاق القولي

فِي التتارخانية كَنَّى ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِأَبِي بِكْرٍ وَغَيَّرَهُ كَرِهَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ بِهَذَا الِاسْمِ وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلتَّفَاؤُلِ وَأَمَّا التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا بَأْسَ وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي» فَقِيلَ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ سَمَّى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ابْنَهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّاهُ أَبَا الْقَاسِمِ بِإِذْنِهِ وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمَّيْت ابْنِي مُحَمَّدًا وَكَنَّيْته أَبَا الْقَاسِمِ وَذُكِّرْت أَنَّك تَكْرَهُ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي أَحَلَّ اسْمِي وَأَمَّا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَنْ سُمِّيَ بِاسْمِ الرَّسُولِ أَكْرَهُ أَنْ يُكَنَّى بِكُنْيَتِهِ (وَقَالَ) رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقْبَحُ الْأَسْمَاءِ حَرْبٌ وَمُرَّةُ» لِقُبْحِ مَدْلُولِهِمَا عَنْ مُوَطَّإِ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِرَجُلٍ مَا اسْمُكَ قَالَ جَمْرَةُ قَالَ ابْنُ مَنْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ مِمَّنْ قَالَ مِنْ الْحُرْقَةِ قَالَ أَيْنَ مَسْكَنُك قَالَ حَرَّةَ النَّارِ قَالَ بِأَيِّهَا قَالَ بِذَاتِ لَظًى قَالَ أَدْرِكْ أَهْلَك فَإِنَّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا وَكَانَ كَمَا قَالَ قِيلَ لَا يُمْكِنُ إدْرَاكُهُ إلَّا بِالْوِلَايَةِ «وَإِنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ» أَقْبَحَهُ وَأَذَلَّهُ «عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَلِكُ الْأَمْلَاكِ» لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى فَمَنْ سَمَّى بِهِ فَقَدْ نَازَعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي رِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ وَمِثْلُهُ مُرَادِفُهُ وَلَوْ بِلُغَةٍ أُخْرَى كشاه شاه وَفِي رِوَايَةٍ «أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَالِكَ الْأَمْلَاكِ» وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَخْنَى وَهُوَ بِمَعْنَى مَا سَبَقَ أَوْ أَفْحَشُ وَأَفْجَرُ وَالْخَنَا الْفُحْشُ وَالْمُرَادُ صَاحِبُ الِاسْمِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيَأْثَمُ مُسَمِّيهِ بِهِ وَعَنْ النَّوَوِيِّ التَّسَمِّي بِهَذَا الِاسْمِ وَبِمَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى كَالرَّحْمَنِ وَالْقُدُّوسِ وَالْمُهَيْمِنِ وَالْخَالِقِ وَنَحْوِهَا حَرَامٌ وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد «إنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ» وَفِيهِ أَيْضًا «سَمُّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ» (وَقَالَ) رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُسَمِّيَنَّ غُلَامَك يَسَارًا» قِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي التَّفَاؤُلِ عِنْدَ قَوْلِك لَا لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُ «وَلَا رَبَاحًا» مِنْ الرِّبْحِ «وَلَا نَجِيحًا» مِنْ النُّجْحِ بِمَعْنَى الظَّفَرِ «وَلَا أَفْلَحَ» مِنْ الْفَلَاحِ بِمَعْنَى الظَّفَرِ أَيْضًا وَبِهِ يَضْعُفُ مَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ كَانَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ أَفْلَحَ «وَلَا بَرَكَةَ وَلَا نَافِعًا فَإِنَّكَ تَقُولُ أَثَمَّةَ هُوَ» أَيْ أَحَدُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ (فَيُقَالُ) فِي جَوَابِهِ (لَا) فَيُتَطَيَّرُ بِنَفْيِ أَصْلِ الْمَدْلُولِ وَلَا يُسْتَحْسَنُ فِي التَّفَاؤُلِ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّيَ الرَّجُلُ أَوْلَادَهُ وَغِلْمَانَهُ بِأَسْمَاءٍ لَا تَضُرُّ فِي التَّفَاؤُلِ وَلَا تُشْعِرُ بِالتَّزْكِيَةِ أَقُولُ لَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَيَّدَ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ لِأَنَّ نَحْوَ أَحْمَدَ وَمُحَمَّدٍ مِمَّا يُضْمَرُ فِي التَّفَاؤُلِ وَلَا يَخْلُو عَنْ التَّزْكِيَةِ لَكِنْ فِي الْمِنَحِ عَنْ السِّرَاجِيَّةِ وَإِنْ كَانَ أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ لَكِنَّ التَّسْمِيَةَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَوَامَّ يُغَيِّرُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عِنْدَ النِّدَاءِ انْتَهَى أَقُولُ الْأَصْلُ الذَّاتِيُّ لَا يُغَيَّرُ بِالْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ نَعَمْ قَدْ تُغَيَّرُ الْأَحْكَامُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ فَافْهَمْ [الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ النِّفَاقُ الْقَوْلِيُّ] (الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ) (النِّفَاقُ الْقَوْلِيُّ) لَا الِاعْتِقَادِيُّ وَهُوَ كُفْرٌ (وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقَوْلِ الْبَاطِنَ فِي الثَّنَاءِ وَإِظْهَارُ الْحُبِّ)

فَلِسَانُهُ يَمْدَحُ وَقَلْبُهُ يَقْدَحُ (طب قِيلَ «لِابْنِ عُمَرَ إنَّا نَدْخُلُ عَلَى أُمَرَائِنَا فَنَقُولُ الْقَوْلَ» الْمُوَافِقَ لِأَغْرَاضِهِمْ وَالْمُلَائِمَ لِطِبَاعِهِمْ مِنْ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَإِظْهَارِ الْحُبِّ «فَإِذَا خَرَجْنَا قُلْنَا غَيْرَهُ فَقَالَ» ابْنُ عُمَرَ «كُنَّا نَعُدُّ ذَلِكَ نِفَاقًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَفِي لَفْظِ نَعُدُّ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنِفَاقٍ حَقِيقِيٍّ بَلْ كَوْنُهُ نِفَاقًا إنَّمَا هُوَ بِالْعَدِّ لِشَبَهِهِ بِهِ وَفِي لَفْظِ كَانَ إشَارَةٌ إلَى اسْتِمْرَارِهِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ إنَّمَا هُوَ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ ذَمِيمَةٌ بَلْ الدُّخُولَ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدُ قَدْرِ اسْتِشْهَادِ الْمَقَامِ نَعَمْ الْكَلَامُ فِي كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ نَفْيِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ قَدْ يَرْجِعُ لِكُلٍّ مِنْ الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ وَفِيهِ بُعْدٌ فَتَأَمَّلْ ثُمَّ نَقُولُ إنَّ هَذَا عِنْدَ سَلَامَتِهِ مِنْ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَارِضِ الضَّرُورِيَّةِ كَالْإِكْرَاهِ وَالْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ أَوْ دَفْعِ مَظْلِمَتِهِ الَّتِي لِذَلِكَ الْقَوْلِ الْمُلَائِمِ لِطَبْعِهِ مَدْخَلٌ فِي نُفُوذِ رَجَائِهِ وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ تَفْصِيلِهِ ثُمَّ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِمَّا تَقْرِيرِيٌّ أَوْ تَصْرِيحِيٌّ وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فَبَعِيدٌ فِي مِثْلِهِ جِدًّا (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ النِّفَاقِ الْقَوْلِيِّ (تَصْدِيقُ الْكَاذِبِ) فِي مُكَاذَبَتِهِ وَلَوْ بِالرَّأْسِ (حذر حب س ت عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَعَاذَك اللَّهُ مِنْ إمَارَةِ السُّفَهَاءِ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالسَّفَهُ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ (قَالَ) كَعْبٌ «وَمَا إمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي» سِيرَتِي وَطَرِيقَتِي «وَلَا يَسْتَضِيئُونَ بِسُنَّتِي» إذْ مِنْ شَأْنِهَا الْإِخْرَاجُ مِنْ الظُّلْمَةِ إلَى النُّورِ «فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ» هَذَا هُوَ مَحَلُّ الِاسْتِشْهَادِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ إنْ كَانَ التَّصْدِيقُ بِالْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ تَبَادُرُهُ بِالْقَلْبِ «وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ» وَلَوْ بِالسُّكُوتِ عَلَى ظُلْمِهِمْ سِيَّمَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ وَمُكَالَمَتِهِ «فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي» مِنْ أَهْلِ هَدْيِي وَمِنْ الْعَامِلِينَ بِسُنَّتِي أَوْ مِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ لِشَفَاعَتِي أَوْ لَيْسُوا مِنْ أُمَّتِي إنْ حَسَّنُوا ظُلْمَهُمْ الْقَطْعِيَّ «وَلَسْت مِنْهُمْ» كَالتَّأْكِيدِ تَغْلِيظًا وَتَشْدِيدًا «وَلَا يَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي» وَكُلُّ الْأُمَّةِ وَارِدَةٌ عَلَى حَوْضِهِ قِيلَ كَمَا لَا يَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ مَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْخَمْرِ مَعَ بَقَاءِ إيمَانِهِ فَفِيهِ زِيَادَةُ تَقْبِيحٍ لِتَصْدِيقِ الْكَاذِبِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ «وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ» بِكَذِبِهِمْ بَلْ يُعْلِنُ كَذِبَهُمْ إنْ قَدَرَ أَوْ يَبْغُضُ عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ فَقَطْ إنْ لَمْ يَقْدِرْهُمْ «وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ» بَلْ يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ «فَأُولَئِكَ» الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ وَالزُّلْفَى وَالْإِشَارَةُ مَنْ قِبَلِ أُولَئِكَ عَلَى هَدْيٍ مِنْ رَبِّهِمْ «مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ وَسَيَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي» فَيَشْرَبُونَ مِنْهُ شَرَابًا لَا ظَمَأَ بَعْدَهُ ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ النَّاسُ غَادِيَانِ» صِنْفَانِ وَأَصْلُ الْغُدُوِّ السَّيْرُ بِالْغَدَاةِ وَأُرِيدَ مُطْلَقُ السَّيْرِ فَصِنْفٌ «مُبْتَاعٌ» مُشْتَرٍ «نَفْسَهُ» مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ «فَمُعْتِقُهَا» مِنْهُ أَيْ مِنْ عَذَابِهِ «وَ» صِنْفٌ «بَائِعٌ

نَفْسَهُ» بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَتَرْكِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ «فَمُوبِقُهَا» مُهْلِكُهَا (وَقَلَّمَا يَخْلُو عَنْ هَذَا) الصُّنْعِ (مَنْ يَدْخُلُ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ) فِي الِاعْتِقَادِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (نَعَمْ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ (تَجُوزُ الْمُدَارَاةُ وَهِيَ مَا كَانَتْ لِدَرْءِ الضَّرَرِ وَالشَّرِّ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ شَرِّهِ كَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ الضَّرَرِ الْقَلِيلِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الضَّرَرِ الْجَلِيلِ (وَضِدُّهُ الْمُدَاهَنَةُ وَهِيَ مَا كَانَ لِلتَّوَانِي) لِلتَّسَاهُلِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالتَّكَاسُلِ فِيهِ (وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ لِأَمْرِ الدِّينِ) لِضَعْفِ دِينِهِ وَأَحْسَنَ مَنْ فَرَّقَ بِأَنَّ الْمُدَارَاةَ إصْلَاحُ الدُّنْيَا أَوْ الدِّينِ بِالدُّنْيَا وَالْمُدَاهَنَةَ إصْلَاحُ الدُّنْيَا بِإِفْسَادِ الدِّينِ (وَقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ) النِّفَاقُ الْقَوْلِيُّ وَالْمُدَارَاةُ وَالْمُدَاهَنَةُ فِي التَّاسِعِ وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ (خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ» فِي الدُّخُولِ «عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلِتَضَمُّنِ اسْتَأْذَنَ مَعْنَى الدُّخُولِ تَعَلَّقَ لَفْظُ عَلَى بِهِ وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ «فَلَمَّا رَآهُ» مِنْ بَعِيدٍ «قَالَ» - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بِئْسَ» مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ «أَخُو الْعَشِيرَةِ» أَيْ الْقَبِيلَةِ وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا وَالْجَمْعُ عَشِيرَاتٌ وَعَشَائِرُ «أَوْ بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ» أَيْ قَبِيحٌ فِي قَبِيلَتِهِ إمَّا بِفِرَاسَتِهِ أَوْ بِوَحْيِ رَبِّهِ إنَّمَا أَخْبَرَ بِهِ لِيُتَوَقَّى مِنْ شَرِّهِ لَا لِحَظِّ نَفْسِهِ وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ مَسَاوِئ الْخَبِيثِ وَالْأَشْرَارِ لِيُتَحَرَّزَ عَنْهُ «فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ فِي وَجْهِهِ» أَظْهَرَ طَلَاقَ الْوَجْهِ وَبَشَاشَتَهُ بِالْبِشْرِ «وَانْبَسَطَ إلَيْهِ» بِالْكَلَامِ وَالتَّوَجُّهِ وَالِالْتِفَاتِ خِلَافُ الِانْقِبَاضِ وَالْكَفِّ عَنْ الْحَدِيثِ وَعَبُوسَةِ الْوَجْهِ وَمِنْ دَأْبِ الْكَرِيمِ أَنْ يَكُونَ بَشَّاشًا طَلْقَ الْوَجْهِ مُنْبَسِطًا إلَى كُلِّ مَنْ يُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيَتَوَجَّهُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَبِيثًا مُخْبِثًا أَوْ عَدُوًّا مُكَاشِرًا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَمَامُ الْحَدِيثِ «فَلَمَّا انْطَلَقَ» أَيْ ذَهَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْت الرَّجُلَ قُلْت» أَنْتَ «لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْت فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْت إلَيْهِ» لِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ لَا لِلْمُنَاقَشَةِ وَالْمُدَافَعَةِ «فَقَالَ يَا عَائِشَةُ مَتَى» اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ «عَهِدْتنِي» أَيْ أَدْرَكْتنِي «فَحَّاشًا» مُبَالَغَةُ الْفُحْشِ أَيْ قَائِلًا لِلْفُحْشِ وَهُوَ الْقَوْلُ السَّيِّئُ لَا يَخْفَى أَنَّ صِيغَةَ الْمُبَالَغَةِ إمَّا بِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ أَوْ النَّفْيُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ رَاجِعٌ إلَى مَجْمُوعِ الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ لَا إلَى الْقَيْدِ فَقَطْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]- إذْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْلُ الْفُحْشِ فَضْلًا عَنْ كَثْرَتِهِ وَمُبَالَغَتِهِ يَعْنِي لَا تَجِدِينِي فَحَّاشًا فِي قَوْلِي ذَلِكَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَعَلَّلَهُ بِالِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ بِقَوْلِهِ «إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ» يَعْنِي إنَّهُ رَجُلٌ شِرِّيرٌ وَإِنَّمَا تَطَلَّقَ لَهُ وَجْهِي لِئَلَّا يُصِيبَ شَرُّهُ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرُهُ إنِّي تَرَكْت النُّصْحَ وَمَا يَقْتَضِي إسَاءَتَهُ مِنْ الْإِعْرَاضِ وَالْعَبُوسَةِ اتِّقَاءَ شَرِّهِ مِنْ إضْلَالِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الْحَادِثِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا ذَمِّي

الخامس والعشرون كلام ذي اللسانين

لِلتَّنْفِيرِ عَنْ شَرِّهِ فَبِهَذِهِ النِّيَّةِ لَا يَكُونُ غِيبَةً كَمَا لَا يَكُونُ سُوءُ الظَّنِّ لِلْقَاطِعِ أَوْ الرَّاجِحِ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَفِي رِوَايَةٍ «إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ الَّذِينَ يُكْرَمُونَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ «اتِّقَاءَ أَلْسِنَتِهِمْ» قَالَ الْمُحَشِّي فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجُوزُ إظْهَارُ الْحُبِّ وَالثَّنَاءِ لِمَنْ يُخَافُ مِنْهُ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ وَشَرِّهِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظْهَرَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ طَلَاقَةَ الْوَجْهِ لِئَلَّا يَكُونَ بَاعِثًا إلَى الْفِتْنَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَيُرْوَى اتِّقَاءَ فُحْشِهِ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ هَذَا الرَّجُلُ هُوَ عُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنٍ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ وَإِنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَبَيَّنَ لِيَعْرِفَهُ النَّاسُ وَيَتَوَقَّوْا شَرَّهُ وَكَانَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ يَوْمَ الِارْتِدَادِ وَجِيءَ بِهِ أَسِيرًا إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ بِنُورِ النُّبُوَّةِ وَذَمَّهُ وَإِنَّمَا أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ تَأَلُّفًا لِأَمْثَالِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُدَارَاةُ مَنْ يُتَّقَى فُحْشُهُ وَجَوَازُ غِيبَةِ الْفَاسِقِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ» وَيُقَالُ ثَلَاثَةٌ لَا يَكُونُ لَهُمْ غِيبَةٌ سُلْطَانٌ جَائِرٌ وَفَاسِقٌ مُعْلِنٌ وَصَاحِبُ بِدْعَةٍ [الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ كَلَامُ ذِي اللِّسَانَيْنِ] (الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ) (كَلَامُ ذِي اللِّسَانَيْنِ) (الَّذِي يَتَكَلَّمُ بَيْنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ) الْمُتَخَاصِمَيْنِ إيقَادًا لِنِيرَانِ الْخُصُومَةِ وَإِيقَاظًا لِلَهَبِ الْفِتْنَةِ (يُكَلِّمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) مَفْعُولُ يُكَلِّمُ (بِكَلَامٍ يُوَافِقُهُ أَوْ يَنْقُلُ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ أَوْ كَانَ يُحَسِّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُعَادَاةِ) مَعَ صَاحِبِهِ (وَيُثْنِي عَلَيْهِ) فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ (أَوْ يَعِدُ) مِنْ الْوَعْدِ (كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يَنْصُرَهُ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ النِّفَاقَ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ) وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْكُتَ وَلَا يَتَكَلَّمَ أَصْلًا أَوْ يُثْنِيَ عَلَى الْمُحِقِّ مِنْهُمَا فِي حُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْ عَدُوِّهِ (خ م عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا» يَعْنِي مَنْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عَدُوَّيْنِ كَأَنَّهُ صَدِيقُهُ وَيَعِدُهُ أَنَّهُ نَاصِرٌ لَهُ وَيَذُمُّ ذَا عِنْدَ ذَا وَذَا عِنْدَ ذَا وَيَأْتِي قَوْمًا بِوَجْهٍ وَقَوْمًا بِوَجْهٍ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ «كَانَ لَهُ لِسَانَانِ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» كَمَا كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا لِسَانَانِ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ قَالَ الْغَزَالِيُّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مُلَاقَاةَ الِاثْنَيْنِ بِوَجْهَيْنِ نِفَاقٌ وَلِلنِّفَاقِ عَلَامَاتٌ مِنْهَا هَذِهِ، نَعَمْ إنْ كَلَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَانَ صَادِقًا لَمْ يَكُنْ ذَا لِسَانَيْنِ فَإِنْ نَقَلَ كَلَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فَهُوَ نَمَّامٌ ذُو لِسَانٍ وَذَلِكَ شَرٌّ مِنْ النَّمِيمَةِ (خ م دُنْيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَجِدُونَ مِنْ» جَارَّةٌ تَبْعِيضِيَّةٌ

السادس والعشرون الشفاعة السيئة

«شَرِّ عِبَادِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَا الْوَجْهَيْنِ» فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ «الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِحَدِيثٍ وَهَؤُلَاءِ» جَمَاعَةً أُخْرَى «بِحَدِيثٍ» آخَرَ إذًا الْمُعَادُ الْمُنَكَّرُ غَيْرُ الْأَوَّلِ إذْ هُوَ مَنْبَعُ إيقَاظِ الْفِتْنَةِ وَمَعْدِنُ الْفَسَادِ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ (وَفِي رِوَايَةٍ «يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ» آخَرَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِصْلَاحِ وَإِلَّا فَمَحْمُودٌ [السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ] (السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ) (الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ) بِأَنْ تُخَالِفَ الشَّرْعَ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ} [النساء: 85] نَصِيبٌ {مِنْهَا} [النساء: 85] مِنْ وِزْرِهَا (د طب حك عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ حَالَتْ» مِنْ الْحَيْلُولَةِ «شَفَاعَتُهُ» أَيْ صَارَتْ حَائِلَةً وَمَانِعَةً «دُونَ حَدٍّ» إقَامَتِهِ «مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى» فَلَمْ يَقُمْ لِشَفَاعَتِهِ «فَقَدْ ضَادَّ» أَيْ خَالَفَ «اللَّهَ تَعَالَى» هَذَا إذَا شَفَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بَعْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ إلَى الشُّهُودِ بِأَنْ يُقَالَ السَّتْرُ أَفْضَلُ فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمُدَّعِي فِي قَطْعِ الْيَدِ وَالْقِصَاصِ وَحْدِ الْقَذْفِ قَبْلَ الثُّبُوتِ لِدَرْءِ الْحُدُودِ فَيَجُوزُ بَلْ يُسْتَحَبُّ إذَا تَابَ الْجَانِي وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتُبْ فَلَا يَجُوزُ أَصْلًا. وَعَنْ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ «فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ أُسَامَةُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعَتْ» . (وَهِيَ) أَيْ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ (كَثِيرَةٌ مِنْهَا الشَّفَاعَةُ لِتَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ) بِكِسْرَةِ الْهَمْزَةِ (وَالتَّوْلِيَةُ) لِلْأَوْقَافِ وَالْوَصَايَا (مُطْلَقًا) أَهْلًا أَوْ لَا (لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ طَلَبِهَا وَ) عَنْ (الشَّفَاعَةِ فِيهَا) وَعَنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى رِوَايَةِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَنْ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ وُكِّلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ جُبِرَ عَلَيْهِ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» . (وَمِنْهَا) (الشَّفَاعَةُ لِلْإِمَامَةِ) فِي الصَّلَاةِ (لِمَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهَا) إمَّا بِسُوءِ الِاعْتِقَادِ كَأَهْلِ الْهَوَى أَوْ لِعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الطَّهَارَةِ بِأَنْ لَا يُبَالِيَ بِالنَّجَاسَةِ الْمَانِعَةِ لِلصَّلَاةِ فِي الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ لِعَدَمِ وُصُولِ مَاءِ الطَّهَارَةِ لِلْأَعْضَاءِ الْوَاجِبِ تَطْهِيرُهَا أَوْ لِعَدَمِ قِرَاءَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الصَّلَاةِ فَإِذَا فُقِدَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَحَقَّقَتْ الْأَهْلِيَّةُ كَمَا ذَكَرَ الْمُحَشِّي وَكَذَا الشَّفَاعَةُ لِمَنْ لَا يُرَاعِي تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ (أَوْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْهُ) كَالشَّفَاعَةِ لِمَنْ كَانَتْ إمَامَتُهُ مَكْرُوهَةً مِثْلِ الْفَاسِقِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْعَبْدِ وَالْأَعْمَى.

(وَكَذَا) (الْأَذَانُ) لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ أَوْ مُغَنِّيًا سِيَّمَا عَلَى رَأْيِ الْمُصَنِّفِ أَوْ يَلْحَنُ فِي الْأَذَانِ فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ذَا لَحْنٍ وَتَغَنٍّ تَحَقَّقَتْ الْأَهْلِيَّةُ. (وَالتَّعْلِيمُ) أَيْ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْلُومٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ التَّجْوِيدَ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَدَيِّنًا فِي حَقِّ أَوْلَادِ النَّاسِ لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ وُجُودِ الْأَوْلَى (وَالتَّدْرِيسُ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ أَوْ وُجِدَ الْأَوْلَى مِنْهُ بِأَنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ غَيْرَ مُدَاوِمٍ عَلَى الدَّرْسِ وَلَا عِبْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْفَقْرِ بَلْ الْعِبْرَةُ بِالْأَهْلِيَّةِ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ فَلَا يَغُرَّنَّكَ الْغَرُورُ بِأَنَّ هَذَا فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ وَذَلِكَ لَيْسَ كَذَا فَعَلَيْك الْإِعَانَةُ لِلْمُحْتَاجِ وَكَذَا الْقِرَاءَةُ بِالْأُجْرَةِ حَرَامٌ مُطْلَقًا ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي. وَلَوْ وُجِدَ غَنِيٌّ أَهْلٌ وَفَقِيرٌ لَيْسَ بِأَهْلٍ يَشْفَعُ لِلْأَهْلِ وَلَوْ غَنِيًّا دُونَ غَيْرِهِ وَلَوْ فَقِيرًا كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ (وَنَحْوِهَا) مِنْ الشَّفَاعَةِ بِمَا لَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ (وَسَبَبُهَا) أَيْ سَبَبُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ (الْجَهْلُ) بِعَاقِبَتِهَا مِنْ الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ (وَالطَّمَعِ) فِيهَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَشْفُوعِ (وَحُبُّ الْأَقْرِبَاءِ وَالْأَحِبَّاءِ) فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الشَّفَاعَةِ لَهُمْ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ بَلْعَمٍ (وَحُبُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُبُّ نَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحَقُّ) مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ مِنْ خَيْرِ الدَّارَيْنِ وَمَحَبَّةُ نَفْسِهِ مِنْ السَّعْيِ فِي نَجَاتِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُؤْثِرُ نَفْعَ غَيْرِهِ عَلَى ضَرَرِهِ. (وَ) سَبَبُهَا أَيْضًا (الْحَيَاءُ مِنْ النَّاسِ) إنْ لَمْ يَشْفَعْ يُعَيِّرُونَهُ أَوْ يَنْسُبُونَهُ إلَى مَا لَا يَرْضَى (وَالْحَيَاءُ مِنْ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ الضَّارِّ النَّافِعِ أَقْدَمُ) لِأَنَّ النِّعْمَةَ وَالْخَلْقَ وَالنَّفْعَ وَالضُّرَّ مِنْ أَسْبَابِ الْحَيَاءِ وَاَللَّهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ (وَأَلْزَمُ) مِنْ الْحَيَاءِ مِنْ النَّاسِ لِعَجْزِهِمْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَانْقِطَاعِ الرَّجَاءِ مِنْهُمْ (وَ) سَبَبُهَا أَيْضًا (الْخَوْفُ مِنْ الْعَدَاوَةِ) أَيْ عَدَاوَةِ الْمَشْفُوعِ لَهُ إنْ لَمْ يَشْفَعْ لَهُ (أَوْ) الْخَوْفُ مِنْ (ذَهَابِ الْمَنْصِبِ وَالرِّزْقِ الدَّارِّ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ كَثِيرُ الْخَيْرِ (وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) لِأَنَّك عَرَفْت أَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ وَالْعَطَاءَ وَالْمَنْعَ لَيْسَ إلَّا مِنْهُ تَعَالَى وَأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى عِصْيَانِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْوَصْلَةِ إلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَتَقْدِيمَ خَوْفِ فَوْتِ الدُّنْيَا عَلَى خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوجِبُ إلَّا الْوِزْرَ وَالْوَبَالَ. (وَضِدُّهَا الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ) وَهِيَ الشَّفَاعَةُ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ فِي الشَّرْعِ كَالشَّفَاعَةِ لِإِحْقَاقِ حَقِّ مُسْلِمٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ عَنْهُ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ لَهُ وَدَفْعِ ضُرٍّ عَنْهُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85] ظَاهِرُهُ حُصُولُ الْأَجْرِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رَاعَى بِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ وَدَفَعَ عَنْهُ ضُرًّا أَوْ جَلَبَ لَهُ نَفْعًا ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ وَمِنْهَا الدُّعَاءُ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ اُسْتُجِيبَ لَهُ وَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ» وَيَقْرَبُ مِنْ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْهُدَى وَالْخَيْرِ وَالْحَسَنَةِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ وَمَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ

مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَأَعْظَمُ الْهُدَى هُدَى مَنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَأَدْنَاهُ هُدًى مَنْ دَعَا إلَى إمَاطَةِ الْأَذَى وَلِذَا عَظُمَ شَأْنُ الْفَقِيهِ الدَّاعِي الْمُنْذِرِ حَتَّى فُضِّلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَلْفِ عَابِدٍ وَلِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُمُّ الْأَشْخَاصَ وَالْأَعْصَارَ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ثُمَّ قَالَ: (تَنْبِيهٌ) أَخَذَ الْمَقْرِيزِيُّ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ كُلَّ أَجْرٍ حَصَلَ لِلشَّهِيدِ حَصَلَ لِلنَّبِيِّ بِسَبَبِهِ مِثْلُهُ وَالْحَيَاةُ أَجْرٌ فَيَحْصُلُ لِلنَّبِيِّ مِثْلُهَا زِيَادَةً عَلَى مَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ الْخَاصِّ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى هِدَايَةِ الْمُهْتَدِي وَعَلَى مَا لَهُ مِنْ الْأُجُورِ عَلَى حَسَنَاتِهِ الْخَاصَّةِ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي لَا تَصِلُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ وَلَا يَبْلُغُونَ مِعْشَارَ مِعْشَارِهَا فَجَمِيعُ حَسَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ فِي صَحَائِفِ نَبِيِّنَا زِيَادَةً عَلَى مَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَعَ مُضَاعَفَةٍ لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ لِأَنَّ كُلَّ مُهْتَدٍ وَعَامِلٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرٌ وَيَتَجَدَّدُ لِشَيْخِهِ فِي الْهِدَايَةِ مِثْلَا ذَلِكَ الْأَجْرِ وَلِشَيْخِ شَيْخِهِ مِثْلَاهُ وَلِلشَّيْخِ الثَّالِثِ أَرْبَعَةٌ وَلِلرَّابِعِ ثَمَانِيَةٌ وَهَكَذَا تُضَاعَفُ كُلُّ مَرْتَبَةٍ بِعَدَدِ الْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ بَعْدَهُ لِلنَّبِيِّ وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ تَفْضِيلُ السَّلَفِ عَلَى الْخَلْفِ فَإِذَا فَرَضْت الْمَرَاتِبَ عَشْرًا بَعْدَ النَّبِيِّ كَانَ لِلنَّبِيِّ مِنْ الْأَجْرِ أَلْفٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِذَا اهْتَدَى بِالْعَاشِرِ حَادِي عَشَرَ صَارَ أَجْرُ النَّبِيِّ أَلْفَيْنِ وَثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَهَكَذَا كُلَّمَا ازْدَادُوا وَاحِدًا يَتَضَاعَفُ مَا كَانَ قَبْلَهُ أَبَدًا انْتَهَى أَقُولُ وَمِثْلُهُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ بَلْ كُلُّ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ وَهُدًى ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ «مَنْ دَعَا إلَى هُدًى» أَنَّ كُلَّ أَجْرٍ حَصَلَ لِلدَّالِّ وَالدَّاعِي حَصَلَ لِلْمُصْطَفَى مِثْلُهُ زِيَادَةً عَلَى مَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ الْخَاصِّ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى دَلَالَتِهِ وَهِدَايَتِهِ لِلْمُهْتَدِي وَعَلَى مَا لَهُ مِنْ الْأُجُورِ عَلَى حَسَنَاتِهِ الْخَاصَّةِ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأُجُورِ الَّتِي لَا تَصِلُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ إلَى عَرْفِ نَشْرِهَا وَلَا يَبْلُغُونَ عُشْرَ عُشْرِهَا وَهَكَذَا نَقُولُ إنَّ حَسَنَاتِنَا وَأَعْمَالَنَا الصَّالِحَةَ وَعِبَادَاتِ كُلِّ مُسْلِمٍ مُسَطَّرَةٌ فِي صُحُفِ نَبِيِّنَا زِيَادَةً عَلَى مَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأُجُورِ بِعَدَدِ أُمَّتِهِ أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ لَا تُحْصَى وَيَقْصُرُ الْعَقْلُ عَنْ إدْرَاكِهَا لِأَنَّ كُلَّ مُهْتَدٍ وَدَالٍّ وَعَالِمٍ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَتَجَدَّدُ لِشَيْخِهِ فِي الْهِدَايَةِ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَجْرِ. وَلِشَيْخِ شَيْخِهِ مِثْلَاهُ وَلِلشَّيْخِ الثَّالِثِ أَرْبَعَةٌ وَالرَّابِعِ ثَمَانِيَةٌ وَهَكَذَا يُضَاعَفُ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ بِعَدَدِ الْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ قَبْلَهُ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمُصْطَفَى إذَا فُرِضَتْ الْمَرَاتِبُ عَشْرًا بَعْدَ النَّبِيِّ كَانَ لِلنَّبِيِّ مِنْ الْأَجْرِ أَلْفٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِذَا اهْتَدَى بِالْعَاشِرَةِ حَادِيَ عَشَرَ صَارَ أَجْرُ النَّبِيِّ أَلْفَيْنِ وَثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَهَكَذَا كُلَّمَا زَادَ وَاحِدٌ يَتَضَاعَفُ مَا كَانَ قَبْلَهُ أَبَدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْصُرُهُ إلَّا اللَّهُ فَكَيْفَ إذَا أُخِذَ مَعَ كَثْرَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَاحِدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِعَدَدِ الْأُجُورِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَى فِعْلِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ مَا يَحْصُلُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ حَاصِلٌ بِجُمْلَتِهِ لِلنَّبِيِّ وَبِهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ السَّلَفِ عَلَى الْخَلَفِ وَأَنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ الْخَلَفُ ازْدَادَ أَجْرُ السَّلَفِ وَتَضَاعَفَ وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْمَعْنَى وَرُزِقَ التَّوْفِيقَ انْبَعَثَتْ هِمَّتُهُ إلَى التَّعْلِيمِ وَرَغِبَ فِي نَشْرِ الْعِلْمِ لِيُضَاعَفَ أَجْرُهُ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ عَلَى الدَّوَامِ وَيَكُفُّ عَنْ إحْدَاثِ الْبِدَعِ وَالْمَظَالِمِ فَإِنَّهَا تُضَاعَفُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ مَا دَامَ يَعْمَلُ بِهَا عَامِلٌ فَلْيَتَأَمَّلْ الْمُسْلِمُ هَذَا الْمَعْنَى وَسَعَادَةَ الدَّالِّ عَلَى الْخَيْرِ وَشَقَاوَةَ الدَّالِّ عَلَى الشَّرِّ. وَقَدْ مَرَّ بَعْضُ هَذَا فِي حَدِيثِ مَنْ دَعَا انْتَهَى أَقُولُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي حَدِيثِ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً» وَلَا يَخْفَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ مُلْحَقَتَانِ بِهَا. (خ م عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ «جَالِسًا فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْأَلُ» شَيْئًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ «فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ» الشَّرِيفِ الْمُبَارَكِ قَبْلَ الْجَوَابِ لِلسَّائِلِ. «وَقَالَ اشْفَعُوا» لِأَرْبَابِ الْحَوَائِجِ الْمُبَاحَةِ كَدَفْعِ ظُلْمٍ وَتَخْلِيصِ عَطَاءٍ وَنَحْوِهِمَا وَكَذَا فِي الْعَفْوِ عَنْ ذَنْبٍ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُذْنِبُ مُصِرًّا وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ لِيَرْتَدِعَ عَنْ الذَّنْبِ وَالْإِصْرَارِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ اشْفَعُوا فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ أَخِيكُمْ «تُؤْجَرُوا» بِمُجَرَّدِ الشَّفَاعَةِ قُبِلَتْ أَوْ لَا بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَبُولِ «وَيَقْضِي اللَّهُ» يَحْكُمُ «عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ»

السابع والعشرون الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف

مِنْ الْأَمْرِ «مَا شَاءَ» يَعْنِي أَنَّ قَضَاءَ حَاجَةِ مَنْ شَفَعَ بِتَقْدِيرِهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ عَدَمَهُ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَاجَةً كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَمَنْ خَدَمَ اللَّهَ حَجَّ وَاعْتَمَرَ» وَفِي رِوَايَةٍ «كَمَنْ خَدَمَ اللَّهَ عُمُرَهُ» . (وَفِي رِوَايَةٍ «كَانَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا» عَلَيْهَا ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ (الْحَدِيثِ) السَّابِقِ (د عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا» يُثِبْكُمْ اللَّهُ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ فِيمَا لَا حَدَّ فِيهِ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْخَيْرِ بِالْفِعْلِ وَالنَّسَبِ قَالَ فِي الْأَذْكَارِ تُسْتَحَبُّ الشَّفَاعَةُ إلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْحُقُوقِ مَا لَمْ تَكُنْ فِي حَدٍّ أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ كَالشَّفَاعَةِ إلَى نَاظِرِ طِفْلٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ وَقْفٍ فِي تَرْكِ بَعْضِ حَقِّ مَنْ فِي وِلَايَتِهِ فَشَفَاعَتُهُ مُحَرَّمَةٌ وَفِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَلَى رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَامُ الْحَدِيثِ وَفِيهِ عَلَى تَخْرِيجِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى زِيدَ قَوْلُهُ «وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» قَالَ فِي شَرْحِهِ فَاشْفَعُوا لِمَنْ عَرَضَ حَاجَةً يَحْصُلْ لَكُمْ أَجْرُ الشَّفَاعَةِ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ فَإِنْ قُبِلَ أَوْ لَمْ يُقْبَلْ فَبِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِ الْمُصْطَفَى لِيَصِلُوا جَنَاحَ السَّائِلِ وَطَالِبِ الْحَاجَةِ وَهُوَ تَخَلُّقٌ بِأَخْلَاقِهِ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ «اشْفَعْ تُشَفَّعْ» فَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَدَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ ثَوَابِهَا وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَرُبَّمَا يَعْرِضُ لَهُ مَا يَعْرِضُ فَتَصِيرُ الشَّفَاعَةُ وَاجِبَةً انْتَهَى «فَإِنِّي أُرِيدُ الْأَمْرَ» الَّذِي أَسْأَلُ فِيهِ «فَأَدَّخِرُهُ» أَيْ لَا أَفْعَلُهُ حَالًا لِيَحْصُلَ لَكُمْ الْأَجْرُ بِالشَّفَاعَةِ «كَيْمَا» لَفْظَةُ مَا زَائِدَةٌ «تَشْفَعُوا فَتُؤْجَرُوا» أَيْ يَحْصُلُ لَكُمْ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ بِسَبَبِ الشَّفَاعَةِ يَعْنِي أَنْتَظِرُ فِي حُصُولِ الْأَمْرِ إلَى شَفَاعَتِكُمْ لِيَحْصُلَ لَكُمْ أَجْرُ الشَّفَاعَةِ. قَالَ فِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَسْأَلُنِي فَأَمْنَعُهُ لِكَيْ تَشْفَعُوا فَتُؤْجَرُوا» يَعْنِي عِنْدَ سُؤَالِ الرَّجُلِ مِنِّي شَيْئًا أَمْنَعُهُ لِكَيْ تَشْفَعُوا فَتُؤْجَرُوا. وَقَالَ الْحَسَنُ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ يَجْرِي أَجْرُهَا لِصَاحِبِهَا مَا جَرَتْ مَنْفَعَتُهَا وَيُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ صَدَقَةٌ وَصَدَقَةُ الرِّيَاسَةِ الشَّفَاعَةُ وَإِعَانَةُ الضُّعَفَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مَنْ كَانَ دَخَّالًا عَلَى الْأُمَرَاءِ وَلَا يَكُونُ مُشَفَّعًا فَهُوَ ضَالٌّ دَعِيٌّ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى دَاوُد أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي يَأْتِي بِحَسَنَةٍ فَأُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ قَالَ يَا رَبِّ وَمَا تِلْكَ الْحَسَنَةُ قَالَ مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ انْتَهَى [السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَعْرُوفِ] (السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] أَيْ مُتَشَابِهَةٌ فِي النِّفَاقِ وَالْبَعْدِ عَنْ الْإِيمَانِ كَأَبْعَاضِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} [التوبة: 67] بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ (وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالظُّلْمِ وَإِعَانَةُ الظَّلَمَةِ عَلَى ظُلْمِهِمْ بِالْقَوْلِ وَضِدِّهِ) وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ (فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ) فَلَوْ أَقَامَهُ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَإِلَّا أَثِمَ الْكُلُّ (عِنْدَ الْقُدْرَةِ بِلَا ضَرَرٍ) لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ نَعَمْ لَوْ اقْتَحَمَ ذَلِكَ وَخَاضَ مَعَهُ بَذْلًا لِنَفْسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أُجِرَ وَلِلْمَالِ إنْ كَانَ لَهُ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ

فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ. وَفِي بُسْتَانِ أَبِي اللَّيْثِ إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ عَلَى الْقَبُولِ فَوَاجِبٌ وَلَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ إنْ شَفَعَ قَذَفُوهُ وَشَتَمُوهُ فَتَرْكُهُ أَفْضَلُ وَكَذَا ضَرْبُهُمْ إنْ لَمْ يَصْبِرْ بَلْ يَكُونُ بَاعِثًا لِلْعَدَاوَةِ وَلَوْ عَلِمَ صَبْرَهُ عَلَى ضَرْبِهِمْ وَعَدَمِ اشْتِكَائِهِ لِأَحَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ جِهَادٌ وَمِنْ عَمَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَوْ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَهُ وَلَا يَضْرِبُونَهُ وَيَشْتُمُونَهُ فَمُخَيَّرٌ وَالْأَفْضَلُ الْأَمْرُ وَقَالُوا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ تَابِعٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنْ وَاجِبًا فَوَاجِبٌ وَإِنْ نَدْبًا فَنَدْبٌ وَإِنْ سُنَّةً فَسُنَّةٌ وَإِنْ فَرْضًا فَفَرْضٌ قِيلَ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَوَاجِبٌ كُلُّهُ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُنْكَرِ تَرْكُهُ وَاجِبٌ أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِمَا قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيّ إنَّ الْمُنْكَرَ إنْ كَانَ حَرَامًا وَجَبَ النَّهْيُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ مَنْدُوبًا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] لَفْظَةُ مِنْ بَيَانِيَّةٌ أَيْ كُونُوا أُمَّةً يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ عَيْنًا وَلَوْ فَاسِقًا كَمَا يَأْتِي مُفَصَّلًا وَالْأَكْثَرُ تَبْعِيضِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ الْكُلُّ بَلْ مَنْ عَلِمَ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ وَكَيْفِيَّةَ تَرْتِيبِ الْأَمْرِ وَالْمُبَاشَرَةِ فَإِنَّ الْجَاهِلَ قَدْ يَعْكِسُ وَيَغْلُظُ فِي مَقَامِ اللِّينِ وَبِالْعَكْسِ وَرُبَّمَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَزِيدُ الْمُنْكَرَ فَلَا يَصْلُحُ لَهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ لَهُ شُرُوطٌ كَالْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ وَمَرَاتِبِ الِاحْتِسَابِ وَكَيْفِيَّةِ إقَامَتِهَا وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْقِيَامِ بِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ قَالُوا هُنَا خَمْسُ مَرَاتِبَ الْأُولَى التَّعْرِيفُ الثَّانِيَةُ الْوَعْظُ بِالْكَلَامِ اللَّطِيفِ فَهُمَا لَا يَحْتَاجَانِ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ الثَّالِثَةُ السَّبُّ وَالْعُنْفُ بِلَا فُحْشٍ بِنَحْوِ يَا جَاهِلُ يَا أَحْمَقُ أَلَا تَخَافُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُ إذْنُهُ أَيْضًا الرَّابِعَةُ الْمَنْعُ بِالْقَهْرِ كَكَسْرِ الْمَلَاهِي وَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِذْنِ أَيْضًا إذْ الْمُسْلِمُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الْخَامِسُ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ بِالضَّرْبِ أَوْ مُبَاشَرَتِهِ فَيُحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ وَأَلَّا يَنْجَرَّ إلَى الْقِتَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَيُقِيمُ التَّعْزِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى الْحَاكِمِ فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ قَالَ فِيهِ تَفْصِيلٌ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ فَلَهُ حِسْبَةٌ لِوَالِدِهِ بِالْأَوَّلَيْنِ فَقَطْ وَفِي الثَّالِثِ يُنْظَرُ إلَى قُبْحِ الْمُنْكَرِ وَإِلَى مِقْدَارِ الْأَذَى وَالسَّخَطِ فَإِنَّ الْمُنْكَرَ فَاحِشًا وَسَخَطَهُ قَرِيبًا كَإِرَاقَةِ خَمْرِ مَنْ لَا يَشْتَدُّ غَضَبُهُ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَإِنَّ الْمُنْكَرَ قَرِيبًا وَالسَّخَطَ شَدِيدًا كَكَسْرِ آنِيَةِ بِلَّوْرٍ عَلَيْهَا صُورَةُ حَيَوَانٍ فَيُكْتَفَى بِالْأَوَّلَيْنِ وَكَذَا الرَّعِيَّةُ مَعَ السُّلْطَانِ فَبِالْأَوَّلَيْنِ فَقَطْ وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَيُنْظَرُ إلَى تَفَاحُشِ الْمُنْكَرِ وَحَالِ الْمُحْتَسِبِ مَعَ الْإِمَامِ وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ لَا يَجِبُ عَلَى التِّلْمِيذِ احْتِرَامُهُ {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] عَامٌّ إلَى مَا فِيهِ صَلَاحٌ دِينِيٌّ أَوْ دُنْيَوِيٌّ {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] الْمَخْصُوصُونَ بِكَمَالِ الْفَلَاحِ «سُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ خَيْرُ النَّاسِ فَقَالَ؟ آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ» . وَفِي الْأَخْبَارِ كَلَامُ ابْنِ آدَمَ كُلُّهُ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] (م عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا» مَا لَيْسَ فِيهِ رِضَاهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ «فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» هُوَ أَقْوَى الْأَنْوَاعِ إنْ كَانَ مِمَّا يُزَالُ بِالْيَدِ كَكَسْرِ آلَةِ اللَّهْوِ وَآنِيَةِ الْخَمْرِ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ شَرْعًا. وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَقْلًا ثُمَّ إنْ عَلِمَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ فَكِفَايَةٌ وَإِلَّا فَعَيْنٌ كَمَا فِي الْفَيْضِ «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» الْإِنْكَارَ بِيَدِهِ بِأَنْ يَظُنَّ لُحُوقَ ضَرَرٍ بِهِ لِكَوْنِ فَاعِلِهِ أَقْوَى مِنْهُ «فَ» الْوَاجِبُ تَغْيِيرُهُ «بِلِسَانِهِ» كَاسْتِغَاثَةٍ أَوْ تَوْبِيخٍ أَوْ تَذْكِيرٍ بِاَللَّهِ أَوْ إغْلَاظٍ إنْ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ ظَاهِرًا كَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِالْعُلَمَاءِ وَإِلَّا فَمُخْتَصٌّ بِهِمْ أَوْ بِمَنْ عَلِمَهُ مِنْهُمْ وَأَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مَجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ يَعْتَقِدَ فَاعِلُهُ تَحْرِيمَهُ أَوْ حِلَّهُ وَضَعْفَ شُبْهَتِهِ جِدًّا كَنِكَاحِ مُتْعَةٍ وَلَا يُنَاقِضُهُ قَوْله تَعَالَى {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] لِأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا كُلِّفْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ لَا يَضُرُّكُمْ تَقْصِيرُ غَيْرِكُمْ. «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» لِوُجُودِ مَانِعٍ كَخَوْفِ فِتْنَةٍ أَوْ خَوْفٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَالٍ مُحْتَرَمٍ أَوْ شَهْرِ سِلَاحٍ «فَبِقَلْبِهِ» يُنْكِرُهُ وُجُوبًا بِأَنْ يَكْرَهَهُ

وَيَعْزِمَ أَنْ لَوْ قَدَرَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَعَلَ وَهَذَا وَاجِبٌ عَيْنًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ فَأَفَادَ الْخَبَرُ وُجُوبَ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ فَلَا يَكْفِي الْوَعْظُ لِمَنْ يُمْكِنُهُ إزَالَتُهُ بِيَدِهِ وَلَا الْقَلْبُ لِمَنْ يُمْكِنُهُ بِاللِّسَانِ. «وَذَلِكَ» أَيْ مَا بِالْقَلْبِ «أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» أَيْ خِصَالِهِ أَوْ آثَارِهِ وَثَمَرَاتِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ مِنْ التَّصْدِيقِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ وَصَلَاحُ الْإِيمَانِ وَجَرَيَانُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ إنَّمَا يَسْتَمِرُّ عِنْدَ اسْتِحْكَامِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَعْنَى ضَعْفِ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَأَنَّ الْأَصَحَّ زِيَادَتُهُ مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ وَنُقْصَانُهُ مِنْ حَيْثُ الضَّعْفُ (وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي كَوْنِ الْوُجُوبِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ فَالْوُجُوبُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ (وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ) قِيلَ (وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى) . وَفِي الصُّرَّةِ عَنْ ابْنِ الْمَلِكِ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَالْمَعْرُوفُ ضِدُّهُ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ بِالْيَدِ لِكَوْنِ فَاعِلِهِ أَقْوَى مِنْهُ فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَنْعِ بِالْقَوْلِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ أَيْ فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِهِ» . (وَقَالَ بَعْضُهُمْ التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْحَاكِمِ) إذْ ذَلِكَ مِنْ الْغَيْرِ رُبَّمَا يُفْضِي إلَى الْفِتْنَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ (وَبِاللِّسَانِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَبِالْقَلْبِ عَلَى الْعَوَامّ) فِي التتارخانية أَنَّهُ اخْتِيَارُ الزَّنْدَوَسْتِيِّ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَدَّمْنَا عَلَى الْفَتَاوَى أَنَّهُ يُقِيمُ التَّعْزِيرَ كُلُّ أَحَدٍ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ إذْ التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ شَأْنُ الْأُمَرَاءِ وَبِاللِّسَانِ شَأْنُ الْعُلَمَاءِ فَكُلُّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى التَّغْيِيرِ بِالْيَدِ مُلْحَقٌ بِالْأُمَرَاءِ فَكَذَا الْأَخِيرَانِ كَيْفَ وَقَدْ يَعْرِضُ عَارِضٌ فَيَكُونُ مَا بِاللِّسَانِ بَلْ مَا بِالْقَلْبِ مُتَعَيِّنًا لِلْأُمَرَاءِ وَكَذَا الْأَخِيرَانِ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ (وَهُوَ) أَيْ الْوُجُوبُ عَلَى هَذَا التَّوْزِيعِ (الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ظَاهِرُهُ كَوْنُهُ رِوَايَةً غَيْرَ مَشْهُورَةٍ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ (فَلِذَا أَوْجَبَ) إلَخْ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِ قَوْلِهِ مُطْلَقًا وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (الضَّمَانُ فِي كَسْرِ الْمَعَازِفِ إنْ كَانَ لَهَا قِيمَةٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ صَلَاحِيَّتِهَا لِلَّهْوِ) كَقِيمَتِهَا قَصْعَةً (وَكَانَ) ذَلِكَ الْكَسْرُ (بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ) وَكَذَا الْحُكَّامُ فَأَوْجَبَ الضَّمَانَ بِشَرْطَيْنِ: الْقِيمَةُ بِدُونِ

صَلَاحِيَةِ اللَّهْوِ وَكَوْنُ الْكَسْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَإِذَا عُدِمَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا ضَمَانَ عِنْدَهُ أَيْضًا وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ مُطْلَقًا وَعَنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِصَدْرِ الْإِسْلَامِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهَا الْكَثْرَةُ الْفَسَادُ بَيْنَ النَّاسِ. وَكَذَا فِي الزَّيْلَعِيِّ وَالْخُلَاصَةِ وَالدُّرَرِ وَفِي قَاضِي خَانْ إنْ أَتْلَفَ آلَاتِ اللَّعِبِ كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فَإِنْ بِأَمْرِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ وَعِنْدَهُمَا مُطْلَقًا وَفِي الْخُلَاصَةِ لَا ضَمَانَ عَلَى كَاسِرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَكَذَا لَا ضَمَانَ فِي إرَاقَةِ خُمُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَسْرِ دِنَانِهَا وَشَقِّ زُقَاقِهَا إذَا أَظْهَرُوهَا وَشَرَطَ فِي الْعُيُونِ كَوْنَهُ بِرَأْيِ الْإِمَامِ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة رَجُلٌ أَظْهَرَ الْفِسْقَ فِي دَارٍ يُتَفَقَّدُ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُفَّ عَنْهُ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي حَبْسِهِ أَوْ تَأْدِيبِهِ بِضَرْبِ سِيَاطٍ أَوْ إزْعَاجٍ عَنْ دِيَارِهِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَقَ بَيْتَ الْخَمَّارِ وَالْإِمَامُ الزَّاهِدُ الصَّفَّارُ أَمَرَ بِتَخْرِيبِ دَارِ الْفَاسِقِ ثُمَّ فِي الْقُنْيَةِ اتَّهَمَ الْجِيرَانُ جَارَهُمْ أَنَّهُ سَكْرَانُ فَاجْتَمَعُوا لِطَلَبِهِ مَعَ إمَامِ الْمَحَلَّةِ وَالْمُؤَذِّنِ وَغَيْرِهِمَا وَدَخَلُوا بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وَطَلَبُوا الزَّوَايَا وَالرُّفُوفَ فِي كُلِّ بَيْتٍ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا يُعَزَّرُونَ وَقِيلَ يُمْنَعُونَ أَشَدَّ الْمَنْعِ (وَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهِ كَوْنُهُ عَامِلًا بِمَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ) فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ رَأَى مُنْكَرًا وَهُوَ مِمَّنْ يَرْتَكِبُ هَذَا الْمُنْكَرَ يَلْزَمُهُ النَّهْيُ عَنْهُ نَعَمْ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرْتَكِبُهُ. وَفِي النِّصَابِ عَنْ أَنَسٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «أُرِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِالْمَقَارِيضِ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ فَقَالَ خُطَبَاءُ أُمَّتِك الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ» وَفِيهِ كَلَامٌ سَتَقِفُ عَلَيْهِ. (ططص عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى نَعْمَلَ بِهِ وَأَلَا نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى نَجْتَنِبَهُ كُلَّهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلَّهُ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ كُلَّهُ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ لِأَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُ الْمُنْكَرِ وَإِنْكَارُهُ مَعًا فَلَا يَسْقُطُ بِتَرْكِ أَحَدِهِمَا وُجُوبُ الْآخَرِ

وَلِهَذَا قِيلَ لِلْحَسَنِ فُلَانٌ لَا يَعِظُ وَيَقُولُ أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ قَالَ وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ رَدُّ الشَّيْطَانَ لَوْ ظَفِرَ بِهَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ. وَلَوْ تَوَقَّفَ عَلَى الِاجْتِنَابِ لَرُفِعَ هَذَا الْبَابُ وَتَعَطَّلَ وَانْسَدَّ بَابُ النَّصِيحَةِ الَّتِي حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنْ قِيلَ إطْلَاقُهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَقَوْلِهِ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] الْآيَةَ. قُلْنَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْآيَةُ نَاهِيَةٌ عَلَى مَنْ يَعِظُ غَيْرَهُ وَلَا يَعِظُ نَفْسَهُ سُوءَ صَنِيعِهِ وَخُبْثَ نَفْسِهِ وَإِنْ فَعَلَهُ فِعْلَ الْجَاهِلِ بِالشَّرْعِ أَوْ الْأَحْمَقِ الْخَالِي عَنْ الْعَقْلِ فَإِنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا عِزُّ شَكِيمَتِهِ وَالْمُرَادُ بِهَا حَثُّ الْوَاعِظِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِالتَّكْمِيلِ لِيَقُومَ فَيُقِيمَ بِهِ لَا مَنْعُ الْفَاسِقِ عَنْ الْوَعْظِ فَإِنَّ الْإِخْلَالَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا لَا يُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِالْآخَرِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَاشِيَةِ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْمُنْكَرِ وَلَمْ يَنْهَ الْغَيْرَ يَكُونُ إثْمُهُ مُضَاعَفًا إثْمَ الْمُنْكَرِ وَإِثْمَ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِي النِّصَابِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي السِّرِّ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْقَبُولِ وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَقَدْ شَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ فِي السِّرِّ فَقَدْ زَانَهُ فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ فِي السِّرِّ فَبِالْعَلَانِيَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازَ دِينِهِ لَا حَمِيَّةَ نَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِشَجَرَةٍ تُعْبَدُ فَذَهَبَ إلَى بَيْتِهِ فَأَخَذَ فَأْسَهُ وَرَكِبَ حِمَارَهُ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الشَّجَرَةِ لِيَقْطَعَهَا فَلَقِيَهُ إبْلِيسُ عَلَى صُورَةِ إنْسَانٍ فَقَالَ لَهُ إلَى أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ رَأَيْت شَجَرَةً تُعْبَدُ فَأُرِيدُ قَطْعَهَا فَقَالَ إبْلِيسُ دَعْهَا فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ فَلَمْ يَرْجِعْ فَقَالَ إبْلِيسُ دَعْهَا وَأَنَا أُعْطِيك كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَتَرْفَعُ طَرَفَ فِرَاشِك فَتَجِدُهَا فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَوَجَدَ ذَلِكَ أَيَّامًا ثُمَّ لَمْ يَجِدْ فَلَمَّا يَئِسَ أَخَذَ الْفَأْسَ وَذَهَبَ جَانِبَ الشَّجَرَةِ فَلَقِيَهُ إبْلِيسُ فَقَالَ لَا تُطِيقُ الْقَطْعَ الْآنَ أَمَّا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَكَانَ خُرُوجُك غَضَبًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا رَدُّوكَ وَأَمَّا الْآنَ فَلِعَدَمِ وُجْدَانِك الدِّرْهَمَ وَلَئِنْ تَقَدَّمْت لَيُدَقَّنَّ عُنُقُكَ فَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ وَتَرَكَ الشَّجَرَةَ. (زطب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُهْلَكُ الْقَرْيَةُ وَفِيهَا الصَّالِحُونَ؟» وَمُقْتَضَى الصَّلَاحِ الْإِحْسَانُ فَضْلًا عَنْ الْإِهْلَاكِ «قَالَ نَعَمْ قِيلَ بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِتَهَاوُنِهِمْ» «وَسُكُوتِهِمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ» مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْعِ وَالتَّغْيِيرِ فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ هَذَا التَّهَاوُنُ وَالسُّكُوتُ مُوجِبًا لِلْهَلَاكِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ مَعَ الصَّلَاحِ

قُلْنَا الْمُرَادُ الصَّلَاحُ فِي اعْتِقَادِهِمْ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَفِي النِّصَابِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ الْمَعَاصِي فَلَمْ يُنْكِرُوا فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْقَوْمُ جَمِيعًا لِلْعُقُوبَةِ. وَفِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنِّي مُهْلِكٌ مِنْ قَوْمِك أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِهِمْ وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ شِرَارِهِمْ قَالَ يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ فَمَا بَالُ الْأَخْيَارِ قَالَ إنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ. وَفِي النِّصَابِ «يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي مِنْ قُبُورِهِمْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ بِمَا دَاهَنُوا أَهْلَ الْمَعَاصِي وَكَفُّوا عَنْ نَهْيِهِمْ وَيَسْتَطِيعُونَ» . وَفِيهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ظَالِمًا لَا يُجِلُّ كَبِيرَكُمْ وَلَا يَرْحَمُ صَغِيرَكُمْ وَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ وَيَسْتَنْصِرُونَ فَلَا يُنْصَرُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ فَلَا يُغْفَرُ لَهُمْ. (حَدّ عَنْ عَدِيٍّ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (ابْنِ عَمِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْخَاصَّةَ بِذُنُوبِ الْعَامَّةِ» إذْ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى «حَتَّى يُرَى الْمُنْكَرُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ» أَيْ بَيْنَهُمْ فَالْأَظْهُرُ مُقْحَمٌ (وَ) الْحَالُ «هُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُونَهُ» لِمُدَاهَنَتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ فِي الدِّينِ فَيَعُمُّ الْعَذَابُ كُلَّهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ جَبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ أُمِرَ أَنْ يُهْلِكَ قَوْمَ لُوطٍ بِأَعْمَالِهِمْ نَزَلَ فَضَرَبَ جَنَاحَهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْمَاءِ وَنَهَضَ لِلْعُرُوجِ إلَى السَّمَاءِ وَعَلَى جَنَاحِهِ خَمْسُ مَدَائِنَ مِنْ مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ فَنَظَرَ فِيهَا سَاعَةً فَرَأَى ثَمَانِينَ أَلْفًا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَتَهَجَّدُونَ وَاَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْخَبَائِثَ لَا يَزِيدُونَ عَنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ فَنَاجَى رَبَّهُ فَقَالَ إلَهِي كَيْفَ أُهْلِكُ قَوْمًا وَفِيهِمْ كَذَا وَكَذَا فِي التَّهَجُّدِ قَالَ يَا جَبْرَائِيلُ لَا أَتَقَبَّلُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ. أَخْرَجَ (عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ يَحْيَى بْنِ عُطَارِدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْبِرُّ» الطَّاعَةُ «وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ «عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ» فِي قِلَّتِهِ. ( «إلَّا كَنَفْثَةٍ» أَيْ كَنَفْخَةٍ ( «فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» مَنْسُوبٌ إلَى اللُّجِّ وَهُوَ مُعْظَمُ الْمَاءِ أَيْ بَحْرٍ عَظِيمٍ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ أَيْ كَإِلْقَاءِ بُزَاقٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَحْرِ فَكَمَا أَنَّ النَّفْثَةَ الْوَاحِدَةَ فِي جَنْبِ الْبَحْرِ الْعَمِيقِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فَكَذَلِكَ ثَوَابُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ فِي جَنْبِ ثَوَابِ الْحِسْبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ وَعَنْ الْمَوَاهِبِ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِعِظَمِ ثَوَابِهَا وَأَنَّهُ يَكَادُ أَنْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا إذْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ النَّفْثَةِ وَالْبَحْرِ (فَمِنْ هَذَا) الْحَدِيثِ الَّذِي دَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْحِسْبَةِ. (قَالَ الْفُقَهَاءُ الْحِسْبَةُ) أَيْ الْقِيَامُ بِنَامُوسِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَفِي النِّصَابِ تَفْصِيلُ مَعْنَى الِاحْتِسَابِ وَالْحِسْبَةِ فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِ مُرِيدُهُ (آكَدُ مِنْ الْجِهَادِ)

وَإِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَفِي النِّصَابِ «قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ صِلَةُ الرَّحِمِ قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] (فَإِنَّهُ) أَيْ الْجِهَادُ (لَا يَجُوزُ عِنْدَ تَيَقُّنِ الْقَتْلِ) قَتْلِ الْكَفَرَةِ (وَعَدَمِ النِّكَايَةِ) عَدَمِ الْجِرَاحَةِ وَالضَّرَرِ وَالتَّأْثِيرِ لَهُمْ (لِلْكَفَرَةِ) بِجِهَادِهِ مَعَهُمْ بِالْجُرْحِ وَالضَّرَرِ وَالتَّأْثِيرِ فِيهِمْ لِأَنَّهُ إلْقَاءٌ بِالْيَدِ إلَى التَّهْلُكَةِ بِلَا فَائِدَةٍ. (وَتَجُوزُ الْحِسْبَةُ) حِينَئِذٍ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُوا عَنْ فَائِدَةٍ إمَّا لِلسَّامِعِ أَوْ لِلْفَاسِقِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَلَوْ فَاسِقًا إذَا رَأَى أَوْ سَمِعَ بَذْلَ الْمُحْتَسِبِ نَفْسَهُ إحْيَاءً لِدِينِهِ يَكُونُ مُتَأَثِّرًا بِخِلَافِ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حَقًّا وَيَرْجُونَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَتْلِ أَجْرًا فَضْلًا عَنْ التَّأْثِيرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي. (وَيَكُونُ) حِينَئِذٍ لَوْ مَاتَ بِهَا (مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ) (صب) أَصْبَهَانِيٌّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَزَالُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تَنْفَعُ مَنْ قَالَهَا وَتَرُدُّ عَنْهُمْ الْعَذَابَ وَالنِّقْمَةَ» فِي الدَّارَيْنِ «مَا لَمْ يَسْتَخِفُّوا بِحَقِّهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الِاسْتِخْفَافُ بِحَقِّهَا قَالَ نَظَرُ الْعَبْدِ لِمَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنْكِرُ وَلَا يُغَيِّرُ» مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. (حك عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ) «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ» بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَجْهُ السِّيَادَةِ تِلْكَ الْعُمُومَةُ أَوْ كَوْنُ قَتْلِهِ عَلَى أَشْنَعِ أُسْلُوبٍ أَوْ سَبْقُ غَزَوَاتِهِ «وَرَجُلٌ قَامَ إلَى أَمِيرٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ» بِالْمَعْرُوفِ «وَنَهَاهُ» عَنْ الْمُنْكَرِ «فَقَتَلَهُ» لِأَجْلِ أَمْرِهِ أَوْ نَهْيِهِ فَحَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالرَّجُلُ الْمَذْكُورُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ فِي الْآخِرَةِ لِمُخَاطَرَتِهِ بِأَنْفَسِ مَا عِنْدَهُ وَهِيَ نَفْسُهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ جَوَازُ تَخْشِينِ الْقَوْلِ مَعَ الْأَمِيرِ الْجَائِرِ وَتَغْلِيظِهِ وَإِنْ ظَنَّ قَتْلَهُ. اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مَعَ الْأُمَرَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّعْرِيفِ وَالْوَعْظِ وَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ وَالْمَنْعُ بِالْقَهْرِ فَيُهَيِّجُ الْفِتْنَةَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا اُخْتُصَّ الضَّرَرُ بِنَفْسِهِ فَقَطْ فَيُنْدَبُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَا بَعْدَهُ وَلِذَا كَانَ السَّلَفُ يَجْتَرِئُونَ عَلَى الْمُلُوكِ وَلَمْ يُبَالُوا بِبَلِيَّةٍ وَعَذَابٍ وَأَخْلَصُوا النِّيَّةَ فَلِهَذَا أَثَّرَ كَلَامُهُمْ فِي الظَّلَمَةِ وَلَيَّنَ قُلُوبَهُمْ الْقَاسِيَةَ. وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ قَيَّدَتْ الْأَطْمَاعُ أَلْسُنَ الْعُلَمَاءِ فَسَكَتُوا وَإِنْ تَكَلَّمُوا لَمْ تُسَاعِدْ أَقْوَالُهُمْ فَلَمْ يَنْجُوا وَلَوْ قَصَدُوا اللَّهَ وَحَقَّ الْعِلْمِ لَأَفْلَحُوا فَفَسَادُ الرَّعِيَّةِ بِالْمُلُوكِ وَفَسَادُهُمْ بِفَسَادِ الْعُلَمَاءِ وَفَسَادُهُمْ بِاسْتِيلَاءِ حُبِّ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حُبُّ الدُّنْيَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحِسْبَةِ عَلَى الْأَرَاذِلِ وَالصَّعَالِيكِ فَكَيْفَ عَلَى الْأَكَابِرِ وَالْمُلُوكِ اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا مِنْ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ وَالْمَيْلِ إلَى الدُّنْيَا وَلَا تَخْلِطْ أَعْمَالَنَا

بِالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ إنَّكَ أَنْتَ الْمُسْتَعَانُ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ وَتَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِالْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ كَمَا فِي الْمِفْتَاحِ. قَالَ فِي النِّصَابِ إنَّ زَاهِدًا كَسَرَ مَلَاهِيَ مَرْوَانَ الْخَلِيفَةِ فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِ بَيْنَ الْأُسُودِ فَلَمَّا أُلْقِيَ وَدَخَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ افْتَتَحَ بِالصَّلَاةِ فَجَمَعَتْ عَلَيْهِ أُسُودُ الْبَيْتِ تَلْحَسُهُ بِأَلْسِنَتِهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ مَرْوَانُ قَالَ مَا فُعِلَ بِزَاهِدِنَا فَوَجَدُوهُ قَدْ اسْتَأْنَسَ بِالْأُسُودِ فَحَمَلُوهُ إلَى الْخَلِيفَةِ فَقَالَ أَلَمْ تَخَفْ مِنْهُمْ قَالَ لَا لِأَنِّي كُنْت مَشْغُولًا بِأَنَّ الْأُسُودَ تَلْحَسُ ثِيَابِي فَهَلْ لُعَابُهَا طَاهِرٌ أَوْ لَا فَتَفَكُّرِي فِي هَذَا مَنَعَنِي عَنْ الْخَوْفِ مِنْهَا فَتَعَجَّبَ فَخَلَّى سَبِيلَهُ كَمَا سَبَقَ (د عَنْ) (أَبِي سَعِيدٍ) الْخُدْرِيِّ. (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْجِهَادِ» أَيْ مِنْ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْعَامِّ «كَلِمَةُ عَدْلٍ» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «كَلِمَةُ حَقٍّ» فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْآخَرِ «عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» أَيْ ظَالِمٍ لِأَنَّ مُجَاهَدَةَ الْعَدُوِّ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ رَجَاءٍ وَخَوْفٍ وَصَاحِبُ السُّلْطَانِ إذَا أَمَرَهُ بِمَعْرُوفٍ تَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ فَأَفْضَلُ مِنْ جِهَةِ خَوْفِ التَّلَفِ وَلِأَنَّ ظُلْمَ الظَّالِمِ يَسْرِي إلَى جَمٍّ غَفِيرٍ فَإِذَا كَفَّهُ فَقَدْ أَوْصَلَ النَّفْعَ إلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ بِخِلَافِ قَتْلِ كَافِرٍ. «أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ» شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي وَفِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ قَالَ أَبُو عَبِيدَةُ الْجَرَّاحُ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الشُّهَدَاءِ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَجُلٌ قَامَ إلَى وَالٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَتَلَهُ أَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ فَإِنَّ الْقَلَمَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ عَاشَ مَا عَاشَ» . (تَتِمَّةٌ) أَصْلُ الْجِهَادِ الْمَشَقَّةُ وَشَرْعًا بَذْلُ الْمَشَقَّةِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَيُطْلَقُ عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَعَلَى تَعَلُّمِ أُمُورِ الدِّينِ ثُمَّ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا ثُمَّ عَلَى تَعْلِيمِهَا وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الشَّيْطَانِ فَعَلَى دَفْعِ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَمَا يُزَيِّنُهُ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ فَبِالْيَدِ وَالْمَالِ وَالْقَالَبِ وَالْقَلْبِ وَأَمَّا الْفُسَّاقُ فَبِالْيَدِ ثُمَّ اللِّسَانِ ثُمَّ الْقَلْبِ. (فَائِدَةٌ) : الدَّمِيرِيُّ دَخَلَ النُّورُ الْبَكْرِيُّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الْجِهَادِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَأَنْتَ ظَالِمٌ فَأَمَرَ بِقَطْعِ لِسَانِهِ فَجَزِعَ وَاسْتَغَاثَ فَشَفَعَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فَنَفَاهُ ثُمَّ قِيلَ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَضَعَّفُوهُ وَقِيلَ إسْنَادُهُ لَيِّنٌ لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ الْكُلُّ مِنْ الْفَيْضِ. (م عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إلَّا كَانَ لَهُ فِي أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ» حَوَارِيُّ الرَّجُلِ صَفْوَتُهُ وَخَاصَّتُهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِخُلُوصِ نِيَّتِهِ وَصَفَاءِ عَقِيدَتِهِ مِنْ الْحَوَرِ وَهُوَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ وَكَانَ أَصْحَابُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَصَّارِينَ فَغَلَبَ عَلَيْهِمْ الِاسْمُ وَصَارَ كَالْعَلَمِ لَهُمْ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَنْ يَنْصُرُ نَبِيًّا وَيَتَّبِعُ هَدْيَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ تَشْبِيهَاتٌ بِأُولَئِكَ. «وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إنَّهَا» أَيْ الْقِصَّةُ ( «يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِ خُلُوفٌ» جَمْعُ خَلْفٍ بِالسُّكُونِ وَهُوَ الرَّدِيءُ مِنْ الْأَعْقَابِ

وَالْخَلَفُ بِالْفَتْحِ الصَّالِحُ مِنْهُمْ وَجَمْعُهُ أَخْلَافٌ يُقَالُ خَلَفُ سُوءٍ وَخَلَفُ صِدْقٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59] . وَقَالَ لَبِيدٌ ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ «يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] «وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ» مِنْ الْأَفْعَالِ الْغَيْرِ الْمَرْضِيَّةِ «فَمَنْ جَاهَدَهُمْ» بِتَغْيِيرِ مُنْكَرَاتِهِمْ «بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» كَامِلٌ كَانَ الْمُؤْمِنُ هُوَ لَا غَيْرُ. «وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» كَذَلِكَ «وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ» بِأَنْ لَا يَرْضَى بِأَقْوَالِهِمْ الْمُنْكَرَةِ وَأَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ «فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ» أَيْ الْجِهَادِ بِالْقَلْبِ «مِنْ» ثَمَرَاتِ «الْإِيمَانِ» أَوْ كَمَالِهِ «حَبَّةُ خَرْدَلٍ» . وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ مَعْنَاهُ أَنَّ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ أَنْ لَا يَسْتَحْسِنَ الْمَعَاصِيَ وَيَكْرَهَهَا بِقَلْبِهِ وَأَنْ يَمْتَنِعَ عَنْهَا أَوْ اشْتَغَلَ بِأَعْرَاضٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَلَذَّاتٍ مُخْدَجَةٍ عَاجِلَةٍ وَإِذَا زَالَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَصْوَبَ الْمَعَاصِيَ وَجَوَّزَ التَّدْلِيسَ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّلْبِيسَ فِي الْخُلُقِ خَرَجَ مِنْ دَائِرَةِ الْإِيمَانِ خُرُوجَ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَ اللَّهِ وَاعْتَقَدَ بُطْلَانَ أَحْكَامِهِ انْتَهَى. كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ حَضَرَ مَعْصِيَةً فَكَرِهَهَا فَكَأَنَّمَا غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَأَحَبَّهَا فَكَأَنَّهُ حَضَرَهَا» ثُمَّ إنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ فَلْيَقُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا مُنْكَرٌ وَأَنَا لَهُ مُنْكِرٌ. (ت عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي» بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ» أَيْ جَالَسَ عُلَمَاؤُهُمْ مَعَ عُصَاتِهِمْ وَلَمْ يَهْجُرُوهُمْ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ مُجَرَّدَ النَّهْيِ يَكْفِي فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْأَثِمِ «وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ» أَيْ سَوَّدَهَا اللَّهُ وَقَسَّاهَا بِسَبَبِ الْمُجَالَسَةِ وَالْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُشَارَبَةِ بِأَنْ خَلَقَ فِي قُلُوبِ عُلَمَائِهِمْ رِضًا وَمَيْلًا إلَى مَعَاصِيهِمْ فَصَارَتْ قُلُوبُ الْجَمِيعِ قَاسِيَةً بَعِيدَةً مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ فَاسْتَحَقُّوا جَمِيعًا اللَّعْنَ. «وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» أَيْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ وَقِيلَ إنَّ أَهْلَ إيلْيَاءَ لَمَّا اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ لَعَنَهُمْ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قِرَدَةً وَأَصْحَابُ الْمَائِدَةِ لَمَّا كَفَرُوا دَعَا عَلَيْهِمْ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَعَنَهُمْ فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ وَكَانُوا خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى - {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78] «ذَلِكَ» أَيْ اللَّعْنُ «بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ» بِاعْتِدَائِهِمْ عَنْ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ «فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ لَا» أَيْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ إثْمِ الْمَعْصِيَةِ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ وَالْمَنْعِ. ( «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» بِالْفَتْحِ أَيْ تَعْطِفُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ عَطْفًا يَعْنِي حَتَّى تَمْنَعُوا الظَّلَمَةَ وَالْفَسَقَةَ عَنْ الظُّلْمِ

وَالْفِسْقِ وَتُمِيلُوهُمْ عَنْ الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ (فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ أَنَّ مُجَرَّدَ النَّهْيِ لَا يَكْفِي فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْأَثِمِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْبُغْضِ وَالْغَضَبِ وَالْهِجْرَةِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ إنْ لَمْ يَنْتَهُوا) عَمَّا يَفْعَلُونَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ بِلَا نَكِيرٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذَا حُكْمُ الشَّرِيعَةِ السَّالِفَةِ فَلَا يُفْهَمُ كَوْنُهُ شَرِيعَةً لَنَا لِجَوَازِ النَّسْخِ وَأَيْضًا إنَّ جَرَيَانَ هَذَا الْحُكْمِ فِينَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَحُكْمُ أَصْلِهِ ثَابِتٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ثُمَّ عَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْمَعْصِيَةُ إذَا اخْتَفَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَإِذَا أُعْلِنَتْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ. وَكَانَ الثَّوْرِيُّ إذَا رَأَى الْمُنْكَرَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ بَالَ دَمًا فَحَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَمِيَّةِ وَالْغَيْرَةِ وَالصَّلَابَةِ بِهَذَا الْمَكَانِ كَمَا فِي النِّصَابِ وَفِي الشَّرِيعَةِ وَأَعْظَمُ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ يُخَالِطُ النَّاسَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْفَعُ عَمَلٌ لِلَّهِ مَعَ تَرْكِ الْغَضَبِ لِلَّهِ تَعَالَى وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «قِيلَ أَوْ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْسَفُ الْأَرْضُ وَفِيهَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ بِادِّهَانِهِمْ وَسُكُوتِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي» . وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخَافَ فِي احْتِسَابِهِ إلَّا اللَّهَ بَلْ يَسْتَعِينُ وَيَدْخُلُ فِيهِ مُتَوَكِّلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13]- حُكِيَ أَنَّ الشِّبْلِيَّ أَرَاقَ خَوَابِيَ خَمْرٍ لِلْمُعْتَصِمِ فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ إلَّا وَاحِدَةً وَالْقَوْمُ سُكُوتٌ مِنْ هَيْبَتِهِ فَأَتَى بِهِ الْمُعْتَصِمُ فَقَالَ لِمَ فَعَلْت فَقَالَ الشَّيْخُ أَيَّدَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ لَوْ عَلِمْت أَنَّ فِي بَطْنِك خَمْرًا لَشَقَقْته بِهَذِهِ الْحَرْبَةِ فَقَالَ تُرِيدُ بِهَذَا أَنْ أَقْتُلَك وَتَكُونَ شَهِيدًا فَلَا أَفْعَلُ ثُمَّ قَالَ لِمَ تَرَكْت الْخَابِيَةَ الْوَاحِدَةَ فَقَالَ لِأَنِّي وَجَدْت فِي نَفْسِي عِنْدَهَا شَيْئًا فَتَرَكْتهَا وَلَمْ أَهْرِقْهَا بِمُرَادِ نَفْسِي كَمَا فِي النِّصَابِ كَمَا سَبَقَ. (مُهِمَّةٌ) قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ وَمِنْ مُنْكَرَاتِ الْعَامَّةِ أَنْ يَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ وَلَا يَصْرِفَ مَا فَضَلَ مِنْ فُرُوضِ الْعَيْنِ إلَى فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَأَنْ يَخْرُجَ إلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لِبَلَدِهِ وَيُعَلِّمَ أَهْلَهَا أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطَهَا وَسَائِرَ الْفَرَائِضِ إلَّا أَنْ يَفْعَلَهُ الْبَعْضُ وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّبْلِيغُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا يَجِبُ تَبْلِيغُهَا وَالْأَثِمُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْفُقَهَاءِ أَشَدُّ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ أَوَّلًا لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَهْلِ بَيْتِهِ ثُمَّ لِأَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ ثُمَّ وَثُمَّ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى السُّوقِ وَيُغَيِّرَ مُنْكَرَاتِهِمْ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَعْضِ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ تَغْيِيرِ الْبَوَاقِي عُذْرًا فِي عَدَمِ الْخُرُوجِ وَيَتَعَدَّى مِنْهُمْ إلَى أَهْلِ الْقُرَى ثُمَّ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَهَكَذَا إلَى أَقْصَى الْعَالَمِ فَإِنْ

الثامن والعشرون غلظة الكلام والعنف فيه

قَامَ بِهِ الْأَدْنَى سَقَطَ عَنْ الْأَبْعَدِ وَإِلَّا يَأْثَمْ كُلُّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. (مَسْأَلَةٌ) إذَا كَثُرَتْ الْمَنَاكِيرُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهَا لَا يَأْثَمُ بَعْدَ إنْكَارِهِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَزِينًا مُغْتَمًّا وَفِي الْحَدِيثِ «يَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَذُوبُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ لِمَا يَرَى مِنْ الْمُنْكَرَاتِ وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ» كَمَا فِي النِّصَابِ. [الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ غِلْظَةُ الْكَلَامِ وَالْعُنْفُ فِيهِ] (الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ غِلْظَةُ الْكَلَامِ وَالْعُنْفُ فِيهِ) أَيْ فِي الْكَلَامِ (وَهَتْكُ) أَيْ خَرْقُ (الْعِرْضِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَلَأِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ وَمَحِلُّهُ الْكَفَرَةُ) مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ (وَالْمُبْتَدِعَةُ وَالظَّلَمَةُ) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] (وَ) مَحِلُّ (النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا لَمْ يَنْجَعْ) لَمْ يُؤَثِّرْ وَلَمْ يَنْفَعْ (الرِّفْقُ وَاللِّينُ) كَمَا قِيلَ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ وَلِكُلِّ مَيْدَانٍ رِجَالٌ (وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرُ وَالتَّأْدِيبُ) لِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَتَلَامِذَتِهِ. (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا} [النور: 2] أَيْ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ ( {رَأْفَةٌ} [النور: 2] رَحْمَةٌ وَشَفَقَةٌ {فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فِي طَاعَتِهِ وَإِقَامَةِ حَدِّهِ فَتُعَطِّلُوهُ أَوْ تُسَامِحُوا فِيهِ وَلِذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْت يَدَهَا» (وَفِيمَا عَدَاهَا) أَيْ الْمَذْكُورَاتِ (يُسْتَحَبُّ) طِيبُ الْكَلَامِ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَالتَّبَسُّمُ. (طب عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي بِشَيْءٍ يُوجِبُ لِي الْجَنَّةَ» بِحَسَبِ عَادَتِهِ تَعَالَى لَا الِاسْتِحْقَاقِ الْعَقْلِيِّ الذَّاتِيِّ (قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُوجِبُ الْجَنَّةِ إطْعَامُ الطَّعَامِ» لِرِضَا الْمَلِكِ الْعَلَّامِ خُصُوصًا لِلْمَحَاوِيجِ مِنْ الْأَنَامِ «وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ» لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ عَدُوُّهُ الْإِسْلَامُ «وَحُسْنُ الْكَلَامِ» أَيْ السَّلَامُ عَنْ الْغِلْظَةِ وَكُلِّ مَا يُوجِبُ الْأَذَى (طب حك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةٌ» أَيْ مَنْزِلٌ «يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا» لِكَمَالِ لَطَافَتِهَا وَغَايَةِ صَفَاءِ جُدْرَانِهَا «فَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ» وَفِي رِوَايَةٍ «لِمَنْ أَلَانَ» أَيْ لِمَنْ لَهُ خُلُقٌ طَيِّبٌ مَعَ النَّاسِ. وَفِي الْجَامِعِ أَلَانَ الْكَلَامَ بَدَلُ أَطَابَ الْكَلَامَ قَالَ الطِّيبِيُّ جَعَلَ جَزَاءَ مَنْ تَلَطَّفَ فِي الْكَلَامِ الْغُرْفَةَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: 75]- {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]- الْآيَةَ وَفِيهِ إيذَانٌ بِأَنَّ لِينَ الْكَلَامِ مِنْ صِفَاتِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ خَضَعُوا لِبَارِئِهِمْ وَعَامَلُوا الْخَلْقَ بِالرِّفْقِ فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ «وَ» كَذَا جُعِلَتْ جَزَاءَ مَنْ «أَطْعَمَ الطَّعَامَ» كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَوَادَ شَأْنُهُ تَوَخِّي الْقَصْدِ فِي الطَّعَامِ وَالْبَذْلِ لِيَكُونَ مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ وَأَلَّا يَكُونَ مِنْ إخْوَانِ الشَّيْطَانِ

«وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ» أَيْ: صَلَّى بِاللَّيْلِ كَمَا وَقَعَ فِي الْجَامِعِ «وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا ثَنَاءٌ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ وَعِظَمِ فَضْلِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَعَلَ الْغُرْفَةَ جَزَاءً لِمَنْ صَلَّى بِاللَّيْلِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] فَأَوْمَأَ بِهِ إلَى أَنَّ الْمُتَهَجِّدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى الْإِخْلَاصَ وَيَجْتَنِبَ الرِّيَاءَ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ لِلرَّبِّ لَمْ تُشْرَعْ إلَّا لِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ. (حب عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» أَيْ إظْهَارُكَ لَهُ الْبَشَاشَةَ وَالْبِشْرَ إذَا لَقِيتَهُ تُؤْجَرُ عَلَيْهِ كَمَا تُؤْجَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ وَالتَّبَسُّمُ وَالْبِشْرُ مِنْ آثَارِ أَنْوَارِ الْقَلْبِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ - ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38 - 39] . قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْبَشَاشَةُ مِصْيَدَةُ الْمَوَدَّةِ وَالْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لِينٌ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْعَالِمِ الَّذِي يُصَعِّرُ خَدَّهُ لِلنَّاسِ كَأَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْهُمْ وَعَلَى الْعَابِدِ الَّذِي يَعْبَسُ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّاسِ مُسْتَقْذِرٌ لَهُمْ أَوْ غَضْبَانُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْغَزَالِيُّ لَا يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ حَتَّى يَغْضَبَ وَلَا فِي الْوَجْهِ حَتَّى يَنْفِرَ وَلَا فِي الْخَدِّ حَتَّى يُصَعِّرَ وَلَا فِي الظَّهْرِ حَتَّى يَنْحَنِيَ وَلَا فِي الذُّلِّ حَتَّى يَنْضَمَّ إنَّمَا الْوَرَعُ فِي الْقَلْبِ آخِرُ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ «وَأَمْرُك بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُك عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإِرْشَادُك الرَّجُلَ الضَّالَّ فِي الْأَرْضِ لَك صَدَقَةٌ وَإِمَاطَتُك الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَك صَدَقَةٌ وَإِفْرَاغُك مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيك لَك صَدَقَةٌ» . (دُنْيَا عَنْ الْحَسَنِ) الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ مِنْ الصَّدَقَةِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ وَأَنْتَ طَلِيقٌ» أَيْ مَسْرُورُ «الْوَجْهِ» لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْوُدِّ الْمَطْلُوبِ فَلَا يَنْبَغِي التَّعَبُّسُ بَلْ يُظْهِرُ الْبَشَاشَةَ وَالْفَرَحَ بِاللِّقَاءِ وَالِاجْتِمَاعِ مِنْ غَيْرِ مُدَاهَنَةٍ قَالَ فِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ» الْهَيِّنُ ذُو السُّهُولَةِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْمُهِمَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَأَمَّا فِي أَمْرِ دِينِهِ فَكَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَصِرْت فِي الدِّينِ أَصْلَبَ مِنْ الْحَجَرِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الْجَبَلُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْحَتَ مِنْهُ وَلَا يُنْحَتُ مِنْ دِينِ الْمُؤْمِنِ شَيْءٌ «لَيِّنُونَ» لِينُ الْجَانِبِ سُهُولَةُ الِانْقِيَادِ إلَى الْخَيْرِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ بِالْبَشَاشَةِ وَالرِّفْقِ وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَجَنَاحِ الذُّلِّ عَنْ ابْنِ الْكَمَالِ مَدَحَهُمْ بِالسُّهُولَةِ وَاللِّينِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] فَإِنْ قُلْت لَا تَكُنْ رَطْبًا فَتُعْصَرَ وَلَا تَكُنْ يَابِسًا فَتُكْسَرَ. وَلِذَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ لَا تَكُنْ حُلْوًا فَتُبْلَعَ وَلَا مُرًّا فَتُلْفَظَ فَفِيهِ نَهْيٌ عَنْ اللِّينِ فَمَا وَجْهُ الْمَدْحِ قُلْت لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَطَرَفَيْ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مَذْمُومَانِ إجْمَاعًا وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «الْمُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ» وَفِي الْمَثَلِ " إذَا عَزَّ أَخُوك فَهُنْ " مَعْنَاهُ إذَا عَاسَرَ فَيَاسِرْ. (تَنْبِيهٌ) فِي هَذَا الْخَبَرِ إشَارَةٌ إلَى مَقَامِ التَّلْوِينِ وَهُوَ كَوْنُ حَالِ الْعَبْدِ السَّالِكِ بَيْنَ التَّجَلِّي وَالِاسْتِتَارِ وَبَيْنَ الْجَذْبِ وَالسُّلُوكِ وَمِنْ ذَلِكَ تَسْتَقِيمُ عُبُودِيَّتُهُ وَيُعْطَى الْمَعْرِفَةَ بِاَللَّهِ وَلِهَذَا قِيلَ الْمُؤْمِنُ يَتَلَوَّنُ فِي يَوْمِهِ سَبْعِينَ مَرَّةً وَذَلِكَ بِحَسَبِ تَجَلِّيَاتِ الْحَقِّ فِي يَوْمِهِ سَبْعِينَ مَرَّةً بِحَسَبِ تَجَلِّيَاتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَالْمُنَافِقُ يَثْبُتُ عَلَى قَدَمٍ وَاحِدٍ تِسْعِينَ سَنَةً لِكَوْنِهِ مَحْجُوبًا بِالْمَرَاسِمِ الْخِلْقِيَّةِ

التاسع والعشرون السؤال والتفتيش عن عيوب الناس

وَفِيهِ أَيْضًا الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاشِرَهُ مُعَاشَرَةَ الْإِخْوَةِ فِي التَّحَابُبِ وَالتَّصَافِي وَتَجَنُّبِ التَّجَافِي وَالْتِزَامِ اللِّينِ وَالرِّفْقِ وَالْبَشَاشَةِ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ وَالْإِغَاثَةِ وَالْإِعَانَةِ وَجَلْبِ الْمَسَار لَا يَدَعُ نَصِيحَتَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي مَقَامِ الْعَلَنِ عَلَنًا وَفِي مَقَامِ السِّرِّ سِرًّا وَفِيهِ أَيْضًا الْمُؤْمِنُ يُؤْلَفُ لِحُسْنِ أَخْلَاقِهِ وَسُهُولَةِ طِبَاعِهِ وَلِينِ جَانِبِهِ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ لِضَعْفِ إيمَانِهِ وَعُسْرِ أَخْلَاقِهِ وَسُوءِ طِبَاعِهِ وَالْأُلْفَةُ سَبَبٌ لِلِاعْتِصَامِ بِاَللَّهِ وَالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِهِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلْفًا مَأْلُوفًا تَخْتَطِفُهُ أَيْدِي حَاسِدِيهِ وَتَحْكُمُ فِيهِ أَهْوَاءُ أَعَادِيهِ فَلَمْ تَسْلَمْ لَهُ نِعْمَةٌ وَلَمْ تَصْفُ لَهُ مَوَدَّةٌ وَإِذَا كَانَ إلْفًا مَأْلُوفًا انْتَصَرَ عَلَى أَعَادِيهِ وَامْتَنَعَ بِهِمْ مِنْ حُسَّادِهِ فَسَلِمَتْ نِعْمَتُهُ مِنْهُمْ وَصَفَتْ مَوَدَّتُهُ بَيْنَهُمْ وَالْعَرَبُ تَقُولُ مَنْ قَلَّ ذَلَّ الْكُلُّ مِنْ الْمُنَاوِيِّ مُلَخَّصًا [التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ وَالتَّفْتِيشُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ] (التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ (السُّؤَالُ وَالتَّفْتِيشُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ) لَا لِغَرَضٍ دِينِيٍّ (وَهُوَ) (التَّجَسُّسُ وَتَتَبُّعُ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ) وَقَبَائِحِهِمْ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] أَيْ لَا تَبْحَثُوا عَنْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ ظَنٌّ غَالِبٌ أَوْ عِلْمٌ لِتَجَاهُرِهِ بِهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا لَا بَأْسَ بِالْهُجُومِ عَلَى الْمُفْسِدِينَ وَالدُّخُولِ فِي بُيُوتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ إذَا سُمِعَ فِيهِ صَوْتُ فَسَادٍ لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ. كَمَا فِي النِّصَابِ عَنْ الْمُحِيطِ كَمَا سَبَقَ قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَضُدُ فِي رِسَالَةِ عَقَائِدِهِ وَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ فَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» . وَأَيْضًا عُلِمَ مِنْ سِيرَتِهِ الْمُطَهَّرَةِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ إظْهَارَ الْمُنْكَرَاتِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُرْشِدُهُمْ إلَى الْإِنْكَارِ كُلُّ ذَلِكَ لِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَعَظِيمِ أَخْلَاقِهِ وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلشُّهُودِ الْكِتْمَانُ فِي الْمَعَاصِي دُونَ الْكُفْرِ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِدُخُولِهِ دَارَ رَجُلٍ يَفْعَلُ الْمُنْكَرَ وَقَدْ مَرَّتْ وَذَكَرْت فِي النِّصَابِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَعُسُّ لَيْلَةً مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَاطَّلَعَ مِنْ خَلَلِ بَابٍ فَإِذَا شَيْخٌ بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَابٌ فَتَسَوَّرَا فَقَالَ عُمَرُ مَا أَقْبَحَ شَيْخًا مِثْلَكَ فَقَامَ إلَيْهِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا عَصَيْت بِوَاحِدَةٍ وَأَنْتَ بِثَلَاثٍ تَجَسَّسْت. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] وَتَسَوَّرْت وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] إلَى أَنْ قَالَ {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وَدَخَلْت بِغَيْرِ إذْنٍ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] . فَقَالَ عُمَرُ صَدَقْت فَهَلْ أَنْتَ غَافِرٌ لِي فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَك فَخَرَجَ عُمَرُ بَاكِيًا وَقَائِلًا وَيْلٌ لِعُمَرَ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ يَجِدُ الرَّجُلَ يَخْتَفِي بِهَذَا عَنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَالْآنَ يَقُولُ رَآنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحْتَسِبَ لَا يَتَجَسَّسُ وَلَا يَتَسَوَّرُ وَلَا يَدْخُلُ بَيْتًا بِلَا إذْنٍ وَمَا قَالُوا مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ الدُّخُولُ بِلَا إذْنٍ فِيمَا إذَا أُظْهِرَ وَهَذَا فِيمَا إذَا سُتِرَ انْتَهَى مُلَخَّصًا فَلْيُتَأَمَّلْ. (د عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّكَ إنْ تَتَبَّعْت عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ» أَيْ قَارَبْت «تُفْسِدُهُمْ»

الثلاثون افتتاح الجاهل الكلام

فَيَزُولُ خَوْفُهُمْ فَيَثْبُتُ مِنْهُ الْإِصْرَارُ وَالْإِعْلَانُ. (د عَنْ أَبِي بَرْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ» وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ «لَا تَغْتَابُوا النَّاسَ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ بَيْنَ النَّاسِ» يَنْتَجُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ يَفْضَحْهُ اللَّهُ «وَلَوْ كَانَ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ» وَلَوْ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ [الثَّلَاثُونَ افْتِتَاحُ الْجَاهِلِ الْكَلَامَ] (الثَّلَاثُونَ) (افْتِتَاحُ الْجَاهِلِ الْكَلَامَ) قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ وَكَذَا سَائِرُ الْأَفْعَالِ (عِنْدَ الْعَالِمِ وَالتِّلْمِيذِ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ أَوْ أَعْلَمَ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ) بِشَيْءٍ غَيْرِ الْعِلْمِ كَالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالصَّلَاحِ وَكِبَرِ السِّنِّ عَنْ جَابِرٍ «قَدِمَ وَفْدُ جُهَيْنَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ غُلَامٌ لِيَتَكَلَّمَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَيْنَ الْكَبِيرُ» (قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ) قِيلَ مَعْزُوًّا إلَى الرَّوْضَةِ. (قَالَ الزندويستي) بِفَتْحِ الزَّايِ (سَأَلْت الْإِمَامَ الْخَيْرَاخَرِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ حَقِّ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ وَالْأُسْتَاذِ عَلَى التِّلْمِيذِ قَالَ كِلَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَفْتَحَ الْكَلَامَ قَبْلَهُ) بِلَا إذْنِهِ (وَلَا يَجْلِسُ وَإِنْ غَابَ عَنْهُ) إنْ عَلِمَ مَجِيئَهُ وَجُلُوسَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ غَابَ وَلَمْ يَجِئْ فَيَجُوزُ (وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ كَلَامَهُ) وَلَوْ فَاسِدًا قِيلَ مَنْ قَالَ لِأُسْتَاذِهِ لِمَ حِينَ رَآهُ فِي أَمْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى الرَّدِّ لَا مَحَالَةَ فَبِالتَّعْرِيضِ لَا بِالتَّصْرِيحِ (وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ فِي مَشْيِهِ) إلَّا لِلدَّلَالَةِ قِيلَ فَقَدْ صَحَّ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ تَقَدَّمَ عَلَى الصِّدِّيقِ فِي ذَلِكَ أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك» . كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ قِيلَ عَلَى رِوَايَةِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَشْيُ بَيْنَ يَدَيْ الْكُبَرَاءِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ الْكُبَرَاءِ إلَّا مَلْعُونٌ قَالُوا وَمَنْ الْكُبَرَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ» وَقِيلَ أَيْضًا مَنْ عَظَّمَ الشُّيُوخَ يُعْطَى لَهُ مِثْلُ عُمْرِهِمْ. (وَفِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ) لِتِلْمِيذِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ (وَمِنْ تَوْقِيرِ) تَعْظِيمِ (الْمُعَلِّمِ) (أَنْ لَا يَمْشِيَ أَمَامَهُ وَلَا يَجْلِسَ مَكَانَهُ وَلَا يَبْتَدِئَ الْكَلَامَ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يُكْثِرَ الْكَلَامَ) وَلَوْ مُبَاحًا (عِنْدَهُ) لِأَنَّهُ يُفْضِي لِلْخُرُوجِ عَنْ الْأَدَبِ

(وَلَا يَسْأَلَ شَيْئًا عِنْدَ مَلَالَتِهِ) لِثِقَلِ الْجَوَابِ (وَيُرَاعِيَ الْوَقْتَ) فَيَأْتِيَهُ وَقْتَ ظُهُورِهِ (وَلَا يَدُقَّ الْبَابَ) لِاحْتِمَالِ أَذَاهُ (بَلْ يَصْبِرَ حَتَّى يَخْرُجَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5] (فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُطْلَبُ رِضَاهُ وَيُجْتَنَبُ سَخَطُهُ وَيُمْتَثَلُ أَمْرُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) إذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (انْتَهَى. وَقَدْ صَرَّحُوا فِي الْفَتَاوَى بِكَرَاهَةِ أَنْ) (يَقُولَ الرَّجُلُ لِمَنْ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ) وَالْفَضْلِ الدِّينِيِّ (حَانَ) أَيْ حَضَرَ (وَقْتُ الصَّلَاةِ) (أَوْ قُومُوا نُصَلِّ أَوْ نَحْوَهُمَا) مِمَّا فِيهِ تَرْكُ الْأَدَبِ لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ عِلْمِهِ وَقْتَهَا مَثَلًا وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ عِلْمِهِ فَيُحْظَرُ إنْ غَلَبَ رِضَاهُ (لِأَنَّهُ تَرْكُ أَدَبٍ وَتَوْقِيرٍ) وَمِنْ تَوْقِيرِ الْأُسْتَاذِ تَقْبِيلُ يَدِهِ كَمَا فِي الْفَتَاوَى وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ الْمَشْهُورَةُ فَقِيلَ لَيْسَتْ بِجَائِزَةٍ وَقِيلَ جَائِزَةٌ. وَوَفَّقَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ إنْ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ لَا وَإِنْ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ نَعَمْ وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ عَانَقَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ بِمَكَّةَ فَأَقْبَلَ إلَيْهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ فَلَمَّا وَصَلَ إلَى الْأَبْطَحِ قِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَرْكَبَ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا إبْرَاهِيمُ فَنَزَلَ وَمَشَى إلَى إبْرَاهِيمَ وَعَانَقَهُ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَانَقَ كَمَا فِي الدُّرَرِ وَمِنْ تَعْظِيمِ الْأُسْتَاذِ الْقِيَامُ عِنْدَ مَجِيئِهِ وَذَهَابِهِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ الْقِيَامُ لِغَيْرِهِ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا أَحَبَّهُ مَنْ يُقَامُ لَهُ وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ لَا يُكْرَهُ الْقِيَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ فِي خِلَالِ قِرَاءَتِهِ وَعَنْ الظَّهِيرِيَّةِ قِيَامُ الْقَارِئِ إنَّمَا يَجُوزُ لِأُسْتَاذِهِ وَأَبِيهِ وَعَالِمٍ وَعَنْ كَنْزِ الْعِبَادَةِ لَا يَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُعَظِّمُونِي فِي بَيْتِ رَبِّي» وَلِهَذَا أَوْصَى السَّلَفُ تَلَامِذَتَهُمْ بِعَدَمِ الْقِيَامِ لَهُمْ بِالْمَسْجِدِ. وَعَنْ السِّرَاجِيَّةِ لَا يَنْبَغِي لِلْجَاهِلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْعَالِمِ وَلَوْ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ فِي الْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ وَالْكَلَامِ

الحادي والثلاثون التكلم عند الآذان والإقامة بغير الإجابة

وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ الشَّابُّ الْعَالِمُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الشَّيْخِ الْجَاهِلِ وَمِنْ تَعْظِيمِ الْأُسْتَاذِ تَبَعِيَّتُهُ وَإِنْ ظُنَّ كَوْنُ الصَّوَابِ فِي خِلَافِهِ لِأَنَّ سَالِكَ الطَّرِيقِ قَدْ يَظُنُّ خَطَأَ مَنْ يَهْدِيهِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ عِنْدَهُ أَلَا يُرَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَصْبِرْ وَرَاجَعَ الْخَضِرَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى حُرِمَ مِنْ صُحْبَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وَمِنْ التَّعْظِيمِ التَّوَاضُعُ وَالتَّمَلُّقُ وَالْخِدْمَةُ وَالنُّصْرَةُ وَالدُّعَاءُ لِأُسْتَاذِهِ سِرًّا وَجَهْرًا. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ عَلَّمَ عَبْدًا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَوْلَاهُ» وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْذُلَهُ وَلَا يُؤْثِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا وَمِنْ أَسْبَابِ انْقِرَاضِ الْعِلْمِ عَدَمُ مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُعَلِّمِ قِيلَ مَنْ تَأَذَّى مِنْهُ أُسْتَاذُهُ يُحْرَمُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا قَلِيلًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ حَقَّ مُعَلِّمِهِ عَلَى حَقِّ أَبَوَيْهِ. كَمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَلْوَانِيَّ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ بُخَارَى زَارَتْهُ تَلَامِذَتُهُ إلَّا الزنجري قَالَ مَنَعَتْنِي عَنْ الزِّيَارَةِ خِدْمَةُ أُمِّي قَالَ الشَّيْخُ تُرْزَقُ الْعُمُرَ وَلَا تُرْزَقُ الدَّرْسَ وَكَانَ كَذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ آبَاءُ أَجْسَامِنَا الَّذِينَ مَضَوْا ... قَدْ أَوْقَعُونَا فِي مَوْقِعِ التَّلَفِ مَنْ عَلَّمَ الْعِلْمَ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ... وَهُوَ أَبُو الرُّوحِ لَا أَبُو النُّطَفِ وَمِنْ التَّوْقِيرِ عَدَمُ تَبَعِيَّةِ زَلَّةِ الْمُعَلِّمِ وَهَفْوَتِهِ وَيُحْمَلُ مَا سُمِعَ مِنْهُ مِنْ الْهَفَوَاتِ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ وَالتَّأْوِيلَاتِ وَتَفْصِيلُ الْمَقَامِ فِي كِتَابِ تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ وَالْمِفْتَاحِ. [الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ التَّكَلُّمُ عِنْدَ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِغَيْرِ الْإِجَابَةِ] (الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ التَّكَلُّمُ عِنْدَ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِغَيْرِ الْإِجَابَةِ) الْمَذْكُورَةِ فِي الْفِقْهِيَّةِ بِأَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ إلَّا عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فَيَقُولُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَكِنْ عَنْ الْمُحِيطِ وَتُحْفَةِ الْمُلُوكِ يَقُولُهَا عِنْدَ الْأُولَى وَيَقُولُ عِنْدَ الثَّانِيَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَالْمَفْهُومُ مِنْ الدُّرَرِ هُوَ الْإِطْلَاقُ وَعِنْدَ قَوْلِهِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ صَدَقْت وَبِالْحَقِّ نَطَقْت وَإِجَابَةُ الْإِقَامَةِ كَالْآذَانِ لَكِنْ عِنْدَ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ يَقُولُ أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا وَعَنْ تَاجِ الشَّرِيعَةِ لَيْسَ عِنْدَهَا إجَابَةٌ بِالْقَوْلِ بَلْ بِالْفِعْلِ فَقَطْ وَفِي التَّنْوِيرِ إجَابَةُ الْإِقَامَةِ كَالْآذَانِ وَقِيلَ لَا وَلَا يَقْرَأُ السَّامِعُ الْقُرْآنَ وَلَا يُسَلِّمُ وَلَا يَرُدُّ السَّلَامَ وَلَا يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ سِوَى الْإِجَابَةِ إلَّا الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ إجَابَةٌ بِالْحُضُورِ كَمَا قَيَّدَهُ بِهِ (قَالُوا) لَعَلَّ لَيْسَ هَذَا مِمَّا قِيلَ مِنْ أَنْ قَالُوا عِنْدَ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافِيَّةً (يَقْطَعُ كُلَّ عَمَلٍ بِالْيَدِ) كَالْكِتَابَةِ وَسَائِرِ جَمِيعِ الصَّنَائِعِ (وَالرِّجْلِ) فَالْمَاشِي يَقِفُ وَلَوْ كَانَ مَشْيُهُ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ (وَاللِّسَانِ حَتَّى التِّلَاوَةَ) وَالْأَذْكَارَ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ (إنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَيْدٌ لِلْجَمِيعِ وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَتْرُكُهَا لِأَنَّهُ أَجَابَ بِالْحُضُورِ وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إذَا سُمِعَ الْآذَانُ فَمَا عُمِلَ بَعْدُ فَحَرَامٌ وَكَانَتْ تَضَعُ غَزْلَهَا وَإِبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ يُلْقِي الْمِطْرَقَةَ (وَلَا يُسَلِّمُ) عِنْدَ السَّمَاعِ (وَأَمَّا رَدُّهُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَسَيَجِيءُ) بَيَانُهُ وَعَنْ الْمُجْتَبَى فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ إذَا سَمِعَ الْآذَانَ لَا يُجِيبُهُ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِي فِي اسْتِمَاعِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ فِي ثَلَاثِ خَطْبِ الْمَوْسِمِ الرَّابِعِ فِي الْجِنَازَةِ الْخَامِسِ فِي تَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَتَعَلُّمِهِ السَّادِسِ فِي الْجِمَاعِ السَّابِعِ فِي الْمُسْتَرَاحِ الثَّامِنِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالتَّغَوُّطِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُثْنِي بِلِسَانِهِ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ لَا يَجُوزُ أَذَانُهُمَا وَكَذَا ثَنَاؤُهُمَا الْمُرَادُ بِالثَّنَاءِ الْإِجَابَةُ وَكَذَا لَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ كَمَا صَرَّحُوا

الثاني والثلاثون الكلام في الصلاة

(وَيَشْتَغِلُ بِالْإِجَابَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ) قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ وَالتُّحْفَةِ بِالْوُجُوبِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِالِاسْتِحْبَابِ قِيلَ الْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَالثَّانِي أَقْوَى دِرَايَةً وَعَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ لَا يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ سِوَى إجَابَتِهِمَا فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ إلَّا عَلَى مَنْ فِي مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ وَقِيلَ سُنَّةٌ وَقِيلَ مُسْتَحَبَّةٌ فَقِيلَ بِالْقَدَمِ وَقِيلَ بِاللِّسَانِ وَلَوْ جُنُبًا كَمَا فِي التُّمُرْتَاشِيِّ اهـ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا أَوْ مُسْتَمِعًا لِلْخُطْبَةِ أَوْ مُعَلِّمًا أَوْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ مُجَامِعًا أَوْ قَاضِيًا لِلْحَاجَةِ كَمَا نُقِلَ عَنْ النَّظْمِ وَقِيلَ الْوُجُوبُ بِالْإِجَابَةِ بِالْقَدَمِ وَالِاسْتِحْبَابُ بِاللِّسَانِ فَالْوَاجِبُ الْإِجَابَةُ بِالْقَدَمِ فَقَطْ فَلَوْ أَجَابَ بِاللِّسَانِ وَلَمْ يُجِبْ بِالْقَدَمِ لَيْسَ لَهُ إجَابَةٌ وَلَوْ أَجَابَ بِالْقَدَمِ وَلَمْ يُجِبْ بِاللِّسَانِ فَهُوَ مُجِيبٌ وَقَالُوا إنْ أَجَابَ بِاللِّسَانِ نَالَ الثَّوَابَ الْمَوْعُودَ وَإِلَّا لَا أَمَّا إنَّهُ يَأْثَمُ أَوْ يُكْرَهُ فَلَا وَعَنْ التَّجْنِيسِ لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ عِنْدَ الْآذَانِ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ «- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ» الْوُجُوبُ وَعَنْ التَّقَارِيرِ إذَا أَذَّنَ فِي مَسْجِدٍ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ فَالْإِجَابَةُ لِلْأَوَّلِ وَلَوْ سَمِعَ الْأَذَانَ فِي الْوَقْتِ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالظَّاهِرُ إجَابَةُ الْأَوَّلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدِهِ وَعَنْ مَجْمَعِ الْفَتَاوَى لَوْ سَمِعَ الْآذَانَ وَهُوَ يَمْشِي فَالْأَوْلَى أَنْ يَقِفَ سَاعَةً فَيُجِيبُ وَعَنْ السَّامَانِيِّ كَانَ الْأُمَرَاءُ يُوقِفُونَ أَفْرَاسَهُمْ وَيَقُولُونَ كُفُّوا وَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْفِقْهِ أَوْ الْأُصُولِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ الْكَلَامُ فِيهِ يُوجِبُ خَشْيَةَ سَلْبِ الْإِيمَانِ لَكِنْ عَنْ التُّمُرْتَاشِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ يُرَجِّحُ جَانِبَ الْحَظْرِ [الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ] (الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ) مُفْسِدًا أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا أَوْ خَطَأً وَكَذَا نِسْيَانًا خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَالثَّانِي كَالدُّعَاءِ بِلِسَانِهِ فِيمَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ مِنْ النَّاسِ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ تَسْبِيحٍ أَوْ تَهْلِيلٍ غَيْرِ مَأْثُورٍ وَلَا سِيَّمَا فِي الْفَرْضِ قَالَ فِي الدُّرَرِ لَا يَأْتِي فِي الثَّنَاءِ قَوْلُهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُك لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْمَشَاهِيرِ وَفِي الْبَحْرِ الْأَوْلَى تَرْكُهُ فِي النَّوَافِلِ أَيْضًا وَقَصْرُهُ عَلَى الْمَرْوِيِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ لَا يُمْنَعُ وَلَا يُؤْمَرُ وَعَنْ الظَّهِيرِيَّةِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ وَلَا فِي النَّوَادِرِ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ أَقُولُ الدَّائِرُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْحَظْرِ لَكِنْ قَدْ رُوِيَ إتْيَانُهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ (سِوَى الْقُرْآنِ) لِغَيْرِ الْمَأْمُومِ (وَالْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ) بِشَخْصِهَا أَوْ بِنَوْعِهَا فَغَيْرُ

الثالث والثلاثون الكلام في حال الخطبة

الْمَأْثُورَةِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا (وَفِي التتارخانية وَإِذَا) (سَلَّمَ رَجُلٌ عَلَى الَّذِي يُصَلِّي أَوْ) الَّذِي (يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) (رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ بِقَلْبِهِ) لِحُرْمَتِهِ بِاللِّسَانِ وَأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالتِّلَاوَةِ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَمْضِي عَلَى الْقِرَاءَةِ وَلَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ كَمَا لَا يَشْغَلُ لِسَانَهُ) وَهُوَ الْأَوْفَقُ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ شَغْلَ الْقَلْبِ بِغَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ مَانِعٌ مِنْ الْخُشُوعِ وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَامُ حِينَئِذٍ مَشْرُوعًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابُ وَلَوْ اسْتَحَقَّ فَلَا يَسْقُطُ بِمَا فِي الْقَلْبِ لِأَنَّ الْمَشْرُوعِيَّةَ فِيهِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ (وَفِي فَتَاوَى آهُو) بِالْمَدِّ اسْمُ رَجُلٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجِيبُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ) أَيْ يَرُدُّ السَّلَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فَإِنْ قِيلَ رَدُّ السَّلَامِ فَرْضٌ فَكَيْفَ يُتْرَكُ أُجِيبَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَيْضًا فَرْضٌ وَأَنَّ كَوْنَ الرَّدِّ فَرْضًا إنَّمَا هُوَ عِنْدَ مَشْرُوعِيَّةِ السَّلَامِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ لَا يَرُدُّ السَّلَامَ صَاحِبُ وِرْدٍ وَدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ وَمُدَرِّسٌ وَكَذَا سَلَامُ الْمُكْدِي أَيْ طَالِبِ الْعَطِيَّةِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ رَدُّ سَلَامِ السَّائِلِ لَكِنْ فِيهِ أَيْضًا الْمُخْتَارُ رَدُّ الْقَارِئِ سَلَامَ الْمَارِّ بِخِلَافِ وَقْتِ الْخُطْبَةِ وَفِيهِ أَيْضًا لَا يُسَلِّمُ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ جَهْرًا وَعِنْدَ مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَعِنْدَ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْخُطْبَةِ لِجُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ وَعِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ وَفِي الْحَمَّامِ وَالْخَلَاءِ إنْ مَسْتُورَيْنِ فَعِنْدَهُمَا لَا يَرُدُّ وَعِنْدَهُ يَرُدُّ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ مَفَاتِيحِ الصَّلَاةِ لِأَحْمَدَ الْحُصُولِيِّ يُكْرَهُ السَّلَامُ عِنْدَ الْخُطْبَةِ وَلَا يَرُدُّ جَوَابَهُ وَيَأْثَمُ الْمُسَلِّمُ عَلَى قَارِئِ الْقُرْآنِ جَهْرًا لَكِنْ يَرُدُّ جَوَابَهُ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ فَضِيلَتَيْ الْقُرْآنِ وَالرَّدِّ وَعَلَى مُسْتَمِعِ الْقُرْآنِ وَيَأْثَمُ الْمُسَلِّمُ وَلَكِنْ يَرُدُّهُ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ وَالرَّدِّ وَيُكْرَهُ عِنْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَعِنْدَ الْآذَانِ وَعِنْدَ الْإِقَامَةِ وَالْمُسَلِّمُ يَأْثَمُ وَلَكِنْ يَرُدُّونَ جَوَابَهُ وَعَلَى مَنْ فِي الْخَلَاءِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَرُدُّ بِقَلْبِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَرُدُّ مُطْلَقًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَعَلَى أُسْتَاذِهِ عِنْدَ الدَّرْسِ وَلَوْ سَلَّمَ يَجِبُ رَدُّهُ وَعَلَى الْمُصَلِّي وَيَأْثَمُ وَلَا يَرُدُّ وَعَلَى السَّائِلِ وَإِنْ سَلَّمَ السَّائِلُ يَجِبُ رَدُّهُ وَعَلَى الْقَاضِي فِي الْمَحْكَمَةِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَعَلَى لَاعِبِ الشِّطْرَنْجِ وَعَلَى لَاعِبِ النَّرْدِ وَغَيْرِهِ وَعَلَى الْمُبْتَدِعَةِ وَعَلَى الْمَلَاحِدَةِ وَعَلَى الزَّنَادِقَةِ وَعَلَى الْمُضْحِكِ وَعَلَى قَارِئِ الْقِصَّةِ الْكَاذِبَةِ وَعَلَى أَهْلِ اللَّغْوِ وَعَلَى أَهْلِ السَّبِّ وَعَلَى أَهْلِ الْهَجْوِ وَعَلَى الْقَاعِدِ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَنْظُرَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ وَالْأَمْرَدِ وَعَلَى الْعُرْيَانِ فِي الْحَمَّامِ وَغَيْرِهِ وَعَلَى الْمُمَازِحِ وَعَلَى الْكَذَّابِ وَعَلَى مَنْ يَسُبُّ النَّاسَ وَعَلَى الْمُشْتَغِلِ فِي السُّوقِ وَعَلَى آكِلِ الطَّعَامِ فِي السُّوقِ أَوْ عَلَى آكِلِ الطَّعَامِ أَمَامَ الدَّكَاكِينِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَعَلَى الْمُغَنِّي وَعَلَى مُطَيِّرِ الْحَمَّامِ وَالْكَافِرِ [الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي حَالَ الْخُطْبَةِ] (الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ) مُطْلَقُ الْخُطْبَةِ لِمَا فِي الدُّرَرِ أَطْلَقَ الْخُطْبَةَ لِتَتَنَاوَلَ جَمِيعَ الْخُطَبِ كَالْخُطَبِ فِي الْحَجِّ وَعَنْ قَاضِي خَانْ وَخُطْبَةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَعَنْ الْبَحْرِ وَخُطْبَةِ النِّكَاحِ وَخَتْمِ الْقُرْآنِ (وَلَوْ تَسْبِيحًا أَوْ تَصْلِيَةً أَوْ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَحْوَهَا) كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْمَبْحَثِ الْعِلْمِيِّ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا وَعَنْ الْبَحْرِ وَيُكْرَهُ لِمُسْتَمِعِ الْخُطْبَةِ مَا يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْعَبَثِ وَالِالْتِفَاتِ انْتَهَى لِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ وَفِي صَدْرِ الشَّرِيعَةِ إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَرُمَ الْكَلَامُ وَالصَّلَاةُ حَتَّى يُتِمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ قَالَ فِي الدُّرَرِ هُوَ كَالْقَرِيبِ وَعَنْ النِّهَايَةِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ وَعَنْ الْمَبْسُوطِ أَوْلَوِيَّةُ الْإِنْصَاتِ عِنْدَ بَعْضٍ وَعَنْ الْعِنَايَةِ هُوَ مُخْتَارُ الْكَرْخِيِّ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَأَوْلَوِيَّةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ وَعَنْ السِّرَاجِ السُّكُوتُ أَحْوَطُ وَعَنْ الْوَلْوَالِجيَّةِ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ ثُمَّ قِيلَ لَا يُكْرَهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي التتارخانية عَنْ بَعْضٍ الْفَاضِلِ لَا يُؤْمَرُ بِاسْتِمَاعِ خُطْبَةِ الْمَفْضُولِ وَأَنَّهُ إذَا أَخَذَ فِي مَدْحِ الظَّلَمَةِ وَالدُّعَاءِ فَلَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ وَعِنْدَ قَوْلِ الْخَطِيبِ صَلُّوا لَا يَجِبُ عَلَى الْقَوْمِ التَّصْلِيَةُ كَمَا فِي الطَّحَاوِيِّ وَعَنْ الْحُجَّةِ السُّكُوتُ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ وَفِي فَتَاوَى أَبُو السُّعُودِ تَرْضِيَةُ الْمُؤَذِّنِينَ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَطِيبِ

الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَسَكْتَتُهُ جَائِزَةٌ لِكَوْنِهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِي دِيَارِنَا إنْ لَمْ يُلْحِنُوا أَوْ يُسْرِعُوا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِالْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا قُلْت لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْت» أَيْ تَكَلَّمْتَ بِاللَّغْوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقِيلَ أَيْ تَكَلَّمْتَ بِمَا لَا يَجُوزُ وَقِيلَ لَغَا أَيْ مَالَ عَنْ الصَّوَابِ قِيلَ بُطْلَانٌ مَعْنَاهُ بُطْلَانُ أَصْلِ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ بُطْلَانُ ثَوَابِهَا وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَقِيلَ تَنْقَلِبُ ظُهْرًا وَعَنْ النَّوَوِيِّ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْصِتْ إذَا كَانَ لَغْوًا مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ فَغَيْرُهُ مِنْ الْكَلَامِ أَوْلَى وَفِي قَوْلِهِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ إشْعَارٌ بِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ حَالَ الْخُطْبَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ الْإِنْصَاتُ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُحَرَّمِ فَعَلَى هَذَا كَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامَيْنِ حَيْثُ قَالَا يُبَاحُ الْكَلَامُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْخُطْبَةِ لَعَلَّ وَجْهَ اخْتِيَارِ قَوْلِ الْإِمَامَيْنِ مُوَافَقَةُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَأَنَّهُ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سِوَى الْإِمَامِ وَقَدْ فُهِمَ مِنْ قَاضِي خَانْ إذَا خَالَفَ الْإِمَامَ صَاحِبَاهُ إذَا كَانَ اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ يُخْتَارُ قَوْلُهُمَا وَإِلَّا فَيُخَيَّرُ الْمُفْتِي وَعَنْ الْبَحْرِ وَمَا تُعُورِفَ مِنْ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يُؤَمِّنُونَ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَيَدْعُونَ لِلصَّحَابَةِ بِالرِّضَا وَلِلسُّلْطَانِ بِالنَّصْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّهُ حَرَامٌ انْتَهَى وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ هُوَ بِصَدَدِ شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْكَلَامِ الْعُرْفِيِّ حَتَّى يُمْنَعَ بَلْ مِنْ قَبِيلِ التَّسْبِيحِ فَلَا يُكْرَهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ بَلْ حَالِ السَّكْتَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ وَافَقَ قَوْلًا مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّتِنَا أَوَّلًا فَلَيْسَ مِمَّا يَجِبُ إنْكَارُهُ وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ مَا وَقَعَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَتِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يُبَالِغْ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ كَمَا قَالَ الْهَيْتَمِيُّ إنَّهُ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ بَلْ سُنَّةٌ وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَانَ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ عَبْدَك وَخَلِيفَتَك عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ يُنْدَبُ لِلْخَطِيبِ الدُّعَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ وَوُلَاتِهِمْ بِالْإِصْلَاحِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ وَلِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَوْ عَلِمْت لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً لَخَصَصْت بِهَا السُّلْطَانَ فَإِنَّ خَيْرَهُ عَامٌّ وَخَيْرَ غَيْرِهِ خَاصٌّ وَأَمَّا التَّأْمِينُ جَهْرًا فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِمَاعَ وَيُشَوِّشُ الْحَاضِرِينَ انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَلْطِ وَالْخَبْطِ إذْ عَدَمُ جَوَازِ مُطْلَقِ الْعِبَادَةِ سِوَى الْإِنْصَاتِ صَرِيحٌ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا وَأَنَّ السَّكْتَةَ فِي نَفْسِهَا لِمَصْلَحَةِ الْمُؤَذِّنِ لَمْ تَقَعْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَبِدْعَةٌ مَمْنُوعَةٌ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ عَلَى الْإِنْكَارِ فَمُنْكَرٌ عِنْدَ مُقَلِّدِيهِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُنْكَرًا مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِهِ مُجْمَعًا وَإِنَّ مَا نُقِلَ مِنْ الدَّعَوَاتِ إلَى الْأُمَرَاءِ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الْخَطِيبِ وَالْمَسْأَلَةُ مَا هِيَ مِنْ الْمُؤَذِّنِ (حذر طب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» أَيَّ كَلَامٍ كَانَ وَلَوْ تَسْبِيحًا وَتَرْضِيَةً وَتَصْلِيَةً خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِالْعُرْفِيِّ «وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا» فَكَمَا أَنَّ الْحِمَارَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَسْفَارِ) فَكَذَا هَذَا لَا يَنْتَفِعُ مِنْ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ إتْعَابُهُ مِنْ قَبِيلِ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ (وَاَلَّذِي يَقُولُ لَهُ أَنْصِتْ لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ)

رَأْسًا أَوْ كَامِلَةً قِيلَ عَنْ نَجْمِ الدِّينِ الْبَقْلِيِّ وَإِذَا شَرَعَ الْخَطِيبُ فِي الدُّعَاءِ لَا يَجُوزُ لِلْقَوْمِ رَفْعُ الْأَيْدِي وَلَا التَّأْمِينُ بِاللِّسَانِ فَإِنْ فَعَلُوا أَثِمُوا وَقَالَ بَعْضٌ إسَاءَةٌ لَا إثْمٌ وَالصَّحِيحُ وَالْمُفْتَى بِهِ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ بِوُجُوبِ تَعْلِيمِ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَكَذَا التَّصْلِيَةُ جَهْرًا وَأَمَّا إخْفَاءً فَقِيلَ يَجِبُ وَقِيلَ لَا بَلْ بِالْقَلْبِ فَقَطْ وَهُوَ اخْتِيَارُ النَّسَفِيِّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَانْتَهَى مُلَخَّصًا (قَالَ قَاضِي خَانْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ إذَا قَالَ الْخَطِيبُ) فِي الْخُطْبَةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ؛ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ) أَيْ بِالْقَلْبِ كَمَا سَمِعْت آنِفًا عَنْ الْبَقَّالِيِّ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِهِ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَكُونُ خِفْيَةً (وَ) جُمْهُورُ (مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا بِأَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ يَسْتَمِعُ وَيَسْكُتُ لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ فَرْضٌ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةٌ) قِيلَ لِأَنَّ التَّصْلِيَةَ فَرْضُ مَرَّةٍ فِي الْعُمُرِ وَالْبَوَاقِيَ سُنَنٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ وَلَا عَلَى الْفَوْرِ أَقُولُ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا ذَكَرَ اسْمَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا الْمُطْلَقِ وَمَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يَجْرِي فِي الْمُطْلَقِ وَإِنَّ الْوُجُوبَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا الْوُجُوبَ مِمَّا يُمْكِنُ قَضَاؤُهُ بَعْدُ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لِتَعَارُضِهِ بِوُجُوبٍ آخَرَ بَلْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِرُجْحَانِ مُعَارِضِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ هِيَ (تُمْكِنُ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ) لِمَا عَرَفْت أَنَّهَا مِمَّا يُمْكِنُ قَضَاؤُهُ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ بَعْدَ تَمَامِ الْخُطْبَةِ (انْتَهَى) فَالْإِجْمَاعُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى جَوَازِ الْجَهْرِ حِينَئِذٍ وَأَمَّا فِي الْإِخْفَاءِ فَقِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا (وَفِي التَّجْنِيسِ) لِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ (رَجُلٌ سَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ رَدَّ عَلَيْهِ) سَلَامَهُ (فِي نَفْسِهِ وَكَذَا إذَا عَطَسَ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ وَاجِبٌ) أَيْ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى مَا قِيلَ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَعْكِسْ لِقُوَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وَلِكَوْنِ الْمَحَلِّ مَحَلَّ الْفَرْضِ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَوِيٌّ فِي مَحَلِّهِ وَمَقَامِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ الْوُجُوبُ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ سُقُوطُ الضَّعِيفِ فِي جَنْبِ الْقَوِيِّ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ وَذَا عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِهِ (وَيُمْكِنُ إقَامَةُ هَذَا الْوَاجِبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِالِاسْتِمَاعِ) بِأَنْ يُسِرَّ بِهِ (هَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْأَصْوَبُ) أَيْ الْأَوْلَى (أَنْ لَا يُجِيبَ) أَصْلًا مُطْلَقًا لَا جَهْرًا وَلَا فِي نَفْسِهِ (لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْإِنْصَاتِ) الْمَأْمُورِ بِهِ إمَّا لِشُمُولِ الْإِنْصَاتِ لِمَا فِي الْقَلْبِ أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِنْصَاتِ الْإِصْغَاءُ لِمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَالِاتِّعَاظُ بِهِ وَشَغْلُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ مَانِعٌ إذْ الِاسْتِمَاعُ بِلَا تَأَمُّلٍ وَتَفَكُّرٍ بَلْ بِلَهْوٍ وَذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ لَيْسَ بِجَائِزٍ (وَبِهِ يُفْتَى) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ وَقَفَ عَلَيْهِ لَكِنْ ظَاهِرُ مَا عِنْدَنَا مِنْ الْفَتَاوَى كَقَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةِ وَالْهِدَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَفِي الْخَانِيَّةِ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى أَحَدٍ وَقْتَ الْخُطْبَةِ) أَمَّا حَالَ الْخُطْبَةِ فَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ أَوْ مُطْلَقُ مَا بَيْنَ الْخُرُوجِ وَالنُّزُولِ بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ (وَلَا يُشَمِّتُ الْعَاطِسَ) مَعَ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَزَادَ فِي الْخُلَاصَةِ كُلُّ مَا حَرُمَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَكَلَامٍ حَرُمَ فِي الْخُطْبَةِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ قِيلَ وَبِهِ جَزَمَ

فِي الْكَنْزِ وَهُوَ الْأَحْوَطُ (فَمَا يَفْعَلُهُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي زَمَانِنَا) لَا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى بِدْعِيَّتِهِ وَالْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَةِ حَرَامٌ فَفِيهِ دَلِيلٌ آخَرُ غَيْرُ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ عَلَى مُنْكَرِيَّةِ الْحُكْمِ (فِي حَالِ الْخُطْبَةِ) بَلْ عِنْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ الْمِنْبَرَ (مِنْ التَّصْلِيَةِ وَالتَّرْضِيَةِ وَالتَّأْمِينِ وَالدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ عِنْدَ ذِكْرِهِ مُنْكَرٌ يَجِبُ مَنْعُهُ عَلَى مَنْ قَدَرَ) مِنْ السُّلْطَانِ وَالْقُضَاةِ وَسَائِرِ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا الْعُلَمَاءُ لَكِنْ قِيلَ الْوُجُوبُ لِلسُّلْطَانِ وَالْحُكَّامِ دُونَ غَيْرِهِمْ قِيلَ هُنَا أَيْضًا أَنَّ الْمَمْنُوعَ هُوَ الْكَلَامُ الْعُرْفِيُّ فَقَطْ وَقِيلَ إنَّ هَذَا لَيْسَ

بِمُنْكَرٍ حَتَّى يُنْكَرَ بَلْ أُمُورٌ مُسْتَحْسَنَةٌ اسْتَحْسَنَهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» . «وَلَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» فَأَفْتَوْا بِجَوَازِهَا وَقَدْ قَالَ صَاحِبَاهُ لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا مَا لَمْ يَشْرَعْ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ فَالْمَانِعُ {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] وَقَدْ خَصَّ بَعْضَ

الرابع والثلاثون كلام الدنيا بعد طلوع الفجر الصادق

السُّكُوتِ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ قِيلَ لَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْقُصُورِ حَيْثُ مَنَعَ التَّسْبِيحَ وَالتَّصْلِيَةَ وَالتَّرْضِيَةَ تَقْلِيدًا لِبَعْضِ الْكُتُبِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فَحَفِظَ شَيْئًا وَنَسِيَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قِيلَ فَالْحَقُّ مَا ذَكَرْنَا انْتَهَى وَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمُؤْمِنُونَ إمَّا لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ بِقَرِينَةِ بَعْضٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالْبَزَّازِ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّهُ هَكَذَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابًا فَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ إلَخْ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الصَّحَابِيَّ فَقَطْ أَوْ الْفَرْدَ الْكَامِلَ وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ وَالْأَصْلُ انْصِرَافُ الْمُطْلَقِ إلَى الْكَمَالِ وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْخَفِيَّةِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» كَيْفَ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى مُطْلَقِ الْجِنْسِ لَخَالَفَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً» وَمِثْلُهُ حَدِيثُ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ فِسْقٌ وَبِدْعَةٌ ثُمَّ قِيلَ فَالْوَاجِبُ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] نَازِلٌ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ شَفْعِ الظُّهْرِ فَمَا بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَمَا بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ كَمَا بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ حُكْمًا كَمَا فِي حَاشِيَة أَخِي حَلَبِيٍّ فَيَحْرُمُ فِي الْخُطْبَةِ مَا يَحْرُمُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَقَوْلُهُ وَأَفْتَوْا بِجَوَازِهَا وَقَالَ صَاحِبَاهُ لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الصَّلَاةِ أَقُولُ الْإِفْتَاءُ بِهَا مِنْ الْفَاضِلِ أَبِي السُّعُودِ وَقَوْلُ الْإِمَامَيْنِ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَقْوَى اعْتِرَاضَاتِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّ نَحْوَ التَّصْلِيَةِ سُرْعَةٌ فِي سَكْتَةِ الْإِمَامِ لَا يُنَافِي الِاسْتِمَاعَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ اقْتِصَارَهُمَا عَلَى طَرَفَيْ الْخُطْبَةِ يُنَادِي عَلَى عَدَمِ تَجْوِيزِهِمَا حَالَةَ السَّكْتَةِ وَتَجْوِيزُ أَبِي السُّعُودِ إنَّمَا وَقَعَ بِعِنْوَانِ الرَّجَاءِ فَمَنَعَ فِي صُورَةِ التَّجْوِيزِ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَا حُكْمَ فِيهِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّهُ مَنَّاعٌ لِلْخَيْرِ لَيْسَ بِمَنْعِ خَيْرٍ بَلْ نَهْيُ مُنْكَرٍ وَقَوْلُهُ إنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا هُوَ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَمْنُوعٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ أَيْنَمَا يَجِدُهَا أَخَذَهَا» فَلَا يُوجِبُ الْأَعْلَوِيَّةَ وَلَا يُنَافِي الْأَدْنَوِيَّةَ وَلِهَذَا اسْتَمَعَ أَبُو حَنِيفَةَ نَصَائِحَ الْحَجَّامِ وَقَبِلَهَا كَمَا فَصَّلَ فِي الْخَانِيَّةِ وَتَعَلُّمُ مُحَمَّدٍ مَسْأَلَةَ سَهْمِ الدُّورِ سَاقِطٌ عَنْ جَارِيَةِ أَبِي يُوسُفَ مَعْرُوفٌ وَاقِعٌ فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ انْتَهَى كَلَامُ الْمُجِيبِ إيجَازًا وَأَقُولُ لَا حَاجَةَ فِي الْجَوَابِ إلَى هَذَا التَّطْوِيلِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو بَعْضُهُ عَنْ كَلَامٍ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالنُّصُوصِ وَالْآثَارِ إنَّمَا هُوَ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ عَرَفْت أَقْوَالَهُمْ فَقَوْلُهُ كُلُّهُ مِنْ قَبِيلِ الرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَقَدْ قَالُوا بِتَرْجِيحِ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ عَلَى النُّصُوصِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ الصَّالِحِينَ فَلَيْسَ فِيهِ تَقْرِيبٌ إذْ الْمَطْلُوبُ شَامِلٌ لِمَا فِي حَالِ الْخُطْبَةِ بَلْ الْعُمْدَةُ بِمَا يَكُونُ فِيهَا وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ أَيْضًا وَأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الِاتِّفَاقِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ الْحَظْرَ رَاجِحٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَتَخْصِيصُ السُّكُوتِ بِزَمَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَلَوْ سَلِمَ فَمِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ حُكْمٍ فِي زَمَانِهِ مُسْتَمِرَّةٌ فِيمَا بَعْدَهُ وَتَخْصِيصُهُ بِهِ بِالرَّأْيِ لَيْسَ بِمَسْمُوعٍ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَصْلِ الْمُسَلَّمِ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ إذْ قَدْ يَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ جِنْسِ الْحُكْمِ بِسَبَبِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ كَالْمَشَقَّةِ لِلسَّفَرِ [الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ] (الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ) الصَّادِقِ وَقِيلَ (إلَى الصَّلَاةِ) لِلصُّبْحِ (وَقِيلَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ)

الخامس والثلاثون الكلام في الخلاء وعند قضاء الحاجة

قِيلَ أَيْ تَنْزِيهًا وَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ وَقْتٌ شَرِيفٌ لَا يَلِيقُ لِلْمُؤْمِنِ الِاشْتِغَالُ فِيهِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ بَلْ اللَّائِقُ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْأَعْمَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ وَلِذَا قَالُوا الْكَلَامُ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يُصَلِّي مَكْرُوهٌ إلَّا بِخَيْرٍ أَقُولُ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي فَضْلِ الْأَعْمَالِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَحَدِيثِ «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ بِجَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ حَجَّةٌ تَامَّةٌ وَعُمْرَةٌ تَامَّةٌ» وَحَدِيثِ «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً» كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ وَفِيهِ إيمَاءٌ إلَى مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ إنَّ التَّصْلِيَةَ وَسَائِرَ الْأَذْكَارِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ وَعَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ الذِّكْرُ يَتَنَاوَلُ نَحْوَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَدِرَاسَةِ الْعِلْمِ تَأَمَّلْ وَبَعْدَ الصَّلَاةِ قِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ وَفِي الْمَشْيِ فِي حَاجَتِهِ قِيلَ يُكْرَهُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقِيلَ إلَى ارْتِفَاعِهَا وَبَعْدَ الْعِشَاءِ أَبَاحَهُ قَوْمٌ وَحَظَرَهُ قَوْمٌ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا وَالْمُرَادُ هُوَ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ وَعَنْ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ أَمَّا الْحَدِيثُ الْمُحَرَّمُ أَوْ الْمَكْرُوهُ فَفِي هَذَا الْوَقْتِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَكَرَاهَةً وَأَمَّا فِي الْخَيْرِ كَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَالْحَدِيثِ مَعَ الضَّيْفِ وَمَعَ طَالِبِ حَاجَةٍ فَمُسْتَحَبٌّ كَالْحَدِيثِ لِعَارِضٍ وَضَرُورَةٍ [الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ] (الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَيْضًا) قِيلَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ هُوَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لَعَلَّك سَمِعْت قَوْلَ الْمُحَشِّي أَخِي جَلَبِي عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَرَاهَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَنْزِيهِيَّةٌ وَمَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ تَحْرِيمِيَّةٌ انْتَهَى فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ وَلَوْ جُعِلَ مِنْ مَبَاحِثِ الْحَظْرِ فَلَهُ وَجْهٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَتَأَذَّى الْحَفَظَةُ بِوَاسِطَةِ الْحُضُورِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الْكَرِيهِ لِأَجْلِ كِتَابَةِ مَا تَكَلَّمَهُ وَفِي الدُّرَرِ وَيُكْرَهُ التَّكَلُّمُ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ «إذَا تَغَوَّطَ الرَّجُلَانِ فَلْيَتَوَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَا يَتَحَدَّثَانِ عَلَى طَوْفِهِمَا فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ» الطَّوْفُ الْغَائِطُ وَالْمَقْتُ الْبُغْضُ الشَّدِيدُ (وَفِي الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ سَلَّمَ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْخَلَاءِ يَتَغَوَّطُ أَوْ يَبُولُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَام بِقَلْبِهِ لَا بِلِسَانِهِ) لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الرَّدَّ وَلَوْ بِالْقَلْبِ يُنَافِي عَدَمَ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ وَتَمْكِينٌ نَعَمْ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمُصَلِّي إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يُجِيبُهُ بِقَلْبِهِ قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ وَذَلِكَ لِإِرَاحَةِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ الْحُضُورِ بِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَكْتُبُونَ الْأُمُورَ الْقَلْبِيَّةَ ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي تَقْرِيبِ هَذَا النَّقْلِ إذْ الْكَلَامُ فِي مُطْلَقِ الْكَلَامِ وَاللَّازِمُ مِنْ النَّقْلِ هُوَ الْمَخْصُوصُ فَافْهَمْ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَرُدُّ أَصْلًا) وَلَوْ بِقَلْبِهِ (وَلَا بَعْدَ الْفَرَاغِ) وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْإِجَابَةُ فِي الْمَكْرُوهِ وَأَنَّ السُّقُوطَ لَا يَعُودُ (وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَاجَةِ) لِزَوَالِ الْمَانِعِ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ الْمَانِعُ عَادَ الْمَمْنُوعُ وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْمَوَاضِعِ الْمَمْنُوعِ فِيهَا السَّلَامُ وَهَذِهِ مِنْهَا وَقِيلَ فِيهَا نَظْمًا سَلَامُك مَكْرُوهٌ عَلَى مَنْ سَتُسْمِعُ ... وَمِنْ بَعْدِ مَا أُبْدِي يُسَنُّ وَيُشْرَعُ مُصَلٍّ وَتَالٍ وَذَاكِرٌ وَمُحَدِّثٌ ... خَطِيبٌ وَمَنْ يُصْغِي إلَيْهِمْ وَيَسْمَعُ مُكَرِّرُ فِقْهٍ جَالِسٌ لِقَضَائِهِ ... وَمَنْ بَحَثُوا فِي الْعِلْمِ دَعْهُمْ لِيَنْفَعُوا مُؤَذِّنٌ أَيْضًا وَالْمُقِيمُ مُدَرِّسٌ ... كَذَا الْفَتَيَاتُ الْأَجْنَبِيَّاتُ أَمْنَعُ وَلَعَّابُ شِطْرَنْجٍ وَشَبِّهْ بِحِلْفِهِ ... وَمَنْ هُوَ مَعَ أَهْلٍ لَهُ يَتَمَتَّعُ وَدَعْ كَافِرًا أَيْضًا وَمَكْشُوفَ عَوْرَةٍ ... وَمَنْ هُوَ فِي حَالِ التَّغَوُّطِ أَشْنَعُ وَدَعْ آكِلًا إلَّا إذَا كُنْت جَائِعًا ... وَتَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ كَذَلِكَ أُسْتَاذٌ مُغَنٍّ مُطَيِّرٌ ... فَهَذَا خِتَامٌ وَالزِّيَادَةُ تَنْفَعُ

السادس والثلاثون الكلام عند الجماع

[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ الْجِمَاعِ] (السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ أَيْضًا مَكْرُوهٌ) قِيلَ تَنْزِيهًا وَقِيلَ تَحْرِيمًا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْقِيَاسِ السَّابِقِ وَفِي التَّنْوِيرِ يُكْرَهُ الْكَلَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَخَلْفَ الْجِنَازَةِ وَفِي الْخَلَاءِ وَحَالَةَ الْجِمَاعِ وَفِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ فَإِنَّهُ يُورِثُ خَرَسَ الْوَلَدِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَعِنْدَ الْمَرِيضِ وَعِنْدَ الْقُبُورِ وَعِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَ الْخُطْبَةِ (وَكَذَا يُكْرَهُ الضَّحِكُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ) بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْخَلَاءِ وَالْجِمَاعِ وَوَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَفِي الصَّلَاةِ وَحَالَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَعِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الضَّحِكَ مُلْحَقٌ بِالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ [السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ عَلَى مُسْلِمٍ] (السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ عَلَى مُسْلِمٍ) تَغْلِيبًا أَوْ عُمُومَ مَجَازٍ أَوْ مُقَايَسَةً لِظُهُورِ الشُّمُولِ عَلَى الْإِنَاثِ لَا سِيَّمَا الدُّعَاءُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» يَعْنِي لَا تَدْعُوا دُعَاءَ سَوْءٍ مَخَافَةَ أَنْ يُوَافِقَ دُعَاؤُكُمْ سَاعَةَ إجَابَةٍ فَتَنْدَمُوا وَلَا يَنْفَعُكُمْ النَّدَمُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «دَعْوَتَانِ لَا حِجَابَ لَهُمَا حَتَّى تَبْلُغَ الْعَرْشَ الْكَرِيمَ دَعْوَةُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ عَلَى ظَالِمِهِ» (خُصُوصًا بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُ) أَيْ الدُّعَاءَ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ (كُفْرٌ عِنْدَ بَعْضٍ مُطْلَقًا) اسْتَحْسَنَهُ أَوْ لَا (وَعِنْدَ آخَرِينَ) كَوْنُهُ كُفْرًا (إنْ كَانَ لِاسْتِحْسَانِ الْكُفْرِ) وَأَمَّا إنْ لِاشْتِدَادِ الْعَذَابِ فَلَا قَالَ فِي الْفَتَاوَى أُحِبُّ مَوْتَ الْمُؤْذِي الشِّرِّيرِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَنْتَقِمَ اللَّهُ مِنْهُ لَا يَكُونُ كُفْرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88] وَعَلَى هَذَا إذَا دَعَا عَلَى الظَّالِمِ أَمَاتَك اللَّهُ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ قَالَ سَلَبَ اللَّهُ عَنْك الْإِيمَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ اجْتَرَأَ عَلَى اللَّهِ وَكَابَرَ فِي الظُّلْمِ فَلَا كُفْرَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الرِّضَا بِكُفْرِ الْغَيْرِ كُفْرٌ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا فِي الْبَزَّازِيِّ (وَأَمَّا) (الدُّعَاءُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِ (بِغَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْكُفْرِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُ) أَوْ لِغَيْرِهِ (فَلَا يَجُوزُ) وَيَحْرُمُ (وَإِنْ كَانَ) ظَالِمًا (فَيَجُوزُ بِقَدْرِ ظُلْمِهِ وَلَا يَجُوزُ التَّعَدِّي) عَنْهُ وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا تَفْصِيلَهُ وَأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَأَنَّ مَا جَازَ لِعُذْرٍ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ عُذْرِهِ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ الْمَظْلُومَ لَيَدْعُوَ عَلَى ظَالِمِهِ حَتَّى يُكَافِئَهُ» (وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَدْعُوَ عَلَيْهِ) أَيْ الظَّالِمِ (أَصْلًا) بَلْ يَصْبِرُ وَيَعْفُو عَنْهُ أَوْ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ الْمُنْتَقِمِ لِأَنَّ فِي حِفْظِ مِقْدَارِ الظُّلْمِ وَعَدَمِ التَّعَدِّي عَنْهُ عُسْرَةً لَا سِيَّمَا الْجَاهِلُ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ انْتَصَرَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ أَخَذَ مِنْ عِرْضِ الظَّالِمِ فَنَقَصَ مِنْ إثْمِهِ فَنَقَصَ ثَوَابُ الْمَظْلُومِ بِحَسْبِهِ [الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ وَالظَّالِمِ بِالْبَقَاءِ] (الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ وَالظَّالِمِ بِالْبَقَاءِ) فِي الْخُلَاصَةِ إنْ قَالَ لِلذِّمِّيِّ أَطَالَ اللَّهُ

التاسع والثلاثون الكلام عند قراءة القرآن

بَقَاءَك لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا نَوَى أَنْ يُطِيلَ اللَّهُ بَقَاءَهُ لِيُسْلِمَ أَوْ لِيُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ لَهُ لِلْإِسْلَامِ أَوْ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَشْبَاهِ لَوْ سَلَّمَ عَلَى الذِّمِّيِّ تَبْجِيلًا كَفَرَ وَلَوْ قَالَ لِمَجُوسِيٍّ يَا أُسْتَاذُ تَبْجِيلًا كَفَرَ لَكِنْ فِي الشِّرْعَةِ لَا يَقُولُ لِأَحَدٍ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك فَإِنَّهُ تَحِيَّةُ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ كَانُوا يَقُولُونَ عِشْ أَلْفَ عَامٍ فَظَاهِرُهُ هُوَ الْإِطْلَاقُ لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «دُعَاؤُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِطُولِ الْبَقَاءِ لِأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» (وَحُصُولِ الْمُرَادِ بِلَا شَرْطِ الْإِيمَانِ) فِي الْكَافِرِ (وَالْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ) فِي الظَّالِمِ (فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رِضًا بِالْمَعْصِيَةِ) الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِبَقَاءِ الظَّالِمِ دُعَاءٌ بِبَقَاءِ ظُلْمِهِ (بَلْ يَقْتَصِرُ فِي الدُّعَاءِ لَهُ) أَيْ لِلظَّالِمِ (عَلَى التَّوْبَةِ وَالصَّلَاحِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ) [التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ] (التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (فَإِنَّ اسْتِمَاعَ الْقُرْآنِ وَالْإِنْصَاتَ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا) فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجِهَا سَوَاءٌ فَهِمَ الْمَعْنَى أَوْ لَا (فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204] الْآيَةَ) كَأَنَّهُ قِيلَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْإِطْلَاقِ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَإِطْلَاقِهِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ) بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّ (وَتَقْيِيدِهِ) بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُطْلَقِ (كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ) الْأَوَّلُ مَعْرُوفٌ وَالثَّانِي لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ وَقَفَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ لَكِنْ قِيلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى خِلَافِهِ لَعَلَّ هَذَا الْخِلَافَ مَنَعَ الْفَرْضِيَّةَ ثُمَّ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ عَيْنِيَّةُ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ إطْلَاقِ النَّصِّ لَكِنْ فِي الْحَلَبِيِّ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ وَلِلْمَوْلَى الْمَرْحُومِ الْمِنْقَارِيِّ رِسَالَةٌ فِيهِ حَاصِلُهَا رَدُّ الْكِفَايَةِ وَتَقْرِيرُ الْعَيْنِيَّةِ (لَكِنْ قَالُوا مَنْ قَرَأَ عِنْدَ اشْتِغَالِ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ) كَالْحَمَّامِ قَالَ فِي التتارخانية قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْحَمَّامِ أَوْ فِي الْمُغْتَسَلِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ يُصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ الَّذِي غَسَلَ بِهِ النَّجَاسَةَ مَكْرُوهَةٌ خِفْيَةً أَوْ جَهْرًا (فَالْإِثْمُ عَلَى الْقَارِئِ فَقَطْ) لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِمْ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ الِاشْتِرَاكُ أَوْ الْإِثْمُ عَلَى النَّاسِ فَقَطْ لِتَرْكِهِمْ الْإِنْصَاتَ الْمَأْمُورَ بِهِ (وَمَنْ ابْتَدَأَ الْعَمَلَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ فَالْإِثْمُ عَلَى الْعَامِلِ) لِسَبْقِ الْقِرَاءَةِ ظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ ضَرُورِيًّا أَوْ لَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ عَمَلٍ أَوْ لَا لَكِنْ الظَّاهِرُ التَّفْصِيلُ فِي النَّوْعَيْنِ لَكِنْ فِي التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ الْيَتِيمَةِ سَأَلْت أَبَا حَامِدٍ عَنْ الْمُدَرِّسِ إذَا كَانَ يَسْبِقُ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي قُرْبِهِ يَقْرَأُ النَّاسُ وَهُوَ بِحَالٍ لَوْ سَكَتَ عَنْ قِرَاءَةِ السَّبْقِ يَسْمَعُهُ هَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا فِي اشْتِغَالِهِ بِالْأَسْبَاقِ قَالَ نَعَمْ انْتَهَى إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بِالدَّرْسِ وَغَيْرِهِ إذْ هُوَ كَالضَّرُورِيِّ (قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَيُكْرَهُ السَّلَامُ) تَحْرِيمًا (عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) ظَاهِرُهُ عَلَى غَيْرِ الْقَارِئِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (جَهْرًا) فَإِنَّ السَّلَامَ عَلَى قَارِئٍ وَلَوْ خِفْيَةً مَمْنُوعٌ (وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى أَحَدِهِمْ فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ أَوْ أَحَدِهِمْ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَإِنْ سَلَّمَ فَهُوَ آثِمٌ وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ) عَلَى الْمُؤَذِّنِ وَالْمُسْتَمِعِ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ انْتَهَى)

الأربعون كلام الدنيا في المساجد

قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ هَذَا أَقْوَى دِرَايَةً لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لَهُ بَلْ هُوَ مُنْكَرٌ فِيهَا فَلَا تَجُوزُ الْإِجَابَةُ لِمُنْكَرٍ (وَيُخَالِفُهُ) أَيْ مَا فِي التتارخانية (فِي الرَّدِّ مَا فِي الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ هَلْ يَجِبُ الرَّدُّ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجِبُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ وَقْتَ الْخُطْبَةِ انْتَهَى) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ (وَ) يُخَالِفُهُ أَيْضًا فِي الرَّدِّ (مَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ وَاخْتَارَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ هَكَذَا حُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قِيلَ وَهُوَ الْأَحْوَطُ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى دِرَايَةً أَقُولُ لِمَا عَرَفْت آنِفًا وَلِصِحَّةِ الْمُقَايَسَةِ عَلَى وَقْتِ الْخُطْبَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوُجُوبِ وَلِاتِّحَادِ دَلِيلِهِمَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا يَكُونُ مُرَجِّحًا عِنْدَنَا نَعَمْ يُرَجِّحُ فِي الْمَسَائِلِ النَّقْلِيَّةِ بِقُوَّةِ الْقَائِلِ وَوَثَاقَتِهِ وَفَقَاهَتِهِ فَتَأَمَّلْ (بِخِلَافِ السَّلَامِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ اهـ) فَإِنَّهُ حَرَامٌ اتِّفَاقًا وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ وَالْقِرَاءَةُ جَهْرًا أَفْضَلُ إلَّا عِنْدَ الْمُشْتَغِلِ بِالْعَمَلِ أَوْ الْكَلَامِ، صَبِيٌّ افْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ ثُمَّ افْتَتَحَ مَنْ عِنْدَهُ الْكَلَامَ أَوْ الْفِقْهَ أَوْ عَمَلَ الْكِتَابَةِ أَوْ الدُّنْيَا يَأْثَمُ لِتَرْكِ الِاسْتِمَاعِ وَإِنْ افْتَتَحَ الْكَلَامَ أَوَّلًا أَوْ غَيْرَهُ ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّبِيُّ الْقِرَاءَةَ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الِاسْتِمَاعِ وَمَنْ يَكْتُبُ الْفِقْهَ أَوْ يُكَرِّرُهُ وَعِنْدَهُ آخَرُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الِاسْتِمَاعِ بَلْ الْإِثْمُ عَلَى الْقَارِئِ فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ وَعْظٌ وَقِرَاءَةٌ فَاسْتِمَاعُ الْوَعْظِ أَوْلَى وَكُرِهَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ جَمَاعَةٌ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بَأْسَ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِخْلَاصِ جَهْرًا عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ وَاحِدٌ وَيَسْتَمِعَ الْبَاقُونَ وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ وَاحِدًا يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ عَلَى الْمَارِّينَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَقَعُ الْخَلَلُ فِي الِاسْتِمَاعِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الِاسْتِمَاعُ إمَامٌ قَرَأَ مَعَ الْجَمَاعَةِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَآخِرَ الْبَقَرَةِ وَشَهِدَ اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ جَهْرًا كُلَّ غَدَاةٍ قِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ وَالْإِخْفَاءُ أَفْضَلُ. اهـ. [الْأَرْبَعُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا فِي الْمَسَاجِدِ] (الْأَرْبَعُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا فِي الْمَسَاجِدِ) فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ (بِلَا عُذْرٍ) كَالْمُعْتَكِفِ يَتَكَلَّمُ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ اللَّازِمَةِ (فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ) كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ كَمَا قِيلَ وَقِيلَ عَنْ الْخَانِيَّةِ الْجَبَّانَةُ وَمُصَلَّى الْجِنَازَةِ لَهُمَا حُكْمُ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً وَلَيْسَ لَهُمَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ حَتَّى فِي الْمُرُورِ وَحُرْمَةِ الدُّخُولِ لِلْجُنُبِ وَفِنَاءُ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً وَلَا الْمَسْجِدُ مَلْآنَ اهـ وَأَمَّا فِي حَقِّ جَوَازِ دُخُولِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَلَيْسَ لِلْفِنَاءِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ كَمَا فِي الْبَحْرِ وَاخْتَارَ فِي الْقُنْيَةِ مِنْ كِتَابِ الْوَقْفِ أَنَّ الْمَدْرَسَةَ إذَا كَانَ لَا يَمْنَعُ أَهْلُهَا النَّاسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهَا فَهِيَ مَسْجِدٌ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ قِيلَ ظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ فِي الْجَبَّانَةِ وَمُصَلَّى الْجِنَازَةِ وَفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مَا اتَّصَلَ بِهِ لِأَجْلِ مَصَالِحِهِ وَفِي الْمَدْرَسَةِ الَّتِي يَمْنَعُ أَهْلُهَا النَّاسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا لِعَدَمِ كَوْنِهَا مَسْجِدًا وَلَوْ كَانَ فِيهَا مِحْرَابٌ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِلتَّدْرِيسِ لَا لِلصَّلَاةِ وَالْعُرْفُ يَقْضِي بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ لَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ (حب عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ» الدُّنْيَوِيُّ «فِي مَسَاجِدِهِمْ» الْمَوْضُوعَةِ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى رَفَّعُوهَا عَنْ كَلَامِ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ وَمَسَاكِنُ أَهْلِ الدِّينِ الْبَاطِلِ وَالْعِبَادَةِ الْبَاطِلَةِ فَكَيْفَ أَهْلُ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالدِّينِ الْحَقِّ وَهُمْ يَقْرَءُونَ قَوْله تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] «لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ» لَا يُرِيدُ بِهِمْ خَيْرًا وَلَا يَصْلُحُونَ لِمَقَامِ قُرْبِهِ وَمَشْهَدِ أُنْسِهِ فِي حَضْرَةِ قُدْسِهِ وَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ الْخَيْبَةِ وَالْحِرْمَانِ وَالْإِهَانَةِ وَالْخُسْرَانِ وَعَنْ أَسْنَى الْمَقَاصِدِ لِابْنِ عَلْوَانَ الْحَمَوِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى قَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ وَلَا وُضُوءَ لَهُمْ وَلَا صَلَاةَ لَهُمْ وَلَا زَكَاةَ لَهُمْ وَلَا حَجَّ لَهُمْ وَلَا إيمَانَ

لَهُمْ وَهُمْ عَنْ اللَّهِ مُبْعَدُونَ قِيلَ وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي إذَا سَمِعُوا الْأَذَانَ أَخَذُوا فِي جِهَازِهِمْ أَسْبَغُوا وُضُوءَهُمْ وَرَاحُوا إلَى مَسَاجِدِهِمْ وَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَوَلَّوْا ظُهُورَهُمْ إلَى مَحَارِيبِهِمْ يَخُوضُونَ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ فَوَاَللَّهِ لَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تَقُولُ لَهُمْ اُسْكُتُوا يَا بُغَضَاءَ اللَّهِ اُسْكُتُوا يَا مُقَتَاءَ اللَّهِ اُسْكُتُوا يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ اُسْكُتُوا فَعَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ فَإِذَا صَلَّوْا ضَرَبَتْ وُجُوهَهُمْ بِصَلَاتِهِمْ وَانْصَرَفُوا وَقَدْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّا نَأْتِي مِنْ دُورٍ شَتَّى فَقَالَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَا كَانَ لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ وَعْظٌ حَيْثُ يَقُولُ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَلَمْ يَقُلْ إلَى ذِكْرِ الدُّنْيَا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إنَّ الْجَلِيسَ فِي الْمَسْجِدِ جَلِيسُ اللَّهِ فَإِذَا وَقَرَّ اللَّهَ بِالسُّكُوتِ وَقَرَّهُ اللَّهُ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَمَنْ اسْتَهَانَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَلَامِ فِيهِ كَبَّهُ اللَّهُ فِي جَهَنَّمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَقَدْ قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً أَنْ يُرَخِّصَ فِي الْكَلَامِ فِي الْمَسْجِدِ فَمَا زَادَنِي فِيهِ إلَّا شِدَّةً - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ وَيَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا حِلَقًا ذِكْرُهُمْ الدُّنْيَا وَحُبُّ الدُّنْيَا لَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ حَاجَةٌ» وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْمَسْجِدِ لَغْوٌ إلَّا لِثَلَاثٍ مُصَلٍّ أَوْ ذَاكِرٍ أَوْ سَائِلٍ حَقًّا أَوْ مُعْطِيهِ وَرُوِيَ أَنَّ مَسْجِدًا مِنْ الْمَسَاجِدِ ارْتَفَعَ إلَى السَّمَاءِ شَاكِيًا مِنْ أَهْلِهِ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِكَلَامِ الدُّنْيَا فَاسْتَقْبَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَقَالُوا بُعِثْنَا بِإِهْلَاكِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَشْكُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَتْنِ فَمِ الْمُغْتَابِينَ وَالْقَائِلِينَ فِي الْمَسْجِدِ بِكَلَامِ الدُّنْيَا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى فِي مَسَاجِدِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ صِنْفٍ فِي صَلَاةٍ لَهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نُورٌ سَاطِعٌ وَصِنْفٍ فِي ذِكْرٍ مَعْرُوجٍ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصِنْفٍ صَامِتٍ سَالِمٍ فَانْتَقَلَ ذَلِكَ فَصَارَتْ الْمَسَاجِدُ مَعَادِنَ خَوْضِهِمْ وَمَوَاطِنَ لَهْوِهِمْ يَتَفَكَّهُونَ فِيهَا بِالْغِيبَةِ وَيُفِيدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا النَّمِيمَةَ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ قَائِمًا يُجَالِسُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا حَقُّهُ إلَّا خَيْرًا انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ ابْنِ عَلْوَانَ فِي أَسْنَى الْمَقَاصِدِ وَفِي الشِّرْعَةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْجِدِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَلَا يَحْتَرِفُ مِنْهَا وَوَرَدَ فِي الْأَثَرِ «الْحَدِيثُ فِي الْمَسَاجِدِ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ الْبَهِيمَةُ الْحَشِيشَ» كَذَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ وَقِيلَ عَنْ الْخِزَانَةِ هَذَا فِي التَّقْوَى. وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى فَجَائِزٌ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى الِاشْتِغَالَ بِذَكَرِ اللَّهِ أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ مِثْلِ هَذِهِ الْآثَارِ وَلِمَا وَقَعَ فِي نَحْوِ الْأَشْبَاهِ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَيُمْنَعُ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ فِي الْمَسَاجِدِ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ النَّقْلِ يُرَجَّحُ مَا يُوَافِقُ الْقِيَاسَ وَاَلَّذِي يَشْهَدُهُ النَّصُّ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَافْهَمْ وَأَمَّا حَدِيثُ «مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ الدُّنْيَا فِي الْمَسْجِدِ أَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» فَعَنْ الصَّغَانِيِّ مَوْضُوعٌ وَعَنْ عَلِيٍّ الْقَارِيّ بَاطِلٌ مَعْنًى وَمَبْنًى (وَيَدْخُلُ فِيهِ) فِي الْكَلَامِ الدُّنْيَوِيِّ (الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ) . وَكَذَا سَائِرُ كُلِّ عَقْدٍ بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ كَلَامِ الدُّنْيَا وَلَوْ بَيْعَ كُتُبٍ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ وَيُكْرَهُ الصِّنَاعَةُ فِيهِ مِنْ خِيَاطَةٍ وَكِتَابَةٍ بِأَجْرٍ وَتَعْلِيمِ صِبْيَانٍ بِأَجْرٍ اهـ فَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْفَتْوَى بِأَجْرٍ أَوْ بِثَمَنٍ وَلَوْ لِلْمُعْتَكِفِ لَعَلَّ الْحِيلَةَ أَنْ يَهَبَهَا الْمُفْتِي لِلْمُسْتَفْتِي بِلَا عَقْدِ إجَارَةٍ أَوْ بَيْعٍ ثُمَّ الْمُسْتَفْتِي يُعْطِيهِ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ وَأَمَّا تَجْوِيزُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ الِاعْتِكَافِ فَلَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ بِلَا نَقْلٍ صَحِيحٍ فَتَأَمَّلْ (لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ) لَا مُطْلَقًا بَلْ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ نَحْوِ الطَّعَامِ وَفِي الدُّرَرِ رُخِّصَ فِي الْمَسْجِدِ بِأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنَوْمٍ وَبَيْعٍ لِلْمُعْتَكِفِ وَلَكِنْ لَا يُحْضِرُ السِّلْعَةَ وَفِي الْأَشْبَاهِ وَيُكْرَهُ دُخُولُهُ لِمَنْ أَكَلَ ذَا رِيحٍ كَرِيهَةٍ وَيُمْنَعُ مِنْهُ وَكَذَا كُلُّ مُؤْذٍ فِيهِ وَلَوْ بِلِسَانِهِ وَمِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَكُلُّ عَقْدٍ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ إنْ لَمْ يُحْضِرْ السِّلْعَةَ فَتَأَمَّلْ. فَإِنَّ ظَاهِرَ الدُّرَرِ مُطْلَقٌ كَظَاهِرِ الْمُصَنِّفِ وَظَاهِرَ الْأَشْبَاهِ مُقَيَّدٌ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا عَنْ الذَّخِيرَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِمُسَاعِدَةِ قَاعِدَةِ الْحَمْلِ عِنْدَنَا فَالْبَيْعُ عِنْدَ إحْضَارِ السِّلْعَةِ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا وَعِنْدَ عَدَمِهِ جَائِزٌ لِلْمُعْتَكِفِ دُونَ غَيْرِهِ فَشِرَاءُ الْمُعْتَكِفِ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ إنَّمَا يَجُوزُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ قِيلَ وَهُوَ مُخْتَارُ قَاضِي خَانْ وَرَجَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ إلَى اللَّهِ فَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا

(وَ) يَدْخُلُ فِيهِ (إنْشَادُ الضَّالَّةِ) أَيْ طَلَبُهَا وَالسُّؤَالُ عَنْهَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ مَنْ وَجَدَ ضَالَّتِي فَأَعْطَانِيهَا فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ. وَفِي الْأَشْبَاهِ وَإِنْشَادُ الضَّالَّةِ وَالْأَشْعَارِ انْتَهَى فَمُحْتَاجٌ إلَى تَفْصِيلٍ لَا يَخْفَى (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ» بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ أَيْ يَطْلُبُ بِرَفْعِ صَوْتٍ «ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ» حَيَوَانًا ضَائِعًا فَفِي الْحَيَوَانِ يُقَالُ لَهُ ضَالَّةٌ وَفِي غَيْرِهِ ضَائِعٌ وَلُقَطَةٌ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ «فَلْيَقُلْ» قِيلَ نَدْبًا «لَا رَدَّهَا اللَّهُ» جُمْلَةٌ دِعَائِيَّةٌ لَعَلَّ هَذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فِيهِ لَا وَإِلَّا فَلَفْظُ لَا لَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي بِلَا تَكْرِيرٍ نَحْوَ لَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى «عَلَيْك» عُقُوبَةً عَلَى فِعْلِهِ «فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» . فَالْحُكْمُ مُعَلَّلٌ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فَمَا لَمْ تُبْنَ الْمَسَاجِدُ لَهُ فَلَا يُفْعَلُ فِيهَا كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضٌ وَفِي الْأَشْبَاهِ وَمَنْعُ صَلَاةِ الْمَيِّتِ وَيُكْرَهُ الْوُضُوءُ فِيهِ وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ لِلْمُصِيبَةِ وَلَا يَشْغَلُ الْمَسْجِدَ بِالْمَتَاعِ إلَّا لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ الْعَامَّةِ انْتَهَى مُسْتَصْفَى لَكِنْ يَشْكُلُ ذَلِكَ بِمَا فِي الْأَشْبَاهِ أَيْضًا وَيُسْتَحَبُّ عَقْدُ النِّكَاحِ فِيهِ وَجُلُوسُ الْقَاضِي فِيهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ بِنَصٍّ مُخَالِفٍ لِلْقِيَاسِ كَمَا يُشْعِرُ التَّعْبِيرُ بِالِاسْتِحْبَابِ وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فِيهِ كَمَا فِي النِّصَابِ فَإِنْ وَقْتَ الْخُطْبَةِ فَلَا تَجُوزُ وَلَوْ خِيفَ هَلَاكُ السَّائِلِ وَإِنْ قَبْلَهَا فَإِنْ فِي مَكَان وَاحِدٍ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَحَرَامٌ وَالْمُتَصَدِّقُ شَرِيكٌ فِي وِزْرِهِ لَكِنْ عَنْ الْمُلْتَقَطِ الْقَوْلُ بِكَرَاهَةِ التَّصَدُّقِ فِيهِ مُطْلَقًا وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ لَوْ كُنْت قَاضِيًا لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَةَ مَنْ تَصَدَّقَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِيِّ هَذَا فَلْسٌ يَحْتَاجُ إلَى سَبْعِينَ فَلْسًا لِيَصِيرَ كَفَّارَةً وَعَنْ النِّصَابِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَلَا لِيَقُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ فَلَا يَقُومُ أَحَدٌ إلَّا سُؤَّالُ الْمَسْجِدِ» وَفِي التَّنْبِيهِ حُرُمَاتُ الْمَسْجِدِ خَمْسَةَ عَشَرَ الْأَوَّلُ أَنْ يُسَلِّمَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَوْمُ مَشْغُولِينَ بِدَرْسٍ وَذِكْرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وَفِي نَحْوِ صَلَاةٍ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ الثَّانِي الصَّلَاةُ قَبْلَ الْجُلُوسِ الثَّالِثُ عَدَمُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الرَّابِعُ عَدَمُ سَلِّ السَّيْفِ الْخَامِسُ عَدَمُ طَلَبِ الضَّالَّةِ السَّادِسُ عَدَمُ رَفْعِ الصَّوْتِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى السَّابِعُ عَدَمُ التَّكَلُّمِ بِحَدِيثِ الدُّنْيَا الثَّامِنُ عَدَمُ تَخَطِّي رِقَابَ النَّاسِ التَّاسِعُ عَدَمُ نِزَاعِ

الحادي والأربعون وضع لقب سوء لمسلم

الْمَكَانِ الْعَاشِرُ عَدَمُ مُضَايِقَةِ أَحَدٍ فِي الصَّفِّ الْحَادِيَ عَشَرَ عَدَمُ مُرُورٍ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي الثَّانِيَ عَشَرَ عَدَمُ بُزَاقٍ فِيهِ الثَّالِثَ عَشَرَ عَدَمُ تَفَرْقُعِ أَصَابِعِهِ الرَّابِعَ عَشَرَ تَنْزِيهُهُ عَنْ النَّجَاسَاتِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ الْخَامِسَ عَشَرَ تَكْثِيرُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ وَفِي الْأَشْبَاهِ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةُ دُخُولِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَلَوْ عَلَى وَجْهِ الْعُبُورِ وَإِدْخَالُ نَجَاسَةٍ فِيهِ وَإِدْخَالُ مَيِّتٍ وَحُرْمَةُ إدْخَالِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إنْ غَلَبَ تَنْجِيسُهُمْ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ وَمَنْعُ إلْقَاءِ الْقَمْلَةِ بَعْدَ الْقَتْلِ وَحُرْمَةُ الْبَوْلِ وَإِنْ فِي إنَاءٍ وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَتُرَابُهُ إنْ مُجْتَمِعًا جَازَ الْأَخْذُ مِنْهُ وَمَسْحُ الرِّجْلِ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَا وَإِلْقَاءُ الْبُزَاقِ وَالنُّخَامَةِ فَإِنْ اضْطَرَّ دَفَنَهُ وَمَسْحُ طِينِ الرِّجْلِ عَلَى عَمُودِهِ وَاتِّخَاذُهُ طَرِيقًا بِلَا عُذْرٍ وَيُسْتَحَبُّ التَّحِيَّةُ لِدَاخِلِهِ فَإِنْ تَكَرَّرَ كَفَتْهُ رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَمُنِعَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ إلَّا لِلْمُتَفَقِّهَةِ وَإِخْرَاجُ الرِّيحِ مِنْ الدُّبُرِ وَيُسَنُّ كَنْسُهُ وَتَنْظِيفُهُ وَتَطْيِيبُهُ وَفَرْشُهُ وَإِيقَادُهُ وَتَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى عِنْدَ دُخُولِهِ وَعَكْسُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ وَمَنْ اعْتَادَ الْمُرُورَ يَفْسُقُ وَلَا يَجُوزُ إعَادَةُ أَدَوَاتِهِ لِمَسْجِدٍ آخَرَ. (خَاتِمَةٌ) أَعْظَمُ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ مَسْجِدُ قُبَاءَ ثُمَّ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ نَوَّرَهَا اللَّهُ ثُمَّ الْجَوَامِعُ ثُمَّ مَسَاجِدُ الْمَحَالِّ ثُمَّ مَسَاجِدُ الشَّوَارِعِ ثُمَّ مَسَاجِدُ الْبُيُوتِ انْتَهَى [الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَضْعُ لَقَبِ سُوءٍ لِمُسْلِمٍ] (الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَضْعُ لَقَبِ سُوءٍ لِمُسْلِمٍ) ابْتِدَاءً (وَذِكْرُهُ بِهِ) بَعْدَ وَضْعِ الْغَيْرِ (مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ التَّعْرِيفِ) أَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهِ فَجَائِزٌ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] أَوْ لَا يَدْعُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِلَقَبِ السُّوءِ فَإِنَّ النَّبْزَ مُخْتَصٌّ بِلَقَبِ السُّوءِ عُرْفًا وَ {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] فَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّنَابُزَ فِسْقٌ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ مُسْتَقْبَحٌ وَلِهَذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُغَيِّرُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ إلَى الْحَسَنِ كَتَغْيِيرِهِ أَصْرَمَ إلَى زُرْعَةَ وَالْمُضْطَجِعَ إلَى الْمُنْبَعِثِ وَعَاصِيَةَ إلَى جَمِيلَةَ. (وَأَمَّا اللَّقَبُ الْحَسَنُ فَجَائِزٌ)

الثاني والأربعون اليمين الغموس

إنْ مِنْ أَهْلِهِ لَعَلَّ لِهَذَا قَالَ فِي الشِّرْعَةِ وَلَا يُسَمِّي وَلَدَهُ بِمَا فِيهِ تَزْكِيَةٌ نَحْوَ الرَّشِيدِ وَالْأَمِينِ وَعَنْ تَنْبِيهِ الشَّعْرَانِيِّ أَنَّ اللَّقَبَ بِنَحْوِ مُحْيِي الدِّينِ وَنُورِ الدِّينِ وَعَضُدِ الدِّينِ وَغِيَاثِ الدِّينِ وَمُعِينِ الدِّينِ وَنَاصِرِ الدِّينِ وَعِصَامِ الدِّينِ كَذِبٌ وَبِدْعَةٌ وَمُنْكَرٌ سِيَّمَا فِي نَحْوِ الْفَاسِقِ وَالْجَاهِلِ بَلْ لَوْ كَانُوا كَذَلِكَ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّزْكِيَةِ فَكَيْفَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ الْمَجَازِ فَضْلًا عَنْ الْحَقِيقَةِ انْتَهَى أَقُولُ لَا يَبْعُدُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي الْأَوْلَادِ تَجَوُّزًا وَتَفَاؤُلًا بِطَرِيقِ الْأَوَّلِ أَوْ الْقُوَّةِ وَالشَّأْنِ أَوْ لِلْقَابِلِيَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَإِلَّا فَلَا يَخْلُو جِنْسُ ذَلِكَ عَنْ أَكْثَرِ الْأَسَامِي نَحْوُ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ دَلَّا عَلَى ذَاتِ الْمُسَمَّى فَقَطْ لَكِنَّهُمَا يُشْعِرَانِ بِمَعْنَاهُمَا الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَا يَخْلُو عَنْ التَّزْكِيَةِ. وَأَمَّا فِي الْكِبَارِ فَإِنَّ مِنْ الْأَبْرَارِ كَمُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كِبَارِ الْمَشَايِخِ فَلَعَلَّهُ إمَّا مِنْ الْغَيْرِ أَوْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِلتَّحَدُّثِ بِالنِّعَمِ أَوْ لِتَرْوِيجِ مَقَالَاتِهِمْ الشَّرْعِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي قَبُولِ أَقْوَالِهِمْ وَلَوْ لَمْ تَصْدُقْ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ فَلَا يَخْفَى صِدْقُهَا فِي الْبَعْضِ كَإِحْيَاءِ بَعْضِ الشَّرِيعَةِ مَثَلًا وَشَأْنُ أَهْلِ التَّصَوُّفِ حُسْنُ الظَّنِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَبْرَارِ فَكَمَا قَالَ وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ كَزَكِيِّ الدِّينِ وَمُحْيِي الدِّينِ وَنَحْوِهِمَا وَيُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ هُوَ صَادِقٌ فِي وَصْفِهِ أَوْ كَاذِبٌ وَلَوْ جَائِزًا لَسَبَقَ إلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ وَهُمْ إمَامُ الْأَخْيَارِ كَالصَّحَابَةِ وَلِهَذَا كَانَ النَّوَوِيُّ يَكْرَهُ أَنْ يُسَمَّى بِمُحْيِي الدِّينِ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضٍ أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّيهِ بِمُحَمَّدٍ النَّوَوِيِّ لَا بِمُحْيِي الدِّينِ فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ أَنَا أَكْرَهُ أَنْ أُسَمِّيَهُ بِاسْمٍ يَكْرَهُهُ فِي حَيَاتِهِ انْتَهَى. أَيْضًا وَأَنْتَ تَعْلَمُ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهُ كَمَا تَرَى كَيْفَ وَمِثْلُ هَذَا يُفْضِي إلَى تَخْطِئَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ لَعَلَّ الْحَقَّ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ مَنُوطٌ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَغْرَاضِ. [الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ] (الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ) لِغَمْسِ صَاحِبِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالنَّارِ (وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا) وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ وَظَنَّ صِدْقَهُ يَكُونُ لَغْوًا كَوَاللَّهِ مَا فَعَلْت كَذَا عَالِمًا بِفِعْلِهِ وَحُكْمُهُ الْإِثْمُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

الثالث والأربعون اليمين بغير الله تعالى

«مَنْ حَلَفَ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» وَأَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ وَهُوَ حَلِفُهُ كَاذِبًا يَظُنُّهُ صَادِقًا فَلَا إثْمَ فِيهَا بَلْ يُرْجَى الْعَفْوُ. وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ وَهِيَ حَلِفُهُ عَلَى آتٍ فَإِثْمُهَا دَائِرٌ عَلَى الْكَفَّارَةِ (خ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْكِتَابِ بِالْوَاوِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي بَعْضِهَا بِلَا وَاوٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) وَعَنْهُمْ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» الْمُسْلِمَيْنِ بِأَنْ يَفْعَلَ الْوَلَدُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدُ تَأَذِّيًا لَيْسَ بِهَيِّنٍ مَعَ عَدَمِ كَوْنِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ ذَكَرَهُ الْمُنَاوِيُّ عَنْ النَّوَوِيِّ «وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» قِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ مِنْ قَبِيلِ الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرُ جَمِيعِ الْكَبَائِرِ وَلَا أَكْبَرُهَا قِيلَ الْمَذْكُورَاتُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَلَا يَلْزَمُ اسْتِوَاءُ رُتْبَتِهَا. وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ لَا يُقَالُ كَيْفَ يَصِحُّ الْحَصْرُ فِيمَا ذُكِرَ وَفِي أَحَادِيثِ أُخَرَ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَى فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مَا أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَوْ سَنَحَ لَهُ بِاقْتِضَاءِ أَحْوَالِ السَّائِلِ وَتَفَاوُتِ الْأَوْقَاتِ فَالْأَضْبَطُ أَنْ تُجْمَعَ وَتُجْعَلَ مَقِيسًا عَلَيْهَا كَمَا بَيَّنَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ كَمَا فِي الْفَيْضِ (حك عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَعُدُّ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كَفَّارَةٌ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ) لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي ذَنْبٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُكَفَّرَ كَقَتْلِ الْخَطَأِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمْدِ فَفِيهَا كَمَالُ الْجِنَايَةِ كَقَتْلِ الْعَمْدِ فَلَا يَفْعَلُهُ الْعَاقِلُ وَإِنْ صَدَرَتْ يَتَدَارَكُهُ فَوْرًا بِالِاسْتِغْفَارِ. (م عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» أَوْ ذِمِّيٍّ «بِيَمِينِهِ» مَالًا أَوْ لَا كَحَدِّ الْقَذْفِ «فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» إنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ وَإِلَّا فَلَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى التَّأْبِيدِ بَلْ إنَّمَا أَخْرَجَهُ الشَّارِعُ هَذَا الْمَخْرَجَ تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ وَمُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ لِاعْتِدَائِهِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى حَيْثُ هَتَكَ حُرْمَةً بَعْدَ حُرْمَةٍ بِاقْتِطَاعِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَاسْتِخْفَافِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ رِعَايَتُهُ وَهُوَ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ وَالْأُخُوَّةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ «قَالُوا وَإِنْ كَانَ» حَقُّهُ «شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا» وَهُوَ قِطْعَةُ غُصْنٍ «مِنْ أَرَاكٍ» بِالْفَتْحِ شَجَرُ السِّوَاكِ وَفِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ عِنْدَ الْبَيْعِ مُنْفِقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْكَسْبِ أَيْ مُرَوِّجَةٌ لِلسِّلْعَةِ وَمَاحِيَةٌ لِلْكَسْبِ، وَفِي حَدِيثِ الدَّيْلَمِيِّ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَذْهَبُ بِالْمَالِ وَتَذَرُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ أَيْ خَرَابًا [الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى] (الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى) نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا أَوْ مُصْحَفًا أَوْ سُلْطَانًا أَوْ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ (وَهَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ بِطَرِيقِ

التَّعْلِيقِ فَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ غَيْرَ الْكُفْرِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ) نَحْوُ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ أَوْ عَلَيَّ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ (فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُكْرَهُ) مُطْلَقًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْتِزَامِ مَا لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ يُهْمِلُ فَيَقَعُ فِي الْخَطَرِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ يُكْرَهُ فِي الْمَاضِي وَلَا يُكْرَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ (وَعِنْدَ عَامَّتِهِمْ لَا يُكْرَهُ) مُطْلَقًا لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى نَفْسِهِ مَنْعًا وَإِقْدَامًا وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ نَهْيٌ قَالَ فِي الدُّرَرِ الْيَمِينُ تَقْوِيَةُ الْخَبَرِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ التَّعْلِيقِ وَهَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ وَضْعًا وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِحُصُولِ مَعْنَى الْيَمِينِ بِهِ وَهُوَ الْحَمْلُ وَالْمَنْعُ وَعَنْ الْكَافِي الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَشْرُوعٌ وَهُوَ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ فَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ مُطْلَقُ الْجَوَازِ يَعْنِي بِلَا كَرَاهَةٍ (وَإِنْ كَانَ) الْمُعَلَّقُ (كُفْرًا فَحَرَامٌ) مُطْلَقًا لَعَلَّ وَجْهَهُ تَجْوِيزُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ كَالْمُحَالِ عِنْدَهُ (ثُمَّ إنْ كَانَ صَادِقًا) أَيْ بَارًّا فِي حَلِفِهِ (يَكْفُرُ) لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ لَا يَتَحَقَّقُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ الشَّرْطُ وَأَنَّهُ إذَا انْتَفَى الشَّرْطُ يَنْتَفِي الْمَشْرُوطُ (وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا) فِيهِ (فَهَذَا) التَّعْلِيقُ (مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) لِاسْتِلْزَامِهِ تَجْوِيزَ الْكُفْرِ بَلْ وُقُوعَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلِمَا سَيَذْكُرُ مِنْ الْأَثَرِ (حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ كُفْرٌ مُطْلَقًا) نَوَى الْيَمِينَ أَوْ لَا يَكُونُ كُفْرًا فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ لَا أَوْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ وَفِي الدُّرَرِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ وَالتَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ هُوَ كَافِرٌ وَفِي الْبَحْرِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ فَعَلَ فَيَمِينٌ غَمُوسٌ فَلَيْسَ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَهَلْ يَكْفُرُ قِيلَ لَا وَقِيلَ نَعَمْ لِأَنَّهُ تَنْجِيزٌ مَعْنًى لِتَعْلِيقِهِ بِأَمْرٍ كَائِنٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ ابْتِدَاءً أَنَا كَافِرٌ (خ م عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا» عَالِمًا بِكَذِبِهِ «فَهُوَ كَمَا قَالَ» أَيْ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْمِلَّةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي كُفْرِ الْحَالِفِ كَذِبًا (دمج حك عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ» وَقَوْلُ «قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ» بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِلْحَلِفِ أَيْ إنْ فَعَلْت «فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا» فِي حَلِفِهِ «فَهُوَ كَمَا قَالَ» مِنْ الْبَرَاءَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ اسْتِشْهَادَ الْمُصَنِّفِ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا تَأْوِيلٍ فَمَنْ قَالَ هُنَا إنِّي بَرِيءٌ مِنْهُ إنْ قَصَدَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّبْعِيدِ وَالتَّقْبِيحِ وَالتَّخْوِيفِ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَ الْمَقَامِ «وَإِنْ كَانَ صَادِقًا» فِيهِ «فَلَنْ يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا» مِنْ الْمَعَاصِي وَالْمَخَاوِفِ بَلْ عَلَيْهِ تَبِعَةُ يَمِينِهِ فِيهِ حُرْمَةُ الْحَلِفِ بِالْكُفْرِ وَلَوْ صَادِقًا فِي يَمِينِهِ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ آنِفًا وَإِنْ كَانَ كُفْرًا فَحَرَامٌ فَمَنْ قَالَ هُنَا أَيْضًا فَإِنْ قَصَدَ تَبْعِيدَ نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فَقَدْ بَعُدَ عَنْ مَرَامِ الْمَقَامِ أَيْضًا (حك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ» أَيْ عَلَى يَمِينِ أَيِّ مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ «فَهُوَ كَمَا حَلَفَ إنْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ» إنْ فَعَلَ كَذَا «فَهُوَ يَهُودِيٌّ وَإِنْ قَالَ هُوَ نَصْرَانِيٌّ فَهُوَ نَصْرَانِيٌّ وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ» أَيْ فَهُوَ كَمَا قَالَ حُذِفَ اكْتِفَاءً

بِسَابِقِهِ ظَاهِرُهُ هُوَ الْكُفْرُ مُطْلَقًا صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا وَالْمَطْلُوبُ وَالْمَسْأَلَةُ تَقْيِيدُهُ فَافْهَمْ وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ نَصْرَانِيٌّ عُمُومُ مَجَازٍ شَامِلٍ لِلْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إلَخْ لَا يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ وَيَكُونُ تَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ مَا يَلْزَمُهُمَا (وَ) ظَاهِرُ (هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ كُفْرٌ كَاذِبًا كُفْرٌ) خَبَرُ تَعْلِيقَ لَكِنْ قَوْلُهُ كَاذِبًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ كَمَا أُشِيرَ (مُطْلَقًا) نَوَى الْيَمِينَ أَوْ لَا مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا (وَ) جُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةِ) وَإِلَّا فَلَا يَتِمُّ قَوْلُهُ آنِفًا حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ كُفْرٌ مُطْلَقًا وَقَدْ سَمِعْت مِنْ الدُّرَرِ قَوْلَ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ وَقَوْلَ الْبَحْرِ (قَيَّدُوهُ) أَيْ كَوْنَ التَّعْلِيقِ الْمَذْكُورِ كُفْرًا (بِمَا إذَا لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ) سَوَاءٌ نَوَى الْكُفْرَ حَقِيقَةً أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ (وَإِلَّا) أَيْ إنْ نَوَى الْيَمِينَ (فَيَمِينٌ لَا كُفْرٌ) لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ لَفْظِهِ (مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا) لَكِنْ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي لِأَنَّهَا غَمُوسٌ لَا كَفَّارَةٌ لِإِثْمِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُؤَوِّلُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْوَعِيدِ لَا الْحُكْمِ بِأَنَّهُ صَارَ يَهُودِيًّا أَوْ بَرِيئًا مِنْ الْإِسْلَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِمِثْلِ عَذَابِ مَا قَالَ وَنَظِيرُهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ صَلَاةً عَمْدًا فَقَدْ كَفَرَ» أَيْ اسْتَوْجَبَ عُقُوبَةَ الْكَافِرِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْكَلَامِ يُسَمَّى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَمِينًا وَهَلْ تَتَعَلَّقُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهِ فَذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إلَى أَنَّهُ يَمِينٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ إنْ كَانَ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَاضِي يَكُونُ غَمُوسًا لَيْسَ لَهُ كَفَّارَةٌ لِإِثْمِهِ فِي الدُّنْيَا سِوَى التَّوْبَةِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ إنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَةٍ فِيهِ لَكِنْ الْقَائِلُ بِهِ آثِمٌ صَدَقَ فِيهِ أَوْ كَذَبَ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفِي الْمُجْتَبَى وَالذَّخِيرَةِ وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ إنْ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِهِ يَكْفُرُ وَإِلَّا فَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي جَمِيعًا وَفِي الْبَحْرِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا أَنَّهُ يَمِينٌ إمَّا مُنْعَقِدَةٌ أَوْ غَمُوسٌ لَا يَكْفُرُ بِالْمَاضِي وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْغَمُوسِ أَوْ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَكْفُرُ فِيهِمَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالْكُفْرِ. (وَ) الْقِسْمُ (الثَّانِي) مِنْ الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى (مَا كَانَ بِحَرْفِ الْقَسَمِ فَهَذَا) الْقِسْمُ (كَبِيرَةٌ يُخَافُ مِنْهُ الْكُفْرُ) وَفِي النِّصَابِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقُولَ لَعَمْرُ فُلَانٍ وَلَعَمْرُكَ فَإِنْ قَالَ كَذَلِكَ يَكُونُ آثِمًا وَإِنْ قَالَ لَعَمْرُ فُلَانٍ وَبَرِئَ فِي يَمِينِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَبِيرَةً وَبَعْضُهُمْ قَالُوا يَكْفُرُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِهَذَا فَإِذَا حَلَفَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبَرَّهُ وَيَجِبُ أَنْ يُخْلِفَ (طب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا أَنَّهُ قَالَ لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَادِقًا) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَلَوْ كَانَ صَادِقًا أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةُ أَخَفُّ مِنْ الشِّرْكِ وَفِي الْمُحِيطِ أَخَافُ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِحَيَاتِي وَبِحَيَاتِك وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الْكُفْرَ فَلَوْلَا أَنَّ الْعَامَّةَ يَقُولُونَ وَلَا يَعْلَمُونَ بِهِ لَقُلْت إنَّهُ شِرْكٌ لِأَنَّهُ لَا يَمِينَ إلَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ كَمَا فِي النِّصَابِ لَكِنْ فِي الْهِدَايَةِ إذَا أَلَحَّ الْخَصْمُ قِيلَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَلِّفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ (ت حب حك عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

يَقُولُ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ» شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي أَيْ إذَا اعْتَقَدَ تَعْظِيمَهُ بِحَلِفِهِ وَإِلَّا فَلَا وَفِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى قَالَ عَلِيٌّ الْبَزَّازِيُّ أَخَافُ عَلَى مَنْ قَالَ بِحَيَاتِي وَحَيَاتِك أَنَّهُ يَكْفُرُ وَلَوْلَا أَنَّ الْعَامَّةَ يَقُولُونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَهُ لَقُلْت إنَّهُ شِرْكٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ فَعَلَ فِعْلَ الْكَافِرِ أَوْ الْمُشْرِكِ وَقِيلَ إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ لَكِنْ فِي الْفَيْضِ أَنَّهُ تَكَلُّفٌ وَنُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْحَصِيرِيِّ أَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ تَحْقِيقُ مَا قَصَدَهُ مِنْ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ لَا تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ فِي الْمَوَاثِيقِ وَالْخُصُومَاتِ وَقِيلَ يُكْرَهُ لِقَوْلِهِ مَلْعُونٌ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ قِيلَ فِيهِ كَلَامٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِي الْفَيْضِ عَنْ النَّوَوِيِّ وَمِنْ الْمَكْرُوهِ قَوْلُ الصَّائِمِ وَحَقُّ هَذَا الْخَاتَمِ الَّذِي عَلَى فَمِي (خ م عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» إنَّ الْحَلِفَ بِشَيْءٍ يَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ وَالْعَظَمَةُ حَقِيقَةً إنَّمَا هِيَ لَهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْفَيْضِ خَبَرُ «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ» لِأَنَّ تِلْكَ كَلِمَةٌ جَرَتْ عَلَى لِسَانِهِمْ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلْقَسَمِ فَيُكْرَهُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَنْزِيهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعَلَى الْأَشْهَرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَتَحْرِيمًا عِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ وَعَلَى الْأَشْهَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَقُولُ الْمَفْهُومُ مِنْ الْمَنْقُولِ عَنْ الْكَافِي أَنَّهُ مَكْرُوهٌ أَيْضًا عِنْدَ بَعْضٍ مِنَّا وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ وَقَالَ فِي الْمَطَامِحِ وَتَخْصِيصُ الْأَبِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ وَإِلَّا فَالنَّهْيُ عَامٌّ انْتَهَى (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ تَعَالَى) لَا بِغَيْرِهِ كَالْكَعْبَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثُ «مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِرَبِّ الْكَعْبَةِ يَعْنِي لَا بِالْكَعْبَةِ» فَإِنَّ الْحَلِفَ بِمَخْلُوقٍ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَإِنْ عَظِيمًا كَالْكَعْبَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِقْسَامُهُ تَعَالَى بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهَا وَأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72] خِطَابًا لِحَبِيبِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ الْمُحَشِّي وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا أَوْ أَبًا أَوْ جَدًّا أَوْ رَأْسَ الشَّيْخِ أَوْ السُّلْطَانِ أَوْ الْوَلَدِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (أَوْ لِيَصْمُت مج عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَلْيَصْدُقْ» فِي حَلِفِهِ وَلَا يَكْذِبُ فِيهِ «وَمَنْ حُلِفَ» فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ «لَهُ» عَلَى شَيْءٍ «بِاَللَّهِ فَلْيَرْضَ» ذَلِكَ الْمُحَلِّفُ بِيَمِينِهِ فَالْمُؤْمِنُ إذَا قَالَ صَدَقَ وَإِذَا قِيلَ صَدَّقَ فَلَا يَطْلُبُ الْحَلِفَ بِغَيْرِهِ تَعَالَى كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ «وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاَللَّهِ» بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ «فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ» مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ رَحْمَتَهُ أَوْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكِنْ قَرَّرَ فِي الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إذَا أَلَحَّ الْخَصْمُ

الرابع والأربعون كثرة الحلف ولو على الصدق

أَنْ يُحَلِّفَهُ بِنَحْوِ الطَّلَاقِ فَلِلْقَاضِي ذَلِكَ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ فِي زَمَانِنَا وَقَرَّرَ أَيْضًا كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ إذَا نَكَلَ لَا يَقْضِي وَإِذَا قَضَى لَا يَنْفُذُ قَالُوا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ خَصْمُهُ احْلِفْ لِي بِالطَّلَاقِ حَتَّى أُصَدِّقُك فَهُوَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. لَكِنْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ» قِيلَ وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ كَمَا عَرَفْت أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَفْهُومُ عَنْ بَعْضٍ أَنَّهُ إنْ بِالْمَاضِي فَمَكْرُوهٌ مُطْلَقًا وَإِنْ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ لِلْوَثِيقَةِ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ فِي زَمَانِنَا وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ أَيْضًا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا نُقِلَ عَنْ الْبَحْرِ وَعَنْ الْبَعْضِ إنْ أُضِيفَ إلَى الْمَاضِي فَمَكْرُوهٌ وَإِلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَا وَهُوَ الْأَحْسَنُ وَفِي الْخُلَاصَةِ فَجَائِزٌ إنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ وَرَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ وَعَنْ الْقُنْيَةِ وَقَوْلُ الْجَاهِلِ بِاَللَّهِ " بخداي ويبغامبر " هَذَا حَلِفٌ وَفِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ إنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ. [الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ كَثْرَةُ الْحَلِفِ وَلَوْ عَلَى الصِّدْقِ] (الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ كَثْرَةُ الْحَلِفِ وَلَوْ عَلَى الصِّدْقِ) لِاسْتِهَانَتِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْقَسَمِ وَاعْتِيَادِ لِسَانِهِ عَلَى ذَلِكَ وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا حَلَفْت لَا صَادِقًا وَلَا كَاذِبًا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً} [البقرة: 224] جُنَّةً وَمَحَلًّا {لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] عَنْ الْمِصْبَاحِ يُقَالُ فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ أَيْ مُعْتَرِضٌ لَهُمْ فَلَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِيهِ وَقِيلَ الْعُرْضَةُ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْقُبْضَةِ يُطْلَقُ لِمَا يَعْرِضُ دُونَ الشَّيْءِ وَلِلْمُعْرِضِ لِلْأَمْرِ؛ وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى الْأَوَّلِ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ حَاجِزًا لِمَا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَيْمَانِ الْأُمُورَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا وَعَلَى الثَّانِي وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مَعْرِضًا لِأَيْمَانِكُمْ فَتَبْذُلُوهُ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَلْعَبَ بِاسْمِ رَبِّهِ فِي مَحَلِّ اللَّعِبِ وَلَا فِي مَحَلٍّ لَيْسَ مَحَلًّا لِلتَّعْظِيمِ {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} [القلم: 10] كَثِيرِ الْحَلِفِ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ {مَهِينٍ} [القلم: 10] حَقِيرِ الرَّأْيِ مِنْ الْمَهَانَةِ وَهِيَ الْحَقَارَةُ

(حب عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْحَلِفُ حِنْثٌ أَوْ نَدَمٌ» أَيْ مَآلُهُ إمَّا هَذَا أَوْ ذَاكَ أَيْ إذَا حَلَفْت حَنِثْت أَوْ فَعَلْت مَا لَا تُرِيدُ كَرَاهَةً لِلْحِنْثِ فَتَنْدَمُ أَوْ الْمُرَادُ إنْ كَانَ صَادِقًا نَدِمَ أَوْ كَاذِبًا حَنِثَ وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الذَّهَبِيِّ ضَعَّفَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ (طط عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ افْتَدَى يَمِينَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ) حِينَ ادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ كَاذِبًا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَطَلَبَ يَمِينَهُ (ثُمَّ قَالَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ لَوْ حَلَفْت حَلَفْت صَادِقًا وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ افْتَدَيْت بِهِ يَمِينِي د عَنْ أَشْعَثَ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ اشْتَرَيْت يَمِينِي مَرَّةً بِسَبْعِينَ أَلْفًا) مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَفِي الدُّرَرِ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَأَعْطَى شَيْئًا وَافْتَدَى يَمِينَهُ بِمَالٍ (اعْلَمْ أَنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى صَادِقًا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ صَدَرَ مِنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَمَا قَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ (وَمِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ) وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) قَطْعًا لِلشُّبْهَةِ وَتَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ فَعِنْدَ الْحَاجَةِ يَكُونُ مَنْدُوبًا حُكِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ وَأَمَّا حَدِيثُ «مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ صَادِقًا كَمَنْ سَبَّحَ اللَّهَ تَعَالَى» فَقِيلَ قَدْ تَرْجَمَهُ السَّخَاوِيُّ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ صِدْقٌ وَصَوَابٌ لِأَنَّهُ إنْ صَادِقًا فَذِكْرٌ مُوَافِقٌ وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَا عَلِمْته فِي الْمَرْفُوعِ أَقُولُ كَوْنُ تَرْكِهِ مَحْمُودًا فِي الْخُصُومَاتِ وَمَا يَكُونُ فِعْلُهُ مَحْمُودًا كَمَا صَدَرَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ بَلْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ وَفِي غَيْرِهَا كَمَا تَشْهَدُ مَوَاضِعُ وُجُودِهِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا (وَلَكِنْ إكْثَارُهُ مَكْرُوهٌ) قِيلَ تَنْزِيهًا (لِمَا سَبَقَ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فَمَنْ أَبَى مِنْ السَّلَفِ) كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا (فَيُحْمَلُ إمَّا عَلَى الِاتِّقَاءِ مِنْ التُّهْمَةِ) أَيْ تُهْمَةِ الْحَلِفِ كَاذِبًا عِنْدَ مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِالْمُدَّعِي وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ وَفِي الدُّرَرِ لَوْ حَلَفَ وَقَعَ فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ فَبَعْضٌ يُصَدِّقُ وَبَعْضٌ يُكَذِّبُ فَإِذَا افْتَدَى صَانَ عِرْضَهُ وَهُوَ حَسَنٌ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ذُبُّوا عَنْ أَعْرَاضِكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ»

الخامس والأربعون سؤال الإمارة والقضاء

(أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَدْعُوَ إلَى تَكْثِيرِ الْحَلِفِ) الْمُخِلِّ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ (أَوْ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الْيَمِينِ) لِأَنَّ السَّلَفَ إذَا أَبَوْا مِنْهَا صَادِقِينَ لِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ الْخَوْفُ مِنْ مُدَاخَلَةِ الْحَلِفِ كَاذِبًا كَمَا قَالَ (لِيَخَافَ النَّاسُ مِنْ الْغَمُوسِ أَشَدَّ الْخَوْفِ أَوْ نَحْوَهَا) مِمَّا يَكُونُ بَاعِثًا إلَى الْإِبَاءِ مِثْلَ الِاحْتِيَاطِ وَالِالْتِبَاسِ [الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ] (الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ) وَكَذَا الشَّفَاعَةُ وَالِاسْتِشْفَاعُ وَنَحْوُهُمَا سُؤَالُ أَمْرِ الْفَتْوَى وَتَوْلِيَةِ الْأَوْقَافِ وَالْوِصَايَةِ (فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ كَسُؤَالِ الْمَالِ) قِيلَ لَكِنَّهُ أَدْنَى مِنْ سُؤَالِ الْمَالِ فِي الْحُرْمَةِ وَقَالَ مَكْحُولٌ لَوْ خُيِّرْت بَيْنَ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ ضَرْبِ عُنُقِي لَاخْتَرْت ضَرْبَ عُنُقِي عَلَى الْقَضَاءِ قِيلَ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْخَطِيبِ (خ م عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ «مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ» أَيْ سُؤَالٍ «أُعِنْت عَلَيْهَا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْضًا أَيْ أَعَانَك اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْإِمَارَةِ وَحَفِظَك مِنْ الْإِثْمِ فِيهَا لِأَنَّ عَمَلَك يَكُونُ لِطَاعَةِ الْإِمَامِ وَطَاعَةُ الْإِمَامِ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمِنْ يُطِعْ اللَّهَ يُعِنْهُ «وَإِنْ أَنْتَ أُعْطِيتهَا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ «عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا» بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَالْكَافُ مُخَفَّفَةٌ أَيْ خُلِيت يَعْنِي لَا يُعِينُك اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا لِأَنَّك حَرَصْت عَلَى الْمَنْصِبِ وَالْجَاهِ فَلَا يَكُونُ عَمَلُك لِلَّهِ فَلَمْ يُعِنْكَ فَلَا تَتَحَصَّلُ رِعَايَةُ حُقُوقِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ بَحْرٌ عَمِيقٌ يَحْتَاجُ إلَى تَوْفِيقٍ وَيَدْخُلُ فِي الْإِمَارَةِ الْقَضَاءُ وَالْحِسْبَةُ وَعُورِضَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَخْرِيجِ أَبِي دَاوُد «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ يَنَالُهُ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» لِأَنَّ الْعَدْلَ إعَانَةٌ مِنْهُ تَعَالَى مَعَ أَنَّهُ نَالَهُ بِالطَّلَبِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يُعَانُ بِسَبَبِ طَلَبِهِ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ الْعَدْلُ إذَا وَلِيَ أَوْ يُحْمَلُ الطَّلَبُ هُنَا عَلَى الْقَصْدِ وَهُنَاكَ عَلَى التَّوْلِيَةِ أَقُولُ لَعَلَّ الْمُرَادَ عَدَمُ الْإِعَانَةِ فِي الْجَمِيعِ أَوْ الْأَكْثَرِ وَمَا غَلَبَ عَدْلُهُ فِي الْقَلِيلِ أَوْ لَفْظُ مِنْ لَيْسَ قَطْعِيًّا فِي الْعُمُومِ وَلَوْ جُعِلَ مَوْصُولًا أَوْ مَوْصُوفًا لَاتَّضَحَ الْأَمْرُ زِيَادَةَ اتِّضَاحٍ (د ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ ابْتَغَى» طَلَبَ «الْقَضَاءِ وَسَأَلَ فِيهِ» فِي حَقِّهِ «شُفَعَاءَ» يَشْفَعُونَ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ «وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ» وَمَنْ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ أَعْدَى عَدُوِّهِ وَتَرَكَ اللَّهُ نَصْرَهُ وَعَوْنَهُ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ رِعَايَةُ حُقُوقِ الْقَضَاءِ وَإِجْرَاءُ الشَّرْعِ كَمَا يَنْبَغِي وَقَدْ وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ لَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَإِنْ تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي تُقَرِّبُنِي إلَى الشَّرِّ وَتُبَاعِدُنِي عَنْ الْخَيْرِ «وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» أَيْ يُلْهِمُهُ السَّدَادَ وَيُوَفِّقُهُ لِلصَّوَابِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَلِيهِ إلَّا بِإِكْرَاهٍ فَلَا سَبِيلَ إلَى الشُّرُوعِ فِيهِ إلَّا بِالْإِكْرَاهِ وَفِي الْإِكْرَاهِ قَمْعُ هَوَى

النَّفْسِ وَحِينَئِذٍ يُسَدَّدُ إلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ يَشْكُلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف: 55] وَعَنْ سُلَيْمَانَ عَلَى نَبِيِّنَا - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35] وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الشَّرِيعَةَ السَّابِقَةَ الْمَحْكِيَّةَ لَنَا إنَّمَا تَكُونُ شَرِيعَةً لَنَا إذَا لَمْ تُنْكَرْ وَمِثْلُ مَا ذَكَرَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إنْكَارًا لَنَا أَوْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ لِعِصْمَتِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ دَخَلَ الْقَضَاءَ بِلَا طَلَبٍ ثُمَّ تَرَكَهُ مُدَّةً ثُمَّ دَخَلَهُ ثَانِيًا قَالَ وَعِنْدَ الْقَضَاءِ كَانَ لِي مُنَاسَبَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنْت أَرَاهُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً فَتَرَكْت لِزِيَادَةِ قُرْبِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقُطِعَتْ الْمُنَاسَبَةُ الْأُولَى بِالْكُلِّيَّةِ فَدَخَلْت مَرَّةً أُخْرَى فَرَأَيْته فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ تَرَكْت الْقَضَاءَ لِيَزِيدَ قُرْبَى وَكَانَ خِلَافُهُ فَقَالَ الْمُنَاسَبَةُ عِنْدَ الْقَضَاءِ أَزْيَدُ مِمَّا عِنْدَ التَّرْكِ لِأَنَّ عِنْدَ الْقَضَاءِ تَشْتَغِلُ بِإِصْلَاحِ نَفْسِك وَإِصْلَاحِ أُمَّتِي وَعِنْدَ التَّرْكِ تَشْتَغِلُ بِنَفْسِك فَقَطْ كَمَا فِي الشَّقَائِقِ وَيَشْكُلُ أَيْضًا بِعَدَمِ قَبُولِ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ الْإِكْرَاهِ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْقَبُولُ لِتَسْدِيدِ الْمِلْكِ وَفِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكٍ أَحْضَرَ الْمَنْصُورُ الْإِمَامَ إلَى بَغْدَادَ وَطُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَهَرَبَ فَحَكَمَ بِحَبْسِهِ وَضَرْبِهِ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ حَتَّى ضُرِبَ مِائَةً وَعَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَلَمَّا تَتَابَعَ عَلَيْهِ الضَّرْبُ بَكَى وَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا فَمَاتَ مَحْبُوسًا مَبْطُونًا قِيلَ فَلَمَّا أَبَى دَسُّوا إلَيْهِ السُّمَّ فَقَتَلُوهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْنِهِ لِلزِّحَامِ إلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي السِّجْنِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ أَنَّهُ مَاتَ بِالضَّرْبِ أَوْ السُّمِّ وَالتَّوْفِيقُ أَنَّهُ سُقِيَ السُّمَّ ثُمَّ ضُرِبَ مَصْلُوبًا حَتَّى يَتَفَرَّقَ السُّمُّ وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ السُّمِّ قِيلَ دَسُّوا إلَيْهِ السُّمَّ وَلَمْ يَعْرِفْهُ وَقِيلَ أُكْرِهَ فَامْتَنَعَ وَقَالَ أَعْلَمُ مَا فِيهِ وَلَا أُعِينُ عَلَى نَفْسِي فَطُرِحَ وَصُبَّ فِي فَمِهِ فَلَمَّا أَحَسَّ بِمَوْتِهِ سَجَدَ فَمَاتَ سَاجِدًا وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَرَى لِلْإِمَامِ مِثْلُهُ مَعَ ابْنِ أَبِي هُبَيْرَةَ مَرَّةً أُخْرَى فِي أَيَّامِ الْمَرْوَانِيَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُولَى قَضَاءَ الْكُوفَةِ فَأَبَى فَحَبَسَهُ وَضُرِبَ سِيَاطًا عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى انْتَفَخَ رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ فَلَمْ يَقْبَلْ فَقَالَ ضَرْبَةٌ فِي الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ مَقَامِعِ الْحَدِيدِ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ قَالَ أُشَاوِرُ أَصْحَابِي فَأَخْرَجَهُ مِنْ السِّجْنِ فَهَرَبَ إلَى مَكَّةَ إلَى الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ فَجَاءَ زَمَنُ الْخَلِيفَةِ الْمَنْصُورِ فَأَكْرَهَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ وَالْجَوَابُ أَنَّ تَسْدِيدَ الْمَلَكِ فِي مُطْلَقِ الْجَوَازِ وَاحْتِرَازَ الْإِمَامِ مَقَامُ التَّقْوَى بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ تَسْدِيدِ الْمَلَكِ فِي أَصْلِ الْجَوَازِ إذْ إلْقَاءُ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ لَعَلَّ لَهُ سَبَبًا خَفِيًّا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ الْمَرْغِينَانِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْصُورَ دَعَا الْإِمَامَ وَالثَّوْرِيَّ وَشَرِيكًا وَمِسْعَرًا فَقَالَ الْإِمَامُ أَمَّا أَنَا فَأَحْتَالُ وَالثَّوْرِيُّ يَهْرُبُ وَمِسْعَرٌ يَتَجَنَّنُ وَأَمَّا شَرِيكٌ فَلَا آمَنُ لَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَكَانَ الْجُنْدِيُّ يَذْهَبُ بِهِمْ قَالَ سُفْيَانُ أُرِيدُ الْبَزَّازَ فَتَوَارَى بِالْحَائِطِ فَإِذَا سَفِينَةٌ مَمْلُوءَةٌ بِالشَّوْكِ فَقَالَ لِلْمَلَّاحِ خَلْفَ هَذَا الْحَائِطِ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَنِي أَرَادَ الْقَضَاءَ فَسَتَرُوهُ تَحْتَ الشَّوْكِ وَأَمَّا مِسْعَرٌ فَقَالَ لِلْخَلِيفَةِ كَيْفَ دَوَابُّك وَغِلْمَانُك فَتَرَكُوهُ وَقَالُوا إنَّهُ مَجْنُونٌ قَالَ يَا شَيْخُ مَا أَنْتَ قَالَ أَخْرِجُوهُ فَإِنَّهُ مُخْتَلُّ الْعَقْلِ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَقَالَ إنِّي رَجُلٌ بَزَّازٌ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ لَا يُرْضُونَ بِي فَتَرَكَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَمَّا شَرِيكٌ فَقَالَ غَالِبُ حَالِي النِّسْيَانُ قَالَ نُطْعِمُك اللُّبَانَ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْك النِّسْيَانُ قَالَ لِي خِفَّةً فَبِالْآخِرَةِ تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ ثُمَّ عَزَلُوهُ لِمُمَاشَاتِهِ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ (فَمِنْ هَذَا) أَيْ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ (قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْقَضَاءِ بِالِاخْتِيَارِ) وَإِنْ كَانَ أَهْلًا لَهُ وَإِنْ جَازَ بِالْإِكْرَاهِ كَمَا فَعَلَ مُحَمَّدٌ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي يُوسُفَ وَفِي الْبَزَّازِيِّ لَا يَجُوزُ الطَّلَبُ بِحَالٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَلَوْ كُلِّفَ بِلَا طَلَبٍ لَا يَجُوزُ أَيْضًا مَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ وَالْخَصَّافِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَلِذَا ضُرِبَ الْإِمَامُ أَيَّامًا وَقُيِّدَ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَامْتَنَعَ فِي الْأَصَحِّ (وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ) بِلَا كَرَاهَةٍ إنْ أَهْلًا كَأَبِي يُوسُفَ وَإِلَّا فَمَعَ الْكَرَاهَةِ (رُخْصَةً إنْ كَانَ بِلَا سُؤَالٍ) بِلِسَانِهِ (وَلَا طَلَبٍ) بِقَلْبِهِ (وَلَا شَفَاعَةٍ) مِنْ الْغَيْرِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى

أَنَّ التَّقْلِيدَ رُخْصَةٌ وَالتَّرْكَ عَزِيمَةٌ وَقَدْ دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَحَامَى مِنْهُ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَرْكُ الدُّخُولِ أَصْلَحُ دِينًا وَدُنْيَا وَفِي الْهِدَايَةِ الدُّخُولُ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» وَعَنْ مَسْرُوقٍ لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا وَاحِدًا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَنَةٍ أَغْزُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (وَالْعَزِيمَةُ تَرْكُهُ) فَلَعَلَّهُ يُخْطِئُ ظَنُّهُ فَلَا يُوَافِقُ لَهُ أَوْ لَا يُعِينُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ كَذَا نُقِلَ عَنْ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ إنَّ مَرْتَبَةَ الْقَضَاءِ شَرِيفَةٌ وَمَنْزِلَتَهُ رَفِيعَةٌ لِمَنْ اتَّبَعَ الْحَقَّ وَحَكَمَ عَلَى عِلْمٍ بِغَيْرِ هَوًى وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَفِيهِ أَيْضًا قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ مُتَعَمِّدًا أَوْ قَضَى مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَهُمَا فِي النَّارِ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ اجْتَهَدَ فِي الْحَقِّ عَلَى عِلْمٍ فَأَخْطَأَ فَلَيْسَ فِي النَّارِ بَلْ يُؤْجَرُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» وَفِي مُعِينِ الْحُكَّامِ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَضَاءَ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ رَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا» وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا هَلْ تَدْرُونَ مَنْ السَّابِقُونَ إلَى ظِلِّ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ وَإِذَا سُئِلُوا بَذَلُوهُ وَإِذَا حَكَمُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى يَمِينِ الْعَرْشِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ عَامًا وَمُرَادُهُ إذَا قَضَى يَوْمًا بِالْحَقِّ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْأَجْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] فَأَيُّ شَيْءٍ أَشْرَفُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَمَّ اللَّهُ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْقَضَاءِ فَقَالَ {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] وَمَا فِيهِ تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَالْجُهَّالِ وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاء فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» فَقَدْ أَوْرَدَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي مَعْرِضِ التَّحْذِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ وَقَالَ بَعْضٌ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْقَضَاءِ وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ لِأَنَّهُ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْ قَضَى بِالْحَقِّ إذْ جَعَلَهُ ذَبِيحَ الْحَقِّ امْتِحَانًا لِتَعْظِيمِ الْمَثُوبَةِ امْتِنَانًا فَالْقَاضِي لَمَّا اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فِي خُصُومَاتِهِمْ فَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ حَتَّى قَادَهُمْ عَلَى أَمْرِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الْعَدْلِ وَكَفَّهُمْ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَالْعِنَادِ جُعِلَ ذَبِيحَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَلَغَ بِهِ حَالَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ الْجَنَّةُ وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وَمُعَاذًا وَمَعْقِلًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - الْقَضَاءَ فَنِعْمَ الذَّابِحُ وَنِعْمَ الْمَذْبُوحُونَ. وَالْجَوْرُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَعْيَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ وَأَبْغَضَ النَّاسِ إلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ رَجُلٌ وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمْ» وَعَنْ بَعْضٍ: الْقَضَاءُ مِحْنَةٌ وَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَقَدْ اُبْتُلِيَ بِعَظِيمٍ لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ أَوْ التَّخْلِيصِ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرٍ سِكِّينٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَقَدْ ذُبِحَ بِالسِّكِّينِ» وَعَنْ بَعْضٍ شِعَارُ الْمُتَّقِينَ الْبُعْدُ وَالْهَرَبُ مِنْهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي قِلَابَةَ وَغَيْرِهِمَا لِعِلْمِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الضَّعْفَ وَعَدَمَ الْعِصْمَةِ مِنْ خَطَرِهِ. كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْعَزِيمَةُ أَيْ الْعَمَلُ بِالْأَقْوَى تَرْكُهُ لِأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَنْفَكُّ عَنْ الْمَيْلِ لِلصَّدِيقِ عَنْ الْعَدُوِّ وَالتَّشَوُّقِ إلَى أَغْرَاضِ الِانْتِقَامِ فِي أَدْرَاجِ الْأَحْكَامِ وَالسَّلَامَةُ عَنْهُمَا مُعْتَذِرَةٌ وَقَدْ قِيلَ لَا خَيْرَ فِيمَنْ يَرَى

نَفْسَهُ أَهْلًا لِشَيْءٍ لَا يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا فَهُرُوبُ مِثْلِهِ وَاجِبٌ وَطَلَبُهُ سَلَامَةَ نَفْسِهِ أَمْرٌ لَازِمٌ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ رُخْصَةٌ وَالتَّرْكَ عَزِيمَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَفِيهِ اسْتَقْضَى ابْنُ وَهْبٍ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَتَجَانَنَ وَكَانَ يَخْرِقُ ثِيَابَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ لَوْ قَبِلْت وَعَدَلْت لَكَانَ خَيْرًا فَقَالَ يَا هَذَا أَوَعَقْلُك هَذَا أَوَمَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ «الْقُضَاةُ يُحْشَرُونَ مَعَ السَّلَاطِينِ وَالْعُلَمَاءُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» وَلَمَّا خَافَ الْإِمَامُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الضَّرْبِ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فَسَوَّغَهُ الْإِمَامُ الثَّانِي وَقَالَ لَوْ تَقَلَّدْت لَنَفَعْت النَّاسَ فَقَالَ الْإِمَامُ لَوْ أُمِرْت أَنْ أَعْبُرَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً لَكُنْت أَقْدَرَ عَلَيْهِ فَكَأَنِّي بِك قَاضِيًا فَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ بَعْدَهُ انْتَهَى. (وَكَذَا الْإِمَارَةُ) أَيْ حُكْمُ الْإِمَارَةِ كَحُكْمِ الْقَضَاءِ وَفِي مُعِينِ الْحُكَّامِ وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَتَكُونُ حَسْرَةً وَنَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (وَوَجْهُهُ) أَيْ وَجْهُ كَوْنِ تَرْكِهِ عَزِيمَةً (أَنَّهُمَا ثَقِيلَانِ جِدًّا قَلَّمَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِمَا) كَمَا عَرَفْت آنِفًا أَقُولُ لَعَلَّ هَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَالْمَوَانِعِ وَطَبْعُ الْقَضَاءِ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَقَالَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ وَطَلَبُ الْقَضَاءِ إمَّا وَاجِبٌ إنْ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالْعِلْمِ وَانْحَصَرَ فِيهِ ذَلِكَ وَإِمَّا مُبَاحٌ إنْ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ فَيَجُوزُ لِسَدِّ خَلَّتِهِ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ إنْ هُنَاكَ عَالِمٌ خَفِيَ عِلْمُهُ عَلَى النَّاسِ فَأَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُشْهِرَهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ لِيُعَلِّمَ الْجَاهِلَ وَيُفْتِيَ الْمُسْتَرْشِدَ وَإِمَّا مَكْرُوهٌ إنْ لِلِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ وَإِمَّا حَرَامٌ إنْ جَاهِلًا أَوْ مُتَلَبِّسًا بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ أَوْ مُرِيدَ انْتِقَامٍ أَوْ رِشْوَةٍ. (د ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» أَيْ كَأَلَمِ الذَّبْحِ بِغَيْرِ سِكِّينٍ فِي الشِّدَّةِ وَالِامْتِدَادِ لِمَا فِي الْحُكُومَةِ مِنْ الْخَطَرِ أَوْ ذُبِحَ بِحَيْثُ لَا يَرَى ذَابِحَهُ أَوْ التَّوْلِيَةُ إهْلَاكٌ لَا بِآلَةٍ مَحْسُوسَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَشَوَّقَ إلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُمِيتَ جَمِيعَ دَوَاعِيهِ الْخَبِيثَةِ وَشَهَوَاتِهِ الرَّدِيئَةِ فَمَذْبُوحٌ بِغَيْرِ سِكِّينٍ فَمُرَغَّبٌ فِيهِ كَمَا سَبَقَ وَمَا قَبْلَهُ مَحْذُورٌ عَنْهُ. وَقِيلَ إنَّ السِّكِّينَ يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَمَا بِغَيْرِ السِّكِّينِ فِي الْبَاطِنِ فَقَطْ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ وَوَبَالُ الْقَضَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ جَاهٌ وَبَاطِنَهُ هَلَاكٌ كَمَا فِي أَخِي جَلْبِي لِصَدْرِ الشَّرِيعَةِ وَقِيلَ ازْدَرَاهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا ثُمَّ دَعَا بِمَجْلِسِهِ مَنْ يُسَوِّي شَعْرَهُ فَجَعَلَ الْحَلَّاقُ يَحْلِقُ بَعْضَ شَعْرِ ذَقَنِهِ فَعَطَسَ فَأَصَابَ حَلْقَهُ وَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا فِي قَضَاءِ الدُّرَرِ عَنْ الْكَافِي (حَدّ حب عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى» مِنْ كَمَالِ الْحِيرَةِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَشِدَّةِ الْهَوْلِ «أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي ثَمَرَةٍ قَطُّ» يَعْنِي وَلَوْ فِي أَقَلَّ قَلِيلٍ عَنْ شَرْحِ الْخَطِيبِ

أَنَّهُ رُئِيَ أَبُو حَنِيفَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اُكْتُبْ أَسَامِيَ أَصْحَابِك فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ لَهُمْ فَكَتَبَ فِي أَوَّلِ الْجَرِيدَةِ اسْمَ دَاوُد الطَّائِيِّ لِزُهْدِهِ وَفِي آخِرِ الْجَرِيدَةِ اسْمَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ غَزَارَةِ عِلْمِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْقَضَاءِ وَفِي قَمْعِ النُّفُوسِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ كَانَ فِي بَلَدِنَا نَبَّاشٌ وَفِي الْبَلَدِ قَاضٍ صَالِحٌ نَاصِبٌ نَفْسَهُ لِتَنْفِيذِ مَرَاسِمِ النُّبُوَّةِ وَقَمْعِ مَرَاسِمِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ فَلَمَّا قَرُبَتْ وَفَاتُهُ دَعَا النَّبَّاشَ وَقَالَ هَذَا قِيمَةُ كَفَنِي فَخُذْهُ الْآنَ وَلَا تَهْتِكُنِي فِي قَبْرِي فَأَخَذَهُ وَذَهَبَ فَلَمَّا مَاتَ الْقَاضِي أَرَادَ نَبْشَهُ فَمَنَعَتْهُ زَوْجَتُهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا فَلَمَّا حَفَرَ الْقَبْرَ وَدَخَلَ دَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ فَقَالَ أَحَدُ الْمَلَكَيْنِ لِلْآخَرِ شُمَّ رِجْلَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ لَيْسَ فِيهِمَا شَيْءٌ إنَّهُ لَمْ يَسْعَ فِي مَعْصِيَةٍ قَطُّ فَقَالَ لَهُ شُمَّ يَدَيْهِ فَقَالَ فِيهِمَا خَيْرٌ ثُمَّ قَالَ شُمَّ عَيْنَيْهِ فَقَالَ إنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ إلَى مُحَرَّمٍ قَطُّ فَقَالَ شُمَّ سَمْعَهُ فَشَمَّ أَحَدَ سَمْعَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا ثُمَّ شَمَّ السَّمْعَ الْآخَرَ فَوَقَفَ فَقَالَ مَا وَجَدْت قَالَ بَعْضَ نَتْنٍ فَقَالَ مِمَّ؟ قَالَ إنَّهُ أَصْغَى بِأَحَدِ سَمْعَيْهِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ قَالَ فَانْفُخْ فِيهِ فَنَفَخَ نَفْخَةً فَامْتَلَأَ الْقَبْرُ نَارًا فَلَحِقَ بَصَرَ النَّبَّاشِ فَعَمِيَ فَإِذَا كَانَ حَالُ مِثْلِ هَذَا الْقَاضِي هَكَذَا فَكَيْفَ حَالُ مَنْ شَأْنُهُ إبْطَالُ الْحُقُوقِ وَأَخْذُ الرِّشَا وَعَدَمُ إحْقَاقِ الْحُقُوقِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ. وَفِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ «أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَشَفَعَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بِالْتِمَاسِهِمْ مِنْهُ لِكَوْنِهِ حِبَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فَقَالَ إنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأَيْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» . (طك عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ إنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ عَنْ الْإِمَارَةِ وَمَا هِيَ» قَالَ عَوْفٌ «فَنَادَيْت بِأَعْلَى صَوْتِي» بِأَنْ أَقُولَ «وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ» بَاعِثَةٌ عَلَى لَوْمِ النَّاسِ وَتَعْيِيرِهِمْ «وَثَانِيهَا نَدَامَةٌ» لَعَلَّهُ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا «وَثَالِثُهَا عَذَابٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ عَدَلَ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ لِأَنَّهَا تُحَرِّكُ الصِّفَاتِ الْبَاطِنَةَ وَتَغْلِبُ عَلَى النَّفْسِ حُبَّ الْجَاهِ وَلَذَّةَ الِاسْتِيلَاءِ وَنَفَاذَ الْأَمْرِ وَهُوَ أَعْظَمُ مَلَاذِّ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَتْ مَحْبُوبَةً كَانَ الْوَالِي سَاعِيًا فِي حَظِّ نَفْسِهِ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَيَقْدُمُ عَلَى مَا يُرِيدُ وَإِنْ بَاطِلًا وَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْلِكُ وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ تَعَالَى رَعِيَّتَهُ يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَمْ يَحْفَظْهَا بِنَصِيحَةٍ لَمْ يُرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» . وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَجْتَهِدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ لَهُمْ إلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ الْجَنَّةَ» (وَكَيْفَ يَعْدِلُ مَعَ أَقْرَبِيهِ) كَالْأَوْلَادِ وَفِي قَمْعِ النُّفُوسِ وَعَظَ بَعْضٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ فِي كَلَامِ اللَّهِ مَوْعِظَةً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إنَّهُ قَالَ لِنَبِيِّهِ دَاوُد {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] (خ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَتْ الْمُرْضِعَةُ» وَفِي نُسْخَةِ الْجَامِعِ بِلَا تَاءٍ «وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ» عِنْدَ انْفِصَالِهِ عَنْهَا بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهَا تَقْطَعُ عَنْهُ تِلْكَ اللَّذَائِذَ وَالْمَنَافِعَ وَتُبْقِي عَلَيْهِ الْحَسْرَةَ وَالتَّبِعَةَ فَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْإِمَارَةُ

ضَرَبَ الْمُرْضِعَةَ مَثَلًا لِلْإِمَارَةِ الْمُوصِلَةِ صَاحِبَهَا إلَى الْمَنَافِعِ الْعَاجِلَةِ وَالْفَاطِمَةَ وَهِيَ الَّتِي انْقَطَعَ لَبَنُهَا مَثَلًا لِمُفَارَقَتِهِ عَنْهَا بِانْعِزَالٍ أَوْ مَوْتٍ وَالْقَصْدُ ذَمُّ الْحِرْصِ عَلَيْهَا وَكَرَاهَةُ طَلَبِهَا شَبَّهَ الْإِمَارَةَ بِالْمُرْضِعَةِ وَانْقِطَاعَهَا بِالْمَوْتِ أَوْ الْعَزْلِ بِالْفَاطِمَةِ فَإِنَّهَا فِي الدُّنْيَا مَا دَامَتْ بَاقِيَةً فِي الْيَدِ تَدِرُّ عَلَيْهِ الْمَنَافِعَ الْعَاجِلَةَ فَإِذَا مَاتَ أَوْ فَاتَتْ حَصَلَ لِصَاحِبِهَا حَسْرَةٌ وَتَبِعَةٌ كَمَا لِلصَّبِيِّ حِينَ الْفَطْمِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْصِدَ لِلَذَّةٍ تَتْبَعُهَا حَسَرَاتٌ. وَعَنْ الطِّيبِيِّ نِعْمَ فِعْلٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ وَإِذَا كَانَ فَاعِلُهُ مُؤَنَّثًا جَازَ إلْحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ بِهِ وَتَرْكُهَا قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ فَإِنْ قُلْت هَلْ مِنْ لَطِيفَةٍ فِي تَرْكِ التَّاءِ مَعَ فِعْلِ الْمَدْحِ وَإِثْبَاتِهَا مَعَ الذَّمِّ أُجِيبَ بِأَنَّ إرْضَاعَهَا أَحَبُّ حَالَتَيْهَا لِلنَّفْسِ وَفِطَامَهَا أَشَقُّهُمَا وَالتَّأْنِيثُ أَخْفَضُ حَالَتَيْ الْفِعْلِ فَاسْتَعْمَلَ حَالَةَ التَّذْكِيرِ مَعَ الْحَالَةِ الْمَحْبُوبَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ حَالَتَيْ الْوِلَايَةِ وَاسْتَعْمَلَ حَالَةَ التَّأْنِيثِ مَعَ الْحَالَةِ الشَّاقَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَهِيَ حَالَةُ الْفِطَامِ عِنْدَ الْوِلَايَةِ لِمَكَانِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَحَلَّيْنِ انْتَهَى. وَفِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ إنَّمَا لَمْ يُلْحِقْ التَّاءَ بِنِعْمَ لِأَنَّ الْمُرْضِعَةَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِمَارَةِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَنَّثَةً لَكِنْ تَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَأَلْحَقَهَا بِبِئْسَ نَظَرًا إلَى كَوْنِ الْإِمَارَةِ ذَاهِبَةً وَفِيهِ أَنَّ مَا يَنَالُهُ الْأَمِيرُ مِنْ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ أَشَدُّ مِمَّا يَنَالُهُ مِنْ النَّعْمَاءِ فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُلِمَّ بِلَذَّةٍ تَتْبَعُهَا حَسَرَاتٌ قَالَ فِي الْمَطَامِحِ وَكَذَا سَائِرُ الْوِلَايَاتِ وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ الطَّلَبِ مُبَيَّنٌ فِي الْفُرُوعِ. (حَدّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ» مِنْ الرِّجَالِ فَمَا فَوْقَهَا «إلَّا يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لِلْحِسَابِ «وَيَدُهُ مَغْلُولَةٌ» وَالْحَالُ أَنَّ يَدَهُ مَشْدُودَةٌ وَفِي رِوَايَةٍ مَغْلُولًا يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ «لَا يَفُكُّهُ إلَّا الْعَدْلُ» يَعْنِي كُلَّ أَمِيرٍ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَشْدُودًا يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ إلَّا الْعَادِلَ وَآخِرُ الْحَدِيثِ أَوْ يُوبِقُهُ الْجِوَارُ يَعْنِي يُؤْتَى بِالْأَمِيرِ بِكُلِّ حَالٍ أَسِيرًا مُتَحَيِّرًا فِي أَمْرِهِ حَتَّى يُحَاسَبَ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَدَلَ فِي الْحُكْمِ خَلَّصَهُ الْعَدْلُ وَإِنْ ظَلَمَ أَدْخُلهُ النَّارَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ عَلَى وُلَاةِ الْجَوْرِ فَمَنْ ضَيَّعَ مَنْ اسْتَرْعَاهُ أَوْ خَانَهُ ظَلَمَهُ فَقَدْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ الطَّلَبُ بِمَظَالِمِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحْلِيلِ مِنْ ظُلْمِ أُمَّةٍ عَظِيمَةٍ. وَعَنْ الْوَلْوَالِجيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَيْسَ مِنْ وَالٍ وَلَا قَاضٍ إلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الصِّرَاطِ ثُمَّ تَنْشُرُ الْمَلَائِكَةُ صَحِيفَةَ عَمَلِهِ مَعَ رَعِيَّتِهِ وَمَعَ مَنْ تَحْتَ يَدِهِ أَعَدَلَ أَمْ جَارَ فَيَقْرَؤُهَا عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ فَإِنْ كَانَ عَدْلًا نَجَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدْلِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ انْتَقَضَ بِهِ الصِّرَاطُ انْتِقَاضَةً صَارَ بَيْنَ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ مَسِيرَةُ مِائَةِ سَنَةٍ» وَعَنْ الْوَلْوَالِجيَّةِ أَيْضًا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي مُنْذُ اُبْتُلِيتُ بِالْقَضَاءِ مَا رُفِعَتْ إلَيَّ خُصُومَةٌ إلَّا قَدَّمْت فِي ذَلِكَ كِتَابَك فَإِنْ لَمْ أَجِدْ فَسُنَّةَ رَسُولِك فَإِنْ لَمْ أَجِدْ فَسُنَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِك فَإِنْ لَمْ أَجِدْ جَعَلْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْظَرَةً بَيْنِي وَبَيْنِك اللَّهُمَّ إنَّك كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَمِلْ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى الْقَلْبَ إلَّا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ قِيلَ لَهُ وَمَا تِلْكَ الْحَادِثَةُ قَالَ ادَّعَى نَصْرَانِيٌّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ دَعْوَى فَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ آمُرَ الْخَلِيفَةَ بِالْقِيَامِ عَنْ مَجْلِسِهِ وَالْمُسَاوَاةِ مَعَ خَصْمِهِ لَكِنْ دَفَعْت النَّصْرَانِيَّ إلَى جَانِبِ الْبِسَاطِ بِقَدْرِ مَا أَمْكَنَنِي ثُمَّ سَمِعْت الْخُصُومَ قَبْلَ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ انْتَهَى. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا كَانَ زَمَانٌ يَكُونُ الْأَمِيرُ فِيهِ كَالْأَسَدِ وَالْحَاكِمُ فِيهِ كَالذِّئْبِ الْأَعَطِّ وَالتَّاجِرُ فِيهِ كَالْكَلْبِ الْهَرَّارِ وَالْمُؤْمِنُ بَيْنَهُمْ كَالشَّاةِ الْوَلْهَى بَيْنَ الْقَلْسَيْنِ لَيْسَ لَهَا مَأْوَى فَكَيْفَ حَالُ شَاةٍ بَيْنَ أَسَدٍ وَذِئْبٍ وَكَلْبٍ»

السادس والأربعون سؤال تولية الأوقاف

(طكط عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَرْفَعُهُ «مَا مِنْ رَجُلٍ وَلِيَ عَشَرَةً إلَّا أُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةً يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ» أَيْ بَيْنَ مَنْ ظَلَمَهُمْ مِنْ الْعِبَادِ وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُد أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي قَمْعِ النُّفُوسِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ سَمِعْته يَقُولُ «يُجَاءُ بِالْوَالِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنْبَذُ بِهِ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ فَيَرْتَجُّ بِهِ الْجِسْرُ ارْتِجَاجَةً لَا يَبْقَى مِنْهُ مِفْصَلٌ إلَّا زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَإِنْ كَانَ مُطِيعًا فِي عِلْمِهِ مَضَى وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا انْحَرَفَ بِهِ الْجِسْرُ فَهَوَى بِهِ إلَى نَارِ جَهَنَّمَ مِقْدَارَ خَمْسِينَ عَامًا» فَقَالَ عُمَرُ مَنْ يَطْلُبُ الْعَمَلَ بَعْدَ هَذَا يَا أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ مَنْ سَلَتْ نَفْسَهُ وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ انْتَهَى. وَفِي قَمْعِ النُّفُوسِ أَيْضًا قَالَ الْمَنْصُورُ لِشُعَيْبٍ عِظْنِي فَقَرَأَ عَلَيْهِ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ لَا يُعْمَلُ فِي بَابِكَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَمَّا اجْتَرَحُوا فَلَا تُصْلِحْ دُنْيَاك بِفَسَادِ آخِرَتِك فَبَكَى فَقَالَ لَهُ عَالِمٌ أَعْمَيْت الْأَمِيرَ فَقَالَ وَيْلُك مَا كَفَاك أَنْ كَتَمْت عَنْهُ النَّصِيحَةَ حَتَّى أَرَدْت أَنْ تَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَنْصَحُهُ اتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ هَؤُلَاءِ اتَّخَذُوك سُلَّمًا إلَى شَهَوَاتِهِمْ وَلَنْ يُغْنُوا عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ عَجَّ حَجَرٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ مُتَضَرِّعًا فَقَالَ إلَهِي وَسَيِّدِي عَبَّدْتُك كَذَا وَكَذَا سَنَةً ثُمَّ جَعَلَتْنِي فِي أُسِّ كَنِيفٍ فَقَالَ أَوْ مَا تَرْضَى أَنْ عَدَلْت بِك عَنْ مَجَالِسِ الْقُضَاةِ أَيْ الْقُضَاةِ السُّوءِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقِيقِيٌّ لِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَالنُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَقِيلَ مَجَازٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَمَثَلُ الْعَالِمِ مَثَلُ الْقَاضِي بَلْ أَشَدُّ وَفِي خَبَرِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «اشْتَكَتْ النَّوَاوِيسُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ إنَّهُ لَا يَلْقَى فِينَا إلَّا مُشْرِكٌ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهَا أَنْ اصْبِرِي كَمَا صَبَرَتْ دَكَاكِينُ الْقُضَاةِ عَلَى الزُّورِ» . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ شَكَتْ النَّوَاوِيسُ نَتْنَ مَا تَجِدُ مِنْ رِيحِ الْكُفَّارِ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهَا: بُطُونُ عُلَمَاءِ السُّوءِ أَنْتَنُ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَكَوْنُ تَرْكِهِمَا) أَيْ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ (عَزِيمَةٌ إذَا وَجَدَ مَنْ يَصْلُحُ لَهُمَا غَيْرُهُ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِلَا حَاجَةٍ إلَيْهِ (وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْقَبُولُ) حَتْمًا (لِأَنَّهُمَا فَرْضَا كِفَايَةٍ) تَعَيَّنَ هُوَ لَهُمَا قِيلَ فِي الْبَحْرِ إنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ إنْ تَعَيَّنَ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ لِلْمُتَأَهِّلِ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ لَكِنَّهُ رُخْصَةٌ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ خَوْفِ الْعَجْزِ وَالْجَوْرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرَامًا عِنْدَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ أَنَّهُ يَجُورُ وَمُبَاحٌ كَمَا قَدَّمْنَا فَفِيهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ انْتَهَى قِيلَ أَقُولُ فِي كَوْنِهِ فَرْضَ عَيْنٍ نَظَرٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْعِلْمَ فِي الْقَاضِي فَضْلًا عَنْ الِاجْتِهَادِ وَقَالُوا لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ يَكُونُ مُتَعَيِّنًا فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَالِيَ الْمَحْضَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْقَضَاءِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّأَهُّلِ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَأَقَلُّهُ أَنْ يُحْسِنَ الْحَوَادِثَ وَالْمَسَائِلَ الدَّقِيقَةَ وَأَنْ يَعْرِفَ طُرُقَ تَحْصِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ وَصُدُورِ الْمَشَايِخِ وَكَيْفِيَّةَ الْإِيرَادِ وَالْإِصْدَارِ فِي الْوَقَائِعِ وَالدَّعَاوَى وَالْحُجَجِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ وَلَوَازِمِهِ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي نَفْسِهِ تَحْشِيمٌ وَمَوْقِعٌ مَا فِي النُّفُوسِ وَإِلَّا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إلَى مُجْتَهِدٍ فَضْلًا عَنْ إمَامِ الْأَئِمَّةِ وَتَجْوِيزُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ مَنَاصِبِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ إلَى بَعْضِ السُّوقَةِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ صِغَارَ الْأُمُورِ الْمَعَاشِيَّةِ فَضْلًا عَنْ كِبَارِهَا قَالَ فِي الْمُخْتَارِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَيَجِبْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مَوْثُوقًا بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي فَجَزَى اللَّهُ تَعَالَى عَنَّا أَئِمَّتَنَا خَيْرًا انْتَهَى. [السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ تَوْلِيَةِ الْأَوْقَافِ] (السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ تَوْلِيَةِ الْأَوْقَافِ) وَكَذَا الشَّفَاعَةُ الِاسْتِشْفَاعُ لَهَا فَإِنَّ لِلْوَسَائِلِ أَحْكَامَ الْمَقَاصِدِ (فَهُوَ كَسُؤَالِ الْقَضَاءِ) فِي الرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ وَالْحُرْمَةِ (قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ) صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ

السابع والأربعون طلب الوصاية

(قَالُوا لَا يُوَلَّى مَنْ طَلَبَ الْوِلَايَةَ عَلَى الْأَوْقَافِ) عَنْ الْمَصَابِيحِ «عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي فَقَالَا أَمِّرْنَا بَعْضَ مَا وَلَّاك اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ إنَّا وَاَللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَ وَلَا أَحَدًا حَرَصَ» لَعَلَّ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ لَهُ وَإِلَّا فَيَتَعَيَّنُ فَيَكُونُ لَهُ حَقُّ الطَّلَبِ (كَمَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ لَا يُقَلَّدُ) لِأَنَّ طَلَبَهُ لَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمِحَنِ وَالْمَشَاقِّ آيَةُ خِيَانَةٍ إذْ شَأْنُ الْأَمِينِ هُوَ الْبُعْدُ عَنْ مِثْلِهِ وَقَدْ تَحَرَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ تَقَلُّدِهِ إلَى أَنْ ضُرِبَ مِرَارًا بَلْ حُبِسَ إلَى أَنْ مَاتَ كَمَا مَرَّ وَقَالَ الْبَحْرُ عَمِيقٌ فَكَيْفَ أَعْبُرُ بِالسِّبَاحَةِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْبَحْرُ عَمِيقٌ وَالسَّفِينَةُ وَثِيقٌ وَالْمَلَّاحُ حَاذِقٌ كَمَا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ لِابْنِ الْمَلِكِ. [السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ طَلَبُ الْوِصَايَةِ] (السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ طَلَبُ الْوِصَايَةِ) وَمِثْلُهُ طَلَبُ النِّظَارَةِ (م د حك عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَهُ يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا» فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَرِعَايَةِ الْحُقُوقِ «وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي» هَذَا تَلَطُّفٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَحْرِيضٌ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهِ وَشَأْنُ كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَأْتَمِرَنَّ» لَا تَكُنْ أَمِيرًا «عَلَى اثْنَيْنِ» فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُمَا «وَلَا تَلِيَنَّ» لَا تَكُنْ وَالِيًا «مَالَ يَتِيمٍ» لَعَلَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوِصَايَةُ وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ ضَرُورِيَّةٌ لَا اخْتِيَارِيَّةٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ وِصَايَةِ أَقْرَبِ الْأَقْرِبَاءِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ عَدَمُ طَلَبِ الْوِصَايَةِ وَاللَّازِمَ عَدَمُ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا وَالْقَوْلُ أَنَّ ذَلِكَ مَدْلُولٌ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ بَعِيدٌ وَأَنَّ اللَّازِمَ أَيْضًا عَدَمُ قَبُولِ الْوِصَايَةِ وَالْإِمَارَةِ مُطْلَقًا وَالظَّاهِرُ قَبُولُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَلَبٌ فَافْهَمْ. (وَقَالَ قَاضِي خَانْ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْبَلَ الْوَصِيَّةَ) فَضْلًا عَنْ الْمَطْلَبِ (لِأَنَّهَا أَمْرٌ عَلَى خَطَرٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْإِشْرَافُ عَلَى الْهَلَاكِ (لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ الدُّخُولُ فِي الْوَصِيَّةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ غَلَطٌ) فَمَنْ لَا يَدْخُلُ لَيْسَ لَهُ غَلَطٌ فَمَا يَكُونُ غَلَطٌ لَا يَلِيقُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يُوقِعَ نَفْسَهُ فِيهِ فَضْلًا عَنْ الطَّلَبِ فَدَلَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْتِزَامًا (وَ) فِي الْمَرَّةِ (الثَّانِيَةِ خِيَانَةٌ) لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ الصِّيَانَةِ وَالْمُحَافَظَةِ فَالْقَضِيَّةُ أَكْثَرِيَّةٌ أَوْ الْقَضِيَّةُ مُهْمَلَةٌ فِي قُوَّةِ الْجُزْئِيَّةِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ الْخِيَانَةُ وَقِيلَ عَلَامَةُ الْخِيَانَةِ وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُلِّيَّةَ بِظَاهِرِهَا لَيْسَتْ بِمُطَّرِدَةٍ فَمَنْ لَا يَسْلَمُ مِنْ الْخِيَانَةِ لَا يَلِيقُ لَهُ الطَّلَبُ فَافْهَمْ. (وَعَنْ غَيْرِهِ وَالثَّالِثَةُ سَرِقَةٌ) لَعَلَّ الْخِيَانَةَ فِي عَدَمِ الصِّيَانَةِ وَعَدَمِ الْمُحَافَظَةِ وَالسَّرِقَةِ فِي الْأَكْلِ وَالسَّرَفِ فِي أُمُورِ نَفْسِهِ فَمَا يَكُونُ مَوْقِعَ سَرِقَةٍ لَا يَلِيقُ طَلَبُهُ أَيْضًا (وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) مَعَ كَمَالِهِ فِي الْعَدَالَةِ (لَا يَنْجُو مِنْ الضَّمَانِ)

الثامن والأربعون دعاء الإنسان على نفسه

لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ قِيلَ وَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ مَا يَذْكُرُ النَّاسُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَرَبَ ابْنَهُ أَبَا شَحْمَةَ حَتَّى مَاتَ ثُمَّ ضَرَبَهُ بَاقِيَ الْحَدِّ مَيِّتًا فَهُوَ كَذِبٌ مِنْ أَكَاذِيبِ مُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ الرَّازِيّ وَكَانَ كَثِيرَ الْأَكَاذِيبِ وَضَّاعَ الْحَدِيثِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ انْدَمَلَتْ جِرَاحَاتُهُ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ عَلَى عَدْلِ عُمَرَ كَمَا فِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي كِتَابِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ مِنْ حَدِّهِ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَعَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَمَرِيضٌ بِمُجَرَّدِ السَّمْعِ بِلَا ثُبُوتٍ شَرْعِيٍّ إلَى أَنْ مَاتَ وَالْحَمْلُ عَلَى اجْتِهَادِهِ بَعِيدٌ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنَّ الْآحَادَ الَّتِي تُخَالِفُ الشَّرْعَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْعَدْلَةِ الْكِرَامِ مَرْدُودٌ لِأَنَّ إنْكَارَ مِثْلِهِ أَسْلَمُ مِنْ حَمْلٍ عَلَى ارْتِكَابِ خِلَافِ الشَّرْعِ. (وَعَنْ الشَّافِعِيِّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (لَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ) التَّمَسُّكُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ لِلتَّمَسُّكِ ابْتِدَاءً بَلْ لِلتَّأْيِيدِ وَكُلَّمَا كَثُرَ الْقَائِلُ قَوِيَ الْقَوْلُ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِتَخْطِئَةِ مَذْهَبٍ مُخَالِفٍ مَذْهَبَ أَئِمَّتِنَا إنَّمَا هُوَ عِنْدَ خِلَافِهِمْ لِأَئِمَّتِنَا (إلَّا أَحْمَقُ) فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُوقِعُ نَفْسَهُ فِيمَا يَكُونُ غَلَطًا وَمُؤَدِّيًا إلَى الْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ كَمَا عَرَفْت (أَوْ) عَاقِلٌ لَكِنَّهُ (لِصٌّ انْتَهَى فَلِذَا) لِقُبْحِ الْوِصَايَةِ وَالْوِلَايَةِ (قِيلَ اتَّقُوا الْوَاوَاتِ) الْوِصَايَةَ وَالْوِلَايَةَ وَالْوَزَارَةَ وَالْوَكَالَةَ وَالْوَدِيعَةَ وَالْوَقْفَ وَعَنْ الْخُلَاصَةِ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ أَفْتَيْت مُنْذُ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَمَا رَأَيْت قَيِّمًا عَدَلَ فِي مَالِ ابْنِ أَخِيهِ. [الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ] (الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ) بِالشَّرِّ لِأَجْلِ نُزُولِ ضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْمُصِيبَةِ فِي الْمَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالنَّفْسِ (وَتَمَنِّي الْمَوْتِ) وَإِنْ كَانَ التَّمَنِّي مُغَايِرًا لِلدُّعَاءِ مَفْهُومًا لَكِنْ لِتَقَارُبِهِمَا مَفْهُومًا وَوُجُودًا عَدَّهُمَا آفَةً وَاحِدَةً (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَدْعُ} [الإسراء: 11] بِحَذْفِ الْوَاوِ خَطًّا مِنْ الرَّسْمِ الْعُثْمَانِيِّ تَبَعًا لِحَذْفِهَا لَفْظًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ {الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11] مِثْلَ دُعَائِهِ بِالْخَيْرِ لِعَدَمِ تَحَمُّلِهِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11] مُبَالِغًا فِي الْعَجَلَةِ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِ غَيْرَ صَابِرٍ عَلَى مَا نَزَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ وَمَوْعُودٌ بِكَثِيرٍ مِنْ الْأَجْرِ لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَتَهَا إنَّمَا هِيَ عَلَى الدُّعَاءِ لَا التَّمَنِّي نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ فَلَعَلَّ ثُبُوتَ الثَّانِي بِالْأَحَادِيثِ كَالْأَوَّلِ بِالْآيَةِ. (خَرَّجَ السِّتَّةُ) الصَّحِيحَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ (إلَّا ط) وَعِنْدَ بَعْضٍ سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ بَدَلَ الْمُوَطَّأِ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَتَمَنَّى» نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ تَأْكِيدًا وَقِيلَ نَهْيٌ لِأَنَّ الْأَلِفَ مَعَ الْجَازِمِ لُغَةٌ اسْتَحْسَنَهَا الْأُدَبَاءُ «أَحَدُكُمْ» قِيلَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَعَامٌّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ غَلَطٌ ظَاهِرٌ «الْمَوْتَ» لِدَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْمَشَاقِّ وَلِأَنَّ ضَرَرَ الْمَرَضِ مُطَهِّرٌ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَوْتُ قَاطِعٌ لَهُ وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ نِعْمَةٌ وَطَلَبُ إزَالَةِ النِّعْمَةِ قَبِيحٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْحَيَاةَ سَبَبٌ لِلطَّاعَاتِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمَقَامَاتِ

«لِضُرٍّ» الظَّاهِرُ أَيْ دُنْيَوِيٍّ كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْمُصِيبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَإِلَّا فَيَجُوزُ تَمَنِّيهِ لِلْفِتْنَةِ الدِّينِيَّةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ الدُّعَاءُ فِي الْحَدِيثِ وَإِذَا أَرَدْت بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ «نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ» مَنْ نَزَلَ بِهِ ذَلِكَ «فَاعِلًا» لِلدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ «فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا» مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ «كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي» بِاكْتِسَابِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ «وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» فَإِذَا لَمْ يُتَوَفَّ يَكْتَسِبْ الشُّرُورَ وَالسَّيِّئَاتِ يَشْكُلُ مِثْلُهُ بِأَنَّ الْأَجَلَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فَطَلَبُ تَقَدُّمِهِ أَوْ تَأَخُّرِهِ مُحَالٌ وَمِثْلُهُ خَيْرِيَّةُ الْحَيَاةِ أَوْ التَّوَفِّي بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِهِ تَعَالَى فَلَا يَجْرِي التَّأْوِيلُ الْمَشْهُورُ بِالْمُعَلَّقِ وَبِمَا فِي عِلْمِ الْمَلِكِ أَوْ اللَّوْحِ لِأَنَّ مُقْتَضَى السُّوقِ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِهِ تَعَالَى وَلَا يَقُلْ اللَّهُمَّ تَوَفَّنِي بِطَرِيقِ الْجَزْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ فِي الْحَيَاةِ وَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رِضَاهُ بِمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَضٍ. وَأَمَّا إذَا تَمَنَّى الْمَوْتَ لِأَجْلِ الْخَوْفِ عَلَى دِينِهِ لِفَسَادِ الزَّمَانِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ (خ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ» لِأَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ التَّزَوُّدُ لِلْآخِرَةِ وَالسَّعْيُ فِيمَا يَزِيدُ ثَوَابَهَا مِنْ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثُ «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» وَحَدِيثُ «خِيَارُكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» فَمِنْ شَأْنِ الِازْدِيَادِ وَالتَّرَقِّي مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَمِنْ مَقَامٍ إلَى مَقَامِ الْقُرْبِ الْإِلَهِيِّ كَيْفَ يَطْلُبُ الْقَطْعَ عَنْ مَطْلُوبِهِ إذْ الْمَوْتُ قَاطِعٌ لِذَلِكَ «إمَّا مُحْسِنًا» أَيْ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَحَذَفَ الْفِعْلَ بِمَا اسْتَكَنَ فِيهِ مِنْ الضَّمِيرِ ثُمَّ عَوَّضَ عَنْهُ مَا وَأَدْغَمَ فِي مِيمِهَا النُّونَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَرْفًا قَاسِمًا وَمُحْسِنًا خَبَرُ كَانَ بِمَعْنَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا أَوْ حَالٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ السَّابِقُ أَيْ: إمَّا أَنْ لَا يَتَمَنَّاهُ مُحْسِنًا «فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ» فِي حَسَنَاتِهِ «أَوْ مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ» أَيْ يَطْلُبُ الْعُتْبَى وَهُوَ الْإِرْضَاءُ وَالْمُرَادُ طَلَبُ رِضَاهُ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَتَدَارُكِ الْفَائِتِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي. قَالَ التوربشتي: وَالنَّهْيُ وَإِنْ أُطْلِقَ لَكِنْ الْمُرَادُ التَّقْيِيدُ بِمَا وَجَدَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الدَّلَالَةِ وَقَدْ تَمَنَّاهُ كَثِيرٌ مِنْ الصِّدِّيقِينَ شَوْقًا إلَى لِقَائِهِ تَعَالَى وَتَنَعُّمًا بِالْوُصُولِ إلَى حَضْرَتِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ نَهْيِ التَّقْيِيدِ وَالْمُطْلَقُ رَاجِعٌ إلَى الْمُقَيَّدِ اهـ هَذَا وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ لَمْ تَنْحَصِرْ الْقِسْمَةُ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَلَعَلَّهُ يَكُونُ سَيِّئًا فَيَزْدَادُ إسَاءَةً فَتَكُونُ زِيَادَةُ الْعُمُرِ زِيَادَةً لَهُ فِي الشِّفَاءِ كَمَا فِي خَبَرِ «شَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» أَوْ لَعَلَّهُ يَكُونُ مُحْسِنًا فَتَنْقَلِبُ حَالُهُ إلَى الْإِسَاءَةِ لِأَنَّا نَقُولُ تَرَجَّى الْمُصْطَفَى لَهُ زِيَادَةَ الْإِحْسَانِ وَالِانْفِكَاكَ عَنْ السُّوءِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَدُومَ عَلَى حَالِهِ فَإِذَا كَانَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ بِكُلِّ حَالٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَخِفَّ إحْسَانُهُ فَذَلِكَ الْإِحْسَانُ الْخَفِيفُ الَّذِي دَاوَمَ عَلَيْهِ يُضَاعَفُ لَهُ مَعَ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَإِنْ زَادَتْ إسَاءَتُهُ فَالْإِسَاءَةُ كَثِيرٌ مِنْهَا مُكَفَّرٌ وَمَا لَا يُكَفَّرُ يُرْجَى الْعَفْوُ عَنْهُ فَمَا دَامَ مَعَهُ الْإِيمَانُ فَالْحَيَاةُ خَيْرٌ لَهُ كَمَا بَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ كَذَا فِي الْفَيْضِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ. ثُمَّ فِي الْفَيْضِ أَيْضًا وَهَذَا حَدِيثٌ اشْتَمَلَ عَلَى جُمْلَتَيْنِ الْأُولَى خَرَّجَهَا الشَّيْخَانِ وَهِيَ «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْتَ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ» وَالثَّانِيَةِ هَذِهِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةِ م «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ» إلَى رَبِّهِ «بِهِ» أَيْ بِالْمَوْتِ «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ أَنَّهُ» أَيْ الشَّأْنُ «إذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ» يَعْنِي لَا يَتَمَنَّى وَلَا يَدْعُو بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا حَرِيًّا بِالتَّمَنِّي وَالدُّعَاءِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ يَنْقَطِعُ بِهِ الْعَمَلُ فَلِذَا صَارَ الْعُمُرُ أَصْلَ مَالِ الْمُؤْمِنِ يَشْتَرِي بِهِ رَحْمَتَهُ تَعَالَى وَثَوَابَهُ وَقُرْبَهُ وَرِضَاهُ تَعَالَى فَلِهَذَا لَمْ يُعْطَ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ أَعَزُّ مِنْ الْعُمُرِ وَقَدْ سَبَقَ خَبَرُ «خِيَارُكُمْ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ الْعَمَلُ خَيْرًا فَيَشْكُلُ بِكَوْنِ الْعَمَلِ شَرًّا لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا وَقَدْ قِيلَ زَمَانُنَا هَذَا هُوَ زَمَانُ الشُّرُورِ فَلَعَلَّك تَسْتَبْعِدُ الْجَوَابَ بِمَا سَبَقَ فَانْتَظِرْ أَيْضًا وَأَيْضًا يَشْكُلُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ

{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] إذْ الْآثَارُ مَا يَتْبَعُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَعِلْمٍ عَلَّمُوهُ وَحَبْسٍ وَقَفُوهُ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَأَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» فَمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْإِطْلَاقُ. وَمُقْتَضَى الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الثَّانِي عَدَمُ الِانْقِطَاعِ مُطْلَقًا أَيْ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فَبَيْنَهُمَا تَدَافُعٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطْلَقَ فِي مِثْلِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوْ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ وَحْيِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ فَيُتَأَمَّلْ (وَأَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إلَّا خَيْرًا) لِأَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُؤْمِنٌ أَنْ يَكْتَسِبَ مَا يَزِيدُ لَهُ حُسْنًا فَفِيهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَزِدْ عُمُرُهُ لَهُ خَيْرًا فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ (حَدّ هق عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ» فَيُكْرَهُ ذَلِكَ وَقِيلَ يَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ طَلَبِ إزَالَةِ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ مِنْ جَزِيلِ الْفَوَائِدِ وَجَلِيلِ الْعَوَائِدِ كَيْفَ وَفِي زِيَادَةِ الْحَيَاةِ زِيَادَةُ الْأَجْرِ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا اسْتِمْرَارُ الْإِيمَانِ لَكَفَى فَأَيُّ عَمَلٍ أَعْظَمَ مِنْهُ ثُمَّ هَذَا إنْ لِضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ وَإِنْ لِضَرَرٍ دِينِيٍّ فَلَا بَأْسَ وَقَدْ أُشِيرَ آنِفًا مَا اُسْتُفِيضَ عَنْ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ مِنْ تَمَّنِي الْمَوْتِ شَوْقًا إلَى لِقَاءِ الْحَضْرَةِ الْمُتَعَالِيَةِ الْأَقْدَسِيَّةِ وَلَا شَكَّ فِي حُسْنِهِ لِمَقَامِ الْخَوَاصِّ هَذَا وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ إذَا كَانَتْ الْآجَالُ مُقَدَّرَةً لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّمَنِّي لِأَنَّ هَذَا هُوَ حِكْمَةُ النَّهْيِ لِكَوْنِهِ عَبَثًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَفِيهِ كَرَاهَةُ الْمَقْدُورِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِهِ وَلَا يَشْكُلُ عَلَى كَوْنِهِ عَبَثًا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعُمُرِ لِتَقْدِيرِهِ قَوْلَ النَّبِيِّ فِي الْيَهُودِ لَوْ تَمَنَّوْهُ لَمَاتُوا جَمِيعًا لِأَنَّ ذَاكَ بِوَحْيٍ فِي خُصُوصِ أُولَئِكَ لِتَرْتِيبِ آجَالِهِمْ عَلَى وَصْفٍ إنْ وُجِدَ مَاتُوا وَإِلَّا فَلَا فَالْأَسْبَابُ مُقَدَّرَةٌ كَمَا أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ مُقَدَّرَةٌ (فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ) أَيْ مَحَلَّ الِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ كَالْقَبْرِ وَوَقْتِ النِّزَاعِ (شَدِيدٌ وَإِنَّ مِنْ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمُرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقُهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ) أَيْ الرُّجُوعَ مِنْ الْمُخَالَفَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ وَمِنْ الْغَفْلَةِ إلَى الذِّكْرِ وَهَذَا شَأْنُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْمُقَرَّبِينَ كَمَا قَالَ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] . قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ) فِي الْأَحَادِيثِ لِمَنْ تَمَنَّى الْمَوْتَ (لِضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ نَزَلَ بِهِ وَأَمَّا إنْ خَافَ عَلَى دِينِهِ مِنْ الْفَسَادِ) فَتَمَنَّى لِأَجْلِ هَذَا (فَجَائِزٌ) لِيَحْفَظَ دِينَهُ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا تَمَنَّى لِلْوُصُولِ إلَيْهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَشْكُلُ بِمَا تَقَدَّمَ سِيَّمَا كِفَايَةِ اسْتِمْرَارِ الْإِيمَانِ فِي الْفَضْلِ (بِرّ) ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (عَنْ عُلَيْمٍ) صِيغَةُ تَصْغِيرٍ (الْكِنْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ كُنْت جَالِسًا مَعَ أَبِي عَنْبَسٍ الْغِفَارِيِّ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَلَى سَطْحٍ فَرَأَى نَاسًا يَتَحَمَّلُونَ) أَيْ يَتَكَلَّفُونَ فِي حَمْلِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَعْنَاقِ (مِنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ) شَوْقًا لِمَوْلَاهُ

(يَا طَاعُونُ خُذْنِي إلَيْك) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ (يَقُولُهَا ثَلَاثًا قَالَ عُلَيْمٌ) لَهُ إنْكَارًا (لِمَ تَقُولُ هَذَا أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ» أَيْ الْمَوْتِ «انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَلَا يُرَدُّ» إلَى الدُّنْيَا (فَيَسْتَعْتِبُ) أَيْ يَسْأَلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى زَوَالَ الْعَتَبِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ (فَقَالَ أَبُو عَنْبَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَمَا «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ بَادِرُوا بِالْمَوْتِ» أَيْ: سَابِقُوا بِتَمَنِّي الْمَوْتِ «سِتًّا» لِأَجْلِ سِتٍّ «إمْرَةَ السُّفَهَاءِ» لِعَدَمِ رِعَايَتِهِمْ حُدُودَ اللَّهِ فَلَا يُمْكِنُ السُّكُوتُ عَلَى الشَّرْعِ فَيَتَطَرَّقُ الضَّرَرُ فِي الدِّينِ فَعِنْدَ شُيُوعِ الظُّلْمِ وَالْغَوَايَةِ وَالْفَسَادِ يَجُوزُ تَمَنِّيهِ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ الطَّبَرَانِيِّ عَلَى رِوَايَةِ عَنْبَسٍ الْغِفَارِيِّ «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا» لَكِنْ فِي شَرْحِهِ قِصَّةُ عُلَيْمٍ الْمَذْكُورَةُ هُنَا وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَ هُنَا. (وَكَثْرَةَ الشُّرْطِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَوْ فَفَتْحٍ أَعْوَانُ الْوُلَاةِ وَالْمُرَادُ كَثْرَتُهُمْ بِأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ وَبِكَثْرَتِهِمْ يَتَكَثَّرُ الظُّلْمُ وَالشُّرْطُ الْعَلَامَةُ لِأَنَّ فِيهِمْ عَلَامَةَ كَوْنِهِ فِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ (وَبَيْعَ الْحُكْمِ) بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَخْذُ الْقَضَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْحُكْمِ بَلْ فِي مُقَابَلَةِ الْحَجِّ وَالسِّجِلَّاتُ أَكْثَرُ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ (وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ) أَيْ عَدَّ الدَّمِ أَمْرًا خَفِيفًا وَشَيْئًا هَيِّنًا كَأَنْ لَا يَقْتَصَّ مِنْ الْقَاتِلِ (وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ) بِالْإِيذَاءِ أَوْ الْهِجْرَانِ وَتَرْكِ الزِّيَادَةِ وَعَدَمِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَتَرْكِ الْإِمْدَادِ وَنَحْوِهَا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ» (وَنَشْئًا) النَّاشِئُ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ جَاوَزَ حَدَّ الصِّغَرِ وَالْجَمْعُ نَشْءٌ نُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ (يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ) جَمْعُ مِزْمَارٍ الْمُرَادُ غِنَاءُ النَّفْسِ يَعْنِي يَقْرَءُونَ عَلَى مَقَامَاتٍ فَاسِدَةٍ كَالْمَزَامِيرِ (يُقَدِّمُونَ) لِلْإِمَامَةِ وَالْإِقَامَةِ وَالْخَطَابَةِ (الرَّجُلَ) الْكَامِلَ (لِيُغْنِيَهُمْ بِالْقُرْآنِ) بِإِخْرَاجِ الْحُرُوفِ عَنْ مَوَاضِعِهَا

التاسع والأربعون رد عذر أخيه وعدم قبوله

وَبِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لِلْأَلْحَانِ (وَإِنْ كَانَ) الْمُقَدَّمُ (أَقَلَّهُمْ فِقْهًا) إذْ لَيْسَ غَرَضُهُمْ إلَّا الِالْتِذَاذَ وَالِاسْتِمَاعَ لِتِلْكَ الْأَلْحَانِ وَالْأَوْضَاعِ قَالَ الْعَارِفُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ أَمْرُهُ بِالْمُبَادَرَةِ بِالْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ الْهِمَمِ إلَى مُعَامَلَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَثِّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى طَاعَتِهِ وَمُسَابَقَةِ الْعَوَارِضِ وَالْقَوَاطِعِ قَبْلَ وُرُودِهَا. قَالَ الْهَيْتَمِيُّ فِيهِ عُثْمَانُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ [التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ رَدُّ عُذْرِ أَخِيهِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ] (التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ رَدُّ عُذْرِ أَخِيهِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ) فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ (مج عَنْ جُرْدَانَ) فِي الْفَيْضِ اُخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اعْتَذَرَ إلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ» وَالْمُعْتَذِرُ هُوَ الْمُظْهِرُ لِمَا يَمْحُو بِهِ الذَّنْبَ أَيْ طَلَبَ قَبُولَهُ مَعْذِرَتَهُ وَاعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ أَظْهَرَ عُذْرَهُ «فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ» أَيْ الْمُعْتَذِرِ «كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ خَطِيئَةِ صَاحِبِ مَكْسٍ» وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ الْعَشَّارُ لِأَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى قَبُولَ الِاعْتِذَارِ وَالْعَفْوَ عَنْ الزَّلَّاتِ فَمَنْ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقْتِهِ قَالَ الرَّاغِبُ وَجَمِيعُ الْمَعَاذِيرِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَقُولَ لَمْ أَفْعَلْ أَوْ فَعَلْت لِأَجْلِ كَذَا فَيُبَيِّنُ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ ذَنْبًا أَوْ يَقُولُ فَعَلْت وَلَا أَعُودُ فَمَنْ أَنْكَرَ وَأَنْبَأَ عَنْ كَذِبِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ سَاحَتُهُ وَإِنْ فَعَلَ وَجَحَدَ فَقَدْ أُبْعِدَ التَّغَابِي عَنْهُ كَرَمًا وَمَنْ أَقَرَّ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ الْعَفْوَ بِحُسْنِ ظَنِّهِ بِك وَإِنْ قَالَ فَعَلْتُ وَلَا أَعُودُ فَهُوَ التَّوْبَةُ وَحَقُّ الْإِنْسَانِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِاَللَّهِ فِي قَبُولِهَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ مَهْمَا رَأَيْتَ إنْسَانًا يُسِيءُ الظَّنَّ بِالنَّاسِ طَالِبًا لِلْعُيُوبِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ خَبِيثٌ فِي الْبَاطِنِ وَأَنَّ مَا يَرَى فِي غَيْرِهِ هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ وَالْمُؤْمِنُ يَطْلُبُ الْمَعَاذِيرَ وَالْمُنَافِقُ يَطْلُبُ الْعُيُوبَ وَالْمُؤْمِنُ سَلِيمُ الصَّدْرِ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ وَفِيهِ إيذَانٌ بِعِظَمِ جُرْمِ الْمَكْسِ وَأَنَّهُ مِنْ الْجَرَائِمِ الْعِظَامِ (طط عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِفُّوا» كُفُّوا عَنْ الْفَوَاحِشِ «تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ» تَكُفَّ نِسَاؤُكُمْ عَنْهَا وَخَرَّجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «لَا تَزْنُوا فَتَذْهَبَ لَذَّةُ نِسَائِكُمْ وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ إنَّ بَنِي فُلَانٍ زَنَوْا فَزَنَتْ نِسَاؤُهُمْ» «وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ» بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ «يَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ» فِيهِ بِشَارَةٌ لِبَارِّ وَالِدَيْهِ بِحُصُولِ الْأَوْلَادِ الْبَارِّينَ لَهُ «وَمَنْ اعْتَذَرَ إلَى أَخِيهِ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ» وَزِيدَ فِي الْجَامِعِ هُنَا قَوْلُهُ «مِنْ شَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا» «لَمْ يَرِدْ عَلَى الْحَوْضِ» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى بُعْدِهِ عَنْ مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ وَمَوَاطِنِ الْأَخْيَارِ قِيلَ هَكَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ صَحِيحٌ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ حَيْثُ أَوْرَدَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَالْمُنْذِرِيُّ حَيْثُ رَدَّهُ انْتَهَى. أَقُولُ فِي الْجَامِعِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَمَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ فَلَا تُزَانُوهُمْ تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ عَنْ الرِّجَالِ وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ يَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ وَمَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلًا مُعْتَذِرًا فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَيْ لَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْحَوْضِ يَوْمَ يَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ» نَعَمْ قَالَ فِي شَرْحِهِ إنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْعَمِّيُّ وَهُوَ كَذَّابٌ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَصَحِيحٌ وَرَدَّهُ الذَّهَبِيُّ فَقَالَ بَلْ سُوَيْد ضَعِيفٌ وَالْمُنْذِرِيُّ. قَالَ سُوَيْد وَاهٍ ثُمَّ أَقُولُ وَلَوْ سُلِّمَ فَإِنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ كَيْفَ يَكُونُ مُلْزَمًا بِالْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ فِي فَنِّ الْحَدِيثِ فَوْقَهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ فِيمَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِذَنْبِ أَخِيهِ) الَّذِي جَنَاهُ وَلَمْ يَعْلَمْ كَذِبَهُ فِي عُذْرِهِ (وَاحْتَمَلَ عُذْرُهُ الصِّدْقَ)

الخمسون تفسير القرآن برأيه

لِأَنَّ الرَّدَّ حِينَئِذٍ سُوءُ ظَنٍّ بِمُسْلِمٍ وَهُوَ حَرَامٌ (وَإِلَّا) بِأَنْ تَيَقَّنَ كَذِبَهُ فِي عُذْرِهِ (يَكُونُ قَبُولُهُ عَفْوًا وَهُوَ) أَيْ الْعَفْوُ (لَيْسَ بِوَاجِبٍ) بَلْ مَنْدُوبٌ - {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]- بَلْ يَجُوزُ الِانْتِصَارُ وَالْعَفْوُ أَوْلَى لَكِنْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا كَمَا أُشِيرَ آنِفًا بِالرِّوَايَتَيْنِ يُشِيرُ إلَى عُمُومِ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَافْهَمْ. [الْخَمْسُونَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ] (الْخَمْسُونَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ) اعْلَمْ أَنَّ التَّفْسِيرَ تَفْعِيلٌ مِنْ الْفَسْرِ وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْكَشْفُ وَيُقَالُ هُوَ مَقْلُوبُ السَّفْرِ تَقُولُ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إذَا أَضَاءَ وَالتَّأْوِيلُ مِنْ الْأَوْلِ وَهُوَ الرُّجُوعُ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُمَا وَقِيلَ مُتَّحِدَانِ وَأَنْكَرَ وَقَالَ الرَّاغِبُ التَّفْسِيرُ أَعَمُّ وَكَثُرَ فِي الْأَلْفَاظِ وَمِفْرَادَتِهَا وَكَثُرَ التَّأْوِيلُ فِي الْمَعَانِي وَالْجُمَلِ وَقِيلَ التَّفْسِيرُ بَيَانُ لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالتَّأْوِيلُ تَوْجِيهُ لَفْظٍ مُحْتَمِلٍ إلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ التَّفْسِيرُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اللَّفْظِ هَذَا وَالشَّهَادَةُ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ عَنَى بِاللَّفْظِ هَذَا فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَتَفْسِيرٌ بِالرَّأْيِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالتَّأْوِيلُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَاتِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الثَّعْلَبِيُّ التَّفْسِيرُ بَيَانُ وَضْعِ اللَّفْظِ إمَّا حَقِيقَةً وَمَجَازًا كَتَفْسِيرِ الصِّرَاطِ بِالطَّرِيقِ وَالصَّيِّبِ بِالْمَطَرِ وَالتَّأْوِيلُ تَفْسِيرُ بَاطِنِ اللَّفْظِ مَأْخُوذًا مِنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ الرُّجُوعُ لِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَالتَّأْوِيلُ إخْبَارٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُرَادِ وَالتَّفْسِيرُ إخْبَارٌ عَنْ دَلِيلِ الْمُرَادِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُ مِنْ الرَّصَدِ يُقَالُ رَصَدْتُهُ رَقَبْتُهُ وَالْمِرْصَادُ مِفْعَالٌ مِنْهُ وَتَأْوِيلُهُ التَّحْذِيرُ مِنْ التَّهَاوُنِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْغَفْلَةِ عَنْ الْإِلَهِيَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْعَرْضِ عَلَيْهِ وَقَوَاطِعُ الْأَدِلَّةِ تَقْتَضِي بَيَانَ الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ وَضْعِ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرُ إمَّا مُسْتَعْمَلٌ فِي غَرِيبِ الْأَلْفَاظِ نَحْوَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ أَوْ فِي حَيِّزٍ بَيِّنٍ بِشَرْحِهِ نَحْوُ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . وَأَمَّا فِي كَلَامٍ مُتَضَمِّنٍ لِقِصَّةٍ لَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ إلَّا بِمَعْرِفَتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَيُسْتَعْمَلُ مَرَّةً عَامًّا وَمَرَّةً خَاصًّا نَحْوُ الْكُفْرِ الْمُسْتَعْمَلِ تَارَةً فِي الْجُحُودِ الْمُطْلَقِ وَتَارَةً فِي جُحُودِ الْبَارِي تَعَالَى خَاصَّةً وَالْإِيمَانِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْجِدَةِ وَالْوَجْدِ وَالْوُجُودِ وَقِيلَ يَتَعَلَّقُ التَّفْسِيرُ بِالرِّوَايَةِ وَالتَّأْوِيلُ بِالدِّرَايَةِ وَزِيَادَةُ تَفْصِيلِهِ فِي الْإِتْقَانِ وَمِفْتَاحِ السَّعَادَةِ وَأَوَائِلِ تَفْسِيرِ الْعُيُونِ وَأَمَّا التَّفْسِيرُ بِالرَّأْيِ فَهُوَ التَّكَلُّمُ فِي الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِلَا بَصِيرَةٍ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَأَسَالِيبِ كَلَامِهِمْ وَأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَالَ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] . (د ت عَنْ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ» «بِرَأْيِهِ» بِمَا سَنَحَ فِي ذِهْنِهِ وَخَطَرَ بِبَالِهِ مِنْ غَيْرِ دِرَايَةٍ بِالْأُصُولِ وَلَا خِبْرَةٍ بِالْمَنْقُولِ «فَأَصَابَ» أَيْ

فَوَافَقَ هَوَاهُ الصَّوَابَ دُونَ نَظَرٍ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَمُرَاجَعَةِ الْقَوَانِينِ الْعِلْمِيَّةِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وُقُوفٌ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَوُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَمُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ وَعَامٍّ وَخَاصٍّ وَعِلْمٍ بِأَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَاتِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْهَا وَتَعَرُّفٍ لِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ كَذَا فِي الْفَيْضِ «فَقَدْ أَخْطَأَ» فِي حُكْمِهِ عَلَى الْقُرْآنِ بِمَا لَمْ يَعْرِفْ أَصْلَهُ وَشَهَادَتُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُ أَمَّا مَنْ قَالَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ وَتَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ تَأْوِيلٍ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَلَمَّا لَمْ يَتَفَطَّنْ بَعْضُ النَّاسِ لِإِدْرَاكِ هَذَا الْمَعْنَى بِالنَّظَرِ إلَى مُطَابِقَتِهِ لِلْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْخَطَأِ بِالنَّظَرِ إلَى إقْدَامِهِ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فَلَا تَنَافِيَ تَتِمَّةُ الْحَدِيثِ «وَمَنْ قَالَ فِيهِ بِرَأْيِهِ فَأَخْطَأَ فَقَدْ كَفَرَ» كَمَا نُقِلَ عَنْ النَّسَائِيّ وَغَيْرِهِ وَعَنْ الْعِرَاقِيِّ أَنَّ الْقُصَّاصَ يَنْقُلُونَ الْحَدِيثَ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ فَإِنْ اتَّفَقَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَآثِمٌ بِنَقْلِهِ لِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَإِقْدَامِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِمَّنْ هُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنْ يَنْقُلَ حَدِيثًا مِنْ الْكُتُبِ وَلَوْ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ مَا لَمْ يَقْرَأْ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَدْ حَكَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ عِنْدَهُ مَرْوِيًّا وَلَوْ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِ الرِّوَايَاتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضُوعَاتٍ عَلَى الْقَارِئِ وَأَقُولُ تَفْصِيلُهُ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْحَدِيثِ. (فَائِدَةٌ) ادَّعَى ابْنُ جُزْءٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُلَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ وَلَوْ بِالْإِجَازَةِ فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُلَ آيَةً أَوْ يَقْرَأَهَا مَا لَمْ يَقْرَأْهَا عَلَى شَيْخٍ لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَقْلًا لَكِنْ الظَّاهِرُ عَدَمُهُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ مُتَلَقًّى وَالْحَدِيثَ مِمَّا يُخَافُ فِيهِ التَّلْبِيسُ وَالْخَلْطُ. (فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ) الْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْقِرَاءَةِ وَالْإِفَادَةِ فَمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْأَهْلِيَّةَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ أَحَدٌ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ عِلْمٍ خِلَافًا لِمَا يَتَوَهَّمُ الْأَغْبِيَاءُ. (فَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ) لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِجَازَةِ فَإِنْ عَلِمَ الْأَهْلِيَّةَ تَجِبُ الْإِجَازَةُ وَإِلَّا حَرُمَتْ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْإِتْقَانِ. (ت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» أَيْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلًا يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُهُ أَوْ مَنْ قَالَ فِي مُشْكِلِهِ بِمَا لَا يَعْرِفُ مِنْ مَذْهَبِ الصَّحْبِ وَالتَّابِعِينَ «فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» أَيْ فَلْيَتَّخِذْ لِنَفْسِهِ نُزُلًا فِيهَا حَيْثُ نَصَبَ نَفْسَهُ صَاحِبَ وَحْيٍ يَقُولُ مَا شَاءَ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ الْمَنْهِيُّ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الشَّيْءِ رَأْيٌ وَإِلَيْهِ مَيْلٌ مِنْ طَبْعِهِ وَهَوَاهُ فَيَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ عَلَى وَفْقِهِ مُحْتَجًّا بِهِ لِغَرَضِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَوًى لَمْ يَلُحْ لَهُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهَذَا يَكُونُ تَارَةً مَعَ الْعِلْمِ كَمَنْ يَحْتَجُّ مِنْهُ بِآيَاتِهِ عَلَى تَصْحِيحِ بِدْعَتِهِ عَالِمًا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ وَتَارَةً يَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ بِأَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةً فَيَمِيلُ فَهْمُهُ إلَى مَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَيُرَجِّحُهُ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ فَيَكُونُ فَسَّرَ بِرَأْيِهِ إذْ لَوْلَاهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ وَتَارَةً يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَيَطْلُبُ لَهُ دَلِيلًا مِنْ الْقُرْآنِ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ كَمَنْ يَدْعُو إلَى مُجَاهِدَةِ الْقَلْبِ الْقَاسِي بِقَوْلِهِ {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24] وَيُشِيرُ إلَى قَلْبِهِ وَيُومِئُ إلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ بِفِرْعَوْنَ وَهَذَا يَسْتَعْمِلُهُ بَعْضُ الْوُعَّاظِ فِي الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ تَحْسِينًا لِلْكَلَامِ وَتَرْغِيبًا لِلسَّامِعِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، الثَّانِيَ أَنْ يَتَسَارَعَ إلَى تَفْسِيرِهِ بِظَاهِرِ الْعَرَبِيَّةِ بِغَيْرِ اسْتِظْهَارٍ بِالسَّمَاعِ وَالنَّقْلِ يَتَعَلَّقُ بِغَرَائِبِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُبْهَمَةِ وَالْمُجْمَلَةِ وَالِاخْتِصَاصِ وَالْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَمَنْ لَمْ يُحَكِّمْ ظَاهِرَ التَّفْسِيرِ وَبَادَرَ إلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي بِمُجَرَّدِ فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ كَثُرَ غَلَطُهُ وَدَخَلَ فِي زُمْرَةِ مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَالنَّقْلُ وَالسَّمَاعُ لَا بُدَّ مِنْهُمَا

أَوَّلًا ثُمَّ هَذِهِ تَسْتَتْبِعُ التَّفْهِيمَ وَالِاسْتِنْبَاطَ وَلَا مَطْمَعَ فِي الْوُصُولِ إلَى الْبَاطِنِ قَبْلَ إحْكَامِ الظَّاهِرِ انْتَهَى. ثُمَّ قِيلَ إنَّهُ ضَعِيفٌ لِمَا فِيهِ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَامِرٍ الْكُوفِيُّ وَإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَفِي رِوَايَةٍ) لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي» لَا تُحَدِّثُوا عَنِّي «إلَّا مَا عَلِمْتُمْ» بِمَعْرِفَةِ صِحَّةِ النِّسْبَةِ إلَيَّ وَعَنْ الطِّيبِيِّ أَيْ احْذَرُوا رِوَايَةَ الْحَدِيثِ عَنِّي أَوْ احْذَرُوا مِنْ الْحَدِيثِ عَنِّي لَكِنْ لَا تَحْذَرُوا مِمَّا تَعْلَمُونَهُ انْتَهَى وَالْحَدِيثُ عُرْفًا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ فِعْلِهِمْ أَوْ تَقْرِيرِهِمْ وَقَدْ يُخَصُّ بِمَا يُرْفَعُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ كَذَا فِي التَّلْوِيحِ وَغَيْرِهِ وَأَهْلُهُ النَّقَلَةُ الْمُعْتَنُونَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ «فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» أَيْ فَلْيَتَّخِذْ لَهُ مَحَلًّا فِيهَا لِيَنْزِلَ فِيهِ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ أَوْ دُعَاءٌ أَيْ بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ فَالتَّبَوُّأُ اتِّخَاذُ الْمَنْزِلِ، وَالْمَقْعَدُ مَحَلُّ الْقُعُودِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ الْأَمْرُ لِلتَّهَكُّمِ وَالتَّغْلِيظِ إذْ لَوْ قَالَ مَقْعَدُهُ فِي النَّارِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَالْكَذِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَةِ وَالْعَظَائِمِ الْمُهْلِكَةِ لِإِضْرَارِهِ بِالدِّينِ وَإِفْسَادِ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَعُمُومُ الْخَبَرِ يَشْمَلُ الْكَذِبَ فِي غَيْرِ الدِّينِ وَمَنْ خَصَّهُ بِهِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ) مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَوُجُوهِ اسْتِعْمَالَاتِهَا فِي نَحْوِ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَمُجْمَلٍ وَغَيْرِهَا مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمُتَعَلِّقَاتِ التَّفْسِيرِ وَقَوَانِينِ التَّأْوِيلِ كَذَا فِي الْفَيْضِ أَقُولُ تَفْصِيلَةُ مَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ لَعَلَّهُ مِنْ الْإِتْقَانِ أَنَّهُ قَالَ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فَقَالَ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَاطَى تَفْسِيرَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَدِيبًا مُتَّسِعًا فِي مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي ذَلِكَ وَقَالَ قَوْمٌ يَجُوزُ لِمَنْ جَمَعَ الْعُلُومَ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُفَسِّرُ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ: الْأَوَّلُ: اللُّغَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِلُغَاتِ الْقُرْآنِ وَلَا يَكْتَفِي بِالْيَسِيرِ. الثَّانِي: النَّحْوُ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ بِاخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ. الثَّالِثُ: الصَّرْفُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْرِفَةَ الْأَبْنِيَةِ وَالصِّيَغِ. الرَّابِعُ: الِاشْتِقَاقُ لِأَنَّ الِاسْمَ إذَا اُشْتُقَّ مِنْ مَادَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِهِمَا كَالْمَسِيحِ هَلْ هُوَ مِنْ السِّيَاحَةِ أَوْ الْمَسْحِ. الْخَامِسُ: الْمَعَانِي. السَّادِسُ: الْبَيَانُ. السَّابِعُ: الْبَدِيعُ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْأَوَّلِ تَوْفِيَةُ خَوَاصِّ تَرَاكِيبِ الْكَلَامِ حَقَّهَا مِنْ الْمَقَامِ وَبِالثَّانِي مِنْ حَيْثُ تَفَاوُتُهَا بِحَسَبِ زِيَادَةِ الدَّلَالَةِ وَنُقْصَانِهَا وَبِالثَّالِثِ وُجُوهُ تَحْسِينِ الْكَلَامِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ عُلُومُ الْبَلَاغَةِ الَّتِي مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْمُفَسِّرِ قَالَ السَّكَّاكِيُّ فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ تَعَاطَى التَّفْسِيرَ وَهُوَ فِيهِمَا أَيْ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ رَاجِلٌ وَأَمَّا الْبَدِيعُ فَمِنْ جِهَاتِ الْحُسْنِ. الثَّامِنُ: عِلْمُ الْقِرَاءَةِ إذْ بِهِ يَتَرَجَّحُ بَعْضُ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ عَلَى بَعْضٍ التَّاسِعُ: أُصُولُ الدِّينِ إذْ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَجُوزُ ظَاهِرُهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَيَحْتَاجُ إلَى التَّأْوِيلِ. الْعَاشِرُ: أُصُولُ الْفِقْهِ إذْ بِهِ يُعْرَفُ وَجْهُ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَسْبَابُ النُّزُولِ إذْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَعْنَى إلَّا بِهَا. الثَّانِيَ عَشَرَ: النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ لِيَعْلَمَ الْمُحْكَمَ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْفِقْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْأَحَادِيثُ الْمُبَيِّنَةُ لِتَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبْهَمِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: عِلْمُ الْمَوْهِبَةِ وَهُوَ عِلْمٌ يُورِثُهُ اللَّهُ لِمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ كَمَا أُشِيرَ فِي حَدِيثِ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَهَذِهِ هِيَ الْعُلُومُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَعَاطِي التَّفْسِيرِ بِدُونِ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمَنْ فَسَّرَ كَانَ مُفَسِّرًا بِالرَّأْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قُلْت وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَشْكِلَ عِلْمَ الْمَوْهِبَةِ اغْتِرَارًا بِمَا سَمِعْت مِنْ أَقْوَالِ الْمُنْكَرِينَ فَتَأَمَّلْ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَحَدِيثَ «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فُجِّرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» إلَّا أَنَّ الزَّمَانَ لَمَّا خَلَا عَنْ الْعِلْمِ وَذَوِيهِ وَعَنْ الْعِرْفَانِ وَمُنْتَحِلِيهِ وَبَارَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَكَسَدَ سُوقُ الْقَوْلِ الْفَصْلِ تَرَأَّسَ الْجُهَّالُ وَأَكْثَرُوا الْقِيلَ وَالْقَالَ وَلَكِنْ لِلْحُرُوبِ رِجَالٌ وَلِلثَّرِيدِ رِجَالٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا

«فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» الْمُعَدَّةِ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ طَابَقَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ فَقَدْ ارْتَكَبَ أَمْرًا فَظِيعًا وَاقْتَحَمَ هَوْلًا شَنِيعًا حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّارِعِ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَصَابَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ وَمِنْ الطَّامَّاتِ صَرْفُ أَلْفَاظِ الشَّرْعِ عَنْ ظَاهِرِهَا إلَى أُمُورٍ لَمْ تَسْبِقْ مِنْهَا إلَى الْإِفْهَامِ كَدَأْبِ الْبَاطِنِيَّةِ فَإِنَّ الصَّرْفَ عَنْ مُقْتَضَى ظَوَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ فِيهِ بِالنَّقْلِ عَنْ الشَّارِعِ وَبِغَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إلَيْهِ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ حَرَامٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ قَالَ فِي الْمِفْتَاحِ أَيْضًا قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ جُمْلَةُ مَا يَحْصُلُ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: التَّفْسِيرُ بِلَا تَحْصِيلِ آلَاتِهِ مِنْ الْعُلُومِ. الثَّانِي: تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. الثَّالِثُ: التَّفْسِيرُ الْمُقَرِّرُ لِلْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمَذْهَبَ أَصْلًا وَالتَّفْسِيرَ تَابِعًا لَهُ فَيَرُدُّهُ إلَيْهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَمْكَنَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا. الرَّابِعُ: التَّفْسِيرُ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ كَذَا عَلَى الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. الْخَامِسُ: التَّفْسِيرُ بِالْهَوَى ثُمَّ أَقُولُ قَالَ فِي الْفَيْضِ ضَعْفُ هَذَا الْحَدِيثِ لِمَا فِيهِ سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ الَّذِي هُوَ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ نَعَمْ صَحِيحٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمِمَّنْ جَرَى فِي تَضْعِيفِ رِوَايَتِهِ التِّرْمِذِيُّ وَالصَّدْرُ الْمُنَاوِيُّ انْتَهَى وَبِهِ يُعْلَمُ فَسَادُ مَا فِي الْوَسِيلَةِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْ خَاصَّتِهِ اجْتِمَاعُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ فِيهِ إلَى تَمَامِ مَا أَخَذَهُ مِنْ أَوَائِلِ مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِيّ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَلْيُتَأَمَّلْ (اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ أَنْ يَقْتَصِرَ فِيهِ) أَيْ فِي التَّفْسِيرِ (عَلَى الْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ) أَيْ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ (أَقَلُّ قَلِيلٍ) كَتَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَحْتَجَّ أَحَدٌ بِالْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الْمَسْمُوعِ فَيَنْسَدُّ بَابُ الِاجْتِهَادِ وَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ) قِيلَ إشَارَةٌ إلَى الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ (فِي الْبُسْتَانِ النَّهْيُ إنَّمَا وَرَدَ) بِالنِّسْبَةِ (إلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْهُ لَا) بِالنِّسْبَةِ (إلَى جَمِيعِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] عُدُولٌ عَنْ الْحَقِّ كَالْمُبْتَدِعَةِ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] فَيَتَعَلَّقُونَ بِظَاهِرِهِ أَوْ بِتَأْوِيلٍ بَاطِلٍ {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] طَلَبَ أَنْ يُفْتَنُوا النَّاسَ عَنْ دِينِهِمْ بِالتَّشْكِيكِ وَالتَّلْبِيسِ وَمُنَاقَضَةِ الْمُحْكَمِ بِالْمُتَشَابِهِ {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] وَطَلَبَ أَنْ يُؤَوِّلُوهُ عَلَى مَا يَشْتَهُونَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إلَى الِاتِّبَاعِ مَجْمُوعَ الطَّلَبَيْنِ أَوْ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ

وَالْأَوَّلُ يُنَاسِبُ الْمُعَانِدَ وَالثَّانِي يُلَائِمُ الْجَاهِلَ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران: 7] الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ {إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] الَّذِينَ ثَبَتُوا وَتَمَكَّنُوا فِيهِ وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْجَلَالَةِ فَمَنْ وَقَفَ مَنَعَ التَّأْوِيلَ وَمِنْ وَصَلَ أَجَازَهُ كَمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَا مِنْ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأُصُولِ وَقَدْ سَبَقَ يَقُولُونَ آمَنَّا خَبَرُ الرَّاسِخُونَ عَلَى الثَّانِي وَحَالٌ وَاسْتِئْنَافٌ عَلَى الْأَوَّلِ وَهَذَا مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ (الْآيَةَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا نَزَلَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ التَّفْسِيرُ) فِي غَيْرِ الْمَسْمُوعِ (لَا يَكُونُ حُجَّةً بَالِغَةً) إلَى دَرَجَةِ الْكَمَالِ فِي الْحُجِّيَّةِ لِأَنَّ مَا فَسَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَلُّ قَلِيلٍ (فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لِمَنْ يَعْرِفُ لُغَاتِ الْعَرَبِ) كَمَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ كَمَا بِمَتْنِ اللُّغَةِ وَسَائِرِ عُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ (وَعَرَفَ شَأْنَ النُّزُولِ) أَيْ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ زَعَمَ أَنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى التَّارِيخِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ فَوَائِدَ كَمَعْرِفَةِ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ وَتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى كَوْنَ الْعِبْرَةِ بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَالْوُقُوفِ عَلَى الْمَعْنَى وَإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ دُونَ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّتِهَا وَبَيَانِ نُزُولِهَا وَقَدْ عَرَفْت تَفْصِيلَهُ (أَنْ يُفَسِّرَهُ) لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ جَوَازُ التَّفْسِيرِ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ وَسَبَبَ النُّزُولِ لِأَيِّ آيَةٍ سِوَى الْمُتَشَابِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ ذَلِكَ لِمَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ وَاضِحَةً كَأَقْسَامِ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الظُّهُورُ وَأَمَّا مَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ خَفِيَّةً كَأَقْسَامِهِ مِنْ حَيْثُ الْخَفَاءُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْعُلُومِ الْمَذْكُورَةِ وَيَخْتَصُّ بِالْمُجْتَهِدِ (وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ وُجُوهَ اللُّغَةِ) فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ مَعْرِفَتِهَا بِالْوَجْهِ الْوَاحِدِ (لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَسِّرَهُ إلَّا مِقْدَارَ مَا سَمِعَ) بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ (فَيَكُونُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْهُ (عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ) مِمَّنْ يَعْرِفُ لَعَلَّ مِنْهُ مَا وَقَعَ فِي كُتُبِ التَّفَاسِيرِ (لَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ انْتَهَى أَقُولُ وَمِنْ جُمْلَةِ مَحْمَلِ النَّهْيِ) الْوَارِدِ فِي حَقِّ مَنْ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ (مَنْ لَمْ يَعْرِفْ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَمَوَاضِعَ الْإِجْمَاعِ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ كَالْعَالِمِ الْعَامِّيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ رَأْيِ مَنْ قَلَّدَهُ (وَعَقَائِدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَيُفَسِّرُهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعَرَبِيَّةِ فَلَا يَأْمَنُ مِنْ الْخَطَأِ) لِجَهْلِهِ بِمَا ذُكِرَ (فَلَا يُفِيدُ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ وُجُوهِ اللُّغَةِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ مَعْرِفَةِ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إلَخْ وَأَنَا أَقُولُ لَا يَكْفِي مَا ذَكَرَهُ أَيْضًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ الْمَذْكُورَةِ الْبَالِغَةِ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَالَ فِي الْمِفْتَاحِ اعْلَمْ أَنَّ عُلُومَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كُنْهِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَعِلْمِ الْغُيُوبِ. وَالثَّانِي: مَا أَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نَبِيَّهُ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ وَاخْتَصَّهُ بِهِ وَالْأَوَّلُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ النَّبِيِّ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ وَأَوَائِلُ السُّوَرِ قِيلَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَقِيلَ مِنْ الْأَوَّلِ. وَالثَّالِثُ: عَلَّمَهُ نَبِيَّهُ وَأَمَرَهُ بِتَعْلِيمِهِ وَهَذَا قِسْمَانِ مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِ السَّمْعِ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالْقِرَاءَاتِ وَأَحْوَالِ حَشْرِ الْمَعَادِ وَمِنْهُ مَا يُؤْخَذُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الصِّفَاتِ وَقِسْمٌ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَهُوَ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَرْعِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَكَذَا فُنُونُ الْبَلَاغَةِ وَضُرُوبُ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمُ وَالْإِشَارَاتُ

الحادي والخمسون إخافة المؤمن

قَالَ أَبُو حَيَّانَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قِسْمَانِ قِسْمٌ وَرَدَ تَفْسِيرُهُ بِالسَّمْعِ وَقِسْمٌ لَمْ يَرِدْ وَالْأَوَّلُ إمَّا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَيْك تَصْحِيحُ سَنَدِهِ أَوْ عَنْ الصَّحَابَةِ فَإِنْ كَانَ لُغَةً فَاعْتَمِدْهُ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْأَقْوَالُ فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَذَاكَ وَإِلَّا فَقَدِّمْ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشَّرَهُ وَقَالَ «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» وَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَ زَيْدٍ فِي الْفَرَائِضِ أَوْ عَنْ التَّابِعِينَ فَإِنْ صَحَّ الِاعْتِمَادُ فَكَمَا سَبَقَ وَإِلَّا فَوَجَبَ الِاجْتِهَادُ وَأَمَّا مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ فَقَلِيلٌ وَالتَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ الْمُفْرَدَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَمَدْلُولَاتِهَا وَاسْتِعْمَالَاته ابِحَسَبِ السِّيَاقِ (فَإِذَا حَصَلَ لَهُ هَاتَانِ الْمَعْرِفَتَانِ) وُجُوهُ اللُّغَةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ (فَلَهُ أَنْ يُفَسِّرَهُ وَلَا يَكُونُ تَفْسِيرُهُ بِالرَّأْيِ) الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَجَائِزٌ لِعَمَلِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ وَفِي الْمِفْتَاحِ عَنْ الْأَئِمَّةِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَأَى قَاصًّا وَالنَّاسُ حَوْلَهُ أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ قَالَ لَا قَالَ هَلَكْت وَأَهْلَكْت وَحِينَ رَأَى الْأَعْمَشُ قَاصًّا فِي الْمَسْجِدِ يَقُولُ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ فَتَوَسَّطَ الْأَعْمَشُ الْحَلْقَةَ وَجَعَلَ يَنْتِفُ شَعْرَ إبِطِهِ فَقَالَ لَهُ الْقَصَّاصُ نَحْنُ فِي عِلْمٍ وَأَنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ الْأَعْمَشُ الَّذِي فِيهِ أَنَا خَيْرٌ مِنْ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ قَالَ كَيْفَ قَالَ لِأَنَّى فِي سُنَّةٍ وَأَنْتَ فِي كَذِبٍ أَنَا الْأَعْمَشُ وَمَا حَدَّثْتُك مِمَّا تَقُولُ شَيْئًا وَتَفْصِيلُهُ فِي أَوَائِلِ مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِي (أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا أَحْكَامًا مَبْنِيَّةً عَلَى فَهْمِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] حَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ) أَيْ بِبَاطِنِ الْكَفِّ (فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ بِلَمْسِ النِّسَاءِ) بِمُجَرَّدِ الْيَدِ إنْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً (وَ) حَمَلَهُ (أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الْجِمَاعِ فَلَمْ يُوجِبْهُ بِهِ) لِفَقْدِ السَّبَبِ عِنْدَهُ (وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى) قِيلَ هُنَا الْأَوْلَى أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا هُوَ عَنْ التَّفْسِيرِ وَلَوْ عَلِمَ وُجُوهَ اللُّغَةِ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَصَّلُ بِالسَّمْعِ فَاخْتُصَّ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ فَالْغَيْرُ إنْ أَتَى عَلَى طَرِيقِ التَّفْسِيرِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ فَمَا صَدَرَ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ إذْ لِلرَّأْيِ فِيهِ مَدْخَلٌ لِأَنَّهُ صَرَفَ الْكَلَامَ إلَى بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ فَإِنْ وَافَقَ الْأُصُولَ مِنْ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ أَوْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ الْعَرَبِيَّةِ فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَفَاسِدٌ فَالتَّأْوِيلُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الدِّرَايَةِ بِخِلَافِ التَّفْسِيرِ [الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ إخَافَةُ الْمُؤْمِنِ] (الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ) (إخَافَةُ الْمُؤْمِنِ) وَكَذَا الذِّمِّيُّ (مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ) فَلَوْ كَانَ بِذَنْبٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى ذَبِّهِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ قَاعِدَةُ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا بَيَّنَ فِي الشِّرْعَةِ فَلَيْسَ بِآفَةٍ ظَاهِرُهُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ الْفِعْلَ أَيْضًا (وَإِكْرَاهُهُ عَلَى مَا لَا يُرِيدُهُ) أَيْ الْمُؤْمِنِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْآفَاتِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِكْرَاهِ كَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ (كَالْهِبَةِ) وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ فِي نَفْسِهَا وَلِذَا قَالَ فِي قَاضِي خَانْ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ جَاءَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى عَادَةِ التُّرْكُمَانِ وَجَمِيعُ النَّاسِ يَقُولُونَ هَبِي مَهْرَك لِزَوْجِك

الثاني والخمسون قطع كلام الغير وحديثه بكلامه من غير ضرورة

قَبْلَ الدُّخُولِ قَالَتْ وَهَبْت لِزَوْجِي وَأَعْطَاهَا عِوَضَ مَهْرِهَا ثُمَّ قَالَتْ بَعْدَ سَنَةٍ أَوَسَنَتَيْنِ مَا وَهَبْت الْمَهْرَ هَلْ تَصِحُّ بِهَذِهِ الشُّهُودِ الْهِبَةُ أَمْ لَا الْجَوَابُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَالشُّهَدَاءُ إنْ كَانَتْ الْهِبَةُ بِرِضَاهَا وَإِنْ كَانَتْ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ أَوْ حَيَاءً لَا تَصِحُّ (وَالنِّكَاحُ) وَإِنْ صَحِيحًا مُطْلَقًا (وَالْبَيْعُ) وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ مُخَيَّرًا (وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ) لَعَلَّ بِالنَّظَرِ إلَى جِنْسِهِ إذْ بَعْضُ الْإِخَافَةِ يَجُوزُ كَوْنُهُ مَكْرُوهًا إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ أَوْ عُمُومِ الْمَجَازِ (طب عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ أَخَافَ مُؤْمِنًا» مُطْلَقًا لَكِنْ بِغَيْرِ حَقٍّ «كَانَ حَقًّا» أَيْ ثَابِتًا فَلَا يَتَخَلَّفُ لَعَلَّ فِيهِ مَدْخَلًا لِفَهْمِ الْحُرْمَةِ نَعَمْ الْحَدِيثُ وَاحِدٌ فَافْهَمْ «عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُؤَمِّنَهُ» وَيُبَرِّئَهُ «مِنْ أَفْزَاعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَشَدَائِدِهَا وَأَهْوَالِهَا فَلَا يَخْلُصُ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ بَلْ يُخَوِّفُهُ بِهَا مِثْلَ مَا أَخَافَ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ يَحْسُنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا جَزَاءً وِفَاقًا قِيلَ عَنْ الْمُنْذِرِيِّ إنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ فَافْهَمْ وَضِدُّهُ إدْخَالُ السُّرُورِ وَهُوَ مَسْنُونٌ وَمَنْدُوبٌ لِخَبَرِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا «مَا أَدْخَلَ مُؤْمِنٌ عَلَى مُؤْمِنٍ سُرُورًا إلَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ السُّرُورِ مَلَكًا يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ وَيُوَحِّدُهُ فَإِذَا صَارَ الْعَبْدُ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ ذَلِكَ السُّرُورُ فَيَقُولُ لَهُ أَتَعْرِفُنِي فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَيَقُولُ أَنَا السُّرُورُ الَّذِي أَدْخَلْتنِي عَلَى فُلَانٍ أَنَا الْيَوْمَ أُونِسُ وَحْشَتَك وَأُلَقِّنُكَ حُجَّتَك وَأُثَبِّتُك بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وَأَشْهَدُ لَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشْفَعُ لَك وَأُرِيكَ مَنْزِلَكَ مِنْ الْجَنَّةِ» وَفِي حَدِيثِ الْمَشَارِقِ «مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا فَرَّجَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» الْحَدِيثَ، وَعَنْ شَرْحِ الصُّدُورِ «مَنْ كَفَّ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ أَذَى الْقَبْرِ» وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ أَشَارَ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ سَوَاءٌ كَانَ جَادًّا أَوْ هَازِلًا وَلَاعِبًا لِمَا أَدْخَلَهُ عَلَى أَخِيهِ مِنْ الرَّوْعِ وَالْخَوْفِ. [الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ قَطْعُ كَلَامِ الْغَيْرِ وَحَدِيثِهِ بِكَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ] (الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ) (قَطْعُ كَلَامِ الْغَيْرِ وَحَدِيثِهِ بِكَلَامِهِ)

(مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ) (خُصُوصًا إذَا كَانَ فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ أَوْ تَكْرَارِ الْفِقْهِ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ إثْمٌ) مَعَ أَنَّهُ سُنَّةٌ فَكَيْفَ حَالُ غَيْرِهِ قِيلَ وَكَذَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ فِي أَثْنَاءِ الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْخُطْبَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَكَذَا بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ حَتَّى قِيلَ التَّكَلُّمُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْفَرْضِ يُنْقِصُ الثَّوَابَ لَا يُسْقِطُهُ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ اهـ لَا يَخْفَى أَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ خَفِيٌّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ بَيَانِ نَقْلٍ صَحِيحٍ (وَكَذَا) مِنْ الْآفَةِ (قَطْعُ كَلَامِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ جِنْسِهِ كَمَنْ يَقْرَأُ أَوْ يَدْعُو أَوْ يُفَسِّرُ) الْقُرْآنَ (أَوْ يُحَدِّثُ) بِكَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَوْ يَخْطُبُ) يَعِظُ (لِلنَّاسِ وَيَلْتَفِتُ فِي أَثْنَائِهِ إلَى شَخْصٍ فَيَأْمُرُهُ بِبَعْضِ حَوَائِجِ بَيْتِهِ أَوْ نَحْوِهِ وَكَذَا) مِنْ كَوْنِهِ آفَةً (تَكَلُّمُ مَنْ فِي مَجْلِسِ عِظَةٍ) وَعْظٍ (أَوْ تَدْرِيسٍ أَوْ مَنْ فَوْقَهُ) كَشَيْخِهِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ رُتْبَةً وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ فَلَا كَمَا سَبَقَ عَنْ التتارخانية أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْقَوْمِ أَعْلَمُ وَأَوْرَعُ مِنْ الْخَطِيبِ فَلَا يُؤْمَرُ بِاسْتِمَاعِ مَنْ هُوَ دُونَهُ (حِينَ يَتَكَلَّمُ) ذَلِكَ الْفَاضِلُ (مَعَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ وَلَوْ مَعَ الْإِخْفَاءِ وَكَذَا مُجَرَّدُ الْتِفَاتِهِ) يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (وَتَحَرُّكِهِ) بِلَا ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ (وَكُلُّ هَذَا سُوءُ أَدَبٍ وَخِفَّةٌ وَعَجَلَةٌ وَسَفَهٌ بَلْ) يَجِبُ (عَلَى الْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَسْرُدَ) يُنَظِّمَ (كَلَامَهُ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ كَلَامِ أَجْنَبِيٍّ) أَيْ خِلَافِ جِنْسِ مَا فِي صَدَدِهِ (وَ) يَجِبُ (عَلَى الْمُخَاطَبِ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ وَالْإِنْصَاتُ وَالِاسْتِمَاعُ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ كَلَامُهُ بِلَا الْتِفَاتٍ) يَمِينًا وَشِمَالًا (وَلَا تَحَرُّكٍ) بِلَا ضَرُورَةٍ (وَلَا تَكَلُّمٍ) بِلَا مُقْتَضٍ (خُصُوصًا إذَا كَانَ التَّكَلُّمُ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

إلَّا أَنْ تَبْدُوَ) أَيْ تَظْهَرَ لَهُ (حَاجَةٌ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ طَبْعًا) كَبَوْلٍ وَغَائِطٍ وَكَتَحْرِيكِ عُضْوٍ لِنَحْوِ أَلَمٍ وَاسْتِرَاحَةٍ (أَوْ شَرْعًا) كَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ الْمُنْكَرِ (فَلَا يَجِدُ حِينَئِذٍ بُدًّا مِنْ بَعْضِ مَا ذُكِرَ) قِيلَ وَمِنْ سُنَنِ الِاسْتِمَاعِ سُكُونُ الْأَطْرَافِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَعَقْدُ الْقَلْبِ وَعَزْمُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ وَالْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَتِهِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وُفِّقَ لِلْعَمَلِ وَإِيفَاءِ حَقِّهِ وَمِنْ سُنَنِهِ أَنْ لَا يَبْحَثَ عَمَّا يَسْمَعُ حَتَّى يَأْتِيَ الْقَائِلُ عَلَى تَمَامِهِ فَإِنْ بَقِيَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَلَا بَأْسَ بِالْبَحْثِ عَنْهَا بَعْدَ إتْمَامِ الْقَائِلِ كَلَامَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْصَافِ وَتَرْكُ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ أَقْرَبُ إلَى التَّوْفِيرِ وَالِاحْتِرَامِ وَعَنْ الشِّرْعَةِ وَشَرْحِهِ وَالسُّنَّةُ فِي الِاسْتِمَاعِ لِلْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ فَهْمَهُ وَذِهْنَهُ لِكَلَامِ الْمُحَدِّثِ وَيُنْصِتَ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَ الرَّحْمَةَ لِلْمُنْصِتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وَمِنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُكْرَهُ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ جَمَاعَةً لِتَضَمُّنِهَا تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ وَفِي الْخَبَرِ «مَنْ اسْتَمَعَ إلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» وَلِلْقَارِئِ أَجْرٌ وَلِلْمُسْتَمِعِ أَجْرَانِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُنْصِتُ فَعَمَلُهُ اثْنَانِ

الثالث والخمسون رد التابع كلام متبوعه ومقابلته ومخالفته

[الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ رَدُّ التَّابِعِ كَلَامَ مَتْبُوعِهِ وَمُقَابَلَتُهُ وَمُخَالَفَتُهُ] (الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ) (رَدُّ التَّابِعِ كَلَامَ مَتْبُوعِهِ وَمُقَابَلَتُهُ وَمُخَالَفَتُهُ وَعَدَمُ قَبُولِ قَوْلِهِ وَإِطَاعَتُهُ فِي أَمْرٍ مَشْرُوعٍ) عُتُوًّا وَعِنَادًا (كَالرَّعِيَّةِ لِلْأَمِيرِ) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْمَعُوا كَلَامَ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ مِنْ وُلَاةِ أُمُورِكُمْ وَأَطِيعُوا أَمْرَهُمْ» وُجُوبًا فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ نُوَّابُ الشَّرْعِ فَإِنْ قُلْت ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ كَافٍ فَمَا فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالسَّمْعِ مَعَهُ قُلْت فَائِدَتُهُ وُجُوبُ اسْتِمَاعِ كَلَامِهِ لِيَتَمَكَّنَ بِالْإِصْغَاءِ إلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ أَمْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْإِنْصَاتِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَنَهَى عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى صَوْتِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِيُفْهَمَ كَلَامُهُ وَيُتَدَبَّرَ مَا فِي طَيِّهِ وَيُطَاعَ أَمْرُهُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا «وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ» لِلْمَجْهُولِ «عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ» أَيْ الْعَتِيقُ بِاعْتِبَارٍ وَمَا كَانَ مَفْتُونًا أَوْ مُبْتَدَعًا كَمَا اقْتَضَاهُ تَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ «كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» أَيْ مُشَبِّهًا رَأْسَهُ بِالزَّبِيبَةِ فِي السَّوَادِ وَالْحَقَارَةِ وَقَبَاحَةِ الصُّورَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ تَوْلِيَةِ الْعَبْدِ الْإِمَامَةَ لَكِنْ لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ بِالشَّوْكَةِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ خَوْفَ الْفِتْنَةِ وَهَذَا حَثٌّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ وَلَوْ جَائِرًا وَذَلِكَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَعِزِّ الْإِسْلَامِ وَقَمْعِ الْعَدُوِّ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِيهِ التَّسْوِيَةُ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ بَيْنَ مَا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ بِقَوْلِهِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ وَوُجُوبُ الِاسْتِمَاعِ لِكُلِّ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ كَالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ وَالْوَالِدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَمَرَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ بِالْقِيَامِ بِبَعْضِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ مِنْ زِرَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ وَعَمَلٍ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ لِذَلِكَ وَيَنْتَقِلُ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ إلَى فَرْضِ الْعَيْنِ عَلَيْهِ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَالْقَاضِي) لِأَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ قَدْرًا وَأَعَزِّهَا مَكَانًا وَأَشْرَفِهَا ذِكْرًا لِأَنَّهُ مَقَامٌ عَلِيٌّ وَمَنْصِبٌ نَبَوِيٌّ بِهِ الدِّمَاءُ تُعْصَمُ وَتُسْفَحُ وَالْأَبْضَاعُ تُحَرَّمُ وَتُنْكَحُ وَالْأَمْوَالُ يَثْبُتُ مِلْكُهَا وَيُسْلَبُ وَالْمُعَامَلَاتُ يُعْلَمُ مَا يَجُوزُ مِنْهَا وَيَحْرُمُ وَيُكْرَهُ وَيُنْدَبُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ لَيْسَ كَغَيْرِهِ

{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] الْآيَةَ وَمِنْهُ بَعْثُ الرُّسُلِ وَبِالْقِيَامِ بِهِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَجَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ النِّعَمِ الَّتِي يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَعُلِيِّ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] فَأَيُّ شَيْءٍ أَشْرَفُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْقَضَاءِ فَقَالَ {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] وَمَدَحَ الْمُذْعِنِينَ وَلِأَجْلِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَنْ يُدْعَى إلَى الْقَضَاءِ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّخْوِيفِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي قُضَاةِ السُّوءِ وَالْجَوْرِ وَالْكُلُّ مِنْ مُعِينِ الْحُكَّامِ (وَالْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ) لِأَنَّ بِرَّهُمَا مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ كَمَا فِي الشِّرْعَةِ وَفِي شَرْحِهِ عَنْ الْإِمَامِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» قَالَ فِي الشِّرْعَةِ أَيْضًا وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِهِمَا وَلَا يَجْهَرُ لَهُمَا بِالْكَلَامِ وَيُطِيعُهُمَا فِيمَا أُبِيحَ فِي الدِّينِ وَفِي شَرْحِهِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ طَاعَتَهُمَا وَاجِبَةٌ فِي الشُّبُهَاتِ دُونَ الْحَرَامِ الْمَحْضِ لِأَنَّ تَرْكَ الشُّبْهَةِ وَرَعٌ وَرِضَا الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ وَحَقُّ الْوَالِدَةِ أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ الْوَالِدِ فَبِرُّهَا أَوْجَبُ قِيلَ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُمِّ أَكْثَرُ وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ» فَإِنْ تَأَذَّى أَحَدُهُمَا بِمُرَاعَاةِ الْآخَرِ فَالْأَبُ يُقَدَّمُ فِي حَقِّ التَّعْظِيمِ وَالْأُمُّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْخِدْمَةِ وَالْإِحْسَانِ فَلَوْ دَخَلَا عَلَيْهِ يَقُومُ لِلْأَبِ وَلَوْ سَأَلَا يَبْدَأُ فِي الْإِعْطَاءِ بِالْأُمِّ وَيَنْظُرُ إلَيْهِمَا بِالْوُدِّ وَالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَلَهُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ (وَالْمَمْلُوكِ لِسَيِّدِهِ) لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَالَى وَضَعَ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَى الْحُرِّ كَثِيرًا عَنْ الْعَبْدِ لِأَجْلِ سَيِّدِهِ وَجَعَلَ السَّيِّدَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ بِنَفْسِهِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَإِذَا اسْتَعْصَى الْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ فَإِنَّمَا يَسْتَعْصِي عَلَى رَبِّهِ إذْ هُوَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ لِسَيِّدِهِ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36] وَكَذَا إبَاقُهُ وَفِي الْحَدِيثِ «إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ وَإِنْ صَحَّتْ فَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا» وَفِيهِ «أَيُّمَا عَبْدٍ مَاتَ فِي إبَاقِهِ دَخَلَ النَّارَ وَإِنْ كَانَ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَفِيهِ «أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ» (وَالتِّلْمِيذِ لِأُسْتَاذِهِ) قَالَ فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ إنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَا يَنَالُ الْعِلْمَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بِتَعْظِيمِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ وَتَعْظِيمِ الْأُسْتَاذِ وَتَوْقِيرِهِ قِيلَ مَا وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إلَّا بِمُرَاعَاةِ الْحُرْمَةِ وَمَا سَقَطَ مَنْ سَقَطَ إلَّا بِتَرْكِ الْحُرْمَةِ وَتَعْظِيمُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ الطَّاعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكْفُرُ بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ الْحُرْمَةِ وَمِنْ تَعْظِيمِ الْعِلْمِ تَعْظِيمُ الْمُعَلِّمِ قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَا عَبْدُ مَنْ عَلَّمَنِي حَرْفًا إنْ شَاءَ بَاعَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ وَقَدْ أَنْشَدَ رَأَيْت أَحَقَّ الْحَقِّ حَقَّ الْمُعَلِّمِ ... وَأَوْجَبَهُ حِفْظًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمِ لَقَدْ حَقًّ أَنْ يُهْدَى إلَيْهِ كَرَامَةً ... لِتَعْلِيمِ حَرْفٍ وَاحِدٍ أَلْفُ دِرْهَمِ وَمَنْ عَلَّمَك حَرْفًا مِمَّا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَبُوك فِي الدِّينِ وَمِنْ تَوْقِيرِ الْمُعَلِّمِ أَنْ لَا يَمْشِيَ أَمَامَهُ وَلَا يَجْلِسَ مَكَانَهُ وَلَا يَبْدَأَ الْكَلَامَ عِنْدَهُ وَلَا يَسْأَلَ شَيْئًا عِنْدَ مَلَالَتِهِ وَيُرَاعِيَ الْوَقْتَ وَلَا يَدُقَّ الْبَابَ وَيَطْلُبَ رِضَاهُ وَيَجْتَنِبَ سَخَطَهُ وَيَمْتَثِلَ أَمْرَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَمِنْ تَوْقِيرِهِ تَوْقِيرُ أَوْلَادِهِ وَقَرَابَتِهِ وَخُدَّامِهِ ثُمَّ قَالَ فَمَنْ يُؤْذِي أُسْتَاذَه يُحْرَمُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا قَلِيلًا انْتَهَى (وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا) إذْ وَرَدَ فِي تَعْظِيمِ حَقِّ الزَّوْجِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فَتُطِيعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا فِي مَعْصِيَةٍ فَلَا تُصَلِّي وَلَا تَصُومُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا وَتَكُونُ قَانِعَةً مِنْ زَوْجِهَا بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ وَمُقَدِّمَةً حَقَّهُ عَلَى حَقِّ نَفْسِهَا وَحَقِّ سَائِرِ أَقْرِبَائِهَا وَلَا تُعْطِي شَيْئًا مِنْ بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَأَهَمُّ الْحُقُوقِ أَمْرَانِ السَّتْرُ وَالصِّيَانَةُ وَالْآخَرُ تَرْكُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا وَرَاءَ

الرابع والخمسون السؤال عن حل شيء وحرمته وطهارته ونجاسته لصاحبه ومالكه تورعا

الْحَاجَةِ وَالتَّعَفُّفُ عَنْ كَسْبِهِ إنْ حَرَامًا وَتَقُولُ لَهُ إيَّاكَ وَكَسْبَ الْحَرَامِ فَإِنِّي أَصْبِرُ عَلَى الْجُوعِ وَلَا أَصْبِرُ عَلَى النَّارِ وَمِنْ آدَابِهَا أَنْ لَا تَتَفَاخَرَ عَلَى الزَّوْجِ بِجَمَالِهَا وَلَا تَزْدَرِيَ زَوْجَهَا لِقُبْحِهِ وَفَقْرِهِ وَكِبَرِ سِنِّهِ وَتُلَازِمَ الصَّلَاحَ وَالْإِقْبَاضَ فِي غَيْبَةِ زَوْجِهَا وَالرُّجُوعَ إلَى اللَّعِبِ وَأَسْبَابِ اللَّذَّةِ فِي حُضُورِهِ وَلَا تُؤْذِي زَوْجَهَا بِحَالٍ وَتَقُومُ بِكُلِّ خِدْمَةٍ تَقْدِرُ عَلَيْهَا وَتَقْعُدُ فِي بَيْتِهَا لَازِمَةً لِمِغْزَلِهَا وَتَمَامُهُ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ (وَالْجَاهِلِ لِلْعَالِمِ) فَإِنَّ حَقَّ الْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ كَحَقِّهِ عَلَى تِلْمِيذِهِ بَلْ آكَدُ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْمُعَلِّمِ وَالْعُلَمَاءِ كُفْرٌ وَعَنْ مُنْيَةِ الْمُفْتِي تَخْفِيفُ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ كُفْرٌ وَعَنْ الْخِزَانَةِ مَنْ آذَى الْعُلَمَاءَ يُنْفَى مِنْ الْبَلَدِ وَعَنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ إهَانَةُ عُلَمَاءِ الدِّينِ كُفْرٌ (وَهَذَا) أَيْ الرَّدُّ وَعَدَمُ قَبُولِ قَوْلِهِ وَعَدَمُ طَاعَتِهِ (قَبِيحٌ جِدًّا) قَطْعًا لِمَا عَرَفْت مِنْ الْوُجُوهِ (يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّعْزِيرَ) لِأَنَّ الْقُبْحَ إمَّا مُفْضٍ إلَى الْحُرْمَةِ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فَفِيهَا تَعْزِيرٌ (قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلَانِ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا خُطُوطَ الْمُفْتِينَ فَقَالَ الْآخَرُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا كَتَبُوا وَلَا يُعْمَلُ بِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ) لَعَلَّ الْأَمْرَ إنْ إجْمَاعًا قَطْعِيًّا أَوْ مَدْلُولَ نَصٍّ قَطْعِيٍّ يُكَفَّرُ وَإِنْ اخْتِلَافِيًّا فَإِنْ قَوْلًا مَهْجُورًا فَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ وَإِلَّا فَإِنْ صَاحِبَ رَأْيٍ وَكَانَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مِنْ عِنْدِهِ وَإِلَّا فَالتَّعْزِيرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَإِنَّمَا عُزِّرَ لِرَدِّهِ قَوْلَ الْعَالِمِ وَعَدَمِ قَبُولِ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا خُصَّ الدَّلِيلُ وَالتَّأْيِيدُ بِالْأَخِيرِ لِقُوَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ وَالضَّرَرِ فِي مُخَالَفَتِهِ اعْلَمْ أَنَّ التَّعْزِيرَ يَتَفَاوَتُ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَشْخَاصِ وَالتُّهَمِ إذْ هُوَ يَكُونُ بِالنَّفْيِ وَبِالْحَبْسِ وَبِالضَّرْبِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَبِالصَّفْعِ وَبِعَرْكِ الْأُذُنِ وَبِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ وَبِالْإِعْلَامِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الدُّرَرِ [الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ السُّؤَالُ عَنْ حِلِّ شَيْءٍ وَحُرْمَتِهِ وَطَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ لِصَاحِبِهِ وَمَالِكِهِ تَوَرُّعًا] (الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ) (السُّؤَالُ عَنْ حِلِّ شَيْءٍ وَحُرْمَتِهِ وَطَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ لِصَاحِبِهِ وَمَالِكِهِ تَوَرُّعًا) لِإِظْهَارِ وَرَعٍ (بِلَا رِيبَةٍ) مُقْتَضِيَةٍ فَلَوْ مَعَ رِيبَةٍ مِنْ الْأَمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ الْخَارِجِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْآفَاتِ كَمَا

يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ (وَلَا أَمَارَةَ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحُرْمَةِ وَالنَّجَاسَةِ) وَلَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ تِلْكَ الْأَمَارَةِ لَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ وَالْحَرَامُ يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبْهَةِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ فَاللَّازِمُ هُوَ الِامْتِنَاعُ لَا السُّؤَالُ لَعَلَّ وَجْهَ السُّؤَالِ هُوَ كَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلَّ وَالطَّهَارَةَ وَالْأَصْلُ هُوَ حُسْنُ الظَّنِّ أَيْضًا نَعَمْ الْعَمَلُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ جَائِزٌ فِي الدِّيَانَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ كَمَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة فَافْهَمْ. (كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا فَيَسْأَلَ مَالِكَهُ) أَهَذَا الشَّيْءُ مِلْكٌ لَك أَوْ غَصَبْت أَوْ سَرَقْت (وَهُوَ مَسْتُورٌ أَوْ يُهْدِيهِ رَجُلٌ مَسْتُورٌ) لَا يُعْرَفُ حَالُهُ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ وَحِلِّ مَا فِي يَدِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ وَأَمَّا مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِالْخِيَانَةِ فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ (أَوْ يَدْعُوهُ إلَى ضِيَافَةٍ فَيَسْأَلُ عَنْ حِلِّ الْهَدِيَّةِ وَالطَّعَامِ أَوْ يَأْتِي لَهُ بِمَاءٍ فِي كُوزٍ لِيَشْرَبَ أَوْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يَفْرِشُ لَهُ ثَوْبًا أَوْ سَجَّادَةً لِيُصَلِّيَ وَلَيْسَ فِيهِ عَلَامَةُ نَجَاسَةٍ فَيَسْأَلُ عَنْ طَهَارَتِهِ فَهَذَا أَذًى لَهُ وَسُوءُ ظَنٍّ أَوْ رِيَاءٌ أَوْ عُجْبٌ أَوْ جَهْلٌ وَتَجَسُّسٌ) حَرَامٌ (وَبِدْعَةٌ) قَبِيحَةٌ لَا يَلِيقُ ارْتِكَابُهُ لِلْمُسْلِمِ (فَعَلَيْك) أَيُّهَا السَّالِكُ (الِاعْتِمَادَ عَلَى الظَّاهِرِ) وَلَا تَتَعَمَّقْ (كَمَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ فَإِنَّ زَمَانَهُمْ زَمَانُ الصَّلَاحِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَزَمَانَنَا هُوَ زَمَانُ الْفِسْقِ وَالِاعْوِجَاجِ وَلِذَا قَالُوا إنَّ إغْلَاقَ بَابِ الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ فِي زَمَانِهِمْ وَيَجِبُ فِي زَمَانِنَا (فَإِنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ) وَالْعُدْوَانَ خِلَافُ الْأَصْلِ (وَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ وَالطَّهَارَةُ) فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَإِلَّا فَوَسْوَاسٌ لَا وَرَعٌ (وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ) لَكِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَيْسَتْ بِكُلِّيَّةٍ لِتَخَلُّفِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ كَمَا فَصَّلَ فِي الْأَشْبَاهِ وَفِيهِ أَيْضًا الشَّكُّ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ وَالظَّنُّ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ وَهُوَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الصَّوَابِ وَالْوَهْمُ رُجْحَانُ جِهَةِ الْخَطَأِ. وَأَمَّا أَكْبَرُ الرَّأْيِ وَغَالِبُ الظَّنِّ فَهُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ إذَا أَخَذَ بِهِ الْقَلْبُ وَالظَّنُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَبِيلِ الشَّكِّ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ التَّرَدُّدَ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ سَوَاءً اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا وَغَالِبُ الظَّنِّ مُلْحَقٌ بِالْيَقِينِ وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ عِنْدَهُمْ (وَسَيَجِيءُ لِهَذَا زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ فِي الْبَابِ الثَّالِثِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .

الخامس والخمسون تناجي المكالمة بالسر اثنين عند ثالث

[الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ تَنَاجِي الْمُكَالَمَةِ بِالسِّرِّ اثْنَيْنِ عِنْدَ ثَالِثٍ] (الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ تَنَاجِي) الْمُكَالَمَةِ بِالسِّرِّ (اثْنَيْنِ عِنْدَ ثَالِثٍ) (وَلَوْ) كَانَ الثَّالِثُ (سَاكِتًا) لِأَنَّهُمَا إذَا تَنَاجَيَا يَقَعُ فِي قَلْبِ الْآخَرِ خَوْفٌ فَإِنَّ سُكُوتَهُ لَا يُبِيحُ تَنَاجِيَهُمَا (فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ (خ م عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ» اخْتِفَاءً مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَحْرُمُ قِيلَ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ أَمْنِ ذَلِكَ الثَّالِثِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عُمُومُ النَّهْيِ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَجْهُ النَّهْيِ وُقُوعُ الرُّعْبِ فِي قَلْبِ الثَّالِثِ وَمُخَالَفَةُ الصُّحْبَةِ وَالْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْأُنْسِ. وَتَخْصِيصُ النَّهْيِ بِمَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَنَاجَوْنَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَهْمٌ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ بِالْعَدَدِ مَعْنًى وَتَقْيِيدُهُ بِالسَّفَرِ وَالْمَوَاطِنِ الَّتِي لَا يَأْمَنُ الْمَرْءُ فِيهَا عَلَى نَفْسِهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَمُخَالِفٌ لِلسِّيَاقِ بِلَا مُوجِبٍ وَلَا حُجَّةَ لِزَاعِمِهِ فِي مُشَاوَرَةِ الْمُصْطَفَى فَاطِمَةَ عِنْدَ أَزْوَاجِهِ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ إيقَاعُ الرُّعْبِ وَالْمُصْطَفَى لَا يَتَّهِمُهُ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَكِنْ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ وَقَالَ فِي الرِّيَاضِ وَفِي مَعْنَاهُ مَا لَوْ تَحَدَّثَا بِلِسَانٍ لَا يَفْهَمُهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ (حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ) أَيْ تَنْضَمُّوا إلَيْهِمْ (مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ) أَيْ التَّنَاجِيَ مَعَ انْفِرَادِ وَاحِدٍ (يُحْزِنُهُ) أَيْ يُوقِعُ فِي نَفْسِهِ الْحَزَنَ لِأَنَّهُ يَظُنُّ الْحَدِيثَ عَنْهُ بِمَا يُؤْذِيهِ فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَمِنَ ذَلِكَ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كُلُّ الْأَعْدَادِ فَلَا يَتَنَاجَى أَرْبَعٌ دُونَ وَاحِدٍ وَلَا عَشَرَةٌ وَلَا أَلْفٌ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِي حَقِّهِ بَلْ وُجُودُهُ فِي الْكَثِيرِ أَقْوَى وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّالِثَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَمَحَلُّ النَّهْيِ فِي غَيْرِ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ يَتَرَتَّبُ عَلَى إظْهَارِ مَفْسَدَةٍ أَقُولُ وَكَذَا دُخُولُ الثَّالِثِ بَيْنَ مُتَنَاجِيَيْنِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِحَدِيثِ «إذَا كَانَ اثْنَانِ يَتَنَاجَيَانِ فَلَا تَدْخُلْ بَيْنَهُمَا» (وَلَا تُبَاشِرْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ) هَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، الْمُرَادُ بِالْمُبَاشَرَةِ هَاهُنَا نَظَرُ الْمَرْأَةِ بَشَرَةَ امْرَأَةٍ أُخْرَى بِالدِّقَّةِ (فَتَصِفُهَا لِزَوْجِهَا) بِحَيْثُ (كَأَنَّهُ) أَيْ الزَّوْجَ (يَنْظُرُ إلَيْهَا) فَيَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِهَا فَيَقَعُ فِي فِتْنَةٍ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَمَسُّ بَشَرَةُ امْرَأَةٍ بِبَشَرَةِ امْرَأَةٍ أُخْرَى (ط عَنْ) (ابْنِ عُمَرَ) بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ (قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ» . وَزَادَ د قَالَ أَبُو صَالِحٍ) الرَّاوِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (فَقُلْت لِابْنِ عُمَرَ فَأَرْبَعَةٌ) أَيْ فَمَا حَالُ تَنَاجِي اثْنَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةٍ (قَالَ لَا يَضُرُّك) لِفَقْدِ الْعِلَّةِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ يُقَابِلُ الِاثْنَيْنِ

السادس والخمسون التكلم مع الشابة الأجنبية

[السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ التَّكَلُّمُ مَعَ الشَّابَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ] (السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ التَّكَلُّمُ مَعَ الشَّابَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِلَا حَاجَةٍ) لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ فَإِنْ بِحَاجَةٍ كَالشَّهَادَةِ وَالتَّبَايُعِ وَالتَّبْلِيغِ فَيَجُوزُ (حَتَّى لَا يُشَمِّتَ) الْعَاطِسَةَ (وَلَا يُسَلِّمَ عَلَيْهَا وَلَا يَرُدَّ سَلَامَهَا جَهْرًا بَلْ فِي نَفْسِهِ) إذَا سَلَّمَتْ عَلَيْهِ (وَكَذَا الْعَكْسُ) أَيْ لَا تُشَمِّتُهُ الشَّابَّةُ الْأَجْنَبِيَّةُ إذَا عَطَسَ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ أَمَّا الْعُطَاسُ امْرَأَةٌ عَطَسَتْ إنْ كَانَتْ عَجُوزًا يَرُدُّ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً يَرُدُّ عَلَيْهَا فِي نَفْسِهِ وَهَذَا كَالسَّلَامِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ إذَا سَلَّمَتْ عَلَى الرَّجُلِ إنْ كَانَتْ عَجُوزًا رَدَّ الرَّجُلُ عَلَيْهَا السَّلَامَ بِلِسَانِهِ بِصَوْتٍ يُسْمَعُ وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً رَدَّ عَلَيْهَا فِي نَفْسِهِ وَكَذَا الرَّجُلُ إذَا سَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَالْجَوَابُ فِيهِ يَكُونُ عَلَى الْعَكْسِ (لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ) أَيْ يُكْتَبُ بِهِ إثْمٌ كَإِثْمِ الزَّانِي كَمَا فِي حَدِيثِ الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يَزْنِي وَمَا فِي الْقُنْيَةِ يَجُوزُ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ مَعَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الضَّرُورَةِ أَوْ أَمْنِ الشَّهْوَةِ أَوْ الْعَجُوزِ الَّتِي يَنْقَطِعُ الْمَيْلُ عَنْهَا (وَسَيَجِيءُ تَمَامُهُ فِي آفَاتِ الْأُذُنِ) [السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ السَّلَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ] (السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ السَّلَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ) أَيْ بَدْءُ، وَالْمُسْتَأْمَنُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُ إلَى أَضْيَقِهِ» لِأَنَّ السَّلَامَ إعْزَازٌ وَلَا يَجُوزُ إعْزَازُهُمْ بَلْ اللَّائِقُ إعْرَاضُهُمْ وَتَرْكُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِمْ تَصْغِيرًا لَهُمْ وَتَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ فَيَحْرُمُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَوْجَبُوا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِعَلَيْكُمْ فَقَطْ وَلَا يُعَارِضُهُ آيَةُ - {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47]- وَآيَةُ - {وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89]- لِأَنَّ هَذَا سَلَامُ مُتَارَكَةٍ لَا سَلَامُ تَحِيَّةٍ وَأَمَانٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ (بِلَا حَاجَةٍ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ) . وَعَنْ النَّوَوِيِّ حَرَامٌ (وَمَعَهَا لَا بَأْسَ بِهِ) لَكِنْ ظَاهِرُ إطْلَاقِ النَّهْيِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ هُوَ الْعُمُومُ فَإِنْ قِيلَ الْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ قُلْنَا لَا يُتْرَكُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ فِي كَوْنِ كُلِّ حَاجَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى الضَّرُورَةِ خَفَاءً إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ لِأَنَّ رَاوِيَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمُخَرِّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِأَثَرٍ صَرِيحٍ صَحِيحٍ لَعَلَّ الْمَشَايِخَ وَقَفُوا عَلَيْهِ وَفِي الْخُلَاصَةِ يَرُدُّ السَّلَامَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ وَيُنْهَى

عَنْ الْبُدَاءَةِ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ لَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا (وَعَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ) (لَا يُسَلِّمُ عَلَى الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ) أَيْ الْمُظْهِرِ فِسْقَهُ وَاَلَّذِي يُنَاسِبُ الْقَاعِدَةَ الْعَرَبِيَّةَ عَدَمُ السَّلَامِ عِنْدَ كَوْنِهِ عَلَى الْفِسْقِ وَالْإِعْلَانِ لَكِنَّ السَّابِقَ إلَى الْخَاطِرِ هُوَ الْمُطْلَقُ رَدْعًا عَنْهُ وَزَجْرًا لَهُ لَكِنْ لَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ. مِنْ الْمُقْتَدِي وَعَنْ التَّوْفِيقِ لَا بَأْسَ بِالسَّلَامِ عَلَى الْفَاسِقِ لِإِسْلَامِهِ (وَلَا عَلَى الَّذِي يَتَغَنَّى) ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالْغِنَاءِ الْمَمْنُوعِ كَمَا مَرَّ. (وَاَلَّذِي) (يُطَيِّرُ الْحَمَامَ) لَهْوًا «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَنْ يُطَيِّرُ الْحَمَامَ شَيْطَانٌ يُطَيِّرُ شَيْطَانًا» (كَذَا فِي التتارخانية نَقْلًا عَنْ الْعَتَّابِيَّةِ) لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَقْصُرَ عَلَى الذِّمِّيِّ بَلْ يَزِيدُ الْفَاسِقَ وَغَيْرَهُ (وَيَرُدُّ سَلَامَ الذِّمِّيِّ) إذْ سَلَّمَ عَلَيْهِ (بِقَوْلِهِ وَعَلَيْكُمْ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْخَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا) يَنْوِي بِهِ السَّلَامَ لِحَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَرُدُّوا عَلَيْهِمْ» وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا وُجُوبًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْكُمْ» فَقَطْ رُوِيَ بِالْوَاوِ وَبِدُونِهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَحَذْفُهَا أَوْضَحُ مَعْنًى وَأَحْسَنُ وَإِثْبَاتُهَا أَصَحُّ رِوَايَةً وَأَشْهَرُ فَمَعْنَاهُ بِدُونِ الْوَاوِ عَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ وَبِالْوَاوِ فَإِنْ قَصَدُوا التَّعْرِيضَ عَلَيْنَا فَمَعْنَاهُ نَدْعُو عَلَيْكُمْ بِمَا دَعَوْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا فَدُعَاءٌ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ مَنَاطُ السَّلَامَةِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْكُمْ عَطْفًا عَلَى عَلَيْكُمْ فِي كَلَامِهِمْ أَوَّلًا لِتَضَمُّنِ ذَلِكَ تَقْرِيرَ دُعَائِهِمْ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا اخْتِيَارُ هَذِهِ الصِّيغَةِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ الْإِيحَاشِ وَأَقْرَبَ إلَى الرِّفْقِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَمَامُهُ فِي الْفَيْضِ أَقُولُ يُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنْ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ مِنْ حَدِيثِ «إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ السَّامُ عَلَيْك فَقُلْ عَلَيْك» بِغَيْرِ وَاوٍ وَرُوِيَ بِالْوَاوِ أَيْضًا وَفِي التتارخانية أَمَّا إذَا ابْتَدَأَ الْكَافِرُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَيْك وَإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ لِذِمِّيٍّ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك إنْ بِنِيَّةِ تَوْفِيقِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِنِيَّةِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ ذُلٍّ وَصَغَارٍ فَلَا بَأْسَ فِيهِ وَيُكْرَهُ مُصَافَحَةُ الذِّمِّيِّ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ الرَّجُلُ مُخَيَّرٌ عِنْدَ مُرُورِهِ بِقَوْمٍ فِيهِمْ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَأَنْ يَقُولَ وَعَلَيْكُمْ وَعَنْ مُحَمَّدٍ إذَا كَتَبْت إلَى يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فِي حَاجَةٍ فَاكْتُبْ السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى انْتَهَى مُلَخَّصًا وَعَنْ الشَّيْخِ زَادَهْ عَنْ قَتَادَةَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ وَاجِبٌ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَعَنْ مَالِكٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنْ رَدَدْت فَقُلْ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ عَلَاك أَيْ ارْتَفَعَ عَنْك وَعَنْ بَعْضٍ يَقُولُ السِّلَامُ عَلَيْكُمْ بِكَسْرِ السِّينِ يَعْنِي الْحِجَارَةَ وَأَمَّا الدُّعَاءُ لَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانِهِمْ فَجَائِزٌ لِمَا رُوِيَ «أَنْ يَهُودِيًّا حَلَبَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَعْجَةً فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ فَبَقِيَ سَوَادُ شَعْرِهِ إلَى قَرِيبٍ مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً» كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَالِكٍ وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ فَمَفْهُومٌ مِنْ السَّلَامِ عَلَى الْفَاسِقِ وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ حَدِيثِ «سَلِّمُوا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا تُسَلِّمُوا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أُمَّتِي» أَيْ تَارِكِي الصَّلَاةِ فَمَطْعُونٌ فِيهِ كَمَا فُصِّلَ فِي مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِيّ وَعَنْ الْقُنْيَةِ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى الشَّيْخِ الْمُمَازِحِ أَوْ الْكَذَّابِ أَوْ اللَّاهِي وَمَنْ

الثامن والخمسون السلام على من يتغوط أو يبول

يَسُبُّ النَّاسَ وَمَنْ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ النِّسْوَانِ فِي الْأَسْوَاقِ مَا لَمْ يَعْرِفْ تَوْبَتَهُمْ وَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهِ [الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ السَّلَامُ عَلَى مَنْ يَتَغَوَّطُ أَوْ يَبُولُ] (الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ) (السَّلَامُ عَلَى مَنْ يَتَغَوَّطُ أَوْ يَبُولُ) (وَقَدْ مَرَّ) فِي الْآفَةِ الْخَامِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ نَقْلًا عَنْ الْخَانِيَّةِ أَقُولُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْكَلَامِ هُنَالِكَ مَا يَشْمَلُ السَّلَامَ فَإِتْيَانُ هَذَا تَكْرَارٌ وَإِلَّا فَمَا نُقِلَ مِنْ الْخَانِيَّةِ هُنَالِكَ لَا يَصْلُحُ شَاهِدًا لِمَطْلُوبِهِ كَمَا يَظْهَرُ بِالْمُرَاجَعَةِ [التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الدَّلَالَةُ بِاللِّسَانِ عَلَى الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ لِمَنْ يُرِيدُ الْمَعْصِيَةَ] (التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ) (الدَّلَالَةُ) بِاللِّسَانِ (عَلَى الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ لِمَنْ يُرِيدُ الْمَعْصِيَةَ) (فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ) لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ وَأَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ (لِأَنَّهَا إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] قِيلَ هُنَا خَبَرُ الدَّيْلَمِيِّ «الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ فِي النَّارِ» (وَفِي الْخُلَاصَةِ) (ذِمِّيٌّ سَأَلَ مُسْلِمًا عَنْ طَرِيقِ الْبَيْعَةِ) (لَا يَنْبَغِي لَهُ) أَيْ لَا يَجُوزُ (أَنْ يَدُلَّهُ عَلَيْهَا انْتَهَى) لَكِنْ قَالُوا لَا ضَمَانَ بِالدَّلَالَةِ وَإِنْ قَالُوا بِهِ بِالْغَمْزِ وَالسِّعَايَةُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ طَاعَةَ الْكَافِرِ مَعْصِيَةٌ وَبِهِ يَضْمَحِلُّ مَا يُقَالُ إنَّ حَسَنَاتِ الْكُفَّارِ تُؤَثِّرُ فِي تَخْفِيفِ عَذَابِهِمْ فَافْهَمْ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا لِيَدْحَضَ» أَيْ يُبْطِلَ «بِبَاطِلِهِ» بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْبَاطِلِ «حَقًّا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةُ رَسُولِهِ» عَهْدُهُ وَأَمَانُهُ وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» أَيْ يُقْلِعَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يُفِيدُ كَوْنَهُ كَبِيرَةً وَلِذَلِكَ عَدَّهُ الذَّهَبِيُّ مِنْ الْكَبَائِرِ وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ» كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام: 129]- وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» ، وَ {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] (وَمِنْهَا) (الدَّلَالَةُ لِلشُّرَطِيِّ وَالظَّلَمَةِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ خَدَمِ الظَّلَمَةِ وَسُئِلَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ عَنْ طَرِيقِ بَيْتِ السُّلْطَانِ فَأَرْشَدَهُمْ إلَى الْمَقَابِرِ فَضَرَبَهُ الْجُنْدِيُّ وَشَجَّهُ ثُمَّ عَرَفَهُ وَاسْتَعْفَاهُ فَقَالَ كُنْتُ عَفَوْتُ عَنْك فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ وَقُلْتُ اضْرِبْ رَأْسًا ظَالِمًا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ (إذَا ذَهَبُوا لِلظُّلْمِ وَالْفِسْقِ) وَمِنْهَا دَلَالَةُ السُّفَّهِ وَالسُّعَاةِ وَالْمَجَانِينِ

الستون آخر آفات اللسان الإذن والإجازة فيما هو معصية

وَالصِّبْيَانِ عَلَى إتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَإِيذَائِهِمْ كَمَا نُقِلَ عَنْ التَّحْقِيقِ (وَمِنْهَا تَعْلِيمُ الْمَسَائِلِ لِلْمُبْطِلِ فِي دَعْوَاهُ) كَوْنُهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ وَنَحْوِهِ كَالْفَتَى الْمَاجِنِ (وَ) مِنْهَا (تَعْلِيمُ الْأَقْوَالِ الْمَهْجُورَةِ وَالضَّعِيفَةِ) (وَنَحْوِ ذَلِكَ) كَالْمَسَائِلِ الَّتِي كَانَتْ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ. لَكِنْ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ فِيهَا لِغَايَةِ ضَعْفِهَا وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا لِبَعْضِ السَّلَفِ وَكِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ كَالْقَضَاءِ بِبُطْلَانِ الْحَقِّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ بِالتَّفْرِيقِ لِلْعَجْزِ عَنْ الْإِنْفَاقِ غَائِبًا عَلَى الصَّحِيحِ لَا حَاضِرًا أَوْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ مَزْنِيَّةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَوْ بِصِحَّةِ أُمِّ مَزْنِيَّتِهِ أَوْ بِنْتِهَا أَوْ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَوْ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ بِالتَّقَادُمِ أَوْ بِعَدَمِ تَأْجِيلِ الْعِنِّينِ أَوْ بِعَدَمِ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِلَا رِضَاهَا أَوْ بِعَدَمِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَى الْحُبْلَى أَوْ بِعَدَمِ وُقُوعِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بِعَدَمِ الدُّخُولِ عَلَى الْحَائِضِ أَوْ بِعَدَمِ وُقُوعِ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ أَوْ بِعَدَمِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ عَقِبَهُ أَوْ بِنِصْفِ الْجِهَازِ لِمَنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ بَعْدَ الْمَهْرِ وَالتَّجْهِيزِ أَوْ بِشَهَادَةٍ بِخَطِّ أَبِيهِ أَوْ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِشَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ أَوْ قَضَى لِوَلَدِهِ وَتَمَامِهَا فِي قَضَاءِ الْأَشْبَاهِ قِيلَ هُنَا وَمِنْهَا دَلَالَةُ الْمُسْتَشَارِ الْمُشِيرِ عَلَى خِلَافِ الصَّوَابِ أَقُولُ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أَيْ أَمِينٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُشِيرَ إلَّا بِمَا يَرَاهُ صَوَابًا وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ مُعْظَمُ الدِّينِ وَهُوَ النُّصْحُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبِهِ يَحْصُلُ التَّحَابُبُ وَبِضِدِّهِ التَّبَاغُضُ وَالِاخْتِلَافُ وَتَمَامُهُ فِي الْفَيْضِ ثُمَّ لَا بَأْسَ أَنْ نَذْكُرَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضٌ هُنَا قَالَ فِي الْبُسْتَانِ يُكْرَهُ الْكَلَامُ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَعِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَعِنْدَ الْخُطْبَةِ وَمَجْلِسِ الذِّكْرِ وَفِي الْخَلَاءِ وَفِي حَالِ الْجِمَاعِ وَفِي الْمُنْيَةِ يُكْرَهُ الْكَلَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَخَلْفَ الْجِنَازَةِ وَفِي الْخَلَاءِ وَفِي الْجِمَاعِ وَمِنْهَا السَّمَرُ أَيْ التَّكَلُّمُ بِالْكَلَامِ الدُّنْيَوِيِّ بَعْدَ الْعِشَاءِ خَرَّجَ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ إنَّمَا يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَهَا لِمَنْ خُشِيَ عَلَيْهِ فَوْتُ وَقْتِهَا أَوْ فَوْتُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا وَأَمَّا مَنْ وَكَّلَ لِنَفْسِهِ مَنْ يُوقِظُهُ وَلِوَقْتِهَا فَمُبَاحٌ لَهُ النَّوْمُ وَفِي التتارخانية وَيُكْرَهُ السَّمَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَفِي بُسْتَانِ الْفَقِيهِ السَّمَرُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ النَّوْمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّمَرُ فِي أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَالْأَحَادِيثِ الْكَاذِبَةِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالضَّحِكِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِلْمُؤَانَسَةِ وَدَفْعِ الْوَحْشَةِ؛ وَتَجَنَّبُوا الْكَذِبَ وَالْقَوْلَ الْبَاطِلَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالْكَفُّ عَنْهُ أَفْضَلُ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهُ وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ التَّسْبِيحِ أَوْ الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى يَكُونَ خَتْمُهُ بِالْخَيْرِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لَا سَمَرَ إلَّا لِمُسَافِرٍ أَوْ مُصَلٍّ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى مَا يَدْفَعُ عَنْهُ النَّوْمَ فِي سَفَرِهِ فَأُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ وَالْمُصَلِّي إذَا سَمَرَ ثُمَّ صَلَّى يَكُونُ نَوْمُهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَخَتَمَ سَمَرَهُ بِالطَّاعَةِ انْتَهَى قَالَ فِي الْهِدَايَةِ فِي تَعْلِيلِ اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ وَلِأَنَّ فِيهِ أَيْ فِي تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ قَطْعَ السَّمَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَعْدَهُ وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ وَأَجَازَ الْعُلَمَاءُ السَّمَرَ بَعْدَهَا بِالْخَيْرِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» أَيْ فِي تِلْكَ الْمِائَةِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ يَعْنِي كُلُّ نَفْسٍ مَوْجُودَةٍ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ عَلَى الْأَرْضِ لَا تَعِيشُ بَعْدَهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الصَّلَاةِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُ» وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا سَمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ» يَعْنِي الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ «إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ مُصَلٍّ وَمُسَافِرٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَعَرُوسٍ» انْتَهَى مَا فِي الْحَاشِيَةِ [السِّتُّونَ آخِرُ آفَاتِ اللِّسَانِ الْإِذْنُ وَالْإِجَازَةُ فِيمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ] (السِّتُّونَ) آخِرُ آفَاتِ اللِّسَانِ (الْإِذْنُ وَالْإِجَازَةُ

فِيمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ) لَا سِيَّمَا عَنْ التَّوَقُّفِ عَلَى إذْنِهِ (كَإِذْنِ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى غَيْرِ مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ) بِالْجَوَازِ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ (وَفِي الْخُلَاصَةِ وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ إلَى سَبْعَةِ مَوَاضِعَ زِيَارَةِ الْأَبَوَيْنِ) فِي صِحَّتِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي الصَّحِيحِ. وَقِيلَ كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً وَقِيلَ مَرَّتَيْنِ (وَعِيَادَتِهِمَا) فِي مَرَضِهِمَا (وَتَعْزِيَتِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا) إذَا أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ (وَزِيَارَةِ الْمَحَارِمِ) فِي كُلِّ سَنَةٍ وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَبَوَاهَا أَوْ قَرِيبُهَا الْمَجِيءَ إلَيْهَا عَلَى هَذَا الْجُمُعَةِ وَالسَّنَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ إذَا كَانَ الْأَبَوَانِ قَادِرَيْنِ عَلَى إتْيَانِهَا لَا تَذْهَبُ وَإِلَّا أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهَا أَوْلَادٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ عَلَى هَذَا وَفِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْمَتْنِ إذْنُ الزَّوْجِ لَازِمٌ. (فَإِنْ كَانَتْ قَابِلَةً) لِلْحَوَامِلِ (أَوْ غَاسِلَةً) لِلْمَوْتَى (أَوْ كَانَ لَهَا عَلَى آخَرَ حَقٌّ) وَتُرِيدُ أَخْذَهُ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِمُبَاشَرَتِهَا بِنَفْسِهَا (أَوْ لِآخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ) فِي اعْتِقَادِ الطَّالِبِ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ فَاقْتَضَى الْمُرَافَعَةَ أَوْ فِي الْوَاقِعِ وَلَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهُ إلَّا بِالْخُرُوجِ (تَخْرُجُ) لِكُلِّ مَا ذُكِرَ (بِالْإِذْنِ وَبِغَيْرِ الْإِذْنِ) شَامِلٌ لِمَا مَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّ حَقَّ الشَّرْعِ وَحَقَّ الْمَالِيَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ قِيلَ خَصَّ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْمُخَدَّرَةَ إذْ لَا يَقْدِرُ الْخَصْمُ عَلَى إخْرَاجِهَا (وَالْحَجِّ) أَيْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ (عَلَى هَذَا) أَيْ تَخْرُجُ بِإِذْنِهِ وَبِلَا إذْنِهِ عِنْدَ وُجُودِ مَحْرَمِهَا. قَالَ الْمُحَشِّي تَمَّ هُنَا الْمَوَاضِعُ السَّبْعَةُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا مِنْ الْمُلْحَقَاتِ دَلَالَةً (وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ زِيَارَةِ الْأَجَانِبِ وَعِيَادَتِهِمْ وَالْوَلِيمَةِ لَا يَأْذَنُ لَهَا) وَلَا تَخْرُجُ وَإِنْ أَذِنَ (وَلَوْ أَذِنَ وَخَرَجَتْ كَانَا عَاصِيَيْنِ) وَفِي آدَابِ الْقَاضِي لَهُ أَنْ يُغْلِقَ عَلَيْهَا الْبَابَ مِنْ غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ وَالْمُخْتَارُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَالذَّخِيرَةِ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ أَبَوَيْهَا وَأَوْلَادِهَا وَهُمْ يَزُورُونَهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ بِحَضْرَةِ الزَّوْجِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ الْكَيْنُونَةِ عِنْدَهَا وَبِهِ أَخَذَ الْمَشَايِخُ وَحَاصِلُ مَا فِي النِّصَابِ عَنْ كِفَايَةِ الشَّعْبِيِّ لَا يُسْأَلُ عَنْ جَوَازِ خُرُوجِهِنَّ لِزِيَارَةِ الْمَقَابِرِ وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ مِقْدَارِ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ الضَّرَرِ فَإِنَّهَا عِنْدَ نِيَّتِهَا الْخُرُوجَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَعِنْدَ خُرُوجِهَا لَحِقَتْهَا الشَّيَاطِينُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَإِذَا أَتَتْ الْقَبْرَ يَلْعَنُهَا رُوحُ الْمَيِّتِ وَإِذَا رَجَعَتْ كَانَتْ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ كَذَلِكَ حَتَّى تَعُودَ وَفِي الْخَبَرِ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ خَرَجَتْ إلَى مَقْبَرَةٍ تَلْعَنُهَا مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ فَتَمْشِي فِي لَعْنَةِ اللَّهِ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ دُعِيَتْ لِخَيْرٍ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا يُعْطِيهَا اللَّهُ تَعَالَى ثَوَابَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ» وَيَضْرِبُ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فِيمَا يَلْزَمُ فِيهِ التَّعْزِيرُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ وَيَضْرِبُ لِلتَّأْدِيبِ وَلَا يُبَاشِرُهَا وَلَا يَنْبَسِطُ إلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِئَلَّا تَبْطُلَ فَائِدَةُ التَّأْدِيبِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَرْفَعْ عَصَاك عَنْ أَهْلِك وَعَلِّقْ سَوْطَك فِي مَوْضِعٍ يَرَاهُ أَهْلُ بَيْتِك» وَيُطِيلُ السُّكُوتَ عِنْدَهَا (وَيَمْنَعُ مِنْ الْحَمَّامِ) أَيْ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ مِنْ الذَّهَابِ إلَى حَمَّامِ السُّوقِ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ مُسَاوَاةُ الشَّابَّةِ وَغَيْرِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَمْنِهِ لَكِنْ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ التَّفْصِيلُ فِي ذَلِكَ

(فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ) لِاسْتِحْصَالِ عِلْمِ الْحَالِ الضَّرُورِيِّ أَوْ الِاسْتِحْسَانِيِّ كَمَا سَيُشَارُ إلَيْهِ (بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ) الْخُرُوجُ لَعَلَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَنْعُ لِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَإِنْ لِمُجَرَّدِ هَوًى خَارِجِيٍّ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْعَهُ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَلَوْ أَذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ إلَى مَجْلِسِ الْوَعْظِ الْخَالِي عَنْ الْبِدَعِ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا يَأْذَنُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَفِيهِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ كَالتَّصْدِيَةِ وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَاللَّعِبِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِإِلْقَاءِ الْكُمِّ وَضَرْبِ الرِّجْلِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْقِيَامِ وَالصُّعُودِ وَالنُّزُولِ عَنْهُ فَكُلٌّ مِنْ الْمَذْكُورِ مَكْرُوهٌ وَلَا يَحْضُرُ وَلَا يَأْذَنُ لَهَا وَلَوْ فَعَلَ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى. (فَإِنْ وَقَعَتْ لَهُ نَازِلَةٌ) أَيْ حَادِثَةٌ مُحْتَاجَةٌ إلَى عَالِمٍ فَحِينَئِذٍ (إنْ سَأَلَ الزَّوْجُ) مَثَلًا (مِنْ الْعَالِمِ وَأَخْبَرَهَا بِذَلِكَ لَا يَسْعَهَا الْخُرُوجُ) لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ (وَإِنْ امْتَنَعَ) الزَّوْجُ (مِنْ السُّؤَالِ) وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَسْأَلُ لَهَا (يَسَعُهَا الْخُرُوجُ) لَعَلَّ ذَلِكَ قَدْ يَجِبُ وَقَدْ يُنْدَبُ وَقَدْ يُبَاحُ عَلَى تَفَاوُتِ الْوَقْعَةِ (مِنْ غَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ) لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ (وَإِنْ لَمْ تَقَعْ لَهَا نَازِلَةٌ لَكِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ لِتَعْلَمَ مَسْأَلَةً) مِنْ عِلْمِ حَالِهَا (مِنْ) نَحْوِ (مَسَائِلِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ يَحْفَظُ الْمَسَائِلَ وَيَذْكُرُهَا عِنْدَهَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا وَإِنْ كَانَ) الزَّوْجُ (لَا يَحْفَظُ) الْمَسَائِلَ (الْأَوْلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَحْيَانًا) لِتَعْلَمَ مَا يَهُمُّهَا مِنْ مَسَائِلِ دِينِهَا (وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) فِي الْآخِرَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ الْإِذْنِ عَلَيْهِ (وَلَا يَسَعُهَا الْخُرُوجُ مَا لَمْ يَقَعْ لَهَا نَازِلَةٌ انْتَهَى) كَلَامُ الْخُلَاصَةِ (وَقَالَ) (ابْنُ الْهُمَامِ) السِّيوَاسِيُّ (وَحَيْثُ أَبَحْنَا) مِنْ الْإِبَاحَةِ (لَهَا الْخُرُوجَ) إلَى الْمَوَاضِعِ (فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إلَّا مَا لَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ) طَلَبُ الْمَيْلِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب: 33] التَّبَرُّجُ إظْهَارُ الْمَرْأَةِ زِينَتَهَا وَمَحَاسِنَهَا {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33] الْجَاهِلِيَّةُ الْأُولَى الْكُفْرُ وَالثَّانِيَةُ الْفِسْقُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْأُولَى لَا أُخْرَى لَهَا كَمَا قِيلَ أَوْ الْأُولَى زَمَانُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَوْ زَمَانُ نُمْرُودَ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَلْبَسُ دِرْعًا مِنْ لُؤْلُؤٍ وَتَخْرُجُ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الرِّجَالِ وَقِيلَ مَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَقِيلَ الزَّمَانُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُخْرَى مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَقَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ (وَتُمْنَعُ مِنْ الْحَمَّامِ خَالَفَهُ فِيهِ قَاضِي خَانْ) عَنْ شَرْحِ الْوِقَايَةِ لِمُصَنِّفِك مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَةِ وَالنُّونُ فِي خَانْ

غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِأَنَّهُ عُجْمَةٌ وَتَنْوِينُهُ خَطَأٌ قِيلَ وَعَلَى هَذَا يَجْرِي فِيهِ الْإِعْرَابُ تَقْدِيرًا وَخَانْ مَنْصُوبٌ فِي الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ وَعَنْ النَّوَازِلِ الْمُخْتَارُ أَنَّ لَفْظَ قَاضِي خَانْ كَانَ صَاحِبُهُ مَشْهُورًا بِهِ حَتَّى صَارَ عَلَمًا لَهُ وَلِهَذَا يُكْتَبُ مُتَّصِلًا عَلَى الْأَصَحِّ فَيَكُونُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ بِالتَّرْكِيبِ وَالْعَلَمِ (حَيْثُ قَالَ فِي فَصْلِ الْحَمَّامِ فِي فَتَاوَاهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ مَشْرُوعٌ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا خِلَافًا لِمَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ) فِيهِ نَوْعُ تَحْقِيرٍ لِأَبِي اللَّيْثِ مِنْ حَيْثُ مَقُولِهِ هَذَا وَفِي التتارخانية دُخُولُهُنَّ الْحَمَّامَ لَا يُبَاحُ عِنْدَ بَعْضٍ وَإِلَيْهِ مَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ وَمُبَاحٌ عِنْدَ آخَرَانِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا مُقَنَّعَةً وَمُتَّزِرَةً وَإِلَيْهِ مَالَ السَّرَخْسِيُّ وَفِيهِ أَيْضًا لَا تَدْخُلُ امْرَأَةٌ الْحَمَّامَ إلَّا النُّفَسَاءُ وَالْمَرِيضَةُ وَكَذَا الْحَائِضُ عِنْدَ بَعْضٍ. وَفِي الْأَشْبَاهِ وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ الْحَمَّامُ فِي قَوْلٍ وَقِيلَ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ وَالْمُعْتَمَدُ أَنْ لَا كَرَاهَةَ مُطْلَقًا انْتَهَى (رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ الْحَمَّامَ» قِيلَ مَوْضُوعٌ كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيّ وَغَيْرُهُ. أَقُولُ قَالَ السُّيُوطِيّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ بِرِوَايَةِ وَاثِلَةَ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَتَنَوَّرُ» نَعَمْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثٌ فِي الْحَمَّامِ وَلَمْ يَدْخُلْ حَمَّامًا قَطُّ وَلَعَلَّهُ مَا رَآهُ بِعَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا بَلْ رَآهُ بِالْمَزَّةِ وَقِيلَ عَنْ شَرْحِ الشَّمَائِلِ خَبَرُ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ» مَوْضُوعٌ خِلَافًا لِلدَّمِيرِيِّ أَقُولُ وَقَدْ مَرَّ أَيْضًا (وَتَنَوَّرَ) اسْتَعْمَلَ النُّورَةَ فِيهِ أَيْ طَلَى عَانَتَهُ بِالنُّورَةِ لِزَوَالِ الشَّعْرِ بَدَلَ الْحَلْقِ (وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) لَقَّبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَيْفِ اللَّهِ وَلَهُ مَنَاقِبُ فِي الْحُرُوبِ وَالْمَعَارِكِ رُوِيَ أَنَّهُ بَكَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَقِيلَ هَلْ تَخَافُ مِنْ الْمَوْتِ قَالَ لَا بَلْ لَوْ نَزَعْت ثَوْبِي لَرَأَيْتُمْ أَنَّ جَمِيعَ بَدَنِي قُطِّعَ بِالسُّيُوفِ وَالسِّهَامِ إرَبًا إرَبًا فَأَمُوتُ فِي بَيْتِي بِلَا شَهَادَةٍ (دَخَلَ حَمَّامَ حِمْصَ) وَهُوَ مَدْفُونٌ فِيهِ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ (لَكِنْ إنَّمَا يُبَاحُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إنْسَانٌ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ انْتَهَى) حَاصِلُهُ أَنَّ الْحَمَّامَ إذَا خَلَى عَنْ الْمَوَانِعِ وَطَبْعُهُ الْجَوَازُ بَلْ الِاسْتِحْبَابُ لَا يَخْفَى أَنَّ دَلِيلَ الْمَشْرُوعِيَّةِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَلَا أَقَلَّ مِنْ الضَّعْفِ فَلَا يَصْلُحُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَمَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً عِنْدَنَا لَكِنْ يَلْزَمُ بَيَانُ صِحَّةِ دُخُولِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْحَمَّامِ فَلْيُتَأَمَّلْ (عَلَى ذَلِكَ) الشَّرْطِ لِلْجَوَازِ (فَلَا خِلَافَ فِي مَنْعِهِنَّ مِنْ دُخُولِهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُنَّ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ) وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ دَائِرٌ عَلَى عِلَّتِهِ فَإِذَا انْتَفَى شَرْطُ الْجَوَازِ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ يَنْتَفِي الْجَوَازُ لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ وَالْأَعْصَارِ وَالْبُلْدَانِ لَا سِيَّمَا إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ عُمُومُ الْبَلْوَى وَالْحَرَجِ وَمِنْ قَوَاعِدِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لَا يَسْقُطُ بِالْخَارِجِ الْعَرَضِيِّ (وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفَقِيهِ) وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّهُ عِنْدَ تَعَارُضِ أَقْوَالِ أَصْحَابِنَا يُرَجَّحُ مَا يُؤَيِّدُهُ النَّصُّ عَلَى مَا لَا يُؤَيِّدُهُ. وَمَا حَكَى قَاضِي خَانْ مِنْ دُخُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَطْ عَرَفْت عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُرَجَّحُ عَلَى فِعْلِهِ عَلَى الْأَشْهَرِ (مِنْهَا مَا فِي النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ) حُمِلَ عَلَى نِسْيَانِ الْمُصَنِّفِ تَرْكَ عَادَتِهِ مِنْ الرَّمْزِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ مَقَامَ الِاحْتِجَاجِ سِيَّمَا فِي مُقَابَلَةِ مَنْ لَهُ عُلُوُّ شَأْنٍ وَعَظَمَةُ مَقَامٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ تَأْثِيرٌ مَا أَتَى مِنْ زِيَادَةِ بَعْضِ الْقُيُودِ (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» إيمَانًا كَامِلًا «فَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ» أَيْ زَوْجَتَهُ «الْحَمَّامَ» فَدُخُولُ مُطْلَقِ النِّسَاءِ مُشْتَرِكٌ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ مِنْ

اقْتِضَاءِ الْخُرُوجِ إلَى الْأَسْوَاقِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسْوَانِ أَقُولُ الْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ جَابِرٍ عَلَى تَخْرِيجِ ك هَكَذَا «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إزَارٍ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ إلَّا لِعُذْرٍ كَحَيْضٍ وَنِفَاسٍ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَهَا أُجْرَتَهُ فَيَكُونَ كَفَاعِلِ الْمَكْرُوهِ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْمُنَاوِيِّ بَعْدَ مَا عَزَاهُ لِلتِّرْمِذِيِّ فِيهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ ضَعِيفٌ ثُمَّ قَالَ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ وَأَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ نَعَمْ قَالَ بِصِحَّتِهِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. (وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْحَمَّامُ حَرَامٌ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي» قَالَ الْمُنَاوِيُّ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ كَحَيْضٍ وَنِفَاسٍ وَبِهَذَا أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّ دُخُولَهُنَّ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَنَزَّلُوا الْحَدِيثَ عَلَى مَا إذَا كَانَ فِيهِ كَشْفُ عَوْرَةٍ وَنَحْوِهِ (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ) وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ الذَّهَبِيُّ (انْتَهَى) كَلَامُ ابْنِ الْهُمَامِ وَعَنْ النِّصَابِ وَيُحْتَسَبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لِلْحَمَّامِ أَوْ خَرَجَتْ غَيْرَ مُتَقَنِّعَةٍ وَإِنْ بِإِذْنِهِ مُتَقَنِّعَةً فَمَالَ السَّرَخْسِيُّ إلَى إبَاحَتِهِ وَقِيلَ إلَى عَدَمِهِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ نِسَاءَ حِمْصَ دَخَلْنَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ أَنْتُنَّ مِنْ اللَّاتِي يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَ فَقُلْنَ نَعَمْ فَأَمَرَتْ بِإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ مَوْضِعِ جُلُوسِهِنَّ لَكِنْ ذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي الْمُنَاوِيِّ بِلَا ذِكْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ يَعْنِي الْأَمْرَ بِالْإِخْرَاجِ ثُمَّ حَاصِلُ مُرَادِ ابْنِ الْهُمَامِ مَنْعُ دُخُولِهِنَّ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ عِنْدَ الْفَقِيهِ وَحَمَلَ إيرَادَ قَاضِي خَانْ عَلَى عَدَمِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَعِنْدَ الْكَشْفِ مَمْنُوعَاتٌ أَيْضًا عِنْدَ قَاضِي خَانْ وَفِي زَمَانِنَا الْكَشْفُ كَثِيرٌ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَقِيهِ وَقَاضِي خَانْ فِي الْمَنْعِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَبِعَ فِي ذَلِكَ ابْنَ الْهُمَامِ فَعِنْدَهُ هُوَ الْمَنْعُ الْمُطْلَقُ وَأَنْتَ قَدْ سَمِعْت مِنْ الْأَشْبَاهِ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا وَسَمِعْت مِنْ الْفَيْضِ أَنَّهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَأَيْضًا سَمِعْت عَدَمَ الْمَنْعِ عِنْدَ الْعُذْرِ كَالْحَيْضِ نَعَمْ إنَّ الْحَظْرَ يُرَجَّحُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْقَوْلُ الَّذِي وَقَعَ فِي تَأْيِيدِهِ نَصَّ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَفِي الشِّرْعَةِ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ دُونَ

النِّسَاءِ قِيلَ عَنْ الْإِمَامِ دَخَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَمَّامَاتِ الشَّامِ فَقَالَ بَعْضٌ نِعْمَ الْبَيْتُ يُطَهِّرُ الْبَدَنَ وَيُذَكِّرُ النَّارَ وَبَعْضٌ بِئْسَ الْبَيْتُ يُبْدِي الْعَوْرَاتِ وَيُذْهِبُ الْحَيَاءَ (وَقَدْ يَكُونُ) إذْنُ الزَّوْجِ إلَى مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ (بِالسُّكُوتِ فَهُوَ كَالْقَوْلِ) فِي الْإِثْمِ (لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ) فِي إطْلَاقِهِ كَلَامٌ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] فَلَوْ خَرَجَتْ وَسَكَتَ الزَّوْجُ كَانَا عَاصِيَيْنِ وَفِي الْقُهُسْتَانِيِّ عَنْ الْمُحِيطِ قَالَتْ عَائِشَةُ لِلنِّسَاءِ حِينَ شَكَوْنَ إلَيْهَا مِنْ عُمَرَ لِنَهْيِهِنَّ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ لَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَلِمَ عُمَرُ مَا أَذِنَ لَهُنَّ وَأَمَّا الْمَنْعُ وَالرَّدُّ بِالْقَوْلِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْإِذْنُ (فَدَاخِلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمَعْرُوفِ) فَيَكُونُ حَرَامًا (وَمِنْ جُمْلَتِهِ) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمَعْرُوفِ (مَنْعُ امْرَأَتِهِ عَنْ تَمْرِيضِ) التَّمْرِيضُ حُسْنُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرِيضِ (أَحَدِ أَبَوَيْهَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُمَرِّضُهُ وَيَقُومُ بِحَوَائِجِهِ فَيَأْثَمُ الزَّوْجُ) بِمَنْعِهَا عَنْهُ (وَعَلَيْهَا) وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا عَلَى حَسَبِ اقْتِضَائِهِ (أَنْ تَخْرُجَ) لِذَلِكَ (بِلَا إذْنِهِ) لَفْظًا (إنْ لَمْ يَمْنَعْهَا بِالْفِعْلِ) فَإِنْ مَنَعَهَا بِالْفِعْلِ امْتَنَعَتْ لِئَلَّا يُفْضِيَ الْأَمْرُ إلَى أَشَدِّ مِنْهُ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَلَوْ كَانَ لَهَا أَبٌ زَمِنٌ وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ إلَّا هِيَ وَالزَّوْجُ يَمْنَعُهَا مِنْ التَّعَاهُدِ تَعْصِي زَوْجَهَا وَتَقُومُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا انْتَهَى وَنَقَلَ عَنْ الْخَانِيَّةِ فِي تَعْلِيلِهِ أَنَّ الْقِيَامَ بِتَعَاهُدِ الْوَالِدِ فَرْضٌ عَلَيْهَا فَيُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ

المبحث الثاني فيما الأصل فيه الإذن والإباحة من جانب الشرع

[الْمَبْحَثُ الثَّانِي فِيمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ وَالْإِبَاحَةُ مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ] [الْأَوَّلُ الْمِزَاحُ] (الْمَبْحَثُ الثَّانِي) مِنْ السِّتَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِآفَاتِ اللِّسَانِ (فِيمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ) وَالْإِبَاحَةُ مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ (مِنْ الْعَادَاتِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا نِظَامُ الْمَعَاشِ وَهُوَ سِتَّةٌ الْأَوَّلُ الْمِزَاحُ) بِالضَّمِّ اسْمُ الْمَزْحِ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الزَّاي وَبِالْكَسْرِ مَصْدَرُ مَازَحَهُ (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ لَتُدَاعِبُنَا» مِنْ الْمُدَاعَبَةِ وَهِيَ الْمُمَازَحَةُ أَيْ لَتُمَازِحُنَا مُرَادُهُمْ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ جَوَازِ الْمِزَاحِ (قَالَ «إنِّي لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» فَيَجُوزُ الْمِزَاحُ لَنَا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ حُجَّةٌ لَنَا مَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مِنْ خَوَاصِّهِ بِدَلِيلٍ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الِاقْتِدَاء وَالْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ «إنِّي وَإِنْ دَاعَبْتُكُمْ لَاطَفْتُكُمْ بِالْقَوْلِ فَلَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» قَالَ شَارِحُهُ وَالْمُدَاعَبَةُ مَطْلُوبَةٌ مَحْبُوبَةٌ لَكِنْ فِي مَوَاطِنَ مَخْصُوصَةٍ فَلَيْسَ كُلُّ آنٍ يَصْلُحُ الْمِزَاحُ وَلَا فِي كُلِّ وَقْتٍ يَحْسُنُ الْجِدُّ فَكَوْنُهُ مَحْمُودًا هُوَ الِاقْتِصَادُ لِأَنَّ الْإِفْرَاطَ يُذْهِبُ الْبَهَاءَ وَتَرْكُهُ يَقْبِضُ الْمُؤَانِسَ وَيُوحِشُ الْمُخَالِطَ لَكِنَّ الِاقْتِصَادَ فِيهِ صَعْبٌ جِدًّا لَا يَكَادُ يُوقَفُ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ تَحَرَّجَ عَنْهُ أَكْثَرُ الْحُكَمَاءِ حَيْثُ قِيلَ الْمِزَاحُ مَسْلَبَةٌ لِلْبَهَاءِ مَقْطَعَةٌ لِلْإِخَاءِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إنِّي لَأَمْزَحُ» بِالْقَوْلِ وَكَذَا بِالْفِعْلِ وَتَخْصِيصُهُ بِالْأَوَّلِ لَيْسَ بِمُعَوَّلٍ عَلَيْهِ «وَلَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» لِعِصْمَتِي مِنْ الزَّلَلِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ لِامْرَأَةٍ «زَوْجُك الَّذِي فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ» وَقَوْلُهُ لِأُخْرَى «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» وَقَوْلُهُ لِآخَرَ «لَأَحْمِلكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» وَقِيلَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ الْمِزَاحُ سَيِّئَةٌ فَقَالَ بَلْ سُنَّةٌ وَلَكِنْ لِمَنْ يُحْسِنُهُ وَإِنَّمَا كَانَ يَمْزَحُ لِأَنَّ النَّاسَ مَأْمُورُونَ بِالتَّأَسِّي بِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ فَلَوْ تَرَكَ اللَّطَافَةَ وَالْبَشَاشَةَ وَلَزِمَ الْعُبُوسَ لَأَخَذَ النَّاسُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى مَا فِي مُخَالَفَةِ الْغَرِيزَةِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْعَنَاءِ فَمَزَحَ لِيَمْزَحُوا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ الْعَاقِلُ يَتَوَخَّى بِمِزَاحِهِ أَحَدَ حَالَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا أَحَدُهُمَا إينَاسُ الْمُصَاحِبِينَ وَالتَّوَدُّدُ إلَى الْمُخَالِطِينَ كَمَا قَالَ حَكِيمٌ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اقْتَصِدْ فِي مِزَاحِك فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ فِيهِ يُذْهِبُ الْبَهَاءَ وَيُجَرِّئُ السُّفَهَاءَ وَالتَّقْصِيرَ فِيهِ نَقْصٌ بِالْمُؤَانِسِينَ وَتَوَحُّشٌ بِالْمُخَاطَبِينَ وَالثَّانِي أَنْ يَنْفِيَ مِنْ الْمِزَاحِ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ وَحَدَثَ بِهِمْ مِنْ هَمٍّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْمِزَاحُ أَيْضًا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ فَإِنَّهُ جَهْلٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ (دت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ» يَعْنِي يُمَازِحُهُ) وَفِيهِ إشْعَارٌ بِالْمَدْحِ بِكَمَالِ ذَكَائِهِ وَفِطْنَتِهِ وَيَقَظَتِهِ وَحُسْنِ اسْتِمَاعِهِ

يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُدْلِعُ» بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ يُخْرِجُ «لِسَانَهُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ» حِينَ صَبَاوَتِهِ وَهَذَا مِزَاحٌ فِعْلِيٌّ «وَيَرَى الصَّبِيُّ لِسَانَهُ فَيَهَشُّ» أَيْ يَتَحَرَّك وَيَرْتَاحُ «إلَيْهِ» وَهَذَا مِزَاحٌ فِعْلِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَشَرْطُ جَوَازِهِ) قَوْلًا أَوْ فِعْلًا (أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ كَذِبٌ وَلَا رَوْعُ مُسْلِمٍ) وَإِلَّا فَيَحْرُمُ (دت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لَعِبًا وَلَا جِدًّا» لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيعٍ وَتَخْوِيفٍ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَتَى لِبَيَانِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَيَانًا إذَا كَانَ فِي أَخْذِ الْعَصَا كَذِبٌ كَأَنْ يَرَى غَصْبَ عَصَاهُ وَهُوَ لَا يُرِيدُهُ أَوْ تَرْوِيعٌ كَأَنْ يُخِيفَهُ بِغَصْبِ عَصَاهُ وَلَا يُرِيدُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ كِلْتَا الصُّورَتَيْنِ مِنْ قَبِيلِ الْمِزَاحِ الْفِعْلِيِّ هَذَا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ فَافْهَمْ (د عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قِيلَ لَا يَضُرُّ إبْهَامُهُمْ لِأَنَّهُمْ عُدُولٌ فَتَدَبَّرْ أَقُولُ وَذَلِكَ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَنَّ «خَيْرَ الْقُرُونِ قَرْنِي» . «وَأَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» لَكِنْ يَشْكُلُ بِالْكَلَامِ فِي تَفْصِيلِ مُرْسَلِ التَّابِعِيِّ لَعَلَّ وَجْهَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ الْإِغْنَاءُ عَنْ التَّفْصِيلِ الْمُتَعَذِّرِ أَوْ الْمُتَعَسِّرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ حَضَرَ الْيَوْمَ عُلَمَاءُ الْبَلَدِ «أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْرُونَ» أَيْ يَسِيرُونَ لَيْلًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: 1]- «مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ» عَلَى نَاقَتِهِ «فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إلَى حَبْلٍ مَعَهُ» أَيْ مَعَ ذَلِكَ النَّائِمِ «فَأَخَذَهُ» أَيْ الْبَعْضُ ذَلِكَ الْحَبْلَ عَلَى وَجْهِ الْمِزَاحِ «فَفَزِعَ» أَيْ النَّائِمُ بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ لَمَّا لَمْ يَجِدْ حَبْلَهُ (فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» إذْ «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ» الْحَدِيثَ فَطَبِيعَةُ الْإِسْلَامِ أَوْجَبَتْ السَّلَامَةَ مِنْ التَّرْوِيعِ وَالتَّخْوِيفِ فَفِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ " الْمُسْلِمُ " تَنْبِيهٌ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ كَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ فِي صَنْعَةِ الْبَدِيعِ وَمِنْ الْقَضَايَا الَّتِي قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا فَافْهَمْ وَأَيْضًا سَبَقَ حَدِيثُ «مَنْ أَخَافَ مُؤْمِنًا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُؤَمِّنَهُ مِنْ إفْزَاعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ وَإِنْ هَازِلًا كَإِشَارَتِهِ بِسَيْفٍ أَوْ حَدِيدَةٍ أَوْ أَفَاعِي أَوْ أَخْذِ مَتَاعِهِ فَيَفْزَعُ لِفَقْدِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ الْأَذَى وَالضَّرَرِ عَلَيْهِ انْتَهَى أَقُولُ فَيَلْزَمُ التَّعْزِيرُ عَلَيْهِ لِمَا قَالُوا مَنْ آذَى غَيْرَهُ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُعَزَّرُ وَلَوْ بِغَمْزِ الْعَيْنِ كَمَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة (وَإِكْثَارُهُ) أَيْ الْمِزَاحِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِ الْجَوَازِ (مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ)

قِيلَ تَنْزِيهًا لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ (لِمَا سَبَقَ فِي الْمِرَاءِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) وَهُوَ «لَا تُمَارِ أَخَاك وَلَا تُمَازِحُهُ» (وَوَجْهُهُ) أَيْ النَّهْيِ (أَنَّ كَثْرَتَهُ تُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَالْوَقَارَ) فَهُمَا إنْ لَمْ يَكُونَا لِغَرَضٍ نَفْسَانِيٍّ وَمِيلٍ هَوَائِيٍّ أَمْرَانِ مَرْغُوبَانِ لَا سِيَّمَا مِمَّنْ هُوَ مُقْتَدًى بِهِ كَالْعُلَمَاءِ وَمَنْ هُوَ فِي مَقَامِ الِاحْتِسَابِ (وَيُورِثُ الضَّغِينَةَ) أَيْ الْحِقْدَ (فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِكْثَارِ بَلْ مِنْ طَبِيعَةِ مَا مَازَحَ بِهِ (وَ) يُورِثُ (كَثْرَةَ الضَّحِكِ) فَإِنَّ أَصْلَ الضَّحِكِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ لِأَنَّ (الْمُمِيتَ لِلْقَلْبِ) هُوَ كَثْرَةُ الضَّحِكِ لَا مُطْلَقُهُ وَعَنْ بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ يُكْرَهُ الضَّحِكُ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ عِنْدَ الْجِنَازَةِ وَعِنْدَ الْمَقَابِرِ وَعِنْدَ الْمَفْجُوعِ بِالْمُصِيبَةِ وَعِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَعِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ وَيُقَالُ الضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ نَوْعٌ مِنْ الْجُنُونِ (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ» مِنْ التَّعْلِيمِ «مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا فَقَالَ اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ» {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]- وَإِنَّ الْعَمَلَ وَإِنْ كَثُرَ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يُقَارَنْ بِالتَّقْوَى وَإِذَا قَارَنَ وَإِنْ قَلِيلًا فَمَقْبُولٌ فَمَنْ اتَّقَى جَمِيعَ الْمَحَارِمِ يَكُنْ مُتَّقِيًا فَيَصِيرُ عَمَلُهُ وَإِنْ قَلَّ مَقْبُولًا وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ وَإِنْ كَثُرَ عَمَلُهُ لَا يَصِيرُ مَقْبُولًا - {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك» وَإِنْ قَلَّ «تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ» لِأَنَّ مَعْنَى الْغِنَى عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْغَيْرِ فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ وَلَمْ يَطْلُبْ الزِّيَادَةَ يَكُنْ فَرْدًا سَابِقًا فِي الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّ الْغِنَى لَيْسَ بِكَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ وَالْقَنَاعَةُ غِنًى وَعِزٌّ بِاَللَّهِ وَضِدُّهَا فَقْرٌ وَذُلٌّ لِلْغَيْرِ وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ لَمْ يَشْبَعْ أَبَدًا فَفِي الْقَنَاعَةِ الْعِزُّ وَالْغِنَى وَالْحُرِّيَّةُ وَفِي فَقْدِهَا الذُّلُّ وَالتَّعَبُّدُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الرِّزْقَ بِالْقَسْمِ وَالْحَظِّ لَا بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَلَا فَائِدَةَ لِلْجِدِّ قَالَ الْحُكَمَاءُ لَوْ جَرَتْ الْأَقْسَامُ عَلَى قَدْرِ الْعُقُولُ لَمْ تَعِشْ الْبَهَائِمُ وَنَظَمَهُ أَبُو تَمَّامٍ فَقَالَ يَنَالُ الْفَتَى مِنْ عَيْشِهِ وَهُوَ جَاهِلٌ ... وَيُكْدِي الْفَتَى فِي دَهْرِهِ وَهُوَ عَالِمُ وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا ... هَلَكْنَ إذًا مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ «وَأَحْسِنْ إلَى جَارِك» بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ «تَكُنْ مُؤْمِنًا» كَامِلَ الْإِيمَانِ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْإِحْسَانِ فَكُفَّ عَنْ أَذَاهُ وَإِنْ كَانَ مُؤْذِيًا لَك فَيَلْزَمُك الصَّبْرُ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَك فَرَجًا «وَأَحِبَّ» أَيْ ارْضَ «لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك تَكُنْ مُسْلِمًا» بِأَنْ تُحِبَّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك مِنْ جِهَةٍ لَا تَزَاحَمُونِ فِيهَا فَإِنْ انْتَفَتْ الْمَحَبَّةُ لِنَحْوِ حِقْدٍ أَوْ حَسَدٍ انْتَفَى عَنْهُ كَمَالُ الْإِيمَانِ قَالَ السَّرِيُّ لِي ثَلَاثُونَ سَنَةً فِي الِاسْتِغْفَارِ مِنْ قَوْلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ وَقَعَ فِي بَغْدَادَ حَرِيقٌ فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ فَقَالَ نَجَا حَانُوتُك فَقُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ فَمُذْ قُلْتهَا فَأَنَا نَادِمٌ حَيْثُ

الثاني من الستة المدح

أَرَدْت لِنَفْسِي خَيْرًا دُونَ الْمُسْلِمِينَ «وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ» بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَهِيَ كَيْفِيَّةٌ يَحْصُلُ فِيهَا انْبِسَاطٌ فِي الْقَلْبِ مِمَّا يُعْجِبُ الْإِنْسَانَ مِنْ السُّرُورِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ مُضِرٌّ بِالْقَلْبِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا وَهُوَ فِعْلُ السُّفَهَاءِ وَالْأَرَاذِلِ مُورِثٌ لِلْأَمْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ وَلِذَا قَالَ «فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» أَيْ تُصَيِّرُهُ مَغْمُورًا فِي الظُّلُمَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِ نَفْسِهِ وَلَا دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهَا وَحَيَاتُهُ أَوْ إشْرَاقُهُ مَادَّةُ كُلِّ الْخَيْرِ وَمَوْتُهُ وَظُلْمَتُهُ مَادَّةُ كُلِّ شَرٍّ وَبِحَيَاتِهِ تَكُونُ قُوَّتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَتَصَوُّرُهُ الْمَعْلُومَاتِ وَحَقَائِقَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَلِذَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ وَلَا تَمْشِ فِي غَيْرِ أَرَبٍ وَلَا تَسْأَلْ عَمَّا لَا يَعْنِيك وَلَا تُضِعْ مَالَك وَتُصْلِحْ مَالَ غَيْرِك فَإِنَّ مَالَك مَا قَدَّمْت وَمَالَ غَيْرِك مَا أَخَّرْت وَقَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَوْصِنِي فَقَالَ كُنَّ بَسَّامًا وَلَا تَكُنْ غَضْبَانَ وَكُنْ نَفَّاعًا وَلَا تَكُنْ ضِرَارًا وَأَنْزِعْ عَنْ اللَّجَاجَةِ وَلَا تَمْشِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا تَضْحَكْ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ وَلَا تُعَيِّرْ الْخَاطِئِينَ بِخَطَايَاهُمْ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِك يَا ابْنَ عِمْرَانَ وَفِي صُحُفِ مُوسَى عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ كَيْفَ يَضْحَكُ عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَنْصَبُ عَجَبًا لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا وَفِي الْحَدِيثِ إيذَانٌ بِالْإِذْنِ فِي قَلِيلِ الضَّحِكِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا فِي الْفَيْضِ وَخَيْرٌ مِنْهُ التَّبَسُّمُ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا قَوْمٌ يَتَحَدَّثُونَ وَيَضْحَكُونَ فَوَقَفَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَزْجُرْكُمْ فَقُلْنَا وَمَا هَاذِمُ اللَّذَّاتِ قَالَ الْمَوْتُ» (هق عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْعَبْدَ لَيَقُولُ الْكَلِمَةَ لَا يَقُولُهَا إلَّا لِيُضْحِكَ بِهَا الْمَجْلِسَ» أَيْ أَهْلَهُ «يَهْوِي بِهَا» يَسْقُطُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ فِي دَرَكَاتِ النِّيرَانِ «أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَزِلُّ عَنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَزِلُّ عَنْ قَدَمَيْهِ» يَعْنِي: صُدُورُ الْكَذِبِ وَالْفَاحِشَةِ أَضَرُّ لَهُ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ضَرَرِ سُقُوطِهِ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ الشَّاعِرُ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامُ ... وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ. [الثَّانِي مِنْ السِّتَّةِ الْمَدْحُ] (وَالثَّانِي) مِنْ السِّتَّةِ (الْمَدْحُ وَهُوَ جَائِزٌ) تَارَةً وَمَنْهِيٌّ تَارَةً عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ تَعْظِيمُهُ فَهُوَ مِنْ الْقُرَبِ وَأَعْلَى الرُّتَبِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ إنَّهُ يُحِبُّ الْمَدْحَ مِنْ عِبَادِهِ لِيُثِيبَهُمْ عَلَى مَدْحِهِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الشُّكْرِ لِلْوَاحِدِ الْخَالِقِ فَإِذَا كَانَ الْأَشْخَاصُ الْمُذْنِبُونَ الْقَاصِرُونَ يُحِبُّونَ الْمَدْحَ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ أَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمَمْدُوحُ فِي أَوْصَافِهِ الْمَحْمُودُ عَلَى أَفْعَالِهِ الْمُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ وَزَادَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ مُسْلِمٍ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ» الْحَدِيثَ وَإِنَّمَا جَازَ

الْمَدْحُ لِأَنَّهُ يُورِثُ زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعَ الْقُلُوبِ وَجَمْعِيَّةَ الْخَاطِرِ. (عَدِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ وُزِنَ إيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ الْعَالَمِينَ» بِفَتْحِ اللَّامِ «لَرَجَحَ» مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ خَصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ فِيهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ كَافَّةً سَوَاءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَمِنْ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ جِنْسًا أَوْ شَخْصًا وَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُمْ كَالْأَنْبِيَاءِ دَاخِلُونَ فِي التَّخْصِيصِ وَالْمُخَصِّصُ شَرْعٌ أَوْ عَقْلٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ فَقَدْ اُسْتُوْفِيَ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ فَارْجِعْ إلَيْهِ تُهْدَ (وَرَوَاهُ هق مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) قِيلَ مَرْفُوعٌ حُكْمًا لِمَا أَنَّ الرَّأْيَ لَا مَجَالَ لَهُ فِيهِ أَقُولُ وَأَيْضًا يُعَضِّدُهُ رَفْعُ ابْنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَكِنْ السُّيُوطِيّ أَوْرَدَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامُ السَّلَفِ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي طَرِيقِ صَدَقَةِ ابْنِ مَيْمُونَةَ الْقُرَشِيِّ (ت عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَكِنْ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ وَلَوْ دَامَتْ الدَّوْلَاتُ كَانُوا كَغَيْرِهِمْ ... رَعَايَا وَلَكِنْ مَا لَهَا مِنْ دَوَامِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُطَوَّلِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمِيزَانِ مِنْ أَنَّهُ اسْتِنْتَاجٌ مِنْ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ فَطُورٌ آخَرُ غَيْرُ طُورِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَخْفَى تَوْفِيقُهُمَا لِمَنْ تَدَرَّبَ فِي الْمِيزَانِ ثُمَّ يَشْكُلُ أَنَّهُ كَيْفَ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَدْحِ عُمَرَ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ الْمُحَالِ بِالْمُحَالِ الْآخَرِ أَقُولُ الْمُحَالِيَّةُ لَيْسَتْ بِذَاتِيَّةٍ فَالْمَدْحُ بِمَا فِي الْإِمْكَانِ الْأَصْلِيِّ كَافٍ نَظِيرُهُ مَا قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ وَجْهِ كُفْرِ مَنْ قَالَ لَوْ كَانَ فُلَانٌ نَبِيًّا مَا آمَنْت بِهِ

فَحَاصِلُ الْحَدِيثِ فِي ذَاتِ عُمَرَ وَقَابِلِيَّةِ كَوْنِهِ نَبِيًّا بَعْدِي لَوْ أَمْكَنَتْ النُّبُوَّةُ فَفِيهِ إبَانَةٌ عَنْ فَضْلِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِعُمَرَ مِنْ أَوْصَافِ الْأَنْبِيَاءِ وَخِصَالِ الْمُرْسَلِينَ وَقُرْبِ حَالِهِ مِنْهُمْ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ لَيْسَتْ بِاسْتِعْدَادٍ بَلْ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ أَشَارَ إلَى أَوْصَافٍ جُمِعَتْ فِي عُمَرَ لَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلرِّسَالَةِ لَكَانَ بِهَا نَبِيًّا فَمِنْ أَوْصَافِهِ قُوَّتُهُ فِي دِينِهِ وَبَذْلُهُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ الدُّنْيَا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا وَخُصَّ عُمَرُ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ إيذَانًا بِأَنَّ النُّبُوَّةَ بِالِاصْطِفَاءِ لَا بِالْأَسْبَابِ ذَكَرَهُ الْكَلَابَاذِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ خُصَّ عُمَرُ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ مَا وَقَعَ لَهُ فِي زَمَنِ الْمُصْطَفَى مِنْ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا وَوَقَعَ لَهُ بَعْدَهَا عِدَّةُ إصَابَاتٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ مَا قَالُوا إنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ عَلَى رَأْيِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَيْضًا مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ حَبِيبَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا قَوْله تَعَالَى - {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]- وَمَدَحَهُ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ أَصْحَابِهِ بِقَوْلِهِ - {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا} [الفتح: 29]- الْآيَةَ (وَلَكِنْ جَوَازُهُ بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يَكُونَ) الْمَدْحُ (لِنَفْسِهِ لِأَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ لَا تَجُوزُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] فَرُبَّمَا يَصِفُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ بِالتَّقْوَى وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنْ إنْ كَانَ يَقْصِدُ تَحْدِيثَ النِّعْمَةِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ جَائِزٌ بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ. (وَفِي حُكْمِهَا) أَيْ مَدْحِ النَّفْسِ (مَدْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَوْلَادِ) كَأَنْ يَمْدَحَ أَوْلَادَهُ بِكَمَالِ الْخِصَالِ (وَالْآبَاءِ وَالتَّلَامِذَةِ وَالتَّصَانِيفِ) لَمْ يَذْكُرْ الْأَسَاتِذَةَ لَعَلَّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى جَوَازِهِ كَمَدْحِ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءَهُمْ بَلْ مُطْلَقُ الْأَنْبِيَاءِ (وَنَحْوِهَا بِحَيْثُ يَسْتَلْزِمُ) مَدْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا (مَدْحَ الْمَادِحِ) وَأَمَّا إذَا مُدِحَ بِكَمَالٍ حَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ مَدْحَ نَفْسِهِ (قِيلَ لِحَكِيمٍ) مِنْ الْحُكَمَاءِ مِنْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ عَلَى مَا يَنْبَغِي إمَّا بِالْفِرَاسَةِ أَوْ التَّجَارِبِ أَوْ بِالْعَلَامَاتِ أَوْ بِالْكَشْفِ. وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَسَمَّاهُمْ حُكَمَاءُ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (مَا الصِّدْقُ الْقَبِيحُ قَالَ ثَنَاءُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ) أَمَّا قُبْحُهُ شَرْعًا فَلِلنَّهْيِ عَنْهُ وَعُرْفًا لِنُفْرَةِ الطَّبْعِ عَنْهُ (إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ التَّحْدِيثَ) فَلَا يَجُوزُ مَدْحُ نَفْسِهِ فِي كُلِّ حَالٍ إلَّا بِنِيَّةِ التَّحْدِيثِ (بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ - {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]- (أَوْ إعْلَامَ حَالِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ) الْعِلْمَ (أَوْ لِيَقْتَدُوا بِهِ) فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (أَوْ لِيُعْطَوْا حَقَّهُ) مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَيَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ لِلسُّلْطَانِ أَوْ أَعْوَانِهِ لِأَخْذِ حَقِّهِ أَنَا عَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ لِبَيْتِ الْمَالِ فَأَعْطِنِي كِفَايَتِي (أَوْ لِيَدْفَعُوا عَنْهُ الظُّلْمَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّزْكِيَةَ وَالْفَخْرَ ت مج عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ لِي» أَيْ: أَقُولُ ذَلِكَ شُكْرًا لَا فَخْرًا وَتَعْظِيمًا وَتَكَبُّرًا وَقِيلَ لَا أَفْتَخِرُ بِذَلِكَ بَلْ فَخْرِي بِمَا أَعْطَانِي هَذِهِ الرُّتْبَةَ، وَالْفَخْرُ ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَهَذَا قَالَهُ لِلتَّحَدُّثِ بِالنِّعْمَةِ وَإِعْلَامًا لِلْأُمَّةِ لِيَعْتَقِدُوا فَضْلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَمَّا خَبَرُ لَا تُفَضِّلُونِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَمَعْنَاهُ تَفْضِيلُ مُفَاخَرَةٍ أَوْ تَفْضِيلًا يُوهِمُ الشَّيْنَ عَلَى الْغَيْرِ وَتَمَامُ الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ «وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ» يَأْوِي إلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ

«وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ سِوَايَ إلَّا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ» أَيْ أَوَّلُ مَنْ يُعَجِّلُ اللَّهُ إحْيَاءَهُ مُبَالَغَةً فِي الْإِكْرَامِ وَتَعْجِيلًا لِجَزِيلِ الْإِنْعَامِ «وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ» فِي الْقِيَامَةِ لِخَلَاصِ الْعُصَاةِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ «وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» مَقْبُولِ الشَّفَاعَةِ فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ الشَّفَاعَةِ لِلَّهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِرَبِّهِ وَيَهْضِمَ نَفْسَهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُزَكِّيًا وَبِحَالِ السِّيَادَةِ وَالشَّرَفِ مُعْجَبًا فَقَالَ «وَلَا فَخْرَ» أَيْ لَا أَقُولُ افْتِخَارًا أَوْ تَبَجُّحًا بَلْ تَشَكُّرًا وَتَحَدُّثًا بِالنِّعْمَةِ وَإِعْلَامًا لِلْأُمَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمَنْ قَالَ يَا خَيْرَ الْبَرِّيَّةِ «ذَاكَ إبْرَاهِيمُ» فَعَلَى جِهَةِ التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ التَّطَاوُلِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ. لَا يُقَالُ كَيْفَ يَصِحُّ مِنْ مَعْصُومٍ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ تَوَاضُعٍ أَوْ أَدَبٍ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ خَبَرًا عَنْ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ وَالْأَخْبَارُ الْوُجُودِيَّةُ لَا يَدْخُلُهَا نَسْخٌ لِأَنَّا نَقُولُ نَمْنَعُ أَنَّ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَوَاضُعٌ يَمْنَعُ إطْلَاقَ ذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَتَأَدُّبٌ مَعَ أَبِيهِ بِإِضَافَةِ ذَلِكَ اللَّفْظِ إلَيْهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا تُطْلِقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَيَّ وَأَطْلِقُوهُ عَلَى إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَدَبًا مَعَهُ وَاحْتِرَامًا فَهُوَ خَبَرٌ عَنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا عَنْ الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ سَلَّمْنَا أَنَّهُ خَبَرُ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ لَا يَتَبَدَّلُ بَلْ مِنْهُ مَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَبَدُّلِهِ تَنَاقُضٌ وَلَا مُحَالٌ وَلَا نَسْخٌ كَالْإِخْبَارِ عَنْ الْأُمُورِ الْوَصْفِيَّةِ وَبَيَانُهُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُكَرَّمًا وَمُفَضَّلًا أَنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُكَرَّمُ بِهِ وَيُفَضَّلُ عَلَى غَيْرِهِ فَفِي وَقْتٍ يُكَرَّمُ بِمَا يُسَاوِي فِيهِ غَيْرَهُ وَفِي وَقْتٍ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ وَفِي وَقْتٍ يُكَرَّمُ بِشَيْءٍ لَمْ يُكَرَّمْ بِهِ أَحَدٌ فَيُقَالُ عَلَيْهِ فِي الْمَنْزِلَةِ الْأُولَى مُكَرَّمٌ وَفِي الثَّانِيَةِ مُفَضَّلٌ مُقَيَّدٌ وَفِي الثَّالِثَةِ مُفَضَّلٌ مُطْلَقٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَنَاقُضٌ وَلَا نَسْخٌ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَإِنَّمَا أَعْلَمَ أُمَّتَهُ بِالسِّيَادَةِ وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ لِيُرِيحَهُمْ مِنْ التَّعَبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَذَهَابِهِمْ لِنَبِيٍّ بَعْدَهُ لِيَشْفَعَ لَهُمْ أَوْ يُرْشِدَهُمْ لِشَافِعٍ وَأَنَّهُمْ يَمْكُثُونَ بِمَحَلِّهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُ النَّوْبَةُ فَيَقُولَ أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا فَمَا ذَهَبَ إلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيٍّ إلَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ أَوْ نَسِيَ وَأُخِذَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ خُذْ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ الْمُحَقَّقَ الَّذِي لَا تَجِدُهُ عِنْدَ غَيْرِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ بِقَصْدِ اعْتِنَائِهِ وَعَدَمِ تَهَاوُنِهِ (تَتِمَّةٌ) خُصَّ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ وَفِي إدْخَالِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَفِيمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا وَفِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَبِالشَّفَاعَةِ لِيَتَجَاوَزَ عَنْ الصُّلَحَاءِ فِي تَقْصِيرِهِمْ فِي الطَّاعَاتِ وَبِالشَّفَاعَةِ فِي الْمَوْقِفِ تَخْفِيفًا عَمَّنْ يُحَاسَبُ وَبِالشَّفَاعَةِ فِيمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ الْكُفَّارِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ وَفِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ لَا يُعَذَّبُوا وَفِي أَهْلِ بَيْتِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ النَّارَ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَكِنْ يَحْتَاجُ الْأَخِيرُ إلَى نَوْعِ تَأَمُّلٍ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا أَنَا قَائِدُ الْمُرْسَلِينَ أَكُونُ أَمَامَهُمْ وَهُمْ خَلْفِي وَلَا فَخْرَ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ فِي مَرْضَاتِ رَبِّهِ مَا لَمْ يَتَحَمَّلْهُ بَشَرٌ سِوَاهُ وَقَامَ بِالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ حَقَّ الْقِيَامِ فَثَبَتَ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ حَتَّى لَمْ يَلْحَقْهُ مِنْ الصَّابِرِينَ أَحَدٌ وَتَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الشُّكْرِ حَتَّى عَلَا فَوْقَ الشَّاكِرِينَ فَمِنْ ثَمَّةَ خُصَّ بِذَلِكَ عَنْ الْعَارِفِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فَهُوَ شَافِعٌ فِي الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ نَعَمْ وَالْمَلَائِكَةِ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَآخِرُ شَافِعٍ فَيُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ وَأَيُّ شَرَفٍ أَعْظَمُ مِنْ دَائِرَةٍ تُدَارُ وَآخِرُ الدَّائِرَةِ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِهَا وَمَا عُورِضَ بِحَدِيثِ النَّسَائِيّ وَالْحَاكِمِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «يَشْفَعُ بَيْنَكُمْ أَرْبَعًا أَرْبَعَةٌ جِبْرِيلُ ثُمَّ إبْرَاهِيمُ ثُمَّ مُوسَى أَوْ عِيسَى» الْحَدِيثَ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ خَبَرٌ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ الضَّعِيفَ الْمَرْجُوحَ لَا يُعَارِضُ الرَّاجِحَ وَفِيهِ أَيْضًا «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَتَظْهَرُ سِيَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْجَمْعِ كَافَّةً عِيَانًا فَيَفُوقُ عَلَى جَمِيعِ وَلَدِ آدَمَ - حَتَّى أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ - وَاحْتِيَاجُهُمْ إلَيْهِ كَيْفَ وَهُوَ وَاسِطَةُ كُلِّ فَيْضٍ وَتَخْصِيصُهُ وَلَدَ آدَمَ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَقَلَ الْإِمَامُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ أَيْ إجْمَاعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ «وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» مُبَالَغَةً فِي إكْرَامِهِ «وَأَوَّلُ شَافِعٍ» فَلَا يَتَقَدَّمُنِي شَافِعٌ وَلَا مَلَكٌ وَلَا بَشَرٌ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّفَاعَةِ «وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» وَفِيهِ «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا

إذَا بُعِثُوا وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا» أَيْ قَدِمُوا عَلَى رَبِّهِمْ «وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ» بِقَبُولِ شَفَاعَتِي «إذَا يَئِسُوا لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي» فَإِنَّ اللِّوَاءَ يَكُونُ مَعَ كَبِيرِ الْقَوْمِ عَادَةً وَقِيلَ اللِّوَاءُ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ الْحَمْدُ وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَمِنْ كَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ يَتَكَلَّفُهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَطَلَبَ مِنْهُ تَقْلِيلَهَا وَلَمْ يَطْلُبْهُ مِنْ غَيْرِهِ بَلْ حَثَّهُمْ عَلَى الزِّيَادَةِ وَأَقْسَمَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَأَنَّهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَأَنَّهُ مَا وَدَّعَهُ وَمَا قَلَاهُ وَوُلِدَ مَخْتُونًا عَلَى مَا يَأْتِي لِئَلَّا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتَهُ وَاسْتَأْذَنَ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ فِي الدُّخُولِ فِي قَبْضِ رُوحِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرَهُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بَيَّنَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَأَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ وَلَا فَخْرَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ إرَادَتِهِ الِافْتِخَارَ بِهِ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ إنَّمَا أَخْبَرَ بِهِ لِوُجُوبِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلِتَرْغِيبِ دُخُولِ دِينِهِ وَلِيَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ وَلِتَعْظِيمِ مَحَبَّتِهِ فِي قُلُوبِ مُتَّبِعِيهِ فَتَكْثُرُ أَعْمَالُهُمْ وَتَطِيبُ أَحْوَالُهُمْ فَيَحْصُلُ شَرَفُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَتْبُوعِ مُتَعَدٍّ لِشَرَفِ التَّابِعِ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ آحَادٌ فَكَيْفَ يَحْصُلُ الِاعْتِقَادُ الْقَطْعِيُّ بِهَا قُلْنَا أَمَّا الصَّحَابِيُّ فَيَحْصُلُ لَهُ الْقَطْعُ وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ فَبِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ لِكَثْرَةِ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ. (وَالثَّانِي) مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الْمَدْحِ (الِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِفْرَاطِ) فِي الْمَدْحِ وَالْغُلُوِّ فِيهِ (الْمُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ) لِعَدَمِ خَارِجٍ لَهُ (وَالرِّيَاءِ) أَيْ إرَاءَةِ السَّامِعِينَ أَوْ الْمَمْدُوحِ أَنَّهُ مُحِبٌّ مُخْلِصٌ فِي دَعْوَاهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَ) الِاحْتِرَازُ عَنْ (الْقَوْلِ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُهُ) أَيْ بِمَا لَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ مُطْلَقِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ فَنٌّ مِنْ فُنُونِ عِلْمِ الْبَدِيعِ وَهُوَ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْبَلَاغَةِ وَوَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا. قَالَ السُّيُوطِيّ الْمُبَالَغَةُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ وَصْفًا فَيَزِيدُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ وَهِيَ ضَرْبَانِ مُبَالَغَةٌ بِالْوَصْفِ بِأَنْ يَخْرُجَ إلَى حَدِّ الِاسْتِحَالَةِ وَمِنْهُ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] وَ {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وَمُبَالَغَةٌ بِالصِّيغَةِ ثُمَّ عَدَّ أَوْزَانَ الْمُبَالَغَةِ ثُمَّ قَالَ الْمُبَالَغَةُ أَنْ يَثْبُتَ لِلشَّيْءِ أَكْثَرُ مِمَّا لَهُ لَعَلَّ ذَلِكَ دَائِرٌ عَلَى الْمَدْحِ وَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْمَجَازِ مَعْرُوفٌ بِقَصْدِ التَّأْوِيلِ وَعَدَمِهِ فَافْهَمْ وَيُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْجَوَابِ مِنْ قَوْلِهِ (وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ كَالتَّقْوَى وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ) وَهَذِهِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ لِكَوْنِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَلَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَمِثْلُهُ فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنَّ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ لَا سِيَّمَا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ (فَلَا يَجْزِمُ الْقَوْلَ بِمِثْلِهَا بَلْ يَقُولُ أَحْسَبُ) أَظُنُّ (وَنَحْوَهُ) وَهَذِهِ الْآفَةُ تَتَطَرَّقُ إلَى الْمَدْحِ بِالْأَوْصَافِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْأَدِلَّةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْمِثَالِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ رَأَيْته يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَتَصَدَّقُ وَيَحُجُّ فَهَذِهِ أُمُورٌ مُتَيَقَّنَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَنَّهُ عَدْلٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْزِمَ الْقَوْلَ بِهِ أَيْضًا إلَّا بَعْدَ خَبَرِهِ بِبَاطِنِهِ وَسَمِعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ قَالَ أَسَافَرْت مَعَهُ قَالَ لَا قَالَ أَخَالَطْته فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ قَالَ لَا قَالَ فَأَنْتَ جَارُهُ صَبَاحَهُ وَمَسَاءَهُ قَالَ لَا قَالَ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا تَعْرِفُهُ (وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَمْدُوحُ فَاسِقًا) لَعَلَّ أَنَّهُ إذَا مَدَحَهُ لِلْخَلَاصِ عَنْ ظُلْمِهِ أَوْ لِيَنَالَ حَقَّهُ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ بِإِعَانَتِهِ فَلَا يَضُرُّ إذْ الضَّرُورَةُ مُبِيحَةٌ لِلْمَحْظُورَةِ (دُنْيَا هق عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ إذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ» أَيْ الْخَارِجُ عَنْ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ وَحُسْنِ زِيَادَةِ الْخُلُقِ وَالْحَقِّ وَإِنَّمَا يَغْضَبُ اللَّهُ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِمُجَانَبَتِهِ وَإِبْعَادِهِ فَمَنْ مَدَحَهُ فَقَدْ وَصَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُقْطَعَ وَوَادَّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ

مَعَ مَا فِي مَدْحِهِ مِنْ تَعْزِيرِ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ بِالسُّوءِ وَالْفُحْشِ وَتَزْكِيَةِ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ وَالْإِشْعَارِ بِاسْتِحْسَانِ فِسْقِهِ وَإِغْرَائِهِ عَلَى إدَامَتِهِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَشْمَلُ مَا لَوْ مَدَحَهُ بِمَا فِيهِ كَسَخَاءٍ وَشَجَاعَةٍ وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ (وَفِي رِوَايَةِ يَعْلَى عَدَّ «إذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ غَضِبَ الرَّبُّ وَاهْتَزَّ الْعَرْشُ» وَاهْتِزَازُهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ وَدَاهِيَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ رِضًا بِمَا سَخِطَ اللَّهُ وَغَضِبَ بَلْ يَكَادُ يَكُونُ كُفْرًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُفْضِي إلَى اسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْقُرَّاءِ فِي زَمَانِنَا وَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ مَنْ مَدَحَ الْفَاسِقَ فَكَيْفَ مَنْ مَدَحَ الظَّالِمَ وَرَكَنَ إلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ النَّهْيُ مُتَنَاوِلٌ لِلِانْحِطَاطِ فِي هَوَاهُمْ وَالِانْقِطَاعِ إلَيْهِمْ وَمُصَاحَبَتِهِمْ وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ وَالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ كَذَا فِي الْفَيْضِ. وَقِيلَ وَالْمَيْلُ بِأَدْنَى مَيْلٍ وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الذَّهَبِيِّ قَالَ يَحْيَى كَذَّابٌ وَأَبُو حَاتِمٍ مُنْكَرُ الْأَحَادِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ. (وَالرَّابِعُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ) أَيْ الْمَدْحَ (لَا يُحْدِثُ فِي الْمَمْدُوحِ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا أَوْ غُرُورًا) يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَسُوءُ الظَّنِّ إنَّمَا يُمْنَعُ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِهِ وَقَرِينَتِهِ فَلَا يُنَافِي حُسْنَ الظَّنِّ الْمَأْمُورَ بِهِ وَقَدْ سَمِعْت مِرَارًا أَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ وَأَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ وَأَمَّا إذَا أَحْدَثَ فِي الْمَمْدُوحِ كَمَالًا وَزِيَادَةَ مُجَاهَدَةٍ وَسَعْيَ طَاعَةٍ فَلَا مَنْعَ بَلْ لَهُ اسْتَجَابَ كَمَا فِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «إذَا مُدِحَ الْمُؤْمِنُ فِي وَجْهِهِ رَبَا الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ» أَيْ زَادَ إيمَانُهُ لِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ وَإِدْلَالِهِ بِهَا فَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الَّذِي عَرَفَ نَفْسَهُ وَأَمِنَ عَلَيْهَا مِنْ نَحْوِ كِبْرٍ وَعُجْبٍ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَتِهِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْمُؤَدِّي لِزِيَادَةِ إيمَانِهِ وَرُسُوخِ إيقَانِهِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمَدْحُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْآفَاتِ كَمَا فِي خَبَرِ «إيَّاكُمْ وَالْمَدْحَ» (تَتِمَّةٌ) الْمُؤْمِنُ إذَا مُدِحَ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِوَصْفٍ لَا يَشْهَدُهُ فِي نَفْسِهِ وَأَجْهَلُ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ يَقِينَ مَا عِنْدَهُ لِظَنِّ مَا عِنْدَ النَّاسِ وَالزُّهَّادُ إذَا مُدِحُوا انْقَبَضُوا لِشُهُودِهِمْ الثَّنَاءَ مِنْ الْخَلْقِ وَالْعَارِفُونَ انْبَسَطُوا لِشُهُودِهِمْ ذَلِكَ مِنْ الْمَلِكِ الْحَقِّ كَذَا فِي الْفَيْضِ (خ م عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَيْلَك قَطَعْت عُنُقَ صَاحِبِك» بِنَحْوِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْعَجَبِ بِمَدْحِك وَثَنَائِك «ثَلَاثًا» قَالَهُ ثَلَاثًا أَوْ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ مُنْتَهَى التَّأْكِيدِ (ثُمَّ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ. مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ) أَلْبَتَّةَ (فَلْيَقُلْ أَحْسَبُ) أَيْ أَظُنُّ «فُلَانًا» أَوْ كَذَا فَلَا تَقُلْ فُلَانٌ صَالِحٌ أَلْبَتَّةَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ بَلْ لِيَقُلْ أَحْسَبُ أَوْ أَظُنُّ فُلَانًا صَالِحًا «وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ» عَالِمُهُ لِأَنَّهُ الْمُحِيطُ بِحَقِيقَةِ حَالِهِ أَوْ مُجَازِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَدْحَ مَذْمُومٌ يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ مِنْ غَيْرِ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ وَمِنْ هَذَا قِيلَ مَنْ مُدِحَ فَقَدْ ذُبِحَ «وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا» أَيْ لَا أَقْطَعُ بِتَقْوَى وَلَا أَقُولُ بِزَكَائِهِ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ عَنَّا عَدَّاهُ بِعَلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ عَلَى تَزْكِيَةِ أَحَدٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «أَحْسَبُ» فُلَانًا «كَذَا» عَالِمًا «وَكَذَا» أَيْ مُتَّقِيًا «إنْ كَانَ يَعْلَمُ» أَيْ يَظُنُّ «ذَلِكَ» أَيْ الْوَصْفَ «مِنْهُ» أَيْ الْمَمْدُوحِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى التَّضْيِيقِ فِي رُخْصَةِ الْمَدْحِ

بِأَنَّ الْمَادِحَ وَإِنْ جَزَمَ بِوُجُودِ مَا مَدَحَهُ فِي الْمَمْدُوحِ لَا يَقُولُ فِي مَدْحِهِ عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الْمَمْدُوحُ وَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ لَا يَمْدَحُ. (م عَنْ) (الْمِقْدَادِ) بْنِ الْأَسْوَدِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ» الَّذِينَ صِنَاعَتُهُمْ الثَّنَاءُ عَلَى النَّاسِ وَالْمَدْحُ «فَاحْثُوا» فَارْمُوا «فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ» وَالْمُرَادُ زَجْرُ الْمَادِحِ وَالْحَثُّ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ الْمَدْحِ لِإِيرَاثِهِ الْغُرُورَ وَالتَّكَبُّرَ أَوْ مَعْنَاهُ أَعْطُوهُمْ قَلِيلًا يُشْبِهُ التُّرَابَ لِقِلَّتِهِ وَخِسَّتِهِ أَوْ اقْطَعُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ شَيْءٌ حَقِيرٌ كَالتُّرَابِ وَهَذَا يُؤْذِنُ بِذَمِّ الِاحْتِرَافِ بِالشِّعْرِ فَلَا تُوَاخِ شَاعِرًا فَإِنَّهُ يَمْدَحُك بِثَمَنٍ وَيَهْجُوك مَجَّانًا قَالَ بَعْضُهُمْ الْكَلْبُ وَالشَّاعِرُ فِي مَنْزِلٍ ... فَلَيْتَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ شَاعِرًا هَلْ هُوَ إلَّا بَاسِطٌ كَفَّهُ ... يَسْتَطْعِمُ الْوَارِدَ وَالصَّادِرَا (برك) ابْنُ الْمُبَارَكِ. (عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا مَدَحْت أَخَاك فِي وَجْهِهِ فَكَأَنَّمَا أَمْرَرْت عَلَى حَلْقِهِ مُوسًى» هُوَ آلَةُ الْحَلْقِ «رَمِيضًا» حَادًّا يَعْنِي: سِكِّينًا حَادًّا لِأَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْمَمْدُوحِ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا وَغُرُورًا غَالِبًا فَكَأَنَّهُ يُمِيتُهُ وَيُهْلِكُهُ وَعَلَى هَذَا الرَّابِعِ حُمِلَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا لِلْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ فَانْظُرُوا مَا يَتْبَعُهُ مِنْ الثَّنَاءِ» لِأَنَّهُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ فَإِذَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الصَّلَاحِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ بِشَيْءٍ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مَا لَهُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِإِلْهَامِهِ تَعَالَى كَمَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَكَلَّمَ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْعَبْدِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَإِنْ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَلَا يَعْجَبُ بَلْ يَكُونُ خَائِفًا مِنْ مَكْرِهِ الْخَفِيِّ وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَلْيُبَادِرْ بِالتَّوْبَةِ وَيَقْرَبُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا قَذَفَ حُبَّهُ فِي قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا قَذَفَ بُغْضَهُ فِي قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ يَقْذِفُهُ أَيْ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ فِي قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ» . (وَالْخَامِسُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْحُ لِغَرَضٍ حَرَامٍ أَوْ مُفْضِيًا إلَى فَسَادٍ مِثْلَ مَدْحِ حُسْنِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْمُرْدِ وَالنِّسَاءِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ لِتَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ فِيهِمْ وَحَثِّهِمْ إلَى اللِّوَاطَةِ وَالزِّنَا) وَالْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي أَوْ تَلَذُّذِ النَّفْسِ وَتَطْيِيبِ الْمَجْلِسِ بِهِ وَإِضْحَاكِهِمْ وَمِثْلُ مَدْحِ امْرَأَةٍ لِزَوْجِهَا أَجْنَبِيَّةً. وَقَدْ مَرَّ فِي (حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ) مَرْفُوعًا «لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ تَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا» (وَمِثْلُ مَدْحِ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ) بِمَدْحِ الْمَمْدُوحِ (إلَى الْمَالِ الْحَرَامِ) الْمُجَازَى بِهِ مِنْهُمْ (أَوْ التَّسَلُّطِ عَلَى النَّاسِ) بِالْقُرْبِ مِنْ الظَّلَمَةِ (وَظُلْمِهِمْ) أَيْ النَّاسِ (وَنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ الْأَعْرَاضِ وَالْأَغْرَاضِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا

الثالث الشعر

وَأَمَّا الذَّمُّ الْمَذْمُومُ فَأَكْثَرُهُ دَاخِلٌ فِي الْكَذِبِ أَوْ لِغِيبَةٍ أَوْ التَّعْيِيرِ أَوْ اللَّمْزِ الطَّعْنِ فِي الْأَنْسَابِ (وَمِمَّا لَمْ يَدْخُلْ ذَمُّ الطَّعَامِ تَرَفُّعًا) إظْهَارًا لِلْكِبْرِ وَالرِّفْعَةِ. وَأَمَّا لِتَأْدِيبِ الْأَهْلِ وَإِصْلَاحِ الطَّعَامِ فَيَجُوزُ (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا» مَا ذَكَرَ فِي طَعَامٍ مَا عَيْبًا لِأَنَّهُ إمَّا صُنْعُ الْخَالِقِ فَلَا يُعَابُ وَإِمَّا بِمُلَابَسَةِ عَمَلِ الْمَخْلُوقِ فَيَلْزَمُ كَسْرُ الْخَاطِرِ وَهُوَ جَابِرٌ لَا كَاسِرٌ «قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ» مِنْ غَيْرِ شَرَهٍ وَلَا إكْثَارٍ «وَإِنْ كَرِهَهُ» لِعَدَمِ تَشَهِّيهِ «تَرَكَهُ» وَكَذَا ذَمُّ اللِّبَاسِ وَالدَّابَّةِ وَالْمَسْكَنِ وَنَحْوِهَا وَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّكَبُّرِ) فَلَا حَاجَةَ إلَى عَدِّ الذَّمِّ مُسْتَقِلًّا [الثَّالِثُ الشِّعْرُ] (وَالثَّالِثُ الشِّعْرُ وَهُوَ جَائِزٌ إذَا خَلَا عَنْ الْكَذِبِ وَالرِّيَاءِ وَهَجْوِ مَا لَا يَجُوزُ هَجْوُهُ) بَلْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَاحْتِرَامُهُ (وَ) عَنْ (ذِكْرِ الْفِسْقِ) وَمَدْحِهِ (وَالتَّغَنِّي وَآفَاتِ الْمَدْحِ) أَيْ إذَا خَلَا عَنْ آفَاتِ الْمَدْحِ مِنْ الْخَمْسِ السَّابِقَةِ (وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَالتَّجَرُّدِ لَهُ حَتَّى يَشْغَلَهُ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ

وَقَلَّمَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْآفَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي ذَمِّ الشُّعَرَاءِ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]- إلَى آخِرِ السُّورَةِ) {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ} [الشعراء: 225] أَيْ وَادِي الْكَلَامِ {يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] يَذْهَبُونَ {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] وَلَمَّا نَزَلَ «وَالشُّعَرَاءُ» الْآيَةَ «جَاءَ حَسَّانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ إلَى النَّبِيِّ يَبْكُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء: 227] » الْمَادِحِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْهَاجِينَ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى « {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227] » فِي شِعْرِهِمْ وَغَيْرِهِ « {وَانْتَصَرُوا} [الشعراء: 227] » بِهَجْوِهِمْ « {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 227] » مُكَافَأَةَ هَجْوِ الْكُفَّارِ - « {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] » - وَقُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ فَالْآيَةُ صَدْرُهَا دَلِيلُ الْمَنْعِ وَذَيْلُهَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَخِيرِ تَأَمُّلٌ أُصُولِيٌّ فَتَأَمَّلْ وَفِي الْحَدِيثِ الشِّعْرُ كَلَامٌ فَحَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ وَفِي الْأَخْبَارِ أَيْضًا اُهْجُوهُمْ تَدْعُوهُمْ وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الِاخْتِلَافِ وَمَا هُوَ الْحَقُّ فِيهِ وَفِي الْمَبَارِقِ عَلَى حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَفِيهِ «اسْتِحْسَانُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شِعْرَ أُمَيَّةَ» لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ إلَى آخِرِهِ وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «جَالَسْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ وَهُوَ يَبْتَسِمُ مَعَهُمْ» وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» وَفِي الشِّرْعَةِ وَرُبَّمَا كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُنْشِدُ مِنْ الْأَرَاجِيزِ مِثْلَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» وَعَنْ الْمَازِرِيِّ أَنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ لِصُدُورِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْمُصَادَرَةِ وَالتَّحَكُّمِ بَلْ الْجَوَابُ الْحَقُّ مَا فِي الْأَشْبَاهِ وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ أَنَّ الْقَصْدَ مُعْتَبَرٌ فِي الشِّعْرِ وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي كَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ وَاقِعٌ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ أَصَابَهُ حَجَرٌ بِرِجْلِهِ فَعَثَرَ فَقَالَ «هَلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» وَهَذَا مِنْ الرَّجَزِ أَيْضًا وَفِي حَفِيدِ السَّعْدِ الشِّعْرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ قَالَ قَوْلُهُ «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» وَقَوْلُهُ «هَلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ» اتِّفَاقِيٌّ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَقَصْدٍ عَلَى أَنَّ الْخَلِيلِ مَا عَدَّ الْمَشْطُورَ مِنْ الرَّجَزِ شِعْرًا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حَرَّكَ التَّاءَ وَكَسَرَ الْيَاءَ الْأُولَى بِلَا إشْبَاعٍ وَسَكَّنَ الثَّانِيَةَ وَكَانَ الشِّعْرُ أَحَبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْكَلَامِ وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى

الرابع السجع

لَهُ وَعَنْ الْكَرْمَانِيِّ أَنَّ التَّاءَ فِي قَوْلِهِ «هَلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيَتْ» بِالسُّكُونِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ تَعَمَّدَ السُّكُونَ لِيَخْرُجَ عَنْ الشِّعْرِ وَفِيهِ أَنَّهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبَحْرِ الْكَامِلِ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَفِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ اُعْتُبِرَ فِي مَفْهُومِ الشِّعْرِ الْعَمْدُ لِئَلَّا يَلْزَمَ وُجُودُ الشِّعْرِ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الشِّعْرَ كَلَامٌ مُخَيَّلٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى بِطَرِيقِ الْعَمْدِ (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ» بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ مِنْ الْوَرْيِ بِوَزْنِ الرَّمْيِ غَيْرِ مَهْمُوزٍ أَيْ حَتَّى يَغْلِبَهُ فَيَشْغَلَهُ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ حَتَّى يَفْسُدَ «خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» أَنْشَأَهُ أَوْ أَنْشَدَهُ لِمَا يَئُولُ إلَيْهِ أَمْرُهُ مِنْ تَشَاغُلِهِ بِهِ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ قَالَ الْقَاضِي وَالْمُرَادُ مَا يَتَضَمَّنُ سَبًّا أَوْ هِجَاءً أَوْ مُفَاخَرَةً وَحَمَلَ بَعْضٌ عَلَى عُمُومِهِ إنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى الذِّكْرِ وَالزُّهْدِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالدَّقَائِقِ مِمَّا لَا إفْرَاطَ فِيهِ وَفِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهَةِ الشِّعْرِ مُطْلَقًا وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى إبَاحَتِهِ لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مَا فِيهِ قُبْحٌ وَإِلَّا فَإِنْ شَغَلَهُ عَنْ الذِّكْرِ فَمَذْمُومٌ أَيْضًا وَإِلَّا فَلَا وَفِي قَوْلِهِ يَمْتَلِئُ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالشِّعْرِ مَا فِيهِ هَجْوُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَرَدَ أَنَّهُ كُفْرٌ [الرَّابِعُ السَّجْعُ] (وَالرَّابِعُ السَّجْعُ) هُوَ تَوَازُنُ الْفِقَرِ وَتَقَارُبُ الْفَوَاصِلِ وَقِيلَ تَوَاطُؤُ الْفَاصِلَتَيْنِ مِنْ النَّثْرِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ فِي النَّثْرِ كَالْقَافِيَةِ فِي الشِّعْرِ (وَالْفَصَاحَةُ وَهُمَا إنْ كَانَا بِلَا تَكَلُّفٍ) بِأَنْ يَكُونَا سَلِيقَةً طَبِيعَةً (وَلَا تَصَنُّعٍ) تَكَلُّفٍ فِي الصُّنْعِ وَتَعَبٍ فِي التَّعْبِيرِ (فَمَمْدُوحَانِ خُصُوصًا إذَا كَانَا فِي الْخَطَابَةِ) فِي الْخُطْبَةِ (وَالتَّذْكِيرِ) فِي الْعِظَةِ (بَلْ يُسْتَحَبُّ التَّكَلُّفُ الْيَسِيرُ) فِيهِمَا (لِأَنَّ فِيهِمَا تَحْرِيكَ الْقُلُوبِ وَتَشْوِيقَهَا) إلَى الطَّاعَةِ (وَقَبْضِهَا) عَنْ الْمَعَاصِي عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعِيدِ (وَبَسْطِهَا) عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعْدِ بِالْعِبَارَاتِ الْعَذْبَةِ وَالْكَلِمَاتِ الْمَلِيحَةِ وَالْأَدَاءِ الْغَرِيبِ وَالتَّعْبِيرِ الْأَنِيقِ إذْ الْوِجْدَانُ شَاهِدٌ أَنَّ فِي تَعْبِيرِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِعِبَارَةٍ تَفَاوُتًا بِأَدَائِهِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى قِيلَ سَمِعَ أَعْرَابِيٌّ وَعْظَ الْحَسَنِ فَقَالَ فَصِيحٌ إذَا لَفَظَ نَصِيحُ إذَا وَعَظَ خُصُوصًا إذَا كَانَ مُؤَذِّنًا وَإِمَامًا أَوْ خَطِيبًا أَوْ قَارِئًا أَوْ مُعَلِّمًا أَوْ مُدَرِّسًا أَوْ وَاعِظًا فَإِنَّ التَّكَلُّفَ الْيَسِيرَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِتَرْقِيقِ الْقُلُوبِ، وَتَهْيِيجُ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ مُسْتَحَبٌّ وَمَنْدُوبٌ لَكِنْ يَشْكُلُ عَلَى مِثْلِهِ أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِصَادِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِعْلًا إذْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إلَى تَكَلُّفٍ فِي أَدَاءِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَالتَّعْبِيرِ الْفَصِيحِ وَلَا قَوْلًا عَلَى الظَّاهِرِ إذْ لَوْ كَانَ لَأُشِيعَ وَلَا حَسُنَ عَقْلِيًّا عِنْدَنَا كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ تَعْلِيلِهِ فَمَا مَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ مِثْلَهُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْبِدْعَةِ فِي الْعَادَةِ الَّتِي لَهَا إعَانَةٌ فِي الدِّينِ فَتَأَمَّلْ (وَأَمَّا فِيمَا عَدَاهُمَا) أَيْ الْخَطَابَةِ وَالتَّذْكِيرِ مِنْ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ (فَالتَّكَلُّفُ فِيهِمَا) وَلَوْ يَسِيرًا

(وَالتَّشَدُّقُ) التَّوَسُّعُ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاطٍ وَاحْتِرَازٍ وَقِيلَ هُوَ التَّكَلُّفُ فِي الْكَلَامِ بِمِلْءِ الْفَمِ مِنْ التَّكَبُّرِ وَقِيلَ هُوَ لَيٌّ شِدْقِهِ أَيْ جَانِبِ فَمِهِ لِلتَّفَصُّحِ (مَذْمُومٌ نَاشِئٌ مِنْ الرِّيَاءِ وَحُبِّ الثَّنَاءِ ت عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الْبَلِيغَ» الْفَصِيحَ «مِنْ الرِّجَالِ» وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ الْمُظْهِرَ لِلتَّفَصُّحِ تِيهًا عَلَى الْغَيْرِ وَتَفَاصُحًا وَاسْتِعْلَاءً وَوَسِيلَةً إلَى الِاسْتِقْدَارِ عَلَى تَصْغِيرِ عَظِيمٍ أَوْ تَعْظِيمِ حَقِيرٍ أَوْ بِقَصْدِ تَعْجِيزِ غَيْرِهِ أَوْ تَزْيِينِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ أَوْ عَكْسِهِ أَوْ إجْلَالِ الْحُكَّامِ وَوَجَاهَتِهِ وَقَبُولِ شَفَاعَتِهِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَ الْجَمَالِ فِي اللِّسَانِ وَلَا أَنَّ الْمُرُوءَةَ فِي الْبَيَانِ وَلَا أَنَّهُ زِينَةٌ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا وَلَا يُنَاقِضُ - {خَلَقَ الإِنْسَانَ} [الرحمن: 3] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4]- فَمَنْ وَهِمَ فَقَدْ وَهِمَ انْتَهَى مُلَخَّصًا «الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا الْكَلَأَ» أَيْ الَّذِي يَتَشَدَّقُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَشَدَّقُ الْبَقَرَةُ وَوَجْهُ الشَّبَهِ إدَارَةُ لِسَانِهِ حَوْلَ أَسْنَانِهِ وَفَمِهِ حَالَ التَّكَلُّمِ كَمَا تَفْعَلُ الْبَقَرَةُ حَالَ الْأَكْلِ وَخَصَّ الْبَقَرَةَ لِأَنَّ سَائِرَ الْبَهَائِمِ يَأْخُذُ النَّبَاتَ بِأَسْنَانِهِ وَالْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا وَجْهُ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهَا أَنَّهُمْ كَالْبَقَرَةِ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُمَيِّزَ فِي رَعْيِهَا بَيْنَ الرَّطْبِ وَالشَّوْكِ وَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ بَلْ تَلُفُّ الْكُلَّ بِلِسَانِهَا لَفًّا فَكَذَا هَؤُلَاءِ لَا يُمَيِّزُونَ فِي مَأْكَلِهِمْ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ - {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]- وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ يَتَجَلَّلُ بِالْجِيمِ فَيَكُونُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَلَالَةِ فِي تَنَاوُلِ النَّجَاسَاتِ بِفُحْشِ كَلَامِهِ، وَبُغْضُ اللَّهِ إرَادَةُ عِقَابِهِ وَإِيقَاعِ الْهَوَانِ بِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ مَرَّ بَعْضُ السَّلَفِ بِقَاصٍّ يَدْعُو بِسَجْعٍ فَقَالَ اُدْعُ اللَّهَ تَعَالَى بِلِسَانِ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ لَا بِلِسَانِ الْفَصَاحَةِ وَالِانْطِلَاقِ قَالَ فِي الْأَذْكَارِ فَيُكْرَهُ التَّقْعِيرُ فِي الْكَلَامِ بِالتَّشَدُّقِ وَتَكَلُّفِ السَّجْعِ وَالْفَصَاحَةِ وَالتَّصَنُّعِ بِالْمُقَدَّمَاتِ الَّتِي يَعْتَادُهَا الْمُتَفَاصِحُونَ وَزَخَارِفِ الْقَوْلِ فَكُلُّهُ مِنْ التَّكَلُّفِ الْمَذْمُومِ وَكَذَا يَجْرِي فِي دَقَائِقِ الْإِعْرَابِ وَاللُّغَةِ الْوَحْشِيَّةِ حَالَ مُخَاطَبَةِ الْعَوَامّ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ لَا تُقَاوِمُ فَصَاحَةُ الذَّاتِ إعْرَابَ الْكَلِمَاتِ أَلَا تَرَى كَيْفَ جَعَلَ الْحَقُّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْضَلَ مِنْ أَخِيهِ لِفَصَاحَةِ ذَاتِهِ وَكَانَ هَارُونُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْصَحَ مِنْهُ فِي نُطْقِهِ وَبَلَاغَتِهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (م عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» أَيْ الَّذِينَ يَتَعَمَّقُونَ الْفَصَاحَةَ وَالْبَلَاغَةَ فِي الْكَلَامِ «ثَلَاثًا» كَرَّرَهُ ثَلَاثًا تَهْوِيلًا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْغَائِلَةِ وَتَحْرِيضًا عَلَى التَّيَقُّظِ فِيمَا دُونَهُ أَوْ كَرَّرَهُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ عَنْ النَّوَوِيِّ فِيهِ كَرَاهَةُ التَّقَعُّرِ وَتَكَلُّفِ الْفَصَاحَةِ وَاسْتِعْمَالِ وَحْشِيِّ اللُّغَةِ وَدَقَائِقِ الْإِعْرَابِ فِي مُخَاطَبَةِ الْعَوَامّ وَعَنْ غَيْرِهِ الْمُرَادُ الْغَالِبُونَ فِي خَوْضِهِمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ وَقِيلَ الْمُتَعَنِّتُونَ فِي السُّؤَالِ عَنْ عَوِيصِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَنْدُرُ وُقُوعُهَا وَقِيلَ الْغَالُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَخْرُجُ عَنْ قَوَانِينِ الشَّرْعِ وَيَسْتَرْسِلُ مَعَ الشَّيْطَانِ فِي الْوَسْوَسَةِ. (تَنْبِيهٌ) عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إمَّا مَبْحُوثٌ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى اخْتِلَافِ وُجُوهِهَا فَمَطْلُوبٌ بَلْ قَدْ يُفْرَضُ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَإِمَّا بِدِقَّةِ النَّظَرِ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِفَرْقٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ وَصْفِ الْجَمْعِ أَوْ بِالْعَكْسِ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ مَثَلًا فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» وَفِيهِ تَضْيِيعُ الزَّمَانِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَمِثْلُهُ الْإِكْثَارُ مَعَ التَّفْرِيعِ عَلَى مَسْأَلَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ وَهِيَ نَادِرَةُ الْوُقُوعِ فَيَصْرِفُ فِيهَا زَمَانًا وَصَرْفُهُ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى سِيَّمَا عِنْدَ لُزُومِ إغْفَالِ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ وَأَيْضًا كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي عَالَمِ الْحِسِّ كَالسُّؤَالِ عَنْ السَّاعَةِ وَالرُّوحِ وَمُدَّةِ هَذِهِ الْأَمَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَعَنْ بَعْضٍ مِثَالُ التَّنَطُّعِ إكْثَارُ السُّؤَالِ حَتَّى يُفْضِيَ بِالْمَسْئُولِ إلَى الْجَوَابِ بِالْمَنْعِ بَعْدَ أَنْ يُفْتِيَ بِالْإِذْنِ كَمَا يُسْأَلُ عَنْ كَرَاهَةِ شِرَاءِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ فَيُجَابُ بِالْجَوَازِ فَإِنْ عَادَ وَقَالَ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ غَصْبٍ فِي وَقْتٍ كَانَ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فَيُجَابُ إنْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُرِّمَ وَإِنْ تَرَدَّدَ كُرِهَ أَوْ هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَوْ

الخامس الكلام فيما لا يعني

سَكَتَ السَّائِلُ عَنْ التَّنْطِيعِ لَمْ يَزِدْ الْمُفْتِي عَلَى جَوَابِهِ بِالْجَوَازِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فَمَنْ سَدَّ بَابَ الْمَسَائِلِ حَتَّى فَاتَهُ مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا قَلَّ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ وَمَنْ تَوَسَّعَ فِي تَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ وَتَوْلِيدِهَا سِيَّمَا فِيمَا يَقِلُّ وُقُوعُهَا أَوْ يَنْدُرُ فَإِنَّهُ يُذَمُّ فِعْلُهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ (ت عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا» يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ فِيهَا أَوْ فِي الدُّنْيَا «الثَّرْثَارُونَ» مُكْثِرُو الْكَلَامِ خَطَأً أَوْ صَوَابًا حَقًّا أَوْ بَاطِلًا بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ الْجَيِّدَ مِنْ الرَّدِيءِ وَيَتَكَلَّفُ رِيَاءً وَعُجْبًا «الْمُتَفَيْهِقُونَ» مِنْ الْفَهَقِ وَهُوَ الِامْتِلَاءُ يُقَالُ فَهِقَ الْحَوْضَ فَهَقًا وَأَفْهَقَتْهُ إذَا مَلَأَتْهُ أَيْ الْمُتَوَسِّعُونَ فِي الْكَلَامِ وَقِيلَ هُمْ الَّذِينَ يَنْطِقُونَ مِنْ قَعْرِ الْفَمِ بِالتَّكَبُّرِ وَالرُّعُونَةِ «الْمُتَشَدِّقُونَ فِي الْكَلَامِ» التَّشَدُّقُ هُوَ لَيُّ شِدْقِهِ أَيْ جَانِبِ فَمِهِ لِلتَّفَصُّحِ وَالْكُلُّ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى التَّكَلُّفِ فِي الْكَلَامِ لِيُمِيلَ إلَيْهِ قُلُوبَ النَّاسِ وَأَسْمَاعَهُمْ لَعَلَّ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَرْوِيجَ أَمْرٍ دِينِيٍّ كَمَا عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا. [الْخَامِسُ الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي] (وَالْخَامِسُ الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي) أَيْ لَا يُهِمُّهُ وَلَا يُفِيدُهُ وَلَا يُثَابُ لَهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَفِيهِ تَضْيِيعُ الْوَقْتِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَوَهَنُ الْبَدَنِ وَتَأْخِيرُ الرِّزْقِ وَإِيذَاءُ الْحَفَظَةِ وَإِرْسَالُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّغْوِ إلَيْهِ تَعَالَى وَقِرَاءَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَالْحَبْسُ عَنْ الْجَنَّةِ وَالْحِسَابُ وَاللَّوْمُ وَالتَّعْيِيرُ وَإِيقَاعُ الْحُجَّةِ وَالْحَيَاءُ مِنْهُ تَعَالَى كَمَا نُقِلَ عَنْ عَيْنِ الْعِلْمِ اعْلَمْ أَنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِك أَنْ تَحْفَظَ أَلْفَاظَك عَنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ وَتَتَكَلَّمَ بِمَا هُوَ مُبَاحٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَيْك وَلَا عَلَى مُسْلِمٍ أَصْلًا إلَّا أَنَّك تَتَكَلَّمُ بِمَا أَنْتَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ وَلَا حَاجَةَ بِك إلَيْهِ فَإِنَّك بِهِ مُضَيِّعٌ زَمَانَك وَمُحَاسَبٌ عَلَى عَمَلِ لِسَانِك وَمُسْتَبْدِلٌ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لِأَنَّك لَوْ صَرَفْت الْكَلَامَ إلَى الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ رُبَّمَا يُفْتَحُ لَك مِنْ نَفَحَاتِ رَحْمَتِهِ عِنْدَ الْفِكْرَةِ مَا يَعْظُمُ جَدْوَاهُ وَلَوْ هَلَّلْت لَهُ تَعَالَى أَوْ سَبَّحْته وَذَكَرْته لَكَانَ خَيْرًا لَك فَكَمْ مِنْ كَلِمَةٍ يُبْنَى بِهَا قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ قَدَرَ أَنْ يَأْخُذَ كَنْزًا مِنْ الْكُنُوزِ فَأَخَذَ بَدَلَهُ مَدَرَةً لَا يَنْتَفِعُ بِهَا كَانَ خَاسِرًا خُسْرَانًا مُبِينًا وَهَذَا مِثَالُ مَنْ تَرَكَ ذِكْرَ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِمُبَاحٍ لَا يَعْنِيهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمُ فَقَدْ خَسِرَ حَيْثُ فَاتَهُ الرِّبْحُ الْعَظِيمُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ صَمْتُهُ إلَّا فِكْرًا وَلَا نَظَرُهُ إلَّا عِبَرًا وَلَا نُطْقُهُ إلَّا ذِكْرًا هَكَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأْسُ مَالِ الْعَبْدِ أَوْقَاتُهُ وَمَهْمَا صَرَفَهَا إلَى مَا لَا يَعْنِيهِ وَلَمْ يَدَّخِرْ بِهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ ضَيَّعَ رَأْسَ مَالِهِ (مِثْلَ حِكَايَةِ أَسْفَارِك وَمَا رَأَيْت فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَنْهَارٍ وَأَطْعِمَةٍ وَثِيَابٍ) وَحَدُّهُ أَنَّ مُتَكَلِّمَهُ مَا لَوْ سَكَتَ عَنْهُ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يَتَضَرَّرْ. وَأَمَّا فُضُولُ الْكَلَامِ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فَيَأْتِيَ وَأَمَّا حِكَايَاتُ نَحْوِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ وَمَجَالِسِ الْخَمْرِ وَمَقَامَاتِ الْفُسَّاقِ وَتَنَعُّمِ الْأَغْنِيَاءِ وَتَجَبُّرِ الْمُلُوكِ وَأَحْوَالِهِمْ فَحَرَامٌ وَمَا لَا يَعْنِي مَكْرُوهٌ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ خَوْضِ الْبَاطِلِ مِثْلَ حِكَايَاتِ الْبِدَعِ وَالْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ وَمُحَارَبَاتِ الصَّحَابَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوهِمُ الطَّعْنَ فِي بَعْضِهِمْ (وَمِنْهُ) مِمَّا لَا يَعْنِي (السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَهُمُّ) فَأَنْتَ بِالسُّؤَالِ مُضَيِّعٌ وَقْتَك وَقَدْ أَلْجَأْت صَاحِبَك أَيْضًا بِالْجَوَابِ إلَى التَّضْيِيعِ (وَهَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالرِّيَاءِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَحْرُمُ) لَكِنَّ أَكْثَرَ الْأَسْئِلَةِ لَا يَخْلُو عَنْهَا فَإِنَّك تَسْأَلُ مَثَلًا عَنْ عِبَادَتِهِ فَتَقُولُ هَلْ أَنْتَ صَائِمٌ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَيَدْخُلُ فِيهِ الرِّيَاءُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ سَقَطَتْ عِبَادَتُهُ عَنْ دِيوَانِ السِّرِّ وَعِبَادَةُ السِّرِّ تُفَضَّلُ عَلَى عِبَادَةِ الْجَهْرِ بِدَرَجَاتٍ وَإِنْ قَالَ لَا كَانَ كَاذِبًا وَإِنْ سَكَتَ كَانَ مُسْتَحْقِرًا إيَّاكَ وَتَأَذَّيْت بِهِ وَإِنْ احْتَالَ بِمُدَافَعَةِ الْجَوَابِ افْتَقَرَ إلَى جُهْدٍ وَتَعَبٍ فِيهِ فَقَدْ عَرَّضْته بِالسُّؤَالِ

إمَّا لِلرِّيَاءِ أَوْ الْكَذِبِ أَوْ الِاسْتِحْقَارِ أَوْ الِافْتِقَارِ أَوْ التَّعَبِ فِي حِيلَةِ الْجَوَابِ وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ عَنْ سَائِرِ عِبَادَاتِهِ وَمَعَاصِيهِ وَعَنْ كُلِّ مَا يُخْفِي وَيَسْتَحْيِي مِنْهُ (بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ إذَا قَارَنَهُ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ مِثْلُ دَفْعِ التُّهْمَةِ بِالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ) هُوَ النَّظَرُ لِلنَّفْسِ بِعَيْنِ الْكَمَالِ (بِعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَاحْتِقَارِ مَنْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ دَفْعِ الْمَهَابَةِ وَالْحَيَاءِ) عَمَّنْ جَاءَ لِحَاجَةٍ يَطْلُبُهَا مِنْهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّكَلُّمِ مَعَهُ هَيْبَةً مِنْهُ أَوْ حَيَاءً (حَتَّى يَتَكَلَّمَ صَاحِبُهُ تَمَامَ مُرَادِهِ) هَذَا إنْ كَانَ الطَّالِبُ مِنْ الْحُقَرَاءِ أَوْ صَاحِبَ حَيَاءٍ وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْمَهَابَةِ وَالِاحْتِرَامِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (مِنْ الِاسْتِفْتَاءِ وَغَيْرِهِ) مِنْ الْمُرَافَعَةِ أَوْ التَّظَلُّمِ وَالشِّكَايَةِ مِنْ الْمُتَغَلِّبَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ (أَوْ دَفْعِ الْحُزْنِ عَنْ الْمَحْزُونِ) كَمَنْ وَقَعَ فِي مُصَادَرَةِ الظَّالِمِ وَحَبْسِهِ. فَقَوْلُهُ (وَالْمُصَابِ) بِمُصِيبَةٍ مَا كَمَنْ مَاتَ أَبْنَاؤُهُ أَوْ وَالِدَاهُ كَعَطْفِ تَفْسِيرٍ لَهُ (أَوْ تَسْلِيَةِ النِّسَاءِ) الْمُفَارِقَاتِ لِأَهَالِيِهِنَّ وَالْمَحْبُوسَاتِ فِي الْبُيُوتِ وَالْمُتَوَحِّشَات بِالْوَحْدَةِ وَالْعُزْلَةِ وَالْمُفَارِقَةِ (وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَهُنَّ) فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْمُؤَانَسَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالصَّمْتَ رُبَّمَا يُوقِعُ الْوَحْشَةَ وَالْبُرُودَةَ قِيلَ هُنَا كَمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ «أُمِّ زَرْعٍ وَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ زَوْجَاتِهِ» وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمَشَارِقِ انْتَهَى. (أَوْ التَّلَطُّفِ بِالصِّبْيَانِ أَوْ لِعَدَمِ إدْرَاكِ أَلَمِ السَّفَرِ أَوْ الْعَمَلِ) مِنْ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ الدَّوَاعِي (وَكَذَا) كَاسْتِحْبَابِ مَا ذَكَرْنَا (يُسْتَحَبُّ الْمِزَاحُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ) بِشَرْطِهِ الْمُتَقَدِّمِ (نَعَمْ بِهَذِهِ النِّيَّاتِ) الصَّالِحَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَاهِيَّةِ بِشَرْطِ الشَّيْءِ (يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ مَا لَا يَعْنِي) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُثَابٌ (فَكُلُّ مَا لَا يَعْنِي يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ) كَأَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ بِهَذَا التَّقْرِيرِ هَذَا الْمِزَاحُ لَيْسَ مَا لَا يَعْنِي لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ وَمَا لَا يَعْنِي يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ فَهَذَا الْمِزَاحُ لَيْسَ مَا لَا يَعْنِي وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ يَخْرُجُ عَنْ حَدٍّ إلَى آخِرِهِ (ت عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ» كَلِمَةُ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ بَيَانِيَّةٌ آثَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ إنَّمَا يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْهَا وَزَادَ حُسْنِ إيمَاءً إلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ بِصُوَرِ الْأَعْمَالِ فِعْلًا وَتَرْكًا إلَّا إنْ اتَّصَفَ بِالْحُسْنِ بِأَنْ تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ مُكَمِّلَاتِهَا فَضْلًا عَنْ الْمُصَحِّحَاتِ وَجَعَلَ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي مِنْ الْحُسْنِ مُبَالَغَةً «تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ عَنَاهُ الْأَمْرُ إذَا تَعَلَّقَتْ عِنَايَتُهُ بِهِ وَكَانَ مِنْ قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَفِي إفْهَامِهِ أَنَّ مِنْ قَبِيحِ الْإِسْلَامِ أَخْذُهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَاَلَّذِي لَا يَعْنِي هُوَ الْفُضُولُ كُلُّهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَاَلَّذِي يَعْنِي الْمَرْءَ مِنْ الْأُمُورِ مَا تَعَلَّقَ بِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ فِي مَعَاشِهِ مِمَّا يُشْبِعُهُ وَيَرْوِيهِ وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَيُعِفُّ فَرْجَهُ وَنَحْوَهُ مِمَّا لَا يَدْفَعُ الضَّرُورَةَ دُونَ مَا فِيهِ تَلَذُّذٌ وَتَنَعُّمٌ، وَسَلَامَتِهِ فِي مَعَادِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِحْسَانُ وَبِذَلِكَ يَسْلَمُ عَنْ سَائِرِ الْآفَاتِ وَالشُّرُورِ وَالْمُخَاصَمَاتِ وَذَلِكَ أَنَّ حُسْنَ إسْلَامِ فِي رُسُوخِ حَقِيقَةِ تَقْوَاهُ وَمُجَانَبَةِ هَوَاهُ وَمُعَافَاةِ مَنْ عَدَاهُ وَمَا عَدَاهُ ضَيَاعٌ لِلْوَقْتِ النَّفِيسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّضَ فَائِتُهُ فِيمَا لَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِهِ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ فَقَدْ حَسُنَ إسْلَامُهُ قَالَ بَعْضُهُمْ تَعَلُّمُ مَا لَا يَهُمُّهُ مِنْ الْعُلُومِ مِمَّا لَا يَعْنِي كَمَنْ يَشْتَغِلُ بِعِلْمِ الْجَدَلِ مَثَلًا وَيَقُولُ نِيَّتِي نَفْعُ النَّاسِ وَلَوْ كَانَ صَادِقًا لَاشْتَغَلَ بِمَا يُصْلِحُ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ مِنْ إخْرَاجِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ قَالُوا هَذَا الْحَدِيثُ رُبُعُ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ نِصْفُهُ وَقِيلَ كُلُّهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا التَّخْرِيجِ وَقَعَ فِي الْجَامِعِ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ أَبْشِرْ» أَيُّهَا الْمَيِّتُ «بِالْجَنَّةِ» كَأَنَّهُ لِمَا رَأَى مِنْ حُسْنِ عَمَلِهِ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُدْرِيك» أَيْ مَا يَجْعَلُك دَارِيًا وَعَالِمًا «لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ» لَا يَنْفَعُهُ «أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يُغْنِيهِ» أَيْ بِكَلَامٍ لَا يُنْقِصُهُ بَدَنًا وَعَرَضًا وَمَالًا فَإِنَّ التَّكَلُّمَ فِي الْخَيْرِ وَفِعْلِهِ لَا يُنْقِصُ مِنْ لِسَانِهِ شَيْئًا وَلَا مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا بِأَنْ يُعِينَهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْشِي بِرِجْلِهِ فِي حَاجَتِهِمْ (دُنْيَا يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «اسْتَشْهَدَ رَجُلٌ مِنَّا يَوْمَ أُحُدٍ فَوُجِدَ عَلَى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنْ الْجُوعِ» كَمَا هُوَ عَادَةُ الصَّحَابَةِ بَلْ فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَثِيرًا كَمَا سَبَقَ «فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَتْ هَنِيئًا لَك يَا بُنَيَّ» وَفِي رِوَايَةٍ هَنِيئًا لَك الْجَنَّةُ وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ وَصَلْت عَيْشًا طَيِّبًا فِي الْجَنَّةِ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُدْرِيك» يَعْنِي: كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يَكُونُ لَك أَنْ تَحْكُمِي بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ مِنْ مَوَانِعِهَا «لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ» قِيلَ إنْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْلَمُ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ فَلَا يُنَاسِبُ التَّعْبِيرَ بِلَعَلَّ وَإِلَّا فَسُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ قُلْت يَجُوزُ عِلْمُهُ ذَلِكَ وَتَعْبِيرُهُ بِلَعَلَّ لِئَلَّا يَزِيدَ حُزْنُ أَهْلِ الْمَيِّتِ أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَانِعِ الْجَنَّةِ قَطْعًا أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْحُكْمِ بِالْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ فَافْهَمْ وَيَشْكُلُ أَنَّهُ مُتَبَادَرٌ فِي الْإِنْشَاءِ فَمَا وَجْهُ حَمْلِهِ عَلَى الْأَخْبَارِ ثُمَّ مَنَعَ ذَلِكَ لَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِمَ مِنْ صَنِيعِهَا الْإِخْبَارَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ ثُمَّ الْإِشْكَالُ أَنَّ الْمَفْرُوضَ كَوْنُ مَا لَا يَعْنِي مِمَّا لَا يَضُرُّ فَكَيْفَ يَمْنَعُ الْجَنَّةَ أَشَارَ إلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ (وَوَجْهُهُ) وَجْهُ مَنْعِ الْبِشَارَةِ وَالتَّهْنِئَةِ (أَنَّ الْبِشَارَةَ) فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ (وَالتَّهْنِئَةَ) فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي (الْكَامِلَتَيْنِ لِمَنْ لَا يُحَاسَبُ أَصْلًا) لَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْحِسَابِ فِي الْمُبَاحِ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ (إذْ الْحِسَابُ نَوْعُ عَذَابٍ) يَشْكُلُ عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْحِسَابِ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ حِسَابَهُمْ حِسَابُ عَرْضٍ لَا مُنَاقَشَةٍ وَهَذَا الْحِسَابُ حِسَابُ مُنَاقَشَةٍ يَجْعَلُ الْقَضِيَّةَ جُزْئِيَّةً تَفْصِيلُهُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْحِسَابِ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ فَيَرِدُ الْإِشْكَالُ وَإِلَّا فَالْقَضِيَّةُ جُزْئِيَّةٌ فَلَا تَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ إذْ حَاصِلُ الْمَقَامِ أَنْ مَا لَا يَعْنِي حِسَابٌ أَيْ لَهُ حِسَابٌ وَالْحِسَابُ نَوْعُ عَذَابٍ فَيَرِدُ بِالتَّرْدِيدِ عَلَى الْكُبْرَى وَأَيْضًا إنْ أُرِيدَ مِنْ الْحِسَابِ الْمُنَاقَشَةُ فَلَا نُسَلِّمُ الصُّغْرَى لِأَنَّهَا مِمَّا يَلْزَمُ بَيَانُهَا وَإِنْ الْعَرْضَ فَلَا نُسَلِّمُ الْكُبْرَى فَتَأَمَّلْ وَأَيْضًا الْمَطْلُوبُ ظَنِّيٌّ إذْ الْمَقَامُ خَطَابِيٌّ فَيَكْفِي أَكْثَرِيَّةُ الْكُبْرَى وَظَنِّيَّتُهُ (وَمَنْ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ يُحَاسَبُ وَيُسْأَلُ) قِيلَ ظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَعَلَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ مِنْ أَنَّهُ يَكْتُبُ الْمَلَكُ مَا لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ خِلَافًا لِمَنْ يَقُولُ لَا يَكْتُبُهُ (شَيْخٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْثَرُ

السادس آخر المباحث فضول الكلام

النَّاسِ ذُنُوبًا أَكْثَرُهُمْ كَلَامًا فِيمَا لَا يَعْنِي» وَوَجْهُهُ) أَيْ وَجْهُ كَوْنِ ذُنُوبِ مَنْ تَكَلُّمُهُ فِيمَا لَا يَعْنِي أَكْثَرُ مِنْ ذُنُوبِ سَائِرِ النَّاسِ مَعَ أَنَّ التَّكَلُّمَ فِيهِ مُبَاحٌ (أَنَّهُ يَجُرُّهُ غَالِبًا إلَى مَا لَا يَحِلُّ مِنْ الْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَنَحْوِهِمَا) مِمَّا يَنْشَأُ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَقَدْ عَرَفْت مِرَارًا أَنَّ الْوَسَائِلَ قَدْ تَكُونُ أَحْكَامَ الْمَقَاصِدِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَلَا أُعْلِمُكَ بِعَمَلٍ خَفِيفٍ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلٍ فِي الْمِيزَانِ فَقُلْت بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الصَّمْتُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِيك» وَفِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ إذَا رَأَيْت قَسَاوَةً فِي قَلْبِك وَوَهْنًا فِي بَدَنِك وَحِرْمَانًا فِي رِزْقِك فَاعْلَمْ بِأَنَّك تَكَلَّمْت بِمَا لَا يَعْنِيكَ» وَقَدْ مَرَّ وَضْعُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَجَرًا فِي فَمِهِ سِنِينَ إلَّا عِنْدَ الْأَكْلِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ قِيلَ فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ وَأَكْثَرِ الْمَثُوبَاتِ وَأَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ. [السَّادِسُ آخِرُ الْمَبَاحِثِ فُضُولُ الْكَلَامِ] (وَالسَّادِسُ) آخِرُ الْمَبَاحِثِ (فُضُولُ الْكَلَامِ وَهُوَ) التَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِيَّةِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَمْعٍ بَلْ مَصْدَرٌ كَدُخُولِ (الزِّيَادَةِ فِيمَا لَا يَعْنِي) دِينًا أَوْ دُنْيَا (عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ) فَإِذَا أَمْكَنَ أَدَاءُ الْمَرَامِ بِكَلِمَةٍ قَلِيلَةٍ فَأَتَى بِزِيَادَةٍ فَالزِّيَادَةُ مِنْ قَبِيلِ الْفُضُولِ (وَلَيْسَ مِنْهُ التَّفْصِيلُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ) لِإِيضَاحِهَا وَدَفْعِ احْتِمَالَاتِهَا (خُصُوصًا لِلْأَفْهَامِ الْقَاصِرَةِ وَالتَّكْرَارُ فِي الْعِظَةِ) مِنْ الْوَعْظِ (وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّعْلِيمِ) وَالتَّدْرِيسِ فَإِنَّ الْمُدَرِّسَ يُقَرِّرُ وَيُكَرِّرُ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُتَعَلِّمِ مُبْتَدِيًا أَوْ مُنْتَهِيًا وَعَلَى كَوْنِ الْمَقَامِ خَفِيًّا وَوَاضِحًا وَعَلَى حَسَبِ تَفَطُّنِ الْمُتَعَلِّمِ وَغَبَاوَتِهِ كَمَا قِيلَ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ وَلِكُلِّ مَيْدَانٍ رِجَالٌ وَكَلِّمْ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ (وَالتَّعَلُّمِ) فِي كَوْنِهِ مِنْ الْمَقَامِ خَفَاءً إلَّا أَنْ يُرَادَ مَعْنَى الْمُتَعَلِّمِ (وَنَحْوِهَا) وَفِي الشِّرْعَةِ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ فَصِيحٍ دُونَ مُبْهَمِهِ وَيُرَتِّلُ الْكَلَامَ تَرْتِيلًا أَيْ يُبَيِّنُ وَقَدْ كَانَ كَلَامُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيَانًا بَيَانًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ وَلَوْ عَدَّهُ عَادٌّ لَأَحْصَاهُ وَيَفْهَمُ السَّامِعُ كَلَامَهُ فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا وَإِذَا تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ ثَلَاثًا وَيُسَاهِلُ فِي كَلَامِهِ وَيَتَسَاهَلُ وَلَا يَتَكَلَّفُ النَّظْمَ وَلَا السَّجْعَ (لِأَنَّهُ لِلْحَاجَةِ وَفِيمَا لَا حَاجَةَ فِيهِ يُسْتَحَبُّ الْإِيجَازُ وَالِاخْتِصَارُ) عَلَى قَدْرِ إفَادَةِ الْمَرَامِ فَلَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ مُخِلٍّ لِفَهْمِهِ كَالتَّعْمِيَةِ وَاللُّغْزِ (وَقَدْ سَبَقَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حَدِيثَا عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ) أَنَّهُ قَالَ «تَكَلَّمَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكْثَرَ فَقَالَ كَمْ دُونَ لِسَانِك مِنْ حِجَابٍ فَقَالَ شَفَتَايَ وَأَسْنَانِي فَقَالَ أَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَا يَرُدُّ كَلَامَك» (وَ) حَدِيثُ (أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «طُوبَى لِمَنْ أَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ كَلَامِهِ وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ» (فَتَذَكَّرْ) وَرَوَى

المبحث الثالث فيما الأصل فيه الإذن من العادات التي يتعلق بها النظام للعالم

مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ يَكُونَ نُطْقِي ذِكْرًا وَصَمْتِي فِكْرًا وَنَظَرِي عِبْرَةً» وَفِي التَّنْبِيهِ وَذُكِرَ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ قَالَ لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُو قُلُوبُكُمْ وَالْقَلْبُ الْقَاسِي بَعِيدٌ عَنْ الْحَقِّ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَأَقُولُ كَمَا كَانَ الْفُضُولُ مِنْ الْكَلَامِ آفَةً كَذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَلِذَا قِيلَ الْإِصْرَارُ عَلَى الْمُبَاحِ صَغِيرَةٌ وَصَيْدُ مَنْ أَفْرَطَ فِي الِاصْطِيَادِ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مَعَ إبَاحَةِ أَصْلِهِ وَعَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ سَمِعْت أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ عَبْدَ اللَّهِ وَأَحْمَدَ بْنَ حَرْبٍ حَفَرَا مَوْضِعًا فَقَلَعَ أَحْمَدُ حَشِيشًا مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ حَصَلَتْ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ الْأَوَّلُ شَغَلْت قَلْبَك عَنْ تَسْبِيحِ مَوْلَاك الثَّانِي دَعَوْت نَفْسَك إلَى الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ الثَّالِثُ جَعَلْت لَك طَرِيقًا يُقْتَدَى بِك فِيهِ الرَّابِعُ مَنَعْت حَشِيشًا مِنْ الْأَرْضِ مُسَبِّحًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الْخَامِسُ أَلْزَمْت نَفْسَك حُجَّةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ لَا يَكُونُ مِثْلُك وَاعِظًا يَا عَبْدَ اللَّهِ ثُمَّ قِيلَ سَبَبُ مَا لَا يَعْنِي وَالْفُضُولِ الْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ أَوْ الْمُبَاسَطَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَدُّدِ أَوْ تَزْجِيَةِ الْوَقْتِ بِحِكَايَاتِ أَحْوَالٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا وَعِلَاجُهُمَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَوْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْ كُلِّ كَلِمَةٍ وَأَنَّ أَنْفَاسَهُ رَأْسُ مَالِهِ وَأَنَّ لِسَانَهُ شَبَكَتُهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَقْنِصَ الْحُورَ الْعَيْنَ فَإِهْمَالُهُ وَتَضْيِيعُهُ خُسْرَانٌ؛ هَذَا عِلَاجُهُمَا عِلْمًا وَأَمَّا عَمَلًا فَالْعُزْلَةُ أَوْ وَضْعُ الْحَجَرِ فِي الْفَمِ وَإِلْزَامُ النَّفْسِ السُّكُوتَ عَنْ بَعْضِ مَا يَعْنِي لِيَتَعَوَّدَ اللِّسَانُ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِيهِ وَفُضُولُ الْكَلَامِ وَضَبْطُ اللِّسَانِ فِي هَذَيْنِ لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا عَلَى الْمُعْتَزِلِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِيمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ مِنْ الْعَادَاتِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا النِّظَامُ لِلْعَالِمِ] (الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِيمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ مِنْ) (الْعَادَاتِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا النِّظَامُ) لِلْعَالِمِ كَسِيَاسَةِ الْمَدِينَةِ وَتَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ (وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِيدَاعِ وَالْإِعَارَةِ) (وَنَحْوِهَا) مِنْ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ (فَهَذِهِ الْأُمُورُ مُبَاحَاتٌ) شَرْعًا (فِي نَفْسِهَا) الْأَوْلَى فِي أَنْفُسِهَا (وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا فِي بَعْضِ الْحَالِ وَاجِبًا) كَالنِّكَاحِ عِنْدَ التَّوَقَانِ لِلْقَادِرِ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَسَّلُ إلَى تَرْكِ الْحَرَامِ إلَّا بِهِ يَكُونُ فَرْضًا وَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى حَسَبِهِ (أَوْ سُنَّةً) كَهُوَ حَالِ الِاعْتِدَالِ وَيُكْرَهُ لِخَوْفِ الْجَوْرِ كَمَا فِي الدُّرَرِ (أَوْ مُسْتَحَبًّا وَلَكِنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ فِيهِ أَرْكَانًا وَشُرُوطًا تَجِبُ رِعَايَتُهُمَا عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ وَإِلَّا) إنْ لَمْ يُرَاعِ تِلْكَ الْأَرْكَانَ وَالشُّرُوطَ (يَصِيرُ بَاطِلًا) إذْ رُكْنُ الشَّيْءِ جُزْؤُهُ فَبِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ يَنْتَفِي (أَوْ فَاسِدًا) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْخَلَلُ لِذَاتِ الشَّيْءِ فَبَاطِلٌ وَإِنْ لِوَصْفِهِ فَفَاسِدٌ (أَوْ مَكْرُوهًا) وَالتَّفْصِيلُ فِي الْفَقِيهِ (فَيَأْثَمُ صَاحِبُهُ) فَفِي التَّفْرِيعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَرَاهَةِ لَا سِيَّمَا بِاعْتِبَارِ شُمُولِهَا التَّنْزِيهِيَّةَ خَفَاءٌ إلَّا أَنْ يُخَصَّ قَوْلُهُ (أَوْ يُسِيءُ) بِالْكَرَاهَةِ وَلَا سِيَّمَا التَّنْزِيهِيَّةُ (فَتَكُونُ آفَةً لِلِّسَانِ فَلِذَا) أَيْ فَلِأَجْلِ أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَرْكَانًا وَشُرُوطًا تَجِبُ رِعَايَتُهُمَا عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ وَبِانْعِدَامِهِمَا يَلْزَمُ الْإِثْمُ وَالْإِسَاءَةُ (لِمَا قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ) صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ (لِمَ لَا تُصَنِّفُ كِتَابًا فِي الزُّهْدِ) فِي التَّصَوُّفِ (قَالَ صَنَّفْت كِتَابَ الْبُيُوعِ) قِيلَ لَعَلَّهُ قَبْلَ تَصْنِيفِهِ فِي الزُّهْدِ وَإِلَّا فَلَهُ تَصْنِيفٌ مَعْرُوفٌ فِي الزُّهْدِ (إشَارَةً إلَى أَنَّ الزُّهْدَ وَالتَّقْوَى لَا يَحْصُلُ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَإِلَّا فَحَقُّ الْعِبَارَةِ لَا يَحْصُلَانِ (إلَّا بِالتَّحَرُّزِ) أَيْ بِتَكَلُّفِ الِاحْتِرَازِ (فِي الْمُعَامَلَاتِ عَنْ كُلِّ بُطْلَانٍ) بِفَسَادِ ذَاتِهَا كَأَرْكَانِهَا (وَفَسَادُهَا) أَيْ فَسَادُ وَصْفِهَا كَشَرَائِطِهَا

المبحث الرابع فيما الأصل فيه الإذن من العبادات المتعدية الغير المنقطعة

(وَكَرَاهَتُهَا وَمَوْضِعُ مَعْرِفَتِهَا عِلْمُ الْفِقْهِ) لِأَنَّهُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّتُهَا وَعَدَمُهَا (فَلَا بُدَّ) (لِكُلِّ مَنْ بَاشَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ) مِنْ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ (أَوْ بَعْضَهَا مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ مَا بَاشَرَهُ) مِمَّا يَحْصُلُ مَعَهُ عَلَى غَايَةِ السَّدَادِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْإِثْمِ وَالْإِسَاءَةِ (لِأَنَّهُ عِلْمُ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي فَصْلِ) بِمُعْجَمَةٍ أَوْ مُهْمَلَةٍ (الْعِلْمِ) فِي الْبَزَّازِيَّةِ قُبَيْلَ كِتَابِ الْإِجَارَةِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَحْفَظْ كِتَابَ الْبُيُوعِ وَكَانَ التُّجَّارُ فِي الْقَدِيمِ إذَا سَافَرُوا اسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ فَقِيهًا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ وَعَنْ أَئِمَّةِ خُوَارِزْمَ لَا بُدَّ لِلتَّاجِرِ مِنْ فَقِيهٍ صِدِّيقٍ وَقَالَ قُبَيْلَ كِتَابِ الصَّرْفِ وَعَلَى كُلِّ تَاجِرٍ يَحْتَاجُ لِدِينِهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ فَقِيهًا دَيِّنًا يُشَاوِرُهُ فِي مُعَامَلَاتِهِ فَإِنَّ مِلَاكَ الْأَمْرِ الْمَأْكَلُ وَالْمَلْبَسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وَفِي الْجَبَلِ الْمُبَاحِ كِبْرِيتٌ أَوْ مِلْحٌ أَوْ فُسْتُقٌ أَوْ حَطَبٌ يَحْمِلُ مِنْهُ وَيَبِيعُ مُبَاحٌ لَا بَأْسَ بِهِ انْتَهَى. [الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِيمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ] (الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِيمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ مِنْ) (الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ) فَإِنَّهَا مُسْتَمِرَّةٌ صِحَّةً وَمَوْتًا (مِثْلُ التَّعْلِيمِ) وَالتَّدْرِيسِ لِلْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا (وَالتَّذْكِيرِ) لَعَلَّهُ هُوَ الْوَعْظُ وَالنَّصِيحَةُ (وَالْإِمَامَةِ وَالتَّأْذِينِ) وَالْإِقَامَةِ فَإِنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ إلَى عِبَادَةِ الْغَيْرِ وَدَاعِيَّةٌ إلَيْهَا (وَلِصِحَّتِهَا وَاسْتِحْبَابِهَا وَوُجُوبِهَا شَرَائِطُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَرِعَايَتِهَا لِمَنْ بَاشَرَهَا حَتَّى يَحْصُلَ الْمَشْرُوطُ) فَإِنَّ وُجُودَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ (فَتَصِيرُ عِبَادَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَلَا يَأْثَمُ إنْ تَرَكَهَا فَإِنْ لَمْ يُرَاعِ) مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ (صَارَ آثِمًا فَلَا يَكُونُ مُتَّقِيًا) عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ وَحَالُهُ مَا ذُكِرَ (فَكَانَ آفَةً لِلِّسَانِ أَيْضًا وَمَوْضِعُهُ) أَيْ مَحَلُّ عِلْمِ مَا ذُكِرَ (أَيْضًا عِلْمُ الْفِقْهِ وَهُوَ عِلْمُ الْحَلَالِ أَيْضًا) الْمَفْرُوضُ عَيْنًا (لِمَنْ يَتَصَدَّى لَهَا) [الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِيمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ الْإِبَاحَةُ مِنْ الْعِبَادَاتِ] (الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِيمَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ) الْإِبَاحَةُ (مِنْ الْعِبَادَاتِ الْقَاصِرَةِ) (عَلَى نَفْسِ الْعَابِدِ) (كَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ) يَشْمَلُ نَحْوَ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّكْبِيرِ (وَالدُّعَاءُ) مِنْهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَلِهَذَا أَيْضًا شُرُوطٌ وَآدَابٌ تُعْرَفُ فِي الْفِقْهِ) وَقَدْ مَرَّ أَيْضًا (فَإِنْ لَمْ تُرَاعَ)

هَذِهِ الشُّرُوطُ (يَأْثَمُ صَاحِبُهُ فَيَكُونُ آفَةَ اللِّسَانِ) إذْ كُلُّ إثْمٍ صَدَرَ مِنْ اللِّسَانِ فَآفَةُ اللِّسَانِ (كَ) الْبَحْثَيْنِ (السَّابِقَيْنِ الْمُتَّصِلَيْنِ بِهَا) أَيْ بِهَذِهِ الْقَاصِرَةِ (كَمَنْ) (يَقْرَأُ أَوْ يَذْكُرُ) بِنَحْوِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَسَائِرِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ (أَوْ يَدْعُو بِاللَّحْنِ) ظَاهِرَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الدُّعَاءُ مِنْ الْمَأْثُورَاتِ أَوْ غَيْرِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ بِالْعَرَبِيِّ أَوْ الْفَارِسِيِّ بَلْ التُّرْكِيِّ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ هَذَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَإِلَّا فَلَا كَمَنْ اجْتَهَدَ بِتَجْوِيدِ الْقُرْآنِ حَقَّ اجْتِهَادٍ وَلَكِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّرْتِيلِ إمَّا لِكَوْنِ اشْتِغَالِهِ فِي زَمَانِ كِبَرِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَابِلِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ إذْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَلَكَ يَكْتُبُ كَمَا أُنْزِلَ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ بِمَا لَا يُطَاقُ وَقُرِّرَ أَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ ثُمَّ مَعْنَى اللَّحْنِ الْخَطَأُ وَالتَّغْيِيرُ وَالْمُرَادُ الْجَلِيُّ مِنْهُ بِأَنْ لَا يُعْطِيَ كُلَّ الْحُرُوفِ حَقَّهَا وَمُسْتَحَقَّهَا مِنْ الْخَارِجِ وَالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ وَعَنْ الْإِحْيَاءِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمَأْلُوفَةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِاللَّحْنِ يَجِبُ تَلْقِينُ الصَّحِيحِ وَاَلَّذِي يُكْثِرُ اللَّحْنَ فِي الْقُرْآنِ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّعَلُّمِ فَلْيَمْتَنِعْ عَنْ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ التَّعَلُّمِ فَإِنَّهُ عَاصٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُطَاوِعُهُ اللِّسَانُ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مَا يَقْرَؤُهُ لَحْنًا فَلْيَتْرُكْهُ وَلْيَجْتَهِدْ فِي تَعَلُّمِ أَلْفَاظِهِ وَتَصْحِيحِهَا وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ صَحِيحًا وَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْوِيَةِ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْفِضَ بِهِ صَوْتَهُ حَتَّى لَا يُسْمِعَ غَيْرَهُ وَلِمَنْعِهِ سِرًّا مِنْهُ وَجْهٌ وَلَكِنْ إذَا كَانَ مُنْتَهَى قُدْرَتِهِ وَكَانَ لَهُ أُنْسٌ بِالْقُرْآنِ وَحِرْصٌ عَلَيْهِ فَلَسْت أَرَى بَأْسًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَقِيلَ سَوَاءٌ كَانَ اللَّحْنُ جَلَّيَا كَمَا عَرَفْت أَوْ خَفِيًّا كَعَدَمِ إدْرَاكِ حَقِّهِ مِنْ نَحْوِ الْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ (أَوْ التَّغَنِّي) بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فِي الْحُرُوفِ وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلًا (فَهُمَا) أَيْ اللَّحْنُ وَالتَّغَنِّي (حَرَامَانِ) كُلٌّ مِنْهُمَا (فَلَا بُدَّ مِنْ التَّجْوِيدِ) وَفِيهِ مُؤَلَّفَاتٌ قِيلَ أَحْسَنُهَا الْجَزْرِيَّةُ (وَقَدْ صَنَّفْنَا فِيهَا رِسَالَةً سَمَّيْنَاهَا دُرًّا يَتِيمًا فَعَلَيْك بِحِفْظِهِ) بِعِلْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ بِالْأَخْذِ مِنْ فَمِ الْأُسْتَاذِ الْحَاذِقِ الْمُحْسِنِ (فَإِنَّهَا تَكْفِيك فِي هَذَا الْبَابِ) التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ فِي الرِّسَالَةِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى (أَوْ) كَمَنْ يَقْرَأُ أَوْ يَذْكُرُ أَوْ يَدْعُو (بِالْأُجْرَةِ وَالنَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ) قِيلَ إنْ كَانَ هُوَ مَقْصُودًا وَبِالذَّاتِ وَإِلَّا كَأَنْ يَكُونَ النَّفْعُ الدُّنْيَوِيُّ تَبَعًا وَبِالْعَرَضِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَسْتَأْكِلُ بِهِ النَّاسَ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» وَفِي شَرْحِهِ أَيْ مَنْ جَعَلَهُ وَسِيلَةً إلَى الدُّنْيَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَسْوَإِ حَالٍ وَأَقْبَحِ صُورَةٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ» وَفِي الشِّرْعَةِ وَمِنْ سُنَّةِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ أَنْ لَا يَسْأَلَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَأْكِلَ وَقَدْ سَبَقَ (فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ الصِّرْفَةِ) بِخِلَافِ غَيْرِ الصِّرْفَةِ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ أَقُولُ وَقَدْ سَبَقَ (وَفِيهِ) أَيْ فِي مَنْعِ الْأُجْرَةِ وَالنَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ فِي مُقَابَلَةِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ الصِّرْفَةِ (صَنَّفْنَا) الرِّسَالَتَيْنِ (إنْقَاذُ الْهَالِكِينَ) وَهُوَ مَعْرُوفٌ (وَإِيقَاظُ النَّائِمِينَ فَعَلَيْك بِهِمَا) لَعَلِّي لَمْ أَقِفْ وَلَمْ يَصِلْ إلَيَّ (وَكَمَنْ يُسَبِّحُ فِي مَجْلِسِ الْمَعْصِيَةِ لِفِعْلِهَا أَوْ) يُسَبِّحُ (الْبَائِعُ عِنْدَ فَتْحِ الْمَتَاعِ لِتَرْوِيجِهِ) وَتَحْسِينِهِ وَإِغْرَائِهِ لِلْمُشْتَرِي قِيلَ فَقَدْ حَرَّمَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ ذِكْرِ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّرْوِيجِ لِبِضَاعَتِهِ كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ وَذَكَرَ فِي الْبُسْتَانِ وَيُكْرَهُ

المبحث السادس في آفات اللسان من حيث السكوت كترك تعلم القرآن

لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْلِفَ لِأَجْلِ تَرْوِيجِ السِّلْعَةِ وَيُكْرَهُ لِلتَّاجِرِ أَنْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَرْضِ السِّلْعَةِ وَهُوَ يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَجْوَدَ هَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ صَلَّى مُذَكِّرًا لِتَجْدِيدِ كَلَامِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ لِصَلَاتِهِ حُطَامًا دُنْيَوِيًّا وَالْمُذَكِّرُ لَا كَمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ النِّصَابِ انْتَهَى (أَوْ الْحَارِسُ) حَافِظُ السُّوقِ لِإِعْلَامِ حِرَاسَتِهِ كَأَنْ يَقُولُ اللَّهُ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ صَلُّوا عَلَى مُحَمَّدٍ لِإِيذَانِ أَنَّهُ فِي السُّوقِ وَغَرَضُهُ مِنْ الذِّكْرِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْحِرَاسَةِ لَا الذِّكْرُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْفَتْحِيَّةِ (فَإِنَّهُمْ يَأْثَمُونَ) لِجَعْلِهِمْ الذِّكْرَ الْمَوْضُوعَ لِطَاعَتِهِ تَعَالَى آلَةً لِغَيْرِهَا (وَكَذَا سَائِرُ الْأَذْكَارِ وَالتَّصْلِيَةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَمِنْ هَذَا يُمْنَعُ إذَا قَدِمَ أَحَدٌ مِنْ الْعُظَمَاءِ إلَى مَجْلِسٍ فَسَبَّحَ أَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إعْلَامًا بِقُدُومِهِ حَتَّى يُفَرِّجَ لَهُ النَّاسُ أَوْ يَقُومُوا لَهُ يَأْثَمُ لِأَنَّهُ جَعَلَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَصَلَاتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَسِيلَةً إلَى تَعْظِيمِ الْغَيْرِ وَاسْتِحْلَالُ هَذَا الصَّنِيعِ وَاعْتِقَادُهُ عِبَادَةً لَا خَفَاءَ أَنَّهُ هَائِلٌ عَظِيمٌ وَأَمَّا الْعَالِمُ إذَا قَالَ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ صَلُّوا أَوْ الْغَازِي إذَا قَالَ كَبِّرُوا فَيُثَابُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيِّ قَرِيبًا لَعَلَّ إلَى هَذَا ذِكْرَهُمْ عِنْدَ قُدُومِ الْحَاجِّ وَخُرُوجِهِ وَعِنْدَ الْعَرُوسِ (بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَ الِاعْتِبَارَ) لَعَلَّ الْأَوْلَى مَنْ يَقْصِدُ الرَّدَّ وَالْمُخَالَفَةَ (بِأَنَّهُمْ يَشْتَغِلُونَ بِالْمَعْصِيَةِ أَوْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَنَا أَشْتَغِلُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّهُ حَسَنٌ بَلْ فِيهِ ثَوَابٌ كَثِيرٌ لِكَوْنِهِ كَالصَّابِرِ الْمُقَاتِلِ فِي الْمَعْرَكَةِ عِنْدَ فِرَارِهِمْ (وَالْوَاعِظُ يَقُولُ صَلُّوا وَالْغَازِي كَبِّرُوا) إنْ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ (فَإِنَّهُمْ يُثَابُونَ) لِعَدَمِ الْمُنَافِي بَلْ لِوُجُودِ الْمُثَبِّتِ (كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ) وَغَيْرِهِ وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرْنَا إلَى هُنَا مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ مِنْ حَيْثُ النُّطْقُ [الْمَبْحَثُ السَّادِسُ فِي آفَاتِ اللِّسَانِ مِنْ حَيْثُ السُّكُوتُ كَتَرْكِ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ] لَا سِيَّمَا مِقْدَارَ مَا يُفْرَضُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يَجِبُ وَقَدْ حَرَّرْنَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا قَرِيبًا أَنَّ حِفْظَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَرْضٌ وَحِفْظَ الْفَاتِحَةِ مَعَ سُورَةٍ وَاجِبٌ وَحِفْظَ سَائِرِ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَسُنَّةُ الْعَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّفْلِ وَعَنْ الْكُبْرَى التَّعَلُّمُ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ بِوَاقِي الْقُرْآنِ وَنِسْيَانُهُ كَبِيرَةٌ لِحَدِيثِ «عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا» لَكِنْ فَسَّرَ النِّسْيَانَ فِي التتارخانية بِأَنْ لَا يُمْكِنَهُ الْقِرَاءَةُ مِنْ الْمُصْحَفِ [تَرْكُ التَّشَهُّدِ مِنْ آفَاتِ] (وَ) تَرْكُ (التَّشَهُّدِ) فَإِنَّهُ وَاجِبٌ (وَالْقُنُوتِ) فَإِنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْوِتْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَسُنَّةٌ كَنَفْسِ صَلَاةِ الْوِتْرِ وَأَمَّا بَدَلُهُ فَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَتِهِ أَصْلًا إذَا كَانَ فِي صَدَدِ التَّعَلُّمِ لَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ تَكَاسُلًا كَذَا قِيلَ وَمَنْ لَا يُحْسِنْ الْقُنُوتَ يَقُولُ - {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]- لَكِنْ فِي الْمِنَحِ الْمُرَادُ بِالْقُنُوتِ الدُّعَاءُ وَلَا يَخْتَصُّ بِلَفْظٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُوَقِّتَ دُعَاءً وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَعَا بِغَيْرِ الدُّعَاءِ الْمَعْهُودِ جَازَ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ فَيَكُونُ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ مُطْلَقَ الْقُنُوتِ لَا الْمَعْهُودَ الْمَخْصُوصَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُتَبَادَرَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (وَنَحْوِهَا مِمَّا يَجِبُ أَوْ يُسَنُّ) هَذَا التَّعْمِيمُ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْمِيمِ الْآفَةِ عَلَى الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَعَلَى أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ كَرَاهَةٌ وَنَحْوُ مَا ذُكِرَ تَرْكُ تَعَلُّمِ مَا لَزِمَ مِنْ الْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَكَذَا سَائِرُ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى قَدْرِ الِاحْتِيَاجِ (أَوْ كَتَرْكِ قِرَاءَتِهِ) أَيْ مَا ذُكِرَ [تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ] (وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ) وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى الْزَمُوا أَنْفُسَكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ لَا يَضُرُّكُمْ تَقْصِيرُ غَيْرِكُمْ فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ دَاخِلَانِ تَحْتَ مَا كُلِّفُوا بِهِ فَمَنْ أَمَرَ أَوْ نَهَى وَلَمْ يَمْتَثِلْ بِهِ الْمُخَاطَبُ لَا يَضُرُّهُ. فَإِنْ قِيلَ الْآيَةُ مُطْلَقَةٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ وَأَنَّ التَّقْيِيدَ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ زِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةَ نَسْخٌ وَمَا سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَخْبَارُ آحَادٍ فَلَا يَجُوزُ بِهَا الزِّيَادَةُ عَلَى كِتَابِهِ

ترك النصح

تَعَالَى فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِهَذَا الشَّرْطِ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ مِمَّا ذُكِرَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ فِي أَنْفُسِهَا لَكِنَّهَا مَشْهُورَةٌ فِي الْمَعْنَى فَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عَلَى كِتَابِهِ تَعَالَى كَمَا فِي آيَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَوَاضِعَ الْقُرْآنِيَّةَ الْمُوجِبَةَ لِهَذَا التَّقْيِيدِ كَثِيرَةٌ جِدًّا قَالَ فِي الْمُبَارِقِ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ تَابِعٌ لِلْمَأْمُورِ فَإِنْ وَاجِبًا فَالْأَمْرُ وَاجِبٌ كِفَايَةً وَإِنْ نَدْبًا فَنَدْبٌ وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَلِوُجُوبِهِ شَرَائِطُ مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَاقِعًا لِأَنَّ الْحُسْنَ هُوَ الذَّمُّ عَلَى الْوَاقِعِ لَا النَّهْيُ عَنْهُ وَمِنْهَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ كَمَا أَنَّ الشَّارِبَ تَهَيَّأَ لِشُرْبِ الْخَمْرِ بِإِعْدَادِ الْآلَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إنْ نَهَاهُ لَا يَلْحَقُهُ مَضَرَّةٌ وَلَا يَزِيدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَيْضًا فِي مُنْكَرَاتِهِ مُتَعَنِّتًا بِهِ لِإِنْكَارِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ نَهْيَهُ مُؤَثِّرٌ لَا عَبَثٌ انْتَهَى وَلَعَلَّك سَمِعْت تَفْصِيلَهُ فِيمَا مَرَّ فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْ الْعَوَارِضِ وَالْمَوَانِعِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَوَانِعِ (عِنْدَ الْقُدْرَةِ بِلَا ضَرَرٍ) إذْ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ» وَفِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنِّي مُهْلِكٌ مِنْ قَوْمِك أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِهِمْ وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ شِرَارِهِمْ فَقَالَ يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ فَمَا بَالُ الْأَخْيَارِ؟ فَقَالَ إنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ» وَفِي الْحَدِيثِ «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْهُ» وَفِي الشِّرْعَةِ أَعْظَمُ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ يُخَالِطُ النَّاسَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهَلَاكُ النَّاسِ إذَا تَرَكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يَعُمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِعِقَابِهِ وَلَا يَسْتَجِيبَ لَهُمْ دُعَاءً وَيَحْرِمَهُمْ اللَّهُ الْبَرَكَةَ وَالْخَيْرَ وَالنَّجَاحَ وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعِيدٍ إنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا أُخْفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَإِذَا أُعْلِنَتْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ (وَظَنِّ التَّأْثِيرِ) وَإِلَّا فَضَيَاعُ وَقْتٍ وَإِيرَاثُ بُغْضٍ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْغَيْرَةِ وَفِي الشِّرْعَةِ كَانَ الثَّوْرِيُّ إذَا رَأَى الْمُنْكَرَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ بَالَ دَمًا فَجَدِيرٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَمِيَّةِ وَالْغَيْرَةِ وَالصَّلَابَةِ مِثْلَ ذَلِكَ [تَرْكِ النُّصْحِ] (وَتَرْكِ النُّصْحِ) ظَاهِرُ السَّوْقِ وُجُوبُ النُّصْحِ عِنْدَ ظَنِّ فَائِدَتِهِ فِي الْمَنْصُوحِ لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ ظَاهِرُ خَبَرِ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» وُجُوبُ النُّصْحِ مُطْلَقًا وَلَمَّا نَظَرَ السَّلَفُ إلَى ذَلِكَ جَعَلُوا النَّصِيحَةَ أَعْظَمَ وَصَايَاهُمْ (وَ) تَرْكِ (الْإِصْلَاحِ عِنْدَ ظَنِّ الْقَبُولِ) وَاخْتِيَارُ الظَّنِّ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ شَامِلٌ لِصُورَةِ الشَّكِّ كَمَا قِيلَ إنَّ الشَّكَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ دَاخِلٌ فِي الظَّنِّ وَلِذَا يُعَبِّرُونَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَ إرَادَتِهِمْ الظَّنَّ الْكَلَامِيَّ [تَرْكِ التَّعْلِيمِ] (وَتَرْكِ التَّعْلِيمِ) لَا سِيَّمَا عِلْمُ الْحَلَالِ (وَالْفَتْوَى عِنْدَ التَّعَيُّنِ) الظَّاهِرُ أَنَّ الظَّرْفَ قَيْدٌ لِلتَّعْلِيمِ أَيْضًا وَمَا قَالُوا إنَّ الْقَيْدَ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ لِلْأَخِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلِلْجَمْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ جَرَيَانِهِ هُنَا إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ لِلْجَمِيعِ ثُمَّ مَا هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ الْفَتْوَى لَيْسَ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي أَلْسُنِ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ بَلْ الْجَوَابُ بِالْقَوْلِ فَقَطْ وَلِذَا جَوَّزُوا الْأُجْرَةَ فِي الْخَطِّ دُونَ الْقَوْلِ إذْ لَا تَجُوزُ الْأُجْرَةُ فِي الْوَاجِبِ [تَرْكِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ الْقَاضِي بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى] (وَتَرْكِ الْحُكْمِ) الشَّرْعِيِّ (مِنْ الْقَاضِي بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى) بِالْوَحْيِ مَتْلُوًّا أَوْ غَيْرَ مَتْلُوٍّ فَيَشْمَلُ السُّنَّةَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ تَقْرِيرًا أَوْ سُكُوتًا [تَرْكِ السَّلَامِ وَرَدِّهِ] (وَتَرْكِ السَّلَامِ) فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ (وَرَدِّهِ) فَإِنَّهُ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمِيٌّ كَمَا سَبَقَ (إذَا كَانَ مَسْنُونًا) أَيْ مَشْرُوعًا وَإِلَّا فَلَا لَعَلَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا مَرَّ وَذَكَرَ فِي الْفَقِيهَةِ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ عَلَى الْآكِلِ فِي وَجْهٍ وَلَا عَلَى أُسْتَاذِهِ وَلَا الْخَصْمَانِ عَلَى الْقَاضِي وَلَا عَلَى مَنْ يُدَرِّسُ وَلَا مَنْ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ وَلَوْ سَلَّمَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَا يَجِبُ الرَّدُّ وَلَوْ رَدَّ جَازَ وَكَذَا لَا يُسَلِّمُ عَلَى الْقَارِئِ وَالذَّاكِرِ فَلَوْ سَلَّمَ قِيلَ لَا يَجِبُ الرَّدُّ وَالْأَصَحُّ يَجِبُ وَلَا حَالَ الْخُطْبَةِ وَلَا يَجُوزُ الرَّدُّ إنْ سَلَّمَ وَلَا عَلَى مَنْ يَبُولُ أَوْ يَتَغَوَّطُ فَإِنْ سَلَّمَ يَرُدُّ بِقَلْبِهِ فَقَطْ وَلَا يَرُدُّ مُطْلَقًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَيَرُدُّ بِلِسَانِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَكَذَا عِنْدَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَلَا عَلَى الْمُصَلِّي وَلَا عَلَى الشَّيْخِ الْمُمَازِحِ وَالْكَذَّابِ وَاللَّاغِي وَلَا عَلَى السَّبَّابِ

وَلَا عَلَى مَنْ يَنْظُرُ وُجُوهَ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَلَا عَلَى الْمُغَنِّي وَلَا عَلَى مَنْ يَلْعَبُ الشِّطْرَنْجَ عِنْدَهُمَا وَلَا عَلَى الذِّمِّيِّ إلَّا عِنْدَ حَاجَتِهِ عِنْدَهُ وَأَمَّا لَوْ سَلَّمَ الذِّمِّيُّ فَيَرُدُّ بِقَوْلِهِ وَعَلَيْكُمْ فَقَطْ وَلَا يَرُدُّ سَلَامَ السَّائِلِ كَذَا فِي الْفُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيَّة. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ هَلْ يُسَلِّمُ الْمِصْرِيُّ عَلَى الْقَرَوِيِّ أَوْ الْعَكْسُ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَقِيلَ الَّذِي جَاءَ مِنْ الْمِصْرِ يُسَلِّمُ عَلَى الَّذِي جَاءَ مِنْ الْقَرْيَةِ وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ وَالرَّاكِبُ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَاشِي وَالْقَائِمُ عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَفِي الْفُصُولِ أَيْضًا مَنْ دَخَلَ عَلَى الْقَاضِي أَوْ الْأَمِيرِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَسِعَهُ أَنْ لَا يُسَلِّمَ عَلَيْهِ هَيْبَةً أَوْ احْتِشَامًا لَهُ وَبِهَذَا أُجْرِيَ الرَّسْمُ أَنَّ النَّاسَ إذَا مَرُّوا عَلَى الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ لَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ وَإِلَيْهِ مَالَ الْخَصَّافُ انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ يُنْبِئُ أَنَّ سَعَةَ عَدَمِ السَّلَامِ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ جُلُوسِهِمَا لِلْحُكْمِ وَقَوْلُهُ هَيْبَةً أَوْ احْتِشَامًا يُشْعِرُ بِالْإِطْلَاقِ. وَكَذَا قَوْلُهُ وَبِهَذَا أُجْرِيَ إلَى آخِرِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ لَا احْتِرَازِيٌّ هَذَا وَإِنْ بَعِيدًا عَنْ التَّبَادُرِ لَكِنْ يُؤَيَّدُ بِقَوْلِ بَعْضٍ عَلَى الْقَاضِي حِينَ يَسْمَعُ الدَّعْوَى (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إلَى مَجْلِسٍ» وَفِي الْجَامِعِ إلَى الْمَجْلِسِ وَفَسَّرَ شَارِحُهُ بِحَيْثُ يَرَى الْجَالِسِينَ وَيَرَوْنَهُ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ «فَلْيُسَلِّمْ» عَلَيْهِمْ نَدْبًا مُؤَكَّدًا نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَرَدَّهُ فَرْضٌ «فَإِنْ بَدَا لَهُ» أَيْ ظَهَرَ «أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ» ثَمَّةَ «ثُمَّ إذَا قَامَ» لِيَنْصَرِفَ «فَلْيُسَلِّمْ» عَلَيْهِمْ أَيْضًا نَدْبًا مُؤَكَّدًا وَإِنْ قَصُرَ الْفَصْلُ بَيْنَ سَلَامِهِ وَقِيَامِهِ وَإِنْ قَامَ فَوْرًا وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ «وَلَيْسَتْ» التَّسْلِيمَةُ «الْأُولَى أَحَقَّ» أَوْلَى «مِنْ» التَّسْلِيمَةِ «الثَّانِيَةِ» أَيْ: كِلْتَا التَّسْلِيمَتَيْنِ حَقٌّ وَسُنَّةٌ وَكَمَا أَنَّ التَّسْلِيمَةَ إخْبَارٌ عَنْ سَلَامَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ عِنْدَ الْحُضُورِ فَكَذَا الثَّانِيَةُ إخْبَارٌ عَنْ سَلَامَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ وَلَيْسَتْ السَّلَامَةُ عِنْدَ الْحُضُورِ أَوْلَى مِنْ السَّلَامَةِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَمَاعَةِ رَدُّ السَّلَامِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ وَفَارَقَهُمْ وَقَوْلُ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي السَّلَامُ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ إنَّمَا يُنْدَبُ رَدُّهُ وَلَا يَجِبُ لِأَنَّ التَّحِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ إلْقَاءِ رَدِّهِ الشَّاشِيُّ بِأَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ عِنْدَ الِانْصِرَافِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْجُلُوسِ قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي الْفَيْضِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ زَادَ فِيهِ رَزِينٌ وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ حِينَ يَقُومَ عَنْهُمْ شَرِيكُهُمْ فِيمَا خَاضُوا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ بَعْدَهُ (خ م عَنْ «أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ عَلَى الصِّبْيَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ» أَيْ أَنَسٌ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ» أَيْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ فَالسَّلَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ سُنَّةٌ لَكِنْ إنْ ظَنَّ رَدَّهُمْ وَفِي الْبُسْتَانِ اُخْتُلِفَ فِي السَّلَامِ عَلَيْهِمْ قِيلَ لَا وَقِيلَ نَعَمْ لَكِنَّ الْمُخْتَارَ تَسْلِيمُهُمْ إنْ ظَنَّ رَدَّهُمْ فَالْحَدِيثُ حُجَّةُ الْمُخْتَارِ (طب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَعْجَزُ النَّاسِ» أَيْ أَضْعَفُهُمْ رَأْيًا «مَنْ عَجَزَ فِي الدُّعَاءِ» وَفِي الْجَامِعِ عَنْ الدُّعَاءِ أَيْ الطَّلَبِ مِنْ اللَّهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الشَّدَائِدِ لِتَرْكِهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَتَعَرُّضِهِ لِغَضَبِهِ بِإِهْمَالِهِ وَمَا لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِيهِ وَفِيهِ قِيلَ اللَّهُ يَغْضَبُ إنْ تَرَكْت سُؤَالَهُ ... وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلَ يَغْضَبُ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَوْلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ بِعَدَمِ الدُّعَاءِ «وَأَبْخَلُ النَّاسِ» أَيْ أَمْنَعُهُمْ لِلْفَضْلِ وَأَشَحُّهُمْ «مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ» فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمُؤْنَةِ عَظِيمُ الْمَثُوبَةِ فَلَا يُهْمِلُهُ إلَّا مَنْ بَخِلَ بِالْقُرُبَاتِ وَشَحَّ بِالْمَثُوبَاتِ وَتَهَاوَنَ بِمَرَاسِمِ الشَّرِيعَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ تَبَادُرَ بُخْلِ النَّاسِ مَنْعُ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيُّ فَرْضِيَّتُهَا وَالسَّلَامُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُهُ كَمَنْعِهَا فَضْلًا عَنْ زِيَادَتِهَا أَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنَّ أَصْلَ الْبُخْلِ لِتَرْكِ الْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ وَزِيَادَتَهُ لِكَوْنِ بَخِيلَ الْمَالِ مَعْذُورًا فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّهِ إلَى أَنْ يَكُونَ عَدِيلًا لِلرُّوحِ وَأَمَّا السَّلَامُ فَلَيْسَ فِيهِ إتْعَابٌ وَقَهْرُ

نَفْسٍ وَمُؤْنَةٌ إلَّا مُجَرَّدَ تَمَرُّدٍ فَكَانَ أَبْخَلَ مِنْ كُلِّ بِخَيْلٍ (م عَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ (مَرْفُوعًا «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ» أَيْ حَقُّ الْحُرْمَةِ وَالصُّحْبَةِ أَوْ الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مُلَائِمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا «سِتٌّ» . وَفِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» فَلَا يَخْفَى مِنْ إيهَامِ التَّنَاقُضِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا الْوَهْمَ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا فِي النُّصُوصِ، أَوْ الْخَمْسُ قَبْلَ إعْلَانِ السِّتِّ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إذَا لَقِيته فَسَلِّمْ عَلَيْهِ» لِأَنَّ السَّلَامَ مَعْنَاهُ الْأَمَانُ أَوْ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَقَدْ احْتَقَرَهُ وَاحْتِقَارُهُ احْتِقَارٌ لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَعَظَّمَهُ وَشَرَّفَهُ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ. وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ فَيَكْفِي سَلَامُ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَالِاسْتِئْذَانُ لِدُخُولِ الدَّارِ مُقَدَّمٌ عَلَى السَّلَامِ وَالسَّلَامُ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْقَضَاءِ لَكِنَّ اللَّازِمَ هُوَ الْإِسْمَاعُ وَفِي الْأَصَمِّ قِيلَ يَنْبَغِي قِرَاءَةُ تَحْرِيكِ شَفَتَيْهِ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْخَانِيَّةِ فَظَهَرَ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَكْثَرِ الْعَوَامّ لَيْسَ بِشَيْءٍ بَلْ قِيلَ إنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ كَوَضْعِهَا عَلَى صَدْرِهِ وَنَحْوِهِ «وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبْهُ» حَيْثُ لَا عُذْرَ قِيلَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَقِيلَ لِلنَّدْبِ فَيَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِ الْإِثْمُ أَوْ الْكَرَاهَةُ وَقِيلَ: إنْ لِوَلِيمَةِ عُرْسٍ فَوَاجِبٌ وَإِنْ لِغَيْرِهَا فَنَدَبٌ «وَإِذَا اسْتَنْصَحَك» طَلَبَ مِنْك النُّصْحَ «فَانْصَحْ» لَهُ فَأَرْشِدْهُ إلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ وَلَا تُقَصِّرْ فِي الْإِرْشَادِ بَلْ اُبْذُلْ الْجُهْدَ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشَارَ وَلَا يَتَبَرَّعَ بِالرَّأْيِ فَيَكُونَ رَأْيُهُ مُتَّهَمًا أَوْ مَطْرُوحًا. «وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ» سَوَاءٌ سُمِعَ حَمْدُهُ صَرِيحًا أَوْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ ذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ مِنْ مَقُولَةِ مَنْ يَأْتِيهِ كَالْعِلْمِ «فَشَمِّتْهُ» بِيَرْحَمُك اللَّهُ أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ الدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَعْنَاهُ فَلَيْسَ بِتَشْمِيتٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بِالتُّرْكِيِّ " خَيْرًا ولسون " أَقُولُ إنْ أَرَادَ كَوْنَ هَذَا الْعَطْسِ خَيْرًا فَلِقَوْلِهِ وَجْهٌ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ دُعَاءً لَهُ بِالْخَيْرِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَفِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ عَطَسَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ فَيَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَضَرَ أَنْ يَقُولَ يَرْحَمُك اللَّهُ ثُمَّ يَقُولَ الْعَاطِسُ غَفَرَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ أَوْ يَقُولَ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ وَلَا يَقُولَ غَيْرَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَأَصْلُ التَّشْمِيتِ إزَالَةُ الشَّمَاتَةِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ لِتَضَمُّنِهِ ذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ بِالسِّينِ الْغَيْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ مِنْ عُلَمَائِنَا إنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَقَوَّاهُ ابْنُ الْقَيِّمِ «وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ» إنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ وَلَوْ لَيْلًا قِيلَ إنْ كَانَ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَصْدِقَاءِ كَانَتْ سُنَّةً وَإِلَّا فَلَا لَكِنْ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ كَمَا فِي حَدِيثِ «امْشِ مِيلًا عُدْ مَرِيضًا» الْحَدِيثَ وَجَازَ عِيَادَةُ الذِّمِّيِّ إذَا مَرِضَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَجَازَ عِيَادَةُ الْفَاسِقِ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الْمِنَحِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَيْضًا. ثُمَّ قِيلَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَقِيلَ لِلنَّدَبِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْبَعْضِ تَجِبُ فِي وَقْتٍ وَتُنْدَبُ فِي آخَرَ وَفِي الشِّرْعَةِ وَمِنْ سُنَنِ الْإِسْلَامِ وَحُقُوقِ الدِّينِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ فَإِنَّ الْعَائِدَ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَعُودَ يَوْمًا وَيَتْرُكَ يَوْمًا. وَفِي الْإِحْيَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ مَرَّةً سُنَّةٌ فَمَا زَادَ فَنَافِلَةٌ وَالْمُسْتَحَبُّ جُلُوسُ الْعَائِدِ عِنْدَ رُكْبَتَيْ الْمَرِيضِ دُونَ رَأْسِهِ بِلَا الْتِفَاتٍ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً مُتَوَجِّهًا إلَى جِهَةِ الْمَرِيضِ بِلَا إكْثَارِ نَظَرٍ إلَيْهِ وَلَا إحْدَادِ نَظَرٍ فِي وَجْهِهِ بِلَا ثِيَابٍ جَدِيدَةٍ وَلَا وَسِخَةٍ وَلَا عُبُوسَةِ وَجْهٍ وَلَا يَتَكَلَّمْ إلَّا بِمَا يُعْجِبُهُ أَيْ يَحُظُّهُ وَيُحَسِّنُهُ مُبَشِّرًا بِنَحْوِ سُرْعَةِ الصِّحَّةِ وَطُولِ الْعُمْرِ وَيُخَفِّفُ الْجُلُوسَ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ عَلَى يَدِهِ فَيَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ وَيَسْتَدْعِي مِنْ الْمَرِيضِ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُسْتَجَابٌ

وَلَا يَقُولُ عِنْدَهُ إلَّا خَيْرًا وَيَدْعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ وَالتَّفْصِيلُ فِي الشِّرْعَةِ وَفِي شَرْحِهِ عَنْ السَّرِيِّ أَنَّهُ عَادَهُ رَجُلٌ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ فَقَالَ لَهُ اُدْعُ لِي حَتَّى أَخْرُجَ مِنْ عِنْدِك فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ كَيْفَ يَعُودُ الْمَرِيضَ وَدَخَلَ ثَقِيلٌ عَلَى مَرِيضٍ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ ثُمَّ قَالَ مَا تَشْتَكِي قَالَ قُعُودُك عِنْدِي، وَدَخَلَ قَوْمٌ عَلَى مَرِيضٍ فَأَطَالُوا الْجُلُوسَ فَقَالُوا أَوْصِنَا قَالَ أُوصِيكُمْ أَنْ لَا تُطِيلُوا الْجُلُوسَ إذَا عُدْتُمْ مَرِيضًا «وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» فِي الْحَاشِيَةِ اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ وَاجِبٌ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ وَإِلَّا فَسُنَّةٌ وَالْمُسْتَحَبُّ حَمْلُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَ خُطُوَاتٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً أَرْبَعِينَ خُطْوَةً كَفَّرَتْ عَنْهُ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً» كَمَا فِي الْحَلَبِيِّ وَيَنْبَغِي لِمُتَّبِعِهَا أَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا مُتَفَكِّرًا فِي مَا لَهُ وَلَا يَتَحَدَّثُ بِأَحَادِيثِ الدُّنْيَا وَلَا يَضْحَكُ وَيُكْرَهُ الصَّوْتُ بِالذِّكْرِ وَعِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ وَقِيلَ تَرْكُهُ الْأَوْلَى وَتَمَامُهُ فِي الْحَلَبِيِّ وَفِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا وَصَلَّى ثُمَّ يَتْبَعُهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ قِيلَ وَمَا الْقِيرَاطُ؟ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» وَلَا يَبْعُدُ التَّعْبِيرُ بِذِكْرِ الْخَيْرِ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» قِيلَ عَنْ الشَّيْخِ مَظْهَرُ هَذَا إنْ طَابَقَ الثَّنَاءُ الْوَاقِعَ وَإِلَّا فَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِثَنَاءِ وَاحِدٍ وَعَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ مُطَابِقٌ وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ لِلثَّنَاءِ فَائِدَةٌ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَيْلِ حَدِيثِ «وَلَكِنَّ اللَّهَ صَدَّقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ وَغَفَرَ لَهُ مَا لَا يَعْلَمُونَ» وَقِيلَ إنْ كَانَ الثَّنَاءُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَصُحِّحَ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْهِمُهُمْ ثَنَاءَ الْخَيْرِ النَّاسَ لِمَنْ يُرِيدُ مَغْفِرَتَهُ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْجَامِعِ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا قَذَفَ حُبَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» وَفِي نُسْخَةٍ «قُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ» (وَتَرْكِ التَّشْمِيتِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى مَدْخُولِ الْكَافِ (إذَا) (عَطَسَ وَحَمِدَ) اللَّهَ تَعَالَى (إذَا كَانَ) التَّشْمِيتُ (وَاجِبًا) عَلَيْهِ وَلَوْ كِفَايَةً وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ التَّشْمِيتُ وَاجِبًا كَمَا فِي حَالِ الْخُطْبَةِ أَوْ الْعَاطِسِ شَابَّةٌ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَا يَأْتِي بِهِ كَمَا قِيلَ لَكِنْ قِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي الشَّابَّةِ يَأْتِي فِي نَفْسِهِ وَلَا يَتْرُكُهُ وَفِيهِ كَمَا قَالُوا الْعَاطِسُ يُنَكِّسُ رَأْسَهُ وَيُخَمِّرُ وَجْهَهُ وَيَخْفِضُ صَوْتَهُ فَإِنَّ التَّصْرِيحَ بِالْعُطَاسِ حُمْقٌ فَيَجِبُ التَّشْمِيتُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ وَقِيلَ يُفْتَرَضُ وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ كِفَايَةً وَفِي الْخُلَاصَةِ فِي عَطْسِ الْمَرْأَةِ إنْ عَجُوزًا يَرُدُّ عَلَيْهَا بِلِسَانِهِ وَإِنْ شَابَّةً يَرُدُّ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي السَّلَامِ وَكَذَا فِي عَطْسِ الرَّجُلِ وَسَلَامِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ وَفِي الْعَاطِسِ فَوْقَ الثَّلَاثَةِ إنْ تُشَمِّتُوهُ فَحَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا بَأْسَ (م عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ» وَأَسْمَعَ مَنْ بِقُرْبِهِ عَادَةً حَيْثُ لَا مَانِعَ لِأَنَّهُ شَكَرَ نِعْمَةَ الْعُطَاسِ الدَّالِّ عَلَى اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَأَنَّهُ انْفِتَاحُ الْمَسَامِّ وَخِفَّةُ الدِّمَاغِ إذْ بِهِ تَنْدَفِعُ الْأَبْخِرَةُ الْمُخْتَنِقَةُ فَيُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ كَمَا فِي الْمَبَارِقِ «فَشَمِّتُوهُ» بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مِنْ الشَّوَامِتِ وَهِيَ الْقَوَائِمُ هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَرُوِيَ بِمُهْمَلَةٍ مِنْ الْقَصْدِ لِأَنَّ الْعُطَاسَ يَحِلُّ مَرَابِطَ الْبَدَنِ وَيَفْصِلُ مَعَاقِدَهُ وَالْأَمْرُ لِلنَّدَبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمَالَ الْبَعْضُ إلَى الْوُجُوبِ وَأَيَّدَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقِيلَ عَيْنٌ وَقِيلَ كِفَايَةٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ «وَإِذَا لَمْ يَحْمَدْ فَلَا تُشَمِّتُوهُ» فَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا لِأَنَّ غَيْرَ الشَّاكِرِ لَا يَسْتَحِقُّ الدُّعَاءَ وَيُسَنُّ لِمَنْ عِنْدَهُ ذُكِرَ الْحَمْدُ لِيَحْمَدَهُ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُظَنُّ حَمْدُهُ فَيُشَمَّتُ وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ. وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ غَيْرِ الْحَمْدِ لَا يُشَمَّتُ وَإِنَّهُ يَلْزَمُ كَوْنُ التَّشْمِيتِ عَلَى صُورَةِ الْخِطَابِ (د عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «شَمِّتْ أَخَاك ثَلَاثًا» قِيلَ الْمُسْتَحَبُّ لِلْعَاطِسِ التَّحْمِيدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَأَمَّا السَّامِعُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ انْتَهَى ظَاهِرُهُ نَفْيُ اللُّزُومِ فَقَطْ لَا الْجَوَازُ

تتمة مبادرة العاطس بالحمد

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَا يُشَمَّتُ بَعْدَ ثَلَاثِ كَمَا فِي الْجَامِعِ وَهُوَ النَّفْيُ مُطْلَقًا «فَإِنْ زَادَ فَهُوَ زُكَامٌ» دَاءُ الزُّكَامِ مَرَضٌ مَعْرُوفٌ مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ دَلِيلِ التَّالِي مَقَامَ التَّالِي فَإِنْ زَادَ فَلَا يُشَمَّتُ لِأَنَّهُ زُكَامٌ فَظَاهِرُهُ عَدَمُ جَرَيَانِ عِلَّةِ الْعُطَاسِ حِينَئِذٍ لَكِنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُ الثَّالِثِ زُكَامًا فَقَطْ لَا الْمَجْمُوعُ ثُمَّ قِيلَ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ مُطْلَقِ الدُّعَاءِ بَلْ يَدْعُو بِدُعَاءٍ يُنَاسِبُهُ مِنْ جِنْسِ دُعَاءِ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ بِنَحْوِ شِفَاءً وَعَافِيَةً فَمَنْ فَهِمَ النَّهْيَ عَنْ مُطْلَقِ الدُّعَاءِ فَقَدْ وَهَمَ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ مَزْكُومٌ تَنْبِيهٌ عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ لِأَنَّ الزُّكْمَةَ عِلَّةٌ وَأَشَارَ إلَى الْحَثِّ عَلَى تَدَارُكِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَلَا يُهْمِلُهَا فَيُنَظِّمُ أَمْرَهَا وَكَلَامُ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُلُّهُ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ [تَتِمَّةٌ مُبَادَرَةُ الْعَاطِسِ بِالْحَمْدِ] (تَتِمَّةٌ) رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مَنْ قَالَ عِنْدَ عَطْسَةٍ سَمِعَهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا كَانَ لِيَجِدَ وَجَعَ الضِّرْسِ وَالْأُذُنِ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «مَنْ بَادَرَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ عُوفِيَ مِنْ وَجَعِ الْخَاصِرَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِيَشْكُوَا ضِرْسَهُ أَبَدًا» . (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ» فَمِهِ «وَخَفَضَ أَوْ غَضَّ» وَفِي نُسْخَةِ الْجَامِعِ بِالْوَاوِ بَدَلُ أَوْ «بِهَا صَوْتَهُ» أَيْ لَمْ يَرْفَعْ بِصَيْحَةٍ كَمَا يَفْعَلُ الْعَامَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ «غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ أَوْ ثَوْبِهِ» لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْ الْجُلَسَاءِ فَإِنَّ الْعُطَاسَ يَكْرَهُ النَّاسُ سَمَاعَهُ وَيَرَى الرَّاءُونَ مِنْ فَضَلَاتِ الدِّمَاغِ فَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْعُطَاسِ وَضْعُ الْيَدِ أَوْ الثَّوْبِ عَلَى الْفَمِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ كَفَّيْهِ عَلَى وَجْهِهِ وَلْيَخْفِضْ صَوْتَهُ» بِالْعُطَاسِ «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْرَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ وَبِالتَّثَاؤُبِ» كَمَا فِي حَدِيثِ «إنَّ التَّثَاؤُبَ الرَّفِيعَ وَالْعَطْسَ الشَّدِيدَ مِنْ الشَّيْطَانِ» وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا (خ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْعُطَاسَ» لِمَا عَرَفْت أَنَّهُ سَبَبًا لِخِفَّةِ الدِّمَاغِ وَاسْتِفْرَاغِ الْفَضَلَاتِ وَصَفَاءِ الرُّوحِ النَّفْسَانِيِّ وَيُقَوِّي الْحَوَاسَّ إذْ بِهِ تَنْدَفِعُ الْأَبْخِرَةُ الْمُحْتَقِنَةُ فِيهِ فَيُعِينُ صَاحِبَهُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا عَدَّهُ الشَّارِعُ نِعْمَةً وَجَعَلَ الْحَمْدَ عَقِيبَهُ سُنَّةً «وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ» لِأَنَّهُ يُورِثُ الْغَفْلَةَ وَالْكَسَلَ وَسُوءَ الْفَهْمِ وَيَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنْ الطَّاعَةِ وَلِذَا سَنَّ الشَّارِعُ بِهِ الْكَظْمَ قِيلَ مَا تَثَاءَبَ بِي قَطُّ وَلِذَا كَرِهَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَحَبَّ الْعُطَاسَ وَهُوَ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ الِامْتِلَاءِ وَثِقَلِ النَّفْسِ وَكُدُورَةِ الْحَوَاسِّ. «فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ» فَلَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّشْمِيتَ وَقَدْ سَمِعْت أَنَّهُ إنْ كَانَ الْعَاطِسُ مِمَّنْ يَحْمَدُ فَيَأْتِي بِهِ وَإِلَّا فَيَذْكُرُهُ وَإِنَّمَا قَالَ فَحَقٌّ لِمَا أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ بَعْضِ وَعِنْدَ الْأَكْثَرِ فَرْضٌ كِفَايَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سُنَّةٌ «أَنْ يَقُولَ يَرْحَمُك اللَّهُ تَعَالَى» ثُمَّ لِيَقُلْ الْعَاطِسُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ لِمَا فِي حَدِيثٍ الْجَامِعِ «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلْيَقُلْ لَهُ يَرْحَمُك اللَّهُ وَلْيَقُلْ هُوَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا

ترك الاستئذان في دخول دار الغير

وَلَكُمْ» . قَالَ شَارِحُهُ وَفِي رِوَايَةِ " خ «يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» ثُمَّ قَالَ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْهِدَايَةَ لِلْمُسْلِمِ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ وَمُنِعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الدُّعَاءَ بِالْهِدَايَةِ مَا هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ بَلْ مَعْرِفَةُ تَفَاصِيلِ أَجْزَائِهِ وَإِعَانَتُهُ عَلَى أَعْمَالِهِ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَمِنْ ثَمَّةَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَسْأَلَ الْهِدَايَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ) قِيلَ لِلتَّحْقِيرِ (مِنْ الشَّيْطَانِ) أَيْ نَاشِئٌ عَنْ إبْلِيسَ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ مِنْ الِامْتِلَاءِ وَثِقَلِ النَّفْسِ وَكُدُورَةِ الْحَوَاسِّ وَاسْتِرْخَائِهَا وَمَيْلِهَا بِالْبَدَنِ إلَى الْكَسَلِ وَالنَّوْمِ فَإِضَافَتُهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ الدَّاعِي إلَى إعْطَاءِ النَّفْسِ حَظَّهَا مِنْ الشَّهْوَةِ وَأَرَادَ بِهِ التَّحْذِيرَ مِنْ السَّبَبِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْهُ وَهُوَ التَّوَسُّعُ فِي الْمَطْعَمِ وَالشِّبَعِ فَيَثْقُلَ الْبَدَنُ عَنْ الطَّاعَةِ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «التَّثَاؤُبُ الشَّدِيدُ وَالْعَطْسَةُ الشَّدِيدَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ» قَالَ شَارِحُهُ وَمِنْ ثَمَّةَ عَدُّوا مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَنَّهُمْ مَا تَثَاءَبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ وَلَا احْتَلَمَ فَإِذَا أَحَسَّ الْإِنْسَانُ بِتَثَاؤُبٍ أَوْ عَطَسَ فَلْيَكْظِمْ وَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ وَيَخْفِضْ صَوْتَهُ مَا أَمْكَنَ لِئَلَّا يَبْلُغَ الشَّيْطَانُ مُرَادَهُ مِنْ تَشْوِيهِ صُورَتِهِ وَدُخُولِ فَمِهِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ تَجْعَلُ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ مُقَيَّدَةً بِالشِّدَّةِ وَإِلَّا لَتَعَارَضَتْ (وَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ) صَدْرُ الْحَدِيثِ كَسَائِرِهِ يَقْتَضِي إطْلَاقَ الْكَرَاهَةِ وَذَيْلُهُ اخْتِصَاصَهَا بِالصَّلَاةِ لَعَلَّ التَّقْيِيدَ لِكَوْنِ الْكَرَاهَةِ آكَدَ فِي الصَّلَاةِ (وَلَا يَقُلْ هَايْ) حِكَايَةً لِصَوْتِ التَّثَاؤُبِ (فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَضْحَكُ مِنْهُ) لِفَرَحِهِ. [تَرْكُ الِاسْتِئْذَانِ فِي دُخُولِ دَارِ الْغَيْرِ] (وَمِنْهَا) أَيْ التُّرُوكِ الَّتِي هِيَ مِنْ آفَاتِ السُّكُوتِ (تَرْكُ الْإِذْنِ) قِيلَ الْأَوْلَى تَرْكُ الِاسْتِئْذَانِ (فِي دُخُولِ دَارِ الْغَيْرِ) (فَإِنَّ الْإِذْنَ وَاجِبٌ) مِنْ صَاحِبِهَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] الَّتِي تَسْكُنُونَهَا فَإِنَّ الْأَجِيرَ وَالْمُعِيرَ لَا يَدْخُلَانِ إلَّا بِإِذْنٍ {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] تَسْتَأْذِنُوا {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] بِأَنْ تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ وَيَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا فَإِنْ أُذِنَ لَهُ دَخَلَ وَإِلَّا رَجَعَ {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 27] مِنْ أَنْ تَدْخُلُوا بَغْتَةً أَوْ مِنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إذَا دَخَلَ بَيْتًا غَيْرَ بَيْتِهِ قَالَ حُيِّيتُمْ صَبَاحًا أَوْ حُيِّيتُمْ مَسَاءً وَدَخَلَ وَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي لِحَافٍ وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّيِّ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ لَا خَادِمَ لَهَا غَيْرِي أَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا كُلَّمَا دَخَلْت قَالَ أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً قَالَ اسْتَأْذِنْ» {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27] (د عَنْ رِبْعِيٍّ بْنِ حِرَاشٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ» الْعَامِرِيُّ «أَأَلِجُ» مِنْ الْوُلُوجِ أَيْ الدُّخُولِ كَمَا قِيلَ قَدَّمَ الْخُرُوجَ عَلَى الْوُلُوجِ «فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَادِمِهِ اُخْرُجْ إلَى هَذَا»

أَيْ الْمُسْتَأْذِنِ الَّذِي لَمْ يَأْتِ بِالِاسْتِئْذَانِ عَلَى طَرِيقِهِ «فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ» الْمَسْنُونَ «فَقُلْ لَهُ قُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ» لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَمْرٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ لَيْسَ بِأَمْرٍ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُ عَدَمُ صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ كِفَايَةَ إثْبَاتِ النَّدْبِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ» الْحَدِيثَ لَكِنَّ كَوْنَ تَرْكِهِ حِينَئِذٍ مِنْ الْآفَاتِ فِيهِ خَفَاءٌ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ كَوْنَ هَذَا الْأَمْرِ فِي الْمَقَامِ إيجَابِيًّا مَجَازًا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَافْهَمْ «فَسَمِعَ الرَّجُلُ ذَلِكَ» التَّعْلِيمَ «مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قَبْلَ تَعْلِيمِ الْخَادِمِ لَهُ «فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ» اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِئْذَانِ أَنْ يَقُولَ الْمَسْنُونُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ثُمَّ الِاسْتِئْذَانُ مُطْلَقًا وَقِيلَ الِاسْتِئْذَانُ ثُمَّ السَّلَامُ مُطْلَقًا وَقِيلَ السَّلَامُ ثُمَّ الِاسْتِئْذَانُ إذَا رَأَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ وَالْعَكْسُ إذَا لَمْ يَرَ أَحَدًا هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي لَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ نَصًّا فِي الْأَوَّلِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْأَخِيرَانِ فَإِنَّهُمَا رَأْيَانِ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ لَعَلَّ لَهُمَا نَصَّيْنِ يُوجِبَانِ التَّرْجِيحَ عَلَى اعْتِقَادِ مُتَمَسِّكِيهِمَا ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ مَطْلُوبِ الْمُصَنِّفِ إذْ الظَّاهِر مِنْ الْمُصَنِّفِ كِفَايَةُ مُطْلَقِ الْإِذْنِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَدَمُهُ فَافْهَمْ (م عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثُ» مَرَّاتٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَسْمَعَهُ وَأَنَّ الثَّلَاثَ مُنْتَهَى التَّأْكِيدِ «فَإِنْ أُذِنَ لَك» بِالْمَجْهُولِ «فَادْخُلْ وَإِلَّا فَارْجِعْ» وَاخْتَلَفُوا أَنَّهُ بَعْدَمَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ هَلْ يُعِيدُ الِاسْتِئْذَانَ قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَيُؤَوِّلُونَ الْحَدِيثَ بِالْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ أَنَّهُ أَسْمَعَهُ (د عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ» لَعَلَّ هَذَا يَشْمَلُ مَا أَجَابَ دَعْوَةَ الرَّسُولِ فَوْرًا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَعِيَّةٌ فِي الْمَجِيءِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلَّةِ قِيلَ وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ صَبِيًّا «فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إذْنٌ» قَائِمٌ مَقَامَ إذْنٍ اكْتَفَى بِقَرِينَةِ الطَّلَبِ فَلَا يَحْتَاجُ لِتَجْدِيدِ إذْنٍ أَيْ إنْ لَمْ يَطُلْ عَهْدٌ بَيْنَ الْمَجِيءِ وَالطَّلَبِ أَوْ كَانَ الْمُسْتَدْعَى بِمَحَلٍّ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى إذْنٍ عَادَةً وَإِلَّا وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ وَعَلَيْهِ نَزَّلُوا الْأَخْبَارَ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَلِهَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ حُرْمَةٌ وَإِلَّا وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ مُطْلَقًا وَالدُّعَاءُ النِّدَاءُ وَدَعَاهُ سَأَلَهُ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ التَّسْمِيَةِ نَحْوُ دَعَوْت ابْنِي زَيْدًا أَيْ سَمَّيْته، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ فَافْهَمْ (وَفِي رِوَايَةٍ «رَسُولُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ» عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ (أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي فَقَالَ نَعَمْ» لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ النَّدْبِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مَكْشُوفَةُ الْأَعْضَاءِ وَإِلَّا فَيَجُوزُ الدُّخُولُ عَلَى مُطْلَقِ الْمَحَارِمِ لَعَلَّ جِنْسَ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ بَلْ رُبَّ أُمٍّ تَتَأَذَّى مِنْ الِاسْتِئْذَانِ وَمِنْهَا تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ

ترك الكلام مع الوالدين

وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ بِلَا ضَرَرٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ وَظَنَّ التَّأْثِيرِ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُ آفَةً وَتَرْكُ النُّصْحِ لِلنَّاسِ وَتَرْكُ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ ظَنِّ الْقَبُولِ وَتَرْكُ التَّعْلِيمِ وَالْفَتْوَى سِيَّمَا عِنْدَ التَّعَيُّنِ بِأَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ يَصْلُحُ لَهُمَا غَيْرُهُ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَالْوَاجِبُ فِي الْفَتْوَى الْقَوْلُ لَا الْكِتَابَةُ وَلِذَا جَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ لَهَا لَا لَهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ فِيمَا سَبَقَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ [تَرْكُ الْكَلَامِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ] (وَ) مِنْهَا (تَرْكُ الْكَلَامِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ) حَتَّى قَالُوا مَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ مَعَ أَبَوَيْهِ وَجَبَ الْحِنْثُ (وَ) مَعَ (سَائِرِ الْمَحَارِمِ) لِأَنَّهُ قَطْعُ الرَّحِمِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّا مَأْمُورُونَ بِوَصْلِهَا [تَرْكُ إنْقَاذِ تَخْلِيصِ الْمَظْلُومِ] (وَتَرْكُ إنْقَاذِ) تَخْلِيصِ (الْمَظْلُومِ) بِالْأَمْرِ أَوْ الشَّفَاعَةِ أَوْ الْيَدِ أَوْ الْقَهْرِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُنْقِذِ وَتَقْيِيدُهُ (بِالْقَوْلِ) لِكَوْنِ الْبَحْثِ فِي حَقِّهِ (عِنْدَ الْقُدْرَةِ) بِأَنْ لَا يَخَافَ مِنْ ضَرَرِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ لِأَجْلِهِ قِيلَ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ فَلَمَّا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ قِيلَ لَهُ إنَّا ضَارِبُوك مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِائَةَ ضَرْبَةٍ فَقَالَ لَا طَاقَةَ لِي فَلَمْ يَزَلْ يُخَفَّفُ عَنْهُ فَضُرِبَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَبْقَ عُضْوٌ مِنْهُ إلَّا انْقَطَعَ وَالْتَهَبَ فِي قَبْرِهِ نَارًا وَقَالَ يَا وَيْلَاه فَبِمَ فَعَلْتُمْ فِي هَذَا أَلَمْ أَكُنْ أُقِيمُ الصَّلَاةَ وَأُودِي الزَّكَاةَ وَأَحُجُّ الْبَيْتَ وَأَصُومُ رَمَضَانَ قَالُوا سَنُخْبِرُك مَرَرْت يَوْمًا بِمَظْلُومٍ يَسْتَغِيثُك فَلَمْ تُغِثْهُ وَصَلَّيْت يَوْمًا وَلَمْ تَتَنَزَّهْ عَنْ بَوْلِك (وَتَرْكُ الشَّهَادَةِ) عِنْدَ الْحَاجَةِ (وَ) تَرْكُ (التَّزْكِيَةِ) لِلشَّهَادَةِ (عِنْدَ التَّعَيُّنِ) الظَّاهِرُ قَيْدٌ لَهُمَا لَعَلَّ رُتْبَةَ التَّزْكِيَةِ دُونَ رُتْبَةِ الشَّهَادَةِ [تَرْكُ تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ سُبْحَانَ أَوْ تَبَارَكَ اللَّهُ] (وَتَرْكُ تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ سُبْحَانَ أَوْ تَبَارَكَ اللَّهُ) وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ نَحْوِ جَلَّ وَعَزَّ (عِنْدَ سَمَاعِهِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ) كُلَّمَا سَمِعَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَقُولُ قَالَ اللَّهُ بِلَا تَعْظِيمٍ وَبِلَا إرْدَافِ وَصْفٍ صَالِحٍ لِلتَّعْظِيمِ فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْوُجُوبِ مُشْكِلٌ نَعَمْ قَالَ فِي نَحْوِ الْأُسْرُوشَنِيِّ وَعَنْ قَاضِي خَانْ مَنْ سَمِعَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَظِّمَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ وَيَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ تَبَارَكَ أَوْ تَعَالَى أَوْ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ جَلَّ جَلَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُعَظِّمْهُ حِينَ سَمِعَ لَمْ يُمْكِنْ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَيَكُونُ كُلَّ وَقْتٍ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ فَلَمْ يَبْقَ مَحَلٌّ لِلْقَضَاءِ وَأَمَّا إذَا تَكَرَّرَ فَقِيلَ كَذَا وَقِيلَ لَا وَقِيلَ إلَى الثَّلَاثَةِ فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ بَلْ يَعُمُّ الْكُلَّ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ عَامَّةٌ (بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً عِنْدَ الْأَكْثَرِ) قِيلَ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَلِلْمَرَّةِ وَالتَّرَاخِي (وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ تَجِبُ هِيَ عِنْدَ كُلِّ سَمَاعٍ) اعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ فِي مَطَالِعِ الْمَسَرَّاتِ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ أَمْرِ الصَّلَاةِ لِلْوُجُوبِ وَإِنْ رُوِيَ الِاسْتِحْبَابُ عَنْ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ الْوُجُوبِ إلَى تِسْعٍ: الْأَوَّلُ: الْوُجُوبُ فِي جُمْلَةٍ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ وَأَقَلُّهُ مَرَّةٌ. الثَّانِي: وُجُوبُ الْإِكْثَارِ بِلَا حَصْرِ عَدَدٍ. الثَّالِثُ: الْوُجُوبُ كُلَّمَا ذُكِرَ وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ كَالْحَلِيمِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَحْوَطُ. الرَّابِعُ: وُجُوبُهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مَرَّةً وَلَوْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ مِرَارًا. الْخَامِسُ: وُجُوبُهَا فِي الْعُمْرِ مَرَّةً هَذَا لِلرَّازِيِّ. السَّادِسُ: وُجُوبُهَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ وَهُوَ لِأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

ترك السؤال للعاجز عن الكسب عند المخمصة

السَّابِعُ: وُجُوبُهَا فِي التَّشَهُّدِ لِلشَّعْبِيِّ. الثَّامِنُ: وُجُوبُهَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ وَهَذَا لِلشَّافِعِيِّ وَلِمَنْ تَبِعَهُ. التَّاسِعُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَاجِبٌ فِي كُلِّ حِينٍ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ لَا يَغْفُلُهَا إلَّا مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ وَنَصُّ الِاسْتِحْبابِيَّة فِي مَوَاضِعَ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتِهَا وَزِيدَ السَّبْتُ وَالْأَحَدُ وَالْخَمِيسُ وَعِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَخُرُوجِهِ وَعِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ وَعِنْدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخُطَبِ وَعَقِيبَ إجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ وَفِي أَوَّلِ الدُّعَاءِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَعِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَعِنْدَ الْوُضُوءِ وَعِنْدَ طَنِينِ الْأُذُنِ وَعِنْدَ نِسْيَانِ الشَّيْءِ وَبَعْدَ الْعُطَاسِ وَعِنْدَ الْوَعْظَ وَعِنْدَ كِتَابَةِ السُّؤَالِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَرِوَايَةِ الْحَدِيثِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَلِكُلِّ مُصَنِّفٍ وَدَارِسٍ وَمُدَرِّسٍ وَخَطِيبٍ وَخَاطِبٍ وَتَزْوِيجٍ وَتَزَوُّجٍ وَفِي الرَّسَائِلِ رُبَّمَا يُكْتَبُ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ وَقَدْ يُخْتَمُ أَيْضًا وَبَيْنَ يَدَيْ سَائِرِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَعِنْدَ ذِكْرِهِ وَسَمَاعِ اسْمِهِ وَكِتَابَتِهِ ثُمَّ اللَّازِمُ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالثَّوَابِ وَلِذَاكِرِهِ الصَّلَاةُ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ الْأَوَّلُ: الْجِمَاعُ، الثَّانِي: قَضَاءُ الْحَاجَةِ. الثَّالِثُ: شُهْرَةُ الْمَبِيعِ. الرَّابِعُ: الْعَثْرَةُ. الْخَامِسُ: التَّعَجُّبُ. السَّادِسُ: الذَّبْحُ. السَّابِعُ: الْعُطَاسُ عَلَى خِلَافٍ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ وَزَادَ بَعْضٌ الْأَكْلَ وَبَعْضٌ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْعَوَامّ فِي الْأَغْرَاضِ وَغَيْرِهَا فِي اشْتِهَارِ أَفْعَالِهِمْ لَا سِيَّمَا مَعَ تَرْكِ الْوَقَارِ وَالِاحْتِرَامِ بَلْ مَعَ الضَّحِكِ وَفِي أَمَاكِنِ النَّجَاسَةِ انْتَهَى وَتَمَامُ التَّفْصِيلِ ذُكِرَ فِي خُطْبَةِ هَذَا الْكِتَابِ [تَرْكُ السُّؤَالِ لِلْعَاجِزِ عَنْ الْكَسْبِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ] (وَتَرْكُ السُّؤَالِ لِلْعَاجِزِ) عَنْ الْكَسْبِ (عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ) (فَإِنَّهُ) أَيْ السُّؤَالَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (فَرْضٌ) عَلَيْهِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْكَسْبِ (وَلَوْ) (عَجَزَ عَنْ الْخُرُوجِ) بِنَفْسِهِ لِأَجْلِ السُّؤَالِ لِنَحْوِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ (يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ أَنْ يُعْطِيَهُ بِقَدْرِ مَا يَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) الْعَالِمُ بِحَالِهِ (مَا يُعْطِيهِ) قَدْرَ مَا يَتَقَوَّى عَلَيْهَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ (يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى إعْطَائِهِ) وَلَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ وِجْدَانِ مَنْ يُعْطِيهِ (فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ) الْوُجُوبُ (عَنْ الْبَاقِينَ) كَمَا هُوَ شَأْنُ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ الْمُتَصَدِّقُ عَلَى مَسَاكِينَ يَأْكُلُونَ إسْرَافًا وَيَسْأَلُونَ إلْحَافًا مَأْجُورٌ فِيهِ إلَّا إذَا عَلِمَ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ (وَبِالْجُمْلَةِ) حَاصِلُ الْكَلَامِ (السُّكُوتُ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ وَجَبَ أَوْ سُنَّ حَرَامٌ) فِي الْوَاجِبِ (أَوْ مَكْرُوهٌ) فِي الْمَسْنُونِ (آفَةُ اللِّسَانِ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ (وَصَاحِبُهُ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ) وَهِيَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ وَالسَّادِسُ (لَوْ فُصِّلَتْ لَزَادَتْ عَلَى مِائَةٍ فَفِي كُلِّهَا آفَةٌ وَخَطَرٌ يَجِبُ تَعَلَّمُهَا وَتَعْلِيمُهَا وَتَوَقِّيهَا) بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ (لِمَنْ بَاشَرَهَا) قَبْلَهَا (وَلَا مَخْلَصَ عَنْ جَمِيعِهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ) أَيْ فِي زَمَانِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ (إلَّا بِالْعُزْلَةِ وَعَدَمِ اخْتِلَاطِ النَّاسِ إلَّا فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَضَرُورَاتِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ) لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ يُشِيرُ بِهَذَا الْكَلَامِ إلَى مَا قَالُوا فِي الْعُزْلَةِ مِنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ فَضْلِهَا وَفَوَائِدِهَا وَآفَاتِهَا اعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ أَمَّا فَضْلُهَا فَاخْتَارَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ وَالطَّائِيُّ وَالْفُضَيْلُ وَسُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَبِشْرٌ الْحَافِيُّ وَمِمَّنْ اخْتَارَ كَرَاهَتَهَا كَثِيرٌ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَشُرَيْحٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمَّا فَوَائِدُهَا فَسِتٌّ الْأَوَّلُ الْفَرَاغُ لِلْعِبَادَةِ وَالْفِكْرُ وَالِاسْتِئْنَاسُ بِمُنَاجَاتِهِ تَعَالَى وَالِاسْتِكْشَافُ بِأَسْرَارِ اللَّهِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ تَبَتَّلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ فِي جَبَلِ حِرَاءَ

ثُمَّ عِنْدَ نُبُوَّتِهِ جَمَعَ الْمُخَالَطَةَ وَالْإِقْبَالَ إلَيْهِ تَعَالَى بِقُوَّةِ النُّبُوَّةِ وَلَنْ يَتَيَسَّرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ إلَّا بِالِانْتِهَاءِ إلَى دَرَجَةِ أَكْمَلِ الْعَارِفِينَ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْجُنَيْدِ أَنَا أُكَلِّمُ اللَّهَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَالنَّاسُ يَظُنُّونَ أَنِّي أُكَلِّمُهُمْ فَمَنْ تَيَسَّرَ لَهُ بِدَوَامِ الذِّكْرِ الْأُنْسُ بِاَللَّهِ وَبِدَوَامِ الْفِكْرِ التَّحَقُّقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَالتَّجَرُّدُ لَهُ أَفْضَلُ الثَّانِي التَّخَلُّصُ بِالْعُزْلَةِ عَنْ الْمَعَاصِي الْحَاصِلَةِ بِالْخُلْطَةِ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالرِّيَاءِ الثَّالِثُ الْخَلَاصُ مِنْ الْفِتَنِ وَالْخُصُومَاتِ وَصِيَانَةُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ عَنْ الْخَوْضِ فِيهَا الرَّابِعُ الْخَلَاصُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مِنْ الْغِيبَةِ لَك وَسُوءِ الظَّنِّ بِك وَالتُّهْمَةِ عَلَيْك الْخَامِسُ أَنْ يَنْقَطِعَ طَمَعُ النَّاسِ عَنْك وَيَنْقَطِعَ طَمَعُك عَنْهُمْ السَّادِسُ الْخَلَاصُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الثُّقَلَاءِ وَالْحَمْقَى وَمُقَاسَاةِ أَخْلَاقِهِمْ فَإِنَّ رُؤْيَةَ الثَّقِيلِ هِيَ الْعَمَى الْأَصْغَرُ وَأَمَّا آفَاتُهَا فَسَبْعٌ الْأَوَّلُ التَّعْلِيمُ وَالتَّعَلُّمُ اللَّذَانِ هُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ لَا يَتَحَصَّلَانِ إلَّا بِالْخُلْطَةِ وَالْعُزْلَةُ قَبْلَ تَعَلُّمِ الْفُرُوضِ عِصْيَانٌ قَالَ النَّخَعِيُّ تَفَقَّهْ ثُمَّ اعْتَزِلْ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ الْجَاهَ وَاسْتِكْثَارَ الْأَصْحَابِ وَالْأَتْبَاعِ وَالتَّقَدُّمَ عَلَى الْأَقْرَانِ وَتَقَرُّبَ السُّلْطَانِ وَتَوَلِّيَ الْأَعْمَالِ وَاجْتِلَابَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا هَلَاكُ الدِّينِ وَلَقَدْ صَدَقَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ حَيْثُ قَالَ دَعْ الرَّاغِبِينَ فِي صُحْبَتِك وَالتَّعَلُّمِ مِنْك فَلَيْسَ لَك مِنْهُمْ مَالٌ وَلَا جَمَالٌ، وَإِخْوَانُ الْعَلَانِيَةِ أَعْدَاءُ السِّرِّ إذَا لَقُوك تَمَلَّقُوك وَإِذَا غِبْت عَنْهُمْ سَلَقُوك وَمَنْ أَتَاك مِنْهُمْ كَانَ عَلَيْك رَقِيبًا وَإِذَا خَرَجَ كَانَ عَلَيْك خَطِيبًا، أَهْلُ نِفَاقٍ وَنَمِيمَةٍ وَغِلٍّ وَخَدِيعَةٍ فَلَا تَغْتَرَّ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ فَمَا غَرَضُهُمْ الْعِلْمُ بَلْ الْجَاهُ وَالْمَالُ وَأَنْ يَتَّخِذُوك سُلَّمًا إلَى أَوْطَارِهِمْ وَحِمَارًا فِي حَاجَاتِهِمْ، إنْ قَصَّرْت فِي غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ أَعْدَائِك ثُمَّ يَعُدُّونَ تَرَدُّدَهُمْ دَالًّا عَلَيْك وَيَرَوْنَهُ حَقًّا وَاجِبًا لِدِيكِ وَيَعْرِضُونَ عَلَيْك أَنْ تَبْذُلَ عِرْضَك وَجَاهَك وَدِينَك لَهُمْ فَتُعَادِيَ عَدُوَّهُمْ وَتَنْصُرَ غَرِيبَهُمْ وَخَادِمَهُمْ وَوَلِيَّهُمْ وَتَنْتَهِضَ لَهُمْ سَفِيهًا وَقَدْ كُنْت فَقِيهًا وَتَكُونَ لَهُمْ تَابِعًا بَعْد أَنْ كُنْت مَتْبُوعًا رَئِيسًا وَهَذَا كَلَامٌ حَقٌّ رَحِمَ اللَّهُ قَائِلَهُ فَإِنَّ الْمُدَرِّسِينَ فِي رِقٍّ دَائِمٍ وَتَحْتَ حَقٍّ لَازِمٍ وَمِنَّةٍ ثَقِيلَةٍ مِمَّنْ يَتَرَدَّدُ إلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُ يُهْدِي تُحْفَةً إلَيْهِ فَيَرَى حَقَّهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ ثُمَّ الْمُدَرِّسُ الْمِسْكِينُ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِذَلِكَ وَيَبْذُلُ دِينَهُ وَعِرْضَهُ فِي أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ لِأَجْلِ أَغْرَاضِهِمْ الذَّمِيمَةِ وَمَعَ ذَلِكَ نَسَبُوهُ إلَى الْحُمْقِ وَقِلَّةِ التَّمْيِيزِ وَالْقُصُورِ عَنْ دَرْكِ مَقَادِيرِ الْفَضْلِ وَسَلَقَهُ السُّفَهَاءُ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ وَثَارُوا عَلَيْهِ ثَوْرَانِ الْأَسَاوِدِ وَالْآسَادِ الثَّانِي النَّفْعُ وَالِانْتِفَاعُ فَإِنَّ الْخُلْطَةَ لِلِاكْتِسَابِ لِأَجْلِ التَّصَدُّقِ أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ لِأَجْلِ النَّوَافِلِ وَإِنْ كَانَتْ الْعُزْلَةُ لِأَجْلِ التَّحَقُّقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُلُومِ الشَّرْعِ وَالْإِقْبَالِ بِكُنْهِ الْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّجَرُّدِ بِهِ لِلذِّكْرِ أَفْضَلَ وَأَيْضًا الْقِيَامُ بِحَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى حُدُودِ الشَّرْعِ أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ بِنَوَافِل الصَّلَوَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ الْقَلْبِيَّةُ مِنْ الْمَعَارِفِ لَا مُعَادِلَ لَهَا أَصْلًا وَقَطْعًا الثَّالِثُ التَّأْدِيبُ وَالتَّأَدُّبُ بِكَسْرِ النَّفْسِ وَقَهْرِ الشَّهَوَاتِ بِتَحَمُّلِ أَذَى النَّاسِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ لِمَنْ يَتَهَذَّبُ وَالتَّأْدِيبُ كَحَالِ شَيْخِ الْمُتَصَوِّفَةِ مَعَهُمْ إذْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمُخَالَطَةِ كَحَالِ الْمُعَلِّمِ مَعَ الْمُتَعَلِّمِ الرَّابِعُ الِاسْتِئْنَاسُ وَالْإِينَاسُ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَمَجَالِسِ الْغِيبَةِ وَاللَّهْوِ وَمُبَاحًا كَالْأُنْسِ بِالْمَشَايِخِ وَمُسْتَحَبًّا كَتَرْوِيحِ الْقُلُوبِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ إذَا كَرِهَتْ عَمِيَتْ وَمَهْمَا كَانَ فِي الْوَحْدَةِ وَحْشَةٌ وَفِي الْمَجَالِسِ تَرْوِيحٌ فَهِيَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ رُبَّمَا تَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ وَفِي بَعْضِ الْحَالَاتِ دُونَ الْأُخْرَى الْخَامِسُ فِي نَيْلِ ثَوَابٍ كَحُضُورِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى السَّادِسُ التَّوَاضُعُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْمَقَامَاتِ وَلَا يُوجَدُ فِي الْوَحْدَةِ السَّابِعُ التَّجَارِبُ إذْ مُجَرَّدُ الْعَقْلِ غَيْرُ كَافٍ فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا انْتَهَى فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ وَالْعُزْلَةُ مِنْ أَمَارَاتِ الْوَصْلَةِ وَلَا بُدَّ لِلْمَرِيدِ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ مِنْ الْعُزْلَةِ عَنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ ثُمَّ فِي نِهَايَتِهِ مِنْ الْخَلْوَةِ لِتَحَقُّقِهِ بِأُنْسِهِ وَمِنْ حَقِّ الْعَبْدِ إذَا آثَرَ الْعُزْلَةَ أَنْ يَقْصِدَ بِاعْتِزَالِهِ عَنْ الْخَلْقِ سَلَامَةَ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ وَلَا يَقْصِدَ سَلَامَتَهُ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ وَعَنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ قِيلَ لَهُ أَنْتَ رَاهِبٌ فَقَالَ لَا أَنَا حَارِسُ كَلْبٍ إنَّ نَفْسِي كَلْبٌ يَعْقِرُ الْخَلْقَ أَخْرَجْتُهَا مِنْ بَيْنِهِمْ

لِيَسْلَمُوا مِنْهَا وَعَنْ أَبِي يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت رَبِّي فِي الْمَنَامِ فَقُلْت لَهُ كَيْفَ أَجِدُك فَقَالَ فَارِقْ نَفْسَك وَتَعَالَ وَعَنْ بَعْضٍ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِفْلَاسِ الِاسْتِئْنَاسُ بِالنَّاسِ وَعَنْ بَعْضٍ آخَرَ مَنْ خَالَطَ النَّاسَ دَارَاهُمْ وَمَنْ دَارَاهُمْ رَآهُمْ وَعَنْ الْجُنَيْدِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلَمَ لَهُ دِينُهُ وَيَسْتَرِيحَ بَدَنُهُ وَقَلْبُهُ فَلْيَعْتَزِلْ النَّاسَ وَعَنْ الشِّبْلِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْزَمْ الْوَحْدَةَ وَامْسَحْ اسْمَك مِنْ الْقَوْمِ وَاسْتَقْبِلْ الْجِدَارَ حَتَّى تَمُوتَ وَقِيلَ إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْقُلَ الْعَبْدَ مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ إلَى عِزِّ الطَّاعَةِ آنَسَهُ بِالْوَحْدَةِ وَأَغْنَاهُ بِالْقَنَاعَةِ وَبَصَّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ فَمَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ انْتَهَى (فَإِذَا ضُمَّ هَذِهِ الْعَشَرَةُ) مِنْ الْمَبْحَثِ الثَّانِي إلَى هُنَا (إلَى مَا سَبَقَ) وَهُوَ السِّتُّونَ مِنْ آفَاتِ النُّطْقِ (تَصِيرُ سَبْعِينَ وَلْنَذْكُرْهَا جُمْلَةً لِيَسْهُلَ حِفْظُهَا كَمَا فَعَلْنَا فِي آفَاتِ الْقَلْبِ كُفْرُ خَوْفٍ كُفْرُ خَطَإٍ كَذِبٌ غِيبَةٌ نَمِيمَةٌ سُخْرِيَةٌ سَبٌّ فُحْشٌ لَعْنٌ طَعْنٌ نِيَاحَةٌ مِرَاءٌ جِدَالٌ خُصُومَةٌ تَعْرِيضٌ غِنَاءٌ إفْشَاءُ سِرٍّ خَوْضٌ فِي الْبَاطِلِ سُؤَالُ مَالٍ) مَعَ غُنْيَةً عَنْهُ (وَ) سُؤَالُ (مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ) وَسُؤَالُ مَمْلُوكٍ الْبَيْعَ وَسُؤَالُ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ (سُؤَالُ عَوَامَّ عَمَّا لَا يَبْلُغُهُ فَهْمُهُمْ) إلَى الْمَقْصُودِ مِمَّا سُئِلُوا (سُؤَالٌ عَنْ الْأُغْلُوطَاتِ) تَخْجِيلًا لِلْمَسْئُولِ (خَطَأٌ فِي التَّعْبِيرِ نِفَاقٌ قَوْلِيٌّ كَلَامُ ذِي لِسَانَيْنِ شَفَاعَةٌ سَيِّئَةٌ أَمْرٌ بِمُنْكَرٍ وَنَهْيٌ عَنْ الْمَعْرُوفِ غِلْظَةُ كَلَامٍ سُؤَالٌ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ افْتِتَاحُ أَدْنَى عِنْدَ أَعْلَى كَلَامًا تَكَلُّمٌ عِنْدَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ كَلَامٌ فِي صَلَاةٍ كَلَامٌ فِي حَالِ خُطْبَةٍ كَلَامُ دُنْيَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَلَامٌ فِي خَلَاءٍ كَلَامٌ عِنْدَ جِمَاعٍ دُعَاءٌ عَلَى مُسْلِمٍ دُعَاءٌ لِلظَّالِمِ بِغَيْرِ صَلَاحٍ كَلَامٌ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كَلَامُ دُنْيَا فِي الْمَسَاجِدِ نَبْزٌ بِالْأَلْقَابِ يَمِينٌ غَمُوسٌ يَمِينٌ بِغَيْرِ اللَّهِ كَثْرَةُ يَمِينٍ سُؤَالُ أَمَّارَةٍ وَقَضَاءٍ سُؤَالُ تَوْلِيَةٍ سُؤَالُ وِصَايَةٍ دُعَاءُ إنْسَانٍ عَلَى نَفْسِهِ وَتَمَّنِي مَوْتٍ رَدُّ عُذْرِ أَخِيهِ تَفْسِيرُ قُرْآنٍ بِرَأْيِهِ إخَافَةُ مُؤْمِنٍ قَطْعُ كَلَامِ غَيْرِهِ وَنَفْسِهِ وَنَحْوِهِ رَدُّ تَابِعٍ كَلَامَ مَتْبُوعِهِ سُؤَالٌ عَنْ حِلِّ شَيْءٍ وَطَهَارَتِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ مِزَاحٌ مَدْحٌ شَعْرُ سَجْعٍ وَفَصَاحَةٌ مَا لَا يُغْنِي فُضُولُ كَلَامٍ تَنَاجِي تَكَلُّمٍ مَعَ شَابَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ سَلَامٌ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ سَلَامٌ عَلَى الْمُتَغَوَّطِ وَالْبَائِلِ دَلَالَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْصِيَةِ إذْنٌ فِيمَا هُوَ الْمَعْصِيَةُ آفَاتُ الْمُعَامَلَاتِ آفَاتُ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ آفَاتُ الْعِبَادَاتِ الْقَاصِرَةِ آفَاتُ السُّكُوتِ فَظَهَرَ) مِمَّا ذُكِرَ (أَنَّ أَمْرَ اللِّسَانِ) نُطْقًا وَسُكُوتًا (مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَهَمِّهَا) لِمَا فِيهِ الْوَرَطَاتُ وَكَثْرَةُ الْآفَاتِ وَوَفْرَةُ الِابْتِلَاءِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ (كَالْقَلْبِ) التَّشْبِيهُ فِي أَصْلِ الْكَثْرَةِ أَوْ فِي الْقُوَّةِ وَإِلَّا فَمَا بِاللِّسَانِ أَكْثَرُ مِمَّا بِالْقَلْبِ (فَلِذَا) لِكَوْنِهِمَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُعَظَّمَةِ (قِيلَ إنَّمَا) كَمَالُ (الْمَرْءِ بِأَصْغَرَيْهِ) جِرْمًا وَصُورَةً؛ الْقَلْبُ

بِتَخْلِيَتِهِ عَنْ جَمِيعِ الرَّذَائِلِ وَتَحْلِيَتِهِ بِحُسْنِ الشَّمَائِلِ، وَاللِّسَانُ بِحِفْظِهِ عَنْ الْهَفَوَاتِ وَالْآفَاتِ الْمَرْوِيَّةِ وَتَعَوُّدِهِ بِمَا يُوجِبُ مَرْضَاةَ رَبِّ الْبَرِّيَّةِ قِيلَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذَا مُعَيْدِيٌّ مَنْسُوبٌ إلَى مُعَيْدٍ تَصْغِيرُ مَعْدٍ عَلَى طَرِيقِ التَّرْخِيمِ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمُنْذِرَ سَمِعَ بِالْمُعَيْدِيِّ وَأَعْجَبَهُ مَا يَبْلُغُهُ عَنْهُ فَلَمَّا رَآهُ اسْتَحْقَرَهُ وَقَالَ " تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ " فَقَالَ إنَّ الرِّجَالَ لَيْسُوا بِجُزُرٍ إنَّمَا الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ إنْ قَالَ قَالَ بِلِسَانِهِ وَإِنْ قَاتَلَ قَاتَلَ بِجَنَانِهِ فَأَعْجَبَ الْمُنْذِرَ كَلَامُهُ قِيلَ هَكَذَا ذَكَرَهُ سَيِّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَدْ جَاءَ أَنَّ لُقْمَانَ سَأَلَهُ أُسْتَاذُهُ عَنْ أَطْيَبِ مَا فِي الْحَيَوَانِ فَجَاءَ بِلِسَانِ شَاةٍ وَقَلْبِهَا ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ أَخْبَثِهِ فَجَاءَ بِهِمَا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ هُمَا أَطْيَبُ مَا فِيهِ إذَا طَابَ وَأَخْبَثُ مَا فِيهِ إذَا خَبُثَ (وَهُمَا) أَيْ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ (أَكْثَرُ مَجَارِي التَّقْوَى فَلِذَا كَثُرَ اهْتِمَامُ السَّلَفِ) مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ (بِهِمَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَقَدْ فَصَّلْنَاهُمَا بَعْضَ التَّفْصِيلِ) يَعْنِي لَا تَظُنَّ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا تَفْصِيلٌ مُمِلٌّ بَلْ مَا ذَكَرْنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى اقْتِضَاءِ الْحَالِ أَقَلُّ قَلِيلٍ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقْتَضَى الْحَاجَةِ غَايَةَ الْإِيجَازِ) وَنِهَايَةَ الِاخْتِصَارِ، يَرِدُ أَنَّ مَا يَكُونُ غَايَةَ الْإِيجَازِ يَكُونُ مُخِلًّا لِلْمَقْصُودِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ مِنْهُ وَأَيْضًا يُنَافِي قَوْلَهُ بَعْضَ التَّفْصِيلِ إذْ مَا يَكُونُ غَايَةَ إيجَازٍ لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ التَّفْصِيلِ لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ غَايَةُ إيجَازٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَاجَةِ الْكَامِلَةِ كَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ وَبَعْضُ تَفْصِيلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَاجَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّ الْمَقَامَ خَطَابِيٌّ بَلْ شِعْرِيٌّ لَا بُرْهَانِيٌّ فَلَا يُعْبَأُ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا (فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ بِصِيَانَةِ اللِّسَانِ عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْآفَاتِ) حَتَّى لَا يَصْدُرَ عَنْك شَيْءٌ مِنْهَا (إذْ لَا تَقْوَى بِدُونِهَا) أَيْ بِدُونِ صِيَانَةِ اللِّسَانِ وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهَا (وَخُصُوصًا) كَلِمَةَ (الْكُفْرِ وَقَرِينَيْهِ) وَهُمَا خَوْفُ الْكُفْرِ وَالْخَطَأِ (وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ فَحَالُهَا ظَاهِرٌ) أَيْ الْكُفْرِ وَقَرِينَيْهِ أَيْ خَوْفِهِ وَالْخَطَأِ (وَأَمَّا الْكَذِبُ وَالْغِيبَةُ فَهُمَا فِي آفَاتِ اللِّسَانِ كَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ فِي آفَاتِ الْقَلْبِ) فِي أَنَّهَا أُمَّهَاتُ الْخَبَائِثِ وَمَنْبَعُ الرَّذَائِلِ (فَكَمَا أَنَّ مَنْ نَجَا مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ (بَعْدَ النَّجَاةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ يُرْجَى أَنْ يَنْجُوَ مِنْ سَائِرِ آفَاتِ الْقَلْبِ كَمَا ذَكَرْنَا سَابِقًا فَكَذَلِكَ يُرْجَى هَاهُنَا) أَيْضًا أَنَّ مَنْ نَجَا مِنْ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ النَّجَاةِ مِنْ تَلَفُّظِ الْكُفْرِ وَقَرِينَيْهِ (أَنْ يَنْجُوَ مِنْ سَائِرِ آفَاتِ اللِّسَانِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ) وَإِنَّمَا قَالَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ النَّجَاةَ مِنْ سَائِرِ الْآفَاتِ أَصْعَبُ وَأَنَّ النَّجَاةَ مِنْهُمَا تَحْتَاجُ إلَى تَيْسِيرٍ وَتَوْفِيقٍ إلَهِيٍّ (فَلِذَا) أَيْ فَلِكَوْنِ النَّجَاةِ مِنْهُمَا مَظِنَّةَ النَّجَاةِ مِنْ غَيْرِهِمَا (وَرَدَ فِيهِمَا) فِي الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ (مِنْ الْأَخْبَارِ) النَّبَوِيَّةِ (وَالْآثَارِ) السَّلَفِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصِّنْفِ الثَّالِثِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَدْ يُحْتَجُّ بِهِمَا لَا سِيَّمَا فِي الْفَضَائِلِ وَفِي تَأْيِيدِ النَّصِّ وَأَنَّ الشُّبُهَاتِ كَافِيَةٌ فِي ثُبُوتِ الْحَظَارَاتِ (وَالِاهْتِمَامِ مِنْ السَّلَفِ مَا لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأُمَرَاءِ لَكِنَّهُ مِنْ

الصنف الثالث في آفات الأذن استماع كل ما لا يجوز التكلم به بلا ضرورة

السَّلَفِ حَتَّى قِيلَ لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ فِي الْعَدَالَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ الِاحْتِجَاجَ بِكَلَامِهِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ مَا أُخِذَ عَنْ الْعُلَمَاء وَالصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يُحْسَنُ فِيهِ الظَّنُّ فَمُقَدَّمَةٌ خَطَابِيَّةٌ تَنْفَعُ فِي مَقَامِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (أَنَّهُ قَالَ مَا كَذَبْت كِذْبَةً) وَاحِدَةً أَوْ حَقِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً (مُنْذُ شَدَدْت عَلَيَّ إزَارِي) أَيْ مُنْذُ قَدَرْت عَلَى شَدِّ الْإِزَارِ وَيُمْكِنُ بَعْدَ سِتِّ سَنَوَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَيُرَادُ وَقْتَ صِبَا الْعَاقِلِ وَقَدْ يُفَسَّرُ بِالْبُلُوغِ فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ اهْتِمَامِ السَّلَفِ فِي حَقِّ الْكَذِبِ (وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ بَعْضِ الزُّهَّادِ أَنَّهُ اشْتَرَى قُطْنًا لِغَزْلِ امْرَأَتِهِ) فَالْقُطْنُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِأَجْلِ امْرَأَتِهِ فَالْقُطْنُ لِلْمَرْأَةِ وَفِيهِ نُدِبَ كَوْنُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِنَفْسِهِ إذْ فِعْلُ الْمَشَايِخِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ غَالِبًا (فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ إنَّ بَاعَةَ) جَمْعَ بَائِعٍ أَصْلُهُ بَيْعَةٌ (الْقُطْنِ قَوْمُ سَوْءٍ قَدْ خَانُوك فِي هَذَا الْقُطْنِ) إمَّا بِكَوْنِ ثَمَنِهِ غَالِيًا أَوْ بِكَوْنِهِ رَدِيئًا وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْقُطْنِ أَوْ بِنُقْصَانِ وَزْنِهِ أَوْ بِإِدْرَاجِ قَبِيحٍ فِي مَلِيحٍ (فَطَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ) عَنْ سَبَبِ تَطْلِيقِهِ (فَقَالَ إنِّي رَجُلٌ غَيُورٌ) كَثِيرُ الْغَيْرَةِ (أَخَافُ أَنْ يَكُونَ الْقَطَّانُونَ) بَائِعُو الْقُطْنِ (خُصَمَاءَهَا) أَيْ الزَّوْجَةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قِيلَ أَيْ سَبَبُ اغْتِيَابِهَا لَهُمْ يَشْكُلُ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الِاغْتِيَابِ مَعْرِفَةُ الْمُخَاطَبِ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الشَّتْمِ وَالسَّبِّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْمَ كَالْقَرْيَةِ فِيمَا سَبَقَ عَنْ قَاضِي خَانْ يَشْمَلُ أَهْلَ الصَّلَاحِ وَالصِّبْيَانِ فَيَكُونُ مَجْهُولًا فَلَا يَكُونُ غِيبَةً وَأَيْضًا الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ الِاهْتِمَامِ لَا السَّبَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ الْغَضَبِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّظَلُّمِ بَلْ يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الزَّوْجَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّحْذِيرِ وَالْإِيذَانِ لِئَلَّا يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَمَا فِي حَاشِيَةِ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ السَّوْءَ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِ وَأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الشَّتْمِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَاسِمٍ لِمَادَّةِ الْإِشْكَالِ لَعَلَّ الْحَقَّ فِي الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا طَرِيقُ أَهْلِ الْوَرَعِ وَالْعَزِيمَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الشُّرُوطِ لِأَهْلِ الْفَتْوَى وَالرُّخْصَةِ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ (فَيُقَالُ) فِي الْقِيَامَةِ فِي مَحْضَرِ أَهْلِ الْعَرَصَاتِ (إنَّ امْرَأَةَ فُلَانٍ تَعَلَّقَ بِهَا الْقَطَّانُونَ) الظَّاهِرُ أَنَّ التَّعَلُّقَ الْمُوجِبَ لِلْغَيْرَةِ أَنْ يَكُونَ بِالْجَسَدِ وَالْبَدَنِ كَالتَّعَلُّقِ بِالْيَدِ عَلَى يَدِهَا أَوْ ثَوْبِهَا كَمَا فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْخَصْمِ عَنْ الْمُرَافَعَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ التَّعَلُّقَ الْمُوجِبَ لِلْغَيْرَةِ إنَّمَا هُوَ لِخَوْفِ قَصْدِ السُّوءِ وَلَا شَكَّ أَيْضًا فِي انْتِفَاءِ احْتِمَالِهِ هُنَالِكَ وَأَيْضًا إنَّ الطَّلَاقَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَا تَخْفَى مَذْمُومِيَّتُهُ لِأَجْلِ مِثْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لِذَلِكَ قَالَ أَخَافُ أَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَهَا وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ وَأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَسُّرِ وَمَا لَا يُطَاقُ فَلَا يُكَلِّفُ الشَّرْعُ بِهِ، لَعَلَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يُقَالَ إنَّ التَّطْلِيقَ لَيْسَ لِأَجْلِ الْغِيبَةِ بَلْ لِلْكَذِبِ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَيَعْرِفُ صَلَاحَهُمْ الشَّيْخُ أَوْ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِمْ فَتَأَمَّلْ (فَلِأَجْلِ ذَلِكَ طَلَّقْتهَا) لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ تَطْلِيقُ تَارِكَةِ الصَّلَاةِ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ [الصِّنْفُ الثَّالِثُ فِي آفَاتِ الْأُذُنِ اسْتِمَاعُ كُلِّ مَا لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ] (الصِّنْفُ الثَّالِثُ فِي آفَاتِ الْأُذُنِ) مِنْ الْأَصْنَافِ التِّسْعَةِ (فَمِنْهَا اسْتِمَاعُ كُلِّ مَا لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ بِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ) كَمَا فِي جَمِيعِ آفَاتِ اللِّسَانِ كَالْغِنَاءِ وَالْغِيبَةِ (دُنْيَوِيَّةٍ) وَمَا لَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ (كَخَوْفِ الْهَلَاكِ) نَفْسًا أَوْ عِرْضًا أَوْ لَا عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِمَاعِ (وَأَخْذِ الْحَقِّ) بِأَنْ لَا يَصِلَ إلَيْهِ إلَّا بِذَلِكَ (وَكَسْبِ الْمَعَاشِ) بِأَنْ لَا يُمْكِنَ أَوْ يَعْسُرَ الْأَخْذُ أَوْ الْكَسْبُ بِدُونِ الِاسْتِمَاعِ (أَوْ) بِلَا ضَرُورَةٍ (دِينِيَّةٍ كَإِقَامَةِ وَاجِبٍ أَوْ سُنَّةٍ كَتَشْيِيعِ جِنَازَةٍ) فَإِنَّ مِقْدَارَ مَنْ يَكْفِي الدَّفْنَ مِنْ الرِّجَالِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمَا زَادَ سُنَّةٌ فَلِإِقَامَةِ هَذَيْنِ

إجابة دعوة فيها منكر كالغناء واللعب

يَجُوزُ اسْتِمَاعُ النِّيَاحَةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهَا بِطَرِيقٍ آخَرَ كَذَا فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِتَرْجِيحِ الْكَرَاهَةِ عَلَى السُّنَّةِ وَالْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَقُولُ وَكَذَا الْجُمُعَةُ وَالْعِيدَانِ فِي زَمَانِنَا لِأَنَّهُمَا غَيْرُ خَالِيَيْنِ عَنْ الْغِنَاءِ وَاللَّحْنِ وَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ كَذَا قِيلَ لَكِنَّ مِثْلَ الْإِشْكَالِ يَرِدُ أَيْضًا عَلَى الْعِيدِ فَافْهَمْ (مَعَهَا نَائِحَةٌ) وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْبُكَاءِ لَكِنْ لَا يَسْتَمِعُ بَلْ يَمْشِي مَعَ الْجِنَازَةِ وَلَا يَضُرُّ لَكَ - {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]- فَإِنْ قِيلَ الِاسْتِمَاعُ عِنْدَ الْحُضُورِ ضَرُورِيٌّ فَكَيْفَ لَا يَسْتَمِعُ وَلَوْ سُلِّمَ لَزِمَ جَوَازُ الْحُضُورِ عِنْدَ الْجَمِيعِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءِ عَدَمُ الْإِقْبَالِ وَالتَّلَذُّذِ بَلْ الِاشْتِغَالُ بِنَحْوِ الذِّكْرِ وَالْمُكَالَمَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ قَالَ يَقُولُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ هَذَا مُنْكَرٌ وَأَنَا لَهُ مُنْكِرٌ [إجَابَةِ دَعْوَةٍ فِيهَا مُنْكَرٌ كَالْغِنَاءِ وَاللَّعِبِ] (بِخِلَافِ إجَابَةِ دَعْوَةٍ فِيهَا مُنْكَرٌ كَالْغِنَاءِ وَاللَّعِبِ) نُقِلَ هُنَا عَنْ الْمُصَنِّفِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْأَشْعَارِ أَوْ بِالْأَذْكَارِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ الدُّعَاءِ بَلْ هَذَا أَقْبَحُ مِنْ الْأَوَّلِ انْتَهَى لِاعْتِقَادِهِ الْعِبَادَةَ فِيمَا فِيهِ مَعْصِيَةٌ أَوْ لِلْإِخْلَالِ بِالتَّعْظِيمِ اللَّازِمِ شَرْعًا بَلْ لِإِيهَامِ التَّخْفِيفِ وَالِاسْتِهَانَةِ (فَإِنَّ الدَّاعِيَ لَمَّا ارْتَكَبَ الْمَعْصِيَةَ) الْمُوجِبَةَ لِسَخَطِ الرَّبِّ (لَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِجَابَةَ) زَجْرًا لَهُ لِأَنَّ مَنْ لَا يُجِيبُ لَا يُجَابُ (فَلَمْ تَكُنْ) الْإِجَابَةُ (سُنَّةً بَلْ) كَانَتْ (حَرَامًا) وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ضَرْبُ الدُّفِّ فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَالْقَوَافِلِ وَالْغَزْوِ لِأَنَّهُ مُرَخَّصٌ شَرْعًا كَمَا فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى وَمَا اُعْتِيدَ مِنْ ضَرْبِ الدُّفِّ فِي نَحْوِ الضِّيَافَاتِ وَاسْتِقْبَالِ نَحْوِ الْأُمَرَاءِ حَرَامٌ فَيَفْسُقُ الْمُبَاشِرُ وَالْآمِرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ جَوَازُهُ لِلصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ تَلَهٍّ (وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِمَاعُ لِأَنَّ الْمُسْتَمِعَ شَرِيكُ الْقَائِلِ) فِي الْإِثْمِ إلَّا بِعُذْرٍ (طب عَنْ ابْنِ عُمَرَ) (أَنَّهُ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْغِيبَةِ وَعَنْ الِاسْتِمَاعِ إلَى الْغِيبَةِ» لَا يَخْفَى أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي النُّصُوصِ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَ حُرْمَةِ بِوَاقِي الْمُحَرَّمَاتِ مَنْصُوصَةٌ بِنُصُوصٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَنَّ بِوَاقِيَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْبُهْتَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُلْحَقَةٌ بِذَلِكَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ [اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي آلَاتِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ بِلَا اضْطِرَارٍ] (وَمِنْهَا) اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي آلَاتِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ (بِلَا اضْطِرَارٍ) (كَذَلِكَ) الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ دِينِيٌّ أَوْ دُنْيَوِيٌّ (كَالتِّجَارَةِ) مِثَالٌ لِلدُّنْيَوِيِّ (وَالْغَزْوِ وَالْحَجِّ) مِثَالَانِ لِلدِّينِيَّةِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ الْأَمْثِلَةِ كَوْنَ الضَّرُورَةِ لِأَدَاءِ وَاجِبٍ وَقَدْ سَمِعْت قَرِيبًا مِنْ الْمُصَنِّفِ أَدَاءَ سُنَّةٍ أَيْضًا فَافْهَمْ (إذَا لَمْ يُمْكِنْ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا (إلَّا مَعَ اسْتِمَاعِ الْمَلَاهِي لَا يَضُرُّ) لَكِنْ لَا يَسْتَمِعُهَا بَلْ يَكْرَهُهَا وَلَا يَضُرُّ سَمَاعُهَا وَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَضَرَ مَعْصِيَةً فَكَرِهَهَا فَكَأَنَّمَا غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا فَكَأَنَّهُ حَضَرَهَا» وَعَنْ الْخَانِيَّةِ قَوْمٌ خَرَجُوا إلَى الْغَزْوِ وَفِيهِ قَوْمٌ مِنْ الْفَسَقَةِ وَأَصْحَابِ الْمَلَاهِي قَالُوا إنْ أَمْكَنَ لِلصُّلَحَاءِ أَنْ يَنْفَرِدُوا بِالْخُرُوجِ فَعَلُوا ذَلِكَ وَإِلَّا فَفِسْقُهُمْ عَلَيْهِمْ وَلِهَؤُلَاءِ خَالِصُ نِيَّاتِهِمْ (قَالَ قَاضِي خَانْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي مَعْصِيَةٌ» إذَا لَمْ يَكُنْ بِضَرُورَةٍ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الِاسْتِمَاعِ وَالسَّمَاعِ فَفِي الِاسْتِمَاعِ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا (وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجُلُوسَ فَوْقَ الِاسْتِمَاعِ فِي الْإِثْمِ وَلِذَا قَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ هُنَا بِالصَّغِيرَةِ (وَالتَّلَذُّذُ بِهَا مِنْ الْكُفْرِ إنَّمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ) أَيْ التَّلَذُّذُ بِهَا كُفْرٌ (عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ)

استماع الغناء بالاختيار

وَالتَّهْدِيدِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ أَوْ عَلَى كُفْرَانِ نِعَمِهِ إذْ صَرْفُ الْجَوَارِحِ إلَى غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لَهُ كُفْرٌ بِالنِّعْمَةِ لَعَلَّ وَجْهَ التَّشْدِيدِ إرَادَةُ الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ اللَّفْظِ وَلَا يُرِيدُهُ بَلْ يُرِيدُ مَعْنًى مَجَازِيًّا (وَإِنْ سَمِعَ بَغْتَةً فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَمْرٌ إيجَابِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ (وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ كُلَّ الْجُهْدِ) يَعْنِي يَصْرِفُ جُهْدَهُ وَوُسْعَهُ وَطَاقَتَهُ (حَتَّى لَا يَسْمَعَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنِهِ» انْتَهَى) [اسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ بِالِاخْتِيَارِ] (وَمِنْهَا اسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ بِالِاخْتِيَارِ) تَذَكَّرْ مَا قُلْنَا (وَقَالَ فِي التتارخانية التَّغَنِّي وَاسْتِمَاعُ الْغِنَاءِ حَرَامٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَبَالَغُوا فِيهِ) أَيْ فِي حُرْمَتِهِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ حُرْمَتَهُ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ التَّجْوِيزُ عَنْ بَعْضٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَمَا سَبَقَ قُلْنَا قَدْ أُشِيرَ أَيْضًا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْغِنَاءِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَغْنَى وَتَفْصِيلِهِ أَيْضًا فِي رِسَالَةِ عَلِيٍّ الْقَارِي مَا حَاصِلُهُ أَنَّ التَّغَنِّيَ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ مَا لَا يَكُونُ بِآلَةٍ مَعَ سَلَامَةِ الْقَوْلِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْمَلَامَةِ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ إبَاحَتُهُ وَهُوَ مُخْتَارُ الْقُشَيْرِيِّ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الِاتِّفَاقَ وَابْنُ حَزْمٍ ادَّعَى إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَيْهِ وَفِي النِّهَايَةِ أَيْضًا جَوَازُهُ وَعِنْدَ السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ لِدَفْعِ وَحْشَةٍ وَمُخْتَارُ عِزِّ الدِّينِ وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَبَدْرِ الدِّينِ وَقِيلَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ وَمُبَاحٌ فِي غَيْرِهِ وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ وَحَمَّادٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ مِنْ الْكَرَاهَةِ بَلْ عَدُوُّهُ مِنْ الذُّنُوبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَكُونُ مَقْرُونًا بِأَلْحَانِ الْفُسَّاقِ أَوْ بِالْآلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَالثَّانِي مَا يَكُونُ بِآلَةٍ كَالْأَوْتَارِ وَالْمَزَامِيرِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الضَّرْبَ وَاسْتِمَاعَهُ حَرَامٌ وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إبَاحَتُهُ وَكَذَا عَنْ شِرْذِمَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَعَنْ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ عَنْ الْأَرْبَعَةِ حُرْمَتُهُ وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ فَأَشَدُّ الْمَذَاهِبِ وَقَوْلُهُ أَغْلَظُ الْأَقْوَالِ وَصَرَّحَ أَصْحَابُهُ أَنَّ اسْتِمَاعَهُ فِسْقٌ وَالتَّلَذُّذَ بِهِ كُفْرٌ وَلَيْسَ بَعْدَ الْكُفْرِ غَايَةٌ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ الْفُسَّاقُ وَفِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَهْوٌ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ ثُمَّ قَالَ وَأَحْسَنُ الْأَقْسَامِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ أَبْيَاتًا بَدِيعَةً لِرَجُلٍ صَالِحٍ بِتَحْزِينٍ فَيَهِيجَ لَهُ بُكَاءً وَحُزْنًا عَلَى انْقِطَاعِهِ عَنْ بَابِ مَوْلَاهُ فَيَتَيَقَّظَ بِذَلِكَ مِنْ الْغَفْلَةِ فِي أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَلَوْ أَنَّهُ تَغَنَّى بِالْقُرْآنِ وَحَسَّنَ بِهِ صَوْتَهُ أَوْ سَمِعَهُ مُقْرِئٌ مَطْرُوبٌ ذُو قَلْبٍ مُنِيبٍ لَانْتَفَعَ بِهِ أَضْعَافَ مَا انْتَفَعَ بِالْأَشْعَارِ وَهَذَا سَمَاعُ الصَّحَابَةِ وَفِيهِمْ نَزَلَ - {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]- الثَّالِثُ مَا يُقَارَنُ بِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ حَرَامٌ وَمُخْتَارُ النَّوَوِيِّ وَعِنْدَ بَعْضٍ مُبَاحٌ وَمُخْتَارُ جَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ كَالرَّافِعِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَعَنْ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى مَنْعِهِ وَلَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى جَوَازِهِ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ فَمَنْ اجْتَهَدَ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى التَّحْرِيمِ قَالَ بِهِ وَمَنْ اجْتَهَدَ وَأَدَّاهُ إلَى الْجَوَازِ قَالَ بِهِ انْتَهَى ثُمَّ أَقُولُ الْأَسْلَمُ أَنْ يُرَادَ مِنْ كَلَامِ التتارخانية مَعْنًى مَجَازِيٌّ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ (وَفِي الْهِدَايَةِ أَنَّ) (الْمُغَنِّيَ لِلنَّاسِ) لَا لِنَفْسِهِ لِنَحْوِ الْوَحْشَةِ (لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ) (لِأَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَفِي التتارخانية أَيْضًا) قِيلَ عَنْ الْمِنَحِ عَنْ الْبَحْرِ أَنَّ الْمَذَاهِبَ حُرْمَةُ الْغِنَاءِ مُطْلَقًا وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ قَوْلِهِ إذَا أَوْصَى بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ وَذَكَرَ مِنْهَا الْوَصِيَّةَ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ خُصُوصًا إذَا كَانَ مِنْ الْمَرْأَةِ انْتَهَى قَالَ فَقَدْ ثَبَتَ نَصُّ الْمَذَاهِبِ عَلَى حُرْمَتِهِ فَانْقَطَعَ الِاخْتِلَافُ (وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي بَابِ السَّمَاعِ فِي زَمَانِنَا) وَإِنْ رُخِّصَ فِي زَمَانِ السَّلَفِ لِعَدَمِ

رفع الصوت عند قراءة القرآن والجنازة والزحف والتذكير

الْمَحْذُورِ فِي زَمَانِهِمْ (لِأَنَّ جُنَيْدًا) الَّذِي يُجَوِّزُهُ عِنْدَ شَرَائِطِهِ (تَابَ عَنْ السَّمَاعِ فِي زَمَانِهِ) وَفِي التتارخانية السَّمَاعُ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَعَنْ الذَّخِيرَةِ كَبِيرَةٌ وَالْإِبَاحَةُ إنَّمَا هِيَ لِمَنْ حَرَكَتُهُ غَيْرُ اخْتِيَارِيَّةٍ وَعَنْ الْعَوَارِفِ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْمَشَايِخِ لِأَنَّهُ يُشَابِهُ اللَّهْوَ وَأَمَّا السَّمَاعُ فِي نَحْوٍ الْقُرْآنِ وَالْمَوْعِظَةِ فَمُسْتَحَبٌّ وَأَمَّا الْغِنَاءُ فَحَرَامٌ إجْمَاعًا وَالْإِبَاحَةُ إنَّمَا هِيَ لِمَنْ تَخَلَّى عَنْ الْهَوَى وَتَحَلَّى بِالتَّقْوَى وَاحْتَاجَ إلَيْهِ احْتِيَاجَ الْمَرِيضِ إلَى الدَّوَاءِ ثُمَّ لَهُ رُخْصَةٌ وَلَهُ شَرَائِطُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ أَمْرَدُ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ فُسَّاقٌ أَوْ امْرَأَةٌ. الثَّالِثُ نِيَّةُ الْخُلُوصِ بِلَا أُجْرَةٍ وَطَعَامٍ الرَّابِعُ لَا يَقُومُونَ إلَّا مَغْلُوبِينَ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُظْهِرُوا الْوَجْدَ إلَّا صَادِقِينَ وَتَمَامُهُ فِي التتارخانية [رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْجِنَازَةِ وَالزَّحْفِ وَالتَّذْكِيرِ] (وَفِي الِاخْتِيَارِ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَرِهَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْجِنَازَةِ وَالزَّحْفِ وَالتَّذْكِيرِ» أَيْ الْوَعْظِ) وَفُسِّرَ بِالْوَعْظِ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَشْتَمِلَ نَحْوُ الذِّكْرِ بِنَحْوِ التَّهْلِيلِ (فَمَا ظَنُّك بِهِ) بِكَرَاهَتِهِ (عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ) أَيْ جَهَلَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ (وَجْدًا) وَهُوَ لَيْسَ بِوَجْدٍ فِي الْحَقِيقَةِ (انْتَهَى) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِهِ عِنْدَ الْوَجْدِ الْحَقِيقِيِّ وَفِي الْقُنْيَةِ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْوَعْظِ مَكْرُوهٌ (وَأَقْبَحُ التَّغَنِّي مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَقَدْ مَرَّ شَيْءٌ مِنْهُ فِي آفَات اللِّسَانِ) وَفِي قَاضِي خَانْ

استماع القرآن ممن يقرأ بلحن وخطإ بلا تجويد

رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ لَا يَدْعُو أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا» وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ» وَلِأَنَّ الْإِخْفَاءَ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ وَأَقْرَبُ إلَى الْخُضُوعِ وَالْأَدَبِ وَقَدْ صَحَّ أَثَرٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ قَوْمًا اجْتَمَعُوا فِي مَسْجِدٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَرَاحَ إلَيْهِمْ وَقَالَ مَا عَهِدْنَا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا أَرَاكُمْ إلَّا مُبْتَدَعِينَ فَمَا زَالَ يَذْكُرُ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَفِي كَبِيرِ الْحَلَبِيِّ الْجَهْرُ بِدْعَةٌ فِي الذِّكْرِ فَإِنْ قَالُوا بِجَوَازِ الْجَهْرِ بِمَا فِي نَحْوِ الْأَحْقَافِ قُلْت أَدْنَى دَرَجَةِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْهُ مَنْ ادَّعَى سُلُوكَ طَرِيقِ الْوَرَعِ كَمَا فِي ابْنِ الْمَلِكِ وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا» وَفِي آخِرِ رِسَالَةِ أَبِي مَسْعُودٍ الْجَهْرُ بِالذِّكْرِ جَائِزٌ وَلَكِنَّ الْإِخْفَاءَ أَفْضَلُ وَهُوَ مُرَادُ مُحَمَّدٍ بِمَا ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مِنْ كَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ عَارِضٌ فَيَكُونُ الْجَهْرُ أَفْضَلَ كَدَفْعِ الْكَسَلِ وَالنَّوْمِ وَالْخَوَاطِرِ وَحَثِّ الْغَيْرِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الذِّكْرَ وَالْقُرْآنَ وَالصَّدَقَةَ سَوَاءٌ حَقَّ الْجَهْرُ وَالْإِخْفَاءُ وَكَوْنُ الْأَصْلِ الْإِخْفَاءَ إنْ لَمْ يَعْرِضْ عَارِضٌ وَلَوْ ذَكَرْت دَلِيلَ جَوَازِ جَهْرِ الذِّكْرِ لَزَادَ عَلَى مِائَةٍ انْتَهَى أَقُولُ قَدْ حَرَّرْت رِسَالَةً فِي حَقِّ الْجَهْرِ فِي الذِّكْرِ فَمَنْ أَرَادَ تَفْصِيلَهُ فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِ حَاصِلُهُ اخْتِلَافُ الْجَوَازِ وَرُجْحَانُهُ وَعَدَمُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَغْرَاضِ [اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ مِمَّنْ يَقْرَأُ بِلَحْنٍ وَخَطَإٍ بِلَا تَجْوِيدٍ] (وَمِنْهَا) (اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ) وَكَذَا الْأَذْكَارُ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ وَسَيُشَارُ مِنْ الْمُصَنِّفِ (مِمَّنْ يَقْرَأُ بِلَحْنٍ وَخَطَإٍ بِلَا تَجْوِيدٍ) لَعَلَّ هَذَا بَيَانُ اللَّحْنِ وَالْخَطَإِ (فَعَلَيْهِ) أَيْ السَّامِعِ (النَّهْيُ إنْ ظَنَّ التَّأْثِيرَ) وَفِي الشَّكِّ يَتَخَيَّرُ (وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْقِيَامُ وَالذَّهَابُ) وَلَوْ اكْتَفَى بِالذَّهَابِ لَكَانَ أَخْصَرَ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي الرَّدِّ (إنْ قَدَرَ بِلَا ضَرَرٍ) لِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ غَيْرِهِ {فَلا تَقْعُدْ} [الأنعام: 68] هَذَا قِيَاسٌ وَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ {بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] وَهَذَانِ أَيْ التَّغَنِّي فِي الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَاسْتِمَاعُ مَنْ يَقْرَأُ بِلَحْنٍ (وَإِنْ دَخَلَا فِي الْآفَةِ الْأُولَى) أَيْ اسْتِمَاعِ مَا لَا يَجُوزُ الْكَلَامُ بِهِ (صَرَّحْنَا بِهِمَا لِكَثْرَةِ الِابْتِلَاءِ بِهِمَا مَعَ اعْتِقَادِ الْجَوَازِ) بَلْ مَعَ اعْتِقَادِ الثَّوَابِ (وَأَشْبَهُهُمْ) أَيْ أَقْرَبُهُمْ شَبَهًا إلَى الْحَقِّ (مَنْ يَقُولُ الْإِثْمُ عَلَى الْقَارِئِ لَا عَلَى السَّامِعِ وَمِنْهَا اسْتِمَاعُ كَلَامِ شَابَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ) فَلَا بَأْسَ مَعَ الْحَاجَةِ بَلْ قَدْ يَجِبُ (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا كُتِبَ) فِي الْأَزَلِ أَوْ اللَّوْحِ أَيْ قُضِيَ وَعُيِّنَ «عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا» أَيْ مُقَدَّمَاتِهِ مِنْ النَّظَرِ الْحَرَامِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْبَطْشِ وَالتَّخَطِّي وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَالِاشْتِهَاءِ لَهُ

استماع حديث قوم يكرهونه

«مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ» أَيْ أَلْبَتَّةَ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَدَمُ نَفْعِ الْفِرَارِ مِنْ الزِّنَا حِينَئِذٍ فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ الْمَقْضِيِّ وَيَلْزَمُ كَوْنُ التَّكْلِيفِ بِالْفِرَارِ مِنْهُ عَبَثًا وَأَنْ لَا يُعَذَّبَ بِإِتْيَانِهِ لِكَوْنِهِ اضْطِرَارِيًّا فَقَدْ اسْتَوْفَى فِي الْكَلَامِيَّةِ حَاصِلُهُ أَنَّ الْقَضَاءَ كَالْإِرَادَةِ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ وَالْعِلْمَ لِلْمَعْلُومِ، وَالْمَعْلُومُ إنَّمَا يَصْدُرُ بِالِاخْتِيَارِ نَعَمْ فِيهِ نَوْعُ جَبْرٍ وَلَكِنْ قَالُوا مَا مِنْ مَذْهَبٍ إلَّا فِيهِ قَدَمٌ رَاسِخٌ مِنْ الْجَبْرِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ مَرَّ بَيْنَهُمَا وَقَدْ سَبَقَ «فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا» تَفْصِيلٌ لِلزِّنَى «النَّظَرُ» لِمَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ لَكِنْ فِيهِ تَأَمُّلٌ «وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ» لِمَا يَحْرُمُ التَّكَلُّمُ بِهِ فَيَدْخُلُ التَّغَنِّي وَاللَّحْنُ وَالْكَذِبُ وَالْغِيبَةُ وَالْأَشْبَهُ اسْتِمَاعُ كَلَامِ شَابَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بِلَا ضَرُورَةٍ «وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ» ظَاهِرُهُ مُطْلَقُ آفَاتِ اللِّسَانِ لَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَيْضًا الْكَلَامُ مَعَ الشَّابَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ «وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ» أَيْ بَطْشُ عُضْوٍ مِنْهَا أَيْ مِنْ أَعْضَائِهَا بِلَا ضَرُورَةٍ أَوْ مُطْلَقُ مَا لَا يَجُوزُ بَطْشُهُ «وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَى» بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مَقْصُورًا جَمْعُ خُطْوَةٍ بِضَمٍّ وَسُكُونٍ يَعْنِي زِنَاهَا الْمَشْيُ إلَى مَا فِيهِ زِنًا أَوْ إلَى مُطْلَقِ مَا لَا يَجُوزُ مَشْيُهُ إلَيْهِ لَكِنْ عَرَفْت الْأَشْبَهَ وَالْأَقْرَبَ «وَالْقَلْبُ يَهْوَى» ذَلِكَ الْقَبِيحَ «وَيَتَمَنَّى» قِيلَ إنَّمَا غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ إشَارَةً لِي أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْقَلْبِ مُجَرَّدُ التَّمَنِّي وَالْهَوَى لَا الزِّنَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُجَرَّدُ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ بِدُونِ مَا ذُكِرَ مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا وَلَا يَكُونُ زِنًا كَمَا يَكُونُ النَّظَرُ وَالِاسْتِمَاعُ أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ التَّغْيِيرِ مَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِيمَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ «وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ» أَيْ مَا يَتَمَنَّاهُ الْقَلْبُ «الْفَرْجُ» بِأَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ الزِّنَا «أَوْ يُكَذِّبُهُ» بِعَدَمِ صُدُورِهِ مِنْهُ قِيلَ هَذَا لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ فَإِنَّ الْخَوَاصَّ مَعْصُومُونَ مِنْ الزِّنَا وَمُقَدَّمَاتِهِ أَقُولُ يَرُدُّ عَلَيْهِ صَدْرُ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ [اسْتِمَاعُ حَدِيثِ قَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ] (وَمِنْهَا) (اسْتِمَاعُ حَدِيثِ قَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ) (إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي قَصْدِ إضْرَارِهِ) لِنَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَيَجُوزُ (وَقَدْ مَرَّ حَدِيثُ " خ " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلُمٍ» بِضَمَّتَيْنِ الرُّؤْيَا وَتَحَلَّمَ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ حُلُمًا «لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَمْ يَفْعَلْ» لِعَدَمِ إمْكَانِهِ فَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة: 23] د - «وَمَنْ اسْتَمَعَ إلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» أَيْ يَكْرَهُونَ اسْتِمَاعَهُ «صُبَّ» مَجْهُولٌ مَاضٍ ( «فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ» وَهُوَ الْأُسْرُبُّ وَقِيلَ هُوَ الرَّصَاصُ الْأَبْيَضُ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ لِلْأُذُنِ نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ لَهَا لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ثُمَّ جُمْلَةُ صُبَّ إخْبَارٌ عَمَّا سَيَقَعُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَصْلُ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَمِعُ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ لِدَفْعِ الْفَسَادِ أَوْ لِاحْتِرَازِ الشَّرِّ أَوْ لِلنَّصِيحَةِ جَائِزٌ بَلْ قَدْ يَجِبُ

من صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة

[مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ] (وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ) أَيْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ قَبِيلِ قَدْ أَفْلَحَ لِأَنَّ شَأْنَ عَذَابِ الْعُصَاةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِأَنَّ الْقَيْدَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَعْطُوفِ (وَلَيْسَ بِنَافِخٍ) لَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْفُخَ الرُّوحَ فِي الصُّورَةِ لِعَدَمِ وُسْعِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ تَعَالَى وَفِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ إنَّ الْوَعِيدَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ الْقَتْلِ لِأَنَّ وَعِيدَهُ بِالْخُلُودِ، وَالْخُلُودُ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَأَمَّا هَذَا فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ النَّفْخُ أَبَدًا كَانَ هَذَا الْعَذَابُ أَبَدًا فَيُؤَوَّلُ إمَّا بِالِاسْتِحْلَالِ أَوْ بِالِاسْتِحْقَاقِ الْمُؤَبَّدِ. أَقُولُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَرَّرَ فِي الْكَلَامِيَّة أَنَّ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ وَاحِدٌ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الْخُلُودِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُلُودُ بِمَعْنَى التَّأَبُّدِ وَأَيْضًا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إمْكَانِ النَّفْخِ تَأَبُّدُ الْعَذَابِ بَلْ ظَاهِرُ عُذِّبَ وَكُلِّفَ الدَّلَالَةُ عَلَى الِانْقِطَاعِ لَا الِاسْتِمْرَارِ الدَّائِمِيِّ وَأَيْضًا قَوْلُهُ أَوْ بِالِاسْتِحْقَاقِ الْمُؤَبَّدِ يَقْتَضِي كَوْنَ التَّصْوِيرِ كُفْرًا إذْ اسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِي إنَّمَا هُوَ بِالْكُفْرِ فَافْهَمْ (وَكُلُّ هَذِهِ) الْمَذْكُورَاتِ (آفَاتُ الْأُذُنِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِمَاعُ. وَأَمَّا آفَاتُهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ) عَنْ الِاسْتِمَاعِ (فَكَعَدِمِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْخُطْبَةِ وَخِطَابِ الْمَتْبُوعِ) لِتَابِعِهِ (كَخِطَابِ الْأَمِيرِ وَالْقَاضِي) لِمَنْ تَحْتَ حُكْمِهِمَا (وَالْوَالِدَيْنِ) لِلْوَلَدِ مَا دَامَ الْخِطَابُ بِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ وَإِلَّا فَلَا مَعْصِيَةَ لِلْخَالِقِ لِأَجْلِ الْمَخْلُوقِ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِالطَّاعَةِ لِمَنْ لَهُ الْأَمْرُ إنْ وَافَقَ الشَّرْعَ وَكَذَا فِيمَا ذُكِرَ بَعْدَ هَذَا (وَالْأُسْتَاذُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فِي الْعِلْمِ وَبِالْمُهْمَلَةِ فِي الصَّنَائِعِ كَمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الْكَمَالِ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ وَقِيلَ بِعَدَمِ الْفَرْقِ (وَالْمُحْتَسِبُ) مَنْ نَصَبَهُ الْأَمِيرُ لِأَجْلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ (وَالْمُعْتَذِرُ) الظَّاهِرُ مَنْ يُرِيدُ الِاعْتِذَارَ عَمَّا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْقُصُورِ (وَالزَّوْجُ) لِأَنَّ الزَّوْجَ سُلْطَانُ زَوْجَتِهِ (وَالسَّيِّدُ) (وَكَعَدِمِ اسْتِمَاعِ الْقَاضِي كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا) بِأَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ نَحْوُ اسْتِمَاعِ دَعْوَى الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا الْعُقَلَاءُ كَسِمْسِمَةٍ (وَالْمُفْتِي كَلَامَ الْمُسْتَفْتِي) . فِي التتارخانية وَمِنْ شَرَائِطِ الْفَتْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي حَافِظًا لِلتَّرْتِيبِ وَالْعَدْلُ بَيْنَ الْمُسْتَفْتِينَ لَا يَمِيلُ إلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَعْوَانِ السُّلْطَانِ بَلْ يَكْتُبُ جَوَابَ مَنْ سَبَقَ (وَ) عَدَمُ اسْتِمَاعِ (أُولِي الْأَمْرِ شَكْوَى الْمَظْلُومِ) فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ اسْتِمَاعُ شِكَايَةِ الْمَظْلُومِ لِيَدْفَعَ عَنْهُمْ ظُلْمَ الظَّالِمِينَ بِإِحْقَاقِ حُقُوقِهِمْ فَإِنَّمَا لَا يَرُدُّهُ، وَإِلَّا فَيَحُدُّهُمْ أَوْ يُعَزِّرُهُمْ أَوْ يَقُودُهُمْ وَهَكَذَا فَإِنَّ مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ الْقُرْآنُ (وَالْمَسْئُولُ مِنْهُ كَلَامُ السَّائِلِ الْمُضْطَرِّ) الَّذِي لَيْسَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَهُ عَجْزٌ عَنْ الْكَسْبِ مَثَلًا (وَالْكُبَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ كَلَامُ الضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ) الْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي (اسْتِكْبَارًا وَاسْتِحْقَارًا) الظَّاهِرُ عِلَّةٌ لِمَجْمُوعِهَا وَقِيلَ عَلَى اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ أَيْضًا (وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ اسْتِمَاعُهُ أَوْ يُسَنُّ كَالْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ) . [الصِّنْفُ الرَّابِعُ فِي آفَاتِ الْعَيْنِ] (الصِّنْفُ الرَّابِعُ فِي آفَاتِ الْعَيْنِ اعْلَمْ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ) كَفَّ الْبَصَرِ وَحِفْظَهُ مِنْ الْحُرُمَاتِ (مَأْمُورٌ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى)

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وَمَفْعُولُ قُلْ أَمْرٌ آخَرُ أَيْ قُلْ لَهُمْ غُضُّوا يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ كَمَا نُقِلَ عَنْ تَفْسِيرِ أَبِي السُّعُودِ وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ إذْ بَعْضٌ مِنْ النَّظَرِ كَالْمَحَارِمِ وَمَا مَسَّتْهُ الْحَاجَةُ الضَّرُورِيَّةُ جَائِزٌ وَعَنْ بَعْضِ مِنْ صِلَةٌ زَائِدَةٌ أَيْ يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ كَمَا فِي النِّصَابِ لَكِنْ يَرِدُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَلَا حُجَّةَ لِلْبَوَاقِي فَتَأَمَّلْ فِي ذَيْلِ الْآيَاتِ وَآخِرُ الْآيَةِ {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] مِنْ الزِّنَا فِي عَدَمِ إدْخَالِ كَلِمَةِ مِنْ هُنَا دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ رُخْصَةِ الزِّنَا بِوَجْهٍ مَا {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] وَأَطْهَرُ فِي قُلُوبِهِمْ {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] مِنْ نَظَرِ الْمُحَرَّمَاتِ فَيُجَازِيكُمْ بِالْعَذَابِ أَوْ كَفِّهِ فَيُجَازِيكُمْ بِالثَّوَابِ إلَى أَنْ يَكُونَ تَرْكُ ذَرَّةٍ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ خَيْرًا مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ التَّشَهِّي وَالْفُرْصَةِ. قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] لَعَلَّك سَمِعْت قِصَّةَ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيهَا {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] عَنْ النَّظَرِ إلَى الْحَرَامِ {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] أَيْ حُلِيَّهُنَّ كَالسِّوَارِ وَالْقِلَادَةِ بَلْ الْأَثْوَابِ أَوْ مَوَاضِعِ زِينَتِهِنَّ أَيْ أَنْفُسِهِنَّ أَوْ بِطَرِيقِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ مُبَالَغَةً عَنْ التَّحَفُّظِ {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] مِنْ الزِّينَةِ الَّتِي لَا تُسْتَرُ غَالِبًا كَالثِّيَابِ وَالْخَاتَمِ لِمَا فِي نَحْوِهِمَا مِنْ الْحَرَجِ أَوْ الْمُرَادِ مَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْمُجَوِّزَةِ لِنَظَرِ الْأَجَانِبِ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] أَيْ أَزْوَاجِهِنَّ {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} [النور: 31] قِيلَ لَمْ يَذْكُرْ الْأَعْمَامَ وَالْأَخْوَالَ لِئَلَّا يَصِفَهَا الْعَمُّ وَالْخَالُ عِنْدَ ابْنِهِمَا إلَى قَوْلِهِ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] فَفِيهِ) أَيْ فِي قَوْله تَعَالَى الْمَذْكُورِ (تَأْدِيبٌ وَإِيجَابُ بَعْضِ غَضِّ الْبَصَرِ) لَا يَخْفَى أَنَّ التَّأْدِيبَ مَعْنًى مَجَازِيٌّ وَالْإِيجَابَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَأَيْضًا

قَوْلُهُ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 30] إلَى آخِرِهِ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ وَقُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّا الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ لَيْسَ بِالْحَقِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ» فَتَأَمَّلْ حَتَّى يَظْهَرَ الْجَوَابُ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ بَعْضِيَّةَ غَضِّ الْبَصَرِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كَوْنِ كَلِمَةِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ أَقُولُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْقُبْهَا الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ دَلَّتْ بِعِبَارَتِهَا عَلَى النِّسْوَانِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ دَلَالَتُهَا عَلَى الرِّجَالِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ التَّبْعِيضِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ الِاسْتِثْنَاءُ وَحَمْلُ اسْتِفَادَةِ التَّبْعِيضِ عَلَى مَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بَعِيدٌ بِالنَّظَرِ إلَى السَّوْقِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِ الْمُقَامِ فَتَأَمَّلْ جِدًّا أَيْضًا (أَعْنِي مَا كَانَ نَحْوَ الْمُحَرَّمِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَائِدَةِ الْغَضِّ وَهِيَ التَّزْكِيَةُ وَالطَّهَارَةُ) مِنْ قَوْلِهِ {أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] (لِلْقُلُوبِ) إذْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمِ يَتَحَصَّلُ تَشَهٍّ وَمَيْلٌ وَتَرَقُّبُ فُرْصَةِ مَعْصِيَةٍ فِي الْقَلْبِ (أَوْ تَكْثِيرُ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ) عَلَى أَحَدِ احْتِمَالِ قَوْلِهِ {أَزْكَى} [النور: 30] . وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ {ذَلِكَ أَزْكَى} [النور: 30] عِلَّةً لِلنَّهْيِ فَتَكُونَ مِنْ النُّصُوصِ الْمُعَلِّلَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ (إذْ بِالنَّظَرِ) إلَى الْمُحَرَّمِ (تَحْصُلُ خَوَاطِرُ تَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) بَلْ خَوَاطِرُ تُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ كَالنِّيَّةِ الْمُصَمِّمَةِ عَلَى فِعْلِ الْفَسَادِ (وَيَفُوتُ حُضُورُ الْقَلْبِ وَجَمْعِيَّةُ الْخَاطِرِ) عَلَيْهِ لِاشْتِغَالِهِ بِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ النَّظَرِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36]- لَعَلَّ الْمُرَادَ بِحُضُورِ الْقَلْبِ وَجَمْعِيَّةِ الْخَاطِرِ هُوَ الِاسْتِغْرَاقُ فِي مُلَاحَظَةِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ تَعَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْمُحَاسَبَةُ وَالْمُرَاقَبَةُ الْمُشَارُ إلَيْهِمَا فِيمَا مَرَّ قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ اعْلَمْ أَنَّ التَّاجِرَ يَسْتَعِينُ بِشَرِيكِهِ فَيُشَارِطُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُرَاقِبُهُ ثَانِيًا ثُمَّ يُحَاسِبُهُ ثَالِثًا ثُمَّ يُعَاقِبُهُ رَابِعًا كَذَلِكَ الْعَقْلُ هُوَ التَّاجِرُ فِي مَتَاعِ الْآخِرَةِ وَشَرِيكُهُ النَّفْسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَاسِبَهَا الْآنَ، كُلُّ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِ الْعُمْرِ جَوْهَرَةٌ نَفْسِيَّةٌ لَا عِوَضَ لَهَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا كُنُوزًا لَا تَتَنَاهَى أَبَدَ الْآبَادِ فَيَقُولَ فِي صَبِيحَةِ كُلِّ يَوْمٍ مَالِي بِضَاعَةٌ إلَّا الْعُمْرُ فَمَهْمَا فُقِدَ فَنِيَ رَأْسُ الْمَالِ وَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ التِّجَارَةِ وَهَذَا الْيَوْمُ الْجَدِيدُ قَدْ أَمْهَلَنِي اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَأَنْسَأَ لِي أَجْلَى وَلَوْ تَوَفَّانِي لَكُنْت أَتَمَنَّى أَنْ يُرْجِعَنِي إلَى الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا أَعْمَلُ فِيهِ صَالِحًا فَإِيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ أَنْ تُضَيِّعَ هَذَا الْيَوْمَ فَإِنَّ كُلَّ نَفَسٍ جَوْهَرَةٌ لَا قِيمَةَ لَهَا، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ وَصِيَّةً فِي أَعْضَائِهِ السَّبْعَةِ وَيُسَلِّمُهَا إلَيْهَا فَإِنَّهَا رَعَايَا خَادِمَةٌ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ صَارَتْ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ لِجَهَنَّمَ أَمَّا الْعَيْنُ فَيَحْفَظُهَا عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ عَنْ الْفُضُولِ فَإِنَّهَا مَسْئُولَةٌ عَنْ فُضُولِ كُلِّ كَلَامٍ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِصَرْفِهَا إلَى مَا خُلِقَتْ هِيَ لَهُ وَكَذَا سَائِرُ السَّبْعَةِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُرَاقَبَةِ مُرَاعَاةُ الْقَلْبِ لِلرَّقِيبِ وَاشْتِغَالُهُ بِهِ وَالْتِفَاتُهُ إلَيْهِ وَلَا يَتِمُّ هَذَا إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى الضَّمَائِرِ عَالِمٌ بِالسَّرَائِرِ رَقِيبٌ بِالْأَعْمَالِ وَإِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْقَلْبِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ مَالَتْ إلَى جَانِبِ مُلَاحَظَتِهِ، وَالْمُوَافِقُونَ لِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ هُمْ الْمُقَرَّبُونَ الْمُنْقَسِمُونَ إلَى الصِّدِّيقِينَ وَإِلَى صَاحِبِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا مُرَاقَبَةُ الصِّدِّيقِينَ فَهِيَ مُرَاقَبَةُ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ قَلْبُهُ فِي مُلَاحَظَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَيَصِيرَ مُنْكَسِرًا تَحْتَ الْهَيْبَةِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ مُتَّسَعٌ لِلْغَيْرِ أَصْلًا وَتَبْقَى جَوَارِحُهُ مُتَعَطِّلَةً عَنْ الْمُنَاجَاةِ فَضْلًا عَنْ الْمَحْظُورَاتِ وَمِثْلُ هَذَا يَغْفُلُ عَنْ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ حَتَّى لَا يُبْصِرُ مَنْ عِنْدَهُ وَعَيْنُهُ نَاظِرَةٌ إلَيْهِ وَلَا يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَلَيْسَ بِهِ صَمَمٌ وَقَدْ يَمُرُّ عَلَى ابْنِهِ وَلَا يُكَلِّمُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِمَنْ عَاتَبَهُ عَلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إذَا مَرَرْت بِي فَحَرِّكْنِي وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى مُرَاقَبَةِ لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ إذْ لَا يَتَحَرَّك إلَّا بِمَا هُوَ فِيهِ وَأَمَّا مُرَاقَبَةُ الْوَرِعِينَ وَهُمْ قَوْمٌ غَلَبَتْ مُطَالَعَةُ جَمَالِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَظَوَاهِرِهِمْ وَلَكِنْ لَمْ يُدْهِشْهُمْ ذَلِكَ بَلْ بَقِيَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ مُمَارَسَةِ الْأَعْمَالِ وَالْمُرَاقَبَةِ بِغَلَبَةِ الْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَيَثْبُتُ فِيهِ فَيَفِرُّ مِنْ الْفَضِيحَةِ فِي الْقِيَامَةِ (وَتَدْعُوك إلَى أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ وَيَجِدُ الشَّيْطَانُ حِينَئِذٍ فُرْصَةً) إذْ هُوَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ يَصِيدُ بِهِ عِبَادَهُ (وَطَرِيقًا إلَى الْإِضْلَالِ وَيَمْلَأُ

الصُّدُورَ بِالْوَسْوَاسِ فَيَفْتَحُ أَبْوَابَ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي وَتَهْدِيدٌ) عَطْفٌ عَلَى تَأْدِيبٍ أَقُولُ إنَّهُ تَهْدِيدٌ مِنْ حَيْثُ الْإِتْيَانُ وَوَعْدٌ وَتَرْغِيبٌ مِنْ حَيْثُ التَّرْكُ وَالْإِعْرَاضِ كَمَا عَرَفْت مِرَارًا (بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) فَيُجَازِي عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] مِمَّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ (وَكَفَى بِهَذَا) الْقَوْلِ مِنْ الْآيَةِ (تَحْذِيرًا طب حك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ) أَيْ سُمٌّ قَاتِلٌ (مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي أَبْدَلْته إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ) » . وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النَّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَجْهُ الْمَرْأَةِ الْحَسْنَاءِ، وَالْخُضْرَةُ كَالزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَالثِّيَابِ يَزِيدَانِ الْبَصَرَ» أَمَّا زِيَادَةُ قُوَّةِ الْبَصَرِ بِبَهْجَةِ جَمَالِ الْخُضْرَةِ وَحُسْنِ الْمَرْأَةِ وَأَمَّا زِيَادَةُ قُوَّةِ بَصِيرَتِهِ بِالِاعْتِبَارِ بِخُضْرَةٍ نَحْوَ الثِّيَابِ وَحَيَاةِ الْأَرْضِ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَكَذَا نَظَرُهُ إلَى جَمَالِ الْمَرْأَةِ يُقَوِّي بَصِيرَةَ هُدَاهُ فَالْمُرَادُ مِنْ النَّظَرِ حَلَائِلُهُ وَإِلَّا فَالْأَجْنَبِيَّةُ تَظْلِمُ الْبَصَرَ وَالْبَصِيرَةَ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ فِي الْجَامِعِ لَكِنْ قِيلَ بَاطِلٌ ضَعِيفٌ وَقِيلَ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ وَكَذَا حَدِيثُ الْجَامِعِ «ثَلَاثَةٌ يُجْلِينَ الْبَصَرَ النَّظْرَةُ إلَى الْخُضْرَةِ وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي وَإِلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ» . وَكَذَا حَدِيثُ «ثَلَاثَةٌ يَزِدْنَ فِي قُوَّةِ الْبَصَرِ الْكُحْلُ بِالْإِثْمِدِ وَالنَّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ وَالنَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ» عَلَى مَا سَبَقَ قَالَ السَّخَاوِيُّ كَانَ النَّسَائِيّ يَلْبَسُ الْأَخْضَرَ مِنْ الثِّيَابِ وَيَقُولُ إنَّ الْأَخْضَرَ مِمَّا يَزِيدُ قُوَّةَ الْبَصَرِ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْت عَلَى الْمَأْمُونِ وَالْعَبَّاسُ ابْنُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا فَجَعَلْت أَتَأَمَّلُهُ فَزَجَرَنِي الْمَأْمُونُ قُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ «النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْمَلِيحِ يَجْلُو الْبَصَرَ» وَإِنَّ فِي بَصَرِي ضَعْفًا أَرَدْت إنْ أَجْلُوَهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ. (حَدّ هق عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ» الظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْيِيدَ عَلَى مَخْرَجِ الْعَادَةِ وَالْأَغْلَبِ «ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْهَا) خَوْفًا مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى» لَا يُتَوَهَّمُ مِنْ كَلِمَةِ ثُمَّ الْإِمْهَالُ وَالتَّرَاخِي فَإِنَّ الْفَوْرَ فِي الْغَضِّ وَالْإِعْرَاضِ لَازِمٌ لَعَلَّ فِي الْإِتْيَانِ بِكَلِمَةِ ثُمَّ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْغَضَّ وَلَوْ كَانَ فَوْرًا فَهُوَ كَالتَّرَاخِي أَوْ لِبَعْضِ الْغَضِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَوَامّ كَمُتَّبِعِ الْهَوَى أَوْ إيذَانًا عَلَى اسْتِبْعَادِ ثَوَابِهِ لِغَايَةِ كَثْرَتِهِ «إلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عِبَادَةً» كَثِيرَةً بِإِعَانَةِ السَّوْقِ «يَجِدُ حَلَاوَتَهَا فِي قَلْبِهِ» لِخُلُوِّ الْقَلْبِ عَنْ الشَّوَاغِلِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ النَّظَرِ أَوَّلًا فَلَعَلَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِيٍّ بَلْ اتِّفَاقِيٍّ فَمَعْفُوٌّ كَمَا قَالُوا الْأَوَّلُ لَك وَالثَّانِي عَلَيْك ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّمَا ذُكِرَ بَعْضُ ثَوَابِهِ وَإِلَّا فَقَدْ سَمِعْت مِرَارًا حَدِيثَ «تَرْكُ ذَرَّةٍ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ الَّتِي أَحْدَثَهَا اللَّهُ لِذَلِكَ الْغَضِّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي غَايَةِ كَثْرَةٍ كَمًّا أَوْ فِي غَايَةِ قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ كَيْفًا إلَى أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانَ فَإِنَّ قَهْرَ النَّفْسِ وَمُخَالَفَةَ هَوَاهَا حَسَنَةٌ عَظِيمَةٌ (صف) أَصْفَهَانِيٌّ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ» لِعَذَابِهِ تَعَالَى وَعُقُوبَتِهِ إيَّاهَا لِنَظَرِهَا نَحْوَ الْمُحَرَّمِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَالْمُخَصِّصُ هُوَ الشَّرْعُ فَالظَّاهِرُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ فَعَلَى هَذَا وَإِنْ دُفِعَ مَحْذُورٌ لَكِنْ اُتُّجِهَ آخَرُ فَتَأَمَّلْ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ» كَالِاجْتِنَابِ لَا سِيَّمَا الشَّابَّاتُ وَالْأَمْرَدُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْحَقَ بِنَحْوِهِ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الظَّلَمَةِ وَمَا بَنَوْا بِالظُّلْمِ مِنْ الْأَبْنِيَةِ وَقَدْ سَبَقَ عَنْ قَمْعِ النُّفُوسِ أَنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الظَّلَمَةِ يُبْطِلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَكَيْفَ بِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُجَالِسُهُمْ أَوْ يُؤَاكِلُهُمْ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ مِمَّا حَلَّ بِالْخَلْقِ مِنْ تَلْبِيسِ هَذَيْنِ الْخَبِيثَيْنِ انْتَهَى

«وَعَيْنًا سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» لِحِفْظِ الْجَيْشِ أَوْ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَعُمَّ السَّبِيلُ لِنَحْوٍ مِنْ سَهَرٍ لِإِحْيَاءِ اللَّيَالِيِ لِنَاشِئَةِ اللَّيْلِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا لَا سِيَّمَا لِلتَّهَجُّدِ «وَعَيْنًا خَرَجَ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ) مِنْ الدُّمُوعِ (مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَلَا تَبْكِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بُكَاءَ حُزْنٍ بَلْ بُكَاءَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ لِمَا تَرَى مِنْ عَظِيمِ إكْرَامِ اللَّهِ لَهَا وَعَظِيمِ ثَوَابِهِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهَذَا الْحَدِيثِ رَاجِعٌ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَنَا كَيْفَ وَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَالْقَوْلُ إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ يَجْعَلُ النِّزَاعَ لَفْظِيًّا وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَيْنَ الَّتِي لَا تَغُضُّ بَاقِيَةٌ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَتَكُونُ بَاكِيَةً (طب عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جُنَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ لَا تَرَى أَعْيُنُهُمْ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَشَارَ إلَى شِدَّةِ إبْعَادِهِمْ عَنْ النَّارِ وَمَنْ بَعُدَ عَنْهَا قَرُبَ مِنْ الْجَنَّةِ «عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أَيْ الْجِهَادِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الرِّبَاطُ «وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» الْمُرَادُ خَوْفٌ يُسَكِّنُ الْقَلْبَ حَتَّى تَدْمَعَ مِنْهُ الْعَيْنُ قَهْرًا وَيَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنْ مُقَارَنَةِ الذُّنُوبِ وَيَحُثُّهُ عَلَى مُلَازَمَةِ الطَّاعَاتِ فَهَذَا هُوَ الْبُكَاءُ الْمَقْصُودُ وَهَذِهِ هِيَ الْخَشْيَةُ الْمَطْلُوبَةُ لَا خَشْيَةُ الْحُمَقَاءِ الَّذِينَ إذَا سَمِعُوا مَا يَقْتَضِي الْخَوْفَ لَمْ يَزِيدُوا عَنْ أَنْ يَبْكُوا وَيَقُولُوا يَا رَبِّ سَلِّمْ نَعُوذُ بِاَللَّهِ وَمَعَ ذَلِكَ يُصِرُّونَ عَلَى الْقَبَائِحِ وَالشَّيْطَانُ يَسْخَرُ بِهِمْ كَمَا تَسْخَرُ أَنْتَ مِمَّنْ رَأَيْته وَقَدْ قَصَدَهُ سَبُعٌ ضَارٍ وَهُوَ إلَى جَانِبِ حِصْنٍ مَنِيعٍ بَابُهُ مَفْتُوحٌ إلَيْهِ فَلَمْ يَدْخُلْ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى رَبِّ سَلِّمْ حَتَّى جَاءَ السَّبُعُ فَأَكَلَهُ «وَعَيْنٌ كَفَّتْ» بِالتَّشْدِيدِ أَيْ حَفِظَتْ وَأَطْرَقَتْ «عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ» أَيْ النَّظَرِ إلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَمْرَدِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ (م عَنْ «جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ» بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ «فَقَالَ اصْرِفْ بَصَرَك» عَنْ النَّظَرِ «وَلَا تَدُمْ عَلَيْهِ» فَإِنَّ الْأَوَّلَ اضْطِرَارِيٌّ مَعْفُوٌّ وَالثَّانِيَ اخْتِيَارِيٌّ مُؤَاخَذٌ قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَالْغَضُّ يُوجِبُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا عَوَّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا مِنْهُ وَمَنْ أَطْلَقَ لَحَظَاتِهِ دَامَتْ حَسَرَاتُهُ فَإِنَّ النَّظَرَ يُوَلِّدُ الْحُبَّ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ يَقْوَى فَيَصِيرُ صَبَابَةً تَنْصِبُ إلَيْهِ الْحُبَّ بِكُلِّيَّتِهَا فَيَصِيرُ غَرَامًا يَلْزَمُ الْقَلْبَ كَلُزُومِ الْغَرِيمِ ثُمَّ يَقْوَى فَيَصِيرُ عِشْقًا وَهُوَ الْحُبُّ الْمُفْرِطُ ثُمَّ يَقْوَى فَيَصِيرُ شَغَفًا وَهُوَ الْحُبُّ الْوَاصِلُ إلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ ثُمَّ يَقْوَى فَيَصِيرُ تَتَيُّمًا وَالتَّتَيُّمُ التَّعَبُّدُ فَيَصِيرُ الْمُتَيَّمُ عَبْدًا إلَى مَنْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ فَيَقَعُ الْقَلْبُ فِي الْأَسْرِ فَيَصِيرُ أَسِيرًا بَعْدَمَا كَانَ أَمِيرًا وَمَسْجُونًا بَعْدَمَا كَانَ مُطْلَقًا قِيلَ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا فِي الطَّرِيقِ وَلَا عَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ إلَّا لِحَاجَةٍ كَشَهَادَةٍ وَتَطْبِيبٍ وَمُعَامَلَةٍ وَلَا يُنَافِيهِ نَقْلُ الْإِمَامِ الِاتِّفَاقَ عَلَى مَنْعِهِنَّ مِنْ الْخُرُوجِ سَافِرَاتٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوُجُوبِ السَّتْرِ عَلَيْهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَشَفَتْهُ لِعُذْرٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ (دت عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ» أَيْ النَّظْرَةَ الْأُخْرَى بَعْدَ الْأُولَى وَأَمَّا قَاعِدَةُ الْمَعَادِ الْمُعَرَّفِ عَيْنُ الْأَوَّلِ فَأَصْلٌ قَدْ يُعْدَلُ عَنْهُ «فَإِنَّ لَك الْأُولَى» يَعْنِي لَا تُؤَاخَذُ بِهَا لِعَدَمِ كَوْنِهَا اخْتِيَارِيَّةً وَالتَّكْلِيفُ عَلَى الِاخْتِيَارِيَّةِ «وَلَيْسَتْ لَك» لِنَفْعِك «الثَّانِيَةُ» بَلْ هِيَ عَلَى ضُرِّك لِأَنَّهَا مُؤَثِّمَةٌ لِكَوْنِهَا مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ (ثُمَّ) أَرَادَ الْمُصَنِّفُ حَصْرَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْغَضُّ فَقَالَ (إنَّ أَعْظَمَ آفَاتِ الْعَيْنِ النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ إنْسَانٍ) أَيْ مَوْضِعِ عَوْرَتِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (قَصْدًا فَنَقُولُ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ إنْ كَانَ نَفْسَهُ) أَيْ النَّاظِرِ (أَوْ صَغِيرًا وَصَغِيرَةً لَمْ يَبْلُغَا حَدَّ الشَّهْوَةِ وَقَدَّرَ ذَلِكَ) الْحَدَّ مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ

(بِأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ) أَيْ ذَلِكَ الصَّغِيرُ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَبَعْدَ التَّكَلُّمِ النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهِمَا حَرَامٌ عَلَى قَوْلِهِ. وَفِي الْخَانِيَّةِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ مَا دُونَ تِسْعِ سِنِينَ لَا تَكُونُ مُشْتَهَاةً وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَبَعْدَ التَّكَلُّمِ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فِي الذَّكَرِ الصَّبِيِّ وَفِيمَا تَحْتَ الصَّدْرِ مَعَ الظَّهْرِ فِي الْأُنْثَى إذَا تَكَلَّمَتْ وَعَقَلَتْ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (أَوْ) إنْ كَانَتْ (مَنْكُوحَتَهُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ) بِخِلَافِ الْفَاسِدِ هُوَ كَالنِّكَاحِ فِي نِكَاحِ الْغَيْرِ أَوْ عِدَّتِهِ أَوْ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ أَوْ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ أَوْ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ أَوْ بِلَا شُهُودٍ (أَوْ أَمَتَهُ الَّتِي لَمْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِمُصَاهَرَةٍ) كَمَوْطُوءَةِ الْأَبِ أَوْ الِابْنِ أَوْ بِنْتِ أَمَتِهِ الْمَوْطُوءَةِ أَوْ أُخْتِهَا أَوْ أُمِّ أَمَتِهِ كَذَلِكَ (أَوْ رَضَاعٍ) بِأَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مُرْضِعَةً سَيِّدَهَا أَوْ بِنْتَ الْمُرْضِعَةِ وَإِنْ سَفَلَتْ (أَوْ نِكَاحٍ لِغَيْرِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ أَمَتَهُ فَلَا يَنْظُرُ عَوْرَتَهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا يَنْظُرُ إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ» (أَوْ حُرْمَةٍ غَلِيظَةٍ) بِأَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مُطَلَّقَةً بِطَلْقَتَيْنِ لَا يَحِلُّ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَطْؤُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا آخَرَ وَلَا يَكْفِي وَطْءُ الْمَوْلَى قَالَهُ الْمُحَشِّي صُورَتُهُ رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا بِطَلْقَتَيْنِ ثُمَّ وَطِئَ مَوْلَاهَا أَيْ ذَلِكَ الْغَيْرُ إيَّاهَا ثُمَّ يَشْتَرِي الرَّجُلُ تِلْكَ الْأَمَةَ فَالْحُرْمَةُ حِينَئِذٍ غَلِيظَةٌ فَلَا يَنْظُرُ هَذَا الْمَوْلَى إلَى جَمِيعِ أَعْضَاءِ تِلْكَ الْأَمَةِ كَسَائِرِ الْإِمَاءِ (أَوْ بِكَوْنِهَا مُشْرِكَةً) أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُرْتَدَّةً فَالِاكْتِفَاءُ إمَّا مِنْ قَبِيلِ - {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]- أَوْ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ التَّغْلِيبِ (غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ) . قِيلَ وَلَوْ يَهُودِيَّةً تَقُولُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ أَوْ نَصْرَانِيَّةً تَقُولُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ كَذَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَكَذَا مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ لَكِنْ لَمْ أَطَّلِعْ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَالْمُشْرِكُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ إنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى لَعَلَّ الْوَطْءَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ تَابِعٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ صِحَّةً وَعَدَمِهَا وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَعَمْرو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَطْءُ الْمُشْرِكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِجَوَازِ وَطْءِ سَبَايَا الْعَرَبِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]- وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ أَوْ تَقُولُ هُوَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ وَالْعَقْدَ. وَمَا وَرَدَ مِنْ الْخَبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى بَعْدِ الْإِسْلَامِ أَوْ مَنْسُوخٌ بِمَا ذَكَرْنَا كَمَا نُقِلَ عَنْ الزَّيْلَعِيِّ لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى الْعَقْدِ وَالْأَثَرُ عَلَى الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِضَرُورَةِ التَّوْفِيقِ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ بِالْحَمْلِ عَلَى مَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعِيدٌ لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَؤُلَاءِ الْكِبَارِ مِنْ التَّابِعِينَ مَعَ قُرْبِ عَصْرِهِمْ وَعُلُوِّ كَعْبِهِمْ وَأَيْضًا النَّسْخُ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَرَأَ عَلَيْهِ عِنْدَ إمْكَانِ مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَلْيُتَأَمَّلْ (أَوْ مُشْتَرَكَةً) مَعَ الْغَيْرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ قَوْلَهُ أَوْ كَانَتْ أُخْتَ زَوْجَتِهِ مَثَلًا أَوْ أُخْتَ أَمَتِهِ الْمَوْطُوءَةِ الثَّانِيَةِ بِلَا تَحْرِيمِهَا (يَجُوزُ النَّظَرُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا) مِنْ النَّاظِرِ وَالْمَنْظُورِ إلَيْهِ جَزَاءً لِقَوْلِهِ إنْ كَانَ نَفْسَهُ إلَى آخِرِهِ (إلَى كُلِّ عُضْوٍ مِنْهُمَا) حَتَّى إلَى فَرْجِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ بَلْ إلَى مَا لَا يَحِلُّ التَّمَتُّعُ بِهِ كَحَلْقَةِ دُبُرِهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غُضَّ بَصَرَك إلَّا عَنْ زَوْجَتِك وَأَمَتِك» (لَكِنْ) مَعَ الْجَوَازِ. (قَالُوا الْأَدَبُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى الْفَرْجِ) أَيْ فَرْجِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ وَالظَّاهِرُ كَذَا عَكْسُهُمَا (لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَتَجَرَّدَا» أَيْ الزَّوْجَانِ

«تَجَرُّدَ الْبَعِيرِ» لَعَلَّهُ مِنْ قَبِيلِ سُبْحَانَ مَنْ صَغَّرَ جِسْمَ الْبَعُوضَةِ كَمَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ الْمُبْتَدَأُ هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْعَوَامِلِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ هَذَا النَّهْيُ تَنْزِيهِيٌّ فَلَا مُنَافَاةَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَلَا بِالْجَوَازِ الْمَذْكُورِ وَرُوِيَ عَلَى تَخْرِيجِ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَزَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذْ أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَتِرْ اسْتَحْيَتْ الْمَلَائِكَةُ وَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ وَبَقِيَ الشَّيْطَانُ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ» ، وَفِي الْجَامِعِ «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ» أَرَادَ جِمَاعَ حَلِيلَتِهِ «فَلْيَسْتَتِرْ» فَلْيُغَطِّ هُوَ وَإِيَّاهَا بِثَوْبٍ يَسْتُرُهُمَا نَدْبًا «وَلَا يَتَجَرَّدَانِ» خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ لَا يَنْزِعَانِ الثِّيَابَ عَنْ عَوْرَتَيْهِمَا «تَجَرُّدَ الْعَيْرَيْنِ» الْعَيْرُ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ حَيَاءً مِنْ اللَّهِ وَأَدَبًا مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَحَذَرًا مِنْ حُضُورِ الشَّيَاطِينِ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَخُصَّ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِالْحِمَارِ زِيَادَةً فِي التَّنْفِيرِ وَالتَّقْرِيعِ وَاسْتِهْجَانًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ الشَّنِيعِ لِأَنَّهُ أَبْلَدُ الْحَيَوَانِ وَأَعْدَمُهُ فَهْمًا وَأَقْبَحَهُ فِعْلًا (وَلِقَوْلِ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (مَا رَأَى) النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنِّي) » أَيْ عَوْرَتِي حَذَفَ الْمَفْعُولَ لِاسْتِهْجَانِ ذِكْرِهِ وَكَذَا فِي قَوْلِهَا «وَمَا رَأَيْت مِنْهُ» قَالَ فِي التتارخانية نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى زَوْجَتِهِ وَمَمْلُوكَتِهِ مِنْ فَرْقِهَا إلَى قَدَمَيْهَا عَنْ شَهْوَةٍ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ (وَقِيلَ) النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ (يُورِثُ النِّسْيَانَ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ لَكِنْ فِي الشِّرْعَةِ قُيِّدَ بِكَوْنِ النَّظَرِ حَالَةَ الْوِقَاعِ حَيْثُ قَالَ وَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا حَالَةَ الْوِقَاعِ فَإِنَّ مِنْهُ الْعَمَى لِلْوَلَدِ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ هُنَا وَأَيْضًا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ النِّسْيَانَ كَذَا فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ انْتَهَى نَعَمْ فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الْآتِي هُنَا وَخَصَّ حَالَةَ الْجِمَاعِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ النَّظَرِ وَإِذَا نَهَى عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَفِي غَيْرِهَا أَوْلَى (وَقِيلَ يُورِثُ الْعَمَى) عَمَى الْبَصَرِ أَوْ الْبَصِيرَةِ لِلنَّاظِرِ أَوْ الْوَلَدِ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا أَيْضًا كَوْنُ النَّظَرِ حَالَ الْوِقَاعِ (وَرُوِيَ فِيهِ) أَيْ فِي إيرَاثِ الْعَمَى (حَدِيثٌ لَكِنْ قِيلَ إنَّهُ مَوْضُوعٌ) لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ وَقِيلَ يُورِثُ الْعَمَى تَأْيِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ وَظَاهِرُ هَذَا تَزْيِيفٌ لَهُ وَأَنَّ مِثْلَهُ إنَّمَا يُدْرَكُ بِالشَّرْعِ فَإِذَا بَطَلَ حَدِيثُهُ بَطَلَ حُكْمُهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ مِثْلَهُ قَدْ يُمْكِنُ بِالتَّجْرِبَةِ وَعِلْمِ الطِّبِّ نَعَمْ فِي التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ إشَارَةٌ إلَى نَوْعِ صِحَّتِهِ كَمَا يَأْتِي ثُمَّ عَنْ الْعَسْقَلَانِيُّ مَا وَجَدْت فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ وَمَا رُوِيَ فِيهِ فَمَوْضُوعٌ وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ زَوْجَتَهُ فَلَا يَنْظُرَنَّ فَرْجَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْعَمَى» عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى تَخْرِيجِ الدَّيْلَمِيِّ وَالْخَلِيلِيِّ «إذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَنْظُرُ إلَى الْفَرْجِ لِأَنَّهُ يُورِثُ الْعَمَى» حَيْثُ حَكَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِوَضْعِهِ وَكَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى تَخْرِيجِ الْبَيْهَقِيّ «إذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ زَوْجَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ فَلَا يَنْظُرُ إلَى فَرْجِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الطَّمْسَ» أَيْ الْعَمَى رَوَاهُ السُّيُوطِيّ فِي مَنَاهِجِ السُّنَّةِ وَكَذَا فِي الْفَيْضِ حَكَمَ بِوَضْعِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَاحِبُ الْمِيزَانِ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ وَأَيْضًا ابْنِ حِبَّانَ وَأَيْضًا فِيهِ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي سَنَدِهِ مَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي حَدِيثِ

ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّهُ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ هَذَا مُخَالِفٌ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي زَعْمِهِ بِوَضْعِهِ لَعَلَّ لِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ لَكِنْ قِيلَ إنَّهُ مَوْضُوعٌ كَمَا أُشِيرَ وَلَمْ يَحْكُمْ بِوَضْعِهِ وَقِيلَ بِالضَّعْفِ وَقِيلَ إنَّهُ مُنْكَرٌ (وَرَوَى الْفُقَهَاءُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ الْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي اللَّذَّةِ) فَحِينَئِذٍ يَكُونُ نُزُولُ الْمَنِيِّ بِالْكَثْرَةِ فَالْوَلَدُ قَوِيُّ الْبِنْيَةِ تَامُّ الْخِلْقَةِ قِيلَ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ التَّوَجُّهِ بِدُونِهِ قَالَ فِي التتارخانية عَنْ ابْنِ عُمَرَ الْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ وَقْتَ الْإِيقَاعِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى اللَّذَّةِ (وَالْمُحَدِّثُونَ أَنْكَرُوا ثُبُوتَهُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَعَلَّ وَجْهَ بَحْثِهِمْ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ مُعْتَدٍّ بِهِ فِي بَحْثِهِمْ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ بَلْ مِنْ الْمَطَالِبِ السَّمْعِيَّةِ فَبِالْآخِرَةِ يَرْجِعُ إلَى الْحَدِيثِ وَلَوْ مَعْنًى فَيَكُونُ لِبَحْثِهِمْ عَنْهُ مَعْنًى مُعْتَدٌّ بِهِ لَكِنْ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ حَدِيثُ الْجَامِعِ «احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك وَمَا مَلَكَ يَمِينُك» قَالَ فِي شَرْحِهِ وَفِيهِ أَنَّ لِلزَّوْجِ نَظَرَ فَرْجِ زَوْجَتِهِ وَحَلْقَةِ دُبْرِهَا وَأَخَذَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ تَمْكِينُ حَلِيلَتِهِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ وَتَمَامُهُ فِي الْفَيْضِ وَأَيْضًا يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى - {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]- وَنَقُولُ أَيْضًا إنَّ قَوَاعِدَنَا عِنْدَ تَعَارُضِ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ وَالْحَدِيثِ تَقْدِيمُ قَوْلِهِمْ لِجَوَازِ كَوْنِ الْحَدِيثِ مُؤَوَّلًا أَوْ مُخَصَّصًا أَوْ مُعَارَضًا أَوْ مَنْسُوخًا أَوْ مُقَيَّدًا بِحَيْثُ تَخْتَصُّ مَعْرِفَتُهُ بِالْفَقِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَإِنْ كَانَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إنْ كَانَ نَفْسَهُ (غَيْرَ هَؤُلَاءِ) الْخَمْسَةِ نَفْسُهُ وَصَغِيرَةٌ وَصَغِيرٌ وَمَنْكُوحَتُهُ وَأَمَتُهُ (فَإِنْ كَانَ النَّظَرُ بِعُذْرٍ) كَمَا يَأْتِي (يَجُوزُ) النَّظَرُ (مُطْلَقًا) رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ وَبِدُونِهَا (وَإِلَّا) إنْ لَمْ يَكُنْ بِعُذْرٍ (فَإِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِشَكٍّ فِيهَا) أَيْ فِي الشَّهْوَةِ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَأَنْتَ تَعْرِفُ فِي بَابِ الرِّبَا مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ الرِّبَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ بَلْ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبْهَةِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» وَ «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَفِي التتارخانية إذَا عَلِمْت أَنَّهُ يَقَعُ فِي قَلْبِهَا شَهْوَةٌ أَوْ شَكَّتْ وَمَعْنَى الشَّكِّ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ فَأُحِبُّ أَنْ تَغُضَّ بَصَرَهَا عَنْهُ وَتَمَامُهُ فِيهَا (فَيَحْرُمُ مُطْلَقًا) رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً تَحْتَ سُرَّةٍ (وَإِلَّا) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ أَوْ شَكٍّ (فَإِنْ كَانَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ ذَكَرًا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى تَحْتَ الرُّكْبَةِ مُطْلَقًا) رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً عَنْ النِّصَابِ كَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالْمَنْظُورَ إلَيْهِ» وَمَنْ لَمْ يَسْتُرْ الرُّكْبَةَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ لِأَنَّ فِي كَوْنِهَا عَوْرَةً اخْتِلَافًا وَمَنْ لَمْ يَسْتُرْ الْفَخِذَ يُعَنَّفُ عَلَيْهِ وَلَا يُضْرَبُ لِأَنَّ فِي كَوْنِهِ عَوْرَةً اخْتِلَافَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ لَمْ يَسْتُرْ السَّوْأَةَ يُؤَدَّبُ إنْ لَجَّ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهَا عَوْرَةً قَالَ فِي الْهِدَايَةِ السُّرَّةُ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي عِصْمَة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي التتارخانية كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَرَى بَأْسًا بِنَظَرِ الْحَمَّامِيِّ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ انْتَهَى لَكِنْ لَعَلَّ لَهُ تَأْوِيلًا فَتَأَمَّلْ ثُمَّ فِي التتارخانية عَنْ الْكِتَابِ أَنَّهَا لَا تَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ فِي الْهِدَايَةِ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ (وَإِنْ كَانَ)

الْمَنْظُورُ إلَيْهِ (أُنْثَى فَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ أَيْضًا أُنْثَى كَالنَّظَرِ إلَى الذَّكَرِ) أَيْ مُطْلَقًا فَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَمْنِ الشَّهْوَةِ فَلَوْ كَانَ لَهَا شَهْوَةٌ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا أَوْ شَكًّا فَتَغُضُّ بَصَرَهَا قِيلَ اسْتِحْبَابًا هَذَا عَلَى الْأَصَحِّ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ وَفِي التَّنْوِيرِ وَالذِّمِّيَّةُ كَالرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ فِي الْأَصَحِّ فَلَا تَنْظُرُ إلَى بَدَنِ الْمُسْلِمَةِ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّاظِرُ أُنْثَى بَلْ ذَكَرًا (فَإِنْ كَانَتْ الْمَنْظُورَةُ) إلَيْهَا (حُرَّةً أَجْنَبِيَّةً غَيْرَ مَحْرَمٍ) وَالْكَافِرَةُ كَالْمُسْلِمَةِ وَعَنْ الْخَانِيَّةِ لَا بَأْسَ فِي شَعْرِهَا (لِلنَّاظِرِ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهَا سِوَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا) وَفِي الْقَدَمِ رِوَايَتَانِ وَالْأَصَحُّ كَوْنُهَا عَوْرَةً وَأَمَّا ظَهْرُ الْكَفِّ فَعَوْرَةٌ وَفِي التتارخانية نَظَرُ وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ لَيْسَ بِحَرَامٍ لَكِنْ يُكْرَهُ بِغَيْرِ حَاجَةٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ النَّظَرُ إلَى ذِرَاعَيْهَا لَا سِيَّمَا عِنْدَ اسْتِئْجَارِهَا لِلْخَبْزِ وَكَذَا النَّظَرُ إلَى ثِيَابِهَا مُبَاحٌ وَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَةِ الْعَجَائِزِ وَلَا بَأْسَ فِي مُعَانَقَتِهَا مِنْ وَرَاءِ الثِّيَابِ إنْ غَلِيظَةً وَلَا بِالنَّظَرِ فِي صَغِيرَةٍ غَيْرِ مُشْتَهَاةٍ وَالْمَسُّ كَذَلِكَ (مُطْلَقًا) بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا كَذَا فُسِّرَ لَكِنْ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ مَا فِي الْمُنْتَقَى مِنْ قَوْلِهِ وَلَا إلَى الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إلَّا إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ إنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ وَأَيْضًا فِي التتارخانية فَإِنْ عَلِمَ الشَّهْوَةَ أَوْ شَكَّ فَلْيَجْتَنِبْ بِجَهْدٍ لَكِنْ فِي النِّصَابِ عَنْ الْخَصَّافِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْأَعْمَشَ خَرَجَ إلَى الرُّسْتَاقِ وَكَانَ النِّسَاءُ فِي شَطِّ نَهْرٍ كَاشِفَاتِ الذِّرَاعِ وَالرُّءُوسِ فَذَهَبَ إلَى أَنْ خَالَطَهُنَّ وَلَمْ يَتَحَامَ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهِنَّ فَقِيلَ لَهُ كَيْفَ هَذَا فَقَالَ لَا حُرْمَةَ لَهُنَّ لِهَتْكِهِنَّ حُرْمَةَ أَنْفُسِهِنَّ، وَمِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَى النَّائِحَةَ حَتَّى هَجَمَ عَلَيْهَا فِي مَنْزِلِهَا فَضَرَبَهَا بِالدِّرَّةِ حَتَّى سَقَطَ خِمَارُهَا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا حُرْمَةَ لَهَا فِي الشَّرِيعَةِ وَلِذَلِكَ جَوَّزَ نَظَرَ الْمُحْتَسِبِ عِنْدَ تَعْزِيرِهِنَّ سِيَّمَا عِنْدَ كَشْفِ رُءُوسِهِنَّ أَوْ ذِرَاعِهِنَّ أَوْ قَدَمِهِنَّ فَيَنْدَفِعُ مَا يُورِدُ أَنَّ نَظَرَهُنَّ مُنْكَرٌ آخَرُ. اهـ. (حَتَّى قَالُوا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَى عَظْمِ امْرَأَةٍ بَالِيَةٍ فِي الْقَبْرِ) الظَّاهِرُ أَنْ يُقَيَّدَ بِشَهْوَةٍ (وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا) ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ (مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ) خَشْيَةَ إفْضَائِهِ إلَى الْفِتْنَةِ وَلِهَذَا أَمَرَ بِالِالْتِفَاتِ وَفِي النِّصَابِ الْحُرَّةُ تُمْنَعُ مِنْ كَشْفِ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ وَالْقَدَمِ لِأَنَّهَا لَا تَأْمَنُ عَلَى شَهْوَةِ بَعْضِ النَّاظِرِينَ إلَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا فَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَمُصَافَحَتُهَا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَنْظُورُ إلَيْهَا حُرَّةً أَجْنَبِيَّةً بَلْ كَانَتْ أَمَةً لِلْغَيْرِ أَوْ مَحْرَمًا لِلنَّاظِرِ (فَكَالنَّظَرِ إلَى الذَّكَرِ مَعَ زِيَادَةِ الْبَطْنِ وَالظَّهْرِ) فَيَنْظُرُ إلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَالْعَضُدِ لَكِنَّ بِشَرْطِ أَمْنِ الشَّهْوَةِ لَا إلَى الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ وَالْجَنْبِ وَكَذَلِكَ الْأُذُنُ وَالْعُنُقُ وَالسَّاعِدُ وَالْكَفُّ وَاللِّسَانُ وَالرِّجْلُ وَمَا حَلَّ نَظَرُهُ حَلَّ مَسُّهُ وَغَمْزُهُ. (وَالْعُذْرُ) الْمُبِيحُ لِنَظَرِ الْعَوْرَةِ (تِسْعَةٌ الْأَوَّلُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا) إذْ لَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ إذَا أَرَادُوا إقَامَةَ الشَّهَادَةِ (كَمَا فِي الزِّنَا) كَمَنْ رَأَى مَنْ يَزْنِي فَيَقْصِدُ النَّظَرَ بِنِيَّةِ الْحِسْبَةِ إلَى عَوْرَتِهِمَا كَالسِّكِّينِ فِي الْغِمْدِ (الثَّانِي أَدَاءُ الشَّهَادَةِ) عِنْدَ الْحَاكِمِ بِخِلَافِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ النَّظَرَ حِينَئِذٍ لَا يُبَاحُ إذَا انْتَهَى لِأَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ لَا يُشْتَهَى فَلَا ضَرُورَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ (الثَّالِثُ حُكْمُ الْقَاضِي) فَإِنَّ لَهُ النَّظَرَ إلَى وَجْهِهَا وَإِنْ خَافَ الشَّهْوَةَ فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ. (الرَّابِعُ الْوِلَادَةُ لِلْقَابِلَةِ) فَإِنَّ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ أَخْذِ الْوَلَدِ لِلضَّرُورَةِ فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ امْرَأَةٌ كَذَلِكَ فَلِلرَّجُلِ الصَّالِحِ ذَلِكَ إنْ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ (الْخَامِسُ الْبَكَارَةُ فِي الْعُنَّةِ) كَمَا إذَا ادَّعَى الرَّجُلُ الْوَطْءَ وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ النَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا لِمَعْرِفَةِ بَكَارَتِهَا وَثُيُوبَتِهَا وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ أَنَّهَا بِكْرٌ أَنْ تَبُولَ عَلَى جِدَارٍ فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ فَبِكْرٌ وَإِلَّا فَلَا أَوْ يُرْسَلُ فِي فَرْجِهَا مُخُّ بَيْضَةٍ فَإِنْ دَخَلَ فَثَيِّبٌ وَإِلَّا فَبِكْرٌ أَوْ يُرْسَلُ فِي فَرْجِهَا

أَصْغَرُ بَيْضِ الدَّجَاجِ فَإِنْ دَخَلَ بِلَا عُنْفٍ فَثَيِّبٌ وَإِلَّا فَبِكْرٌ. (وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ) بِزَوَالِ عُذْرَتِهَا أَوْ بِعُذْرٍ فِي مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ (وَسَادِسُهَا الْخِتَانُ) لِلذَّكَرِ (وَالْخَفْضُ) لِلْأُنْثَى وَهُوَ خِتَانُ الصَّغِيرَةِ وَخِتَانُ الرِّجَالِ سُنَّةٌ وَاخْتَلَفُوا فِي خِتَانِ الْمَرْأَةِ فَفِي آدَابِ الْقَاضِي مَكْرُمَةٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ سُنَّةٌ لَكِنْ لَا كَسُنَّةِ الرِّجَالِ وَفِي الِاخْتِيَارِ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ (سَابِعُهَا الْمُدَاوَاةُ) لَهَا (مِنْهَا الِاحْتِقَانُ) وَهُوَ جَعْلُ الدَّوَاءِ فِي أُنْبُوبَةٍ وَنَحْوِهَا وَيَنْفُخُ مِنْ الْفَرْجِ إلَى الْجَوْفِ لَكِنْ يَتَّقِي الشَّهْوَةَ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّهُ حَرَامٌ (لِلْمَرَضِ وَالْهُزَالِ) لِأَنَّهُ إذَا فَحُشَ يُفْضِي إلَى السُّلِّ لَكِنْ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي الْفَتَاوَى التَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْهُزَالِ فَاحِشًا وَكَوْنُهُ عَلَى وَجْهٍ يُخْشَى مِنْهُ التَّلَفُ وَإِلَّا لَا يَحِلُّ، وَفِي التتارخانية لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَوَلَّى عَوْرَةَ إنْسَانٍ بِيَدِهِ عِنْدَ التَّنْوِيرِ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ كَمَا يُدَاوِي جُرْحًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَإِذَا أَصَابَتْ امْرَأَةً قُرْحَةٌ فَيُعَلِّمُ امْرَأَةً دَوَاءَهَا لِتُدَاوِيهَا وَإِلَّا فَيُدَاوِيهَا بِاسْتِتَارِ جَمِيعِ مَا عَدَا الْقُرْحَةَ غَاضًّا بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَحَارِمُ وَالْأَجْنَبِيَّاتُ (لَا) لِأَجْلِ (الْجِمَاعِ) فَلَا يَصْلُحُ عُذْرًا لِلنَّظَرِ. (ثَامِنُهَا إرَادَةُ النِّكَاحِ) حَيْثُ جَازَ النَّظَرُ إلَيْهَا وَإِنْ خَافَ الشَّهْوَةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُغِيرَةِ «إذَا أَرَدْت أَنْ تَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أَبْصِرْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» (تَاسِعُهَا إرَادَةُ الشِّرَاءِ) إذَا كَانَتْ جَارِيَةً فَيَحِلُّ نَظَرُهُ إلَى شَعْرِهَا وَصَدْرِهَا وَثَدْيِهَا وَعَضُدِهَا وَسَاقِهَا وَإِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ كَمَا فِي قَاضِي خَانْ وَفِي التتارخانية يَجُوزُ مَسُّهَا أَيْضًا (فَفِي هَذِهِ الْأَعْذَارِ يَجُوزُ النَّظَرُ وَإِنْ خَافَ الشَّهْوَةَ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَهَا) الِاخْتِيَارِيُّ وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَلَيْسَ لَهُ تَكْلِيفٌ. (وَفِي حُكْمِ النَّظَرِ إلَى الْبَدَنِ) الْمُجَرَّدِ عَنْ الثِّيَابِ (النَّظَرُ فَوْقَ ثِيَابِهَا) أَيْ ثِيَابِ الْأَجْنَبِيَّةِ (إنْ كَانَتْ) الثِّيَابُ (رَقِيقَةً وَمُلْتَزِقَةً) بِبَدَنِهَا (تَصِفُهَا) أَيْ تَصِفُ بَدَنَهَا لِضِيقِهَا أَوْ رِقَّتِهَا، وَالْعُرْيَانُ فِي الْوَقْتِ الْخَالِي عَنْ النَّاسِ تَارِكُ الْأَوْلَى فَحَسْبُ. وَقَالَ الدِّيرِيُّ مَكْرُوهٌ بِلَا حَاجَةٍ كَمَنْ تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً فِي الْمَاءِ الْجَارِي أَوْ غَيْرِهِ فِي الْخَلْوَةِ كَمَا فِي التتارخانية وَفِي الْأُسْرُوشَنِيَّة إنْ الْبَيْتُ ضَيِّقًا يُبَاحُ تَجْرِيدُهُمَا لِلْجِمَاعِ وَإِلَّا فَلَا وَقُدِّرَ الضِّيقُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ وَكُرِهَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ بِلَا حَاجَةٍ، وَكَذَا التَّجَرُّدُ عِنْدَ الْغُسْلِ بِلَا إزَارٍ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلَوْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَكَذَا عِنْدَ عَصْرِ إزَارِهِ وَحَلْقِ عَانَتِهِ فِي بَيْتِ الْحَمَّامِ الصَّغِيرِ أَثِمَ عِنْدَ بَعْضٍ وَعِنْدَ آخَرَ لَا لَوْ فِي مَكَان وَحْدَهُ إنْ أَمِنَ مِنْ دُخُولِ النَّاسِ عَلَيْهِ، ثُمَّ مِنْ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ نَظَرُ الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ قَالَ فِي التتارخانية لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ إلَيْهِ عَنْ شَهْوَةٍ وَأَمَّا بِلَا شَهْوَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلِهَذَا لَا يُؤْمَرُ بِالنِّقَابِ وَفِي حُكْمِ الصَّلَاةِ كَالرِّجَالِ وَالسَّلَامِ وَالنَّظَرِ لَا عَنْ شَهْوَةٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَفِيهَا عَنْ كِفَايَةِ الشَّعْبِيِّ مَاتَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ اسْوَدَّ وَجْهُهُ فَسُئِلَ فَقَالَ رَأَيْت غُلَامًا فِي مَوْضِعِ كَذَا وَنَظَرْت إلَيْهِ فَاحْتَرَقَ وَجْهِي فِي النَّارِ وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْعُبَّادِ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ كُلُّ ذَنْبٍ اسْتَغْفَرْتُ مِنْهُ غُفِرَ لِي إلَّا ذَنْبًا اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى فَعُذِّبْتُ بِذَلِكَ هِيَ نَظَرِي إلَى غُلَامٍ بِشَهْوَةٍ. قَالَ الْقَاضِي سَمِعْت الْإِمَامَ يَقُولُ إنَّ مَعَ كُلِّ امْرَأَةٍ شَيْطَانَيْنِ وَمَعَ الْغُلَامِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَيْطَانًا وَالْأَمْرَدُ إذَا كَانَ صَبِيًّا وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُمْنَعَ فِي كَرَاهِيَةِ الْخَانِيَّةِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَبِيحًا وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْلِسُهُ فِي دَرْسِهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مَخَافَةَ خِيَانَةِ الْعَيْنِ مَعَ كَمَالِ تَقْوَاهُ وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ الْكَتَّانِيِّ قَالَ رَأَيْت عَلِيًّا الرَّازِيَّ فِي مَنَامِي فَقُلْت مَا حَالُك قَالَ أَقَامَنِي اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ اقْرَأْ كِتَابَك فَقَرَأَتْ الذُّنُوبَ حَتَّى بَلَغْت إلَى ذَنْبٍ فَامْتَنَعَتْ خَجَلًا فَمَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ اقْرَأْ حَتَّى سَقَطَ جِلْدُ وَجْهِي عَلَى قَدَمِي فَقُلْت أَيُّ شَيْءٍ كَانَ الذَّنْبُ قَالَ نَظَرْت إلَى وَجْهِ غُلَامٍ وَتَأَمَّلْت فِي عَجُزِهِ فَهَذَا حَالُ

مَنْ نَظَرَ فَكَيْفَ حَالُ مَنْ فَعَلَ وَعَنْ سُفْيَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ لُوطِيُّونَ صِنْفٌ يَنْظُرُونَ وَصِنْفٌ يُصَافِحُونَ وَصِنْفٌ يَعْمَلُونَ وَفِي النِّصَابِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَانَ جَالِسًا عَلَى بَابِ دَارِهِ فَرَأَى غُلَامًا صَبِيحًا حَسَنَ الْوَجْهِ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ السِّكَّةِ فَدَخَلَ دَارِهِ فَلَمَّا قَالُوا ذَهَبَ خَرَجَ مِنْ الدَّارِ فَقِيلَ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا مِنْ عِنْدِك أَوَ سَمِعْت شَيْئًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «النَّظَرُ إلَيْهِمْ حَرَامٌ وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ حَرَامٌ وَمُجَالَسَتُهُمْ حَرَامٌ» وَفِي الْبُسْتَانِ وَيُكْرَهُ مُجَالَسَةُ الْأَحْدَاثِ وَالصِّبْيَانِ وَالسُّفَهَاءِ ثُمَّ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ نَظَرُ الشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي انْقَطَعَتْ شَهْوَتُهُ كَمَا فِي التتارخانية (وَمِنْ آفَاتِ الْعَيْنِ النَّظَرُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ بِطَرِيقِ الِاسْتِخْفَافِ) وَالِاسْتِحْقَارِ (فَإِنَّهُ تَكَبُّرٌ حَرَامٌ وَمِنْهَا مُشَاهَدَةُ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ) وَلِذَا لَا يَجِبُ إجَابَةُ دَعْوَةِ وَلِيمَةٍ فِيهَا مُنْكَرٌ وَقِيلَ اللَّهْوُ عَلَى الْمَائِدَةِ وَقِيلَ ذَلِكَ لِلْعَوَامِّ وَأَمَّا لِلْخَوَاصِّ فَمُطْلَقٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَمِنْهَا اتِّبَاعُ الْبَصَرِ إلَى انْقِضَاضِ) سُقُوطِ (الْكَوْكَبِ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) وَيُقَالُ إنَّهُ يُفْضِي إلَى زَوَالِ نُورِ الْعَيْنِ (وَكَذَا) نُهِيَ (عَنْ النَّظَرِ إلَى مَنْ فَوْقَهُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الرَّغْبَةِ) وَالِالْتِفَاتِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِازْدِرَاءِ نِعْمَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ وَلَوْ نَظَرَ عَلَى وَجْهِ الْعِبْرَةِ لَا يَضُرُّ كَمَا عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ (وَإِلَى مَنْ دُونَهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَجَبَ وَالْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَهُمَا آفَةً مُسْتَقِلَّةً بَلْ مُسْتَقِلَّتَيْنِ كَالنَّظَرِ إلَى الْفُقَرَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ شَاكِرًا صَابِرًا وَمَنْ لَمْ تَكُونَا فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا مَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إلَى مَنْ فَوْقَهُ فَاقْتَدَى بِهِ وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إلَى مَنْ دُونَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ كَتَبَهُ بِهِ شَاكِرًا صَابِرًا وَمَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْهُ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا» كَذَا فِي الْجَامِعِ قَالَ فِي شَرْحِهِ عَنْ الطِّيبِيِّ هَذَا الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِأَنْوَاعِ الْخَيْرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَأَى مَنْ فَضُلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَتْ نَفْسُهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَاحْتَقَرَ مَا عِنْدَهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَحَرَصَ عَلَى الِازْدِيَادِ لِيَلْحَقَ بِذَلِكَ أَوْ يُقَارِبَهُ وَإِنْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَشَكَرَ وَتَوَاضَعَ وَفَعَلَ الْخَيْرَ (وَمِنْهَا النَّظَرُ إلَى بَيْتِ الْغَيْرِ مِنْ شِقِّ الْبَابِ أَوْ مِنْ ثَقْبٍ أَوْ كَشْفِ سِتْرٍ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ اطَّلَعَ» نَظَرَ «إلَى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ» إنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِهِ وَتُهْدَرُ عَيْنُ النَّاظِرِ فَلَا دِيَةَ وَلَا قِصَاصَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ يَضْمَنُهَا لِأَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ فَوْقَ الدُّخُولِ وَالدُّخُولُ لَا يُوجِبُهُ وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ الْقِصَاصَ وَهَلْ يُلْحَقُ الِاسْتِمَاعُ بِالنَّظَرِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا لِأَنَّ النَّظَرَ أَشَدُّ وَأَشْمَلُ، قَوْلُهُ اطَّلَعَ كُلُّ مُطَّلِعٍ كَيْفَ مَا كَانَ وَمِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ مِنْ بَابٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَى الْعَوْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ (تَنْبِيهٌ) : الْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ فَلَوْ نَظَرَتْ امْرَأَةٌ فِي بَيْتِ أَجْنَبِيٍّ جَازَ رَمْيُهَا عَلَى الْأَصَحِّ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ تَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى مُقَابِلِهِ أَنَّ مَنْ تَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْهَا شَيْءٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ (خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «رَجُلًا» مَجْهُولًا أَوْ التَّنْكِيرُ لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّنْ شَأْنُهُ كَذَا

«اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» جَمْعُ حُجْرَةٍ يَعْنِي بَعْضَ بُيُوتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ( «فَقَامَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ» نَصْلٍ عَرِيضٍ وَقِيلَ طَوِيلٍ وَقِيلَ سِكِّينٍ «أَوْ بِمَشَاقِصَ فَكَأَنِّي» ضَمِيرُ التَّكَلُّمِ إلَى أَنَسٍ الرَّاوِي «أَنْظُرُ إلَيْهِ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «يَخْتِلُ» مِنْ الْخَتْلِ بِالْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْخُدْعَةُ أَيْ يَخْدَعُ وَيُحَاوِلُ «الرَّجُلَ» النَّاظِرُ «لِيَطْعَنَهُ» فَدَلَّ أَيْضًا عَلَى عَظِيمِ خَطَرِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُؤَيِّدُ جَانِبَ الشَّافِعِيِّ وَأَمَّا قَوْلُنَا لِأَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ فَوْقَ الدُّخُولِ إلَى آخِرِهِ فَرَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَقُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ الْقِيَاسَ يُتْرَكُ فِي جَنْبِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَأَيْضًا لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَجَازِ مَا لَمْ تَتَعَذَّرْ الْحَقِيقَةُ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا كَمَا فِي النِّصَابِ «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْك بِغَيْرِ إذْنٍ فَحَذَفْته بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ» أَقُولُ حُجَّتُنَا لَيْسَ الْقِيَاسَ السَّابِقَ فَقَطْ بَلْ قَوْله تَعَالَى - {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]- عَلَى أَنَّ كَوْنَ مَا ذُكِرَ قِيَاسًا غَيْرَ مُسَلَّمٍ بَلْ دَلَالَةَ نَصٍّ (حَدّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَيُّمَا رَجُلٍ كَشَفَ سِتْرًا» أَيْ أَزَالَهُ «فَأَدْخَلَ بَصَرَهُ» يَعْنِي نَظَرَ إلَى مَا وَرَاءِ السِّتْرِ مِنْ حُرَمٍ أَوْ غَيْرِهِنَّ «قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ» فِي الدُّخُولِ «فَقَدْ أَتَى حَدًّا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ» أَيْ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ «وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا» مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ «فَقَأَ عَيْنَهُ» بِنَحْوِ حَصَاةٍ «لَهَدَرَتْ» عَيْنُهُ فَلَا يَضْمَنُهَا الرَّامِي فَفِيهِ أَيْضًا حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ وَقَدْ عَرَفْت آنِفًا (وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى بَابِ رَجُلٍ) أَيْ مَنْفَذِ نَحْوِ بَيْتٍ (لَا سُتْرَةَ عَلَيْهِ) أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِ بَابٌ مِنْ نَحْوِ خَشَبٍ يَسْتُرُ مَا وَرَاءَهُ عَنْ الْعُيُونِ (فَرَأَى عَوْرَةَ أَهْلِهِ) أَيْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَابِ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْفَذِ (فَلَا خَطِيئَةَ عَلَيْهِ إنَّمَا الْخَطِيئَةُ عَلَى أَهْلِ الْبَابِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَهْلِ الْمَنْزِلِ فِي تَرْكِهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ السِّتْرِ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ بِاطِّلَاعِ الْأَجَانِبِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَفِي نُسَخٍ بَدَلُ الْبَابِ الْبَيْتُ وَهِيَ أَوْفَقُ قَالَ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِيهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ الْمَسْتُورِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَوْ ذِمِّيًّا وَأَنَّهُ يَحْرُمُ الدُّخُولُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى (طب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ مَرْفُوعًا «لَا تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَسْتُورَةٍ فَتَبْدُو عَوْرَةُ أَهْلِهَا «وَلَكِنْ ائْتُوهَا مِنْ جَوَانِبِهَا» تَحَرُّزًا عَنْ ذَلِكَ وَإِذَا أَتَيْتُمْ أَبْوَابَهَا «فَاسْتَأْذِنُوا» مِنْ أَرْبَابِهَا «فَإِنْ أَذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا وَإِلَّا فَارْجِعُوا» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور: 28] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَابِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوْفَقَ لِعَادَةِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ شَوَاهِدَ قَبِيلِ هَذَا مِنْ نَحْوِ النَّظَرِ إلَى الْفُقَرَاءِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَعَاصِي وَاتِّبَاعِ الْبَصَرِ لَعَلَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهَا بَلْ إنَّمَا وَقَفَ عَلَى أُصُولِهَا فَقَطْ أَوْ لِادِّعَاءِ وُضُوحِهَا أَوْ لِقِلَّتِهَا بَقِيَ أَنَّ آفَاتِ الْعَيْنِ النَّظَرُ إلَى مَكْتُوبِ الْغَيْرِ بِلَا إذْنِهِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ

الصنف الخامس في آفات اليد

ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اطَّلَعَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ» فِي الدَّيْنِ «بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَأَنَّمَا اطَّلَعَ فِي النَّارِ» أَيْ أَنَّ ذَلِكَ يُقَرِّبُهُ مِنْهَا وَيُدْنِيهِ مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَيْهَا لِيَقَعَ فِيهَا فَهُوَ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَكَأَنَّمَا يَنْظُرُ إلَى مَا يُوجِبْ عَلَيْهِ النَّارَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ عُقُوبَةَ الْبَصَرِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْهُ كَمَا يُعَاقِبُ السَّمْعَ إذَا اسْتَمَعَ إلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ سِرٌّ وَأَمَانَةٌ يُكْرَهُ صَاحِبُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ وَقِيلَ عَامٌّ فِي كُلِّ كِتَابٍ وَقِيلَ إنَّهُ سَبَبٌ لِرَمَدِ الْعَيْنِ وَمِنْهَا النَّظَرُ إلَى مُسْلِمٍ إخَافَةً عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ أَيْضًا عَلَى تَخْرِيجِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَظَرَ إلَى مُسْلِمٍ نَظْرَةً يُخِيفُهُ بِهَا فِي غَيْرِ حَقٍّ أَخَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَمِنْهَا إكْثَارُ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرِيضِ كَمَا فِي الْأُسْرُوشَنِيَّة حَيْثُ قَالَ وَنُدِبَ أَنْ يَجْلِسَ عِنْدَ رُكْبَتَيْ الْمَرِيضِ دُونَ رَأْسِهِ وَيَكُونُ نَظَرُهُ إلَى الْمَرِيضِ وَلَا يَنْظُرُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً وَلَا يُكْثِرُ النَّظَرَ إلَيْهِ وَلَا يَحُدُّ النَّظَرَ فِي وَجْهِهِ وَفِي الشِّرْعَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ وَلَا يُكْثِرُ النَّظَرَ إلَيْهِ وَلَا يَحُدُّ النَّظَرَ فِي وَجْهِهِ قَالَ فِي شَرْحِهِ خُصُوصًا فِي حَدَقَتَيْنِ فَإِذَا وَقَعَ نَظَرُهُ فِي وَجْهِهِ وَحَدَقَتَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَغْسِلَ وَجْهَهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ عِنْدِ الْمَرِيضِ فَيَنْفَعُ مِنْ الْآفَاتِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى وَمِنْهَا إدَامَةُ النَّظَرِ إلَى الْمَجْذُومِ قَالَ فِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «لَا تُدِيمُوا النَّظَرَ إلَى الْمَجْذُومِينَ» قَالَ فِي شَرْحِهِ لِأَنَّكُمْ إذَا أَدَمْتُمْ النَّظَرَ إلَيْهِمْ حَقَّرْتُمُوهُمْ فَيَتَأَذَّوْنَ أَوْ لِأَنَّ مَنْ بِهِ الدَّاءُ يَكْرَهُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ وَفِي الشِّرْعَةِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُدِيمُوا النَّظَرَ إلَى الْمَجْذُومِينَ» إدَامَةُ مَنْ كَلَّمَهُمْ مِنْكُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فَلْيُكَلِّمْهُمْ وَإِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قِيدَ رُمْحٍ (وَأَمَّا آفَاتُ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ التَّغْمِيضُ وَعَدَمُ النَّظَرِ فَفِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ) لِأَنَّهُ فِعْلُ الْيَهُودِ، وَلِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِنَظَرِهِ إلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ مَثَلًا الَّذِي هُوَ الْمَسْنُونُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى الْعُذْرُ كَالدُّخَانِ الْمُبَالَغِ فِيهِ ثُمَّ الْكَرَاهَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَيْضًا مُصَرَّحَةٌ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا كَالتَّتَارْخَانِيَّةِ وَفِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُغْمِضْ عَيْنَهُ» لَكِنْ قَالَ فِي شَرْحِهِ نَدْبًا فَافْهَمْ ثُمَّ قَالَ بَلْ يُدِيمُ النَّظَرَ إلَى مَحَلِّ سُجُودِهِ فَإِنَّ غَمَّضَهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ كُرِهَ تَنْزِيهًا لِأَنَّهُ فِعْلُ الْيَهُودِ نَعَمْ إنْ اقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ إلَى التَّغْمِيضِ كَتَوْفِيرِ الْخُشُوعِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ لَمْ يُكْرَهْ انْتَهَى لَكِنْ ظَاهِرُ إطْلَاقِ أَصْحَابِنَا لَا يُلَائِمُ هَذَا التَّقْيِيدَ بَلْ أَبَى عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ (وَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَجِبُ النَّظَرُ) ثُمَّ أَشَارَ إلَى بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ النَّظَرِ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ كَحُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ) حُضُورُهُمَا (بِدُونِ النَّظَرِ وَكَحُكْمِ الْقَاضِي) إذْ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ نَظَرِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ (وَالشَّهَادَةِ) تَحَمُّلًا وَأَدَاءً (وَنَحْوِهِمَا) [الصِّنْفُ الْخَامِسُ فِي آفَاتِ الْيَدِ] ِ وَهِيَ الْقَتْلُ أَوْ الْجَرْحُ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِلَا حَقٍّ) أَمَّا إذَا كَانَ بِحَقٍّ مِثْلَ الْقِصَاصِ وَقَطْعِ الْيَدِ وَالْخِتَانِ وَالْمُدَاوَاةِ أَوْ غَيْرِهِمَا (فَيَجُوزُ قَتْلُ النَّمْلَةِ) فِي الْمُخْتَارِ (بِغَيْرِ إلْقَاءٍ فِي الْمَاءِ) وَأَمَّا إلْقَاؤُهَا فِيهِ فَقِيلَ مَكْرُوهٌ اتِّفَاقًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ التَّعْذِيبِ أَقُولُ إنْ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْرَهَ (إذَا ابْتَدَأَتْ بِالْأَذَى) فِي الْبَدَنِ أَوْ الطَّعَامِ (وَبِدُونِهِ يُكْرَهُ) تَنْزِيهًا وَجَازَ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا الْأَذَى وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ قَتْلُهَا مَا لَمْ تَبْدَأْ بِالْأَذَى فِي التتارخانية تَكَلَّمَ الْمَشَايِخُ فِي قَتْلِ النَّمْلَةِ قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى لَا بَأْسَ فِيهِ إذَا ابْتَدَأَتْ بِالْأَذَى وَإِلَّا يُكْرَهُ وَفِي النَّوَازِلِ بِهِ نَأْخُذُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْقَاؤُهَا فِي الْمَاءِ وَكَذَا فِي التتارخانية لَا بَأْسَ بِإِحْرَاقِ الْحَطَبِ فِيهِ نَمْلٌ (وَقَتْلُ الْقَمْلَةِ يَجُوزُ بِكُلِّ حَالٍّ) حَالَ إبْدَائِهَا أَوْ لَا، وَأَمَّا طَرْحُهَا حَيَّةً فَلَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الْأَدَبِ وَإِنْ مُبَاحًا وَقَالُوا يَضُرُّ بِالْعَقْلِ لَكِنْ فِي التتارخانية إحْرَاقُ الْقَمْلِ وَالْعَقْرَبِ مَكْرُوهٌ وَطَرْحُهَا حَيَّةً مُبَاحٌ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ مِنْ حَيْثُ الْأَدَبِ (وَكَذَا الْجَرَادُ) لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمُؤْذِيَاتِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا الْأَذَى (وَالْهِرَّةُ إذَا كَانَتْ مُؤْذِيَةً تُذْبَحُ بِسِكِّينٍ) حَادٍّ قَالَ فِي التتارخانية وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْتُلَ مَا لَا يُؤْذِيهِ

إحراق كل حي بالنار أو بالماء الحار

(وَلَا تُضْرَبُ) لِأَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا يَكُونُ لِلتَّأْدِيبِ وَلَا تَأْدِيبَ لِعَدَمِ الْعَقْلِ (وَلَا تُعْرَكُ أُذُنُهَا) لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ بِلَا فَائِدَةٍ لِعَدَمِ تَعَلُّمِهَا بِالتَّعْلِيمِ [إحْرَاقُ كُلِّ حَيٍّ بِالنَّارِ أَوْ بِالْمَاءِ الْحَارِّ] (وَيُكْرَهُ إحْرَاقُ كُلِّ حَيٍّ) بِالنَّارِ أَوْ بِالْمَاءِ الْحَارِّ آذَى أَمْ لَا (قَمْلَةً أَوْ نَمْلَةً أَوْ عَقْرَبًا أَوْ نَحْوَهَا) مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ مِثْلُ الْحَيَّةِ وَالْجَرَادِ لِأَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ وَقَالَ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْعَذَابِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا حَيْثُ أَمْكَنَ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِالتَّحْرِيقِ هَذَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَقِصَّةُ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ كَانَتْ قِصَاصًا بِالْمُمَاثَلَةِ وَذَهَبَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إلَى حِلِّ تَحْرِيقِ الْكُفَّارِ مُبَالَغَةً فِي النِّكَايَةِ وَالنَّكَالِ لِأَعْدَاءِ ذِي الْجَلَالِ لَكِنْ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّهُ رَجَعَ أَمَّا لَوْ تَعَذَّرَ قَتْلُ مَنْ وَجَبَ قَتْلُهُ إلَّا بِإِحْرَاقِهِ فَيَجُوزُ فَقَدْ رَوَى الْحَكِيمُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمِنًى فَمَرَّتْ حَيَّةٌ فَقَالَ اُقْتُلُوهَا فَسَبَقَتْنَا إلَى جُحْرٍ فَدَخَلَتْ فَقَالَ هَاتُوا سَعَفَةً وَنَارًا فَأَضْرِمُوهَا نَارًا» انْتَهَى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» وَلَقَتَلَتُهُمْ لِقَوْلِهِ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى مَذْهَبِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَالِكٌ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ سَبَّ النَّبِيَّ فَأَمَرَ كَاتِبَهُ أَنْ يَكْتُبَ يُقْتَلُ فَزَادَ كَاتِبُهُ وَيُحَرَّقُ بِالنَّارِ فَقَالَ أَصَبْت كَذَا فِي الْمَطَامِحِ وَأَنَا أَقُولُ هَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فَإِنَّ كَلَامَ مَالِكٍ هَذَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ يُحَرَّقُ بَعْدَ قَتْلِهِ وَأَمَّا عَلِيٌّ فَحَرَّقَهُمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ فَلَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ هَذَا أَنْ يُنْسَبَ إلَى مَالِكٍ أَنَّهُ قَائِلٌ بِقَوْلِ عَلِيٍّ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنَاوِيِّ لَكِنْ فِي بَعْضِ حَوَاشِي الْجَلَالِ شَرْحِ عَقَائِدِ الْعَضُدِ عِنْدَ عَدِّ الْكَبَائِرِ عِنْدَ عَدِّ الْإِحْرَاقِ مِنْ الْكَبَائِرِ قَالَ وَأَفْتَوْا فِي الْقَمْلِ لِلضَّرُورَةِ وَأَيْضًا فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى جَوَازُ إحْرَاقِ الْجَرَادِ عِنْدَ امْتِنَاعِ دَفْعِ ضَرَرِهَا بِمُعَالَجَةِ غَيْرِ الْإِحْرَاقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إطْلَاقُ كَرَاهَةِ الْإِحْرَاقِ وَقَدْ عَدُّوهُ مِنْ الْكَبِيرَةِ فَتَأَمَّلْ وَعَنْ الْغِيَاثِيَّةِ الْبَهِيمَةُ الْمَوْطُوءَةُ تُذْبَحُ وَتُحَرَّقُ إنْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْحِمَارِ الْمَرِيضِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَرْجُوِّ الِانْتِفَاعِ وَيُكْرَهُ الْكَيُّ فِي الْوَجْهِ وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ الْعُضْوِ لِلْأَكَلَةِ وَلَا بَأْسَ بِشَقِّ الْمَثَانَةِ إذَا كَانَ فِيهَا حَصَاةٌ وَلَا بَأْسَ بِثَقْبِ أُذُنِ الطِّفْلِ وَخِصَاءِ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى بَنِي آدَمَ لَا بَأْسَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَخِصَاءُ بَنِي آدَمَ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ وَعَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ خِصَاءَ الْفَرَسِ حَرَامٌ وَكَذَا غَيْرُهُ إلَّا عِنْدَ الْمَنْفَعَةِ وَكَذَا خِصَاءُ السِّنَّوْرِ عِنْدَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ وَأَمَّا سِمَةُ الْبَهَائِمِ فَجَوَّزَهُ بَعْضٌ وَكَرِهَهُ آخَرُ وَلَا بَأْسَ بِكَيِّ الْأَغْنَامِ الْكُلُّ مِنْ التتارخانية وَفِي الْخُلَاصَةِ لَا بَأْسَ بِكَيِّ الصِّبْيَانِ إنْ لِدَاءٍ وَخِصَاءُ بَنِي آدَمَ مَكْرُوهٌ وَلِذَا يُكْرَهُ كَسْبُ الْخُصْيَانِ وَمِلْكُهُمْ وَاسْتِخْدَامُهُمْ لَكِنْ قَدْ سَمِعْت آنِفًا دَعْوَى الِاتِّفَاقِ فِي الْحُرْمَةِ (وَالْفَيْلَقُ) هُوَ دُودُ الْقَزِّ (لَوْ أُلْقِيَ فِي الشَّمْسِ لِيَمُوتَ الدِّيدَانُ لَا بَأْسَ بِهِ) فِي الْخَانِيَّةِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةَ الْآدَمِيِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ السَّمَكِ فِي الشَّمْسِ فَلَوْ أُحْرِقَ بِالنَّارِ لِيَمُوتَ بَدَلَ الشَّمْسِ لَا يَجُوزُ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِالشَّمْسِ وَلِلنَّصِّ فِي نَهْيِ الْإِحْرَاقِ (وَفِي السِّرَاجِيَّةِ لَا بَأْسَ بِإِحْرَاقِ حَطَبٍ فِيهِ نَمْلٌ) عِنْدَ ضَرُورَةِ الِاحْتِيَاجِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَخْلِيَتِهَا مَا أَمْكَنَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِالْإِحْرَاقِ (وَالْمَثُلَةُ) عَطْفٌ عَلَى " الْقَتْلُ " بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ التَّاءِ وَهِيَ قَطْعُ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ حَيًّا وَتَجِيءُ بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَجَعْلُ الْحَيَوَانِ غَرَضًا لِلرَّمْيِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ قَطْعُ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَفِي الدُّرَرِ اسْمٌ مِنْ مَثَلَ بِهِ يَمْثُلُ مَثْلًا كَقَتَلَ يَقْتُلُ قَتْلًا أَيْ نَكَّلَ بِهِ يَعْنِي جَعَلَهُ نَكَالًا وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِ كَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَتَسْوِيدِ الْوَجْهِ (وَضَرْبُ الْوَجْهِ مُطْلَقًا) بِذَنْبٍ

أَوْ لَا إنْسَانًا أَوْ لَا لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ قَالُوا وَيُخَاصَمُ ضَارِبُ الْحَيَوَانِ إلَّا بِوَجْهِهِ لَا لِوَجْهِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُخَاصِمُ ضَارِبَهُ بِلَا وَجْهٍ لِأَنَّهُ إنْكَارٌ فِي وَقْتِ مُبَاشَرَةِ الْمُنْكَرِ وَيَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَلَا يُخَاصَمُ الضَّارِبُ بِوَجْهٍ إلَّا إذَا ضَرَبَ الْوَجْهَ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ وَلَوْ بِوَجْهٍ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الْوَجْهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَضْرِبُوا الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» انْتَهَى (وَالضَّرْبُ) أَيْ ضَرْبُ مَا عَدَا الْوَجْهَ (بِغَيْرِ حَقٍّ) مُطْلَقًا وَأَمَّا بِحَقٍّ كَمُوجِبِ التَّعْزِيرِ وَالتَّأْدِيبِ فَجَائِزٌ بَلْ قَدْ يَجِبُ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْحُكَّامِ وَالْمُحْتَسَبِ بَلْ قَدْ يَعُمُّ وَقَدْ سَبَقَ وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ ضَرَبَ الْأُسْتَاذُ أَوْ الْمُعَلِّمُ الصَّبِيَّ أَوْ الْعَبْدَ بِلَا إذْنِ الْوَلِيِّ أَوْ الْوَصِيِّ وَتَلِفَ ضِمْنَ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ ضَرَبَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ الِابْنَ فَمَاتَ ضَمِنَا لِأَنَّهُمَا يَضْرِبَانِ لِأَنْفُسِهِمَا لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمَا بِخِلَافِ الْمُعَلِّمِ وَفِي الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ قَطَعَ الْأُصْبُعَ الزَّائِدِ مِنْ وَلَدِهِ فَهَلَكَ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَضْمَنُ وَقَالَ آخَرُ يَضْمَنُ وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ (وَالْغَصْبُ) هُوَ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ مِنْ يَدِ مَالِكِهِ بِلَا إذْنٍ لَا خُفْيَةً (وَالْغُلُولُ) أَيْ الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ وَالسَّرِقَةُ) هِيَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً (وَأَخْذُ الزَّكَاةِ) مِنْ مَالِهَا (وَ) أَخْذُ (الْعُشْرِ وَالنَّذْرِ) فَإِنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ كَمَصْرِفِ الزَّكَاةِ (وَ) أَخْذُ (صَدَقَةِ الْفِطْرَةِ وَ) أَخْذُ (الْكَفَّارَةِ) كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ (وَ) أَخْذُ (اللُّقَطَةِ) أَيْ الِانْتِفَاعُ بِهَا لَا أَخْذُهَا مُطْلَقًا فَإِنَّ رَفْعَهَا أَحَبُّ مِنْ تَرْكِهَا إنْ لَمْ يَخَفْ ضَيَاعَهَا وَأَمِنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا وَالْأَوْلَى عَدَمُ الْأَخْذِ إنْ وُجِدَ مَنْ يَأْخُذُ وَهِيَ إحْدَى الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ قَالَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ خَدَعَتْنِي امْرَأَةٌ وَفَقَّهَتْنِي امْرَأَةٌ وَزَهَّدَتْنِي امْرَأَةٌ أَمَّا الْأُولَى قَالَ كُنْت مُجْتَازًا فَأَشَارَتْ إلَيَّ امْرَأَةٌ إلَى شَيْءٍ مَطْرُوحٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَوَهَّمْت أَنَّهَا خَرْسَاءَ وَأَنَّ الشَّيْءَ لَهَا فَلَمَّا رَفَعْته إلَيْهَا قَالَتْ احْفَظْهُ حَتَّى تُسَلِّمْهُ لِصَاحِبِهِ الثَّانِيَةُ سَأَلَتْنِي امْرَأَةٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْحَيْضِ فَلَمْ أَعْرِفْهَا فَقَالَتْ قَوْلًا تَعَلَّمْت الْفِقْهَ مِنْ أَجْلِهِ الثَّالِثَةُ مَرَرْت بِبَعْضِ الطَّرَقَاتِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ هَذَا الَّذِي يُصَلِّي الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ فَتَعَمَّدْت ذَلِكَ حَتَّى صَارَ دَأْبِي كَمَا فِي آخِرِ الْأَشْبَاهِ وَوَاجِبٌ إنْ خَافَ الضَّيَاعَ وَقَالَ بَعْضٌ يَحِلُّ أَخْذُهَا وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ وَبِهِ أَخَذَ أَحْمَدُ (وَ) أَخْذُ (مَا وَجَبَ تَصَدُّقُهُ مِنْ الْمَالِ الْخَبِيثِ) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يُكْرَهُ لِرَدَاءَتِهِ وَخِسَّتِهِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَرَامِ مِنْ حَيْثُ كَرِهَهُ الشَّارِعُ وَلِلرَّدِيءِ مِنْ الْمَالِ وَكَوْنُ هَذِهِ الْأَخَذَاتِ آفَةً (إنْ كَانَ) الْآخِذُ (غَنِيًّا غِنَى الْأُضْحِيَّةَ) فَإِنْ قِيلَ الشَّرْطُ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ لِلْأَخِيرِ فَكَيْفَ هُنَا لِلْجَمِيعِ قُلْنَا هَذَا بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَوْ سَلِمَ فَالشَّرْطُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِلْجَمِيعِ لَا لِلْأَخِيرِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالْمَالُ الْخَبِيثُ كَالْأَخْذِ مِنْ الْبُيُوعَاتِ الْبَاطِلَةِ بَلْ الْفَاسِدَةِ وَالرِّبَا وَأَرْبَاحِ مَالِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ (وَهُوَ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) وَزْنَ سَبْعَةٍ (أَوْ قِيمَتَهَا فَارِغَيْنِ) أَيْ الدِّرْهَمَ وَالْقِيمَةَ (عَنْ الدَّيْنِ) وَالْمَهْرُ الْمُعَجَّلُ مَحْسُوبٌ لَا الْمُؤَجَّلُ (وَ) عَنْ (الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ) كَدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَأَثَاثِ الْمَنْزِلِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَسِلَاحِ الِاسْتِعْمَالِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا وَآلَاتِ الْمُحْتَرَفِينَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِمَّا ذُكِرَ لِمَنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهَا وَكَذَا لِمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهَا فَارِغَةً عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ مِنْ الْعِبَادِ بِمَا يَسْتَغْرِقُ ذَلِكَ أَوْ يَبْقَى مِنْهُ مَا لَا يَبْلُغُ هُوَ أَوْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ طَعَامُ شَهْرٍ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَجُوزُ صَرْفُ

الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ سَنَةٍ أَقُولُ لَعَلَّ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَكَسُوبَاتِهَا كَطَلَبَةِ الْعِلْمِ فَمَنْ يُحَصِّلُ أَثَرَ كَسْبِهِ فِي سَنَةٍ كَالزِّرَاعَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ سَنَةً وَمَنْ فِي شَهْرٍ سَنَةً فَكَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِيهِ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ لَهُ كِسْوَةُ الشِّتَاءِ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ يَجُوزُ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ حَوَانِيتُ أَوْ دَارٌ غَلَّتِهِ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَغَلَّتُهَا لَا تَكْفِي لِقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ كَانَ لَهُ ضَيْعَةٌ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَا يَكْفِي لَهُ وَلِعِيَالِهِ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ فِيهَا بُسْتَانٌ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبُسْتَانِ مَرَافِقُ الدَّارِ مِنْ الْمَطْبَخِ وَالْمُغْتَسَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ وَالْجَوَاهِرِ انْتَهَى (أَوْ) كَانَ (هَاشِمِيًّا) وَلَوْ فَقِيرًا بَلْ إلَى مَوَالِيهِمْ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ وَغَلَّةُ الْوَقْفِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ لَكِنَّهُ لَوْ دَفَعَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ عَلِمَ جَازَ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْآخِذِ فَمِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ وَيَجُوزُ إعْطَاؤُهُ ثُمَّ الْهَاشِمِيُّ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ الْعَبَّاسِ لَا بَنُو أَبِي لَهَبٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ قَرَابَتَهُ فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَكَغَيْرِهِ كَمَا فِي التتارخانية وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجَوَازُ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ جَوَازُ صَدَقَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ لَكِنْ فِي النَّهْرِ صَوَابُهُ عَدَمُ الْجَوَازِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ الْجَوَازُ مُطْلَقًا. وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ وَبِهِ نَأْخُذُ وَظَاهِرُ الِاخْتِيَارِ عَنْ الْمُنْتَقَى تَرْجِيحُهُ أَيْضًا فِي زَمَانِنَا لِعَدَمِ عَطِيَّتِهِمْ مِنْ الْخُمُسِ وَلِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ كَمَا حَرَّرْنَا فِي حَوَاشِي الدُّرَرِ وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ هُنَا مَنْ أُمُّهُ هَاشِمِيَّةٌ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ وَضْعُ عَلَامَةٍ خَضْرَاءَ فِي رَأْسِهِ كَمَا لِلْأَشْرَافِ الْهَاشِمِيَّةِ أَمْ لَا وَهَلْ يَكُونُ شَرِيفًا أَمْ لَا أَجَابَ صَاحِبُ الْمِنَحِ النَّسَبُ لِلْآبَاءِ لَا لِلْأُمَّهَاتِ فَلَيْسَ مَنْ أُمُّهُ هَاشِمِيَّةٌ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِهَاشِمِيٍّ وَأَمَّا وَضْعُ الْعَلَامَةِ الْخَضْرَاءِ بِرَأْسِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ نَسَبًا شَرِيفًا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ حَكَى فِي مَوْضِعٍ ثِقَةٌ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكُرْدِيِّ أَنَّ مَنْ لَهُ أُمٌّ سَيِّدَةٌ يَكُونُ سَيِّدًا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ حَمِيدُ الدِّينِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِيسَى مِنْ أَوْلَادِ إِسْحَاقَ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَشَايِخِنَا خِلَافَهُ وَبِهِ أَفْتَى شَيْخُنَا صَاحِبُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَذَا فِي الصُّرَّةِ. وَفِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ لِلسُّيُوطِيِّ عَنْ الْبَغَوِيّ أَوْلَادُ بَنَاتِ الْإِنْسَانِ لَا يُنْسَبُونَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا مَعْدُودِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَوْلَادِ فُلَانٍ لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْبِنْتِ فَلَا يُنْسَبُ أَوْلَادُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ وَلَدِ الرَّجُلِ وَمَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِأَنَّ الْوَلَدَ دَخَلَ فِيهِ، الْبِنْتُ دُونَ النِّسْبَةِ وَأَمَّا نِسْبَةُ الْحَسَنَيْنِ فَبِنَصٍّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَابْنُ الشَّرِيفَةِ لَا يَكُونُ شَرِيفًا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ شَرِيفًا فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ. وَأَمَّا وَضْعُ الْعَلَامَةِ الْخَضْرَاءِ فَلَيْسَ لَهَا وُقُوعٌ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ بَلْ حَدَثَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِأَمْرِ الْمَلِكِ شَعْبَانَ قَالَ شَارِحُ الْأَلْفِيَّةِ الْمَعْرُوفُ بِالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ جَعَلُوا لِأَبْنَاءِ الرَّسُولِ عَلَامَةً ... إنَّ الْعَلَامَةَ شَأْنُ مَنْ لَمْ يُشْهَرْ نُورُ النُّبُوَّةِ فِي وَسِيمِ وُجُوهِهِمْ ... يُغْنِي الشَّرِيفَ عَنْ الطِّرَازِ الْأَخْضَرِ وَخَطَّ الْفَقِيهُ أَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَةَ بِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ لَا يَمْنَعُ مَنْ أَتَى مِنْ غَيْرِ شَرِيفٍ وَلَا يُؤْمَرُ بِهَا مَنْ تَرَكَ مِنْ شَرِيفٍ وَلَمْ يَرِدْ بِلُبْسِهَا شَرْعٌ إبَاحَةً وَمَنْعًا هَذَا غَايَةُ عُصَارَةِ مَا فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ عُرْفَ زَمَانِنَا يَقْتَضِي مَنْعَ تِلْكَ الْعَلَامَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ لُزُومًا عَادِيًّا دَعْوَى السِّبْطِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي الصُّرَّةِ عَنْ مُعِينِ الْحُكَّامِ وَمَنْ انْتَسَبَ إلَى آلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضْرَبُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَيُشْهَرُ وَيُحْبَسُ طَوِيلًا حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ

عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا «مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، وَمِثْلُهُ فِي الْجَامِعِ بِلَفْظٍ آخَرَ (أَوْ كَانَ الْمُعْطِي) لِمَا ذُكِرَ (أَصْلَهُ أَوْ فَرْعَهُ) وَإِنْ عَلَا وَإِنْ سَفَلَ قِيلَ هَذَا قَوْلُ بَعْضٍ فَعِنْدَ بَعْضٍ يَطِيبُ الْمَأْخُوذُ وَعِنْدَ بَعْضٍ لَا وَطَرِيقُ الْمُصَنِّفِ مَا هُوَ الْأَحْوَطُ (فِيمَا عَدَا الْأَخِيرَيْنِ) مِنْ الْمَالِ الْخَبِيثِ وَاللُّقَطَةِ فَيَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ إنْ فَقِيرًا وَلَا يَكُونُ صَغِيرًا بَلْ عَلَى نَفْسِهِ وَعِرْسِهِ إنْ فَقِيرًا فِي اللُّقَطَةِ قِيلَ. وَكَذَا فِيمَا وَجَبَ تَصَدُّقُهُ مِنْ الْمَالِ الْخَبِيثِ لِأَنَّهُ لَا يُقَاوَمُ بِهِ قُرْبَةٌ (وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ) فَلَا عِنْدَ الشَّكِّ (أَنَّهُ إنَّمَا يُعْطِيهِ لِظَنِّهِ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الْفَقْرِ أَوْ الْعِلْمِ أَوْ الصَّلَاحِ أَوْ التَّقْوَى أَوْ الْكَرَامَةِ أَوْ الْوِلَايَةِ أَوْ نَحْوِهَا) مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ وَالرِّفْعَةِ (وَهُوَ) أَيْ الْآخِذُ (خَالٍ عَنْهَا) عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَذِرَ. وَيَقُولَ لَعَلَّك ظَنَنْت أَنِّي فَقِيرٌ أَوْ عَالِمٌ أَوْ صَالِحٌ وَلَسْت أَنَا مِثْلَ مَا اعْتَقَدْت ثُمَّ أَقُولُ لَعَلَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ طَرِيقُ التَّقْوَى وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى فَيَجُوزُ إلَّا فِي الْغِنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قِيلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ الْهَدَايَا عَلَى ثَلَاثَةٍ حَلَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِلتَّوَدُّدِ وَحَرَامٌ مِنْهُمَا لِلْإِعَانَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَحَرَامٌ مِنْ جَانِبِ الْآخِذِ فَقَطْ لِلْكَفِّ عَنْ الظُّلْمِ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إعْطَاؤُهُ كَالرِّبَا وَمَهْرِ الْبَغْيِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَالرِّشْوَةِ وَأُجْرَةِ النَّائِحَةِ وَالزَّامِرِ إلَّا فِي مَسَائِلِ الرِّشْوَةِ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَوْ الْأَمِيرِ إلَّا لِلْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُ الرِّشْوَةِ مَتْنًا وَشَرْحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَالْأَخْذُ مِنْ الْوَقْفِ الْبَاطِلِ كَوَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِدُونِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَوْتِ وَلَوْ كَانَ مُسَجَّلًا وَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَأَمَّا إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَوْتِ فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ قِيلَ نَعَمْ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ فِي الْمَنْقُولِ مُطْلَقًا وَيَصِحُّ عِنْدَ الثَّانِي إنْ تَبِعَا لِلْعَقَارِ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَصِحُّ مُطْلَقًا إنْ جَرَى التَّعَامُلُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّعَامُلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ التَّسْجِيلِ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ هَذَا التَّعَارُفِ وَالتَّعَامُلِ مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ هُنَا، الْمَنْقُولَاتُ الَّتِي يَصِحُّ وَقْفُهَا عِنْدَهُ إنَّمَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِي الِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا وَهُمَا لَيْسَتَا كَذَلِكَ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ وَقْفَهُمَا جَائِزٌ عِنْدَ زُفَرَ وَلَوْ سَلِمَ كَوْنُ قَوْلِهِ ضَعِيفًا فَقَدْ قُرِّرَ فِي الْفِقْهِيَّةِ نُفُوذُ حُكْمِ الْقَاضِي فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ وَلَوْ مَرْجُوحًا وَقَوْلُهُ وَلَوْ مُسَجَّلًا يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَوَازِ مُطْلَقًا قَالَ فِي التَّاسِعِ عَشَرَ مِنْ شَهَادَاتِ التتارخانية إذَا قَضَى فِي مَحَلِّ خِلَافٍ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ يَنْفُذُ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ وَبِهِ أَفْتَى حُسَامُ الدِّينِ وَفِي الْوَلْوَالِجيَّةِ إذَا قَضَى بِقَوْلٍ مَرْجُوحٍ عَنْهُ جَازَ وَكَذَا لَوْ قَضَى بِقَوْلٍ مُخَالَفِ قَوْلَ عُلَمَائِنَا إنْ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ فَإِنْ قِيلَ قَضَاءُ الْقَاضِي عَلَى وَفْقِ تَقْلِيدِ السُّلْطَانِ، وَسَلَاطِينُ زَمَانِنَا أَمَرُوا قُضَاتَهُمْ فِي مَنْشُورِهِمْ بِالْعَمَلِ بِالْقَوْلِ الْأَقْوَى عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ قُلْنَا ذَلِكَ فِيمَا لَهُ غَايَةُ ضَعْفٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو السُّعُودِ الَّذِي سَمَّوْهُ بِالْخِلَافِ دُونَ مَا سَمَّوْهُ بِالِاخْتِلَافِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَأَيْنَا فِي بَعْضِ رِوَاتِهِمْ بِعَدَمِ الْعَمَلِ بِالْقَوْلِ الضَّعِيفِ إلَّا وَقْفَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْقُنْيَةِ عَنْ الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ وَقْفُ مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى مَرْضَى الصُّوفِيَّةِ يَصِحُّ وَيُدْفَعُ الذَّهَبُ إلَى إنْسَانٍ مُضَارَبَةً لِيَسْتَغِلَّهَا وَيَصْرِفُ الرِّبْحَ وَكَذَلِكَ وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ انْتَهَى وَقِيلَ قَالَ زُفَرُ بِجَوَازِ وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ الطَّعَامِ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَقِيلَ لَهُ كَيْفَ يَكُونُ قَالَ يَدْفَعُ الدَّرَاهِمَ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِفَضْلِهَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ وَمَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ يُبَاعُ فَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ بِضَاعَةً أَوْ مُضَارَبَةً كَالدَّرَاهِمِ قَالُوا عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ قَالَ هَذَا الْكُرُّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَقْفٌ عَلَى

شَرْطِ أَنْ يُقْرَضَ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا بَذْرَ لَهُمْ فَيَزْرَعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَدْرُ الْقَرْضِ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَبَدًا جَازَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَمَا فِي قَاضِي خَانْ وَبِالْجُمْلَةِ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ هُنَا إنَّمَا هُوَ طَرِيقُ الْوَرَعِ وَإِلَّا كَمَا عَرَفْت يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ فِي الْفَتْوَى لَا سِيَّمَا عِنْدَ عُمُومِ الْبَلْوَى وَسَيُفَصَّلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (أَوْ مِنْ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ) أَيْ الْأَخْذِ مِنْهُ آفَةٌ إذَا كَانَ مَا يَأْخُذُهُ (عَلَى خِلَافِ شَرْطِ الْوَاقِفِ) قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ كَنَصِّ الشَّارِعِ لِقَوْلِهِمْ شَرْطُ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّارِعِ أَيْ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَفِي الْمَفْهُومِ وَالدَّلَالَةِ إلَّا فِي مَسَائِلَ: الْأَوَّلُ: شَرَطَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَعْزِلُ النَّاظِرَ فَلَهُ عَزْلُ غَيْرِ الْأَهْلِ. الثَّانِي: شَرَطَ أَنْ لَا يُؤَجِّرَ وَقْفَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَالنَّاسُ لَا يَرْغَبُونَ فِي اسْتِئْجَارِ سَنَةٍ أَوْ كَانَ فِي الزِّيَادَةِ نَفْعُ الْفُقَرَاءِ فَلِلْقَاضِي الْمُخَالَفَةُ. الثَّالِثُ: شَرَطَ الْقِرَاءَةَ عَلَى قَبْرِهِ. الرَّابِعُ: شَرَطَ التَّصَدُّقَ عَلَى سَائِلِ مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ. الْخَامِسُ: شَرَطَ خُبْزًا مُعَيَّنًا أَوْ لَحْمًا مُعَيَّنًا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فَيَجُوزُ صَرْفُ الْقِيمَةِ. السَّادِسُ: شَرَطَ عَدَمَ الِاسْتِبْدَالِ فَلِلْقَاضِي الِاسْتِبْدَالُ إنْ أَصْلَحَ. وَعَنْ الْقُنْيَةِ غَابَ الْمُتَفَقِّهُ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الرُّسُومِ بِلَا خِلَافٍ إنْ كَانَ مُشَاهَرَةً وَإِنْ كَانَ مُسَانَهَةً وَحَضَرَ وَقْتُ الْقِسْمَةِ وَقَدْ أَقَامَ أَكْثَرَ السَّنَةِ يَحِلُّ لَهُ وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ غَابَ الْمُتَعَلِّمُ عَنْ الْبَلَدِ أَيَّامًا ثُمَّ رَجَعَ وَطَلَبَ وَظِيفَتَهُ فَإِنْ خَرَجَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ لَيْسَ لَهُ طَلَبُ مَا مَضَى وَكَذَا إذَا خَرَجَ وَأَقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَإِنْ أَقَامَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَطَلَبِ الْقُوتِ وَالرِّزْقِ فَهُوَ عَفْوٌ وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ حُجْرَتَهُ وَتَبْقَى حُجْرَتُهُ وَوَظِيفَتُهُ عَلَى حَالِهِمَا إذَا كَانَتْ غَيْبَتُهُ مِقْدَارَ شَهْرٍ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا زَادَ كَانَ لِغَيْرِهِ أَخْذُ حُجْرَتِهِ وَوَظِيفَتِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ وَلَا يَخْتَلِفُ التَّعْلِيمُ وَإِنْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ مِنْ الْكِتَابَةِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا كَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ تَحِلُّ لَهُ الْوَظِيفَةُ وَإِنْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا يَحِلُّ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ حُجْرَتَهُ وَوَظِيفَتَهُ انْتَهَى (وَ) أَخْذُهُ (مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَصَارِفِهِ) قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ مَا حَاصِلُهُ يَجُوزُ لِمَنْ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَالْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَالصُّوفِيِّ الْأَكْلُ مِنْ أَوْقَافِ السَّلَاطِينِ الَّتِي كَانَتْ أَصْلُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِمَا شَرَطُوهُ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ مِنْهَا لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ قَرَّرَهُ النَّاظِرُ وَبَاشَرَ الْوَظِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ وَإِذَا مَاتَ الْمُدَرِّسُ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَلَّةِ وَقَبْلَ ظُهُورِهَا وَقَدْ بَاشَرَ مُدَّةً ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَ وَقْتِ قِسْمَةِ الْغَلَّةِ إلَى مُدَّةِ مُبَاشَرَتِهِ وَإِلَى مُبَاشَرَةِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ وَيَبْسُطَ الْمَعْلُومَ عَلَى الْمُدَرِّسِينَ وَيَنْظُرَ كَمْ يَكُونُ مِنْهُ لِلْمُدَرِّسِ الْمُنْفَصِلِ وَالْمُتَّصِلِ فَيُعْطِيَ بِحِسَابِ مُدَّتِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ زَمَانُ مَجِيءِ الْغَلَّةِ وَإِدْرَاكِهَا كَمَا فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ لِلطَّرَسُوسِيِّ لَكِنْ قَالَ فِي جِزْيَةِ الدُّرَرِ إمَامُ الْمَسْجِدِ إذَا رَفَعَ الْغَلَّةَ وَذَهَبَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا تُسْتَرَدُّ مِنْهُ غَلَّةُ بَعْضِ السَّنَةِ وَالْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الْحَصَادِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَقْتَ الْحَصَادِ يَؤُمُّ فِي الْمَسْجِدِ يَسْتَحِقُّ قَضَاءً كَالْجِزْيَةِ وَمَوْتِ الْقَاضِي فِي خِلَالِ سَنَةٍ وَقَالَ مِحَشَّيْهِ الْمَوْلَى الْوَانِي هَذَا وَمَا يَنْتَمِيهِ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ مَا أُخِذَ صِلَةً وَصَدَقَةً وَأَمَّا إذَا كَانَ أُجْرَةً فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَرَدَّ وَيُوَزَّعَ عَلَى الْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأَغْرَاضِ الْوَاقِفِينَ خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا (أَوْ) كَانَ مِنْ مَصَارِفِهِ لَكِنْ يَأْخُذُ (أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَّالُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ (وَ) الْأَخْذُ (مِنْ مَمْلُوكِ الْغَيْرِ بِلَا إذْنِ مَوْلَاهُ) وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا إلَّا أَنَّهُ يُهْدِي الْيَسِيرَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ يُضَيِّفُ مَنْ يُطْعِمُ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ اسْتِجْلَابًا لِقُلُوبِ النَّاسِ بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا أَعْطَاهُ الْمَوْلَى قُوتَ يَوْمِهِ فَدَعَا بَعْضَ رُفَقَائِهِ إلَى ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ فِيهِ بِخِلَافِ قُوتِ شَهْرِهِ قَالُوا وَلَا بَأْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ وَفِي التتارخانية الْمَرْأَةُ وَالْأَمَةُ لَا تُطْعِمُ وَلَا تَتَصَدَّقُ إنْ بِالطَّعَامِ الْمُدَّخَرِ كَالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ وَأَلَّا تَتَصَدَّقَ عَلَى الرَّسْمِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى انْتَهَى لَكِنْ إنْ صَرَّحَا بِالْمَنْعِ أَوْ فُهِمَ مِنْ حَالِهِمَا لَا يَجُوزُ

من آفات اليد تصوير صور الحيوانات

(وَالْمَالُ لَهُ) قُيِّدَ بِهِ لِأَنَّ الْمَالَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ الْمَوْلَى فَأَرْسَلَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِهِ يَجُوزُ الْأَخْذُ (وَ) الْأَخْذُ (مِنْ مَالِ مَنْ بِهِ جِنَّةٌ) مِنْ الْجُنُونِ (أَوْ عَتَهٌ) وَهُوَ خِفَّةٌ فِي الْعَقْلِ مُوجِبٌ لِقِلَّةِ الْفَهْمِ وَاخْتِلَاطِ الْكَلَامِ وَفَسَادِ التَّدْبِيرِ (أَوْ إغْمَاءٌ أَوْ صِغَرٌ) لِأَنَّهُمْ إنْ مَمْنُوعِينَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا لَهُمْ ضَرَرٌ مَحْضٌ مُطْلَقًا وَإِنْ مُرَخَّصَيْنِ فِيمَا لَهُمْ نَفْعٌ مَحْضٌ مُطْلَقًا وَإِنْ دَائِرًا بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَإِنْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ نَعَمْ وَإِلَّا فَلَا (وَلَوْ كَانَ الْمُعْطِي وَلِيَّهُ) كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ (إلَّا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ) كَالْبَيْعِ وَثَمَنِ الْبَيْعِ (بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ) إذَا بَاعَ الْأَبُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إنْ مَحْمُودَ الْحَالِ عِنْدَ النَّاسِ أَوْ مَسْتُورًا يَجُوزُ فَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ لَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ وَإِنْ فَاسِدًا فَلَا يَجُوزُ فِي الْعَقَارِ عَلَى الْمُخْتَارِ إلَّا إذَا كَانَ خَيْرًا وَفِي الْمَنْقُولَاتِ فِيهِ رِوَايَتَانِ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ خَيْرِيَّتِهَا وَهَلْ يَسْتَقْرِضُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ فِيهِ رِوَايَتَانِ كَإِقْرَاضِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَالْأَبُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ لَا بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فَإِنَّ بَيْعَ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ مِنْ وَصِيِّ الْيَتِيمِ يَجُوزُ، وَإِنْ مَنْصُوبَةٌ وَإِذَا أَنْفَقَ الْوَصِيُّ مَالَ الْيَتِيمِ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْأَدَبِ فَإِنْ رَشِيدًا فَصَحِيحٌ وَمَأْجُورٌ وَإِلَّا فَيُكَلَّفُ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ فِي صَلَاتِهِ وَفِي بَيْعِ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ أَوْ شِرَائِهِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ فَنَعَمْ وَإِلَّا فَلَا إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الْمُضَارَبَةُ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ لِنَفْسِهِ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَإِلَّا فَرِبْحُهُ وَاجِبُ التَّصَدُّقِ بِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَذَا فِي التتارخانية وَالْخُلَاصَةِ وَبِمَا قُرِّرَ عُلِمَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ لَهُ مُطْلَقًا نَعَمْ إنَّ الْأَسْلَمَ سَوَاءٌ لِلْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ هُوَ التَّرْكُ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ الْمَنْفَعَةِ وَفِي التَّنْوِيرِ وَصَحَّ بَيْعُ الْوَصِيِّ وَشِرَاؤُهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ وَمِنْ نَفْسِهِ فَإِنْ وَصِيَّ الْقَاضِي لَا مُطْلَقًا وَإِنْ وَصِيَّ الْأَبِ فَجَائِزٌ بِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَبَيْعُ الْأَبِ مَالَ صَغِيرِهِ مِنْ نَفْسِهِ جَائِزٌ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَلَا تَغَابُنَ فِيهِ وَتَفْسِيرُ الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا فِي الْمِنَحِ أَنْ يُبَاعَ مَا يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ بِعَشَرَةٍ مِنْ الصَّبِيِّ أَوْ يَشْتَرِي مَا يُسَاوِي خَمْسَةَ عَشَرَ بِعَشَرَةٍ لِلصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ إنْ احْتَاجَ إلَى مَالِ وَلَدِهِ لِفَقْرِهِ أَكَلَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ لِعَدَمِ كَوْنِ مَالِهِ فِي جَنْبِهِ أَكَلَهُ بِالْقِيمَةِ (وَأَخْذُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا) كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ (مِمَّا يَحْرُمُ عَيْنُهَا) إلَّا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَلِذَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ لَا تُحْمَلُ الْجِيفَةُ إلَى الْهِرَّةِ وَلَكِنْ تُحْمَلُ الْهِرَّةُ إلَى الْجِيفَةِ وَكَذَا الْعَذِرَةُ إلَى التُّرَابِ وَلَا يُحْمَلُ الْخَمْرُ إلَى الْخَلِّ وَالتَّخَلُّلِ لَكِنْ يُحْمَلُ الْخَلُّ إلَى الْخَمْرِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَحَمْلُهَا وَلَوْ كَانَ لِإِطْعَامِ الْهِرَّةِ وَنَحْوِهَا) كَالْكَلْبِ لَعَلَّ نَحْوَهُ حَمْلُ الدِّبْسِ النَّجَسِ إلَى النَّحْلِ فِي الْحَاشِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِطْعَامُ بِدُونِ الْأَخْذِ وَالْحَمْلِ بِالْيَدِ بِإِتْيَانِ الْهِرَّةِ وَنَحْوِهَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (أَوْ لِلتَّخْلِيلِ) لِإِمْكَانِهِ بِدُونِ الْحَمْلِ أَيْضًا (إلَّا) حَمَلَهَا (لِتَطْهِيرِ الْمَكَانِ) الَّذِي فِيهِ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ (وَ) حَمْلُ الْخَمْرِ (لِلْإِرَاقَةِ وَ) [مِنْ آفَاتِ الْيَدِ تَصْوِيرُ صُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ] ِ خ م عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا إنَّ «أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» صُورَةُ ذِي رُوحٍ تَامٍّ فِي نَحْوِ وَرَقٍ أَوْ قِرْطَاسٍ أَوْ حَجَرٍ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ بِصُورَةِ حَيَوَانٍ وَشَمِلَ النَّهْيُ التَّصْوِيرَ عَلَى مَا يُدَاسُ وَيُمْتَهَنُ كَبِسَاطٍ وَوِسَادَةٍ وَآنِيَةٍ وَطُرُقٍ وَنَمَطٍ وَسِتْرٍ وَسَقْفٍ وَغَيْرِهَا وَمَنْ وَهِمَ اخْتِصَاصَ النَّهْيِ بِغَيْرِ الْمُمْتَهَنِ فَقَدْ وَهِمَ وَالْعَجَبُ مِنْ الطِّيبِيِّ مَعَ كَوْنِهِ شَافِعِيًّا وَقَعَ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَذَا الْقَائِلُ مَعَ كَوْنِ مَنْقُولِ مَذْهَبِهِ خِلَافَهُ خَرَجَ بِالتَّامِّ مَقْطُوعُ نَحْوِ رَأْسٍ مِمَّا لَا يَعِيشُ بِدُونِهِ قَالَ مُسْلِمٌ كُنْت مَعَ مَسْرُوقٍ فِي بَيْتٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ مَرْيَمَ فَقَالَ مَسْرُوقٌ فِي هَذَا تَمَاثِيلُ كِسْرَى فَقُلْت فِي هَذَا تَمَاثِيلُ مَرْيَمَ فَقَالَ أَمَا إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

يَقُولُ بِوَاسِطَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ ثُمَّ عَنْ النَّوَوِيِّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَ الصُّورَةَ لِلتَّعَبُّدِ أَوْ عَلَى مَنْ قَصَدَ بِهِ مُضَاهَاةَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ وَهُوَ كَافِرٌ يَزِيدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ قُبْحِ كُفْرِهِ وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَصَاحِبُ كَبِيرَةٍ كَيْفَ يَكُونُ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا أَوْرَدَ عَلَيْهِ عَدَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ الْكَبَائِرِ لَيْسَ فِي شَيْءِ مِنْ الْمَشَاهِيرِ بَلْ عَلَى أَيِّ حَالٍ يُحْمَلُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّشْدِيدِ فِي الْمَنْعِ أَقُولُ لَا يُقْبَلُ مِثْلُهُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الْمُبَالَغَةِ لَعَلَّ الْمُرَادَ إمَّا عَلَى اعْتِقَادِ الْحِلِّيَّةِ أَوْ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِيَّة (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» تَعْجِيزًا أَوْ سُخْرِيَةً وَقِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّصْوِيرَ أَكْبَرُ مَعْصِيَةً مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا إذْ أُشِيرَ فِي تَهْدِيدِهِ إلَى الْغَايَةِ إذْ الْخُلُودُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِمَعْنَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ وَأَمَّا هُنَا فِيمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَبَدًا وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْجَامِعِ «مَنْ مَثَّلَ بِحَيَوَانٍ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (وَلَمْسُ مَا يَحْرُمُ نَظَرُهُ أَوْ يُكْرَهُ) وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ وَجْهَهَا وَكَفَّهَا وَإِنْ أَمِنَ مِنْ الشَّهْوَةِ لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ بِخِلَافِ النَّظَرِ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً وَبَلْوَى وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَلِأَنَّ اللَّمْسَ أَغْلَظُ مِنْ النَّظَرِ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِيهِ أَكْثَرُ (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بِلَا ضَرُورَةٍ) كَمَعْرِفَةِ النَّبْضِ وَالْفَصْدِ وَسَائِرِ الْمُدَاوَاةِ (غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُصَافَحَةُ الْعَجَائِزِ وَغَمْزُهَا بِرِجْلِهِ إذَا أَمِنَا الشَّهْوَةَ) قِيلَ بِشَرْطِ عَدَمِ الْخَلْوَةِ مَعَهَا بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيَّةِ الشَّابَّةِ وَلَوْ مِنْ الْأَقْرِبَاءِ كَبِنْتِ عَمِّهِ وَخَالَتِهِ بِخِلَافِ نَظَرِ كَفَّيْهَا وَرِجْلَيْهَا عِنْدَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ (بِخِلَافِ مُصَافَحَةِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ) لِأَنَّ الْمُصَافَحَةَ تَحِيَّةٌ وَالذِّمِّيُّ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ لِلثَّوَابِ وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا» فَيُسَنُّ ذَلِكَ مُؤَكَّدًا قَالَ النَّوَوِيُّ الْمُصَافَحَةُ سُنَّةٌ مَجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ كُلِّ لِقَاءٍ وَمَا اُعْتِيدَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ لَا أَصْلَ لَهُ لَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ وَمَنْ حَرُمَ نَظَرُهُ حَرُمَ مَسُّهُ انْتَهَى، وَأَفْهَمَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْمُصَافَحَةِ أَنَّهُ لَا يَنْحَنِي لِصَاحِبِهِ إذَا لَقِيَهُ وَلَا يَلْتَزِمُهُ وَلَا يُقَبِّلُهُ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ صَرِيحًا فَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ قَالَ لَا قَالَ أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ لَا قَالَ فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ قَالَ نَعَمْ» كَذَا فِي الْفَيْضِ وَرُوِيَ أَيْضًا «مَنْ صَافَحَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَحَرَّكَ يَدَهُ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ» وَرُوِيَ أَيْضًا «إذَا الْتَقَى الْمُؤْمِنَانِ فَتَصَافَحَا تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ الْوَرَقُ الْيَابِسُ مِنْ الشَّجَرِ» وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ» أَيْ مُشَارَكَةً فِي الدِّينِ كَانَ أَحَبُّهُمَا إلَى اللَّهِ أَحْسَنَهُمَا بِشْرًا وَطَلَاقَةَ وَجْهٍ وَفَرَحٍ وَتَبَسُّمٍ وَحُسْنِ إقْبَالٍ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ عَلَيْهِ سِمَةُ الْإِيمَانِ وَبَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَجَمَالُهُ فَأَحْسَنُهُمَا بِشْرًا أَفْهَمُهُمَا لِذَلِكَ وَأَعْقَلُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ أَعْقَلُهُمَا لِمَا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا تَصَافَحَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ لِلْبَادِئِ بِالسَّلَامِ تِسْعُونَ وَلِلْمُصَافِحِ عَشْرَةٌ لِأَنَّ الْمُصَافَحَةَ كَالْبَيْعَةِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ الْأُخُوَّةُ وَالْوَلَايَةُ - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]- {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]- فَإِذَا لَقِيَهُ فَصَافَحَهُ فَكَأَنَّهُ بَايَعَهُ عَلَى هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يُجَدِّدُ بَيْعَةً فَيُجَدِّدُ اللَّهُ تَعَالَى ثَوَابَهَا كَمَا يُجَدِّدُ ثَوَابَ الْمُصِيبَةِ بِالِاسْتِرْعَاءِ وَكَمَا يُجَدِّدُ لِلْحَامِدِ عَلَى النِّعْمَةِ ثَوَابًا عَلَى شُكْرِهَا فَإِذَا فَارَقَهُ بَعْدَ مُصَافَحَتِهِ لَمْ يَخْلُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ خَلَلٍ فَتُجَدَّدُ عِنْدَ

من آفات اليد إهلاك المال أو نقصه

لِقَائِهِ فَالسَّابِقُ إلَى التَّجْدِيدِ لَهُ مِنْ الْمِائَةِ تِسْعُونَ لِاهْتِمَامِهِ بِشَأْنِ التَّمَسُّكِ بِالْأُخُوَّةِ وَالْوَلَايَةِ وَمُسَارَعَتِهِ إلَى تَجْدِيدِهَا وَحَثِّهِ عَلَى ذَلِكَ وَحِرْصِهِ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ السَّمْهُورِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَالْحَلِيمِيِّ مَعْنَى سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أُحَيِّيكُمْ بِكَوْنِ السَّلَامَةِ الْكَامِلَةِ مِنْ جَمِيعِ مَعَاطِبِ الدَّارَيْنِ وَآفَاتِهَا مَعَ الْأَمْنِ وَالْمُسَالَمَةِ مُحِيطَةً بِكُمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِكُمْ إكْرَامًا لَكُمْ بِكُلِّ حَالٍ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا فَلَا يَصِلُكُمْ مِنِّي أَذًى فَقَدْ طَلَبْت لَكُمْ تِلْكَ السَّلَامَةَ الْمَوْصُوفَةَ مِنْ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ الْمَالِكُ لِتَسْلِيمِ عِبَادِهِ وَالْمُسَلِّمُ لَهُمْ وَصَاحِبُ السَّلَامَةِ لَا مُعْطِيَ فِي الدَّارَيْنِ غَيْرُهُ وَلَا مَرْجُوَّ فِيهِمَا إلَّا خَيْرُهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَأَمَّا الْمُصَافَحَةُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ فَعَنْ شَرْحِ الْمَجْمَعِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَفِي رِسَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِلشُّرُنْبُلَالِيِّ جَائِزَةٌ وَفِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ ثُمَّ السُّنَّةُ فِي الْمُصَافَحَةِ إلْصَاقُ صَفْحَةِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ وَإِقْبَالُ الْوَجْهِ بِالْوَجْهِ وَأَخْذُ الْأَصَابِعِ لَيْسَ بِمُصَافَحَةٍ بَلْ فِعْلِ الرَّوَافِضِ كَمَا عَنْ الصَّلَاةِ الْمَسْعُودِيَّةِ وَفِي الْمُنْيَةِ أَنَّهَا بِكِلْتَا يَدَيْهِ وَفِي الْخِزَانَةِ بِلَا حَائِلٍ كَالثَّوْبِ وَفِي الشِّرْعَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ وَأَنْ يَأْخُذَ الْإِبْهَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَافَحْتُمْ فَخُذُوا الْإِبْهَامَ فَإِنَّ فِيهِ عِرْقًا تَنْشَعِبُ مِنْهُ الْمَحَبَّةُ» كَمَا عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ [مِنْ آفَاتِ الْيَدِ إهْلَاكُ الْمَالِ أَوْ نَقْصُهُ] (وَ) مِنْ آفَاتِ الْيَدِ (إهْلَاكُ الْمَالِ أَوْ نَقْصُهُ) بِدُونِ إرَادَةِ وَصْلَةِ نَفْعٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ (أَوْ تَعْيِيبُهُ) لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّقْصِ مَا بِحَسَبِ الصُّورَةِ وَالْعَيْبِ مَا بِحَسَبِ الْقِيمَةِ (بِلَا غَرَضٍ مَشْرُوعٍ) وَإِلَّا فَلَيْسَ بِآفَةٍ بَلْ لَيْسَ بِإِهْلَاكٍ وَنَقْصٍ فَتَأَمَّلْ (بِالْقَطْعِ أَوْ الْكَسْرِ) كَكَسْرِ آلَةِ اللَّهْوِ وَدِنَانِ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهٍ (أَوْ الْحَرْقِ أَوْ الْغَرَقِ) فِي نَحْوِ الْبَحْرِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِغْرَاقِ (أَوْ الْإِلْقَاءِ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ) كَقَعْرِ الْبَحْرِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَالَ الَّذِي أُهْلِكَ أَوْ نَقَصَ أَوْ تَعَيَّبَ (إنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَظُلْمٌ) وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ أَنَّ الظُّلْمَ يَجِبُ دَفْعُهُ وَيَحْرُمُ تَقْرِيرُهُ (وَتَعَدٍّ يُوجِبُ الضَّمَانَ) - {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]- (وَإِنْ كَانَ لِنَفْسِهِ فَإِسْرَافٌ) السَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ الْفَاتِرِ إنْ لِغَيْرِهِ فَظُلْمٌ وَإِسْرَافٌ وَإِنْ لِنَفْسِهِ فَإِسْرَافٌ فَقَطْ (وَهُوَ حَرَامٌ) فَيَسْبِقُ إلَى الْفَاتِرِ أَيْضًا أَنَّ حُرْمَةَ مِثْلِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ آفَةُ الْيَدِ وَالسَّرَفِ وَإِلَّا فَلَا يَحْسُنُ عَدُّ الْمُصَنِّفِ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ فِي مَحَلَّيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ كَتَدَاخُلِ الْأَقْسَامِ مَعْنًى فَتَأَمَّلْ (لِمَا سَبَقَ وَالْإِعْطَاءُ لِلرِّيَاءِ وَالْمَعْصِيَةِ وَانْتِزَاعُ غَرِيمِ إنْسَانٍ مِنْ يَدِهِ فَإِنَّهُ ظُلْمٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّعْزِيرَ) لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لَمْ يَتَقَدَّرْ فِيهَا حَدٌّ (لَا الضَّمَانَ) الْأَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ الضَّمَانُ لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَتْحَ بَابِ الْإِصْطَبْلِ وَقَفَصِ الطَّيْرِ وَحَلَّ الْحَبْسِ الشَّرْعِيِّ (وَرَفْعُ الذِّلَّةِ) هِيَ بَاقِي طَعَامِ السُّفْرَةِ عَنْ الْقَامُوسِ الذِّلَّةُ اسْمٌ لِمَا تَحْمِلُ مِنْ مَائِدَةِ صَدِيقِك أَوْ قَرِيبِك (فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍّ) سَوَاءٌ تُعُومِلَ ذَلِكَ أَوْ لَا سَوَاءٌ وَقَعَ فِي الْعَادَةِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ قُبَيْلَ هَذَا الضُّيُوفُ إذَا أَعْطَوْا اللُّقْمَةَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يُعْتَبَرُ تَعَامُلُ النَّاسِ وَلَوْ نَاوَلَ الْخَدَمَ الَّذِينَ عَلَى رَأْسِ الْمَائِدَةِ وَنَاوَلَ الْهِرَّةَ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَلَوْ نَاوَلَ الْكَلْبَ لَا يَجُوزُ إلَّا الْخُبْزَ الْمُحْتَرِقَ، وَالْمُعْتَبَرُ هِيَ الْعَادَةُ وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا انْتَهَى وَفِي التتارخانية أَيْضًا قُبَيْلَ قَوْلِهِ وَأَمَّا رَفْعُ الذِّلَّةِ فَهُوَ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا بِالْإِذْنِ صَرِيحًا إعْطَاءُ بَعْضِ الضُّيُوفِ بَعْضًا عَلَى التَّعَارُفِ وَفِي

الْخَانِيَّةِ إنْ عَلِمَ رِضَاهُ فَلَا بَأْسَ (إلَّا بِإِذْنِهِ) صَرِيحًا فَلَا يَكْفِي الْإِذْنُ دَلَالَةً كَالتَّعَامُلِ وَالْعَادَةِ وَعَلِمَ رِضَاهُ بِالْقَرَائِنِ وَقِيلَ أَمَّا رَفْعُهَا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ صَاحِبِهَا فَأَذِنَ لَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَرَامٌ لِأَنَّ إذْنَهُ لِحَيَائِهِ ثُمَّ قِيلَ لَكِنَّ اللَّائِقَ إنْ ظَنَّ طِيبَ نَفْسِهِ فَلَا يَحْرُمُ إلَّا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ السُّؤَالِ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ تِلْكَ الذِّلَّةُ مِمَّا انْقَطَعَ عَنْهُ الرَّغْبَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِهَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ هُوَ الشُّمُولُ لَكِنْ يَنْبَغِي عَدَمُ الْحُرْمَةِ لِمَا فِي الْخُلَاصَةِ الْكِسْرَاتُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ وَهَذَا مِنْ الْإِلْقَاءِ إلَى النَّهْرِ أَوْ الطَّرِيقِ إلَّا لِأَجْلِ النَّمْلِ كَمَا هُوَ عَادَةُ بَعْضِ السَّلَفِ وَفِيهِ أَيْضًا الثِّمَارُ السَّاقِطَةُ مِنْ الشَّجَرَةِ إنْ فِي الْمِصْرِ لَا يَتَنَاوَلُهَا إلَّا بِعِلْمِ إبَاحَةِ صَاحِبِهَا صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً وَإِنْ فِي الْحَائِطِ فَإِنْ مِمَّا تَبَقَّى كَالْجَوْزِ لَا يَسَعُهُ الْأَخْذُ وَإِلَّا فَالْأَصَحُّ الْأَخْذُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ النَّهْيُ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً وَالثِّمَارُ فِي الْأَشْجَارِ الْأَفْضَلُ عَدَمُ الْأَخْذِ فِي مَوْضِعٍ مَا إلَّا بِالْإِذْنِ وَإِنْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهَا لِكَثْرَتِهَا يَسَعُهُ الْأَكْلُ لَا الْحَمْلُ وَنَحْوُ التُّفَّاحِ وَالْكُمَّثْرَى مِنْ النَّهْرِ الْجَارِي يَجُوزُ أَكْلُهُ وَإِنْ كَثُرَ وَلَا يَضْمَنُ وَأَمَّا الْحَطَبُ فَإِنَّهُ لَا قِيمَةَ فَلَا وَإِلَّا فَنَعَمْ انْتَهَى مُلَخَّصًا (كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ) وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ الْمُسَافِرُونَ إذَا خَلَطُوا أَزْوَادَهُمْ أَوْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمًا عَلَى عَدَدِ الرُّفْقَةِ وَاشْتَرَوْا طَعَامًا وَأَكَلُوا فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي الْأَكْلِ (وَغَمْزُ الْأَعْضَاءِ فِي الْحَمَّامِ بِلَا ضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ) مُطْلَقًا عَلَى الْأَصَحِّ وَعِنْدَ الْبَعْضِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ الشَّهْوَةِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَجُوزُ غَمْزُ مَا عَدَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ لَعَلَّ هَذَا أَوْفَقُ بِالْقِيَاسِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَجُوزُ لِمَنْ لَا لِحْيَةَ لَهُ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْ الشَّهْوَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ بِاللِّحْيَةِ قِيلَ هَكَذَا وَجَدْته فِي حَاشِيَةِ الْكِتَابِ مَسْمُوعًا مِنْ الْأُسْتَاذِ وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ جَوَّزَ لِلْحَمَّامِيِّ النَّظَرَ إلَى عَوْرَةِ الرِّجَالِ انْتَهَى لَعَلَّ ذَلِكَ إمَّا لَا يَكُونُ قَصْدًا أَوْ بِالضَّرُورَةِ (وَ) مِنْهَا (كُلُّ لَعِبٍ وَلَهْوٍ سِوَى مُلَاعَبَةِ الزَّوْجِ وَالْأَمَةِ) مِمَّا يُفْضِي إلَى الْجِمَاعِ لَا كُلُّ مُلَاعَبَةٍ كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ (وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ) مِثْلُ الرَّمْيِ وَالْمُسَابَقَةِ (كَالنَّرْدِ) مِثَالٌ لِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَحُرْمَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِغَرَضٍ بَاطِلٍ وَوَاضِعُهُ مَجُوسِيٌّ فَمَنْ يَلْعَبُ بِهِ يَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي إحْيَاءِ سُنَّةِ الْمَجُوسِ الْمُسْتَنْكَرَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (م عَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ» اسْمُ لَعِبٍ مَعْرُوفٍ «فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ» قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَكْلُ لِأَنَّ الْغَمْسَ بِالْيَدِ يَكُونُ حَالَةَ الْأَكْلِ غَالِبًا فَيَكُونُ اللَّعِبُ حَرَامًا لِتَشْبِيهِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْمُحَرَّمِ (وَفِي رِوَايَةِ د أَبِي مُوسَى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ) قَالَ فِي الْفَيْضِ قَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ

عَلَى حُرْمَةِ اللَّعِبِ بِهِ وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَلَا يَخْلُو عَنْ نِزَاعٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ دَخَلْت فِي زَمَنِ الْحَدَاثَةِ عَلَى شَيْخٍ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ مَعَ آخَرَ يُعْرَفُ بِأَزْدِشِيرَ فَقُلْت الْأَزْدِشِيرُ وَالنَّرْدَشِيرُ بِئْسَ الْمَوْلَى وَبِئْسَ الْعَشِيرُ (وَالشِّطْرَنْجِ) مِثَالٌ لِلَّهْوِ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ عِنْدَنَا وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَوْ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ يُفْتَحْ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ وَقِيلَ بِالْفَتْحِ أَيْضًا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ الشِّطْرَنْجَ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَقَالَ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ وَعَنْ الْكَافِي فِي إبَاحَتِهِ إعَانَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَعَنْ التَّجْنِيسِ وَلَوْ قَالَ إنَّ هَذَا اللَّعِبَ لِتَهْذِيبِ الْفَهْمِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَلَوْ حَرُمَ فَأَمَرَ أَنَّهُ طَالِقٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ أَوْ الْقِيَاسِ كَمَا فِي النِّصَابِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُبَاحُ لِتَشْحِيذِ الْخَاطِرِ وَتَزْكِيَةِ الْفَهْمِ وَلَا يُبَاحُ بِقَصْدِ الْقِمَارِ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّكَلُّمِ بِالْفُحْشِ وَفَوْتِ وَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ الْجَمَاعَةِ وَبِكَوْنِهِ أَحْيَانًا وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَأْسًا بِالسَّلَامِ لِشُغْلِهِمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ وَلَوْ سَاعَةً وَقَالَ الْأَوْلَى عَدَمُهُ زَجْرًا لَهُمْ وَعَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ عَنْ أَنْوَارِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى شَكْلِ حَيَوَانٍ أَوْ اقْتَرَنَ بِهِ قِمَارٌ أَوْ فُحْشٌ وَفِي إحْيَائِهِ بِالْإِصْرَارِ كَبِيرَةٌ وَفِي عُمْدَتِهِ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إنْ لَعِبَ بِهِ فِي الْأَحَايِينِ مَرَّةً وَفِي رَوْضَتِهِ رُدَّتْ شَهَادَةُ مُدَاوِمِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَمَغْلُوبَةٌ وَتَابِعَةٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْغَالِبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] لِأَنَّ الْغَالِبَ التَّشَاغُلُ عَنْ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْكَلَامِ الْبَاطِلِ فَلَزِمَ عَدَمُ الْجَوَازِ لِتَعَلُّمِ حِيَلِ الْحَرْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] وَعَنْ الثَّوْرِيِّ وَوَكِيعٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى - {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة: 3]- الشِّطْرَنْجُ كَذَا فِي النِّصَابِ قِيلَ فِي الزَّيْلَعِيِّ أَيْضًا وَفِي الْخُلَاصَةِ وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ. اهـ. وَقَدْ سَمِعْت دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي حُرْمَتِهِ فَتَأَمَّلْ وَأَمَّا حَدِيثُ «مَنْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ فَهُوَ مَلْعُونٌ» فَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ عَنْ النَّوَوِيِّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ كَذِبٌ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الْمَرْفُوعِ شَيْءٌ فِي هَذَا الْبَابِ ثُمَّ تَعَقَّبَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الْجَامِعِ الَّذِي الْتَزَمَ عَدَمَ ذِكْرِ الْمَوْضُوعِ فِيهِ غَايَتُهُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ يَتَقَوَّى بِأَحَادِيثَ ثَابِتَةٍ وَرَدَتْ فِي ذَمِّ الشِّطْرَنْجِ وَهَذَا حَدِيثُ «مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّاظِرِ إلَيْهِ كَآكِلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الذَّهَبِيِّ وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ ثَمَّةَ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إلَى تَحْرِيمِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ فَقَدْ لَعِبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحْبِ وَمَنْ لَا يُحْصَى مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ الْحُفَّاظُ لَمْ يَثْبُتْ فِي تَحْرِيمِهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا صَحِيحٌ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْمِيزَانِ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُنْكَرٌ وَرَوَى الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمِنْ أَسَانِيدِهِ حَيْوَةُ مَجْهُولٌ وَالْإِسْنَادُ مُنْقَطِعٌ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَ) مِنْهَا (ضَرْبُ الْقَضِيبِ) أَيْ الْعُودِ عَلَى نَحْوِ نُحَاسٍ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ

(وَالطُّنْبُورُ وَجَمِيعُ الْمَعَازِفِ) قِيلَ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ (وَ) هِيَ (الْمَلَاهِي إلَّا الدُّفَّ بِلَا جَلَاجِلَ فِي لَيْلَةِ الْعُرْسِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ الزِّفَافِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلِنُوا بِالزِّفَافِ وَلَوْ بِالدِّفَافِ (وَإِلَّا طَبْلَ الْغُزَاةِ) لِأَنَّ فِيهِ إعْلَامَ وَقْتِ النُّزُولِ وَالِارْتِحَالِ وَتَشْجِيعَ الْغُزَاةِ عَلَى الْحَرْبِ أَعَادَ أَدَاةَ الِاسْتِثْنَاءِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ خِلَافُ الْمُرَادِ بِعَطْفِهِ عَلَى الْمَعَازِفِ (وَالْحُجَّاجِ وَالْقَافِلَةِ وَ) مِنْهَا (لَعِبُ الْحَمَامِ) قَالُوا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَلْعَبُ بِهَا وَفِي الْقُنْيَةِ لَهُ حَمَامَاتٌ مَمْلُوكَةٌ يُطَيِّرُهَا فَوْقَ السَّطْحِ مُطَّلِعًا عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيَكْسِرُ زُجَاجَاتِ النَّاسِ بِرَمْيِهِ تِلْكَ الْحَمَامَاتِ يُعَزَّرُ وَيُمْنَعُ أَشَدَّ الْمَنْعِ وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ ذَبَحَهَا الْمُحْتَسِبُ وَفِي الْخَانِيَّةِ وَيُكْرَهُ إمْسَاكُ الْحَمَامَاتِ إنْ كَانَ يَضُرُّ (د عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامَةً» لَعِبًا وَلَهْوًا بِذَلِكَ «فَقَالَ شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً» لِأَنَّهُ يَقْفُو أَثَرَهَا لَاعِبًا بِهَا وَإِنَّمَا سَمَّاهَا شَيْطَانَةً لِأَنَّهَا أَغْفَلَتْهُ عَنْ الْحَقِّ وَأَشْغَلَتْهُ عَمَّا يَهُمُّهُ مِنْ صَلَاحِ الْمَنْزِلَيْنِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ شَيْطَانًا لِمُبَاعَدَتِهِ عَنْ الْحَقِّ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ وَاشْتِغَالِهِ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَفِي الْفَيْضِ فَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالْحَمَامِ تَنْزِيهًا لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ وَقِلَّةُ مُرُوءَةٍ وَيَجُوزُ اتِّخَاذُهَا لِفِرَاخِهَا وَأَكْلُهَا وَالْأُنْسُ بِهَا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِعَدَمِ الْإِضْرَارِ لِأَحَدٍ (وَ) مِنْهَا (التَّحْرِيشُ) أَيْ الْإِغْرَاءُ (بَيْنَ الْبَهَائِمِ) كَالدِّيكِ وَالْكَبْشِ وَالتَّيْسِ وَالْكِلَابِ وَمِثْلُهُ إغْرَاءُ الْأُمَرَاءِ الْأَسَدَ مَعَ النَّمِرِ أَوْ مَعَ الْبَقَرِ أَوْ الْجَمَلِ (د ت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ» أَيْ الْإِغْرَاءِ بَيْنَهُمَا وَتَهْيِيجِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَهَلْ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ قَوْلَانِ قَالَ جَدُّنَا الْإِمَامُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مُنَاطَحَةُ الثِّيرَانِ وَالْكُبُوشِ وَمُنَاقِرَةُ الدُّيُوكِ وَنَحْوُ ذَلِكَ (وَ) مِنْهَا (اتِّخَاذُ ذِي الرُّوحِ غَرَضًا) وَهُوَ الْهَدَفُ الْمَرْمِيُّ بِالسِّهَامِ وَنَحْوِهَا (وَقَتْلُهُ) بِالْعَصَا أَوْ بِالْحَجَرِ أَوْ بِالْجَرْحِ (صَبْرًا) أَيْ مَحْبُوسًا لِلْقَتْلِ مَرْبُوطًا لَهُ وَكَذَا حَبْسُهُ لِتَعْلِيمِ الْبَازِيِ وَنَحْوِ (م عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» قَالَهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ يَرْمُونَ دَجَاجَةً مَحْبُوسَةً وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ لَعَنَ فَاعِلَ ذَلِكَ فِي خَبَرٍ وَلِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ وَكَتَضْيِيعِ مَالٍ بِلَا فَائِدَةٍ وَلِأَنَّهُ لَعِبٌ وَعَبَثٌ (وَفِي رِوَايَةِ " خ م «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ ذَا الرُّوحِ غَرَضًا» إمَّا دُعَاءٌ بِاللَّعْنَةِ أَوْ إخْبَارٌ عَمَّا وَقَعَ أَوْ سَيَقَعُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا فَيَكُونُ حَرَامًا بَلْ كَبِيرَةً لِمَا تَقَدَّمَ سَابِقًا (م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «نَهَى رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْتَلُ شَيْءٌ مِنْ الدَّوَابِّ صَبْرًا» أَيْ حَبْسًا وَفِي الْجَامِعِ «نَهَى أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ» وَفِي شَرْحِهِ

بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ يُمْسَكُ شَيْءٌ مِنْهَا ثُمَّ يُرْمَى بِشَيْءٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ مِنْ الصَّبْرِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ فِي ضِيقٍ يُقَالُ صَبَرْت الدَّابَّةَ إذَا حَبَسْتهَا بِلَا آلَةٍ وَمِنْهُ قَتْلُ الصَّبْرِ لِلْمُمْسَكِ حَتَّى يُقْتَلَ وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ لِلَعْنِ فَاعِلِهِ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ (وَ) مِنْهَا (التَّشْبِيكُ) إدْخَالُ بَعْضِ الْأَصَابِعِ فِي بَعْضِهَا (فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الذَّهَابِ إلَيْهِ) وَكَذَا فَرُقْعَةُ الْأَصَابِعِ وَنُقِلَ فِي الْبَحْرِ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَرَاهَتِهَا فِي الصَّلَاةِ وَفِي الْمُجْتَبَى الْمُنْتَظِرُ إلَى الصَّلَاةِ وَالْمَاشِي إلَيْهَا كَمَنْ فِي الصَّلَاةِ فِي كَرَاهَتِهَا وَلِذَا كُرِهَ الْمُسَارَعَةُ فِي مَشْيِ الصَّلَاةِ فَيَمْشِي عَلَى هِينَةٍ وَعَلَى صُورَةِ خَشْيَةٍ فَكَأَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ (حَدّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ مَرْفُوعًا «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ» أَيْ أَتَى بِهِ كَامِلًا تَامًّا غَيْرَ طَوِيلٍ وَلَا قَصِيرٍ بَلْ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا «ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا» قَاصِدًا «إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» قِيلَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَكِنَّ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِ «فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ» أَشْبَهُ بِنَهْيِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ صَلَاةٍ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِتَرْكِ الْعَبَثِ وَاسْتِعْمَالِ الْخُشُوعِ كَيْفَ وَقَدْ كَانَ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ إلَّا أَنْ يُدَّعَى مَنْعَ حُرْمَتِهِ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ أَوْ يُقَالَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ شَيْءٍ فِي حُكْمِ شَيْءٍ آخَرَ ثُبُوتُ تَمَامِهِ لَهُ قَالَ فِي الْفَيْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْبِيهِ لِلشَّيْطَانِ أَوْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لِكَوْنِهِ دَالًّا عَلَى تَشْبِيكِ الْأَحْوَالِ وَأَنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ هَيْئَاتِ التَّصَرُّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالصَّلَاةُ تُضَادُّ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ التَّشْبِيكَ جَالِبٌ لِلنَّوْمِ وَهُوَ ظِنَّةٌ لِلْحَدَثِ فَلِذَا كُرِهَ تَنْزِيهًا وَأَمَّا التَّشْبِيكُ بِيَدِ غَيْرِهِ فَكَذَا إلَّا لِنَحْوِ مَوَدَّةٍ وَأُلْفَةٍ ثُمَّ مَفْهُومُ الشَّرْطِ لَيْسَ قَيْدًا مُعْتَبَرًا فَمَنْ تَرَكَ حُسْنَهُ وَاكْتَفَى بِمُجَرَّدِ قَدْرِ الْوَاجِبِ بِتَرْكِ النَّدْبِ فَمَأْمُورٌ أَيْضًا وَكَذَا مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِلَا وُضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ قِيلَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ وَقِيلَ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا وَفِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ» الْبَيْتُ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فَالْمَعْنَى فِي مَحَلِّ إقَامَتِهِ «ثُمَّ أَتَى فِي الْمَسْجِدِ» فَكَذَا أَيْضًا فَالْمُرَادُ مَحَلُّ الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا «كَانَ فِي صَلَاةٍ» أَيْ حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ هُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى أَنْ يَعُودَ إلَى مَحَلِّهِ فَلَا يَقُلْ هَكَذَا أَيْ لَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ قَوْلُ الرَّاوِي وَشَبَّكَ أَيْ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ لَعَلَّ النَّهْيَ عَنْ إدْخَالِ الْأَصَابِعِ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَاءِ إلَى مُلَابَسَةِ الْخُصُومَاتِ وَالْخَوْضِ فِيهَا وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ تَشْبِيكِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَفِيمَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ وَلَا فِي قَصْدِهِ وَلَا فِي انْتِظَارِهَا وَقِيلَ تَشْبِيكُهُ لِفَائِدَةِ النَّهْيِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَصَدَ بِهِ التَّمْثِيلَ فِي السُّجُودِ لِمَعْنًى فِي اللَّفْظِ بِصُورَةِ الْحِسِّ (وَفِي رِوَايَةٍ «يَا كَعْبُ إذَا كُنْت فِي الْمَسْجِدِ فَلَا تُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِك فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَتْ الصَّلَاةَ» وَأَمَّا سُنِّيَّتُهُ فِي الْوُضُوءِ فَلِمُبَالَغَةِ الْغُسْلِ وَإِكْمَالِهِ غَايَتَهُ بِنَصٍّ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَافْهَمْ (وَ) مِنْهَا (كِتَابَةُ مَا يَحْرُمُ تَلَفُّظُهُ) مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْبُهْتَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ وَكَانَ لَهُ قَاصًّا (فَإِنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ) كَمَا يُقَالُ الْخَطُّ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ وَحُسْنُهُ أَحَدُ الْفَصَاحَتَيْنِ زَيْنُهُ زَيْنٌ وَشَيْنُهُ شَيْنٌ، وَيُقَالُ أَيْضًا الْكِتَابُ كَالْخِطَابِ وَالْمُرَاسَلَةُ نِصْفُ الْمُوَاصَلَةِ (وَكِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْحَدَثِ وَكَذَا مَسُّ هَؤُلَاءِ الْمُصْحَفَ وَالتَّفْسِيرَ وَمَا كُتِبَ فِيهِ آيَةٌ) مِنْ قِرْطَاسٍ أَوْ لَوْحٍ أَوْ دِرْهَمٍ وَفِي التُّحْفَةِ الْمَكْرُوهُ مَسُّ الْمَكْتُوبِ لَا مَوَاضِعُ الْبَيَاضِ وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْمَكْتُوبِ حَتَّى إنْ مَسَّ الْجِلْدَ وَمَسَّ مَوَاضِعَ الْبَيَاضِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ وَالْمَنْعُ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ انْتَهَى وَلَوْ مَسَّ كُتُبَ الشَّرِيعَةِ ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَالْبَقَّالِيُّ لَا يُكْرَهُ وَفِي الْهِدَايَةِ بِخِلَافِ كُتُبِ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ يُرَخَّصُ لِأَهْلِهَا فِي مَسِّهَا بِالْكُمِّ وَفِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى وَرُخِّصَ الْمَسُّ بِالْيَدِ فِي كُتُبِ الشَّرِيعَةِ لَا التَّفْسِيرِ وَفِي الْجَامِعِ لَا تَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا وَأَنْتَ طَاهِرٌ وَأَمَّا الْمَسُّ بِالْكُمِّ فَإِنْ مُصْحَفًا لَا لِكَوْنِهِ تَابِعًا لَهُ وَإِلَّا نَعَمْ لِلضَّرُورَةِ وَفِي التتارخانية لَا يَمَسُّ

بِمُجَرَّدِ غَسْلِ الْيَدِ وَلَا يَمَسُّ الْبَيَاضَ أَيْضًا وَيَمَسُّ بِغِلَافِهِ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمُتَّصِلُ عَلَى مَا صَحَّحَ الْكَافِي وَالْمُنْفَصِلُ كَالْخَرِيطَةِ عَلَى مَا صَحَّحَ فِي الْهِدَايَةِ وَفِي الْيَنَابِيعِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْجِلْدُ مَشْدُودًا بِحَبْلٍ جَازَ وَدَفْعُ الْمُصْحَفِ أَوْ اللَّوْحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْقُرْآنُ إلَى الصِّبْيَانِ مَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضٍ وَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعَلَيْهِ تَصْحِيحُ الْهِدَايَةِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْخُلَاصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ إنْ جَرَّبَ وَحَصَلَ الشِّفَاءُ بِالْكِتَابَةِ بِالْبَوْلِ وَعَلَى جِلْدِ مَيْتَةٍ وَبِالدَّمِ فَلَا بَأْسَ بِهِ (وَيُكْرَهُ تَصْغِيرُ الْمُصْحَفِ) لَفْظًا فَلَا يُقَال مُصَيْحِفٌ وَقَطْعًا فَلَا يُصَغَّرُ حَجْمُهُ كَذَا قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إمَّا جَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ جَمَعَ الْحَقِيقَتَيْنِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ بَلْ الْمَذْكُورُ فِي الْكُتُبِ هُوَ الثَّانِي إلَّا أَنْ يُرَادَ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ مَثَلًا قَالَ فِي الْأُسْرُوشَنِيِّ كُرِهَ تَصْغِيرُ الْمُصْحَفِ وَكِتَابَتُهُ بِقَلَمٍ رَقِيقٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ بِأَحْسَنِ خَطٍّ وَأَبْيَنِهِ عَلَى أَحْسَنِ وَرَقٍ وَأَبْيَضِ قِرْطَاسٍ وَأَفْخَمِ قَلَمٍ وَأَبْرَقِ مِدَادٍ وَيُجَرَّدُ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ نَحْوِ النُّقَطِ وَالتَّعْشِيرَاتِ وَوَضْعِ عَلَامَاتِ الْآيِ وَالْحَرَكَاتِ قَالُوا لَا بَأْسَ فِي زَمَانِنَا وَلَا بَأْسَ فِي كِتَابَتِهِ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَتَحْلِيَتِهِ بِهِمَا وَكُرِهَ بَعْضُ ذَلِكَ وَكُرِهَ كِتَابَتُهُ عَلَى الْحِيطَانِ وَالرُّخَامِ وَالْأَرْضِ مَكَانَ النُّقُوشِ لِمَظَانِّ السُّقُوطِ تَحْتَ الْأَقْدَامِ وَقِيلَ لَا بَأْسَ وَيَجُوزُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ لِلْحِفْظِ لَا غَيْرُ وَلَا بَأْسَ بِإِمْسَاكِ الْمُصْحَفِ فِي بَيْتِهِ لِلتَّبَرُّكِ بَلْ يُرْجَى الثَّوَابُ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهُ أَحَدٌ وَكَذَا إمْسَاكُ الْخَمْرِ لِلتَّخْلِيلِ وَأَمَّا إمْسَاكُ آلَةِ اللَّهْوِ فَإِثْمٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا وَكُرِهَ لَفُّ شَيْءٍ فِي وَرَقٍ كُتِبَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ وَاسْمُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ قُرْآنٌ أَوْ حَدِيثٌ أَوْ فِقْهٌ بِخِلَافِ الْكِيسِ لِأَنَّهُ يُعَظَّمُ وَالْقِرْطَاسُ يُسْتَهَانُ وَلَا يَجُوزُ مَحْوُ اسْمِ اللَّهِ بِالْبُزَاقِ (وَأَخْذُ مَالٍ بِلَا إذْنِهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ مُدَّةً ثُمَّ يَرُدُّهُ) إلَيْهِ (وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهُ نَقْصٌ وَعَيْبٌ) فَإِنْ لَحِقَهُ نَقْصٌ أَوْ عَيْبٌ يَجِبُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ وَإِلَّا فَيَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ وَالنَّدَمُ (لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلَا إذْنِهِ فَهُوَ حَرَامٌ أَوْ لِيَحْبِسَهُ عَنْ صَاحِبِهِ جِدًّا) قَصْدًا (أَوْ هَزْلًا وَرَوْعُ الْمُسْلِمِ وَإِخَافَتُهُ بِسَلِّ السِّلَاحِ وَنَحْوِهِ وَلَوْ مِزَاحًا) كَرَفْعِ الْعَصَا وَإِيهَامِ الرَّمْيِ بِالْحَصْيِ وَإِشَارَتِهِ بِنَحْوِ السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَفِي الْجَامِعِ مَنْ أَشَارَ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ كَسِكِّينٍ وَخِنْجَرٍ وَسَيْفٍ وَرُمْحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ السِّلَاحِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ تَدْعُو عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ وَالْبُعْدِ عَنْ الْجَنَّةِ أَوَّلَ الْأَمْرِ أَوْ عَنْ الرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَيْ وَإِنْ هَازِلًا وَفِيهِ أَيْضًا مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إلَى أَخِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ قَتْلَهُ فَقَدْ وَجَبَ دَمُهُ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إذَا اسْتَحَقَّ الَّذِي يُشِيرُ بِالْحَدِيدَةِ اللَّعْنَ أَوْ الْقَتْلَ فَكَيْفَ بِاَلَّذِي يُصِيبُ بِهَا وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ إذَا كَانَتْ إشَارَةَ تَهْدِيدٍ جَادًّا أَوْ لَاعِبًا لِإِيقَاعِ الرَّوْعِ، نَعَمْ الْهَازِلُ دُونَ الْجَادِّ (ز طب شَيْخٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «رَجُلًا أَخَذَ نَعْلَ رَجُلٍ فَغَيَّبَهَا» عَنْ صَاحِبِهَا «وَهُوَ يَمْزَحُ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا تُرَوِّعُوا» مِنْ الرَّوْعِ «الْمُسْلِمَ فَإِنَّ رَوْعَةَ الْمُسْلِمِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ» قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ لَعَلَّ ذَلِكَ مُفَادٌ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالظُّلْمِ وَتَوْصِيفِهِ بِالْعَظَمَةِ وَفِي الْفَيْضِ لَوْ كَانَ الْفَاعِلُ مَعْرُوفًا بِالْهَزْلِ وَالضَّحِكِ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ مِنْهُ (خ م عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ» الْحَمْلُ كِنَايَةٌ عَنْ الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُضَارَبَةِ «فَلَيْسَ مِنَّا» إنْ اسْتَحَلَّ وَإِلَّا فَالْمُرَادُ فَلَيْسَ الْمُتَخَلِّقُ بِأَخْلَاقِنَا أَوْ الْعَامِلُ بِسُنَّتِنَا وَالْمُسْتَحِقُّ لِشَفَاعَتِنَا أَوْ اللَّاحِقُ

بِزُمْرَتِنَا وَدَاعِي الْمَجَازِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ بِإِيهَامٍ ظَاهِرٍ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ تَأْوِيلُهُ وَجَمَعَ الضَّمِيرَ لِيَعُمَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ (د ت عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا» فَاللَّائِقُ أَنْ يَكُونَ تَعَاطِيهِ بَيْنَ الْقَوْمِ إذَا أُرِيدَ النَّظَرُ إلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْغِمْدِ لَا مَسْلُولًا قَالَ فِي الْفَيْضِ فَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِي تَنَاوُلِهِ فَيَنْجَرِحُ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ يَسْقُطُ مِنْهُ عَلَى أَحَدٍ فَيُؤْذِيهِ وَفِي مَعْنَاهُ السِّكِّينُ وَنَحْوُهَا. (وَ) مِنْهَا (الْقَزَعُ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ فَمُهْمَلَةٌ وَهُوَ أَنْ يَحْلِقَ بَعْضَ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيَتْرُكَ مِنْهُ مَوَاضِعَ النَّهْيِ وَلِتَقْبِيحِ الصُّورَةِ وَلِتَشِبِّيهِ الْكَفَرَةِ فَإِذَا مُنِعَ مِنْ الصَّبِيِّ فَبِالْأَوْلَى مِنْ الْبَالِغِ ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْأَعَمِّ مِنْ الصَّبِيِّ أَوْ تُجُوِّزَ لَهُ وَفِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «احْلِقُوهُ أَيْ أَزِيلُوا شَعْرَ الرَّأْسِ كُلَّهُ أَوْ اُتْرُكُوهُ كُلَّهُ» فَحَلْقُ الْبَعْضِ مَعَ تَرْكِ الْبَعْضِ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا تَنْزِيهًا بِلَا عُذْرٍ لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْقَفَا أَوْ النَّاصِيَةِ أَوْ الْوَسَطِ خِلَافًا لِبَعْضِ مَا فِيهِ مِنْ التَّشْوِيهِ وَتَقْبِيحِ الصُّورَةِ وَزِيِّ أَهْلِ الْفَسَادِ بَلْ زِيِّ الْيَهُودِ وَيَشْمَلُ مَا إذَا تَرَكَ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةً أَوْ حَلَقَ الْأَكْثَرَ وَتَرَكَ مَحَلًّا وَاحِدًا وَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْمَحَبَّةِ الْمُصْطَفَى لِلْعَدْلِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِهِ حَتَّى فِي شَأْنِ الْإِنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ فَنَهَاهُ عَنْ حَلْقِ بَعْضٍ وَتَرْكِ بَعْضٍ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لِلرَّأْسِ حَيْثُ جَعَلَ بَعْضَهُ كَاسِيًا وَبَعْضَهُ عَارِيًّا وَنَظِيرُهُ الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ. وَقَوْلُهُ احْلِقُوهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَلْقِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَخَصَّ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِالضَّرُورَةِ لِوُرُودِ النَّهْيِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ لِكَوْنِهِ فِعْلَ الْمَجُوسِ وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ بِلَا كَرَاهَةٍ وَلَا خِلَافَ الْأَوْلَى وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي شَامَةَ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِلتَّشْوِيهِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ إذْ لَمْ يُنْقَلْ حَلْقُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ إثْمٌ فِي غَيْرِ نُسُكٍ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى فَفِي حَيِّزِ الْمَنْعِ بِلَا رَيْبٍ كَيْفَ وَقَدْ «حَلَقَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَ ابْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» وَأَعْدَلُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلُ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ لَا بَأْسَ بِحَلْقِهِ لِمَزِيدِ التَّنْظِيفِ وَلَا بِتَرْكِهِ لِمَنْ يَدَّهِنُ وَيَتَرَجَّلُ يَعْنِي مَنْ قَدَرَ عَلَى دَهْنِهِ وَتَرْجِيلِهِ فَبَقَاؤُهُ لَهُ أَوْلَى وَمَنْ عَسُرَ عَلَيْهِ لِضَعْفٍ وَفَقْرٍ فَيُلَبَّدُ وَيَتَوَسَّخُ وَيَجْمَعُ الْقَمْلَ فَحَلْقُهُ أَوْلَى. وَأَمَّا فِي الْأُنْثَى فَحَلْقُهَا لَهُ مَكْرُوهٌ حَيْثُ لَا ضَرَرَ بَلْ إنْ مُفْتَرِشَةً وَلَمْ يَأْذَنْ الْحَلِيلُ حَرُمَ بَلْ عَدَّهُ فِي الْمَطَامِحِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَشَاعَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَلَقَتْ رَأْسَهَا بِلَا إذْنِ زَوْجِهَا سَقَطَ صَدَاقُهَا وَذَلِكَ صَرْخَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَأَيْضًا عَنْ الدَّيْلَمِيِّ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ الْقَزَعُ فِي رُءُوسِ الصِّبْيَانِ» . (وَحَلْقُ رَأْسِ الْمَرْأَةِ) عَرَفْت تَفْصِيلَهُ آنِفًا (وَلِحْيَةِ الرَّجُلِ) أَيْ وَحَلْقُ لِحْيَةِ الرَّجُلِ وَفِي التَّقْيِيدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ إزَالَتَهُ لِلْمَرْأَةِ لَيْسَ بِآفَةٍ وَفِي الْجَامِعِ «قُصُّوا الشَّوَارِبِ وَاعْفُوا اللِّحَى» أَيْ وَفِّرُوهَا وَكَثِّرُوهَا مِنْ عَفْوِ الشَّيْءِ وَهُوَ كَثْرَتُهُ وَنَمَاؤُهُ فَحَلْقُهَا خِلَافُ السُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقُ فَالْحَلْقُ مُحَرَّمٌ فِي التتارخانية عَنْ التَّجْنِيسِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُحْفُوا الشَّوَارِبَ وَاعْفُوا اللِّحَى» أَيْ قُصُّوا الشَّوَارِبَ وَاتْرُكُوا اللِّحَى كَمَا هِيَ وَلَا تَحْلِقُوهَا وَلَا تَقْطَعُوهَا وَلَا تُنْقِصُوهَا مِنْ قَدْرِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْقَبْضَةُ انْتَهَى وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ الطَّحَاوِيِّ مَنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ لِحْيَتَهُ لَا تَجُوزُ إمَامَتُهُ وَفِي صَلَاةِ نَفْسِهِ كَرَاهَةٌ وَهُوَ مَلْعُونٌ وَمَرْدُودٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَمْ يُعْلَمُ لَهُ ثَبْتٌ وَمِثْلُهُ مَا نُقِلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ (وَقَصُّ أَقَلَّ مِنْ قَبْضَةٍ مِنْهَا) مِنْ اللِّحْيَةِ (وَلَوْ بِالْإِذْنِ) بَلْ بِالْأَمْرِ مِنْ صَاحِبِهَا وَعَنْ

أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ حَلْقُ مَا تَحْتَ الذَّقَنِ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْقَبْضَةِ فَيَجُوزُ قَصُّ الزَّائِدِ بَلْ مُسْتَحَبٌّ وَفِي الِاخْتِيَارِ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ طُولٌ فَاحِشٌ وَخِلَافُ زِينَةٍ وَفِي الصُّرَّةِ عَنْ النِّهَايَةِ وَاجِبٌ وَرُوِيَ أَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ مِنْ طُولِ لِحْيَتِهِ وَعَرْضِهَا» وَعَنْ الْفَتَاوَى مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ خِفَّةُ لِحْيَتِهِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقْطَعُ الزِّيَادَةَ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَعَنْ الْعَتَّابِيِّ لَا يَحْلِقُ شَعْرَ حَلْقِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ كَمَا فِي مُشْكِلَاتِ الْقُدُورِيِّ وَفِي التتارخانية عَنْ الْمُلْتَقَطِ لَا بَأْسَ بِجَزِّ الزَّائِدِ عَلَى الْقَبْضَةِ وَلَا بَأْسَ إذَا طَالَتْ لِحْيَتُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَطْرَافِهَا وَعَنْ الْمُضْمَرَاتِ لَا بَأْسَ بِأَخْذِ الْجَانِبَيْنِ وَشَعْرِ وَجْهِهِ مَا لَمْ يُشْبِهْ الْمُخَنَّثَ وَعَنْ جَامِعِ الْجَوَامِعِ حَلْقُ عَانَتِهِ بِيَدِهِ وَحَلْقُ الْحَجَّامِ جَائِزٌ إذَا غَضَّ بَصَرَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ جَازَ لِلرَّجُلِ الْأَخْذُ مِنْ شَعْرِ الْحَاجِبِ وَالْوَجْهِ وَأَمَّا خِضَابُ اللِّحْيَةِ فَإِنْ بِالسَّوَادِ لَيْسَ بِجَائِزٍ لِوَعِيدٍ عَظِيمٍ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَخْتَضِبُونَ بِهَذَا السَّوَادِ لَا يَجِدُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ خِضَابُ أَهْلِ النَّارِ وَأَوَّلُ مَنْ اخْتَضَبَ بِهِ فِرْعَوْنُ وَفِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَاقِلَ عَنْ الْغُرُورِ وَيَدْعُو إلَى دَارِ السُّرُورِ وَيَكْسِرُ الشَّهَوَاتِ وَيَمِيلُ إلَى الطَّاعَاتِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الثَّوَابَ الْمُفْضِيَ إلَى النُّورِ فِي التتارخانية إنَّ لِلْغُزَاةِ لِهَيْبَةِ الْعَدُوِّ فَمَحْمُودٌ وَإِنْ لِتَزْيِينِ نَفْسِهِ لِلنِّسَاءِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ كَمَا يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا وَإِنْ كَانَ الْخِضَابُ بِالْحُمْرَةِ فَفِي التتارخانية سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ وَأَنَّهُ مِنْ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ وَعَلَامَاتِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَحَادِيثُ نَحْوُ أَنَّ «الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» وَنَحْوُ «اخْتَضِبُوا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ» بِالنِّسْبَةِ إلَى الطَّبْعِ السَّلِيمِ أَوْ بِمَعْنَى الْفَاضِلِ «يُسَكِّنُ الرَّوْعَ» أَيْ الْفَزَعَ لِخَاصَّةٍ فِيهِ عَلِمَهَا الشَّارِعُ وَنَحْوُ اخْتَضَبُوا نَدْبًا بِالْحِنَّا فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي شَبَابِكُمْ وَجَمَالِكُمْ وَنِكَاحِكُمْ لِأَنَّهُ يَشُدُّ الْأَعْضَاءَ وَالْأَعْصَابَ وَفِيهِ قَبْضٌ وَتَرْطِيبٌ وَلَوْنُهُ نَارِيٌّ مَحْبُوبٌ مُهَيِّجٌ لِلْمَحَبَّةِ وَفِي رِيحِهِ عِطْرِيَّةٌ مَعَ قَبْضٍ وَخَضْبُ الْمَرْأَةِ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا مَنْدُوبٌ وَمِنْ التَّرْغِيبِ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ مَرْفُوعًا «اخْتَضِبُوا فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَكُلَّ مَا ذَرَأَ وَبَرَأَ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي بِحَارِهَا وَالطَّيْرُ فِي أَوْكَارِهَا يُصَلُّونَ عَلَى صَاحِبِ الْخِضَابِ حَتَّى يَنْصُلَ خِضَابُهُ» وَنَحْوُ «اخْتَضِبُوا وَافْرُقُوا» أَيْ اجْعَلُوا شَعْرَ رُءُوسِكُمْ فِرْقَتَيْنِ عَنْ يَمِينٍ وَيَسَارٍ وَخَالَفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْتَضِبُونَ وَلَا يَفْرُقُونَ وَالْخِضَابُ مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَنْظِيفُ الشَّعْرِ وَتَقْوِيَتُهُ وَتَحْسِينُهُ وَتَلْيِينُهُ وَشَدُّ الْأَعْضَاءِ وَجَلَاءُ الْبَصَرِ وَتَطْيِيبُ الرِّيحِ وَزِيَادَةُ الْجَمَالِ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ الْكُلُّ مِنْ الْفَيْضِ وَأَمَّا السُّنَّةُ الْفِعْلِيَّةُ فَقِيلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -

كَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ فِي عُمُرِهِ وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَخْتَضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتْمِ كَمَا فِي الشِّرْعَةِ مَعَ شَرْحِهِ (إلَّا لِلتَّدَاوِي) لِلضَّرُورَةِ فَإِنَّهَا تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (وَإِلْقَاءُ قُلَامَةِ الظُّفْرِ) مَا سَقَطَ مِنْهُ (أَوْ الشَّعْرِ إلَى الْكَنِيفِ) مَحَلُّ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (أَوْ الْمُغْتَسَلِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ يُورِثُ دَاءً) فِي التتارخانية يَجِبُ أَنْ يُدْفَنَ وَإِنْ رُمِيَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَفِيهِ عَنْ الْغِيَاثِيَّةِ تُدْفَنُ أَرْبَعَةٌ الظُّفْرُ وَالشَّعْرُ وَخِرْقَةُ الْحَيْضِ وَالدَّمُ وَقِيلَ كُلُّ مَا انْفَصَلَ عَنْ الْإِنْسَانِ فَفِيهِ حُرْمَةُ الْإِنْسَانِ فَيُدْفَنُ كَالْإِنْسَانِ (كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ) وَغَيْرِهِ (وَ) مِنْهَا (قَلْعُ الشَّوْكِ وَالْحَشِيشِ الرَّطْبَيْنِ عَلَى الْقَبْرِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ) فَإِنَّ النَّبَاتَاتِ مَا دَامَتْ رَطْبَةً تُسَبِّحُ اللَّهَ فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِعُ الْمَيِّتُ وَيَسْتَأْنِسُ بِتَسْبِيحِهَا عَنْ الْخَانِيَّةِ وَيُكْرَهُ قَطْعُ الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ مِنْ الْمَقْبَرَةِ فَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ رَطْبًا يُسَبِّحُ فَيُؤْنِسُ الْمَيِّتَ (بِخِلَافِ الْيَابِسِ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَبْرَيْنِ جَدِيدَيْنِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَتَنَزَّهُ عَنْ الْبَوْلِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ غَرَسَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْت هَذَا؟ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» عَلَى اتِّفَاقِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا عَلَى نَفْعِ الْمَيِّتِ بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فَإِذَا خُفِّفَ عَنْهُمَا بِتَسْبِيحِ الْجَرِيدَةِ فَكَيْفَ بِقِرَاءَةِ الْمُؤْمِنِ الْقُرْآنَ قَالَ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فَلَيْسَ غَرْسُ الْأَشْجَارِ عِنْدَ الْقُبُورِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ كَمَا فِي الْوَسِيلَةِ وَفِي رِسَالَةِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَوْصَى أَبُو ذَرٍّ الصَّحَابِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِوَضْعِ شَجَرَتَيْنِ رَطْبَتَيْنِ فِي الْقَبْرِ مَعَهُ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ بِكَرَاهَةِ قَطْعِ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ الرَّطْبَيْنِ لِأَنَّ بِتَسْبِيحِهِمَا يَسْتَأْنِسُ الْمَيِّتُ وَيُرْفَعُ عَذَابُهُ (وَ) مِنْهَا (نَبْشُ الْقَبْرِ) فَيَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ (وَإِنْ دُفِنَتْ) الْمَرْأَةُ (مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ يَتَحَرَّكُ فِي بَطْنِهَا ثُمَّ رُئِيَتْ فِي الْمَنَامِ وَقَالَتْ وَلَدْت) فِي الْقَبْرِ لِأَنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ مَوْتُ الْوَلَدِ بِمَوْتِ الْأُمِّ وَالْحَيَاةُ نَادِرَةٌ وَلَا حُكْمَ فِي الشَّرْعِ لِلنَّادِرِ (إلَّا إذَا كَانَتْ دُفِنَتْ فِي مِلْكٍ لِغَيْرٍ) بِلَا إذْنِهِ (فَصَاحِبُهُ) حِينَئِذٍ (مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ) بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالْأَمْرِ (وَإِنْ شَاءَ سَوَّى) الْأَرْضَ (وَزَرَعَ فَوْقَهُ) أَوْ انْقَطَعَ بِغَيْرِهِ لَوْ وُضِعَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ أَوْ جَعَلَ رَأْسَهُ فِي مَوْضِعِ رِجْلَيْهِ وَأُهِيلَ عَلَيْهِ التُّرَابُ لَمْ يُنْبَشْ وَلَوْ سَوَّى عَلَيْهِ اللَّبِنَ وَلَمْ يُهِلْ عَلَيْهِ التُّرَابَ نُزِعَ اللَّبِنُ وَرُوعِيَ السُّنَّةُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمِنَحِ لَكِنْ يَجُوزُ لِحَقِّ الْآدَمِيّ كَمَا إذَا وَقَعَ مَتَاعُ شَخْصٍ فِي الْقَبْرِ أَوْ كُفِّنَ فِي ثَوْبِ الْغَيْرِ كَدَفْنِهِ فِي مِلْكِهِ وَفِي الْخُلَاصَةِ امْرَأَةٌ مَاتَ وَلَدُهَا فَدُفِنَ وَهِيَ لَا تَصْبِرُ لَيْسَ لَهَا نَبْشُ قَبْرِهِ (وَ) مِنْهَا (إدْخَالُ الْأُصْبُعُ فِي الدُّبُرِ وَالْفَرْجِ وَلَوْ عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ إلَّا لِلتَّدَاوِي) وَلِذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ

لَا يَجُوزُ لِلْقَابِلَةِ إزَالَةُ بَكَارَةِ زَوْجَةِ الْعِنِّينِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ بِيَدِهَا بَلْ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ لَيْلَةَ الْعُرْسِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إزَالَتِهَا بِالذَّكَرِ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَةُ الْعِنِّينِ حُبْلَى مَعَ بَكَارَتِهَا بِنَاءً عَلَى تَشَرُّبِ الرَّحِمِ مِنْ الْمَنِيِّ الَّذِي فِي فَمِ الْفَرْجِ كَذَا ذَكَرَهُ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي (وَ) مِنْهَا (الِاسْتِنْجَاءُ وَالِامْتِخَاطُ بِالْيَمِينِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ) كُلٌّ مِنْهُمَا (بِالشِّمَالِ وَكَذَا كُلُّ مَا فِيهِ رَفْعُ أَذًى وَخَسَّةٍ) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِالشِّمَالِ كَإِلْقَاءِ نَجَاسَةٍ (فَإِنَّ الْيَمِينَ) لِشَرَفِهَا مُعَدَّةٌ (لِلْأُمُورِ الشَّرِيفَةِ كَأَخْذِ الْمُصْحَفِ وَالْكُتُبِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ وَطَعَامِهِ وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى» وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِيَسَارِهِ فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ الْخُبْزَ بِيَمِينِهِ وَالْبِطِّيخَ بِيَسَارِهِ فَيَأْكُلُ مِنْ هَذَا مَرَّةً وَمِنْ هَذَا أُخْرَى» وَفِي الْجَامِعِ «كَانَ يَأْخُذُ الرُّطَبَ بِيَمِينِهِ وَالْبِطِّيخَ بِيَسَارِهِ فَيَأْكُلُ الرُّطَبَ قَبْلَ بِالْبِطِّيخِ» وَعَنْ الشِّرْعَةِ وَكَانَ «- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ الْخُبْزَ بِيَمِينِهِ وَالْبِطِّيخَ بِيَسَارِهِ فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ» وَفِي الْجَامِعِ «لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ» نَدْبًا مُؤَكَّدًا «وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ» لِأَنَّ الْيَمِينَ مُنَاسِبٌ لِلْأَعْمَالِ الشَّرِيفَةِ مِنْ الْيُمْنِ بِمَعْنَى الْبَرَكَةِ أَوْ مِنْ الْيَمِينِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَلِذَا نَسَبَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ إلَى الْيَمِينِ وَعَكْسُهُ فِي أَصْحَابِ الشِّمَالِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُمْكِنٌ قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ نَدْبُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ بِالْيَمِينِ وَكَرَاهَةُ ذَلِكَ بِالشِّمَالِ وَأَفَادَ نَدْبُ تَجَنُّبِ مَا يُشْبِهُ فِعْلَ الشَّيْطَانِ وَأَنَّ لِلشَّيْطَانِ يَدَيْنِ ظَاهِرُهُ الشُّمُولُ لِلْأَشْيَاءِ الشَّرِيفَةِ وَالْخَسِيسَةِ لَكِنَّ الْقِيَاسَ اخْتِصَاصُهُ بِالشَّرِيفَةِ وَأَمَّا الْخَسِيسَةُ فَبِالْيَسَارِ كَمَا فِي دُخُولِ الْخَلَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ (وَكَذَا يُقَدِّمُ الْيُمْنَى فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ) وَغَيْرِهِمَا فِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الشَّيْخَيْنِ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ مَا اسْتَطَاعَ فَيُحَافَظُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا لِمَانِعٍ لَيْسَ مِنْهُ بُدٌّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اُحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا لَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ التَّيَامُنُ كَفِعْلِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِالْيَمِينِ كَاسْتِنْجَاءٍ وَتَمَخُّطٍ فِي طَهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ مِمَّا هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزْيِينِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ هَذَا مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ لِأَنَّ الْخَلَاءَ وَالْخُرُوجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَنَحْوَهُمَا يُبْدَأُ بِالْيَسَارِ وَفِي التَّأْكِيدِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ سَفَرًا وَحَضَرًا وَفَرَاغَةً وَشُغْلًا وَفِيهِ نَدْبُ الْبُدَاءَةِ بِشِقِّ الرَّأْسِ الْأَيْمَنِ فِي التَّرَجُّلِ وَالْغُسْلِ وَالْحَلْقِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِزَالَةِ فَيُبْدَأُ بِالْيُسْرَى بَلْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ وَالتَّزْيِينِ وَالْبُدَاءَةِ بِالرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي التَّنَعُّلِ وَفِي إزَالَتِهَا بِالْيُسْرَى وَالْبُدَاءَةِ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى فِي الْوُضُوءِ وَبِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فِي الْغُسْلِ وَنُدِبَ الصَّلَاةُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَفِي مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَفِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَمَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزْيِينِ يُبْدَأُ بِالْيُمْنَى وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَفِي مَحَلٍّ آخَرَ مِنْهُ عَنْ النَّوَوِيِّ يُنْدَبُ بِالْبُدَاءَةِ بِالْيُمْنَى فِي كُلِّ مَا فِيهِ تَكْرِيمٌ أَوْ زِينَةٌ كَوُضُوءٍ وَغُسْلٍ وَتَيَمُّمٍ وَلُبْسِ نَعْلٍ وَثَوْبٍ وَخُفٍّ وَسَرَاوِيلَ وَدُخُولِ مَسْجِدٍ وَسِوَاكٍ وَاكْتِحَالٍ وَقَلْمِ ظُفْرٍ وَقَصِّ شَارِبٍ وَنَتْفِ إبْطٍ وَحَلْقِ رَأْسٍ وَسَلَامٍ مِنْ صَلَاةٍ وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَمُصَافَحَةٍ وَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَخُرُوجٍ مِنْ خَلَاءٍ وَأَخْذٍ وَإِعْطَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ وَفِي الْيَسَارِ فِي ضِدِّهِ كَخَلْعِ نَعْلٍ وَخُفٍّ وَسَرَاوِيلَ وَثَوْبٍ وَدُخُولِ خَلَاءٍ وَخُرُوجٍ مِنْ مَسْجِدٍ وَاسْتِنْجَاءٍ وَفِعْلِ مُسْتَقْذَرٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْيَمِينُ مَحْبُوبُ اللَّهِ وَمُخْتَارُهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَأَهْلُ الْجَنَّةِ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلُ السَّعَادَةِ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ وَكِفَّةُ الْحَسَنَاتِ الْيَمِينُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. اهـ. (وَيُؤَخَّرُ) الْيَمِينُ (فِي النَّزْعِ) وَعَنْ الْأَزْهَارِ يُسْتَحَبُّ فِي اللُّبْسِ الِابْتِدَاءُ بِالْكُمِّ الْأَيْمَنِ وَالنَّزْعُ بِالْأَيْسَرِ حَكَى بَعْضٌ عَنْ بَعْضِ الثِّقَاتِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْيَمِينِ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تُفْعَلُ مُرَتَّبًا لَا فِيمَا يُفْعَلُ مَعًا كَغَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ بِلَا تَرَتُّبٍ وَكَوَضَعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ فِي السَّجْدَةِ وَرَفْعِهِمَا مِنْهَا وَكَمَسْحِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ عَقِيبَ الدَّعَوَاتِ

وَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الثِّقَاتِ يَفْعَلُ تَقْدِيمَ الْيَمِينِ عِنْدَ السَّجْدَةِ وَسَأَلْته فَعَزَا إلَى بَعْضِ الْمُعْتَبَرِينَ لَكِنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ (وَهَذَا عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ) (وَمِنْهَا التَّخَتُّمُ بِغَيْرِ الْفِضَّةِ) ذَهَبًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ غَيْرَهُ (لِلرِّجَالِ) قَالَ فِي التتارخانية فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُتَخَتَّمُ إلَّا بِالْفِضَّةِ هَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الذَّهَبِ وَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالْحَجَرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ أَمَّا حُرْمَةُ الذَّهَبِ فَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ بَعْضٍ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ «الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ لَبِسَ خَاتَمَ ذَهَبٍ وَقَالَ كَسَانِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَكَذَا وُجِدَ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَاتَمُ ذَهَبٍ عِنْدَ قَتْلِهِ. وَأَمَّا التَّخَتُّمُ بِالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ فَحَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْخَانِيَّةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِحَجَرِ الْيَشْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِذَهَبٍ وَحَدِيدٍ وَصُفْرٍ بَلْ حَجَرٌ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَأَمَّا التَّخَتُّمُ بِالْعَظْمِ لِأَجْلِ الرَّمْيِ فَقِيلَ عَنْ أُسْتَاذِي إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الرَّمْيِ فَقَطْ وَتَصْحِيحُ الذَّخِيرَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْعَقِيقِ وَتَصْحِيحُ قَاضِي خَانْ عَلَى جَوَازِهِ وَبِالْحَجَرِ حَلَالٌ عَلَى اخْتِيَارِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ وَحَرَامٌ عَلَى اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي (وَالْعِبْرَةُ لِلْحَلْقَةِ لَا لِلْفَصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ) الْفَصُّ (مِنْ يَاقُوتٍ) عَنْ الطِّبِّ النَّبَوِيِّ التَّخَتُّمُ وَالتَّقَلُّدُ بِهِ أَمْنٌ مِنْ الطَّاعُونِ وَمُسَهِّلٌ لِلْحَوَائِجِ الصَّعْبَةِ وَنَافِعٌ لِلْخَفَقَانِ وَالْوَسْوَاسِ إذَا عُلِّقَ وَأَمْنٌ مِنْ الصَّاعِقَةِ (أَوْ عَقِيقٍ) لِحَدِيثِ الْجَامِعِ «تُخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ» وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ قَالَ الشَّارِحُ أَيْ كَثِيرُ الْخَيْرِ وَقَالَ فِي حَدِيثٍ لَهُ شَأْنٌ «مَنْ تَخَتَّمَ بِالْعَقِيقِ وُفِّقَ لِكُلِّ خَيْرٍ وَأَحَبَّهُ الْمَلَكَانِ» وَمِنْ خَوَاصِّهِ تَسْكِينُ الرَّوْعِ عِنْدَ الْخِصَامِ وَيَقْطَعُ نَزْفَ الدَّمِ قِيلَ أَرَادَ بِهِ اتِّخَاذَ خَاتَمٍ فَصُّهُ مِنْ عَقِيقٍ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «تَخَتَّمُوا بِالْخَوَاتِمِ الْعَقِيقِ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ أَحَدَكُمْ غَمٌّ مَا دَامَ فِيهِ وَأَنَّ مَنْ تَخَتَّمَ بِهِ أَمِنَ مِنْ الطَّاعُونِ وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أُمُورُ الْمَعَاشِ وَيُقَوِّي قَلْبَهُ وَيَهَابُهُ النَّاسُ وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْحَوَائِجِ» اهـ مُلَخَّصًا (أَوْ فَيْرُوزَجَ) حَجَرٌ أَخْضَرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَحْجَارِ وَفِي التتارخانية وَظَاهِرُ عُمُومِ النَّهْيِ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ قَالَ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ الْفَصُّ مِنْ الْحَجَرِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِلْحَلْقَةِ لَا لِلْفَصِّ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ خَاتَمَ فِضَّةٍ فَإِنْ جَعَلَ فَصَّهُ مِنْ جَزَعٍ أَوْ عَقِيقٍ أَوْ يَاقُوتٍ أَوْ زُمُرُّدٍ أَوْ فَيْرُوزَجَ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ نَقَشَ عَلَيْهِ اسْمَ أَبِيهِ أَوْ اسْمَهُ وَمَا بَدَا لَهُ مِنْ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ قَوْلِهِ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَلَا بَأْسَ بِهِ حِينَئِذٍ (ت عَنْ «بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ مَا لِي أَرَى عَلَيْك» حِينَئِذٍ «حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ» قِيلَ إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ كَرَاهَةِ رِيحِهِ وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُ زِيُّ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى اتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» فَفِي الْفَيْضِ عَنْ التوربشتي وَخَاتَمُ الْحَدِيدِ وَإِنْ نُهِيَ عَنْ التَّخَتُّمِ بِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةِ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ لِطَالِبِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ لِقِلَّةِ مَا يَجْعَلُ مَهْرًا لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَيْضِ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَّ فِيهِ نِكَاحُ الْمُعْسِرِ وَاتِّخَاذُ خَاتَمِ حَدِيدٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ إذْ الْجَوَازُ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَدْ قَالُوا إنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمَكْرُوهَ لِبَيَانِ جَوَازِ أَصْلِهِ فَافْهَمْهُ وَبِالْجُمْلَةِ يَنْدَفِعُ بِمَا

ذُكِرَ مَا قِيلَ إنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ كَرَاهَةِ التَّخَتُّمِ بِالْحَدِيدِ مُحْتَجًّا بِهَذَا الْحَدِيثِ «ثُمَّ جَاءَهُ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ صُفْرٍ» نُحَاسٍ «فَقَالَ مَالِي أَجِدُ مِنْك رِيحَ الْأَصْنَامِ» لِأَنَّ صَنَمَهُمْ مِنْ الصُّفْرِ غَالِبًا «ثُمَّ أَتَاهُ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ مَالِي أَرَى عَلَيْك حِلْيَةَ» بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ «أَهْلِ الْجَنَّةِ» يَعْنِي أَنَّ الذَّهَبَ لَيْسَ مِنْ حِلْيَةِ الرِّجَالِ فِي الدُّنْيَا بَلْ فِي الْجَنَّةِ «قَالَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَالَ: مِنْ وَرِقٍ» أَيْ اجْعَلْهُ نَاقِصًا عَنْ مِثْقَالٍ «وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا» وَهُوَ دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ نَهْيُ إرْشَادٍ إلَى الْوَرَعِ فَإِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْخَاتَمُ أَقَلَّ مِنْ مِثْقَالٍ فَإِنْ أَتَمَّهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ جَازَ وَعِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ التَّرْكُ أَوْلَى لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ بِخِلَافِ نَحْوِ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَيَجْعَلُ الْفَصَّ إلَى بَاطِنِ الْكَفِّ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ لِلزِّينَةِ فِي حَقِّهَا وَيَجْعَلُهُ فِي خِنْصَرِ الْيُسْرَى لِأَنَّهُ فِي الْيُمْنَى تَشْبِيهٌ بِالرَّوَافِضِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُنْيَةِ وَفِي الْخُلَاصَةِ وَيَجْعَلُهُ فِي الْيُسْرَى فِي الْخِنْصَرِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اجْعَلْهُ فِي يَمِينِك» كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ عَلَامَاتِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَعَنْ مُخْتَصَرِ مَجْمَعِ الْفَتَاوَى وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ إذَا كَانَ عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ الرِّجَالِ وَأَمَّا عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ النِّسَاءِ فَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ وَبَيَّنَ فِي الْخُلَاصَةِ هَيْئَةَ خَاتَمِ النِّسَاءِ كَوْنُهُ فَصُّهُ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٌ (د عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ وَكَانَ فَصُّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ» قَالَ فِي الْفَيْضِ يَعْنِي أَكْثَرَ حَالِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَتَّمُ فِي الْيَسَارِ أَيْضًا لَكِنْ الْيَمِينُ أَفْضَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعَكْسُهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَنَقَلَ الْعِرَاقِيُّ الْيَسَارَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ قَالَ الْبُخَارِيُّ الْيَمِينُ أَصَحُّ وَالْيَمِينُ أَحَقُّ بِالزِّينَةِ وَكَوْنُهُ مِنْ شِعَارِ الرَّوَافِضِ لَا أَثَرَ لَهُ انْتَهَى وَعَنْ أَنَسٍ «خَاتَمُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي خِنْصَرِهِ الْيُسْرَى» لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْكِبْرِ لِقِلَّةِ حَرَكَاتِهَا وَتَخْصِيصُ الْخِنْصَرِ لِضَعْفِهَا وَجَبْرِ نُقْصَانِهَا بِالزِّينَةِ أَيْضًا عَنْ الشِّرْعَةِ (ت س هُنَّ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ يَنْزِعُ خَاتَمَهُ» لِمَا فِيهِ مِنْ اسْمِهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ النَّزْعُ عِنْدَ الْخَلَاءِ لِكُلِّ مَا فِيهِ اسْمُهُ تَعَالَى وَلَوْ نَحْوَ الدِّرْهَمِ الْمَكْتُوبِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَا بَأْسَ بِهِ كَذَا قِيلَ لَكِنْ قَالُوا إنْ لَمْ يَثِقْ بِتَذَكُّرِهِ بَلْ غَالِبٌ عَلَى ظَنِّهِ النِّسْيَانُ فَلَا يَنْزِعُ (خ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «كَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ» أَيْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ مُحَمَّدٌ سَطْرٌ وَرَسُولٌ سَطْرٌ وَاَللَّهُ سَطْرٌ» وَنَقْشُ خَاتَمِ أَبِي بَكْرٍ نِعْمَ الْقَادِرُ اللَّهُ وَعُمَرَ

كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا يَا عُمَرُ وَعُثْمَانُ لِتَصْبِرَنَّ أَوْ لَتَنْدَمَنَّ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ الْمُلْكُ لِلَّهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قُلْ الْخَيْرَ وَإِلَّا فَاسْكُتْ وَأَبِي يُوسُفَ مَنْ عَمِلَ بِرَأْيِهِ قَدْ نَدِمَ وَمُحَمَّدٌ مَنْ صَبَرَ ظَفِرَ وَلَوْ كَانَ فِي الْفَصِّ اسْمُ اللَّهِ أَوْ الرَّسُولِ يُسْتَحَبُّ جَعْلُ فَصِّهِ فِي الْكَفِّ عِنْدَ الْخَلَاءِ وَيُجْعَلُ فِي يَمِينِهِ عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ ثُمَّ الرَّجُلُ يَجْعَلُ الْفَصَّ فِي الْكَفِّ مُطْلَقًا خِلَافَ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ زِينَةٌ فِيهِنَّ وَعَنْ الِاخْتِيَارِ تَرْكُ الْخَاتَمِ لِغَيْرِ أَهْلِهِ أَفْضَلُ وَنَهَى الْحَلْوَانِيُّ بَعْضَ تَلَامِذَتِهِ عَنْهُ كَمَا حَكَى الْكَرْمَانِيُّ وَعَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ لَا يَتَخَتَّمُ إلَّا ثَلَاثَةٌ أَمِيرٌ أَوْ كَاتِبٌ أَوْ أَحْمَقُ وَفِي التتارخانية جَائِزٌ مُطْلَقًا وَبِهِ نَأْخُذُ وَفِي التتارخانية عَنْ الْغَنَّامِيِّ «أَنَّ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَقْشُ خَاتَمِك يَا مُعَاذُ فَقَالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - آمَنَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مُعَاذٍ حَتَّى خَاتَمُهُ ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مُعَاذٍ فَوَهَبَهُ لَهُ وَكَانَ فِي يَدِهِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ» ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - حَتَّى وَقَعَ مِنْ يَدِهِ فِي الْبِئْرِ فَأَنْفَقَ مَالًا فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ وَوَقَعَ الْخِلَافُ وَالتَّشْوِيشُ بَيْنَهُمْ مِنْ حِينِ وَقَعَ الْخَاتَمُ فِي الْبِئْرِ (وَ) مِنْهَا (أَخْذُ الرِّشْوَةِ وَإِعْطَاؤُهَا إلَّا لِدَفْعِ الظُّلْمِ) قَالَ فِي الْفَتَاوَى الزَّيْنِيَّةِ هِيَ لُغَةً الْجُعْلُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَالْمُغْرِبِ وَقَدْ رَشَاهُ إذَا أَعْطَاهُ الرِّشْوَةَ وَارْتَشَى مِنْهُ أَخَذَهَا وَاصْطِلَاحًا مَا يُعْطِيهِ الشَّخْصُ الْحَاكِمَ وَغَيْرَهُ لِيَحْكُمَ لَهُ أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ ثُمَّ قَالَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ الرِّشْوَةُ مَا يُعْطِيهِ لِأَجْلِ أَنْ يُعِينَهُ وَالْهَدِيَّةُ لَا شَرْطَ مَعَهَا قَالَ فِي لُبِّ الْإِحْيَاءِ وَجَامِعُهُمَا أَيْ الْهَدِيَّةِ وَالرِّشْوَةِ صُدُورُهُمَا عَنْ رِضًا لِغَرَضٍ هُوَ أَقْسَامٌ الْأَوَّلُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ لِكَوْنِ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ مُحْتَاجًا أَوْ نَسِيبًا فَلَا تَحِلُّ إلَّا بِالْحَاجَةِ أَوْ النَّسَبِ أَوْ عَالِمًا أَوْ صَالِحًا فَلَا تَحِلُّ إلَّا بِمَا لَوْ اطَّلَعَ لَمْ يَمْتَنِعْ وَالثَّانِي مَقْصُودٌ فِي الْعَاجِلِ وَهُوَ إمَّا مَالٌ كَإِهْدَاءِ الْفَقِيرِ إلَى الْغَنِيِّ طَمَعًا فِي حَاجَتِهِ فَهُوَ هِبَةٌ بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَلَا تَحِلُّ إلَّا عِنْدَ الْوَفَاءِ بِالْمَطْمُوعِ وَإِمَّا إعَانَةٌ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ كَإِهْدَاءِ مُحْتَاجٍ لِلسُّلْطَانِ إلَى وَكِيلِهِ فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ حَرَامًا أَوْ وَاجِبًا فَهُوَ رِشْوَةٌ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحًا فِيهِ تَعَبٌ بِحَيْثُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ حَلَّ أَخْذُهُ وَهُوَ جُعْلٌ أَوْ لَا تَعَبَ فِيهِ كَكَلِمَةٍ أَوْ فِعْلَةٍ مِنْ ذِي الْجَاهِ حَرُمَ أَخْذُهُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الشَّرْعِ تَعْوِيضٌ عَنْ الْجَاهِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَنْبِيهُ الطَّبِيبِ بِكَلِمَةٍ عَلَى

دَوَاءٍ مُفْرَدٍ دُونَ إزَالَةِ اعْوِجَاجِ السَّيْفِ بِدِقَّةٍ تَزِيدُهُ مَالًا كَثِيرًا لِدِقَّةِ نَظَرِهِ وَحَذَاقَتِهِ. وَالثَّالِثُ إيقَاعُ الْمَحَبَّةِ فَقَطْ لِتَأْكِيدِ الصُّحْبَةِ وَهُوَ هَدِيَّةٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» . وَالرَّابِعُ: إيقَاعُهَا لِلتَّوَسُّلِ بِهَا إلَى أَغْرَاضٍ بِتَعْيِينِ جِنْسِهَا بِحَيْثُ لَوْ لِجَاهٍ كَعِلْمٍ أَوْ نَسَبٍ فَأَمْرُهُ أَخَفُّ لِأَنَّهُ هَدِيَّةٌ فِي الظَّاهِرِ وَأَخْذُهُ مَكْرُوهٌ أَوْ لِوِلَايَةٍ فَهُوَ رِشْوَةٌ فِي مَعْرِضِ الْهَدِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِي حُرْمَتِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى شِدَّةِ كَرَاهَتِهِ انْتَهَى ثُمَّ قَالَ فِي الزَّيْنِيَّةِ مَا حَاصِلُهُ الرِّشْوَةُ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]- وَنَحْوُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي وَلَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ» . وَأَمَّا أَقْسَامُهَا مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فَقَالَ قَاضِي خَانْ هِيَ أَرْبَعَةٌ لِتَقَلُّدِ الْقَضَاءِ فَحَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ وَالْمُعْطِي وَلَا يَصِيرُ قَاضِيًا لِلْقَاضِي لِيَقْضِيَ لَهُ فَحَرَامٌ لَهُمَا أَيْضًا بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِنْ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَحَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ فَقَطْ وَنَحْوُهُ إعْطَاؤُهَا لِمُرِيدِ مَالِهِ لِيُخَلِّصَ مَالَهُ وَإِنْ أَعْطَى لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ بِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَلَا طَرِيقَ غَيْرُهُ حَلَّ لَهُ فَقَطْ دُونَ أَخْذِهَا وَحِيلَةُ حِلِّ الْأَخْذِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْآخِذُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِمَا يُرِيدُ دَفْعَهُ إلَيْهِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ الرِّشْوَةَ وَأَعْطَاهُ بَعْدَ التَّسْوِيَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَحِلُّ أَخْذُهُ وَقَالَ بَعْضٌ يَحِلُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ بِرٌّ وَمُجَازَاةُ الْإِحْسَانِ وَبَذْلُ الْمَالِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ لَا يَكُونُ رِشْوَةً فِي حَقِّهِ وَبَذْلُ الْمَالِ لِاسْتِخْرَاجِ حَقٍّ لَهُ عَلَى آخَرَ رِشْوَةٌ وَفِي الْخُلَاصَةِ أَخْذُ الْقَاضِي الرِّشْوَةَ ثُمَّ قَضَى، أَوْ قَضَى ثُمَّ ارْتَشَى، أَوْ أَخَذَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْقَاضِي لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَفِي الْأَقْضِيَةِ الْهَدَايَا ثَلَاثٌ أَوَّلُهَا حَلَالٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ مَعْهُودٌ ثَانِيهَا وَحَرَامٌ لَهُمَا وَهُوَ مَا يُهْدَى لِيُعِينَهُ عَلَى الظُّلْمِ ثَالِثُهَا وَحَلَالٌ لِلْمُهْدِي فَقَطْ لِيَكُفَّ الظُّلْمَ عَنْهُ وَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا لِيَعْمَلَ لَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ فَلَا يَجُوزُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرْطٌ وَلَكِنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا يُهْدِي لِيُعِينَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ قَضَى حَاجَتَهُ بِلَا شَرْطٍ وَطَمِعَ ثُمَّ أَهْدَى فَلَا بَأْسَ فِي الْقَبُولِ وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ الْكَرَاهَةِ تَوَرُّعٌ وَهَكَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ ثُمَّ قَالَ وَإِنْ كَتَبَ الْقَاضِي سِجِلًّا أَوْ تَوَلَّى قِسْمَةً وَأَخَذَ أَجْرَ الْمِثْلِ فَلَهُ ذَلِكَ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الرِّشْوَةُ أَرْبَعٌ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَحَرَامٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَا يَكُونُ قَاضِيًا وَارْتِشَاءُ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ فَكَذَلِكَ وَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَظَاهِرٌ وَأَخْذُ الْمَالِ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ أَوْ جَلْبًا لِلنَّفْعِ فَحَرَامٌ لِلْآخِذِ فَقَطْ وَمَا يُدْفَعُ لِدَفْعِ الْخَوْفِ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ حَلَالٌ لِلدَّافِعِ فَقَطْ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ وَاجِبٌ وَفِي الْقُنْيَةِ الظَّلَمَةُ تَمْنَعُ النَّاسَ عَنْ الِاحْتِطَابِ إلَّا بِدَفْعِ شَيْءٍ فَحَرَامٌ لَهُمَا وَمِثْلُهُ مَا يَدْفَعُهُ الْمُتَعَاشِقَانِ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ لَا تُمْلَكُ وَإِذَا أَعْطَى شَيْئًا لِلْقَاضِي قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ فَلِلْقَاضِي تَعْزِيرُهُ أَوْ تَشْهِيرٌ عِنْدَ الْإِمَامِ بَلْ بِنَحْوِ تَسْوِيدٍ وَحَلْقِ جَانِبٍ مِنْ اللِّحْيَةِ لِمَا رَوَى مِنْ أَمْرِ عُمَرَ عُمَّالَهُ بِضَرْبِ شَاهِدِ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَتُلْقَى عِمَامَتُهُ فِي عُنُقِهِ وَيُطَافُ بِهِ فِي الْقَبَائِلِ وَالسِّيَاسَةُ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاكِمُ لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ وُرُودٍ فِي الشَّرْعِ فَإِذَا رَأَى الْقَاضِي تَشْهِيرَ الرَّاشِي مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ تَقْلِيلًا لِلرِّشْوَةِ مَعَ كَثْرَتِهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَرِدْ كَيْفٌ وَلَهُ أَصْلٌ وَهُوَ شَاهِدُ الزُّورِ انْتَهَى وَفِي الْفَيْضِ الرِّشْوَةُ الْمُحَرَّمَةُ مَا تُوُصِّلَ بِهِ إلَى إبْطَالِ حَقٍّ أَوْ تَمْشِيَةِ بَاطِلٍ أَمَّا مَا وَقَعَ لِلتَّوَصُّلِ إلَى حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ فَلَيْسَ رِشْوَةً مَنْهِيَّةً وَهِيَ كَبِيرَةٌ وَفِي السِّفْرِ الثَّانِي مِنْ التَّوْرَاةِ أَيْضًا لَا تَقْبَلَنَّ الرِّشْوَةَ فَإِنَّ الرِّشْوَةَ تُعْمِي أَبْصَارَ الْحُكَّامِ فِي الْقَضَاءِ وَفِي الْأَشْبَاهِ مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إعْطَاؤُهُ كَالرِّبَا وَمَهْرِ الْبَغْيِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَالرِّشْوَةِ وَأُجْرَةِ النَّائِحَةِ وَالزَّامِرِ إلَّا فِي مَسَائِلِ الرِّشْوَةِ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَوْ الْأَمِيرِ إلَّا لِلْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ انْتَهَى فَلْيُتَأَمَّلْ (وَ) مِنْهَا (أَخْذُ الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ) كَالِاسْتِئْجَارِ

وَالْمَوْهُوبِ (إذَا عَلِمَ) بِمَعْنَى مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ (أَنَّهَا بِعَيْنِهَا مَغْصُوبَةٌ أَوْ حَرَامٌ) بِغَيْرِ طَرِيقِ الْغَصْبِ كَالْأَخْذِ بِالرِّبَا وَالْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ كَمَا سَبَقَ آنِفًا كَمَهْرِ الْبَغْيِ وَالْحُلْوَانِ وَالرِّشْوَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ الْإِطْلَاقُ وَقَدْ قَالُوا الْمُحَرَّمُ الَّذِي قَدْ نَسَبَهُ صَاحِبُهُ وَكَانَ فِي مَحَلٍّ بَعِيدٍ لَا يُمْكِنُ إيصَالُهُ إلَيْهِ فَوَاجِبُ التَّصَدُّقِ (وَأَمَّا الْمَعَاصِي الْعَدَمِيَّةُ) مِنْ الْيَدِ (فَكَقَبْضِ الْيَدِ وَإِمْسَاكِهَا عَنْ إنْقَاذِ الْمَظْلُومِ) تَخْلِيصِهِ مِنْ الظَّالِمِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَصْرِ فِيهِ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى نُطْقِهِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى الْيَدِ فَمِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ الْعَدَمِيَّةِ (عِنْدَ الْقُدْرَةِ) عَلَيْهِ (وَ) الْإِمْسَاكِ (عَنْ الرَّمْيِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ م عَنْ عُقْبَةَ) بْنِ عَامِرٍ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ» بِالسِّهَامِ «ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» أَيْ لَيْسَ مِنْ الْعَامِلِ عَلَى سُنَّتِنَا قَالَ الْمُحَشِّي هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ وَإِلَّا فَكُفْرٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ الْكُفْرِ لَيْسَ بَيِّنًا وَلَا مُبَيَّنًا (وَ) الْإِمْسَاكِ (عَنْ قَصِّ الْأَظْفَارِ حَتَّى تَطُولَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَسَبَبٌ لِضِيقِ الرِّزْقِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهِ) وَعَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْمُسْتَحَبُّ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِي خَمْسَةَ عَشَرَ وَالْأُسْبُوعُ الْحَدُّ الْفَاضِلُ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَالْأَرْبَعُونَ حَدُّ الِامْتِدَادِ وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْأَرْبَعِينَ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ وَقِيلَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ وَقِيلَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْقَصُّ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ وَإِنْ جَازَ تَرْكُهُ إلَى أَرْبَعِينَ وَأَنْ يَكُونَ الْحَلْقُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ وَفِي الدُّرَرِ يُسْتَحَبُّ قَلْمُ أَظَافِرِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «مَنْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ الْبَلَايَا إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» وَيُسْتَحَبُّ حَلْقُ عَانَتِهِ وَتَنْظِيفُ بَدَنِهِ بِالِاغْتِسَالِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً وَفِي الْقُنْيَةِ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَلِّمَ أَظَافِرَهُ وَيُحْفِيَ شَارِبَهُ وَيَحْلِقَ عَانَتَهُ وَيُنَظِّفَ بَدَنَهُ بِالِاغْتِسَالِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِي كُلِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا عُذْرَ فِي تَرْكِهِ وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ قِيلَ عَنْ الشِّرْعَةِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْمَنَ شِكَايَةَ الْعَيْنِ وَالْبَرَصِ وَالْجُنُونِ فَلْيُقَلِّمْ أَظَافِيرَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْعَصْرِ لَكِنْ فِي التتارخانية إنْ جَاوَزَ الْحَدَّ فَأَخَّرَ إلَى الْجُمُعَةِ فَمَكْرُوهٌ لِأَنَّ مَنْ كَانَ ظُفْرُهُ طَوِيلًا كَانَ رِزْقَهُ ضِيقًا وَإِلَّا فَمُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَا يُلْقِي أَظَافِيرَهُ وَلَا شَعْرَهُ الْكَنِيفَ أَوْ الْمُغْتَسَلَ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَقِيلَ يُورِثُ الدَّاءَ عَنْ الْإِحْيَاءِ الْأَدَبُ أَنْ يَبْدَأَ بِمِسْبَحَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِالْبِنْصِرِ ثُمَّ الْخِنْصَرِ ثُمَّ الْإِبْهَامِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْيُسْرَى مِنْ الْخِنْصَرِ إلَى الْإِبْهَامِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الرِّجْلِ الْيُمْنَى مِنْ خِنْصَرِهَا إلَى أَنْ يَخْتِمَ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى أَقُولُ هَذَا مَضْمُونُ حَدِيثِ الْمَشَارِقِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الْمِشْكَاةِ وَفِي الْوَسِيلَةِ عَنْ الْجَوَاهِرِ مِنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

«قَلْمُ الْأَظْفَارِ بِالسُّنَّةِ وَالْأَدَبْ يَمِينُهَا خَوَانِسُ يَسَارِهَا أَوْ حَسْبُ» قِيلَ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ (وَ) إمْسَاكِهَا (عَنْ كَسْرِ الطُّنْبُورِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (وَسَائِرِ آلَاتِ اللَّهْوِ خُصُوصًا إذَا لَمْ يَصْلُحْ لِغَيْرِهِ) أَيْ اللَّهْوُ فَتَرْكُهُ عِنْدَ التَّمَكُّنِ وَالْأَمْنِ مِنْ الْمَضَرَّةِ نَفْسًا أَوْ وَلَدًا أَوْ مَالًا لَعَلَّ هَذَا إمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا وَإِمَّا أَنَّ الْأَوْلَى الْكَسْرُ وَإِعْطَاءُ الضَّمَانِ لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ خُصُوصًا إلَى آخِرِهِ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ قَالَ فِي النِّصَابِ إذَا كَسَرَ الْمُحْتَسِبُ الْمَلَاهِيَ أَوْ دِنَانَ الْخَمْرِ أَوْ شَقَّ زِقَّهَا لَا يَضْمَنُ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْتَسِبِ ذُكِرَ فِي الْكِفَايَةِ لَا يَضْمَنُ أَيْضًا مُطْلَقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى قَطْعًا لِمَادَّةِ الْمَعْصِيَةِ وَشِفَاءً لِصُدُورِ الصُّلَحَاءِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ التَّابِعِينَ لَعَلَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِمَا اُشْتُهِرَ عَنْهُ مِنْ ضَمَانِ مَا لَا يَصْلُحُ لِلَّهْوِ (وَ) قَبْضِهَا (عَنْ إرَاقَةِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ الشَّارِبِ لَهَا) وَأَمَّا خَمْرُهُ لِلتَّخَلُّلِ فَلَا قَيْدَ بِالْمُسْلِمِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَكِنْ إذَا أَرَاقَهُ رَجُلٌ أَوْ قَتَلَ خِنْزِيرَهُ يَضْمَنُ كَمَا فِي النِّصَابِ لَكِنْ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ وَعَنْ النِّهَايَةِ لَا يَضْمَنُ الدِّنَانَ إنْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ تَأَمَّلْ فَلَا يَضْمَنُ الْخَمْرَ أَلْبَتَّةَ وَأَمَّا إذَا شَقَّ زِقَّ خَمْرٍ فَإِنْ إمَامًا لَا يَضْمَنُ وَإِلَّا فَيَضْمَنُ وَفِي الْمُلْتَقَطِ لَوْ كَسَرَ جُبًّا فِيهَا خَمْرُ مُسْلِمٍ يُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَهَا خَلًّا ضَمِنَ الْكَاسِرُ اتِّفَاقًا وَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالشَّارِبِ لَهَا (وَعَنْ مَحْوِ صُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ الْكَبِيرَةِ) وَيَكْفِي مَحْوُ الرَّأْسِ وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ مِثْلُ النَّمْلِ وَالذُّبَابِ فَيَجُوزُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ فِي خَاتَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صُورَةَ ذُبَابَتَيْنِ كَذَا قِيلَ أَقُولُ: لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَقِيهٍ فَفِيهِ كَلَامٌ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بَلْ الظَّاهِرُ كَمَا فُهِمَ مِنْ الصَّلَاتِيَّةِ أَنَّ الْكَبِيرَةَ صِفَةٌ لِلصُّوَرِ لَا لِلْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ الْكَبِيرَ كَالْفَرَسِ لَوْ صَغُرَ بِحَيْثُ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ إلَّا بِدِقَّةِ النَّظَرِ فَيَجُوزُ عَدَمُ الْمَحْوِ كَمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَهِيَ بِحِذَائِهِ وَلَك أَنْ تَشْمَلَهُمَا فَافْهَمْ (عِنْدَ الْقُدْرَةِ بِلَا ضَرَرٍ) مُتَعَلِّقٌ بِالْكُلِّ مِنْ الْكَسْرِ وَالْإِرَاقَةِ وَالْمَحْوِ (وَعَنْ أَخْذِ اللَّقِيطِ) صَغِيرِ بَنِي آدَمَ (وَاللُّقَطَةِ) الْمَالِ الْمُلْتَقَطِ (عِنْدَ خَوْفِ الضَّيَاعِ) بِالْهَلَاكِ وَالْمَوْتِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ إنْ خَافَ ضَيَاعَهَا يُفْرَضُ الرَّفْعُ وَإِلَّا فَيُبَاحُ وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْأَفْضَلُ الرَّفْعُ وَإِنْ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ كَقِشْرِ الرُّمَّانِ فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَفِي الْهِدَايَةِ وَالِالْتِقَاطُ لَهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ضَيَاعُهُ فَوَاجِبٌ (وَعَنْ دَفْعِ الظَّالِمِ وَالْحَيَوَانِ عِنْدَ قَصْدِ أَخْذِ الْمَالِ) بِنَحْوِ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ (أَوْ إهْلَاكِهِ أَوْ إضْرَارِ النَّفْسِ) وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا رَأَى حَيَوَانًا يَأْكُلُ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنْ أَمْكَنَ الدَّفْعُ بِلَا ضَرَرٍ لَهُ وَلَا بُعْدَ قَافِلَةٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الدَّفْعُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الدَّفْعُ إلَّا بِضَرَرٍ مِنْ جِهَتِهِ مِثْلُ إهْلَاكِ الزَّرْعِ بِوَطْئِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ لِإِخْرَاجِ الْحَيَوَانَاتِ وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ (وَعَنْ إنْقَاذِهِمَا) أَيْ الْحَيَوَانِ وَالْمَالِ (مِنْ الْحَرْقِ) بِالنَّارِ (أَوْ الْغَرَقِ) بِالْمَاءِ (أَوْ السُّقُوطِ) مِنْ عُلُوٍّ أَوْ إلَى حَفْرٍ (أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يُوجِبُ التَّلَفَ أَوْ النُّقْصَانَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ بِلَا ضَرَرٍ) فِيمَا مَرَّ فَيَحْرُمُ إيقَاعُ النَّفْسِ فِي الْهَلَاكِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْخَلَاصِ وَإِلَّا كَانَ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ أَوْ إيقَاعُ الْمَالِ فِيهِ أَوْ فِي النُّقْصَانِ (وَ) إمْسَاكُ الْيَدِ (عَنْ كَفِّ الصِّبْيَانِ وَالْمَوَاشِي) مِنْ

الْأَنْعَامِ (فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَ) عَنْ (إغْلَاقِ الْبَابِ وَإِطْفَاءُ السِّرَاجِ) عِنْدَ النَّوْمِ (وَتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ) تَغْطِيَتِهِ (وَإِيكَاءِ السِّقَاءِ) شَدُّ فَمِ السِّقَايَةِ بِالْوِكَاءِ أَيْ الرَّبْطِ (خ م عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى رِوَايَةِ جَابِرٍ (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ» جُنْحُ اللَّيْلِ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ طَائِفَةٌ مِنْهُ وَقِيلَ ظُلْمَتُهُ وَجَنَحَ اللَّيْلُ دَخَلَ وَأَصْلُهُ الْمِيلُ أَيْ أَقْبَلَ ظَلَامُهُ «أَوْ كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ» أَيْ أَوَّلُهُ وَعَنْ الْمَصَابِيحِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ «فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ» امْنَعُوهُمْ عَنْ الْخُرُوجِ وَمِنْ التَّرَدُّدِ نَدْبًا وَقَالَ الظَّاهِرُ بِهِ وُجُوبًا «فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ» وَتَتَرَدَّدُ عَلَى أَبْوَابِ الْبُيُوتِ لِغَلَبَةِ الظُّلْمَةِ وَالسَّوَادِ بِمُلَاءَمَةِ عُنْصُرِهَا فَحَرَكَتُهُمْ لَيْلًا أَمْكَنُ مِنْهَا نَهَارًا إذْ الظَّلَامُ أَجْمَعُ لِقُوَى الشَّيْطَانِ «فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ الْعِشَاءِ» بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ اللَّيْلِ «فَحُلُّوهُمْ» بِمُهْمَلَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ بِمُعْجَمَةٍ «وَأَغْلِقْ بَابَك» خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلِلْعُمُومِ كَمَا فِي رِوَايَةِ وَأَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ «وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَك» وَعَنْ الْمَصَابِيحِ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ عِنْدَ النَّوْمِ «وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ» فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ «وَأَوْكِ» أَيْ ارْبِطْ «سِقَاءَك وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَمِّرْ إنَاءَك» أَيْ غَطِّ «وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ» عَلَيْهِ «وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا» بِوَضْعِ شَيْءٍ عَلَى رَأْسِ الْإِنَاءِ بِالْعُرُوضِ كَعُودٍ بِذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى فَهَذَا كَافٍ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَجْعَلَ نَحْوِ عُودٍ عَلَى عَرْضِهِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَدِيرَ الْفَمِ فَهُوَ كُلُّهُ عَرْضٌ وَإِنْ كَانَ مُرَبَّعًا فَقَدْ يَكُونُ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ فَيَجْعَلُهُ عَلَيْهِ عَرْضًا لَا طُولًا وَالْمُرَادُ إنْ لَمْ يُغَطِّهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ إنْ فَقَدْتُمْ مَا يُغَطِّيهِ فَافْعَلُوا الْمَقْدُورَ وَلَوْ أَنْ تَجْعَلُوا عَلَيْهِ عُودًا بِالْعَرْضِ وَقِيلَ الْمَعْنَى اجْعَلُوا بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَبَيْنَ آنِيَتِكُمْ حَاجِزًا وَلَوْ مِنْ عَلَامَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْقَصْدِ إلَيْهِ فَكَافِيَةٌ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَاصِمَةً بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ وَقَدْ عَمِلَ بَعْضُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَأَصْبَحَ وَأَفْعَى مُلْتَفِتَةً عَلَى الْعُودِ (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ م) لِمُسْلِمٍ «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ» بِضَمٍّ «سِقَاءً» أَيْ لَا يَفْتَحُ سِقَاءً مَشْدُودًا «وَلَا يَفْتَحُ بَابًا وَلَا يَكْشِفُ إنَاءً» مَذْكُورًا عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى (وَفِي أُخْرَى «فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا» مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ «وَبَاءٌ» قِيلَ هُوَ طَاعُونٌ وَقِيلَ أَعَمُّ «لَا يَمُرُّ» ذَلِكَ الْوَبَاءُ «بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ أَوْ» لَا يَمُرُّ «بِسِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ»

الصنف السادس في آفات البطن

وَيَنْدَفِعُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ وَإِيكَاءِ السِّقَاءِ، عَنْ الْمُظْهِر مَنْ شَرِبَ مِنْ إنَاءٍ نَزَلَ فِيهِ مِنْ الْوَبَاءِ هَلَكَ وَعَنْ الْمُبَارَقِ الْأَوْلَى أَنْ يُفَوَّضَ إلَى الشَّارِعِ مَعْرِفَةُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَبَاءِ وَنُزُولِهِ وَمُرُورِهِ وَعَنْ مُسْلِمٍ عَلَى رِوَايَةِ جَابِرٍ «إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» (وَفِي) رِوَايَةٍ (أُخْرَى «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ» مِنْ الْفَشْوِ يُرِيدُ بِهَا الْمَوَاشِيَ فَإِنَّهَا مُنْتَشِرَةٌ يُقَالُ أَفْشَى الرَّجُلُ إذَا كَثُرَتْ مَوَاشِيهِ «وَصِبْيَانَكُمْ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ» فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُرْسِلُ جَيْشَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لِيَخْصِفُوا الصِّبْيَانَ وَالْمَوَاشِيَ قِيلَ وَلِهَذَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَكُونَ الْمُصَلِّي حِينَئِذٍ كَالسَّاجِدِ لِلشَّيْطَانِ «حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ» ظُلْمَتُهُ كَالْفَحْمِ أَيْ أَوَّلُهُ وَسَوَادُهُ وَهُوَ مِنْ ابْتِدَاءِ الْغُرُوبِ إلَى الْيَوْمِ «فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ» تَنْتَشِرُ «إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ» قَالَ فِي 61 الْفَيْضِ وَقَدْ كَانَ الْمُصْطَفَى أَشْفَقَ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَلَمْ يَدَعْ شَفَقَةً دِينِيَّةً وَلَا دُنْيَوِيَّةً إلَّا أَرْشَدَ إلَيْهَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِيهِ جُمَلٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، وَآدَابٌ جَامِعَةٌ جِمَاعُهَا تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ فِعْلٍ وَحَرَكَةٍ وَسُكُونٍ لِتَحْصِيلِ السَّلَامَةِ مِنْ آفَاتِ الدَّارَيْنِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ تَضْمَنَّ الْحَدِيثُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ مِنْ الْمَضَارِّ مِنْ جِهَةِ الشَّيَاطِينِ وَالْفَأْرَةِ وَالْوَبَاءِ وَقَدْ أَرْشَدَ إلَى مَا يُتَّقَى بِهِ ذَلِكَ فَلْيُبَادِرْ إلَى فِعْلِ تِلْكَ الْأُمُورِ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى مُمْتَثِلًا أَمْرَ نَبِيِّهِ شَاكِرًا لِنُصْحِهِ فَمَنْ فَعَلَ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ غَلْقَ الْبَابِ مِنْ فَسَقَةِ الصُّوفِيَّةِ يَفْتَحُونَ وَلَا يُغْلِقُونَ [الصِّنْفُ السَّادِسُ فِي آفَاتِ الْبَطْنِ] (الصِّنْفُ السَّادِسُ فِي آفَاتِ الْبَطْنِ هِيَ إدْخَالُ الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ) كَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهَا بِلَا ضَرُورَةٍ كَالْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهِ (أَوْ لِغَيْرِهِ) كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَالصَّدَقَةِ لِلْغَنِيِّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ مِثْلُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى بَعْضِ النُّسَخِ (وَمَا يَقْرَبُ مِنْهُ) كَلَحْمِ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَالضَّبُعِ وَالضَّبِّ وَغَيْرِهَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ (وَمَا يَمْلِكُهُ خَبِيثًا بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَنَحْوِهِ) كَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَالِ الْوَقْفِ أَوْ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ أَوْ مَعَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ لِصُدُورِ رُكْنِ التَّمْلِيكِ مِنْ أَهْلِهِ إلَى مَحَلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ فَيَنْعَقِدُ وَالْفَسَادُ لِمَعْنًى يُجَاوِرُهُ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ لَا يَنْفِي الِاعْتِقَادَ إلَّا أَنَّهُ يُفِيدُ مِلْكًا خَبِيثًا لِمَكَانِ النَّهْيِ وَلِذَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ بِشَرْطِ قِيَامِ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْفَسْخِ (مِمَّا يَجِبُ فَسْخُهُ أَوْ تَصَدُّقُهُ وَالْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ بِلَا قَصْدِ صَوْمِ غَدٍ وَعَدَمِ اسْتِحْيَاءِ ضَيْفٍ وَأَكْلُ مَا يَضُرُّ الْبَدَنَ كَالتُّرَابِ وَالطِّينِ) لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَتَشْبِيهٌ بِفِرْعَوْنَ وَلِأَنَّهُ مُضِرٌّ قَاتِلٌ كَمَا سَبَقَ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى (وَنَحْوِهِمَا) كُلُّ مَا فِيهِ سُمٌّ أَوْ خَبَثٌ وَغَيْرُهُمَا اعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْحُرْمَةِ أُمُورٌ: الْإِسْكَارُ كَالْخَمْرِ، أَوْ النَّجَاسَةُ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ، أَوْ الْمَضَرَّةُ كَالطِّينِ وَالْحَجَرِ، أَوْ الِاسْتِقْذَارُ كَالْمَنِيِّ وَالْمُخَاطَةِ، أَوْ الْخَبَثُ كَالْخُنْفُسَاءِ، أَوْ الْقَاتِلِيَّةُ كَالسُّمِّ فَمَا اعْتَادُوا مِنْ الدُّخَانِ فَقِيلَ إنَّهُ مُضِرٌّ بِالْبَدَنِ كَمَا رَأَيْت أَنَّ أَكْثَرَهُمْ مَرْضِيٌّ وَالْحُكْمُ فِي مِثْلِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِ لَا إلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ وَأَوْرَدَ بِأَنَّهُ نَافِعٌ لِبَعْضِ الْأَمْرَاضِ كَالْبَلْغَمِ وَالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ، وَرُدَّ أَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ هَوَى النَّفْسِ كَيْفَ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ وَلَمْ يَقَعْ فِي كِتَابِ حَكِيمٍ مُجَرِّبٍ بَلْ الْمَسْمُوعُ خِلَافُهُ. وَعَنْ قَانُونَ ابْنِ سِينَا الْبَنْجُ أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ وَأَسْوَدُ وَأَخْبَثُهَا هُوَ الْأَسْوَدُ

الْمَعْرُوفُ بِالنَّتْنِ يَخْلِطُ الْعَقْلَ وَيُبْطِلُ الذِّكْرَ وَيُحْدِثُ خِفَافًا وَجُنُونًا وَعُصَارَةً وَرِقَّةً فِي قُوَّةِ الْأَفْيُونِ انْتَهَى وَعَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ لَوْلَا الدُّخَانُ وَالْقَتَامُ لَعَاشَ ابْنُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ وَقِيلَ إنَّهُ مُسْكِرٌ لَا سِيَّمَا بَعْضُ أَنْوَاعِهِ كَمَا يُرَى كَثِيرًا فِي حَالِ الِابْتِدَاءِ، وَعَدَمُ الْإِسْكَارِ فِي أَكْثَرِ الْأَشْخَاصِ لِلتَّدْرِيجِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِاعْتِيَادِ فِي الِانْتِهَاءِ كَمَا فِي الْخَمْرِ لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْقَلِيلَ كَالْكَثِيرِ فِي الْحُرْمَةِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ قِيلَ وَبِهِ نَأْخُذُ وَقِيلَ وَهُوَ الْأَحْوَطُ وَقِيلَ إنَّهُ مُؤْذٍ وَالْأَذَى حَرَامٌ وَعَنْ شَارِحٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْحَقَ الدُّخَانُ بِحَدِيثِ «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا» قَالَ الْفُقَهَاءُ كُلُّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَلَوْ سَمَاوِيَّةً كَالْبَخَرِ يَجِبُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَقِيلَ إنَّهُ بِدْعَةٌ وَأَوْرَدَ أَنَّ الْبِدْعَةَ الْمَمْنُوعَةَ مَا تَكُونُ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعَادَاتِ. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَمُبَاحَةٌ وَرُدَّ أَنَّ الْبِدْعَةَ مَمْنُوعَةٌ مَا تَكُونُ خِلَافَ سُنَّةٍ أَوْ حِكْمَةَ مَشْرُوعِيَّةِ سُنَّةٍ فَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ السِّوَاكِ دَفْعُ الْأَذَى وَإِزَالَةُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ وَتَطْهِيرُ الْفَمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الدُّخَانَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَقَرَّرَ أَنَّ الْبِدْعَةَ الْحَسَنَةَ مَا يَكُونُ لَهُ إعَانَةٌ لِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَقَدْ عَرَفْت مُخَالَفَتَهَا وَقِيلَ إنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْخَبَثِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]- وَهُوَ مَا يَسْتَقْذِرُهُ الطَّبْعُ السَّلِيمُ وَالطَّبْعُ السَّلِيمُ طَبْعُ كُبَرَاءِ الْعَرَبِ الَّذِي لَمْ يَأْلَفْهُ الْغُلَامُ الْبَالِغُ ابْتِدَاءً قَالُوا شَاهَدْنَا نُفْرَتَهُمْ عَنْهُ وَعَنْ رَائِحَتِهِ وَقِيلَ إنَّهُ إنَّمَا يُشْرَبُ لِلَّهْوِ وَالِاحْتِشَامِ وَالتَّبَاهِي فَلَوْ فُرِضَ إبَاحَتُهُ فِي الْأَصْلِ لَكِنْ يَحْرُمُ بِهَوَى مُسْتَعْمِلِهِ وَتَلَهِّيهِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ كَافٍ فِي حُكْمِ الْجِنْسِ سِيَّمَا فِي سَدِّ بَابِ الْحَظْرِ. وَقِيلَ إنَّهُ إسْرَافٌ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى الْكِفَايَةِ الْمَشْرُوعَةِ وَلَا شَرْعِيَّةَ فِي أَصْلِهِ وَفِيهِ إضَاعَةُ مَالٍ كَيْفَ وَقَدْ يُشْتَرَى بِثَمَنٍ غَالٍ بَلْ يَدْعُو إلَى تَرْكِ الْعِبَادَاتِ كَالْجَمَاعَاتِ وَيُؤَدِّي إلَى أَكْثَرِ الْمَنْهِيَّاتِ كَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فَضْلًا عَنْ فُضُولِ الْكَلَامِ وَمَا لَا يَعْنِي وَلِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ وَقِيلَ إنَّهُ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ سُلْطَانِيٌّ وَكُلُّ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ سُلْطَانِيٌّ لِمَصْلَحَةٍ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالْمَصَالِحُ مُتَكَثِّرَةٌ وَلَا أَقَلَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَإِضَاعَةِ الْأَمْوَالِ وَبَعْضُهُمْ أَيَّدَهُ بِمَنَامَاتِ الصَّالِحِينَ بَلْ بِمُشَاهَدَةِ الْأَحْوَالِ الْعَجِيبَةِ عِنْدَ نَبْشِ قَبْرِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالدُّخَانِ كَتَغْيِيرِ صُورَتِهِ وَتَبْدِيلِ صُورَتِهِ وَآلَتِهِ فِي فَمِهِ مَعَ مَلْءِ قَبْرِهِ بِالدُّخَانِ عَلَى مَا ادَّعُوا حَسُنَ ذَلِكَ بِاشْتِهَارِ أَخْبَارِ الثِّقَاتِ وَهَكَذَا لَكِنْ لَعَلَّ الْحَقَّ الْجَامِعَ مَا حَرَّرْت فِيمَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الدُّخَانِ شَيْءٌ كَثُرَ فِيهِ الْفَتَاوَى وَالْقِيلُ وَالْقَالُ إلَى أَنْ تَحَيَّرَ الْخَوَاصُّ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ إذْ ذَهَبَ بَعْضٌ إلَى إبَاحَتِهِ وَبَعْضٌ إلَى حَظْرِيَّتِهِ فَتَبَيَّنَ الْحَقُّ بِبَيَانِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ تَرْجِيحِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَأَقْوَى أَدِلَّةِ الْفِرْقَةِ الْأُولَى الْحَظْرُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَذَا إمَّا مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرْعِ بِالْبَدَاهَةِ أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ بِالضَّرُورَةِ. وَكَذَا الثَّانِي إذْ النَّظَرُ إمَّا مِنْ مُجْتَهِدٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ رِوَايَةً وَلَا دِرَايَةً وَقَدْ انْقَرَضَ فَلَا احْتِمَالَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ إذْ لَا اعْتِبَارَ لِنَظَرِ الْغَيْرِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ فَاسْتَدَلُّوا بِنَحْوِ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَذَى وَالْإِسْرَافِ وَالْإِضْرَارِ وَنَحْوِهَا فَلَعَلَّ الْحَقَّ مَعَ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ إذْ الْمَطْلَبُ ظَنِّيٌّ فَلَوْ فُرِضَ وُرُودُ الْمَنْعِ عَلَى أَفْرَادِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ فَلَا يُخْرِجُهَا مِنْ الظَّنِّيَّةِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ فِي إفَادَةِ مَجْمُوعِهَا قُوَّةً صَالِحَةً لِمُرَادِ الْمَقَامِ وَأَمْرُ انْقِرَاضِ الْمُجْتَهِدِ اخْتِلَافِيٌّ بَلْ الْمُجْتَهَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ مُمْكِنٌ فِي عَصْرٍ مَا لَوْ سَلِمَ عَدَمُ ثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ مُجْتَهِدٍ مَا صَرِيحًا لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ صُدُورِهِ عَنْهُ مُطْلَقًا إذْ يَجُوزُ دُخُولُ الدُّخَانِ تَحْتَ قَاعِدَتِهِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُ صَرِيحًا وَأَنَّ لِنَظَرِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِّيِّ مَدْخَلًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَدَلَالَةِ النَّصِّ. ثُمَّ نَقُولُ أَيْضًا إنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ إيرَاثِ شُبْهَةٍ بِهَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ وَالْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبْهَةِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» وَأَيْضًا يُرَجَّحُ النَّظَرُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَيُقَدَّمُ قَوْلُ الْعَالِمِ وَالْمُتَوَرِّعِ وَالْأَعْلَمِ عِنْدَ تَعَارُضِ أَقْوَالِهِمْ، وَالْإِنْصَافُ أَنَّ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْحَظْرِيَّةِ وَأَيْضًا قَالُوا الْإِصْرَارُ عَلَى الْمُبَاحِ صَغِيرَةٌ فَلَوْ سَلِمَ إبَاحَتُهُ فِي الْأَصْلِ فَلَا شَكَّ فِي إصْرَارِ مُبْتَلِيهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِي أَصْلِ الْمُبَاحِ حِسَابًا وَأَيْضًا لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي الْفَسَقَةِ أَشْيَعُ وَأَشْهَرُ فَاسْتِعْمَالُ غَيْرِهِمْ تَشْبِيهٌ بِهِمْ وَأَيْضًا الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِنْفَاقِ وَقَدْ سَمِعْت مِنْ ذَلِكَ سَابِقًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَشُرْبُهُ) قِيلَ كَشُرْبِ الْعَسَلِ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الصَّفْرَاءُ (وَأَمَّا أَكْلُ مَا فِيهِ نَجَسٌ كَلَحْمِ الْحَيَّةِ) مِثْلُ التِّرْيَاقِ وَالْفَارُوقِ (وَخَرْمَيَانُ) خُصْيَةٌ لِدَابَّةٍ مِنْ الدَّوَابِّ يُقَالُ لَهُ بِالتُّرْكِيِّ " قوندز " (لِلتَّدَاوِي إذَا انْحَصَرَ فِيهِ) فِيمَا فِيهِ نَجَسٌ (فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ) فَقِيلَ مُبَاحٌ لِلضَّرُورَةِ أَوْ لِلِاسْتِهْلَاكِ بِالِاخْتِلَاطِ وَقِيلَ لَا أَصْلًا (وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ) أَيْضًا تَنَاوُلَهُ (بِلَا انْحِصَارٍ أَيْضًا) كَمَا إذَا انْحَصَرَ (إذَا عُرِفَ فِيهِ الشِّفَاءُ) قِيلَ عَنْ الْخُلَاصَةِ وَاَلَّذِي رَعَفَ وَلَا يَرْقَأُ دَمُهُ فَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ بِدَمِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ يَجُوزُ قِيلَ لَوْ كُتِبَ بِالْبَوْلِ قَالَ لَوْ كَانَ فِيهِ شِفَاءٌ لَا بَأْسَ بِهِ قِيلَ لَوْ كُتِبَ عَلَى جِلْدِ مَيْتَةٍ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ شِفَاءٌ جَازَ وَعَنْ أَبِي نَصْرِ بْنِ سَلَّامٍ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا شِفَاءٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ شِفَاءٌ لَا بَأْسَ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَطْشَانَ يَحِلُّ لَهُ شُرْبُ الْخَمْرِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ وَكَذَا فِي الْخَانِيَّةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَازُ إسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ وَجَوَازُ شُرْبِهِ لِإِزَالَةِ الْعَطَشِ انْتَهَى قِيلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ ضَعْفٌ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ فِي الشُّرْبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُتَيَقَّنٌ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ فَلَا وَجْهَ لِلتَّوْضِيحِ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى ثُمَّ قِيلَ أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّيَقُّنِ كَمَا قَالَ وَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ شِفَاءٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ الطِّبَّ بِجِنْسِهِ مِنْ الْمَظْنُونَاتِ وَقَدْ سَبَقَ وَيَشْكُلُ بِمَا فِي النِّصَابِ أَنَّ التَّدَاوِيَ بِالْخَمْرِ أَوْ بِحَرَامٍ آخَرَ إنْ لَمْ يُتَيَقَّنْ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ ثُمَّ قَالَ وَإِنْ تَيَقَّنَ بِالشِّفَاءِ فِيهِ وَلَهُ دَوَاءٌ آخَرُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَوَاءٌ آخَرُ فَقِيلَ لَا يَجُوزُ وَقِيلَ يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ حَالَةَ الْعَطَشِ فَلِلْمُحْتَسِبِ الرُّجُوعُ إلَى الْأَطِبَّاءِ فَيَعْمَلُ بِقَوْلِهِمْ انْتَهَى مُلَخَّصًا (وَالْأَحْوَطُ الِاجْتِنَابُ مُطْلَقًا) انْحَصَرَ أَوْ لَا لِلْخُرُوجِ عَنْ الْخِلَافِ وَلِأَنَّ مَا تَكُونُ حُرْمَتُهُ قَطْعِيَّةً

القهوة حكم شربها

لَا يُرَخَّصُ بِمَا تَأْثِيرُهُ ظَنِّيٌّ [الْقَهْوَةُ حُكْمُ شُرْبِهَا] وَأَمَّا الْقَهْوَةُ فَفِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ لَا وَجْهَ لِحُرْمَتِهَا لِانْعِدَامِ شَيْءٍ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُرْمَةِ كَالْإِسْكَارِ وَالضَّرَرِ مِزَاجًا أَوْ بَدَنًا أَوْ عَقْلًا وَلَا تَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ الْعِبَادَاتِ بَلْ تُقَوِّي عَلَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا نَصٌّ عَلَى حُرْمَتِهَا وَلَا نَظِيرَ حَتَّى تُقَاسَ عَلَيْهِ نَعَمْ شُرْبُهَا بِاللَّهْوِ وَالطَّرِبِ عَلَى هَيْئَةِ الْفَسَقَةِ فَهُوَ حَرَامٌ وَفِي الْوَسِيلَةِ أَظْهَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ بَعْضِ أَوْلِيَائِهِ وَعُلَمَائِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ كَمَنْعِ النَّوْمِ وَإِزَالَةِ الْغُمُومِ وَتَنْشِيطِ الْعِبَادَةِ وَتَرْقِيقِ الْغِذَاءِ وَهَضْمِ الطَّعَامِ وَتَسْخِينِ الْبَدَنِ وَتَحْلِيلِ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ وَدَفْعِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهِيَ حَلَالٌ وَأَمَّا الْإِكْثَارُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ مَرَضٌ خُصُوصًا لِذَوِي الْأَمْزِجَةِ الْيَابِسَةِ وَتَمَامُهُ فِيهَا وَأَيْضًا فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ صَرَّحَ بِإِبَاحَتِهَا وَكَذَا فِي بَعْضِ كُتِبَ عَلِيٍّ الْقَارِي كَذَلِكَ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى اللُّبَابِ مَا حَاصِلُهُ طَالَ الِاخْتِلَافُ فِي الْقَهْوَةِ حِلُّهَا وَحُرْمَتُهَا وَطَهَارَتُهَا وَنَجَاسَتُهَا فَمَنْ يُفْرِطُ يُفْتِي بِالْإِسْكَارِ وَالنَّجَاسَةِ وَمَنْ يُفَرِّطُ يُفْتِي بِأَنَّ شُرْبَهَا عِبَادَةٌ وَقُرْبَةٌ وَالْحَقُّ أَنَّهُ قَدْ يَضُرُّ بَعْضَ الْأَمْزِجَةِ لِمُضَادَّتِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الرُّطُوبَةِ وَالْيُبُوسَةِ وَحِفْظُ الصِّحَّةِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَأَنَّ مَنْ اعْتَادَهَا لَا يُفَارِقُهَا كَالْأَفْيُونِ ثُمَّ إنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا فِي الْعَقْلِ وَالْبَدَنِ فَمُبَاحٌ انْتَهَى وَالْمَفْهُومُ مِنْ فَتَاوَى أَبِي السُّعُودِ مَيْلُهُ إلَى جَانِبِ عَدَمِ الْحِلِّ لِتَشْبِيهِ الْفَسَقَةِ وَعَنْ بَعْضٍ أَيْضًا لِلسَّرَفِ لِإِفْضَائِهَا إلَى ثَمَنٍ غَالٍ وَقِيلَ لِإِضَاعَةِ وَقْتٍ كَثِيرٍ إلَى طَبْخِهَا لَعَلَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ سِيَّمَا عِنْدَ قَصْدِ النَّشَاطِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَاتِ ثُمَّ أَقُولُ اللَّائِقُ لِلْوَرَعِ وَالْأَوْلَى عَدَمُ شُرْبِهَا بِلَا تَجْرِبَةِ طَبْعٍ وَمُشَاهَدَةِ نَفْعٍ وَتَقَوٍّ لِلطَّاعَةِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الِاتِّفَاقِ وَأَنَّ الْخِلَافَ وَإِنْ ظَهَرَ ضَعْفُهُ

فَالْأَوْلَى عَدَمُهُ مَا لَمْ يُخَالَفْ بِمَشْرُوعٍ مَأْثُورٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَيَنْبَغِي لِلسَّالِكِ أَنْ يُقَلِّلَ الْأَكْلَ) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «لَا يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ مَنْ مَلَأَ بَطْنَهُ» وَقَالَ «لَا تُمِيتُوا الْقُلُوبَ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ» وَقَالَ «مَا مَلَأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ ابْنُ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» وَلِذَا يُقَالُ بِقِلَّتِهِ يَعْرُجُ إلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَبِكَثْرَتِهِ يَنْزِلُ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ (وَيَجْتَنِبَ عَنْ كَثْرَتِهِ وَمُدَاوَمَةِ الشِّبَعِ فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي الْقَلِيلِ (صِحَّةَ الْجِسْمِ) فَإِنَّ سَبَبَ الْأَمْرَاضِ كَثْرَةُ الْأَكْلِ وَالْمَرَضُ يُنْقِصُ الْعَيْشَ وَيَمْنَعُ مِنْ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَيُحْوِجُ إلَى الدَّوَاءِ وَالْأَطِبَّاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مُؤَنٍ وَتَبِعَاتٍ وَلَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالشُّبُهَاتِ (وَجَوْدَةَ الْحِفْظِ) فَإِنَّ الشِّبَعَ يُورِثُ الْبَلَادَةَ بِالْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ إلَى الدِّمَاغِ وَيُعْمِي الْقَلْبَ قِيلَ. اتَّفَقَ سَبْعُونَ نَبِيًّا عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ كَثْرَةِ الْبَلْغَمِ وَكَثْرَةُ الْبَلْغَمِ مِنْ كَثْرَةِ شُرْبِ الْمَاءِ وَهِيَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ (وَصَفَاءَ الْقَلْبِ) الَّذِي بِهِ يَتَهَيَّأُ لِإِدْرَاكِ لَذَّةِ الْمُنَاجَاةِ وَالتَّأْثِيرِ بِالذِّكْرِ وَكَمْ مِنْ ذِكْرٍ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ لَا يَتَلَذَّذُ بِهِ وَلَا يَتَأَثَّرُ وَالسَّبَبُ الْأَظْهَرُ فِيهِ خُلُوُّ الْمَعِدَةِ (وَالذَّكَاءَ) لَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ جَوْدَةِ الْحِفْظِ وَالذَّكَاءِ أَنَّ الْأَوَّلَ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْفَهْمِ الَّتِي يَطَّلِعُ بِهَا عَلَى الْعُلُومِ الْخَفِيَّةِ وَالْأَسْرَارِ اللَّطِيفَةِ وَالثَّانِي بِحَسَبِ قُوَّةِ الْحَافِظَةِ (وَخِفَّةَ الْمُؤْنَةِ) لِأَنَّ مَنْ تَعَوَّدَ قِلَّةَ الْأَكْلِ كَفَاهُ يَسِيرٌ مِنْ الْمَالِ وَمَنْ تَعَوَّدَ الشِّبَعَ يَتَقَاضَاهُ بَطْنُهُ فَيَقُولُ مَاذَا يَأْكُلُ الْيَوْمَ فَيَدْخُلُ الْمَدَاخِلَ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَالْحَرَامِ أَوْ يَتْعَبُ فِي الْحَلَالِ وَيَمُدُّ يَدَ الطَّمَعِ إلَى الْخَلْقِ (وَإِمْكَانَ الْقَنَاعَةِ) بِالْقَلِيلِ (وَعَدَمَ نِسْيَانِ بَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ وَتَذَكُّرَ جُوعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِ النَّارِ) لِأَنَّ الْفَطِنَ لَا يُشَاهِدُ بَلَاءً إلَّا وَيَتَذَكَّرُ بَلَاءَ الْآخِرَةِ فَيَتَذَكَّرُ بِعَطَشِهِ عَطَشَ الْخَلْقِ فِي عَرَصَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِجُوعِهِ جُوعَهُمْ فِي النَّارِ حِينَ يَجُوعُونَ فَيُطْعَمُونَ الزَّقُّومَ وَالضَّرِيعَ وَيُسْقَوْنَ الْغَسَّاقَ وَالْمُهْلَ (وَتَيْسِيرَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ لَا سِيَّمَا الْوُضُوءُ) لِأَنَّ بِالشِّبَعِ تَقْعُدُ الْأَعْضَاءُ عَنْ الْعِبَادَةِ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ تَمْنَعُ مِنْ كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى زَمَانٍ يَشْتَغِلُ بِالْأَكْلِ وَزَمَانٍ بِشِرَاءِ الطَّعَامِ وَطَبْخِهِ ثُمَّ إلَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْخَلَاءِ ثُمَّ كَثْرَةُ التَّرَدُّدِ إلَى بَيْتِ الْمَاءِ لِكَثْرَةِ شُرْبِهِ وَإِلَى الْخَلَاءِ وَغَيْرِهَا وَالْأَوْقَاتُ الْمَصْرُوفَةُ إلَيْهَا لَوْ صَرَفَهَا إلَى الْعِبَادَاتِ لَكَثُرَ رِبْحُهُ (وَتَمَكُّنَ الْإِيثَارِ وَالتَّصَدُّقِ بِمَا فَضَلَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ) فَيَكُونُ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ. وَفِيهِ فَوَائِدُ أُخْرَى كَكَسْرِ شَهَوَاتِ الْمَعَاصِي وَهِيَ أَكْبَرُهَا فَإِنَّ مَنْشَأَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الشَّهَوَاتُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ شَهْوَةُ الْكَلَامِ وَآفَاتُهُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالْفُحْشِ وَالنَّمِيمَةِ وَشَهْوَةِ الْفَرْجِ، وَالْجُوعُ يَكْفِي شَرَّهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشَّهَوَاتِ لِلْأَعْضَاءِ الْخَمْسَةِ الْبَاقِيَةِ وَكَاسْتِيلَاءِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَكَالِانْكِسَارِ وَالذُّلِّ وَزَوَالِ الْبَطَرِ وَالْفَرَحِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الطُّغْيَانِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَكَدَفْعِ النَّوْمِ وَدَوَامِ السَّهَرِ فَإِنَّ مَنْ شَبِعَ شَرِبَ كَثِيرًا وَمَنْ شَرِبَ كَثِيرًا نَامَ كَثِيرًا وَأَجْمَعَ سَبْعُونَ صِدِّيقًا عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ مِنْ كَثْرَةِ الشُّرْبِ وَفِي كَثْرَةِ النَّوْمِ ضَيَاعُ الْعُمْرِ وَفَوْتُ التَّهَجُّدِ وَبَلَادَةُ الطَّبْعِ وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ. (وَفِي الثَّانِي) أَيْ فِي التَّكْثِيرِ (قَسْوَةُ الْقَلْبِ وَفِتْنَةُ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّهُ إنْ جَاعَ الْبَطْنُ شَبِعَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ وَسَكَنَ) وَلَمْ يَطْلُبْ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِنْ شَبِعَ) الْبَطْنُ (جَاعَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ وَهَاجَ) تَحَرَّكَ إلَى مَا يَهْوَاهُ (وَ) فِي الثَّانِي أَيْضًا (قِلَّةُ الْفَهْمِ) لَعَلَّ الْحَقَّ مِنْ النُّسَخِ عَلَى هَذَا (وَالْعِلْمُ فَإِنَّ الْبِطْنَةَ تُذْهِبُ الْفَطِنَةَ وَ) فِيهِ (قِلَّةُ الْعِبَادَةِ) لِصَرْفِ الْوَقْتِ فِي شَهْوَةِ النَّفْسِ مِنْ الطَّعَامِ وَتَحْصِيلِهِ وَطَبْخِهِ وَكَسْبِهِ

بعض ما ورد في ذم الشبع وكثرة الأكل والتنعم

وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَزْمَانًا مُتَوَفِّرَةً يَسْتَحْصِلُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الذِّكْرِ وَالْعِبَادَاتِ (وَفَقْدُ حَلَاوَتِهَا) لِلِامْتِلَاءِ (وَخَطَرُ الْوُقُوعِ فِي الشُّبْهَةِ) لِمَا أَنَّ حُبَّهُ لِذَلِكَ يُوقِعُهُ فِيهَا (وَ) رُبَّمَا يُوقِعُهُ عِنْدَ ضَعْفِ دِينِهِ فِي (الْحَرَامِ) أَيْضًا وَفِي الصَّحِيحِ «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ الْمَالَ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» (وَكَثْرَةُ شُغْلِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ بِالتَّحْصِيلِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالتَّهْيِئَةِ ثَانِيًا ثُمَّ الْأَكْلِ ثَالِثًا ثُمَّ بِإِفْرَاغِهِ وَالتَّخَلُّصِ عَنْهُ بِالِاخْتِلَافِ) وَالتَّرَدُّدِ (إلَى الْخَلَاءِ رَابِعًا ثُمَّ بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمُتَوَلِّدَةِ عَنْ الشِّبَعِ خَامِسًا) لِمَا بَيَّنَّاهُ أَيْضًا آنِفًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بَيَانَ خِسَّةِ الدُّنْيَا فَقَالَ لِمَلِكٍ أَرَأَيْت لَوْ مَنَعْت عَنْك شَرْبَةَ مَاءٍ وَقَدْ بَلَغَ بِك الظَّمَأُ إلَى أَنْ تَمُوتَ إلَّا بِنِصْفِ مُلْكِك أَمَا تَبْذُلُهُ قَالَ بَلَى قَالَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُ فَضَلَاتِك مِنْك إلَّا بِبَذْلِ النِّصْفِ الثَّانِي قَالَ أَبْذُلُهُ قَالَ فَلَا أَسَفَ عَلَى مُلْكٍ يُقَابِلُ شَرْبَةَ مَاءٍ كَمَا نَقُلْ عَنْ الْمَوَاهِبِ (وَالسُّؤَالُ أَوْ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَكَيْفَ وَصَلَ إلَيْهِ وَكَيْفَ أَنْفَقَهُ إنْ كَانَ مِنْ الْحَلَالِ وَالْعَذَابُ أَيْضًا إنْ مِنْ الْحَرَامِ (وَخَوْفُ الدُّخُولِ فِي وَعِيدِ قَوْله تَعَالَى - {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]- وَشِدَّةُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ إذْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ شِدَّةَ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ عَلَى قَدْرِ لِذَاتِ الْحَيَاةِ) الْعَاجِلَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْحُجُبَ الْمَانِعَةَ عَنْ وِصَالِهِ تَعَالَى أَرْبَعَةٌ الْأَوَّلُ حِجَابُ الْمَالِ وَيَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِتَفْرِيقِهِ إلَّا قَدْرَ الضَّرُورَةِ وَمَنْ لَهُ دِرْهَمٌ وَاحِد يَلْتَفِتُ إلَيْهِ قَلْبُهُ فَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى الثَّانِي حِجَابُ الْجَاهِ وَرَفْعُهُ بِالْبُعْدِ عَنْ مَوْضِعِ الْجَاهِ وَبِإِيثَارِ الْخُمُولِ وَبِأَعْمَالٍ تُنَفِّرُ الْخَلْقَ كَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ الثَّالِثُ حِجَابُ التَّقْلِيدِ وَرَفْعُهُ بِتَرْكِ التَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ الرَّابِعُ حِجَابُ الْمَقَاصِدِ النَّفْسَانِيَّةِ وَرَفْعُهُ تَرْكُ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ سِيَّمَا الْهَوَى - {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]- وَبَعْدَ رَفْعِ هَذِهِ الْحُجُبِ يَتَحَصَّنُ بِأَرْبَعَةٍ الْأَوَّلُ الْجُوعُ فَإِنَّهُ يُنْقِصُ دَمَ الْقَلْبِ وَيُبَيِّضُهُ وَفِي بَيَاضِهِ نُورُهُ وَيُذْهِبُ شَحْمَ الْفُؤَادِ وَفِيهِ رِقَّتُهُ وَرِقَّتُهُ مِفْتَاحُ الْمُكَاشَفَةِ وَمَتَى نَقَصَ دَمُ الْقَلْبِ ضَاقَ مَسْلَكُ الْعَدُوِّ الثَّانِي السَّهَرُ فَإِنَّهُ يُجْلِي الْقَلْبَ وَيُصَفِّيهِ وَيُنَوِّرُهُ وَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ صَفَاءُ الْجُوعِ يَصِيرُ الْقَلْبُ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ وَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ فَيَلُوحُ فِيهِ جَمَالُ الْحَقِّ وَيُشَاهَدُ فِيهِ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ وَالسَّهَرُ نَتِيجَةُ الْجُوعِ فَإِنَّهُ مَعَ الشِّبَعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالنَّوْمُ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُمِيتُهُ إلَّا إذَا كَانَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَيَكُونُ سَبَبَ الْمُكَاشَفَةِ لِأَسْرَارِ الْغَيْبِ الثَّالِثُ الصَّمْتُ وَيُسَهِّلُهُ الْعُزْلَةُ وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْكَلَامَ يُشْغِلُ الْقَلْبَ وَيُثْقِلُ التَّجَرُّدَ لِلذِّكْرِ وَالْفِكْرِ الرَّابِعُ الْخَلْوَةُ وَفَائِدَتُهَا دَفْعُ الشَّوَاغِلِ وَضَبْطُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ إلَّا قَدْرَ الضَّرُورَةِ وَإِذَا سَدَّ الْحَوَاسَّ تَتَفَجَّرُ يَنَابِيعُ الْغَيْبِ مِنْ حِيَاضِ الْمَلَكُوتِ وَتَنْصَبُّ إلَى الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْجُلُوسِ فِي مَكَان مُظْلِمٍ وَإِلَّا فَيَلُفُّ رَأْسَهُ فِي الْجَيْبِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْمَعُ نِدَاءَ الْحَقِّ وَيُشَاهِدُ جَلَالَ حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَبَعْدَ التَّحَصُّنِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ يَقْطَعُ عَقَبَاتِ الْقَلْبِ الَّتِي سَبَبُهَا الِالْتِفَاتُ إلَى الدُّنْيَا، وَإِذَنْ حَصَلَ قَلْبُهُ مَعَ اللَّهِ وَتَجَلَّى لَهُ الْحَقُّ وَظَهَرَ لَهُ مِنْ لَطَائِفِ رَحْمَةِ اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بَلْ لَا يُحِيطُ الْوَصْفُ بِهِ أَصْلًا [بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الشِّبَعِ وَكَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالتَّنَعُّمِ] (وَلْنَذْكُرْ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الشِّبَعِ وَكَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالتَّنَعُّمِ " دُنْيَا " عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ

أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا الشِّبَعُ) مُلَازَمَتُهُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ فِي عَهْدِهِ فِي وَقْتٍ مَا أَوْ حَالٍ مَا بِلَا دَوَامٍ (فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَبِعَتْ بُطُونُهُمْ سَمِنَتْ أَبْدَانُهُمْ) وَالسِّمَنُ مَذْمُومٌ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ آخِرُهُ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ (وَضَعُفَتْ قُلُوبُهُمْ) لِأَنَّ السِّمَنَ لَا يَحْدُثُ فِيمَنْ لَهُ شُغْلٌ دِينِيٌّ وَخَوْفٌ قَلْبِيٌّ فَإِنَّهُ يُذِيبُ الْبَدَنَ وَلِذَا قِيلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ مَا أَفْلَحَ سَمِينٌ قَطُّ إلَّا إنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْرَهُ الْجَسَدَ السَّمِينَ» نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ لَكِنَّ الْحَقَّ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ السِّمَنُ بِقَصْدِهِ وَصُنْعِهِ فَمَذْمُومٌ وَإِلَّا فَلَا إذْ لَا مُؤَاخَذَةَ فِي اضْطِرَارِيَّةٍ وَأَنَا أَقُولُ فَعَلَى الْأَوَّلِ إنْ لِتَقَوٍّ لِلْعِبَادَةِ أَوْ الْمَرْأَةِ لِتَحْصِيلِ الْجَمَالِ لِحُبِّ زَوْجِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمْنَعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَجَمَحَتْ) بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ غَلَبَتْ (شَهَوَاتُهُمْ) عَلَيْهِمْ فَمَلَكَتْهُمْ فَوَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فَكَأَنَّهُمْ عَبِيدُ الشَّهَوَاتِ وَأَسْرَى الْهَوَى (ت عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ تَجَشَّأَ» أَيْ أَخْرَجَ الْجُشَاءَ مِنْ صَدْرِهِ كَثِيرًا وَهُوَ رِيحٌ يَخْرُجُ مِنْ الصَّدْرِ عِنْدَ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ مِنْ الطَّعَامِ «رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كُفَّ عَنَّا جُشَاكَ» عَلَى وَزْنِ غُرَابٍ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ خِلَافَ مَنْ قَيَّدَهُ بِالْكَثْرَةِ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ الْجُشَاءِ وَعَنْ سَبَبِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ «فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلَا يَشْكُلُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي يَدُورُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ كَوْنَ نَفْسِ الْجُشَاءِ ضَرُورِيًّا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ لِعُمُومِ الْأَشْخَاصِ لَكِنَّ سَبَبَهُ الْغَالِبَ الَّذِي هُوَ الشِّبَعُ وَالِامْتِلَاءُ مِنْ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ. (خ م عَنْ نَافِعٍ) مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ تَابِعِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عُمَرَ) كِلْمَةُ كَانَ تُشْعِرُ بِالِاسْتِمْرَارِ (لَا يَأْكُلُ) طَعَامًا (حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَدْخَلْت عَلَيْهِ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ) ذَلِكَ الرَّجُلُ (كَثِيرًا فَقَالَ) بَعْدَ ذَهَابِهِ (يَا نَافِعُ لَا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ) - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَقُولُ «الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ فِي مِعًى» ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْقَصْرِ ( «وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» ) لَا يَقْنَعَانِ بِمَا يَقْنَعُ بِهِ الْمُسْلِمُ بَلْ هُمَا حَرِيصَانِ عَلَى الْأَكْلِ قِيلَ الْمُرَادُ

مِنْهُمَا خَاصٌّ. وَقِيلَ عَامٌّ لَكِنَّهُ غَالِبِيٌّ أَوْ هُوَ تَمْثِيلٌ لِاقْتِصَارِ الْمُسْلِمِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فَكَأَنَّهُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ لِشَرَاهَتِهِ كَأَنَّهُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةٍ ثُمَّ الْعَاقِلُ الْمُسْلِمُ أَنْ يُوصَفَ بِمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ لِلْمُسْلِمِ لَا بِمَا وَصَفَهُ لِلْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ فَهَلْ يَلِيقُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّصِفَ بِصِفَةِ الْكَافِرِ ثُمَّ الظَّاهِرُ التَّقْيِيدُ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَحَلِّهَا مِنْ تَجْوِيزِهِ لِأَجْلِ تَقَوِّي الطَّاعَةِ وَتَطْيِيبِ الْمُسَافِرِ وَنَحْوِهِمَا (ت عَنْ مِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ» فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ بَطْنِهِ بِالضَّمِيرِ. قَالَ فِي شَرْحِهِ لِمَا فَاتَهُ مِنْ خُيُورٍ كَثِيرَةٍ جَعَلَ الْبَطْنَ وِعَاءً كَالْأَوْعِيَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ ظُرُوفًا تَوْهِينًا لِشَأْنِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ شَرَّ الْأَوْعِيَةِ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا هِيَ لَهُ وَالْبَطْنُ خُلِقَ لَأَنْ يَتَقَوَّمَ بِهِ الصُّلْبُ بِالطَّعَامِ وَامْتِلَاؤُهُ يُفْضِي إلَى فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَكُونُ شَرًّا مِنْهَا وَالشِّبَعُ يَزِيغُ عَنْ الْحَقِّ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكَسَلُ فَيَمْنَعُهُ مِنْ التَّعَبُّدِ وَيُكْثِرُ فِيهِ مَوَادَّ الْفُضُولِ فَيَكْثُرُ غَضَبُهُ وَشَهْوَتُهُ وَيَزِيدُ حِرْصُهُ فَيُوقِعُهُ فِي طَلَبِ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ قَالَ بَعْضٌ الشِّبَعُ نَهْرٌ يَرِدُهُ الشَّيْطَانُ وَالْجُوعُ نَهْرٌ فِي الرُّوحِ تَرِدُهُ الْمَلَائِكَةُ «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ» الْبَاءُ مَزِيدَةٌ أَيْ يَكْفِيهِ «لُقَيْمَاتٌ» . وَفِي الْجَامِعِ أَكَلَاتٌ أَيْ يَكْفِيهِ هَذَا الْقَدْرُ فِي سَدِّ الرَّمَقِ وَإِبْقَاءِ الْقُوَّةِ وَلِهَذَا قَالَ «يُقِمْنَ صُلْبَهُ» أَيْ ظَهْرَهُ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ إذْ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الظَّهْرِ فِيهِ فَقَارٌ فَهُوَ صُلْبٌ كِنَايَةً عَنْ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ السُّقُوطِ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ صِيغَةُ جَمْعِ الْقِلَّةِ لِلْإِشَارَةِ إلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ «فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ» مِنْ التَّجَاوُزِ عَمَّا ذُكِرَ فَلْتَكُنْ أَثْلَاثًا «فَثُلُثٌ» أَيْ ثُلُثُ بَطْنِهِ يَجْعَلُهُ «لِطَعَامِهِ» مَأْكُولُهُ «وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ» يَدَعُهُ «لِنَفَسِهِ» بِالتَّحْرِيكِ يَعْنِي يُبْقِي مِنْ مِلْئِهِ قَدْرَ الثُّلُثِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّنَفُّسِ وَيَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ صَفَاءٍ وَرِقَّةٍ وَهَذِهِ غَايَةُ مَا يَنْفَعُ لِلْبَدَنِ وَالْقَلْبِ فَإِنْ بِالشِّبَعِ ضَاقَ النَّفَسُ وَعَرَضَ الْكَرْبُ وَالثِّقَلُ وَلَمَّا كَانَ فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ أَرْضِيٍّ وَمَائِيٍّ وَهَوَائِيٍّ قَسَّمَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَفَسَهُ إلَى الْأَجْزَاءِ الثَّلَاثَةِ وَتَرَكَ النَّارِيَّ لِقَوْلِ جَمْعٍ مِنْ الْأَطِبَّاءِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ نَارِيٌّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَوْ سَمِعَ بُقْرَاطُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ ذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ لِبَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ فَقَالَ مَا سَمِعْت كَلَامًا فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ أَحْكَمَ مِنْهُ وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَسْبَابُ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ. (تَنْبِيهٌ) الْجُوعُ اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ جُوعُ السَّالِكِينَ أَوْ اضْطِرَارِيٌّ وَهُوَ جُوعُ الْمُحَقِّقِينَ فَإِنَّ الْمُحَقِّقَ لَا يُجَوِّعُ نَفْسَهُ بَلْ يُقَلِّلُ أَكْلَهُ إنْ كَانَ فِي مَقَامِ الْأُنْسِ وَإِنْ كَانَ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ كَثُرَ أَكْلُهُ فَكَثْرَةُ الْأَكْلِ لِلْمُحَقِّقِينَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ سَطَوَاتِ أَنْوَارِ الْحَقِيقَةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِحَالِ الْعَظَمَةِ مِنْ مَشْهُودِهِمْ، وَقِلَّةُ الْأَكْلِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُحَادَثَةِ بِحَالِ الْمُؤَانَسَةِ مِنْ مَشْهُودِهِمْ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ لِلسَّالِكِينَ دَلِيلٌ عَلَى بُعْدِهِمْ مِنْ اللَّهِ وَبُعْدِهِمْ عَنْ بَابِهِ وَاسْتِيلَاءِ النَّفْسِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْبَهِيمَةِ عَلَيْهِمْ، وَقِلَّةُ الْأَكْلِ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفَحَاتِ الْجَوْدَةِ الْإِلَهِيِّ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَيَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ تَدْبِيرِ جُسُومِهِمْ، وَالْجُوعُ بِكُلِّ حَالٍ سَبَبٌ إلَى نَيْلِ عَظِيمِ الْأَحْوَالِ وَالْأَسْرَارِ مَا لَمْ يُفْرِطْ فَإِنَّ إفْرَاطَهُ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْمِزَاجِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ (طب دُنْيَا عَنْ جَعْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا عَظِيمَ الْبَطْنِ فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ لَوْ كَانَ هَذَا» إشَارَةٌ إلَى مَا فِي الْبَطْنِ مِنْ الطَّعَامِ «فِي غَيْرِ هَذَا» الْبَطْنِ أَيْ فِي بَطْنِ رَجُلٍ آخَرَ «لَكَانَ خَيْرًا لَك» لِمَا فِيهِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَوْ كَانَ الِامْتِلَاءُ بِالْمَعَارِفِ لَكَانَ خَيْرًا لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ الْبَدَنِيِّ وَالدِّينِيِّ (دُنْيَا عَنْ ابْنِ بُجَيْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَهْبٍ الْأَنْصَارِيُّ لَهُ رُؤْيَةٌ وَذَكَرَهُ بَعْضٌ فِي الصَّحَابَةِ

وَلَهُ حَدِيثُ مُرْسَلٌ (أَنَّهُ قَالَ «أَصَابَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُوعٌ يَوْمًا فَعَمَدَ إلَى حَجَرٍ فَوَضَعَهُ عَلَى بَطْنِهِ» وَرَبَطَهُ بِهِ لِئَلَّا يَتَقَوَّسَ الظَّهْرُ وَلِئَلَّا تَأْكُلَ الْمَعِدَةُ نَفْسَهَا أَوْ لِحُكْمٍ آخَرَ «ثُمَّ قَالَ أَلَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ» فِي الْحَقِيقَةِ «لَهَا مُكْرِمٌ» لِأَنَّ النَّفْسَ إنَّمَا تَصِلُ إلَى الْكَرَامَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ بِالْإِهَانَةِ لَهَا وَتَرْكِ لَذَّاتِهَا وَكَسْرِ شَهَوَاتِهَا وَكَبْحِ مُيُولَاتِهَا وَمَنْعِ تَشَهِّيهَا. (م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «طَعَامُ الْوَاحِدِ» مِقْدَارُ مَا يُشْبِعُهُ «يَكْفِي الِاثْنَيْنِ» مِقْدَارُ قُوتِهِمَا «وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» فَشِبَعُ الْوَاحِدِ قُوتُ الِاثْنَيْنِ وَشِبَعُ الِاثْنَيْنِ قُوتُ الْأَرْبَعَةِ وَالْأَرْبَعَةِ لِلثَّمَانِيَةِ وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْإِخْبَارُ فَمُشْكِلٌ إذْ طَعَامُ الْوَاحِدِ لَا يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَهَكَذَا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ أَطْعِمُوا طَعَامَ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ وَهَكَذَا وَهَكَذَا أَوْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَقُوتُ الِاثْنَيْنِ وَأَخْبَرَنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا نَجْزَعَ أَوْ مَعْنَاهُ طَعَامُ الْوَاحِدِ إذَا أَكَلَ وَحْدَهُ كَانَ لِاثْنَيْنِ مُجْتَمِعًا فَالْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى التَّقَنُّعِ بِالْكِفَايَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَصْرَ فِي مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ بَلْ الْمُوَاسَاةَ. قَالَ عُمَرُ عَامَ الرَّمَادَةِ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أُنْزِلَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ مِثْلَ عَدَدِهِمْ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَهْلِكُ عَلَى نِصْفِ بَطْنِهِ وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَنَّ السُّلْطَانَ فِي الْمَسْغَبَةِ يُفَرِّقُ الْفُقَرَاءَ عَلَى أَهْلِ السَّعَةِ بِقَدْرِ مَا يَحِيقُ بِهِمْ قِيلَ فِيهِ نَدْبُ الْمُوَاسَاةِ وَأَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ فِيهِ الْبَرَكَةَ فَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يُشْبِعُ الْوَاحِدَ يَرُدُّ جُوعَ الِاثْنَيْنِ وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالْمُرُوءَةِ وَعَدَمِ الِاسْتِبْذَارِ وَتَجَنُّبِ الْبُخْلِ وَالشِّبَعِ (دُنْيَا طكط عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «سَيَكُونُ رِجَالٌ» إمَّا لِكَوْنِهِمْ مَتْبُوعِينَ لِلنِّسَاءِ أَوْ تَغْلِيبٌ أَوْ عُمُومُ مَجَازٍ بِمَعْنَى بَشَرٍ أَوْ إنْسَانٍ أَوْ مُقَايَسَةٌ أَوْ دَلَالَةُ نَصٍّ أَوْ حَذْفُ الْعَاطِفِ مَعَ الْمَعْطُوفِ مِنْ قَبِيلِ {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] كَمَا فِي أَمْثَالِهِ «مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ» فَأَكْلُ الْأَلْوَانِ أَيْ الْأَنْوَاعِ بِدْعَةٌ لَكِنْ قَدْ سَبَقَ وَحَكَى بَعْضٌ فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ التَّجْوِيزِ وَفِعْلُ بَعْضِ السَّلَفِ مُقَيَّدٌ بِمَصْلَحَةٍ كَالتُّقَا لِنَفْعِ الْبَدَنِ وَكَكَوْنِ التَّشَهِّي بِالْمَجْمُوعِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَجْمُوعُ غَيْرَ مُتَجَاوِزِ الشِّبَعِ أَوْ كَكَوْنِ الْأَكْلَةِ كَثِيرَةً «وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ وَيَتَشَدَّقُونَ» التَّكَلُّفَ فِي الْفَصَاحَةِ «فِي الْكَلَامِ فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي» . قِيلَ الْحُكْمُ بِالشِّرَارِ مَعَ إبَاحَةِ الْأَصْلِ غَيْرُ الْأَخِيرِ لِكَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي وَمُقَدِّمَاتِهَا كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْوَسَائِلِ أَحْكَامُ الْمَقَاصِدِ لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرَارِيَّةَ تَمْنَعُ الْإِبَاحَةَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِفْضَاءِ يَعْنِي الشَّرَارِيَّةَ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا وَمَا لَا فَلَا بَعِيدٌ عَنْ إطْلَاقِ النَّصِّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ بِحَيْثُ يَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ فِي الشَّرَارِيَّةِ ضَعِيفٌ أَيْضًا أَوْ الْمَعْنَى فَبَعْضُ أُولَئِكَ مِنْ شِرَارِ أُمَّتِي لَعَلَّ الْوَجْهَ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الرَّابِطَةَ الْفِعْلِيَّةَ لَكِنَّهُ اتَّفَقَ فِي الْخَارِجِ أَنَّ مَنْ عَنَاهُمْ كَذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ يَتَّفِقُ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ أَعْظَمُ شُرُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ كَالظَّلَمَةِ وَالْجَبَابِرَةِ فَمِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي إخْبَارِ الْغَيْبِ أَوْ يَفْعَلُ كُلَّ ذَلِكَ بِأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُطَوِّلُ أَكْمَامَهُ وَيَجُرُّ أَذْيَالَهُ تِيهًا وَعُجْبًا مُصْغِيًا إلَى مَا يَقُولُ النَّاسُ لَهُ وَفِيهِ شَاخِصًا إلَى مَا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ مِنْهُ قَدْ عَمِيَ بَصَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ عَنْ النَّظَرِ إلَى صُنْعِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ وَصُمَّ سَمْعُهُ عَنْ مَوَاعِظِ اللَّهِ يَقْرَأُ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا يَتَلَذَّذُ بِهِ وَلَا يَجِدُ لَهُ حَلَاوَةً كَأَنَّهُ إنَّمَا عُنِيَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ فَكَيْفَ يَتَلَذَّذُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ اسْمُهُ خَاطَبَ أُولِي الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ وَالْأَلْبَابِ فَمَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ وَعَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ فِي شَأْنِ نَفْسِهِ وَدُنْيَاهُ كَيْفَ يَفْهَمُ كَلَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَتَلَذَّذُ بِهِ وَكَيْفَ يَجْلُو بَصَرُهُ وَهُوَ يَرَى صِفَةَ غَيْرِهِ ثُمَّ قِيلَ الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَقِيلَ

مَتْرُوكٌ وَقِيلَ مُخْتَلَطٌ. (وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ فِي السُّوقِ بِمَرْأَى النَّاسِ وَفِي الطَّرِيقِ) وَلَوْ قَالَ وَبِمَرْأَى النَّاسِ بِالْعَطْفِ لَكَانَ أَشْمَلَ لَعَلَّهُ يُشِيرُ بِهِ إلَى عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ فِي أَكْلِ السُّوقِ فَلَوْ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ أَيْ مَرْأَى النَّاسِ فِي غَيْرِ السُّوقِ يَتَحَقَّقُ الْحُكْمُ أَيْ الْكَرَاهَةُ إذْ قَدْ يَعُمُّ الْحُكْمَ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ فَافْهَمْ وَجْهَ الْكَرَاهَةِ أَمَّا الدَّنَاءَةُ أَوْ تَعَلُّقُ نَظَرِ الْفُقَرَاءِ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَكَلَ وَرَاءَ الْحِجَابِ لَا يُكْرَهُ (وَ) يُكْرَهُ الْأَكْلُ (عِنْدَ الْمَقَابِرِ وَالضَّحِكُ أَيْضًا عِنْدَهَا) لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ مَحَلُّ اعْتِبَارٍ وَتَذَكُّرِ الْآخِرَةِ وَالْأَكْلُ وَالضَّحِكُ مُنَافٍ لَهُمَا وَلِهَذَا قِيلَ كُتِبَ عَلَى مَقَابِرِ بَعْضِ السَّلَفِ نَحْنُ مِثْلُكُمْ أَمْسِ وَتَصِيرُونَ غَدًا مِثْلَنَا فَاعْتَبِرُوا بِنَا عَنْ تَفْسِيرِ ابْنِ الْعَادِلِ أَنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ لِلْقَلْبِ الْقَاسِي لِأَنَّهَا مُذَكِّرَةٌ الْآخِرَةَ وَالْمَوْتَ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى قِصَرِ الْأَمَلِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِ الرَّغْبَةِ فِيهَا (وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ) لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَرَحِ وَهِيَ مَحَلُّ حُزْنٍ أَوْ مَحَلُّ عِبْرَةٍ كَمَا عَرَفْت (وَأَكْلُ طَعَامِ الْمَيِّتِ) الْمُتَّخَذُ لِأَجْلِ الْمَيِّتِ سَوَاءٌ اُتُّخِذَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوْ لِأُسْبُوعٍ أَوْ لِأَرْبَعَيْنِ أَوْ الْأَعْيَادِ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جَلَاءِ الْقُلُوبِ) كَمَا تَقَدَّمَ (وَ) يُكْرَهُ تَحْرِيمًا (الْأَكْلُ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالشُّرْبُ مِنْهُمَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) وَأَمَّا لُبْسُهُمَا فَجَائِزٌ لِلنِّسَاءِ لَا لِلرِّجَالِ لِأَنَّ الزِّينَةَ حَرَامٌ لَهُمْ (وَكَذَا الْأَكْلُ بِمِلْعَقَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) مُطْلَقًا (وَكَذَلِكَ الِاكْتِحَالُ بِمِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَا إحْرَاقُ الْعُودِ فِي الْمِجْمَرِ) وَهُوَ مَا يُوقَدُ فِيهِ الْعُودُ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَكَذَا الِادِّهَانُ وَالِاكْتِحَالُ قَالُوا هَذَا عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ مِنْ الْآنِيَةِ أَمَّا إذَا صَبَّهُ عَلَى يَدِهِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَا إذَا أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَوَضَعَهُ عَلَى خُبْزٍ أَوْ نَحْوِهِ ثُمَّ أَكَلَ لَا بَأْسَ بِهِ وَيُكْرَهُ الدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ وَالرِّيشَةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَيُكْرَهُ الْوُضُوءُ فِي الطَّشْتِ وَالْإِبْرِيقِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَهُمَا وَحَلَّ لَهُمَا اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ بِأَنْ يَجْعَلَ النُّحَاسَ أَوْ الرَّصَاصَ أَوْ الصُّفْرَ أَوْ الْحَدِيدَ أَوْ الزُّجَاجَ أَوْ الْبِلَّوْرَ أَوْ الْعَقِيقَ أَوْ غَيْرَهُ آنِيَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُضْمَرَاتِ وَعَنْ بَعْضٍ أَنَّ الْأَكْلَ فِي النُّحَاسِ وَالصُّفْرِ مَكْرُوهٌ وَفِي الِاخْتِيَارِ أَنَّ الْخَزَفَ أَفْضَلُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اتَّخَذَ أَوَانِيَ بَيْتِهِ خَزَفًا زَارَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ (وَأَمَّا) الْإِنَاءُ (الْمُذَهَّبُ وَالْمُفَضَّضُ) الْإِنَاءُ الَّذِي فِي بَعْضِ جَوَانِبِهِ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ (فَجَائِزٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ لَمْ يَضَعْ فَمَهُ) وَكَذَا يَدَهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَعَنْ الْمِنَحِ وَيَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ بِالْفَمِ وَقِيلَ بِالْفَمِ وَالْيَدِ فِي الْأَخْذِ وَالشُّرْبِ (عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَعِنْدَهُمَا مَكْرُوهٌ وَعَنْ الْمِنَحِ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ

(وَكَذَا الْكُرْسِيُّ) الْمُذَهَّبُ أَوْ الْمُفَضَّضُ (إذَا لَمْ يَجْلِسُ عَلَى مَوْضِعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَذَا) جَائِزٌ عِنْدَهُ (حَلْقَةُ الْمِرْآةِ وَحِلْيَةُ الْمُصْحَفِ وَأَمَّا السَّرْجُ الْمُفَضَّضُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَا الثَّفْرُ) مَا يُجْعَلُ تَحْتَ ذَنَبِ الدَّابَّةِ (الْمُفَضَّضُ وَاللِّجَامُ وَالرِّكَابُ الْمُفَضَّضَانِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُف كَرَاهَتُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ أَيْضًا (وَأَمَّا التَّمْوِيهُ) طِلَاءُ الشَّيْءِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ تَحْتَهُ نُحَاسٌ أَوْ حَدِيدٌ (الَّذِي لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ شَيْءٌ) عِنْدَ الْإِذَابَةِ (فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ فَلَا عِبْرَةَ لِبَقَائِهِ وَإِنَّمَا مَحَلُّ النِّزَاعِ مَا يَخْلُصُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ شَيْءٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ إذَا اتَّقَى عَنْ مَوَاضِعِهِمَا (وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَأْكُلَ عَلَى خِوَانِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) عَلَى وَزْنِ كِتَابٍ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ يُوضَعُ تَحْتَ الطَّعَامِ لِيُؤْكَلَ بِلَا انْحِنَاءٍ إلَى السُّفْرَةِ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَلِكَوْنِهِ شِعَارَ الْخُيَلَاءِ قَالَ فِي الْحَاشِيَة وَأَمَّا الْأَكْلُ عَلَى الْخِوَانِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا يُكْرَهُ (كُلُّهُ) كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْأَكْلُ (فِي) كَرَاهِيَةِ (الْخُلَاصَةِ) وَغَيْرِهَا وَفِي التتارخانية لَا بَأْسَ بِجَعْلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي سَقْفِ الدَّارِ وَالْمَسْجِدِ وَأَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ بِمَائِهِمَا إنْ كَانَ مِنْ مَالِهِ وَلَا تَجُوزُ الْمَكَاحِلُ وَالِاكْتِحَالُ بِمِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا يُكْرَهُ خَاتَمُ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مِقْبَضِ السَّيْفِ وَكَذَا السِّكِّينُ وَحَمَائِلُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ يُكْرَهُ وَكَذَا الْكِتَابَةُ مِنْ دَوَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (وَ) يُكْرَهُ (أَكْلُ طَعَامِ ضِيَافَةٍ عِنْدَهُ لَعِبٌ أَوْ لَهْوٌ أَوْ غِنَاءٌ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ) بَلْ اللَّازِمُ حِينَئِذٍ الْمَنْعُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ إنْ قَدَرَ وَإِلَّا فَالْقِيَامُ وَلَوْ عَلِمَ الْمُنْكَرَ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ عَدَمُ الْإِجَابَةِ وَفِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ فَوَجَدَ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَائِدَةِ بَلْ فِي الْمَنْزِلِ وَإِنْ عَلَى الْمَائِدَةِ لَا يَقْعُدُ وَفِي الْأُسْرُوشَنِيِّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَائِدَةِ فَإِنْ مُقْتَدًى بِهِ لَا يَقْعُدُ لِأَنَّ فِي قُعُودِهِ شَيْنَ الدِّينِ وَفَتْحَ بَابِ الْمَعْصِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ فَلَا بَأْسَ بِقُعُودِهِ وَأَكْلِهِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ اسْتِمَاعَ الْمَلَاهِي اتَّخَذَ ضِيَافَةً لِفَسَادٍ كَانَ لِلنِّسَاءِ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ لَهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الِامْتِنَاعُ يَنْوِينَ عِنْدَ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ إشْغَالَهُمْ عَنْ الْفَسَادِ مَا دَامُوا فِي الْأَكْلِ فَيُؤْجَرْنَ بِالْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَعَنْ الْخُلَاصَةِ إنْ عَلِمَ قَبْلَ الدُّخُولِ امْتِنَاعَهُمْ عَنْ الْفِسْقِ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَعَنْ الْخَانِيَّةِ نُقِلَ نَوْعُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ حَاصِلُهُ امْتِنَاعُ الْإِجَابَةِ إنْ قَدَرَ عَلَى مَنْعِهِمْ فَلَا يُجِيبُ بَلْ يَجِبُ الْمَنْعُ وَجَوَازُ الْإِجَابَةِ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَنْعِ لَكِنْ يُنْكِرُ فِسْقَهُمْ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ وَاجِبَةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ فَلَا يُتْرَكُ لِمَعْصِيَةٍ اعْتَرَضَتْ لَهَا لَعَلَّهُ يَقُولُ الْأُمُورُ الْأَصْلِيَّةُ لَا تَسْقُطُ بِالْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ وَأَيْضًا يُرَجِّحُ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ عَلَى مَا هُوَ عَرَضِيٌّ وَفِي الدُّرَرِ إنْ حَضَرَ بِلَا عِلْمٍ ثُمَّ حَدَثَ الْمُنْكَرُ فَإِنْ مُقْتَدًى بِهِ يُمْنَعُ وَإِلَّا خَرَجَ أَلْبَتَّةَ وَلَا بَأْسَ لِغَيْرِ الْمُقْتَدَى بِهِ فَإِنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» فَلَا يُتْرَكْ لِاقْتِرَانِ الْبِدْعَةِ مِنْ غَيْرِهِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا تُتْرَكُ لِأَجْلِ النَّائِحَةِ وَبِالْجُمْلَةِ الْأَوْلَى لِغَيْرِ الْمُقْتَدَى الْقُدُومُ مُطْلَقًا وَفِي التتارخانية الِامْتِنَاعُ مُطْلَقًا فِي زَمَانِنَا أَسْلَمُ إلَّا إذَا عَلِمَ يَقِينًا عَدَمَ مُنْكَرٍ وَفِي الْخُلَاصَةِ يَجُوزُ لِلْوَرِعِ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ الْفَاسِقِ وَالْأَوْرَعُ أَنْ لَا يُجِيبَ، وَلَا يُجِيبُ الدَّائِنُ دَعْوَةَ مَدْيُونِهِ إنْ زَائِدَةً عَلَى عَادَتِهِ إلَّا إذَا نَصَّ أَنَّهُ لَيْسَ دَيْنٌ وَفِي التتارخانية أَيْضًا دَارًا ظَهَرَ الْفِسْقُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَكُفَّ رَبُّهَا بِالتَّنْبِيهِ فَلِلْإِمَامِ ضَرْبُهُ أَوْ حَبْسُهُ أَوْ إزْعَاجُهُ مِنْ دَارِهِ (وَ) يُكْرَهُ (أَكْلُ طَعَامٍ اُتُّخِذَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ إذَا عُلِمَ ذَلِكَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِالْقَرَائِنِ) وَالْأَمَارَاتِ

الأكل على السفرة

[الْأَكْلُ عَلَى السُّفْرَةِ] (وَيُسْتَحَبُّ الْأَكْلُ عَلَى السُّفْرَةِ) هِيَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْجِلْدِ (لَا الْخِوَانِ) كَكِتَابٍ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ كَمَا مَرَّ (خ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا عَلِمْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ عَلَى سُكْرُجَةٍ» فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ مِنْ سَكْرَجَ وَهِيَ إنَاءٌ صَغِيرٌ يُوضَعُ فِيهِ مُشْتَهَيَاتُ الطَّعَامِ وَهِيَ غَالِبًا يُوضَعُ فِيهَا الْحَوَامِضُ حَوْلَ الْأَطْعِمَةِ لِلتَّشَهِّي وَالْهَضْمِ وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فَعَلَى هَذَا يَضْعُفُ مَا قِيلَ فِي الْوَجْهِ أَنَّهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْبُخْلِ بَلْ ذَلِكَ عَلَى هَذَا عَلَامَةُ السَّرَفِ وَالْحِيلَةُ عَلَى كَثْرَةِ الْأَكْلِ الَّتِي هِيَ ذَمِيمَةٌ وَأَنَّ هَذَا فِعْلُ الْأَعَاجِمِ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الْأَغْلَبِ «قَطُّ» ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ «وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ» أَيْ الْخُبْزُ الرَّقِيقُ الْمَنْزُوعُ مِنْهُ النُّخَالَةُ لِأَنَّ فِيهِ تَكَبُّرًا وَتَنَعُّمًا «وَلَا أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ قِيلَ لِعُبَادَةَ» أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ «فَعَلَى مَهْ» كُتِبَ بِالْهَاءِ وَلَا يُقْرَأُ بِهَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ «كَانُوا يَأْكُلُونَ» فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ عَلَى السُّفَرِ» وَيُكْرَهُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ) عَمْدًا عِنْدَ الْأَكْلِ (د ت عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ» وَكَذَا الشُّرْبُ بِدَلِيلِ خَبَرِ الدَّيْلَمِيِّ «إذَا أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت فَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ وَلَمْ يُصِبْك مِنْهُ دَاءٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ سُمٌّ» الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَلَوْ حَائِضًا أَوْ جُنُبًا «فَإِنْ نَسِيَ فِي الْأَوَّلِ فَلْيَقُلْ فِي الْآخِرِ» لِيَقِيءَ الشَّيْطَانُ مَا أَكَلَهُ «بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ» أَيْ فِي أَكْلِ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَيْ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ عَمَلٌ وَاحِدٌ وَكُلُّ لُقْمَةٍ أَكْلَةٌ لَا يُقَالُ كَيْفَ تَصْدُقُ الِاسْتِعَانَةُ بِبَسْمِ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِ وَقَدْ مَضَى بِلَا تَسْمِيَةٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ إنْشَاءَ اسْتِعَانَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ حَتَّى يَكْذِبَ وَبِهِ يَصِيرُ الْمُتَكَلِّمُ مُسْتَعِينًا فِي أَوَّلِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي أَوَّلِهِ وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيُّ بِالنَّاسِي مَا لَوْ تَعَمَّدَ أَوْ جَهِلَ أَوْ أُكْرِهَ (وَ) يُكْرَهُ (الْأَكْلُ بِالشِّمَالِ) بِلَا عُذْرٍ

(م عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا» فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ الْمُوَافَقَةُ لَهُ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ إمَّا مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ أَكْلَ الشَّيْطَانِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ وَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ بِدُونِ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ أَوْ لِأَنَّهُ فِعْلُ أَوْلِيَائِهِ أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ قَبَائِحِ الْأَعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ وَالِاسْتِهَانَةِ كَمَا قِيلَ (وَكَانَ نَافِعٌ) مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (يَزِيدُ فِيهَا) أَيْ فِي الرِّوَايَةِ (وَلَا يَأْخُذُ بِهَا) أَيْ بِالشِّمَالِ (وَلَا يُعْطِي بِهَا) فَيُكْرَهُ ذَلِكَ وَقَيَّدَ بِالْأَشْيَاءِ الشَّرِيفَةِ وَرُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ نُخَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «كَانَ رَجُلٌ يَأْكُلُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إلَّا لُقْمَةٌ فَلَمَّا رَفَعَهَا إلَى فِيهِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ فَضَحِكَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسُئِلَ عَنْ ضَحِكِهِ فَقَالَ مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِقَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ» (وَ) يُكْرَهُ (الْأَكْلُ مِنْ وَسَطِ الطَّعَامِ) لِأَنَّهُ مَحَلُّ نُزُولِ الْبَرَكَةِ وَكَذَا أَكْلُ وَجْهِ الْخُبْزِ أَوْ جَوْفُهُ وَرَمْيُ بَاقِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَالتَّشْبِيهِ بِالْخُيَلَاءِ وَالسَّرَفِ وَقِيلَ يُورِثُ الْقَحْطَ وَالْقِلَا وَفِي الِاخْتِيَارِ وَمِنْ الْإِسْرَافِ أَنْ يَأْكُلَ وَسَطَ الْخُبْزِ وَيَدَعَ جَوَانِبِهِ أَوْ يَأْكُلَ مَا انْتَفَخَ وَيَتْرُكَ الْبَاقِيَ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَجَبُّرٍ إلَّا أَنْ يَتَنَاوَلَهُ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ (وَمِمَّا يَلِي غَيْرَهُ) لِأَنَّهُ مِنْ الْحِرْصِ وَسُوءِ الْأَدَبِ (إذَا كَانَ) الطَّعَامُ (لَوْنًا وَاحِدًا) وَأَمَّا إذَا كَانَ أَلْوَانًا فَيَجُوزُ الْأَكْلُ حَيْثُ شَاءَ وَعَنْ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «اُذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِيهِ» (ت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَّتِهِ» طَرَفِهِ وَجَانِبِهِ إبْقَاءً لِمَحَلِّ الْبَرَكَةِ «وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» أَيْ مَحَلِّ نُزُولِ الْبَرَكَةِ «لِئَلَّا تُمْحَى الْبَرَكَةُ» أَيْ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ (خ م عَنْ «عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ» رَبِيبِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) فَأُمُّهُ زَوْجُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ قَالَ كُنْت غُلَامًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَيْ كُنْت صَبِيًّا فِي تَرْبِيَتِهِ وَالْحِجْرُ هُوَ الضَّبْطُ وَالْحِفْظُ «وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ» تَضْطَرِبُ «فِي الصَّحْفَةِ» فَيَأْخُذُ الطَّعَامَ مِنْ جَوَانِبِهَا أَيْ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَالصَّحْفَةُ إنَاءٌ كَالْقَصْعَةِ «فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهِ تَعَالَى» إرْشَادًا وَتَأْدِيبًا «وَكُلْ بِيَمِينِك وَكُلْ مِمَّا يَلِيك» بِقُرْبِك لَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَالَ عَمْرٌو «فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طُعْمَتِي بَعْدُ» وَاظَبْت عَلَى مَا عَلَّمَنِي - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْحَرَكَةَ لَيْسَتْ بِاضْطِرَارِيَّةٍ كَالْمُرْتَعِشِ وَإِلَّا فَالتَّكْلِيفُ

لَا يُنَاسِبُهُ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ عَمْرًا حِينَئِذٍ بَالَغَ كَمَا يُؤَيِّدُهُ التَّعْبِيرُ بِالْغُلَامِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ أَمْرِ الصَّبِيِّ بِالصَّلَاةِ (ت عَنْ عِكْرَاشٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت» أَمَامِكَ أَوْ غَيْرِهِ «فَإِنَّهُ» أَيْ الطَّعَامَ «غَيْرُ لَوْنٍ وَاحِدٍ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُتِيَ بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ التَّمْرِ أَوْ الرُّطَبِ» شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي (وَ) يُكْرَهُ (قَطْعُ اللَّحْمِ وَنَحْوِهِ) كَالْجُبْنِ وَالْخُبْزِ (بِالسِّكِّينِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ) بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي غَايَةِ الْيُبْسِ (د عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ فَإِنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْأَعَاجِمِ» وَلَا يَنْبَغِي التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَلِأَنَّ فِيهِ تَكَبُّرًا «وَانْهَسُوا نَهْسًا» الْأَخْذُ بِالْأَسْنَانِ أَوْ كُلُوا بِمُقَدَّمِ الْأَسْنَانِ (فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ) هُمَا بِمَعْنَى سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، النَّهْيُ تَنْزِيهِيٌّ فَلَا يُنَافِيهِ قَطْعُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَعْضِ الْوَقْتِ إعْلَامًا لِأَصْلِ جَوَازِهِ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ يَجُوزُ صُدُورُ الْكَرَاهَةِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيَانًا لِأَصْلِ الْجَوَازِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَهُ مَكْرُوهًا وَقَدْ قَالُوا يَجُوزُ جَمْعُ الْكَرَاهَةِ مَعَ الْجَوَازِ وَلِذَا كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ (د عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كُنْت آكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَآخُذُ» عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ أَفُكُّ وَأَسُلُّ «اللَّحْمَ بِيَدِي مِنْ الْعَظْمِ فَقَالَ أَدْنِ اللَّحْمَ مِنْ فِيك» قَرِّبْهُ مِنْ فَمِك كِنَايَةً عَنْ نَزْعِ اللَّحْمِ مِنْ الْعَظْمِ بِالْفَمِ وَالْأَسْنَانِ دُونَ الْيَدِ «فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ» لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى الْمَطْلُوبِ يَعْنِي الْقَطْعَ بِالسِّكِّينِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَحُمِلَ قَوْلُهُ بِيَدِي أَيْ أَقْطَعُ بِالسِّكِّينِ بِيَدِي أَبْعَدُ إلَّا أَنْ يُقَالَ إذَا مُنِعَ النَّزْعُ بِالْأَصَابِعِ فَأَوْلَى بِالسِّكِّينِ فَمِنْ قَبِيلِ الدَّلَالَةِ بِالنَّصِّ وَيُشِيرُ هَذَا الْحَدِيثُ إلَى أَنَّ الْمَنْعَ عَمَّا يَكُونُ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا فَقَطْعُ النِّيءِ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَنْعِ (وَيُكْرَهُ رَمْيُ مَا فِي الْفَمِ وَالْأَنْفِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَفِي الْمَسْجِدِ) لِأَنَّا أُمِرْنَا بِاحْتِرَامِهِمَا وَلِهَذَا حَمَلَ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِيَّةِ وَلَوْ عَلَى حَصِيرِ الْمَسْجِدِ فَأَشَدُّ كَرَاهَةً (وَ) يُكْرَهُ (الشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ) هُوَ الْمَوْضِعُ الْمُنْكَسِرُ مِنْ طَرَفِهِ لِأَنَّهُ يُؤْذِي الشَّارِبَ بِمَا يَتَقَاطَرُ مِنْهُ الْمَاءُ عَلَى الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَلِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْوَسَخِ وَكَذَا قِيلَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ قَدَحٍ فِيهِ ثُلْمَةٌ لَكِنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ الْمُصَنِّف عَدَمُهَا فَافْهَمْ وَيَلْزَمُ مِنْهُ مُقَايَسَةٌ أَوْ دَلَالَةُ الْمِلْعَقَةِ الْمَشْقُوقَةِ لِتَجْمَعَ الْوَسَخَ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ تَوَقِّيًا عَنْ السَّرَفِ (وَالنَّفْخُ فِيهِ) فِي الْحَاشِيَةِ إذَا كَانَ لَهُ صَوْتٌ كَأُفٍّ فَقِيلَ لِأَنَّهُ كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ وَقِيلَ إذَا انْتَشَرَ الْبُزَاقُ لِتَأَذِّي الْغَيْرِ بِهِ وَفِي الْجَامِعِ نُهِيَ أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ وَفِيهِ أَيْضًا نُهِيَ أَنْ يُنْفَخَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالثَّمَرَةِ وَفِي شَرْحِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ النَّفْخِ فِيهِ لِحَاجَةٍ أَوْ لَا بَلْ إنْ حَارًّا صَبَرَ حَتَّى يَبْرُدَ

وَإِنْ قَذَارَةً أَزَالَهَا بِنَحْوِ خِلَالٍ أَوْ أَمَالَ الْقَدَحَ لِتَسْقُطَ أَوْ أَبْدَلَ الْمَاءَ (د عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ» وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُنْتِنُهُ وَقِيلَ لِلْمَرَضِ. (وَإِعْطَاؤُهُ) أَيْ الْقَدَحِ (بَعْدَ الشُّرْبِ) مِنْهُ (إلَى مَنْ فِي) جِهَةِ (يَسَارِهِ بِلَا إذْنِ مَنْ فِي الْيَمِينِ) وَفِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ فَأَعْطَى إلَى مَنْ فِي يَمِينِهِ أَعْرَابِيٍّ وَقَدْ كَانَ فِي يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالَ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ» أَيْ ابْدَءُوا بِالْأَيْمَنِ وَقَدِّمُوا الْأَيْمَنَ يَعْنِي مَنْ عِنْدَ الْيَمِينِ فِي نَحْوِ الشُّرْبِ فَمَنْصُوبٌ وَرُوِيَ رَفْعُهُ أَيْ الْأَيْمَنُ أَحَقُّ وَرَجَّحَهُ الْعَيْنِيُّ (لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْأَيْمَنُونَ ثَلَاثًا» أَيْ قَالَهُ ثَلَاثًا وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ إذَا اعْتَنَى بِأَمْرٍ يُكَرِّرُهُ تَأْكِيدًا قِيلَ وَلَوْ مَفْضُولًا وَحَكَى عَلَيْهِ الِاتِّفَاقَ حَتَّى قَالَ ابْنُ حَزْمٍ لَا تَجُوزُ مُنَاوَلَةُ غَيْرِ الْأَيْمَنِ إلَّا بِإِذْنِهِ فَالْأَفْضَلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يُدَارَ بِالْأَيْمَنِ فَلَيْسَ هَذَا تَرْجِيحًا لِمَنْ فِي الْيَمِينِ بَلْ لِجِهَتِهِ وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِمَا فِي الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَسَامَةِ كَبِّرْ كَبِّرْ وَلَا بِقَوْلِهِ ابْدَءُوا بِالْكُبْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَأُخِذَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكْرِيمِ يُقَدَّمُ فِيهِ الْيَمِينُ كَالصَّدْرِ وَالْبِسَاطِ وَفِيهِ نَدْبُ التَّيَامُنِ وَتَفْضِيلُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ وَأَنَّ مَا يَتَنَاوَلُ مِنْ نَحْوِ طَعَامٍ وَشَرَابٍ فَالسُّنَّةُ إدَارَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَأَنَّ الْجُلُوسَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَالْعَالِمِ أَفْضَلُ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي مَجْلِسٍ نُدِبَ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ أَهْلَ الْمَجْلِسِ فِيهِ وَأَنَّ مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا مُشْتَرَكًا فَهُوَ أَوْلَى بِمَجْلِسِهِ وَلَا يُقَامُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ (خَرَّجَهُ خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَ) يُكْرَهُ تَنْزِيهًا (الشُّرْبُ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ) بِفَتْحِ أَوَّلَيْهِ (وَالتَّنَفُّسُ فِي الْإِنَاءِ) لِاسْتِقْذَارِ الْغَيْرِ وَلِذَا قِيلَ لَا يَنْفُضُ يَدَهُ فِي الْقَصْعَةِ وَلَا يَنْحَنِي عَلَى نَحْوِ الْقَصْعَةِ عِنْدَ الْتِقَامِ اللُّقْمَةِ فِي فِيهِ وَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ الطَّعَامِ عِنْدَ إخْرَاجِ نَحْوَ الْعَظْمِ وَالنَّوَاةِ مِنْ فَمِهِ وَلَا يَغْمِسُ اللُّقْمَةَ الدَّسِمَةَ فِي الْخَلِّ وَلَا يُلْقِي اللُّقْمَةَ الدَّسِمَةَ فِي الْمَرَقَةِ وَلَا يُلْقِي الْمِلْعَقَةَ الدَّسِمَةَ فِي الْأَشْرِبَةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُسْتَقْذَرُ بَلْ يَذْكُرُ نَحْوَ حِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَآدَابِ الْأَكْلِ فَإِنَّ السُّكُوتَ الْمَحْضَ مِنْ سِيَرِ الْأَعَاجِمِ. (ت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «لَا تَشْرَبُوا» شُرْبًا «وَاحِدًا» بِنَفَسٍ وَاحِدٍ «كَشُرْبِ الْبَعِيرِ» فَإِنَّهُ يُوَالِي شُرْبَهُ «وَلَكِنْ» «اشْرَبُوا مَثْنَى» نَفَسَيْنِ «وَثُلَاثَ» لِأَنَّهُ أَرْيَحُ لِلشَّارِبِ وَأَهْنَأُ لَهُ «وَسَمُّوا اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ» أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ الشُّرْبَ «وَاحْمَدُوا اللَّهَ إذَا رَفَعْتُمْ» فَالسُّنَّةُ التَّسْمِيَةُ فِي الْبِدَايَةِ وَالتَّحْمِيدُ فِي النِّهَايَةِ (خ م عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الْأَنْصَارِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا شَرِبَ

أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ» عِلَّةُ النَّهْيِ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ لَطِيفَةٌ يُسْرِعُ إلَيْهَا التَّغْيِيرُ بِالرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ لَا سِيَّمَا الْمَاءُ فَلَعَلَّ الشَّارِبَ إذَا تَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ نَفَخَ فِيهِ يُؤَثِّرُ فِيهِ خُلُوفُ فَمِهِ فَتُغَيَّرُ رَائِحَتُهُ وَأَنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ بُزَاقِهِ فَيَحْصُلُ لِلنَّاسِ تَنَفُّرٌ وَأَمَّا النَّفْخُ بَعْدَ قِرَاءَةِ بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ إلَى نَحْوِ الْمَاءِ وَيَشْرَبُهُ الْمَرِيضُ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ ثُبُوتِهِ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَلَا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمْ لِعُمُومِ الصِّيغَةِ وَأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْجِنْسِ كَثِيرًا مَا يَكُونُ لِبَعْضِ أَفْرَادِهِ فَافْهَمْ. (وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسُّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ) بِيَدِهِ الْيُمْنَى حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَفِي الذَّكَرِ عُمُومُ مَجَازٍ شَامِلٌ لِفَرْجِ الْمَرْأَةِ مُقَايَسَةً أَوْ دَلَالَةً وَكَثُرَ أَنْظَارُهُ (وَإِذَا تَمَسَّحَ) بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ (فَلَا يَتَمَسَّحُ بِيَمِينِهِ) أَيْ لَا يَسْتَنْجِي بِالْيَمِينِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَأَمَّا التَّمَسُّحُ بِهَا بِأَنْ يَجْعَلَهَا مَكَانَ الْحَجَرِ فَيُزِيلُ بِهَا النَّجَاسَةَ فَحَرَامٌ فَإِنْ قُلْت مَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ تَعْلِيمِ أَدَبِ الشُّرْبِ وَأَدَبِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ قُلْت إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا شَرِبَ بَالَ مَا شَرِبَهُ فَاحْتَاجَ إلَى مَسِّ الْفَرْجِ حَالَ خُرُوجِهِ فَلَمَّا ذُكِرَ حُكْمُ الْمَدْخَلِ نَاسَبَ ذِكْرَ حُكْمِ الْمَخْرَجِ كَذَا فِي الْفَيْضِ. (وَيُكْرَهُ وَضْعُ الْمَمْلَحَةِ) ظَرْفُ الْمِلْحِ (عَلَى الْخُبْزِ) لِأَنَّ فِيهِ اسْتِخْفَافًا بِالْخُبْزِ الَّذِي أُمِرْنَا بِإِكْرَامِهِ وَأَمَّا وَضْعُ نَفْسِ الْمِلْحِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا قِيلَ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ تَقْيِيدِهِمْ بِالْمَمْلَحَةِ وَقَدْ مَرَّ مِرَارًا أَنَّ مَفْهُومَ التَّصْنِيفِ حُجَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي أَنْفَعِ الْوَسَائِلِ هَذَا لَكِنْ فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَأَئِمَّةِ بُخَارَى لَمْ يَرَوْا فِي وَضْعِ الْمَمْلَحَةِ عَلَى الْخُبْزِ بَأْسًا والمرغيناني كَانَ لَا يُفْتِي بِكَرَاهَتِهِ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة أَيْضًا وَمِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمِلْحِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ مِنْ قَوْلِهِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الْأَكْلَ بِالْمِلْحِ وَيَخْتِمَ بِهِ. وَفِي الشِّرْعَةِ وَيَبْدَأُ بِالْمِلْحِ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ الْأَمْرَاضِ وَفِي شَرْحِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا عَلِيُّ ابْدَأْ طَعَامَك بِالْمِلْحِ فَإِنَّ الْمِلْحَ شِفَاءٌ مِنْ سَبْعِينَ دَاءٍ مِنْهَا الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَوَجَعُ الْبَطْنِ وَالضِّرْسِ» كَذَا فِي الْعَوَارِفِ وَقِيلَ كَذَا فِي كَنْزِ الْعِبَادِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ الْفَوَائِدِ وَيُقَدَّمُ الْمِلْحُ الْمَدْقُوقُ وَيُرْفَعُ بِالْمُسَبِّحَةِ وَالْإِبْهَامِ وَلَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ أَنْ يَسْأَلَ مِنْ رَبِّ الْبَيْتِ إلَّا الْخُبْزَ وَالْمَاءَ وَالْمِلْحَ كَمَا فِي الْبُسْتَانِ انْتَهَى وَفِي رِسَالَةٍ مُسَمَّاةٍ بِطِبِّ النَّبِيِّ مَنْسُوبَةٍ إلَى الْحَبِيبِ النَّيْسَابُورِيِّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا قَرَّبَ أَحَدُكُمْ الطَّعَامَ فَلْيَبْدَأْ بِالْمِلْحِ» . «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ افْتَحْ طَعَامَك بِالْمِلْحِ وَاخْتِمْ بِهِ فَإِنَّ مَنْ افْتَتَحَ طَعَامَهُ بِالْمِلْحِ وَاخْتَتَمَ بِهِ عُوفِيَ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ مِنْهَا الْجُذَامُ وَالْبَرَصُ» انْتَهَى هَذَا. لَكِنْ حَكَمَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ بِوَضْعِ حَدِيثِ الْمِلْحِ فِي مَوْضُوعَاتِهِ وَاغْتَرَّ بِظَاهِرِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَمَنَعَ لَكِنْ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الْوَضْعِ فِي الْبَعْضِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسَلَّمَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ كَيْفَ وَالْفُقَهَاءُ لَا يَحْكُمُونَ بِمَشْرُوعِيَّةِ شَيْءٍ لَمْ يَقِفُوا عَلَى صِحَّتِهِ وَقَدْ عَدَّ ابْنُ حَجَرٍ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ حُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ عَلِيٌّ الْقَارِيّ وَهُوَ صَاحِبُ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ وَهُوَ الْجَصَّاصُ مِنْ كِبَارِ السَّادَةِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ يَقِينًا وَلَوْ سَلِمَ مَوْضُوعِيَّةُ الْكُلِّ فَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ السُّنِّيَّةِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي الشِّرْعَةِ أَيْضًا السُّنَّةُ هُنَا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَرْنُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَالرَّشَادِ وَهُمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ عَاصَرَ سَيِّدَ الْخَلَائِقِ ثُمَّ التَّابِعُونَ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّف وَمِنْ السُّنَّةِ ابْتِدَاءُ مُرَادِهِ مِنْ السُّنَّةِ سُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ أَوْ سُنَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ سُنَّةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ أَوْ سُنَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ عَنْ رَوْضَةِ النَّاصِحِينَ السُّنَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ طَرِيقَةٍ مَسْلُوكَةٍ أُمِرْنَا بِإِحْيَائِهَا وَأَيْضًا يُقَدَّمُ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْحَدِيثِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَبِالْجُمْلَةِ أُمِرْنَا بِتَبَعِيَّةِ فُقَهَائِنَا لِأَنَّ حُجَّتَنَا فِي الْأَحْكَامِ هِيَ أَقْوَالُهُمْ لَا غَيْرُ فَلَا يَنْبَغِي تَرْكُ الْمِلْحِ عِنْدَ الطَّعَامِ. (وَ) وَضْعُ (الْخُبْزِ تَحْتَ الْقَصْعَةِ) لِنَحْوِ التَّسْوِيَةِ لِأَنَّهُ إهَانَةٌ (وَتَعْلِيقُ الْخُبْزِ عَلَى الْخِوَانِ) أَيْ السُّفْرَةِ مَجَازًا وَإِنَّمَا يُوضَعُ (بِحَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ كَرَامَةً) لِلْخُبْزِ لَعَلَّ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ كَالْحِفْظِ مِنْ الْفَأْرَةِ وَعَدَمِ وِجْدَانِ مَحَلٍّ يُوضَعُ لَا يُكْرَهُ وَفِي الْجَامِعِ «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ» لِأَنَّ فِي إكْرَامِهِ

الرِّضَا بِالْمَوْجُودِ مِنْ الرِّزْقِ وَعَدَمَ الِاجْتِهَادِ فِي التَّنَعُّمِ وَطَلَبَ الزِّيَادَةِ وَقِيلَ مِنْ كَرَامَتِهِ أَنْ لَا يُنْتَظَرَ بِهِ الْأُدُمُ وَرُدَّ بِأَنْ أَكَلَ الْخُبْزَ بِالْأُدُمِ أَقُولُ ذَلِكَ فِي الْبُرِّ وَذَا فِي خُبْزِ الشَّعِيرِ وَكَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ وَضْعَ اللَّحْمِ وَالْإِدَامِ فَوْقَ الْخُبْزِ وَأَوْرَدَ بِأَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةٍ وَقَالَ هَذَا إدَامُ هَذِهِ» وَقَدْ يُقَالُ الْمَكْرُوهُ مَا يُلَوِّنُهُ وَيُقْذِرُهُ كَالسَّمَكِ وَاللَّحْمِ وَأَمَّا التَّمْرُ فَلَا، وَزِيدَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخَّرَ لَهُ بَرَكَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْحَدِيدِ وَالْبَقَرِ كَمَا فِي الْفَيْضِ وَفِيهِ أَيْضًا «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ فَمَنْ أَكْرَمَ الْخُبْزَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ» قَالَ فِي شَرْحِهِ، وَإِكْرَامُهُ أَنْ لَا يُوطَأَ وَلَا يُهَانَ وَلَا يُلْقَى فِي الْقَاذُورَاتِ وَالْمَزَابِلِ وَلَا يُنْظَرُ بِنَظَرِ الِاحْتِقَارِ قَالَ الْغَزَالِيُّ إنَّ عَابِدًا قَرَّبَ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ رُغْفَانًا فَجَعَلَ يُقَلِّبُهَا لِيَخْتَارَ أَجْوَدَهَا فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ مَهْ أَيُّ شَيْءٍ تَصْنَعُ أَمَا عَلِمْت أَنَّ فِي الرَّغِيفِ الَّذِي رَغِبْت عَنْهُ كَذَا وَكَذَا حِكْمَةً وَعَمِلَ فِيهِ كَذَا وَكَذَا صَانِعٍ حَتَّى أَتَى، اسْتَدَارَ مِنْ السَّحَابِ الَّذِي يَحْمِلُ الْمَاءَ، وَالْمَاءِ الَّذِي يَسْقِي الْأَرْضَ، وَالرِّيَاحِ وَبَنِي آدَمَ وَالْبَهَائِمِ حَتَّى إلَيْك ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُقَلِّبُهُ وَلَا تَرْضَى بِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَفِي الْخَبَرِ «لَا يَسْتَدِيرُ الرَّغِيفُ وَيُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْك حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَانِعًا أَوَّلُهُمْ مِيكَائِيلُ يَكِيلُ الْمَاءَ مِنْ خَزَائِنِ الرَّحْمَةِ ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَزْجُرُ السَّحَابَ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْأَفْلَاكُ وَمَلَائِكَةُ الْهَوَاءِ وَدَوَابُّ الْأَرْضِ وَآخَرُ ذَلِكَ الْخَبَّازُ - {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] » - وَفِيهِ أَيْضًا أَكْرِمُوا الْخُبْزَ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ قَالَ شَارِحُهُ لِأَنَّ الْخُبْزَ غِذَاءُ الْبَدَنِ وَالْغِذَاءُ قِوَامُ الْأَرْوَاحِ وَقَدْ شَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَهُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَرْزَاقِ وَأَنْزَلَهُ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ فَمَنْ رَمَى بِهِ وَأَطْرَحَهُ مَطْرَحَ الْهَوَانِ فَقَدْ سَخِطَ النِّعْمَةَ وَكَفَرَهَا وَفِيهِ أَيْضًا أَكْرِمُوا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَنْ أَكَلَ مَا يَسْقُطُ مِنْ السُّفْرَةِ غُفِرَ لَهُ قَالَ شَارِحُهُ مَحَا اللَّهُ عَنْهُ الصَّغَائِرَ فَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَيْهَا أَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا دَخْلَ لَهَا هُنَا (فَائِدَةٌ) أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ دَخَلَ الْمُتَوَضَّأَ فَأَصَابَ كِسْرَةً فِي مَجْرَى الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَأَخَذَهَا فَأَمَاطَهَا مِنْ الْأَذَى ثُمَّ غَسَلَهَا ثُمَّ دَفَعَهَا لِغُلَامِهِ، فَقَالَ: ذَكِّرْنِي بِهَا إذَا تَوَضَّأْتُ. فَلَمَّا تَوَضَّأَ قَالَ: نَاوِلْنِيهَا، قَالَ: أَكَلْتهَا، قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنِّي سَمِعْتُ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَخَذَ لُقْمَةً أَوْ كِسْرَةً مِنْ مَجْرَى الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَأَمَاطَ عَنْهَا الْأَذَى وَغَسَلَهَا ثُمَّ أَكَلَهَا، لَمْ تَسْتَقِرَّ فِي بَطْنِهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ» ، فَمَا كُنْتُ لِأَسْتَخْدِمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ الْهَيْتَمِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. انْتَهَى. (وَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ مُتَّكِئًا أَوْ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، وَقَبْلَ صَلَاةِ عِيدِ الْأَضْحَى فِي الْمُخْتَارِ) قَيْدٌ لِلْكُلِّ. وَعِنْدَ الْبَعْضِ يُكْرَهُ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ تَرْكُ الْأُولَى. قَالَ فِي التتارخانية: وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مُتَّكِئًا أَوْ وَاضِعًا شِمَالَهُ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ مُسْتَنِدًا، وَفِيهِ أَيْضًا: الْأَكْلُ يَوْمَ الْأَضْحَى قَبْلَ الصَّلَاةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ، لَكِنْ عَنْ التتارخانية: رُوِيَ «عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَبَرَ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ صَامَ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْعِيدِ فَكَأَنَّمَا عَبَدَ اللَّهَ سِتِّينَ أَلْفَ سَنَةٍ» . انْتَهَى. لَكِنْ يَعُدُّ أَهْلُ الْحَدِيثِ الْمُبَالَغَةَ الْوَاسِعَةَ مِنْ أَمَارَاتِ الضَّعْفِ بَلْ الْوَضْعِ، فَتَأَمَّلْ. (وَيُكْرَهُ مَسْحُ السِّكِّينِ وَالْيَدِ بِالْخُبْزِ) وَعَنْ الْهِنْدُوَانِيُّ يُكْرَهُ مَسْحُ الْأَصَابِعِ عَلَى الْمَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْفَرَاعِنَةِ (وَبَعْضُهُمْ جَوَّزَهُ إنْ أَكَلَ بَعْدَهُ وَإِذَا أَكَلَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ لِيَتَقَيَّأَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَأْسَ بِهِ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ قَبِيلِ التَّدَاوِي (قَالَ رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَأْكُلُ أَلْوَانًا مِنْ الطَّعَامِ وَيُكْثِرُ ثُمَّ يَتَقَيَّأُ وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ فِعْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَسُكُوتِ آخِرِهِمْ وَإِلَّا فَفِي حُجِّيَّةِ فِعْلِ الصَّحَابِيِّ كَلَامٌ يُعْرَفُ فِي الْأُصُولِ تَأَمَّلْ. (وَلَا يَأْكُلُ طَعَامًا حَارًّا

وَلَا يَشُمُّ) لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْحَوَاسِّ، وَفِي الْجَامِعِ نَهْيٌ عَنْ الطَّعَامِ الْحَارِّ حَتَّى يَبْرُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى يَذْهَبَ بُخَارُهُ لَكِنْ فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ لَمْ يُطْعِمْنَا نَارًا» (كُلُّ مَا ذُكِرَ بَعْدَ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ فِي الْخُلَاصَةِ) وَغَيْرِهَا. (وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْفَاكِهَةِ وَالثُّفْلِ) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ كَنَوَى الْعِنَبِ (فِي طَبَقٍ وَاحِدٍ لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْهُ كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة، وَأَمَّا أَكْلُ طَعَامِ الْفَسَقَةِ وَأَهْلِ الرِّبَا وَالْأُمَرَاءِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مُنْكِرٌ فَلَا يَحْرُمُ بَلْ لَا يُسْتَحَبُّ) تَبَاعُدًا عَنْهُمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُمْ كَالشَّوْكِ لَا يَنَالُ الْمُؤْمِنُ مِنْ طَعَامِهِمْ حَتَّى يَنَالُوا مِنْ دِينِهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ تَجُوزُ إجَابَةُ دَعْوَةِ الْفَاسِقِ وَالْأَوْرَعُ لَا يُجِيبُ، وَالْأَفْضَلُ عَدَمُ أَكْلِ طَعَامِ دَعْوَةِ كُلِّ الْمُزَارِعِينَ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَفِي الْجَامِعِ نَهْيٌ عَنْ الْمُزَارَعَةِ، وَفِي شَرْحِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ، وَفِيهِ أَيْضًا نَهْيٌ عَنْ إجَابَةِ طَعَامِ الْفَاسِقِينَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ تَجَنُّبِهِمْ الْحَرَامَ وَلَا يُنَافِيهِ حُسْنُ الظَّنِّ الْمَأْمُورُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْفَسَقَةُ الْمُعْلِنُونَ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ فِسْقِهِمْ، وَفِي الْفَتَاوَى إذَا قَدَّمَ السُّلْطَانُ شَيْئًا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ إنْ اشْتَرَاهُ يَحِلُّ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَغْصُوبِيَّتَهُ يُبَاحُ أَكْلُهُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ، ثُمَّ جَمِيعُ الْمَكْرُوهَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا فِي الْأَكْلِ فِي السُّوقِ وَالطَّرِيقِ وَالْقَبْرِ وَالْجِنَازَةِ وَأَكْلِ طَعَامِ الْمَيِّتِ وَمِنْ الْأَوَانِي ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَمِنْ مِلْعَقَتِهِمَا وَعَلَى الْخِوَانِ مِنْهُمَا وَمِنْ ضِيَافَةٍ فِيهَا لَعِبٌ أَوْ لَهْوٌ أَوْ غِنَاءٌ وَمِمَّا اُتُّخِذَ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَمُبَاهَاةً إنْ ظَنَّهُ كَذَلِكَ، وَتَرْكِ التَّسْمِيَةِ وَالْأَكْلِ بِالشِّمَالِ وَالشُّرْبِ بِهَا وَمِنْ وَسَطِ الطَّعَامِ وَمِمَّا يَلِي غَيْرَهُ وَالْقَطْعِ بِالسِّكِّينِ وَرَمْيِ مَا فِي الْفَمِ وَالْأَنْفِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَفِي الْمَسْجِدِ وَمِنْ الْقَدَحِ الْمَكْسُورِ وَالنَّفْخِ فِيهِ وَالْإِعْطَاءِ بِالْيَسَارِ وَالشُّرْبِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ وَالتَّنَفُّسِ فِي دَاخِلِ الْإِنَاءِ وَمَسْحِ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ وَوَضْعِ الْمَمْلَحَةِ عَلَى الْخُبْزِ وَوَضْعِ الْخُبْزِ تَحْتَ الْقَصْعَةِ وَتَعْلِيقِ الْخُبْزِ بِالسُّفْرَةِ وَمَسْحِ السِّكِّينِ وَالْيَدِ بِالْخُبْزِ وَفِي بَعْضِ الْفِقْهِيَّةِ عُدَّ مِنْ مَكْرُوهَاتِ الْأَكْلِ أَكْلُ الطِّينِ وَالتُّرَابِ وَالطَّعَامِ الْحَارِّ وَنَفْخُهُ وَشَمِّهِ وَانْتِظَارُ إدَامٍ بَعْدَ حُضُورِ الْخُبْزِ، وَفِي الطَّرِيقِ وَمَمَرِّ النَّاسِ وَقَائِمًا وَمَاشِيًا، وَالشُّرْبُ قِيلَ لَا وَقِيلَ نَعَمْ فِي الْقِيَامِ فِي غَيْرِ زَمْزَمَ وَلَا يَشْرَبُ مِنْ جَانِبِ الْعُرْوَةِ وَلَا مِنْ كُوزٍ لَا يَرَى جَوْفَهُ، وَكُرِهَ أَكْلُ جُنُبٍ وَشُرْبُهُ قَبْلَ غَسْلِ يَدَيْهِ وَفَمِهِ وَاسْتِعَانَةُ الْغَسْلِ مِنْ الْغَيْرِ وَالنَّظَرُ إلَى لُقْمَةِ الْغَيْرِ وَوَجْهِهِ وَذِكْرُ أَمْرٍ هَائِلٍ عَلَى الْمَائِدَةِ وَذِكْرُ أَمْرٍ مُسْتَقْذَرٍ وَالسُّكُوتُ عِنْدَ الْأَكْلِ وَقَطْعُ الطَّعَامِ مَعَ بَقَاءِ الْحَاجَةِ وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ إلَّا إذَا خِيفَ فَوْتُ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَقُومُ قَبْلَ رَفْعِ الْمَائِدَةِ وَلَا لِأَحَدٍ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة لَا يَجُوزُ مَسْحُ الْيَدِ عَلَى ثِيَابِهِ وَدِسْتَارِ رَأْسِهِ وَتُكْرَهُ الْخِرْقَةُ لِلْعَرَقِ وَلِلِامْتِخَاطِ وَلِلْوُضُوءِ، إنْ لِلتَّكَبُّرِ وَإِنْ لِلْحَاجَةِ فَلَا، وَعَدَمُ أَخْذِ لُقْمَةٍ سَاقِطَةٍ مِنْ يَدِهِ، وَفِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ وَكُرِهَ أَكْلُ وَجْهِ الْخُبْزِ وَرَمْيُ بَاقِيهِ وَالْأَمْرُ بِإِحْضَارِ الطَّعَامِ عِنْدَهُ بَلْ يَذْهَبُ إلَى الطَّعَامِ وَتَغَيُّبُ الطَّعَامِ وَتَخْفِيفُ الطَّعَامِ وَالْأَكْلُ فِي الظُّلْمَةِ وَنَفْضُ يَدَيْهِ فِي الْقَصْعَةِ لِإِكْرَاهِ الْغَيْرِ، وَتَقْدِيمُ الرَّأْسِ إلَى الْقَصْعَةِ عِنْدَ وَضْعِ اللُّقْمَةِ فِي فِيهِ وَأَكْلُ طَعَامِ الْمَيِّتِ فِي الْأَوَّلِ وَالْأُسْبُوعِ مَثَلًا، وَالْأَكْلُ مِنْ أَوَانِي الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْأَكْلُ مِنْ أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ وَمَعَ الْكُفَّارِ دَوَامًا وَالطَّعَامُ الْمُتَّخَذُ لِنَحْوِ الْقِرَاءَةِ وَالتَّهْلِيلُ وَالْأَكْلُ بِلَا تَسْمِيَةٍ وَالْأَكْلُ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ. اعْلَمْ أَنَّ مِنْ الشُّبْهَةِ الصَّيْدَ بِكَلْبٍ مَغْصُوبٍ وَالِاحْتِطَابَ

آداب الأكل

بِقَدُّومٍ مَغْصُوبٍ وَالْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمِنْهَا ثَمَنُ بَيْعِ الْعِنَبِ مِنْ الْخَمَّارِ، وَبَيْعِ الْغُلَامِ مِمَّنْ يُعْرَفُ بِالْفُجُورِ بَلْ مَكْرُوهٌ أَشَدُّ الْكَرَاهَةِ، وَيَلِيهِ بَيْعُ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَلَمْ يَكُنْ خَمَّارًا وَمِنْهَا مَا بَقِيَ أَثَرُهُ فِي الْمُتَنَاوَلِ كَالْأَكْلِ مِنْ شَاةٍ رَعَتْ مِنْ مَرْعًى حَرَامٍ وَمَاءِ نَهْرٍ حَفَرَتْهُ الظَّلَمَةُ وَعِنَبِ كَرْمٍ سُقِيَ بِالنَّهْرِ الْمَذْكُورِ كَذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ كَانَ جَائِعًا مَحْبُوسًا فَبَعَثَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ طَعَامًا عَلَى يَدِ السَّجَّانِ فَامْتَنَعَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ أَنَّهُ بِيَدِ سَجَّانٍ وَجَاءَنِي بِيَدِ ظَالِمٍ، وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَمَّا وَصَلَ بِيَدِ زَانٍ أَوْ قَاذِفٍ فَلَيْسَ مِنْ الْوَرَعِ كَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ شُرْبٍ مِنْ كُوزٍ عَصَى صَانِعُهُ يَوْمًا بِضَرْبِ إنْسَانٍ أَوْ شَتْمِهِ فَوَسْوَاسٌ وَكُلُّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ فَتْوَى الْأَئِمَّةِ وَأَمَّا مُحَرَّمَاتُهُ فَعَلَى مَا فِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ عَنْ كُتُبِ الْقَوْمِ فَأَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ إلَّا بِعُذْرٍ كَمَا سَبَقَ وَالْأَكْلُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى مَا فِي الدُّورِ، وَالطَّعَامُ الَّذِي لَمْ يُدْعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُؤْذَنْ وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ الْحَرَامِ وَالتَّحْمِيدُ بَعْدَهُ وَالْأَكْلُ مِنْ الْحَرَامِ وَرَفْعُ الذِّلَّةِ كَمَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ. وَأَمَّا سُنَّتُهُ فَعَلَى مَا فِيهَا أَيْضًا وَإِنْ تَدَاخَلَ فِي الْبَعْضِ فَخَلْعُ نَعْلَيْهِ وَالْجُلُوسُ عَلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَنَصْبُ الْيُمْنَى وَالْجُلُوسُ تَوَاضُعًا بِلَا اسْتِنَادٍ وَاضْطِجَاعٍ، وَنِيَّةُ تَقَوِّي الطَّاعَةِ بِلَا نِيَّةِ التَّلَذُّذِ الْمُجَرَّدِ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ الْمَضْمَضَةُ ثَلَاثًا وَالْأَكْلُ مِنْ قَصْعَةِ خَزَفٍ أَوْ خَشَبٍ، وَضْعُ الطَّعَامِ عَلَى السُّفْرَةِ وَالسُّفْرَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَحُضُورُ الْخَلِّ وَالتَّسْمِيَةُ كَمَا سَبَقَ وَالْأَكْلُ وَبِالْيَمِينِ وَالِابْتِدَاءُ بِالْمِلْحِ كَمَا مَرَّ، وَكَسْرُ الْخُبْزِ بِالْيَدَيْنِ بِلَا كَسْرٍ صَحِيحٌ عِنْدَ مَكْسُورٍ وَمِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَلَوْ بِخَلْطِ الْبُرِّ وَبِثَلَاثِ أَصَابِعَ بِلَا اثْنَتَيْنِ وَلَا خَمْسٍ وَمِمَّا يَلِيهِ وَمِنْ حَافَةِ الطَّعَامِ كَمَا مَرَّ وَتَخْلِيلُ أَسْنَانِهِ بَعْدَ الطَّعَامِ كَمَا فِي الشِّرْعَةِ وَأَكْلُ مَا سَقَطَ مِنْ الْمَائِدَةِ وَلَعْقُ الْقَصْعَةِ وَالتَّحْمِيدُ عِنْدَ الْفَرَاغِ خَفَاءً إنْ لَمْ يَفْرُغْ جُلَسَاؤُهُ، وَعُدَّ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْأَكْلِ أَنْ يُوجَدَ مَنْ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَالْجَمْعُ عَلَى الطَّعَامِ وَلَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَعَدَمُ التَّوَقُّفِ بِلَا إتْمَامِ الْجَمْعِ لِلْخَجِلَةِ، وَمَسْحُ بَلَلِ يَدَيْهِ بِعَيْنَيْهِ بَعْدَ الطَّعَامِ، وَجَهْرُ التَّسْمِيَةِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْمَفْرُوضِ قَدْرَ مَا يَتَمَكَّنُ نَحْوَ قِيَامِ الصَّلَاةِ وَقُوَّةِ الصَّوْمِ، وَمَدْحُ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ، وَأَكْلُ لُقْمَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَأَخْذُ اللَّحْمِ بِسِنِّهِ وَقَوْلُهُ لِلضَّيْفِ كُلْ أَحْيَانًا بِلَا إصْرَارٍ، وَإِحْضَارُ الْبُقُولِ عَلَى الْمَائِدَةِ وَالدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ الطَّعَامِ نَحْوَ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ كَمَا فِي الْمَشَارِقِ، وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعِمْنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ، وَعَنْ الْإِحْيَاءِ يَقُولُ عِنْدَ أَكْلِ الْحَلَالِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَتَنْزِلُ الْبَرَكَاتُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ أَطْعِمْنَا وَاسْتُعْمِلْنَا صَالِحًا، وَإِنْ أَكَلَ شُبْهَةً فَلِيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِك لَا عَوْنًا عَلَى مَعْصِيَتِك، وَإِنْ أَكَلَ طَعَامَ الْغَيْرِ اللَّهُمَّ أَكْثِرْ خَيْرَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا رَزَقْته وَيَسِّرْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِنْهُ خَيْرًا وَقَنِّعْهُ بِمَا أَعْطَيْته وَاجْعَلْنَا وَإِيَّاهُ مِنْ الشَّاكِرِينَ، وَإِنْ أَفْطَرَ عِنْدَ قَوْمٍ يَقُولُ أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ وَيَقْرَأُ عِنْدَ رَفْعِ الْمَائِدَةِ الْإِخْلَاصَ وَلِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْإِحْيَاءِ لِعَلِيٍّ الْقَارِي وَقَوْلُ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّحْمِيدِ وَالدُّعَاءِ بِالِاسْتِقَامَةِ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ الْعَامَّةِ مُسْتَحْسَنٌ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ انْتَهَى، وَأَمَّا دُعَاءُ بَعْضٍ وَتَأْمِينُ آخَرِينَ فَلَمْ يُسْمَعْ فِيهِ حَدِيثٌ وَلَا أَثَرٌ مِنْ السَّلَفِ لَكِنَّ ظَاهِرَ قِيَاسِ مُطْلَقِ الدُّعَاءِ بَلْ دَلَالَتَهُ لَيْسَ بِآبٍ عَنْهُ وَأَرْجُو أَنْ لَا بَأْسَ بِهِ بَلْ مَنْدُوبٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [آدَابُ الْأَكْلِ] وَآدَابُ الْأَكْلِ بِدَايَةً الْغَسْلُ مِنْ الشُّبَّانِ فِي الْبِدَايَةِ وَمِنْ الشُّيُوخِ فِي النِّهَايَةِ، لَكِنْ عَنْ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِعَلِيٍّ الْقَارِي قَالَ النَّوَوِيُّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ الْأَظْهَرُ اسْتِحْبَابُهُ أَوَّلًا إلَّا إنْ تَيَقَّنَ نَظَافَةَ الْيَدَيْنِ مِنْ الْوَسَخِ وَاسْتِحْبَابُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ إلَّا أَنْ لَا يَبْقَى عَلَى يَدَيْهِ أَثَرُ الطَّعَامِ بِأَنْ كَانَ يَابِسًا أَوْ لَمْ يَمَسَّهُ انْتَهَى، وَعَدَمُ مَسْحِ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَمَسْحُهَا بَعْدَ الطَّعَامِ وَعَدَمُ أَنْ يَبْتَدِئَ قَبْلَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَنْ لَا يَأْكُلَ بِلَا جُوعٍ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الطَّعَامِ قَبْلَ الشِّبَعِ وَالتَّسْمِيَةُ أَوَّلَ لُقْمَةِ وَالتَّحْمِيدُ فِي آخِرِهَا وَتَصْغِيرُ اللُّقْمَةِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً وَتَحْوِيلُ الْوَجْهِ وَأَخْذُ الْفَمِ بِالْيَدِ عِنْدَ الْعَطْسِ وَصَرْفُ

الصنف السابع في آفات الفرج

الْوَجْهِ عِنْدَ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ الْفَمِ وَأَخْذُهُ بِالْيَسَارِ وَعَدَمُ غَمْسِ اللُّقْمَةِ الدَّسِمَةِ فِي الْخَلِّ وَعَدَمُ غَمْسِ اللُّقْمَةِ الَّتِي قَطَعَهَا بِسِنِّهِ فِي نَحْوِ الْمَرَقَةِ، وَعَدَمُ إدْخَالِ يَدِهِ فِي الْقَصْعَةِ قَبْلَ رَفْعِ صَاحِبِهِ وَوَضْعُ نَحْوِ الْعَظْمِ وَقِشْرِ الْبِطِّيخِ أَمَامَهُ بِلَا رَمْيٍ، وَعَدَمُ إغْرَاءِ أَحَدٍ عَلَى الطَّعَامِ غَيْرِ نَحْوِ ضَيْفٍ، وَأَنْ لَا يُحْوِجَ صَاحِبَهُ إلَى أَنْ يَقُولَ كُلْ وَأَخْذُ الصَّابُونِ بِالْيُسْرَى وَالرَّدُّ بِالْيُمْنَى وَالدُّعَاءُ لِمَنْ صَبَّ الْمَاءَ بِقَوْلِهِ طَهَّرَك اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الذُّنُوبِ كَمَا طَهَّرْتنِي مِنْ الدَّنَسِ وَصَبُّ الْمَاءِ مِنْ فَمِهِ بِرِفْقٍ، وَعَدَمُ شُرْبِ الْمَاءِ قَبْلَ رَفْعِ الطُّسْتِ مِنْ الْبَيِّنِ عِنْدَ الْغَسْلِ وَعَدَمُ لَعْقِ الْأَصَابِعِ وَمَسْحِهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ وَصَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ. (وَأَمَّا الْمَعَاصِي الْعَدَمِيَّةُ فَتَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَمْرَضَ) وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْأَكْلِ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ الدَّوَاءِ (أَوْ يَضْعُفُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى) أَدَاءِ (الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ وَمِنْهَا تَرْكُهُمَا) الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ (إذَا كَانَ فِيهِ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا) فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصُومَ نَفْلًا وَأَرَادَ وَالِدُهُ مَثَلًا أَكْلَهُ فَعَلَيْهِ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّ الْعُقُوقَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ خُوَاهَرْ زَادَهْ لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ وَإِنْ مِنْ سُوءِ اخْتِيَارِهِمَا فَلَا (أَوْ نَحْوِهِمَا) مِمَّا يُطْلَبُ الْقِيَامُ بِحَقِّهِ مِنْ زَوْجٍ وَسَيِّدٍ وَأُسْتَاذٍ وَعَالِمٍ وَمُرَبٍّ وَصَاحِبِ مَنْزِلٍ (مِمَّا حَرُمَ) كَالتَّخَلُّفِ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبِهِمْ (أَوْ كُرِهَ) كَالتَّخَلُّفِ عَنْ الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ مَعَهُمْ كَمَا عَنْ الْمَوَاهِبِ. [الصِّنْفُ السَّابِعُ فِي آفَاتِ الْفَرْجِ] (الصِّنْفُ السَّابِعُ فِي آفَاتِ الْفَرْجِ وَهِيَ الزِّنَا) وَلَوْ بِغَيْرِ إيلَاجٍ وَشَهْوَةٍ فَإِنَّ عَدَمَ حَدِّ الزِّنَا لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْعُقُوبَةِ (وَاللُّوَاطَةُ وَلَوْ بِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ فَإِنَّهَا حَرَامٌ مُطْلَقًا) ، وَعَنْ أَكْمَلِ الْمَشَارِقِ اللِّوَاطَةُ مُحَرَّمَةٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَطَبْعًا بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ طَبْعًا فَأَشَدُّ حُرْمَةً مِنْهُ وَعَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِّ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ لَا لِخِفَّتِهَا وَإِنَّمَا عَدَمُ الْوُجُوبِ لِلتَّغْلِيظِ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مُطَهِّرٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ الْبَعْضِ جَازَ قَتْلُ مَنْ اعْتَادَ إنْ رَأَى الْإِمَامُ، وَعَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ يَقْتُلُ الْإِمَامُ مَنْ اعْتَادَهَا مُحْصَنًا أَوْ لَا، وَعَنْ الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ عَنْ الْجَوْهَرَةِ لِوَاطَةُ امْرَأَتِهِ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ كَمَا لِلرَّجُلِ، وَفِي الدُّرَرِ إنَّمَا لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ فِي اللِّوَاطَةِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي مُوجَبِهِ مِنْ الْإِحْرَاقِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ عَلَيْهِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ بِإِتْبَاعِ الْأَحْجَارِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعَزَّرُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ انْتَهَى. وَعِنْدَهُمَا كَالزِّنَا لُزُومُ الْحَدِّ، وَعَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ حُرْمَتَهَا عَقْلًا وَسَمْعًا فَلَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ سَمْعًا فَقَطْ فَمَوْجُودَةٌ فِيهَا وَالصَّحِيحُ لَا لِمَا اسْتَقْبَحَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ - {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]- وَسَمَّاهَا خَبِيثَةً فَقَالَتْ كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ وَالْجَنَّةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْهَا (وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّ مَا عَدَا الْمَذْكُورَاتِ) لِأَنَّ ثُبُوتَهَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى - {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]- عَامٌّ لَهَا فَلَمْ يَكْفُرْ. تَفْصِيلُهُ أَنَّ مُسْتَحِلَّ اللِّوَاطَةِ إنْ لِلْأَجْنَبِيِّ فَكُفْرٌ إجْمَاعًا، وَإِنْ لِزَوْجَتِهِ وَمَمْلُوكِهِ فَقِيلَ نَعَمْ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ وَقِيلَ لَا؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِلُّهُ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى - {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]- كَمَا فِي أَخِي حَلَبِيٍّ حَاشِيَةِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا مَا أُسْنِدَ إلَى مَالِكٍ مِنْ تَجْوِيزِهِ إلَى زَوْجَتِهِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى - {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]- فَقِيلَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَيْهِ وَقِيلَ رَجَعَ.

(وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ) أَيْ وَطْؤُهَا فِي دُبُرِهَا أَوْ فَرْجِهَا (وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ) فِي الْخُلَاصَةِ لَوْ اسْتَحَلَّ الْوَطْءَ بِزَوْجَتِهِ الْحَائِضِ يَكْفُرُ وَكَذَا اسْتِحْلَالُ لِوَاطَةِ امْرَأَتِهِ وَالصَّحِيحُ عَدَمُهُ انْتَهَى. (وَاسْتِمْتَاعُهُمَا) كَالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّفْخِيذِ وَتَحِلُّ الْقُبْلَةُ وَمُلَامَسَةُ مَا فَوْقَهُ (تَحْتَ الْإِزَارِ) مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ حَرِيمُ الْفَرْجِ وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَجْتَنِبُ شِعَارَ الدَّمِ فَقَطْ يَعْنِي الْجِمَاعَ (فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِمَا فَعَلَيْك بِرِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ بِذُخْرِ الْمُتَأَهِّلِينَ وَالنِّسَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْأَطْهَارِ وَالدِّمَاءِ فَإِنَّ أَحْوَالَهُمَا مُسْتَقْصَاةٌ فِيهَا وَلَا كِفَايَةَ فِي الْمُتُونِ الْمَشْهُورَةِ وَشُرُوحِهَا فِيهِمَا) إذْ لَمْ تَسْتَوْعِبَا مَا أَحَاطَتْ بِهِ الرِّسَالَةُ (حُدَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا» إنْ اسْتَحَلَّ فَاللَّعْنُ عَلَى ظَاهِرِهِ عِنْدَ بَعْضٍ وَإِلَّا فَبِمَعْنَى الطَّرْدِ عَنْ كَمَالِ الرَّحْمَةِ أَوْ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الرَّحْمَةِ قَالَ فِي الْفَيْضِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمَرْأَةِ فَكَيْفَ بِالذَّكَرِ وَمَا نُسِبَ إلَى مَالِكٍ مِنْ حِلِّ دُبُرِ الْحَلِيلَةِ أَنْكَرَهُ جَمْعٌ، لَكِنْ أَلَّفَ سَحْنُونٌ وَابْنُ شَعْبَانَ فِي الِانْتِصَارِ لِلْجَوَازِ ادَّعَيَا صِحَّةَ نِسْبَةِ ذَلِكَ إلَى إمَامِهِمَا (ت س مج دحد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ» وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ حُجِبَتْ عَنْهُ التَّوْبَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَإِنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ كَفَرَ» «كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» يَشْكُلُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ فَلَا يَصِحُّ فِي تَصْدِيقِ الْكَاهِنِ فِي دَعْوَاهُ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ فَإِنَّهُ كُفْرٌ إجْمَاعًا، وَإِنْ أُرِيدَ الْكُفْرُ الْحَقِيقِيُّ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْإِتْيَانِ الْمُجَرَّدِ كُفْرًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِتْيَانِ اعْتِقَادُ الْحِلِّ فَقَدْ عَرَفْت الْخِلَافَ وَالْأَصَحُّ إلَّا أَنْ يُرَادَ نَحْوُ عُمُومِ الْمَجَازِ الشَّامِلِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَيْ عَصَى فَالْعِصْيَانُ بِالنَّظَرِ إلَى تَصْدِيقِ الْكَاهِنِ كُفْرٌ وَبِالنَّظَرِ إلَى غَيْرِهِ كَبِيرَةٌ قَرِيبَةٌ إلَى الْكُفْرِ قَرِينَةٌ لَهُ وَيُقَرِّبُهُ مَا يُقَالُ الْقُرْآنُ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقُرْآنَ فِي الْحُكْمِ فَافْهَمْ. (د ت مج هق عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ»

عَمِلَ بَعْضٌ بِظَاهِرِهِ كَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ كَمَا سَمِعْت آنِفًا وَمِنْ مَذَاهِبِ الْأَصْحَابِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - قِيلَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَحْرَقُوهُ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَدْمُ الْبَيْتِ عَلَيْهِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يُرْمَى مِنْ أَعْلَى بِنَاءٍ مَنْكُوسًا، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ حَيْثُ حُمِلَتْ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ وَنُكِّسَتْ بِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهَا بِقَصِّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ فَنَاسَبَ مُتَابَعَةَ جَزَائِهِمْ بِجَزَائِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74] وَذَهَبَ قَوْمٌ أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامَيْنِ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَوْمٌ آخَرُونَ يُرْجَمُ مُحْصَنًا أَوْ لَا، وَكَذَا الْمَفْعُولُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ «وَمَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ» فِي قَاضِي خَانْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ الْبَهِيمَةُ لِلْوَاطِئِ وَإِلَّا يَدْفَعُهَا صَاحِبُهَا إلَى الْفَاعِلِ فَالْقِيمَةُ، ثُمَّ يَذْبَحُهَا الْوَاطِئُ وَتُحْرَقُ إنْ لَمْ تَكُنْ مَأْكُولَةً وَإِلَّا فَتُذْبَحُ وَلَا تُحْرَقُ انْتَهَى. وَقِيلَ فَتُؤْكَلُ فَوَجْهُ الذَّبْحِ لِانْقِطَاعِ التَّحَدُّثِ بِهَا وَقِيلَ لِئَلَّا يُولَدَ حَيَوَانٌ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ. لَا يَخْفَى مَا فِيهِمَا مِنْ النَّظَرِ لَكِنْ نُقِلَ عَنْ حَاشِيَةِ الدُّرَرِ لِلْوَانِيِّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ لَا تُؤْكَلُ مُطْلَقًا وَعِنْدَ مَالِكٍ يَأْكُلُ الْفَاعِلُ دُونَ غَيْرِهِ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ قِيلَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُعَزَّرُ وَقَالَ إِسْحَاقُ يُقْتَلُ إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِالنَّهْيِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ الطَّحَاوِيِّ يُعَزَّرُ وَنُقِلَ عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فِي الَّذِي يُؤْكَلُ يُؤْكَلُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَلَا يُحْرَقُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُؤْكَلُ وَيُحْرَقُ كَمَا لَا يُؤْكَلُ، وَعَنْ الْمُجْتَبَى يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ فِي حَيَاتِهَا وَمَمَاتِهَا فَتُذْبَحُ وَتُحْرَقُ مُطْلَقًا. (وَأَمَّا الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ) أَيْ بِمُعَالَجَةِ يَدِ نَفْسِهِ (فَحَرَامٌ) لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ بِالْجُزْءِ (إلَّا عِنْدَ شُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ أَنْ يَكُونَ عَزَبًا) مُجَرَّدًا لَيْسَ لَهُ زَوْجَةٌ أَوْ جَارِيَةٌ (وَبِهِ شَبَقٌ) أَيْ شِدَّةُ غُلْمَةٍ (وَفَرْطُ شَهْوَةٍ) لَهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ (وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ تَسْكِينَ الشَّهْوَةِ لَا قَضَاءَهَا) نُقِلَ عَنْ الظَّهِيرِيَّةِ عَزَبٌ لَهُ فَرْطُ شَهْوَةٍ لَهُ أَنْ يُعَالِجَ بِذَكَرِهِ لِتَسْكِينِ شَهْوَتِهِ وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ هَلْ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ مَنْ نَجَا بِرَأْسِهِ فَقَدْ رَبِحَ وَقِيلَ كَذَا فِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى. (وَمِنْ الْمَعَاصِي أَنْ يَأْتِيَ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ) بِاعْتِبَارِ الْجُثَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ السِّنِّ

(الَّتِي لَا تَتَحَمَّلُ الْجِمَاعَ) فَلَوْ تَحَمَّلَتْ صَبِيَّةٌ دُونَ بُلُوغٍ جَازَ. وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِدُونِ الْجِمَاعِ فَجَائِزٌ مُطْلَقًا (أَوْ الْمَرِيضَةَ الْمُتَضَرِّرَةَ بِالْجِمَاعِ) ، وَأَمَّا بِالْغُسْلِ فَلَا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَلْيُتَّبَعْ (وَكَذَا أَمَتُهُ أَوْ يُجَامِعُ عِنْدَ أَحَدٍ يَعْرِفُهُ) أَيْ الْجِمَاعَ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَقَاحَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ فَلَا بَأْسَ قَالَ فِي الْأُسْرُوشَنِيَّة وَيَسْتَتِرُ عِنْدَ الْجِمَاعِ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يُجَامِعُهَا وَعِنْدَهُمَا صَغِيرٌ أَوْ حَيَوَانٌ يَرَاهُمَا، وَأَمَّا عِنْدَ النَّائِمِ فَالْأَوْلَى عَدَمُهُ (أَوْ يُجَامِعُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا) مِنْ الْجَارِيَةِ الَّتِي مَلَكَهَا بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ نَحْوِهَا وَلَوْ بِكْرًا أَوْ مُشْتَرَاةً مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ مِنْ مَحْرَمٍ لَهَا أَوْ مِنْ مَالِ صَبِيٍّ فَيَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ (أَوْ يَفْعَلُ دَوَاعِيَهُ) كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسَةِ وَالنَّظَرِ إلَى فَرْجِهَا (فَإِنَّهَا حَرَامٌ أَيْضًا قَبْلَهُ) لِإِفْضَائِهَا إلَى الْوَطْءِ وَالْمُفْضِي إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ لِاخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَرُدَّ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَيْضًا بِأَنْ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ الْبَيْعِ وَيَدَّعِي الْبَائِعُ الْوَلَدَ فَيَسْتَرِدُّهَا فَيَظْهَرُ أَنَّ وَطْأَهُ صَادَفَ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الدَّوَاعِي. (وَمِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ) مُطْلَقًا، وَأَمَّا عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ فَمَكْرُوهٌ تَنْزِيهِيٌّ خِلَافُ الْأَدَبِ كَمَدِّ الرِّجْلِ إلَى الْقِبْلَةِ كَمَا فِي الْحَلَبِيِّ وَعِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ تَحْرِيمِيٌّ فِي الْجَامِعِ «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ قِبْلَتُهُمْ إلَى سَمْتِهِمْ كَالشَّامِ فَمَنْ قِبْلَتُهُ إلَى الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ يَنْحَرِفُ إلَى الْجَنُوبِ أَوْ الشِّمَالِ قَالَ شَارِحُهُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْبُنْيَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ النُّعْمَانِ وَخَصَّهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بِالصَّحْرَاءِ، وَأَمَّا مَا رَوَى الشَّيْخَانِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى حَاجَتَهُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ» وَمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّهُ قَضَاهَا مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ» فَجَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْأَخْبَارِ بِحَمْلِ أَوَّلِهَا الْمُفِيدِ لِلتَّحْرِيمِ عَلَى غَيْرِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لِسَعَتِهِ لَا يَشُقُّ فِيهِ تَجَنُّبُ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ بِخِلَافِ الْبُنْيَانِ قَدْ يَشُقُّ فَيَحِلُّ فِعْلُهُ كَمَا فَعَلَهُ الْمُصْطَفَى لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى لَنَا تَرْكُهُ وَمَا فِي الدُّرَرِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْحَدَثِ بَلْ لِإِزَالَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِيِّ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ (أَوْ الشَّمْسَ أَوْ الْقَمَرَ إذْ لَمْ يَكُونَا مَحْجُوبَيْنِ) بِنَحْوِ السَّحَابِ وَالسَّقْفِ (وَكَذَا اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ وَفِي رِوَايَةٍ الِاسْتِدْبَارُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَعَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلَوْ نَسِيَ فَجَلَسَ مُسْتَقْبِلًا فَذَكَرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِانْحِرَافُ بِقَدْرِ مَا أَمْكَنَهُ لِحَدِيثِ «مَنْ جَلَسَ يَبُولُ قُبَالَةَ الْقِبْلَةِ) فَذَكَرَ فَتَحَرَّفَ عَنْهَا إجْلَالًا لَهَا لَمْ يَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ» (وَالِاسْتِنْجَاءُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ) وَلَوْ أَدْنَى كَالْخِرْقَةِ وَالْقُطْنِ كَمَا فِي الدُّرَرِ وَيُكْرَهُ بِشَيْءٍ مُحْتَرَمٍ كَخِرْقَةِ الدِّيبَاجِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي الِاحْتِرَامَ (أَوْ وُجُوبُ تَعْظِيمٍ مِنْ مَأْكُولِ إنْسَانٍ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيرِ الْمَالِ الْمُحْتَرَمِ شَرْعًا (أَوْ دَابَّةٍ) كَالْحَشِيشِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْجِيسِ الطَّاهِرِ بِلَا ضَرُورَةٍ (أَوْ نَحْوِهِ) مِنْ مَأْكُولِ الْجِنِّ كَالْعَظْمِ فَإِنَّهُ زَادُ الْجِنِّ (أَوْ ضَرَرٍ لِمَقْعَدَةٍ كَالزُّجَاجِ أَوْ نَجَاسَةٍ كَالرَّوْثِ) لِنَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزِيلُ النَّجَاسَةَ (وَالتَّخَلِّي) قَضَاءُ الْحَاجَةِ (فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي ظِلِّ النَّاسِ) يَجْتَمِعُونَ لِحَدِيثِهِمْ الْمُبَاحِ (أَوْ فِي مَوَارِدِهِمْ) مَحَلِّ وُرُودِهِمْ مِثْلَ رَأْسِ عَيْنٍ أَوْ نَهْرٍ

أَوْ تَحْتَ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ، وَكَذَا بِجَنْبِ مَسْجِدٍ وَمُصَلَّى عِيدٍ، وَفِي مَقَابِرَ وَمَهَبِّ رِيحٍ وَجُحْرِ فَأْرَةٍ أَوْ نَمْلَةٍ أَوْ حَيَّةٍ أَوْ ثُقْبٍ أَوْ مُتَجَرِّدٍ مِنْ ثَوْبِهِ بِلَا عُذْرٍ كَمَا فِي التَّنْوِيرِ (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ قَالُوا وَمَا اللَّاعِنَانِ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ» أَيْ فِعْلَ الَّذِي يَتَخَلَّى؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ لَعْنِ النَّاسِ فَكَأَنَّهُ لَاعِنُ نَفْسِهِ «أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» يَتَّخِذُونَ مَقِيلًا أَوْ مَرَاحًا لِظِلِّ شَيْءٍ فَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا وَقِيلَ تَحْرِيمًا وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ؛ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ بَلْ قَالَ الذَّهَبِيُّ كَبِيرَةٌ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَفَسَّرَ النَّوَوِيُّ التَّخَلِّيَ بِالتَّغَوُّطِ وَرَدَّهُ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّ الْبَوْلَ كَالْغَائِطِ فِي كَوْنِهِ مَعْنًى لِلتَّخَلِّي وَالْعِلَّةُ يَعْنِي الِاسْتِقْذَارَ مَوْجُودَةٌ فِيهِمَا مَعًا. (د عَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ» مَوَاضِعَ اللَّعْنِ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَهَا شُتِمَ وَلُعِنَ «الثَّلَاثَ الْبِرَازُ» التَّغَوُّطُ «فِي الْمَوَارِدِ» الْمَوْضِعِ الَّذِي يَرِدُ إلَيْهِ النَّاسُ «وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ» أَعْلَاهُ أَوْ جَادَّتِهِ أَوْ وَسَطِهِ «وَالظِّلِّ» الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ لِمُبَاحٍ وَمِثْلُهُ كُلُّ مَوْضِعٍ اتَّخَذُوهُ لِمَصَالِحِهِمْ وَمَعَائِشِهِمْ الْمُبَاحَةِ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ» الثَّلَاثَ أَنْ يَقْصِدَ أَحَدُكُمْ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَيَقْضِيَهَا فِي ظِلٍّ يَسْتَظِلُّ فِيهِ لِلْوِقَايَةِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَقِيسَ بِهِ مَوْضِعُ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ أَوْ فِي طَرِيقٍ أَوْ فِي نَقْعِ مَاءٍ أَيْ مُجْتَمَعِ النَّاسِ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ لَعْنِ الْعَاصِي مَعَ التَّعْيِينِ أَيْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ كَانَتْ اللَّعْنَةُ عَلَى لَاعِنِهِ وَالْمَشْهُورُ حُرْمَةُ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ وَأَجَابَ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا مِنْ خَوَاصِّ الْمُصْطَفَى لِقَوْلِهِ إنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَك عَهْدًا أَيُّ مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ الْحَدِيثَ كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَالْبَوْلُ قَائِمًا بِلَا عُذْرٍ) لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَمَا جَاءَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَال فِيهَا قَائِمًا فَلِعُذْرٍ وَقِيلَ خَشْيَةَ أَنْ يَنْحَدِرَ الْبَوْلُ إلَيْهِ لَوْ بَالَ قَاعِدًا» كَمَا نُقِلَ عَنْ الْفَتْحِيَّةِ (وَالْبَوْلُ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَالْجَارِي وَالْجُحْرِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ ثُقْبَةٌ فِي الْأَرْضِ كَمَا سَبَقَ عَنْ التَّنْوِيرِ وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بَالَ فِي جُحْرٍ فَقُتِلَ وَسُمِعَ مِنْ الْجُحْرِ قَدْ قَتَلَنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَهْ ... فَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِئْ فُؤَادَهْ (وَالْمُغْتَسَلِ) لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوَسْوَسَةِ. (وَنَقْعُ الْبَوْلِ) أَيْ حَبْسُهُ فِي الْمَكَانِ بِلَا إرَاقَةٍ كَالْإِنَاءِ (م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» قَالَ فِي الْفَيْضِ أَيْ الْقَلِيلِ لِلتَّنْزِيهِ، وَعَنْ النَّوَوِيِّ لِلتَّحْرِيمِ لِإِتْلَافِ الْمَاءِ (طط عَنْهُ) عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي» طط حك " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا «لَا يُنْقَعُ بَوْلٌ فِي طَسْتٍ فِي الْبَيْتِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ بَوْلٌ مُنْتَقَعٌ» ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ (وَلَا تَبُولَنَّ فِي مُغْتَسَلِك) أَيْ الْمَحَلِّ الَّذِي اغْتَسَلْت فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي لِلْوَسْوَسَةِ (ت س عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَنْ يَبُولَ

الرَّجُلُ فِي مُسْتَحَمِّهِ» مَوْضِعِ الِاسْتِحْمَامِ وَالِاغْتِسَالِ (وَقَالَ إنَّ عَامَّةَ) أَكْثَرَ (الْوَسْوَاسِ مِنْهُ د س) دَلِيلُ كَرَاهَةِ بَوْلِ الْجُحْرِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ» أَيْ الثُّقْبِ فِي الْأَرْضِ كَمَا مَرَّ إذْ رُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ حَيَوَانٌ ضَعِيفٌ فَيَتَأَذَّى أَوْ قَوِيٌّ فَيُؤْذِي لَكِنْ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ (قَالَ قَتَادَةُ) مِنْ التَّابِعِينَ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (إنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ) كَمَا مَرَّ آنِفًا. (وَيُكْرَهُ إخْصَاءُ بَنِي آدَمَ) لَا الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ لِمَا فِيهِ مِنْ انْقِطَاعِ النَّسْلِ أَوْ جُوِّزَ فِي الْحَيَوَانِ لِضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ. لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ مُفْرَدَاتِ آفَاتِ الْفَرْجِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ مِنْ آفَاتِ الْيَدِ وَفِي الْجَامِعِ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِخْصَاءِ» قَالَ الشَّارِحُ تَحْرِيمًا لِلْآدَمِيِّ لِتَفْوِيتِ النَّسْلِ الْمَطْلُوبِ لِحِفْظِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَعِمَارَةِ الْأَرْضِ وَتَكْسِيرِ الْأُمَّةِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَالتَّشْوِيهِ مَعَ إدْخَالِ الضَّرَرِ الَّذِي رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْهَلَاكِ وَتَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ وَكُفْرِ نِعْمَةِ الرُّجُولِيَّةِ؛ لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ ذَكَرًا مِنْ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَفِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ تَحْرِيمُ إخْصَاءِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْمَأْكُولُ فَيَجُوزُ فِي صَغِيرِهِ لَا كَبِيرِهِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ اتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَنْعِ الْجَبِّ وَالْإِخْصَاءِ فَلَحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ التَّدَاوِي لِقَطْعِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ فَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لِلْبَغَوِيِّ مِنْ جَوَازِهِ مَحْمُولٌ عَلَى دَوَاءٍ يُسَكِّنُ الشَّهْوَةَ وَلَا يَقْطَعُهَا أَصَالَةً انْتَهَى. هَذَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَّا فَفِي مَذْهَبِنَا قَدْ سَمِعْت جَوَازَهُ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ وَلَا بَأْسَ بِكَيِّ الْأَغْنَامِ وَإِخْصَائِهَا وَإِخْصَاءِ الْبَهَائِمِ وَالْهِرَّةِ، وَإِخْصَاءُ بَنِي آدَمَ مَكْرُوهٌ وَلِهَذَا يُكْرَهُ كَسْبُ الْخُصْيَانِ. ذَكَرَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ، وَفِي شَرْحِ الْإسْبَانِيكِيِّ يُكْرَهُ كَسْبُ الْخُصْيَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِلْكُهُمْ وَاسْتِخْدَامُهُمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ لَمْ يَكُنْ اسْتِخْدَامُ النَّاسِ إيَّاهُمْ لَمَا أَخْصَاهُمْ الَّذِينَ يَخْصُونَهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَطَرُّدًا إلَى الْإِخْصَاءِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ انْتَهَى. (فَلِذَا كُرِهَ تَمَلُّكُهُمْ وَاسْتِخْدَامُهُمْ وَكَسْبُهُمْ أَيْضًا) كَمَا نُقِلَ عَنْ الْخُلَاصَةِ آنِفًا (وَأَمَّا الْمَعَاصِي الْعَدَمِيَّةُ فَأَنْ لَا يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ أَصْلًا) إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ لِآفَةٍ كَالْعُنَّةِ أَوْ لِمَرَضٍ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا تَكْلِيفَ فِيمَا لَا وُسْعَ فِيهِ (إذْ تَجِبُ الْبَيْتُوتَةُ) كَوْنُهُ عِنْدَهَا لَيْلًا (وَالْمُجَامَعَةُ مَعَهَا أَحْيَانًا إنْ طَلَبَتْ) كُلًّا مِنْ الْبَيْتُوتَةِ وَالْمُجَامَعَةِ (بِغَيْرِ تَقْدِيرِ زَمَانٍ) بَلْ دَائِرٌ عَلَى طَلَبِهَا وَاقْتِدَارِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ بِأَرْبَعِ لَيَالٍ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يَجِبُ أَحْيَانًا بِلَا تَقْدِيرِ زَمَانٍ لَكِنْ عَنْ الْإِحْيَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ مَرَّةً فَهُوَ أَعْدَلُ؛ لِأَنَّ عَدَدَ النِّسَاءِ أَرْبَعٌ، وَفِي

الشِّرْعَةِ وَلَا يُدَاوِمُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ فَإِنَّ الْبِئْرَ إذَا لَمْ تُنْزَحْ ذَهَبَ مَاؤُهَا، وَفِي شَرْحِهِ وَرُبَّمَا عَرَضَ لِتَارِكِهِ أَمْرَاضٌ مِثْلُ الدُّوَارِ وَظُلْمَةِ الْعَيْنِ وَثِقَلِ الْبَدَنِ وَوَرَمِ الْخُصْيَةِ وَوَرَمِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الطِّبِّ. (وَأَنْ يَعْزِلَ بِلَا إذْنِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) يَعْنِي لَا يَصُبُّ الزَّوْجُ مَنِيَّهُ فِي رَحِمِهَا «لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْعَزْلِ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا» ، وَفِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجُوزُ بِلَا إذْنٍ لِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَكَوْنِ الْوَلَدِ غَيْرَ صَالِحٍ فِي الْغَالِبِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ، وَفِي الْفَتَاوَى عَزَلَ عَنْ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا لِمَا يُخَافُ مِنْ الْوَلَدِ السُّوءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَالَ يَسَعُهُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا (بِخِلَافِ أَمَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ مُجَامَعَتُهَا أَصْلًا وَيَجُوزُ) لَهُ (الْعَزْلُ بِغَيْرِ إذْنِهَا) وَفِي الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ الْإِذْنُ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إلَيْهَا، وَفِي الْأَجْنَاسِ رَجُلٌ يَمْنَعُ امْرَأَتَهُ عَنْ الْعَزْلِ لَهُ ذَلِكَ. (وَعَدَمُ التَّسْوِيَةِ) عَطْفٌ عَلَى أَنْ لَا يُجَامِعَ (بَيْنَ الضَّرَّتَيْنِ أَوْ الضَّرَّاتِ فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) ؛ لِأَنَّهُ يَبْتَنِي عَلَى النَّشَاطِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِيهِ كَمَا فِي الْمَحَبَّةِ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ سَائِرُ حُقُوقِ النِّكَاحِ كَالْبَيْتُوتَةِ وَالنَّفَقَةِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وَعَنْ أَبَوَيْهَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يَعْنِي زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ، وَفِي الْجَامِعِ «كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ» أَيْ لَا يُفَضِّلُ بَعْضَهُنَّ عَلَى بَعْضٍ فِي مُكْثِهِ حَتَّى إنَّهُ «كَانَ يُحْمَلُ فِي ثَوْبٍ فَيُطَافُ عَلَيْهِنَّ فَيَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ وَهُوَ مَرِيضٌ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ بِهِ وَلَا أَمْلِكُ» مِمَّا لَا حِيلَةَ فِي دَفْعِهِ مِنْ الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ وَالدَّوَاعِي الطَّبِيعِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي يُرِيدُ بِهِ مَيْلَ النَّفْسِ وَزِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَإِنَّهُ بِحُكْمِ الطَّبْعِ وَمُقْتَضَى الشَّهْوَةِ لَا بِاخْتِيَارِهِ وَقَصْدِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ لَهُ نِسْوَةٌ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي إيثَارِهِ بَعْضَهُنَّ عَلَى بَعْضٍ بِالْمَحَبَّةِ إذَا سَوَّى فِي الْقَسْمِ وَالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ لِثَمَانٍ دُونَ التَّاسِعَةِ وَهِيَ سَوْدَةُ وَأَنَّهَا لَمَّا كَبِرَتْ وَهَبَتْ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ فَقَدْ غَلِطَ وَسَبَبُهُ أَنَّهُ وَجَدَ عَلَى صَفِيَّةَ فِي شَيْءٍ فَوَهَبَتْ لِعَائِشَةَ نَوْبَةً وَاحِدَةً لَهُ تَتَرَضَّاهُ فَفَعَلَ فَوَقَعَ الِاشْتِبَاهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ هَذَا. لَكِنْ إنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ حُرَّةٌ فَطَالَبَتْهُ بِالْوَاجِبِ مِنْ الْقَسْمِ مِنْ نَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ يَتَصَرَّفَ فِي أُمُورِ نَفْسِهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً كَانَ لَهَا مِنْ كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ لَيْلَةٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا بِثَلَاثِ حَرَائِرَ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ الْقَسْمِ يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ وَلَهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ وَالثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ وَالْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالصَّحِيحَةِ وَالْمَرِيضَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْمَجْنُونَةِ الَّتِي لَا يُخَافُ مِنْهَا وَالصَّغِيرَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وَطْؤُهَا وَالْمُحْرِمَةِ وَالْمُولِي مِنْ الْإِيلَاءِ وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا. قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَالْمَجْبُوبُ وَالْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ فِي الْقَسْمِ سَوَاءٌ، وَكَذَا الْغُلَامُ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ، وَقَدْ دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً مَعَ حُرَّةٍ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ الْحُرَّةَ فَلِلْمَمْلُوكَةِ نِصْفُ الْحُرَّةِ (وَ) قَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا (رُوِيَ) مِنْ (وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ فِيهِ أَيْضًا) فِي الْجِمَاعِ وَالْأَصْلُ فِي تَسْوِيَةِ الْقَسْمِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى أَحَدِهِمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» أَيْ مَفْلُوجٌ. (وَعَدَمُ الِاجْتِنَابِ مِنْ الْبَوْلِ " زحك " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «عَامَّةُ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْبَوْلِ» ، وَفِي الْجَامِعِ " مِنْ الْبَوْلِ " بَدَلَ فِي، فَفِي بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ أَكْثَرُهُ بِسَبَبِ التَّهَاوُنِ فِي التَّحَفُّظِ مِنْ الْبَوْلِ «فَاسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ» ، وَفِيهِ وُجُوبُ غُسْلِهِ إذَا حَصَلَتْ مُلَابَسَتُهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

الصنف الثامن من التسعة في آفات الرجل

- رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْفَى عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهُ، وَعَنْ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَأُخِذَ مِنْهُ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ وَفِيهِ أَنَّ عَدَمَ التَّنَزُّهِ كَبِيرَةٌ لِلتَّوَعُّدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ صَرَّحَ بِهِ الْعَلَاءُ. (وَتَرْكُ الْخِتَانِ بِلَا عُذْرٍ) أَمَّا مَعَ عُذْرٍ كَالْمَرَضِ وَالشَّيْخُوخَةِ فَيَجُوزُ، وَفِي الْخُلَاصَةِ الشَّيْخُ الضَّعِيفُ إذَا أَسْلَمَ وَهُوَ لَا يُطِيقُ الْخِتَانَ قَالَ أَهْلُ الْبَصَرِ يَتْرُكُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لِعُذْرٍ جَائِزٌ فَتَرْكُ السُّنَّةِ أَوْلَى وَالصَّبِيُّ إذَا اُخْتُتِنَ، ثُمَّ طَالَتْ جِلْدَتُهُ وَصَارَ بِحَالِ تَسْتَتِرُ الْحَشَفَةُ يُقْطَعُ ثَانِيًا. [الصِّنْفُ الثَّامِنُ مِنْ التِّسْعَةِ فِي آفَاتِ الرِّجْلِ] (الصِّنْفُ الثَّامِنُ) مِنْ التِّسْعَةِ (فِي آفَاتِ الرِّجْلِ هِيَ الذَّهَابُ إلَى مَجْلِسِ الْمَعْصِيَةِ إمَّا لِفِعْلِهَا أَوْ لِلنَّظَرِ إلَيْهَا وَالْخُرُوجُ إلَى الْجِهَادِ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَيْهِ وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمَا إنَّمَا كَرِهَاهُ لِمُقَاتَلَةِ أَهْلِ دِينِهِمَا لَا لِلشَّفَقَةِ فَيَجُوزُ) الْخُرُوجُ حِينَئِذٍ بِلَا إذْنِهِمَا (وَكَذَا كُلُّ سَفَرٍ يُخَافَ فِيهِ الْهَلَاكُ كَرُكُوبِ الْبَحْرِ) وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة يَجُوزُ الْخُرُوجُ بِلَا إذْنِهِمَا عِنْدَ الْأَمْنِ وَعِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْإِذْنِ إذَا أَذِنَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا يَخْرُجُ وَعِنْدَ كَوْنِ أَبَوَيْهِ كَافِرَيْنِ تَرَدُّدٌ فِي كَوْنِ الْمَنْعِ هَلْ لِغَيْرَةِ أَهْلِ دِينِهِ أَوْ لِشَفَقَتِهِ فَيَتَحَرَّى فَيَعْمَلُ بِمَا يَتَرَجَّحُ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنْ احْتَاجَا إلَى خِدْمَتِهِ فَلَا وَإِلَّا فَنَعَمْ لِحَدِيثِ «مَا مِنْ رَجُلٍ يَنْظُرُ إلَى وَالِدِهِ نَظَرَ رَحْمَةٍ إلَّا كَانَتْ لَهُ بِهَا حَجَّةٌ مَقْبُولَةٌ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ نَظَرَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ قَالَ، وَإِنْ نَظَرَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَاجَا لَكِنْ لَيْسَ فِي الطَّرِيقِ أَمْنٌ فَإِنْ الْغَالِبُ الْخَوْفَ فَلَا، وَإِنْ الْغَالِبُ الْأَمْنَ فَنَعَمْ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَالْبَحْرِ الْعُذْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِكُلِّ حَالٍ وَقِيلَ الْغَالِبُ الْهَلَاكَ عُذِرَ، وَإِنْ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ لَا وَهُوَ الْأَصَحُّ. (وَالْمَفَاوِزِ) أَيْ الصَّحْرَاءِ لَا سِيَّمَا الْمَخُوفَةُ بِالْأُسُودِ وَالسِّبَاعِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ (أَوْ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إلَى النَّفَقَةِ) وَلَمْ يَدَعْ عِنْدَهُمَا مِقْدَارَ الْكِفَايَةِ (أَوْ الْخِدْمَةِ) وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ يَخْدُمُهُمَا غَيْرُهُ فَلَا يَخْرُجُ وَلَوْ لِلتَّعَلُّمِ (وَحُكْمُ أَحَدِهِمَا كَحُكْمِهِمَا) وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ مِثْلُهُمَا عِنْدَ عَدَمِهِمَا، وَفِي قَاضِي خَانْ يَخْرُجُ لِلتَّعَلُّمِ وَلَا يَكُونُ عَاقًّا قِيلَ إنْ مُلْتَحِيًا وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ لِلْحَجِّ فَإِنْ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فَنَعَمْ وَإِلَّا فَلَا. (وَ) مِنْ آفَاتِ الرِّجْلِ (الْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ وَ) كَذَا (الدُّخُولُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى

أَرْضٍ فِيهَا الطَّاعُونُ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي وَظَاهِرِ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ الشُّمُولُ لِمَنْ فِي الدَّاخِلِ فَيَخْرُجُ فِرَارًا وَلِمَنْ فِي الْخَارِجِ فَلَا يَدْخُلُ فِرَارًا عَلَى أَنَّ اللَّازِمَ مِمَّا فُهِمَ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ السِّرَايَةِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى وَتَرْجِيحِهِ عَدَمُ كَوْنِ الْفِرَارِ مِنْ الْآفَاتِ مُطْلَقًا، وَقَدْ سَمِعْت هُنَالِكَ فِرَارَ أَبِي مُوسَى وَالْأَسْوَدِ وَمَسْرُوقٍ، وَقَوْلَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِرُّوا مِنْ هَذَا الرِّجْزِ، وَفَتْوَى أَبِي السُّعُودِ عَلَى التَّجْوِيزِ بِنِيَّةِ الِالْتِجَاءِ مِنْ قَهْرِهِ تَعَالَى إلَى لُطْفِهِ، وَقَوْلَ الْأَشْبَاهِ مِنْ ضَمَانِ صَبِيٍّ مَغْصُوبٍ مَاتَ فِي مَكَانِ الْوَبَاءِ، وَأَيْضًا قِيَاسُهُ وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ وَأَشَارَ هُوَ إلَى ضَعْفِهِ هُنَالِكَ أَيْضًا فَانْظُرْ، ثُمَّ سَبَبُ الطَّاعُونِ إمَّا بَاطِنٌ أَوْ ظَاهِرٌ فَالْأَوَّلُ كَثْرَةُ الزِّنَا كَمَا فِي حَدِيثِ «لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ» وَسِرُّهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْرِ حَدُّ الزِّنَا فِي الْمُحْصَنِ مِنْ الْقَتْلِ بِالرَّجْمِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَائِفَةً مِنْ الْجِنِّ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ وَقِيلَ لَمَّا كَانَ غَالِبُ حَالِ الزِّنَا عَلَى السِّرِّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّ السِّرِّ كَمَا نُقِلَ عَنْ السُّيُوطِيّ وَقَاعِدَةُ الْعَدْلِ إذَا نَزَلَ بِقَوْمٍ الْبَلَاءُ يَعُمُّ الْكُلَّ، وَالثَّانِي الْجِنُّ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «الطَّاعُونُ وَخْزٌ» أَيْ طَعْنُ «أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَهُوَ لَكُمْ شَهَادَةٌ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي وَوَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ تَعَفُّنُ الْهَوَاءِ وَعِنْدَ بَعْضٍ مَجْمُوعُهُمَا أَيْ طَعْنُ الْجِنِّ وَالتَّعَفُّنُ وَقِيلَ رِيحٌ وَقِيلَ وَقِيلَ، وَعَنْ ابْنِ سِينَا دَمٌ رَدِيءٌ وَوَفَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مِنْ الْجِنِّ مِنْ جَوَازِ كَوْنِ طَعْنِ الْجِنِّ مُحْدِثًا فِي الطَّبِيعَةِ ذَلِكَ الدَّمَ (خ م عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «الطَّاعُونُ رِجْزٌ» فِي الْجَامِعِ اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ عَلَى رِوَايَةِ أُسَامَةَ بَقِيَّةُ «رِجْزٍ أَيْ عَذَابٍ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ» هُمْ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَدْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الطَّاعُونَ فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ سَبْعُونَ أَلْفًا كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ، وَعَنْ الْوَسِيطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ كِبَارِهِمْ، وَعَنْ التَّيْسِيرِ وَدَامَ فِيهِمْ حَتَّى بَلَغُوا سَبْعِينَ أَلْفًا أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي «إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ» أَيْ بِالطَّاعُونِ «بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ» لِأَنَّهُ إلْقَاءُ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ التوربشتي إنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ لَنَا التَّوَقِّيَ مِنْ الْمَحْذُورِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنَعَ أَصْحَابَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي مَدِينَةِ الْحِجْرِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ قَهْرِهِ تَعَالَى بِثَمُودَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ أَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» فَلِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْأَصِحَّاءُ ضَاعَتْ الْمَرْضَى مِنْ مُتَعَهِّدِي الْمَوْتَى مِنْ التَّجْهِيزِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهَا كَذَا فِي الْفَيْضِ. وَعَنْ الْخَطَّابِيِّ فِي قَوْلِهِ فَلَا تَدْخُلُوهَا إثْبَاتٌ لِلْحَذَرِ وَنَهْيٌ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلتَّلَفِ وَقَوْلُهُ فَلَا تَخْرُجُوا إثْبَاتٌ لِلتَّوَكُّلِ وَتَسْلِيمٌ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ وَالْآخَرُ تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ انْتَهَى. لَا يَخْفَى أَنَّ فِي هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ إشَارَةً إلَى أَنَّ فِيهِ سِرَايَةً، ثُمَّ قِيلَ وَأَمَّا الْخُرُوجُ بِلَا فِرَارٍ لِحَاجَةٍ فَجَائِزٌ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعَذَابَ إذَا نَزَلَ بِقَوْمٍ وَأَنْت فِيهِمْ فَلَا تَهْرُبْ مِنْ بَيْنِهِمْ فَإِنَّ الْعَذَابَ لَا يَدْفَعُهُ الْهَرَبُ وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ التَّوْبَةُ وَلْيَظُنَّ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ أَنَّ الْعَذَابَ إنَّمَا نَزَلَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِشُؤْمِ ذَنْبِهِ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ. (تَنْبِيهٌ) أَقُولُ السِّرُّ الْحَقِيقِيُّ فِي مَنْعِ الْخُرُوجِ وَالْفِرَارِ الْوُصُولُ إلَى الرَّحْمَةِ وَالشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْجَامِعِ

«مَنْ مَاتَ فِيهِ مَاتَ شَهِيدًا وَمَنْ أَقَامَ بِهِ كَانَ كَالْمُرَابِطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ كَانَ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ» ، وَفِيهِ «الطَّاعُونُ وَالْغَرَقُ وَالْبَطْنُ وَالْحَرْقُ وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي» ، وَفِيهِ «الطَّاعُونُ غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ الْمُقِيمُ بِهِ كَالشَّهِيدِ وَالْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ» ، وَفِيهِ «وَهُوَ لَكُمْ شَهَادَةٌ» ، وَفِيهِ «وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا أَيْ طَالِبًا الثَّوَابَ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى خَوْفِ الطَّاعُونِ وَشِدَّتِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ فَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِهِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ، وَإِنْ لَمْ يُحَصِّلْ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ نَفْسَهَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ مَاتَ بِالطَّاعُونِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الثَّوَابِ بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ كَمَنْ يَمُوتُ غَرِيبًا أَوْ نُفَسَاءَ بِالطَّاعُونِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَكُونُ شَهِيدًا بِوُقُوعِ الطَّاعُونِ بِهِ وَيُضَافُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ بِصَبْرِهِ وَدَرَجَاتُ الشُّهَدَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ فَأَرْفَعُهَا مَنْ اتَّصَفَ بِمَا ذُكِرَ وَمَاتَ مِنْ الطَّاعُونِ وَدُونُهُ مَنْ اتَّصَفَ وَطُعِنَ وَلَمْ يَمُتْ وَدُونُهُ مَنْ اتَّصَفَ، ثُمَّ لَمْ يُطْعَنْ وَلَمْ يَمُتْ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا، وَإِنْ مَاتَ مِنْ الطَّاعُونِ وَذَلِكَ يَنْشَأُ مِنْ شُؤْمِ الِاعْتِرَاضِ النَّاشِئِ عَنْ الضَّجَرِ وَالسُّخْطِ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَفِي الْجَامِعِ «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ قَالُوا قَدْ عَرَفْنَا الطَّعْنَ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ، وَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ» ، وَفِيهِ «وَمَنْ صَبَرَ فِيهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» أَقُولُ وَلِنَيْلِ أُمَّتِهِ لِمِثْلِ هَذَا الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ وَالشَّهَادَةِ دَعَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ اسْتِشْفَاقًا بِهِمْ وَمَحَبَّةً لَهُمْ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك بِالطَّعْنِ أَيْ بِالرُّمْحِ. وَالطَّاعُونُ وَخْزُ أَعْدَائِهِمْ مِنْ الْجِنِّ قَالَ الْعُلَمَاءُ أَرَادَ الْمُصْطَفَى أَنْ يُحَصِّلَ لِأُمَّتِهِ أَرْفَعَ أَنْوَاعِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ إمَّا مِنْ الْإِنْس أَوْ مِنْ الْجِنِّ قَالَ الرَّاغِبُ نَبَّهَ بِالطَّعْنِ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبِالطَّاعُونِ عَلَى الشَّهَادَةِ الصُّغْرَى وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي خَبَرٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ «الطَّاعُونُ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ قِيلَ شَهِيدٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ مُصِرًّا عَلَيْهَا» ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ لَا يَدْخُلُهُمَا الدَّجَّالُ وَالطَّاعُونُ قُلْتُ لَعَلَّ لَهُمْ شَرَفًا مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ فَيَكُونُ الطَّاعُونُ فِي غَيْرِهِمَا بَدَلَ شَرَفِهِمَا، فَإِنْ قِيلَ كَثِيرًا مَا يَمُوتُ الْخَلْقُ مِنْ غَيْرِ الطَّاعُونِ قُلْنَا أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَكْثَرُ وَالْأَصْلَحُ أَوْ يَجُوزُ كَوْنُهُمْ مِنْ الطَّاعُونِ لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ (وَبَعْضُهُمْ حَمَلَ هَذَا النَّهْيَ عَلَى صِيَانَةِ الِاعْتِقَادِ) يَعْنِي أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَلَى النَّاسِ بِأَنْ يَظُنُّوا أَنَّ هَلَاكَ الْقَادِمِ إنَّمَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ وَسَلَامَةَ الْفَارِّ إنَّمَا كَانَتْ لِفِرَارِهِ (فَيَجُوزُ الدُّخُولُ وَالْفِرَارُ لِمَنْ عَلِمَ عَدَمَ تَغَيُّرِ اعْتِقَادِهِ) فَعِلَّةُ النَّهْيِ الصِّيَانَةُ الْمَذْكُورَةُ فَإِذَا فُقِدَتْ يَجُوزُ الْفِرَارُ وَالدُّخُولُ لَا يَخْفَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ وَإِنْ انْتَفَتْ فِي ذَلِكَ الشَّخْصِ لَكِنْ لَا تَنْتَفِي فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَالْمَقْصُودُ صِيَانَةُ اعْتِقَادِ الْجَمِيعِ فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ، وَقَدْ سَمِعْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْعِلَّةَ كَثِيرًا مَا تَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجِنْسِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ وَإِنَّ هَذَا إمَّا تَخْصِيصٌ عَامٌّ أَوْ تَقْيِيدٌ مُطْلَقٌ فَلَا يَجُوزُ بِالرَّأْيِ عَلَى أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ بِدُونِ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ (وَيَرُدُّهُ) أَيْ هَذَا الْحَمْلَ (أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) حِينَ سَافَرَ لِأَجْلِ فَتْحِ الْقُدْسِ وَقَرُبَ مِنْ الشَّامِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ رَسُولًا وَقَالَ إنَّ فِي الشَّامِ طَاعُونًا فَالْأَمْرُ إلَيْك فَتَفَرَّقُوا فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ عَلَى عَدَمِ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]- وَفِرْقَةٌ عَلَى الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243] الْآيَةَ فَاخْتَارَ عُمَرُ جَانِبَ الرُّجُوعِ فَقِيلَ أَتَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فَقَالَ فِرَارِي مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ إلَى قَضَاءِ اللَّهِ، ثُمَّ تَشَاوَرَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَرَأَ «إذَا سَمِعْتُمْ بِالْوَبَاءِ بِأَرْضٍ» الْحَدِيثَ فَفَرِحَ وَحَمِدَ اللَّهَ لِمُوَافَقَتِهِ اجْتِهَادَهُ (لَمْ يَدْخُلْ الشَّامَ بَعْدَ الْمَشُورَةِ) مَعَ الْأَصْحَابِ (فَرَجَعَ) إلَى الْمَدِينَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ تَجْوِيزُ جَانِبِ الْفِرَارِ وَإِبْقَاؤُهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَعْرِضِ

الْبَيَانِ يُشْعِرُ بِالْحَصْرِ وَأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمُصَنَّفَاتِ بَلْ فِيهِ بَيَانُ الضَّرُورَةِ أَيْضًا وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ، وَإِنْ مُلَائِمًا لِمَا اخْتَارَهُ عَنْ التوربشتي سَابِقًا مِنْ السِّرَايَةِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ يُنَافِي غَرَضَهُ فِي الْمَقَامِ مِنْ كَوْنِ الْفِرَارِ مِنْ آفَاتِ الرِّجْلِ وَلَا يُلَائِمُ تَعْرِيفَهُ بِقَوْلِهِ (فَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى ظَاهِرِهِ) وَأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِفِعْلِ عُمَرَ بَعْدَ النُّصُوصِ السَّابِقَةِ كَالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ سِيَّمَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ مِمَّا يَقْبَلُ الْكَلَامَ يُعْرَفُ مِنْ الْأُصُولِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ سُكُوتَهُمْ عِنْدَ رَأْيِ جَانِبِ الرُّجُوعِ حَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ كَانَ سَنَدَ الْإِجْمَاعِ وَبِمَا قَرَّرْنَا فِي الْمَقَامِ يَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا أُورِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ رُجُوعِ عُمَرَ لِصِيَانَةِ اعْتِقَادِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْعَوَامّ، يُؤَيِّدُهُ مَشُورَتُهُ مَعَ الْأَصْحَابِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُرَجِّحُ عُمَرُ جَانِبَ الرُّجُوعِ، وَقَدْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243]- الْآيَةَ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ عَلَى طَرِيقِ النَّصِّ لِسَوْقِهَا لَهُ وَآيَةُ عَدَمِ إلْقَاءِ التَّهْلُكَةِ لَوْ سَلِمَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَقَعَ فِي دِيَارِهِمْ طَاعُونٌ فَخَرَجُوا هَارِبِينَ فَأَمَاتَهُمْ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيَعْتَبِرُوا وَيَتَيَقَّنُوا أَنْ لَا مَفَرَّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ عَلَى الظَّاهِرِ قُلْنَا ظَاهِرٌ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ وَاخْتِيَارُ عُمَرَ فِي حَقِّ عَدَمِ الدُّخُولِ فَافْتَرَقَا، وَأَمَّا قِيَاسُ هَذَا عَلَى ذَلِكَ فَالْخَبَرُ الصَّحِيحُ رَاجِحٌ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا وَفِيهِ رَائِحَةُ الْإِجْمَاعِ كَمَا عَرَفْت وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْإِلْقَاءِ فِي التَّهْلُكَةِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ كَوْنِ التَّهْلُكَةِ قَطْعِيًّا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ بَلْ ظَنِّيٌّ أَوْ وَهْمِيٌّ وَلِذَا تَرَى الْكَثِيرَ عِنْدَ وُرُودِهِمْ فِي مَحَلِّ الطَّاعُونِ لَا يَمُوتُونَ بَلْ لَا يُطْعَنُونَ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّاعُونَ لَيْسَ بِسَارٍ طَبْعًا وَسَارٍ بِإِذْنِهِ تَعَالَى فَلِلْأَوَّلِ مَنْعٌ عَنْ الْخُرُوجِ، وَقَدْ انْضَمَّ لَهُ حِفْظُ الْمَطْعُونِينَ كَمَا مَرَّ وَلِلثَّانِي مَنْعُ الدُّخُولِ، وَقَدْ انْضَمَّ لَهُ حِفْظُ الِاعْتِقَادِ فَصَارَ كَالْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ وَأَنَّ السِّرَايَةَ بِالْإِذْنِ لَيْسَتْ بِقَطْعِيَّةٍ بَلْ بِالْإِمْكَانِ وَالْوُقُوعِ فِي الْقِلَّةِ وَلَا حُكْمَ فِي النُّدْرَةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ مِثْلِ أَبِي مُوسَى بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْفِرَارِ مِنْ الدُّخُولِ تَوْفِيقًا لِلْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي السُّعُودِ إنْ أَمْكَنَ تَوْفِيقُهُ بِمَا ذُكِرَ وَإِلَّا فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ لَكِنْ يَبْقَى مَسْأَلَةُ غَصْبِ الصَّبِيِّ لِلْأَشْيَاءِ.

وَقَدْ يُقَالُ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْخُرُوجِ طِبًّا إنَّ الطَّاعُونَ هَوَاءٌ فَإِصَابَتُهُ لَيْسَتْ لِظَاهِرٍ بَلْ لِبَاطِنٍ كَالْقَلْبِ وَالرِّئَةِ وَالْكَبِدِ فَظُهُورُهُ فِي الظَّاهِرِ يَعْنِي الْبَدَنَ كَثِيرٌ أَمَّا بَعْدَ زَمَانٍ مَدِيدٍ فَلَا يُفِيدُ الْخُرُوجَ نَعَمْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ إصَابَتِهِ عِنْدَ بَقَائِهِ بِلَا خُرُوجٍ لَكِنْ وَهْمِيٌّ، وَمَعَ هَذَا يَنْضَمُّ إلَى الْخُرُوجِ تَعْطِيلُ أَحْوَالِ الْمَطْعُونِينَ بَلْ تَحْقِيقُ إهْلَاكِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ بَقَاءِ أَحَدٍ مِنْ الْأَصِحَّاءِ وَخَلَاصُهُمْ مُنْتَظَرٌ، وَفِي مَنْعِ الدُّخُولِ أَيْضًا أَنَّ الْهَوَاءَ لَمْ يُؤَثِّرْ بِبَاطِنِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْبَلَدِ حَاجَةٌ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا يُمْنَعُ بَلْ يُنْدَبُ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الضَّرَرِ الْمَوْهُومِ لِتَخَلُّصِ الضَّرَرِ الْمَقْطُوعِ عَنْ الْمَطْعُونِينَ. (فَائِدَةٌ) فِي الْأَشْبَاهِ أَنَّ الطَّاعُونَ مِنْ النَّوَازِلِ الشَّدِيدَةِ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَفِي الطَّحَاوِيِّ وَلَا يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ بَلِيَّةٍ إلَى آخِرِهِ وَأَيْضًا الطَّاعُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَرَضِ، وَفِيهِ يُصَلُّوا وُحْدَانًا كَمَا فِي مُنْيَةِ الْمُفْتِي فَتُسَنُّ لَهُ رَكْعَتَانِ فُرَادَى كَالْخُسُوفِ وَيَتَضَرَّعُ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ كَمَا فِي الرِّيحِ الشَّدِيدِ وَالزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالثُّلُوجِ وَالْأَمْطَارِ الدَّائِمَةِ وَالْخَوْفِ الْغَالِبِ مِنْ الْعَدُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَجْتَمِعُونَ كَالْخُسُوفِ وَيُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ، ثُمَّ قَالَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْزَعَ إلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ كُلِّ حَادِثَةٍ انْتَهَى إجْمَالًا. أَقُولُ: لَا يَخْفَى إنْ كَانَ ذَلِكَ بِدُعَاءِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ شَهَادَةً وَرَحْمَةً وَمَغْفِرَةً لِمَنْ مَاتَ مِنْهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِرَفْعِهِ؟ وَكَيْفَ يَصِحُّ الْقِيَاسُ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ؟ وَكَيْفَ يَدْخُلُ فِي تِلْكَ الْعُمُومَاتِ؟ وَلَوْ سَلِمَ شُمُولُهَا فَيَجِبُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ السُّيُوطِيّ أَنَّ الدُّعَاءَ بِرَفْعِهِ بِدْعَةٌ حَتَّى قِيلَ لِمُعَاذٍ اُدْعُ اللَّهَ يَرْفَعْ عَنَّا هَذَا الرِّجْزَ فَقَالَ لَيْسَ بِرِجْزٍ وَلَكِنْ دَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ وَشَهَادَةٌ يَخْتَصُّ اللَّهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْكُمْ اللَّهُمَّ آتِ آلَ مُعَاذٍ نَصِيبَهُمْ الْأَوْفَرَ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ. قِيلَ وَمَا وَقَعَ عَنْ الرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ لِلْوَبَاءِ فَعَامٌّ مَخْصُوصٌ؛ لِأَنَّ الْوَبَاءَ أَعَمُّ مِنْ الطَّاعُونِ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ هُنَا أَقُولُ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَغْرَاضِ فَلَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِرَفْعِهِ لِلْخَوَاصِّ كَالْمُتَوَكِّلِينَ الْكَامِلِينَ وَيَجُوزُ لِلْعَوَامِّ كَمَا رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَحْسَنُ مَا يُدَاوَى بِهِ الطَّاعُونُ التَّسْبِيحُ، وَعَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ بِرَفْعِهِ لَا مُطْلَقًا بَلْ مِنْ هَذَا الْعَاجِلِ مَثَلًا إذْ قَدْ سَمِعْت أَنَّ طُولَ عُمْرِ الْمُؤْمِنِ لَا يُعَادِلُهُ عَمَلٌ كَيْفَ، وَقَدْ سَمِعْت دُعَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك بِالطَّعْنِ أَيْ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالطَّاعُونِ الْجِنِّ» فَكَمَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ لِلْجِهَادِ فَلْيَجُزْ لِلْجِنِّ وَإِنَّ الدُّعَاءَ لِرَفْعِ مَا يُوجِبُ الشَّهَادَةَ كَالْبَطْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالشِّفَاءِ لِلنُّفَسَاءِ جَائِزٌ اتِّفَاقًا فَلْيَجُزْ لِلطَّاعُونِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ الدَّوَاءَ وَالْمُعَالَجَةَ فِي الطَّاعُونِ فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فَلْيَجُزْ ذَاكَ فَلْيُتَأَمَّلْ بِدِقَّةٍ وَلْيُتَّبَعْ بِجَهْدٍ فَإِنَّ الْمَقَامَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ الْآنَ. (وَ) مِنْ آفَاتِ الرِّجْلِ (الْمَشْيُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلَا إذْنِهِ) إذْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ بِلَا إذْنِهِ حَتَّى لَا تَجُوزَ إجَابَةُ دَعْوَةِ مَنْ سَكَنَ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، وَكَذَا عِيَادَتُهُ (دَارًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ كَرْمًا أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ مَكْرُوبَةً) فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ لِلزِّحَامِ فَيَمْشِي فِي الزَّرْعِ لَكِنْ يَتَّقِي وَطْءَ الزَّرْعِ بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَكَذَا مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ كَمَا فِي الْأُسْرُوشَنِيِّ (وَإِنْ) كَانَ (أَرْضًا جُرُزًا) وَهِيَ الْأَرْضُ الْغَلِيظَةُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَانْقَطَعَ مَاؤُهَا وَالْمُرَادُ الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ (بِلَا حَائِطٍ) أَيْ جِدَارٍ وَحَرِيمٍ (وَلَا خَنْدَقٍ) مُحِيطٍ لِلْأَرْضِ لِمَنْعِ كُلِّ دَاخِلٍ حَيَوَانًا أَوْ آدَمِيًّا (وَكَانَ الْمُرُورُ لِحَاجَةٍ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يُرْجَى الْجَوَازُ) ، وَفِي قَوْلِهِ لِحَاجَةٍ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ الدُّخُولِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ بِقَدْرِهَا وَلِذَا جَازَ دُخُولُ بَيْتِ غَيْرِهِ إذَا سَقَطَ مَتَاعُهُ فِيهِ وَخَافَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ لَوْ طَلَبَهُ مِنْهُ لَأَخْفَاهُ (لِوُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً وَعَادَةً) قَيَّدَ بِعَدَمِ الْخَنْدَقِ وَالْحَائِطِ لِمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ عَدَمِ حِلِّ الْمُرُورِ حِينَئِذٍ، وَكَذَا النُّزُولُ فِيهَا فِيهِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ الْمُرُورِ عِنْدَ كَوْنِ الْمَنْعِ مَعْلُومًا صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ لِلْأَرْضِ أَوْ انْحَصَرَ الطَّرِيقُ بِهَا (وَيَدْخُلُ فِيهِ الدُّخُولُ إلَى ضِيَافَةٍ بِلَا دَعْوَةٍ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ دُخُولَ دَارِ غَيْرِهِ بِلَا إذْنِهِ مَعَ زِيَادَةِ أَكْلِ طَعَامِهِ بِلَا إذْنِهِ فَفِيهِ ضَرَرَانِ (وَفِيهِ حَدِيثٌ سَيَجِيءُ وَيُسْتَثْنَى) مِنْهُ (الدُّخُولُ) إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ (لِخَوْفِ ضَيَاعِ مَالِهِ كَمَا إذَا أَخَذَ رَجُلٌ ثَوْبَهُ) مِنْ حَانُوتِهِ مَثَلًا (فَدَخَلَ دَارِهِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ صَاحِبُهُ أَيْضًا لِيَأْخُذَهُ، وَكَذَا إذَا وَقَعَ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِهِ فِي دَارِ رَجُلٍ) بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَهَبِّ الرِّيحِ (وَخَافَ أَنْ لَوْ عَلِمَ صَاحِبُ الدَّارِ مَنَعَهُ) مِنْ دُخُولِهِ وَأَخْذِهِ بَلْ يَسْتُرُهُ وَيُنْكِرُهُ (لَهُ أَنْ يَدْخُلَ) دَارِهِ (بِغَيْرِ إذْنِهِ لَكِنْ يُعْلِمُ) مِنْ الْإِعْلَامِ (الصُّلَحَاءَ) مِنْ النَّاسِ (أَنَّهُ يَدْخُلُ دَارِهِ لِهَذَا) لِأَجْلِ أَخْذِ مَا وَقَعَ مِنْ مَالِهِ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَنْعَ صَاحِبِ الدَّارِ بِأَنْ يَعْلَمَ إخْرَاجَهُ أَوْ يَأْذَنَ بِالدُّخُولِ لِأَخْذِهِ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُهُ لَعَلَّ فِي التَّعْبِيرِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إشَارَةً إلَى اشْتِرَاطِ الْكَثْرَةِ فَفِي الْمَالِ الْقَلِيلِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَدْخُلَ لَكِنْ ظَاهِرُهُ مَا نُقِلَ عَنْ الْأَشْبَاهِ آنِفًا هُوَ الْإِطْلَاقُ. (وَالْمَشْيُ عَلَى الْمَقَابِرِ) بِلَا ضَرُورَةٍ وَإِلَّا فَفِي التَّتَارْخَانِيَّة مَنْ لَهُ بُقْعَةٌ بَيْنَ الْمَقَابِرِ وَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِلَا وَطْءِ الْمَقَابِرِ لَهُ أَنْ يَتَخَطَّى الْمَقَابِرَ، وَفِي السِّرَاجِيَّةِ إذَا مَرَّ بِقَبْرٍ وَقَرَأَ شَيْئًا بِنِيَّةِ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ لَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ بَعْضٌ يَقْرَأُ سُورَةَ التَّكَاثُرِ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة إذَا كَانَ قَبْرُ وَالِدَيْهِ بَيْنَ الْقُبُورِ فَأَرَادَ زِيَارَتَهُمَا فَيَزُورُ بِغَيْرِ وَطْءِ قَبْرٍ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ وَالِدِهِ بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنْهُ إنَّ وَطْءَ الْقُبُورِ إثْمٌ، ثُمَّ الْقُعُودُ عَلَى الْقَبْرِ كَالْمَشْيِ لِمَا فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ بَعْضٍ «لَأَنْ أَجْلِسَ عَلَى الْجَمْرِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَجْلِسَ عَلَى الْقَبْرِ» أَقُولُ هَذَا مَضْمُونُ حَدِيثِ مُسْلِمٍ «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ الْمُرَادُ بِالْجُلُوسِ مَا يَكُونُ لِلتَّخَلِّي وَالْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ» النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ إنَّمَا كُرِهَ الْجُلُوسُ عَلَى الْقُبُورِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِخْفَافِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَكْرَهْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِمَا أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَضْطَجِعُ عَلَيْهَا وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى الْجُلُوسِ لِلْبَوْلِ لَكِنَّ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ رَاجِحٌ عَلَى غَيْرِهِ فَافْهَمْ. (وَاتِّبَاعُ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ وَزِيَارَتُهُنَّ الْقُبُورَ " ت " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» ، وَعَنْ ابْنِ الْمَلِكِ أَنَّ فِي صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ زِيَارَتُهَا عَلَى النُّدْرَةِ لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي اللَّعْنِ وَاسْتَثْنَى زِيَارَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ زِيَارَةُ الصَّحَابَةِ وَالصُّلَحَاءِ أَيْضًا، وَعَنْ ابْنِ الْمَلِكِ أَيْضًا عَنْ بَعْضٍ أَنَّ النَّهْيَ قَبْلَ الرُّخْصَةِ فَبَعْدَهَا دَخَلَ فِي الرُّخْصَةِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ، وَعَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» وَرَدَّ الْعِرَاقِيُّ بِأَنَّ الْإِنَاثَ لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي خِطَابِ الذُّكُورِ فِي الْأُصُولِ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَكِنْ فِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ الْأَصَحُّ عَلَى الدُّخُولِ إمَّا تَغْلِيبًا أَوْ إلْحَاقًا أَوْ تَبَعًا، لَكِنْ يُرَدُّ قَوْلُ ابْنِ الْمَلِكِ مِنْ فَهْمِ تَجْوِيزِ كَوْنِ الزِّيَارَةِ عَلَى النُّدْرَةِ مِنْ حَدِيثِ الْجَامِعِ «لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» بِلَا مُبَالَغَةٍ وَقِيلَ إنْ حُمِلَتْ زِيَارَتُهَا عَلَى تَجْدِيدِ حُزْنٍ وَبُكَاءٍ فَحَرَامٌ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ «لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - يَا رَسُولَ كَيْفَ أَقُولُ إذَا زُرْت الْقُبُورَ؟ قَالَ قُولِي السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَرَحِمَ اللَّهُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَّا وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» كَذَا فِي الْفَيْضِ أَيْضًا لَكِنَّ أَمْرَهُ لِعَائِشَةَ لَا أَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فَالِاحْتِجَاجُ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» فَإِنَّهَا تُرْفِقُ الْقَلْبَ وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ وَلَا تَقُولُوا هَجْرًا، خِطَابٌ

لِلرِّجَالِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْإِنَاثُ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَلَا يُنْدَبُ لَكِنْ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ انْتَهَى قَوْلُهُ. عَلَى الْمُخْتَارِ يُشِيرُ إلَى دُخُولِهِنَّ فِي غَيْرِ الْمُخْتَارِ وَقَوْلُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا يُشِيرُ إلَى الدُّخُولِ أَيْضًا عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَأَصْحَابِنَا الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا مَرَّ قَرِيبًا، وَقَدْ قَالَ هُوَ أَيْضًا عَقِيبَ مَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضٍ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى حِلِّ زِيَارَةِ الْقُبُورِ هَبْ الزَّائِرَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَالْمَزُورَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا قَالَ النَّوَوِيُّ وَبِالْجَوَازِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ انْتَهَى أَقُولُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِظَاهِرِ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - آنِفًا وَلِقَوْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَيْضًا وَابْنِ الْمَلِكِ أَيْضًا وَلِقَوْلِ مَنْ احْتَجَّ بِالْمُبَالَغَةِ عَلَى جَوَازِ النُّدْرَةِ فَحَاصِلُ الْمَجْمُوعِ جَوَازُ زِيَارَتِهِنَّ نُدْرَةً إنْ خَلَا عَنْ نَحْوِ تَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَالنَّوْحِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي كَرَاهَةِ التَّتَارْخَانِيَّة فِي بَعْضِ تَأْوِيلِ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - الزِّيَارَةُ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي هَذَا الْبَابِ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْت نَهَيْتُكُمْ الْحَدِيثَ، وَلَكِنَّ التَّرْكَ أَوْلَى انْتَهَى ثُمَّ أَقُولُ فَعَلَى هَذَا الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِمَّا يَقْبَلُ الْكَلَامَ نَعَمْ قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة فِي الْجَنَائِزِ سُئِلَ الْقَاضِي عَنْ جَوَازِ ذَهَابِ النِّسَاءِ إلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ لَا يُسْأَلُ عَنْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فِي مِثْلِ هَذَا وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ مِقْدَارِ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ اللَّعْنِ فِيهِ. وَاعْلَمْ بِأَنَّهَا كُلَّمَا قَصَدَتْ الْخُرُوجَ كَانَتْ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَإِذَا خَرَجَتْ تَحُفُّهَا الشَّيَاطِينُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَإِذَا أَتَتْ الْقُبُورَ لَعَنَتْهَا رُوحُ الْمَيِّتِ وَإِذَا رَجَعَتْ كَانَتْ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى. أَقُولُ وَلَا يَبْعُدُ التَّوْفِيقُ فِي تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمَنْعَ عَلَى مَنْ أَصَرَّتْ أَوْ نَاحَتْ أَوْ بَكَتْ أَوْ نَحْوَهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ وَإِلَّا جَازَتْ عَلَى مَنْ كَانَتْ زِيَارَتُهَا عَلَى نُدْرَةٍ وَخَالِيَةً عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الْمَطْلَبِ بِقَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَعَلَى الْإِجْمَالِ مَنْ قَالَ إنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الِاتِّفَاقِ وَالْعَزِيمَةَ فِي التَّوَقِّي عَنْ الشُّبُهَاتِ وَأَدْنَى دَرَجَةِ الِاخْتِلَافِ إيرَاثُ الشُّبْهَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبْهَةِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمُرَامِ. (وَلَوْ وَجَدَ طَرِيقًا فِي الْمَقْبَرَةِ إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ) بِالْعَلَائِمِ وَالْأَمَارَاتِ، وَأَمَّا عِنْدَ إخْبَارِ مَنْ وَثِقَ بِهِ وَلَوْ وَاحِدًا عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً فَبِالْأَوْلَى (أَنَّهُمْ أَحْدَثُوهُ فِيهِ لَا يَمْشِي) لِأَنَّ الْقَبْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الطَّرِيقِ (وَالْقُعُودُ عَلَى الْقَبْرِ كَالْمَشْيِ) كَمَا سَمِعْت قَوْلَ الْخُلَاصَةِ وَالْحَدِيثَ آنِفًا، وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَلَا يَقْعُدُ عَلَى الْقَبْرِ؛ لِأَنَّ سَقْفَهُ حَقُّ الْمَيِّتِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ إهَانَةٌ لِلْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ، وَإِنْ فِي الْقَبْرِ طَرِيقٌ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ حَدَثٌ لَا يَمْشِي فِيهِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْقَبْرِ وَلَوْ أَجْلَسَ عَلَى قَبْرِ أَخِيهِ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَبِهِ أَخَذَ الْمَشَايِخُ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَقَطْعُ الْحَشِيشِ الرَّطْبِ مِنْ الْمَقَابِرِ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُسَبِّحُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ الْعَذَابُ عَنْ الْمَيِّتِ أَوْ يَسْتَأْنِسُ بِهِ الْمَيِّتُ وَعَلَى هَذَا لَا يُكْرَهُ مِنْ مَقَابِرِ الْكُفَّارِ وَقَطْعُ الْيَابِسِ لَا يُكْرَهُ وَبِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ انْتَهَى أَقُولُ فَبِالْأَوْلَى قَطْعُ الْأَشْجَارِ الرَّطْبَةِ، وَأَمَّا رَعْيُ الدَّوَابِّ فِي الْقُبُورِ فَعَلَى قَاعِدَةِ التَّسَبُّبِ بِالسَّوْقِ أَوْ الْقُعُودِ فَكَذَا لِإِضَافَةِ أَفْعَالِهَا عَلَى مُسَبِّبِهَا كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ. (وَدُخُولُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ الْمَسْجِدَ) وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَفِي شَهِيدِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَالْمَسَاجِدُ عَلَى قَوَارِعِ الطَّرِيقِ وَعِنْدَ الْحِيَاضِ مَسْجِدٌ لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ، وَأَمَّا مَا بُنِيَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلِصَلَاةِ الْعِيدِ فَالْأَصَحُّ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ، وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ فِيمَا بُنِيَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ الَّذِي يُتَّخَذُ فِي الْبَيْتِ لِصَلَاةِ النَّوَافِلِ، وَإِنْ نَدْبًا لَكِنْ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْمَبْنِيُّ عَلَى سُورِ الْمَدِينَةِ فَلَيْسَ بِمَسْجِدٍ لِكَوْنِهِ حَقَّ الْعَامَّةِ، وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ لِلْمُرُورِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَيُكْرَهُ مَسْحُ الرِّجْلِ مِنْ الطِّينِ بِأُسْطُوَانَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ حَائِطِهِ، الْكُلُّ مِنْ الْخُلَاصَةِ وَمِنْ آفَاتِ الرِّجْلِ فِي حَقِّ الْمَسَاجِدِ أَيْضًا إدْخَالُ الْمَيِّتِ فِيهَا وَإِدْخَالُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ حَيْثُ غَلَبَ تَنْجِيسُهُمْ حَرَامٌ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ وَيُكْرَهُ أَيْضًا الدُّخُولُ لِلصِّنَاعَةِ مِنْ خِيَاطَةٍ وَكِتَابَةٍ بِأَجْرٍ وَتَعْلِيمِ صِبْيَانٍ بِأَجْرٍ وَدُخُولِ مَنْ أَكَلَ

ذَا رِيحٍ كَرِيهٍ. (وَ) مِنْ آفَاتِ الرِّجْلِ (مَدُّ الرِّجْلِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَالْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الشَّرِيعَةِ فِي النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ إذَا كَانَا) أَيْ الْمُصْحَفُ وَكُتُبُ الشَّرِيعَةِ (فِي حِذَائِهَا دُونَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ الْفَوْقِ) فِي التَّتَارْخَانِيَّة سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَدِّ الرِّجْلِ إلَى الْقِبْلَةِ حَالَةَ النَّوْمِ فِي بَيْتِهِ هَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا فَقَالَ لَا، وَعَنْ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي النَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا إلَى الْمُصْحَفِ وَالْكُتُبِ (وَوَضْعُهَا) أَيْ الرِّجْلِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ (عَلَيْهِمَا) عَلَى الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الشَّرِيعَةِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَتَوَسُّدُ الْكِتَابِ وَالْجُلُوسُ عَلَى جُوَالِقٍ فِيهِ مُصْحَفٌ إنْ لِلْحِفْظِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ (وَعَلَى الْخُبْزِ) الْمُكَرَّمِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ» . (وَضَرْبُ أَحَدٍ) مِنْ ذِي رُوحٍ (بِهَا) أَيْ بِالرِّجْلِ (وَلَوْ) كَانَ ذَلِكَ الْأَحَدُ (حَيَوَانًا) فَفِي الضَّمِيرِ تَأْوِيلٌ كَالِاسْتِخْدَامِ أَوْ يُطْلَقُ الْأَحَدُ عَلَى الْحَيَوَانِ (بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَحَقٍّ) ، فَإِنْ بِذَنْبٍ آدَمِيًّا مُكَلَّفًا فَتَضْرِبُهُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ إنْ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ وَإِلَّا فَيُحِيلُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ عَلَى قَاعِدَةِ نَهْيِ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ حَيَوَانًا فَيَضْرِبُهُ عَلَى قَدْرِ تَأْدِيبِهِ بِلَا مُبَالَغَةٍ (وَنِفَارُهُ) أَيْ فِرَارُهُ (ذَنْبٌ) فَيُضْرَبُ بِرِجْلِهِ كَمَا بِغَيْرِهَا (لِإِعْثَارِهِ) أَيْ زَلَّةٍ وَسُقُوطٍ (وَيَجْتَنِبُ كُلَّ الْجَهْدِ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ؛ لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنْ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَكُلٍّ مُضَافًا إلَيْهِ نَحْوُ - {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129]- يَعْنِي يَجْتَهِدُ اجْتِهَادًا كَامِلًا وَيَحْتَرِزُ احْتِرَازًا مُبَالَغًا. (مِنْ حَقِّ الْحَيَوَانِ) لِانْسِدَادِ طُرُقِ التَّحْلِيلِ وَالْإِرْضَاءِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا الْعَذَابُ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ) وَأَمْكَنَ عَفْوُهُ تَعَالَى فِي نَفْسِهِ لَكِنْ حُكْمُ شَرِيعَتِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْعَفْوِ وَلِذَا حَكَمُوا بِتَعَيُّنِ الْعَذَابِ وَفِي قَاضِي خَانْ وَمِنْ هَذَا قَالُوا إنَّ خُصُومَةَ الدَّابَّةِ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْآدَمِيِّ عَلَى الْآدَمِيِّ انْتَهَى. فَيَلْزَمُ الِاهْتِمَامُ فَلَا يُقْتَلُ وَلَا يُضْرَبُ بِلَا عُذْرٍ وَمَعَ الْعُذْرِ لَا يُضْرَبُ وَجْهُهُ فَلَا يُحْمَلُ وَلَا يُرْكَبُ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَلَا يُتْرَكُ عَلَفُهُ وَشُرْبُهُ وَلَا يُرْدَفُ بِلَا طَاقَتِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَقْتَصُّ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ لِظَاهِرِ حَدِيثِ «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ تَنْطَحُهَا» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ إجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ قَالُوا وَلَيْسَ شَرْطُ الْحَشْرِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ لِلْجَلْحَاءِ فَلَيْسَ مِنْ قِصَاصِ التَّكْلِيفِ بَلْ قِصَاصُ مُقَابَلَةٍ انْتَهَى. فَانْظُرْ إذَا اقْتَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي حُقُوقِ بَعْضِ الْحَيَوَانِ لِبَعْضٍ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ فِيهِ فَكَيْفَ يُهْمِلُ فِي حُقُوقِ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ إنْسَانٌ مَعَ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا (وَكَذَا الذِّمِّيُّ) ، وَكَذَا الْمُسْتَأْمَنُ بَلْ الْحَرْبِيُّ عِنْدَ الصُّلْحِ (إنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ) فَيَحِلُّ (فِي الدُّنْيَا) وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الِاسْتِحْلَالِ لَيْسَ بِمُفِيدٍ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ عَلَى مَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ أَيْ إنْ لَمْ يَحِلَّ الذِّمِّيُّ فِي التَّتَارْخَانِيَّة. عَلَاقَةُ الْكَافِرِ أَشَدُّ مِنْ عَلَاقَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ أَنْ يُعْطَى ثَوَابَ الْمُسْلِمِ وَلَا وَجْهَ أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَبَالُ كُفْرِهِ فَيُعَاقَبُ عُقُوبَتَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا نُقِلَ عَنْ قَاضِي خَانْ آنِفًا وَنُقِلَ عَنْ الْحَاشِيَةِ هُنَا اعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَحَدُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ: الْإِعْطَاءُ مِنْ حَسَنَاتِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ إنْ وُجِدَتْ وَإِلَّا أَوْ لَمْ تَفِ فَيُحْمَلُ إثْمُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ عَلَيْهِ وَإِدْخَالُهُ فِي النَّارِ بَدَلَهُ أَوْ إعْطَاءُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَفَضُّلًا وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا لِعَدَمِ دُخُولِهِمَا الْجَنَّةَ فَلَا فَائِدَةَ لَهُمَا فِي إعْطَاءِ الْحَسَنَاتِ وَالدَّرَجَاتِ، وَعَدَمُ إمْكَانِ تَحَمُّلِ إثْمِهِمَا لِعَدَمِ الْإِثْمِ فِي الْحَيَوَانِ وَاقْتِضَاءِ إثْمِ الْكُفْرِ التَّأْبِيدَ فِي النَّارِ وَالْمُؤْمِنُ لَا يَتَأَبَّدُ فِيهَا وَلَيْسَ لِلْكَافِرِ سِوَى كُفْرِهِ

إثْمٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيدَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْفُرُوعِ. أَقُولُ إنْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الرِّوَايَةِ فَلَا مَجَالَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَإِنْ سُوِّغَ جَانِبُ الدِّرَايَةِ فَيَجُوزُ تَخْفِيفُ عَذَابِ الْكَافِرِ بِتَحَمُّلِ قُوَّةِ بَعْضِ وِزْرِهِ إلَى الْمُسْلِمِ مَثَلًا وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ عَذَابِ الْكُفَّارِ بَلْ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ تَعْذِيبِ الْمُسْلِمِ لِحَقِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْحَيَوَانِ مَرَاعِيَ عَلَى وَفْقِ اقْتِضَاءِ طَبِيعَتِهِ وَيَجْعَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ حَقِّهِ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ قُوَّةِ الرِّضَا عَنْهُ بِمُقَابَلَتِهَا وَبِمَا ذُكِرَ يَنْدَفِعُ مَا يَرِدُ أَنَّ الشَّهَادَةَ مَانِعَةٌ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَحُقُوقِ الْكَافِرِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ حَالُ مَنْ جُمِعَ فِيهِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]- وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَ) مِنْ آفَاتِ الرِّجْلِ (إتْلَافُ مَالٍ بِهَا) الظَّاهِرُ وَلَوْ مَالَ نَفْسِهِ لِلسَّرَفِ (وَإِتْيَانُ الظَّلَمَةِ) لِأَنَّ الظُّلْمَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَفْصَحِهَا شَنَاعَةً وَهُوَ سَبَبٌ لِخَرَابِ الْعَالَمِ وَهَلَاكِ الْعِبَادِ وَالْمُلْكُ يَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ وَلَا يَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ إتْيَانَ الظَّلَمَةِ مَيْلٌ لَهُمْ وَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113]- الْآيَةَ قِيلَ لَفْظُ ظَالِمٍ فِي الْقُرْآنِ هُوَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ إلَّا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ - {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]- قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ لَا تَمِيلُوا أَدْنَى الْمَيْلِ كَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ وَتَعْظِيمِ ذِكْرِهِمْ فَمَا ظَنُّك بِالْإِتْيَانِ إلَيْهِمْ وَالصُّحْبَةِ مَعَهُمْ وَالْأُلْفَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ بِهِمْ (وَأُمَرَاءِ زَمَانِنَا) ، وَعَنْ سُفْيَانَ فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُهُ إلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ الْمُلُوكَ قِيلَ مَنْ دَعَا لِظَالِمٍ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ كَمَا فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ عَنْ عُيُونِ التَّفَاسِيرِ وَفِيهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَبْغَضُ الْقُرَّاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ» ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ «خَيْرُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَ الْعُلَمَاءَ وَشَرُّ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَ الْأُمَرَاءَ» . «الْعُلَمَاءُ أَمُنَاءُ الرُّسُلِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يُخَالِطُوا السُّلْطَانَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ خَانُوا الرُّسُلَ فَاحْذَرُوهُمْ وَاعْتَزِلُوهُمْ» رَوَاهُ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَمُوَافَقَةَ الْفِتَنِ قِيلَ وَمَا هِيَ قَالَ أَبْوَابُ الْأُمَرَاءِ يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْأَمِيرِ فَيُصَدِّقُهُ بِالْكَذِبِ وَيَقُولُ مَا لَيْسَ فِيهِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَالِمٍ يَزُورُ عَامِلًا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ الرَّجُلَ لَيَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينُهُ وَيَخْرُجُ وَلَا دِينَ لَهُ. قِيلَ لَهُ لِمَ؟ قَالَ لِأَنَّهُ يُرْضِيهِ بِسَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الْفُضَيْلُ مَا ازْدَادَ رَجُلٌ مِنْ ذَوِي سُلْطَانٍ قُرْبًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ إذَا رَأَيْتُمْ عَالِمًا يَخْتَلِفُ إلَى الْأُمَرَاءِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لِصٌّ، وَقَالَ مَكْحُولٌ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ أَتَى بَابَ السُّلْطَانِ تَمَلُّقًا إلَيْهِ وَطَمَعًا بِمَا فِي يَدِهِ خَاضَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِعَدَدِ خُطَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ دُخُولُك إلَى الْمُلُوكِ يَدْعُوك إلَى ثَلَاثٍ: إيثَارُك رِضَاهُمْ وَتَعْظِيمُك دُنْيَاهُمْ وَتَزْكِيَتُك عَمَلَهُمْ، فَإِنْ فَعَلْت هَؤُلَاءِ فَقَدْ هَلَكَتْ مِنْ الْإِحْيَاءِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّاخِلَ عَلَى الْأُمَرَاءِ مُعَرَّضٌ لَأَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى إمَّا بِفِعْلِهِ أَوْ سُكُوتِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ أَوْ بِاعْتِقَادِهِ، وَقَدْ فُصِّلَ وَوَقَعَ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى سُلْطَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُ وَجَاءَ خَلْوَتَهُ وَدَخَلَ الْخَلَاءَ، وَفِي يَدِهِ شَمْعٌ فَارْتَفَعَ عَنْهُ شَرَارَةُ نَارٍ فَأَحْرَقَتْ لِحْيَتَهُ وَوَجْهَهُ فَخَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ مُسْرِعًا وَهُوَ يُنَادِي - {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]-. (وَقُضَاتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ " مج " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا أَنَّ «أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَقُولُونَ نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ»

بَعْضَ دُنْيَاهُمْ «وَنَعْتَزِلُهُمْ» بِقُلُوبِنَا «بُغْضًا» لِمَا فِيهِمْ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ «وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ» أَيْ مُتَمَنَّاهُمْ يَعْنِي يَقُولُونَ نَأْتِي الْأُمَرَاءَ لَأَنْ نَأْخُذَ مِنْ دُنْيَاهُمْ قَدْرَ مَا يَدْفَعُ ضَرُورَتَنَا فِي مَعَاشِنَا وَلَا نُخَالِطُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ بَلْ نَعْتَزِلُهُمْ وَنَتْرُكُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَوْزَارِ فَأَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ مُتَمَنَّاهُمْ أَمْرٌ مُتَعَذِّرٌ، ثُمَّ أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ «كَمَا لَا يُجْتَنَى» فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ وَالْأَخْذِ «مِنْ الْقَتَادِ» وَفُسِّرَ بِالشَّجَرِ الْمُسَمَّى بِأُمِّ غَيْلَانَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْمِثْلِ هَذَا أَصْعَبُ مِنْ خَرْطِ الْقَتَادِ «إلَّا الشَّوْكَ كَذَلِكَ» أَيْ كَعَدَمِ جَنْيِ غَيْرِ الشَّوْكِ مِنْ الْقَتَادِ «لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ إلَّا» كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّيَّادِ يَعْنِي) يُرِيدُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُسْتَثْنَى الْمَحْذُوفِ «الْخَطَايَا» وَكَانَ فِي حَذْفِهِ التَّهْوِيلُ أَوْ التَّعْمِيمُ حَاصِلُهُ فَلَا يُجْتَنَى مِنْ مُجَالَسَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ خَيْرٌ دِينِيٌّ لِغَلَبَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ فَالْبُعْدُ عَنْهُمْ سَعْدٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ابْنُ الصِّيَاحِ بَدَلَ الصَّيَّادِ لَعَلَّهُ هُوَ الْأَنْسَبُ وَقَعَ فِي مَجْمُوعَةِ الشَّيْخِ الْوَالِدِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِغُفْرَانِهِ بِخَطِّهِ كَانَ الْبَيْضَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى مِنْ مَحَلَّةٍ بِشِيرَازَ مُسَمَّاةٍ بِالْبَيْضَاءِ، وَلَمَّا أَجَادَ فِي الْأَدَبِيَّةِ وَاسْتَفَادَ وَأَفَادَ فِي الْعَرَبِيَّةِ ارْتَحَلَ إلَى تَبْرِيزَ لِيُنَصَّبَ مَنْصِبَ الْقُضَاةِ فَلَمَّا طَالَتْ مُدَّةُ مُلَازَمَتِهِ اسْتَشْفَعَ مِنْ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الكحجاني فَقَالَ عِنْدَ إتْيَانِ السُّلْطَانِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَادَتِهِ إنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَالِمٌ فَاضِلٌ مُجْتَهِدٌ كَامِلٌ وَفَقِيرٌ حَقِيرٌ يُرِيدُ الِاشْتِرَاكَ مَعَ الْأَمِيرِ فِي السَّعِيرِ يَعْنِي يَطْلُبُ مِنْكُمْ مِقْدَارَ سَجَّادَةٍ فِي النَّارِ وَهُوَ مَجْلِسُ الْحُكْمِ قَالَ السُّلْطَانُ عَلَى رَأْسِي وَأَمَرَ الْكُتَّابَ فَكَتَبُوهُ وَسَلَّمُوهُ قَضَاءَ فَارِسَ وَالْعِرَاقِ فَلَمَّا ذَهَبَ مِنْ عِنْدِ السُّلْطَانِ تَأَثَّرَ وَبَكَى غَايَةَ الْبُكَاءِ بِتَأْثِيرِ كَلَامِ الْعَارِفِ وَتَرَكَ الْمَنَاصِبَ الْفَانِيَةَ وَاخْتَارَ الْمَنَاصِبَ الْعَالِيَةَ الْبَاقِيَةَ وَلَازَمَ الْخِدْمَةَ وَالْخَلْوَةَ وَالرِّيَاضَةَ التَّامَّةَ حَتَّى ذَاقَ مِنْ كَأْسِ الْعِشْقِ الْإِلَهِيِّ وَسَكِرَ مِنْ شُرْبِ الْوِصَالِ الْحَقِيقِيِّ وَصَنَّفَ تَفْسِيرَهُ بِإِشَارَةِ شَيْخِهِ وَمَاتَ خَلِيفَةً فِي سَجَّادَتِهِ وَدُفِنَ عِنْدَ قَدَمِ شَيْخِهِ (حَدّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مَرْفُوعًا «مَنْ بَدَا» أَيْ سَكَنَ فِي الْبَادِيَةِ «جَفَا» صَارَ جَافِيًا قَاسِيَ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَاتِ وَمَجْلِسَ الْعُلَمَاءِ وَصُحْبَةَ الصُّلَحَاءِ «وَمَنْ تَبِعَ الصَّيْدَ» بِاعْتِيَادِهِ لَا سِيَّمَا لِلَّهْوِ «غَفَلَ» عَمَّا يَهُمُّهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ بَلْ الدُّنْيَا «وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ» بِلَا ضَرُورَةٍ «اُفْتُتِنَ» يَقَعُ فِي الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ عَلَيْهِمْ إمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى تَجَمُّلِهِمْ فَيَزْدَرِي نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يُهْمِلَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُوبِهِ فَيَلْزَمَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ أَوْ يُنْكِرَ فَيَضِيقُ صُدُورُهُمْ بِإِظْهَارِ ظُلْمِهِمْ وَتَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يَطْمَعَ فِي دُنْيَاهُمْ وَذَلِكَ هُوَ السُّحْتُ «وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنْ السُّلْطَانِ قُرْبًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بُعْدًا» فَعَلَى قَدْرِ قُرْبِ السُّلْطَانِ قَدْرُ بُعْدِ الْغُفْرَانِ لِعَدَمِ الْخَلَيَانِ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ وَالطُّغْيَانِ (ت س عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أُعِيذُك يَا كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ مِنْ أُمَرَاءَ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي فَمَنْ غَشِيَ» أَيْ جَاءَ وَذَهَبَ «أَبْوَابَهُمْ فَصَدَّقَهُمْ فِي كَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ» وَلَوْ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ الْمَقْدُورِ وَالتَّحْسِينِ «فَلَيْسَ مِنِّي»

مِنْ عَامِلِ شَرِيعَتِي وَالْمَهْدِيِّ بِهِدَايَتِي «وَلَسْت مِنْهُ وَلَا يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ» بِدُونِ تَطَهُّرٍ مِنْهُ إمَّا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِحْلَالِ فِي الدُّنْيَا أَوْ بِالْإِحْرَاقِ فِي الْعُقْبَى إذْ عَفْوُهُ تَعَالَى أَمْرٌ احْتِمَالِيٌّ «وَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ أَوْ لَمْ يَغْشَ» أَيْ أَبْوَابَهُمْ «فَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ فِي كَذِبِهِمْ» يَشْمَلُ الْمَدْحَ بِغَيْرِ الْوَاقِعِ «وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ» بَلْ عَلَى دَفْعِ ظُلْمِهِمْ «فَهُوَ مِنِّي» مِنْ جَمَاعَتِي وَمِنْ النَّائِلِينَ لِشَفَاعَتِي «وَأَنَا» رَاضٍ «مِنْهُ وَسَيَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ» فَيَسْتَبْشِرُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ إذْ لَا يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ إلَّا الْمُؤْمِنُ (وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ) تَنْزِيهًا (فِي الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ كَالْمَسْجِدِ وَالدَّارِ) لِشَرَفِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَحْوِ الْخَلَاءِ (بِالرِّجْلِ الْيُسْرَى وَ) فِي (الْمَوَاضِعِ الْخَسِيسَةِ كَالْخَلَاءِ وَالْحَمَّامِ بِ) الرِّجْلِ (الْيُمْنَى وَالسُّنَّةُ عَكْسُ هَذَا) أَيْ السُّنَّةُ فِي الْمَوَاضِعِ الْخَسِيسَةِ بِالرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَفِي الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ بِالرِّجْلِ الْيُمْنَى (وَالْخُرُوجُ عَكْسُ الدُّخُولِ) فَيَخْرُجُ مِنْ الشَّرِيفَةِ بِتَقْدِيمِ الْيُسْرَى، وَفِي الْخَسِيسَةِ بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى (وَلُبْسُ النَّعْلِ وَالْخُفِّ وَإِخْرَاجُهُمَا عَلَى هَذَا) الْأُسْلُوبِ (فَالرِّجْلُ كَالْيَدِ) فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ (، وَقَدْ ذَكَرْنَا) حُكْمَهَا فِي آفَاتِ الْيَدِ فَتَذَكَّرَ. (وَ) مِنْ آفَاتِ الرِّجْلِ (الدُّخُولُ عَلَى الْأَهْلِ بَغْتَةً عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ) لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَمَّا الْقُدُومُ عَلَيْهَا مِنْ أَقَلِّ مُدَّتِهِ فَيَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ (خ م عَنْ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ إذَا جِئْت مِنْ سَفَرٍ» الظَّاهِرُ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِتَعْلِيلِهِ وَمَنْ قَالَ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا كَمَا تُؤْذِنُ بِهِ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقٍ إلَخْ فَقَدْ سَهَا سَهْوَيْنِ ( «فَلَا تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِك حَتَّى تَسْتَحِدَّ» أَيْ تَحْلِقَ الْعَانَةَ ( «الْمُغَيَّبَةُ» بِضَمِّ الْمِيمِ الْمَرْأَةُ الَّتِي غَابَ زَوْجُهَا «وَتَمْتَشِطَ» أَيْ تَسْتَعْمِلَ الْمُشْطَ بِشَعْرِ رَأْسِهَا ( «الشَّعِثَةُ» الْمُتَفَرِّقَةُ الشَّعْرَ ( «وَعَلَيْك بِالْكَيْسِ» بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ طَلَبُ الْوَلَدِ بِالْجِمَاعِ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْكَيْسُ الْجِمَاعُ (وَفِي رِوَايَةٍ «إذَا أَطَالَ أَحَدُكُمْ الْغِيبَةَ فَلَا يَطْرُقَنَّ» أَيْ لَا يَأْتِيَنَّ «أَهْلَهُ لَيْلًا» بَلْ اللَّائِقُ أَنْ يَجِيءَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ نَهَارًا لِيَبْلُغَ خَبَرُ مَجِيئِهِ إلَى زَوْجَاتِهِ فَتَجْعَلْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ نَظَافَةً كَيْ لَا تَنْفِرَ طِبَاعُ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْهُنَّ بِتَرْكِ التَّنْظِيفِ. (وَ) يُكْرَهُ (تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يَرَ فِي الصُّفُوفِ الْأُولَى فُرْجَةً) وَأَمَّا إذَا رَأَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ لِعَدَمِ سَدِّهِمْ الْفُرْجَةَ الْمَأْمُورَ بِسَدِّهَا سَقَطَتْ حُرْمَتُهُمْ وَلِإِحْرَازِ فَضْلِ تِلْكَ الصُّفُوفِ وَلِزَجْرِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ سُنَّةِ الصَّفِّ وَقِيلَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا لَاسْتَهَمُوا» ، وَفِي أَكْمَلِ الْمَشَارِقِ وَالْحَقُّ أَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ هُوَ مَا يَلِي الْإِمَامَ سَوَاءٌ جَاءَ صَاحِبُهُ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا وَسَوَاءٌ تَخَلَّلَهُ مَقْصُورَةٌ وَنَحْوُهَا أَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ» فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَهَبَ لِفَسَادِ صَلَاتِهِ

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُعَدَّلِ الْمُصَنِّفِ (ت مج عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ» مَنْ تَجَاوَزَ رِقَابَهُمْ «يَوْمَ الْجُمُعَةِ» مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ لِكَثْرَتِهِ عَادَةً فِيهَا فَلَا يَحِلُّ الْقَرِيبُ مِنْهُ بَلْ يُقَالُ يُفْهَمُ السَّائِرُ بِالْمُقَايَسَةِ بَلْ بِالدَّلَالَةِ «اتَّخَذَ» بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ «جِسْرًا إلَى جَهَنَّمَ» اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ جِسْرًا يَمُرُّ عَلَيْهِ إلَى جَهَنَّمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَبِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ يُجْعَلُ جِسْرًا يَمُرُّ عَلَيْهِ مَنْ يُسَاقُ إلَى جَهَنَّمَ جَزَاءً لِكُلٍّ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُجْعَلُ جِسْرًا عَلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ لِيُوطَأَ وَيُتَخَطَّى كَمَا تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، وَعَنْ الطِّيبِيِّ قَوْلُهُ إلَى جَهَنَّمِ صِفَةُ جِسْرًا أَيْ جِسْرًا مُمْتَدًّا إلَى جَهَنَّمَ وَالتَّخَطِّي حَرَامٌ تَارَةً وَمَكْرُوهٌ أُخْرَى وَتَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ فِيهِ رُشْدُ بْنُ أَبِي سَعْدٍ ضَعَّفُوهُ كَمَا فِي الْفَيْضِ، وَعَنْ النِّصَابِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَأَنْ أَشْرَبَ قَدَحًا مِنْ النَّارِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَشْرَبَ قَدَحًا مِنْ خَمْرٍ وَلَأَنْ أَشْرَبَ قَدَحًا مِنْ خَمْرٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتْرُكَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَلَأَنْ أَتْرُكَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ. (وَأَمَّا الْمَعَاصِي الْعَدَمِيَّةُ) مِنْ الرِّجْلِ (فَالْقُعُودُ عَنْ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ وَالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ) سِيَّمَا وَقْتُ انْحِصَارِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (وَ) عَنْ (الْحَجِّ وَالْجِهَادِ الْفَرْضَيْنِ) يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا كَالْأَوَّلَيْنِ (وَ) عَنْ (الدَّعْوَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مُنْكَرٌ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْبَعْضِ، سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْبَعْضِ " خ م " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ» أَيْ وَلِيمَةُ الْعُرْسِ؛ لِأَنَّهَا الْمَعْهُودَةُ. سَمَّاهُ شَرًّا عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهَا فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ الْأَغْنِيَاءَ وَيَدَعُونَ الْفُقَرَاءَ كَمَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ «يُدْعَى إلَيْهَا الْأَغْنِيَاءُ» تَفَاخُرًا بِهِمْ أَوْ نَيْلًا لِمَا عِنْدَهُمْ «وَيُتْرَكُ الْمَسَاكِينُ» ، وَفِي الْجَامِعِ يَمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا وَيُدْعَى إلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا «وَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . قَالَ الْمُنَاوِيُّ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ وَمَنْ تَأَوَّلَهُ بِتَرْكِ النَّدْبِ فَقَدْ أَبْعَدَ وَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ الْإِجَابَةَ إلَى الْوَلِيمَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَغْنِيَاءِ وَاجِبَةٌ وَحَاصِلُ مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقَوْلِ الطِّيبِيِّ الْإِجَابَةُ وَاجِبَةٌ إلَّا إذَا خَصَّ الْأَغْنِيَاءَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إلَّا إذَا خَصُّوا الْجِوَارَ أَوْ لِاجْتِمَاعِ حِرْفَةٍ وَالْحَاصِلُ فَمَا جَعَلُوا لِلرِّيَاءِ فَلَا يُجِيبُ وَمَا لِلتَّوَاصُلِ وَالتَّحَابُبِ فَيُجِيبُ، وَلَا وُجُوبَ فِي غَيْرِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ مُطْلَقًا انْتَهَى. (م د عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ» وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْأَمْرِ الْإِيجَابُ لَكِنْ مَا ذُكِرَ آنِفًا يَقْتَضِي النَّدْبَ وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَحْتَمِلُهُمَا (وَفِي رِوَايَةِ م «إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ إلَى كُرَاعِ» يَدِ الشَّاةِ «فَأَجِيبُوا» قِيلَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ لِحَدِيثِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فَلَا بَأْسَ بِالتَّخَلُّفِ

عَنْ الْإِجَابَة كَمَا فِي الْمَبَارِقِ (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ» أَيْ الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مُلَاءَمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وُجُوبُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ أَوْ نَدْبٍ «رَدُّ السَّلَامِ» وَاجِبٌ عَيْنًا إنْ وَاحِدًا، أَوْ كِفَايَةً إنْ جَمَاعَةً قِيلَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مَعْنَاهُ الْأَمَانُ فَإِذَا ابْتَدَأَ بِهِ أَخَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ تَوَهَّمَ مِنْهُ الشَّرَّ فَوَجَبَ دَفْعُ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ بِالرَّدِّ «وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ» الْمُسْلِمِ فَوَاجِبَةٌ عَيْنًا حَيْثُ لَا مُتَعَهِّدَ لَهُ وَإِلَّا فَكِفَايَةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ «وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ» فَرْضُ كِفَايَةٍ كَرَدِّ السَّلَامِ «وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ» إنْ وَلِيمَةَ عُرْسٍ وَجَبَتْ أَوْ لِغَيْرِهَا أَوْ لِنَحْوِ إعَانَةٍ نُدِبَتْ كَمَا عَرَفْت آنِفًا وَلَكِنَّ صَنِيعَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مُطْلَقَ الْإِجَابَةِ لِمُطْلَقِ الدَّعْوَةِ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهَذِهِ هِيَ مَحَلُّ الِاسْتِشْهَادِ «وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» أَيْ الدُّعَاءُ لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ إذَا حَمِدَ. قَالَ الطِّيبِيُّ يَجُوزُ عَطْفُ السُّنَّةِ عَلَى الْوَاجِبِ إنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَعَلَّ هَذَا الِاعْتِذَارَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ اقْتِضَاءِ الِاقْتِرَانِ فِي النَّظْمِ الِاقْتِرَانَ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُحْتَاجُ عِنْدَنَا. قَالَ الْبَغَوِيّ وَهَذِهِ كُلُّهَا يَسْتَوِي فِيهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ (تَنْبِيهٌ) : قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَيْك بِرِعَايَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَغَيْرِهَا بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَقُلْ هَذَا ذُو سُلْطَانٍ وَجَاهٍ وَمَالٍ وَهَذَا فَقِيرٌ وَحَقِيرٌ وَلَا تُحَقِّرْ صَغِيرًا وَاجْعَلْ الْإِسْلَامَ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَالْمُسْلِمِينَ كَالْأَعْضَاءِ لِذَلِكَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا بِالْأَعْضَاءِ وَجَمِيعِ قُوَاهُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. (تَتِمَّةٌ) قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ إذَا رَاعَيْت حَقَّ الْمُسْلِمِ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤْتِيك أَجْرَك مَرَّتَيْنِ مِنْ حَيْثُ مَا أَدَّيْت مِنْ حَقِّهِ وَمِنْ حَيْثُ مَا أَدَّيْت حَقَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْك حَقُّهُ مِنْ خَلْقِهِ (د عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ» مِنْ أَهْلِهِ «دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا» مِنْ الْإِغَارَةِ مِنْ الْمُقْتَدَى بِهِ أَوَّلًا، وَفِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ مُسْلِمٍ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَيْضًا «مَنْ دُعِيَ إلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ كَخِتَانٍ وَعَقِيقَةٍ فَلْيُجِبْ» قَالَ شَارِحُهُ وُجُوبًا فِي الْعُرْسِ وَنَدْبًا فِي غَيْرِهِ وَوُجُوبًا مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحْبِ وَالتَّابِعِينَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ فَقَالَ رَجُلٌ اعْفِنِي فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إنَّهُ لَا عَافِيَةَ لَك مِنْ هَذَا فَقُمْ. وَجَزَمَ بِاخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِوَلِيمَةِ النِّكَاحِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَالَغَ السَّرَخْسِيُّ مِنْهُمْ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا عَلَى تَخْرِيجِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ إذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ» ؛ لِأَنَّ عَدَمَ السَّلَامِ احْتِقَارٌ لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَعَظَّمَهُ وَشَرَّفَهُ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ وَالذُّنُوبِ الْعَظَائِمِ، وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ بِلَا تَقْصِيرٍ فِي الْإِرْشَادِ وَبَذْلِ الْجَهْدِ لَكِنْ لَا يُشِيرُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشَارَ وَلَا يَتَبَرَّعْ بِالرَّأْيِ فَيَكُونَ رَأْيُهُ مُتَّهَمًا أَوْ مَطْرُوحًا، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ وُجُوبًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضُ عَيْنٍ، «وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ» وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، «وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ» ، وَإِنْ صَحِبْته إلَى الدَّفْنِ كَانَ أَوْلَى. (تَنْبِيهٌ) مَفْهُومُ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ فَذِكْرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا قَبْلَهُ لَا يَنْفِي الزَّائِدَ فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ حُقُوقًا أُخْرَى مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا كَمَا فِي رَوْضِ الْأَفْكَارِ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ثَلَاثُونَ حَقًّا لَا بَرَاءَةَ لَهُ مِنْهَا إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ الْعَفْوِ: يَغْفِرُ زَلَّتَهُ، وَيَرْحَمُ عَبْرَتَهُ، وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَيُقِيلُ عَثْرَتَهُ، وَيَقْبَلُ مَعْذِرَتَهُ، وَيَرُدُّ غَيْبَتَهُ، وَيُدِيمُ نَصِيحَتَهُ، وَيَحْفَظُ خُلَّتَهُ، وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ، وَيُجَدِّدُ مَوَدَّتَهُ، وَيَشْهَدُ مَيِّتَهُ، وَيُجِيبُ دَعْوَتَهُ، وَيَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ، وَيُكَافِئُ صِلَتَهُ، وَيَشْكُرُ نِعْمَتَهُ، وَيُحْسِنُ نُصْرَتَهُ، وَيَحْفَظُ حَلِيلَتَهُ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ، وَيَشْفَعُ مَسْأَلَتَهُ، وَيُطَيِّبُ كَلَامَهُ، وَيُسَيِّرُ أَنْعَامَهُ، وَيُصَدِّقُ أَقْسَامَهُ، وَيَنْصُرُهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، وَيُوَالِيهِ وَلَا يُعَادِيهِ، وَيُحِبُّ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُ مِنْ الشَّرِّ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ انْتَهَى. (وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ثَمَّةَ) مَوْضِعَ الْوَلِيمَةِ (لَعِبًا أَوْ غِنَاءً) غَيْرَ مَشْرُوعٍ (أَوْ نَحْوَهُمَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ لَا يَجُوزُ الذَّهَابُ مُطْلَقًا) مُقْتَدًى بِهِ أَوْ لَا، عَلَى الْمَائِدَةِ أَوْ لَا، مَرْئِيًّا أَوْ لَا

(وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَوَجَدَ ثَمَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَغْيِيرِهِ وَكَانَ مُقْتَدًى بِهِ يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ وَلَا يَقْعُدَ مُطْلَقًا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدِيًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَائِدَةِ أَوْ عَلَى مَرْأًى مِنْهُ لَا يَقْعُدُ وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ بِالْقُعُودِ وَالْأَكْلِ) ، وَقَدْ فُصِّلَ قَبْلُ. (وَإِنْ كَانَ الدَّاعِي فَاسِقًا مُعْلِنًا يَجُوزُ أَنْ لَا يُجِيبَهُ) وَبِالْجُمْلَةِ إذَا كَانَ الدَّاعِي فَاسِقًا مُعْلِنًا أَوْ أَهْلَ رِبًا أَوْ أُمَرَاءَ زَمَانِنَا أَوْ قُضَاتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مُنْكَرٌ تَسْقُطُ سُنِّيَّةُ الْإِجَابَةِ بَلْ يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ (ثُمَّ الْإِجَابَةُ تَتَحَقَّقُ بِالدُّخُولِ وَالْقُعُودِ فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْكُلَ لَوْ كَانَ غَيْرَ صَائِمٍ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ) وَلَوْ كَانَ صَائِمًا، فَإِنْ نَفْلًا وَكَانَتْ قَبْلَ الظُّهْرِ فَالْأَفْضَلُ الْأَكْلُ وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْ الْمِنَحِ عَنْ الظَّهِيرِيَّةِ وَالصَّحِيحُ إنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ رَاضِيًا بِمُجَرَّدِ الْحُضُورِ بِلَا أَكْلٍ وَلَا يَتَأَذَّى لَا يُفْطِرُ، وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ وَأَحْسَنُ مَا فِي الْبَابِ إنْ وَثِقَ بِالضِّيَافَةِ يُفْطِرُ دَفْعًا لِلْأَذَى عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَيُبَاحُ الْفِطْرُ بِعُذْرِ الضِّيَافَةِ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَجِبْ أَخَاك وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» ، وَعَنْ النَّظْمِ الْأَفْضَلُ أَنْ يُفْطِرَ وَلَا يَقُولَ أَنَا صَائِمٌ لِئَلَّا يَقِفَ عَلَى سِرِّهِ أَحَدٌ، وَفِي الدُّرَرِ وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ يَعْنِي عَلَى الْأَظْهَرِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعُذْرٍ وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ الْمُضِيفَ وَالضَّيْفَ. (وَالْقُعُودُ عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ) عِنْدَ شُرُوطِهِمَا (وَ) عَنْ (إعَانَةِ الْمَظْلُومِ وَالسَّعْيِ فِي حَاجَةِ الْعَاجِزِ) لَعَلَّك سَمِعْت قَبْلُ أَنَّ الْحَسَنَ أَمَرَ ثَابِتًا بِالْمَشْيِ فِي حَاجَةٍ فَقَالَ أَنَا مُعْتَكِفٌ فَقَالَ يَا أَعْمَشُ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ مَشْيَك فِي حَاجَةِ أَخِيك خَيْرٌ لَك مِنْ حِجَّةٍ بَعْدَ حِجَّةٍ وَأُخِذَ مِنْهُ وَمِمَّا قَبْلَهُ أَنْ يَتَأَكَّدَ لِلشَّيْخِ السَّعْيُ فِي مَصَالِحِ طَلَبَتِهِ وَمُسَاعَدَتُهُمْ بِجَاهِهِ وَمَالِهِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ عِنْدَ حَدِيثِ «مَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَاجَةً كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَمَنْ خَدَمَ اللَّهَ عُمْرَهُ» (وَعَنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ، وَإِنْقَاذِ إنْسَانٍ) مِنْ كَافِرٍ أَوْ ظَالِمٍ أَوْ سَبُعٍ أَوْ مَهْلَكَةٍ مِنْ نَحْوِ مَاءٍ أَوْ نَارٍ أَوْ رِيحٍ (أَوْ مَالٍ بِصَدَدِ الْهَلَاكِ بِالسُّقُوطِ أَوْ الْغَرَقِ أَوْ الْحَرْقِ أَوْ نَحْوِهَا لِلْقَادِرِ) قَيْدٌ لِلْجَمِيعِ (مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ مُتَعَيِّنٍ) صِفَةٌ لِلْقَادِرِ وَالتَّعَيُّنُ يَحْصُلُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ (إمَّا لِعَدَمِ غَيْرِهِ أَوْ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ) أَيْ التَّغَيُّرِ (أَوْ لِإِهْمَالِهِ) مَعَ الْقُدْرَةِ (وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ لِدِينِهِ) فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ عَنْهُ بِوُجُودِهِمْ (وَأَمَّا الْمَشْيُ لِصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْعِيَادَةِ وَالزِّيَارَةِ وَالتَّهْنِئَةِ وَالتَّعْزِيَةِ فَمِنْ السُّنَنِ الْمُسْتَحَبَّةِ) فَإِنَّ وُجُوبَ صِلَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْمَشْيِ كَالسَّلَامِ وَالْمَكْتُوبِ وَالْهَدِيَّةِ (وَمِنْهَا قُعُودُ الْأَجِيرِ عَنْ خِدْمَةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمَمْلُوكِ عَنْ خِدْمَةِ الْمَالِكِ وَالزَّوْجَةِ

الصنف التاسع من التسعة في آفات البدن غير مختصة بعضو

عَنْ خِدْمَةِ دَاخِلِ الْبَيْتِ وَالْوَلَدِ عَنْ خِدْمَةِ الْوَالِدِ وَ) كَذَا (الرَّعِيَّةِ عَمَّا أَمَرَ الْوَالِي مِمَّا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ) إذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (إلَّا بِعُذْرٍ) . [الصِّنْفُ التَّاسِعُ مِنْ التِّسْعَةِ فِي آفَاتِ الْبَدَنِ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِعُضْوٍ] (الصِّنْفُ التَّاسِعُ) مِنْ التِّسْعَةِ (فِي آفَاتِ الْبَدَنِ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ مِمَّا ذُكِرَ) مِنْ الْأَعْضَاءِ الثَّمَانِيَةِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَالْعَيْنِ (وَهَذِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْهَا الرَّقْصُ) سَوَاءٌ فِي الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ (وَهُوَ الْحَرَكَةُ الْمَوْزُونَةُ وَالِاضْطِرَابُ) عَطْفٌ عَلَى الرَّقْصِ (وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْزُونَةِ فَكُلُّ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّقْصِ وَالِاضْطِرَابِ (مَنْ لَعِبَ غَيْرُ مُسْتَثْنًى) مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا الرَّمْيَ وَالْمُسَابَقَةَ وَالْمُلَاعَبَةَ لِأَهْلِهِ» (يَدْخُلُ فِيهِمَا) أَيْ النَّوْعَيْنِ (مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي زَمَانِنَا) بِلَا وَجْدٍ حَقِيقِيٍّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَرْتَفِعُ التَّكْلِيفُ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. (بَلْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمْ) أَيْ بَعْضُ صُوفِيَّةِ الْعَصْرِ (يَفْعَلُونَهُ عَلَى اعْتِقَادِ الْعِبَادَةِ) إمَّا بِتَصْرِيحِهِمْ أَوْ بِالْقَرَائِنِ الْقَطْعِيَّةِ مِنْهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ سُوءِ الظَّنِّ (فَيُخَافُ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ) وَهُوَ الْكُفْرُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَصَرِيحُ الْكُفْرِ عِنْدَ غَيْرِهِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ الْكِيلَانِيِّ وَالْبَزَّازِيِّ وَابْنِ كَمَالٍ بَاشَا كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْكَارُ الْإِجْمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي، وَعَنْ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ كَالشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ الْحَلَبِيِّ قَالَ لَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ أَنْكَرْت عَلَيْهِ الرَّقْصَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَمَا غَابَ عَنِّي لَا يُنْكِرُونَ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْنَا، وَقَدْ كَانَ هَذَا أَشَدَّ مِنْ ذَاكَ؛ لِأَنَّ شَارِبَهَا يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهَا فَرُبَّمَا يَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ وَفَاعِلُ ذَاكَ يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ عِبَادَةً فَلَا يَسْتَغْفِرُ بَلْ يَتَبَاهَى وَيَرْجُو مِنْ الْخَلْقِ الْمَنْزِلَةَ وَالتَّعْظِيمَ وَهَذَا مَا يُذْكَرُ عَنْ إبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ قَصَمْت ظُهُورَ بَنِي آدَمَ بِالْمَعَاصِي فَقَصَمُوا ظَهْرِي بِالِاسْتِغْفَارِ انْتَهَى. يَعْنِي لَهُمْ آفَتَانِ اعْتِقَادُ الْحَرَامِ حَلَالًا وَعَدَمُ التَّوْبَةِ، ثُمَّ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَ حُرْمَةِ الرَّقْصِ فِي الْمَذَاهِبِ فَقَالَ (قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ) قِيلَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَتِهِ عِنْدَهُ وَقِيلَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (قَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الرَّقْصِ فَقَالَ {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37]

أَيْ ذَا مَرَحٍ وَهُوَ الِاخْتِيَالُ - {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ} [الإسراء: 37]- لَنْ تَجْعَلَ فِيهَا خَرْقًا لِشِدَّةِ وَطْأَتِك - {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} [الإسراء: 37]- بِتَطَاوُلِك وَهُوَ تَهَكُّمٌ بِالْمُخْتَالِ وَتَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ بِأَنَّ الِاخْتِيَالَ حَمَاقَةٌ مُجَرَّدَةٌ (وَذَمِّ الْمُخْتَالِ) حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] (وَالرَّقْصُ أَشَدُّ الْمَرَحِ وَالْبَطَرِ) كَأَنَّهُ يَقُولُ الرَّقْصُ مَرَحٌ وَالْمَرَحُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ يُقَالُ الرَّقْصُ بَطَرٌ وَالْبَطِرُ مُخْتَالٌ وَالْمُخْتَالُ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ الْمَرَحِ هُوَ التَّكَبُّرُ ابْتِدَاءً أَوْ التَّحَرُّكُ لِأَجْلِ الْكِبْرِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ - {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ} [الإسراء: 37]- الْآيَةَ، وَالْمُخْتَالُ مُتَبَادِرٌ فِي التَّكَبُّرِ كَيْفَ وَلَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَوْنِ الْمَطْلُوبِ حَرَامًا قَطْعِيًّا وَبِالْجُمْلَةِ إنْ كَانَ ذَلِكَ حَاصِلَ أَثَرٍ فَلَا كَلَامَ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا يَخْلُو عَنْ الْكَلَامِ. (وَقَالَ الطُّرْطُوشِيُّ) مِنْ الْمَالِكِيَّةِ (حِينَ سُئِلَ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ أَمَّا الرَّقْصُ وَالتَّوَاجُدُ) إظْهَارُ الْوَجْدِ مَعَ عَدَمِهِ (فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ أَصْحَابُ السَّامِرِيِّ) مَنْسُوبٌ إلَى قَبِيلَةٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهَا السَّامِرَةُ وَاسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظُفْرٍ وَكَانَ مُنَافِقًا (لَمَّا اتَّخَذَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا) أَيْ اتَّخَذَ السَّامِرِيُّ لِبَنِي إسْرَائِيلَ عِنْدَ ذَهَابِ مُوسَى إلَى مِيعَادِ رَبِّهِ عِجْلًا جَسَدًا مِنْ ذَهَبٍ كَالْعِجْلِ رُوِيَ أَنَّ السَّامِرِيَّ لَمَّا صَاغَ الْعِجْلَ أَلْقَى فِي فَمِ الْعِجْلِ تُرَابًا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جَبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَدْ كَانَ أَخَذَهُ عِنْدَ فَلَقِ الْبَحْرِ أَوْ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ إلَى الطُّورِ فَصَارَ حَيًّا وَقِيلَ صَاغَهُ بِنَوْعٍ مِنْ الْحِيَلِ فَيُدْخِلُ الرِّيحَ فِي جَوْفِهِ فَيُصَوِّتُ (لَهُ خُوَارٌ) صَوْتٌ كَصَوْتِ الْبَقَرِ (قَامُوا) أَيْ أَصْحَابُ السَّامِرِيِّ (يَرْقُصُونَ عَلَيْهِ) فَرَحًا بِهِ (وَيَتَوَاجَدُونَ فَهُوَ) أَيْ الرَّقْصُ (دِينُ الْكُفَّارِ وَعُبَّادِ الْعِجْلِ وَقَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَةِ الرَّقْصِ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ. (الرَّقْصُ فِي السَّمَاعِ) أَيْ فِي حَالَةِ سَمَاعِ الْأَشْعَارِ أَوْ الْأَذْكَارِ أَوْ نَحْوِهِ، وَأَمَّا نَفْسُ السَّمَاعِ فَكَمَا سَمِعْت فِي التَّغَنِّي قَالَ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ سَمَاعَ الْأَشْعَارِ بِالْأَلْحَانِ وَالنَّغْمَةِ الْمُسْتَلَذَّةِ إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ الْمُسْتَمِعُ مَحْظُورًا وَلَمْ يَسْمَعْ عَلَى مَذْمُومٍ فِي الشَّرْعِ وَلَمْ يَنْجَرَّ عَلَى مَذْمُومِ هَوَاهُ وَلَمْ يَنْخَرِطْ فِي سِلْكِ لَهْوٍ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأَشْعَارَ أُنْشِدَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ سَمِعَهَا وَلَمْ يُنْكِرْ، ثُمَّ مَا يُوجِبُ لِلْمُسْتَمِعِ تَوْفِيرَ الرَّغْبَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَتَذَكُّرَ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ الدَّرَجَاتِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْ الزَّلَّاتِ وَيُؤَدِّي إلَى قَلْبِهِ فِي الْحَالِ صَفَاءَ الْوَارِدَاتِ مُسْتَحَبٌّ فِي الدِّينِ وَمُخْتَارٌ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الشِّعْرِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ حِينَ كَانُوا يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ يَقُولُونَ نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا فَأَجَابَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ ... فَأَكْرِمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ وَعَنْ الشِّبْلِيِّ السَّمَاعُ ظَاهِرُهُ فِتْنَةٌ وَبَاطِنُهُ عِبْرَةٌ (لَا يَجُوزُ) بَلْ يَحْرُمُ (وَفِي الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَقَالَ الْإِمَامُ الْبَزَّازِيُّ فِي فَتَاوَاهُ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ إنَّ هَذَا الْغِنَاءَ وَضَرْبَ الْقَضِيبِ) أَيْ الْعُودِ عَلَى وَتِيرَةٍ مَخْصُوصَةٍ (وَالرَّقْصَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ) أَيْ كِتَابِ الْقُرْطُبِيِّ (وَسَيِّدُ الطَّائِفَةِ) الصُّوفِيَّةِ (أَحْمَدُ النَّسَوِيُّ) يُقَالُ هُوَ دَاغِسْتَانِيٌّ

مَعْرُوفٌ بِالْوِلَايَةِ وَمَشْهُورٌ بِالْكَرَامَاتِ مُعَاصِرٌ لِحَضْرَةِ الْخَوَاجَةِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْفَجْدَوَانِيِّ حَكَوْا مُلَاطَفَةً غَرِيبَةً بَيْنَهُمَا (صَرَّحَ بِحُرْمَتِهِ) أَيْ الرَّقْصِ (وَرَأَيْت فَتْوَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ جَلَالِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ الْكِيلَانِيِّ أَنَّ مُسْتَحِلَّ هَذَا الرَّقْصِ كَافِرٌ) هَذِهِ فَتْوَاهُ وَوَجَّهَهُ بِقَوْلِهِ (وَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ حُرْمَتَهُ بِالْإِجْمَاعِ لَزِمَ أَنْ يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهُ) أَقُولُ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ إنْكَارُ كُلِّ إجْمَاعٍ كُفْرًا أَوْ عُلِمَ هَذَا الْإِجْمَاعُ مِنْ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَكُونُ إنْكَارُهُ كُفْرًا إذْ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ كَالْإِجْمَاعِ الَّذِي سَبَقَ فِيهِ خِلَافٌ أَوْ نُقِلَ إلَيْنَا بِغَيْرِ تَوَاتُرٍ، فَإِنْكَارُهُ لَيْسَ بِكُفْرٍ اتِّفَاقًا وَبَعْضُ الْإِجْمَاعِ قَطْعِيٌّ كَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَنُقِلَ إلَيْنَا تَوَاتُرًا، فَإِنْكَارُهُ كُفْرٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِكُفْرٍ عِنْدَ بَعْضٍ، وَكُفْرٌ إنْ مِنْ الضَّرُورَاتِ الدِّينِيَّةِ وَمُحْتَمِلٌ لِلْكُفْرِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الضَّرُورَاتِ الدِّينِيَّةِ. (وَلِلشَّيْخِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي كَشَّافِهِ كَلِمَاتٌ فِيهِمْ) فِي حَقِّهِمْ قِيلَ مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]- (يَقُومُ بِهَا) أَيْ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ (عَلَيْهِمْ الطَّامَّةُ) أَيْ الدَّاهِيَةُ الْعَظِيمَةُ قِيلَ هِيَ قَوْلُهُ فَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّتَهُ وَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ فَهُوَ كَذَّابٌ وَكِتَابُ اللَّهِ يُكَذِّبُهُ، وَإِذَا رَأَيْت مَنْ يَذْكُرُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَيُصَفِّقُ بِيَدَيْهِ مَعَ ذِكْرِهَا وَيَطْرَبُ وَيَنْعَرُ وَيُصْعَقُ فَلَا تَشُكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا اللَّهُ وَلَا يَدْرِي مَا مَحَبَّةُ اللَّهِ وَمَا تَصْفِيقُهُ وَطَرَبُهُ وَنَعْرَتُهُ وَصَعْقَتُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَوَّرَ فِي نَفْسِهِ الْخَبِيثَةِ صُورَةً مُسْتَمْلَحَةً مُعَشَّقَةً فَسَمَّاهَا اللَّهَ تَعَالَى بِجَهْلِهِ وَعَادَتِهِ، ثُمَّ صَفَّقَ وَطَرِبَ وَنَعَرَ وَصَعِقَ عَلَى تَصَوُّرِهَا، ثُمَّ إنَّ الِاحْتِجَاجَ بِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ اسْتِقْلَالِيٍّ وَابْتِدَائِيٍّ بَلْ لِتَأْيِيدِ مَا ثَبَتَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ لِإِقْنَاعِ الْخُصُومِ لَا لِتَحْقِيقِ الْمَقَامِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ أَعْرَفُ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَيُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَعْنًى لِلْقُرْآنِ أَوْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَرْوِيجِ مَذْهَبِهِ فَيُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ. (وَلِصَاحِبِ النِّهَايَةِ وَالْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ أَيْضًا أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ) تَشْنِيعًا وَتَقْبِيحًا (انْتَهَى) كَلَامُ الْبَزَّازِيِّ، وَعَنْ مُنِيرَةَ ابْنِ الْكَمَالِ عَنْ جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى السَّمَاعُ وَالرَّقْصُ الَّذِي تَفْعَلُهُ الصُّوفِيَّةُ فِي زَمَانِنَا حَرَامٌ وَلَا يَجُوزُ

الْجُلُوسُ مَعَهُمْ فِي مَجْلِسِهِمْ وَالرَّقْصُ وَالْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة سُئِلَ الْحَلْوَانِيُّ

عَمَّنْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِالصُّوفِيَّةِ فَاخْتَصُّوا بِنَوْعٍ لَبِسُوهُ وَاشْتَغَلُوا بِاللَّهْوِ وَالرَّقْصِ وَادَّعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ مَنْزِلَةً فَقَدْ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. وَفِي النِّصَابِ هَلْ يَجُوزُ الرَّقْصُ فِي السَّمَاعِ؟ الْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَعَنْ الذَّخِيرَةِ وَمَنْ أَبَاحَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ فَذَلِكَ الَّذِي حَرَكَاتُهُ كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ أَيْ مَا يَكُونُ بِلَا اخْتِيَارٍ وَنُقِلَ عَنْ حَاوِي الْمُنْيَةِ الرَّقْصُ وَضَرْبُ الرِّجْلِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْمَشْيُ فِي الذِّكْرِ وَالدَّوَرَانُ كُفْرٌ انْتَهَى لَعَلَّ مُرَادَهُ اسْتِحْلَالُهُ وَاعْتِقَادُ كَوْنِهِ عِبَادَةً، وَعَنْ السُّهْرَوَرْدِيّ وَهُوَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّقَايَا يَقُولُ تَطُوفُ الشَّيَاطِينُ عُرَاةً بِأَطْرَافِ قَوْمٍ يَشْتَغِلُونَ بِالسَّمَاعِ وَالرَّقْصِ وَيَلْعَبُونَ بَيْنَهُمْ وَيَنْفُخُونَ فِي فِيهِمْ فَيَتَوَاجَدُونَ، وَعَنْ الْإِمَامِ الرَّازِيّ أَنَّهُمْ يَرْقُصُونَ رَقْصَ الْفُجَّارِ وَيَنْهَقُونَ كَالْحِمَارِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْأَبْرَارِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْ الْكُفَّارِ، وَعَنْ الْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي مَوْضِعٍ رُقِصَ فِيهِ حَتَّى يَطْهُرَ أَوْ يُخْرَجَ تُرَابُهُ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْإِمَامِ مَنْعُهُمْ، وَعَنْ الْمَالِكِيِّ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ حَضَرَ بِمَجْلِسِهِمْ لِفِسْقِهِمْ، وَعَنْ الْحَنْبَلِيِّ مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُمْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ كِتَابِ الِاعْتِنَاءِ لِعَلِيٍّ الْقَارِي وَذَكَرَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ كَلَامًا جَامِعًا لِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَقَالَ قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ الْحَصِيرُ الَّذِي رَقَصُوا عَلَيْهِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى يُغْسَلَ وَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ مَنْ حَضَرَ هَذَا السَّمَاعَ الْمَعْهُودَ يَصِيرُ فَاسِقًا، وَإِنْ اعْتَقَدَ حِلَّهُ صَارَ مُرْتَدًّا وَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ رَدْعُهُمْ وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ إنَّ الشَّاهِدَ إذَا حَضَرَ مَعَهُمْ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَمِثْلُهُ فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ وَنُقِلَ عَنْ ابْن الْحَاجِّ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَمِلَ فَتْوًى وَمَشَى بِهَا عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَفْظُهُ مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَدُوا عَلَى بَلَدٍ فَقَصَدُوا الْمَسْجِدَ وَشَرَعُوا يُصَفِّقُونَ وَيَرْقُصُونَ فَهَلْ يَجُوزُ فِي الْمَسَاجِدِ شَرْعًا أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ يَرْحَمْكُمْ اللَّهُ فَقَالَ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ الْغِنَاءُ لَهْوٌ بَاطِلٌ أَيْ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ مَنْ قَالَ بِهِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ زَجْرُهُمْ وَرَدْعُهُمْ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَحَبْسُهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا، وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا حُكْمُهُ، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ الْحَصِيرُ الَّتِي يُرْقَصُ عَلَيْهَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى تُغْسَلَ وَالْأَرْضُ الَّتِي يُرْقَصُ عَلَيْهَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى يُحْفَرَ تُرَابُهَا وَيُرْمَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى (قُلْت مَنْ لَهُ إنْصَافٌ) دُونَ تَعَصُّبٍ وَجِدَالٍ (وَدِيَانَةٌ وَاسْتِقَامَةُ طَبْعٍ) فِي فَهْمِ مُقَدِّمَاتِ الْبَرَاهِينِ الْمُنْتِجَةِ لِهَذَا الْمَطْلَبِ وَتَرْتِيبِهَا وَاسْتِلْزَامِهَا لِمَطَالِبِهَا فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ كَوْنُ الْمَطْلُوبِ وُجْدَانِيًّا بَلْ إقْنَاعِيًّا وَالْمَقَامُ تَحْقِيقِيٌّ بُرْهَانِيٌّ كَيْفَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ يَقْتَضِي إلْزَامَ الْمُخَالِفِ طَوْعًا وَكَرْهًا فَافْهَمْ (إذَا رَأَى رَقْصَ صُوفِيَّةِ زَمَانِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالدَّعَوَاتِ بِأَلْحَانٍ وَنَغَمَاتٍ) بَعْضِ (صُوفِيَّةِ زَمَانِنَا) أَيْ فِي دِيَارِنَا عِيَانًا، وَفِي الدِّيَارِ الْأُخَرِ سَمْعًا بِالشُّهْرَةِ بَلْ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِأَخْبَارِ ثِقَةِ الْآحَادِ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْكُلُّ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَالَ كُلِّ صُوفِيَّةِ الزَّمَانِ (فِي الْمَسَاجِدِ وَالدَّعَوَاتِ) الْأَوْلَى لِلسِّبَاقِ وَالسِّيَاقِ وَالْمُطَابَقَةِ بِالشُّيُوعِ وَالْأَغْلَبُ أَنْ يُقَالَ الْأَذْكَارُ بَدَلَ الدَّعَوَاتِ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِالذِّكْرِ أَوْ يُرَادَ عُمُومُ الْمَجَازِ (بِأَلْحَانٍ وَنَغَمَاتٍ) جَمْعُ نَغْمَةٍ أَيْ جَرْسِ الْكَلَامِ (مُخْتَلِطًا بِهِمْ الْمُرْدُ) جَمْعُ أَمْرَدَ (وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْعُرْيِ) مِنْ الْفَسَقَةِ (مِنْ جُهَّالِ الْعَوَامّ وَالْمُبْتَدِعَةِ الطَّغَامِ) جَمْعُ طَغَامَةٍ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى ضَعِيفِ الرَّأْيِ وَقِيلَ بِمَعْنَى الْأَرْذَلِ (لَا يَعْرِفُونَ الطَّهَارَةَ وَالْقُرْآنَ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ بَلْ لَا يَعْرِفُونَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ لَهُمْ زَعِيقٌ) أَيْ صَيْحَةٌ (وَزَئِيرٌ) صَوْتُ الْأَسَدِ أَوْ صَوْتُ الْحَمِيرِ (وَنُهَاقٌ) بِالضَّمِّ أَيْ صَوْتٌ كَصَوْتِ الْحِمَارِ (يُشْبِهُ نُهَاقَ الْحَمِيرِ يُبَدِّلُونَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى) يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِالْأَلْحَانِ

الْفَاسِدَةِ وَالنَّغَمَاتِ الْكَاسِدَةِ (وَيُغَيِّرُونَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى) بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي جَوَاهِرِ الْكَلِمَاتِ وَأَدَائِهَا (ثُمَّ يَتَلَفَّظُونَ بِأَلْفَاظٍ مُهْمَلَةٍ) لَا مَعْنَى لَهَا وَضْعًا وَاسْتِعْمَالًا بِلُغَةٍ مِنْ اللُّغَاتِ (وَهَذَيَانَاتٍ كَرِيهَةٍ مِثْلَ هاي وهوي وَهِيَ وهيا يَقُولُ) ذَلِكَ الْمُصَنِّفُ (لَا مَحَالَةَ) أَلْبَتَّةَ بِلَا شَكٍّ وَلَا تَرَدُّدٍ (إنَّ هَؤُلَاءِ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) لِذَلِكَ الْمُصَنِّفِ (مُمَارَسَةٌ بِالْفِقْهِ وَ) مَعَهُ (عِلْمٌ تَفْصِيلِيٌّ بِحَالِهِمْ) لِأَنَّ الْأَمْرَ بَيِّنٌ لِكُلِّ عَامٍّ وَخَاصٍّ قِيلَ عَنْ الشَّارِحِ الْكُرْدِيِّ إيرَادًا عَلَى الْمُصَنِّفِ أَمَّا قَوْلُهُ هاي وهوي إلَى آخِرِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ يَتَرَاءَى مِنْ شِدَّةِ الذِّكْرِ وَسُرْعَةِ التَّلَفُّظِ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَشَايِخَ الصُّوفِيَّةَ صَرَّحُوا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى فَرَدَّ عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْمَشَايِخِ جَهَلَةُ الْمُتَشَيِّخَةِ وَمُتَشَقْشِقَةُ الصُّوفِيَّةِ فَلَا اعْتِدَادَ بِقَوْلِهِمْ بَلْ كَثِيرًا مَا أُلْحِقَ فِي خِلَافِهِمْ، وَإِنْ أُرِيدَ الصُّوفِيَّةُ الْمُتَسَنِّنَةُ وَالْمُتَوَرِّعَةُ الْمُتَشَرِّعَةُ فَافْتِرَاءٌ مَحْضٌ لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ نَقْلٍ صَحِيحٍ مِنْ مُعْتَمَدَاتِ كُتُبِهِمْ وَأَنَا أَقُولُ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً بَلْ الْحُجَّةُ إنَّمَا هِيَ أَقْوَالُ فُقَهَائِنَا الْمُخْتَارَةِ وَالْمُفْتَى بِهَا لَا كُلُّهَا؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ إنَّمَا هِيَ مِنْهُمْ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ ثُمَّ أَوْرَدَ أَيْضًا عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّ جَعْلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ عَوَامًّا أَوْ جُهَّالًا إلَى آخِرِهِ غَايَةٌ فِي الضَّلَالَةِ وَشَبِيهٌ بِفِعْلِ الْكُفَّارِ فِي تَحْقِيرِهِمْ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَفِي تَسْلِيطِ سُفَهَائِهِمْ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا يُحْكَى عَنْهُ سُوءُ الْخَاتِمَةِ وَحُقَّ لَهُ ذَلِكَ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِخْفَافِ وَالِاسْتِحْقَارِ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ بَعْضِ الظَّنِّ وَالْحُكْمِ بِالْغَيْبِ ضَلَالٌ عَنْ سَوَاءِ الصِّرَاطِ وَجَوَابُهُ ظَاهِرٌ بِالْمُرَاجَعَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْبِدَعِ انْتَهَى إجْمَالًا. وَأَنَا أَقُولُ إنَّ طَعْنَ الْمُصَنِّفِ إنَّمَا هُوَ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ مِنْ أَقْوَالِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ لِلْمُقَلِّدِ فَيَكُونُ كَلَامًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ الْقَوِيمِ وَنَهْجِ الدِّينِ الْمُبِينِ لَا سِيَّمَا الْإِجْمَاعُ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ فَالْحَمْلُ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالتَّشْبِيهُ بِالْكُفْرِ وَالْغَوَايَةِ لَيْسَ شَيْئًا غَيْرَ الْكُفْرِ بَلْ زَنْدَقَةٌ لَا تُوجِبُ إلَّا الْقَتْلَ بَلْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إنْ تَابَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَفْعَالِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا (فَالْوَيْلُ) أَيْ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ (لِلْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ) وَسَائِرِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ وَالْإِهْدَامِ (حَيْثُ يَعْرِفُونَ هَذَا وَيُشَاهِدُونَ وَلَا يُنْكِرُونَ

وَلَا يُغَيِّرُونَ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِمْ) مَعَ أَنَّ التَّغْيِيرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ حِينَ الْقُدْرَةِ (بَلْ يَخَافُونَ مِنْهُمْ) مِنْ إنْكَارِهِمْ وَدُعَائِهِمْ عَلَيْهِمْ لِاعْتِقَادِهِمْ مِنْهُمْ الْكَرَامَةُ وَالْوِلَايَةُ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ وَأَعْدَاءُ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ (وَ) لِذَلِكَ (يَلْتَمِسُونَ الدُّعَاءَ) مِنْهُمْ فَضْلًا عَنْ الزَّجْرِ وَالْإِنْكَارِ بَلْ يُرِيدُونَ تَقَرُّبَهُمْ بِالْعَطَايَا وَالْهَدَايَا وَالزِّيَارَاتِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالْإِحْسَانِ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ وَقَدْ نُقِلَ أَيْضًا عَنْ الطُّرْطُوشِيِّ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ إخْرَاجُهُمْ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَحْضُرَهُمْ وَيُعِينَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَحِينَ اسْتَفْتَى مِنْ شَيْخِ الْأَخْلَافِ جوي زاده أَفْتَى أَنَّ الرَّقْصَ وَالدَّوَرَانَ حَرَامٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَحُرْمَتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الشَّارِحَ الصَّالِحَ اسْتَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ الرَّقْصِ بِوُجُوهٍ اعْتِرَاضًا عَلَى الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] فَإِنَّ مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالرَّقْصُ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ أَقُولُ أَوَّلًا لَسْنَا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ الْمُفَسِّرِينَ بَلْ مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ عَرَفْت أَقْوَالَهُمْ وَثَانِيًا كُلُّ الْحَالِ لَوْ أُرِيدَ عَلَى إطْلَاقِهِ يَشْمَلُ حَالَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْهَذَيَانَاتِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِكُفْرِهِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] الْآيَةَ فَإِنَّ دَوَرَانَ الصُّوفِيَّةِ وَرَقْصَهُمْ شَبِيهٌ بِالْمَلَائِكَةِ الْحَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ وَالْحُجَّاجِ الطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ أَقُولُ إنَّهُ قِيَاسُ شَاهِدٍ عَلَى غَائِبٍ، وَرَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ نَصٍّ قَطْعِيٍّ كَمَا عَرَفْت وَإِنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالنُّصُوصِ سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْخَفِيِّ وَالْمُجْتَهَدِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُجْتَهِدِينَ وَأَنَّ مَدَارَ الْقِيَاسِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ يَصْلُحُ لِذَلِكَ بَلْ تَعَبُّدِيٌّ مَحْضٌ وَأَنَّ دَوَرَانَ الْمَلَائِكَةِ لَوْ سَلِمَ انْفِهَامُهُ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ وَدَوَرَانَ الْحُجَّاجِ خَارِجٌ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِعْلَ الْحُجَّاجِ عِبَادَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عِبَادَةً فِي غَيْرِهِ. أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ طَافَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ يَنْوِي بِهِ الْكَعْبَةَ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرَ انْتَهَى وَأَنَا أَقُولُ لَوْلَا خَشْيَةُ تَفْصِيلِ الْبَاطِلِ بِلَا ضَرُورَةٍ لَحَكَيْت بَاقِيَ أَبَاطِيلِهِ مَعَ بَيَانِ وَجْهِ بُطْلَانِهِ (نَعَمْ) هَذَا دَفْعُ وَهْمٍ نَاشِئٍ مِمَّا سَبَقَ (الذِّكْرُ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِهِمْ جَائِزٌ إذَا كَانَ بِأَدَبٍ وَسُكُونِ أَعْضَاءٍ بِلَا لَحْنٍ وَلَا تَغَنٍّ) ، وَأَمَّا الْجَهْرُ بِالذِّكْرِ فَمَنَعَهُ بَعْضٌ وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ لَكِنَّ حَاصِلَ مَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْجَوَازِ وَتَأْوِيلُ جَانِبِ الْمُخَالِفِ مِنْ الْأَثَرِ، وَأَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ وَحَاصِلُ رِسَالَةِ أَبِي السُّعُودِ هُوَ التَّجْوِيزُ وَالتَّفْضِيلُ مُطْلَقًا وَقَدْ بَسَطْنَا أَدِلَّةَ الطَّرَفَيْنِ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّرْجِيحِ فِي رِسَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ بِجَوَازِ الْجَهْرِ. (وَأَمَّا تَحْرِيكُ الرَّأْسِ فَقَطْ يَمْنَةً وَيَسْرَةً تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَالظَّنُّ الْغَالِبُ جَوَازُهُ بَلْ اسْتِحْبَابُهُ إذَا كَانَ مَعَ النِّيَّةِ الْخَالِصَةِ الصَّالِحَةِ فَيَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ) ؛ لِأَنَّ الْعَبَثَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالتَّحْقِيقُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ (فَيَكُونُ) ذَلِكَ التَّحْرِيكُ

الآفات الغير المختصة بعضو معين

(فِعْلًا دَالًّا) دَلَالَةً عَقْلِيَّةً (عَلَى التَّوْحِيدِ مُقَارِنًا لِلْقَوْلِ) وَهُوَ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ (الدَّالِّ عَلَيْهِ) دَلَالَةً وَضْعِيَّةً فَيُجْمَعُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ الْفِعْلِيِّ وَالْقَوْلِيِّ (فَتَكُونُ) الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ (كَلِمَةً كَكَلِمَتَيْنِ) فَالْقَوْلُ بِلَا حَرَكَةٍ مَرَّتَيْنِ كَالْقَوْلِ بِالْحَرَكَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً (وَأَصْلُهُ) الْمَقِيسُ عَلَيْهِ (رَفْعُ الْمُسَبِّحَةِ فِي التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي) الْأَحَادِيثِ (الصِّحَاحِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَوْضِعُ سُكُونٍ وَوَقَارٍ حَتَّى كُرِهَ فِيهَا الِالْتِفَاتُ) يَمْنَةً وَيَسْرَةً. قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي يَعْنِي لَيْسَ فِي حَقِّ التَّحْرِيكِ الْمَذْكُورِ رِوَايَةٌ لَا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ وَلَكِنَّ الْمَظْنُونَ قِيَاسًا عَلَى رَفْعِ الْمُسَبِّحَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي التَّشَهُّدِ عِنْدَ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي الصِّحَاحِ الْجَوَازُ بَلْ الِاسْتِحْبَابُ مَعَ نِيَّةِ التَّحْقِيقِ الْمَذْكُورِ بِجَامِعِ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرَّفْعِ هِيَ التَّحْقِيقُ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا فَالظَّنُّ جَوَازُ التَّحْرِيكِ مَعَ نِيَّةِ التَّحْقِيقِ كَالرَّفْعِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ رَفْعَ الْمُسَبِّحَةِ ثَابِتٌ بِنَصٍّ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلِمَ لَقَاسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ، وَتَجْوِيزُ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِجَائِزٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَجَرَى فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِتِلْكَ النِّيَّةِ حَتَّى فِي صُوَرِ الرَّقْصِ، ثُمَّ قِيلَ فَالظَّنُّ الْغَالِبُ بَلْ الْيَقِينُ عَدَمُ جَوَازِهِ. أَقُولُ كَوْنُ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ بَلْ الْقِيَاسُ كَوْنُ الرَّفْعِ نَفْيًا لِلْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى كَمَا فِي صُوَرِ رَفْعِ الْيَدِ فِي فقعس وصمعج فَإِنَّ رَفْعَ الْيَدِ عِنْدَ افْتِتَاحِ التَّكْبِيرِ مَثَلًا بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ وَلَفْظُ التَّكْبِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِثْبَاتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ قِيَاسِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ امْتِنَاعُ الْقِيَاسِ فِي الْقَرْنِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ عَلَى التَّابِعِينَ وَتَابِعِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا جَوَازُ الْغَفْلَةِ عَلَى أَنَّ الْعُدْمَ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْوِجْدَانِ عَدَمُ الْوُجُودِ وَأَيْضًا الْمُلَازَمَةُ فِي قَوْلِهِ، وَلَوْ صَحَّ مَمْنُوعَةٌ كَيْفَ وَأَنَّ حُرْمَةَ الرَّقْصِ مَنْصُوصَةٌ وَمِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ عَدَمُ كَوْنِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَنْصُوصًا وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَرْعَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ مَنْصُوصُ الْحُرْمَةِ، نَعَمْ يَشْكُلُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ وَالِاجْتِهَادُ مُنْقَرِضٌ، وَأَمَّا عَدَمُ انْقِرَاضِ الْمُجْتَهِدِ فِي مَسْأَلَةٍ فَمَبْنِيٌّ عَلَى تَجْزِيءِ الِاجْتِهَادِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ كَمَا قَالُوا، وَإِنْ اخْتَارَ بَعْضٌ جَانِبَ جَوَازِ التَّجْزِيءِ هَذَا ثُمَّ أَقُولُ التَّحْقِيقُ لَيْسَ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْقِيَاسِ بَلْ الظَّاهِرُ هُوَ طَرِيقُ دَلَالَةِ النَّصِّ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الْمُجْتَهِدُ وَالْعَالِمُ الْعَامِّيُّ كَمَا يُشْعِرُ قَوْلُهُ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَوْضِعُ سُكُونٍ إلَى آخِرِهِ، فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنُهُ قِيَاسًا لَا يَلْزَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَوْنُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ يَجُوزُ عَنْ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَوَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْمُصَنِّفِ فَحَكَى بِهَذَا الْأُسْلُوبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اسْمَعْ مِنِّي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَنَا أَسْمَعُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ نَافِيًا عَنْ يَمِينِهِ مُثْبِتًا إلَى شِمَالِهِ مُغْمِضًا عَيْنَيْهِ» الْحَدِيثَ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ لَا يُلَائِمُ ذَلِكَ فَلْيُتَأَمَّلْ. [الْآفَاتِ الْغَيْرِ الْمُخْتَصَّةِ بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ] (وَمِنْهَا) مِنْ الْآفَاتِ الْغَيْرِ الْمُخْتَصَّةِ بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ (كَشْفُ الْعَوْرَةِ) رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا (عِنْدَ غَيْرِهِ) مَحْرَمًا أَوْ أَجْنَبِيًّا (إلَّا بِعُذْرٍ) مِنْ الْأَعْذَارِ التِّسْعَةِ السَّابِقَةِ (، وَقَدْ مَرَّ فِي آفَاتِ الْعَيْنِ، وَفِي الْخَلْوَةِ أَيْضًا) لِحَدِيثِ «فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ» (إلَّا بِعُذْرِ حَلْقِ الْعَانَةِ) وَالدُّبُرِ (وَالْغُسْلِ فِي زَمَانٍ يَسِيرٍ) ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ لِحَاجَةٍ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا (وَ) بِعُذْرِ (التَّخَلِّي

وَالِاسْتِنْجَاءِ) بِالْمَاءِ أَوْ الْحَجَرِ (وَ) بِعُذْرِ (التَّدَاوِي) أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا (بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَمِنْهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ) ، وَلَوْ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَنِهِ وَمَا نُقِلَ عَنْ الْقُنْيَةِ مِنْ عَدَمِ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِجِلْدِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِلْآثَارِ الْكَثِيرَةِ كَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» بِأَنْ يَصْرِفَ عَنْ قَلْبِهِ حُبَّ لُبْسِهِ فَلَا يَشْكُلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ} [الزخرف: 71] كَمَا فِي الْمَبَارِقِ لَكِنْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَكُونَ فَائِدَةُ عَدَمِ اللُّبْسِ وَالظَّاهِرُ كَوْنُهُ جَزَاءَ عَمَلِهِ. لَعَلَّ الْمُرَادَ لَا يَلْبَسُ فِي الْآخِرَةِ فِي الِابْتِدَاءِ لِاحْتِبَاسِهِ بِالْعَذَابِ فَيَجُوزُ فِي الِانْتِهَاءِ (وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لِلذُّكُورِ، وَفِي الْحَدِيثِ «حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ أَيْ الْخَالِصِ أَوْ الْغَالِبِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» هَلْ التَّحْرِيمُ لِلسَّرَفِ أَوْ الْخُيَلَاءِ أَوْ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ أَوْ النِّسَاءِ؟ وُجُوهٌ أَصَحُّهَا الْأَخِيرُ وَأَبْعَدُهَا الْأَوَّلُ. كَيْفَ وَالسَّرَفُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِلْفَرِيقَيْنِ بِغَيْرِ مَيْزٍ، وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ كَمَا فِي الْجَامِعِ عَنْ التِّرْمِذِيِّ (سِوَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ) قَيْدٌ لَهُمَا كَمَا سَنَقِفُ عَلَيْهِ لَا قَيْدٌ فِي الْحَرِيرِ كَمَا تُوهِمُ، مُفَرَّجَةً عِنْدَ الْبَعْضِ وَمَضْمُومَةً عِنْدَ الْآخَرِينَ، وَلَا مَضْمُومَةً وَلَا مَنْشُورَةً عِنْدَ بَعْضٍ وَجُوِّزَ لِدَفْعِ قَمْلٍ وَحَكَّةٍ وَجَرَبٍ كَمَا فِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ نَقْلًا عَنْ التتارخانية. وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ، وَالْعَلَمُ الْحَرِيرُ لَوْ زَادَ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ مَضْمُومَةٍ لَا يَحِلُّ، وَأَمَّا جَوَازُ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَلِيَكُونَ أُنْمُوذَجًا وَمُذَكِّرًا لِلْآخِرَةِ وَبَاعِثًا عَلَى مَا يَعْقُبُهُ لُبْسُ حَرِيرِ الْآخِرَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَيُكْرَهُ قَلَنْسُوَةُ الْحَرِيرِ أَوْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ، أَوْ الْكِرْبَاسُ الَّذِي خِيطَ عَلَيْهِ إبْرَيْسَمٌ كَثِيرٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَلَا بَأْسَ عَلَى طَرَفِ الْقَلَنْسُوَةِ قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَكَذَا عَلَى طَرَفِ الْعِمَامَةِ وَعَلَمِ الْجُبَّةِ، وَعَنْ أَبِي الْفَضْلِ إذَا كَانَ الْعَلَمُ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ الْقَلَنْسُوَةِ هَلْ يُجْمَعُ؟ قَالَ نَعَمْ، وَعَنْ أَبِي حَامِدٍ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ فِيهِ خِلَافٌ، وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَدَمُ جَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ، وَلَوْ فِي عِمَامَةٍ كَمَا بَسَطَ فِي الْقُنْيَةِ، ثُمَّ اعْتِبَارُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ قَيْدٌ فِي أَكْثَرِ الْفِقْهِيَّةِ بِقَوْلِهِمْ عَرْضًا وَفُسِّرَ أَيْ عَرْضُ الثَّوْبِ فَقَالُوا فَيُكْرَهُ، وَلَوْ طُولًا حَيْثُ نُقِلَ عَنْ الْمُجْتَبَى إنَّمَا رَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَلَمِ فِي عَرْضِ الثَّوْبِ لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ هُوَ الْإِطْلَاقُ. وَفِي الْأُسْرُوشَنِيِّ وَالْعَلَمُ الْمُتَفَرِّقُ يُجْمَعُ فِي الْعِمَامَةِ وَالظَّاهِرُ لَا يُجْمَعُ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَطٌّ مِنْهُ قَزًّا أَوْ خَطٌّ مِنْهُ غَيْرَهُ بِحَيْثُ يُرَى كُلُّهُ قَزًّا فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ وَلَا بَأْسَ بِالْعَلَمِ الْمَنْسُوجِ بِالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، وَأَمَّا الرِّجَالُ فَقَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَمَا فَوْقَهُ لَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بِالْعَلَمِ وَقِيلَ إنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا (لِلذَّكَرِ) فَقَطْ كَمَا سَبَقَ مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة وَبَعْضُهُمْ قَالُوا لَا يَحِلُّ لِلنِّسَاءِ أَيْضًا (بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا غَيْرَ أَنَّ الْإِثْمَ فِي الصَّبِيِّ يَكُونُ عَلَى الْمَلْبَسِ) رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّبِيِّ لَا تَتَّصِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فَلَوْ لَبَّسَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ نَزْعُهُ وَعَدَمُ سُكُوتِهِ وَتَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ وَالتَّقْرِيرَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ رَاجِعٌ عَلَى الْمُقِرِّ السَّاكِتِ. وَفِي الْأَشْبَاهِ مَا حَرُمَ عَلَى الْبَالِغِ فِعْلُهُ حَرُمَ عَلَى الْبَالِغِ فِعْلُهُ بِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقِيَهُ خَمْرًا وَلَا أَنْ يُلْبِسَهُ حَرِيرًا وَلَا أَنْ يُخَضِّبَ يَدَهُ بِحِنَّاءٍ وَلَا إجْلَاسُهُ عِنْدَ التَّبَوُّلِ وَالتَّغَوُّطِ مُسْتَقْبِلًا وَمُسْتَدْبِرًا نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَفِي هَذَا الْمَحَلِّ أَيْضًا، وَلَوْ مَلَأَ صَبِيٌّ كُوزًا مِنْ حَوْضٍ، ثُمَّ صَبَّهُ فِيهِ لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ انْتَهَى، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة يُكْرَهُ إلْبَاسُ الصَّبِيِّ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ وَالْقُرْطَ وَالْخَلْخَالَ، وَكَذَا اتِّخَاذُ الْجَلَاجِلِ فِي رِجْلِ الصَّغِيرِ انْتَهَى

فَبِالْأَوْلَى فِي الصَّغِيرِ (وَاَلَّذِي لُحْمَتُهُ) وَهُوَ الْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ الثَّوْبِ وَسُدَاهُ قُطْنٌ أَوْ غَيْرُهُ (حَرِيرٌ فَفِي حُكْمِ الْخَالِصِ) لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْجُزْءِ الْأَخِيرِ، وَأَمَّا الَّذِي سُدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ قُطْنٌ أَوْ كِتَّانٌ فَجَائِزٌ مُطْلَقًا كَالْعَيَالِيِّ وَالْخَزِّ وَالْمُلْحَمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قِيلَ هَذَا عِنْد غَلَبَةِ اللُّحْمَةِ عَلَى السُّدَى وَقِيلَ إنْ كَانَ الْمَرْئِيُّ إبْرَيْسَمًا يُكْرَهُ كَمَا فِي التتارخانية فَالْأَحْوَطُ أَنْ لَا يَلْبَسَ إنْ ظَهَرَ الْحَرِيرُ فِرَارًا مِنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الِاتِّفَاقِ. (إلَّا فِي الْحَرْبِ) فَلُبْسُ الْحَرِيرِ الْخَالِصِ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْحَرْبِ عِنْدَهُمَا، وَأَمَّا لُبْسُ الَّذِي لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ فَغَيْرُ جَائِزٍ إلَّا فِي الْحَرْبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْجَوَازُ فِي الْحَرْبِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَقِيلَ إنْ قَوِيًّا يَدْفَعُ مَضَرَّةَ السِّلَاحِ، وَإِنْ ضَعِيفًا فَلَا وَقِيلَ إنْ كَانَ مُهَابًا فِي نَظَرِ الْعَدُوِّ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ بِهِ اتِّفَاقًا وَقِيلَ الْجُنْدِيُّ إذَا تَأَهَّبَ لِلْحَرْبِ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْعَدُوُّ وَلَكِنْ لَا يُصَلَّى فِيهِ بِدُونِ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ حَرَامٌ عَلَى الذُّكُورِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ (وَأَمَّا الْقُعُودُ وَالِاضْطِجَاعُ عَلَيْهِ وَتَوَسُّدُهُ فَجَائِزٌ عِنْدَ الْإِمَامِ) الْأَعْظَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (خِلَافًا لَهُمَا) فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمَا وَبِهِ أَخَذَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ سَتْرُ الْجِدَارِ وَتَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَبْوَابِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِافْتِرَاشِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِمَا، وَكَذَا الْوَسَائِدُ وَالْبُسُطُ وَالسُّتُورُ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ خِلَافًا لَهُمَا قَالَ فِي الدُّرِّ عَنْ الْمُجْتَبَى لَهُ أَنْ يُزَيِّنَ بَيْتَهُ بِالدِّيبَاجِ وَيَتَجَمَّلَ بِأَوَانِي ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ بِلَا تَفَاخُرٍ وَيَحْسُنُ لِلْفُقَهَاءِ لَفُّ عِمَامَةٍ طَوِيلَةٍ وَلُبْسُ ثِيَابٍ وَاسِعَةٍ وَلَا بَأْسَ بِشَدِّ خِمَارٍ أَسْوَدَ عَلَى عَيْنِهِ مِنْ إبْرَيْسَمٍ بِعُذْرٍ كَالرَّمَدِ وَلَا بَأْسَ بِعُرْوَةِ الْقَمِيصِ وَزِرِّهِ وَالتِّكَّةِ مِنْ الْحَرِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة لَا بَأْسَ بِإِزَارِ الدِّيبَاجِ وَالذَّهَبِ قَالُوا هَذَا مُشْكِلٌ فَقَدْ رَخَّصَ الشَّرْعُ فِي الْكَفَافِ، وَالْكَفَافُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الذَّهَبِ انْتَهَى. وَعَنْ صَلَاةِ الْجَوَاهِرِ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى سَجَّادَةِ الْإِبْرَيْسَمِ فَإِنَّ الْحَرَامَ هُوَ اللُّبْسُ أَمَّا الِانْتِفَاعُ بِسَائِرِ

الْوُجُوهِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ لَكِنْ فِي التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ مُحَمَّدٍ يُكْرَهُ النَّوْمُ عَلَيْهِ كَاللُّبْسِ، ثُمَّ قَالَ فَإِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْقُعُودَ عَلَى الدِّيبَاجِ مَكْرُوهٌ، ثُمَّ قَالَ يُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَسَائِدُ وَالْمَرَافِقُ وَالْبُسُطُ وَالسُّتُورُ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجُ الَّذِي سُدَاهُ إبْرَيْسَمٌ وَالْحَرِيرُ الْإِبْرَيْسَمُ الْمَخْلُوطُ وَالْقَلِيلُ مِنْ الْمَلْبُوسِ مُبَاحٌ كَالْأَعْلَامِ فَكَذَا الْقَلِيلُ مِنْ اللُّبْسِ وَالِاسْتِعْمَالِ. (وَيُكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الرِّجَالُ الثِّيَابَ الْمَصْبُوغَةَ بِالْعُصْفُرِ) قِيلَ هُوَ شَيْءٌ أَحْمَرُ يُصْبَغُ بِهِ الثَّوْبُ وَقِيلَ أَصْفَرُ (وَالزَّعْفَرَانُ أَوْ الْوَرْسُ) نَبْتٌ أَصْفَرُ يُجْلَبُ مِنْ دِيَارِ الْيَمَنِ أَيْ الْمَصْبُوغُ بِالْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ الْخَالِصَيْنِ وَيَجُوزُ فِي النَّعْلِ وَالْخُفِّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ وَقِيلَ بِاسْتِحْبَابِ الْأَحْمَرِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَقِيلَ بِكَرَاهَتِهِ تَنْزِيهًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُجْتَبَى وَالزَّاهِدِيِّ وَشَرْحِ النُّقَايَةِ لِأَبِي الْمَكَارِمِ وَقِيلَ بِإِبَاحَتِهِ كَمَا فِي مِسْكِينٍ وَنُقِلَ عَنْ مَجْمَعِ الْفَتَاوَى وَقِيلَ بِحُرْمَتِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ تُحْفَةِ الْمُلُوكِ وَقِيلَ بِكَرَاهَتِهِ تَحْرِيمًا وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَاضِي خَانْ، وَفِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ لِعَلِيٍّ الْقَارِي اُخْتُلِفَ فِي الْأَحْمَرِ أَنَّهُ جَائِزٌ مُطْلَقًا لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، أَوْ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا لِظَاهِرِ أَحَادِيثَ أُخَرَ أَيْضًا فَسَيُذْكَرَانِ، أَوْ مَكْرُوهٌ إنْ لَمْ تَكُنْ حُمْرَتُهُ خَفِيفَةً وَإِلَّا فَلَا، أَوْ مَكْرُوهٌ إنْ لِلزِّينَةِ وَالشُّهْرَةِ دُونَ الْبُيُوتِ أَوْ مَكْرُوهٌ إنْ صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ؛ لِأَنَّ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ وَالْبُرْدَ الْأَحْمَرَ يُصْبَغُ غَزْلُهُمَا فَيُنْسَجُ أَوْ اخْتِصَاصُ النَّهْيِ بِالْمُعَصْفَرِ فَقَطْ لِوُرُودِ النَّهْي عَنْهُ فَقَطْ وَيُعْكَسُ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ وَاخْتِصَاصُهُ بِمَا يُصْبَغُ كُلُّهُ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَطَ بِهِ لَوْنٌ آخَرُ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ كَالْخُطُوطِ فَجَائِزٌ لِكَوْنِ الْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ كَذَلِكَ فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ، وَثَامِنُهَا أَنَّ الْكَرَاهَةَ عِنْدَ تَنَجُّسِ الصَّبْغِ فَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ. وَأَدِلَّةُ الْمُجَوِّزِينَ حَدِيثُ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ» عَلَى مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا وَأَيْضًا فِي الشَّمَائِلِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ مَا رَأَيْت مِنْ النَّاسِ أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، وَفِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الْبَيْهَقِيّ كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ، وَفِي شَرْحِهِ عَنْ الطَّبَرَانِيِّ كَانَ يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ. وَأَدِلَّةُ الْمَانِعِينَ حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ هَذِهِ مِنْ لِبَاسِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا قَالَهُ حِينَ رَأَى عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ أُمُّك أَمَرَتْك بِهَذَا أَيْ أُمُّك أَمَرَتْك بِهِمَا قَالَ الرَّاوِي قُلْت أَغْسِلُهُمَا قَالَ لَا بَلْ أَحْرِقْهُمَا كَمَا فِي الْمَشَارِقِ، وَحَدِيثُ الْجَامِعِ عَنْ الْبَيْهَقِيّ وَابْنِ عَدِيٍّ إنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ وَإِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ وَكُلَّ ثَوْبٍ ذِي شُهْرَةٍ، وَفِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ عَنْ أَبِي دَاوُد عَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ «مَرَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ وَعَلَيْهِ حُلَّتَانِ حَمْرَاوَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ» وَفِيهِ أَيْضًا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ إنَّ الْحُمْرَةَ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ، وَكَذَا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا فِي الْجَامِعِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَقُولُ وَلِتَوْفِيقِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَالَ بَعْضٌ: الْمَمْنُوعُ مَا يَكُونُ خَالِصًا فِي الْحُمْرَةِ وَالْمُرَخَّصُ مَا يَكُون خُطُوطًا، وَبَعْضٌ آخَرُ: النَّهْيُ تَنْزِيهِيٌّ فَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ وَجْهٍ وَمُرَخَّصًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَقِيلَ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ النَّوَوِيِّ وَرُدَّ بِأَنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ، وَبَعْضٌ آخَرُ: الْمَنْعُ عَلَى مَا صُبِغَ بَعْدَ النَّسْجِ، وَالْإِذْنُ عَلَى مَا يَكُونُ الصَّبْغُ قَبْلَهُ كَمَا مَرَّ وَرُدَّ بِعَدَمِ الْفَرْقِ فِي كَوْنِهَا زِينَةَ الشَّيْطَانِ وَإِيجَابَ الْخُيَلَاءِ وَالطُّغْيَانِ، وَبَعْضٌ: الْجَوَازُ وَلُبْسُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

وَاقِعٌ قَبْلَ النَّهْيِ أَوْ فَعَلَهُ لِبَيَانِ أَصْلِ الْجَوَازِ، وَبَعْضٌ: الْمَنْعُ عِنْدَ قَصْدِ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَالنِّسَاءِ أَوْ التَّكَبُّرِ وَالْجَوَازِ عِنْدَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ، وَبَعْضٌ: الْمَنْعُ لِتَنَجُّسِ الصَّبْغِ وَالْجَوَازُ بَعْدَ إزَالَتِهِ بِالْغَسْلِ وَرُدَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثِ الْحَسَنِ. ثُمَّ أَقُولُ قَالَ الشُّرُنْبُلَالِيُّ فِي شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ الْوَهْبَانِيَّةِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ لُبْسَ الْأَحْمَرِ جَائِزٌ قَطْعِيٌّ بَلْ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُ إمَّا حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ جَائِزٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَرْدُودٌ لِعَدَمِ دَلِيلِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ انْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، إذْ الْكَرَاهَةُ لِلتَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ أَوْ التَّكَبُّرِ فَإِذَا انْتَفَيَا بِلُبْسِهِ عَلَى قَصْدِ إظْهَارِ نِعَمِهِ تَعَالَى تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ، وَأَمَّا الْجَوَازُ فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ لِمَا فِي أَكْمَلِ الْمَشَارِقِ مِنْ أَنَّ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ جَائِزٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَكَذَا عَنْ النَّوَوِيِّ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ وَأَيْضًا نَصَّ عَلَى جَوَازِهِ الْقُهُسْتَانِيُّ وَالْمُجْتَبَى وَالْحَاوِي الزَّاهِدِيُّ وَمُنْتَخَبُ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى، وَفِي الرَّوْضَةِ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِلَا كَرَاهَةٍ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ أَيْضًا مِنْ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الْآيَةَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ لَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِنَوْعٍ فَيَشْمَلُ كُلَّ لَوْنٍ وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرِ إنْ قَبْلَ الْآيَةِ فَتَنْسَخُهُ الْآيَةُ، وَإِنْ بَعْدَهَا فَلَا يَصْلُحُ مُقَيِّدًا لَهَا فَبَقِيَتْ عَلَى عُمُومِهَا وَهُوَ قَطْعِيٌّ وَمِنْ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ الْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ كَمَا مَرَّ وَالتَّأْوِيلُ بِالْخُطُوطِ غَلَطٌ وَمَحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ مِنْ الْكَرَاهَةِ مَحْمُولٌ عَلَى عَارِضِ التَّشَبُّهِ أَوْ التَّكَبُّرِ فَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بِانْتِفَاءِ الْعَارِضِ وَبِهِ يَتَرَقَّى عَنْ مَرْتَبَةِ الْإِبَاحَةِ إلَى مَرْتَبَةِ الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ لُبْسِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ وَصَلَاتِهِ بِهَا إمَامًا وَاقْتِدَاءِ الصَّحَابَةِ بِهِ فَتَخْلُصُ الْأُمَّةُ مِنْ نِسْبَةِ لَابِسِ الْأَحْمَرِ إلَى ارْتِكَابِ الْحُرْمَةِ أَوْ الْكَرَاهَةِ انْتَهَى أَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنْ أَرَادَ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ فِي قَوْلِهِ فَمَرْدُودٌ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمَهُ مِنْ أَقْوَالِ الْمَشَايِخِ وَالسَّلَفِ فَمَمْنُوعٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ تُحْفَةِ الْمُلُوكِ، وَإِنْ عَدَمَهُ مِنْ النُّصُوصِ فَقَدْ سَمِعْت الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ أَكِيدَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ الظَّاهِرَةَ فِي الْحُرْمَةِ، وَالنُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَقَدْ قَالَ فِي الْفَيْضِ عِنْدَ حَدِيثِ الْحُمْرَةِ مِنْ زِينَةِ الشَّيْطَانِ تَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ وَلِلسَّلَفِ فِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْجَوَازُ الْمُطْلَقُ. الثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا. الثَّالِثُ: حُرْمَةُ الْمُشَبَّعِ بِالْحُمْرَةِ وَحِلُّ مَا خَفَّ. الرَّابِعُ: الْكَرَاهَةُ بِقَصْدِ الزِّينَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالْجَوَازُ فِي الْبُيُوتِ. الْخَامِسُ: جَوَازُ لُبْسِ مَا صُبِغَ غَزْلُهُ، ثُمَّ نُسِجَ. السَّادِسُ حُرْمَةُ مَا صُبِغَ بِالْعُصْفُرِ دُونَ غَيْرِهِ. السَّابِعُ حُرْمَةُ مَا صُبِغَ كُلُّهُ دُونَ مَا فِيهِ لَوْنٌ آخَرُ وَقَوْلُهُ إذْ الْكَرَاهَةُ لِلتَّشَبُّهِ يَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ لَا سِيَّمَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَلَيَّ بِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فَانْتَظِرْ جَوَابَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ الزِّينَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامَّةِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ مُخَصَّصٌ بِنَحْوِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ بِالْقَطْعِيِّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالظَّنِّيِّ، ثَانِيًا فَالْأَخْبَارُ السَّابِقَةُ تُخَصِّصُهَا وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الزِّينَةِ مُجْمَلًا فَيُفَسِّرُهُ الْأَحَادِيثُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ فَيَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ، وَإِنْ بَعْدَهَا فَلَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقْيِيدِ التَّخْصِيصُ فَقَدْ عَرَفْت جَوَازَهُ، وَإِنْ تَقَيَّدَ الْمُطْلَقُ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ تَحَمُّلِ عِبَارَتِهِ لِذَلِكَ فَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَشْهُورَةَ الْمَعَانِي وَإِنْ آحَادَ اللَّفْظِ فَيَجُوزُ التَّقْيِيدُ وَالزِّيَادَةُ لِكَوْنِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورِ، عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ التَّارِيخُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فَافْهَمْ. وَقَوْلُهُ وَتَأْوِيلُهُ الْحُلَّةَ بِالْخُطُوطِ غَلَطٌ مَمْنُوعٌ أَيْضًا بِسَنَدِ مَا قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ إنَّ هَذَا الِاسْمَ مَعْرُوفٌ بِمَا يَكُونُ بِالْخُطُوطِ. عَلَى أَنَّ ضَرُورَةَ تَوْفِيقِ النُّصُوصِ مُوجِبٌ لِنَحْوِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ مَحْمَلُ مَا ذُكِرَ قَدْ عَرَفْت جَوَابَهُ مِنْ نَصِّ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ آنِفًا وَقَوْلُهُ يَتَرَقَّى إلَى مَرْتَبَةِ الِاسْتِحْبَابِ مَمْنُوعٌ بِمَا فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَاجِحٌ عَلَى فِعْلِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ، وَقَدْ يَفْعَلُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا لِأُمَّتِهِ تَعْلِيمًا لِأَصْلِ الْجَوَازِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْخَوَاصِّ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِدَلَالَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ فِي الْمَنْعِ. كَيْفَ يَكُونُ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُسْتَحَبًّا، وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فِعْلَهُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ اخْتِصَاصُهُ إنْ لَمْ يُعْلَمْ صِفَتُهُ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ مَثَلًا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ عَلَى مُخْتَارِنَا. ثُمَّ أَقُولُ

وَمِنْ الْكُتُبِ الَّتِي صُرِّحَ فِيهَا بِكَرَاهَةِ الْأَحْمَرِ مُلْتَقَى الْأَبْحُرِ، وَالْخُلَاصَةُ لَكِنْ بِعِبَارَةِ كَرَاهَةِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوغَةِ بِالْعُصْفُرِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ، والْأُسْرُوشَنِيّ والتتارخانية وَفَوَائِدُ الْفُقَهَاءِ وَشِرْعَةُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ سُمِعَتْ الْكَرَاهَةُ أَيْضًا عَنْ الْمُجْتَبَى وَالزَّاهِدِيِّ وَشَرْحِ النُّقَايَةِ وَقَاضِي خَانْ وَغَيْرِهَا، وَفِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ عَنْ الْبَيْهَقِيّ حُرْمَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَكَرَاهَتُهُ عِنْدَ النَّوَوِيِّ، وَقَدْ سُمِعَتْ الْحُرْمَةُ أَيْضًا عَنْ تُحْفَةِ الْمُلُوكِ فَالْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ مِنْ التَّجْوِيزِ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ أَوْ التَّرْجِيحِ فَالسَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّ الْحُرْمَةَ إفْرَاطٌ وَالْإِبَاحَةَ تَفْرِيطٌ وَالْكَرَاهَةَ اقْتِصَادٌ فَتُحْمَلُ الْحُرْمَةُ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةُ عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَقْوَالِ، فَبَقِيَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ التَّحْرِيمِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِيَّة أَوْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْكَرَاهَةِ بِقَاعِدَةِ جَمْعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة عِنْدَ تَعَارُضِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ يُقَدَّمُ الْأَعْلَمُ وَالْأَوْرَعُ، وَقَدْ سَبَقَ مِنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِقَوْلِ كُلِّ كِتَابٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ كِتَابٍ مُعْتَبَرٍ وَمُعْتَمَدٍ، وَفِي رِسَالَةِ أَبِي السُّعُودِ لَا يُعْمَلُ بِكُلِّ قَوْلِ كِتَابٍ مُعْتَمَدٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَلَقِّي الْكُلِّ بِالْقَبُولِ؛ إذْ رُبَّ كِتَابٍ مُعْتَبَرٍ قَلِيلًا مَا يُوجَدُ فِيهِ السَّهْوُ وَالْخَطَأُ كَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ مَعَ قُوَّةِ وَثَاقَتِهِ قَدْ خَطِئَ فِي مَوَاضِعَ بَلْ قَدْ يُوجَدُ فِي مَوْضِعِ كِتَابٍ صَحِيحٍ خِلَافُ مَا فِي مَوْضِعِهِ الْآخَرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَتَانَةَ وَالْوَثَاقَةَ وَالْكَثْرَةَ وَالشُّهْرَةَ فِي جَانِبِ الْكَرَاهَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِمَّا تَجْتَمِعُ وَيُوَفَّقُ بِمَا أُشِيرَ أَوْ يُقَالُ بِتَرْجِيحِ الْقَوْلِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ أَوْ بِتَرْجِيحِ مَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ آكَدَ وَبِتَرْجِيحِ مَا تُذْكَرُ عِلَّتُهُ عَلَى مَا لَمْ تُذْكَرْ، وَقَدْ عَرَفْت تَقَدُّمَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَتَعَيَّنَ مِنْ إتْقَانِ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ تَوْفِيقًا أَوْ تَرْجِيحًا أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْكَرَاهَةُ بِلَا ارْتِيَابٍ بَلْ الْأَشْبَهُ أَنْ تَكُونَ تَحْرِيمِيَّةً، وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ الصَّغِيرَةَ تَنْقَلِبُ كَبِيرَةً بِالْإِصْرَارِ وَأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الِاتِّفَاقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَفِي الشِّرْعَةِ وَأَحَبُّ الْأَلْوَانِ الْبَيَاضُ وَلُبْسُ الْأَخْضَرِ سُنَّةٌ، وَفِي الْخُلَاصَةِ وَلُبْسُ الْأَسْوَدِ مُسْتَحَبٌّ (وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةُ الْمِنْطَقَةِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ وَيُكْرَهُ بِالذَّهَبِ) ، وَكَذَا اللُّؤْلُؤُ كَمَا نُقِلَ عَنْ السِّرَاجِ لَكِنْ فِي جَامِعِ الْجَوَامِعِ، وَكَذَا بِالْفِضَّةِ (وَ) تُكْرَهُ (الْخِرْقَةُ لِمَسْحِ الْعَرَقِ وَالِامْتِخَاطِ إنْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً) قِيلَ بِأَنْ كَانَتْ ذَاتَ نُقُوشٍ مِنْ الْحَرِيرِ (لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْكِبْرِ) ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَصْدِهِ وَقِيلَ مُقَيَّدٌ ذَلِكَ بِالنِّيَّةِ، وَفِي الْخُلَاصَةِ كُلُّ مَا فُعِلَ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ يُكْرَهُ، وَمَا لِلْحَاجَةِ لَا (وَيُكْرَهُ سَتْرُ الْحِيطَانِ بِاللُّبُودِ وَنَحْوِهَا لِلزِّينَةِ لَا لِلْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ الرَّجُلِ ثِيَابُ دِيبَاجٍ لَا تُلْبَسُ وَأَوَانٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلتَّجَمُّلِ) لِإِظْهَارِ الْجَمَالِ (لَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَأَمَّا تَطْوِيلُ الثَّوْبِ إلَى مَا تَحْتَ الْكَعْبِ، فَإِنْ كَانَ كِبْرًا فَمَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا) وَعَلَامَتُهُ أَنْ لَا يُلْبَسَ إذَا كَانَ قَصِيرًا (وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، وَأَمَّا لُبْسُ الثِّيَابِ الرَّفِيعَةِ) ثَمَنًا أَوْ نَسْجًا (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ فَجَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَنَحْوِهِمَا) قِيلَ كَمَجَامِعِ الدَّرْسِ، وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ارْتَدَى بِرِدَاءٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَلْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ» وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِرِدَاءٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ (وَأَمَّا) الثِّيَابُ (الْخَشِنَةُ) أَيْ الْغَلِيظَةُ (وَالْمُرَقَّعَةُ فَمُسْتَحَبَّةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ إنْ لَمْ يَقْصِدْ) بِلُبْسِهَا (الرِّيَاءَ) وَإِلَّا حَرُمَ (وَلُبْسُ الْمَخِيطِ وَسَتْرُ الرَّأْسِ بِاللِّبَاسِ الْمُتَّصِلِ) بَعْضُهُ بِبَعْضٍ

(لِلْمُحْرِمِ وَالْوَجْهِ لِلْمُحْرِمَةِ، وَلُبْسُ ثَوْبِ الْغَيْرِ بِلَا إذْنِهِ) أَمَّا مَعَهُ فَلَا بَأْسَ. (وَمِنْهَا مُمَاسَّةُ بَدَنِ الْأَجْنَبِيَّةِ مُطْلَقًا) بِشَهْوَةٍ أَوْ لَا شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا (بِلَا عُذْرٍ إلَّا كَفَّ الْعَجُوزِ لِمَا مَرَّ وَ) مُمَاسَّةُ (عَوْرَةِ الْغَيْرِ مُطْلَقًا) بِشَهْوَةٍ أَوْ لَا مَحْرَمًا أَوْ لَا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (بِلَا عُذْرٍ) كَالتَّدَاوِي (وَالْمُمَاسَّةُ بِشَهْوَةٍ لِغَيْرِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ) الْحَلَالِ (وَيَدْخُلُ فِي الْمُمَاسَّةِ الْمُضَاجَعَةُ وَالْمُعَانَقَةُ وَالتَّقْبِيلُ وَمُمَاسَّةُ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى مَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ بِلَا حَائِلٍ مِنْ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ الْحَائِضَيْنِ أَوْ النُّفَسَاءَيْنِ) وَيَحِلُّ مُمَاسَّتُهُ فَوْقَ الْإِزَارِ. (وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ تَقْبِيلُ يَدِ الْعَالِمِ) أَيْ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ إنَّمَا تَكُونُ مَادِحَةً إذَا قُرِنَ بِالْعَمَلِ وَالْعَالِمُ لَا يَكُونُ عَالِمًا إلَّا بِالْخَشْيَةِ - {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]- فَالْمُرَادُ لَيْسَ إلَّا الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ (وَالسُّلْطَانِ الْعَادِلِ) فَإِنَّ الظَّالِمَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ الِاخْتِيَارِيَّ (جَائِزٌ وَتَكَلَّمُوا فِي تَقْبِيلِ يَدِ غَيْرِهِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ أَرَادَ بِهِ تَعْظِيمَ الْمُسْلِمِ لِإِسْلَامِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) ظَاهِرُهُ الشُّمُولُ لِنَحْوِ الْفَاسِقِ وَالظَّالِمِ فَفِيهِ خَفَاءٌ (وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُقَبِّلَ) ظَاهِرُهُ الشُّمُولُ لِنَحْوِ الْوَالِدَيْنِ كَالصُّلَحَاءِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الشُّمُولَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ (هَذَا) أَيْ الْغَيْرُ (مَعَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَتَاوَى) مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بِهِ) انْتَهَى كَلَامُ الْخُلَاصَةِ، وَفِي الدُّرَرِ وَكُرِهَ تَقْبِيلُ الرَّجُلِ وَعِنَاقُهُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ لَا يُكْرَهُ، وَعَنْ عَطَاءٍ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ الْمُعَانَقَةِ فَقَالَ أَوَّلُ مَنْ عَانَقَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ كَانَ بِمَكَّةَ فَأَقْبَلَ إلَيْهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ فَلَمَّا وَصَلَ إلَى الْأَبْطَحِ قِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَرْكَبَ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَنَزَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فَمَشَى إلَى إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَانَقَهُ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَانَقَ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُعَانَقَةِ وَتَجْوِيزِهَا، وَالشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَفَّقَ بَيْنَهَا فَقَالَ الْمَكْرُوهُ مَا يَكُونُ بِشَهْوَةٍ وَالْجَائِزُ مَا يَكُونُ تَبَرُّكًا وَإِكْرَامًا انْتَهَى وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ تَبَرُّكًا كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَمَا قُبِضَ وَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّالُ مِنْ تَقْبِيلِ يَدِ نَفْسِهِ إذَا لَقِيَ غَيْرَهُ فَمَكْرُوهٌ وَلَا رُخْصَةَ فِيهِ وَمَا يَفْعَلُونَ مِنْ تَقْبِيلِ الْأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْ الْعُلَمَاءِ فَحَرَامٌ وَالْفَاعِلُ وَالرَّاضِي آثِمَانِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عِبَادَةَ الْوَثَنِ وَهُوَ لَيْسَ بِكُفْرٍ عِنْدَ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّحِيَّةَ وَكُفْرٌ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ. (وَمِنْهَا السُّكْنَى فِي الْمَسْكَنِ الْمَغْصُوبِ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلَا إذْنِهِ حَتَّى قِيلَ لَا يَجُوزُ

إجَابَةُ دَعْوَةِ مَنْ سَكَنَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَعِيَادَتُهُ بِلَا إذْنِ صَاحِبِهَا وَمِنْ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ «مَنْ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» ، وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «مَنْ أَخَذَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ» ، وَفِي الْجَامِعِ «وَمَنْ اقْتَطَعَ أَرْضًا ظُلْمًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ، وَفِي شَرْحِهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِمَالِكٍ مُعَيَّنٍ أَوْ لَا كَبَيْتِ الْمَالِ وَسَوَاءٌ اقْتَطَعَهَا لِلتَّمَلُّكِ أَوْ لِيَزْرَعَهَا فَيَرُدَّهَا وَيَشْمَلُ غَيْرَ الْمَالِ كَجِلْدِ مَيْتَةٍ وَسِرْجِينٍ. (وَمِنْهَا عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا) فِيمَا يُبَاحُ فِي الدِّينِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ غَايَةَ التَّعْظِيمِ لَا تَجُوزُ إلَّا لِمَنْ لَهُ غَايَةُ الْعَظَمَةِ وَنِهَايَةُ الْأَنْعَامِ وَهُوَ لَيْسَ إلَّا لَهُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً وَلَا نَاهِيَةً {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] بِأَنْ تُحْسِنُوا أَوْ أَحْسِنُوا إحْسَانًا؛ لِأَنَّهُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرِيُّ لِلْوُجُودِ وَالتَّعَيُّشِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْبَاءُ بِالْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ صِلَتَهُ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء: 23] أَمَّا إنْ الشَّرْطِيَّةِ زِيدَتْ عَلَيْهَا مَا تَأْكِيدًا وَلِذَا صَحَّ لُحُوقُ النُّونِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْفِعْلِ وَأَحَدُهُمَا فَاعِلُ يَبْلُغَنَّ أَوْ بَدَلٌ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ مِنْ أَلِفِ يَبْلُغَانِ الرَّاجِعِ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَكِلَاهُمَا عَطْفٌ عَلَى أَحَدِهِمَا فَاعِلًا أَوْ بَدَلًا وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلْأَلِفِ وَمَعْنَى عِنْدَك أَنْ يَكُونَا فِي كَنَفِك وَكَفَالَتِك. {فَلا تَقُلْ لَهُمَا} [الإسراء: 23] فَلَا تَتَضَجَّرْ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ مِنْهُمَا وَيُسْتَثْقَلُ مِنْ مُؤْنَتِهِمَا {أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَهُوَ صَوْتٌ يَدُلُّ عَلَى التَّضَجُّرِ وَقِيلَ اسْمٌ هُوَ التَّضَجُّرُ، وَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ قِيَاسًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَقِيلَ عُرْفًا نَهَى عَمَّا يُؤْذِيهِمَا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وَلَا تَزْجُرْهُمَا عَمَّا لَا يُعْجِبُك بِإِغْلَاظٍ وَقِيلَ النَّهْيُ وَالنَّهْرُ وَالنَّهَمُ أَخَوَاتٌ {وَقُلْ لَهُمَا} [الإسراء: 23] بَدَلَ التَّأْفِيفِ وَالنَّهْرِ {قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] جَمِيلًا لَا سُوءَ فِيهِ {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24] تَذَلَّلْ لَهُمَا وَتَوَاضَعْ لَهُمَا وَإِضَافَتُهُ إلَى الذُّلِّ لِلْبَيَانِ وَالْمُبَالَغَةِ كَمَا أُضِيفَ حَاتِمٌ إلَى الْجُودِ {مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] مِنْ فَرْطِ رَحْمَتِك عَلَيْهِمَا لِافْتِقَارِهِمَا إلَى مَنْ كَانَ أَفْقَرَ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِمَا {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا} [الإسراء: 24] وَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَهُمَا بِرَحْمَتِهِ الْبَاقِيَةِ وَلَا تَكْتَفِ بِرَحْمَتِك الْفَانِيَةِ، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ الرَّحْمَةِ أَنْ يَهْدِيَهُمَا {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] رَحْمَةً مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا عَلَيَّ وَتَرْبِيَتِهِمَا وَإِرْشَادِهِمَا لِي فِي صِغَرِي وَفَاءً بِوَعْدِك لِلرَّاحِمِينَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] أَيْ بِإِحْسَانِهِمَا وَبِرِّهِمَا {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] الْآيَةَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - شِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَشَقَّةً عَلَى مَشَقَّةٍ وَيُقَالُ الْحَمْلُ ضَعْفٌ وَالطَّلْقُ ضَعْفٌ وَالْوَضْعُ ضَعْفٌ وَيُقَالُ لِلْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ عَشَرَةُ حُقُوقٍ: الْأَوَّلُ إذَا احْتَاجَا إلَى الطَّعَامِ أَطْعَمْهُمَا

الثَّانِي: إذَا احْتَاجَا إلَى الْكِسْوَةِ كَسَاهُمَا إنْ قَدَرَ. الثَّالِثُ: إذَا احْتَاجَا إلَى الْخِدْمَةِ خَدَمَهُمَا. الرَّابِعُ: إذَا دَعْوَاهُ أَجَابَهُمَا وَحَضَرَهُمَا. الْخَامِسُ: إذَا أَمَرَاهُ بِأَمْرٍ أَطَاعَهُمَا مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا فِي الشُّبُهَاتِ فَاخْتُلِفَ فَالْأَكْثَرُ الْإِطَاعَةُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الشُّبْهَةِ وَرَعٌ وَرِضَا الْوَالِدَيْنِ حَتْمٌ، وَقَدْ سَبَقَ لَا يَخْرُجُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ بِلَا إذْنٍ، وَأَمَّا الْخُرُوجُ إلَى فَرْضِ الْحَجِّ، فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا مُحْتَاجَيْنِ إلَى خِدْمَتِهِ فَلَا يَخْرُجُ وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ وَعِنْدَ غَلَبَةِ خَوْفِ الطَّرِيقِ لَا يَخْرُجُ مُطْلَقًا بِلَا إذْنٍ، وَكَذَا سَائِرُ كُلِّ سَفَرٍ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ يَضُرُّ بِهِمَا وَيُؤْذِيهِمَا كَمَا فِي قَاضِي خَانْ، وَفِي كَنْزِ الْعِبَادِ لَا يُسَافِرُ بِغَيْرِ إذْنِ أُسْتَاذِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ عَاقًّا فِي سَفَرِهِ فَلَا يَجِدُ مِنْ بَرَكَاتِ سَفَرِهِ شَيْئًا. انْتَهَى. السَّادِسُ: الْكَلَامُ بِاللِّينِ بِدُونِ عُنْفٍ. السَّابِعُ: لَا يَدْعُوهُمَا بِاسْمِهِمَا. الثَّامِنُ: يَمْشِي خَلْفَهُمَا. التَّاسِعُ: أَنْ يَرْضَى لَهُمَا مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَيَكْرَهَ لَهُمَا مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ. الْعَاشِرُ: أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُمَا بِالْمَغْفِرَةِ كُلَّمَا يَدْعُو لِنَفْسِهِ، وَعَنْ الصَّحَابَةِ تَرْكُ الدُّعَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ يُضَيِّقُ الْعَيْشَ وَطَرِيقُ إرْضَائِهِمَا عِنْدَ مَوْتِهِمَا عَلَى السُّخْطِ إنَّمَا يَكُونُ بِصَلَاحِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِمَا مِنْ صَلَاحِهِ وَبِصِلَةِ قَرَابَتِهِمَا وَأَصْدِقَائِهِمَا وَبِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ لَهُمَا «قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَبَوَيَّ قَدْ مَاتَا فَهَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّهِمَا عَلَيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ نَعَمْ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إلَّا بِهِمَا» . (خ ت س عَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الْكَبَائِرُ» لَيْسَ الْمُرَادُ الْحَصْرَ فَإِنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِي مَا عَدَاهُ وَمَفْهُومُ الْمُخَالِفِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا أَوْ الزِّيَادَةُ لَمْ تُوحِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ هَذَا الْبَيَانِ فَلَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «الْإِشْرَاكُ» بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَحْوِ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ نَبِيٍّ أَوْ شَيْخٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ نَجْمٍ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْإِشْرَاكِ مُطْلَقُ الْكُفْرِ وَتَخْصِيصُ الشِّرْكِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ حَالَتَئِذْ وَاحْتِمَالُ إرَادَةِ تَخْصِيصِهِ رُدَّ بِأَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَقْبَحُ مِنْ الشِّرْكِ وَهُوَ التَّعْطِيلُ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُطْلَقٌ وَالْإِشْرَاكُ إثْبَاتٌ مُقَيَّدٌ ( «وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» مَصْدَرُ عَقَّ يُقَالُ عَقَّ وَالِدَهُ يَعُقُّهُ عُقُوقًا فَهُوَ عَاقٌّ إذَا آذَاهُ وَعَصَاهُ وَخَرَجَ عَلَيْهِ، وَفِي الْفَيْضِ، وَإِنْ عَلَوْا كَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْعُقُوقُ كُلُّ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدُ تَأَذِّيًا لَيْسَ بِهَيِّنٍ مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ كَابْنِ الصَّلَاحِ انْتَهَى لَكِنَّ فِيهِ نَوْعَ تَأَمُّلٍ بِمَا ذُكِرَ آنِفًا «وَقَتْلُ النَّفْسِ» بِغَيْرِ حَقٍّ «وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» طط عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ لَا يَنْفَعُ مَعَهُنَّ عَمَلٌ» أَيْ مَعَ كُلٍّ مِنْهُنَّ نَفْعًا تَامًّا أَوْ رَأْسًا إنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ «الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» بِأَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مَا لَمْ يَتَعَنَّتْ الْوَالِدُ وَضَبَطَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي الْمُبَاحِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَنَدْبًا فِي الْمَنْدُوبِ وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ كَذَلِكَ «وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ» حِينَ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ كَكَوْنِهِمْ ضِعْفَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ عَنْ الْبَيْهَقِيّ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ (حك طب عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا» أَيْ مِنْ عُقُوبَتِهَا وَانْتِقَامِهَا «مَا شَاءَ اللَّهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» إمْهَالًا «إلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ» الدُّنْيَا «قَبْلَ الْمَمَاتِ» وَلَا يَغْتَرُّ الْعَاقُّ بِالتَّأْخِيرِ بَلْ يَقَعُ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ ظُهُورِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. (طط عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إيَّاكُمْ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ» فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ

«يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ» لَا يُتَوَهَّمُ التَّنَافِي بِمَا وَرَدَ أَنَّهُ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَمَلِ قُوَّةً وَضَعْفًا قِلَّةً وَكَثْرَةً «وَاَللَّهِ لَا يَجِدُهَا» أَيْ رِيحَهَا «عَاقٌّ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ وَتَشْمَلُ الْقِلَّةَ أَيْضًا «وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ» وَاجِبٌ صِلَتُهَا، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُ «وَلَا شَيْخٌ زَانٍ» لِأَنَّ ارْتِكَابَ الزِّنَا مَعَ خُمُودِ شَهْوَتِهِ نَاشِئٌ مِنْ تَمَرُّدِهِ وَنِسْيَانِ آخِرَتِهِ وَقِلَّةِ خَوْفِ رَبِّهِ «وَلَا جَارٌّ» اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ جَرَّ بِمَعْنَى سَحَبَ «إزَارَهُ خُيَلَاءَ» أَيْ كِبْرًا «إنَّمَا الْكِبْرِيَاءُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ مِمَّا خُصَّ بِهِ تَعَالَى وَصَدْرُ الْحَدِيثِ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اتَّقُوا اللَّهَ وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ثَوَابٍ أَسْرَعَ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَإِيَّاكُمْ وَالْبَغْيَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ أَسْرَعَ مِنْ عُقُوقِ الْبَغْيِ» الْحَدِيثَ وَفِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ عَنْ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنَ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . وَفِي رِوَايَةٍ «قَالَ جِئْت أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْت أَبَوِيَّ يَبْكِيَانِ قَالَ ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» وَفِي رِوَايَةٍ «أَتَى رَجُلٌ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَالَ إنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَقَالَ هَلْ بَقِيَ مِنْ وَالِدَيْك أَحَدٌ فَقَالَ أُمِّي فَقَالَ قَابِلْ اللَّهَ فِي بِرِّهَا فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهِدٌ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ وَفِي رِوَايَةٍ «الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ» . «وَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّهُمَا عَلَى وَلَدِهِمَا؟ قَالَ: هُمَا جَنَّتُك وَنَارُك» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا أَتَى أَبَا الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ إنَّ لِي امْرَأَةً وَأُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ الْوَالِدَانِ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ شِئْت فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. ، وَعَنْ «ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا فَقَالَ طَلِّقْهَا فَأَبَيْت فَأَتَى عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَلِّقْهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ طُوبَى لَهُ وَزَادَ اللَّهُ فِي عُمْرِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَوْ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «صَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِنْبَرَ فَقَالَ آمِينَ آمِينَ آمِينَ فَقَالَ أَتَانِي جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقُلْ آمِينَ فَقُلْت آمِينَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَمَاتَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأُدْخِلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ فَقُلْ آمِينَ فَقُلْت آمِينَ فَقَالَ وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ فَقُلْ آمِينَ فَقُلْت آمِينَ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. «وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَهِدْت أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ وَصَلَّيْت الْخَمْسَ وَأَدَّيْت الزَّكَاةَ وَصُمْت رَمَضَانَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا وَنَصَبَ أُصْبُعَيْهِ مَا لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيْهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَةُ الْعُقُوقِ مِنْ النُّصُوصِ مُطْلَقَةً وَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ فِي نَفْسِهِ عَلَى إطْلَاقِهَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (اعْلَمْ أَنَّ الْعُقُوقَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمُخَالَفَةِ فِي غَيْرِ الْمَعْصِيَةِ) الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الَّذِي اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ مَعْصِيَةً مِثْلَ أَكْلِ صَوْمِ النَّفْلِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَفِيهِ أَيْضًا عُقُوقٌ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (إذْ لَا طَاعَةَ لِلْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَإِلَيْهِ) أَيْ فِي عَدَمِ الْإِطَاعَةِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ (أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ - {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] الْآيَةَ) وَالْآيَةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْإِطَاعَةِ فِي الشِّرْكِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَعَاصِي قِيَاسًا عَلَيْهِ بِجَامِعِ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ

تَعَالَى بِالِاخْتِيَارِ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي، أَقُولُ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ يَعْنِي الْمُشَارَكَةَ فِي مُطْلَقِ الْجِنْسِ مَا لَمْ يَكُنْ جِنْسًا أَبْعَدَ كَافِيَةٌ فِي الْقِيَاسِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ. وَفِي الْجَامِعِ «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ يُجْزِئُ عَنْ الْجِهَادِ أَيْ: يَقُومُ مَقَامَهُ» فَكَأَنَّهُ لِوَقْعَةٍ خَاصَّةٍ مُقْتَضِيَةٍ لِذَلِكَ وَإِلَّا فَمَرْتَبَةُ الْجِهَادِ أَعْلَى وَأَعْظَمُ. وَفِيهِ أَيْضًا بِرُّ الْوَالِدَيْنِ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ كَمَا فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ أَيْضًا فَفِي السَّفْرِ الثَّانِي مِنْ التَّوْرَاةِ أَكْرِمْ أَبَاك وَأُمَّك لِيَطُولَ عُمْرُك فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكهَا الرَّبُّ إلَهُك، وَفِيهِ أَيْضًا بِرُّوا آبَاءَكُمْ أَيْ وَأُمَّهَاتِكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَفِي الْمِفْتَاحِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، وَقَالَ «بِرُّ الْوَالِدَةِ عَلَى الْوَالِدِ ضِعْفَانِ» . وَقَالَ «الْوَالِدَةُ أَسْرَعُ إجَابَةً قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: هِيَ أَرْحَمُ مِنْ الْأَبِ وَدَعْوَةُ الرَّحِيمِ لَا تَسْقُطُ» قَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْغُلَامُ يُعَقُّ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُسَمَّى وَيُمَاطُ عَنْهُ الْأَذَى فَإِذَا بَلَغَ سِتَّ سِنِينَ أُدِّبَ فَإِذَا بَلَغَ تِسْعَ سِنِينَ عُزِلَ فِرَاشُهُ فَإِذَا بَلَغَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ضُرِبَ عَلَى الصَّلَاةِ فَإِذَا بَلَغَ سِتَّ عَشَرَةَ زَوَّجَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ أَدَّبْتُك وَعَلَّمْتُك وَأَنْكَحْتُك أَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِتْنَتِك فِي الدُّنْيَا وَعَذَابِك فِي الْآخِرَةِ» وَقِيلَ وَلَدُك رَيْحَانَتُك سَبْعًا وَخَادِمُك تِسْعًا، ثُمَّ هُوَ عَدُوُّك أَوْ صَدِيقُك، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» انْتَهَى وَفِي الْمُنَاوِيِّ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ فِي وُجُوبِ احْتِرَامِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَعَدَمِ مُخَالَفَةِ مَا يُشِيرُ بِهِ وَيَرْتَضِيهِ (وَأَنَّ الْكُفْرَ لَا يَحِلُّ) أَيْ لَا يَجْعَلُ حَلَالًا (الْعُقُوقَ) لِلْوَالِدَيْنِ فِي الْفَيْضِ عَنْ الرَّازِيّ قَوْله تَعَالَى - {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]- غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فَالْعِلَّةُ مُجَرَّدُ كَوْنِهِمَا وَالِدَيْنِ، وَلَوْ كَافِرَيْنِ وَقِيلَ قَوْله تَعَالَى - {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]- أُنْزِلَتْ فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ (حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ) ، وَكَذَا الْكِسْوَةُ وَالسُّكْنَى إمَّا بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ تَغْلِيبٍ أَوْ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ (وَخِدْمَتُهُمَا وَبِرُّهُمَا وَزِيَارَتُهُمَا إلَّا أَنْ يَخَافَ أَنْ يَجْلِبَاهُ إلَى الْكُفْرِ) بِحَدَاثَةِ سِنِّهِ أَوْ بِحَدَاثَةِ إسْلَامِهِ وَلَمْ تَرْسُخْ قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ فِي قَلْبِهِ (فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَزُورَ حِينَئِذٍ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ) وَمُقْتَضَى التَّفْرِيعِ أَنْ يَضُمَّ الْخِدْمَةَ لَا سِيَّمَا الْخِدْمَةُ فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاضْطِرَارِ فَالْهَلَاكُ عِنْدَ عَدَمِ الْخِدْمَةِ قَطْعِيٌّ وَالْجَلْبُ إلَى الْكُفْرِ وَهْمِيٌّ (وَلَا يَقُودُهُمَا إلَى الْبِيعَةِ) مَثَلًا (وَيَقُودُهُمَا مِنْهَا إلَى الْمَنْزِلِ) ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ إلَيْهَا مَعْصِيَةٌ بِخِلَافِهِ إلَى الْمَنْزِلِ. (تَتِمَّةٌ) فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ فَلَا يُرْضِعُ إلَّا صَالِحَةٌ لَا تَأْكُلُ الْحَرَامَ فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَاصِلَ مِنْ الْحَرَامِ لَا بَرَكَةَ لَهُ، وَإِذَا رَضَعَ مِنْهُ مَالَ طَبْعُهُ إلَى مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْخَبَائِثِ، ثُمَّ يُعَلِّمُهُ آدَابَ الْأَكْلِ بِحَيْثُ لَا يُوَالِي اللُّقَمَ وَلَا يُلَطِّخُ يَدَهُ وَثَوْبَهُ، وَيَذُمُّ عِنْدَهُ سَيِّئَ الْأَخْلَاقِ مِنْ الصِّبْيَانِ، وَيَمْدَحُ حِسَانَ أَخْلَاقِهِمْ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ إلَى الْمَكْتَبِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَيَذْكُرَ عِنْدَهُ أَحَادِيثَ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنَاقِبَ الصُّلَحَاءِ، وَيَحْفَظُهُ عَمَّنْ لَا يَضْبِطُ لِسَانَهُ عَنْ الْفُحْشِ وَلَا جَوَارِحَهُ عَنْ الْقَبَائِحِ كَالشُّعَرَاءِ فَإِذَا صَدَرَ مِنْهُ خُلُقٌ جَمِيلٌ أَوْ فِعْلٌ حَسَنٌ يُكْرَمُ وَيُجَازَى عَلَيْهِ بِمَا يَفْرَحُ بِهِ وَيُمْدَحُ بِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ، فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ أَحْيَانًا يُتَغَافَلُ وَلَا يُكْشَفُ، فَإِنْ عَادَ ثَانِيًا يُعَاقَبُ سِرًّا وَيُهَدِّدُهُ وَيَجْعَلُ الْأَمْرَ عَظِيمًا وَلَا يُكْثِرُ التَّخْوِيفَ بِالْعِقَابِ فِي كُلِّ حِينٍ، وَالْأُمُّ تُخَوِّفُهُ بِالْأَبِ وَتَزْجُرُهُ بِالْقَبَائِحِ، وَيُعَوَّدُ الْخُشُونَةَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمِفْرَشِ، وَيُعَوَّدُ التَّوَاضُعَ وَالْحِلْمَ وَالْإِكْرَامَ لِكُلِّ مَنْ عَاشَرَهُ، وَيُعَلَّمُ الْعَطَاءَ وَيُمْنَعُ الْأَخْذَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَيُقَبَّحُ إلَيْهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالطَّمَعُ، وَيُعَلَّمُ آدَابَ الْجُلُوسِ عِنْدَ النَّاسِ وَيُمْنَعُ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَيُؤْذَنُ بَعْدَ الْمَكْتَبِ أَوْ التَّعْلِيمِ بِاللَّعِبِ الْيَسِيرِ لِئَلَّا يَذْهَبَ ذَكَاؤُهُ وَيَمُوتَ قَلْبُهُ وَيُعَلَّمُ طَاعَةَ الْوَالِدَيْنِ وَطَاعَةَ مُعَلِّمِهِ وَمُؤَدِّبِهِ وَمَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ وَقَوَاعِدَ إكْرَامِهِمْ وَيُمْنَعُ مِنْ اللَّعِبِ فِي مَحْضَرِهِمْ وَيُعَلِّمُهُ مِنْ حُدُودِ الشَّرْعِ، وَيُخَوِّفُهُ مِنْ

قطع الرحم

نَحْوِ السَّرِقَةِ وَالْحَرَامِ وَمِنْ نَحْوِ الْغَيْبَةِ وَالْكَذِبِ وَفُحْشِيَّاتِ الْكَلَامِ، وَيُعَلِّمُهُ فَنَاءَ الدُّنْيَا وَزَوَالَهَا وَأَنَّ الْمَوْتَ مُنْتَظَرٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَيُرَغِّبُهُ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهَا، وَيُخَوِّفُهُ النَّارَ وَمَا يَكُونُ بَاعِثًا إلَيْهَا وَيَقُولُ إنَّ الْجَنَّةَ لِمَنْ كَانَ قَارِئًا وَعَالِمًا وَالنَّارَ لِمَنْ كَانَ جَاهِلًا وَفَاسِقًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ خُلِقَ جَوْهَرَةً قَابِلَةً لِلنَّقْشِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يَمِيلَانِ بِهِ إلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» فَأَكْلُ الْحَرَامِ مَنْشَأٌ لِكَوْنِ الْوَلَدِ شِرِّيرًا فَإِنَّهُمَا عِنْدَ عَدَمِ اجْتِنَابِهِمَا مِنْ الْحَرَامِ يَكُونُ طَبْعُ الْوَلَدِ مَائِلًا إلَى كُلِّ الشَّرِّ، وَفِي هَذَا الزَّمَانِ أَكْثَرُ النَّاسِ شِرِّيرًا وَفَاسِقًا إنَّمَا هُوَ مِنْ حُصُولِهِمْ مِنْ لُقْمَةِ الْحَرَامِ كَذَا فِي التَّبْيِينِ وَفِي الشِّرْعَةِ وَيُعَلَّمُ الْكِتَابَ إذَا عَقَلَ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَيُعَلَّمُ السِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ وَلَا يَرْزُقُهُ إلَّا طَيِّبًا وَأَنَّ الْوَلَدَ أَمَانَةُ اللَّهِ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَيَجْتَهِدُ فِي صِيَانَةِ دِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَيُؤَدِّبُهُ بِآدَابِ اللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرَبِ فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمُؤَاخَذٌ بِالتَّقْصِيرِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ يُعَلِّمُهُ أَوَّلًا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وقَوْله تَعَالَى {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] وَيُلَقِّنُهُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَآخِرَ سُورَةِ الْحَشْرِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُحَاسِبْهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُعَوِّدُهُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَثَوَابِهِ لِلْوَالِدِ، وَيُسَوِّي بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطَاءِ، وَيُعَاشِرُ الْأَوْلَادَ بِالْمَرْحَمَةِ وَالْعَطْفِ وَاللِّينِ، وَيُقَبِّلُهُمْ عَنْ شَفَقَةٍ وَرَأْفَةٍ وَيُبَاسِطُهُمْ فِي الْكَلَامِ وَاللَّعِبِ الْمُبَاحِ «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدْلِعُ لِسَانَهُ لِلْحَسَنِ» فَإِذَا رَأَى الصَّبِيُّ حُمْرَةَ لِسَانِهِ يَهْتَدِي وَلَا يَضِيقُ قَلْبُهُ بِبُكَاءِ الرَّضِيعِ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ وَتَهْلِيلٌ وَتَحْمِيدٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِوَالِدَيْهِ. [قَطْعُ الرَّحِمِ] (وَمِنْهَا) أَيْ مِنْ الْآفَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ (قَطْعُ الرَّحِمِ) وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ» أَيْ قَدَّرَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقْتَ جُهُودِهِمْ «حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُمْ» أَيْ أَتَمَّ قَضَاءَهُمْ وَالْفَرَاغُ تَمْثِيلٌ وَقَوْلُ الْأَكْمَلِ خَلَقَ إنْ كَانَ بِمَعْنَى أَوْجَدَ فَالْفَرَاغُ عَلَى حَقِيقَتِهِ رُدَّ بِأَنَّ الْفَرَاغَ الْحَقِيقِيَّ بَعْدَ الشُّغْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ ثُمَّ إنَّ ذَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِبْرَازِهِمَا لِلْوُجُودِ أَوْ بَعْدَ خَلْقِهِمَا كَتَبَ فِي اللَّوْحِ أَوْ بَعْدَ انْتِهَاءِ خَلْقِ أَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] «قَامَتْ الرَّحِمُ» حَقِيقَةً بِأَنْ تَتَجَسَّدَ وَتَتَكَلَّمَ، وَالْقُدْرَةُ صَالِحَةٌ، أَوْ هُوَ تَمْثِيلٌ وَاسْتِعَارَةٌ إذْ الرَّحِمُ مَعْنًى وَهُوَ الِاتِّصَالُ الْقُرْبِيُّ مِنْ النَّسَبِ فَشُبِّهَتْ بِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى الصِّلَةِ فَاسْتَعَاذَتْ مِنْ الْقَطِيعَةِ وَالْمُرَادُ تَفْخِيمُ شَأْنِهَا «فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ» الْحَقْوُ شَدُّ الْإِزَارِ كِنَايَةً عَنْ كَمَالِ التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّضَرُّعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَوْفًا مِنْ الْقَطِيعَةِ كَمَا أَنَّ أَخْذَ حَقْوِ إنْسَانٍ دَالٌّ عَلَى كَمَالِ تَضَرُّعِ الْآخِذِ وَتَذَلُّلِهِ لِأَجْلِ حُصُولِ مُرَادِهِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الْمُسْتَجِيرِ أَنْ يَأْخُذَ بِذَيْلِ الْمُسْتَجَارِ بِهِ أَوْ بِطَرَفِ إزَارِهِ وَرُبَّمَا يَأْخُذُ بِحَقْوِ إزَارِهِ تَفْضِيحًا لِأَمْرِهِ وَمُبَالَغَةً وَتَوْكِيدًا فِي الِاسْتِجَارَةِ فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِهِ إلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَنْ يَحْرُسَهُ وَيَذُبَّ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَاصِقٌ بِهِ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُ فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِلرَّحِمِ وَاسْتِعَاذَتِهَا بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقَطِيعَةِ وَهُوَ أَيْضًا مَجَازٌ إدْنَاءً لِلْمَعْنَى الْمَعْقُولِ إلَى الْمِثَالِ الْمَحْسُوسِ الْمُعْتَادِ بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى فَهْمِهِمْ وَأَمْكَنَ فِي نُفُوسِهِمْ لَا أَنَّ ثَمَّةَ حَقِيقَةَ قِيَامٍ وَصُورَةَ كَلَامٍ كَمَا تَقُولُ أَرَدْت أَنْ أَقْطَعَ مَحَبَّتَك فَقَامَتْ مَحَبَّتُك فَثَبَتَتْ بِقَلْبِي أَوْ الْمُرَادُ بِقِيَامِهَا قِيَامُ مَلَكٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى لِسَانِهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّحِمُ مُصَوَّرَةً بِصُورَةٍ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى «فَقَالَ» تَعَالَى لَهَا «مَهْ» أَيْ اُسْكُتِي وَاكْفُفِي عَنْ هَذَا «قَالَتْ» أَيْ الرَّحِمُ مَقَالًا أَوْ حَالًا «هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِك» أَيْ مَقَامِي هَذَا مَقَامُ الْمُسْتَجِيرِ بِك «مِنْ الْقَطِيعَةِ» يَعْنِي سَبَبُ عِيَاذِي بِحَقْوِك خَشْيَةَ أَنْ يَقْطَعَنِي أَحَدٌ «قَالَ» تَعَالَى «نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ» خِطَابٌ لِلرَّحِمِ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ لِمَا بَعْدَ

مَا النَّافِيَةِ «أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَك» بِأَنْ أَعْطِفَ وَأُحْسِنَ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ إحْسَانِهِ «وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَك» كِنَايَةٌ عَنْ حِرْمَانِ إنْعَامِهِ «قَالَتْ بَلَى قَالَ» تَعَالَى «فَذَلِكَ» أَيْ الْحُكْمُ السَّابِقُ حَصَلَ «لَكِ» بِكَسْرِ الْكَافِ فِيهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ بِالْمَالِ وَنَحْوِ عَوْنٍ عَلَى حَاجَةٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ وَطَلَاقَةِ وَجْهٍ وَدُعَاءٍ وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ إيصَالُ الْمُمْكِنِ مِنْ خَيْرٍ وَدَفْعُ الْمُمْكِنِ مِنْ شَرٍّ وَهَذَا إنَّمَا يَطَّرِدُ إنْ اسْتَقَامُوا وَإِلَّا، فَإِنْ فَجَرُوا فَقَطِيعَتُهُمْ فِي اللَّهِ صِلَتُهُمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجَهْدِ فِي وَعْظِهِمْ وَمِنْ ثَمَّةَ قَتَلَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبَاهُ كَافِرًا غَضَبًا لِلَّهِ وَنُصْرَةً لِدِينِهِ « (ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] فَهَلْ يُتَوَقَّعُ مِنْكُمْ {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [محمد: 22] أُمُورَ النَّاسِ وَتَأَمَّرْتُمْ عَلَيْهِمْ أَوْ أَعْرَضْتُمْ وَتَوَلَّيْتُمْ عَنْ الْإِسْلَامِ {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] » وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ فِي الدِّينِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا أَحِقَّاءٌ بِأَنْ يَتَوَقَّعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمْ وَيَقُولَ لَهُمْ هَلْ عَسَيْتُمْ {أُولَئِكَ} [محمد: 23] إشَارَةٌ إلَى الْمَذْكُورِينَ {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: 23] لِإِفْسَادِهِمْ وَقَطْعِهِمْ الْأَرْحَامَ {فَأَصَمَّهُمْ} [محمد: 23] عَنْ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] فَلَا يَهْتَدُونَ إلَى سَبِيلِهِ {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد: 24] يَتَفَحَّصُونَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ حَتَّى لَا يَجْتَرِئُوا عَلَى الْمَعَاصِي {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] لَا يَصِلُ إلَيْهَا ذِكْرٌ وَلَا يَنْكَشِفُ لَهَا أَمْرٌ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ عَلَى قُلُوبٍ أَغْطِيَتُهَا بِشُؤْمِ أَعْمَالِهِمْ أَيْ الْقَبِيحَةِ فَلِذَلِكَ لَا يَتَدَبَّرُونَهُ وَلَا يَعْتَنُونَهُ (صب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَنَّ الرَّحْمَةَ لَا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ» بِنَحْوِ إيذَاءٍ وَهَجْرٍ، أَرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ عَلَى الْعُمُومِ لِقُوَّةِ جُرْمِهِ يَعُودُ عَلَى جُلَسَائِهِ بِالْحِرْمَانِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ الْمَطَرُ فَيَحْبِسُ عَنْهُمْ الْمَطَرَ بِشُؤْمِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ وَيُحْتَمَلُ تَخْصِيصُ هَذَا بِمَا إذَا عَلِمُوا فَلَمْ يَمْنَعُوهُ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا بَلْ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِنَاءِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَفْتَقِدُونَ بَعْضَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى طَلَبِ هَجْرِ الْقَاطِعِ فِي الْمَجْلِسِ وَيَنْبَغِي تَرْكُ مُجَاوَرَتِهِ لِمَنْ تَيَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يُرَافِقُ فِي سَفَرِهِ وَنَحْوِهِ قِيلَ ضَعَّفَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَعَنْ الْبَيْهَقِيّ فِيهِ أَبُو آدَمَ الْمُحَارِبِيُّ وَهُوَ كَذَّابٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ (طب عَنْ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ جَالِسًا بَعْدَ الصُّبْحِ فِي حَلْقَةٍ) مِنْ النَّاسِ (فَقَالَ أُنْشِدُ اللَّهَ) تَعَالَى أَيْ سَأَلْت بِاَللَّهِ تَعَالَى (قَاطِعَ رَحِمٍ) مَفْعُولٌ ثَانٍ (لَمَّا قَامَ عَنَّا) أَيْ إلَّا قَامَ عَنْ مَجْلِسِنَا وَلَمْ يَجْلِسْ مَعَنَا (فَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَدْعُوَ رَبَّنَا) بِحَوَائِجِنَا الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ (وَإِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ مُرْتَجَّةٌ) أَيْ مُغْلَقَةٌ (دُونَ قَاطِعِ رَحِمٍ) فَإِذَا دَعَا مَعَنَا

يُرَدُّ دُعَاؤُهُ عَلَيْهِ وَبِسَبَبِهِ يُرَدُّ دُعَاؤُنَا عَلَيْنَا. (اعْلَمْ أَنَّ قَطْعَ الرَّحِمِ حَرَامٌ) كَبِيرَةٌ (وَوَصْلُهَا وَاجِبٌ وَمَعْنَاهُ) أَيْ الْوَصْلُ (أَنْ لَا يَنْسَاهَا) أَيْ الرَّحِمَ (وَيَتَفَقَّدَهَا بِالزِّيَارَةِ) وَبِالْوُصُولِ إلَى الْمَنْزِلِ (أَوْ الْإِهْدَاءِ) لَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ (أَوْ الْإِعَانَةِ بِالْيَدِ أَوْ الْقَوْلِ وَأَقَلُّهُ) أَدْنَاهُ (التَّسْلِيمُ) بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ (أَوْ إرْسَالُ السَّلَامِ) إنْ بَعِيدًا (أَوْ الْمَكْتُوبُ وَلَا تَوْقِيتَ فِيهِ) وَقْتًا مُعَيَّنًا بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْعُرْفُ الْمَأْلُوفُ لَا كَمَا يَقُولُ بَعْضُ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ، وَفِي الدُّرَرِ صِلَةُ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ، وَلَوْ بِسَلَامٍ وَهَدِيَّةٍ وَتَحِيَّةٍ، وَهِيَ مُعَاوَنَةُ الْأَقَارِبِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ وَالتَّلَطُّفُ بِهِمْ وَالْمُجَالَسَةُ لَهُمْ وَالْمُكَالَمَةُ مَعَهُمْ وَيَزُورُ ذَا الْأَرْحَامِ غِبًّا فَإِنَّ ذَلِكَ يُزِيدُ الْفَتَى حُبًّا بَلْ يَزُورُ أَقْرِبَاءَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ أَوْ شَهْرٍ وَتَكُونُ كُلُّ قَبِيلَةٍ وَعَشِيرَةٍ يَدًا وَاحِدَةً فِي التَّنَاصُرِ وَالتَّظَاهُرِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَلَا يَرُدُّ بَعْضُهُمْ حَاجَةَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقَطِيعَةِ وَيَنْزِلُ الْعَمُّ وَالْأَخُ وَالْخَالُ مَنْزِلَةَ الْوَالِدِ وَتَنْزِلُ الْخَالَةُ وَالْعَمَّةُ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ فِي التَّوْقِيرِ وَالطَّاعَةِ، وَفِي الْخِدْمَةِ كَمَا فِي الشِّرْعَةِ (وَيَجِبُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ) ، وَفِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ اخْتَلَفُوا فِي الرَّحِمِ الَّتِي يَجِبُ صِلَتُهَا قَالَ قَوْمٌ هِيَ قَرَابَةُ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ قَرَابَةُ كُلِّ قَرِيبٍ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ قَالَ النَّوَوِيُّ لِلصِّلَةِ دَرَجَاتٌ بِاعْتِبَارِ يُسْرِ الْوَاصِلِ أَوْ عُسْرِهِ وَأَدْنَاهُ تَرْكُ الْمُهَاجَرَةِ عَنْ قَرِيبِهِ. (وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ ذِي الرَّحِمِ كَبِنْتِ الْعَمِّ وَالْخَالِ (وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ جَوَازُ النِّكَاحِ) لِأَنَّهُ أَمَارَةُ التَّقَاطُعِ (وَالْجَمْعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ فُرِضَ كُلٌّ مِنْهُمَا ذَكَرًا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى إذْ عِلَّةُ عَدَمِ جَوَازِ النِّكَاحِ وَالْجَمْعِ لُزُومُ قَطْعِ الرَّحِمِ فِي الْجَوَازِ) ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ إذْ الْمُعَادَاةُ مُعْتَادَةٌ بَيْنَ الضَّرَائِرِ لَعَلَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْوُجُوبِ فَقَطْ فَإِنَّ اسْتِحْبَابَ صِلَةِ الْأَبَاعِدِ مِنْ الْأَقْرِبَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ شَرْعِيَّةُ الْمَعَاقِلِ وَقِيلَ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]- إنَّ الرَّجُلَ لَيَصِلُ رَحِمَهُ، وَقَدْ بَقِيَ فِي عُمْرِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَيَزِيدُ اللَّهُ تَعَالَى فِي عُمْرِهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَقْطَعُ رَحِمَهُ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَيَحُطُّ اللَّهُ تَعَالَى إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَفِي الشِّرْعَةِ فِي الْحَدِيثِ «صِلَةُ الرَّحِمِ تُزِيدُ الْعُمْرَ» ، وَفِي حَدِيثِ الْأَرْبَعِينَ لِابْنِ الْكَمَالِ «الصَّدَقَةُ وَالصِّلَةُ تُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ وَتَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ» . وَأَمَّا الْإِشْكَالُ بِأَنَّ الْآجَالَ وَاحِدَةٌ وَمُقَدَّرَةٌ لَا تُسْتَأْخَرُ فَأَجَابَ عَنْهُ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ بِثُبُوتِ الْأَجَلِ الْمُعَلَّقِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بِمَا أُظْهِرَ إلَى الْمَلَائِكَةِ وَكُتِبَ فِي اللَّوْحِ لَا بِمَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى، وَلِذَا أُوِّلَ مِثْلُ ذَلِكَ بِالْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ وَبَقَاءِ ذِكْرِ الْجَمِيلِ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ كَالْحَيَاةِ وَبِأَنَّهُ فِي مَعْنَى لَوْ بُسِطَ فِي أَجَلِ أَحَدٍ بِعَمَلٍ لَبُسِطَ بِالصِّلَةِ وَبِأَنَّهُ يُثَابُ فِي الْعُمْرِ الْقَلِيلِ ثَوَابَ عَمَلِ الْعُمْرِ الْكَثِيرِ، لَكِنْ أُيِّدَ الْأَوَّلُ بِحَدِيثِ الضَّحَّاكِ آنِفًا لَعَلَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ مِنْ غَوَامِضِ عِلْمِ الْكَلَامِ فَغَايَتُهُ مُتَشَابِهٌ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا الْعَمَلُ بِالنُّصُوصِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ كَغَايَةِ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ، وَقَدْ فَصَّلْت هَذَا الْمَبْحَثَ فِي رِسَالَةٍ فَرْدَةٍ عَلَى حَدِيثِ لَا يُزِيدُ الْعُمْرَ إلَّا الْبِرُّ. (وَمِنْهَا إيذَاءُ الزَّوْجَةِ) قَوْلًا أَوْ فِعْلًا تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا وَكِنَايَةً (زَوْجَهَا وَمُخَالَفَتُهَا إيَّاهُ) فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ (وَعَدَمُ رِعَايَةِ حُقُوقِهِ " ت " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ» سِوَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا وَأَدَاءً لِحَقِّهِ

«لَأَمَرْت الزَّوْجَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» لِأَنَّهُ غَايَةُ التَّعْظِيمِ وَنِهَايَةُ التَّكْرِيمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَضْعَ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ عَلَى أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ التُّرَابُ، وَفِيهِ بَيَانُ امْتِنَاعِ السَّجْدَةِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَتَأْكِيدُ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَعَنْ التَّنْبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ أَرِنِي شَيْئًا أَزْدَدْ بِهِ يَقِينًا قَالَ مَا تُرِيدُ قَالَ اُدْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ فَلْتَأْتِك قَالَ فَاذْهَبْ فَادْعُهَا فَذَهَبَ فَقَالَ أَجِيبِي إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَالَتْ عَلَى جَانِبٍ مِنْ جَانِبَيْهَا فَقُطِعَتْ عُرُوقُهَا حَتَّى انْتَهَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ حَسْبِي حَسْبِي فَأَمَرَهَا فَرَجَعَتْ فَدَلَّتْ عُرُوقُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثُمَّ اسْتَوَتْ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ ائْذَنْ لِي أُقَبِّلْ رَأْسَك وَرِجْلَيْك فَأَذِنَ لَهُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ فَقَالَ ائْذَنْ لِي أَسْجُدْ لَك قَالَ لَا يَسْجُدُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ وَلَوْ كُنْت آمِرًا لِأَحَدٍ بِذَلِكَ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» وَالْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ «لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحَقِّ» قَالَ شَارِحُهُ وَتَتِمَّتُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ «لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةٌ تَنْبَجِسُ مِنْ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» ، ثُمَّ قَالَ وَفِيهِ قِصَّةٌ «كَانَ لِأَهْلِ الْبَيْتِ جَمَلٌ اُسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ فَأَخْبَرُوهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَنَّ الزَّرْعَ وَالنَّخْلَ عَطِشَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قُومُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَتِهِ فَقَالُوا قَدْ صَارَ كَالْكَلْبِ الْكَلْبُ يَخَافُ عَلَيْك صَوْلَتَهُ قَالَ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إلَيْهِ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَ نَاصِيَتَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ فَقَالُوا هَذَا بَهِيمَةٌ لَا يَعْقِلُ يَسْجُدُ لَك وَنَحْنُ نَعْقِلُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَك قَالَ لَا يَصِحُّ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَوْ صَحَّ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ الْمُنْذِرِيُّ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ انْتَهَى (خ م عَنْهُ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مَرْفُوعًا «إذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ إلَيْهِ» إلَى فِرَاشِهِ بِلَا عُذْرٍ كَالْحَيْضِ وَالْمَرَضِ وَالصَّوْمِ «فَبَاتَ غَضْبَانَ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِطَاعَةِ زَوْجِهَا، وَعَنْ النَّوَوِيِّ لَيْسَ الْحَيْضُ عُذْرًا فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْفِرَاشِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَوْقَ الْإِزَارِ، وَفِيهِ أَنَّ سُخْطَ الزَّوْجِ يُوجِبُ سُخْطَ الرَّبِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَإِنَّمَا غَيَّا بِالصَّبَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْهَا بَعْدَ الصَّبَاحِ لِحُدُوثِ الْمَانِعِ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ فِيهِ غَالِبًا (زحك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا) الْأَقْيَسُ إلَى مَا قَبْلَهُ أَنْ يَقُولَ عَنْهُ بِالضَّمِيرِ «مِنْ حَقِّهِ» أَيْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ «أَنْ لَوْ سَالَ مَنْخَرَاهُ» ثُقْبَا أَنْفِ الزَّوْجِ «دَمًا وَقَيْحًا» تَمْيِيزَانِ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ «فَلَحَسَتْهُ بِلِسَانِهَا» اللَّحْسُ اللَّعْقُ «مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» ، وَفِي الْحَدِيثِ أَوَّلُ مَا تُسْأَلُ عَنْهُ الْمَرْأَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ صَلَاتِهَا، ثُمَّ عَنْ حَقِّ زَوْجِهَا، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ «الْمَرْأَةَ إذَا صَلَّتْ وَلَمْ تَدْعُ لِزَوْجِهَا رُدَّتْ صَلَاتُهَا حَتَّى تَدْعُوَ لَهُ» .

(طب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا تَصُومَ تَطَوُّعًا» لَعَلَّ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ سِمَنِهَا التَّابِعِ لَهُ جَمَالُهَا أَوْ لِاقْتِضَاءِ الْقُرْبَانِ فِي النَّهَارِ أَوْ لِإِيرَاثِ ضَعْفٍ مَانِعٍ مِنْ الْخِدْمَةِ اللَّائِقَةِ بِهَا «إلَّا بِإِذْنِهِ» ؛ لِأَنَّ إطَاعَةَ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ وَالتَّطَوُّعَ نَفْلٌ وَالْوُجُوبَ مُرَجَّحٌ عَلَى النَّفْلِ «فَإِنْ فَعَلَتْ جَاعَتْ وَعَطِشَتْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا» وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ نَفْلًا بِلَا إذْنِ الزَّوْجِ وَأَمَّا قَضَاءٌ أَوْ كَفَّارَةٌ فَجَائِزٌ «وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ» سِوَى الْمُسْتَثْنَيَاتِ السَّابِقَةِ «فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَتْهَا مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، أَوْ هُمْ فِي غَيْرِ السَّمَاءِ، وَكَذَا قَوْلُهُ «وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ حَتَّى تَرْجِعَ.» اعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ) لِأَنَّهَا سَلَّمَتْ بُضْعَهَا بِمُقَابَلَةِ الْمَهْرِ مِنْ قِبَلِهِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ (مَتَى شَاءَ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ فَلَا تُمَكِّنْهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ تَحْتَ الْإِزَارِ) أَيْ قُرْبَانَ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ، وَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِدُونِ وَطْءٍ فِيمَا يُدَانِيهِ وَرُبَّمَا يُوقِعُ فِيهِ فَيَحْرُمُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنَّمَا يَجْتَنِبُ مَوْضِعَ الدَّمِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ حُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ مَا سِوَاهُ وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَا فِي الْجَامِعِ عَنْ بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ إذَا أَرَادَ مِنْ الْحَائِضِ شَيْئًا يَعْنِي مُبَاشَرَةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ كَالْمُفَاخَذَةِ أَلْقَى عَلَى فَرْجِهَا ثَوْبًا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْفَرْجُ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَجَّحَهُ النَّوَوِيّ وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَحَمَلُوا مَا فِي الْجَامِعِ أَيْضًا " كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَهِيَ حَائِضٌ أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ " عَلَى النَّدْبِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَيْسَ فِي الثَّانِي مَا يَقْتَضِي مَنْعَ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَ) يَجِبُ (عَلَيْهَا خِدْمَةُ دَاخِلِ الْبَيْتِ) ظَاهِرُهُ، وَلَوْ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ، وَقَدْ يَخُصُّ (دِيَانَةً) لَا قَضَاءً فَإِنَّهَا تُؤْجَرُ بِالْفِعْلِ (مِنْ الطَّبْخِ وَالْكَنْسِ وَالْغَسْلِ) لِلْأَوَانِي وَالثِّيَابِ (وَالْخَبْزِ، وَلَوْ لَمْ تَفْعَلْ أَثِمَتْ) ؛ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فَاطِمَةَ هَكَذَا» (وَلَكِنْ لَا تُجْبَرُ عَلَيْهَا قَضَاءً) لَكِنْ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ الْمَنْكُوحَةُ أَوْ الْمُعْتَدَّةُ أَبَتْ الْخَبْزَ وَالطَّبْخَ إنْ بِهَا عِلَّةٌ أَوْ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ يَأْتِ الزَّوْجُ بِمَنْ يَطْبُخُ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ بِنَفْسِهَا تُجْبَرُ عَلَيْهَا وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ النِّكَاحَ نَوْعُ رِقٍّ فَعَلَيْهَا طَاعَةُ الزَّوْجِ مُطْلَقًا وَتَخْدُمُهُ فِيمَا تُعُورِفَ فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ وَلَا تُعْطِي شَيْئًا مِنْ بَيْتِهِ بِدُونِ إذْنِهِ وَأَهَمُّ الْحُقُوقِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا السِّرُّ وَالصِّيَانَةُ، وَالْآخَرُ تَرْكُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا وَرَاءَ الْحَاجَةِ وَالتَّعَفُّفُ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ حَرَامًا وَكَانَتْ امْرَأَةُ السَّلَفِ أَوْ ابْنَتُهُ تَقُولُ لِزَوْجِهَا إيَّاكَ وَكَسْبَ الْحَرَامِ فَإِنَّا نَصْبِرُ عَلَى الْجُوعِ وَلَا نَصْبِرُ عَلَى النَّارِ وَلَا تُفَرِّطْ فِي بَذْلِ مَالِهِ، فَإِنْ أَطْعَمَتْ عَنْ رِضًا كَانَ لَهَا مِثْلُ أَجْرِهِ وَإِلَّا كَانَ لَهُ الْأَجْرُ وَعَلَيْهَا الْوِزْرُ. رُوِيَ أَنَّ السَّمَاءَ بِنْتَ خَارِجَةَ قَالَتْ لِابْنَتِهَا عِنْدَ التَّزْوِيجِ إنَّك خَرَجْت مِنْ الْعُشِّ الَّذِي مِنْهُ دَرَجْت وَصِرْت إلَى فِرَاشٍ لَا تَعْرِفِيهِ وَقَرِينٍ لَمْ تَأْلَفِيهِ فَكُونِي لَهُ أَرْضًا يَكُنْ لَكِ سَمَاءً، وَكُونِي لَهُ مِهَادًا يَكُنْ لَك عِمَادًا، وَكُونِي لَهُ أَمَةً يَكُنْ لَك عَبْدًا، لَا تُلْحِفِي بِهِ فَيَقْلَاكِ وَلَا تُبَاعِدِي عَنْهُ فَيَنْسَاك، إنْ دَنَا فَاقْرُبِي مِنْهُ، وَإِنْ نَأَى فَابْعُدِي عَنْهُ، وَاحْفَظِي أَنْفَهُ وَسَمْعَهُ وَعَيْنَهُ لَا يَشُمُّ مِنْك إلَّا طَيِّبًا وَلَا يَسْمَعُ إلَّا حَسَنًا وَلَا يَنْظُرُ إلَّا جَمِيلًا، وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ أَنْ تَكُونَ قَاعِدَةً فِي بَيْتِهَا لَازِمَةً لِمِغْزَلِهَا قَلِيلَةَ الْكَلَامِ لِجِيرَانِهَا هِمَّتُهَا صَلَاحُ شَأْنِهَا وَتَدْبِيرُ بَيْتِهَا مُقْبِلَةً عَلَى صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَتَكُونَ قَانِعَةً مِنْ زَوْجِهَا بِمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَمُقَدِّمَةً حَقَّهُ عَلَى حَقِّ نَفْسِهَا وَحَقِّ سَائِرِ أَقَارِبِهَا مُتَنَظِّفَةً فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا لِيَسْتَمْتِعَ بِهَا إنْ شَاءَ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ. (وَمِنْهَا الْعَكْسُ) أَيْ إيذَاءُ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا (د عَنْ «حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ

زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ قَالَ أَنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمْت» وُجُوبًا فِي النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَنَدْبًا فِي الزِّيَادَةِ «وَتَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَيْت وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ» عِنْدَ اقْتِضَاءِ التَّأْدِيبِ الشَّرْعِيِّ بِذَنْبٍ فَلَا يُضْرَبُ أَصْلًا بِدُونِ ذَنْبٍ فِي الْبَزَّازِيِّ وَيَضْرِبُهَا إذَا شَتَمَتْ الزَّوْجَ، وَعَنْ النِّهَايَةِ إنَّمَا يَضْرِبُهَا لِمَنْفَعَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ لَا لِمَا يَعُودُ إلَيْهَا فَعَلَى هَذَا لَا يَضْرِبُهَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْأَبِ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ ابْنَهُ لَكِنْ فِي النِّصَابِ يَضْرِبُهَا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُنْقِصُ جَمَالًا، وَفِي الْحَاشِيَةِ لَا يَجُوزُ ضَرْبُهَا إذَا كَانَتْ الزِّينَةُ مَمْلُوكَةً لَهَا لَا دَخْلَ لِلزَّوْجِ فِيهَا (وَلَا تُقَبَّحُ) أَيْ وَلَا تَشْتُمْهَا وَلَا تَقُلْ لَهَا قَبِيحًا أَوْ لَا تَقُلْ لَهَا قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَك وَلَا تَنْسُبْهَا إلَى الْقُبْحِ أَوْ لَا تُظْهِرْ قَبَائِحَهَا وَمَعَايِبَهَا بِالتَّوْبِيخِ وَالتَّعْيِيرِ (وَلَا تَهْجُرْ) عِنْدَ غَضَبِك عَلَيْهَا (إلَّا فِي الْبَيْتِ) بِافْتِرَاقِ الْفِرَاشِ وَلَا تَخْرُجْ مِنْ الْبَيْتِ وَلَا تَتْرُكْهَا فِي الْبَيْتِ الْخَالِي فَإِنَّهَا رُبَّمَا تَخَافُ فِي الْبَيْتِ الْخَالِي وَرُبَّمَا يَقْصِدُهَا رَجُلٌ بِسُوءٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ. (قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ خَمْسَةٌ أَنْ يَخْدُمَهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ) يَعْنِي يَفْعَلُ الزَّوْجُ خِدْمَتَهَا الْمُتَعَلِّقَةَ بِخَارِجِ الْبَيْتِ (وَلَا يَدَعَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ السِّتْرِ) مِنْ الْبَيْتِ (فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ وَخُرُوجُهَا إثْمٌ وَتَرْكٌ لِلْمُرُوءَةِ) وَعَدَّ فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَضْرِبُ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ فِيهَا الْخُرُوجُ مِنْ الْبَيْتِ، وَعَنْ الْقُنْيَةِ يَضْرِبُ أَيْضًا إنْ ضَرَبَتْ جَارِيَةَ الزَّوْجِ غَيْرَةً، وَأَيْضًا يَضْرِبُهَا فِي شَتْمِهَا إيَّاهُ أَوْ الْأَجْنَبِيَّ أَوْ كَشَفَتْ وَجْهَهَا لِغَيْرِ مَحْرَمٍ أَوْ كَلَّمَتْهُ أَوْ أَعْطَتْ مِنْ بَيْتِهِ زِيَادَةً عَلَى الْعَادَةِ وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ شَيْءٍ لَزِمَ التَّعْزِيرُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَزِّرُهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ سُلْطَانُ زَوْجَتِهِ لَكِنْ يَحْتَرِزُ عَنْ الْإِفْرَاطِ وَإِلَّا يَلْزَمُ عَلَى الزَّوْجِ التَّعْزِيرُ. (وَأَنْ يُعَلِّمَهَا مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَمَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ) كَأَحْكَامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فَإِنْ عَلَّمَ الزَّوْجُ فَبِهَا وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْإِذْنُ بِالْخُرُوجِ لِأَجْلِ التَّعَلُّمِ وَإِلَّا يَأْثَمُ وَتَخْرُجُ بِلَا إذْنِهِ إذَا وَقَعَتْ نَازِلَةٌ (وَأَنْ يُطْعِمَهَا مِنْ الْحَلَالِ وَأَنْ لَا يَظْلِمَهَا) بِتَكْلِيفِ مَصَالِحَ خَارِجِ الْبَيْتِ مَثَلًا (وَأَنْ يَتَحَمَّلَ تَطَاوُلَهَا) بِالْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ عَلَيْهِ (نَصِيحَةً لَهَا) وَذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَشْكُو مِنْ زَوْجَتِهِ فَلَمَّا بَلَغَ بَابَهُ سَمِعَ امْرَأَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ تَطَاوَلَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُلُ

تشبه الرجل بالمرأة وبالعكس

إنِّي أَرَدْت أَنْ أَشْكُوَ إلَيْهِ زَوْجَتِي وَبِهِ مِنْ الْبَلْوَى مِثْلُ مَا بِي فَرَجَعَ فَدَعَاهُ عُمَرُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ عُمَرُ إنِّي أَتَجَاوَزُ عَنْهَا لِحُقُوقٍ لَهَا عَلَيَّ الْأَوَّلُ أَنَّهَا سَتَرَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّارِ فَيَسْكُنُ بِهَا قَلْبِي مِنْ الْحَرَامِ. الثَّانِي: أَنَّهَا خَازِنَةٌ لِي إذَا خَرَجْت مِنْ مَنْزِلِي حَافِظَةٌ لَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا قَصَّارَةٌ لِي تَغْسِلُ ثِيَابِي. الرَّابِعُ: أَنَّهَا ظِئْرٌ لِوَلَدِي. الْخَامِسُ: أَنَّهَا خَبَّازَةٌ وَطَبَّاخَةٌ فَقَالَ الرَّجُلُ إنَّ لِي مِثْلَ مَا لَك فَكَمَا تَجَاوَزْت عَنْهَا أَتَجَاوَزُ عَنْهَا. وَبِالْجُمْلَةِ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِ الْأَهْلِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَخْلَاقِهِنَّ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مِنْهُنَّ وَالسَّعْيِ فِي إصْلَاحِهِنَّ وَإِرْشَادِهِنَّ إلَى طَرِيقِ الدِّينِ وَالِاجْتِهَادِ فِي كَسْبِ الْحَلَالِ لِأَجْلِهِنَّ وَالْقِيَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُؤْجَرُ فِي رَفْعِ اللُّقْمَةِ إلَى فِي امْرَأَتِهِ» . وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «مَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَدَمِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» قَالَ شَارِحُهُ قَالَ الْحَرَّانِيُّ وَالْمُنْفِقُ أَعْلَى حَالًا مِنْ الْمُزَكِّي؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّيَ يُخْرِجُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَرْضًا وَالْمُنْفِقَ يَجُودُ بِمَا فِي يَدِهِ فَضْلًا انْتَهَى أَقُولُ لَعَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ مِنْ أَنَّ النَّفَلَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَرْضِ، وَأَمَّا عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فَإِنَّ الْفَرْضَ أَفْضَلُ مِنْ النَّفْلِ (وَمِنْهَا) مِنْ الْآفَاتِ الْغَيْرِ الْمُخْتَصَّةِ بِعُضْوٍ (إضَاعَةُ الرَّجُلِ أَوْلَادَهُ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ الْأَقَارِبِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالدَّوَابِّ فَإِنَّهُ رَاعٍ فَهَذِهِ رَعَايَاهُ يُسْأَلُ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ» (خُصُوصًا الْأَوْلَادُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَكِسْوَتُهُمْ) وَأَمَّا الْكِبَارُ إذَا كَانُوا مَرْضَى عَاجِزِينَ عَنْ الْكَسْبِ، أَوْ أَوْلَادُ الْأَشْرَافِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمْ الِاكْتِسَابُ أَوْ كَانُوا مُتَفَرِّغِينَ لِتَحْصِيلِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ صَارِفِينَ أَوْقَاتَهُمْ إلَيْهَا فَكَذَا لَا تَسْقُطُ نَفَقَاتُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ بِخِلَافِ الْكِبَارِ الْأَغْنِيَاءِ أَوْ الْقَادِرِينَ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَكَذَا إنْ كَانَ لِلصِّغَارِ أَمْوَالٌ وَنَفَقَتُهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ (وَتَعْلِيمُهُمْ وَتَأْدِيبُهُمْ) كَمَا قِيلَ مَنْ أَدَّبَ أَوْلَادَهُ أَرْغَمَ حُسَّادَهُ، وَأَمَّا إذَا صَدَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ فَعَلَيْهِ الْمَنْعُ إذَا امْتَنَعُوا بِمَنْعِهِ وَإِلَّا فَالْهَجْرُ حَتَّى يَمْتَنِعُوا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] بِالنُّصْحِ وَالتَّأْدِيبِ (وَأَنْ لَا يَلْبَسَ الْحَرِيرَ) إذَا كَانُوا ذُكُورًا، وَكَذَا الذَّهَبُ (وَلَا يُخَضِّبُ أَيْدِي الذُّكُورِ وَأَرْجُلَهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَلَا يُفِيدُ) فِي دَفْعِ الْإِثْمِ (قَوْلُهُ أُمُّهُمْ فَعَلَتْ وَأَنَا غَيْرُ رَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) يَقُومُونَ عَلَيْهِنَّ قِيَامَ الْوُلَاةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ (وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ) كَمَا مَرَّ مِرَارًا (وَمِنْهَا الْخَلْوَةُ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ) غَيْرِ الْمَحْرَمِ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا، وَعَنْ الْمُلْتَقَى وَلَا بَأْسَ بِسَفَرِ الْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِلَا مَحْرَمٍ، وَالْخَلْوَةُ بِهَا قِيلَ مُبَاحٌ وَقِيلَ لَا انْتَهَى. لَكِنْ مَنَعُوا الْخَلْوَةَ وَالْمُسَافَرَةَ مَعَ الْمَحْرَمِ الرَّضَاعِيِّ كَالْأُخْتِ رَضَاعًا (فَإِنَّهَا حَرَامٌ) بِدَلِيلِ مَا فِي (خ م عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ» أَجْنَبِيَّةٍ «إلَّا مَعَ ذَاتِ مَحْرَمٍ» . [تَشَبُّهُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَبِالْعَكْسِ] (وَمِنْهَا تَشَبُّهُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَبِالْعَكْسِ) أَيْ يَتَزَيَّنُ أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ بِزِيِّ الْآخَرِ (خ م عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا أَنَّهُ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ» وَهُوَ الَّذِي يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فِي كَلَامِهِ وَحَرَكَاتِهِ، وَفِي الْخِضَابِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهَا وَتَارَةً يَكُونُ هَذَا التَّشَبُّهُ جِبِلَّةً وَتَارَةً يَكُونُ بِتَكَلُّفٍ، وَالْمَذْمُومُ هُوَ الثَّانِي إذْ لَا تَكْلِيفَ فِي الْأَفْعَالِ الْغَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ وَتَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ مُضَادَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا مَضْغُ الْعِلْكِ لَهُ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالنِّسَاءِ «وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ» أَيْ الْمُتَشَبِّهَاتُ بِالرِّجَالِ «وَقَالَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلَانَةَ» أَيْ: امْرَأَةً كَانَتْ مُتَرَجِّلَةً مِنْ الْمَدِينَةِ (وَأَخْرَجَ عُمَرُ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ (فُلَانًا) رَجُلًا يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ لِلْمُخَنَّثِينَ حُكْمُ الرِّجَالِ الْفُحُولِ، وَكَذَا حُكْمُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَ النِّسَاءَ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْفِتْنَةِ أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الدَّاخِلُ عَلَيْهِنَّ مِمَّنْ يَتَكَلَّفُ الْخُنُوثَةَ كَمَا عَنْ ابْنِ الْمَلِكِ (، وَفِي رِوَايَةٍ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَالْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْمُخَالَطَةُ مَعَ النِّسَاءِ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ وَبِهِ تَكَسُّرٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ قِيلَ لَهُ مُخَالَفَةُ النِّسَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدِيءٌ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ مُطْلَقًا. (وَمِنْهَا إبَاقُ الْمَمْلُوكِ) أَمَةً أَوْ عَبْدًا (وَعِصْيَانُهُ لِمَوْلَاهُ) ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ (م عَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ» أَيْ: فَرَّ مِنْ مَوْلَاهُ أَيُّمَا لِلشَّرْطِ مُبْتَدَأٌ، وَمَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ وَأَبَقَ خَبَرُهُ لَا صِفَةُ عَبْدٍ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَبْقَى بِلَا خَبَرٍ وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ «فَقَدْ بَرِئَ مِنْهُ الذِّمَّةُ» أَيْ الْعَهْدُ. قِيلَ كِنَايَةٌ عَنْ اسْتِحْقَاقِ التَّعْزِيرِ وَالتَّأْدِيبِ وَجَوَازِ الضَّرْبِ لِأَجْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُهُ وَقِيلَ إنَّ الذِّمَّةَ الْإِيمَانُ وَعَهْدُهُ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ فَقَدْ كَفَرَ بَدَلَ فَقَدْ بَرِئَ قِيلَ فَيُحْمَلُ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِلًّا لِلْإِبَاقِ أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحُرْمَةَ أَوْ يَخْرُجَ عَنْ احْتِرَامِ الْمُسْلِمِينَ (وَفِي رِوَايَةٍ «إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَيُّمَا عَبْدٍ مَاتَ فِي إبَاقِهِ دَخَلَ النَّارَ، وَإِنْ كَانَ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (طط عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مَرْفُوعًا «أَوَّلُ سَابِقٍ إلَى الْجَنَّةِ مَمْلُوكٌ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَطَاعَ مَوَالِيَهُ» لِأَنَّ لَهُ أَجْرَ إطَاعَةِ رَبِّهِ وَأَجْرَ إطَاعَةِ مَوْلَاهُ وَلِأَنَّ

عِبَادَتَهُ لِرَبِّهِ أَتْعَبُ وَأَشَقُّ فِي أَثْنَاءِ عِبَادَةِ مَوْلَاهُ لَعَلَّ الْأَوَّلِيَّةَ إضَافِيَّةٌ، أَوْ الْأَوَّلِيَّةَ التَّوْعِيَةُ لَا الشَّخْصِيَّةُ، فَلَا يَشْكُلُ بِسَائِرِ السَّابِقِينَ ثُمَّ دَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَيْسَ بِظَاهِرَةٍ فَافْهَمْ. (وَمِنْهَا سُوءُ الْمَلَكَةِ) يُقَالُ فُلَانٌ حَسَنُ الْمَلَكَةِ إذَا كَانَ حَسَنَ الصُّنْعِ إلَى مَمَالِيكِهِ فَسُوءُ الْمَلَكَةِ عَدَمُ رِعَايَةِ حُقُوقِ الْمَمَالِيكِ (ت عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَيْء الْمَلَكَةِ» أَيْ مَنْ أَضَاعَ حُقُوقَ الْمَمَالِيكِ وَلَمْ يُرَاعِهَا وَأَسَاءَ إلَيْهِمْ قَالَ فِي الْفَيْضِ وَسُوءُ الْمَلَكَةِ، وَإِنْ عَمَّ لَكِنَّهُ غَالِبًا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَمَالِيكِ كَذَا قَالَهُ جَمْعٌ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْقَصْرَ تَقْصِيرٌ إذْ لَا مَلْجَأَ لَهُ هُنَا وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَعَمِّ أَتَمُّ وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] قَالَ الطِّيبِيُّ مُرَادُهُ أَنَّ سُوءَ الْمَلَكَةِ يَدُلُّ عَلَى سُوءِ الْخُلُقِ وَهُوَ شُؤْمٌ وَالشُّؤْمُ يُورِثُ الْخِذْلَانَ وَالْعَذَابَ بِالنِّيرَانِ. (فَائِدَةٌ) فِي الْفَيْضِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْجَامِعُ لِلْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ وَالْأَدَبُ وَالِاتِّبَاعُ وَالْإِحْسَانُ وَالنَّصِيحَةُ فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ الْأَخْلَاقِ وَقَوَاعِدُ الْأَخْلَاقِ أَرْبَعٌ الْحِكْمَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالْعِفَّةُ وَالْعَدَالَةُ كَمَا مَرَّ ثُمَّ قِيلَ إنَّهُ غَرِيبٌ وَرَمَزَ الْمُصَنِّفُ لِحُسْنِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِيهِ فَرْقَدُ السُّنْحِيُّ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَزَادَ «فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْت أَخْبَرْتَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ مَمْلُوكِينَ وَأَيْتَامًا قَالَ بَلَى فَأَكْرِمُوهُمْ كَرَامَةَ أَوْلَادِكُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ قَالُوا فَمَا يَنْفَعُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَرَسٌ مُرْتَبِطَةٌ يُقَاتَلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَمْلُوكُك يَكْفِيك فَإِذَا صَلَّى فَهُوَ أَخُوك» قَالَ الْهَيْتَمِيُّ فِيهِ فَرْقَدٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ انْتَهَى. (ت عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَعْفُو عَنْ الْخَادِمِ؟» أَيْ كَمْ مَرَّةً أَعْفُو عَنْ ذُنُوبِ الْخَادِمِ «فَقَالَ اُعْفُ عَنْهُ» لِلنَّدْبِ لَا الْوُجُوبِ «كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً» كِنَايَةً عَنْ الْكَثْرَةِ لَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ وَحَاصِلُهُ لِيَكُنْ عَفْوُك أَكْثَرَ مِنْ مُؤَاخَذَتِك وَرُوِيَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ جَارِيَتَهُ جَاءَتْ بِمَرَقَةٍ فَعَثَرَتْ فَصَبَّتْ الْمَرَقَةَ عَلَيْهِ فَأَرَادَ ضَرْبَهَا فَقَالَتْ يَا مَوْلَايَ اسْتَعْمِلْ قَوْله تَعَالَى - {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]- قَالَ قَدْ كَظَمْت فَقَالَتْ اعْمَلْ بِمَا بَعْدَهُ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] قَالَ قَدْ عَفَوْت، وَقَالَتْ الْجَارِيَةُ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] فَقَالَ مَيْمُونٌ أَحْسَنْت إلَيْك فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى (خ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ» بِالرَّفْعِ وَأَحَدَكُمْ مَنْصُوبٌ «بِطَعَامِهِ» لِيَأْكُلَهُ وَالْخَادِمُ يُطْلَقُ عَلَى الْقِنِّ وَالْحُرِّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ بِغَيْرِ تَاءِ تَأْنِيثٍ لِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ غَيْرِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَمِثْلُهَا امْرَأَةٌ عَاشِقٌ وَجَوَابُ إذَا مَحْذُوفٌ أَيْ فَلْيُجْلِسْهُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِيَأْكُلَ مَعَهُ سُلُوكًا لِسَبِيلِ التَّوَاضُعِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ «فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ» لِلْأَكْلِ لِعُذْرٍ كَقِلَّةِ الطَّعَامِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَمْرَدَ يُخْشَى مِنْ الْتِقَائِهِ، أَوْ حَيَاءِ الْخَادِمِ «فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ» بِحَسَبِ حَالِ الطَّعَامِ وَالْخَادِمِ لَيَرُدَّ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَتَنْكَسِرَ سَوْرَةُ الْجُوعِ، وَفِي مَعْنَاهُ الطَّبَّاخُ وَحَامِلُ الطَّعَامِ فِي الْإِجْلَاسِ وَالْمُنَاوَلَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ تَعَلُّقُ نَفْسِهِ بِهِ وَشَمِّ رِيحِهِ وَإِرَاحَةِ صَاحِبِ الطَّعَامِ مِنْ حَمْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ. «أَوْ أَكْلَةٍ أَوْ أَكْلَتَيْنِ» قَالَ الدَّمَامِينِيُّ، فَإِنْ قُلْت مَا هَذَا الْعَطْفُ قُلْت لَعَلَّهُ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي أَوْ عَطَفَ أَحَدَ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِأَوْ، وَصَرَّحَ بَعْضٌ بِجَوَازِهِ كَالْوَاوِ «فَإِنَّهُ» أَيْ الْخَادِمُ «وَلِيَ» تَحَمَّلَ «حَرَّهُ» مِنْ الْحَرَارَةِ أَيْ تَحَمَّلَ مُقَاسَاةَ شَمِّ لَهَبِ النَّارِ حَالَ الطَّبْخِ «وَعِلَاجَهُ» مِنْ الْمُعَالَجَةِ

أَيْ تَحَمَّلَ مَشَقَّتَهُ بِتَحْصِيلِ الْآلَةِ وَمُزَاوَلَةِ عَمَلِهِ مِنْ نَحْوِ إدْخَالِ الْقِدْرِ وَطَبْخِهِ قِيلَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَمْلُوكِهِ فِي الْمَأْكَلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَعَامُهُمَا وَكِسْوَتُهُمَا عَلَى التَّسْوِيَةِ، وَأَمَّا إذَا أَكَلَ الْمَوْلَى الْأَطْعِمَةَ النَّفِيسَةَ وَلَبِسَ الْأَلْبِسَةَ الرَّفِيعَةَ بِخِلَافِ عَبْدِهِ فَجَائِزٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تُطْعِمُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ» . وَالْمُرَادُ مِنْ جِنْسِ مَا تَلْبَسُونَ وَتَأْكُلُونَ لَا مِثْلَهُ فَإِذَا أَلْبَسَهُ مِنْ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَهُوَ يَلْبَسُ مِنْهُمَا الْفَائِقَ كَفَى بِخِلَافِ إلْبَاسِهِ نَحْوَ الْجُوَالِقِ وَلَمْ يَتَوَارَثْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ مِثْلَهُمْ إلَّا الْأَفْرَادَ كَذَا نُقِلَ عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ (م عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (مَرْفُوعًا «لِلْمَمْلُوكِ» عَلَى مَالِكِهِ «طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ» بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ غَالِبِ قُوتِ مَمَالِيكِ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَكِسْوَتِهِمْ كَمَا زِيدَ فِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لَفْظُ بِالْمَعْرُوفِ وَفُسِّرَ بِبَلَا إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ عَلَى اللَّائِقِ بِأَمْثَالِهِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْعُرْفِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فَالْوَاجِبُ مُطْلَقُ الْمُوَاسَاةِ لَا الْمُسَاوَاةُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. «وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُ» نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ النَّهْيِ فَفِي الْحَصْرِ لُزُومُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ وَالرِّفْقِ بِهِمْ وَأُلْحِقَ بِهِمْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَجِيرٍ وَنَحْوِهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ كَلَّفَهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلْيُعِنْهُ، وَلَوْ امْتَنَعَ الْمَوْلَى عَنْ نَفَقَتِهِ كَسَبَ وَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ الِاكْتِسَابِ يُجْبِرُ الْقَاضِي الْمَوْلَى بِبَيْعِهِ، وَفِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يُجْبَرُ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الدُّرَرِ قَالَ فِي الْمِفْتَاحِ وَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَهُوَ مَا أَوْصَى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ فَمَا أَحْبَبْتُمْ فَأَمْسِكُوا وَمَا كَرِهْتُمْ فَبَدِّلُوا وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ مَلَّكَكُمْ إيَّاهُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَمَلَّكَهُمْ إيَّاكُمْ.» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا ابْتَاعَ أَحَدُكُمْ الْخَادِمَ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ شَيْءٍ يُطْعِمُهُ الْحَلْوَى فَإِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِهِ» (اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى تَعْلِيمُ مَمْلُوكِهِ الْقُرْآنَ بِقَدْرِ مَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ) فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ سُنَّةً فَافْهَمْ (وَسَائِرَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا وَيَأْمُرُهُ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَلَا يَسْتَخْدِمُهُ زَمَانَ أَدَائِهَا) أَيْ الصَّلَاةِ (حَتَّى قَالُوا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُوَضِّئَ عَبْدَهُ وَجَارِيَتَهُ إذَا مَرِضَا وَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى الْوُضُوءِ بِنَفْسِهِمَا) وَلَا يَجِبُ أَنْ يُوَضِّئَ زَوْجَتَهُ. فَجُمْلَةُ حُقُوقِ الْمَمْلُوكِ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي طُعْمَتِهِ وَكِسْوَتِهِ وَلَا يُكَلِّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَلَا يَنْظُرَ إلَيْهِ بِعَيْنِ الْكِبْرِ وَالِازْدِرَاءِ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ زَلَّتِهِ وَيَتَفَكَّرَ عِنْدَ غَضَبِهِ عَلَيْهِ بِهَفَوَاتِهِ أَوْ جِنَايَتِهِ فِي مَعَاصِيهِ وَخِيَانَتِهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَتَقْصِيرِهِ فِي طَاعَتِهِ مَعَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَوْقَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْمِفْتَاحِ لَكِنْ إذَا خَافَ الْإِبَاقَ لَا بَأْسَ بِالْقَيْدِ وَبِالْغُلِّ وَيُكْرَهُ كَالدَّابَّةِ فِي عُنُقِهِ وَهُوَ الْحَدِيدُ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ حَرَكَةِ رَأْسِهِ وَهُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ الظُّلْمَةِ كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَيَزِيدُ السَّيِّدُ فِي إكْرَامِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ وَرَعًا وَأَبْيَنَ صَلَاحًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْتَخْدِمَ مَنْ يَخْدُمُ رَبَّهُ. (وَمِنْهَا أَذَى الْجَارِ) قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَلَوْ ذِمِّيًّا اعْلَمْ أَنَّ لِلْجِوَارِ حَقًّا وَرَاءَ مَا يَقْتَضِيهِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَفِي الْحَدِيثِ «الْجَارُ الْمُسْلِمُ ذُو الرَّحِمِ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الرَّحِمِ وَالْجَارُ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقَّانِ الْجِوَارُ وَالْإِسْلَامُ وَالذِّمِّيُّ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ حَقُّ الْجِوَارِ فَقَطْ» وَلَيْسَ حَقُّ الْجَارِ كَفَّ الْأَذَى فَقَطْ بَلْ احْتِمَالُ الْأَذَى بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الرِّفْقِ وَإِسْدَاءِ طَلَبِ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ. يُقَالُ الْجَارُ الْفَقِيرُ يَتَعَلَّقُ بِجَارِهِ الْغَنِيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا لِمَ مَنَعَنِي مَعْرُوفُهُ وَسَدَّ بَابَهُ دُونِي (خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (مَرْفُوعًا «مَا زَالَ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُوصِينِي بِالْجَارِ» قَالَ الْعَلَائِيُّ الظَّاهِرُ

جَارُ الدَّارِ لَا جَارُ الْجِوَارِ؛ لِأَنَّ التَّوَارُثَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِجِوَارِ الْعَهْدِ، ثُمَّ نُسِخَ «حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» سَيَحْكُمُ بِتَوْرِيثِ الْجَارِ مِنْ الْجَارِ. وَاسْمُ الْجَارِ يَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالْعَدْلَ وَالْقَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ وَالنَّافِعَ وَأَضْدَادَهُمْ وَلَهُ مَرَاتِبُ فَأَعْلَاهَا مَنْ جَمَعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ، ثُمَّ أَكْثَرَهَا وَهَلُمَّ جَرَّا وَعَكْسُهُ مَنْ جَمَعَ ضِدَّهُ كَذَلِكَ فَيُعْطِي كُلًّا حَقَّهُ بِحَسَبِ حَالِهِ وَيَتَرَجَّحُ عِنْدَ تَعَارُضِ الصِّفَاتِ. نَبَّهَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُقُوقَ إذَا تَأَكَّدَتْ بِالْأَسْبَابِ فَأَعْظَمُهَا الْجِوَارُ وَهُوَ قُرْبُ الدَّارِ فَأَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الرَّحِمِ وَكَادَ يُثْبِتُ حَقًّا لَهُ فِي الْمَالِ وَلِلْجِوَارِ مَرَاتِبُ: الْمُلَاصَقَةُ وَالْمُخَالَطَةُ بِأَنْ يَجْمَعَهُمَا مَسْجِدٌ أَوْ مَدْرَسَةٌ أَوْ سُوقٌ أَوْ صِفَةٌ كَمَا فِي الْمَعَاقِلِ، وَعَنْ الْقُشَيْرِيِّ مِنْ جِيرَانِك الْمَلَكَانِ فَلَا تُؤْذِهِمَا بِعِصْيَانِك وَرَاعِ حَقَّهُمَا بِمَا تُمْلِي عَلَيْهِمَا مِنْ إحْسَانِك، وَإِذَا كَانَ جَارُ دَارِك مُسْتَحِقًّا لِلْإِحْسَانِ عَلَيْهِ فَجَارُ نَفْسِك وَهُوَ قَلْبُك أَوْلَى وَلَا تَغْفُلْ عَنْ حُلُولِ الْخَوَاطِرِ الْمَزْوِيَّةِ فِيهِ، ثُمَّ جَارُ قَلْبِك وَهُوَ مَعْرِفَتُك أَوْلَى بِأَنْ تُحَافِظَ حَقّهَا، ثُمَّ جَارُ رُوحِك أَوْلَى بِأَنْ تُرَاعِيَ حَقَّهُ، ثُمَّ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ لَا تَغْفُلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] انْتَهَى. رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا رَمَيْت كَلْبَ جَارِك فَقَدْ آذَيْتَهُ» (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ» إيمَانًا كَامِلًا «ثَلَاثًا» أَيْ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ غَايَةُ التَّأْكِيدِ لِغَايَةِ الِاهْتِمَامِ سِيَّمَا مَظَانُّ الْإِهْمَالِ وَعَدَمُ الِاهْتِمَامِ ( «قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» جَمْعُ بَائِقَةٍ أَيْ هَلَكَاتِهِ وَشُرُورَهُ وَغَوَائِلَهُ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» وَهُوَ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إلَى آخِرِ مَا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وُصِفَ بِالْآخِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ أَيْ بِوُجُودِهِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ فَلْيَفْعَلْ مَا يَأْتِي فَإِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ سِيَّمَا وَفَرْضُ انْتِفَاءِ الْجَزَاءِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ أَيْ الْإِيمَانِ، وَفِي ذِكْرِهِ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ لِإِيقَاظِ النَّفْسِ وَتَحَرُّكِ الْهِمَمِ لِلْمُبَادَرَةِ لِامْتِثَالِ جَوَابِ الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ «فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ» بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فَلْيُحْسِنْ إلَى جَارِهِ أَيْ مَنْ يُؤْمِنُ بِجِوَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ وَالرُّجُوعِ إلَى السُّكْنَى فِي جِوَارِهِ بِدَارِ كَرَامَتِهِ فَلْيَكُفَّ الْأَذَى عَنْ جَارِهِ وَيَتَحَمَّلْ مَا صَدَرَ مِنْهُ وَيَبَشَّ فِي وَجْهِهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالْجَارُ مَنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، ثُمَّ الْإِكْرَامُ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا وَجَمْعُ الْجَمِيعِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَذَا فِي الْفَيْضِ «وَلَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ» أَيْ جِدَارِ الْجَارِ، وَعَنْ الرَّوْضَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَاتَ وَلَهُ جِيرَانٌ ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ رَاضُونَ

عَنْهُ غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ آذَى جَارَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ حَرَمَهُ اللَّهُ رِيحَ الْجَنَّةِ وَمَأْوَاهُ النَّارُ أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ الرَّجُلَ عَنْ جَارِهِ كَمَا يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَمَنْ ضَيَّعَ حَقَّ جَارِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» (شَيْخٌ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ آذَى جَارَهُ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ تَعَالَى» اسْتَوْجَبَ عُقُوبَةَ اللَّهِ أَوْ لَا يَرْضَى عَنْهُ اللَّهُ أَوْ يَغْضَبُ عَلَيْهِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْأَذَى لَا تُتَصَوَّرُ فِي شَأْنِهِ تَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا (طب ز عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا آمَنَ بِي» إيمَانًا كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قَسْوَةِ الْقَلْبِ وَالشُّحِّ وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ وَعَظِيمِ اللُّؤْمِ وَخُبْثِ الطَّوِيَّةِ كَمَا قَالَ وَكُلُّكُمُو قَدْ نَالَ شِبَعًا لِبَطْنِهِ ... وَشِبَعُ الْفَتَى إنْ جَاعَ صَاحِبُهُ لُؤْمٌ «مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ جَائِعٌ إلَى جَنْبِهِ وَ» الْحَالُ «هُوَ يَعْلَمُ» أَنَّهُ جَائِعٌ (خَرَائِطِيٌّ) أَيْ خَرَّجَ الْخَرَائِطِيُّ (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْجَارِ؟» فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا قَالَ «إذَا اسْتَعَانَك أَعَنْته، وَإِذَا اسْتَقْرَضَك» طَلَبَ مِنْك قَرْضَ شَيْءٍ «أَقْرَضْته، وَإِذَا افْتَقَرَ عُدْت» مِنْ الْمُعَاوَدَةِ بِمَعْنَى الْجُودِ «عَلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ» وَالْإِحْسَانِ «وَإِذَا مَرِضَ عُدْته» مِنْ الْعِيَادَةِ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ أَوْ نَدْبٍ «، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْته» مِنْ التَّهْنِئَةِ هِيَ مَا يَكُونُ عِنْدَ السُّرُورِ «وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْته» حَمَلْته عَلَى الصَّبْرِ وَدَعَوْت لَهُ بِالْخَيْرِ «وَإِذَا مَاتَ اتَّبَعْت جِنَازَتَهُ» تَشْيِيعًا لَهَا «وَلَا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تُؤْذِهِ بِقُتَارِ» كَهُمَامِ رِيحُ الْبَخُورِ أَوْ الْقِدْرِ أَوْ الْعَظْمِ الْمُحْرَقِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ «رِيحِ قِدْرِك» فَيَتَأَذَّى بِشَمِّ ذَلِكَ «إلَّا أَنْ تُفَرِّقَ لَهُ» إلَّا أَنْ تُهْدِيَ لِلْجَارِ «مِنْهَا» مِنْ الْقِدْرِ «وَإِنْ اشْتَرَيْت فَاكِهَةً فَأَهْدِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ» الْهَدِيَّةَ «فَأَدْخِلْهَا سِرًّا» لِئَلَّا يَتَشَوَّقَ وَيَتَأَذَّى «وَلَا تُخْرِجْ بِهَا وَلَدَك لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ» لِفَقْدِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ ثَلَاثَةُ أَخْلَاقٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ أَوْلَى بِهَا أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ اجْتَهَدُوا فِي بِرِّهِ وَالثَّانِي لَوْ كَانَتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ حَاجَةٌ لَأَخَذُوا فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَالثَّالِثُ إذَا لَحِقَ بِجَارِهِمْ دَيْنٌ أَوْ أَصَابَهُ جَهْدٌ اجْتَهَدُوا حَتَّى يَقْضُوا دَيْنَهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ تِلْكَ الشِّدَّةِ كَمَا عَنْ الْقُنْيَةِ، وَفِي الشِّرْعَةِ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ طَلَبُ الْجَارِ الصَّالِحِ، وَفِي الْحَدِيثِ «الْتَمِسُوا الْجَارَ قَبْلَ شِرَاءِ الدَّارِ وَالرَّفِيقَ قَبْلَ الطَّرِيقِ» . وَإِكْرَامُ الْجَارِ مِنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ حُرْمَةُ الْجَارِ كَحُرْمَةِ الْأُمِّ، وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَوْجَبَ حَقَّ الْجَارِ إلَى أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَيُوَاسِيهِ بِمَا أَمْكَنَ وَلَا يَبِيتُ شَبْعَانُ وَجَارُهُ جَائِعٌ وَيُشْرِكُهُ فِي فَضْلِ رِزْقِهِ وَلَا يَمْنَعُ مَصَالِحَ الْبَيْتِ كَالْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالنَّارِ وَالْخَمِيرَةِ وَيَغْتَنِمُ مُجَاوَرَةَ الْمُسْلِمِ الصَّالِحِ فَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةِ أَلْفِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلَاءَ وَيَتَحَمَّلُ مِنْ الْجَارِ مَا لَا يَتَحَمَّلُ مِنْ غَيْرِهِ» انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ جُمْلَةَ حَقِّ الْجَارِ أَنْ يَبْدَأَهُ بِالسَّلَامِ وَلَا يُطِيلُ مَعَهُ الْكَلَامَ وَلَا يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنْ حَالِهِ وَيَصْفَحُ عَنْ زَلَّاتِهِ وَلَا يَطَّلِعُ مِنْ السَّطْحِ

مجالسة جليس السوء

عَلَى عَوْرَاتِهِ وَلَا يُضَايِقُهُ فِي وَضْعِ الْجِذْعِ عَلَى جِدَارِهِ وَلَا طَرِيقِهِ إلَى دَارِهِ وَيَسْتُرُ مَا يَنْكَشِفُ لَهُ مِنْ عَوْرَاتِهِ وَيُعِينُهُ إذَا نَابَتْهُ نَائِبَةٌ وَلَا يَغْفُلُ عَنْ تَعَهُّدِ دَارِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ وَلَا يَسْتَمِعْ عَلَيْهِ كَلَامًا وَيَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْ حُرَمِهِ وَلَا يُدِيمُ النَّظَرَ إلَى خَادِمِهِ وَيَتَلَطَّفُ لِوَلَدِهِ فِي كَلَامِهِ وَيُرْشِدُهُ إلَى مَا جَهِلَهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. [مُجَالَسَةُ جَلِيسِ السُّوءِ] (وَمِنْهَا مُجَالَسَةُ جَلِيسِ السُّوءِ خ م عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ» مَنْفَخَةُ الْحَدَّادِينَ. شَبَّهَ الصَّلَاحَ بِالْمِسْكِ لِطِيبِ رِيحِهِ وَعِزَّةِ وُجُودِهِ وَقُوَّةِ رَغْبَتِهِ وَالسُّوءَ بِالْكِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِإِضْرَامِ النَّارِ وَزِيَادَةِ تَسْعِيرِهَا، وَفَصَّلَ وَجْهَ الشَّبَهِ بِقَوْلِهِ. «فَحَامِلُ الْمِسْكِ إمَّا أَنْ يُهْدِيَك» أَيْ يَجُودُ عَلَيْك مِنْ مِسْكِهِ «وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ» أَيْ تَشْتَرِيَ «وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً» لِإِرْشَادِهِ لِلْهُدَى وَالتُّقَى إلَى أَنْ يَشْفَعُوا فِي الْآخِرَةِ بِمُجَالَسَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَاسَاتِهِمْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «وَنَافِخُ الْكِيرِ إمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَك» أَيْ إمَّا أَنْ تُتَابِعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ سُوئِهِ فَيُلْهِبُ دِينَك وَحَسَنَاتِك بِنَارِ الْمَعْصِيَةِ «وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» أَيْ إنْ لَمْ تُتَابِعْهُ تَتَضَرَّرْ بِكَآبَةِ جَهْلِهِ وَفُحْشِهِ وَفِسْقِهِ، وَلَوْ بِمُجَرَّدِ مُجَالَسَتِهِ إذَا اتَّخَذَتْهُ خَلِيلًا وَبِالْجُمْلَةِ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ مَنْ تُؤْذِي مُجَالَسَتُهُ دِينًا أَوْ دُنْيَا وَالتَّرْغِيبُ فِي مُجَالَسَةِ مَنْ تَنْفَعُ مُجَالَسَتُهُ فِيهِمَا، وَفِيهِ إيذَانٌ بِطَهَارَةِ الْمِسْكِ تَجَنَّبْ قَرِينَ السُّوءِ وَاصْرُمْ حِبَالَهُ ... فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِنْهُ مَحِيصًا فَدَارِهِ وَلَازِمْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاتْرُكْ مِرَاءَهُ ... تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لَمْ تُمَارِهِ وَلِلَّهِ فِي عَرْضِ السَّمَوَاتِ جَنَّةٌ ... وَلَكِنَّهَا مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ وَقِيلَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْجَلِيسُ الصَّالِحُ لَا يَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةٍ إمَّا أَنْ يُعَلِّمَك مَا يُنْجِيك وَإِمَّا أَنْ تَسْأَلَهُ وَتَطْلُبَهُ وَإِمَّا أَنْ تَغْتَنِمَ بَرَكَاتِ مَجْلِسِهِ، كَمَا قِيلَ الْجُلُوسُ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ إحْيَاءِ لَيْلَةٍ وَالْجَلِيسُ السُّوءُ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَ دِينِك وَإِمَّا أَنْ يَنْشُرَ صِيتَك بِالسُّوءِ وَالْقُبْحِ كَمَا فِي حَدِيثِ (د ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» لِأَنَّ الْمُجَاوَرَةَ مُؤَثِّرَةٌ وَالْأَخْلَاقَ سَارِيَةٌ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الصُّحْبَةُ سَارِيَةٌ وَالطَّبِيعَةُ سَارِقَةٌ وَلِذَا قَالُوا فِيمَا نُسِبَ إلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - احْذَرْ عَدُوَّك مَرَّةً وَاحْذَرْ صَدِيقَك أَلْفَ مَرَّهْ مِنْ مَعَانِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ كُلَّ أَحَدٍ صَدِيقًا وَخَلِيلًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَحْوُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ وَالصَّلَاحِ وَعَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَهَذَا لَا يُوجَدُ إلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْمَنْعَ عَنْ الصُّحْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاتِّخَاذِ الْحَالَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ الشَّرَائِطِ كَمَا قِيلَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ وَصِيَّةِ عَلْقَمَةَ الْعُطَارِدِيِّ لِابْنِهِ اصْحَبْ مَنْ إذَا خَدَمْته صَانَك، وَإِنْ صَحِبْته زَانَك اصْحَبْ مَنْ إذَا مَدَدْت يَدَك بِخَيْرٍ مَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْك حَسَنَةً عَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْك سَيِّئَةً سَدَّهَا إلَى آخِرِهِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا قِيلَ لَا تَصْحَبْ مِنْ النَّاسِ إلَّا مَنْ يَكْتُمُ وَيَسْتُرُ عَيْبَك وَيَكُونُ مَعَك فِي النَّوَائِبِ وَيُؤْثِرُك فِي الرَّغَائِبِ وَيَنْشُرُ حَسَنَتَك وَيَطْوِي سَيِّئَتَك، فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ لَا تُصَاحِبْ إلَّا نَفْسَك. «فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» " د ت " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الْخُدْرِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا تُصَاحِبْ إلَّا مُؤْمِنًا» وَكَامِلُ الْإِيمَانِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ سَرَّاقَةٌ، وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ: صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ تُورِثُ الْخَيْرَ وَصُحْبَةُ الْأَشْرَارِ تُورِثُ الشَّرَّ

كَالرِّيحِ إذَا مَرَّتْ عَلَى النَّتْنِ حَمَلَتْ نَتِنًا، وَإِذَا مَرَّتْ عَلَى الطَّيِّبِ حَمَلَتْ طَيِّبًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ أَحَدٌ إلَّا لَهُ مُحِبٌّ وَمُبْغِضٌ، فَإِذَنْ لَا مَخْلَصَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ الْمَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ أَخٌ لِآخِرَتِك فَلَا تُرَاعِ فِيهِ إلَّا الْخُلُقَ، وَأَخٌ تُسَافِرُ بِهِ فَلَا تُرَاعِ فِيهِ إلَّا السَّلَامَةَ مِنْ شَرِّهِ قَالَ فِي الْحُكْمِ لَا تَصْحَبْ مَنْ لَا يُنْهِضُك حَالُهُ وَلَا يَدُلُّك عَلَى اللَّهِ مَقَالُهُ. وَقَالَ التُّسْتَرِيُّ احْذَرْ صُحْبَةَ ثَلَاثَةٍ الْجَبَابِرَةِ الْغَافِلِينَ وَالْقُرَّاءِ الْمُدَاهِنِينَ وَالصُّوفِيَّةِ الْجَاهِلِينَ أَيْ الَّذِينَ قَنَعُوا بِظَاهِرِ النِّسْبَةِ وَتَحَلَّوْا لِلنَّاسِ بِالزُّهْدِ وَالتَّعَبُّدِ وَهَؤُلَاءِ عَلَى النَّاسِ فِتْنَةٌ وَبَلَاءٌ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَطَعَ ظَهْرِي رَجُلَانِ عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ فَعَلَيْك بِامْتِحَانِ مَنْ أَرَدْت صُحْبَتَهُ لَا لِكَشْفِ عَوْرَةٍ بَلْ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ. كَذَا فِي الْفَيْضِ لَعَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَدُورُ حَدِيثُ «اسْتَكْثِرْ مِنْ الْإِخْوَانِ فَإِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ شَفَاعَةً» وَمُعْظَمُ فَائِدَةِ عَقْدِ الْأُخُوَّةِ هُوَ التَّبَرُّكُ بِالدُّعَاءِ وَرَجَاءُ انْتِظَارِ الشَّفَاعَةِ وَمُتَابَعَةُ السِّيرَةِ، وَفِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ. وَيَفِرُّ مِنْ الْكَسْلَانِ وَالْمُعَطِّلِ وَالْمُفْسِدِ وَالْفَتَّانِ عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَأَبْصِرْ قَرِينَهُ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي فَإِنْ كَانَ ذَا شَرٍّ فَجَنِّبْهُ سُرْعَةً ... وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ فَقَارِنْهُ تَهْتَدِي «وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَك إلَّا تَقِيٌّ» لِأَنَّ الْمُطَاعَمَةَ تُوجِبُ الْأُلْفَةَ وَتُؤَدِّي إلَى الْخُلْطَةِ بَلْ هِيَ أَوْثَقُ عُرَى الْمُخَالَطَةِ وَمُخَالَطَةُ غَيْرِ التَّقِيِّ تُخِلُّ بِالدِّينِ وَتُوقِعُ فِي الشُّبَهِ وَالْمَحْظُورَاتِ فَكَأَنَّهُ يَنْهَى عَنْ مُخَالَطَةِ الْفُسَّاقِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حِرْمَانَ غَيْرِ التَّقِيِّ مِنْ الْإِحْسَانِ بَلْ يُطْعِمُهُ وَلَا يُخَالِطُهُ إلَّا بِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِرْشَادِ إنْ مَرْجُوًّا فَالْمَعْنَى لَا تُصَاحِبْ إلَّا مُطِيعًا وَلَا تُخَالِلْ إلَّا تَقِيًّا. (غَرِيبَةٌ) قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اجْتَمَعَ جَمْعٌ مِنْ الْمَشَايِخِ بِدَعْوَةٍ وَقَدَّمُوا الطَّعَامَ وَاحْتَاجُوا آنِيَةً وَثَمَّةَ إنَاءُ زُجَاجٍ جَدِيدٍ أُعِدَّ لِلْبَوْلِ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فَأَكَلُوا فِيهِ فَنَطَقَ مُنْذُ أَكْرَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِأَكْلِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ لَا أَكُونُ وِعَاءً لِلْأَذَى، ثُمَّ انْكَسَرَ نِصْفَيْنِ فَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ سَمِعْتُمْ مَا قَالَ؟ قَالُوا لَا. قَالَ قَالَ كَذَا وَقَالَ غَيْرَ هَذَا أَيْضًا قَالَ قُلُوبُكُمْ أَكْرَمَهَا اللَّهُ بِالْإِيمَانِ فَلَا تَرْضَوْا أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِنَجَاسَةِ الْمَعْصِيَةِ وَحُبِّ الدُّنْيَا. قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي حَدِيثِ «اسْتَكْثِرُوا مِنْ الْإِخْوَانِ فَإِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ شَفَاعَةً» الْمُرَادُ مِنْ الْإِخْوَانِ هُمْ الْأَخْيَارُ فَكُلَّمَا كَثُرَتْ إخْوَانُكُمْ كَثُرَتْ شُفَعَاؤُكُمْ وَذَلِكَ أَرْجَى لِلْفَلَاحِ وَأَقْرَبُ لِلصَّلَاحِ وَالنَّجَاحِ، ثُمَّ قَالَ وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا الْأَخْيَارُ إخْوَانُ هَذَا الزَّمَانِ فَيَنْبَغِي الْإِقْلَالُ مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ عَدُوُّك مِنْ صِدِّيقِك مُسْتَفَادٌ ... فَلَا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنْ الصِّحَابِ فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ ... يَكُونُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ قَالَ الْغَزَالِيُّ سَمِعْت ابْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ لِلثَّوْرِيِّ أَوْصِنِي قَالَ أَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ قُلْت أَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَكْثِرُوا مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ فَإِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ شَفَاعَةً قَالَ لَا أَحْسِبُك رَأَيْت قَطُّ مَا تَكْرَهُ إلَّا مِمَّنْ تَعْرِفُ، ثُمَّ مَاتَ فَرَأَيْته فِي النَّوْمِ فَقُلْت أَوْصِنِي قَالَ أَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّ التَّخَلُّصَ مِنْهُمْ شَدِيدٌ. (ت عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُجَامِعُوهُمْ فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِنْهُمْ» لِأَنَّ لِلْمُجَاوَرَةِ تَأْثِيرًا فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِمْ. (فُرُوعٌ) وَفِي الْحَدِيثِ «إذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ» وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالْإِخْبَارِ لِيَزْدَادَ حُبًّا وَأَيْضًا «إذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ» وَأَيْضًا «إذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ صَاحِبَهُ فَلْيَأْتِهِ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ» وَأَيْضًا «إذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ عَبْدًا» يَعْنِي إنْسَانًا «فَلْيُخْبِرْهُ فَإِنَّهُ يَجِدُ مِثْلَ الَّذِي يَجِدُ لَهُ» كُلُّهُ فِي الْجَامِعِ وَإِذَا اعْتَرَاك الْوَهْمُ مِنْ حَالِ امْرِئٍ ... وَأَرَدْت تَنْظُرَ خَيْرَهُ مِنْ شَرِّهِ فَاسْأَلْ ضَمِيرَك عَنْ ضَمِيرِ فُؤَادِهِ ... يُنْبِئُك سِرُّك بِاَلَّذِي فِي سِرِّهِ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «اسْتَكْثِرُوا مِنْ الْإِخْوَانِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ رَبِّي حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي أَنْ يُعَذِّبَ عَبْدَهُ بَيْنَ

فتح الفم عند التثاؤب وعدم دفعه

إخْوَانِهِ» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ لَهُ صَدِيقٌ حَمِيمٌ لَا يُعَذَّبُ وَعَنْهُ أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنْ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُثْنِيَ عَلَى صَدِيقِهِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ وَفِعْلِهِ حَتَّى عَقْلِهِ وَخُلُقِهِ وَهِمَّتِهِ وَخَطِّهِ وَتَصْنِيفِهِ وَجَمِيعِ مَا يَفْرَحُ بِهِ بِلَا كَذِبٍ وَلَا إفْرَاطٍ وَيَشْكُرَ عَلَى صَنِيعِهِ فِي حَقِّهِ وَيَذُبَّ عَنْهُ فِي غَيْبَتِهِ مَهْمَا قُصِدَ بِسُوءٍ وَلَوْ كِنَايَةً أَوْ تَعْرِيضًا، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُحَافَظَةِ حُقُوقِ الْأُخُوَّةِ فَالْعُزْلَةُ أَوْلَى لَهُ مِنْ الْمُؤَاخَاةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، فَإِنَّ حَقَّ الصُّحْبَةِ ثَقِيلٌ وَلَا يُطِيقُهُ إلَّا مُحَقِّقٌ وَلَا جَرَمَ أَجْرُهُ جَزِيلٌ وَلَا يَنَالُهُ إلَّا بِتَوْفِيقٍ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّكَ فَالْوَاجِبُ الِاحْتِمَالُ وَالْعَفْوُ وَالصَّفْحُ وَالتَّعَامِي عَنْهُ وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَذَهَبَ أَبُو ذَرٍّ إلَى الِانْقِطَاعِ وَرَأَى ذَلِكَ مِنْ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى خِلَافِهِ قَالَ إذَا تَغَيَّرَ أَخُوك فَلَا تَدَعْهُ، فَإِنَّ أَخَاك يَعْوَجُّ مَرَّةً وَيَسْتَقِيمُ مَرَّةً أُخْرَى وَقَالَ النَّخَعِيُّ لَا تَقْطَعْ أَخَاك وَلَا تَهْجُرْهُ عِنْدَ الذَّنْبِ، فَإِنَّهُ يَرْتَكِبُهُ الْيَوْمَ وَيَتْرُكُهُ غَدًا وَكَمْ مِنْ أَخٍ زَلَّ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ أَخُوهُ حَتَّى صَارَ بَاعِثًا عَلَى هِدَايَتِهِ. وَمِنْ آدَابِ الْأُخُوَّةِ أَنْ لَا يُكَلِّفَهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ بَلْ يُرَوِّحَهُ عَنْ مُهِمَّاتِهِ وَحَاجَاتِهِ، وَلَا يَسْتَمِدَّ مِنْهُ نَحْوَ جَاهٍ وَمَالٍ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ، بَلْ لَا يَقْصِدُ بِمَحَبَّتِهِ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى تَبَرُّكًا بِدُعَائِهِ وَاسْتِئْنَاسًا بِلِقَائِهِ وَاسْتِعَانَةً بِهِ عَلَى دِينِهِ وَتَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَمُؤْنَتِهِ. وَتَمَامُهُ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ. [فَتْحُ الْفَمِ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ وَعَدَمُ دَفْعِهِ] (وَمِنْهَا فَتْحُ الْفَمِ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ وَعَدَمُ دَفْعِهِ " م " عَنْ ابْنِ سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِهِ» لِأَنَّهُ سَبَبُ الْكَسَلِ عَنْ الطَّاعَةِ وَالْحُضُورِ فِيهَا وَلِذَا صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ» (وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَكْظِمْ» أَيْ لِيَدْفَعْ «مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» فَاهُ إذَا فَتَحَهُ يَعْنِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَدْفَعْ التَّثَاؤُبَ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّ التَّثَاؤُبَ لَيْسَ بِاخْتِيَارِيٍّ بَلْ اضْطِرَارِيٌّ وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الِاخْتِيَارِيِّ قُلْنَا فَرْقٌ بَيْنَ نَفْسِ التَّثَاؤُبِ وَفَتْحِ الْفَمِ عِنْدَهُ، وَالِاضْطِرَارِيُّ لَوْ سُلِّمَ فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا هُوَ بِالثَّانِي وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نَهْيِ التَّثَاؤُبِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ أَسْبَابِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مُطْلَقًا كَكَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ مَتْنًا وَشَرْحًا. (وَمِنْهَا الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ إذَا لَمْ يُعْطِ) الْجَالِسُ (حَقَّهُ) حَقَّ الطَّرِيقِ وَإِلَّا فَلَا يُمْنَعُ، وَحَقُّ الطَّرِيقِ نَحْوُ غَضِّ الْبَصَرِ وَكَفِّ الْأَذَى كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ (خ م عَنْ) أَبِي سَعِيدٍ (الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ» يَعْنِي احْذَرُوا مِنْ الْجُلُوسِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْجَالِسَ فِيهَا قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُ وَسَمَاعِ مَا لَا يَحِلُّ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ وَمُعَايَنَةِ الْمُنْكَرَاتِ وَغَيْرِهَا «فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ» أَيْ مُفَارَقَةٌ «نَتَحَدَّثُ فِيهَا» بِبَعْضِ مُهِمَّاتِنَا فَمَا نَفْعَلُ

القعود وسط الحلقة

«فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا أَبَيْتُمْ إلَّا الْمَجْلِسَ» بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ امْتَنَعْتُمْ عَنْ الْجَمِيعِ إلَّا عَنْ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ كَأَنْ دَعَتْ حَاجَةٌ «فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» فَلَا يَضُرُّ حِينَئِذٍ لَكِنْ فِيهِ إيمَاءٌ إلَى الْمَنْعِ مَا أَمْكَنَ وَأَنَّ الْأَوْلَى عِنْدَ إعْطَاءِ حَقِّهِ عَدَمُ الْجُلُوسِ «قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ» كَفُّهُ عَنْ نَظَرِ الْمُحَرَّمِ «وَكَفُّ الْأَذَى» أَعْنِي الِامْتِنَاعَ عَمَّا يُؤْذِي الْمَارِّينَ مِنْ نَحْوِ ازْدِرَاءٍ وَغِيبَةٍ وَتَضْيِيقِ طَرِيقٍ «وَرَدُّ السَّلَامِ» مِنْ الْمَارَّةِ إكْرَامًا لَهُمْ «وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَتَشْمِيتِ عَاطِسٍ وَإِفْشَاءِ سَلَامٍ مِنْ كُلِّ مَا يُنْدَبُ مِنْ الْمُحَسَّنَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالنَّهْيِ عَنْ مُسْتَقْبَحَاتِهَا (وَزَادَ د) يَعْنِي أَبُو دَاوُد (فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ» وَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ لِئَلَّا يَضْعُفَ الْجَالِسُ عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ إنَّ سَدَّ الذَّرَائِعِ أَوْلَوِيٌّ لَا لُزُومِيٌّ؛ لِأَنَّهُ نَهَى أَوَّلًا عَنْ الْجُلُوسِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ فَلَمَّا قَالُوا لَا بُدَّ لَنَا مِنْهُ فَسَحَ لَهُمْ فِيهِ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الْحَقِّ (وَفِي رِوَايَةِ عُمَرَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «وَتُعِينُوا» بِالْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ «الْمَلْهُوفَ» الْعَاجِزَ أَوْ الْمَظْلُومَ «وَتَهْدُوا الضَّالَّ» إلَى الطَّرِيقِ. (وَمِنْهَا الْجُلُوسُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ) بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُ جَسَدِهِ فِي الظِّلِّ وَبَعْضُهُ فِي الشَّمْسِ (حَدّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَلَا يَضُرُّ جَهَالَةُ الرَّاوِي الصَّحَابِيِّ لِشَهَادَةِ نَبِيِّهِمْ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَلِذَا قُبِلَ مُرْسَلُهُمْ مُطْلَقًا عَلَى الْأَصَحِّ (أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى» عَنْ «أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ» وَكَذَا الْمَرْأَةُ مُقَايَسَةً أَوْ مِنْ قَبِيلِ {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ( «بَيْنَ الضِّحِّ» ضَوْءِ الشَّمْسِ «وَالظِّلِّ، فَإِنَّهُ مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ» لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالْبَدَنِ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ لَا مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الدِّينِ فَيَكُونُ لِلتَّنْزِيهِ وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ لَهُ وَالْآمِرُ بِهِ لِيُصِيبَهُ السُّوءُ؛ لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالْمِزَاجِ لِاخْتِلَافِ حَالِ الْبَدَنِ بِمَا يَحِلُّ بِهِ مِنْ مُؤَثِّرِ الْمُتَضَادَّيْنِ نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ أَقُولُ وَكَذَا الْجُلُوسُ فِي الشَّمْسِ فَقَطْ لِمَا فِي الْجَامِعِ «إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الشَّمْسِ فَإِنَّهَا تُبْلِي الثَّوْبَ وَتُنْتِنُ الرِّيحَ وَتُظْهِرُ الدَّاءَ الدَّفِينَ» قَالَ شَارِحُهُ أَيْ الْمَدْفُونَ فِي الْبَدَنِ فَالْقُعُودُ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ إرْشَادًا لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ صَرَّحَ الْأَطِبَّاءُ بِهِ. لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ وَقَفَ عَلَى طَعْنِ الذَّهَبِيِّ بِأَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الطَّحَّانِ وَلِذَا قَالَ شَارِحُهُ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ حَذْفُهُ. [الْقُعُودُ وَسْطَ الْحَلْقَةِ] (وَمِنْهَا الْقُعُودُ وَسْطَ الْحَلْقَةِ) كَحَلْقَةِ الذِّكْرِ وَحَلْقَةِ الْعِلْمِ أَوْ الطَّعَامِ الْوَسْطِ بِالسُّكُونِ ظَرْفُ مَكَان مُبْهَمٌ (د عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ» ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ لِتَأَذِّيهمْ وَقِيلَ مُخْتَصٌّ بِمِنْ يَجْلِسُ اسْتِهْزَاءً كَالْمُضْحِكِ وَبِمَنْ يَجْلِسُ لِأَخْذِ الْعِلْمِ نِفَاقًا، وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِمَنْ يَتَخَطَّى الرِّقَابَ وَيَقْعُدُ وَسْطَ الْحَلْقَةِ وَيَحْجُبُ الْبَعْضَ عَنْ بَعْضٍ فَقَالَ الْمُنَاوِيُّ لَيْسَ

بِتَقْوِيمٍ إلَّا إنْ قِيلَ بِقَصْدِ الضَّرَرِ أَوْ أُوِّلَ اللَّعْنُ بِالْأَذَى. وَجْهُ اللَّعْنِ أَنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ. (وَمِنْهَا الْجُلُوسُ مَكَانَ غَيْرِهِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ) الْأَوْفَقُ جَعْلُهُمَا آفَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ (خ م عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ رَجُلًا مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ» لِسَبْقِ حَقِّهِ وَلِلْأَذَى وَالتَّحْقِيرِ وَالتَّشْبِيهِ بِالْجَبَابِرَةِ وَلِمُنَافَاةِ التَّوَاضُعِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي رَجُلٍ أَقَامَهُ مِنْ مَكَانِهِ ثُمَّ جَلَسَ مَكَانَهُ وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْمُطْلَقُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُرْمَةِ مَجْمُوعِهِمَا حُرْمَةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِجَوَازِ كَوْنِ التَّأْثِيرِ فِي الْمَجْمُوعِ فَيَنْدَفِعُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَلَوْ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ «وَلَكِنْ» عِنْدَ مَجِيءِ أَحَدٍ «تَوَسَّعُوا» يَا أَهْلَ الْمَجْلِسِ «وَتَفَسَّحُوا» يَعْنِي لَا يَجُوزُ لِلْجَائِي رَفْعُ وَاحِدٍ وَالْجُلُوسُ مَكَانَهُ بَلْ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْمَجْلِسِ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ مَكَانًا بِلَا قِيَامِ أَحَدٍ (د عَنْهُ) أَيْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَذَهَبَ لِيَجْلِسَ فِيهِ فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى كَوْنِ قِيَامِ ذَلِكَ الرَّجُلِ لِأَجْلِ خَوْفِهِ أَوْ لِتَرْكِهِ مَجْلِسَ الْعِلْمِ أَوْ الْحِكْمَةِ، وَأَمَّا الْقِيَامُ لِلْغَيْرِ لِلتَّعْظِيمِ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ كَالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاء فَيَجُوز وزُ إلَّا إنْ أَمْرَ بِالْقِيَامِ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ وَالْمَحَلِّ فَعَلَى الْجَالِسِ حِينَئِذٍ الْقِيَامُ قِيلَ وَأَمَّا مَا جَاءَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا فَقُمْنَا لَهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَكْرَهُ الْقِيَامَ» فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى لِئَلَّا يَتَمَكَّنَ فِي النُّفُوسِ حُبُّ الْجَاهِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَأُيِّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِ زَيْنِ الْعَرَبِ فِي حَدِيثٍ «لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» إنْ كَانَ تَعْظِيمُهُمْ لِلدُّنْيَا كَالْمَالِ وَالْجَاهِ، وَإِنْ لِلْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ فَحَسَنٌ وَبِقَوْلِ الْمُبَارِقِ فِي حَدِيثِ «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» فَيَدُلُّ أَنَّ الْقِيَامَ جَائِزٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ كَالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَامَ لِعِكْرِمَةَ وَلِعَدِيٍّ» ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَلَى تَأْلِيفِهِمَا عَلَى الْإِسْلَامِ لِكَوْنِهِمَا سَيِّدَيْ الْقَبِيلَتَيْنِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْقِيَامُ إنْ لِلْإِعْظَامِ فَمَكْرُوهٌ، وَإِنْ لِلْإِكْرَامِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ انْتَهَى. لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ وَارِدٍ عَلَى الْحَدِيثِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَنْشَأَ لَهُ فِيهِ وَفِي الْمُنَاوِيِّ عِنْدَ حَدِيثِ " قُومُوا " وَفِيهِ نَدْبُ إكْرَامِ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ شَرَفٍ بِالْقِيَامِ لَهُمْ إذَا أَقْبَلُوا وَالتَّنْبِيهُ عَلَى شَرَفِ ذَوِي الشَّرَفِ وَالتَّعْرِيفُ بِأَقْدَارِهِمْ وَتَنْزِيلُهُمْ مَنَازِلَهُمْ وَقَدْ قَامَ الْمُصْطَفَى لِعِكْرِمَةَ لِكَوْنِهِ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَلِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ لِكَوْنِهِ مِنْ رُؤَسَاءِ بَنِي طيئ يَتَأَلَّفُهُمَا بِهِ وَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِيَامِ لِلْإِعْظَامِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْأَعَاجِمِ لَا لِلْإِكْرَامِ كَمَا كَانَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ انْتَهَى. وَاخْتَارَ الْجَوَازَ أَيْضًا الشُّرُنْبُلَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَتِهِ الْخَاصَّةِ (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ» لِيَعُودَ «ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ قَاعِدًا فَلَهُ أَنْ يُقِيمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْ اخْتِصَاصَهُ، وَعَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ تَخْصِيصُهُ بِالْمَسْجِدِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْمَنْقُولِ عَنْ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ التَّعْمِيمُ لِلْمَسْجِدِ وَلِغَيْرِهِ لَكِنْ خُصّ بِمَا جَلَسَ لِلصَّلَاةِ، وَشَرَطَ كَوْنَ الْمُعَاوَدَةِ غَيْرَ طَوِيلَةٍ فِي زَمَانٍ يَسِيرٍ وَعَلَى الْقَاعِدِ إطَاعَتُهُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا أَوَّلُهُمَا أَصَحُّهُمَا، وَمَنْ أَلِفَ مِنْ مَسْجِدٍ مَحَلًّا لِيُفْتِيَ فِيهِ أَوْ يَقْرَأَ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ قَعَدَ فِيهِ وَمِثْلُهُ مَنْ سَبَقَ إلَى مَحَلٍّ مِنْ الشَّارِعِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ لِمُعَامَلَةٍ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ إذْنِ الْإِمَامِ كَذَا فِي الْفَيْضِ. أَقُولُ وَكَذَا الْمُنَاوَبَةُ فِي الْمِيَاهِ وَالرَّحَى وَالْفُلْكِ وَالرِّبَاطَاتِ وَنَحْوِهَا (د «عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ كُنَّا إذَا أَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي»

وَلَا يَذْهَبُ إلَى مَا فَوْقَهُ فَسُنَّ بِسُكُوتِهِ وَتَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ مِنْ السُّنَّةِ التَّقْرِيرِيَّةِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُمْ إنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَكِنْ يَشْكُلُ بِحَدِيثِ الْجَامِعِ «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» وَفَسَّرَ شَارِحُهُ أَيْ احْفَظُوا حُرْمَةَ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِهِ وَعَامِلُوهُ بِمَا يُلَائِمُ فِي دِينٍ وَعِلْمٍ وَشَرَفٍ فَلَا تُسَوُّوا بَيْنَ الْخَادِمِ وَالْمَخْدُومِ وَالرَّئِيسِ وَالْمَرْءُوسِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ عَدَاوَةً وَحِقْدًا فِي النُّفُوسِ وَهَذَا مِنْ تَأْدِيبِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ وَتَعْلِيمِهِمْ إيفَاءَ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَإِكْرَامِ ذِي الشَّيْبَةِ وَإِجْلَالِ الْكَبِيرِ، وَبِحَدِيثِهِ أَيْضًا «أَنْزِلْ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» قَالَ شَارِحُهُ، فَإِنَّ الْإِكْرَامَ غِذَاءُ الْآدَمِيِّ وَالتَّارِكُ لِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ لَا يَسْتَقِيمُ حَالُهُ وَقَدْ دَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْوَالَ عِبَادِهِ غِنًى وَفَقْرًا وَعِزًّا وَذُلًّا وَرِفْعَةً وَضِعَةً لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ شُكْرًا، فَإِذَا لَمْ يُنْزِلْهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُخَالِقْهُ بِخُلُقٍ حَسَنٍ فَقَدْ اسْتَهَانَ بِهِ وَجَفَاهُ وَتَرَكَ مُوَافَقَةَ اللَّهِ فِي تَدْبِيرِهِ، فَإِذَا سَوَّيْت بَيْنَ شَرِيفٍ وَوَضِيعٍ أَوْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ فِي مَجْلِسٍ أَوْ عَطِيَّةٍ كَانَ مَا أَفْسَدْت أَكْثَرَ مِمَّا أَصْلَحْت فَالْغَنِيُّ إذَا أَقْصَيْت مَجْلِسَهُ أَوْ احْتَقَرْت هَدِيَّتَهُ يَحْقِدُ عَلَيْك وَإِذَا عَامَلَتْ الْوُلَاةَ مُعَامَلَةَ الرَّعِيَّةِ فَقَدْ عَرَّضْت نَفْسَك لِلْبَلَاءِ أَقُولُ التَّوْفِيقُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا فِي حُضُورِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبَيْنَ مَا فِي غِيَابِهِ أَوْ يَجْعَلُ الْأَخِيرِينَ قَيْدًا لِلْأَوَّلِ بِمَعْنَى جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنْتَهِي إنْ كَانَ هُوَ مَنْزِلَهُ، وَأَمَّا تَرْجِيحُ الْقَوْلِيِّ عَلَى السُّكُوتِيِّ وَالصَّرِيحِ عَلَى الْكِنَايَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ احْتِجَاجًا، فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ عَدَمِ التَّوْفِيقِ وَأَيْضًا إنَّ قَوْلَهُ أَحَدُنَا لَيْسَ نَصًّا فِي الِاسْتِغْرَاقِ فَافْهَمْ (د عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَجْلِسْ» أَنْتَ «بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا» ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ الْحِقْدَ وَإِيذَاءً بِاحْتِقَارِهِمَا (وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ» لِإِنْسَانٍ «أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا» وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَحَبَّةٌ وَجَرَيَانُ سِرٍّ وَكَلَامٍ فَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا التَّفَرُّقَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِي الصَّفِّ فُرْجَةٌ وَفِي الْجَامِعِ رِوَايَةٌ عَلَى هَذَا الْمَخْرَجِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. (وَمِنْهَا الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمُصِيبَةِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ) لِأَجْلِ التَّعْزِيَةِ وَفِي قَاضِي خَانْ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمُصِيبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ وَفِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ رُخِّصَ لِلرِّجَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالتَّرْكُ أَوْلَى وَفِي الْجَوْهَرَةِ وَقْتُ تَعْزِيَةِ مَنْ يَمُوتُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَيُكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تُجَدِّدُ الْحُزْنَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعَزِّي أَوْ الْمُعَزَّى غَائِبًا فَلَا بَأْسَ بِهَا (وَكَذَا لِلتِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ) وَيَجُوزُ لِلْقَيِّمِ لِضَرُورَةِ حِفْظِ الْمَسْجِدِ (حَتَّى الْكِتَابَةُ بِالْأُجْرَةِ) وَأَمَّا الْكِتَابَةُ لِنَفْسِهِ لِلِانْتِفَاعِ فَجَائِزٌ وَيَدْخُلُ فِيهِ فَتْوَى الْمُفْتِي بِأُجْرَةٍ كَمَا سَبَقَ لَكِنْ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ تَجْوِيزِ الْقَيِّمِ لِلضَّرُورَةِ تَجْوِيزُهُ لِلْمُعْتَكِفِ لِلضَّرُورَةِ أَيْضًا (وَفِي الْخُلَاصَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلسَّقَّاءِ) الَّذِي يُسْبِلُ الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ بِالْأُجْرَةِ (هَذَا الْحُكْمُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْكَسْبِ فَيُكْرَهُ وَمَا قِيلَ فِي السَّقَّاءِ فِي الْمَسْجِدِ نَفْعٌ وَإِعَانَةٌ عَلَى الْخَيْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَرِهَهُ فِي الْخُلَاصَةِ وَلَمْ أَعْلَمْ مُرَادَهُ فَمِنْ قَبِيلِ

الانحناء في السلام

الرَّأْيِ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ وَقَدْ قَرَّرَ كَرَاهَةَ الشُّرْبِ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ حَتَّى تَعْلِيمَ الصِّبْيَانِ بِأَجْرِ وَالْخِيَاطَةَ وَالْكِتَابَةَ وَقَدْ سَبَقَ. [الِانْحِنَاءُ فِي السَّلَامِ] (وَمِنْهَا الِانْحِنَاءُ فِي السَّلَامِ) ابْتِدَاءً وَرَدًّا وَلَوْ سُلْطَانًا (ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ وَصَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ» مِنْ الِانْحِنَاءِ «قَالَ» - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا» أَيْ لَا يَنْحَنِي فَيُكْرَهُ «قَالَ أَفَيَلْتَزِمُهُ» أَيْ يَلْتَصِقُ بِصَدْرِهِ وَجَسَدِهِ «وَيُقَبِّلُهُ قَالَ لَا قَالَ أَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ» مِنْ الْمُصَافَحَةِ «قَالَ نَعَمْ» أَقُولُ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الْفُقَهَاءُ يُكْرَهُ الِانْحِنَاءُ فِيهِ) إلَّا أَنْ يَخَافَ مِنْ شَرِّهِ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَحَرَامٌ. (وَمِنْهَا السِّحْرُ فَهُوَ حَرَامٌ) لِمَا جَاءَ فِيهِ كَالسِّحْرِ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ أَوْ لِعَدَمِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَوْ لِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ أَوْ لِيَتَحَبَّبَ إلَيْهِ النِّسَاءُ أَوْ الْمُرْدُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُورِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لِخَوَاجَهْ زَادَهْ (فَإِنْ اعْتَقَدَ التَّأْثِيرَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ السِّحْرِ (فَهُوَ كَافِرٌ) ؛ لِأَنَّهُ لَا مُؤَثِّرَ فِي الْوُجُودِ غَيْرُهُ تَعَالَى فَمَنْ اعْتَقَدَ التَّأْثِيرَ مِنْهُ

فَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ شَرِيكًا لَهُ تَعَالَى، وَفِي الْخَانِيَّةِ وَاَلَّذِي يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ كَانَ يَقُولُ أَنَا أَخْلُقُ وَأَفْعَلُ مَا أُرِيدُ ثُمَّ تَابَ وَتَبَرَّأَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى - خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ - قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَلَا يُقْتَلُ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ وَيَجْحَدُ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَفْعَلُ بِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إذَا أُخِذَ وَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَسَاحِرٌ يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ لِلِامْتِحَانِ وَلَا يَعْتَقِدُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَافِرًا، وَعَنْ الْخَانِيَّةِ إذَا تَابَ السَّاحِرُ قَبْلَ الْأَخْذِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَبَعْدَ الْأَخْذِ كَالزِّنْدِيقِ. وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ كُفْرٌ وَقِيلَ إنْ لِلنَّجَاةِ أَوْ التَّوَقِّي فَلَا، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ الشَّافِعِيِّ إذَا اعْتَرَفَ السَّاحِرُ بِأَنَّهُ قَتَلَ الشَّخْصَ بِسِحْرِهِ وَجَبَ الْقَوَدُ (س عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ» نَفَخَ «فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ» إنْ اعْتَقَدَ التَّأْثِيرَ «وَمَنْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ» اعْتَقَدَ قَلْبُهُ شَيْئًا دُونَهُ تَعَالَى «وُكِلَ إلَيْهِ» وَلَمْ يُعِنْهُ تَعَالَى وَلَمْ يَنْصُرْهُ، وَأَمَّا مَنْ تَعَلَّقَ بِاَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (ز عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ» وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَامَةً لِلشَّرِّ نَحْوَ فِعْلِ طَيْرٍ أَوْ سَمَاعِ كَلَامٍ كَصَوْتِ الْغُرَابِ وَالْعَقْعَقِ وَرُؤْيَةِ الْأَرْنَبِ وَالرَّجُلِ الْفَاسِقِ وَالرَّجُلِ الْعَرِيفِ بِالشُّؤْمِ «أَوْ تَكَهَّنَ» بِنَفْسِهِ وَالْكِهَانَةُ إخْبَارٌ عَنْ الْغَيْبِ «أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ أَوْ سَحَرَ» بِنَفْسِهِ «أَوْ سُحِرَ لَهُ» ، فَإِنْ اعْتَقَدَ التَّأْثِيرَ وَعِلْمَ الْغَيْبِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ لَيْسَ مِنَّا لَيْسَ مِنْ أُمَّتِنَا؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ وَإِلَّا فَمَعْنَاهُ لَيْسَ مِنْ عَامِلِ شَرِيعَتِنَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ حَرَامٌ لَيْسَ بِكُفْرٍ كَمَا مَرَّ لَكِنْ إنْ أُرِيدَ أَحَدُهُمَا يَبْقَى الْآخَرُ، وَإِنْ أُرِيدَا مَعًا فَيَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ الْحَقِيقَتَيْنِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَنَا فَنَقُولُ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْحُرْمَةِ فِي ضِمْنِ أَيِّهِمَا وُجِدَ وَإِلَّا فَلَا «وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلُ التَّصْدِيقُ بَلْ الشَّكُّ فَالظَّاهِرُ لَيْسَ بِكُفْرٍ

وَعَنْ بَعْضٍ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ مَا لَمْ يُصَدِّقْ تَصْدِيقًا يَقِينِيًّا وَكَذَا السُّؤَالُ لِلِاسْتِهْزَاءِ أَوْ التَّكْذِيبِ، وَفِي قَاضِي خَانْ تَصْدِيقُ الْكَاهِنِ كُفْرٌ وَلَوْ قَالَ أَنَا أُخْبِرُ بِأَخْبَارِ الْجِنِّ، وَفِي النِّصَابِ مَا حَاصِلُهُ مَا يُرَادُ بِهِ الْإِصْلَاحُ وَالنَّفْعُ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ كَحَلِّ الْعُقَدِ فَالْمُبْتَلَى بِذَلِكَ يَأْخُذُ حُزْمَةَ قُضْبَانٍ وَيَطْلُبُ فَأْسًا ذَا فِقَارَيْنِ وَيَضَعُهُ فِي وَسَطِ تِلْكَ الْحُزْمَةِ وَيُؤَجِّجُ نَارًا فِي تِلْكَ الْحُزْمَةِ حَتَّى إذَا حَمِيَ الْفَأْسُ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ النَّارِ وَبَالَ عَلَى حِدَّتِهِ، فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِإِذْنِهِ تَعَالَى. اهـ. (وَمِنْهَا تَعْلِيقُ التَّمَائِمِ) خَرَزَةٌ تُعَلَّقُ لِدَفْعِ الْآفَاتِ (وَنَحْوِهِ د عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ الرُّقَى» مَا تُكْتَبُ لِدَفْعِ الْأَوْجَاعِ وَالْآلَامِ ( «وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ» شَيْءٌ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِيَتَحَبَّبْنَ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ «شِرْكٌ» إنْ اعْتَقَدَ التَّأْثِيرَ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الرُّقَى مَعْلُومَ الْمَعَانِي فَجَائِزٌ وَإِلَّا فَحَرَامٌ كَالْآخَرَيْنِ فَحِينَئِذٍ الْمُرَادُ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ تَرْهِيبًا وَتَهْدِيدًا، وَعَنْ الْخَانِيَّةِ صَنْعَةُ الْمَرْأَةِ التَّعْوِيذَ لِيُحِبَّهَا زَوْجُهَا الْبَاغِضُ لَهَا حَرَامٌ قَالَ الْعَبْدُ أَصْلَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ النَّاسِ أَنْ يُعَلِّقُوا عَلَى أَوْلَادِهِمْ التَّمَائِمَ وَالْخُيُوطَ وَالْخَرَزَاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَخَلَّفَ أَنْوَاعُهُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُمْ الْعَيْنَ وَمَسَّ الشَّيْطَانِ، وَفِيهِ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِيَدِ اللَّهِ لَا بِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الرَّتِيمَةِ وَهِيَ الْخَيْطُ الَّذِي يُرْبَطُ بِالْإِصْبَعِ أَوْ الْخَاتَمِ لِلتَّذَكُّرِ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ انْتَهَى. أَقُولُ الْأَشْبَهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِنَحْوِ مَا كَانُوا يَرْقُونَ بِمَا فِيهِ أَسْمَاءُ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْأَصْنَامِ وَيُعَلِّقُونَ التَّمِيمَةَ وَهِيَ الْخَرَزَةَ وَكَذَا التُّوَلَةَ وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يُصْنَعُ لِلْمَحَبَّةِ وَيَعْتَقِدُونَ فِي ذَلِكَ دَفْعَ الْمَضَارِّ وَالتَّأْثِيرَ وَالِاضْطِرَارَ إلَى الْحُبِّ فَأَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ بِاعْتِقَادِ التَّأْثِيرِ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى فَشِرْكٌ (حَدّ يعلى حك عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً» عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ طِفْلِهِ أَوْ دَابَّتِهِ «فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ» ، وَفِي الْجَامِعِ «فَلَا تَمَّمَ اللَّهُ لَهُ» مَا أَرَادَهُ مِنْ الْحِفْظِ «وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعَةً» خَرَزَةً لِدَفْعِ الْعَيْنِ «فَلَا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ» أَيْ لَا تَرَكَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَحْصُلَ مُرَادُهُ. دُعَاءٌ أَوْ خَبَرٌ، وَفِي الْجَامِعِ «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ» أَيْ فَعَلَ فِعْلَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُمْ يَرَوْنَ بِهِ دَفْعَ الْمَقَادِيرِ الْمَكْتُوبَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إذَا اعْتَقَدَ الَّذِي عَلَّقَهَا أَنَّهَا تَرُدُّ الْعَيْنَ فَقَدْ ظَنَّ أَنَّهَا تَرُدُّ الْقَدْرَ وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ شِرْكٌ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ كَغَيْرِهِ مَحَلُّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَمَا قَبْلَهُ فِي تَعْلِيقِ مَا لَيْسَ فِيهِ قُرْآنٌ وَنَحْوُهُ أَمَّا مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ فَلَا نَهْيَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّعَوُّذِ بِأَسْمَائِهِ وَذِكْرِهِ، وَكَذَا لَا نَهْيَ عَمَّا يُعَلَّقُ لِأَجْلِ الزِّينَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْخُيَلَاءَ وَالسَّرَفَ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَأَقُولُ أَيْضًا مَحْمَلُ مَا ذُكِرَ عَلَى اعْتِقَادِ التَّأْثِيرِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ (حك عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا

حكم الوشم

قَالَتْ لَيْسَتْ التَّمِيمَةُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ بَعْدَ الْبَلَاءِ) لِأَجْلِ رَفْعِهِ كَتَعْلِيقِ خَرَزَةٍ لِأَجْلِ رَفْعِ الِاصْفِرَارِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (إنَّمَا التَّمِيمَةُ) الْمَنْهِيُّ عَنْهَا (مَا تَعَلَّقَ بِهِ قَبْلَ الْبَلَاءِ) لِزَعْمِ أَنَّهَا تَدْفَعُهُ وَعَدَمَ إصَابَتِهِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ الْفَرْقُ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ وَالضَّرُورَةُ لَا تَصْلُحُ فَارِقًا فَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَبُّدِ وَأَنَّ ثُبُوتَ الْأَصْلِ بِأَثَرٍ خِلَافُ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ (وَأَمَّا تَعْلِيقُ التَّعْوِيذِ) أَيْ حَمْلُ الدُّعَاءِ الْمُجَرَّبِ أَوْ الْآيَةِ الْمُجَرَّبَةِ أَوْ بَعْضِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى لِدَفْعِ الْبَلَاءِ (فَلَا بَأْسَ بِهِ) كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ (وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ عِنْدَ الْخَلَاءِ وَالْقُرْبَانِ) أَيْ الْوِقَاعِ بِأَهْلِهِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَجُوزُ عَدَمُ النَّزْعِ إذَا كَانَ مَسْتُورًا بِشَيْءٍ وَالنَّزْعُ أَوْلَى وَأَحْوَطُ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ (كَذَا فِي التتارخانية) . [حُكْم الْوَشْمُ] (وَمِنْهَا الْوَشْمُ) غَرْزُ الْيَدِ أَوْ الْوَجْهِ بِالْإِبَرِ ثُمَّ ذَرُّ الْكُحْلِ أَوْ الْمِدَادِ (وَنَحْوِهِ خ م عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَات» أَيْ طَالِبَاتِ فِعْلِهِ ( «وَالْمُتَنَمِّصَاتِ» بِتَاءٍ ثُمَّ نُونٍ وَرُوِيَ بِتَقْدِيمِ النُّونِ هِيَ أَخْذُ شَعْرِ الْحَاجِبِ بِالْمِنْمَاصِ. حَدِيدَةٌ يُؤْخَذُ بِهَا الشَّعْرُ. وَأَمَّا أَخْذُ شَعْرِ الْجَبْهَةِ فَجَائِزٌ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَجُوزُ أَخْذُ شَعْرِ الْحَاجِبِ لِلزِّينَةِ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَهُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ «وَالْمُتَفَلِّجَاتِ» تَرْقِيقُ السِّنِّ تَفْعَلُهُ الْعَجَائِزُ «لِلْحُسْنِ» لِأَجْلِ الْحُسْنِ «الْمُغَيِّرَاتِ» وَصْفٌ مُشِيرٌ لِعِلَّةِ اللَّعْنِ «خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى» فَحَرَامٌ حَتَّى قِيلَ كَبِيرَةٌ لِلَّعْنِ نَعَمْ إنْ نَبَتَتْ لَهَا لِحْيَةٌ لَمْ يَحْرُمْ إزَالَتُهَا بَلْ مَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّهَا مُثْلَةٌ فِي حَقِّهَا كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الطَّبَرَانِيِّ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ الْتِمَاسًا لِلْحُسْنِ لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ كَمَقْرُونَةِ الْحَاجِبَيْنِ تُزِيلُ مَا بَيْنَهُمَا تُوهِمُ الْبَلَجَ وَعَكْسُهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ عِيَاضٌ عَدَمَ جَوَازِ إزَالَةِ عُضْوٍ زَائِدٍ كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ (وَزَادَ س «وَالْوَاصِلَةَ» مَنْ تَصِلُ شَعْرَ النِّسَاءِ بِشَعْرِ النِّسَاءِ «وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» مَنْ تَطْلُبُهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ عَلَى مَخْرَجِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى وَلَعَلَّك عَلِمْت فِيمَا مَرَّ جَوَازَ وَصْلِ شَعْرِهَا بِشَعْرٍ لَيْسَ بِشَعْرِ آدَمِيٍّ كَالْوَبَرِ ( «وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَالْمُحَلِّلَ» الزَّوْجَ الثَّانِيَ لِأَجْلِ حِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلْأَوَّلِ ( «وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» الزَّوْجَ الْأَوَّلَ الطَّالِبَ لِذَلِكَ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ اللَّعْنَ إنْ كَانَ النِّكَاحُ بِشَرْطِ التَّطْلِيقِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ صَرِيحًا، وَإِنْ مُضْمَرًا فَجَائِزٌ بَلْ مَنْدُوبٌ كَمَا فَصَّلْنَا فِي حَاشِيَتِنَا عَلَى الدُّرَرِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى وُقُوعِ التَّحْلِيلِ وَلَوْ بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ عِنْدَ هُمْ وَلَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ وَلَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ كَذَا قِيلَ

(وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي رَيْحَانَةَ «الْوَشْرَ» بِالرَّاءِ هُوَ تَرْقِيقُ الْأَسْنَانِ «وَالنَّتْفَ» وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «تَغْيِيرَ الشَّيْبِ» بِالسَّوَادِ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ (وَالْمُرَادُ بِالنَّتْفِ الْبَيَاضُ مِنْ اللِّحْيَةِ) السَّوْدَاءِ (عَلَى وَجْهِ التَّزَيُّنِ " ت " عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ إنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ» فَيُكْرَهُ كَمَا فِي الْفَيْضِ وَقِيلَ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ إنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إنَّ «أَوَّلَ مَنْ شَابَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ مَا هَذَا يَا رَبُّ قَالَ الْوَقَارُ قَالَ رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا عَلَى وَقَارِي. فَالرِّضَا بِهِ مُوَافَقَةٌ لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الْغُرُورَ وَالْكِبْرَ وَيُمِيلُ إلَى الطَّاعَاتِ وَالتَّوْبَةِ وَيُذَكِّرُ الْمَوْتَ وَالْآخِرَةَ موى سيبد أز كفن وَأَدْبُ بيام بشت خم أز مرك رسانت سلام (وَمِنْ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ تَغْيِيرُهُ بِالسَّوَادِ) وَيَجُوزُ بِالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (س عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «سَيَجِيءُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُونَ» لِحَاهُمْ «بِالسَّوَادِ» فَتَكُونُ «كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ» أَيْ صُدُورِ الْحَمَامِ «لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» ) تَهْدِيدٌ بَلِيغٌ فِي الزَّجْرِ (م. عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «غَيِّرُوا الشَّيْبَ» بِنَحْوِ حِنَّاءٍ أَوْ كَتَمٍ لَا بِسَوَادٍ لِحُرْمَتِهِ، وَفِي النِّصَابِ الْحُمْرَةُ سُنَّةٌ فِي اللِّحْيَةِ، وَأَمَّا السَّوَادُ فَإِنْ لِلْغَزْوِ فَمَحْمُودٌ، وَإِنْ لِأَجْلِ حُبِّ النِّسَاءِ وَالتَّزَيُّنِ إلَيْهِنَّ فَمَكْرُوهٌ وَجَوَّزَهُ بَعْضٌ بِلَا كَرَاهَةٍ انْتَهَى، وَعَنْ النَّوَوِيِّ الْخِضَابُ بِالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ مُسْتَحَبٌّ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَبِالسَّوَادِ حَرَامٌ وَمَا رُوِيَ مِنْ خَضْبِ عُثْمَانَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ سِيرِينَ بِالسَّوَادِ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَزْوِ «وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «وَلَا تَقْرَبُوا السَّوَادَ» قِيلَ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي قُحَافَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَانَا أَشَدَّ بَيَاضًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يُسْتَحَبُّ الْخِضَابُ إلَّا إنْ كَانَتْ عَادَةُ بَلَدِهِ تَرْكَ الصَّبْغِ كَذَا فِي الْفَيْضِ. (وَمِنْهَا تَوْفِيرُ الشَّارِبِ) أَيْ تَكْثِيرُهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ الشَّفَةَ، وَفِي التتارخانية يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ شَارِبَهُ كَالْحَاجِبِ، وَعَنْ الْخَانِيَّةِ يَأْخُذُ مِنْ الشَّارِبِ إلَى أَنْ يُحَاذِيَ الشَّفَةَ الْعُلْيَا، وَأَمَّا الْغَازِي فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُنْدَبُ لَهُ تَطْوِيلُهُ لِيَكُونَ مَهِيبًا (ت س عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ» مَا طَالَ حَتَّى يُبَيِّنَ الشَّفَةَ بَيَانًا «فَلَيْسَ مِنَّا» أَيْ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ جَمْعٌ فَأَوْجَبُوا قَصَّهُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى النَّدْبِ (وَالْأَفْضَلُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ يُجْعَلَ كَالْحَاجِبِ وَيُظْهِرَ الْإِطَارَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ جَانِبُ الشَّفَةِ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

السُّنَّةُ الْقَصُّ حَتَّى يَبْدُوَ الْإِطَارُ وَقِيلَ الْأَفْضَلُ حَلْقُهُ أَوْ الْقَصُّ مِنْ عَجُزِهَا اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ «انْهَكُوا الشَّوَارِبَ» وَالْأَفْضَلُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَتْنِ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ نَوْعُ مُثْلَةٍ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ تَرْجِيحِ الرَّأْيِ عَلَى النَّصِّ (وَقَدْ مَرَّ قَصُّ اللِّحْيَةِ إذَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الْقَبْضَةِ وَحَلْقُهَا) ، وَفِي التتارخانية كَمَا مَرَّ أَيْضًا يَقْطَعُ مَا زَادَ مِنْ اللِّحْيَةِ عَلَى الْقَبْضَةِ وَلَا بَأْسَ إذَا طَالَتْ لِحْيَتُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَطْرَافِهَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قُصُّوا الشَّوَارِبَ وَاعْفُوا اللِّحَى» أَيْ: اُتْرُكُوا اللِّحَى كَمَا هِيَ وَلَا تَحْلِقُوهَا وَلَا تَقْطَعُوهَا وَلَا تَنْقُصُوهَا عَنْ قَدْرِ السُّنَّةِ وَهُوَ الْقَبْضَةُ وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ الْحَاجِبَيْنِ وَشَعْرِ وَجْهِهِ مَا لَمْ يُشْبِهْ الْمُخَنَّثَ (خ م عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «انْهَكُوا الشَّوَارِبَ» النَّهْكُ الْقَصُّ مُبَالَغَةً أَيْ بَالِغُوا فِي قَصِّهَا «وَاعْفُوا اللِّحَى» أَيْ وَفِّرُوا وَكَثِّرُوا مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى قَدْرِ الْمَسْنُونِ يَعْنِي الْقَبْضَةَ، وَفِي الْوَسِيلَةِ عَنْ شَرْحِ الشِّرْعَةِ أَرَادَ بِهِ النَّهْيَ عَمَّا يَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ وَالْإِفْرَنْجُ مِنْ قَصِّ اللِّحْيَةِ وَتَوْفِيرِ الشَّارِبِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَعَنْ النِّصَابِ لَا يَجُوزُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ كَمَا ذَكَرَ فِي جِنَايَاتِ الْهِدَايَةِ وَكَرَاهَةِ التَّجْنِيسِ وَالْمُفِيدِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُحْفُوا الشَّوَارِبَ وَاعْفُوا اللِّحَى» أَيْ قُصُّوا الشَّوَارِبَ وَاتْرُكُوا اللِّحَى كَمَا هِيَ وَلَا تَحْلِقُوهَا وَلَا تَنْقُصُوهَا مِنْ الْقَدْرِ الْمَسْنُونِ (ت عَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا» وَيَنْظُرُ فِي حَبِّ الْمَاءِ فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ تَسْوِيَةَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَوْ تَزْيِينَهَا بِأَنْ يَقُصَّ كُلَّ شَعْرَةٍ أَطْوَلَ مِنْ غَيْرِهَا لِيَسْتَوِيَ الْجَمِيعُ سُنَّةٌ وَذَلِكَ لِيَقْرَبَ عَنْ التَّدْوِيرِ جَمِيعُ الْجَوَانِبِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَالَ مَحْبُوبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَعَنْ الْإِحْيَاءِ قِيلَ لَا بَأْسَ بِأَخْذِ مَا تَحْتَ الْقَبْضَةِ وَقِيلَ مَكْرُوهٌ وَتَرْكُهَا عَافِيَةٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَنْ النَّخَعِيِّ عَجِبْت مِنْ رَجُلٍ عَاقِلٍ طَوِيلِ اللِّحْيَةِ مَعَ أَنَّ التَّوَسُّطَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَسَنٌ وَلِذَا قِيلَ كُلَّمَا طَالَتْ اللِّحْيَةُ نَقَصَ الْعَقْلُ انْتَهَى. قِيلَ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ إنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي أَيْ كَرَاهَةُ أَخْذِ مَا تَحْتَ الْقَبْضَةِ لَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ جُثَّةِ الْأَشْخَاصِ كَمَا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَبِهِ أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. (وَكَذَا حَلْقُ رَأْسِ الْمَرْأَةِ بِلَا عُذْرٍ) وَقَدْ مَرَّ (س عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» بِلَا عُذْرٍ (وَكَذَا

الْقَزَعُ " خ م " عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْقَزَعِ» وَزَادَ) ابْنُ عُمَرَ (فِي رِوَايَةٍ «قُلْت لِنَافِعٍ) مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (وَمَا الْقَزَعُ قَالَ يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكُ بَعْضٌ» لَعَلَّك سَمِعْت حَدِيثَ «احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوْ اُتْرُكُوهُ كُلَّهُ» ، فَإِنَّ حَلْقَ الْبَعْضِ مَعَ تَرْكِ الْبَعْضِ مُثْلَةٌ وَهُوَ مَكْرُوهٌ مُطْلَقًا تَنْزِيهًا إلَّا لِعُذْرٍ لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَسَوَاءٌ فِي الْقَفَا أَوْ النَّاصِيَةِ أَوْ الْوَسَطِ خِلَافًا لِبَعْضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْوِيهِ وَتَقْبِيحِ الصُّورَةِ وَأَنَّهُ زِيُّ أَهْلِ الدَّعَارَةِ وَالْفَسَادِ وَالْيَهُودِ وَهُوَ مِنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ أَمَرَ حَتَّى فِي شَأْنِ الْإِنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ فَنَهَاهُ عَنْ حَلْقِ بَعْضٍ وَتَرْكِ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لِلرَّأْسِ حَيْثُ تَرَكَ بَعْضَهُ كَاسِيًا وَبَعْضَهُ عَارِيًّا. وَنَظِيرُهُ الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَقَوْلُهُ احْلِقُوهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَلْقِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِحَالَةِ الضَّرُورَةِ مُحْتَجًّا بِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ إلَّا فِي الْحَجِّ لِكَوْنِهِ مِنْ فِعْلِ الْمَجُوسِ وَالصَّوَابُ الْحِلُّ بِلَا كَرَاهَةٍ وَلَا خِلَافَ الْأَوْلَى، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي شَامَةَ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْوِيهِ وَمُخَالَفَةِ طَرِيقِ الْمُصْطَفَى إذْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ يَحْلِقُهُ بَلْ إنْ قَصَدَ بِهِ التَّقَرُّبَ فِي غَيْرِ نُسُكٍ أَثِمَ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الدَّيْنِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَفِي حَيِّزِ الْمَنْعِ بِلَا رَيْبٍ كَيْفَ «وَقَدْ حَلَقَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَ ابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» ، وَفِي أَبِي دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ مَهْ أَحْسِنْ إلَى شَعْرِك أَوْ احْلِقْهُ» فَسَوَّى بَيْنَ تَرْجِيلِهِ وَحَلْقِهِ وَأَعْدَلُ حَدِيثٍ فِي الْمَقَامِ قَوْلُ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ لَا بَأْسَ بِحَلْقِهِ لِمُرِيدِ التَّنْظِيفِ وَلَا بِتَرْكِهِ لِمَنْ يَدْهَنُ وَيَتَرَجَّلُ فَبَقَاؤُهُ لَهُ أَوْلَى، وَمَنْ عَسِرَ عَلَيْهِ كَضَعِيفٍ وَفَقِيرٍ وَمُنْقَطِعٍ يَتَلَبَّدُ فِيهِ وَيَجْمَعُ الْوَسَخَ وَالْقَمْلَ فَحَلْقُهُ أَوْلَى. وَالْكَلَامُ كُلُّهُ فِي الذَّكَرِ أَمَّا الْأُنْثَى فَحَلْقُهُ لَهَا مَكْرُوهٌ حَيْثُ لَا ضَرَرَ بَلْ إنْ كَانَتْ مُفْتَرَشَةً وَلَمْ يَأْذَنْ الْحَلِيلُ حَرُمَ بَلْ عَدَّهُ فِي الْمَطَامِحِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَشَاعَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَلَقَتْ رَأْسَهَا بِلَا إذْنِ زَوْجِهَا سَقَطَ صَدَاقُهَا وَذَلِكَ صَرْخَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ كُلُّهُ مِنْ الْفَيْضِ. (وَمِنْهَا رُكُوبُ النِّسَاءِ عَلَى السَّرْجِ بِغَيْرِ عُذْرٍ) (" حب " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ يَرْكَبْنَ عَلَى سُرُجٍ كَأَشْبَاهِ الرِّجَالِ» وَمُشَابَهَتُهُنَّ لَهُمْ مَنْهِيٌّ عَنْهَا «وَرِجَالٌ يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ» يَعْنِي يَجِيئُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ رَاكِبِينَ عَلَى الْمَرَاكِبِ الْبَهِيَّةِ تَكَبُّرًا وَخُيَلَاءَ. وَأَمَّا الرُّكُوبُ بِعُذْرٍ كَالْبُعْدِ وَالشَّيْخُوخَةِ وَالْمَرَضِ فَجَائِزٌ «نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ» فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ يَعْنِي أَنَّهُنَّ كَاسِيَاتٌ بِنِعَمِ اللَّهِ عَارِيَّاتٌ مِنْ الدِّينِ وَقِيلَ كَاسِيَاتٌ ثِيَابًا رِقَاقًا يَظْهَرُ مَا تَحْتَهَا مِنْ فَوْقِهَا فَهُنَّ كَاسِيَاتٌ فِي الظَّاهِرِ عَارِيَّاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَقِيلَ كَاسِيَاتٌ فِي الدُّنْيَا بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنْ الْحَرَامِ وَمِمَّا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ عَارِيَّاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ عَارِيَّاتٌ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى أَوْ عَارِيَّاتٌ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ أَوْ كَاسِيَاتٌ بَعْضَ بَدَنِهِنَّ عَارِيَّاتٌ يَكْشِفْنَ بَعْضًا آخَرَ إظْهَارًا لِلْجَمَالِ أَوْ عَارِيَّاتٌ عَنْ السِّتْرِ الْمَقْصُودِ مِنْهُنَّ أَوْ كَاسِيَاتٌ بِنَعَمْ اللَّهِ عَارِيَّاتٌ عَنْ شُكْرِهَا. وَزِيدَ هُنَا فِي الْقُرْطُبِيِّ قَوْلُهُ «مَائِلَاتٌ وَمُمِيلَاتٌ» وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ قِيلَ مَعْنَاهُ زَائِغَاتٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ الْأَزْوَاجِ وَمَا يَلْزَمُهُنَّ مِنْ صِيَانَةِ الْفُرُوجِ وَالسَّتْرِ عَنْ الْأَجَانِبِ، وَمُمِيلَاتٌ يُعَلِّمْنَ غَيْرَهُنَّ الدُّخُولَ فِي فِعْلِهِنَّ وَقِيلَ مَائِلَاتٌ مُتَبَخْتِرَاتٌ فِي مَشْيِهِنَّ وَمُمِيلَاتٌ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَطِيبِ رَائِحَتِهِنَّ «عَلَى رُءُوسِهِنَّ» شَيْءٌ «كَأَسْنِمَةِ» جَمْعُ سَنَامٍ «الْبُخْتِ الْعِجَافِ» جَمْعُ عَجْفَاءَ وَهِيَ

ترك الوليمة

النَّاقَةُ الضَّعِيفَةُ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْعَجْفَاءِ؛ لِأَنَّ سَنَامَهَا حِينَئِذٍ يَكُونُ مَائِلًا إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَيَكُونُ مَا يُلْبَسُ فِي رُءُوسِهِنَّ مِثْلَهُ فِي الصِّفَةِ كَمَا يُشَاهَدُ فِي أَكْثَرِ نِسَاءِ الزَّمَانِ. وَقِيلَ يَعْنِي يُعَظِّمْنَ رُءُوسَهُنَّ بِالْخُمُرِ وَالْقَلَنْسُوَةِ حَتَّى تُشْبِهَ أَسْنِمَةَ الْبُخْتِ أَوْ مَعْنَاهُ يَنْظُرْنَ إلَى الرِّجَالِ بِرَفْعِ رُءُوسِهِنَّ وَتَمَايُلِهَا شَهْوَةً لَهُمْ «الْعَنُوهُنَّ» اُدْعُوا بِاللَّعْنَةِ عَلَى فَاعِلَتِهِنَّ «فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ» لِاتِّصَافِهِنَّ بِمَا يُوجِبُ اللَّعْنَ وَالطَّرْدَ عَنْ أَلْطَافِهِ تَعَالَى، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رُكُوبَ السَّرْجِ لِلنِّسَاءِ وَلُبْسَ الثِّيَابِ الَّتِي تَصِفُهَا لِكَوْنِهَا رَقِيقَةً أَوْ ضَيِّقَةً وَأَنْ يَكُونَ عَلَى رُءُوسِهِنَّ شَيْءٌ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ كَمَا فِي زَمَانِنَا فِي بَعْضِ الدِّيَارِ كُلَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْمُحَشِّي، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَا تَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا تَجِدْنَ رِيحَهَا» مَرَّ تَأْوِيلُ مِثْلِهِ مِرَارًا «وَأَنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» أَيْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمَشَارِقِ (قَالُوا هَذَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً وَقَدْ رَكِبَتْ لِلتَّبَرُّجِ) لِإِظْهَارِ الْحُسْنِ (وَالتَّفَرُّجِ) فَفِيهِ جِنَاسٌ مُضَارِعٌ. (وَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا أَوْ كَانَتْ شَابَّةً وَقَدْ رَكِبَتْ مَعَ زَوْجِهَا لِعُذْرٍ) مُسْتَقِلَّةً أَوْ رَدِيفَةً (بِأَنْ رَكِبَتْ لِلْجِهَادِ وَقَدْ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِنَّ لِلْجِهَادِ أَوْ) رَكِبَتْ (لِلْحَجِّ أَوْ لِلْعُمْرَةِ) فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَتْ مُسْتَتِرَةً كَذَا فِي التتارخانية. . [تَرْكُ الْوَلِيمَةِ] (وَمِنْهَا تَرْكُ الْوَلِيمَةِ) طَعَامِ الْعُرْسِ (خَرَّجَ) الْأَئِمَّةُ (السِّتَّةُ) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ كَمَا فِي الْجَامِعِ (عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مَرْفُوعًا «أَوْلِمْ» مِنْ الْوَلِيمَةِ «وَلَوْ بِشَاةٍ» قَالَهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ ذَهَبَ بَعْضٌ إلَى وُجُوبِهَا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَنُدِبَ عِنْدَ بَعْضٍ. قِيلَ تَكُونُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَقِيلَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَقِيلَ عِنْدَهُمَا وَاسْتَحَبَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ أَنْ تَكُونَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَلْزَمُ الْأَطْعِمَةُ النَّفِيسَةُ بَلْ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ، وَفِي الْمُبَارِقِ قِيلَ الضِّيَافَةُ ثَمَانٌ الْوَلِيمَةُ لِلْعُرْسِ وَالْخُرْسُ لِلْوِلَادَةِ وَالْإِعْذَارُ لِلْخِتَانِ وَالْوَكِيرَةُ لِلْبِنَاءِ وَالنَّقِيعَةُ لِلْقُدُومِ وَالْعَقِيقَةُ لِسَابِعِ الْوَلَدِ وَالْوَضِيمَةُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَالْمَأْدُبَةُ الضِّيَافَةُ بِلَا سَبَبٍ. (وَمِنْهَا الْبَيْتُوتَةُ، وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمْرٍ رِيحُ اللَّحْمِ) يَعْنِي دَسَمَ اللَّحْمِ (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مَرْفُوعًا «أَنَّ الشَّيْطَانَ حَسَّاسٌ» كَثِيرُ الْحِسِّ «لَحَّاسٌ» كَثِيرُ اللَّحْسِ يَعْنِي يَلْحَسُ بِلِسَانِهِ مَا يَتْرُكُهُ ابْنُ آدَمَ الْآكِلُ عَلَى يَدِهِ مِنْ الطَّعَامِ «فَاحْذَرُوهُ» أَيْ الشَّيْطَانَ «عَلَى أَنْفُسِكُمْ» أَيْ فَاغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَكْلِ مِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ» مِنْ اللَّمَمِ أَوْ الْبَرَصِ أَوْ الصَّرْعِ أَوْ الْجُنُونِ «فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» ، فَإِنَّا قَدْ أَوْضَحْنَا لَهُ الْبَيَانَ

حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ كَالْعَيَانِ قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخْبَرَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَّصِلُ بِالْإِنْسَانِ بِسَبَبِ الْغَمَرِ فَيَتَحَسَّسُ بِهِ وَيَلْحَسُهُ وَيَتَّصِلُ بِهِ فَيُصِيبُهُ دَاءٌ أَوْ جُنُونٌ فَلْيَجْتَهِدْ فِي إزَالَةِ الْغَمَرِ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ فِي الْبَحْرِ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَلْحَسُ الرَّائِحَةَ وَالْغَمَرُ دُونَ الْعَيْنِ، وَعَلَيْهِ مُشَارَكَتُهُ لِلنَّاسِ فِي الْأَكْلِ إنَّمَا هِيَ مُشَارَكَةٌ فِي رَائِحَةِ طَعَامِهِمْ دُونَ عَيْنِهِ وَقَدْ تَكُونُ مُشَارَكَتُهُ لَهُمْ بِذَهَابِ الْبَرَكَةِ مِنْهُ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ ابْنُ عَرَبِيٍّ بِأَنَّهُ حِبَالَةُ إلْحَادٍ بَلْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ قَالَ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْجِنَّ وَالشَّيْطَانَ بَسَائِطُ، فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ لَا يَفْنَوْنَ وَهُمْ يَفْنَوْنَ وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ إنَّهُ حَسَّاسٌ لَحَّاسٌ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْأَكْلِ بَلْ يَشُمُّ وَيَأْكُلُ وَلَهُ لَذَّةٌ فِي الشَّمِّ كَلَذَّتِنَا فِي كُلِّ طُعْمَةٍ (وَفِي رِوَايَةِ " طب " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «فَأَصَابَهُ وَضَحٌ» بِالْمُعْجَمَةِ فَالْمُهْمَلَةِ أَيْ بَهَقٌ وَبَرَصٌ. (وَمِنْهَا الِانْبِطَاحُ) وَهُوَ الِاضْطِجَاعُ عَلَى الْبَطْنِ (بِلَا عُذْرٍ) كَعُذْرِ هَضْمِ الطَّعَامِ أَوْ غَمْزِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (مج عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِي» اسْتِرَاحَةً بِلَا اقْتِضَاءٍ «فَرَكَضَنِي» ضَرَبَنِي وَحَرَّكَنِي «بِرِجْلِهِ وَقَالَ يَا جُنَيْدِبُ» تَصْغِيرُ جُنْدَبٍ اسْمُ أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ كُنْيَتُهُ «إنَّمَا هَذِهِ ضَجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ» فُسِّرَ هَكَذَا يُلْقَوْنَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَلَا تُشَابِهْهُمْ (وَفِي رِوَايَةِ " د " عَنْ طِخْفَةَ) بِكَسْرٍ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ فَاءٍ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «إنَّ هَذِهِ ضَجْعَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ» ، وَفِي رِوَايَةِ " ت " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ هَذِهِ ضَجْعَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ» اعْلَمْ أَنَّ النَّوْمَ عَلَى الْقَفَا نَوْمُ الْأَنْبِيَاءِ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنَّوْمَ عَلَى الْيَمِينِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَالنَّوْمَ عَلَى الشِّمَالِ نَوْمُ الْمُلُوكِ لِهَضْمِ الطَّعَامِ وَالنَّوْمَ عَلَى الْوَجْهِ نَوْمُ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ. (وَمِنْهَا النَّوْمُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُوزٍ عَلَيْهِ) يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَمْنَعُ السُّقُوطَ بَغْتَةً (ت عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُوزٍ عَلَيْهِ» لِئَلَّا يَهْوِيَ عِنْدَ قِيَامِهِ مِنْ النَّوْمِ فَيَهْلَكَ (وَفِي رِوَايَةِ " د " عَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ) الْحَنَفِيِّ الْيَمَانِيِّ «مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ عَلَيْهِ حِجَازٌ» بِالزَّايِ مَا يَحْجِزُ عَنْهُ وَيَمْنَعُ «أَوْ حِجَابٌ» بِمَعْنَاهُ «فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» زَالَتْ عِصْمَةُ نَفْسِهِ وَصَارَ كَالْمُهْدَرِ الَّذِي لَا ذِمَّةَ لَهُ فَلَعَلَّهُ يَنْقَلِبُ فِي نَوْمِهِ فَيَسْقُطُ وَيَمُوتُ هَدَرًا (وَفِي رِوَايَةِ " طب " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَنْ نَامَ عَلَى سَطْحٍ لَا جِدَارَ لَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ» يَعْنِي

سفر الحرة بلا زوج ولا محرم

لَا يَكُونُ شَهِيدًا مَعَ كَوْنِ جِنْسِهِ شَهِيدًا لِنَوْعِ التَّهْلُكَةِ. . (وَمِنْهَا اسْتِصْحَابُ الْكَلْبِ وَالْجَرَسِ لِلَّهْوِ فِي السَّفَرِ) وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهْوِ كَأَنْ يَزِيدَ نَشَاطَ الدَّابَّةِ أَوْ لِيَنْفِرَ هَوَامَّ اللَّيْلِ وَالذِّئْبَ أَوْ لِيُوجَدَ إذَا ضَلَّ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا قِيلَ (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تَقْرَبُ» ، وَفِي أُخْرَى «لَا تَتْبَعُ» وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الصُّحْبَةِ نَفْيُ مُجَرَّدِ اللِّقَاءِ لَا نَفْيُ الْمُلَازَمَةِ وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَا الْحَفَظَةُ وَنَحْوُهُمْ «رُفْقَةً» جَمَاعَةً مُتَرَافِقَةً فِي سَفَرٍ «فِيهَا كَلْبٌ» وَلَوْ لِحِرَاسَةِ الْأَمْتِعَةِ سَفَرًا كَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُهُ ( «أَوْ جَرَسٌ» بِفَتْحِ الرَّاءِ الْجُلْجُلُ وَبِسُكُونِهَا صَوْتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، وَالْمَلَائِكَةُ ضِدُّهُ، وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ النَّاقُوسَ فَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ لِلْحَرَسِ وَالِاصْطِيَادِ وَلِحِفْظِ الزَّرْعِ وَالْمَاشِيَةِ وَلِحِفْظِ مَالِهِ وَلِلْحِفْظِ مِنْ اللُّصُوصِ قَرْيَةٌ فِيهَا كِلَابٌ تَضُرُّ الْمَارِّينَ يُؤْمَرُ أَرْبَابُهَا بِقَتْلِهَا، فَإِنْ أَبَوْا يَرْفَعُ إلَى الْإِمَامِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ الْمُحْتَسِبِ، وَفِي النَّوَازِلِ إنْ كَانَ ضَرَرُ الْكِلَابِ فِي مِلْكِهِ لَا يُمْنَعُ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ يُمْنَعُ وَكَذَا الْعُجُولُ وَالدَّجَاجَةُ وَكَذَا الْأَسَدُ وَالْفَهْدُ وَالضَّبُعُ وَجَمِيعُ السِّبَاعِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَأَمَّا ضَمَانُ عَضِّ الْكَلْبِ فَفِي الْخَانِيَّةِ عَدَمُ الضَّمَانِ، وَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ إنْ قَدِمَ قَبْلَ الْعَضِّ ضَمِنَ وَإِلَّا فَلَا وَيُقْتَلُ الْجَرَادُ وَكَذَا النَّمْلَةُ الْمُؤْذِيَةُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إلْقَائِهَا فِي الْمَاءِ، وَإِحْرَاقُ الْقَمْلِ وَالْعَقْرَبِ مَكْرُوهٌ وَطَرْحُهَا حَيَّةً مَكْرُوهٌ مِنْ حَيْثُ الْأَدَبُ، وَإِنْ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ. الْكُلُّ مِنْ التتارخانية، وَعَنْ شَرْحِ الشِّرْعَةِ لِمُحَمَّدٍ الْعَيْشِيِّ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا هَبَطَ آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْأَرْضِ قَالَ إبْلِيسُ لِلسِّبَاعِ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكُمْ فَأَهْلِكُوهُ فَاجْتَمَعُوا وَوَلَّوْا أَمْرَهُمْ إلَى الْكَلْبِ وَقَالُوا أَنْتَ أَشْجَعُنَا فَلَمَّا رَأَى آدَم ذَلِكَ تَحَيَّرَ فِيهِ فَجَاءَ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ امْسَحْ يَدَك عَلَى رَأْسِ الْكَلْبِ فَأَلِفَهُ فَلَمَّا رَأَى السِّبَاعُ ذَلِكَ تَفَرَّقُوا وَبَقِيَ الْكَلْبُ مَعَ أَوْلَادِهِ إلَى هَذَا الزَّمَانِ. [سَفَرُ الْحُرَّةِ بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ] (وَمِنْهَا سَفَرُ الْحُرَّةِ بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ) وَلَوْ لِلْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الزَّوْجِ أَوْ الْمَحْرَمِ (خ م عَنْ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» أَيْ الْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ وَسَائِرُ الْمُؤْمَنِ بِهِ دَاخِلٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا «أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا» فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الْقَصْرِ وَالْعِلَّةُ أَيْ خَوْفُ الْفِتْنَةِ جَارِيَةٌ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ «إلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ ابْنُهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا» فَمُجَرَّدُ الْمَحْرَمِيَّةِ بِلَا رَحِمٍ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ كَأَنْ كَانَ مِنْ الرَّضَاعِ وَالصِّهْرِ (وَفِي أُخْرَى «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ مِنْ الدَّهْرِ» مِنْ الزَّمَانِ «إلَّا وَمَعَهَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجُهَا» ، وَفِي أُخْرَى) لَهُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا مَعَ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» ، وَفِي أُخْرَى «مَسِيرَةَ يَوْمٍ» ، وَفِي أُخْرَى «مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ» فَفِي مُدَّةِ السَّفَرِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ) ، وَفِي التَّفْرِيعِ نَوْعُ خَفَاءٍ إلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْفَاءُ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ التَّفْرِيعِ، وَفِي الْحَاشِيَةِ قَيَّدَ بِالْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ سَفَرَ الْحُرَّةِ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِلْحَجِّ وَالزِّيَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ خُرُوجُ النِّسَاءِ إذَا كَانَتْ مَعَ رُفْقَةٍ فِيهِمْ النِّسَاءُ ذَوَاتُ الْمَحَارِمِ أَوْ كَانَتْ أَمِينَةً عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَعَ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ وَالْمَحْرَمُ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا مُؤَبَّدًا سَوَاءٌ بِالرَّحِمِ أَوْ الصِّهْرِ أَوْ الرَّضَاعِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا عَاقِلًا أَوْ مُرَاهِقًا غَيْرَ مَجُوسِيٍّ وَلَا فَاسِقٍ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا صَبِيٍّ غَيْرِ عَاقِلٍ، وَأَمَّا الْمُصَاهَرَةُ مِنْ الزِّنَا فَقَالَ بَعْضٌ بِعَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَهُوَ الْأَقْيَسُ، وَعَنْ السَّرَخْسِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ كَمَا فِي التتارخانية كَذَا قِيلَ. لَكِنْ فِي إطْلَاقِ الْمُسَافِرِ فِي الْمَحْرَمِ الَّذِي غَيْرُ ذِي رَحِمٍ لَا سِيَّمَا الرَّضَاعَةُ كَلَامٌ فَلْيُسْتَقْرَ، ثُمَّ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْ الرُّكُوبُ بِنَفْسِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمَسَّهَا مِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهَا وَيَأْخُذَ ظَهْرَهَا وَبَطْنَهَا دُونَ مَا تَحْتَهَا إنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ، وَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ظَنَّ أَوْ شَكَّ اجْتَنِبْ ذَلِكَ بِجَهْدِهِ، وَفِي تَقْيِيدِ الْمُصَنِّفِ بِالْحُرَّةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَمَةَ وَالْمُدَبَّرَةَ وَالْمُكَاتَبَةَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَمُعْتَقَةَ الْبَعْضِ تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ كَمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لَكِنْ فِي قَاضِي خَانْ، وَفِي زَمَانِنَا كُرِهَ لَهَا الْمُسَافَرَةُ أَيْضًا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ تَرْكُ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ (وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَهَا) دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ قِيلَ وَالْأَقْوَى دِرَايَةً الْحُرْمَةُ لِلْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ أَقُولُ كَيْفَ تَدُلُّ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ وَقَدْ قَيَّدَ فِي بَعْضِهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَالْعَدَدُ خَاصٌّ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ فَلَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى مَا دُونَهَا بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْعَدَمِ إشَارَةً بَلْ مَفْهُومًا أَيْضًا وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ حُجَّةٌ عِنْدَ بَعْضٍ مِنَّا كَمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بَلْ نَقُولُ إنَّ الرِّوَايَاتِ كَالنُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ فَلَا يُحْتَجُّ بِلَا تَوْفِيقٍ أَوْ تَرْجِيحٍ فَلْيُتَأَمَّلْ حَتَّى يَظْهَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، ثُمَّ قِيلَ، وَأَمَّا السَّفَرُ فِيمَا دُونَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِلَا زَوْجٍ وَمَحْرَمٍ فَجَائِزٌ إذَا كَانَ مَعَ مِثْلِهَا أَوْ مَعَ رَجُلٍ مُتَدَيِّنٍ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْخَلْوَةِ وَكَوْنِ الْخُرُوجِ إلَى مَوَاضِعَ أُذِنَ لِلْخُرُوجِ إلَيْهَا مِثْلِ الزِّيَارَةِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْأَوْلَى عَدَمُ الْخُرُوجِ فِي زَمَانِنَا لِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَقِلَّةِ الْمُتَدَيِّنِينَ انْتَهَى. أَقُولُ ظَاهِرُ إطْلَاقِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ هُوَ الْجَوَازُ الْمُطْلَقُ وَمَا اعْتَبَرَهُ مِنْ الْقُيُودِ إنْ بِالرَّأْيِ فَلَا يُقْبَلُ، وَإِنْ بِالنَّصِّ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ، وَعَنْ النَّوَوِيِّ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ لَكِنْ لَا يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ بَلْ الْمُرَادُ حُرْمَةُ السَّفَرِ لِلْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَالِاخْتِلَافُ وَقَعَ لِاخْتِلَافِ السَّائِلِينَ وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي حَدِيثِ «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» ، وَفِي أُخْرَى «يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» وَأُخْرَى «يَوْمٍ» وَلَيْسَ الْقَصْدُ بِهَا التَّحْدِيدَ بَلْ الْمَدَارُ عَلَى مَا يُسَمَّى سَفَرًا عُرْفًا وَالِاخْتِلَافُ إنَّمَا وَقَعَ لِاخْتِلَافِ السَّائِلِينَ أَوْ الْمَوَاطِنِ وَلَيْسَ هُوَ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ بَلْ الْعَامُّ الَّذِي ذُكِرَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ وَذَا لَا يُخَصَّصُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَيْضًا فِي الْجَامِعِ «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ بَرِيدًا» الْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثُ أَمْيَالٍ وَالْمِيلُ مُنْتَهَى مَدِّ الْبَصَرِ كَذَا فِي الْفَيْضِ. (وَمِنْهَا الرُّكُوبُ) عَلَى الدَّابَّةِ (عِنْدَ الْوُقُوفِ الطَّوِيلِ وَعَدَمُ النُّزُولِ) بِلَا عُذْرٍ إنْ طَالَ الرُّكُوبُ (حَدّ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ كَرَاسِيَّ» لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ فَيَنْزِلُ حِينَئِذٍ إلَّا مَأْثُورًا كَمَا فِي الْوَقْفَةِ كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَاقِفًا» . وَكَذَا مِنْ الْآفَاتِ تَحْمِيلُ الدَّابَّةِ

فَوْقَ طَاقَتِهَا وَضَرْبٌ فِي وَجْهِهَا وَإِرْدَافُ ثَلَاثٍ إلَّا أَنْ يَكُونُوا صِغَارًا وَتَفْصِيلُهُ فِي الشِّرْعَةِ وَشَرْحِهِ. (وَمِنْهَا سَفَرُ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ) قِيلَ الرُّفَقَاءُ أَرْبَعَةٌ حَتَّى إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَهَابِ بَعْضٍ لِأَمْرٍ يُوجَدُ مُعَاوِنُ الذَّاهِبِ وَمُؤَانِسُ الْقَاعِدِ وَيَطْلُبُ لِلسَّفَرِ رَفِيقًا صَالِحًا يُعِينُ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ كَمَا قِيلَ الرَّفِيقُ ثُمَّ الطَّرِيقُ وَقَدْ «نَهَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُسَافَرَةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ» ، وَفِي الْحَاشِيَةِ يَعْنِي بِلَا عُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ لِعَدَمِ وِجْدَانِ الرَّفِيقِ أَصْلًا أَوْ وَجَدَ وَاحِدًا وَالسَّفَرُ لَازِمٌ (خ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «لَوْ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ مِنْ الْوَحْدَةِ» أَيْ مِنْ ضَرَرِ الْوَحْدَةِ وَآفَاتِهَا مِثْلَ عَدَمِ وِجْدَانِ مَنْ يُقِيمُ حَوَائِجَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَجْأَةً مِنْ الْوَصِيَّةِ وَالتَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ، وَبِالْجُمْلَةِ الضَّرَرُ إمَّا دُنْيَوِيٌّ كَعَدَمِ مَنْ يُقِيمُ حَوَائِجَهُ وَيُعِينُهُ فِي أُمُورِهِ وَيُؤَانِسُهُ فِي وَحْشَتِهِ أَوْ دِينِيٌّ كَعَدَمِ وِجْدَانِ مَنْ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ، وَمَنْ يُقِيمُ حَوَائِجَهُ كَمَا عَرَفْت «مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ» لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْمَطْلُوبِ هُوَ مُدَّةُ السَّفَرِ وَالْحَدِيثُ فِي اللَّيْلِ فَافْهَمْ (طب عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «الشَّيْطَانُ يَهِمُّ» يَقْصِدُ «بِالْوَاحِدِ وَبِالِاثْنَيْنِ» فِي الْإِضْلَالِ وَالْإِخَافَةِ «وَإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً لَمْ يَهِمَّ بِهِمْ» لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالسَّفَرِ بَلْ بِالْحَضَرِ كَمَا فِي بَيْتُوتَةِ مَنْزِلٍ وَاحِدٍ لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ يَعْنِي فِي السَّفَرِ وَقِيلَ أَرَادَ بِالْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدَ فِي الرَّأْيِ وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الْأَكْثَرِ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الْأَكْبَرِ. (فَائِدَةٌ) سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا هَلْ لِلْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ وَلِلشَّيْطَانِ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا يَخْطِرُ بِالْقَلْبِ أَوْ لَا؟ فَأَجَابَ لَهُمْ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا يَخْطِرُ بِالْقَلْبِ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَمِنْهَا عَدَمُ التَّأْمِيرِ) أَيْ تَرْكُهُ يَعْنِي نَصْبَ أَحَدِ الْمُسَافِرِينَ أَمِيرًا وَهُوَ سُنَّةٌ لِأَجْلِ انْتِظَامِ الْأُمُورِ فِي النُّزُولِ وَالِارْتِحَالِ وَبَعْدَ النَّصْبِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ امْتِثَالِ أَمْرِهِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ (د عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا» نَدْبًا «أَحَدَهُمْ» وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَتْقَاهُمْ وَأَصْوَبَهُمْ رَأْيًا وَأَكْثَرَهُمْ تَدْبِيرًا وَأَتَمَّهُمْ مُرُوءَةً وَسَخَاوَةً وَأَعْظَمَهُمْ شَفَقَةً وَمَرْحَمَةً، وَعَنْ الْعَوَارِفِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ» ، وَفِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْبَعْضِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، ثُمَّ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوهُ؛ لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِرَأْيِهِمْ وَأَدْعَى لِاتِّفَاقِهِمْ وَأَجْمَعُ لِشَمْلِهِمْ، ثُمَّ قَالَ فَالتَّأْمِيرُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ حُصُولِ الِانْتِظَامِ بِهِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ إقَامَةُ حُدُودٍ وَتَعْزِيرِ وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ الِاثْنَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. (وَمِنْهَا ذَهَابُ مَنْ أَكَلَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ إلَى الْمَسْجِدِ) وَلَوْ لِغَيْرِ الْجَمَاعَةِ (وَالْجَمَاعَةِ) وَلَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، أَمَّا إنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ عَلَى ظَنِّ زَوَالِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَمْ يُزَلْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْقُعُودُ فِي الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ إثْمُ التَّرْكِ كَذَا فِي حَاشِيَةِ الْمُحَشِّي (خ م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا

أَوْ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا» شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي أَيْ الْأَمَاكِنَ الْمُعَدَّةُ لِلصَّلَاةِ فَالْمُرَادُ جِنْسُ الْمَسَاجِدِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ «مَسَاجِدَنَا» وَقِيلَ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسَاجِدَ» فَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ بِمَعْنَى مَسْجِدِ مِلَّتِنَا كَمَا فِي الْمُبَارِقِ وَغَيْرِهِ أَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَلْ صِيغَةُ نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ مِنْ الشَّارِعِ شَامِلَةٌ لَهُ وَلِمَنْ اتَّبَعَهُ فِي مِلَّتِهِ سِيَّمَا فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَرِينَةِ الْإِضَافَةِ، عَلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ الَّتِي هِيَ إيذَاءُ الْمَلَائِكَةِ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْمَسَاجِدِ بَلْ سَائِرِ مَجَامِعِ النَّاسِ كَمَا فِي الْمُبَارِقِ وَكَذَا مَنْ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَأُلْحِقَ بِهِ كُلُّ مَا فِي رِيحِهِ أَذًى كَالْكُرَّاثِ بَلْ كُلُّ مَا فِيهِ أَذًى كَجُذَامٍ وَبَرَصٍ وَبَخَرٍ أَوْ جِرَاحَةٍ وَكَذَا رِيحُ سَمَكٍ وَزَبَّالٌ وَقَصَّابٌ يُمْنَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمِنْهَا يُؤْخَذُ أَنَّ مَنْ دَأْبُهُ أَذَى النَّاسِ بِلِسَانِهِ يُمْنَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ مَنْعِ الْأَجْذَمِ وَمَا مَعَهُ نَازَعَ فِيهِ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ آكِلَ الثُّومِ أَدْخَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَانِعَ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ أُولَئِكَ وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَوَسُّعٌ غَيْرُ مَرَضِيٍّ انْتَهَى، ثُمَّ قِيلَ إنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ الْوَاقِعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَإِنْ خَالِيًا عَنْ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْمَلَائِكَةِ وَقِيلَ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ «وَلَا يُؤْذِنَا بِرِيحِ الثُّومِ» فَالْعِلَّةُ تَأَذِّي بَنِي آدَمَ فَيَجُوزُ دُخُولُهُ إذَا كَانَ خَالِيًا أَقُولُ حَدِيثُ «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» يَجْعَلُ كُلًّا مِنْهُمَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً وَقِيلَ تَأَذِّي الْمَلَائِكَةِ لِتَأَذِّي بَنِي آدَمَ وَأَشْكَلَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُجَرَّدَاتٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهِمْ التَّأَذِّي؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَأَذِّيهُمْ مِنْ تَأَذِّي بَنِي آدَمَ لَا مِنْ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ وَدُفِعَ بِأَنَّ السُّؤَالَ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى قَاعِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْمُجَرَّدَاتِ لَا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِي قَالُوا إنَّ الْمَلَائِكَةَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ فَيَجُوزُ شَمُّهُمْ الرَّوَائِحَ الْكَرِيهَةَ أَقُولُ إنَّ مَا أَثْبَتُوا مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ هُوَ نَحْوُ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ، نَعَمْ إنَّ بَعْضَ الْمُتَشَرِّعِينَ كَالْغَزَالِيِّ وَالْقَاضِي وَالْأَصْفَهَانِيِّ أَثْبَتُوهَا وِفَاقًا لِلْحُكَمَاءِ لَكِنْ كَثُرَ تَشْنِيعُ الطَّوَائِفِ عَلَيْهِمْ «وَلْيَقْعُدَنَّ فِي بَيْتِهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْفَتْحِ حُكْمُ رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا حُكْمُهُ وَأَشْكَلَ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْعِلَّةَ وَهُوَ تَأَذِّي الْمَلَائِكَةِ شَامِلٌ لِلْمُنْفَرِدِ فَيَلْزَمُ تَأْخِيرُهُ إلَى زَوَالِ الرَّائِحَةِ وَهُوَ قَدْ يُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ فَيَلْزَمُ إمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ حُرْمَةُ أَكْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ وَهُمَا مُنْتَفِيَانِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ فَرْضٌ وَالْفَرْضُ لَا يُتْرَكُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ بِمُحَرَّمٍ قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ انْتَهَى (وَزَادَ فِي رِوَايَةِ " م " وَالْكُرَّاثَ وَزَادَ " ططص " وَالْفُجْلَ) ، وَفِي الْجَامِعِ «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ وَالثُّومِ سَوَاءٌ أَكَلَهُ مِنْ الْجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ» كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ كَالْأَكْلِ لِلتَّشَهِّي وَالتَّأَدُّمِ بِالْخُبْزِ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَقَالَ فِي الْفَيْضِ فِي قَوْلِ الْجَامِعِ نَهَى عَنْ أَكْلِ الثُّومِ. النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مُرِيدِ حُضُورِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَزَادَ «إلَّا مَطْبُوخًا» يَعْنِي مَشْوِيًّا، وَأَيْضًا قَالَ فِي قَوْلِهِ نَهَى عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ أَيْ النَّيْيءِ كَمَا بَيَّنَهُ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُهُ مَطْبُوخًا» ، وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ أَنَّ أَكْلَهُ غَيْرُ حَرَامٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ فِي خَبَرِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وَعَنْ أَبَوَيْهَا «إنَّ آخِرَ طَعَامٍ أَكَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَعَامٌ فِيهِ بَصَلٌ» زَادَ الْبَيْهَقِيُّ «كَانَ مَشْوِيًّا فِي قِدْرٍ» ، وَأَمَّا مَا فِي الْجَامِعِ «كُلْ الثُّومَ نِيئًا فَلَوْلَا أَنِّي أُنَاجِي رَبِّي لَأَكَلْته» وَمَا فِي شَرْحِهِ الَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ لِأَبِي نُعَيْمٍ «كُلُوا الثُّومَ وَتَدَاوَوْا بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ سَبْعِينَ دَاءً وَلَوْلَا أَنَّ الْمَلَكَ يَأْتِينِي لَأَكَلْته» فَقَدْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عُورِضَ بِأَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الثُّومِ وَلَا يُقَاوِمُ

ترك الصلاة عمدا

الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَأَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ النَّهْيِ لِلْإِبَاحَةِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد «كُلُوهُ» ، «وَمَنْ أَكَلَهُ مِنْكُمْ فَلَا يَقْرَبْ هَذَا الْمَسْجِدَ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ» ، ثُمَّ قَالَ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ زَيْنُ الْحُفَّاظِ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ وَلِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ قَالُوا فَمَنْ أَكَلَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ إنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ عَلَى ظَنِّ زَوَالِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَزُلْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ أَكَلَ قَصْدًا مَعَ الْجَزْمِ بِعَدَمِ زَوَالِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقُعُودُ وَيَأْثَمُ، ثُمَّ قِيلَ وَمِنْ هَذَا اُسْتُدِلَّ عَلَى كَرَاهَةِ الدُّخَانِ كَمَا فِي الْفَتَاوَى الْيَحَيَائِيَّةِ مَنْ لَهُ شَائِبَةُ صَلَاحٍ لَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ وَلَا شُبْهَةَ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ اُسْتُوْفِيَ مِرَارًا، وَفِي الشِّرْعَةِ وَقِيلَ مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ فَلْيَأْكُلْ فَوْقَهُ كَرَفْسًا، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِرِيحِهِ، وَفِي شَرْحِهِ وَقِيلَ مَضْغُ السَّذَابِ يَذْهَبُ بِرِيحِهِ وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ مَطْبُوخَيْنِ وَلَا يَأْكُلُ النَّيْيءَ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يُؤْذِي الْمَلَائِكَةَ، وَفِيهِ أَيْضًا وَقَدْ رُخِّصَ تَرْخِيصًا أَكْلُ الْبَصَلِ لِمَنْ دَخَلَ أَرْضًا فَلْيَأْكُلْ مِنْ بَصَلِهَا لِيَذْهَبَ عَنْهُ وَبَاؤُهَا أَيْ وَخَامَتُهَا وَهَلَاكُهَا. [تَرْكُ الصَّلَاةِ عَمْدًا] (وَمِنْهَا تَرْكُ الصَّلَاةِ عَمْدًا) أَمَّا التَّرْكُ بِالنِّسْيَانِ أَوْ النَّوْمِ وَخُرُوجِ الْوَقْتِ فَمَعْذُورٌ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا ذَكَرَهَا وَكَذَا التَّرْكُ عَمْدًا بِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ لِلْمَرِيضِ وَعَلَى التَّوَضُّؤِ وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ هُوَ مَحْبُوسٌ فِي السَّجْنِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ هُمَا يَلْزَمُ الْمَحْبُوسَ التَّشَبُّهُ كَمَا فِي الصَّوْمِ لِمُسَافِرٍ أَقَامَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَكَذَا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتْ فِيهِ، وَعِنْدَ الْإِمَامِ لَا يَلْزَمُ التَّشَبُّهُ (وَهُوَ مِنْ) أَكْبَرِ (الْكَبَائِرِ) كَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالزِّنَا وَاللُّوَاطَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ (قَالَ الْإِمَامُ الْمُنْذِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) مِنْ الْمُحَدِّثِينَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى كَوْنِهِ) أَيْ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا (كُفْرًا مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ) لَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّهُمْ مِنْ الْأَشْرَافِ وَالْكِبَارِ (- رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَمِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو دَاوُد وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ) بِفَتْحَتَيْنِ (وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ) مُحَدِّثٌ مَشْهُورٌ (وَغَيْرُهُمْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) وَعَنْ كِفَايَةِ الشَّعْبِيِّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً فَفَاسِقٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَالْوِصَايَةِ وَالْإِمَامَةِ وَيَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ وَيَكُونُ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ كَالزَّانِي وَالْقَاتِلِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ، وَفِي الْخُلَاصَةِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَوَاتِ وَكَذَا الْجَمَاعَةُ إلَّا عَنْ تَأْوِيلٍ وَكَذَا الْجُمُعَةُ، وَفِيمَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ بِلَفْظِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ يَعْنِي بِالْمُفْرِدِ، وَفِي التتارخانية عَنْ الْخَانِيَّةِ تَأْخِيرُ فَرْضٍ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ، وَفِي تَعْزِيرِ الْخُلَاصَةِ أَيْضًا رَجُلٌ لَا يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ يَجُوزُ تَعْزِيرُهُ بِأَخْذِ الْمَالِ إنْ رَأَى الْقَاضِي وَمَا فِي الْبَزَّازِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ بَعْدَهُ فَتُعُقِّبَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ انْتِفَاءُ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّعْزِيرِ وَهُوَ الزَّجْرُ وَالتَّأْدِيبُ، وَفِي النِّصَابِ وَيُخَوِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ بِإِحْرَاقِ الْبَيْتِ وَالْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تُصَلِّي فَالْأَوْلَى تَطْلِيقُهَا، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ تَارِكُهَا عَمْدًا يُقْتَلُ عِنْدَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ كُفْرًا، وَعِنْدَ غَيْرِهِ حَدًّا وَيُحْبَسُ أَبَدًا عِنْدَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَقِيلَ يُضْرَبُ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ وَقِيلَ

يُضْرَبُ حَتَّى يُصَلِّيَ أَوْ يَمُوتَ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ الْآثَارَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ عَلَى عَادَتِهِ لَعَلَّهُ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ لِشُهْرَتِهَا وَوُضُوحِهَا فَلْنَذْكُرْ بَعْضَهَا كَحَدِيثِ الْجَامِعِ «عُرَى الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدُ الدِّينِ ثَلَاثٌ عَلَيْهِنَّ أُسِّسَ الْإِسْلَامُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَهُوَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ قَبِيلِ الزَّجْرِ وَالتَّهْوِيلِ أَوْ عَلَى مُسْتَحِلِّ التَّرْكِ قَالَ الذَّهَبِيُّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ مُقَرَّرٌ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ أَنَّهُ شَرٌّ مِنْ الزَّانِي وَمُدْمِنِ الْخَمْرِ بَلْ يَشُكُّونَ فِي إسْلَامِهِ وَيَظُنُّونَ بِهِ الزَّنْدَقَةَ وَالْإِلْحَادَ وَكَحَدِيثِ مُسْلِمٍ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ وَالْجَامِعِ «بَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ تَرْكُهَا وَصْلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ. ، وَعَنْ الْمَفَاتِيحِ يَعْنِي بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ دُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ فَيَكْفُرُ إنْ جَحْدًا وَيُخَافُ عَلَيْهِ الْكُفْرُ إنْ تَهَاوُنًا وَكَحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْجَامِعِ «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ جِهَارًا» . وَكَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ» . وَكَحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ فِيهِ أَيْضًا «مَنْ تَرَكَ صَلَاةً لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ غَضْبَانُ» . وَحَدِيثِ الْبَيْهَقِيّ «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ فَمَنْ أَقَامَهَا فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ هَدَمَ الدِّينَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَمِنْ ثَمَّةَ «أَيْقَظَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ آلِهِ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ مَرَّتَيْنِ حَتَّى جَلَسَ عَلِيٌّ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ يَعْرُكُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ وَاَللَّهِ مَا نُصَلِّي إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَوَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ عَلَى فَخْذَيْهِ وَيَقُولُ مَا نُصَلِّي إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} [الكهف: 54] » . وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ أَسْلَمَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ خَمْسِينَ سَنَةٍ، فَإِذَا جَاءَ السَّحَرُ قَالَ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت أَعْطَيْت أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِي قَبْرِهِ فَأَعْطِنِي ذَلِكَ فَلَمَّا مَاتَ وَسَدُّوا لَحْدَهُ وَقَعَتْ لَبِنَةٌ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي حَالًا وَشَهِدَ ذَلِكَ مَنْ حَضَرَ فِي جِنَازَتِهِ وَكَانَ يَقُولُ الصَّلَاةُ خِدْمَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْهَا لَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39] انْتَهَى. وَحَدِيثُ الطَّبَرَانِيِّ «وَأَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلُحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ» . وَحَدِيثُ صِحَاحِ الْمَصَابِيحِ «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» لَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ مُؤَوَّلَاتٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَكِنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْمَجَازِ هُوَ التَّهْدِيدُ وَزِيَادَةُ التَّرْهِيبِ وَزِيَادَةُ الْبَيَانِ. (وَمِنْهَا تَرْكُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ الْفَرْضَيْنِ) وَأَمَّا التَّأْخِيرُ بِحَيْثُ لَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ أَوْ الْجَمَاعَةُ فَجَائِزٌ، وَفِي الشِّرْعَةِ «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَمِفْتَاحُ الصَّلَاةِ وَمُطَهِّرُ الْبَدَنِ مِنْ الْآثَامِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى الْوُضُوءِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ بَاتَ عَلَى وُضُوءٍ بَاتَ مَعَهُ فِي شِعَارِهِ مَلَكٌ يَسْتَغْفِرُ لَهُ» فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ، وَفِي شَرْحِهِ عَنْ الْخُلَاصَةِ وَالْبُسْتَانِ أَنَّ كُرْزَ بْنَ وَبَرَةَ تَوَضَّأَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا ثَمَانِينَ مَرَّةً حِرْصًا عَلَى الْمَوْتِ بِالْوُضُوءِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «إنْ أَتَاك مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَنْتَ عَلَى وُضُوءٍ لَمْ تَفُتْك الشَّهَادَةُ» ، وَعَنْ الْبُسْتَانِ أَيْضًا «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - لِمُوسَى يَا مُوسَى إذَا أَصَابَتْك مُصِيبَةٌ وَأَنْتَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَلَا تَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَك» ، وَفِي الْمَصَابِيحِ «خَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ» ، وَعَنْ بَعْضٍ: مَنْ دَاوَمَ عَلَى الْوُضُوءِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِسَبْعِ خِصَالٍ الْأَوَّلُ تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي صُحْبَتِهِ الثَّانِي لَا يَزَالُ الْقَلَمُ رَطْبًا مِنْ كِتَابَةِ ثَوَابِهِ الثَّالِثُ تَسْبِيحُ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ الرَّابِعُ لَا تَفُوتُهُ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى الْخَامِسُ إذَا نَامَ بَعَثَ مَلَكًا يَحْفَظُهُ مِنْ شَرِّ الثَّقَلَيْنِ السَّادِسُ يُسَهِّلُ اللَّهُ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ السَّابِعُ أَنْ يَكُونَ فِي أَمَانِ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ عَلَى الْوُضُوءِ.

(وَمِنْهَا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الْأَقْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْوَاجِبِ عَلَى قَوْلٍ، وَفِي الدُّرَرِ الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَقِيلَ فَرْضٌ لِلرِّجَالِ وَجَزَمَ فِي الْكَنْزِ بِكَوْنِهَا سُنَّةً مُؤَكَّدَةً وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ، وَفِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى مُسْتَحَبَّةٌ وَالصَّحِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا إلَّا بِعُذْرٍ مِثْلِ الظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ وَالْمَطَرِ وَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ وَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ وَالْخَوْفِ مِنْ الدَّائِنِ وَمِنْ السُّلْطَانِ وَخَوْفِ ذَهَابِ الرُّفَقَاءِ وَخِدْمَةِ الْمَرِيضِ وَكَذَا إذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَنَفْسُهُ تَتَشَوَّقُ إلَيْهِ، وَفِي الْمُلْتَقَطِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ تَرَكُوا الْجَمَاعَةَ يُقَاتِلُهُمْ الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَتُوبُوا، وَعَنْ الْقَاضِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا فَظَاهِرُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد إنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِوُجُوبِهَا انْتَهَى (وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُنْذِرِيُّ وَمِمَّنْ قَالَ بِفَرْضِيَّةِ الْجَمَاعَةِ) عَيْنًا (مِنْ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَمِنْ غَيْرِهِمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]- أَمَرَ بِالرُّكُوعِ مَعَ الْمُقَارَنَةِ لِلرَّاكِعَيْنِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِهَا فَرْضَ عَيْنٍ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ مَنْ صَلَّى بِدُونِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ لَوْ تَرَكَ أَهْلُ قَرْيَةٍ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ بَلْ صَلَّوْا فُرَادَى لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ أَصْلًا، وَإِنْ فَعَلَهَا الْبَعْضُ تَجُوزُ صَلَاةُ الْبَاقِينَ وَعَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِهَا سُنَّةً مُؤَكَّدَةً إذَا تَرَكَ أَهْلُ قَرْيَةٍ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ صَلَّوْا فُرَادَى دَعَاهُمْ الْإِمَامُ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَكَذَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي السِّوَاكِ كَذَا فِي الْحَاشِيَةِ، وَأَيْضًا عَنْ الْغَايَةِ أَنَّ عَامَّةَ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، وَعَنْ التُّحْفَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، فَالْمُرَادُ مِنْ السُّنَّةِ رَاجِعٌ إلَى الْوُجُوبِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنْ الْعَتَّابِيَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةً لِوُجُوبِهَا بِالسُّنَّةِ، وَعَنْ الْبَدَائِعِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ الْأَحْرَارِ الْقَادِرِينَ، وَأَيْضًا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ الْمُحِيطِ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَشَرِيعَةٌ مَاضِيَةٌ وَلَا يُرَخَّصُ فِي تَرْكِهَا لِأَحَدٍ إلَّا لِعُذْرٍ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَهْلُ مِصْرٍ يُؤْمَرُونَ بِهَا، فَإِنْ ائْتَمَرُوا وَإِلَّا فَتَحِلُّ مُقَاتَلَتُهُمْ، ثُمَّ قِيلَ إنَّ الْمُقَاتَلَةَ لَا تَحِلُّ عَلَى تَرْكِ سُنَّةٍ أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ يُعْلَمُ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا، وَفِي قَاضِي خَانْ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَسْتَعْظِمْ ذَلِكَ بَطَلَتْ عَدَالَتُهُ، وَفِي الْخُلَاصَةِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ إلَّا بِتَأْوِيلٍ، وَعَنْ الِاخْتِيَارِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ تَارِكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَعَنْ الْخَصَّافِ مَرَّةً بِلَا عُذْرٍ، وَفِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الدَّارَقُطْنِيِّ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» فَأَهْلُ الْوُجُوبِ احْتَجُّوا بِظَاهِرِهِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ حَمَلُوهُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ وَأُورِدَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِحَذْفِ صِفَةٍ وَهُوَ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَأُجِيبَ بِإِرَادَةِ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ لَا كَمَالَ صَلَاةٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ جَوَازَ

حَذْفِ الصِّفَةِ كَمَا قَالُوا فِي - {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المائدة: 68]- أَيْ نَافِعٍ وَأُورِدَ عَلَى أَهْلِ الْوُجُوبِ بِأَنَّ نَفْيَ الْأَعْيَانِ إمَّا نَفْيُ الْإِجْزَاءِ أَوْ الْكَمَالِ، وَعِنْدَ الِاحْتِمَالِ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال وَهُوَ أَيْضًا كَمَا تَرَى إذْ النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَمَا لَمْ تَتَعَذَّرْ الْحَقِيقَةُ لَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ لَكِنْ أَشْكَلَ عَلَى الْحَدِيثِ مِنْ الضَّعْفِ إلَى الْوَضْعِ وَدُفِعَ بِأَنَّ رُوَاتَهُ ثِقَاتٌ عِنْدَ عَبْدِ الْحَقِّ وَالشَّافِعِيِّ، ثُمَّ قِيلَ وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ وَمِنْ شَوَاهِدِهِ حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ» . ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ» الِاحْتِطَابُ جَمْعُ الْحَطَبِ «، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ» أَيْ أُخَاصِمُ وَأُحَارِبُ «إلَى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ» . وَمِنْ حَدِيثِ النَّسَائِيّ «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ» ، وَعَنْ تَنْبِيهِ أَبِي اللَّيْثِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَالَ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ وَلَا يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَاتِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ هُوَ فِي النَّارِ فَاخْتَلَفَ إلَيْهِ شَهْرًا يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَقُولُ فِي النَّارِ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ عَزَّى بَعْضُ أَصْحَابِ حَاتِمٍ الْأَصَمِّ إيَّاهُ لِفَوْتِهِ جَمَاعَةً فَبَكَى وَقَالَ لَوْ مَاتَ لِي ابْنٌ وَاحِدٌ لَعَزَّانِي نِصْفُ أَهْلِ بَلْخٍ وَالْآنَ قَدْ فَاتَنِي جَمَاعَةٌ فَمَا عَزَّانِي إلَّا بَعْضُ أَصْحَابِي وَأَنَّهُ لَوْ مَاتَ لِي الِابْنَانِ جَمِيعًا لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ فَوْتِ هَذِهِ، وَفِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ كَانَ السَّلَفُ يُعَزُّونَ أَنْفُسَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إذَا فَاتَتْهُمْ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى وَيُعَزُّونَ سَبْعًا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ. (وَمِنْهَا تَرْكُ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ) أَيْ تَسْكِينُ الْجَوَارِحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَوْمَةِ وَالْجِلْسَةِ قُدِّرَ أَدْنَاهُ بِتَسْبِيحَةٍ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَفَرْضٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالثَّلَاثَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَفِي قَوْمَةِ الرُّكُوعِ وَجِلْسَةِ السَّجْدَةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْكَمَالُ وَصَوَّبَهُ الْحَلَبِيُّ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَلَى مَا فِي الدُّرَرِ وَمُلْتَقَى الْأَبْحُرِ عَنْ الْعَيْنِيِّ وَلَكِنَّ فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ التَّعْدِيلَ وَاجِبٌ فِي نَفْسِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَسُنَّةٌ فِي الْقَوْمَةِ وَالْجِلْسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْجُرْجَانِيِّ فَفِي الْأَرْبَعَةِ سُنَّةٌ، وَفِي دُرِّ الْمُبْتَغَى الْمَشْهُورُ أَنَّ مُكَمِّلَ الْفَرْضِ وَاجِبٌ وَمُكَمِّلَ الْوَاجِبِ سُنَّةٌ، وَعَنْ هِشَامٍ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ أَخَافُ عَدَمَ جَوَازِ صَلَاةِ مَنْ تَرَكَ اعْتِدَالَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَفِي الْحَلَبِيِّ وَكَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ مَنْ تَرَكَ الِاعْتِدَالَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فَالْفَرْضُ الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ. وَعَنْ ابْنِ الْهُمَامِ الثَّانِيَةُ جَابِرَةٌ لِلْأُولَى عَلَى مَا هُوَ حُكْمُ كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ بِكَرَاهَةِ تَحْرِيمٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي طُمَأْنِينَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَنْهُمَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ أَصَحُّهَا الْوُجُوبُ فِي السُّنَّةِ فَاحْتِمَالُ إكْمَالِ الرُّكْنِيَّةِ، وَفِي طُمَأْنِينَةِ الْقَوْمَةِ وَالْجِلْسَةِ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا السُّنِّيَّةُ، ثُمَّ الْوُجُوبُ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذَاهِبِ وَالرِّوَايَاتِ وُجُوبُ الْأَرْبَعَةِ: طُمَأْنِينَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَرَفْعُ الرَّأْسِ عَنْهُمَا، وَالْقَوْمَةُ، وَالْجِلْسَةُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِمَا. فَلَوْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا عَمْدًا أَثِمَ وَوَجَبَتْ الْإِعَادَةُ وَلَوْ سَهْوًا فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ كَحَدِيثِ «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» وَكَحَدِيثِ «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» ثَلَاثًا لِمَنْ خَفَّفَ الصَّلَاةَ وَكَحَدِيثِ «لَوْ مَاتَ هَذَا عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قَالَهُ لِمَنْ لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَيُسْرِعُ فِي سُجُودِهِ وَكَحَدِيثِ «لَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ «لَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ» الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَيْهَا وَكَحَدِيثِ «أَسْوَأُ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ فِي صَلَاتِهِ بِأَنْ لَا يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ» وَكَحَدِيثِ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» أَيْ يَتْرُكُ الْقَوْمَةَ وَالْجِلْسَةَ وَكَحَدِيثِ «مَثَلُ الَّذِي لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي صَلَاتِهِ كَمَثَلِ حُبْلَى حَمَلَتْ فَلَمَّا دَنَا نِفَاسُهَا أَسْقَطَتْ فَلَا هِيَ ذَاتُ حَمْلٍ وَلَا هِيَ ذَاتُ وَلَدٍ» وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مُعَدَّلِهِ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي دَلِيلِ الْفَرْضِيَّةِ لِأَبِي يُوسُفَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ أَخَفَّ الصَّلَاةَ «صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ» قَالَ

- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ» إلَى أَنْ قَالَ، «ثُمَّ يُكَبِّرَ لِلصَّلَاةِ فَيَرْكَعَ فَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلَهُ وَتَسْتَرْخِيَ» الْحَدِيثَ انْتَهَى، ثُمَّ عَدَّ الْمُصَنِّفُ آفَةَ تَرْكِ التَّعْدِيلِ إلَى أَنْ بَلَغَتْ ثَلَاثِينَ مِنْهَا الْمَوْتُ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهَا كَوْنُهُ سَبَبًا لِفَسَادِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. (وَ) تَرْكُ (تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ) فَإِنَّ تَرْكَهَا مُوجِبٌ لِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ وَالْمُخَالَفَةِ فِي قُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ فِي الصُّفُوفِ مُخَالَفَةٌ فِي الظَّوَاهِرِ وَمُخَالَفَتُهَا سَبَبٌ لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِنِ وَقِيلَ سَبَبٌ لِلْفِتَنِ وَلِذَا صَارَتْ التَّسْوِيَةُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَصَرَفَهُ عَنْ الْوُجُوبِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ الْإِجْمَاعُ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ تَأْكِيدًا أَوْ تَحْرِيضًا عَلَى فِعْلِهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُنَاوِيُّ، وَفِي حَدِيثِ «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَوَاَللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ» أَيْ لَيُوقِعَنَّ اللَّهُ الْمُخَالَفَةَ «بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» ، وَفِي الْمُعَدَّلِ عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي دَاوُد وَأَحْمَدَ «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا بِأَيْدِي إخْوَانِكُمْ وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى» أَيْ أَبْعَدَهُ مِنْ ثَوَابِهِ وَمَزِيدِ رَحْمَتِهِ وَرَفْعِ دَرَجَتِهِ إذْ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَيُسَنُّ انْضِمَامُ الْمُصَلِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَيْسَ بَيْنَهُمْ فُرْجَةٌ وَلَا خَلَلٌ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِتَعْدِيلِ الصَّفِّ وَسَدِّ خَلَلِهِ وَالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَجْمَعُهَا هَذَا الْحَدِيثُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ» سَوُّوهَا فِي الصَّلَاةِ «وَحَاذُوا بِالْمَنَاكِبِ» بِحَيْثُ يُسَامِتُ مَنْكِبُ بَعْضٍ لِمَنْكِبِ الْآخَرِ، وَالْأَعْنَاقُ وَالْأَقْدَامُ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ. (تَنْبِيهٌ) مَشْرُوعِيَّةُ صُفُوفِ الصَّلَاةِ لِيَتَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ بِهَا وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ الْمَهُولِ، وَالشُّفَعَاءُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَنْزِلَةِ الْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَاةِ يَتَقَدَّمُونَ الصُّفُوفَ وَصُفُوفُهُمْ فِي الصَّلَاةِ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَقَدْ أَمَرْنَا الْحَقُّ أَنْ نَصُفَّ فِي الصَّلَاةِ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ، وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ إقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ» لِمَا فِي التَّسْوِيَةِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَعَدَمِ تَخَلُّلِ الشَّيَاطِينِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ جَمْعِهِمْ وُفِيَهُ أَيْضًا «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا تَضَامُّوا وَتَلَاصَقُوا فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَرَى الشَّيَاطِينَ بَيْنَ صُفُوفِكُمْ يَتَخَلَّلُونَهَا كَأَنَّهَا غَنَمٌ عُفْرٌ» أَيْ بِيضٌ. وَمِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفُّ فِي الصَّلَاةِ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَعَنْ حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ «لَتُسَوُّنَّ الصُّفُوفَ أَوْ لَتُطْمَسَنَّ الْوُجُوهُ أَوْ لَتُغْمَضَنَّ أَبْصَارُهُمْ» ، وَفِي الْجَامِعِ «أَحْسِنُوا إقَامَةَ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ» أَيْ أَتِمُّوهَا وَسُدُّوا الْخَلَلَ فِيهَا وَسَوُّوهَا عَلَى اعْتِدَالِ الْقَائِمَيْنِ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ وَالْأَمْرُ لِلنَّدَبِ، وَيُسَنُّ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ مَنْ يَرَى مِنْهُ خَلَلًا فِي تَسْوِيَةِ الصَّفِّ وَيُسَنُّ إذَا كَبُرَ الْمَسْجِدُ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ رَجُلًا بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ وَيَطُوفَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُنَادِيَ فِيهِمْ، وَيُسَنُّ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالْمُرَادُ بِتَسْوِيَتِهَا إتْمَامُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ وَسَدُّ الْفُرَجِ وَتَحَرِّي الْقَائِمَيْنِ فِيهَا بِحَيْثُ لَا يَتَقَدَّمُ صَدْرُ وَاحِدٍ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى مَنْ هُوَ بِجَنْبِهِ، وَعَنْ صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتِي نَاحِيَةَ الصَّفِّ فَيُسَوِّي صُدُورَ الْقَوْمِ وَمَنَاكِبَهُمْ وَيَقُولُ لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ» . وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ تَسْتَوِ قُلُوبُكُمْ وَتَمَاسُّوا تَرَاحَمُوا» وَتَمَامُهُ فِي الْمُعَدَّلِ وَقَدْ عَرَفْت مِمَّا ذُكِرَ أَيْضًا لُزُومَ لُزُوقِ الْمَنَاكِبِ وَلُصُوقِهَا. (وَ) تَرْكُ (مُوَافَقَةِ الْإِمَامِ) فِي الْأَفْعَالِ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ عَلَيْهِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ عَنْ التتارخانية لَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ يَجِبُ عَوْدُهُ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُكْرَهُ ذَلِكَ كَمَا عَنْ الْكَافِي أَيْضًا وَقَالَ زُفَرُ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا الْآثَارُ فَكَثِيرَةٌ أَيْضًا كَمَا فِي الْمُعَدَّلِ (وَقَدْ صَنَّفْنَا فِي) بَيَانِ (هَذِهِ الثَّلَاثَةِ) رِسَالَةَ (مُعَدَّلِ الصَّلَاةِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا عُصَارَةَ مَا فِيهَا

(فَعَلَيْك بِهِ) رُجُوعًا وَعَمَلًا. (وَ) مِنْهَا (تَرْكُ كُلِّ سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ) وَتَرْكُ الْمُسْتَحَبَّةِ لَا سِيَّمَا الْمُدَاوَمَةُ عَلَى التَّرْكِ، وَإِنْ كَانَ آفَةً أَيْضًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ (كَاعْتِكَافِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) فَإِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَيْنًا بِلَا عُذْرٍ لِعَدَمِ تَرْكِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّةً مُذْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَأَمَّا عَدَمُ الْوُجُوبِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُوَاظَبَةِ فَلِدَلِيلِ عَدَمِ الْوُجُوبِ كَعَدَمِ إنْكَارِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ (وَكَالتَّرَاوِيحِ) فَإِنَّ نَفْسَهَا سُنَّةُ عَيْنٍ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ (وَالْجَمَاعَةِ فِيهَا، فَإِنَّهَا سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ) فَبِإِقَامَةِ الْبَعْضِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ سَقَطَتْ الْإِسَاءَةُ عَنْ الْبَاقِينَ وَإِلَّا فَلَا (وَالْخَتْمِ فِيهَا) مَرَّةً وَيَخْتِمُ فِي لَيْلَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ لِكَثْرَةِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَلَا يُتْرَكُ الْخَتْمُ لِكَسَلِ الْقَوْمِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ فَلَوْ كَانَ إمَامُ مَسْجِدِ حَيِّهِ لَا يَخْتِمُ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ إلَى غَيْرِهِ، وَعَنْ الظَّهِيرِيَّةِ الْخَتْمُ مَرَّةً فِي التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ وَمَرَّتَيْنِ فَضِيلَةٌ وَثَلَاثًا أَفْضَلُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إحْدَى وَسِتِّينَ خَتْمَةً ثَلَاثِينَ فِي اللَّيَالِي وَثَلَاثِينَ فِي الْأَيَّامِ وَوَاحِدَةً فِي التَّرَاوِيحِ كَمَا نُقِلَ عَنْ قَاضِي خَانْ فَيُتَأَمَّلُ مِمَّا سَبَقَ. وَلَعَلَّ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْ الْمُحِيطِ وَالِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلُ فِي زَمَانِنَا أَنْ لَا يَقْرَأَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى تَنْفِيرِ الْقَوْمِ عَنْ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّ دَفْعَ الْإِسَاءَةِ عَنْ الْإِمَامِ لِتِلْكَ الضَّرُورَةِ وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُهَا عَنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ الْخَتْمُ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَصْلَ الْكُلِّ يَعْنِي السُّنَّةَ الْقَدِيمَةَ لَا يُغَيَّرُ بِالْعَوَارِضِ الْبِدْعِيَّةِ بَلْ يُؤَدَّبُ وَيُحْبَسُ الْفَارُّونَ وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ بَعْضٌ بِأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ مُرَاعَاةِ أَدْنَى السُّنَّةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِقِرَاءَةِ عَشْرِ آيَاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؛ لِأَنَّ أَعْلَى السُّنَّةِ كَثَلَاثِينَ آيَةً وَكَذَا أَوْسَطُهَا كَعِشْرِينَ آيَةً يُتْرَكَانِ لِكَسَلِ الْقَوْمِ، وَأَمَّا أَدْنَى السُّنَّةِ فَعَشْرٌ لِقَوْمٍ كَسَالَى فَلَا يُتْرَكُ لِكَسَلِ الْقَوْمِ قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَلَا يُتْرَكُ الْخَتْمُ لِكَسَلِ الْقَوْمِ، وَعَنْ الْأَكْمَلِ يُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرُ آيَاتٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَخْفِيفًا لِلنَّاسِ وَيَحْصُلُ بِهِ أَدْنَى السُّنَّةِ، قِيلَ وَإِنَّمَا قَالَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِرَدِّ مَنْ قَالَ يَقْرَأُ أَقَلَّ مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ لِكَسَلِ الْقَوْمِ أَقُولُ ذَلِكَ مِثْلُ الْمَنْقُولِ عَنْ الِاخْتِيَارَاتِ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي التَّرَاوِيحِ مَا يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ وَهُوَ مَا بَعْدَ سُورَةِ " لَمْ يَكُنْ " وَلَعَلَّ التَّعْلِيلَ بِأَنَّ التَّرَاوِيحَ أَخَفُّ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ وَمِثْلُهُ عَنْ الْجَوْهَرَةِ، وَقَدْ سَمِعْت ظَاهِرَ قَوْلِ الْمُحِيطِ وَالِاخْتِيَارِ آنِفًا، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ بَعْدَمَا نَقَلَ مِثْلَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قَالَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَحْصُلُ الْخَتْمُ وَالْخَتْمُ فِي التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ وَقِيلَ يَقْرَأُ فِي التَّرَاوِيحِ مَا يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ عِشْرِينَ؛ لِأَنَّ التَّرَاوِيحَ تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ قِرَاءَةِ عَشْرِ آيَاتٍ وَهُوَ تَخْفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ وَلَا يَتْرُكُ الْإِمَامُ لِكَسَلِ الْقَوْمِ كَأَنْ يَقْرَأَ مَا بَعْدَ سُورَةِ " لَمْ يَكُنْ " أَوْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ بِلَا عُذْرٍ، وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا فِي كَبِيرِ الْحَلَبِيِّ فَلَا يَتْرُكُ الْخَتْمَ لِكَسَلِ الْقَوْمِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ لَا يَتْرُكُ سُنَنَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ كَسَلِ الْجَمَاعَةِ كَالتَّسْبِيحَاتِ وَكَذَا عَنْ النَّوَازِلِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْخَتْمُ وَبِهِ يَحْصُلُ الْخَتْمُ، وَأَيْضًا فِي الْكَنْزِ وَلَا يَتْرُكُ الْخَتْمَ لِكَسَلِ الْقَوْمِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَشْرُ تَخْفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى ثَلَاثِينَ أَوْ عِشْرِينَ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ سُنَّةٍ؛ لِأَنَّ

الْمَطْلُوبَ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْبَغِي فِدَاءُ رِضَا اللَّهِ وَسُنَّةِ حَبِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَوَى النَّاسِ وَرِضَاهُمْ، وَعَنْ قَاضِي خَانْ قِرَاءَةُ ثَلَاثِ آيَاتٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمُنَافَاتِهِ لِسُنَّةِ التَّرَاوِيحِ مِنْ الْخَتْمِ مَرَّةً، وَعَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ إنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا، وَإِنْ اعْتَادَ يَنْقَلِبُ تَحْرِيمًا كَمَا يَقْرَأُ آيَتَيْنِ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ تَعَمَّدَا فَآثِمٌ وَمَا نُقِلَ عَنْ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ إنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَمْ يُسِئْ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ عَلَى الضَّرُورَةِ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا نُقِلَ مِنْ فَتْوَى الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ وَإِلَّا فَلَا يُعَارَضُ قَوْلُ الْمُفْتِي بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ وَقَوْلُ الْمُقَلِّدِ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ وَالْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ وَالْمَوْثُوقَةِ بِغَيْرِهَا، ثُمَّ أَقُولُ قَدْ عَرَفْت مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوجَدْ الْحَافِظُ الْقَادِرُ عَلَى الْخَتْمِ فِي التَّرَاوِيحِ وَلَوْ قَرَأَ قَدْرَهُ مِمَّا شَاءَ كَأَنْ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ يَكُونُ فِي حُكْمِ إتْيَانِ سُنَّةِ التَّرَاوِيحِ. (وَالسِّوَاكِ) فَإِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الْمُخْتَارِ فَالْكَلَامُ إمَّا فِي نَفْسِهِ أَوْ وَقْتِهِ أَوْ كَيْفِيَّتِهِ أَوْ مَنَافِعِهِ أَوْ فَضَائِلِهِ أَوْ حُكْمِهِ أَمَّا نَفْسُهُ فَأَيُّ شَجَرٍ كَانَ أَرَاكًا أَوْ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى الْأَرَاكَ وَيُكْرَهُ بِمُؤْذٍ كَالْقَصَبِ وَيَحْرُمُ بِذِي سُمٍّ وَيَكُونُ رَأْسُهُ لَيِّنًا رَطْبًا أَوْ غَيْرَ رَطْبٍ مَبْلُولًا أَوْ لَا مُسْتَوِيًا بِلَا عُقَدٍ فِي غِلَظِ خِنْصَرٍ وَطُولِ شِبْرٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى الشِّبْرِ وَإِلَّا فَالشَّيْطَانُ يَرْكَبُهُ. مِنْ شَجَرٍ مُرٍّ سِيَّمَا مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَحَلُّ وَضْعِهِ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى أُذُنِهِ مَوْضِعَ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاكٌ فَبِأَصَابِعِهِ بِأَيِّ إصْبَعٍ وَالْأَوْلَى بِالسَّبَّابَتَيْنِ الْيُسْرَى، ثُمَّ الْيُمْنَى وَأَنْ يَسْتَاكَ بِإِبْهَامِهِ الْيُمْنَى يَبْدَأُ بِإِبْهَامِهِ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ يَسْتَاكُ فَوْقًا وَتَحْتًا، ثُمَّ بِالسَّبَّابَةِ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَيَسْتَاكُ فَوْقًا وَتَحْتًا. وَأَمَّا وَقْتُهُ فَفِي أَيِّ حَالٍ طَاهِرًا أَوْ مُحْدِثًا جُنُبًا أَوْ حَائِضًا صَائِمًا أَوْ مُفْطِرًا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا غَدَاةً أَوْ عَشِيًّا حَالَةَ الْوُضُوءِ أَوْ غَيْرَ حَالَةِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَقِيلَ قَبْلَهَا وَقِيلَ حِينَ الِاسْتِبْرَاءِ وَهُوَ لِلْوُضُوءِ عِنْدَنَا إلَّا إذَا نَسِيَهُ فَيُنْدَبُ لِلصَّلَاةِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْآثَارِ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي الْوُضُوءِ وَمُسْتَحَبَّةٌ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مُؤَكَّدَةٌ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِهِ فِي الْوُضُوءِ أَوْ طَالَ عَهْدُ الِاسْتِيَاكِ بِحَيْثُ تَغَيَّرَ رَائِحَةُ الْفَمِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الضِّيَاءِ شَارِحُ الْجَلَاءِ مُورِدًا عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ وَيُسْتَحَبُّ فِي الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ نَاقِلًا عَنْ التَّشْرِيحِ أَنَّهُ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِكَرَاهَةِ الِاسْتِيَاكِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَجْرَحُ الْفَمَ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتِيَاكٌ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَقَدْ حَرَّرْنَا فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ كَالتَّتَارْخَانِيَّةِ وَيُسْتَحَبُّ السِّوَاكُ عِنْدَنَا عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَوُضُوءٍ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ لِلْحَلَبِيِّ وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الْوُضُوءِ وَالْقُهُسْتَانِيّ فَيُسَنُّ أَوْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا وَمِنْ الْأَحَادِيثِ حَدِيثُ الْجَامِعِ «كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَيَسْتَاكُ» قَالَ شَارِحُهُ عَنْ أَبِي شَامَةَ يَعْنِي يَتَسَوَّكُ لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَعَنْ الْعِرَاقِيِّ فَيَسْتَاكُ لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ كَالضُّحَى وَالتَّرَاوِيحِ وَبِهِ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ وَحَدِيثُهُ أَيْضًا «فَضْلُ الصَّلَاةِ بِالسِّوَاكِ عَلَى الصَّلَاةِ بِغَيْرِ سِوَاكٍ سَبْعِينَ ضِعْفًا» ، وَأَيْضًا «رَكْعَتَانِ بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ» وَحَدِيثُ «لَوْلَا أَنَّ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» وَحَدِيثُ «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْت عَلَيْهِمْ السِّوَاكَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ كَمَا فَرَضْت عَلَيْهِمْ الْوُضُوءَ» وَحَدِيثُ «صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةٍ بِغَيْرِ سِوَاكٍ» قَالَ فِي الْجَلَاءِ وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ أَوْ الْمُصَاحَبَةِ وَحَقِيقَتُهُمَا فِيمَا اتَّصَلَ بِهِ حِسًّا أَوْ عُرْفًا وَكَذَا حَقِيقَةُ كَلِمَةِ مَعَ وَعِنْدَ، وَالنُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إذَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا فَلَا مَسَاغَ إذَنْ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ، وَتَمَامُ تَفْصِيلِهِ فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ ثُمَّ مِنْ وَقْتِهِ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ يُغَيِّرُ فَمَهُ، وَعِنْدَ التَّيَقُّظِ، وَعِنْدَ اصْفِرَارِ السِّنِّ وَتَغْيِيرِ رَائِحَةٍ وَقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَيُكْرَهُ فِي الْخَلَاءِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى كَيْفَ يَشَاءُ، وَإِنْ خُصَّ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ وَيَبْدَأُ بِالْأَسْنَانِ الْعُلْيَا مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ بِالْأَيْسَرِ، وَإِنْ شَاءَ يَبْدَأُ بِالسُّفْلَى مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَفِي الْبَحْرِ وَنُدِبَ الِابْتِدَاءُ بِالْعُلْيَا مِنْ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ بِالسُّفْلَى مِنْ جَانِبِهِ، ثُمَّ بِالْعُلْيَا مِنْ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ بِالسُّفْلَى ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَيَسْتَاكُ عَرْضًا وَالْأَقْيَسُ طُولًا كَمَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ وَقِيلَ عَرْضًا وَطُولًا وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ بَلْ يَسْتَاكُ إلَى أَنْ

يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِزَوَالِ الْخُلُوفِ وَالْمُسْتَحَبُّ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ بِثَلَاثَةِ مِيَاهٍ وَيَسْتَاكُ بِالْمُدَارَاةِ خَارِجَ الْأَسْنَانِ وَدَاخِلَهَا أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا وَرُءُوسَ الْأَضْرَاسِ وَبَيْنَ كُلِّ سِنَّيْنِ وَلَا يَسْتَاكُ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ يُورِثُ كِبَرَ الطِّحَالِ وَلَا يَقْبِضُهُ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَاسُورَ وَلَا يَمُصُّهُ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْعَمَى، ثُمَّ يَغْسِلُهُ وَإِلَّا فَيَسْتَاكُ الشَّيْطَانُ بِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ أَوْ لِيُرْجَعْ إلَى تِلْكَ الرِّسَالَةِ. وَأَمَّا مَنَافِعُهُ فَشِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ دُونَ الْمَوْتِ وَمُذَكِّرُ الشَّهَادَةِ وَيُبَطِّئُ بِالشَّيْبِ وَيَحِدُّ الْبَصَرَ وَمُسْرِعٌ فِي الْمَشْيِ عَلَى الصِّرَاطِ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الدُّرَرِ لِلشُّرُنْبُلَالِيِّ، وَأَيْضًا مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ وَمُسْخِطٌ لِلشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ يَقْطَعُ الْبَلْغَمَ وَيَزِيدُ الْفَصَاحَةَ وَيُزِيلُ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ وَيَدْفَعُ الْأَذَى وَتُصَافِحُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَمَّا فَضَائِلُهُ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى مِنْهَا مَا سَبَقَ وَمِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَكْعَتَانِ يَسْتَاكُ فِيهِمَا الْعَبْدُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً لَا يَسْتَاكُ فِيهَا» وَحَدِيثُ «طَهِّرُوا مَسَالِكَ الْقُرْآنِ» وَحَدِيثُ «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالسِّوَاكُ شَطْرُ الْوُضُوءِ» وَحَدِيثُ «عَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ فَإِنَّ فِيهِ عَشْرَ خِصَالٍ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ وَمَفْرَحَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ وَمَجْلَاةٌ لِلْبَصَرِ وَيُبَيِّضُ الْأَسْنَانَ وَيَشُدُّ اللِّثَةَ وَيُذْهِبُ الْبَخَرَ وَيَهْضِمُ الطَّعَامَ وَيَقْطَعُ الْبَلْغَمَ وَيُضَاعِفُ الصَّلَاةَ وَيُطَهِّرُ طُرُقَ الْقُرْآنِ» . (تَنْبِيهٌ) فَإِذَا طَهَّرَ فَمَه بِالسِّوَاكِ مِنْ الْخُلُوفِ يَنْبَغِي أَنْ يُطَهِّرَهُ أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالشَّتِيمَةِ وَالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ وَالْبُهْتَانِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَفُضُولِ الْكَلَامِ وَمِنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا طَهُرَ فَمُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَيَكُونُ اسْتِيَاكُهُ كَحُصُولِ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَأَمَّا حُكْمُهُ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ سُنَّةٌ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ قَالَ الْحَلَبِيُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَصَحَّحَ فِي الْهِدَايَةِ وَالزَّيْلَعِيِّ كَوْنَهُ نَدْبًا وَقَالَ فِي الْفَتْحِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقَدْ سَمِعْت مَا يَصْلُحُ تَوْفِيقًا وَقِيلَ بِوُجُوبِهِ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالْفَضَائِلِ الْكَثِيرَةِ قَالَ فِي التتارخانية، وَفِي الْحُجَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ قَرْيَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ سُنَّةِ السِّوَاكِ يُقَاتِلُهُمْ الْإِمَامُ كَمَا يُقَاتِلُ الْمُرْتَدِّينَ لِكَيْ لَا يَجْتَرِئَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ (وَفِعْلِ كُلِّ مَكْرُوهٍ تَحْرِيمًا)

ترك الزكاة

سَوَاءٌ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا. (وَمِنْهَا تَرْكُ الْجُمُعَةِ لِمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ) وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِتَحَقُّقِ شَرَائِطِهَا فَتَرْكُهَا عَمْدًا يُوجِبُ الْإِثْمَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَوْ مَرَّةً عِنْدَ الْحَلْوَانِيِّ وَثَلَاثًا عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ وَيَكْفُرُ جَاحِدُهَا كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ حَتَّى قِيلَ فَرْضِيَّتُهَا آكَدُ مِنْ فَرْضِيَّةِ الظُّهْرِ، وَعَنْ حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ جُمَعٍ مُتَوَالِيَاتٍ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» ، وَأَيْضًا «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمُعَاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كُتِبَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ» وَلِلْإِمَامِ السُّيُوطِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِسَالَةٌ فِي فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاتِهَا ذَكَرَ فِيهَا مِائَةَ حَدِيثٍ. [تَرْكُ الزَّكَاةِ] (وَمِنْهَا تَرْكُ الزَّكَاةِ وَأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ) وَهِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فَلَا يَجْتَرِئُ عَلَى تَرْكِهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأَمَةُ عَلَى تَكْفِيرِ جَاحِدِهَا لَكِنْ هَلْ وُجُوبُهَا عَلَى الْفَوْرِ فَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عِنْدَ أَوَّلِ الْإِمْكَانِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي قَوْلَانِ. (وَمِنْهَا تَرْكُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ) وَهُوَ أَيْضًا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ الَّتِي لَا يَسُوغُ تَرْكُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ أَيْضًا وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ فِي فَضْلِهِمَا وَعُقُوبَةِ تَرْكِهِمَا مَشْهُورَةٌ غَنِيَّةٌ عَنْ الْبَيَانِ.

ترك الحج الفرض

(وَمِنْهَا تَرْكُ الْكَفَّارَةِ) كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ (وَالْقَضَاءِ) قَضَاءِ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ (وَالْمَنْذُورِ) صَدَقَةً أَوْ حَجًّا أَوْ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ بِإِيجَابِهِ. (وَمِنْهَا تَرْكُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ) الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ مُسْلِمٍ وَلَوْ صَغِيرًا لَهُ نِصَابٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْحَوْلُ وَبِهِ تَجِبُ الصَّدَقَةُ لِنَفْسِهِ وَطِفْلِهِ الْفَقِيرِ وَمَمْلُوكِهِ الْخَادِمِ وَلَوْ كَافِرًا لَا لِزَوْجَتِهِ وَعَبْدِهِ الْآبِقِ إلَّا بَعْدَ عَوْدِهِ بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْفِطْرِ فَمَنْ مَاتَ قَبْلَهُ أَوْ وُلِدَ بَعْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ لَا تَجِبُ وَصَحَّ لَوْ قَدِمَ وَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ وَنُدِبَ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْخُرُوجِ وَلَوْ فَرَّقَ شَخْصٌ فِطْرَتَهُ إلَى فَقِيرَيْنِ لَا يَجُوزُ وَقِيلَ بِالْجَوَازِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَوْلَى وَلَوْ دَفَعَ فِطْرَةَ جَمَاعَةٍ إلَى وَاحِدٍ دَفْعَةً لَا يَجُوزُ بِلَا تَعْيِينِ حِصَّةِ كُلِّ فَرْدٍ إمَّا عِنْدَ الْإِعْطَاءِ إلَى الْفَقِيرِ أَوْ عِنْدَ الْإِفْرَازِ مِنْ مَالِهِ كَمَا فِي التتارخانية. وَدَفْعُ الْقِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِ الْعَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَمِنْ فَضَائِلِهَا قَبُولُ الصَّوْمِ وَالْفَلَاحُ وَالنَّجَاةُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ كَذَا عَنْ الْمُنْيَةِ وَالسِّرَاجِيَّةِ (وَالْأُضْحِيَّةِ لِلْغَنِيِّ، فَإِنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ) لِنَفْسِهِ فَقَطْ وَقِيلَ لِأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ أَيْضًا، وَفِي الْخُلَاصَةِ إذَا شَكَّ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى أَخَّرَ الذَّبْحَ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَالْأَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْكُلِّ وَلَا يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْهَا وَيَتَصَدَّقَ بِمَا بَيْنَ الْمَذْبُوحِ وَغَيْرِ الْمَذْبُوحِ، وَلَوْ سُرِقَتْ الْأُضْحِيَّةُ فَوُجِدَتْ بَعْدَ النَّحْرِ يَتَصَدَّقُ بِهَا بِلَا ذَبْحٍ فَلَوْ ذَبَحَ يَتَصَدَّقُ بِاللَّحْمِ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا إنْ نَقَصَ الذَّبْحُ، وَفِي تَصَدُّقِ اللَّحْمِ يَعْتَبِرُ مَكَانُ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ لَا مَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ مَكَانَ الْمُتَصَدِّقِ لَا مَكَانَ الْوَلَدِ وَالرَّقِيقِ، وَفِي الزَّكَاةِ يَعْتَبِرُ مَكَانَ الْمَالِ وَيَصْرِفُ إلَى فُقَرَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ نَظْمِ الزَّنْدَوَسْتِيُّ خَمْسٌ تَجُوزُ ضَحَايَاهُمْ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ وَيَضْمَنُ: الْمَغْصُوبُ، وَالْمَسْرُوقُ، وَالْمَغْصُوبُ مِنْ وَلَدِهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَالْمَغْصُوبُ مِنْ مَأْذُونِيَّةِ الْمَدْيُونِ الْمُسْتَغْرَقِ، وَالْمَشْرِيُّ فَاسِدًا وَسِتٌّ لَا تَجُوزُ: الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعَارُ وَالْمُسْتَبْضَعُ وَالْمُرْتَهَنُ وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ الشَّاةِ أَوْ وَكِيلٌ بِحِفْظِ مَالِهِ إذَا ضَحَّى بِشَاةِ مُوَكِّلِهِ وَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ إذَا ضَحَّى كُلٌّ بِشَاةِ صَاحِبِهِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَفِي الْخِزَانَةِ عَشْرٌ لَا يُضَحَّى بِهَا الْعَمْيَاءُ وَالْعَوْرَاءُ وَالْعَرْجَاءُ الَّتِي لَا تَبْلُغُ الْمَنْسَكَ وَمَقْطُوعُ أَكْثَرِ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ وَالْعَجْفَاءُ لَا تُنْقِي وَمَقْطُوعَةُ إحْدَى الْقَوَائِمِ وَإِحْدَى الْأُذُنَيْنِ وَالْأَلْيَةِ، وَأَرْبَعٌ يُضَحَّى بِهَا الْجَمَّاءُ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا أَوْ مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ وَالْخُنْثَى وَالتَّوْلَاءُ أَيْ الْمَجْنُونَةُ وَالْهَتْمَاءُ إنْ كَانَتْ تَعْتَلِفُ. [تَرْكُ الْحَجِّ الْفَرْضِ] (وَمِنْهَا تَرْكُ الْحَجِّ الْفَرْضِ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ (ت عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ مَلَكَ زَادَا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ» أَيْ لَا تَفَاوُتَ عَلَيْهِ «أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّشْدِيدِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحَجِّ وَتَغْلِيظًا عَلَى تَارِكِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ الْجُحُودُ أَوْ بِمَعْنَى فَلَا أَسَفَ عَلَيْهِ إنْ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فَشَابَهَ فِي فِعْلِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِالْحَجِّ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُبَالُوا بِهِ فَهُوَ تَهْدِيدٌ وَتَغْلِيظٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَتِمَّةُ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ - {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]-، فَإِنَّهُ تَعَالَى سَمَّى تَرْكَهُ كُفْرًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ الْكَفَرَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَجَّ فَرْضٌ مَرَّةً وَفَوْرًا عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَتَسْقُطُ عَدَالَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى التَّرَاخِي وَشَرْطُ وُجُوبِهِ تِسْعَةٌ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالصِّحَّةُ وَأَمْنُ الطَّرِيقِ وَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ وَالْمَحْرَمُ لِلْمَرْأَةِ وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى سِتَّةٍ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمَمْلُوكُ وَالْمَرِيضُ، وَمَنْ لَا يَخْرُجُ وَلَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْأَعْمَى. وَفَرَائِضُ الْحَجِّ

العينة

ثَلَاثَةٌ الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَوَاجِبَاتُهُ سِتَّةٌ وَيَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ وَطَوَافِ الصَّدْرِ وَسُنَنُهُ سِتَّةٌ طَوَافُ الْقُدُومِ وَالرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ وَالْهَرْوَلَةُ فِي السَّعْيِ وَالْبَيْتُوتَةُ بِمِنًى وَالْبَيْتُوتَةُ بِمُزْدَلِفَةَ وَاسْتِلَامُ الْحَجَرِ وَتَمَامُهُ فِي الْفِقْهِ. (وَمِنْهَا تَرْكُ الْجِهَادِ وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا) مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ لِغَلَبَةِ الْكَفَرَةِ وَعُتُوِّهَا لَكِنْ عَنْ النِّهَايَةِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عِنْدَ عَدَمِ عُمُومِ النَّفِيرِ إذَا قَرُبَ مِنْ الْعَدُوِّ، وَأَمَّا إنْ كَانَ بَعِيدًا فَكِفَايَةٌ حَتَّى يَسَعَهُ تَرْكُهُمْ إذَا لَمْ يَحْتَجْ وَإِلَّا بِأَنْ يَعْجِزَ مَنْ فِي قُرْبِ الْعَدُوِّ أَوْ تَكَاسَلُوا فَيُفْتَرَضُ عَيْنًا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ غَرْبًا وَشَرْقًا عَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ (وَإِلَّا فَفَرْضُ كِفَايَةٍ) . (وَمِنْهَا الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ إذَا لَمْ يَزِدْ الْكُفَّارُ عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ) وَلَوْ وَاحِدًا فَالْفِرَارُ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ، وَعِنْدَ كَوْنِهِمْ ضِعْفًا حَرَامٌ أَيْضًا لَكِنَّهُ دُونَهُ، وَإِنْ زَادُوا عَلَى الضِّعْفِ فَمُبَاحٌ (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» الْمُهْلِكَاتِ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ» كَالْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ وَالِارْتِدَادِ وَالسِّيَاسَةِ «وَأَكْلُ الرِّبَا» قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَهُوَ مُجَرِّبٌ لِسُوءِ الْخَاتِمَةِ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ عَقِيبَ مَا هُوَ عَلَامَةُ سُوءِ الْخَاتِمَةِ وَتَرَدَّدَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي تَقْيِيدِهِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ «وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي» أَيْ الْفِرَارُ «يَوْمَ الزَّحْفِ» أَيْ وَقْتَ ازْدِحَامِ الطَّائِفَتَيْنِ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ قُتِلَ بِغَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ بَلْ وَلَا صَغِيرَةٍ بَلْ مُبَاحٌ بَلْ يَجِبُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَشَدُّ مِنْهُ مَا لَوْ دَلَّ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ عَالِمًا بِأَنَّهُمْ يَسْتَأْصِلُونَهُمْ وَيَسْبُونَ حَرِيمَهُمْ «وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ» الْعَفِيفَاتِ عَنْ الزِّنَا «الْغَافِلَاتِ» الْبَرِيئَاتِ مِنْ الزِّنَا «الْمُؤْمِنَاتِ» ، فَإِنَّ قَذْفَ الْكَافِرَاتِ مِنْ الصَّغَائِرِ، وَأَمَّا قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ بِخَلْوَةٍ لَا يَسْمَعُهُ إلَّا اللَّهُ وَالْحَفَظَةُ فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ. [الْعِينَةُ] (وَمِنْهَا الْعِينَةُ) صُورَتُهَا رَجُلٌ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا

ثَلَاثَةَ عَشَرَ إلَى أَجَلٍ قَالُوا يَشْتَرِي مِنْ الْمَدْيُونِ شَيْئًا بِتِلْكَ الْعَشَرَةِ وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ، ثُمَّ يَبِيعُ مِنْ الْمَدْيُونِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ إلَى سَنَةٍ فَيَقَعُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْحَرَامِ وَلَهُ صُوَرٌ أُخَرُ فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، وَعَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ إنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ إعْرَاضٌ عَنْ الدَّيْنِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ إلَى الرِّبَا الْمَكْرُوهِ بِطَرِيقِ الْمُوَاضَعَةِ انْتَهَى أَقُولُ فِيهِ تَأَمُّلٌ، وَعَنْ الْمَوَاهِبِ إنْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ فَاشْتَرَاهُ مِنْ الْآخَرِ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ خُرُوجٌ عَنْ ذَلِكَ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ أَيْضًا (د عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ» بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَنُونٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ لِأَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِأَقَلَّ لِيَبْقَى الْكَثِيرُ فِي ذِمَّتِهِ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَحَرَّمَهَا غَيْرُهُ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ الْخَبَرِ سُمِّيَتْ عِينَةً لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْعَيْنِ أَيْ النَّقْدِ فِيهَا «وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ» أَيْ الْحَرْثَ كِنَايَةً عَنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْجِهَادِ بِالْحَرْثِ «وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ» وَكَانَ هَذَا مَكْرُوهًا فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ لِمَنْعِهِ عَنْ الْجِهَادِ وَقِلَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا كَثُرَ ارْتَفَعَتْ الْكَرَاهَةُ فِي حَقِّهِ لِارْتِفَاعِ عِلَّتِهَا بِخِلَافِ التَّبَايُعِ بِالْعِينَةِ كَذَا قِيلَ. وَقَدْ حُقِّقَ زَوَالُ الْحُكْمِ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ فِي بَابِ الْمَصَارِفِ وَغَيْرِهِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ «وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا» ضَعْفًا بِسَبَبِ ظُهُورِ الْعَدُوِّ بِوَاسِطَةِ تَرْكِ الْجِهَادِ وَمُبَاشَرَةِ الْحَرْثِ وَالْعِينَةِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِصْدَاقُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا دَهَانَا مِنْ الْبَلَايَا وَدَهَمَنَا مِنْ الدَّوَاهِي إذْ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا اشْتَغَلُوا بِالْعَيْنِ فَابْتُلُوا بِاللَّعْنِ وَبَعْضُهُمْ أَقْبَلَ عَلَى الْحَرْثِ وَالزِّرَاعَةِ فَقُرِعُوا بِقَارِعَةٍ ذَاتِ بَأْسٍ وَفَظَاعَةٍ - {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]- {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12]- كَذَا عَنْ الْإِمَامِ الْمَرْغِينَانِيِّ «لَا تَنْزِعُوهُ» النَّزْعُ الْإِزَالَةُ وَالْكَشْفُ «حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ» بِتَرْكِ التَّبَايُعِ الْمَذْكُورِ وَأَخْذِ أَذْنَابِ الْبَقَرِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلْجِهَادِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ قَالَ فِي الْفَيْضِ أَيْ الِاشْتِغَالَ بِأُمُورِ دِينِكُمْ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْقَالَبِ الْبَدِيعِ لِمَزِيدِ الزَّجْرِ وَالتَّقْرِيعِ حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الدِّينِ وَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ لِمَنْ حَرَّمَ الْعِينَةَ وَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ أَوْصَانَا الشَّافِعِيُّ بِاتِّبَاعِ الْحَدِيثِ إذَا صَحَّ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَفِيهِ وَالْخَبَرُ هَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى قَالَ ابْنُ حَجَرٍ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ (وَقَالَ الْفُقَهَاء إيَّاكُمْ وَالْعِينَةَ، فَإِنَّهَا لَعِينَةٌ) أَيْ سَبَبٌ لِلَّعْنِ وَحَامِلٌ عَلَيْهِ فَمِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ إلَى السَّبَبِ (وَصَرَّحَ بِكَرَاهَتِهَا) تَحْرِيمًا (صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَغَيْرُهُ) قَالَ الزَّيْلَعِيُّ هُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَبَرَّةِ الْإِقْرَاضِ

نسيان القرآن بعد تعلمه

وَعَنْ شُرُوحِ الْهِدَايَةِ اخْتَرَعَتْهُ أَكَلَةُ الرِّبَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ الْمَوْلَى أَخِي جَلْبِي أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِتَصْرِيحِ قَاضِي خَانَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ تَعْدَادِ صُورَةِ الْعِينَةِ وَمِثْلُ هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ قَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ بَيْعُ الْعِينَةِ فِي زَمَانِنَا خَيْرٌ مِنْ الْبُيُوعِ الَّتِي تَجْرِي فِي أَسْوَاقِنَا وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْعِينَةُ جَائِزَةٌ مَأْجُورَةٌ لِمَكَانِ الْفِرَارِ مِنْ الْحَرَامِ وَذَكَرَ الزَّاهِدِيُّ الِاحْتِيَالُ لِلْفِرَارِ مِنْ الْحَرَامِ مَنْدُوبٌ، ثُمَّ قَالَ مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ لَا يَحُومُ حَوْلَ هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ وَلَا يَحْكُمُ بِحِلِّهَا وَحُرْمَتِهَا انْتَهَى مُلَخَّصًا، وَقِيلَ الْمَأْجُورِيَّةُ لِلْفِرَارِ لَا تُنَافِي الْكَرَاهَةَ فِي نَفْسِهَا وَكَذَا الْخَيْرِيَّةُ مِمَّا فِي الْأَسْوَاقِ لَا تُوجِبُ الْخَيْرِيَّةَ فِي نَفْسِهَا فَيَجُوزُ كَرَاهَتُهَا فِي نَفْسِهَا إذْ أَكْثَرُ بُيُوعَاتِ الْأَسْوَاقِ فَاسِدَاتٌ أَوْ بَاطِلَاتٌ أَوْ رِبَوِيَّاتٌ صِرْفَةً وَالْعِينَةُ وَإِنْ مَكْرُوهَةٌ فِي نَفْسِهَا لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ انْتَهَى. لَكِنْ إنْ سَلِمَ ذَلِكَ يَبْقَى قَوْلُ قَاضِي خَانْ أَنَّهَا مَرْوِيَّةٌ وَأَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِذَلِكَ، وَعَنْ الْبَزَّازِيَّةِ طَلَبَ مِنْ آخَرَ قَرْضًا بِالرِّبْحِ فَبَاعَ الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ عَرَضًا بِعَشَرَةٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ وَسَلَّمَ إلَيْهِ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُقْرِضُ مِنْهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ يَجُوزُ، وَفِي النُّقَايَةِ كُلُّ حِيلَةٍ لَا تُؤَدِّي إلَى ضَرَرٍ تَجُوزُ تَخَلُّصًا مِنْ الرِّبَا وَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ لَا تَجُوزُ فِي الدِّيَانَةِ، وَإِنْ جَازَتْ فِي الْفَتْوَى كَمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ اشْتَرَى صَاعًا مِنْ تَمْرٍ جَيِّدٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ رَدِيءٍ هَلَّا بِعْت تَمْرَك بِسِلْعَةٍ، ثُمَّ ابْتَعْت بِسِلْعَتِك تَمْرًا» انْتَهَى. أَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَعَلَّ الرُّجْحَانَ فِي جَانِبِ قَاضِي خَانْ إذْ سَمِعْت إطْلَاقَ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ وَمَعَ الْمَأْجُورِيَّةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمَعَ الْخَيْرِيَّةِ عَنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ وَغَيْرِهَا وَكَوْنَهُ مَرْوِيًّا وَمَأْمُورًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْجَوَازَ الْمُطْلَقَ مِنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَعَدَمَ الْإِثْمِيَّةِ مِنْ مَنْقُولِهِ عَنْ النُّقَايَةِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ، وَأَيْضًا وَقَعَ بِإِطْلَاقِ الْجَوَازِ عَنْ السِّرَاجِيَّةِ فِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ حِيَلِ التَّتَارْخَانِيِّ وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَاضِي خَانْ لَا يَتَأَخَّرُ فِي الْقُوَّةِ وَالرُّتْبَةِ عَنْ الْهِدَايَةِ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حُجَّتِهِ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيلَ الْهِدَايَةِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ إذْ لُزُومُ الْكَرَاهَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ تَرْكِ النَّدْبِ الَّذِي هُوَ مَبَرَّةُ الْإِحْسَانِ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَائِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْعِينَةِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ بِصَرِيحِ الدَّلَالَةِ لِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ التَّعْيِينِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْبَيْعُ مُشِيرًا إلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَجْهُولِ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَاصِلُ الْمَعْنَى إذَا اشْتَغَلْتُمْ بِالْبُيُوعِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْمُزَارَعَةِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ إلَى آخِرِهِ وَلَوْ سُلِّمَ يَجُوزُ كَوْنُ الْمَنْعِ لِمَصْلَحَةِ الْجِهَادِ لِقِلَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ الْمَنْعُ فِي حَقِّ الْمُزَارَعَةِ لِكَثْرَةِ الْإِسْلَامِ فَلْيَرْتَفِعْ فِي حَقِّ الْعِينَةِ تَوْفِيقًا لِلرِّوَايَاتِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْتَى بِجَوَازِ رُتْبَةِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ صِيَانَةً لِلْفُقَرَاءِ إذْ أَكْثَرُ مِنْ يُبْتَلَى بِهِ لَيْسَ إلَّا الْفُقَرَاءُ وَهُمْ مُضْطَرُّونَ يَشْتَرُونَ بِالْغَالِي لَعَلَّ لِهَذَا وَرَدَ النَّهْيُ السُّلْطَانِيُّ أَنْ يُزَادَ عَلَى وَاحِدٍ وَنِصْفٍ فِي الْعَشَرَةِ وَوَرَدَ عَلَيْهِ فَتَاوَى مَشَايِخِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْتَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ بِهَذَا النَّهْيِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَذِهِ الْفَتْوَى يُعَزَّرُ شَدِيدًا وَيُحْبَسُ مَدِيدًا إلَى أَنْ يَظْهَرَ صَلَاحُهُ وَتَوْبَتُهُ وَيَسْتَرِدَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي أَخَذَ وَلَوْ بِالتَّرَاضِي، وَمِثْلُهُ أَمْرُ السَّلَمِ كَمَا فِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ الْعِمَادِيِّ وَكَذَا يَسْتَرِدُّ فِي السَّنَةِ الَّتِي لَمْ يَقَعْ فِيهَا دَوْرٌ شَرْعِيٌّ وَإِلْزَامُ رِبْحٍ وَلَوْ وَقَعَ فِي الِابْتِدَاءِ مَرَّةً وَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُعُورِفَتْ بِالدَّوْرِ أَوْ مِنْ أَمْوَالِ الصِّغَارِ وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرِّبْحِ بِلَا دَوْرٍ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ وَنِصْفٍ فِي الْعَشَرَةِ فَلَا يُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِلْمَنْعِ السُّلْطَانِيِّ الْوَاقِع لِمَصْلَحَةِ الرَّعِيَّةِ الْوَاجِبِ اتِّبَاعُهُ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَمَا اخْتَارَهُ هُوَ طَرِيقُ الْوَرَعِ إذْ أَقَلُّ دَرَجَةِ الِاخْتِلَافِ الشُّبْهَةُ كَمَا مَرَّ مِرَارًا وَيُقَرِّبُهُ مَا قِيلَ إنَّمَا الْمَنْعُ لِمُرِيدِ تَكْثِيرِ الْمَالِ بِلَا احْتِيَاجٍ. [نِسْيَانُ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ] (وَمِنْهَا نِسْيَانُ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ) مِنْ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمُصْحَفِ لَا عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ، وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَعِيدِ مَنْ حَفِظَ سُورَةً مَثَلًا، ثُمَّ نَسِيَهَا إنْ قَدَرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمُصْحَفِ كَمَا مَرَّ (د ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا «عُرِضَتْ عَلَيَّ» لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَوْ فِي وَقْتِ

الربا

الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّجَلِّيَاتِ عِنْدَ وُرُودِ الْوَارِدِ الْغَيْبِيِّ عَلَى قَلْبِهِ وَذَلِكَ كَانَ غَالِبَ أَحْوَالِهِ؛ لِأَنَّ رُوحَهُ الزَّكِيَّةَ لَا مَرْتَعَ لَهَا إلَّا فِي الْحَضَرَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَنَازِلِ الْقُدْسِيَّةِ فَكَانَ لَا يَغِيبُ عَنْ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ( «أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ» التِّبْنُ وَالْوَسَخُ وَنَحْوُهُمَا بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى أُجُورٍ وَيَجُوزُ نَصْبُهَا بِتَقْدِيرِ حَتَّى رَأَيْت الْقَذَاةَ «يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا» ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَشَأَ عَنْ تَشَاغُلِهِ عَنْهَا بِلَهْوٍ أَوْ فُضُولٍ أَوْ لِاسْتِخْفَافِهِ بِهَا وَتَهَاوُنِهِ بِشَأْنِهَا وَعَدَمِ احْتِرَامِهِ لِأَمْرِهَا فَيَعْظُمُ ذَنْبُهُ عِنْدَ اللَّهِ لِاسْتِهَانَةِ الْعَبْدِ لَهُ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ كَلَامِهِ، وَفِيهِ أَنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ كَبِيرَةٌ وَلَوْ بَعْضًا مِنْهُ وَهَذَا لَا يُنَاقِضُهُ خَبَرُ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ هُنَا ذَنْبُ التَّفْرِيطِ فِي مَحْفُوظِهِ لِعَدَمِ تَعَاهُدِهِ وَدَرْسِهِ، ثُمَّ الْحَدِيثُ تَعَقَّبَهُ التِّرْمِذِيُّ بِأَنَّهُ غَرِيبٌ وَالْبُخَارِيُّ لَمْ يَعْرِفْهُ وَاسْتَغْرَبَهُ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ غَيْرُ ثَابِتٍ وَأَنْكَرَهُ الْمَدَنِيُّ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ ضَعِيفٌ لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد. [الرِّبَا] (وَمِنْهَا الرِّبَا) عَنْ الْقُنْيَةِ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ لِلرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا أَصْغَرُهَا كَمَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ. وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ اتِّفَاقًا فِي رِبَا النَّسِيئَةِ وَاخْتِلَافًا فِي رِبَا الْفَضْلِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَرَى الرِّبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ، وَإِنْ رُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ، وَفِي الْخُلَاصَةِ لَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ بِأَعْيَانِهِمَا أَخْذًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَنْفُذُ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَافَقَهُ فَكَانَ مَهْجُورًا شَرْعًا انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ إشْكَالٍ أُصُولِيٍّ (وَتَلَقِّي الْجَلْبِ) أَيْ تَلَقِّي بَعْضِ أَهْلِ الْبَلَدِ الْمَجْلُوبَ مِنْ خَارِجِهِ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ إنْ أَضَرَّ بِأَهْلِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَلِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيقَ الْأَمْرِ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَالْوَارِدِينَ (وَبَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي) أَيْ بَيْعُ أَهْلِ الْبَلَدِ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْقُرَى بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ إلَى مُدَّةٍ إنْ فِي قَحْطٍ فَيُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِهِمْ وَإِلَّا فَلَا (وَالسَّوْمُ عَلَى السَّوْمِ) أَيْ سَوْمِ غَيْرِهِ بَائِعًا أَوْ مُشْتَرِيًا وَهُوَ أَنْ يَرْضَى الْمُتَعَاقِدَانِ بِالْبَيْعِ وَيَسْتَقِرَّ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَقْدُ فَيَزِيدُ عَلَيْهِ وَيَبْطُلُ بَيْعُهُ أَمَّا لَوْ زَادَ عَلَيْهِ كَمَا قَبْلَ التَّرَاضِي فَيَجُوزُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الِاخْتِيَارِ (وَالْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ) مِنْ جِهَةِ الْمَخْطُوبَةِ أَوْ الْخَاطِبِ (إنْ وُجِدَ دَلِيلُ الرِّضَا لِلْأَوَّلِ) مِنْ السَّوْمَيْنِ أَوْ الْخِطْبَتَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُسَاوِمُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» . وَأَمَّا إذَا سَاوَمَهُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَرْكَنْ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فَلَا بَأْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يُسَاوِمَهُ وَيَشْتَرِيَهُ، فَإِنَّهُ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ لِعَدَمِ الْإِضْرَارِ فِيهِ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ وَالْخِطْبَةُ كَذَلِكَ (وَالِاحْتِكَارُ) أَيْ حَبْسُ قُوتِ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ حَرَامٌ إنْ أَضَرَّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ وَصَاحِبُهُ مَلْعُونٌ وَكَذَا حَبْسُ الْكِسْوَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ حَرَامٌ مُطْلَقًا وَقَالَ أَحْمَدُ يَحْرُمُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَحَيْثُ يَكُونُ فِيهِ ضِيقٌ وَهَذَا فِيمَا اشْتَرَاهُ مِنْ السُّوقِ لَا فِي غَلَّةِ أَرْضِهِ وَمَجْلُوبِهِ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ خَالِصٌ حَقُّهُ وَلَمْ

الرجوع في الهبة

يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْ عَزَّرَهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ إنْ امْتَنَعَ اتِّفَاقًا وَمُدَّةُ الْحَبْسِ قِيلَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَقِيلَ شَهْرٌ وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا لَكِنْ يَأْثَمَ، وَإِنْ قَلَّتْ الْمُدَّةُ (وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ مَمْلُوكَيْنِ صَغِيرَيْنِ أَوْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مَحْرَمِيَّةٌ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَمَةِ وَوَلَدِهَا بِنَحْوِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ كَوْنَهُ قَبْلَ التَّمْيِيزِ وَأَبُو حَنِيفَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ سَوَاءٌ رَضِيَتْ أَمْ لَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَجُوزُ بِرِضَاهَا، وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَلَيْسَ مِنَّا» . (وَمِنْهَا مَطْلُ الْغَنِيِّ) أَيْ تَأْخِيرُ الْقَادِرِ عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ عَنْ الدَّائِنِ بَعْدَ طَلَبِهِ (خ م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» يَعْنِي تَسْوِيفَ الْقَادِرِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ الْحَالِّ ظُلْمٌ مِنْهُ لِرَبِّ الدَّيْنِ وَالظُّلْمُ حَرَامٌ فَكَذَا الْمَطْلُ وَالتَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ أَوْ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الْمَفْعُولِ. يَعْنِي: وَفَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهُ غَنِيًّا فَالْفَقِيرُ أَوْلَى بِهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ. [الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ] (وَمِنْهَا الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ خ م عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «الَّذِي يَرْجِعُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ» يَعُودُ «فِي قَيْئِهِ» وَالرُّجُوعُ إمَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ حُكْمِ الْقَاضِي وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ وَلَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ «إنَّ رَجُلًا وَهَبَ هِبَةً فَرَجَعَ فِيهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الْكَلْبِ الَّذِي يَأْكُلُ حَتَّى إذَا شَبِعَ قَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَأَكَلَهُ» . (وَمِنْهَا اقْتِنَاءُ كَلْبٍ) اتِّخَاذُهُ (لِغَيْرِ صَيْدٍ وَمَاشِيَةٍ وَخَوْفٍ مِنْ اللُّصُوصِ وَغَيْرِهِمْ) كَحِفْظِ الْمَتَاعِ وَالزَّرْعِ وَالدَّوَابِّ وَكَذَا نَحْوُ الْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالضَّبُعِ وَسَائِرِ السِّبَاعِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ (خ م عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» مِنْ الْأَجْرِ كَمَا قِيلَ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ جَبَلِ أُحَدٍ قَالَ فِي الْمُبَارِقِ الْمُرَادُ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْبَيْتِ عَلَى تَقْدِيرِ الْجَوَازِ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ أَسْوَأُ مِنْ كُلِّ الْكِلَابِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا وَلَكِنْ اُقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» يَعْنِي أَنَّهُ أَضَرُّ الْكِلَابِ وَأَعْقَرُهَا وَمَعَ هَذَا هُوَ أَقَلُّهَا نَفْعًا، وَأَسْوَؤُهَا حِرَاسَةً وَأَبْعَدُهَا مِنْ الصَّيْدِ وَأَكْثَرُهَا نُعَاسًا كَمَا فِي

إيقاد الشموع في القبور

النِّصَابِ (فَإِنْ أَرْسَلَ صَاحِبُهُ) عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ (فِي السِّكَّةِ فَلِلْجِيرَانِ الْمَنْعُ) وَيَصِيرُ صَاحِبُهُ آثِمًا بِإِرْسَالِهِ (فَإِنْ أَبَى يُرْفَعُ إلَى الْحَاكِمِ فَيُمْنَعُ وَكَذَا الدَّجَاجَةُ وَالْجَحْشُ) وَلَدُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ (وَالْعُجُولُ) وَلَدُ الْبَقَرِ وَكَذَا الْبَطُّ وَالْإِوَزُّ وَالْبَقَرُ وَالْحِمَارُ وَالْبِغَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حِفْظَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَاجِبٌ عَلَى صَاحِبِهَا، فَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ يَأْثَمْ وَيَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ إنْ لَمْ يَحْفَظْ بَعْدَ الرَّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ، وَفِي الْفَتَاوَى رَجُلٌ لَهُ كَلْبٌ عَقُورٌ كُلُّ مَنْ يَمُرُّ يَعَضُّهُ فَلِأَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَإِنْ عَضَّ إنْ كَانُوا تَقَدَّمُوا عَلَى صَاحِبِهِ يَضْمَنُ وَإِلَّا فَلَا، وَفِي صَيْدِ الْفَتَاوَى إنْ أَمْسَكَ فِي بَيْتِهِ كَلْبًا وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلِجِيرَانِهِ مِنْ كَلْبِهِ ضَرَرٌ لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ، فَإِنْ أَرْسَلَهُ إلَى السِّكَّةِ فَلَهُمْ الْمَنْعُ، فَإِنْ أَبَى يُرْفَعُ إلَى الْحَاكِمِ أَوْ إلَى صَاحِبِ الْحِسْبَةِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ. [إيقَادُ الشُّمُوعِ فِي الْقُبُورِ] (وَمِنْهَا إيقَادُ الشُّمُوعِ فِي الْقُبُورِ؛ لِأَنَّهُ إسْرَافٌ وَبِدْعَةُ ضَلَالَةٍ وَاتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ فِيهَا) أَيْ الْقُبُورِ (د ت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» أَيْ الْقُبُورَ، وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَتَطْيِينُهُ وَإِلْصَاقُ اللَّوْحِ وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ. (وَمِنْهَا اقْتِنَاءُ امْرَأَةٍ لَا تُصَلِّي، وَفِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي يُطَلِّقُهَا) قِيلَ ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ لِحُرْمَةِ مُخَالَطَةِ الْمُصِرِّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَمَهْرُهَا فِي عُنُقِهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَلْقَى وَمَعَهُ امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي) لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَكُفْرٌ عِنْدَ الْبَعْضِ فَلَا يَلِيقُ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَتَّخِذَ عَدُوَّةَ اللَّهِ صَدِيقَةً وَيَتَعَاشَرَ مَعَهَا وَيَنْظُرَ إلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ وَحَمْلُ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلَى الصَّلَاةِ سَبَبٌ لِانْفِتَاحِ بَابِ الرِّزْقِ انْتَهَى، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ مِنْ تَهَاوَنَ بِالصَّلَاةِ فَقَدْ آذَى جَمِيعَ الْخَلَائِقِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَفْرَحُونَ بِصُعُودِ أَنْوَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ الْمُطِيعِينَ وَيَتَأَذَّوْنَ مِنْ انْقِطَاعِهَا عَنْهُمْ وَبِشُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ يَقِلُّ الْمَطَرُ فَتَقِلُّ النَّبَاتُ بِسَبَبِهِ فَيَضِيقُ عَيْشُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ السِّبَاعِ وَالْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَنَحْوِهَا كَمَا فِي حَاشِيَةِ الشَّيْخِ زَادَهْ. (وَمِنْهَا تَوَسُّدُ كُتُبِ الشَّرِيعَةِ) كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ قِيلَ وَآلَاتِهَا (مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْحِفْظِ، وَفِي الْخُلَاصَةِ، وَمَنْ تَوَسَّدَ بِخَرِيطَةٍ) شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنْ الْأَدِيمِ يُجْعَلُ فِيهِ الْكِتَابُ (فِيهَا أَخْبَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ قَصَدَ الْحِفْظَ لَا يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ يُكْرَهُ) إنْ لَمْ يَقْصِدْ الِاسْتِهَانَةَ (وَفِي الْمُحِيطِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ جَوَالِقُ، وَفِيهَا

دَرَاهِمُ مَكْتُوبٌ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ كَانَ فِي الْجَوَالِقِ كُتُبُ الْفِقْهِ أَوْ كُتُبُ التَّفْسِيرِ أَوْ الْمُصْحَفُ فَجَلَسَ عَلَيْهَا أَوْ نَامَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الْحِفْظُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ مَرَّ جِنْسُ هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِذَا كَتَبَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَاغَدٍ وَوُضِعَ تَحْتَ طِنْفِسَةٍ) أَيْ بِسَاطٍ (يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا) صِفَةٌ لِلطِّنْفِسَةِ (فَقَدْ قِيلَ لَا يُكْرَهُ) وَقِيلَ يُكْرَهُ (قَالَ أَلَا يُرَى أَنْ لَوْ وُضِعَ بِالْبَيْتِ لَا بَأْسَ بِالنَّوْمِ عَلَى سَطْحِهِ كَذَا هُنَا) لَا يَخْفَى مَا فِي الْقِيَاسِ مِنْ الْفَارِقِ لِلَزْقٍ فِي أَحَدِهِمَا وَاتِّصَالٍ فِي الْآخَرِ وَغِلْظَةٍ فِي أَحَدِهِمَا وَرِقَّةٍ فِي الْآخَرِ (وَإِنْ حُمِلَ الْمُصْحَفُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الشَّرِيعَةِ عَلَى دَابَّةٍ فِي جَوَالِقَ وَرَكِبَ صَاحِبُ الْجَوَالِقِ عَلَى الْجَوَالِقِ لَا يُكْرَهُ) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً (انْتَهَى) . (وَمِنْهَا جَعْلُ شَيْءٍ) كَالْفُلْفُلِ وَالدِّرْهَمِ (فِي قِرْطَاسٍ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى) مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كُتِبَ اسْتِقْلَالًا أَوْ فِي ضِمْنِ كَلَامٍ (وَفِي الْخُلَاصَةِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا فِي قِرْطَاسٍ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَتْ الْكِتَابَةُ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ فِي بَاطِنِهِ بِخِلَافِ الْكِيسِ يَكْتُبُ عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْكِيسَ يُعَظَّمُ وَالْقِرْطَاسَ يُسْتَهَانُ بِهِ انْتَهَى. وَكَذَا بِسَاطٌ أَوْ مُصَلَّى) أَيْ سَجَّادَةٌ (كُتِبَ عَلَيْهِ فِي النَّسْجِ الْمُلْكُ لِلَّهِ يُكْرَهُ بَسْطُهُ وَالْقُعُودُ عَلَيْهِ وَاسْتِعْمَالُهُ) لِإِخْلَالِهِ بِالتَّعْظِيمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَوْ فِي الْعِمَامَةِ أَوْ الْقَلَنْسُوَةِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ كَرَاهَتِهِ لِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ الِاسْتِهَانَةُ إلَّا أَنْ يَتَوَسَّخَ مِنْ عَرَقِ الرَّأْسِ وَيَلْزَمَ إخْلَالُ التَّعْظِيمِ (فَلَوْ قُطِعَ حَرْفٌ مِنْ الْحُرُوفِ) مِنْ اسْمِهِ تَعَالَى (أَوْ خُطَّ عَلَى بَعْضِ الْحُرُوفِ حَتَّى لَمْ تَبْقَ الْكَلِمَةُ مُتَّصِلَةً لَا تَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ) عَنْ الْخَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ لِلْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ حُرْمَةً وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُلْكُ لَا غَيْرُ أَوْ كَانَ الْأَلِفُ وَحْدَهَا أَوْ كَانَ اللَّامُ وَحْدَهَا انْتَهَى لَا يَخْفَى عَدَمُ مُلَاءَمَتِهِ لِقَوْلِهِ فَلَوْ قُطِعَ وَكَذَا لِقَوْلِهِ حَتَّى لَمْ تَبْقَ إلَى آخِرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي النِّصَابِ وَلَوْ قَطَعَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِهِ أَوْ خَطَّ عَلَى بَعْضِ الْحُرُوفِ حَتَّى لَا تَبْقَى الْكَلِمَةُ مُتَّصِلَةً لَا تَسْقُطُ الْكَرَاهَةُ انْتَهَى (كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ) وَكَذَا نُقِلَ عَنْ مَجْمَعِ الْفَتَاوَى، وَعَنْ الْمُلْتَقَطِ قَالَ بَعْضُهُمْ يُكْرَهُ تَعْظِيمًا لِلْحُرُوفِ وَقَالَ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ النِّصَابِ وَلِلْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ حُرْمَةٌ؛ لِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَأَخْبَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ رَأَى نَاسًا يَرْمُونَ هَدَفًا وَعَلَى الْهَدَفِ مَكْتُوبٌ أَبُو جَهْلٍ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَمَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَمَضَى بِوَجْهِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُمْ قَدْ مَحَوْا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا يَرْمُونَ كَذَلِكَ فَقَالَ إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الْحُرُوفِ انْتَهَى وَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْخَانِيَّةِ لَكِنْ هَكَذَا، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ، وَقَدْ فَصَلُوا الْحُرُوفَ

إمساك المعازف

فَنَهَى وَقَالَ إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الْحُرُوفِ وَهَكَذَا عَنْ قَاضِي خَانْ، ثُمَّ قَالَ فِي النِّصَابِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَمْنَعُونَ مِنْ كِتَابَةِ قَوْلِهِ الْعِزُّ وَالْإِقْبَالُ وَنَحْوُهُ عَلَى الْعَصَا وَالطَّشْتِ وَالْإِبْرِيقِ وَالْقَدَحِ وَغِلَافِ السُّرُوجِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ مُبْتَذَلَةٌ فَتُصَانُ الْحُرُوفُ عَنْ الِابْتِذَالِ وَيُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لِلِابْتِذَالِ، وَفِي الْمُلْتَقَطِ الْحُرُوفُ الْمُفْرَدَةُ تُحْتَرَمُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ انْتَهَى لَا يَخْفَى عَدَمُ جَرَيَانِ الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرَ، ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ النِّصَابِ أَيْضًا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْكَاغَدِ الصَّالِحِ لِلْكِتَابَةِ فِيمَا يُسْتَهَانُ مَكْرُوهٌ، وَفِيهِ أَيْضًا الْكُتُبُ الَّتِي يُسْتَغْنَى عَنْهَا، وَفِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى تُلْقَى فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الْجَارِي أَوْ تُدْفَنُ فِي أَرْضٍ طَيِّبَةٍ وَلَا تُحْرَقُ بِالنَّارِ، وَفِي التتارخانية الْمُصْحَفُ الَّذِي خَلِقَ وَتَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَا يُحْرَقُ بَلْ يُلَفُّ بِخِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ وَيَحْفِرُ حَفِيرَةً بِلَحْدٍ بِلَا شَقٍّ أَوْ يَجْعَلُ سَقْفًا وَيُدْفَنُ أَوْ يُوضَعُ بِمَكَانٍ طَاهِرٍ لَا يَصِلُ إلَيْهِ الْغُبَارُ وَالْأَقْذَارُ، وَفِي السِّرَاجِيَّةِ يُدْفَنُ أَوْ يُحْرَقُ اهـ مُلَخَّصًا وَكَذَا عَنْ مُنْيَةِ الْمُفْتِي، وَعَنْ الْمُجْتَبَى الدَّفْنُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِلْقَاءِ فِي الْمَاءِ الْجَارِي كَالْأَنْبِيَاءِ وَكَذَا جَمِيعُ الْكُتُبِ، وَفِي التتارخانية الْأَفْضَلُ أَنْ يَغْسِلَهَا وَيَأْخُذَ الْقَرَاطِيسَ، وَعَنْ الْحَلِيمِيِّ لَا بَأْسَ بِالْإِحْرَاقِ لِإِحْرَاقِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَصَاحِفَ فِيهَا آيَاتٌ مَنْسُوخَةٌ بِلَا نَكِيرٍ، وَأَيْضًا قِيلَ الْإِحْرَاقُ أَوْلَى مِنْ الْغُسْلِ لِوُقُوعِ الْغُسَالَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ حَرَّمَ الْإِحْرَاقَ لِتَنَافِيهِ الِاحْتِرَامَ وَكَرِهَ النَّوَوِيُّ هَذَا وَأَقُولُ الرَّاجِحُ هُوَ الدَّفْنُ أَوْ الْغَسْلُ لَا الْإِحْرَاقُ لِقُوَّةِ قَائِلِهِمَا وَدَلِيلِهِمَا وَلِتَرْجِيحِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَالظَّاهِرُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ بِلَا نَكِيرٍ لَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ، وَدَعْوَى عَدَمِ وُصُولِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ إلَيْهِمْ سُوءُ ظَنٍّ بِهِمْ وَطَعْنٌ فِي فَقَاهَتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَاقَ لَازِمٌ لِلِاسْتِهَانَةِ وَمُخِلٌّ بِالتَّعْظِيمِ (أَقُولُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ السُّفْرَةِ أَوْ الْخِرْقَةِ لِلْوُضُوءِ أَوْ نَحْوِهِ الَّتِي يُكْتَبُ عَلَيْهَا بَيْتٌ أَوْ مِصْرَاعٌ أَوْ كَلِمَةٌ أَوْ حَرْفٌ كَذَلِكَ) فِي الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِمَّا يُسْتَهَانُ بِهَا وَالْحُرُوفُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ أَقُولُ السَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّ حُرْمَةَ الْحُرُوفِ إنْ كَانَتْ فَرْدَةً لِصَلَاحِيَّتِهَا لَأَنْ تَكُونَ جُزْءًا مِنْ نَحْوِ اسْمِهِ تَعَالَى أَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ نَحْوِ اسْمِ نَبِيِّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْأَبْيَاتِ الْخَالِيَةِ عَنْ نَحْوِ اسْمِهِ تَعَالَى فَلَا بُعْدَ فِي عَدَمِ الْكَرَاهَةِ يُؤَيِّدُهُ مَا فِي النِّصَابِ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ اسْمِ أَبِي جَهْلٍ فَهَذَا مِمَّا يَبْعُدُ. [إمْسَاكُ الْمَعَازِفِ] (وَمِنْهَا إمْسَاكُ الْمَعَازِفِ) أَيْ آلَاتِ اللَّهْوِ (فِي الْبَيْتِ) ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَعْمِلُهَا، فَإِنَّهُ إثْمٌ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ عَادَةً لِلَّهْوِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهِ. (وَمِنْهَا التَّصَدُّقُ عَلَى السَّائِلِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا وَلَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَلَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُخْتَارِ) إذْ عِنْدَ بَعْضٍ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا قَالَ الْمُحَشِّي كَوْنُ الْجَوَازِ مُخْتَارًا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: احْتِيَاجُ السَّائِلِ إلَى الْقُوتِ أَوْ الْكِسْوَةِ لِلسَّتْرِ أَوْ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ أَوْ لِدَيْنٍ وَيَكْفِي فِيهِ الْحَمْلُ عَلَى الصَّلَاحِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْحَالِ قَبْلَهُ، وَعَدَمُ التَّخَطِّي، وَعَدَمُ الْمُرُورِ الْمَذْكُورِ، وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ أَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يُخْرِجُهُمْ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ هَؤُلَاءِ (وَمِنْهَا التَّصَدُّقُ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُسْرِفٌ) قَطْعًا وَإِلَّا فَحُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ مَا أَمْكَنَ لَازِمٌ (أَوْ صَارِفٌ إلَى مَعْصِيَةٍ) وَإِنْ قَلَّ إذْ الْإِعَانَةُ عَلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ فَيَشْتَرِكُ فِي الْإِثْمِ. (وَمِنْهَا الِانْتِفَاعُ بِبَدَلِ مَا أَخَذَ غَلَطًا عَلِمَ صَاحِبُهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَيَكُونُ لُقَطَةً فَالِانْتِفَاعُ بِهِ حَرَامٌ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ) عَلَى تَقْدِيرِ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ

ركوب البحر لمن لا يقدر على دفع الغرق بلا ضرورة

(كَمَنْ يَلْبَسُ ثَوْبَ غَيْرِهِ أَوْ نَعْلَهُ سَهْوًا وَيَتْرُكُ مَالَهُ) مِنْ الثَّوْبِ أَوْ النَّعْلِ، فَإِنَّهُ إنْ عَلِمَ صَاحِبُهُ فَيَجِبُ رَدُّهُ وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ وَإِلَّا فَعَلَى حُكْمِ اللُّقْطَةِ فَبِأَيِّ حَالٍ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِبَدَلِ الْغَلَطِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ قَالَ الْمُحَشِّي وَالْحِيلَةُ فِي مِثْلِ هَذَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ التَّصَدُّقُ لِقَرِيبِهِ إنْ فَقِيرًا، ثُمَّ يُسْتَوْهَبُ إنْ كَانَ غَنِيًّا وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحِيلَةِ. (وَمِنْهَا الِاشْتِرَاءُ مِمَّنْ بَاعَ بِكُرْهٍ أَوْ بِسِعْرٍ لَا يَرْضَاهُ وَيَخَافُ لَوْ نَقَضَ ضَرَبَهُ السُّلْطَانُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ) وَإِنْ لَمْ يُوجَدُ بِهِ الْخُسْرَانُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ وَمَعْنَى جَوَازِ التَّسْعِيرِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ أَرْبَابِ الطَّعَامِ أَوْ غَيْرِهِ بِنَحْوِ غَبْنٍ فَاحِشٍ بِمُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي لِصَاحِبِ الطَّعَامِ إنْ شِئْت بِعْ هَذَا الْمِقْدَارَ بِهَذَا الثَّمَنِ وَإِلَّا فَاشْتَغِلْ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا أَنْ يَقُولَ بِعْ هَذَا الْمِقْدَارَ بِهَذَا أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ (وَكَذَا) كَمَا لَا يَحِلُّ الِاشْتِرَاءُ لَا يَحِلُّ (الْأَكْلُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْمُكْرَهِ (وَالْحِيلَةُ فِي مَسْأَلَةِ السِّعْرِ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي بِعْنِي كَمَا تُحِبُّ) وَلَا تَخَفْ مِنْ السَّعْيِ إلَى الْقَاضِي فَحِينَئِذٍ بِأَيِّ شَيْءٍ بَاعَهُ يَحِلُّ فَلَوْ بَاعَ كَمَا أَمَرَهُ السُّلْطَانُ، ثُمَّ قَالَ أَجَزْتُ الْبَيْعَ يَصِحُّ وَيَحِلُّ الْأَكْلُ (كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا) . (وَمِنْهَا أَخْذُ الْوَكِيلِ بِالتَّصَدُّقِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ (لِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِلَا إذْنِ الْمُوَكِّلِ) وَأَمَّا تَصَدُّقُهُ لِأَهْلِهِ وَمَحَارِمِهِ فَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ إنْ فَقِيرًا، وَفِي أُخْرَى لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنْ قِيلَ هَذَا إذَا كَانَ وَصِيًّا وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ إجْمَاعًا أَعْنِي لَوْ أَمَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ فَتَصَدَّقَ الْمَأْمُورُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ابْنِهِ جَازَ إجْمَاعًا لِمَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ قَالَ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ مُتَّهَمًا وَلَا تُهْمَةَ فِي الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلَوْ دَفَعَ الرَّجُلُ مَالَهُ إلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ فَوَضَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إنْ دَفَعَ إلَى ابْنِهِ الْكَبِيرِ أَوْ الصَّغِيرِ الَّذِي يَعْقِلُ لِلْقَبْضِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ. [رُكُوبُ الْبَحْرِ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْغَرَقِ بِلَا ضَرُورَةٍ] (وَمِنْهَا رُكُوبُ الْبَحْرِ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْغَرَقِ بِلَا ضَرُورَةٍ) مُلْجِئَةٍ (وَفِي الذَّخِيرَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ فِي الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ الْغَرَقِ عَنْ نَفْسِهِ بِكُلِّ سَبَبٍ يَدْفَعُ الْغَرَقَ بِهِ) مِنْ سِبَاحَةٍ أَوْ زَوْرَقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (حَلَّ لَهُ الرُّكُوبُ فِي السَّفِينَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْغَرَقِ لَا يَحِلُّ لَهُ الرُّكُوبُ انْتَهَى) فَلَا يَحِلُّ الرُّكُوبُ لِمَنِّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْغَرَقِ سَوَاءٌ لِطَلَبِ عِلْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ وَسَوَاءٌ غَلَبَتْ السَّلَامَةُ أَوْ لَا. لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ الْجَوَازُ عِنْدَ غَلَبَةِ السَّلَامَةِ وَنُوقِشَ بِأَنَّ أَقْوَى دَفْعِ الْغَرَقِ السِّبَاحَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تُغْنِي شَيْئًا وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ الْبَسِيطِ وَأَمَّا فِي سَاحِلِهِ وَالْغَدِيرِ وَزَوْرَقِ الْأَنْهَارِ فَمُمْكِنٌ بَلْ كَثِيرُ الْوُقُوعِ. (وَمِنْهَا إقْرَاضُ الْبَقَّالِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ بِهَا مَا يَشَاءُ شَيْئًا فَشَيْئًا) عَلَى التَّدْرِيجِ

(فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ) لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ نَفْعًا وَهُوَ رِبًا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الضَّمَانَ عَلَى تَقْدِيرِ الضَّيَاعِ وَكَذَا صَاحِبُ الْحَمَّامِ وَلَا يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِالْقَرْضِ فِي كَوْنِهِ قَرْضًا بَلْ يَكْفِي الْإِطْلَاقُ وَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْوَدِيعَةِ (كَالسَّفَاتِجِ) بِفَتْحِ السِّينِ جَمْعُ سَفْتَجَةٍ بِالضَّمِّ وَفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ إعْطَاءُ مَالٍ إلَى تَاجِرٍ قَرْضًا لِيُعْطِيَهُ فِي بَلَدِهِ خَوْفًا مِنْ خَطَرِ الطَّرِيقِ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ سُقُوطَ ضَرَرِ الطَّرِيقِ فَفِيهَا جَرُّ نَفْعٍ وَهُوَ الضَّمَانُ إذَا هَلَكَ، وَقَدْ رُوِيَ «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا» (وَيَنْبَغِي) إنْ أَرَادَ الْحِلَّ (أَنْ يَسْتَوْدِعَهَا الْبَقَّالَ، ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا شَاءَ) مِنْ عَيْنِ مَالِهِ (فَإِذَا ضَاعَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَقَّالِ) لَكِنْ عَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِعْمَالُ، فَإِذَا فَعَلَ يَكُونُ ضَامِنًا وَآثِمًا إلَّا أَنْ يَأْذَنَ صَاحِبُهُ. (وَمِنْهَا حَبْسُ الْبُلْبُلِ وَنَحْوِهِ) كَالطُّوطِيِّ وَالْقَمَرِيِّ قِيلَ إنْ كَانَ لِلَّهْوِ، وَإِنْ لِلِانْتِفَاعِ مِثْلَ حَبْسِ الدَّجَاجَةِ وَالْبَطِّ لِلتَّسْمِينِ فَيَجُوزُ وَكَذَا حَبْسُ الطُّيُورِ الَّتِي بِهَا يَصْطَادُ انْتَهَى (فِي الْقَفَصِ) لَعَلَّ ذَلِكَ إخْرَاجٌ عَلَى مَخْرَجِ الْعَادَةِ فَلَوْ فِي الْبَيْتِ فَكَذَا (فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ) قِيلَ وَقَدْ تَوَاتَرَ كَوْنُ حَبْسِهَا يُورِثُ الْفَقْرَ (كَذَا فِي التتارخانية) لَعَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعْذِيبُ حَيَوَانٍ بِلَا فَائِدَةٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ تَلَهِّي النَّفْسِ وَهَوَاهَا (وَجُمْلَةُ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الصِّنْفِ) أَيْ الصِّنْفِ التَّاسِعِ (ثَمَانُونَ) آفَةً (بَعْضُهَا دَاخِلٌ فِي الْآفَاتِ السَّابِقَةِ فِي إجْمَالِهَا لَكِنْ ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا لِشُهْرَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ وَاعْتِيَادِهِمْ بِهِ) فَمَسَّ مَزِيدُ اهْتِمَامٍ وَزِيَادَةُ اعْتِنَاءٍ. أَقُولُ وَلِذَلِكَ كَذَلِكَ وَقَعَ شَرْحًا؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي النُّصْحِ وَالتَّنْبِيهِ (فَلْنَعُدَّهَا مُجْتَمِعَةً كَالْأَوَّلَيْنِ) الْأَخْلَاقِ وَآفَاتِ اللِّسَانِ (لِيَسْهُلَ ضَبْطُهَا لِلطَّالِبِ. الْأَوَّلُ: رَقْصٌ الثَّانِي كَشْفُ عَوْرَةٍ. الثَّالِثُ: لُبْسُ حَرِيرٍ وَنَحْوِهِ. الرَّابِعُ: مَسُّ حَرَامٍ. الْخَامِسُ: سُكْنَى حَرَامٍ. السَّادِسُ: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. السَّابِعُ: قَطْعُ رَحِمٍ الثَّامِنُ عَدَمُ رِعَايَةِ حُقُوقِ الزَّوْجِ. التَّاسِعُ: عَدَمُ رِعَايَةِ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ. الْعَاشِرُ: إضَاعَةُ الْأَوْلَادِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: خَلْوَةٌ مَعَ أَجْنَبِيَّةٍ. الثَّانِي عَشَرَ: تَشَبُّهُ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ. الثَّالِثَ عَشَرَ: عَكْسُهُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: عِصْيَانُ مَمْلُوكٍ لِمَوْلَاهُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: سُوءُ الْمِلْكَةِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَذَى الْجَارِ. السَّابِعَ عَشَرَ: مُصَاحَبَةُ الْأَشْرَارِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: فَتْحُ فَمٍ عِنْدَ تَثَاؤُبٍ. التَّاسِعَ عَشَرَ: جُلُوسٌ فِي الطَّرِيقِ. الْعِشْرُونَ جُلُوسٌ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: قُعُودٌ وَسْطَ حَلْقَةٍ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: جُلُوسُهُ فِي مَكَانِ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: عَمَلُ دُنْيَا فِي الْمَسْجِدِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: انْحِنَاءٌ فِي السَّلَامِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: سِحْرٌ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: تَعْلِيقُ تَمِيمَةٍ وَنَحْوِهَا. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: وَشْمٌ وَنَحْوُهُ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: تَوْفِيرُ الشَّارِبِ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: سَفَرُ الْحُرَّةِ بِلَا مَحْرَمٍ. الثَّلَاثُونَ: عَدَمُ النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: عَدَمُ تَأْمِيرٍ. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: رُكُوبُ نِسَاءٍ عَلَى السَّرْجِ. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: تَرْكُ وَلِيمَةٍ. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: انْبِطَاحٌ. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: نَوْمٌ عَلَى سَطْحٍ غَيْرِ مَحْجُوزٍ عَلَيْهِ وَبَيْتُوتَةٌ مَعَ رِيحِ غَمَرٍ فِي

قيام القارئ لغير أبيه وعالم

فِي يَدِهِ. السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: كَلْبٌ وَجَرَسٌ فِي السَّفَرِ. السَّابِعِ وَالثَّلَاثُونَ: سَفَرُ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: أَكْلُ ثُومٍ وَنَحْوِهِ. التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: تَرْكُ صَلَاةٍ. الْأَرْبَعُونَ: تَرْكُ وُضُوءٍ. الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: تَرْكُ غُسْلٍ. الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: تَرْكُ جَمَاعَةٍ. الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: تَرْكُ تَعْدِيلِ أَرْكَانٍ. الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: تَرْكُ تَسْوِيَةِ صُفُوفٍ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: مُخَالَفَةُ الْإِمَامِ. السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: تَرْكُ جُمُعَةٍ. السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: تَرْكُ زَكَاةٍ. الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: تَرْكُ صَوْمِ رَمَضَانَ. التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: تَرْكُ قَضَاءٍ. الْخَمْسُونَ: تَرْكٌ كَفَّارَةٍ. الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: تَرْكُ مَنْذُورٍ. الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: تَرْكُ صَدَقَةِ فِطْرٍ. الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: تَرْكُ أُضْحِيَّةِ. الرَّابِعِ وَالْخَمْسُونَ: تَرْكُ حَجٍّ وَتَرْكُ جِهَادٍ. الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: اقْتِنَاءُ كَلْبٍ. السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: اقْتِنَاءُ امْرَأَةٍ لَا تُصَلِّي. السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: تَوَسُّدُ كُتُبِ شَرِيعَةٍ. الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: إمْسَاكُ مَعَازِفَ. التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: رُكُوبُ بَحْرٍ. السِّتُّونَ: حَبْسُ طَيْرٍ فِي الْقَفَصِ. الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: إقْرَاضُ بَقَّالٍ. الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: اشْتِرَاءٌ مِنْ مُكْرَهٍ. الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: تَصَدُّقٌ عَلَى مُسْرِفٍ. الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: تَصَدُّقٌ عَلَى سَائِلٍ فِي الْمَسْجِدِ. الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: عَدَمُ رِعَايَةِ مَا فِيهِ كَلِمَةٌ أَوْ حَرْفٌ. السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ: عِينَةٌ. السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: نِسْيَانُ قُرْآنٍ. الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: رِبًا. التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: احْتِكَارٌ. السَّبْعُونَ: تَفْرِيقٌ. الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: تَلَقِّي جَلْبٍ. الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: بَيْعُ حَاضِرٍ لِبَادٍ. الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: خِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةٍ. الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: سَوْمٌ عَلَى سَوْمٍ. الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: مَطْلُ غَنِيٍّ. السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: أَخْذُ وَكِيلٍ بِالتَّصَدُّقِ. السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: انْتِفَاعٌ بِبَدَلِ مَا أُخِذَ غَلَطًا. الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: إيقَادُ شُمُوعٍ فِي الْقُبُورِ. التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: رُجُوعٌ فِي الْهِبَةِ. الثَّمَانُونَ: فِرَارٌ مِنْ الزَّحْفِ) ، ثُمَّ لِنَذْكُرَ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَاشِيَةِ هُنَا وَإِنْ حَصَلَ الْغِنَى مِمَّا سَبَقَ. [قِيَامُ الْقَارِئِ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَعَالِمٍ] وَمِنْ الْآفَاتِ الْغَيْرِ الْمَذْكُورَةِ قِيَامُ الْقَارِئِ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَعَالِمٍ قَالَ فِي الْخَانِيَّةِ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ الْمَصَاحِفِ أَوْ يَقْرَأُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْ الْأَجِلَّةِ وَالْأَشْرَافِ فَقَامَ الْقَارِئُ لِأَجْلِهِ قَالُوا إنْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَالِمٌ أَوْ أَبُوهُ أَوْ أُسْتَاذُهُ الَّذِي عَلَّمَهُ الْعِلْمَ جَازَ أَنْ يَقُومَ لِأَجْلِهِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَمِنْهَا النَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ بِلَا عُذْرٍ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَيُسْتَحَبُّ الْقَيْلُولَةُ وَهِيَ نَوْمُ نِصْفِ النَّهَارِ وَمِنْهَا تَرْكُ حَلْقِ الرَّأْسِ وَالْعَانَةِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَتَأْخِيرٌ إلَى وَرَاءِ الْأَرْبَعِينَ وَالْأَفْضَلُ الْأُسْبُوعُ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْأَحْوَطُ الْأُسْبُوعَانِ وَالْأَرْبَعُونَ وَلَا عُذْرَ فِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ وَيَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ كَذَا فِي الْقُنْيَةِ، وَفِيهِ لَا يَنْتِفُ لِأَنْفِهِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْأَكَلَةَ بَلْ يَقُصُّهُ انْتَهَى. وَلْنُلْحِقْ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْآفَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ بَعْضًا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ، وَإِنْ ذُكِرَ شَرْحًا أَوْ لَزِمَ مِمَّا ذُكِرَ مَتْنًا اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْمُنْكَرَاتِ وَهِيَ هَذِهِ: الِانْقِطَاعُ عَنْ النِّكَاحِ بِلَا دَاعٍ، تَفْرِيقُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ إلَى بِلَادٍ شَتَّى لِتَأَدِّيهِ إلَى تَوَزُّعِ قَلْبِهِ، أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَأَلْبَانِهَا، أَكْلُ لَحْمِ الْجَلَّالَةِ، أُجْرَةُ عَسِيبِ الْفَحْلِ، بَيْعُ بِئْرٍ بِفَلَاةٍ، بَيْعُ فَضْلِ الْمَاءِ عَنْ حَاجَتِهِ، بَيْعُ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ، بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ بِدُونِ جَرْيِ الصِّيعَانِ، بَيْعُ الْمُصَرَّاةِ، أَكْلُ الطَّعَامِ الْحَارِّ، الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ وَتَجْصِيصُهُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ، مَجِيءُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ لَيْلًا، قَتْلُ الدَّوَابِّ صَبْرًا الْكِتَابَةُ عَلَى الْقَبْرِ، وَضْعُ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ، دُخُولُ الْمَاءِ بِلَا شَيْءٍ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، مَسُّ ذَكَرٍ، بِالْيَمِينِ، الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ، تَمْشِيطُ الشَّعْرِ وَتَسْرِيحُهُ إلَّا غِبًّا، التَّكَلُّفُ لِلضَّيْفِ فَلَا يُمْسِكُ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا. قَطْعُ الثَّمَرِ وَقَطْعُ الزَّرْعِ بِاللَّيْلِ، الْأَكْلُ مُنْبَطِحًا عَلَى وَجْهِهِ الرُّكُوبُ عَلَى الْجَلَّالَةِ وَشُرْبُ أَلْبَانِهَا، الِاحْتِكَارُ وَالتَّلَقِّي، الْمُسَاوَمَةُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ ذِكْرِ اللَّهِ، اقْتِنَاءُ

الْخَذَفِ لِلْوَلَدِ، الدَّوَاءُ الْخَبِيثُ بِلَا ضَرُورَةٍ، قَطْعُ رَأْسِ الذَّبِيحَةِ قَبْلَ مَوْتِهَا، الْجُلُوسُ عَلَى جُلُودِ النَّمِرِ، تَغْطِيَةُ الرَّجُلِ فَاهُ بِشَيْءٍ، الِاسْتِيَاكُ بِعُودِ الرَّيْحَانِ وَالرُّمَّانِ، الشُّرْبُ وَالْأَكْلُ قَائِمًا، الشُّرْبُ مِنْ مَاءِ السِّقَاءِ، الشُّرْبُ مِنْ مَحَلِّ كَسْرِ قَدَحٍ، تَشْيِيدُ الْبِنَاءِ وَتَرْفِيعُهُ، الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْشَادُ الضَّالَّةِ فِيهِ، نِكَاحُ الشِّغَارِ، لُبْسُ الثِّيَابِ الرَّقِيقَةِ وَالْغَلِيظَةِ وَالطَّوِيلَةِ وَالْقَصِيرَةِ فَيَقْتَصِدُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى بَادِي الْعَوْرَةِ الصَّلَاةُ بِالسَّرَاوِيلِ فَقَطْ، الضَّحِكُ لِسَمَاعِ ضَرَطٍ، شُرْبُ الْمَاءِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ، الْعُمْرَةُ قَبْلَ الْحَجِّ، النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ، الْمُزَايَدَةُ بِأَنْ يُزِيدَ فِي الثَّمَنِ بِلَا رَغْبَةٍ، مُوَاقَعَةُ الزَّوْجَةِ قَبْلَ الْمُلَاعَبَةِ، الرُّكُوبُ عَلَى سَرْجِ دَابَّةٍ عَلَيْهِ وِسَادَةٌ حَمْرَاءُ، النَّذْرُ لِتَحْصِيلِ غَرَضٍ أَوْ دَفْعِ مَكْرُوهٍ، النَّفْخُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، النَّوْمُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، الْحَدِيثُ بَعْدَهَا، الْبَيْتُوتَةُ وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ. الْوَشْمُ فِي الْوَجْهِ، صَوْمُ الْوِصَالِ، إجَابَةُ طَعَامِ الْفَاسِقِينَ، الِاسْتِئْجَارُ بِلَا تَعَيُّنِ الْأُجْرَةِ، افْتِرَاشُ جُلُودِ السِّبَاعِ، خَاتَمُ الْحَدِيدِ، الذَّبْحُ عِنْدَ بِنَاءِ دَارٍ أَوْ شِرَائِهَا أَوْ اسْتِخْرَاجِ عَيْنٍ، الرُّكُوبُ عَلَى جُلُودِ النَّمِرِ، سَبُّ الْأَمْوَاتِ، صَوْمُ يَوْمِ جُمُعَةٍ فَقَطْ، صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ، إفْرَادُ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ وَقِيلَ مَنْسُوخٌ، أَكْلُ ضِيَافَةٍ اُتُّخِذَتْ رِيَاءً وَفَخْرًا قَفِيزُ الطَّحَّانِ، تَرْقِيقُ الْأَسْنَانِ لِإِيهَامِ حَدَاثَةِ السِّنِّ، نَتْفُ الشَّيْبِ. كَسْبُ الْحَجَّامِ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا، فَإِنَّهُ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْأُجْرَةَ، كُلُّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ أَيْ يُورِثُ فُتُورًا وَضَعْفًا، تَعَيُّنُ مَكَانٌ فِي مَسْجِدٍ، التَّبَاهِي فِي الْمَسَاجِدِ، الْمَشْيُ بَيْنَ الْبَعِيرَيْنِ يَقُودُهُمَا، صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فِي الْمَقَابِرِ، لُبْسُ النَّعْلِ قَائِمًا فِيمَا فِي لُبْسِهِ قَائِمًا تَعَبٌ، الْبَوْلُ فِي الْمَاءِ التَّسْمِيَةُ لِشَخْصٍ بِكُلَيْبٍ أَوْ كَلْبٍ، الْمُسَافَرَةُ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، التَّغَوُّطُ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ وَضِفَّةِ نَهْرٍ جَارٍ، الْبَوْلُ فِي جُحْرِ الْهَوَامِّ، الْبَوْلُ فِي قُرْبِ الْمَسْجِدِ، الْبَوْلُ فِي الْمُغْتَسَلِ وَقَائِمًا، التَّنَفُّسُ فِي الْإِنَاءِ وَالنَّفْخُ فِيهِ، حَلْقُ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكُنْيَتِهِ كَأَبِي الْقَاسِمِ وَمُحَمَّدٍ، الْمَشْيُ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ قِيلَ وَلَوْ مَحَارِمَ لِئَلَّا يُسَاءَ بِهِ الظَّنُّ الْقِيَامُ عَنْ الطَّعَامِ قَبْلَ رَفْعِ الْمَائِدَةِ، عَقْصُ الرَّجُلِ شَعْرَ رَأْسِهِ فِي الصَّلَاةِ، تَبَعِيَّةُ جِنَازَةٍ مَعَهَا صَائِحَةٌ صِيَاحًا شَدِيدًا، الْمَشْيُ بِخُفٍّ وَاحِدٍ أَوْ نَعْلٍ وَاحِدٍ، تَكَلُّمُ النِّسَاءِ بِلَا إذْنِ أَزْوَاجِهِنَّ، إلْقَاءُ النَّوَى عَلَى الطَّبَقِ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ الرُّطَبُ أَوْ التَّمْرُ التَّمَطِّي عِنْدَ نِسَاءٍ إلَّا عِنْدَ امْرَأَتِهِ أَوْ جَوَارِيهِ، التَّنَفُّسُ وَالنَّفْخُ فِي الْكِتَابِ، تَفْتِيشُ نَحْوِ دُودٍ فِي التَّمْرِ، مُصَافَحَةُ الْمُشْرِكِينَ وَكِنَايَتُهُمْ وَتَرَجِّيهِمْ، سَتْرُ الْجِدَارِ بِحَرِيرٍ تَحْرِيمًا وَبِغَيْرِهِ تَنْزِيهًا، الْإِذْنُ بِالدُّخُولِ لِمَنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالسَّلَامِ، الْأَكْلُ بِالشِّمَالِ، الِاخْتِلَافُ فِي الْأَهْوَاءِ وَالْمَذْهَبِ، السَّلَامُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتِّخَاذُ طَرِيقٍ فِي الْمَسَاجِدِ إلَّا لِذِكْرٍ وَاعْتِكَافٍ، اتِّخَاذُ ضَيْعَةٍ دَاعِيَةٍ فِي رَغْبَةِ الدُّنْيَا، اتِّخَاذُ الْبُيُوتِ قُبُورًا بِأَنْ لَا يَذْكُرَ وَلَا يُصَلِّي فِيهَا تَرْكُ إطْفَاءِ النَّارِ حِينَ النَّوْمِ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، الْمُجَالَسَةُ مَعَ أَهْلِ الْغَدْرِ وَابْتِدَاءُ السَّلَامِ لَهُمْ، إدَامَةُ النَّظَرِ إلَى الْمَجْذُومِ، إبْقَاءُ جَرَسٍ فِي بَيْتٍ، تَرْكُ تَهَجُّدِ لَيْلٍ وَلَوْ مِقْدَارَ حَلْبِ شَاةٍ، دَفْنُ مَيِّتٍ فِي لَيْلٍ بِلَا ضَرُورَةٍ، ذَبْحُ شَاةٍ ذَاتِ لَبَنٍ ذِكْرُ الْمَوْتَى بِغَيْرِ خَيْرٍ وَسَبِّهِمْ، تَزَوُّجُ الْعَجَائِزِ وَالْعَوَاقِرِ، سُؤَالُ النَّاسِ شَيْئًا وَلَوْ مُنَاوَلَةَ سَوْطٍ فَتَنْزِلُ عَنْ دَابَّتِك فَتَأْخُذُهُ، السُّؤَالُ عَنْ عِلَّةِ ضَرْبِ زَوْجَتِهِ، سَبُّ السَّلَاطِينِ، تَرْكُ الدُّعَاءِ بِصَلَاحِهِمْ فَإِنَّ صَلَاحَهُمْ صَلَاحٌ لِلْعَالَمِ، سَبُّ الدَّهْرِ، سَبُّ الْحُمَّى، اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ، السُّكْنَى فِي الْقُرَى الْبَعِيدَةِ عَنْ النَّاسِ، التَّسْلِيمُ بِإِشَارَةِ الْكُفُوفِ وَالْحَوَاجِبِ، إشْغَالُ الْقَلْبِ بِالدُّنْيَا، شَمُّ الطَّعَامِ، صُحْبَةُ الْأَشْرَارِ، إطْعَامُ غَيْرِ تَقِيٍّ، مُصَاحَبَةُ مَنْ لَا يَرَى لَك فَضْلًا كَمِثْلِ مَا تَرَى لَهُ، صَوْمُ الْمَرْأَةِ بِلَا إذْنِ زَوْجِهَا، إطْعَامُ الْمَسَاكِينِ مِمَّا لَا يَأْكُلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إلَّا الطَّيِّبَ، إظْهَارُ الشَّمَاتَةِ لِأَحَدٍ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُعَافِيهِ وَيَبْتَلِي الْمُظْهِرَ، غِبْطَةُ نِعْمَةِ الْفَاجِرِ، قَصٌّ لِغَيْرِ عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ، إكْرَاهُ الْمَرْضَى عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، التَّكَلُّفُ لِطَعَامِ الضَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ دَاعٍ إلَى الْإِعْرَاضِ بَلْ إحْضَارُ مَا سَهُلَ، الْمُمَازَحَةُ بِمَا يَتَأَذَّى مِنْهُ، مَنْعُ الرَّعْيِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ، الصَّلَاةُ عِنْدَ حُضُورِ الطَّعَامِ هَذَا كُلُّهُ مَضْمُونُ أَحَادِيثَ مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ مِنْهُ أَيْضًا أَكْلُ طَعَامِ السُّوقِ، مُجَالَسَةُ مِكْثَارِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ سَارِقُ الْعُمْرِ، النَّظَرُ إلَى الْمَصْلُوبِ، قِرَاءَةُ أَلْوَاحِ الْقُبُورِ، الْمُرُورُ بَيْنَ قِطَارِ الْجِمَالِ، إلْقَاءُ الْقَمْلِ حَيًّا، الْحِجَامَةُ عَلَى نَقْرَةِ الْقَفَا

الْمُوَاصَلَةُ بِالسُّلْطَانِ وَأَوْلِيَائِهِ، كَثْرَةُ الْخُرُوجِ إلَى الْأَسْوَاقِ، الضَّحِكُ بَيْنَ الْعَامَّةِ، التَّكَلُّمُ مَعَ الْمُرَاهِقِينَ، الشُّرْبُ مِنْ أَيْدِي السَّقَّائِينَ، الْقُعُودُ عَلَى الْحَوَانِيتِ، كَثْرَةُ الْكَلَامِ مَعَ زَوْجَتِهِ فِي الْفِرَاشِ، الْجَمْعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، اسْتِخْفَافُ النَّاسِ وَكَثْرَةُ مُعَاشَرَتِهِمْ، الْعَجَلَةُ فِي الْأُمُورِ، النِّدَاءُ مِنْ خَلْفِ أَحَدٍ، الِاطْمِئْنَانُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا، مُجَالَسَةُ أَهْلِ الْهَوَى بِلَا قَصْدِ إرْشَادٍ، إظْهَارُ أَسْرَارِ النَّاسِ، إظْهَارُ الِافْتِقَارِ إلَى النَّاسِ، الِالْتِفَاتُ يَمِينًا وَشِمَالًا عِنْدَ الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، تَحْقِيرُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْعِظَةِ وَالنُّصْحِ هَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ نَصَائِحِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْإِمَامِ الثَّانِي إلَّا قَلِيلًا. (هَذَا) أَيْ مِنْ أَوَّلِ بَحْثِ التَّقْوَى إلَى هُنَا (تَمَامُ الْقَوْلِ) مِنَّا (فِي التَّقْوَى) بِالْمَعْنَى الْوَسَطِيِّ (فَعَلَيْك) أَيُّهَا السَّالِكُ (بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ) أَعْنِي (تَصْحِيحَ الِاعْتِقَادِ، وَعِلْمَ الْحَالِ وَالتَّقْوَى، فَإِنَّهَا) هَذِهِ الثَّلَاثَةُ (جَامِعَةٌ) لِكُلِّ مَا لَزِمَ عَلَى السَّالِكِ (وَكَافِيَةٌ فِي النَّجَاةِ) تَفَضُّلًا أَوْ عَادِيًا (مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ وَغَضَبِهِ وَسُخْطِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْقَبْرِ وَمَا بَعْدَهُ و) كَافِيَةٌ (فِي الْفَوْزِ بِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَدُخُولِ جَنَّتِهِ وَغَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الطَّاعَاتِ إنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِ) عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (بَعْدَهَا) بَعْدَ وُجُودِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ (وَ) يُعْتَدُّ (فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فَقَطْ) دُونَ النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ (ثُمَّ إنَّ تَصْحِيحَ الِاعْتِقَادِ دَاخِلٌ فِي عِلْمِ الْحَالِ كَمَا بَيَّنَّا فِي فَصْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ) أَيْ عِلْمُ الْحَالِ (دَاخِلٌ فِي التَّقْوَى؛ لِأَنَّهُ) أَيْ عِلْمَ الْحَالِ (فَرْضُ عَيْنٍ فَتَرْكُهُ حَرَامٌ تَجِبُ الصِّيَانَةُ عَنْهُ فِي تَحْقِيقِ التَّقْوَى) لَا يَخْفَى أَنَّ وُجُوبَ تِلْكَ الصِّيَانَةِ فِي الْفَتْوَى لَا التَّقْوَى فَتَدَبَّرْ. (فَآلَ الْأَمْرُ) أَيْ رَجَعَ (إلَى التَّقْوَى وَحْدَهَا فَهِيَ الْكَافِيَةُ الْوَافِيَةُ بِلَا انْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهَا) كَيْفَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِيَّاتِ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْهَا (فَلِذَا كَثُرَ جِدًّا الْأَمْرُ وَالْوَصِيَّةُ بِهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ) كَمَا سَبَقَ بَعْضُهَا مَتْنًا وَشَرْحًا (وَسُنَّ ذِكْرُهَا مَرَّتَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ عِنْدَنَا) يَلْزَمُ الْإِسَاءَةُ مِنْ تَرْكِهَا (وَفَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ) فَالْمُتَوَرِّعُ لَا يَتْرُكُهُمَا كَمُعَامَلَةِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الِاتِّفَاقِ (وَكَانَ) لِلِاسْتِمْرَارِ (اهْتِمَامُ السَّلَفِ وَاجْتِهَادُهُمْ فِيهَا خُصُوصًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ) دَمًا أَوْ مَالًا أَوْ عِرْضًا؛ لِأَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ (وَالْبَهَائِمِ) وَطْئًا أَوْ قَتْلًا أَوْ ضَرْبًا بِلَا عُذْرٍ أَوْ ضَرْبَ وَجْهٍ مُطْلَقًا وَالرُّكُوبَ وَالْحَمْلَ فَوْقَ الطَّاقَةِ وَعَدَمَ إعْطَاءِ عَلَفِهَا وَمَائِهَا وَمِنْ جُمْلَةِ اهْتِمَامِ السَّلَفِ مَا رُوِيَ (عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى عَمَّانَ) بَلَدٌ فِي دِيَارِ الْيَمَنِ أَوْ فِي دِيَارِ الشَّامِ الْأَوَّلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالثَّانِي بِفَتْحِهَا (فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ إذْ سَقَطَ سَوْطُهُ فَنَزَلَ عَنْ الدَّابَّةِ فَرَبَطَهَا) فِي مَوْضِعِهَا (وَذَهَبَ رَاجِلًا) إلَى مَكَانِ السَّوْطِ (وَأَخَذَ السَّوْطَ

فَرَجَعَ فَقِيلَ لَهُ لَوْ حَوَّلَتْ رَأْسَ دَابَّتِكَ) مَا يَلْزَمُ شَيْءٌ (فَقَالَ) إبْرَاهِيمُ (إنَّمَا اسْتَأْجَرْتُهَا لِأَذْهَبَ وَلَمْ اسْتَأْجِرْهَا لِأَرْجِعَ) وَمِثْلُ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُرَخَّصًا فِي الْعَادَةِ وَجَائِزًا فِي الْفَتْوَى لَكِنْ لِكَمَالِ وَرَعِهِ وَاهْتِمَامِهِ احْتَاطَ وَنَزَلَ فَهَذَا عَمَلٌ بِالتَّقْوَى. (وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ) لَعَلَّهُ مِنْ التَّابِعِينَ (وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ كَانَ فِي الشَّامِ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ فَانْكَسَرَ قَلَمُهُ فَاسْتَعَارَ قَلَمًا فَلَمَّا فَرَغَ نَسِيَ الْقَلَمَ وَجَعَلَهُ فِي مِقْلَمَتِهِ فَلَمَّا رَجَعَ إلَى مَرْوَ رَأَى الْقَلَمَ وَعَرَفَ (أَنَّهُ عَارِيَّةٌ) فَتَجَهَّزَ بِالْخُرُوجِ إلَى الشَّامِ لِيَرُدَّ الْقَلَمَ) مَعَ خِفَّةِ ثَمَنِهِ وَقِلَّةِ أَمْرِهِ تَحَرُّزًا عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ وَاحْتِيَاطًا فِي أَمْرِ دِينِهِ عَنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الشَّامِ وَمَرْوَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ وَعَدَمُ إرْسَالِهِ بِالْغَيْرِ إمَّا لِعَدَمِ وُجُودِهِ أَوْ لِعَدَمِ وَثَاقَتِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ فَتَجَهَّزَ إمَّا كِنَايَةٌ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْمُسَافَرَةِ أَوْ التَّأَخُّرِ عَنْ الْخُرُوجِ لِمَانِعٍ. ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُمَثِّلَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْبَهَائِمِ فَقَالَ (وَعَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ اشْتَرَى بِهَمَذَانَ حَبَّ الْقُرْطُمِ) ثَمَرُ شَجَرِ الْعُصْفُرِ (فَفَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَحَمَلَهُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعَ إلَى بِسْطَامٍ رَأَى فِيهِ نَمْلَتَيْنِ فَرَجَعَ) مِنْ بِسْطَامٍ (إلَى هَمَذَانَ) لِأَجْلِ النَّمْلَتَيْنِ مَرْحَمَةً لَهُمَا وَشَفَقَةً بِهِمَا وَخَوْفًا مِنْ احْتِمَالِ ظُلْمِهِمَا بِتَفْرِيقِهِمَا مِنْ رُفَقَائِهِمَا وَمَكَانِهِمَا وَبَيْنَ هَمَذَانَ وَبِسْطَامَ مُدَّةُ أُسْبُوعٍ (وَوَضَعَ النَّمْلَتَيْنِ) مَكَانَهُمَا. (وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ غَسَلَ ثَوْبَهُ فِي الصَّحْرَاءِ مَعَ صَاحِبٍ لَهُ فَقَالَ صَاحِبُهُ نُعَلِّقُ الثِّيَابَ مِنْ جُدَرَانِ الْكُرُومِ) أَشْجَارُ الْعِنَبِ (فَقَالَ لَا نَغْرِزُ الْوَتَدَ فِي جِدَارِ النَّاسِ فَقَالَ) الصَّاحِبُ (نُعَلِّقُهُ مِنْ الشَّجَرِ فَقَالَ) الشَّيْخُ (لَا) نَفْعَلُ (لِأَنَّهُ يَكْسِرُ الْأَغْصَانَ) فَيَتَضَرَّرُ صَاحِبُهَا (فَقَالَ نَبْسُطُهُ عَلَى الْإِذْخِرِ) نَبْتٌ مَعْرُوفٌ (فَقَالَ لَا؛ لِأَنَّهُ عَلَفُ الدَّوَابِّ لَا نَسْتُرُهُ عَنْهَا) عَنْ الدَّوَابِّ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَيْنَا حَقُّهَا (فَوَلَّى) الشَّيْخُ (ظَهْرَهُ إلَى الشَّمْسِ حَتَّى جَفَّ جَانِبُهُ) الَّذِي يَلِيهَا (ثُمَّ قَلَبَهُ حَتَّى جَفَّ الْجَانِبُ الْآخَرُ) فَجَعَلَ نَفْسَهُ وِقَايَةً بَيْنَ حَقِّ الْآدَمِيِّ وَحَقِّ الْبَهِيمَةِ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ التَّوَرُّعِ وَلِزِيَادَةِ اهْتِمَامٍ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ وَالْحَيَوَانِ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْلِسُ فِي ظِلِّ شَجَرَةِ غَرِيمِهِ) أَيْ مَدْيُونِهِ لِئَلَّا يَنْتَفِعَ مِنْهُ (وَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا» إلَى الْمُقْرِضِ «فَهُوَ رِبًا» ، فَإِنَّ الِاسْتِظْلَالَ مِنْ قَبِيلِ جَرِّ النَّفْعِ. لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ رِبًا عِنْدَ كَوْنِ النَّفْعِ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ فِي الْفَتْوَى فَاحْتِرَازُهُ عَنْهُ بِلَا اشْتِرَاطِ طَرِيقِ التَّقْوَى وَالْحَدِيثُ بِلَفْظِ «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا» فِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ شَارِحُهُ عَنْ السَّخَاوِيِّ إنَّ إسْنَادَهُ سَاقِطٌ، وَعَنْ الذَّهَبِيِّ مَتْرُوكٌ لَكِنْ قِيلَ إنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنْ اعْتَضَدَ بِمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً

الباب الثالث خاتمة أبواب الكتاب في أمور يظن أنها من التقوى والورع

وَلِذَا عَمِلَ بِهِ إمَامُنَا وَعُلَمَاؤُنَا انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا رَوَى الِاتِّفَاقَ عَنْهُمْ حُجَّةٌ مُطْلَقًا وَأَنَّ الْخَبَرَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ إنْ فِي احْتِيَاطِ عَمَلٍ كَمَا فِي بَابِ الْفَضَائِلِ مُطْلَقًا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَدُقُّ بَابَ دَارِ غَرِيمِهِ فَيَرْجِعُ الْقَهْقَرَى إلَى الشَّمْسِ وَلَا يَمْكُثُ فِي ظِلِّهِ وَيَقُولُ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا» وَرُوِيَ أَنَّهُ بَيْنَمَا يَمُرُّ فِي السُّوقِ أَصَابَ مِنْ قَدِمَهُ أَذًى إلَى جِدَارِ كَافِرٍ فَتَفَكَّرَ فِي إزَالَتِهِ فَلَمْ يَجِدْ وَجْهًا مَعْقُولًا لَهَا بِلَا ضَرَرٍ فَدَقَّ الْبَابَ فَخَرَجَ صَاحِبُهُ فَقَالَ صَدَرَ مِنِّي ذَلِكَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ طَرِيقِ خَلَاصِهِ وَتَطْهِيرِهِ فَهَدَاهُ اللَّهُ لَهُ فَأَسْلَمَ وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ وُضُوئِهِ مِنْ نَهْرٍ أَخَذَ تُفَّاحَةً مِنْ النَّهْرِ فَلَمَّا أَكَلَ نِصْفَهَا بِلَا رَوِيَّةٍ خَطَرَ لَهُ أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَيْرِ فَتَفَحَّصَ عَنْ صَاحِبِهَا فَاسْتَحَلَّهُ فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ، فَامْتَنَعَ مِنْ الْحِلِّ امْتِحَانًا، فَقَالَ أُعْطِي قِيمَتَهَا، فَامْتَنَعَ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ لِي بِنْتًا مَفْلُوجَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَمْيَاءَ الْعَيْنَيْنِ صَمَّاءَ الْأُذُنَيْنِ سَاكِنَةً فِي بِئْرٍ أَبَدًا فَقَالَ الصَّاحِبُ اقْبَلْهَا وَأَنَا أُحِلُّ التُّفَّاحَةَ فَتَزَوَّجَ هَذِهِ، فَإِذَا هِيَ تَامَّةُ الْأَعْضَاءِ فَسُئِلَ مِنْهَا قَالَتْ يُرِيدُ أَبِي كَأَنَّهُ لَا يَصْدُرُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ عِصْيَانٌ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْبَيْتِ أَصْلًا، ثُمَّ وُلِدَ الْإِمَامُ فَأَرْسَلَ إلَى الْمُعَلِّمِ عِنْدَ بُلُوغِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ فَبَشَّرَ أَبَاهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ بِأَنَّهُ قَرَأَ نِصْفَ الْقُرْآنِ فَقَالَ لَوْ لَمْ يَكُنْ نِصْفُ تِلْكَ التُّفَّاحَةِ لَخَتَمَ ابْنِي فِي هَذَا الْيَوْمِ الْوَاحِدِ (وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَوْضِعٍ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ مَكْتُوبًا) مَفْعُولًا ثَانٍ (لِيُوَصِّلَهُ إلَى رَجُلٍ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَقَالَ سَوْفَ أَسْتَأْذِنُ الْمُكَارِيَ، فَإِنْ أَذِنَ أَحْمِلُهُ) هَذَا مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ (فَانْظُرْ) وَتَأَمَّلْ وَاعْتَبِرْ أَيُّهَا السَّالِكُ (إلَى دِقَّةِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ) فِي الدِّينِ وَاهْتِمَامِهِمْ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْ الْآثَامِ (وَمُسَاهَلَةِ أَكْثَرِ مَشَايِخِ هَذَا الزَّمَانِ) الْأَظْهَرُ مُتَشَيِّخِي هَذَا الزَّمَانِ (حَتَّى لَا تَغْتَرَّ بِزِيِّهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ) . قَالَ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ، ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ انْقَرَضَ أَكْثَرُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ فِي زَمَانِنَا هَذَا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إلَّا أَثَرُهُمْ، أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ حَصَلَتْ الْفَتْرَةُ فِي الطَّرِيقِ لَا بَلْ انْدَرَسَتْ الطَّرِيقَةُ فِي الْحَقِيقَةِ. مَضَى الشُّيُوخُ الَّذِينَ لَهُمْ اهْتِدَاءٌ وَقَلَّ الشَّبَابُ الَّذِينَ لَهُمْ بِسِيرَتِهِمْ وَبِسُنَّتِهِمْ اقْتِدَاءٌ. زَالَ الْوَرَعُ وَطَوَى بِسَاطَهُ وَاشْتَدَّ الطَّمَعُ وَقَوِيَ رِبَاطُهُ وَارْتَحَلَ عَنْ الْقُلُوبِ حُرْمَةُ الشَّرِيعَةِ فَعَدُّوا قِلَّةَ الْمُبَالَاةِ بِالدِّينِ أَوْثَقَ ذَرِيعَةٍ إلَى آخِرِ مَا قَالَ، وَقَالَ فِي الْفَوَائِحِ فِي ذَمِّ مَشَايِخِ الزَّمَانِ إنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى حُبِّ الْجَاهِ وَكَثْرَةِ الْمُرِيدِينَ فَلَا وَاَللَّهِ بَلْ سُنَّةُ اللَّهِ أَنْ تَظْهَرَ آثَارُ الشَّقَاوَةِ عَلَى مُرِيدِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَعَلَيْهِمْ وَعَلَى مُرِيدِهِمْ فِي الْآخِرَةِ [الْبَابُ الثَّالِثُ خَاتِمَةُ أَبْوَابِ الْكِتَابِ فِي أُمُورٍ يُظَنُّ أَنَّهَا مِنْ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الدِّقَّة فِي أَمَرَ الطَّهَارَة وَالنَّجَاسَة] [النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الدِّقَّةُ فِي الطَّهَارَة وَالنَّجَاسَة أَنَّهَا بِدْعَة لَمْ تصدر عَنْ النَّبِيّ وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ صِنْفَانِ] (الْبَابُ الثَّالِثُ) خَاتِمَةُ أَبْوَابِ الْكِتَابِ (فِي أُمُورٍ يُظَنُّ أَنَّهَا مِنْ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ بِسَبَبِ نَوْعِ مُنَاسَبَةٍ وَمُشَابَهَةٍ لَهَا وَإِكْبَابِ بَعْضِ) إصْرَارِ (الزُّهَّادِ فِي زَمَانِنَا عَلَيْهَا وَلَيْسَتْ مِنْهُمَا) مِنْ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ (فِي شَيْءٍ بَلْ هِيَ) أَيْ تِلْكَ الْأُمُورُ (بِدَعٌ حَدَثَتْ بَعْدَ) انْقِرَاضِ (الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَمَعْدُودَةٌ مِنْ الْوَسْوَسَةِ وَالْوَرَعِ الْبَارِدِ) الَّذِي يُعَزَّرُ فَاعِلُهُ (وَتِلْكَ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّ أَعْظَمَهَا ثَلَاثَةٌ نُبَيِّنُ كُلًّا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) فِي الدِّقَّةِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: اعْلَمْ

الصنف الأول فيما ورد عن النبي في أمر الطهارة من الأخبار والآثار

أَنَّ مُرَادَنَا بِالدِّقَّةِ فِيهِمَا) فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ (كَثْرَةُ صَبِّ الْمَاءِ) وَالْمُبَالَغَةُ فِي صَبِّهِ (وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ) الْمَشْرُوعِ (فِي عَدَدِ الْغَسْلِ) كَأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ (وَالْعَصْرِ) فِيمَا يَطْهُرُ بِالْعَصْرِ كَالتَّثْلِيثِ (فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ) النَّجَاسَاتِ الْحُكْمِيَّةِ (وَالْأَخْبَاثِ) النَّجَاسَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ مُغَلَّظَةً أَوْ مُخَفَّفَةً (وَغَسْلِ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ) بِمُجَرَّدِ وَهْمِ النَّجَاسَةِ وَالْوَسْوَسَةِ بِلَا عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ بِخِلَافِ غَسْلِ الطَّاهِرِ لِلْوَسَخِ وَالدَّنَسِ وَالنَّظَافَةِ (وَعَدِّ الْمَاءِ الطَّاهِرِ) فِي نَفْسِهِ إمَّا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فِي الْأَشْيَاءِ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ طَهَارَتَهُ يَقِينًا وَيُوهِمُ طُرُوُّ النَّجَاسَةِ بِلَا دَلِيلٍ (نَجِسًا) بِكَسْرِ الْجِيمِ فَإِنَّهُ بِالْكَسْرِ الشَّيْءُ الَّذِي يَتَنَجَّسُ وَبِالْفَتْحِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ (وَ) أَيْضًا (الِاحْتِرَازُ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ) أَيْ الْمَاءِ الطَّاهِرِ فِي شَيْءٍ مَا (وَإِصَابَتِهِ) لِشَيْءٍ كَبَدَنِهِ وَثَوْبِهِ (بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ) وَالْوَسْوَسَةِ بِلَا ظَنٍّ بِدَلِيلٍ وَقَرِينَةٍ اعْلَمْ أَنَّ الْوَهْمَ رُجْحَانُ جِهَةِ الْخَطَأِ، وَالظَّنُّ رُجْحَانُ جِهَةِ الصَّوَابِ، وَالشَّكُّ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ. وَأَمَّا أَكْبَرُ الرَّأْيِ، وَغَالِبُ الظَّنِّ فَهُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ إذَا أَخَذَ بِهِ الْقَلْبُ، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالظَّنُّ مِنْ قَبِيلِ الشَّكِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ (وَتَرْكُ بَعْضِ الْمُهِمَّاتِ الدِّينِيَّةِ) وُجُوبًا أَوْ نَدَبًا (بِسَبَبِ الِاشْتِغَالِ بِهَا) بِالْوَسَاوِسِ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِهِمَا وَفَسَّرَ بِأَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ (كَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ) فِي عَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ وَغَرَائِبِ مُكَوِّنَاتِهِ وَآلَائِهِ تَعَالَى تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ وَقَدْ سَبَقَ التَّفْصِيلُ فَمَنْ فَسَّرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي آلَائِهِ لَمْ يُصِبْ (وَالتَّذْكِيرِ) وَالْعِظَةِ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُوَسِّعَ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّدْرِيسِ (بَلْ الْجَمَاعَةُ) وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ (وَالصَّلَاةُ) رَاتِبَةً أَوْ نَفْلًا كَالضُّحَى وَالتَّهَجُّدِ (وَفِعْلُ بَعْضِ الْمَكْرُوهَاتِ) بَلْ الْمَنْهِيَّاتِ (كَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ) كَمَا فِي الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لِاشْتِغَالِهِ بِالتَّطَهُّرِ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ يَمْضِي الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ (وَتَعْيِينِ إنَاءٍ لِلْوُضُوءِ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ إنَاءِ غَيْرِهِ، وَلَا غَيْرُهُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْغَيْرَ عَنْ إنَائِهِ وَهُمَا مِنْ التَّجْنِيسِ (وَ) تَعْيِينِ (سَجَّادَةٍ لَا يُصَلِّي عَلَى غَيْرِهَا، وَلَا غَيْرُهُ عَلَيْهَا) مَعَ أَنَّهُمَا مَكْرُوهَانِ فِي الشَّرْعِ يَظُنُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا مَعَ أَنَّهُ وَرَعٌ بَارِدٌ. [الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِيمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ] (وَالسُّؤَالُ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَالْإِنَاءِ وَالْمَكَانِ وَالْبِسَاطِ وَاللِّبَاسِ بِلَا أَمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ) دَالَّةٍ (عَلَى نَجَاسَتِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ) مِمَّا لَا يَلْزَمُ فِيهِ التَّعَمُّقُ وَالتَّوَغُّلُ مِثْلُ السُّؤَالِ عَنْ حِلِّ الطَّعَامِ وَحُرْمَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِمَا (فَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي كَوْنِ الدِّقَّةِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالتَّفْتِيشِ وَالتَّعَمُّقِ فِيهِ بِدْعَةً) الظَّاهِرُ فِي الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّهَا (لَمْ تَصْدُرْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ) مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَقَدْ عَرَفْت فِيمَا قَبْلَ هَذَا مَعْنَى السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي عُرْفِهِمْ فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَا ذُكِرَ خَارِجٌ عَنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَفْهُومُ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حُجَّةٌ قُلْنَا: إنْ بِاتِّفَاقِهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَدَاخِلٌ فِي الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ بِاخْتِلَافٍ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ الْخِلَافُ فَقَدْ يَصْلُحُ حُجَّةً، وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأُصُولِ فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ فِي بَحْثِ السُّنَّةِ وَقَدْ قَرَّرَ أَيْضًا فِي عِلْمِ الْمِيزَانِ أَنَّ الْمُطَالِبَ الظَّنِّيَّةَ قَدْ تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالْعُلَمَاءِ وَسَائِرِ مَنْ يَحْسُنُ الظَّنُّ بِهِ (وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى سَعَةٍ وَرُخْصَةٍ وَفَتْوَى بِهِمَا) الْأَوْلَى بِهَا؛ إذْ الرُّخْصَةُ بِمَعْنَى السَّعَةِ (فِيهِ) أَيْ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى الرُّخْصَةِ وَالْفَتْوَى لَا الْعَزِيمَةِ وَالتَّقْوَى فَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ صُدُورُ الرُّخْصَةِ مِنْهُمْ لَيْسَ إلَّا أَحْيَانًا أَوْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَإِلَّا فَالْعَمَلُ بِالْأَوْلَى وَالِاحْتِيَاطِ لَيْسَ إلَّا طَرِيقُ الْوَرَعِ فَإِنْ قِيلَ عَنْ حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُفْعَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ

رُخْصَةَ رَبِّهِ» وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ هُوَ الِاسْتِمْرَارُ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنْ قَالَ شَارِحُهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ سِيَّمَا الْعَالِمُ يُقْتَدَى بِهِ وَتَرْكُ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَسَنٍ لِإِفْضَائِهِ إلَى الضَّرَرِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ «إنَّ اللَّه يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» إذْ الْكُلُّ فِي مَحَلِّهِ؛ إذْ الْوُضُوءُ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ التَّيَمُّمِ فِي مَحَلِّهِ، وَلَا الْإِتْمَامُ أَوْلَى مِنْ الْقَصْرِ فَيُطْلَبُ فِعْلُ الرُّخَصِ فِي مَوَاضِعِهَا وَالْعَزَائِمِ كَذَلِكَ فَإِنْ تَعَارَضَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ رَاعَى الْأَفْضَلَ كَذَا فِي الْفَيْضِ أَيْضًا (بَلْ) كَانُوا (عَلَى مَنْعِ التَّوَغُّلِ فِيهِ) فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ (وَهُوَ) أَيْ النَّوْعُ الْأَوَّلُ (صِنْفَانِ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِيمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصِّنْفَ الْأَوَّلَ فِي إثْبَاتِ التَّحْقِيقِيِّ بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ لِكَوْنِ الدِّقَّةِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ مَذْمُومَةً، وَالثَّانِي فِي الْإِثْبَاتِ التَّقْلِيدِيِّ لَهُ بِفَتْوَى مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي (وَخَيْرُ الْقُرُونِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ (د عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الْخُدْرِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «بَيْنَا» أَيْ بَيْنَ وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ فِي نَعْلَيْهِ؛ إذْ خَلَعَهُمَا» مِنْ رِجْلَيْهِ «فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ» قِيلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَلْعِ بِعَمَلٍ يَسِيرٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلصَّلَاةِ أَوْ عَلَى كَوْنِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلصَّلَاةِ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ «فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى خَلْعِ نِعَالِكُمْ» لَعَلَّ أَنَّهُ يَعْلَمُ وَجْهَ الْخَلْعِ لَكِنَّهُ سَأَلَ تَمْهِيدًا لِمَنْ يُجِيبُهُ «قَالُوا رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا» ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّبَعِيَّةِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَأَمَّا احْتِمَالُ الْخَوَاصِّ وَالزَّلَّةِ فَبَعِيدٌ وَخِلَافُ سِيرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِنَّمَا لَمْ يَحْمِلُوا عَلَى إصَابَةِ النَّجَسِ لِعِلْمِهِمْ اهْتِمَامَهُ فِي الِاحْتِرَازِ عَنْ مِثْلِهِ وَسِيَّمَا عِنْدَ تَتَالِي نَسْخِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا وُقُوعُ هَذَا الْقَدْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِحِكْمَةٍ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى، وَمَصْلَحَةِ إعْلَامِ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ لِلْأُمَّةِ ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ جَبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا» بِفَتْحِ الذَّالِ مَصْدَرٌ وَبِكَسْرِهَا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ ضِدُّ الطَّاهِرِ أَوْ الطَّهَارَةِ «وَقَالَ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ» مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ أَوْ بِمَعْنًى لُغَوِيٍّ يَعْنِي مَحَلَّ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا أَوْ عُمُومَ مَجَازٍ «فَلْيَنْظُرْ» بِعَيْنِهِ «فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ» فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ بِالنَّعْلَيْنِ. وَكَذَا فِي جَمِيعِ مَا يُلْبَسُ بِالرِّجْلِ، وَجْهُ التَّخْصِيصِ لِكَوْنِهِمَا مَظَانَّ الْإِصَابَةِ فَيَكُونُ نَزْعُ غَيْرِهِمَا مُقَايَسَةً «قَذَرًا أَوْ أَذًى» قِيلَ شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي فَفِيهِ نَظَرٌ فَمِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ «فَلْيَمْسَحْهُ» إنْ مِنْ قَبِيلِ مَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ «وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ «خَبَثًا» بَدَلَ قَذَرًا (فِي الْمَوْضِعَيْنِ) نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ هُنَا فَيَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الْبَعْضِ مَعَ النَّجَاسَةِ بِلَا عِلْمٍ إذَا لَمْ يُؤَدِّ مَعَهَا رُكْنٌ، وَالْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ الْحَدِيثِ قَدْرُ عَدَمِ أَدَاءِ رُكْنٍ، وَكَوْنُ النَّجَاسَةِ قَدْرَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ بَلْ مَفْهُومِيَّةُ الْبِنَاءِ بِلَا اسْتِئْنَافٍ لَيْسَ بِمَفْهُومٍ صَرِيحًا إلَّا أَنْ يُدَّعَى مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى الدَّلَالَةَ عَلَى الْبِنَاءِ، وَيُدَّعَى أَنَّ الْبِنَاءَ مَعَ النَّجَاسَةِ يَقْتَضِي عَدَمَ قَدْرِ أَدَاءِ رُكْنٍ وَيُدَّعَى أَيْضًا أَنَّ خَبَرَ جَبْرَائِيلَ يَقْتَضِي كَوْنَ النَّجَاسَةِ قَدْرَ مَنْعِ الصَّلَاةِ

(د عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ بِنَعْلَيْهِ الْأَذَى» أَيْ النَّجَسَ «فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ» مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ دَلِيلِ التَّالِي مَوْقِعَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلْيَمْسَحْهُ بِالتُّرَابِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ آنِفًا؛ إذْ بَعْضُ الْحَدِيثِ كَالْآيَةِ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَلَا حَاجَةَ إلَى غَسْلِهِ إنْ عَيْنُهُ مَرْئِيَّةً، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الَّتِي لَهَا عَيْنٌ مَرْئِيَّةٌ إذَا أَصَابَتْ النَّعْلَ فَطَهَارَتُهَا زَوَالُ عَيْنِهَا إذَا كَانَتْ يَابِسَةً بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ رَطْبَةً فَكَذَا فِي الْمُخْتَارِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْمَسْحِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَإِلَّا مِثْلَ الْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَطَهَارَتُهَا بِالْغَسْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْعَصْرِ كَذَلِكَ فِيمَا يُمْكِنُ الْعَصْرُ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَكِنْ إذَا نَثَرَ عَلَيْهَا التُّرَابَ قَبْلَ الْجَفَافِ حَتَّى صَارَتْ مُتَجَسِّدَةً يَكْفِيهَا زَوَالُ الْعَيْنِ أَيْضًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَذَا فِي الْخُفِّ، وَالثَّوْبُ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ كَذَا فِي الْخَانِيَّةِ وَكَذَا إذَا نَتَرَ بَعْدَ الِابْتِلَالِ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ كَمَا فِي الْمُحَشِّي. وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَطْهُرُ الْخُفُّ مِنْ غَيْرِ الْمَنِيِّ الْجَافِّ إلَّا بِالْغَسْلِ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي لَهَا جُرْمٌ هَذَا ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ بِمَا ذُكِرَ لَا يَكُونُ بِالرَّأْيِ بَلْ بِالنَّصِّ أَيْضًا، وَظَاهِرٌ أَنَّ فُقَهَاءَنَا وَقَفُوا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ فِي الِاحْتِجَاجِ بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ خَفَاءٌ وَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالْغَسْلِ بَلْ اكْتَفَى بِالتُّرَابِ فَمَنْ تَكَلَّفَ بِالْغَسْلِ فَقَدْ ابْتَدَعَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مُضَايَقَةِ الْمَاءِ أَوْ مُضَايَقَةِ الْوَقْتِ أَقُولُ: لَعَلَّ الْحَدِيثَ هُوَ بَيَانُ الرُّخْصَةِ وَأَصْلُ الْجَوَازِ، وَلَا يَمْنَعُ الْغَسْلَ بَلْ أَوْ أَوْلَوِيَّتُهُ وَأَحْوَطِيَّتُهُ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخْتَارٌ فِي التَّطْهِيرِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُطَهِّرَاتِ (خ م عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ قَالَ نَعَمْ» فِي كَوْنِ الْحَدِيثِ مِنْ الرُّخَصِ الْمَطْلُوبَةِ خَفَاءٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَ مَنْ يَدَّعِي التَّوَرُّعَ لَا يُصَلِّي بِالنَّعْلِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ أَنَّ النَّعْلَ رُبَّمَا يَمُرُّ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ وَالْعَذِرَةِ وَلَا يَخْلُو عَنْ تَشَرُّبِ النَّجَاسَةِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى مَعَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَالصَّفِيُّ يُحْتَرَز عَنْهُ (د عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خَالِفُوا الْيَهُودَ» . وَفِي رِوَايَةٍ «وَالنَّصَارَى» أَيْ وَصَلُّوا فِي نِعَالِكُمْ وَخِفَافِكُمْ «فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي خِفَافِهِمْ» فَصَلُّوا أَنْتُمْ فِيهَا إذَا كَانَتْ طَاهِرَةً غَيْرَ مُتَنَجِّسَةٍ وَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ بَعْضُ السَّلَفِ قَالَ مَنْ تَنَجَّسَ نَعْلُهُ إذَا دَلَكَهُ عَلَى الْأَرْضِ طَهُرَ وَجَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ «وَلَا نِعَالِهِمْ» وَكَانَ مِنْ شَرْعِ مُوسَى نَزْعُ النِّعَالِ فِي الصَّلَاةِ - {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12]- وَكَانَ الْمُوجِبُ لِلنَّزْعِ أَنَّهُمَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَالْتَزَمَهُ الْيَهُودُ فَلِهَذَا أُمِرَ بِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ فِيهِ قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَحِكْمَةُ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلَيْنِ مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا تَقَرَّرَ، وَخَشْيَةُ أَنْ يَتَأَذَّى أَحَدٌ بِنَعْلَيْهِ إذَا خَلَعَهُمَا مَعَ مَا فِي لُبْسِهِمَا مِنْ حِفْظِهِمَا مِنْ سَارِقٍ أَوْ دَابَّةٍ تَنَجُّسِ نَعْلِهِ قَالَ: وَقَدْ نَزَعْت نَعْلِي مَرَّةً فَأَخَذَهُ كَلْبٌ فَعَبِثَ بِهِ وَنَجَّسَهُ كُلَّهُ هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ ثُمَّ هِيَ مِنْ الرُّخَصِ كَمَا قَالَ الْقُشَيْرِيُّ لَا مِنْ الْمَنْدُوبِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فَيَكُونُ نَدْبُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَوَرَدَ فِي كَوْنِ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ مِنْ الزِّينَةِ الْمَأْمُورِ بِأَخْذِهَا فِي الْآيَةِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ وَالْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ الْمُحَشِّي: مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ أَمْرٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ لِكَوْنِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمْحَةً سَهْلَةً وَلِذَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ السُّحُورِ وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ وَحِلُّ الرَّفَثِ

لَيْلَةَ الصِّيَامِ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَقُولُ يَشْكُلُ بِقَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ هِيَ أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ثَبَتَ كَوْنُهُ شَرِيعَةً لِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ شَرِيعَةٌ أَبَدًا مَا لَمْ يَظْهَرْ النَّسْخُ وَالْجَوَابُ بِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ نَاسِخٌ يَرُدُّهُ أَنَّ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يَنْسَخُ الشَّرِيعَةَ الثَّابِتَةَ نَعَمْ إنَّ مِثْلَ مَا ذُكِرَ لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ بِكَوْنِهِ شَرِيعَةً لِمُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِجَوَازِ كَوْنِهِ مِنْ تَحْرِيفَاتِهِمْ. (خ م «عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ أُمَّهُ» أَيْ أُمَّ أَنَسٍ أَعْنِي «مُلَيْكَةَ» بِالتَّصْغِيرِ «دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ» أَيْ صَنَعَتْ أُمُّهُ مُلَيْكَةُ ذَلِكَ الطَّعَامَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ كَانَ مِنْ تَوَاضُعِهِ يُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ دَعَاهُ، وَلَوْ إلَى ذِرَاعٍ «فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: قُومُوا فَأُصَلِّيَ بِكُمْ قَالَ أَنَسٌ» - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ» أَيْ فُرِشَ تَحْتَ الْأَقْدَامِ «فَنَضَحْته بِمَاءٍ» أَيْ أَفَضْت عَلَيْهِ مَاءً لِيَذْهَبَ بَعْضُ وَسَخِهِ «فَقَامَ عَلَيْهِ» مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ طَهَارَتِهِ «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَفَفْت أَنَا وَالْيَتِيمُ» قِيلَ اسْمُهُ ضُمَيْرَةُ «وَرَاءَهُ وَالْعَجُوزُ» أَيْ مُلَيْكَةَ إنَّمَا أَظْهَرَ فِي مَوْضِعِ الضَّمِيرِ وَعَبَّرَ بِالْوَصْفِ دُونَ الْعَلَمِ إشَارَةً إلَى أَدَبِ تَرْتِيبِ الصَّفِّ فَافْهَمْ «مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ» مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ. قِيلَ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إنَّمَا تُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ فِي الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي أَمَّا لَوْ اقْتَدَى وَاحِدٌ بِوَاحِدٍ وَاثْنَانِ بِوَاحِدٍ لَا يُكْرَهُ وَإِذَا اقْتَدَى ثَلَاثَةٌ بِوَاحِدٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَإِذَا اقْتَدَى أَرْبَعَةٌ بِوَاحِدٍ يُكْرَهُ اتِّفَاقًا انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ نَوْعِ اضْطِرَابٍ إذْ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ إطْلَاقُ الْجَوَازِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّمَا تُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ إلَى آخِرِهِ جَوَازُ مُطْلَقِ الْجَمَاعَةِ فِي النَّافِلَةِ، وَلَوْ أَرْبَعَةً مَثَلًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّدَاعِي، وَأَيْضًا كَوْنُ ذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ مِنْ الْحَدِيثِ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّفَلَ بِجَمَاعَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي مَكْرُوهٌ مَا عَدَا التَّرَاوِيحَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فَالْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَالْبَرَاءَةِ وَالْقَدْرِ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا مَوْضُوعَةٌ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ كَمَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ، وَالْحِيلَةُ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا بِنَحْوِ النَّذْرِ بِالْجَمَاعَةِ أَيْضًا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ كَمَا فُهِمَ مِنْ الْبَزَّازِيِّ. (حَدّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضَافَهُ الْيَهُودِيُّ» مِنْ الضِّيَافَةِ فَإِنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْيَهُودِيِّ مِنْ كَمَالِ حِسَانِ خُلُقِهِ «بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ» أَيْ دَسَمِ لَحْمٍ فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ لِأَصْلِ الطَّهَارَةِ فَوَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْيَهُودِيِّ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ طَهَارَتِهِ، وَأَنَّ الْإِهَالَةَ مِنْ دَسَمٍ أَيْ حَيَوَانٍ وَهَلْ عَجَنَ الْخُبْزَ بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ كَالْخَمْرِ (وَثَبَتَ) فِي نَحْوِ الصَّحِيحَيْنِ (أَكْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَيْتِ الْيَهُودِيَّةِ) بِلَا سُؤَالٍ عَنْ طَهَارَةِ وَذَكَاةِ الشَّاةِ فَدَلَّ عَلَى السَّعَةِ وَتَرْكِ التَّدْقِيقِ (الَّتِي سَمَّتْهُ) عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ يَهُودِيَّةَ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَشْوِيَّةً ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ الذِّرَاعَ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ رَهْطٌ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ وَأَرْسَلَ إلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا فَقَالَ: سَمَمْت هَذِهِ الشَّاةَ فَقَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَك قَالَ أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ الذِّرَاعُ الَّتِي فِي يَدِي قَالَتْ نَعَمْ قُلْت: إنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ يَضُرَّهُ، وَإِلَّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ فَعَفَا عَنْهَا، وَلَمْ يُعَاقِبْهَا أَوَّلًا فَلَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مِنْ لُقْمَةٍ تَنَاوَلَهَا مِنْهَا أَمَرَ بِقَتْلِهَا فَقُتِلَتْ مَكَانَهُ» وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْمَسْطُورُ قِيلَ: لَا يَخْفَى مَا بَيْنَ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَجَابِرٌ مِنْ الْمُخَالَفَةِ؛ إذْ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ صَرِيحٌ فِي أَكْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَا ذُكِرَ عَنْ جَابِرٍ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ أَكْلَهُ صَرِيحٌ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ وَلَيْت شِعْرِي وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ شَخْصًا بِالسُّمِّ لَا يُقْتَلُ قِصَاصًا إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ النَّسْخِ أَوْ الْخَاصَّةِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

(وَ) ثَبَتَ أَيْضًا «تَوَضُّؤُهُ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (مِنْ مَزَادَةٍ» هِيَ كَالْإِدَاوَةِ إنَاءُ الْمَاءِ «لِمُشْرِكَةٍ» فِي بَيْتِهَا أَيْ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ مَعَ احْتِمَالِ مُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ بِلَا سُؤَالٍ عَنْ طَهَارَتِهَا. (خ م عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -) فِيهِ تَغْلِيبُ الشُّرَافَةِ عَلَى الْعَدَدِ؛ إذْ الصَّحَابِيُّ هُوَ الْجَدُّ، وَالْبَاقُونَ تَابِعُونَ فَحَقُّهُمْ الدُّعَاءُ بِالرَّحْمَةِ (أَنَّهُ قَالَ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثًا ثَلَاثًا» حِينَ سَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ عَنْ الْوُضُوءِ. «وَقَالَ مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ» أَيْ الْأَدَبَ (بِتَرْكِ السُّنَّةِ) فَإِنَّ الِازْدِيَادَ اسْتِنْقَاصٌ لِمَا اسْتَكْمَلَهُ الشَّارِعُ وَأَمَّا مُدَّعِي التَّوَرُّعِ فَيَزِيدُ اعْتِقَادًا لِلتَّوَرُّعِ فِيهِ قِيلَ الْغَسْلَةُ الْأُولَى فَرْضٌ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ إكْمَالُهُ وَقِيلَ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ سُنَّةٌ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ تَقَعُ فَرْضًا كَإِطَالَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالثَّمَرَةُ فِي كَثْرَةِ السُّجُودِ أَنَّ ثَوَابَ الْفَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ السُّنَّةِ قِيلَ: الْمَفْهُومُ مِنْ الْخُلَاصَةِ أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُجْزِئَ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَيَجُوزُ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ ثُمَّ عَنْ الظَّهِيرِيَّةِ: وَلَوْ اكْتَفَى بِالْوَاحِدَةِ قِيلَ: يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ، وَقِيلَ: لَا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ. (خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ وَالْمُدُّ رِطْلَانِ وَالرِّطْلُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا قَالَ فِي الْفَيْضِ وَالصَّاعُ مِكْيَالٌ يَسَعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثَ رِطْلٍ بِرِطْلِ بَغْدَادَ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ وَثَمَانِيَةً عِنْد الْعِرَاقِيِّينَ وَرُبَّمَا زَادَ فِي غُسْلِهِ عَلَى الصَّاعِ، وَرُبَّمَا نَقَصَ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَرِطْلُ بَغْدَادَ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَالنَّوَوِيِّ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعٍ ثُمَّ زَادُوا فِيهِ مِثْقَالًا لِإِرَادَةِ كَسْرِ الْجَبْرِ فَصَارَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ قَالَ: وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ تَقْدِيرِ الْعُلَمَاءِ بِهِ «وَ» كَانَ «يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ» رِطْلٌ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَرُبَّمَا يَتَوَضَّأُ بِثُلُثَيْهِ تَارَةً وَبِأَزْيَدَ مِنْهُ أُخْرَى نَحْوَ أَرْبَعِ أَوَاقٍ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُجْزِئَ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَيُجْزِئُ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَيْثُ وُجِدَ جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَنْقُصَ وَلَا يَزِيدَ عَلَى الصَّاعِ وَالْمُدِّ لِمَنْ بَدَنُهُ كَبَدَنِهِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ أَحْوَالِهِ وَوُقُوعُ غَيْرِهِ لَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَبَدَانِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ أَنْبَلَ وَأَعْظَمَ مِنْ أَبْدَانِ النَّاسِ الْآنَ؛ لِأَنَّ خَلْقَ النَّاسِ لَمْ يَزَلْ فِي نَقْصٍ إلَى الْيَوْمِ، وَعَنْ السُّبْكِيّ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا أُوقِيَّةٌ وَنِصْفٌ ثُمَّ تَوَقَّفَ فِي إمْكَانِ جَرْي الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ بِذَلِكَ كَذَا فِي الْفَيْضِ وَيُقِرُّ بِهِ مَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْعِبْرَةُ بِحَالِ الْمُغْتَسِلِ وَعَلَيْهِ الْقَصْدُ وَهُوَ تَرْكُ الْإِسْرَافِ وَهُوَ مَحَلُّ الِاسْتِشْهَادِ (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا» مِنْ الرِّيحِ «فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ» أَيْ الْأَمْرُ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ «أَخَرَجَ» مِنْهُ شَيْءٌ «أَمْ لَا» وَالْجَوَابُ «فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنْ الْمَسْجِدِ» يَعْنِي لَا يَنْصَرِفُ مِنْ مُصَلَّاهُ إنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ هُوَ خَارِجُ خَارِجٌ عَنْ كَوْنِهِ مُصَلِّيًا مُبَالَغَةً. «حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ وِجْدَانِ الرِّيحِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ حَقِيقَتَهُمَا بَلْ هُمَا كِنَايَتَانِ عَنْ التَّيَقُّنِ بِوُجُودِ الْحَدَثِ قِيلَ: الْحَدِيثُ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ إنَّ الرِّيحَ مِنْ الْقُبُلِ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَدُفِعَ بِعَدَمِ الْعَادَةِ مِنْ الْقُبُلِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا

(وَفِي رِوَايَةِ د) أَبِي دَاوُد (قَالَ «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَدَ حَرَكَةً فِي دُبُرِهِ أَحْدَثَ أَوْ لَمْ يُحْدِثْ» أَيْ شَكَّ فِيهِمَا «فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ» بِعَدَمِ مَا يُرَجِّحُ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ «فَلَا يَنْصَرِفُ» مِنْ الصَّلَاةِ «حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» وَلِذَا قَالُوا الْحَرَكَةُ الَّتِي فِي الدُّبُرِ إذَا لَمْ تَنْبَعِثْ مِنْ الْبَطْنِ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّهَا اخْتِلَاجٌ نَاشِئٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لَكِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ التَّقْيِيدُ بِالصَّلَاةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَعِنْدَ فُقَهَائِنَا الْإِطْلَاقُ فَإِمَّا نَقُولُ لَا عِبْرَةَ بِالْمَفْهُومِ عِنْدَنَا فِي النَّصِّ أَوْ الْقَيْدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِنَحْوِ وَاقِعَةٍ أَوْ سُؤَالٍ أَوْ يُفْهَمُ حُكْمُ الْخَارِجِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي إرَادَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ وَكَذَا قَوْلُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ؛ إذْ هُوَ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْمُصَلَّى لَا يَخْفَى مَا فِي الِاسْتِشْهَادِ مِنْ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ أَمْرِ الطَّهَارَةِ عَلَى السَّعَةِ وَتَرْكِ التَّدْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالشَّكِّ الَّذِي هُوَ فِي طَرِيقِ الْيَقِينِ فَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَهُوَ مُتَطَهِّرٌ كَمَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَهُوَ مُحْدِثٌ لَكِنْ مَا ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ دَخَلَ بَيْتَ الْخَلَاءِ وَجَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَشَكَّ هَلْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ لَا كَانَ مُحْدِثًا وَإِنْ جَلَسَ لِلْوُضُوءِ وَمَعَهُ مَاءٌ ثُمَّ شَكَّ هَلْ تَوَضَّأَ أَوْ لَا كَانَ مُتَوَضِّئًا فَلَعَلَّ الْغَالِبَ فِيهِمَا يَكُونُ قَرِينَةً مُرَجِّحَةً (ط عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَ) إلَى السَّفَرِ (مَعَ رَكْبٍ) أَيْ مَعَ رُكْبَانٍ مِنْ الْإِبِلِ (فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَتَّى وَرَدَا) أَيْ عُمَرُ وَعَمْرٌو (حَوْضًا فَقَالَ عَمْرُو يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَلْ يَرِدُ حَوْضَك السِّبَاعُ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْنَا) لِأَنَّا نَعْمَلُ بِأَصْلِ الطَّهَارَةِ، وَلَا نَلْتَفِتُ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّهُ وَسْوَسَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا فَفِيهِ تَأْدِيبٌ لِعَمْرٍو حَيْثُ سَأَلَ عِنْدَ حُضُورِ الْأَفْضَلِ مِنْهُ بَلْ وَظِيفَتُهُ التَّسْلِيمُ لِلْأَفْضَلِ، وَفِيهِ أَيْضًا رَدٌّ وَتَعْرِيضٌ لَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَنْ نَجَاسَتِهِ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ أَوْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ ثُمَّ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ عُمَرَ إمَّا لِسُكُوتِ بِوَاقِي الصَّحَابَةِ فَيَحِلُّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ أَوْ لَا يُعْلَمُ خِلَافُهُمْ، وَلَا وِفَاقهُمْ فَيَكُونُ حُجَّةً عِنْدَنَا سِيَّمَا عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأُصُولِ (خ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ «كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ» لَا يَغْسِلُونَ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ بَلْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الظَّاهِرِ وَأَصَالَةِ الطَّهَارَةِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ بَوْلِ الْكِلَابِ وَرَوْثِهَا قِيلَ وَمَا فِي نُسْخَةِ إبْرَاهِيمَ النَّسَفِيِّ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْمَانِيُّ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّسْخِ أَوْ عَلَى أَنَّهُمْ يَقْلِبُونَ وَجْهَ الْأَرْضِ (د عَنْ «دَاوُد بْنِ صَالِحٍ عَنْ أُمِّهِ أَنْ مَوْلَاتَهَا» سَيِّدَتَهَا «أَرْسَلَتْهَا بِهَرِيسَةٍ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ» أَيْ الْأَمَةُ «فَوَجَدْتهَا تُصَلِّي» أَيْ عَائِشَةُ «فَأَشَارَتْ إلَيَّ أَنْ أَضَعَهَا» قِيلَ الْإِشَارَةُ لَا تَضُرُّ الْمُصَلِّيَ وَتَمَامُهُ فِي مُنْيَةِ الْمُصَلِّي انْتَهَى فَتَأَمَّلْ فَوَضَعَتْهَا فِيمَا أَشَارَتْ إلَيْهِ «فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَأَكَلَتْ مِنْهَا فَلَمَّا انْصَرَفَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ صَلَاتِهَا أَكَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَكَلَتْ الْهِرَّةُ، وَقَالَتْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ» وَسُؤْرُ كُلِّ شَيْءٍ تَابِعٌ لِلَحْمِهِ وَظَاهِرٌ أَنَّ عَدَمَ التَّنَجُّسِ لَيْسَ إلَّا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِلْحَرَجِ الْمُشَارِ إلَيْهِ لَا فِي حَقِّ الْأَكْلِ «إنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» الطَّائِفُ الْخَادِمُ الَّذِي يَخْدُمُك بِرِفْقٍ وَعِنَايَةٍ، وَالطَّوَافُ مِنْهُ يُجْمَعُ عَلَى طَوَّافِينَ شَبَّهْتهَا بِالْخَادِمِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى مَوْلَاهُ وَيَدُورُ حَوْلَهُ ثُمَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى عِلَّةِ عَدَمِ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ فِي الِاحْتِرَازِ عَمَّا كَثُرَ طَوَافُهُ حَرَجًا؛ إذْ الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ كَالسَّفَرِ وَالْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ. قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: السَّادِسُ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى كَالصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا كَمَا فِي دُونِ رُبْعِ الثَّوْبِ مِنْ الْخَفِيفَةِ وَقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ الْغَلِيظَةِ وَنَجَاسَةِ الْمَعْذُورِ الَّتِي تُصِيبُ ثِيَابَهُ وَكَانَ كُلَّمَا غَسَلَهَا خَرَجَتْ وَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ فِي الثَّوْبِ وَإِنْ كَثُرَ بَوْلٌ تُرُشِّشَ عَلَى الثَّوْبِ قَدْرُ رُءُوسِ الْإِبَرِ وَطِينِ الشَّوَارِعِ وَأَثَرِ نَجَاسَةٍ عَسُرَ زَوَالُهُ ثُمَّ قَالَ وَبَوْلِ سِنَّوْرٍ فِي غَيْرِ أَوَانِي الْمَاءِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ فِي الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَخَرْءِ حَمَامَةٍ وَعُصْفُورٍ وَإِنْ كَثُرَ وَخَرْءِ الطُّيُورِ الْمُحَرَّمَةِ فِي رِوَايَةٍ ثُمَّ قَالَ: وَغُبَارِ السَّرْجِينِ وَقَلِيلِ الدُّخَانِ النَّجَسِ وَالْعَفْوِ عَنْ الرِّيحِ وَالْفُسَاءِ إذَا أَصَابَ السَّرَاوِيلَ الْمُبْتَلَّةَ أَوْ الْمُقْعَدَةَ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ وَالْبَعْرِ إذَا وَقَعَ فِي الْمِحْلَبِ وَرُمِيَ قَبْلَ التَّفَتُّتِ وَمَا يُصِيبُ الثَّوْبَ مِنْ بُخَارَاتِ النَّجَاسَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَمَا يُصِيبُهُ مِمَّا سَالَ مِنْ الْكَنِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ النَّجَاسَةَ، وَتَمَامُهُ فِيهِ «وَإِنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا» أَيْ بِفَضْلِ مَا شَرِبَتْ الْهِرَّةُ اعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي سُؤْرِهَا فَمِنْهُمْ كَالطَّحَاوِيِّ مَالَ إلَى كَوْنِهِ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا نَظَرًا إلَى حُرْمَةِ لَحْمِهَا، وَمِنْهُمْ كَالْكَرْخِيِّ إلَى كَوْنِهِ تَنْزِيهًا نَظَرًا إلَى أَنَّهَا لَا تَتَحَامَى عَنْ النَّجَاسَةِ قَالُوا: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَتَوَضُّؤُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فَوْرًا وَإِلَّا فَنَجَسٌ كَذَا، وَقِيلَ فَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُصَنِّفِ لَكِنْ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ سُؤْرَهَا عِنْدَهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ مُطْلَقًا لِلضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ وَعَلِمْت أَيْضًا أَنَّ حَصْرَ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَقَدْ عَرَفْت الْمُفْتَى بِهِ عَنْ الْأَشْبَاهِ فِي حَقِّ بَوْلِهَا فَضْلًا عَنْ سُؤْرِهَا كَمَا صَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْفَتْوَى عَلَى خِلَافِهِ فِي حَقِّ السُّؤْرِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَعَنْ الْحَدَّادِيِّ إذَا أَكَلَتْ الْهِرَّةُ مِنْ شَيْءٍ يُكْرَهُ أَنْ يُؤْكَلَ بَاقِيهِ وَعَنْ الْكَامِلِ الْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ لَا الْفَقِيرِ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّ كَرَاهَةَ سُؤْرِ الْهِرَّةِ عِنْدَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَمُحَمَّدٍ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ عِنْدَهُمَا أَيْضًا (د عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ قَالَ) عَبْدُ اللَّهِ (أَيْ بُنَيَّ) يَا بُنَيَّ (سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ» يَتَجَاوَزُونَ حَدَّ الشَّرْعِ كَالْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ وَكَثْرَةِ ضَيَاعِهِ وَمُجَاوَزَةِ الْغُسْلِ عَنْ الثَّلَاثِ وَمُجَاوَزَةِ غَايَةِ الْأَعْضَاءِ فَوْقَ الْغُرَّةِ «وَالدُّعَاءِ» لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فَسُؤَالُ الْقَصْرِ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ اعْتِدَاءٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الدَّاعِي فَحِينَئِذٍ يَكُون سَائِلًا مَا لَيْسَ لَهُ كَذَا قِيلَ هُنَا لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ لَعَلَّ الْوَجْهَ أَنَّ الْأَدَبَ كَوْنُ مَا يُدْعَى بِهِ مِمَّا يَلِيقُ بِحَالِ الدَّاعِي، وَإِلَّا كَرُتْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالصُّعُودِ إلَى السَّمَاءِ اعْتِدَاءٌ فِي الدُّعَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَصْرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدَّاعِي اعْتِدَاءً وَقِيلَ الِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ مَا يَكُونُ بِغَيْرِ مُبَاحٍ كَدُعَاءٍ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ لِكَافِرٍ أَوْ لِظَالِمٍ بِغَيْرِ الصَّلَاحِ وَالْإِسْلَامِ وَقِيلَ وَجْهُ الْمَنْعِ هُنَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَطْعِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ

(وَقَالَ الْإِمَامُ) حُجَّةُ الْإِسْلَامِ (الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ مَا مُحَصَّلُهُ وَمُخْتَصَرُهُ) مَا سَيَرِدُ عَلَيْك فِي قَوْلِهِ (سِيرَةُ الْأَوَّلِينَ) عَادَتُهُمْ أَيْ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ هُمْ أُسْوَتُنَا وَسَادَتُنَا (اسْتِغْرَاقُ جَمِيعِ الْهَمِّ) الْهِمَّةِ وَالْعَزْمِ وَالْقَصْدِ (وَفِي تَطْهِيرِ الْقُلُوبِ) عَنْ الْمَلَكَاتِ الرَّدِيئَةِ وَالْوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَالْمُيُولَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْعَوَائِلِ الْهُيُولَانِيَّةِ (وَالتَّسَاهُلُ) الْمُسَامَحَةُ وَالسَّعَةُ (فِي تَطْهِيرِ الظَّاهِرِ) ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِ الْعِبَادِ بَلْ إلَى قُلُوبِهِمْ فَلَمَّا كَانَتْ الْقُلُوبُ مَنْظَرَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ دُونَ الصُّوَرِ لَزِمَ تَطْهِيرُهَا عَنْ الْخَبَائِثِ وَالرَّذَائِلِ حَتَّى يَلِيقَ بِنَظَرِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ؛ فَلِذَا صَرَفُوا جَمِيعَ قَصْدِهِمْ وَاهْتِمَامِهِمْ إلَى تَطْهِيرِهَا وَتَسَاهَلُوا فِي الظَّاهِرِ (حَتَّى إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَعَ عُلُوِّ مَنْصِبِهِ) عِنْدَ رَبِّهِ وَحَبِيبِهِ وَعَامَّةِ أُمَّتِهِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ خَلِيقَتِهِ بَعْدَ صِدِّيقِهِ الْأَعْظَمِ (تَوَضَّأَ بِمَاءٍ فِي جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ) مَعَ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ لِعَدَمِ اهْتِمَامِ الْكَافِرِ مَعَ جَوَازِ الطَّهَارَةِ عِنْدَهُمْ فِي بَعْضِ شَيْءٍ نَجِسٍ عِنْدَنَا عَمَلًا بِأَصْلِ الطَّهَارَةِ (مج وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ مَاجَهْ (وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ) وَهُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَأْوًى غَيْرُ صُفَّةِ الْمَسْجِدِ وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِالِاكْتِسَابِ وَيُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُعَلِّمُونَ الْخَلْقَ الدِّينَ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِمْ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ رُؤَسَائِهِمْ ثُمَّ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الدِّينَ وَأَيَّدَ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفَاءَ بِفَضْلِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَمَّ الْخَيْرُ وَكُشِفَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ الضُّرُّ وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَبِسَ الْخَزَّ كَمَا تَقَدَّمَ (كُنَّا) كَلِمَةُ كَانَ لِلِاسْتِمْرَارِ فَإِنَّ الْكَثْرَةَ اللَّازِمَةَ لِلسُّنَّةِ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِمْرَارِ (نَأْكُلُ الشِّوَاءَ) اللَّحْمَ الْمَشْوِيَّ (فَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَنُدْخِلُ أَصَابِعَنَا فِي الْحَصْبَاءِ) رَمْلٌ دَقِيقٌ (ثُمَّ نَفْرُكُهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ نُكَبِّرُ) مَعَ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ لَهَا بِالْمَاءِ قِيلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَرْكِ الْفَاضِلِ إحْرَازًا لِلْأَفْضَلِ فَيَكْتَفُونَ بِمَسْحِ التُّرَابِ لِلرُّخْصَةِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يُلَائِمُ مَقْصُودَ الْمَرَامِ مِمَّا يُظَنُّ مِنْ التَّوَرُّعِ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِمَا مَرَّ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْبَيْتُوتَةِ بِرِيحِ غَمْرٍ وَأُجِيبَ بِعَدَمِ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى تَرْكِ الْغَسْلِ عِنْدَ الْبَيْتُوتَةِ فَإِنَّهُمْ يَغْسِلُونَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّ فَرْكَهُمْ لَهَا بِالتُّرَابِ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْقِي لِلْغَمْرِ رِيحًا (وَكَانُوا) السَّلَفُ (يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْحِجَارَةِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ) لِكَوْنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ سُنَّةً، وَأَمَّا بِالْمَاءِ فَأَدَبٌ لَيْسَ بِسُنَّةٍ فَتَرْكُهُ تَرْكُ الْأَوْلَى كَذَا قِيلَ فَفِيهِ خَفَاءٌ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِشْهَادُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الِاسْتِمْرَارُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلِمَةِ كَانَ يَلْزَمُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَرْكِ أَدَبٍ فَوْقَ سُنَّةٍ فَحَاشَاهُمْ مِنْ نَحْوِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ تَجْوِيزُهُمْ الِاقْتِصَادَ الْمَذْكُورَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» فَلَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ إذْ عَرَفْت مَعْنَى الْحَدِيثِ قَرِيبًا أَنَّ فِيهِ اعْتِرَافًا بِقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّخْصَةِ فِي الْمَحَبَّةِ؛ إذْ الْمُتَعَارَفُ قُوَّةُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لَعَلَّ الْوَجْهَ كَانَ هَذَا الِاقْتِصَارَ مِنْهُمْ عِنْدَ عَدَمِ إمْكَانِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ بِلَا كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِمَا فِي الدُّرَرِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ بَعْدَ الْحَجَرِ أَوْلَى إنْ أَمْكَنَ بِلَا كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَفِي الْمِنَحِ أَمَّا مَعَهَا فَلَا يُفْعَلُ، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ تَرْكُهُ أَوْلَى إنْ لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً وَلَوْ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ رَاجِحٌ عَلَى الْأَمْرِ حَتَّى اسْتَوْعَبَ النَّهْيُ الْأَزْمَانَ، وَالْأَمْرُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَفِي الْخَانِيَّةِ: الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ كَشْفِ عَوْرَةٍ وَأَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْأَحْجَارِ قَالُوا مَنْ كَشَفَ الْعَوْرَةَ لِلِاسْتِنْجَاءِ يَصِيرُ فَاسِقًا قَالُوا: الْمَاءُ مَنْدُوبٌ قَبْلَهُ الْحَجَرُ أَوْ لَا وَالصَّحِيحُ الْمُفْتَى بِهِ أَنَّ الْجَمْعَ سُنَّةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي هَذَا حُصُولَ الطَّهَارَةِ بِمُجَرَّدِ الْحَجَرِ، وَإِلَّا فَالْمَاءُ لَازِمٌ (مج وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَا كُنَّا نَعْرِفُ الْأُشْنَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا كَانَتْ مَنَادِلُنَا)

جَمْعُ مَنْدِيلٍ خِرْقَةٌ تُمْسَحُ بِهَا الْيَدُ لِلْوَسَخِ (بَوَاطِنُ أَرْجُلِنَا) فَنَمْسَحُ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِينَا مِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى بِدَعِيَّةِ الْمِنْدِيلِ لِلْوُضُوءِ فَلَا يُنَافِيهِ كَوْنُ الْمَسْحِ بِالْمِنْدِيلِ بَعْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ بَعْدَ الطَّعَامِ أَدَبًا (حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ) مِنْ الْحَنَفِيَّةِ (الصَّلَاةُ فِي النَّعْلَيْنِ أَفْضَلُ) قَالَ الْحَلَبِيُّ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ قَرِيبًا مِنْ خِتَامِهِ، وَفِي الْحُجَّةِ الصَّلَاةُ فِي النَّعْلَيْنِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْحَافِي أَضْعَافًا مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ (لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِنْكَارِهِ خَلْعَهَا) كَمَا مَرَّ لَا يَخْفَى أَنَّ فَهْمَ الْفَضِيلَةِ مِنْ ذَلِكَ إنْ تَمَّ لَيْسَ إلَّا بِالِالْتِزَامِ، وَفَهْمُ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا مُطَابَقَةٌ وَصَرِيحٌ لَعَلَّ الْحَقَّ هُنَا مَا قِيلَ إنَّ نَهْيَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ عَنْ خَلْعِهِمَا لِلصَّلَاةِ بَلْ عَنْ خَلْعِهِمَا فِي الصَّلَاةِ. وَكَذَا الْأَمْرُ بِلُبْسِهِمَا مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيمِ الْجَوَازِ وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالتَّجْوِيزِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَهُ (وَقَالَ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الَّذِينَ يَخْلَعُونَ نِعَالَهُمْ: وَدِدْت) أَيْ أَحْبَبْت (لَوْ أَنَّ مُحْتَاجًا جَاءَ وَأَخَذَهَا) حَالَ كَوْنِهِ (مُنْكِرًا لِخَلْعِ النِّعَالِ) قِيلَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الصَّلَاةَ بِالنَّعْلِ أَقُولُ فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ اسْتِشْهَادُ الْمُصَنِّفِ، وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ الْإِطْلَاقَ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (وَكَانُوا) أَيْ السَّلَفُ (يَمْشُونَ فِي طِينِ الشَّوَارِعِ) جَمْعُ شَارِعٍ بِمَعْنَى الطَّرِيقِ (حُفَاةً) بِلَا خُفٍّ وَلَا نَعْلٍ فَبِمَعْنَى عُرَاةٍ وَقَدْ عُلِمَ فِي مَحَلِّهِ سُنِّيَّةُ الْمَشْيِ حُفَاةً (وَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الطِّينِ فِي الشَّوَارِعِ أَقُولُ: مَشْيُهُمْ عَلَى الطِّينِ، وَلَوْ طَاهِرًا خَالِصًا وَكَذَا جُلُوسُهُمْ عَلَيْهَا بَعِيدٌ عَنْ التَّلْوِيثِ وَالتَّلْطِيخِ الْمُنَافِي لِلنَّظَافَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ النَّقْلِ أَوْ تَأْوِيلِ الطِّينِ بِالْيَابِسِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ بَعِيدًا مِنْ مُرَادِ الْمَقَامِ قِيلَ عَنْ الْخُلَاصَةِ: وَطِينُ بُخَارَى طَاهِرٌ، وَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوءًا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا بِالْعَذِرَاتِ وَالْحَلْوَانِيُّ لَا يَقْبَلُ هَذَا (وَ) كَانُوا (يُصَلُّونَ فِي الْمَسَاجِدِ عَلَى الْأَرْضِ) مَعَ احْتِمَالِ تَنَجُّسِهَا بَلْ مَعَ قَرَائِنِ النَّجَاسَةِ كَمَسْجِدِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عَرَفَاتٍ وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ فِي مِنًى قِيلَ: حَتَّى قَالَ مَالِكٌ: الصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ أَفْضَلُ ثُمَّ عَلَى الْحَصِيرِ وَكَرِهَهَا عَلَى الْبِسَاطِ غَيْرُهُ (وَيَأْكُلُونَ مِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَهُوَ يُدَاسُ بِالدَّوَابِّ وَتَبُولُ عَلَيْهِ) . قَالَ فِي الدُّرَرِ: وَكَمَا لَوْ بَالَ حِمَارٌ عَلَى مَا يَدُوسُهُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا فَقُسِمَ أَوْ غُسِلَ بَعْضٌ مِنْهَا حَيْثُ يَطْهُرُ الْبَاقِي، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّحَرِّي، وَعَنْ الْمِنَحِ وَكَذَا لَوْ أُكِلَ أَوْ بِيعَ بَعْضُهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِ النَّجِسِ فِي كُلِّ طَرَفٍ كَمَا فِي الثَّوْبِ (وَلَا يَحْتَرِزُونَ عَنْ عَرَقِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ مَعَ كَثْرَةِ تَمَرُّغِهَا فِي النَّجَاسَاتِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، وَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ مَمْدُوحًا لَفَعَلُوا، وَلَوْ فَعَلُوا لَنَقَلُوا، وَإِلَّا فَأَثِمُوا، وَهُمْ بُرَآءُ فَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ (وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ) كَمَا نُقِلَ مِنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ دَقَائِقِ خَبَائِثِ الْقَلْبِ (عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُؤَالٌ عَنْ دَقَائِقِ النَّجَاسَاتِ) بَلْ تَسَامَحُوا جَرْيًا عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ مَا ذُكِرَ بَقَاءُ أَصْلِ الطَّهَارَةِ الثَّابِتَةِ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْحَالِّ عِنْدَ عَدَمِ صَرِيحٍ يُنَافِيهِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ مَعْنَى الِاسْتِصْحَابِ الْمُفَسَّرُ بِالْحُكْمِ بِبَقَاءِ أَمْرٍ مُحَقَّقٍ لَمْ يُظَنَّ عَدَمُهُ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ؛ إذْ تَفْصِيلُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضٍ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا عَنْ بَعْضٍ كَأَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الدَّفْعِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ. قَالَ صَاحِبُ الْأَشْبَاهِ: وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا لِأَنَّ الدَّفْعَ اسْتِمْرَارُ عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْوُجُودِ لَيْسَ مُوجِبَ بَقَائِهِ فَالْحُكْمُ بِبَقَائِهِ بِلَا دَلِيلٍ كَذَا فِي التَّحْرِيرِ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَقَدْ انْتَهَتْ النَّوْبَةُ الْآنَ إلَى طَائِفَةٍ يُسَمُّونَ الرُّعُونَةَ) أَيْ الْحَمَاقَةَ وَالْجَهَالَةَ فَالتَّسْمِيَةُ مِنْ غَيْرِ تَطَابُقٍ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى (نَظَافَةً) مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ

فَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. (وَيَقُولُونَ: هِيَ) أَيْ النَّظَافَةُ (مَبْنَى الدِّينِ) بِنَاؤُهُ وَأَصْلُهُ (فَأَكْثَرُ أَوْقَاتِهِمْ فِي تَزْيِينِهِمْ الظَّوَاهِرَ كَفِعْلِ الْمَاشِطَةِ) الْمَرْأَةِ الْمُزَيِّنَةِ (لِعَرُوسِهَا وَالْبَاطِنُ خَرَابٌ مَشْحُونٌ) مَمْلُوءٌ بِخَبَائِثِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ (وَهُوَ أَحَقُّ بِالنَّظَافَةِ) لِكَوْنِهِ مَحَلَّ نَظَرِ الْحَقِّ مِنْ الْخَلْقِ (وَلَا يَسْتَنْكِرُونَ ذَلِكَ) أَيْ لَا يَعُدُّونَ تَزْيِينَ الظَّوَاهِرِ مَعَ خَرَابِ الْبَاطِنِ أَمْرًا مُنْكَرًا، وَلَا يَقْصِدُونَ الْإِصْلَاحَ وَالْإِزَالَةَ (وَلَا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ) أَيْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ تَعَجُّبٌ وَانْفِعَالٌ وَتَأَثُّرٌ حَتَّى يَقْصِدُوا إزَالَتَهُ (وَلَوْ اقْتَصَرَ مُقْتَصِرٌ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ أَوْ مَشَى حَافِيًا) عَلَى الْأَرْضِ (أَوْ صَلَّى عَلَى أَرْضٍ) مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ (وَعَلَى بَوَارِي) أَيْ حَصِيرِ (الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ سَجَّادَةٍ أَوْ تَوَضَّأَ مِنْ آنِيَةِ عَجُوزٍ أَوْ آنِيَةِ رَجُلٍ غَيْرِ مُتَقَشِّفٍ) أَيْ مُتَعَمِّقٍ وَمُسْتَقْصٍ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ مَعَ أَنَّهَا مُسْتَحْسَنٌ، وَمَسْنُونٌ فِي الشَّرْعِ (لَأَقَامُوا فِيهِ الْقِيَامَةَ) بِالْإِنْكَارِ وَاللَّوْمِ لَعَلَّ كُلَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالتَّجْرِبَةِ أَوْ الْأَمَارَاتِ، وَإِلَّا فَأَكْثَرُهَا وِجْدَانِيٌّ يَتَعَسَّرُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ سُوءِ الظَّنِّ (وَشَدَّدُوا عَلَيْهِ النَّكِيرَ) مَعَ أَنَّ النَّكِيرَ حَرِيٌّ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ. (وَلَقَّبُوهُ بِالْقَذِرِ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ زُمْرَتِهِمْ) جَمَاعَتِهِمْ (وَاسْتَنْكَفُوا مِنْ مُؤَاكَلَتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ) زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَاشٍ عَنْ النَّجَاسَاتِ إنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِسُنِّيَّتِهِ يُخَافُ مِنْهُ خَطَأٌ عَظِيمٌ (فَسَمَّوْا الْبَذَاذَةَ) أَيْ الْحَقَارَةَ وَرَثَاثَةَ الْهَيْئَةِ (الَّتِي هِيَ مِنْ) ثَمَرَاتِ (الْإِيمَانِ قَذَارَةً) أَيْ نَجَاسَةً (وَالرُّعُونَةَ) أَيْ الْجَهَالَةَ وَالْحَمَاقَةَ (نَظَافَةً) يَعْنِي إذَا لَقَّبُوا الِاقْتِصَارَ الْمَذْكُورَ الْمَسْنُونَ بِالْقَذَارَةِ لَزِمَ أَنْ يُسَمُّوا الْأَمْرَ الْمَسْنُونَ الَّذِي هُوَ الْبَذَاذَةُ وَثَمَرَةُ الْإِيمَانِ بِالْقَذَارَةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ النَّجَاسَاتِ وَأَفْحَشُ الْمُسْتَقْذَرَاتِ هَذَا ظَاهِرٌ وَأَمَّا تَفْرِيعُ قَوْلِهِ، وَالرُّعُونَةَ نَظَافَةٌ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عَطْفِ الرُّعُونَةِ عَلَى الْبَذَاذَةِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الِالْتِزَامِيَّةَ، وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا لَيْسَ إلَّا عَكْسَ الْمَشْرُوعِ وَالْمَوْضُوعِ، وَتَغْيِيرَ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ بَلْ وَضْعُ شَرِيعَةٍ نَاسِخَةٍ لِشَرِيعَةٍ ثَابِتَةٍ. وَلِهَذَا قَالَ (فَانْظُرْ) يَا مَنْ شَأْنُهُ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ (كَيْفَ صَارَ الْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا وَالْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا) فِي جَعْلِهِمْ فَإِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْحَجَرِ مَثَلًا مَسْنُونٌ، وَمَعْرُوفٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي الشَّرِيعَةِ، وَمُنْكَرٌ فِي جَعْلِهِمْ لِتَشْدِيدِهِمْ الْإِنْكَارَ (وَكَيْفَ انْدَرَسَ) أَيْ انْقَطَعَ وَخَفِيَ (مِنْ الدِّينِ رَسْمُهُ) أَيْ أَثَرُهُ وَثَمَرَتُهُ الْمُطَابِقُ لَهُ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ اسْمِهِ (كَمَا انْدَرَسَ تَحْقِيقُهُ) أَيْ حَقِيقَةُ الدِّينِ لَا يَخْفَى أَنَّ ذَهَابَ الدِّينِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ كُفْرًا، وَالتَّأْوِيلُ بِالْكَمَالِ لَا يُنَافِي التَّحْقِيقَ؛ إذْ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ تَمَامُ مَاهِيَّتِه، وَجَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ التَّجَوُّزَ مُبَالَغَةً أَوْ يَدَّعِيَ لُزُومَ الْكُفْرِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ كَمَا أُشِيرَ هُنَالِكَ (انْتَهَى) كَلَامُ الْغَزَالِيِّ. (وَقَالَ الْإِمَامُ الْخَبَّازِيُّ) وَهُوَ الشَّارِحُ الْأَوَّلُ لِلْهِدَايَةِ (فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ) فِي حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ هُوَ ابْنُ زَيْنِ الْعَابِدِينَ وَالْبَاقِرُ لَقَبُهُ سُمِّيَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَاهِرًا فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ مِنْ الْبَقَرِ وَهُوَ الْمَهَارَةُ فِي الشَّيْءِ (أَوْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ) لَقَبُهُ (زَيْنُ الْعَابِدِينَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَنَّهُ رَأَى فِي الْخَلَاءِ ذُبَابًا يَقَعْنَ عَلَى النَّجَاسَاتِ ثُمَّ يَقَعْنَ عَلَى الثِّيَابِ فَأَمَرَ بِثِيَابٍ) مُعَدَّةٍ (لِلْخَلَاءِ) كُلَّمَا دَخَلَ الْخَلَاءَ لَبِسَ

الصنف الثاني ما ورد عن أئمتنا الحنفية في عدم الدقة في أمر الطهارة

فَإِذَا خَرَجَ نَزَعَ (فَلَمَّا مَضَى عَلَى ذَلِكَ زَمَانٌ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ) الْفِعْلِ (وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ - تَعَالَى - فَسُئِلَ عَنْ) سَبَبِ (ذَلِكَ) الِاسْتِغْفَارِ (فَقَالَ: أَحْدَثْت ذَنْبًا فَاسْتَغْفَرْته فَقِيلَ وَمَاذَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: فَعَلْت شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ الصَّالِحُونَ، وَلَا خَيْرَ فِي الْبِدْعَةِ) يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَيْسَ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الصَّلَاحِ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ فِعْلِهِمْ صَرِيحُ إنْكَارِهِمْ لَعَلَّ لِهَذَا قَالَ (وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ» فَشَرِيعَتُنَا حَنِيفِيَّةٌ أَيْ مَائِلَةٌ عَنْ كُلِّ دِينٍ بَاطِلٍ وَسَمْحَةٌ فِي بَابِ الْعَمَلِ «وَلَمْ أُبْعَثْ بِالرَّهْبَانِيَّةِ الصَّعْبَةِ» كَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ «وَمَنْ خَالَفَ سُنَّتِي» بِأَنْ شَدَّدَ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ وَتَرَهَّبَ «فَلَيْسَ مِنِّي» بِخِلَافِ مَبْعُوثِهِ مِنْ الرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَالْمُسَاهَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ وَالْيُسْرِ الَّذِي لَا حَرَجَ فِيهِ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَاعِدَةُ الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ وَفِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ وَالطَّبَرَانِيِّ «أَحَبُّ الْأَدْيَانِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - الْحَنِيفِيَّةُ قَالَ تَعَالَى - {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] » - السَّمْحَةُ السَّهْلَةُ الْمُنْقَادَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُسَلِّمَةُ أَمْرَهَا إلَيْهِ لَا تَتَوَجَّهُ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْكَثَافَةِ وَالْغِلَظِ وَالْجُمُودِ الَّتِي يَلْزَمُ مِنْهَا الْعِصْيَانُ وَالسَّمَاجَةُ وَالطُّغْيَانُ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]- {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]- ثُمَّ قِيلَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ فِي الْأَصْلِ حَتَّى قَالَ بَعْضٌ لَمْ أَجِدْ أَحَدًا وَثَّقَهُ لَكِنْ لَهُ طُرُقٌ ثَلَاثَةٌ لَيْسَ يَبْعُدَانِ لَا يَنْزِلُ بِسَبَبِهَا عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ (وَانْتَهَى) كَلَامُ الْخَبَّازِيِّ [الصِّنْفُ الثَّانِي مَا ورد عَنْ أَئِمَّتنَا الْحَنَفِيَّة فِي عَدَمِ الدِّقَّةِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ] (الصِّنْفُ الثَّانِي) مِنْ الصِّنْفَيْنِ (فِيمَا وَرَدَ عَنْ أَئِمَّتِنَا الْحَنَفِيَّةِ) الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ عَدَمِ الدِّقَّةِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ هَذَا شُرُوعٌ فِي الْإِثْبَاتِ التَّقْلِيدِيِّ (فِي الْخُلَاصَةِ وَيُكْرَهُ) قِيلَ تَنْزِيهًا (لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ لِنَفْسِهِ إنَاءً يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ غَيْرُهُ) ؛ لِأَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ لَيْسَ مِنْ سِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَكَذَا اسْتِخْلَاصُ سَجَّادَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ فَيَجُوزُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (وَفِيهِ) أَيْ فِي الْخُلَاصَةِ (التَّوَضُّؤُ فِي الْحَوْضِ) الَّذِي هُوَ عَشْرٌ فِي عَشْرٍ (أَفْضَلُ مِنْ التَّوَضُّؤِ فِي النَّهْرِ) ؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ فِي الْحَوْضِ مَعَ وُجُودِ النَّهْرِ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الدِّقَّةِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ فَهَذَا سِيرَةُ الْأَوَّلِينَ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَمُشْعِرٌ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ بِدْعَةٌ وَكَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَعَلَّلَ بِقَوْلِهِ زَعْمًا لِلْمُعْتَزِلَةِ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْجُزْءِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ يَعْنِي أَنَّ الْمَاءَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَوْهَرٍ مُفْرَدٍ مُنْفَصِلٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَجَاسَةِ جُزْءٍ نَجَاسَةُ جُزْءٍ آخَرَ إلَّا بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَفِي الْحَوْضِ الْكَبِير الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ سِرَايَةِ النَّجَسِ مِنْ طَرَفِ الْحَوْضِ إلَى الْآخِرِ وَقِيلَ عِنْدَ الْبَعْضِ يُكْرَهُ التَّوَضُّؤُ مِنْ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَدَمِ وُجُودِ النَّهْرِ، وَلَوْ وُجِدَ لَتَوَضَّأَ فَفِيهِ إذْنٌ دَلَالَةً، وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ مِنْ الْحَوْضِ فَقَدْ صَدَرَ مِنْهُ

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَرِيحًا، وَالصَّرِيحُ فَوْقَ الدَّلَالَةِ؛ فَلِذَا كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ التَّوَضُّؤِ فِي النَّهْرِ وَلِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ عُجْبٍ بِوَاسِطَةِ التَّنَزُّهِ عَنْ مُتَوَضَّأِ الْعَامَّةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي (وَفِيهِ) أَيْ الْخُلَاصَةِ (يَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْحَوْضِ الَّذِي يُخَافَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَذَرٌ وَلَا يَسْتَيْقِنُهُ) ظَاهِرٌ، وَإِنْ غَلَبَ ظَنُّهُ بِنَجَاسَتِهِ فَمَحَلُّ تَأَمُّلٍ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الِاسْتِيقَانِ مَا يَشْمَلُ ذَلِكَ مَجَازًا (وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ) ؛ لِأَنَّهُ يَكْفِيهِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الظَّاهِرِ كَمَا اعْتَمَدَ عُمَرُ الْيَقِينَ فِيمَا مَرَّ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ (وَلَا يَدْعُ التَّوَضُّؤَ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَذِرٌ) لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ التَّوَضُّؤِ فِي الْحَوْضِ، وَلَا يَلْزَمُ السُّؤَالُ عَنْ طَهَارَتِهِ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَتُهُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ غَيْرُ الْيَقِينِ نَعَمْ إنَّ نَفْسَ الظَّنِّ عِنْدَهُمْ مُلْحَقٌ بِالشَّكِّ؛ وَلِذَا قَالَ فِيهِ أَيْضًا بُعَيْدَ هَذَا وَبِمُجَرَّدِ الظَّنِّ لَا يَمْنَعُ، وَلَا يَلْزَمُ السُّؤَالُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، وَقَدْ عَرَفْت آنِفًا مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُ (وَعَلَى هَذَا الضَّيْفُ إذَا قُدِّمَ لَهُ الطَّعَامُ لَيْسَ لِلضَّيْفِ أَنْ يَسْأَلَهُ) أَيْ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَذًى لِلْمُسْلِمِ وَهُوَ حَرَامٌ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِحِلِّهِ لَهُ الِاعْتِمَادُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ فِيهِ مَقْبُولٌ كَذَا قِيلَ: لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْمَتْنِ، وَإِنْ وَافَقَ الشَّرْحَ وَلِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مِلْكُهُ فَيَبْقَى عَلَيْهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ خِلَافَهُ فَافْهَمْ كَذَلِكَ وَلِأَنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِ (مِنْ أَيْنَ لَك؟) هَذَا الطَّعَامُ (أَمِنَ الْغَصْبِ أَمْ مِنْ السَّرِقَةِ) ؛ لِأَنَّ مَنْ ارْتَكَبَ الْغَصْبَ أَوْ السَّرِقَةَ لَا يَتَحَاشَى عَنْ الْكَذِبِ فَلَا يَحْصُلُ الِاطْمِئْنَانُ بِخَبَرِهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْحَلَالِ (وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ جُبٍّ يُوضَعُ كُوزُهُ فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ، وَيُشْرَبُ مِنْهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَذِرٌ) وَجْهُ اشْتِبَاهِهِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ كَمَا فِي سَائِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (وَفِيهِ) أَيْ الْخُلَاصَةِ (أَيْضًا مَاءُ الثَّلْجِ) وَمَاءُ الْمَطَرِ (إذَا جَرَى عَلَى الطَّرِيقِ، وَفِي الطَّرِيقِ نَجَاسَاتٌ إنْ تَغَيَّبَتْ النَّجَاسَاتُ فِيهَا) أَيْ فِي الثُّلُوجِ؛ لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَيَعُمُّ فَيَكُونُ فِي قُوَّةِ قَضَايَا تَعَدَّدَتْ بِتَعَدُّدِ مَوْضُوعَاتِهَا كَمَا قِيلَ (وَاخْتَلَطَتْ) بَعْدَ اضْمِحْلَالِهَا (بِحَيْثُ لَا يُرَى لَوْنُهَا وَلَا أَثَرُهَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَفِيهِ إذَا تَنَجَّسَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الثَّوْبِ وَنَسِيَهُ فَغَسَلَ طَرَفًا مِنْ الثَّوْبِ) وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا قَطَعَ طَرَفًا مِنْهُ (مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ حُكِمَ بِطَهَارَةِ الثَّوْبِ) نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَسَلَ طَرَفًا مِنْهُ، أَوْ قَطَعَ زَالَ تَيَقُّنُ النَّجَاسَةِ، وَبَقِيَ تَيَقُّنُ الطَّهَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهُوَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالظَّنِّ بَلْ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ زَالَ بِغَسْلِ ذَلِكَ الطَّرَفِ أَوْ قَطْعِهِ انْتَهَى يَعْنِي أَنَّ تَيَقُّنَ الطَّهَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَدْ زَالَ بِتَيَقُّنِ تَنَجُّسِ الطَّرَفِ فَإِذَا قُطِعَ أَوْ غُسِلَ بَقِيَ الْبَوَاقِي مَظْنُونَ النَّجَاسَةِ، وَالظَّنُّ لَا يُزِيلُ الطَّهَارَةَ الْأَصْلِيَّةَ الْمُتَيَقَّنَةَ؛ إذْ عِنْدَ زَوَالِ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ يَعُودُ تَيَقُّنُ الطَّهَارَةِ وَعِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ يَعُودُ الْمَمْنُوعُ لَكِنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالظَّنِّ لَيْسَ بِكُلِّيٍّ إذَا اسْتَثْنَوْا مِنْ قَاعِدَةِ الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ صُوَرًا كَثِيرَةً كَمَنْ وَجَدَ بَلَلًا، وَلَا يَدْرِي أَمَذْيٌ أَمْ مَنِيٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ مَعَ أَنَّهُ شَاكٌّ، وَكَمَنْ وَجَدَ فَارَةً مَيِّتَةً، وَلَمْ يَدْرِ مَتَى وَقَعَتْ وَقَدْ تَوَضَّأَ مِنْهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَعَ الشَّكِّ وَكَمَنْ شَكَّ هَلْ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ أَوْ لَا أَوْ أَحْدَثَ أَوْ لَا أَوْ مَسَحَ رَأْسَهُ أَوْ لَا وَكَانَ أَوَّلَ مَا عُرِضَ لَهُ اسْتَقْبَلَ وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِ الْأَشْبَاهِ (وَهُوَ الْمُخْتَارُ) إشَارَةً إلَى مَا فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الظَّهِيرِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَغْسِلُ الثَّوْبَ كُلَّهُ ثُمَّ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ وَهُوَ الْأَحْوَطُ وَقَدْ نُقِلَ قُبَيْلَ ذَلِكَ عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ إذَا خَفِيَ مَحَلُّ النَّجَاسَاتِ مِنْ الثَّوْبِ قِيلَ: الْوَاجِبُ

غَسْلُ طَرَفٍ مِنْهُ بِتَحَرٍّ أَوْ لَا وَالتَّفْصِيلُ فِي الْقَاعِدَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ فَوَائِدِ الْأَشْبَاهِ لَكِنَّ ظَاهِرَهُ تَرْجِيحُ جَانِبِ غَسْلِ الْكُلِّ كَمَا فَهِمْت آنِفًا وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ الْمُخْتَارُ خِلَافُهُ (وَفِيهِ رَجُلٌ وَضَعَ رِجْلَهُ رَطْبَةً عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ أَوْ لَبَدٍ نَجِسٍ إنْ كَانَ) الْأَرْضُ أَوْ اللَّبَدُ (يَابِسًا، وَهُوَ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ بَلْ مَشَى لَا تَتَنَجَّسُ رِجْلُهُ، وَلَوْ كَانَ رَطْبًا، وَالرِّجْلُ يَابِسَةً فَظَهَرَتْ الرُّطُوبَةُ فِي قَدَمِهِ تَتَنَجَّسُ) قَدَمُهُ (انْتَهَى) قِيلَ عَلَيْهِ الْمَفْهُومُ مِنْ الْخُلَاصَةِ لَيْسَ إلَّا مُطْلَقٌ لَا لِظُهُورِ الْخُبْثِ فَتَأَمَّلْ (وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إذَا نَامَ الْكَلْبُ عَلَى حَصِيرِ الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ) الْكَلْبُ أَوْ الْحَصِيرُ (يَابِسًا لَا يَتَنَجَّسُ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا، وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِيهِ) أَيْ فِي الْحَصِيرِ (فَكَذَلِكَ) لَا يَتَنَجَّسُ، وَإِلَّا فَيَتَنَجَّسُ (وَفِيهِ إذَا وُجِدَ الشَّعِيرُ فِي بَعْرِ الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُؤْكَلُ) لَعَلَّ التَّقْيِيدَ بِالشَّعِيرِ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فَيَكُونُ الْبُرُّ وَنَحْوُهُ مِثْلَهُ لَكِنَّ السَّابِقَ إلَى الْخَاطِرِ هُوَ التَّنَجُّسُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَشَرُّبِ النَّجَاسَةِ ثُمَّ وَقَفْت عَلَى الْكُبْرَى الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفَصَّلُ بِالِانْتِفَاخِ وَعَدَمِهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْبَعْرُ وَالْخُثِيُّ انْتَهَى لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ التَّفْصِيلَ تَعَسُّفٌ؛ إذْ لَا يُوجَدُ بِلَا انْتِفَاخٍ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ انْتِفَاخٍ وَانْتِفَاخٍ؛ إذْ يُمْكِنُ التَّفَاوُتُ (وَإِنْ كَانَ فِي أَخْثَاءِ الْبَقَرِ لَا يُؤْكَلُ) لَعَلَّ الْوَجْهَ أَنَّهُ يَتَفَسَّخُ أَوْ يَتَفَتَّتُ فِي الْبَقَرِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، وَالنَّادِرُ يُلْحَقُ بِالْغَالِبِ، وَإِلَّا فَالْفَرْقُ خَفِيٌّ قِيلَ: لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ رِيحُهُ وَطَعْمُهُ وَكَذَا كُلُّ نَجَاسَةٍ تُغْسَلُ إلَّا إذَا تَعَسَّرَتْ إزَالَتُهَا بِالْمَاءِ الْقُرْحِ، وَعَنْ الْكُبْرَى لِصَاحِبِ الذَّخِيرَةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفَصَّلُ بِالِانْتِفَاخِ وَعَدَمِهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْبَعْرُ، وَالْخُثِيُّ كَذَا فِي التتارخانية (وَفِيهِ) أَيْ فِي قَاضِي خَانْ (خُفٌّ بِطَانَةُ سَاقِهِ مِنْ الْكِرْبَاسِ فَدَخَلَ فِي خُرُوقِهِ مَاءٌ نَجِسٌ فَغَسَلَ الْخُفَّ، وَدَلَكَ بِالْيَدِ وَمَلَأَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَهْرَاقَ الْمَاءَ) إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ عَصْرُ الْكِرْبَاسِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ (يَصِيرُ طَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُمْكِنُ) لَهُ فِي تَطْهِيرِهِ عَادَةً؛ لِأَنَّ الْخُفَّ مِمَّا لَا يَنْعَصِرُ، وَالْكِرْبَاسُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْعَصِرُ لَكِنَّهُ بِسَبَبِ اتِّصَالِهِ فِيهِ حَرَجٌ فَيَطْهُرُ بِالتَّبَعِيَّةِ وَمَبْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (وَفِيهِ الطِّينُ النَّجِسُ يُجْعَلُ مِنْهُ الْكُوزُ أَوْ الْقِدْرُ فَيُطْبَخُ يَكُونُ طَاهِرًا) إذَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ النَّجَاسَةِ (وَفِيهِ إذَا غَسَلَ رِجْلَهُ وَمَشَى عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ بِغَيْرِ مُكَعَّبٍ فَابْتَلَّتْ الْأَرْضُ مِنْ بَلَلِ رِجْلِهِ وَاسْوَدَّ وَجْهُ الْأَرْضِ) مِنْ ذَلِكَ الْبَلَلِ وَ (لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ بَلَلِ الْأَرْضِ فِي رِجْلِهِ) بِأَنْ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْأَرْضِ (فَصَلَّى جَازَتْ صَلَاتُهُ) وَلَا يَضُرُّ فِي طَهَارَتِهِ مُلَاصَقَتُهَا بِمَا ذُكِرَ تَخْفِيفًا وَعَفْوًا (وَفِيهِ إذَا اسْتَنْجَى الرَّجُلُ وَجَرَى مَاءُ الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى رِجْلِهِ، وَهُوَ مُتَخَفِّفٌ إنْ لَمْ يَدْخُلْ مَاءُ الِاسْتِنْجَاءِ فِي خُفِّهِ لَا بَأْسَ بِهِ وَيَطْهُرُ خُفُّهُ) بَعْدَ انْفِصَالِ الثَّالِثِ عَنْهُ بِشَرْطِ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهِ مَاءُ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَاءُ الْجَارِي عَلَيْهِ الْمَاءَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّانِيَ أَوْ الثَّالِثَ فَلَا يَطْهُرُ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَطَاهِرٌ لَا يَضُرُّ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لَعَلَّ فِيهِ تَفْصِيلًا فَلْيُتَأَمَّلْ (تَبَعًا لِطَهَارَةِ مَاءِ الِاسْتِنْجَاءِ) إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْخُفِّ خُرُوقٌ وَيَدْخُلُ مَاءُ الِاسْتِنْجَاءِ بَاطِنَ الْخُفِّ، وَإِنْ كَانَتْ

الْخُرُوقُ بِحَالٍ يَدْخُلُ الْمَاءُ فِيهَا مِنْ جَانِبٍ وَيَخْرُجُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْخُفِّ مَعَ طَهَارَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَذَا فِي التتارخانية (وَفِيهِ) أَيْ قَاضِي خَانْ (بَعْرُ الْفَأْرَةِ إذَا وَقَعَ فِي حِنْطَةٍ) مَثَلًا (فَطُبِخَتْ) ، وَفِي نُسْخَةٍ فَطُحِنَتْ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِقَوْلِهِ (الْحِنْطَةُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الدَّقِيقِ) إمَّا لِقِلَّةٍ فِي حُكْمِ التَّلَاشِي أَوْ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَالْحَرَجِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثُ: سُؤْرُ الْهِرَّةِ طَاهِرٌ فَإِنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ) الْبَعْرُ (كَثِيرًا) وَبَيَّنَ الْكَثْرَةَ بِقَوْلِهِ: (يَظْهَرُ أَثَرُهُ بِتَغَيُّرِ الطَّعْمِ أَوْ غَيْرِهِ) كَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ فَإِنَّهُ لَا يَتَلَاشَى وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْكَثْرَةِ حَرَجٌ لِلنُّدْرَةِ (وَفِيهِ خُبْزٌ وُجِدَ فِي خِلَالِهِ) وَسَطِهِ (بَعْرُ الْفَأْرَةِ إنْ كَانَ الْبَعْرُ) بَاقِيًا (عَلَى صَلَابَتِهِ يُرْمَى الْبَعْرُ وَيُؤْكَلُ الْخُبْزُ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْرِي شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْرُ أَوْ الْخُبْزُ رَطْبًا (وَفِيهِ ذُبَابُ الْمُسْتَرَاحِ) مَحَلِّ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (إذَا جَلَسَ عَلَى ثَوْبٍ لَا يُفْسِدُهُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْبَةُ زَيْنِ الْعَابِدِينَ مِنْ التَّنَزُّهِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْمَفْرُوضَةَ فِي أَرْجُلِهَا كَرُءُوسِ الْإِبَرِ مِنْ الْبَوْلِ الْمُنْتَشِرِ الْمَعْفُوِّ (إلَّا أَنْ يَغْلِبَ وَيَكْثُرَ) نَجَاسَةُ الذُّبَابِ بِحَيْثُ يُرَى وَاحِدٌ مِنْ آثَارِ النَّجَاسَةِ (وَفِيهِ لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ نَجِسَةً فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ وَقَامَ عَلَى نَعْلَيْهِ جَازَ) قِيَامُهُ عَلَيْهِمَا الظَّاهِرُ مِنْ الْقِيَامِ هُوَ قِيَامُ الصَّلَاةِ، وَإِلَّا فَلَا يَظْهَرُ لَهُ حُكْمُ مُعْتَدِيهِ (وَأَمَّا إذَا كَانَ النَّعْلُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ طَاهِرًا فَظَاهِرٌ) فِي الْجَوَازِ (وَإِنْ كَانَ مَا يَلِي الْأَرْضَ مِنْهُ) قِيلَ: تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَلْبُوسِ (نَجِسًا فَكَذَلِكَ) ؛ لِأَنَّ الْمُلَاقِيَ لِلرِّجْلِ طَاهِرٌ (وَهُوَ) أَيْ النَّعْلُ (بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ ذِي طَاقَيْنِ أَسْفَلُهُ نَجِسٌ وَقَامَ عَلَى الطَّاهِرِ) مِنْهُ (انْتَهَى، وَفِي التتارخانية الصَّلَاةُ فِي النَّعْلَيْنِ) لَا فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ (تَفْضُلُ) فِي الثَّوَابِ (عَلَى صَلَاةِ الْحَافِي أَضْعَافًا) وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْحَلَبِيِّ عَنْ الْحُجَّةِ بِالسَّبْعِينَ (مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ) الظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِهِمْ وَنَسْخِهِمْ لَا مِنْ أَصْلِ شَرِيعَتِهِمْ؛ إذْ الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ شَرِيعَةٌ لَنَا، أَوْ نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِنْكَارِ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْإِنْكَارِ فَتَأَمَّلْ (وَفِيهِ لَوْ اشْتَرَى مِنْ مُسْلِمٍ ثَوْبًا أَوْ بِسَاطًا صَلَّى عَلَيْهِ) وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ مَا لَمْ يَبْدُ لَهُ ظَنُّ عُرُوضِ النَّجَاسَةِ؛ وَلِذَا قَالَ (وَإِنْ كَانَ بَائِعُهُ شَارِبَ الْخَمْرِ) إذْ طَهَارَةُ أَصْلِهِ مُتَيَقَّنَةٌ وَعُرُوضُ النَّجَاسَةِ مَشْكُوكٌ، وَمُحْتَمَلٌ وَالْأَمْرُ الْيَقِينِيُّ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ (وَفِيهِ) ، وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ (أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُتَيَقِّنِ بِالْوُضُوءِ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ حَدَثًا وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّك بُلْت) مِنْ الْبَوْلِ (فِي مَوْضِعِ كَذَا

فَشَكَّ الرَّجُلُ) فِيهِ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ صَلَوَاتٍ) لَعَلَّ الْجَمْعَ اتِّفَاقِيٌّ فَالْوَاحِدَةُ مِثْلُهَا (فَقَالَ) مُحَمَّدٌ فِي جَوَابِهِ (إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ قَضَاهَا) ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ تُفِيدُ الْيَقِينَ (وَإِنْ شَهِدَ عَدْلٌ وَاحِدٌ لَمْ يَقْضِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِهِ، وَالْإِعَادَةُ أَفْضَلُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفِدْ خَبَرُ الْوَاحِدِ هُنَا الْيَقِينَ لِمُعَارَضَةِ عَدَمِ التَّذْكِيرِ إيَّاهُ ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي لَكِنْ لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِ وَثَاقَتِهِ، وَإِلَّا فَمَنْ لَيْسَ لَهُ وَثَاقَةٌ عَلَى ظَنِّهِ فَلَهُ الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ (وَفِي الْأَمَالِي عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِ الْمُتَوَضِّئِ أَنَّهُ أَحْدَثَ وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بَلْ الشَّكُّ فَالْأَفْضَلُ عَدَمُ الْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْيَقِينِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ هُوَ الظَّنُّ الْمُطْلَقُ فَقَوْلُهُ: فَالْأَفْضَلُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي؛ إذْ الظَّنُّ الْمُطْلَقُ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مُلْحَقٌ بِالشَّكِّ كَمَا مَرَّ مِرَارًا. وَقَالَ فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْإِسْبِيجَابِيِّ: إنَّ الظَّنَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَبِيلِ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ التَّرَدُّدَ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا فَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا عَلَى ظَنِّي لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لِلشَّكِّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَالِبُ الظَّنِّ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ يَعْنِي الظَّنَّ الْقَوِيَّ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْيَقِينِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ، وَفِي مَحَلٍّ آخَرَ مِنْهُ أَيْضًا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْيَقِينِ غَالِبُ الظَّنِّ وَلِذَا قَالَ فِي الْمُلْتَقَطِ: وَلَوْ لَمْ يَفُتْهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ شَيْءٌ وَأَحَبَّ أَنْ يَقْضِيَ صَلَاةَ عُمْرِهِ مُنْذُ أَدْرَكَ لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ أَكْبَرُ ظَنِّهِ فَسَادَهَا بِسَبَبِ الطَّهَارَةِ أَوْ تَرْكِ شَرْطٍ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يُكْرَهُ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ فَلَا يَنْبَغِي قَوْلُهُ (وَإِنْ صَلَّى بِوُضُوئِهِ الْأَوَّلِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا) ؛ لِأَنَّ اللَّازِمَ حِينَئِذٍ عَدَمُ السَّعَةِ بَلْ وُجُوبُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ مُلْحَقٌ بِالْيَقِينِ فَكَمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عِنْدَ حَقِيقَةِ التَّيَقُّنِ فِي الْفَوْتِ فَكَذَا فِي حُكْمِهِ وَبِمَا ذُكِرَ يَضْمَحِلُّ مَا قِيلَ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ، وَلَكِنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً يَحْصُلُ بِهَا الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ كَيْفَ تُقَابِلُ الْيَقِينَ بَلْ حَقُّهَا السُّقُوطُ أَصْلًا عَلَى مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ هَذَا لَيْسَ مُؤَاخَذَةً عَلَى صَاحِبِ الْمُؤَاخَذَةِ بَلْ إشْكَالٌ عَلَى مُقْتَضَى قَاعِدَتِهِ وَقِيَاسِهِ فَافْهَمْ (وَفِيهِ) أَيْ فِي التتارخانية (مَنْ شَكَّ فِي إنَائِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ أَمْ لَا فَهُوَ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ) أَيْ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ يَقِينٌ بِإِصَابَةِ النَّجَاسَةِ بِخَبَرِ الْعَدْلِ وَظُهُورِهَا وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ يُفِيدُ الْيَقِينَ الْمُرَادَ هُنَا، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْحَاصِلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَيْسَ إلَّا الظَّنَّ لَعَلَّ أَصْلَ الظَّنِّ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْوَاحِدِ وَغَلَبَتِهِ بِالْعَدَالَةِ (وَكَذَلِكَ الْآبَارُ وَالْحِيَاضُ الَّتِي يَسْتَقِي مِنْهَا الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَالْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ) فَطَاهِرَةٌ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ النَّجَاسَةَ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا لَزِمَ هُوَ الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ وَهُوَ لَا يَرْفَعُ الْأَصْلَ الْمُتَيَقَّنَ (وَكَذَلِكَ السَّمْنُ وَالْجُبْنُ وَالْأَطْعِمَةُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَ) أَهْلُ (الْبَطَالَةِ كَذَلِكَ الثِّيَابُ الَّتِي تَنْسِجُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ، وَالْجَهَلَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ الْجِبَابُ) جَمْعُ جُبٍّ (الْمَوْضُوعَةُ أَوْ الرَّكِيَّةُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالسِّقَايَاتِ الَّتِي يُتَوَهَّمُ فِيهَا إصَابَةُ النَّجَاسَةِ كُلُّ ذَلِكَ مَحْكُومٌ عَلَيْهَا بِطَهَارَتِهَا حَتَّى يُتَيَقَّنَ نَجَاسَتُهَا)

بِمَعْنَى أَكْبَرِ الظَّنِّ كَمَا مَرَّ فَيَشْتَمِلُ خَبَرَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ لَا الْفَاسِقَ وَالْمَسْتُورَ (وَفِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ الَّذِي يَجْرِي فِي السِّكَكِ، وَفِي السِّكَكِ نَجَاسَاتٌ ثُمَّ يَجْرِي الْمَاءُ فِي النَّهْرِ وَلَيْسَ فِي النَّهْرِ غَيْرُ هَذَا الْمَاءِ) ظَاهِرُهُ فَلَوْ كَانَ مَاءٌ غَيْرُ هَذَا الْمَاءِ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَإِلَّا فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ، وَهُوَ لَيْسَ بِجَائِزٍ مَا دَامَ يُرَى لَوْنُ النَّجَاسَةِ فَالظَّاهِرُ لَيْسَ بِاحْتِرَازِيٍّ بَلْ وُقُوعِيٌّ لِلْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي النَّهْرِ مَاءٌ غَيْرُ ذَلِكَ الْمَاءِ تَتَلَاشَى النَّجَاسَةُ وَلَا يُرَى لَوْنُهَا (لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَرَ لَوْنَ النَّجَاسَةِ) الظَّاهِرُ الْمُرَادُ مِنْ اللَّوْنِ مَا يَشْتَمِلُ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا عَلَى طَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَرَ لَوْنَ النَّجَاسَةِ لَكِنْ فِي طَعْمِهِ أَوْ رِيحِهِ نَجَاسَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ وَفِيهِ مَاءُ الثَّلْجِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الطَّرِيقِ، وَفِي الطَّرِيقِ سِرْقِينٌ وَنَجَاسَاتٌ إنْ ذَهَبَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَفِيهِ مَاءُ الثَّلْجِ وَالْمَطَرِ يَجْرِي فِي الطَّرِيقِ إنْ بَعِيدًا مِنْ الْأَلْوَاثِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ بِلَا كَرَاهَةٍ وَإِنْ جَارِيًا فِي طَرِيقٍ مُخْتَلِطَةٍ بِالْعَذِرَاتِ وَالْغَالِبُ هُوَ الْمَاءُ وَلَا أَثَرَ فِيهِ يَجُوزُ وَلَا يَخْلُو عَنْ الْكَرَاهَةِ، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: جَرَى مَاءٌ عَلَى جِيفَةٍ أَوْ سَطْحٍ نَجَسٍ إنْ كَانَ يُلَاقِي أَكْثَرُهُ النَّجِسَ أَوْ سَاوَاهُ فَنَجِسٌ، وَإِنْ أَقَلَّ فَلَا وَكَذَا بَطْنُ النَّهْرِ إنْ نَجِسًا لَكِنَّهُ جَرَى فِي النَّهْرِ مَاءٌ كَثِيرٌ لَا يُرَى مَا تَحْتَهُ فَهُوَ طَاهِرٌ وَإِنْ بَطْنُ النَّهْرِ نَجِسًا. (وَفِيهِ سُئِلَ الْخُجَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ رَكِيَّةٍ) أَيْ بِئْرٍ (وُجِدَ فِيهَا خُفٌّ لَا يَدْرِي مَتَى وَقَعَ فِيهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ هَلْ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ قَالَ لَا) فَلَوْ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي التتارخانية أَيْضًا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ خِرْقَةٌ أَوْ خَشَبَةٌ نَجِسَةٌ يُنْزَحُ كُلُّ الْمَاءِ وَلَوْ وَقَعَتْ خَشَبَةٌ نَجِسَةٌ فَتَشَرَّبَتْهُ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَلَا تَطْهُرُ الْخَشَبَةُ وَتُخْرَجُ مِنْهَا، وَقِيلَ عَنْ الْقُنْيَةِ وَكَذَا الْخُذْرُوفُ الَّذِي يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ (وَفِيهِ وَالْفَتْوَى فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِالنِّيلِ وَدُهْنِ السِّرَاجِ أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الطَّهَارَةُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ نَجَاسَتُهُ) بِالرُّؤْيَةِ أَوْ ظُهُورِ الْأَثَرِ أَوْ خَبَرِ عَدْلٍ أَوْ خَبَرِ مَسْتُورَيْنِ مَثَلًا (وَفِيهِ) أَيْ التتارخانية (م) أَيْ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ (وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الصَّابُونَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ مِنْ دُهْنِ الْكَتَّانِ وَدُهْنُ الْكَتَّانِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ أَوْعِيَتَهُ تَكُونُ مَفْتُوحَةَ الرَّأْسِ عَادَةً، وَالْفَأْرَةُ تَقْصِدُ شُرْبَهَا وَتَقَعُ فِيهَا غَالِبًا) وَلِلْغَالِبِ حُكْمُ الْكُلِّ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ مُلْحَقٌ بِالتَّيَقُّنِ (وَلَكِنَّا لَا نُفْتِي بِنَجَاسَةِ الصَّابُونِ) أَيْ ذَلِكَ الصَّابُونِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَضْلًا عَنْ الْمُطْلَقِ لَا سِيَّمَا مَا عُلِمَ عَدَمُ كَوْنِهِ كَذَلِكَ (؛ لِأَنَّا لَا نُفْتِي بِنَجَاسَةِ الدُّهْنِ) لِعَدَمِ تَيَقُّنِ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ فَلَمَّا وَرَدَ لَوْ سُلِّمَ عَدَمُ تَيَقُّنِ ذَلِكَ بِالتَّيَقُّنِ الْحَقِيقِيِّ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْحُكْمِيَّ لِمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ. قَالَ: (وَمَعَ هَذَا لَوْ أَنَّا نُفْتِي بِنَجَاسَةِ الدُّهْنِ لَا نُفْتِي بِنَجَاسَةِ الصَّابُونِ؛ لِأَنَّ الدُّهْنَ قَدْ تَغَيَّرَ، وَصَارَ شَيْئًا آخَرَ) ؛ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ تَبَدَّلَتْ بِمَاهِيَّةٍ أُخْرَى وَلِتَبَدُّلِ الْحَقِيقَةِ تَأْثِيرٌ فِي الطَّهَارَةِ مِثْلُ الْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ وَالْكَلْبِ أَوْ الْحِمَارِ إذَا وَقَعَ فِي الْمَمْلَحَةِ، وَصَارَ مِلْحًا لَكِنْ إنْ ادَّعَى كُلِّيَّةَ ذَلِكَ فَلَا يُسَلَّمُ لِمَا فِي التتارخانية أَيْضًا خَشَبَةٌ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ فَاحْتَرَقَتْ فَوَقَعَ رَمَادُهَا فِي الْبِئْرِ يَفْسُدُ الْمَاءُ وَكَذَا رَمَادُ الْعَذِرَةِ الَّتِي احْتَرَقَتْ فَوَقَعَ رَمَادُهَا فِي الْبِئْرِ وَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِي خِلَافِهِ وَلَا شَكَّ فِي تَبَدُّلِ الْمَاهِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلِّيَّةً فَلَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ لِعَدَمِ مَعْلُومِيَّةِ دُخُولِ مَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمَطْلَبُ ظَنِّيٌّ يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الظَّنِّ وَادَّعَى وُجُودَ الظَّنِّ فَافْهَمْ. (وَفِيهِ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّنْ يَغْسِلُ الدَّابَّةَ يُصِيبُهُ) عِنْدَ الْغَسْلِ (مِنْ مَائِهَا) أَيْ مِنْ غُسَالَةِ الدَّابَّةِ وَلَوْ حِمَارًا (أَوْ مِنْ عَرَقِهَا) وَلَوْ غَيْرَ وَقْتِ الْغَسْلِ (قَالَ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ قِيلَ فَإِنْ كَانَتْ تَمَرَّغَتْ فِي بَوْلِهَا وَرَوْثِهَا قَالَ إذَا جَفَّ وَتَنَاثَرَ

وَذَهَبَتْ عَيْنُهُ لَا يَضُرُّهُ أَيْضًا) وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِي الْبَوْلِ تَحَقُّقُ الضَّرَرِ؛ لِأَنَّ الْجَفَافَ وَالتَّنَاثُرَ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ لَكِنْ لِعِلَّةِ الْحَرَجِ أُلْحِقَ بِالْأَرْضِ النَّجِسَةِ فِي الطَّهَارَةِ بِالْيُبْسِ وَذَهَابِ الْأَثَرِ؛ وَلِذَا قَالُوا: إنَّ الْأَرْضَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الْأَحْجَارِ وَالنَّبَاتَاتِ وَكَذَا الدَّوَابُّ إذَا تَنَجَّسَتْ تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ، وَذَهَابِ الْأَثَرِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «زَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا» . وَأَمَّا الدَّوَابُّ فَبِإِلْحَاقِ دَلَالَةٍ أَوْ مُقَايَسَةٍ بِجَامِعِ الْحَرَجِ وَأَمَّا الْحَشِيشُ النَّجِسُ وَمَا نَبَتَ فِي الْأَرْضِ فَطَهُرَتْ بِالْجَفَافِ وَالشَّجَرُ وَالْكَلَأُ إنْ قَامَ عَلَى الْأَرْضِ فَفِي طَهَارَتِهِ بِالْجَفَافِ اخْتِلَافٌ (وَفِي الْعَتَّابِيَّةِ فَعَلَى هَذَا إذَا جَرَى الْفَرَسُ فِي الْمَاءِ وَابْتَلَّ ذَنَبُهُ فَضَرَبَ بِهِ رَاكِبَهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضُرَّهُ) أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ظَاهِرُهُ، وَإِنْ عَلِمَ تَلَطُّخَهُ بِالْبَوْلِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عَدَمِ مُعَايَنَةِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ (وَفِيهِ السَّخْلَةُ) وَلَدُ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ سُمِّيَ بِهَا مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى (إذَا خَرَجَتْ مِنْ أُمِّهَا فَتِلْكَ الرُّطُوبَاتُ) الَّتِي عَلَيْهَا (لَا يَتَنَجَّسُ بِهَا الثَّوْبُ وَلَا الْمَاءُ وَكَذَلِكَ الْبَيْضَةُ) فِي الطَّهَارَةِ وَعَنْ مُخْتَصَرِ مَجْمَعِ الْفَتَاوَى الْبَيْضَةُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الدَّجَاجَةِ فَوَقَعَتْ فِي الْمَاءِ وَهِيَ رَطْبَةٌ أَوْ يَابِسَةٌ لَا تُفْسِدُ الْمَاءَ وَهَذَا حُكْمُ السَّخْلَةِ رَطْبَةً أَوْ يَابِسَةً فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ إنْ كَانَتْ رَطْبَةً أَفْسَدَتْ الْمَاءَ وَإِنْ يَابِسَةً لَا، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ الْبَيْضَةُ الرَّطْبَةُ أَوْ السَّخْلَةُ الرَّطْبَةُ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ تُنَجِّسُ وَإِنْ يَابِسَةً لَا وَعَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ طَاهِرٌ فِي الْحَالَيْنِ كَمَا فِي الْإِنْفَحَةِ الْخَارِجَةِ بَعْدَ مَوْتِ السَّخْلَةِ (وَفِيهِ الرُّطُوبَةُ الَّتِي عَلَى الْوَلَدِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ طَاهِرَةٌ) ثُمَّ قَالَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ الْمُلْتَقِطِ: السَّخْلَةُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ أُمِّهَا فَتِلْكَ الرُّطُوبَاتُ طَاهِرَةٌ لَا يَتَنَجَّسُ بِهَا الثَّوْبُ وَلَا الْمَاءُ وَكَذَلِكَ الْبَيْضَةُ لَكِنْ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْحُجَّةِ وَيُكْرَهُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ ثُمَّ قَالَ، وَفِي الْخَانِيَّةِ وَكَذَا أَنَفْحَةُ الشَّاةِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَفِي الْعَتَّابِيَّةِ هُوَ الْمُخْتَارُ وَعِنْدَ بَعْضٍ يَتَنَجَّسُ وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ، وَفِي الْمَنْظُومَةِ أَنَفْحَةُ الْمَيْتَةِ وَالْأَلْبَانُ ... طَاهِرَةٌ وَيَسْتَمِرُّ الشَّانُ وَأَوْجَبَا فِي الْجَامِدَاتِ غَسْلَهَا ... وَحَرَّمَا فِي الذَّائِبَاتِ أَكْلَهَا (وَفِيهِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ نَزْحُ بَعْضِ الْمَاءِ فَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ فَأْرَةٌ أَوْ عُصْفُورَةٌ أَوْ دَجَاجَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ سِنَّوْرٌ، وَأُخْرِجَتْ مِنْهَا حَيَّةً لَا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ، وَلَا يَجِبُ نَزْحُ شَيْءٍ مِنْهُ وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ التَّنَجُّسِ، وَعَدَمُ وُجُوبِ النَّزْحِ (اسْتِحْسَانٌ) الظَّاهِرُ مِنْ قَبِيلِ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ وَإِلَّا فَلَا يُرَجَّحُ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ كَمَا فَصَّلَ فِي الْأُصُولِ (؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مَا دَامَتْ حَيَّةً طَاهِرَةٌ) فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَوْ صَلَّى، وَعَلَيْهِ هِرَّةٌ جَازَ قِيلَ: ضَابِطُ مَا يَكُونُ نَجِسًا لَا لِعَيْنِهِ كَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْهِرَّةِ وَسَائِرِ السِّبَاعِ لَا يُنَجِّسُهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَلَا يَكُونُ الْمَاءُ مَشْكُوكًا عَلَى مَا فِي الْمُحِيطِ (وَالْقِيَاسُ أَنَّ تَنَجُّسَ الْبِئْرُ بِوُقُوعِ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِيهَا، وَإِنْ أُخْرِجَ حَيًّا؛ لِأَنَّ سَبِيلَ) أَيْ دُبُرَ (هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ نَجِسٌ فَتَنْحَلُّ النَّجَاسَةُ فِي الْمَاءِ فَتُوجِبُ تَنَجُّسَ الْمَاءِ) لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ سَبِيلِهَا نَجِسًا لَيْسَ بِمُتَيَقَّنٍ بَلْ لَوْ تُتُبِّعَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ الْأَكْثَرُ بِلَا نَجَاسَةٍ، وَتَفْصِيلُهُ إنْ أُرِيدَ تَيَقُّنُ النَّجَاسَةِ فِي تِلْكَ السُّبُلِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَإِنْ شَكَّهَا أَوْ ظَنَّهَا فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ (لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآثَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) الظَّاهِرُ بِلَا خِلَافٍ فَيَحِلُّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ سَنَدَهُ، وَإِلَّا فَلَا تَأْثِيرَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْحَدِيثِ فَتَأَمَّلْ

(فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا نَجَاسَةَ السَّبِيلِ حَتَّى أُمِرُوا بِنَزْحِ بَعْضِ مَاءِ الْبِئْرِ بَعْدَ مَوْتِ الْفَأْرَةِ فِيهِ وَلَوْ اعْتَبَرُوا نَجَاسَةَ السَّبِيلِ لَأُمِرُوا بِنَزْحِ جَمِيعِ الْمَاءِ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا) مَعَ عَدَمِ التَّنَجُّسِ وَعَدَمِ وُجُوبِ النَّزْحِ (إنْ كَانَ الْوَاقِعُ فَأْرَةً) وَأُخْرِجَتْ حَيَّةً (يُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يَنْزَحُوا عِشْرِينَ دَلْوًا) وَسَطًا أَوْ دَلْوَ كُلِّ بِئْرٍ أَوْ دَلْوَ الْبِئْرِ عَلَى قَدْرِ الْبِئْرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّوَالِي فِي النَّزْحِ (وَإِنْ كَانَ) الْوَاقِعُ (سِنَّوْرًا أَوْ دَجَاجَةً مُخَلَّاةً) جَائِلَةً بَيْنَ عَذِرَاتِ النَّاسِ (يُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَنْ يَنْزَحُوا أَرْبَعِينَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ سُؤْرَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مَكْرُوهٌ) وَلَوْ تَنْزِيهًا (عَلَى مَا يَأْتِي) الظَّاهِرُ عِلَّةٌ عَلَى كَوْنِ النَّزْحِ أَرْبَعِينَ وَقَدْ كَانَ فِي الْأَوَّلِ عِشْرِينَ وَلَوْ جُعِلَ سُؤْرُ الْفَأْرَةِ مَكْرُوهًا وَلَوْ مَرْجُوحًا تَكُونُ الْإِشَارَةُ إلَى كِلَا النَّوْعَيْنِ فَيَكُونُ وَجْهُ التَّفَاوُتِ فِي النَّوْعَيْنِ بِالْعَظِيمَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْكَثْرَةِ وَعَنْ الْأَصْلِ الْأَحْسَنُ أَنْ يُنْزَحَ دِلَاءٌ وَلَمْ يُقَدِّرْ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَنْزِحُ لَا يَنْزِحُ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دَلْوًا (وَالْحَالُ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَاءَ يُصِيبُ فَمَ الْوَاقِعِ حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْمَاءَ لَمْ يُصِبْ فَمَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ مِنْ الْمَاءِ) لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ كَوْنُ سَبَبِ النَّزَحِ هَذَا الْغَالِبَ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ قِيَاسَ النَّجَسِيَّةِ هُوَ السَّبِيلُ وَأَنَّ لِلْغَالِبِ حُكْمَ التَّيَقُّنِ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا مَرَّ قَرِيبًا إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ هُنَا قِيَاسَيْنِ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ بِأَحَدِهِمَا، وَفِي الْآخَرِ بِالْآخَرِ وَلَا يُتَوَجَّهُ عِنْدَنَا عَلَيْنَا بِأَنَّ الْقِيَاسَيْنِ رَاجِحَانِ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ؛ إذْ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَالْقِيَاسِ (وَإِنْ كَانَتْ الدَّجَاجَةُ غَيْرَ مُخَلَّاةٍ لَا يُنْزَحُ مِنْهَا شَيْءٌ) فِي الْحَاشِيَةِ؛ لِأَنَّ سُؤْرَهَا لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ نَقْرِ النَّجَاسَةِ بِمِنْقَارِهَا، وَفِي الْمَحْبُوسَةِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ بِخِلَافِ السِّنَّوْرِ وَالْفَأْرَةِ انْتَهَى لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا سَبَقَ فِي نَجِسِ السَّبِيلِ فَتَدَبَّرْ (وَفِيهِ إذَا غَمَسَ الرَّجُلُ يَدَهُ فِي سَمْنٍ نَجِسٍ) بِكَسْرِ الْجِيمِ (ثُمَّ غَسَلَ الْيَدَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي بِغَيْرِ حَوْضٍ) أَوْ نَحْوِهِ (وَأَثَرُ السَّمْنِ بَاقٍ عَلَى يَدِهِ طَهُرَتْ يَدُهُ) عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِخِلَافِ السَّمْنِ النَّجَسِ بِالْفَتْحِ كَسَمْنِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا أَصَابَ شَيْئًا لَا يَطْهُرُ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَدَمُ أَثَرِهِ؛ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ لِذَاتِهِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ (؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ السَّمْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ، وَقَدْ زَالَتْ الْمُجَاوَرَةُ عَنْهُ) بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ وَيُقَرِّبُهُ مَا قَالُوا: إنَّ مَا فِي زَوَالِهِ مَشَقَّةٌ فَمَعْفُوٌّ (فَبَقِيَ عَلَى يَدِهِ سَمْنٌ طَاهِرٌ) ثُمَّ قَالَ فِيهِ: لِأَنَّ تَطْهِيرَ السَّمْنِ بِالْمَاءِ مُمْكِنٌ كَأَنْ يَجْعَلَ الدُّهْنَ فِي إنَاءٍ فَيَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَعْلُو الدُّهْنُ الْمَاءَ فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ فَيَطْهُرُ فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنْ زَالَ الْأَثَرُ فِي الْأُولَى قِيلَ: يَطْهُرُ، وَقِيلَ: لَا اعْتِبَارَ بِغَيْرِ الْمَرْئِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ (وَفِيهِ ثُمَّ يُشْتَرَطُ الْعَصْرُ) فِيمَا يَنْعَصِرُ فِي غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) بِالْمُبَالَغَةِ، وَفِي الثَّالِثَةُ عَلَى طَاقَتِهِ لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ: التَّقْدِيرُ لَيْسَ بِلَازِمٍ عِنْدَنَا بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ فَيَطْهُرُ بِمَا دُونَ ثَلَاثٍ، وَعَنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ إلَى أَنْ يَسْكُنَ قَلْبُهُ إلَيْهِ وَتَقْدِيرُ الثَّلَاثِ مَذْهَبًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَطْهُرُ بِالْوَاحِدَةِ إذَا خَرَجَ الْمَاءُ مُتَغَيِّرًا، وَاشْتِرَاطُ الثَّلَاثِ (فِي) ظَاهِرِ رِوَايَةِ الْأَصْلَ (أَنَّهُ أَحْوَطُ، وَفِي) غَيْرِ (رِوَايَةِ) الْأَصْلِ (يَكْتَفِي بِالْعَصْرِ مَرَّةً) وَاحِدَةً (وَهُوَ أَوْسَعُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ، وَفِي النَّوَازِلِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) ثُمَّ قَالَ فِي عَقِبِهِ: يَكْفِي صَبُّ الْمَاءِ فِي الْبَوْلِ أَوْ النَّجَسِ، وَيَطْهُرُ الثَّوْبُ عَلَى قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا اتَّزَرَ فِي الْحَمَّامِ وَصَبَّ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّهْرُ وَالْبَطْنُ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ الْجَنَابَةِ ثُمَّ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى الْإِزَارِ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْإِزَارِ، وَإِنْ لَمْ يَعْصِرْهُ: وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إذَا صَبَّ الْمَاءَ عَلَى الْإِزَارِ وَأَمَرَّ الْمَاءَ يَكْفِيهِ فَوْقَ الْإِزَارِ، وَإِنْ لَمْ يَعْصِرْهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ فَهُوَ أَحْسَنُ

وَأَحْوَطُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُجْزِهِ ثُمَّ قَالَ (وَفِي الْمُنْتَقَى: شَرَطَ الْعَصْرَ مَرَّةً عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ فِي الثَّوْبِ يُصِيبُهُ مِثْلُ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ الْبَوْلِ فَصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ صَبَّةً وَاحِدَةً وَعَصَرَهُ طَهُرَ وَكَذَلِكَ إذَا غَمَسَهُ غَمْسَةً وَاحِدَةً فِي إنَاءٍ وَنَهْرٍ جَارٍ وَعَصَرَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَطْهُرُ، وَإِنْ غَمَسَهُ غَمْسَةً وَاحِدَةً سَابِغَةً) أَيْ كَامِلَةً (لَمْ يَطْهُرْ قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُرِيدُ بِهِ إذَا لَمْ يَعْصِرْهُ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ رَطْبَةً لَا يُشْتَرَطُ الْعَصْرُ) لِاضْمِحْلَالِهَا حِينَئِذٍ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ إذَا أَصَابَ ثَوْبَهُ بَوْلُ صَبِيٍّ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَلَا يَعْصِرُهُ» ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً يُشْتَرَطُ) الْعَصْرُ لِقُوَّةِ لُصُوقِهَا بِالْمَحَلِّ بِجَفَافِهَا (انْتَهَى) مَا فِي التتارخانية لَا مَا فِي النَّوَازِلِ كَمَا تُوُهِّمَ ثُمَّ قَالَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُشْتَرَطُ الْعَصْرُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَالِغَ فِي الْعَصْرِ فِي الثَّالِثَةِ حَتَّى يَصِيرَ الثَّوْبُ بِحَالٍ لَوْ عَصَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسِيلُ مِنْهُ الْمَاءُ وَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ قُوَّتُهُ وَطَاقَتُهُ. (وَفِي التَّجْنِيسِ: قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ) تَنْزِيهًا (فِي ثِيَابِ الْفَسَقَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ الْخُمُورَ إلَّا أَنَّ الْأَصَحَّ لَا تُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُكْرَهُ فِي ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا السَّرَاوِيلَ مَعَ أَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ) وَالْفَسَقَةُ لَا يَسْتَحِلُّونَهُ لَعَلَّ مَبْنَاهُ أَصَالَةُ الطَّهَارَةِ وَالظَّنُّ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ تَوَقِّي الْخَمْرِ لَا يُفِيدُ غَلَبَةَ ظَنٍّ بَلْ غَايَتُهُ إيرَاثُ ظَنٍّ وَذَا لَا يُفِيدُ لَكِنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ تَجَنُّبُ الْوَرَعِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَةِ الْخِلَافِ إيرَاثُ شُبْهَةٍ وَقَدْ مَرَّ مِرَارَ تَأْثِيرِ الشُّبْهَةِ فِي الْحُرْمَةِ (وَفِيهِ رَجُلٌ أَصَابَهُ طِينٌ أَوْ مَشَى فِي طِينٍ، وَلَمْ يَغْسِلْ قَدَمَيْهِ) وَبَدَنَهُ (وَصَلَّى) مَعَهُ (تُجْزِئُهُ) الصَّلَاةُ (مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ انْتَهَى) كَلَامُ التَّجْنِيسِ. وَفِي التتارخانية: إذَا جَعَلَ الطِّينَ النَّجِسَ كُوزًا يَطْهُرُ بِالطَّبْخِ، وَفِيهِ إذَا لِينَ بِالْمَاءِ النَّجَسُ أَوْ التُّرَابُ النَّجِسُ وَأُحْرِقَ بِالنَّارِ طَهُرَ وَلَوْ جَفَّ بِلَا نَارٍ فَكَذَا إلَّا أَنَّهُ تَعُودُ النَّجَاسَةُ بِإِعَادَةِ الْمَاءِ، وَفِيهِ الْمَحْلُوجُ النَّجِسُ إذَا نُدِفَ إنْ النَّجِسُ قَلِيلًا مِنْ النِّصْفِ طَهُرَ بِهَذَا الْفِعْلِ وَإِلَّا فَلَا، وَفِيهِ إذَا أَصَابَ نَعْلَهُ بَوْلٌ أَوْ خَمْرٌ ثُمَّ مَشَى عَلَى التُّرَابِ فَلَزِقَ بَعْضُ التُّرَابِ وَجَفَّ وَمَسَحَهُ بِالْأَرْضِ يَطْهُرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَفِي رَاوِيَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَمْ يُشْتَرَطْ الْجَفَافُ وَعَنْ بَعْضٍ يُفْتَى بِهِ تَوْسِعَةً وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا الْتَقَى تُرَابًا أَوْ رَمَادًا عَلَى خُفٍّ أَصَابَهُ بَوْلٌ وَمَسَحَهُ مُبَالَغَةً إلَى أَنْ لَا يَبْقَى أَثَرُ النَّجَاسَةِ يَطْهُرُ وَكَذَا فِيمَا لَهَا جُرْمٌ وَكَانَتْ رَطْبَةً وَعِنْدَهُمَا لَا يَطْهُرُ مَا لَمْ يُغْسَلْ (وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ كَانَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إذَا تَرَشَّشَ الْبَوْلُ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ) أَكْبَرَ مِنْ رُءُوسِ الْإِبَرِ وَإِلَّا فَمَعْفُوٌّ (فَحَثَى عَلَيْهِ التُّرَابَ وَتَرَاكَهُ حَتَّى جَفَّ ثُمَّ حَكَّهُ أَجْزَأَهُ) ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ ذَا جُرْمٍ فَيَكْفِيهِ الْحَكُّ إذَا جَفَّ بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَا الرَّطْبُ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى (انْتَهَى) . كَذَا فِي الْبَدَائِعِ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ أَذًى أَوْ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ

فِيهِمَا» ، وَفِي الْكَافِي وَالْفَتْوَى: أَنَّهُ يَطْهُرُ لَوْ مَسَحَهُ بِالْأَرْضِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ (وَفِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النَّجِسُ إذَا أَصَابَ شَيْئًا مِمَّا لَا تَتَشَرَّبُ فِيهِ النَّجَاسَةُ كَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عَصْرٍ انْتَهَى) وَظَاهِرُهُ لُزُومُ تَثْلِيثِ الْغَسْلِ مُطْلَقًا مُصَيْقَلًا أَوْ لَا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِمَا فِي التتارخانية أَنَّ السَّيْفَ إذَا أَصَابَهُ دَمٌ أَوْ عَذِرَةٌ فَمَسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ تُرَابٍ أَنَّهُ يَطْهُرُ فَلَوْ قَطَعَ بِطِّيخًا يُؤْكَلُ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِسُيُوفِهِمْ وَيَمْسَحُونَ السُّيُوفَ وَيُصَلُّونَ مَعَهَا بَلْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا: الْحَدِيدُ النَّجِسُ الْغَيْرُ الْمُمَوَّهِ بِالنَّجَاسَةِ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ وَالْمَسْحِ بِخِرْقَةِ لَكِنْ عَنْ الْأُصُولِ طَهُورُهُ بِالْغَسْلِ فَقَطْ، وَلَوْ أَدْخَلَ الْحَدِيدَ فِي النَّارِ يَطْهُرُ إنْ ذَهَبَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ كَرَأْسِ شَاةٍ مُلَطَّخٍ أُحْرِقَ وَزَالَ الدَّمُ يَطْهُرُ، وَفِيهِ أَيْضًا إذَا مَسَحَ النَّجَاسَةَ فِي أَعْضَائِهِ بِيَدِهِ الْمُبْتَلَّةِ ثَلَاثًا إنْ مُتَقَاطِرَةً جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَفِيهِ أَيْضًا إذَا مَسَحَ التَّنُّورَ بِخِرْقَةِ مُبْتَلَّةٍ بِنَجَسٍ ثُمَّ خَبَزَ فِيهِ إنْ مَحَتْ حَرَارَةُ النَّارِ بِلَّةَ الْمَاءِ قَبْلَ إلْصَاقِ الْخُبْزِ بِالتَّنُّورِ لَا يَتَنَجَّسُ الْخُبْزُ وَالْأَرْضُ النَّجِسَةُ إذَا جَفَّتْ وَلَمْ يُرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ طَهُرَتْ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لَا التَّيَمُّمِ وَلَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ تَعُودُ نَجِسَةً، وَالْحَجَرُ الَّذِي لَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ يَطْهُرُ بِالْيُبْسِ، وَاَلَّذِي يَتَشَرَّبُ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ لَكِنْ عَنْ الْخُلَاصَةِ السَّيْفُ وَالسِّكِّينُ إذَا أَصَابَهُمَا نَجَاسَةٌ إنْ بَوْلًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَإِلَّا فَيُمْسَحُ بِنَحْوِ التُّرَابِ. (وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ شَيْئًا يَتَشَرَّبُ فِيهِ الْقَلِيلُ كَالْبَدَنِ وَالْخُفِّ وَالنَّعْلِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْتَخْرِجُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ مِنْ غَيْرِ عَصْرٍ انْتَهَى) وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَثِيرًا لَزِمَ الْعَصْرُ، وَمَا ذُكِرَ لَيْسَ مِمَّا يَقْبَلُ الْعَصْرَ، وَفِي التتارخانية ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي النَّجَاسَةِ الَّتِي لَهَا جُرْمٌ إذَا أَصَابَتْ الْخُفَّ أَوْ النَّعْلَ وَحَكَّهَا أَوْ حَتَّهَا بَعْدَمَا يَبِسَتْ أَنَّهَا تَطْهُرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي الْأَصْلِ تَطْهُرُ بِمَسْحِ التُّرَابِ وَقَالَ مَشَايِخُنَا: لَوْلَا مَا فِي الْجَامِعِ لَنَقُولُ: لَا تَطْهُرُ إلَّا بِمَسْحِ التُّرَابِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ بِالتُّرَابِ لَهُ أَثَرٌ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ فَلِلْحَكِّ أَثَرٌ أَيْضًا ثُمَّ عِنْدَ وُجُوبِ غَسْلِ الْخُفِّ أَوْ النَّعْلِ فَإِنْ الْجِلْدُ صَلْبًا يُنَشِّفُ رُطُوبَاتِ النَّجَاسَةِ يَطْهُرُ. وَقَالَ بَعْضٌ: لَا يَطْهُرُ أَبَدًا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَصَرَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُنْقَعُ ثَلَاثًا فِي مَاءٍ طَاهِرٍ وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فِي رِوَايَةٍ. وَفِي الثَّلَاثَةِ فِي أُخْرَى وَقَاسُوا الْخُفَّ وَالنَّعْلَ عَلَى الْخَزَفِ الْجَدِيدِ وَالْآجُرِّ الْجَدِيدِ وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْخُفِّ وَغَيْرِهِ بِلَا تَفْصِيلٍ بَيْنَ خُفٍّ وَخُفٍّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَفِي الْحُجَّةِ حَدُّ التَّجْفِيفِ عَدَمُ ابْتِلَالِ الْيَدِ بِلَا اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ يَابِسًا انْتَهَى مُلَخَّصًا (وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: يُتَوَضَّأُ مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي يُدْلَى فِيهَا الدِّلَاءُ وَالْجِرَارُ) كَالْكُوزِ (الدَّنِسَةِ) بِلَا تَيَقُّنِ نَجَاسَةٍ (يَحْمِلُهَا الصِّغَارُ وَالْعَبِيدُ) الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ التَّوَقِّي عَنْ النَّجَاسَةِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْهَا (لَا يَعْلَمُونَ الْأَحْكَامَ) وَلَوْ إجْمَالًا وَتَقْلِيدًا (وَيَمَسُّهَا الرُّسْتَاقِيُّونَ) أَهْلُ الْقُرَى؛ إذْ مِنْ شَأْنِهِمْ عَدَمُ عِلْمِ الْأَحْكَامِ أَيْضًا (بِالْأَيْدِي الدَّنِسَةِ مَا لَمْ يُعْلَمْ النَّجَاسَةُ) بِظُهُورِ الْأَثَرِ أَوْ خَبَرِ الْعَدْلِ أَوْ الْعَدَدِ أَوْ الرُّؤْيَةِ لَعَلَّ مَبْنَى الْحُكْمِ الطَّهَارَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَعَدَمُ زَوَالِ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ بَلْ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ كَمَا مَرَّ أَوْ الْعُسْرُ وَالْحَرَجُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى. (وَفِيهِ فِي يَدِهِ نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ فَجَعَلَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى عُرْوَةِ الْإِبْرِيقِ كُلَّمَا صَبَّ عَلَى الْيَدِ، فَإِنْ غُسِلَ ثَلَاثًا طَهُرَتْ الْعُرْوَةُ مَعَ طَهَارَةِ الْيَدِ) بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ (؛ لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا) أَيْ الْعُرْوَةِ (بِنَجَاسَتِهَا) بِسَبَبِ نَجَاسَةِ الْيَدِ (فَطَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهَا) يَسْبِقُ إلَى الْخَاطِرِ فِيهِ كَلَامٌ فَتَأَمَّلْ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الْإِطْلَاقُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّصَ بِالْغَيْرِ الْمَرْئِيِّ، وَيُقَالُ فِي الْمَرْئِيِّ لَا بُدَّ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْ إصَابَةِ الْإِبْرِيقِ مَثَلًا؛ لِأَنَّهَا مَتَى أَصَابَتْهُ تَنَجَّسَ وَكَذَا مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَزُلْ عَنْهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ (انْتَهَى) كَلَامُ فَتْحِ الْقَدِيرِ (وَفِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى وَالْقُنْيَةِ الْجُلُودُ الَّتِي تُدْبَغُ فِي بِلَادِنَا وَلَا يُغْسَلُ مَذْبَحُهَا وَلَا يُتَوَقَّى النَّجَاسَاتُ

فِي دَبْغِهَا) بَلْ تُعَالَجُ بِنَجَاسَةِ الْكِلَابِ (وَيُلْقُونَهَا عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ وَلَا يَغْسِلُونَهَا بَعْدَ تَمَامِ الدَّبْغِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْخِفَافِ وَغِلَافِ الْكُتُبِ وَالْقِرَابِ وَالدِّلَاءِ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا) إذَا لَمْ يُرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ لَعَلَّ وَجْهَهُ إمَّا الْحَرَجُ، وَعُمُومُ الْبَلْوَى أَوْ التَّلَاشِي بِأَعْمَالِ الدِّبَاغَةِ، وَعَنْ الْخُلَاصَةِ إذَا دُبِغَ الْجِلْدُ بِالْمَاءِ النَّجَسِ يُغْسَلُ بِالْمَاءِ وَيَطْهُرُ، وَالتَّشَرُّبُ عَفْوٌ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُبَيِّنُ الْعَيْبَ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْعَيْبِ وَعَنْ الْبَزَّازِيِّ دُبِغَ الْجِلْدُ بِالْمَاءِ النَّجَسِ يُغْسَلُ بِالطَّاهِرِ، وَالتَّشَرُّبُ عَفْوٌ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْبَيَانِ وَلَوْ بِلَا بَيَانٍ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي (وَفِيهِمَا) أَيْ فِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى وَالْقُنْيَةِ (صَلَّى وَمَعَهُ عُنُقُ شَاةٍ غَيْرُ مَغْسُولٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ مَا سَالَ مِنْهُ) أَيْ النَّجَسِ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحِ وَقَدْ سَالَ (وَمَا بَقِيَ لَا بَأْسَ بِهِ) وَلِذَا قَالُوا: إنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّمِ فِي عُرُوقِ الْمُذَكَّاةِ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا يُغْسَلُ وَإِنْ فَحُشَ كَذَا نُقِلَ عَنْ قَاضِي خَانْ (وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي نَصْرٍ الدَّبُوسِيِّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (طِينُ الشَّوَارِعِ وَمَوَاطِئُ الْكِلَابِ فِيهِ) أَيْ فِي الطِّينِ (طَاهِرٌ وَكَذَا الطِّينُ الْمُسَرْقَنُ) أَيْ الْمَخْلُوطُ بِالسِّرْقِينِ (وَرَزْغَةُ) بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّاي وَالْغَيْنِ بِمَعْنَى الطِّينِ (طَرِيقٍ فِيهِ نَجَاسَاتٌ طَاهِرَةٌ إلَّا إذَا رَأَى عَيْنَ النَّجَاسَاتِ قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ وَقَرِيبٌ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَنْ أَصْحَابِنَا مِنْ مُنْيَةِ الْفُقَهَاءِ انْتَهَى) كَلَامُ الْقُنْيَةِ وَمَجْمَعِ الْفَتَاوَى، وَفِي قَاضِي خَانْ إذَا جَعَلَ السِّرْقِينَ فِي الطِّينِ فَطُيِّنَ بِهِ شَيْءٌ فَيَبِسَ فَوُضِعَ عَلَيْهِ مَنْدِيلٌ مَبْلُولٌ لَا يَتَنَجَّسُ السِّرْقِينُ الْجَافُّ وَالتُّرَابُ النَّجِسُ إذَا ذَهَبَتْ بِهِ الرِّيحُ فَأَصَابَ شَيْئًا لَا يَتَنَجَّسُ مَا لَمْ يُرَ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ وَلَوْ مَرَّ عَلَى النَّجَاسَاتِ وَثَمَّةَ ثَوْبٌ مَبْلُولٌ مُعَلَّقٌ يُصِيبُهُ بِهِ الرِّيحُ قِيلَ بِأَنَّهُ يَتَنَجَّسُ، وَفِيهِ الْكَلْبُ إذَا أَخَذَ عُضْوَ إنْسَانٍ أَوْ ثَوْبَهُ بَغْتَةً إنْ أَخَذَهُ فِي الْغَضَبِ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ أَخَذَهُ فِي الْمِزَاحِ وَاللَّعِبِ يَفْسُدُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ يَأْخُذُ بِسُنَّةِ وَلَيْسَ بِنَجَسٍ، وَفِي الثَّانِي بِفَمِهِ وَلُعَابِهِ وَفِيهِ إذَا مَشَى كَلْبٌ عَلَى ثَلْجٍ فَوَضَعَ إنْسَانٌ رِجْلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إنْ الثَّلْجُ رَطْبًا بِحَيْثُ لَوْ وُضِعَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَبْتَلُّ يَصِيرُ الثَّلْجُ نَجِسًا فَمَا يُصِيبُهُ يَكُونُ نَجِسًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَطْبًا لَا يَتَنَجَّسُ، وَقِيلَ بِأَنْ لَا يَتَنَجَّسَ الثَّلْجُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَكَذَا الْكَلْبُ إذَا مَشَى فِي طِينِ رَزْغَةٍ يُنَجِّسُ الطِّينَ وَالرَّزْغَةَ، وَفِي الْخُلَاصَةِ الْكَلْبُ إذَا دَخَلَ الْمَاءَ ثُمَّ خَرَجَ فَانْتَفَضَ فَأَصَابَ ثَوْبَ إنْسَانٍ أَفْسَدَهُ، وَلَوْ أَصَابَهُ مَاءُ الْمَطَرِ لَمْ يُفْسِدْ الْكَلْبُ إذَا تَنَفَّسَ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ حَتَّى انْجَمَدَ الثَّوْبُ مِنْ نَفَسِهِ يَنْجُسُ الثَّوْبُ الْكَلْبُ إذَا بَال عَلَى طِينِ إنْ لَمْ يُرَ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَا يَتَنَجَّسُ؛ إذْ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ النَّجَاسَةَ، وَفِي التتارخانية إذَا مَشَى بِرِجْلِهِ الْمَغْسُولَةِ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ فَابْتَلَّتْ الْأَرْضُ مِنْ رِجْلِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ بَلَلِ الْأَرْضِ فِي رِجْلِهِ لَا تَتَنَجَّسُ، وَإِنْ ظَهَرَ أَثَرُ بَلَلِ الْأَرْضِ أَيْ طِينِهَا فِي رِجْلِهِ تَتَنَجَّسُ (وَفِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى غَسَلَ الثَّوْبَ النَّجِسَ بِالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وَكَذَا بِغَيْرِهِمَا مِنْ قَالِعِ النَّجَاسَاتِ (وَقَدْ بَقِيَ فِيهِ) أَيْ الثَّوْبِ (شَيْءٌ مِنْ الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ مُلْتَصِقًا بِهِ) أَيْ الثَّوْبِ (طَهُرَ) ؛ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ فَيَطْهُرُ بِطَهَارَتِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ (وَفِيهِ، وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي ظَهِيرِ الدِّينِ) أَيْ الظَّهِيرِيَّةِ (وَمَا يُصِيبُ الثَّوْبَ مِنْ بُخَارَاتِ النَّجَاسَاتِ) كَبُخَارِ الْكَنِيفِ وَالْإِصْطَبْلِ وَالْحَمَّامِ (قِيلَ يَتَنَجَّسُ بِهَا وَقِيلَ: لَا يَتَنَجَّسُ الثَّوْبُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ) وَإِنْ كَانَتْ نَجِسَةً تَخْفِيفًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَلِأَنَّ فِيهِ تَبَدُّلَ الْحَقِيقَةِ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ فِي الطَّهَارَةِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ، وَفِي التتارخانية إذَا أُحْرِقَتْ الْعَذِرَةُ فِي بَيْتٍ فَعَلَا دُخَانُهَا وَبُخَارُهَا إلَى الطَّابَقِ فَانْعَقَدَ ثُمَّ ذَابَ أَوْ عَرِقَ

الطَّابَقُ فَأَصَابَ مَاؤُهُ ثَوْبًا لَا يُفْسِدُهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ النَّجَاسَةِ وَبِهِ يُفْتَى وَمُخْتَارُ الْمَرْغِينَانِيِّ وَكَذَا عَرَقُ الْإِصْطَبْلِ إذَا تَقَاطَرَ مِنْهُ وَكَذَا الْحَمَّامُ إذَا أُهْرِيقَ فِيهِ النَّجَاسَاتُ فَعَرِقَ حِيطَانُهُ وَتَقَاطَرَ وَكَذَا كُوزٌ فِي إصْطَبْلٍ فَتَرَشَّحَ فِي الْقِيَاسِ نَجِسٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ طَاهِرٌ (وَفِيهِ وَفِي الْمُنْيَةِ سُئِلَ نُورُ الْأَئِمَّةِ عَمَّنْ اسْتَقَى مِنْ الْوَادِي وَصَبَّ فِي الْجُبِّ وَكَانَ فِي الْمَاءِ بَعْرَةُ الْغَنَمِ قَالَ: لَا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ؛ لِأَنَّ الْأَوَانِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ) وَعَنْ الْخَانِيَّةِ وَبَعْرُ الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ لَا يُفْسِدُ مَا لَمْ يَفْحُشُ، وَالْفَاحِشُ فِيهِ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاسُ، وَالْيَسِيرُ مَا يَسْتَقِلُّهُ، وَقِيلَ إنْ كَانَ لَا يَسْلَمُ كُلُّ دَلْوٍ عَنْ بَعْرَةِ أَوْ بَعْرَتَيْنِ فَهُوَ فَاحِشٌ وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إنْ أَخَذَ رُبْعَ وَجْهِ الْمَاءِ فَهُوَ كَثِيرٌ وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّطْبُ وَالْيَابِسُ وَالصَّحِيحُ وَالْمُنْكَسِرُ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي الْمَفَازَةِ انْتَهَى (قَالَ نُورُ الْأَئِمَّةِ: قُلْت لِشِهَابِ الْأَئِمَّةِ: لَوْ تَفَتَّتَتْ) أَيْ تَفَرَّقَتْ الْبَعْرَةُ بِالِانْحِلَالِ (فِي الْجُبِّ قَالَ نَأْخُذُ بِالْأَوْسَعِ) الْأَخَفِّ (فَلَا يَتَنَجَّسُ) مَا لَمْ يُوجَدْ الْوَصْفُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ (وَفِيهِ الْإِنَاءُ كَالْبِئْرِ فِي حُكْمِ الْبَعْرَةِ وَالْبَعْرَتَيْنِ) فَكَمَا أَنَّ الْبِئْرَ لَا يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ الْبَعْرَةِ وَالْبَعْرَتَيْنِ فَكَذَلِكَ الْإِنَاءُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ (فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِيهِ وَقَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ وَقَاضِي خَانْ: يَكُونُ نَجِسًا وَفِيهِ وَفِي التَّفْرِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لَوْ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى إزَارٍ نَجِسٍ وَإِنْ لَمْ يُعْصَرْ وَكَذَا الْجُنُبُ لَوْ اتَّزَرَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى الْإِزَارِ طَهُرَ وَإِنْ لَمْ يَعْصِرْهُ، وَفِي شَرْحِ الْحَلْوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي إزَارِهِ أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ) رَطْبَةٌ (فَاسْتَكْثَرَ) أَيْ فَأَكْثَرَ (صَبَّ الْمَاءِ عَلَيْهِ طَهُرَ وَإِنْ لَمْ يَعْصِرْهُ وَلَمْ يَدْلُكْهُ انْتَهَى) وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: اتَّزَرَ الْجُنُبُ وَصَبَّ الْمَاءَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ صَبَّ عَلَى الْإِزَارِ النَّجِسِ طَهُرَ الْإِزَارُ إنْ لَمْ يُعْصَرْ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ فَأَكْثَرَ صَبَّ الْمَاءِ عَلَيْهِ طَهُرَ بِلَا دَلْكٍ وَعَصَرَهُ. اهـ. (وَفِي الْقُنْيَةِ رُعَاةٌ يَشُدُّونَ ضَرْعَ الشَّاةِ بِخِرْقَةٍ مُتَلَطِّخَةٍ بِطِينٍ مَخْلُوطٍ بِبَعْرِهَا كَيْ لَا يَرْتَضِعَهَا وَلَدُهَا وَيَجِفَّ) ذَلِكَ الطِّينُ (ثُمَّ يَحْلُبُهَا) مِنْ الْحَلْبِ (بَعْد الْحَلِّ بِيَدٍ رَطْبَةٍ فَيُصِبْهَا بَقِيَّةُ ذَلِكَ الطِّينِ عَلَى الضُّرُوعِ فَهُوَ عَفْوٌ) قِيلَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَطَهَارَتُهُ بِالْيُبْسِ اضْمَحَلَّتْ بِالْبَلَلِ بَعْدَهُ (انْتَهَى) وَعَنْ الْخَانِيَّةِ: الْبَعْرُ إذَا وَقَعَ فِي الْمَحْلَبِ عِنْدَ الْحَلْبِ فَرُمِيَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ بَقِيَتْ الْبَعْرَةُ فِي اللَّبَنِ يَصِيرُ نَجِسًا لَا يَطْهُرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي قَاضِي خَانْ بَدَلُ بَقِيَتْ تَفَتَّتَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (فُرُوعٌ مَنْشُورَةٌ) فِي قَاضِي خَانْ ذَرْقُ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالْحِدَأَةِ لَا يُفْسِدُ الثَّوْبَ تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِقِلَادَةٍ فِي عُنُقِهِ فِيهَا سِنُّ كَلْبٍ أَوْ ذِئْبٍ إذَا بَالَ الْحِمَارُ فِي مَاءٍ جَارٍ فَأَصَابَ ثَوْبَ إنْسَانٍ لَا يُفْسِدُ مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ أَنَّهُ بَوْلٌ، وَفِي مَاءٍ رَاكِدٍ يُفْسِدُ إنْ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ الْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْهِرَّةِ، وَقَدْ أَسَاءَ وَقَمِيصُ الْحَيَّةِ طَاهِرٌ الْبَيْضَةُ الرَّطْبَةُ وَالسَّخْلَةُ الرَّطْبَةُ إذَا وَقَعَتْ فِي ثَوْبٍ لَا تُفْسِدُهُ إذَا نَسِيَ مَحَلَّ وُقُوعِ نَجِسٍ فِي ثَوْبٍ يَطْهُرُ - بِغَسْلِ أَيْ مَوْضِعِهِ - الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْعَصْرُ لِصَلَابَتِهِ، وَقَدْ نَشِفَتْ النَّجَاسَةُ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ كُلَّ مَرَّةٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَوَّهَ الْحَدِيدَ بِالْمَاءِ النَّجَسِ فَيُغْلَى فِي الْمَاءِ الطَّاهِرِ ثَلَاثًا، وَيُبَرَّدُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَالْحَصِيرُ الْبَرْدِيُّ الْجَدِيدُ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَيُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ كُلَّ مَرَّةٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ إذَا يَبِسَ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهُ الْخُفُّ النَّجِسُ يَطْهُرُ بِإِصَابَةِ الْمَطَرِ ثَوْبٌ ذُو طَاقٍ وَاحِدٍ كَالْقَمِيصِ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَنَفَذَتْ إلَى جَانِبٍ آخَرَ فَلَوْ جُمِعَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ لَوْ أَصَابَ

رِجْلَهُ رَوْثٌ مِنْ الْمَرْبِطِ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ مَعَهُ مَا لَمْ يَفْحُشْ لِعُمُومِ الْبَلْوَى إنْ كَانَ تَنَجَّسَ سَرْجُ الدَّابَّةِ مِنْ عَرَقِهَا لَا يَمْنَعُ وَإِنْ مِنْ الْغَيْرِ فَيَمْنَعُ إذَا طُحِنَتْ الْحِنْطَةُ بِبَعْرِ الْفَأْرَةِ تُؤْكَلُ إلَّا إنْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ النَّجَاسَةِ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ بِصَبْغٍ فِيهِ نَجَاسَةٌ يُغْسَلُ ثَلَاثًا الْأَرْضُ الْمُتَنَجِّسَةُ بِالْبَوْلِ إنْ رَخْوَةً يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا، وَإِنْ صَلْبَةً يُصَبُّ الْمَاءُ ثُمَّ يُنَشَّفُ بِنَحْوِ خِرْقَةٍ ثَلَاثًا، وَإِنْ صَبَّ عَلَيْهَا مَاءً كَثِيرًا إلَى أَنْ يَبْقَى أَثَرُهَا وَجَفَّتْ طَهُرَتْ السَّلَّةُ تَطْهُرُ بِإِصَابَةِ الْمَطَرِ ثَلَاثًا وَالشَّمْسِ ثَلَاثًا انْتَهَى وَلَوْ مَعْنًى وَمُلَخَّصًا، وَفِي الْخُلَاصَةِ لَبَنُ الْبَقَرَةِ الْمَيْتَةِ طَاهِرٌ مَاءُ فَمِ النَّائِمِ نَجِسٌ عَلَى الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ، وَفِي التتارخانية عَنْ الْخُلَاصَةِ الْفَتْوَى أَنَّ بَوْلَ الْفَأْرَةِ مَعْفُوٌّ وَعَنْ الْحُجَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ الدَّمُ الْبَاقِي فِي عُرُوقِ اللَّحْمِ طَاهِرٌ يُؤْكَلُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مَعْفُوٌّ فِي الْأَكْلِ، وَغَيْرُ مَعْفُوٍّ فِي الثِّيَابِ الْغُبَارُ النَّجِسُ طَارَ وَوَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ الثَّوْبُ الَّذِي أَصَابَهُ بُخَارُ النَّجَاسَاتِ الصَّحِيحُ لَا يُنَجَّسُ لَوْ عَصَرَ عِنَبًا فَأَدْمَى رِجْلَهُ وَسَالَ فِي الْعَصِيرِ، وَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الدَّمِ فِيهِ لَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَكَذَا وَقَعَ الْبَوْلُ فِي الْعَصِيرِ، وَهُوَ غَالِبٌ يَسِيلُ؛ لِأَنَّهُ جَارٍ وَلَوْ أَدْمَى رِجْلَهُ قَبْلَ سَيْلَانِ الْعَصِيرِ لَا يَنْجُسُ لِلضَّرُورَةِ وَقِيلَ يَنْجُسُ الْمَرَقَةُ إذَا أَنْتَنَتْ لَا تَنْجُسُ وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ: إذَا أَنْتَنَ الطَّعَامُ وَاشْتَدَّ تَغَيُّرُهُ يَتَنَجَّسُ وَعَنْ مُشْكِلِ الْآثَارِ إذَا أَنْتَنَ اللَّحْمُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَالسَّمْنُ وَاللَّبَنُ وَالزَّيْتُ لَا يَحْرُمُ الْعِنَبُ إذَا تَنَجَّسَ يُغْسَلُ ثَلَاثًا، وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ بَعْضَ الْعُنْقُودِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْدَمَا يَبِسَ الْعُنْقُودُ الْعَذِرَاتُ الْمَدْفُونَةُ إذَا صَارَتْ تُرَابًا. قِيلَ: تَطْهُرُ إذَا لَمْ يَدْرِ مَحَلَّ نَجَاسَةِ الثَّوْبِ يُغْسَلُ كُلُّ الثَّوْبِ، وَعَنْ خُوَاهَرْ زَادَهْ إذَا غَسَلَ مَوْضِعًا بِلَا تَحَرٍّ يَطْهُرُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَكَذَا الْحِنْطَةُ الَّتِي تَبُولُ عَلَيْهَا الْحُمُرُ حِينَ تُدَاسُ وَيَخْتَلِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ غَسَلَ الْبَعْضَ ثُمَّ خُلِطَ بِالْكُلِّ فَيُبَاحُ وَكَذَا لَوْ عُزِلَ أَوْ وَهَبَ بَعْضَهَا لِإِنْسَانِ أَوْ تَصَدَّقَ وَكَذَا لَوْ قَسَمَ بَيْنَ الْأَكَّارِينَ جَازَ لِكُلٍّ الِانْتِفَاعُ، وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ بَأْسٌ وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: لَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ بِلَا غَسْلٍ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: طَاهِرٌ لِلْبَلْوَى، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ لَا يُعْبَأُ بِهِ انْتَهَى (وَالْحَاصِلُ أَنَّ وُجُوبَ الِاحْتِزَازِ عَنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ لِذَاتِهَا بَلْ لِوَصْفِهَا الْمُنَفِّرِ) نَفْرَ الطَّبْعِ (مِنْ الرِّيحِ النَّتِنِ وَالطَّعْمِ الْبَشِيعِ وَاللَّوْنِ الْقَبِيحِ) قِيلَ هُنَا: اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ الْوَصْفَ الْمُنَفِّرَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ بِاتِّفَاقِ الْمُجْتَهِدِينَ إلَّا إذَا كَانَ فِي زَوَالِهِ شِقٌّ بِالِاحْتِيَاجِ فِيهِ إلَى غَيْرِ الْمَاءِ مِثْلَ الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ لَا إلَى تَكْرَارِ الْغَسْلِ، وَإِلَّا فَالْمَاءُ عِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ لِلْحَرَجِ (فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَلَمْ يُتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِ فَإِنَّهُ مُنَفِّرٌ أَيْضًا فَلَا يَجِبُ) الِاحْتِرَازُ بِالِاتِّفَاقِ (مَعَ التَّيَقُّنِ) أَيْ مَعَ تَيَقُّنِ وُجُودِ النَّجَاسَةِ (يُعْفَى الْقَلِيلُ فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ) ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ (؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ) فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَالْحُكْمُ بِالنَّجَاسَةِ مَعَهَا حَرَجٌ اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُصَنِّفِ حَاشِيَةً طَوِيلَةً تَرَكْنَاهَا لِلْغِنَى عَنْهَا بِمَا ذَكَرْنَا وَلِلشُّهْرَةِ (بِخِلَافِ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ مِنْ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ قُبْحَهَا لِذَاتِهَا؛ فَلِذَا وَرَدَ) مَرْفُوعًا «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» مَعَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، أَوْ مُطْلَقًا إنْ مُسْتَحِلًّا (وَقَدْ مَرَّ فَخُذْ هَذَا التَّعْلِيلَ) مِنْ الْعِلْمِ (وَالضَّبْطَ وَاعْمَلْ بِهِ فَإِنَّهُ يَنْفَعُك) . الْمُرَادُ مِنْ التَّعْلِيلِ كَوْنُ التَّحَرُّزِ

النوع الثاني في ذم الوسوسة وآفاتها

عَنْ النَّجَاسَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالظَّاهِرِ لَيْسَ لِذَاتِهَا بَلْ لِوَصْفِهَا وَكَوْنِ الِاحْتِرَازِ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ كَالْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ لِذَاتِهِ وَبِالضَّبْطِ كَوْنُ نَجَاسَةِ الظَّاهِرِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَكَوْنِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَا يُعْفَى وَلَوْ قَدْرَ الذَّرَّةِ. [النَّوْعُ الثَّانِي فِي ذَمِّ الْوَسْوَسَةِ وَآفَاتِهَا] (النَّوْعُ الثَّانِي فِي ذَمِّ الْوَسْوَسَةِ وَآفَاتِهَا) (ت عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ: الْوَلْهَانُ» بِفَتْحِ الْوَاوِ وَمَعْنَاهُ الْمُتَحَيِّرُ مِنْ شِدَّةِ الْعِشْقِ سُمِّيَ بِهِ هَذَا الشَّيْطَانُ لِإِغْوَائِهِ النَّاسَ فِي التَّحَيُّرِ فِي الطَّهَارَةِ حَتَّى لَا يَعْلَمُوا هَلْ عَمَّ الْمَاءُ الْعُضْوَ أَوْ لَا وَكَمْ غَسَلَ مَرَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْهَامِ «فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ» أَيْ احْذَرُوا وَسْوَاسَهُ قَالَ الْغَزَالِيُّ مِنْ وَهْنِ عِلْمِ الرَّجُلِ وَلُوعُهُ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ وَقَالَ ابْنُ أَدْهَمَ: أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ الْوَسْوَاسُ مِنْ قِبَلِ الطَّهُورِ وَقَالَ أَحْمَدُ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ قِلَّةُ وَلُوعِهِ بِالْمَاءِ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْمُخَالِفَاتِ وَالْوَسْوَاسِ شَيْطَانًا يَخُصُّهُ وَيَدْعُو إلَيْهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَاخْتِلَافُ الْمُسَبَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ قَالَ مُجَاهِدٌ: لِإِبْلِيسَ خَمْسَةُ أَوْلَادٍ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ شَبْرٌ وَالْأَعْوَرُ وَمَبْسُوطٌ وَدَاسِمٌ وَزَلَنْبُورٌ فَشَبْرٌ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالثُّبُورِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَلَطْمِ الْخُدُودِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَعْوَرُ صَاحِبُ الزِّنَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُزَيِّنُهُ لَهُمْ وَمَبْسُوطٌ صَاحِبُ الْكَذِبِ وَدَاسِمٌ يَدْخُلُ مَعَ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يُرِيهِ الْعَيْبَ فِيهِمْ وَيُغْضِبُهُ عَلَيْهِمْ وزلنبور صَاحِبُ السُّوقِ وَشَيْطَانُ الصَّلَاةِ يُسَمَّى خَنْزَبٌ وَالْوُضُوءُ يُسَمَّى الْوَلْهَانُ وَكَمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ فَفِي الشَّيَاطِينِ كَثْرَةٌ (تَتِمَّةٌ) مِنْ آفَاتِ الطَّهَارَةِ الْوَسْوَسَةُ، وَأَصْلُهَا جَهْلٌ بِالسُّنَّةِ أَوْ خَبَالٌ فِي الْعَقْلِ وَمُتَّبِعُهَا مُتَكَبِّرٌ مُذِلٌّ نَفْسَهُ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعِبَادِ اللَّهِ مُعْتَمِدٌ عَلَى عَمَلِهِ مُعْجَبٌ بِهِ وَقُوَّتِهِ، وَعِلَاجُهَا بِالتَّلَهِّي عَنْهَا وَالْإِكْثَارِ مِنْ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْخَلَّاقِ {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20] كَذَا فِي النَّصَائِحِ وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَدْخُلُ فِي صَلَاتِي فَلَمْ أَدْرِ أَعَلَيَّ شَفْعٌ أَمْ عَلَيَّ وِتْرٌ مِنْ وَسْوَسَةٍ أَجِدُهَا فِي صَدْرِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا وَجَدْت ذَلِكَ فَاطْعَنْ أُصْبُعَكَ يَعْنِي: السَّبَّابَةَ فِي فَخِذِك الْيُسْرَى وَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنَّهَا سِكِّينُ الشَّيْطَانِ» ثُمَّ قَالُوا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَضَعِيفٌ كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إنَّ شَيْطَانًا يَضْحَكُ بِالنَّاسِ فِي الْوُضُوءِ يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ) وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَاءَ جَبْرَائِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إذَا تَوَضَّأْت فَانْتَضِحْ أَيْ فَرُشَّ الْمَاءَ عَلَى سَرَاوِيلِكَ دَفْعًا لِلْوَسْوَسَةِ» (قش) الْقُشَيْرِيُّ (أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ فَقِيرٌ فَقَالَ لِلشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ) - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قِيلَ هُوَ مِنْ كِبَارِ مَشَايِخِ شِيرَازَ (إنَّ فِي وَسْوَسَةً فَقَالَ الشَّيْخُ عَهْدِي بِالصُّوفِيَّةِ أَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْ الشَّيْطَانِ) بِرَدِّ كَيْدِهِ بِقُوَّةِ نُورِهِمْ (وَالْآنَ) فِي هَذَا الْوَقْتِ (الشَّيْطَانُ يَسْخَرُ مِنْهُمْ وَكَفَى لِلْعَاقِلِ زَجْرًا أَنْ يَكُونَ ضُحْكَةً لِلشَّيْطَانِ وَمَسْخَرَةً

لَهُ وَهَذِهِ) أَيْ كَيْنُونَةُ الْمَسْخَرِيَّةِ (إحْدَى آفَاتِ اتِّبَاعِ الْوَسْوَسَةِ وَثَانِيهَا تَرْكُ الْأَمْرِ) أَيْ أَمْرِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] وَالْمُتَابَعَةُ لِلْوَسْوَسَةِ اتِّخَاذُ الشَّيْطَانِ صَدِيقًا (بَلْ) اتِّخَاذُهُ (أَخًا) وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا بِعَدَمِ تَبَعِيَّةِ وَسَاوِسِهِ وَالْمُخَالَفَةِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَالِاتِّبَاعُ مَعْصِيَةٌ) فِيهِ كَلَامٌ يُعْرَفُ مِنْ الْأُصُولِ (، وَثَالِثُهَا: إسْرَافُ الْمَاءِ وَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ (وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ الْإِسْرَافِ فِي الْوُضُوءِ وَلَوْ عَلَى شَطِّ) أَيْ جَانِبِ (نَهْرٍ جَارٍ) بِالْحَدِيثِ (وَرَابِعُهَا إفْضَاؤُهُ إلَى تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ) الظَّاهِرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ وَقْتَ الْكَرَاهَةِ إلَى الْجَمِيعِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ (أَوْ) إلَى (تَرْكِ الْجَمَاعَةِ أَوْ تَرْكِ الصَّلَاةِ) لَا يَزَالُ يَدُورُ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ بِالْوَسَاوِسِ وَيَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ فَيَصِيرُ كَحِمَارِ الرَّحَى (أَوْ تَرْكِ التَّعْلِيمِ أَوْ الذِّكْرِ) قَلْبًا أَوْ لِسَانًا (أَوْ الْفِكْرِ) فِي آلَاءِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ كَمَا سَبَقَ (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْفَضَائِلِ) جَمْعُ فَضِيلَةٍ قَائِمَةٍ بِالْفَاعِلِ غَيْرِ سَارِيَةٍ إلَى الْغَيْرِ (وَالْفَوَاضِلِ) سَارِيَةٍ إلَى الْغَيْرِ فَالْأَوَّلُ كَالنَّوَافِلِ وَالثَّانِي كَالْعِلْمِ وَدَرْسِهِ وَتَعْلِيمِهِ (وَتَضْيِيعِ الْعُمُرِ وَالْأَوْقَاتِ) وَقَدْ أُعْطِيَ ذَلِكَ لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ مَا خُلِقَ لَهُ نَوْعُ الْإِنْسَانِ فَالسَّعَادَةُ كُلُّ السَّعَادَةِ لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَالْخَسَارَةُ كُلُّ الْخَسَارَةِ لِمَنْ ضَاعَ عُمُرُهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ كَصَرْفِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ؛ إذْ مِنْ عَلَامَةِ إعْرَاضِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَنْ عَبْدِهِ اشْتِغَالُهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ (وَخَامِسُهَا تَأْدِيَتُهَا) إلَى أُمُورٍ مُحْدَثَةٍ مَكْرُوهَةٍ (كَاتِّخَاذِ إنَاءٍ لِلْوُضُوءِ) (وَ) اتِّخَاذُ (اللِّبَاسِ) لِلْخَلَاءِ كَمَا سَبَقَ (وَالسَّجَّادِ وَعَدَمِ التَّوَضُّؤِ مِنْ إنَاءِ غَيْرِهِ وَعَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَى بِسَاطِهِ وَلِبَاسِهِ وَسُؤَالِهِ عَنْ طَهَارَتِهِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ طَعَامٍ بِتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ) قَيْدٌ لِلْعَدَمِ وَالسُّؤَالِ وَالِاحْتِرَازِ (وَنَحْوِ ذَلِكَ) مِمَّا لَا يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ (وَفِيهَا) فِي هَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ (أَذَى النَّاسِ) وَهُوَ لَيْسَ بِجَائِزٍ بَلْ حَرَامٌ (وَسَادِسُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ) وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الظَّنِّ إثْمًا (بِعَدَمِ التَّوَقِّي مِنْهُمْ عَنْ النَّجَاسَاتِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَلْ بِعَدَمِ صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ) ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اعْتِقَادِهِ لَيْسُوا عَلَى وُضُوءٍ (وَسَابِعُهَا التَّكَبُّرُ عَلَى النَّاسِ) لِمَا يَرَى مِنْ نَزَاهَةِ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ (وَالْإِعْجَابُ بِنَفْسِهِ حَيْثُ انْفَرَدَ مِنْ بَيْنَ النَّاسِ بِالِاحْتِيَاطِ الْبَالِغِ فِي الدِّينِ وَالنَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ) وَمَرْضَاةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ لِإِكْحَالِ الشَّيْطَانِ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ فَرَأَتْ النُّورَ ظُلْمَةً وَالظُّلْمَةَ نُورًا

النوع الثالث في علاج الوسوسة

{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] وَلَمَّا بَيَّنَ مَذْمُومِيَّةَ الْوَسْوَسَةِ فِي الشَّرْعِ وَآفَاتِهَا [النَّوْعُ الثَّالِثُ فِي عِلَاجِ الْوَسْوَسَةِ] وَلَزِمَ بَيَانُ عِلَاجِهَا لِيُمْكِنَ الِاحْتِرَازُ لِلسَّالِكِ وَيَتَحَقَّقَ فِيهِ التَّقْوَى وَيَحْصُلَ لَهُ الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا وَضَعَ لِذَلِكَ نَوْعًا ثَالِثًا فَقَالَ. (النَّوْعُ الثَّالِثُ فِي عِلَاجِ الْوَسْوَسَةِ) فِي نَفْسِ السَّالِكِ (وَطَرِيقُ التَّوَقِّي عَنْهَا) قِيلَ: وَيُسَمَّى هَذَا حِفْظَ الصِّحَّةِ (لِمَنْ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْهَا) وَالْخَوْفُ عَلَيْهِ إمَّا (بِالِاسْتِعْدَادِ الطَّبِيعِيِّ) مِنْهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي طَبْعِهِ اسْتِقَامَةٌ بَلْ زَيْغٌ وَانْحِرَافٌ بِحَسَبِ الْخِلْقَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْجِبِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ (وَبِمُقَارَنَةِ أَصْحَابِ الْوَسْوَسَةِ وَتَوَهُّمِهَا خَيْرًا وَوَرَعًا وَتَقْوَى) فَإِنَّ فِيهَا تَأْثِيرًا قَوِيًّا كَمَا سَبَقَ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اُنْظُرْ مَنْ تُخَالِلُ» . وَقِيلَ وَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي (اعْلَمْ أَنَّ عِلَاجَهَا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْ تَعْرِفَ الْآفَاتِ) السَّبْعَ (السَّابِقَةَ وَتُكَرِّرُ مُلَاحَظَتَهَا) وَهِيَ التَّكَبُّرُ وَسُوءُ الظَّنِّ وَالتَّأْدِيَةُ إلَى مَكْرُوهٍ وَالْإِفْضَاءُ إلَى تَأْخِيرِ مَا يَجِبُ أَوْ إلَى تَرْكِهِ وَإِسْرَافُ الْمَاءِ وَتَرْكُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَضُحْكَةُ الشَّيْطَانِ وَمَسْخَرِيَّتُهُ وَاسْتُشْهِدَ عَلَى أَنَّ لِلْعِلْمِ أَثَرًا فِي عِلَاجِهَا فَقَالَ (قش عَنْ عَطَاءِ الرُّوذَبَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ كَانَ فِي) بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ (اسْتِقْصَاءٌ) طَلَبُ الْقُصْوَى الظَّاهِرُ كِنَايَةٌ عَنْ زِيَادَةِ قَدْرِ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَقُصْوَى الشَّيْءِ كَمَالُهُ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالسُّنَّةِ (فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَضَاقَ صَدْرِي لَيْلَةً لِكَثْرَةِ مَا صَبَبْت مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يَسْكُنْ قَلْبِي) مِنْ الْمُضَايَقَةِ لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ تِلْكَ الْقُصْوَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ عَدَمِ السُّكُونِ لِلتَّحَيُّرِ وَالْإِضْرَابِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقُصْوَى لِلْوَسْوَسَةِ وَعَلَى الْإِحْجَامِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ (فَقُلْت يَا رَبِّ عَفْوَك عَفْوَك) أَيْ أَسْأَلُ عَفْوَك وَالتَّكْرِيرُ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مَقَامَ تَضَرُّعٍ وَأَنَّهُ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ فِي عَمَلِي عَلَى مُوجِبِ الْوَسْوَسَةِ مِنْ كَثْرَةِ الصَّبِّ عَلَى قَدْرِ السُّنَّةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ؛ إذْ اسْتِغْفَارُهُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبِّ يُقْتَضَى كَوْنَهُ إسَاءَةً بَلْ مَعْصِيَةً (فَسَمِعْت هَاتِفًا) صَوْتًا مِنْ الْغَيْبِ (يَقُولُ: الْعَفْوُ فِي الْعِلْمِ) يَعْنِي: الْعَفْوُ دَائِرٌ عَلَى عِلْمِ كَوْنِ الِاسْتِقْصَاءِ وَسْوَسَةً أَوْ إنْ عَلِمْت كَوْنَهُ وَسْوَسَةً فَاَللَّهُ يَعْفُو عَنْك فَعَلِمْت أَنَّ هَذِهِ وَسْوَسَةٌ (فَزَالَ عَنِّي ذَلِكَ) الِاسْتِقْصَاءُ وَالضِّيقُ وَحَصَلَ لِي السُّكُونُ وَانْدَفَعَ عَنْ قَلْبِي الْوَسْوَسَةُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَهُ الْأَخْذُ مِنْ الْهَاتِفِ، وَذَا لَيْسَ مِنْ الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ أَصْلًا غَايَتُهُ الْإِلْهَامُ، وَالْإِلْهَامُ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعْرِفَةِ كَمَا سَبَقَ غَايَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ ابْتِدَاءً بَلْ فِي تَأْيِيدِ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فَافْهَمْ (وَأَنْ تَعْرِفَ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَأَنْ تَعْرِفَ (أَنَّ الِاحْتِيَاطَ وَالْوَرَعَ وَالتَّقْوَى بَلْ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ) إنَّمَا هُوَ (فِي الِاقْتِدَاءِ) فِيمَا لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّهِ أَوْ بِطَرِيقِ ذِلَّةٍ كَمَا سَبَقَ (بِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذْ مَا يُقْتَدَى بِهِ إمَّا سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ فَرْضٌ أَوْ مُبَاحٌ كَمَا فِي الْأُصُولِ (وَأَصْحَابِهِ وَالْمُجْتَهِدِينَ) وَقِيلَ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ النَّبِيِّ، وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ لَكِنَّ الْمُقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّهُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْحَدِيثِ مَعَ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ يُرَجَّحُ جَانِبُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا مَرَّ

وَأَنْ تَعْرِفَ مُسَاهَلَتَهُمْ (فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ) بِعَدَمِ الِاسْتِقْصَاءِ بَلْ بِالتَّخْفِيفِ (وَعَدَمِ دِقَّتِهِمْ فِيهِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ (وَ) أَنْ تَعْرِفَ (أَفْعَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ وَفَتَاوِيَهُمْ فِي الرُّخْصَةِ وَالسَّعَةِ) الْمُؤْذِنِ بِهِمَا حَدِيثُ «بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ» (وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا) فِي الصِّنْفِ الثَّانِي (وَأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ الْعِبَادَةِ) الظَّاهِرَ مِنْ الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ مُطْلَقِ الْعِبَادَةِ هُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ كَمَا فَسَرُّوا قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] (تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ) وَالْمَلَكَاتِ الرَّذِيلَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ كَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَسَائِرِ مُهْلِكَاتِ الْأَعْمَالِ لَعَلَّ فِي الْكَلَامِ مُسَامَحَةً؛ إذْ الْمُرَادُ كَوْنُ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ فِي الْعِبَادَاتِ قَرِينَةً عَلَى تَخْلِيَةِ تِلْكَ الذَّمِيمَةِ (وَتَحْلِيَتُهُ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ) بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعِبَادَتَيْنِ ابْتِدَاءً وَأَصَالَةً بَلْ كَوْنُهُمَا عِبَادَةً إمَّا لِكَوْنِهِمَا دَاعِيَتَيْنِ إلَى الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ أَوْ لِتَسَبُّبِهَا إيَّاهَا، وَإِلَّا فَهُمَا لَيْسَتَا مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالْعِبَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ بَلْ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت سَابِقًا فَافْهَمْ (فَلِذَا) لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ التَّطْهِيرَ وَالتَّخْلِيَةَ الْمَذْكُورَتَيْنِ (كَانَ دِقَّةُ السَّلَفِ) كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ (فِيهِ) أَيْ فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا فَقَطْ مُطَابَقَةً وَالْآخَرِ الْتِزَامًا لَكِنْ يَشْكُلُ بِعَدَمِ اهْتِمَامِ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَالِاحْتِجَاجُ وَلُزُومُ الِاتِّبَاعِ وَالْوُقُوفُ عَلَى نَفْسِ الْأَمْرِ إنَّمَا هُوَ بِآرَائِهِمْ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَنَظَرُهُمْ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ وَلِذَا تَرَاهُمْ إنَّمَا يَبْحَثُونَ عَنْهُ كَالطُّفَيْلِيِّ وَالنَّبْعِيِّ (وَفِي الِاحْتِرَازِ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَ) حُقُوقِ (الْحَيَوَانَاتِ) إمَّا عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ أَوْ عَطْفُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْعِبَادِ هُوَ الْإِنْسَانُ مَجَازًا أَوْ الْحَيَوَانُ سَائِرُهُ مَجَازًا أَيْضًا أَوْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً دُخُولُ ذَلِكَ تَحْتَ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ: فَلِذَا كَانَ فِيهِ خَفَاءٌ لَا يَخْفَى إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ " عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا " أَوْ يَدَّعِي ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَاسْتِقْلَالَ مَرَامٍ فَافْهَمْ. ثُمَّ ظَاهِرُهُ عَدَمُ اهْتِمَامِهِمْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - مُطْلَقًا كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَأَيْضًا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ كَوْنَ الِاهْتِمَامِ كُلِّيًّا مُشَكِّكًا وَيَدَّعِيَ قُوَّتَهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ حَدِيثِ نِصْفِ الدَّانِقِ فِيمَا مَرَّ وَأَيْضًا فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ عَنْ الْقُشَيْرِيِّ يُقَالُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ ثَوَابُ سَبْعِينَ نَبِيًّا وَلَهُ خَصْمٌ بِنِصْفِ دَانِقٍ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرْضَى خَصْمُهُ قِيلَ يُؤْخَذُ بِدَانِقٍ قِسْطُ سَبْعِمِائَةِ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ، وَتُعْطَى لِلْخَصْمِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ: لَوْ حَاسَبْتَ نَفْسَك وَأَنْتَ مُوَاظِبٌ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ لَعَلِمْت أَنَّهُ لَا يَنْقَضِي عَلَيْك يَوْمٌ إلَّا وَيَجْرِي عَلَى لِسَانِك مِنْ غِيبَةِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُسَاوِي جَمِيعَ حَسَنَاتِك فَكَيْفَ بِبَقِيَّةِ السَّيِّئَاتِ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الطَّاعَاتِ وَكَيْفَ تَرْجُو الْخَلَاصَ مِنْ الْمَظَالِمِ فِي يَوْمٍ يُقْتَصُّ فِيهِ لِلْجَمَّاءِ مِنْ الْقَرْنَاءِ انْتَهَى (، وَفِي حِفْظِ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرْءَ إذَا عَلِمَ آفَاتِ الْوَسْوَسَةِ ثُمَّ تَيَقَّنَ كَوْنَ أَمْرِ الطَّهَارَةِ عَلَى الرُّخْصَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ وَتَنَبَّهَ أَنَّ الدِّقَّةَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ عَلَى مَنْ يَجِبُ اقْتِدَاؤُهُمْ وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ ضَلَالٌ كَفَّتْ عَنْهُ يَدُ التَّوْفِيقِ سِهَامَ الْوَسْوَسَةِ عِنْدَ مُلَاحَظَةِ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْعِلَاجُ بِالْعِلْمِ (وَأَمَّا الْعَمَلُ فَأَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الْعَمَلِ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا رُخْصَةٌ وَسَعَةٌ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَلَوْ كَانَتْ مَرْجُوحَةً بَعْدُ إنْ لَمْ تَكُنْ مَهْجُورَةً) ؛ إذْ الْمَهْجُورُ كَالْمَعْدُومِ كَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الضَّرَرِ الْكَثِيرِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ الضَّرَرِ الْجُزْئِيِّ لِلْوَصْلَةِ إلَى النَّفْعِ الْكُلِّيِّ (إلَى أَنْ تَزُولَ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَأَنْ يُدَاوِمَ (عَنْهُ الْوَسْوَسَةُ ثُمَّ) إذَا

زَالَتْ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ (يَعُودُ إلَى الِاقْتِصَادِ) ؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ ذَلِكَ الْمَرْجُوحِ إنَّمَا هُوَ لِمَانِعٍ فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ عَادَ الْمَمْنُوعُ كَمَا قِيلَ الضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «فَإِنَّ الْمُنْبِتَ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا» (وَالْعَمَلِ بِالْأَقْوَى) مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْمَذَاهِبِ (إذْ الْأَمْرَاضُ تُدَاوَى بِالْأَضْدَادِ) ؛ لِأَنَّ الدِّقَّةَ فِيهَا جَانِبُ الْإِفْرَاطِ، وَالْأَقْوَالُ الْمَرْجُوحَةُ جَانِبُ التَّفْرِيطِ، وَالْأَقْوَالُ الْقَوِيَّةُ جَانِبُ الِاقْتِصَادِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا» وَأَيَّدَ مَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ (رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الزُّهَّادِ أَنَّهُ قَالَ اعْتَرَانِي) أَيْ نَزَلَ بِي (وَسْوَسَةٌ وَكُنْت أَغْسِلُ) مُنْذُ زَمَانٍ كَثِيرٍ عَلَى أَيِّ حُكْمٍ كَانَ الِاسْتِمْرَارُ (مِنْ ثَوْبِي كُلَّ مَا أَصَابَ مِنْ طِينِ الشَّوَارِعِ فَخَرَجْت يَوْمًا إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فَأَصَابَ ثَوْبِي شَيْءٌ مِنْ طِينِ الطَّرِيقِ فَإِنْ ذَهَبَتْ إلَى غُسْلِهِ تَفُوتُ عَنِّي صَلَاةُ الْفَجْرِ بِالْجَمَاعَةِ) لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ الْمَاءِ أَوْ لِاقْتِضَاءِ مُدَّةٍ كَثِيرَةٍ لِكَثْرَةِ الطِّينِ (فَلَمَّا هَمَمْتُ إلَى غَسْلِهِ هَدَانِي اللَّهُ - تَعَالَى، فَأَلْقَى فِي قَلْبِي أَنْ تَمَرَّغْ فِي الطِّينِ) لِلتَّلَطُّخِ الْكَثِيرِ لِتَذْهَبَ الْوَسْوَسَةُ (ثُمَّ صَلِّ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِلَا غَسْلٍ فَفَعَلْت فَزَالَتْ عَنِّي الْوَسْوَسَةُ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَأْخُوذَةَ مِمَّنْ يَحْسُنُ بِهِمْ الظَّنُّ مِنْ الْعِلْمِ وَالرَّغْبَةِ وَالثِّقَةِ مَقْبُولٌ فِي مَقَامِ الظَّنِّيَّاتِ فِي مَقَامِ التَّرْغِيبِ وَالتَّنْفِيرِ (وَمِنْ الْأَعْمَالِ الْمُزِيلَةِ لِبَعْضِ الْوَسْوَسَةِ نَضْحُ الْمَاءِ عَلَى فَرْجِهِ) أَيْ رَشُّهُ (بَعْدَ الْوُضُوءِ فَإِذَا أَحَسَّ بَلَلًا) فِي إزَارِهِ أَوْ ثَوْبِهِ (حَمَلَهُ عَلَيْهِ) إنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ كَوْنُهُ بَوْلًا يَعْنِي يُحْمَلُ مَا يَكُونُ فِي الشَّكِّ بَلْ الظَّنِّ الْمُجَرَّدِ كَمَا عَرَفْت قَرِيبًا (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ جَاءَنِي جَبْرَائِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ «إذَا تَوَضَّأْت فَانْضَحْ) الْمَاءَ عَلَى فَرْجِك حَتَّى تَزُولَ وَسْوَسَتُك» لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَعْلِيمِ أُمَّتِهِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ لَيْسَ فِيهِ شَيْطَانٌ بَلْ لَوْ فُرِضَ شَيْطَانٌ لَهُ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَإِنْ ارْتَدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُوَسْوِسُ بَلْ الْحِكْمَةُ مِنْ إسْلَامِهِ عَدَمُ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ هَذَا هُوَ الْكَلَامُ عَلَى قَاعِدَتِنَا لَكِنْ يَشْكُلُ بِقِصَّةِ مَنَامِ الْخَلِيلِ فِي ذَبْحِ ابْنِهِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ قَدْ تَسْمَعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَتَأَمَّلْ (وَمِنْهَا) أَيْ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُزِيلَةِ لِلْوَسْوَسَةِ (أَنْ لَا يَبُولَ فِي الْمُغْتَسَلِ) مَكَانَ الِاغْتِسَالِ (س ت. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ

مراتب الوسوسة

فِي مُسْتَحَمِّهِ» مَوْضِعِ اسْتِحْمَامِهِ وَيُقَالُ لِمُطْلَقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ «فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ» أَيْ أَكْثَرَهُ قِيلَ عَنْ التَّوْفِيقِ، وَقَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الْبَلِيَّةُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ إلَّا فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَمَّامِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ إلَّا بَعْدَ تَكْبِيرَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْوَسْوَسَةُ صَرِيحُ الْإِيمَانِ أَوْ مَحْضُ الْإِيمَانِ» فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مَا ذُكِرَ مِنْ الْأُمُورِ الْفَاسِدَةِ بَلْ الْمُرَادُ بِهَا مُنَازَعَةُ الشَّيْطَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مِنْ أَحْوَالِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الْوَسْوَسَةَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَعْدَ التَّصْدِيقِ بِهَا تَدُلُّ عَلَى صَرِيحِ الْإِيمَانِ وَمَحْضِهِ وَكَمَالِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ سَارِقٌ وَالسَّارِقُ إنَّمَا يَدْخُلُ بَيْتًا مَعْمُورًا؛ وَلِهَذَا قِيلَ: الشَّيْطَانُ لَا يُوَسْوِسُ لِلْكُفَّارِ لِعَدَمِ إيمَانِهِمْ وَسُئِلَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْ الْوَسْوَسَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: كُلُّ صَلَاةٍ لَا وَسْوَسَةَ فِيهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا وَسْوَسَةَ فِي صَلَاتِهِمْ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: الْفَرْقُ بَيْنَ صَلَاتِنَا وَصَلَاةِ الْكُفَّارِ الْوَسْوَسَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ مَعَ الْكُفَّارِ وَسْوَسَةٌ وَمُحَارَبَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُوَافِقُونَهُ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ يُخَالِفُونَهُ، وَالْمُحَارَبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْمُخَالَفَةِ (تَذْنِيبٌ) ثُمَّ لَا عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَ نُبَذًا مِنْ مَبْحَثِ الْوَسْوَسَةِ وَإِنْ عُرِفَ بَعْضُهَا مِمَّا سَبَقَ اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْحَوَاسَّ شَيْءٌ يَحْصُلُ مِنْهُ أَثَرٌ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ الْقَلْبُ يَنْتَقِلُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْآثَارِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ دَائِمًا وَتُسَمَّى الْخَوَاطِرَ، وَالْخَوَاطِرُ مُحَرِّكَةٌ لِلرَّغْبَةِ، وَهِيَ تُحَرِّكُ الْعَزْمَ، وَالنِّيَّةُ تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ فَالْخَوَاطِرُ مَبْدَأٌ لِلْأَفْعَالِ وَتَنْقَسِمُ إلَى مَا يَدْعُو إلَى الشَّرِّ وَإِلَى مَا يَدْعُو إلَى الْخَيْرِ فَالْمَحْمُودُ إلْهَامٌ، وَالْمَذْمُومُ وَسْوَسَةٌ فَسَبَبُ الْمَحْمُودِ يُسَمَّى مَلَكًا وَالْمَذْمُومِ شَيْطَانًا، وَاللُّطْفُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ الْقَلْبُ لِقَبُولِ الْإِلْهَامِ لِلْمَلَكِ يُسَمَّى تَوْفِيقًا، الَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ لِقَبُولِ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ يُسَمَّى إغْوَاءً وَخِذْلَانًا، الْقَلْبُ مُتَجَاذِبٌ بَيْنَ الْمَلَكِ وَالشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ بِالْمُجَاهَدَةِ أَوْ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ سِلَاحُ الشَّيْطَانِ وَكَثِيرًا مَا يَعْسُرُ تَمْيِيزُ إلْهَامِ الْمَلَكِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ؛ إذْ الشَّيْطَانُ يَعْرِضُ الشَّرَّ فِي مَعْرِضِ الْخَيْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْعَانِ النَّظَرِ، وَلَا يَطَّلِعُ إلَّا بِنُورِ التَّقْوَى، وَلَا يَنْجُو مِنْ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ إلَّا مَنْ سَدَّ أَبْوَابَ الْخَوَاطِرِ، وَاخْتَارَ الْعُزْلَةَ وَقَطَعَ الْعَلَائِقَ وَدَاوَمَ الذِّكْرَ ثُمَّ إنَّ الْقَلْبَ إذَا غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ يَسْتَقِرُّ الشَّيْطَانُ فِيهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ الذِّكْرُ مِنْ سُوَيْدَائِهِ بَلْ يَرْجِعُ إلَى حَوَاسِّهِ، وَأَمَّا إذَا صَفَا وَخَلَا عَنْ الشَّهَوَاتِ رُبَّمَا يَطْرُقُهَا الشَّيْطَانُ لَا لِلشَّهَوَاتِ بَلْ لِخُلُوِّهَا عَنْ الذِّكْرِ فَإِذَا ذَكَرَ خَنَّسَ الشَّيْطَانُ ثُمَّ إنَّ الشَّيَاطِينَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ وَلِكُلٍّ مِنْ الْمَعَاصِي شَيْطَانٌ يَخُصُّهُ وَيَدْعُوهُ إلَيْهِ كَمَا سَبَقَ فَالْوَلْهَانُ شَيْطَانُ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ إذْ يَخْتَصُّ كُلٌّ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ هُنَا [مَرَاتِب الْوَسْوَسَة] ثُمَّ لِلْوَسْوَسَةِ مَرَاتِبُ أَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَمَلِ الْأُولَى الْخَاطِرُ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ الثَّانِيَةُ: الْمَيْلُ وَهُوَ حَرَكَة الشَّهْوَةِ الَّتِي فِي الطَّبْعِ الثَّالِثُ: الِاعْتِقَادُ وَالْحُكْمُ بِأَنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ الرَّابِعَةُ الْهَمُّ وَهُوَ الْعَزْمُ وَجَزْمُ النِّيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَنْدَمَ فَيَتْرُكَ أَوْ يَغْفُلَ لِعَارِضٍ فَلَا يَعْمَلُ أَوْ يَعُوقُهُ عَنْهُ عَائِقٌ، وَالْأَوَّلَانِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِمَا لِعَدَمِ كَوْنِهِمَا تَحْتَ الِاخْتِيَارِ وَيُسَمَّيَانِ حَدِيثَ النَّفْسِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسُهَا» . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنْ اخْتِيَارِيًّا يُؤَاخَذُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمُؤَاخَذٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَنَدَمًا عَلَى هَمِّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السَّيِّئَةِ حَسَنَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ فَإِنَّ هَمَّهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ إلَّا أَنْ يُكَفِّرَهُ بِحَسَنَةٍ كَمَا عَرَفْت سَابِقًا أَيْضًا فَافْهَمْ هَذَا عُصَارَةُ مَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِيهِ [النَّوْعُ الرَّابِعُ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ]

وَالْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ) الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَحْكَامِ جُزْئِيَّاتِ مَوْضُوعِهَا (فِيهِ) أَيْ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ (فَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ) فِي الْحَاشِيَةِ: رَئِيسُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَعَلَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ الَّذِينَ أَخْطَئُوا بَلْ كَفَرُوا؛ لِأَنَّ التَّجَسُّمَ مِنْهُمْ يَعْنِي أَنَّ الطَّوَائِفَ ثَلَاثٌ الظَّاهِرِيَّةُ وَهُمْ يَحْمِلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى الظَّوَاهِرِ فِي الْجَمِيعِ حَتَّى الْمُتَشَابِهَاتِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَالْبَاطِنِيَّةُ وَهُمْ يُؤَوِّلُونَ الْكُلَّ وَأَخْطَئُوا أَيْضًا؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إلَّا بِصَارِفٍ قَطْعِيٍّ وَالْمُقْتَصِدَةُ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ يَحْمِلُونَهُ عَلَى ظَوَاهِرِهِ إلَّا بِمَانِعٍ، وَقَدْ فَهِمْت التَّفْصِيلَ قَبْلُ (أَنَّ الْمَاءَ لَا يَتَنَجَّسُ أَصْلًا جَارِيًا أَوْ رَاكِدًا قَلِيلًا) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَشْرًا فِي عَشْرٍ (أَوْ كَثِيرًا) فِي الْجَرَيَانِ أَوْ فِي الرَّكْدِ (تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ تَعْرِيفَ الْمَاءِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَشَيْءٌ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُنَجِّسَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ قِيلَ: وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوا اللَّامَ عَلَى الْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ بِئْرُ بُضَاعَةَ فِي الْمَدِينَةِ الْمَسْئُولُ عَنْ مَائِهَا وَقَدْ أُلْقِيَ فِيهَا نَحْوُ لُحُومِ الْكِلَابِ وَخِرَقِ الْمَحَايِضِ، وَأَجَابَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْحَدِيثِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَاءَ آبَارِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جَارٍ تَحْتَ الْأَرْضِ فَلَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ إذَا ثَبَتَ جَرَيَانُ ذَلِكَ الْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ نُزُولًا أَوْ وُرُودًا ثُمَّ قِيلَ: الْوَجْهُ الْوَجِيهُ التَّمَسُّكُ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا صَاحِبُ الْمَذْهَبِ كَالْحَدِيثِ الْآتِي هُنَا وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يُقَاوِمُ قُوَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ فَانْتَظِرْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَقُولُ: إنَّ سَبَبَ الْوُرُودِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي كَوْنِهِ قَرِينَةً لِلْمَجَازِ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ مُقَايَسَةً أَوْ دَلَالَةً (خَرَّجَهُ د ت س قُطْن حك هق طح) أَيْ الطَّحَاوِيُّ. (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ) بْنُ حَنْبَلٍ (وَيَحْيَى) بْنُ مَعِينٍ (وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ الْقَوْلُ) أَيْ هَذَا الْقَوْلُ أَيْ الْحَدِيثُ (مِثْلُ قَوْلِنَا) الظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مَنْ لَفْظِ الْقَوْلِ «إنَّ الْمَاءَ) طَهُورٌ (لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ) » بِزِيَادَةِ لَفْظِ إنَّ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ (عَائِشَةُ وَعُمَرُ) الظَّاهِرُ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَالْأَوْلَى عَكْسُ التَّرْتِيبِ (وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَمَيْمُونَةُ) مِنْ الزَّوْجَاتِ

الْمُطَهَّرَةِ (وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةُ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُوهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ (وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ) بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ (وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ طَهَارَتُهُ إنْ بَقِيَ عَلَى طَبْعِهِ مِنْ الرِّقَّةِ وَالسَّيَلَانِ إذْ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَنْ طَبْعِهِ لَا يُسَمَّى مَاءً) وَأَنَا أَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي فَائِدَةُ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ الْمُصَنِّفِ بَلْ لَا يَبْعُدُ مِمَّنْ يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْقَرِيبِ إلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ الْقَوْلِيِّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مَاءً. (وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَنَّ الْأَبْوَالَ كُلَّهَا وَالْأَرْوَاثَ كُلَّهَا طَاهِرَةٌ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ) ، وَلَوْ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ (إلَّا الْآدَمِيَّ وَالثَّانِي مَذْهَبُ مَالِكٍ) إمَامِ الْمَدِينَةِ (وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ) وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلَّ الْمَاءُ أَوْ كَثُرَ (إلَّا مَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ) اللَّوْنُ وَالرِّيحُ وَالطَّعْمُ (بِالنَّجَسِ جَارِيًا) كَانَ (أَوْ رَاكِدًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) عَالِمُ مِصْرَ (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْر وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَحْمَدُ) - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - (فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّامِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَإِنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ يَقْتَضِي طَاهِرِيَّةَ الْمَاءِ وَإِنْ وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ فِي الْحَاشِيَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ الظَّاهِرِيَّةُ بِهِ لِضَعْفِهِ وَقُوَّةِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِجَزْمِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْحُفَّاظِ بِضَعْفِهِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ نَشَأَ مِمَّا قَبْلَهُ حَاصِلُهُ أَنَّ الضَّعْفَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ سَنَدًا لِلْإِجْمَاعِ فَلَا وَجْهَ لِعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَلَمَّا وَرَدَ مَا نَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مَعَ صِحَّتِهِ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: اللَّامُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لِلْعَهْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلَا تَعَارُضَ، وَإِنَّمَا عَمِلَ مَالِكٌ بِظَاهِرِ الثَّانِي مَعَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ كَالْبَوْلِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي طَبْعِهِ إحَالَةُ الْأَشْيَاءِ إلَى نَفْسِهِ فَتُقْلَبُ النَّجَاسَةُ مَاءً مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ كَالْجِيفَةِ الْمُلْقَاةِ فِي الْمَمْلَحَةِ فَانْقَلَبَتْ مِلْحًا وَالْخَمْرُ الْمُنْقَلِبَةُ خَلًّا انْتَهَى مُلَخَّصًا أَقُولُ: يُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْفَيْضِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ عِنْدَ جَمْعٍ مِنْهُمْ الْعِرَاقِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ لِضَعْفِ رُوَاتِهِ، وَمِنْهُمْ رُشَيْدُ بْنُ سَعْدٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ: لَا يُبَالِي عَمَّنْ رَوَى، وَأَبُو حَاتِمٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَالنَّسَائِيُّ مَتْرُوكٌ وَيَحْيَى وَاهٍ. وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى ضَعْفِهِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ حَكَى الْعِرَاقِيُّ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ لَكِنْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ وَحَسَّنَهُ الْيَعْمُرِيُّ لَكِنْ يَشْكُلُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَةِ

الظَّاهِرِيَّةِ لَا سِيَّمَا دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ إذْ سَمِعْت مِنْ حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَيْضًا أَنَّ اللَّامَ فِيهِ أَيْضًا لِلْعَهْدِ؛ إذْ سَبَبُ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ بِئْرُ بُضَاعَةَ فَلَا وَجْهَ لِلْحَمْلِ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَفِي الْآخَرِ عَلَى الْعَهْدِ وَأَيْضًا يَشْكُلُ عَلَى مَالِكٍ أَنَّهُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَةِ إذَا لَمْ يَحِلْ الْأَشْيَاءَ إلَى نَفْسِهِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْإِحَالَةُ فِيمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ (تَنْبِيهٌ) مِنْ خَاصَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعْلُ الْمَاءِ مُزِيلًا لِلنَّجَاسَةِ وَأَنَّ كَثِيرَ الْمَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْخَبَثُ وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْجَامِدِ (خَرَّجَهُ هق مج عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَ) خَرَّجَهُ (رَزَّاقٌ قُطْن طح عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُرْسَلًا) قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ أَقُولُ: فِيهِ تَفْصِيلٌ يُعْرَفُ مِنْ الْأُصُولِ (وَوَجْهُهُ الْمَعْقُولُ) يَعْنِي الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ عَلَى مُدَّعَى مَالِكٍ مَثَلًا مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَدِيثِ وَأَمَّا الْعَقْلِيُّ (أَنَّ الْمَاءَ شَيْءٌ فِي طَبْعِهِ إحَالَةُ كُلِّ شَيْءٍ إلَى نَفْسِهِ) وَكُلُّ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ النَّجِسِ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فَقَوْلُهُ (فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ النَّجَاسَةِ) فِيهِ (يَظْهَرُ أَنَّهَا انْقَلَبَتْ مَاءً فَيَطْهُرُ) إلَى آخِرِهِ فِي قُوَّةِ دَلِيلِ تِلْكَ الْكُبْرَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَوَجْهُهُ الْمَعْقُولُ عِلَّةُ حُكْمِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ عَلَى قَوَانِينِ الشَّرْعِ فَلَا يُتَوَهَّمُ الْمَيْلُ إلَى الْحُسْنِ الْعَقْلِيِّ (كَالْجِيفَةِ الْمُلْقَاةِ فِي الْمَاءِ الْمَالِحِ فَانْقَلَبَتْ مِلْحًا) بِلَا تَنَجُّسِ الْجِيفَةِ فَضْلًا عَمَّا يُلَاقِيهَا مِنْ الْمَاءِ الْمُنْقَلَبِ مِلْحًا (فَإِنَّهَا) أَيْ الْجِيفَةَ (طَاهِرَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَالِكٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ (أَيْضًا) كَمَا عِنْدَ مَالِكٍ (لِانْقِلَابِ الْحَقِيقَةِ) إلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى. فَالْوَصْفُ الْجَامِعُ هُوَ انْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَخْفَى لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْكُلِّيَّةُ لَمْ تَتَخَلَّفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ فَإِذَا تَخَلَّفَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَالتَّغَيُّرِ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تِلْكَ الْإِحَالَةُ، وَالْكَلَامُ بِالْعَقْلِ فَلَا يَضُرُّ اسْتِثْنَاءُ النَّقْلِ، وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيلَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُسْتَثْنَى كَمَا فِي الْعَامِّ الْبَاقِي مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَلْيُتَأَمَّلْ (وَأَصْلُهُ) أَيْ دَلِيلُ طَهَارَةِ تِلْكَ الْجِيفَةِ (الْخَمْرُ إذَا صَارَتْ خَلًّا) لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي ثُبُوتِ أَصْلِ الْقِيَاسِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَاسْتِحَالَةُ الْخَمْرِ خَلًّا لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ فَالْأَوْلَى إمَّا أَنْ يَكْتَفِيَ بِدَلِيلِ هَذَا الْحُكْمِ بَدَلَهُ أَوْ يَذْكُرَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ رَائِحَةُ الْقِيَاسِ عَلَى الْقِيَاسِ فَتَأَمَّلْ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ مَعَ الْفَارِقِ إذْ مَا وُجِدَ فِي الْفَرْعِيَّةِ هُوَ الْحُلُولُ السُّرْيَانِيُّ أَوْ الْجَوَارِي، وَفِي الْأَصْلِ هُوَ الِانْقِلَابُ وَأَحَدُهُمَا لَيْسَ عَيْنَ الْآخَرِ (وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ الرَّوْثُ) نَجَاسَةُ عَرِيضِ الْأَظْفَارِ كَالْفَرَسِ (وَالْخِثْيُ) نَجَاسَةُ ضِدِّهِ (طَاهِرَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَعَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ) ظَاهِرُهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إذْ هُوَ مُجْتَهِدٌ كَامِلٌ مِنْ تَلَامِذَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مِمَّنْ قَالَ: الْعَمَلُ أَفْضَلُ مِنْ الْعِلْمِ وَلِذَا تَقَاعَدَ لِلتَّفَرُّغِ، وَلَمْ يُصَنِّفْ، وَلَمْ يُدَرِّسْ (وَالنَّخَعِيُّ وَأَحْمَدُ) لَا يَخْفَى مَا فِي بَعْضِ هَذَا التَّرْتِيبِ (بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثُهُ طَاهِرَانِ وَالثَّالِثُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ تَبِعَهُ) قِيلَ: وَسَنَدُهُمْ فِيهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ الْمَاءَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ» وَهُمَا خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ) وَالرِّطْلُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ رِطْلُ بَغْدَادَ وَبِالْمِسَاحَةِ نَحْوَ ذِرَاعٍ وَرُبُعِ ذِرَاعٍ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا «لَا يَتَنَجَّسُ» إلَّا بِتَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ) بِمُلَاقَاةِ النَّجِسِ (كَقَوْلِ مَالِكٍ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ يَتَنَجَّسُ بِنَجِسٍ وَإِنْ قَلِيلًا) كَنُقْطَةِ بَوْلٍ أَوْ دَمٍ قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَ

فِي الْمَاءِ الْجَارِي الْوَصْفَ الْمُنَفِّرَ فَقَطْ كَمَالِكٍ وَحَكَمَ بِنَجَاسَتِهِ إذَا وُجِدَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ وَإِلَّا فَبِطَهَارَتِهِ، وَكَذَا عِنْدَنَا فِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ لِلْفَتْوَى وَأَمَّا فِي الرَّاكِدِ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَكَذَا، وَإِلَّا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ عِنْدَ التَّيَقُّنِ بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ وُجِدَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ أَوْ لَا وَحَمَلَ الْحَدِيثَ السَّابِقَ الَّذِي هُوَ مُسْتَنَدُ مَالِكٍ عَلَى الْجَارِي وَالرَّاكِدِ الَّذِي بَلَغَ هَذَا الْمِقْدَارَ تَطْبِيقًا بَيْنَهُمَا وَالْجَوَابُ مِنْ طَرَفِ مَالِكٍ أَنَّ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ لَا يَصْلُحُ لِلْعَمَلِ؛ لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ اضْطِرَابًا، وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ مُطْلَقٌ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ انْتَهَى قَوْلُهُ: فِي إسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ يَرُدُّهُ مَا فِي الْفَيْضِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ حَسَنٌ " د " فَهُوَ صَحِيحٌ وَقَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ ضَعَّفَهُ " د " وَهَمٌ وَكَفَى شَاهِدًا تَصْحِيحُ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَ " حب " وَاعْتَرَفَ الطَّحَاوِيُّ بِصِحَّتِهِ وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: إنَّ إسْنَادَهُ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَكَذَا عَلَى شَرْطِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: جَيِّدٌ وَالنَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ صَحِيحٌ وَلَمْ يَرَوْا الِاضْطِرَابَ فِيهِ قَادِحًا انْتَهَى بِنَحْوِ إيجَازٍ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَالْحَدِيثُ السَّابِقُ مُطْلَقٌ أَيْ حَدِيثُ مَالِكٍ يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا ذُكِرَ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ الثَّانِي وَعَدَمِ قَدْحِ الِاضْطِرَابِ فَمُطْلَقُ الْحَدِيثِ السَّابِقِ يُحْمَلُ عَلَى تَقْيِيدِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَاءَ الْبَالِغَ قُلَّتَيْنِ طَاهِرٌ إلَى آخِرِهِ وَهُنَا رِوَايَةٌ أُخْرَى وَهِيَ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» فَحُمِلَ عَلَى التَّقْيِيدِ كَذَلِكَ (وَقَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِحْيَاءِ: وَكُنْت أَوَدُّ) أُحِبُّ (أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلَ مَذْهَبِ مَالِكٍ لِسَبْعَةِ أَدِلَّةٍ الْأَوَّلُ: عَدَمُ وُقُوعِ السُّؤَالِ مِنْ أَوَّلِ عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ) - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَهُوَ تَمَامُ مِائَةِ عَامٍ مِنْ وَفَاتِهِ (عَنْ كَيْفِيَّةِ حِفْظِ الْمَاءِ وَحَالِهِ) فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْعِبْرَةُ فِي طَهَارَةِ الرَّاكِدِ مُطْلَقًا بِعَدَمِ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُنَفِّرِ بَلْ شُرِطَ مَعَ عَدَمِ التَّيَقُّنِ بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ السُّؤَالِ وَجْهٌ مَعَ كَمَالِ اهْتِمَامِهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَكَذَا لِارْتِكَابِهِمْ الْكَرَاهَةَ وَلَوْ تَنْزِيهًا عُدِمَ الدَّوَامُ كَمَا ذَكَرَ الْمُحَشِّي لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَظْهَرُ مِمَّا حُرِّرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ هُنَا فَلَا يَخْلُو مَا فِي التَّحْرِيرِ مِنْ الْقُصُورِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ مِنْ الشَّافِعِيِّ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ كَوْنُ عَدَمِ سُؤَالِهِمْ لِأَجْلِ فَهْمِهِمْ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ النَّصِّ كَحَدِيثِ الشَّافِعِيِّ (وَكَانَتْ أَوَانِي مِيَاهِهِمْ يَتَعَاطَاهَا الصِّبْيَانُ وَالْإِمَاءُ وَاَلَّذِينَ لَا يَحْتَرِزُونَ عَنْ النَّجَاسَةِ) لِجَهْلِهِمْ حُكْمَ الْحَادِثَةِ أَوْ لِعَدَمِ إدْرَاكِهِمْ الْمُمَيِّزَ، وَكُلُّ أَوَانِي مِيَاهٍ كَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَأْنِهِ، وَهُمْ لَا يَسْأَلُونَ وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ عَدَمَ سُؤَالِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ زَوَالِ الْيَقِينِ؛ إذْ هَذَا التَّعَاطِي إنَّمَا يُورِثُ الشَّكَّ لَا الْقَطْعَ، وَالطَّهَارَةُ الْأَصْلِيَّةُ يَقِينِيَّةٌ، وَلَوْ قِيلَ: إنَّ الْمَاءَ الَّذِي لَا يَكُونُ قُلَّتَيْنِ لَا يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجِسِ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ (وَالثَّانِي تَوَضَّأَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَاءٍ فِي جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ لَمْ يُعَوِّلْ إلَّا عَلَى عَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَاءِ) فِي الْحَصْرِ خَفَاءٌ لِجَوَازِ كَوْنِ التَّعْوِيلِ لِعَدَمِ خَبَرِ عَدْلٍ أَوْ عَدَدٍ مَثَلًا (وَإِلَّا فَنَجَاسَةُ النَّصْرَانِيَّةِ وَإِنَائِهَا غَالِبَةٌ) إنْ أُرِيدَ بِالْغَلَبَةِ مَرْتَبَةُ الظَّنِّ الْغَالِبِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَإِنْ الظَّنُّ الْمُجَرَّدَ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَا يُزِيلُ الطَّهَارَةَ الْأَصْلِيَّةَ

(وَالثَّالِثُ إصْغَاءُ) بِالْمُهْمَلَةِ فَالْمُعْجَمَةِ الْإِمَالَةُ (رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِنَاءَ لِلْهِرَّةِ وَعَدَمُ تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي مِنْهَا) مَعَ أَنَّ سُؤْرَهَا مَكْرُوهٌ لَا يَلِيقُ بِسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِوُجُودِ الْوَصْفِ الْمُنَفِّرِ وَأَيْضًا كَوْنُ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَا حُرِّرَ هُنَا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِطَهَارَةِ سُؤْرِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ: «سُؤْرُ الْهِرَّةِ طَاهِرٌ» (وَالرَّابِعُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَصَّ عَلَى أَنَّ غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ طَاهِرَةٌ إذَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يُلَاقِيَ الْمَاءُ النَّجَاسَةَ بِالْوُرُودِ عَلَيْهَا أَوْ بِوُرُودِهَا عَلَيْهِ) حَتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِنَجَاسَةِ الثَّانِي مُطْلَقًا بَعْدُ إنْ لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ، وَطَهَارَةُ الْأَوَّلِ عِنْدَ عَدَمِ التَّغَيُّرِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الْغَيْرَ الْبَالِغِ قُلَّتَيْنِ يَتَنَجَّسُ بِالنَّجِسِ وَلَوْ قَلِيلًا، وَالْمَفْهُومُ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَمَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ وَظَاهِرٌ أَنَّ إطْلَاقَ هَذَا الْمَفْهُومِ شَامِلٌ لَهُمَا مَعًا (وَالْخَامِسُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ) أَيْ النَّجِسَ (إذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ جَارٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ) أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِهِ (أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ) الْمَاءُ (قَلِيلًا، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَارِي وَالرَّاكِدِ) حَتَّى يَفْصِلَ بِبُلُوغِ الْقُلَّتَيْنِ وَعَدَمِهِ، وَحَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فِي سَنَدِهِ اضْطِرَابٌ لَا يَصْلُحُ لِلْعَمَلِ وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَارِي وَالرَّاكِدِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ، وَعَدَمُ الْفَرْقِ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقَدْ عَرَفْت عَدَمَ ضَرَرِ الِاضْطِرَابِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْجَارِيَ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بِسَيَلَانِهِ دُونَ الرَّاكِدِ (وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ إذَا وَقَعَ رِطْلٌ مِنْ الْبَوْلِ فِي قُلَّتَيْنِ ثُمَّ فَرَّقْنَاهُ فَكُلُّ كُوزٍ يَغْتَرِفُ مِنْهُ طَاهِرٌ) ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ طَاهِرٍ (وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَوْلَ مُنْتَشِرٌ فِيهِ) فِي ذَلِكَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَعْنِي الْقُلَّتَيْنِ (وَهُوَ قَلِيلٌ) مِنْ الْقُلَّتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ النَّجَاسَةُ لِعَدَمِ الْقُلَّتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَهُ. وَأُجِيبَ أَنَّهُ اُسْتُهْلِكَ الْبَوْلَ فِي الْقُلَّتَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ اعْتِبَارٌ وَلَا كَذَلِكَ الْوَاقِعُ مِنْهُ فِي الْقَلِيلِ بِمُلَاقَاتِهِ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ فَرْضَ وُقُوعِ نِصْفِ هَذَا الرَّطْلِ فِي قُلَّةٍ وَاحِدٍ يَتَنَجَّسُ فِي الِابْتِدَاءِ فَمَا وَجْهُ عَدَمِ تَنَجُّسِهِ فِي الِانْتِهَاءِ لَعَلَّ الْأَوْلَى هُوَ أَنْ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا احْتَجَّ بِالنَّصِّ، وَهَذَا رَأْيٌ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ (وَالسَّابِعُ أَنَّ الْحَمَّامَاتِ) مَوْضِعَ الْغُسْلِ (لَمْ تَزَلْ فِي الْأَعْصَارِ الْخَالِيَةِ) السَّابِقَةِ (يَتَوَضَّأُ فِيهَا) فِي حِيَاضِهَا (الْمُتَقَشِّفُونَ) الْمُبَالِغُونَ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ (وَيَغْمِسُونَ الْأَيْدِيَ وَالْأَوَانِيَ فِي تِلْكَ الْحِيَاضِ مَعَ قِلَّةِ الْمَاءِ) بِأَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ مِنْ الْقُلَّتَيْنِ (وَمَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَيْدِيَ النَّجِسَةَ وَالطَّاهِرَةَ كَانَتْ تَتَوَارَدُ عَلَيْهِ) مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَمْنَعُوا مِنْ اسْتِعْمَالِهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْمُتَوَضِّئِينَ مِمَّنْ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ وَيُحْتَجُّ بِأَفْعَالِهِ، وَكَوْنَ تِلْكَ الْقُلَّةِ نَاقِصَةً مِنْ الْقُلَّتَيْنِ، وَكَوْنَ تَوَارُدِ الْأَيْدِي النَّجِسَةِ مَعْلُومًا لَهُمْ بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْعَادَاتِ وَلَيْسَتْ الْمَذْكُورَاتُ مُطَّرِدَةً (فَهَذِهِ الْأُمُورُ) السَّبْعَةُ (مَعَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ) لِلْمَاءِ (تُقَوِّي فِي النَّفْسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ إلَى عَدَمِ التَّغَيُّرِ) الْأَوْلَى إلَى عَدَمِ التَّغَيُّرِ فَقَطْ لَا التَّغَيُّرِ عِنْدَ الْقُلَّتَيْنِ وَالتَّنَجُّسِ مُطْلَقًا عِنْدَ نَقْصِهِ عَنْهُمَا وَإِلَّا

فَالشَّافِعِيُّ قَائِلٌ بِمُطْلَقِ عَدَمِ التَّغَيُّرِ كَمَالِكٍ (انْتَهَى) كَلَامُ الْغَزَالِيِّ (مُخْتَصَرًا) لَا يَخْفَى أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ مِنْ هَذَا النَّقْلِ بَيَانُ حَالِ السَّلَفِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ مِنْ مَيْلِ جَانِبِ السَّعَةِ دُونَ تَضْيِيقِ بَعْضِ مُدَّعِي التَّوَرُّعِ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مَذْهَبًا فَتَدَبَّرْ (وَالرَّابِعُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَاءُ الْجَارِي) بِأَنْ يَذْهَبَ بِتَبِنَةٍ كَمَا هُوَ الْهِدَايَةُ وَالْكَافِي وَبِأَنْ لَا يَتَكَرَّرَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا قِيلَ. وَفِي الدُّرِّ الْمُبْتَغَى: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا (لَا يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ مُطْلَقًا) مَرْئِيَّةً أَوْ لَا وَقِيلَ لَا فِي أَكْثَرِهِ أَوْ لَا قِيلَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا عَلَى النَّجَاسَةِ أَوْ لَا، وَفِي الْخُلَاصَةِ: النَّهْرُ إذَا كَانَ يَجْرِي بَعْضُهُ عَلَى الْجِيفَةِ إنْ كَانَ مَا يُلَاقِي الْجِيفَةَ أَكْثَرَ أَوْ كَانَا سَوَاءٌ فَالْمَاءُ نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَ مَا يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ أَقَلَّ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُ مَا فِي الْمُتُونِ أَنَّ الْجَارِيَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ إنْ لَمْ يُرَ أَثَرُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ النَّجَاسَةُ جِيفَةً أَوْ غَيْرَهَا فَإِذَا بَالَ إنْسَانٌ فِيهِ فَتَوَضَّأَ آخَرُ مِنْ أَسْفَلِهِ يَجُوزُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْجَرْيَةِ أَثَرُهُ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ: وَلَوْ كُسِرَتْ خَابِيَةُ خَمْرٍ فِي الْفُرَاتِ، وَرَجُلٌ يَتَوَضَّأُ أَسْفَلَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَجِدْ فِي الْمَاءِ طَعْمَ الْخَمْرِ أَوْ رِيحَهُ أَوْ لَوْنَهُ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ (وَفِي النِّصَابِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ هَذَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مَرْئِيَّةً فَإِنْ لَاقَى أَكْثَرُ الْمَاءِ النَّجَاسَةَ أَوْ) لَاقَى (نِصْفُهُ فَنَجِسٌ) وَعِنْدَ الْبَعْضِ النِّصْفُ مُلْحَقٌ بِالطَّاهِرِ (وَإِنْ أَقَلَّهُ فَطَاهِرٌ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ مُرَادِ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مُرَادُهُمْ: إنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ لَا يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ وَصْفٌ مُنَفِّرٌ، وَتَغَيَّرَ مَرْئِيُّهُ أَوْ لَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ لِلنَّاسِ وَأَرْفَقُ لِلْقِيَاسِ وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا الْإِطْلَاقُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا فَإِنْ لَاقَى أَكْثَرُ الْمَاءِ أَوْ نِصْفُهُ النَّجَاسَةَ فَنَجِسٌ، وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا أَحْوَطُ وَعِنْدَ الْبَعْضِ نِصْفُ الْمَاءِ إذَا لَاقَى النَّجَاسَةَ فَظَاهِرٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي. (وَأَمَّا مَاءُ الْبِئْرِ فَلَهُ تَفْصِيلٌ مَعْرُوفٌ) فِي الْفِقْهِ (وَأَمَّا مَا عَدَاهُمَا) وَهُوَ الرَّاكِدُ (فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَكَالْمَاءِ الْجَارِي) لَا يَتَنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ (وَإِلَّا فَيَتَنَجَّسُ بِقَلِيلِ نَجَاسَةٍ) وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّغَيُّرُ (وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَثِيرِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ عَشْرٌ فِي عَشْرٍ) عَشْرَةُ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ بِذِرَاعِ الْكِرْبَاسِ بِحَسَبِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَاخْتُلِفَ فِي الْعُمْقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تَنْحَسِرُ أَرْضُهُ بِالْغَرْفِ لِلْوُضُوءِ، وَقِيلَ لِلِاغْتِسَالِ وَإِذَا لَمْ يَتَنَجَّسْ كُلُّهُ هَلْ يَتَنَجَّسُ مَوْضِعُ الْوُقُوعِ إنْ كَانَتْ مَرْئِيَّةً يَتَنَجَّسُ، وَإِلَّا فَلَا وَعِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ يَتَنَجَّسُ فِيهِمَا وَقَدْ يَعْتَبِرُ مَا هُوَ بِقَدْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ طُولٌ وَعُمْقٌ وَلَا عَرْضَ لَهُ لَكِنْ لَوْ بُسِطَ صَارَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَصِلُ إلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو النَّصْرِ: يَتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَرْضِ، وَإِنْ أَوْجَبَ التَّنَجُّسَ لَكِنَّ اعْتِبَارَ الطُّولِ لَا يُوجِبُهُ فَلَا يَتَنَجَّسُ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْحَوْضُ الْمُدَوَّرُ يُعْتَبَرُ فِيهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا هُوَ الصَّحِيحُ (وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَبِهِ يُفْتَى وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: يُعْتَبَرُ فِيهِ

أَكْبَرُ رَأْيِ الْمُبْتَلَى إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ بِحَيْثُ تَصِلُ النَّجَاسَةُ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ وَإِلَّا جَازَ) مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ (وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ وَصَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَالْيَنَابِيعِ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِأَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - انْتَهَى) كَلَامُ ابْنِ الْهُمَامِ (مُخْتَصَرًا) وَمِمَّنْ نَصَّ أَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَالَ بَعْضٌ: إذَا كَانَ الْحَوْضُ بِحَالٍ لَوْ اغْتَسَلَ إنْسَانٌ فِي جَانِبٍ لَا يَضْطَرِبُ طَرَفُ مُقَابِلِهِ بِأَنْ لَا يَرْتَفِعَ، وَلَا يَنْخَفِضَ فَكَثِيرٌ، وَفِي الدُّرِّ الْمُبْتَغَى لَوْ تَحَرَّكَ بِحَرَكَةِ الْوُضُوءِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ) كَالشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالْفَرَسِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنْ فِي إطْلَاقِهِ الْفَرَسَ كَلَامٌ فِقْهِيٌّ لِمَا فِيهِ نَحْوَ الْخُلَاصَةِ وَيُكْرَهُ لَحْمُ الْخَيْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي الْكَرَاهَةِ رِوَايَتَانِ وَالْأَصَحُّ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى جَوَازِ أَصْلِ الْحِلِّ (طَاهِرٌ) قَالَ فِي الْمُلْتَقَى وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ قِيلَ مُخَفَّفٌ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَقَالُوا) قِيلَ أَيْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ جَمِيعًا (خَرْءُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطُّيُورِ طَاهِرٌ سِوَى الدَّجَاجَةِ وَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ) فَإِنَّهُ نَجِسٌ غَلِيظٌ (وَبَوْلُ الْخَفَافِيشِ وَخَرْؤُهَا مَعْفُوٌّ عَنْهَا) مَعَ أَنَّهَا مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُمَا وَالْقِيَاسُ النَّجَاسَةُ لَكِنْ عُفِيَ عَنْهَا لِيُدْفَعَ الْحَرَجُ (وَفِي خَرْءِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطُّيُورِ رِوَايَتَانِ طَهَارَتُهُ وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ، وَنَجَاسَتُهُ خَفِيفَةٌ وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ) قِيلَ: وَالْأَقْوَى دِرَايَةً جَانِبُ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الِاحْتِرَازِ عَنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ لِذَاتِهَا بَلْ لِوَصْفِهَا الْمُنَفِّرِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي خَرْئِهَا. (وَقَالُوا لَوْ انْتَضَحَ الْبَوْلُ) وَكَذَا الْخَمْرُ عَلَى الثَّوْبِ أَوْ الْبَدَنِ (مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) أَيْ مَعْفُوٍّ (وَالْغُبَارُ النَّجِسُ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَالطَّعَامِ لَا يَضُرُّ، وَإِذَا تَنَجَّسَ بَعْضُ صُبْرَةٍ أَوْ نَحْوُهَا فَقُسِّمَ أَوْ غُسِلَ بَعْضُهُ حُكِمَ بِطَهَارَةِ كُلِّ قِسْمٍ حَتَّى يَحِلَّ أَكْلُهُ وَكَذَا فِي اللِّبَاسِ) إذَا تَنَجَّسَ طَرَفٌ مِنْهُ وَغُسِلَ بِلَا تَحَرٍّ طَرَفٌ آخَرُ مِنْهُ يَطْهُرُ كُلُّهُ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: الْقِسْمَةُ مِنْ الْمُطَهِّرَاتِ يَعْنِي لَوْ تَنَجَّسَ بَعْضُ الْبُرِّ ثُمَّ قُسِّمَ طَهُرَ لِوَقْعِ الشَّكِّ فِي كُلِّ جُزْءٍ هَلْ هُوَ الْمُتَنَجِّسُ أَوْ لَا فَمَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ: ثَوْبٌ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يَدْرِي مَكَانَهَا يَغْسِلُ الثَّوْبَ كُلَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ مَعَ قَوْلِ الْأَشْبَاهِ وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ وَتَفْصِيلُهُ يُنْقَلُ عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ (وَقَدْ جُوِّزَ الْأَخْذُ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ بِمَذْهَبِ الْغَيْرِ) لَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ الْجَوَازِ بِالطَّهَارَةِ لِلسَّعَةِ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ لَكِنْ لَا يَخْفَى إنْ لِضَرُورَةٍ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ، وَإِلَّا فَإِنْ الْغَيْرُ أَعْلَمَ فَلَيْسَ مَسْأَلَتُنَا فِيهِ، وَإِنْ مُطْلَقًا فَقَابِلٌ لِلْكَلَامِ عَلَى أَنَّ مَا أَتَى فِي حُجَّتِهِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ

فِي الْأَوَّلِ. (حُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اغْتَسَلَ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ) ظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْفِقْهِيَّةِ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَ لِلْيَوْمِ بَلْ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ الْأَصَحُّ وَأَمَّا لِلْيَوْمِ فَلِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَالْأَوْلَى لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَوْ لِلْجُمُعَةِ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ بِلَا قَرِينَةٍ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الظَّاهِرِ لِلسُّنَّةِ (وَصَلَّى بِبَغْدَادَ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ إمَامٌ (فَوَجَدُوا فِي الْبِئْرِ) الَّذِي اغْتَسَلَ فِيهِ (فَأْرَةً مَيْتَةً فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ) وَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا إلَى ثَلَاثِينَ كَمَا فُصِّلَ فِي الْفِقْهِيَّةِ وَأَيْضًا إعَادَةُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. (فَقَالَ نَأْخُذُ بِقَوْلِ إخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) كَالْمَالِكِيَّةِ (تَمَسُّكًا بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ خُبْثًا» كَذَا فِي التتارخانية وَغَيْرِهَا) لَكِنَّ هَذَا يُخَالِفُ مَا فِي الْأُصُولِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُجْتَهِدٍ أَنْ يُقَلِّدَ الْمُجْتَهِدَ مَعَ خِلَافِ رَأْيِهِ اتِّفَاقًا فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ قُلْنَا: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَقْلِيدِ الْغَيْرِ مُطْلَقًا نَعَمْ قَدْ يُقَالُ يُرَخَّصُ ذَلِكَ عِنْدَ خَوْفِ فَوْتِ الْحَادِثَةِ لَكِنَّ كَوْنَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لَعَلَّ الْأَوْجَهَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هُمْ التَّابِعُونَ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنِّي فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لِلْأَعْلَمِ مِنْهُ إذَا كَانَ الْأَعْلَمُ صَحَابِيًّا أَوْ تَابِعِيًّا، وَالتَّفْصِيلُ فِي زُبْدَةِ الْوُصُولِ فِي الْأُصُولِ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى جَوَابِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ بِقَوْلِهِ (وَلَعَلَّ حُرْمَةَ التَّقْلِيدِ لِلْمُجْتَهِدِ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَا قَلَّدَهُ حُكْمًا قَوِيًّا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ دَاخِلًا فِي ظَاهِرِ النَّصِّ) فَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي ظَاهِرِ النَّصِّ فَيَجُوزُ؛ إذْ الْمَفْهُومُ مُعْتَبَرٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنَّفِينَ لَعَلَّ قُوَّةَ الِاهْتِمَامِ فِي الْأَوَّلِ مَانِعٌ مِنْ التَّقْلِيدِ، وَعَدَمُ قُوَّتِهِ فِي الثَّانِي مُجَوِّزٌ إيَّاهُ. وَأَقُولُ: إنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ نَظَرِيًّا مُحْتَاجًا إلَى الِاجْتِهَادِ حَتَّى يُقَلِّدَ بَلْ مَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي ظَاهِرِ نَصٍّ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى قِيَاسٍ مِمَّا يَعْرِفُهُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِّيَّةُ (أَوْ فِي الْأُمُورِ الْمَقْصُودَةِ) الْأَقْرَبُ لَفْظًا عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي ظَاهِرِ النَّصِّ وَمَعْنًى عَلَى قَوْلِهِ حُكْمًا قَوِيًّا (لَا الْوَسَائِلِ) فَلِعَدَمِ الِاهْتِمَامِ فِي الْوَسَائِلِ، مِثْلُهُ فِي الْمَقَاصِدِ جَوَّزَ فِيهَا دُونَهَا فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ ذَلِكَ تَرْوِيجًا لِمَا كَانَ فِي صَدَدِهِ لَكِنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْأُصُولُ، وَلَمْ يُرَ هَذَا التَّفْصِيلُ فِيهِ فَالْأَوْجَهُ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا أَوْ مَا وَقَعَ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ غَيْرُ مَمْنُوعِ التَّقْلِيدِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَيَجُوزُ كَوْنُ أَبِي يُوسُفَ مِنْهُمْ فَفِيهِ تَأَمُّلٌ (فَإِذَا جَازَ لِلْمُجْتَهِدِ) كَأَبِي يُوسُفَ هُنَا (التَّقْلِيدُ فِيهِ) فِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ مَقْصُودُ الْبَابِ (فَجَوَازُهُ لِلْمُقَلِّدِ أَوْلَى) فَلِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ أَيَّ مُجْتَهِدٍ كَانَ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ فَيَلْزَمُ جَوَازُ تَقْلِيدِ حَنَفِيٍّ لِمَالِكِيٍّ فَضْلًا عَنْ شَافِعِيٍّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ بَلْ قِيلَ هُنَا أَيْضًا: وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ قِيلَ لَا وَقِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ إنْ عَمِلَ بِقَوْلِ مَنْ قَلَّدَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا عَمِلَ بِهِ فِيهِ وَإِلَّا فَيَجُوزُ. (وَأَمَّا الثَّانِي) أَيْ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ (فَالْأَصْلُ) أَيْ فَهُوَ الْأَصْلُ (فِي الْأَشْيَاءِ الطَّهَارَةُ لِمَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْفَتَاوَى: وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالظَّنِّ بَلْ يَزُولُ بِيَقِينٍ بِمِثْلِهِ)

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَزُولُ الشَّيْءُ بِمِثْلِهِ بَلْ إنَّمَا يَزُولُ بِمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ قُلْنَا حُكْمُ الْمُمَاثَلَةِ هُوَ التَّعَارُضُ فَيَتَسَاقَطَانِ فَيَزُولُ إلَّا فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ كَمَا سَبَقَ، وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالُوا: مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِيَقِينٍ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ هُنَا غَالِبُ الظَّنِّ (وَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْأَحَادِيثِ) كَأَنَّ مَا فِي كُتُبِ الشَّرْعِ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ (مُصَرَّحٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ) وَدَخَلَ تَحْتَهَا فُرُوعٌ كَقَوْلِهِمْ مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَهُوَ مُتَطَهِّرٌ كَعَكْسِهِ وَهُوَ: تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَمُحْدِثٌ تَيَقَّنَ التَّيَمُّمَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَعَلَى تَيَمُّمِهِ اسْتَيْقَنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي التَّيَمُّمِ فَعَلَى حَدَثِهِ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ وَشَكَّ فِي سَبْقِهِمَا فَمُتَطَهِّرٌ عَلِمَ عَدَمَ غَسْلِ عُضْوٍ لَكِنْ لَا بِعَيْنِهِ يَغْسِلُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَمَلِ شَكَّ فِي وُجُودِ النَّجَسِ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ الطَّاهِرِيَّةِ؛ وَلِذَا أَفْتَوْا بِطَهَارَةِ طِينِ الطُّرُقَاتِ أَكَلَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَشَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهُ تَيَقَّنَ الْفِعْلَ وَشَكَّ فِي الْقَلِيلِ أَوْ الْكَثِيرِ حَمَلَ عَلَى الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ شَكَّ فِي صَلَاةٍ هَلْ صَلَّاهَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَدَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إضَافَةُ الْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ أَوْقَاتِهِ كَمَا لَوْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً وَلَا يَدْرِي مَتَى أَصَابَهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ مِنْ آخِرِ حَدَثٍ أَحْدَثَهُ وَالْمَنِيُّ مِنْ آخِرِ نَوْمِهِ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأَشْبَاهِ (وَلَمْ أَرَ مُخَالِفًا فِيهِ) أَيْ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا (فَإِذَا شَكَّ أَوْ ظَنَّ فِي طَهَارَةِ مَاءٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ طِينٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ لِبَاسٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ إنَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَذَلِكَ الشَّيْءُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَحِلِّ الْأَكْلِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ وَكَذَا) كَبَقَاءِ الطَّهَارَةِ فِيمَا يَشُكُّ فِيهِ (إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ نَجَاسَةٌ) فَإِنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ كَمَا عَرَفْت وَأَنْتَ عَرَفْت أَيْضًا أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْ فُرُوعِهِ مَا فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْمُلْتَقَطِ وَلَوْ لَمْ يَفُتْهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ شَيْءٌ، وَأَحَبَّ أَنْ يَقْضِيَ صَلَاةَ عُمُرِهِ مُنْذُ أَدْرَكَ لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ أَكْبَرُ ظَنِّهِ فَسَادَهَا بِسَبَبِ طَهَارَةٍ أَوْ تَرْكِ شَرْطٍ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يُكْرَهُ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ انْتَهَى. قَالَ شَارِحُهُ الْحَمَوِيُّ: قِيلَ عَلَيْهِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ لِشُبْهَةِ الْفَسَادِ كَذَا فِي الْمُضْمَرَاتِ، وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ قِيلَ يُكْرَهُ وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ وَيَقْرَأُ فِي الْجَمِيعِ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ (لَكِنْ) هُنَا أَيْ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ (يَحْتَسِبُ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ) وَمِمَّا عَرَفْت آنِفًا وَسَابِقًا اللَّازِمُ يَجِبُ فَتَأَمَّلْ إلَّا أَنْ تَحْمِلَ غَلَبَةَ الظَّنِّ عَلَى نَفْسِ الظَّنِّ. (وَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا اسْتِعْمَالُهُ) وَإِنْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهَا (كَسَرَاوِيلِ الْكَفَرَةِ) فَإِنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهَا لِعَدَمِ تَوَقِّيهِمْ عَنْهَا لَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مِلَلِ الْكَفَرَةِ (وَسُؤْرِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ) وَأَمَّا الْمَحْبُوسَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ شَاهِدِ الْبَابِ لَكِنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ مَا فِي خِزَانَةِ أَبِي اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سِتَّةُ أَشْيَاءَ لَا بَأْسَ بِالتَّوَضُّؤِ بِهَا: سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَالْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ (وَالْمَاءِ الَّذِي أَدْخَلَ الصَّبِيُّ يَدَهُ فِيهِ) فِي غَلَبَةِ نَجَاسَةِ يَدِ مُطْلَقِ الصَّبِيِّ خَفَاءٌ لَا يَخْفَى (وَطِينِ الشَّوَارِعِ) قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ شَكَّ فِي وُجُودِ

النَّجِسِ فَالْأَصْلُ بَقَاءُ الطَّاهِرِيَّةِ وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: حَوْضٌ تَمْلَأُ مِنْهُ الصِّغَارُ وَالْعَبِيدُ بِالْأَيْدِي الدَّنِسَةِ وَالْجِرَارِ الْوَسِخَةِ يَجُوزُ الْوُضُوءُ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ بِهِ نَجَاسَةٌ؛ وَلِذَا أَفْتَوْا بِطَهَارَةِ طِينِ الطَّرَقَاتِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ الْجَوَازُ بِلَا كَرَاهَةٍ فِي شَرْحِ الْحَمَوِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ طِينَ الشَّوَارِعِ إنْ كَانَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَنَجِسٌ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي السِّرَاجِ ، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ مَشَى فِي الطِّينِ وَأَصَابَهُ لَا يَجِبُ فِي الْحُكْمِ غَسْلُهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الصَّلَاةِ غَسْلُهُ وَيُشِيرُ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ (إذَا لَمْ يُرَ فِيهِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ وَلَا أَثَرُهَا وَأَوَانِي الْمُشْرِكِينَ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا) كُلِّهِ (مَا ذَكَرْنَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ «أَكْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ضِيَافَةِ الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّةِ» مَعَ أَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ فِي طَعَامِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ النَّجَاسَةُ وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ فِيمَا يُكْرَهُ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِي فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْكَرَاهَةُ، وَهُوَ قَدْ بُعِثَ أُسْوَةً وَإِمَامًا لِلْأُمَّةِ وَهَادِيًا لَهُمْ بَلْ عَامَّةُ فِعْلِهِ الْقَصْدِيِّ لَيْسَتْ بِأَقَلَّ مِنْ النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فَتَأَمَّلْ أَوْ ارْجِعْ إلَى بَعْضِ مَا مَرَّ (وَمَا خَرَّجَهُ " د " عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْقِيَتِهِمْ وَنَسْتَمْتِعُ بِهَا فَلَا يَعِيبُ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (ذَلِكَ عَلَيْنَا» فَسُنَّةٌ تَقْرِيرِيَّةٌ وَسُكُوتِيَّةٌ إذْ سُكُوتُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ حُجَّةٌ وَحَمْلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَةِ بَعِيدٌ. (وَكَذَا فِي التتارخانية وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: الصَّبِيُّ إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي كُوزِ مَاءٍ أَوْ رِجْلَهُ فِيهِ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ يَدَهُ) أَوْ رِجْلَهُ (طَاهِرَةٌ بِيَقِينٍ) ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الْأَصْلِيَّةَ لَا تَزُولُ بِالِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ (يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهَذَا الْمَاءِ) فِي إيرَادِ هَذَا لَا يُعْلَمُ كَثِيرُ نَفْعٍ فِي الْمَقَامِ إلَّا أَنْ يُلَاحَظَ قَوْلُهُ (وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ يَدَهُ) أَوْ رِجْلَهُ (نَجِسَةٌ بِيَقِينٍ) أَوْ أَخْبَرَ الْعَدْلُ أَوْ الْعَدَدُ (وَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ) ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ رَاكِدٌ قَلِيلٌ (وَإِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ) قِيلَ لِحَدِيثِ «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنْ تَبَعِيَّةِ الْوَسْوَسَةِ، وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ الْعَدَمَ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، وَالْعَادَةُ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِذَا قَالَ (لِأَنَّ الصَّبِيَّ) لَا سِيَّمَا الْغَيْرَ الرَّشِيدَ (لَا يَتَوَقَّى مِنْ النَّجَاسَاتِ عَادَةً وَمَعَ هَذَا لَوْ تَوَضَّأَ بِهِ أَجْزَأَهُ انْتَهَى) ، وَفِي الْإِجْزَاءِ إيمَاءٌ إلَى أَنَّ خِلَافَ الْأَوْلَى لَا يَخْفَى إنْ سَلَّمَ تِلْكَ الْعَادَةَ فِي الصَّبِيِّ يَلْزَمُ الْقَطْعُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ؛ إذْ الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ كَمَا قَالُوا فِي حَدِّ الْمَاءِ الْجَارِي: الْأَصَحُّ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا، وَفِي وُقُوعِ الْكَثِيرِ فِي الْبِئْرِ الْأَصَحُّ أَنَّ الْكَثِيرَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ وَكَوْنُ الْعَادَةِ مِعْيَارَ الْحُكْمِ الْقَطْعِيِّ فِي بَابِ الْحَيْضِ مَعْرُوفٌ، وَكَذَا أَلْفَاظُ الْوَاقِفِينَ تُنْبِئُ عَلَى عُرْفِهِمْ، وَالْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ، وَتَعْلِيمُ الْكَلْبِ عَلَى الْعُرْفِ، وَهَكَذَا وَهَكَذَا إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ عَادَةٍ وَعَادَةٍ وَيَدَّعِيَ أَنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ مِنْ الصَّبِيِّ لَيْسَتْ مِمَّا اطَّرَدَتْ أَوْ غَلَبَتْ وَمَا ذُكِرَتْ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ مِمَّا لَا يَغْلِبُ فَافْهَمْ. (وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَيُكْرَهُ) قِيلَ تَنْزِيهًا (الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ) وَكَذَا سَائِرُ الِاسْتِعْمَالَاتِ (فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ) وَلَوْ أَهْلَ الْكِتَابِ (قَبْلَ الْغَسْلِ) ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ أَوَانِيهِمْ النَّجَاسَةُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ وَالْمَيْتَةَ (وَيَشْرَبُونَ ذَلِكَ وَيَأْكُلُونَ فِي قِصَاعِهِمْ) جَمْعُ قَصْعَةٍ (وَأَوَانِيهِمْ فَيُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهَا قَبْلَ الْغَسْلِ اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ) لَا يَخْفَى كَمَا عَرَفْت مِرَارًا أَنَّ اقْتِدَاءَ الْغَلَبَةِ وَالظُّهُورِ هُوَ الْحُرْمَةُ وَالنَّجَاسَةُ؛ إذْ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي الشَّرْعِ حُكْمُ التَّيَقُّنِ إلَّا أَنْ يُتَجَوَّزَ بِنَحْوِ مَا أُشِيرَ (كَمَا كُرِهَ التَّوَضُّؤُ بِسُؤْرِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّى مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الظَّاهِرِ وَالْغَالِبِ وَكَمَا كُرِهَ التَّوَضُّؤُ بِمَا أَدْخَلَ الصَّبِيُّ يَدَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّى مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الظَّاهِرِ وَالْغَالِبِ

وَكَمَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي سَرَاوِيلِ الْمُشْرِكِينَ اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَنْجُونَ) وَلَا يَجْتَنِبُونَ عَنْ الْبَوْلِ (وَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ سَرَاوِيلِهِمْ النَّجَاسَةَ وَمَعَ هَذَا) الظَّاهِرِ (لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِيهَا قَبْلَ الْغَسْلِ جَازَ وَلَا يَكُونُ آكِلًا وَلَا شَارِبًا حَرَامًا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الْأَشْيَاءِ أَصْلٌ، وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ فَيَجْرِي عَلَى الْأَصْلِ) لَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَعْرِضْ مَانِعٌ وَدَلِيلٌ خِلَافُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّاهِرَ قَرِينَةٌ خِلَافُ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ بَيْتَ الْخَلَاءِ وَجَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَشَكَّ هَلْ خَرَجَ مِنْهُ حَدَثٌ أَوْ لَا كَانَ مُحْدِثًا وَإِنْ جَلَسَ لِلْوُضُوءِ وَمَعَهُ مَاءٌ ثُمَّ شَكَّ هَلْ تَوَضَّأَ أَوْ لَا كَانَ مُتَوَضِّئًا عَمَلًا بِالْغَالِبِ فِيهَا (حَتَّى يَعْلَمَ) الظَّاهِرَ أَيْ يَتَيَقَّنَ يَعْنِي أَنَّ مُجَرَّدَ الظَّاهِرِ لَا يُغَيِّرُ الْأَصْلَ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا (بِحُدُوثِ الْعَارِضِ وَمَا يَقُولُ) السَّائِلُ اعْتِرَاضًا (بِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَتُهُ) فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِهِ. (قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ الطَّهَارَةَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ) لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالظَّاهِرِ مُجَرَّدُ الظَّنِّ، وَمِنْ الْيَقِينِ مَا يَعُمُّ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ إذْ هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْيَقِينِ فَلَا يُتَوَجَّهُ الْإِشْكَالُ بَلْ يَنْدَفِعُ مَا سَبَقَ أَيْضًا (انْتَهَى) كَلَامُ الذَّخِيرَةِ (ثُمَّ قَالَ) فِي الذَّخِيرَةِ (وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ كُلِّهِ) أَيْ كُلِّ الطَّعَامِ (مِنْ الذَّبَائِحِ وَغَيْرِهَا) ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يَعْنِي أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَلِيلًا آخَرَ غَيْرَ الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ) مِنْهُ تَعَالَى (بَيْنَ الذَّبِيحَةِ وَغَيْرِهَا وَيَسْتَوِي الْوُجُوبُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكَذَا يَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ أَوَالنَّصْرَانِيُّ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ) أَوْلَادِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (أَوْ مِنْ غَيْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَنَصَارَى الْعَرَبِ لِظَاهِرِ مَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ فَإِنَّهُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَكِتَابِيٍّ وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْمَجُوسِ كُلِّهِ إلَّا الذَّبِيحَةَ فَإِنَّ ذَبِيحَتَهُمْ حَرَامٌ) لِعَدَمِ كِتَابِهِمْ وَلِعَدَمِ ذِكْرِ اللَّهِ فِيهِمْ عِنْدَ الذَّبْحِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (انْتَهَى وَقَالَ) فِي الذَّخِيرَةِ (فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) مِنْ التَّابِعِينَ (أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَظْهَرُونَ) يَغْلِبُونَ (عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ فِي أَوَانِيهِمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْسِلُونَهَا قَبْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَعْنَى يَظْهَرُونَ يَغْلِبُونَ وَيَسْتَوْلُونَ) مِنْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: - {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: - {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] وَمَعْنَاهُ مَا قُلْنَا

وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا هَجَمُوا عَلَى بَابِ كِسْرَى مَلِكِ الْعَجَمِ وَجَدُوا فِيهِ مَطْبَخَةً) آلَةَ طَبْخٍ أَوْ مَكَانَ طَبْخٍ (قُدُورًا) بَدَلٌ مِنْ: " مَطْبَخَةً " (فِيهَا أَلْوَانُ الْأَطْعِمَةِ فَسَأَلُوا عَنْهَا) هَلْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الذَّبِيحَةِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُمْ مَجُوسٌ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُمْ (فَقِيلَ إنَّهُ مَرَقَةٌ) وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْهَا (فَأُطْعِمُوهُ فَأَكَلُوا) أَيْ مَا فِي الْقُدُورِ (وَتَعَجَّبُوا مِنْ لَذَّتِهِ وَبَعَثُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَنَاوَلَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ وَتَنَاوَلَ أَصْحَابُهُ فَالصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَكَلُوا مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي طَبَخُوهُ) أَيْ الْكُفَّارُ (وَطَبَخُوا) أَيْ الصَّحَابَةُ (فِي قُدُورِهِمْ قَبْلَ الْغَسْلِ) وَلَوْ كَانَ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَاسْتِعْمَالُ قُدُورِهِمْ قَبْلَ الْغَسْلِ حَرَامًا لَمَا أَكَلُوا وَاسْتَعْمَلُوا قَالَ الْحَمَوِيُّ فِي فَتَاوَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي عَلِيٍّ السُّغْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حُكِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْمَجُوسِ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ حَسَنَ التَّعَهُّدِ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يُطْعِمُ جَائِعَهُمْ وَيَكْسُو عَارِيَهُمْ وَيُنْفِقُ عَلَى مَسَاجِدِهِمْ وَيُعْطِي أَدْهَانَ سَرْجِهَا وَيُقْرِضُ مَحَاوِيجَ الْمُسْلِمِينَ فَدَعَا النَّاسَ لِوَلِيمَةٍ فَشَهِدَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْدَى إلَيْهِ بَعْضُهُمْ هَدَايَا فَكَتَبَ بَعْضٌ إلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنْ أَدْرِكْ أَهْلَ بَلَدِك فَقَدْ ارْتَدُّوا بِأَسْرِهِمْ فَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ إجَابَةَ دَعْوَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُرَخَّصَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَمُجَازَاةُ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ مِنْ بَابِ الْكَرَمِ وَالْمُرُوءَةِ، وَالْحُكْمُ بِرِدَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِهَذَا الْقَدْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ انْتَهَى وَمِنْ هَذَا قِيلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ النَّصَارَى وَقِيلَ وَكَذَا الْمَجُوسُ وَقِيلَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ وَاخْتُلِفَ فِي عِيَادَتِهِمْ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْبَأْسِ، وَيَجُوزُ تَعْزِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ بِمَوْتِ وَلَدِهِ أَوْ قَرِيبِهِ وَيَقُولُ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْك خَيْرًا مِنْهُ، وَأَصْلَحَك كَمَا فِي التتارخانية (وَالْمَعْنَى) الْمَعْقُولُ وَالدَّلِيلُ (فِي ذَلِكَ) أَيْ أَكْلِهِمْ مِنْ طَعَامِهِمْ وَطَبْخِهِمْ، وَمِنْ أَوَانِيهِمْ (أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الْأَشْيَاءِ أَصْلٌ وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي هَذَا الْعَارِضِ) لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُجْعَلَ الظَّنُّ بِلَا غَلَبَةٍ مِنْ قَبِيلِ الشَّكِّ عِنْدَهُمْ كَمَا سَبَقَ، وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لَا يَزُولُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّكِّ الْعَارِضِ (وَلَا تَرْتَفِعُ الطَّهَارَةُ الثَّابِتَةُ بِقَضِيَّةِ الْأَصْلِ) هُوَ تَيَقُّنُ الطَّهَارَةِ (وَمَا يَقُولُ) قَائِلٌ اعْتِرَاضًا (بِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ النَّجَاسَةُ) لِعَدَمِ تَوَقِّيهِمْ مِنْ النَّجَاسَةِ وَكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ الْخَمْرَ (قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنَّ الطَّهَارَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ) فَاحْتِمَالُ النَّجَاسَةِ، وَلَوْ ظَاهِرًا لَا يُزِيلُ ذَلِكَ الْيَقِينَ (أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا أَصَابَ عُضْوَ إنْسَانٍ أَوْ ثَوْبَهُ مِنْ سُؤْرِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ أَوْ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي أَدْخَلَ الصَّبِيُّ يَدَهُ فِيهِ) وَلَمْ يَدْرِ نَجَاسَتَهَا يَقِينًا (وَصَلَّى مَعَ ذَلِكَ) (جَازَتْ صَلَاتُهُ) قِيلَ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا (وَإِذَا صَلَّى فِي سَرَاوِيلِ الْمُشْرِكِينَ جَازَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَصْلٌ وَقَدْ تَيَقَّنَّا الطَّهَارَةَ وَشَكَكْنَا فِي النَّجَاسَةِ فَلَمْ تَثْبُتْ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ كَذَا هُنَا انْتَهَى ثُمَّ قَالَ) فِي الذَّخِيرَةِ (وَرَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ) أَيْ الْأَصْلِ (أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا انْتَهَى) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ عَنْ سَائِرِهِمْ، وَفِي التتارخانية عَنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ يَقْبَلُ هَدَايَا الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ لَا يَقْبَلُ قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ: إنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ مِمَّنْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ طَعْمَهُ لِلْمَالِ دُونَ إعْزَازِ الدِّينِ، وَالْقَبُولُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ

الفصل الثاني في التورع التكلف في تحصيل الورع

فِي زَمَانِنَا وَوَفَّقَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ بِالنَّظَرِ إلَى مَنْ تَقِلُّ صَلَابَتُهُ وَعِزَّتُهُ فِي حَقِّهِ لِقَبُولِ هَدِيَّتِهِ، وَالْقَبُولُ إلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ مُسْلِمٌ دَعَاهُ نَصْرَانِيٌّ إلَى دَارِهِ ضَيْفًا حَلَّ لَهُ ذَلِكَ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ السِّغْنَاقِيِّ الْمَجُوسِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ إذَا دَعَا رَجُلًا إلَى طَعَامِهِ تُكْرَهُ الْإِجَابَةُ ثُمَّ قَالَ: مَا ذُكِرَ فِي حَقِّ النَّصْرَانِيِّ يُخَالِفُ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَا نَقَلْنَا سَابِقًا مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرُّخَصِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ) الْيَقِينُ لَا يُرْفَعُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ قِيلَ لَا شَكَّ مَعَ الْيَقِينِ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ مَا لَا وُجُودَ لَهُ وَأُجِيبَ الْأَصْلُ الْمُتَيَقَّنُ لَا يُزِيلُهُ شَكٌّ طَارِئٌ عَلَيْهِ قَالَ الْحَمَوِيُّ فِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ: الشَّكُّ لُغَةً مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: اسْتِوَاءُ طَرَفَيْ الشَّيْءِ وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَمِيلُ الْقَلْبُ إلَى أَحَدِهِمَا فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَطْرَحْ الْآخَرَ فَهُوَ ظَنٌّ وَإِنْ طَرَحَهُ فَهُوَ غَالِبٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ فَهُوَ وَهْمٌ، وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ كَاللُّغَةِ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَاوِي وَالرَّاجِحِ كَمَا زَعَمَ النَّوَوِيُّ لَكِنْ هَذَا إنَّمَا قَالُوهُ فِي الْأَحْدَاثِ وَقَدْ فَرَّقُوا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَقِيلَ الْيَقِينُ جَزْمٌ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَالِاعْتِقَادُ جَزْمٌ بِلَا دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَالظَّنُّ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَضْعَفُ مِنْ الْآخَرِ، وَالشَّكُّ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الشَّكَّ شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ، وَشَكٌّ لَا يُعْرَفُ أَصْلُهُ فَالْأَوَّلُ كَأَنْ يَجِدَ شَاةً مَذْبُوحَةً فِي بَلَدٍ فِيهَا مُسْلِمٌ وَمَجُوسٌ فَلَا تَحِلُّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا ذَكَاةُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا حَرَامٌ وَشَكَكْنَا فِي الذَّكَاةِ الْمُبِيحَةِ فَلَوْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا الْمُسْلِمِينَ جَازَ الْأَكْلُ عَمَلًا بِالْغَالِبِ الْمُفِيدِ لِلطَّهَارَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَجِدَ مَاءً تَغَيَّرَ وَاحْتُمِلَ تَغَيُّرُهُ بِنَجَاسَةٍ أَوْ طُولِ مُكْثٍ يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ الطَّهُورِيَّةِ وَالثَّالِثُ مِثْلُ مُعَامَلَةِ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ مَالِهِ عَيْنُ الْحَرَامِ فَلَا تَحْرُمُ مُبَايَعَتُهُ لِإِمْكَانِ الْحَلَالِ وَعَدَمِ التَّحْرِيمِ وَلَكِنْ يُكْرَهُ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ ثُمَّ قَالَ: وَنُقِضَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَهِيَ جَوَازُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِالْيَقِينِ الْقَطْعُ بَلْ إنَّ الشَّيْءَ الثَّابِتَ بِشَيْءٍ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَالنَّصُّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ وَهُوَ كَافٍ فِي الْأَحْكَامِ كَذَا فِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ اهـ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْلُهُ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ مَنْظُورٌ فِيهِ فَيُعْرَفُ بِمُرَاجَعَةِ الْأُصُولِ (وَبِالْجُمْلَةِ) هِيَ لُبُّ الْمَقَالِ (أَنَّ الِاهْتِمَامَ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ) وَالنَّجَاسَةِ (لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) كَمَا تَرَى (فَمَنْ لَهُ طَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ خَالٍ عَنْ الْوَسْوَسَةِ وَ) عَنْ (اسْتِعْدَادِهَا) بِالطَّبْعِ بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - طَبْعَهُ آبِيًا عَنْ قَبُولِهِ (فَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى) أَيْ يَطْلُبَ (الْأَقْوَى وَالْأَحْوَطَ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُ بِهِ أَهَمُّ مِنْهُ كَالْجَمَاعَةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ) اللِّسَانِيِّ (وَالْفِكْرِ) الْجَنَانِيِّ كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ (وَالتَّصْنِيفِ) وَيَجْتَنِبُ عَنْ الرُّخَصِ مَا أَمْكَنَ (وَأَمَّا الْمُوَسْوَسُ) مَنْ بِهِ وَسْوَسَةٌ بِالْفِعْلِ (وَالْمُسْتَعِدُّ لَهَا) أَيْ الْوَسْوَسَةِ بِالطَّبْعِ أَوْ بِمُقَارَنَةِ أَهْلِ الْوَسْوَسَةِ (فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى الرُّخْصَةَ وَالسَّعَةَ إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُ احْتِمَالُ الْوَسْوَسَةِ) ثُمَّ يَعُودَ إلَى الْأَقْوَى وَالْأَحْوَطِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخَصِ إنَّمَا يَكُونُ لِإِزَالَةِ الْوَسْوَسَةِ فَإِذَا حَصَلَ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْعَمَلِ بِهَا كَمَا قِيلَ [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّوَرُّع التَّكَلُّفِ فِي تَحْصِيلِ الْوَرَعِ] (الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّوَرُّعِ) التَّكَلُّفِ فِي تَحْصِيلِ الْوَرَعِ (وَالتَّوَقِّي) التَّحَفُّظِ (مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْوَظَائِفِ مِنْ الْأَوْقَافِ أَوْ) مِنْ (بَيْتِ الْمَالِ مَعَ اخْتِلَاطِ) هَذَا الْمُتَوَرِّعِ مَعَ (الْجَهَلَةِ وَالْعَوَامِّ وَأَكْلِ طَعَامِهِمْ) مَعَ أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ عَنْ هَؤُلَاءِ (وَهَذَا) التَّوَرُّعُ (نَاشِئٌ مِنْ الْجَهْلِ) بِحَقِيقَةِ الْحَالِ (أَوْ) مِنْ (الرِّيَاءِ) فَيَتَجَنَّبُ لِيَرَى النَّاسُ أَنَّهُ وَرِعٌ (فَكَمَا أَنَّ الْكَسْبَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا) كَالزَّرْعِ وَأَنْوَاعِ الْحِرَفِ (إذَا رُوعِيَ فِيهَا شَرَائِطُ الشَّرْعِ حَلَالٌ) بَلْ (طَيِّبٌ كَذَلِكَ الْوَقْفُ إذَا صَحَّ وَرُوعِيَ) فِيهِ

(شَرَائِطُ الْوَقْفِ) وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوَرُّعُ الْمُتَوَرِّعِ لِلِاشْتِبَاهِ فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفِ، وَفِي تَحَقُّقِ شَرَائِطِهِ وَوُقُوعِهِ فِي مَصْرِفِهِ وَقَدْرِهِ سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا (فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ) أَيْ فِي حَالِهِ (أَصْلًا) وَلِلْمَانِعِ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: إنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ لَوْ كَانَ لِنَفْسِ ذَلِكَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُبِيحَ أَوْ يَهَبَ إلَى غَيْرِهِ بَلْ أَوْقَافُ بَيْتِ الْمَالِ مُخْتَصَّةٌ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ؛ وَلِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي شُبْهَةٍ (إذْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَقَفُوا) قِيلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَوَّلُ مَنْ وَقَفَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَهْمِهِ مِنْ خَيْبَرَ (وَأَكَلُوا مِنْهُ) وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ فَيَحِلُّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ (وَكَذَا بَيْتُ الْمَالِ يَحِلُّ لِمَنْ كَانَ مَصْرِفًا لَهُ إذَا أَخَذَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ) لِنَفْسِهِ وَخَادِمِهِ وَأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَالْكُتُبِ اللَّازِمَةِ لَهُ إنْ كَانَ عَالِمًا، وَفِي الْمِنَحِ: لِكُلِّ قَارِئٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَتَا دِينَارٍ أَوْ أَلْفَا دِرْهَمٍ إنْ أَخَذَهَا فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا أَخَذَهَا فِي الْآخِرَةِ كَذَا قِيلَ فِي مَآلِ الْفَتَاوَى أَيْضًا (وَقَدْ أَخَذَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - سِوَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْهُ) أَيْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَعَدَمُ أَخْذِ عُثْمَانَ لِغِنَاهُ وَعَدَمِ احْتِيَاجِهِ؛ إذْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عِنْدَ خَادِمِهِ يَوْمَ قَتْلِهِ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ إجْبَاءً قِيمَتُهَا مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ وَبَلَغَ ثَمَنُ مَالِ الزُّبَيْرِ خَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ وَتَرَكَ أَلْفَ فَرَسٍ وَأَلْفَ مَمْلُوكٍ وَخَلَّفَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَغِنَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فَكَانَتْ الدُّنْيَا فِي أَكُفِّهِمْ لَا فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا نُقِلَ عَنْ التَّنْوِيرِ لَكِنَّهُمْ مَعَ مِثْلِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْعِظَامِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لِعَدَمِ حُبِّهِمْ إيَّاهَا وَعَدَمِ شَغْلِ قُلُوبِهِمْ فِي وُجُوهِهَا بَلْ مُعْظَمُ قَصْدِهِمْ بَذْلُ تِلْكَ الْأَمْوَالِ إلَى الْمَحَاوِيجِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ وَطُرُقِ الْحَسَنَاتِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي غُزَاةِ تَبُوكَ أَحَدٌ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مَالُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَقَدْ رُوِيَ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا إلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا (فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَكَاسِبِ فِي) أَصْلِ (الْحِلِّ وَالطِّيبِ إذَا رُوعِيَ شَرَائِطُ الشَّرْعِ وَلَا فِي الْحُرْمَةِ وَالْخُبْثِ إذَا لَمْ تُرَاعَ) شَرَائِطُهُ (بَلْ الْأَوَّلَانِ) الْوَقْفُ وَبَيْتُ الْمَالِ (أَشْبَهُ وَأَمْثَلُ فِي زَمَانِنَا) ، وَفِيهِ مَا عَرَفْت لَا سِيَّمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ إذْ جَمْعُهُ لَا يُدْرَى هَلْ هُوَ مِنْ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ أَوْ طَرِيقٍ جَبْرِيٍّ بَلْ فِي زَمَانِنَا عَلَى مَا سَمِعْنَا إنَّمَا هُوَ اسْمُ بَيْتِ الْمَالِ لَا رَسْمُهُ (إذْ أَكْثَرُ بُيُوتِ أَسْوَاقِنَا) كَبَيْعِ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ عَلَى أَنْ يُوزَنَ بِظَرْفِهِ وَيُطْرَحَ لِكُلِّ ظَرْفٍ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ (وَإِجَارَاتِهِمْ) مِثْلَ اسْتِئْجَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ لِلْحَلْبِ وَاتِّخَاذِ الْجُبْنِ وَالسَّمْنِ بِالْبَعْضِ مِنْهَا (بَاطِلَةٌ) لَا تُفِيدُ مِلْكًا وَلَا أُجْرَةً؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ وَاجِبُ التَّصْدِيقِ وَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ (أَوْ فَاسِدَةٌ) تُفِيدُ مِلْكًا خَبِيثًا وَاجِبَ التَّصَدُّقِ وَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ فِي الْبَيْعِ، وَأَجْرُ الْمِثْلِ فِي الْإِجَارَةِ وَيَكُونُ نَحْوُ الْجُبْنِ وَالسَّمْنِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ (أَوْ مَكْرُوهَةٌ) تُوجِبُ نَوْعَ خُبْثٍ

(نَعَمْ الْوَرَعُ فِي الشُّبُهَاتِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَيْسَ كَالْوَرَعِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ) لِتَخْفِيفِ السَّلَفِ فِي هَذَيْنِ (بَلْ هُوَ أَهَمُّ فِي الدِّينِ) ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّوَقِّي مِنْ هَذَا يُفْضِي إلَى تَحَمُّلِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ أَمْرِ الطَّهَارَةِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - خَاصَّةً وَلِأَنَّهُ قَرِيبٌ إلَى الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ وَسَطِيُّ الْمَسَائِلِ؛ وَلِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَهَمِّ فِي الدِّينِ (وَسِيرَةِ سَلَفِ الصَّالِحِينَ وَلَكِنْ فِي زَمَانِنَا لَا يُمْكِنُ) التَّوَرُّعُ عَنْ جَمِيعِ الشُّبُهَاتِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بَلْ إنَّمَا يُمْكِنُ الْبَعْضُ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ التَّوَرُّعُ فِي شَيْءٍ مَا؛ إذْ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لَا يُكَلَّفُ بِهِ وَلَوْ نَدْبًا لَكِنْ يَشْكُلُ إنْ أَرَدْت عَدَمَ الْإِمْكَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَشْيَاءِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْوَرَعِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ وَإِنْ أَرَدْت بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يُمْكِنُ لِبَعْضٍ لَا يَمْتَنِعُ لِآخَرَ لِاتِّحَادِ الْكُلِّ وَاشْتِرَاكِهِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُ مَفْهُومِ الْوَرَعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّوَرُّعَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ، وَيُعْلَمُ الْجَوَابُ مِمَّا سَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ (بَلْ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْأَحْوَطِ فِي الْفَتْوَى وَهُوَ) أَيْ الْأَحْوَطُ فِيهَا (مَا اخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِ الرَّجُلِ حَلَالًا جَازَ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ وَمُعَامَلَتُهُ) ؛ إذْ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ (وَإِلَّا) وَلَوْ مُسَاوِيًا (فَلَا) تُقْبَلُ هَدِيَّتُهُ وَمُعَامَلَتُهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ عِنْدَهُ حَلَالٌ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْكُلُ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لَا سِيَّمَا فِي صُورَةِ التَّسَاوِي، وَأَيْضًا يَرِدُ مُطْلَقًا مَا قَالُوا: الْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ. (قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ قَالُوا لَيْسَ زَمَانُنَا زَمَانَ) اعْتِبَارِ (الشُّبُهَاتِ) بِالِاحْتِرَازِ وَالتَّوَقِّي (وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ الْحَرَامَ الْمُعَايَنَ) بِالْحِسِّ أَوْ بِخَبَرِ الْعَدْلِ أَوْ الْعَدَدِ (وَكَذَا) قَالَ (صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي التَّجْنِيسِ، وَزَمَانُهُمَا) أَيْ زَمَانُ قَاضِي خَانْ وَالْهِدَايَةِ (قَبْلَ سِتِّمِائَةٍ وَقَدْ بَلَغَ التَّارِيخُ الْيَوْمَ) أَيْ يَوْمَ تَصْنِيفِ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْكِتَابَ (تِسْعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ) وَأَنَا أَقُولُ: بَلَغَ الْيَوْمَ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ وَمِائَةً وَأَلْفًا (وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْفَسَادَ وَالتَّغَيُّرَ يَزِيدَانِ بِزِيَادَةِ الزَّمَانِ لِبُعْدِهِ عَنْ عَهْدِ النُّبُوَّةِ) لِحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» لَكِنْ يَشْكُلُ بِحَدِيثِ مَثَلُ «أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» وَالتَّوْفِيقُ أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْأَوَّلِ بِنَيْلِ شَرَفِ قُرْبِ الْعَهْدِ وَلُزُومِ سُنَنِ الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا كَثْرَةُ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَنَيْلُ الدَّرَجَاتِ فَلَا يُدْرَى أَنَّ الْأَوَّلَ خَيْرٌ لِمَا ذُكِرَ، أَمْ آخِرُ الْأَمَةِ خَيْرٌ لِلْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَالطَّاعَةِ وَالرَّغْبَةِ مَعَ انْقِضَاءِ زَمَنِ مُشَاهَدَةِ آثَارِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ؛ إذْ الطَّاعَةُ وَالرَّغْبَةُ يُنَافِيَانِ الْفَسَادَ وَالتَّغَيُّرَ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِإِنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَيْرِيَّةُ الْأَوَّلِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الِاحْتِمَالِ؛ إذْ يَجُوزُ الْعَكْسُ. وَأَيْضًا مَا فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ «أُمَّتِي أُمَّةٌ مُبَارَكَةٌ لَا يُدْرَى أَوَّلُهَا خَيْرٌ أَمْ آخِرُهَا» مِنْ

الْقَطْعِ بِخَيْرِيَّةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ نَصَرُوهُ وَآوُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ، وَعَدَمُ الدِّرَايَةِ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُؤَيِّدُ الْإِشْكَالَ كَقَوْلِهِ فِيهِ أَيْضًا وَجْهُ عَدَمِ الدِّرَايَةِ تَقَارُبُ أَوْصَافِهِمْ وَتَشَابُهُ أَفْعَالِهِمْ فَلَا يَكَادُ يُمَيِّزُ النَّاظِرُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي الْفَضْلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيُحْكَمُ بِالْخَيْرِ لِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَلِذَا قِيلَ هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفُهَا وَأَيْضًا قَالَ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْكَلَابَاذِيِّ وَغَيْرِهِ فِي الْمَحَلِّ الْمَزْبُورِ، وَأَمَّا خَبَرُ «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» فَخَاصٌّ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ فِي قَرْنِي كَالْعَشَرَةِ وَأَضْرَابِهِمْ، وَأَمَّا سِوَاهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَاقَ لَهُمْ أَفَاضِلُ أَوَاخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَاَلَّذِينَ يَنْصُرُونَ الْمَسِيحَ وَيُقَاتِلُونَ الدَّجَّالَ فَهُمْ أَنْصَارُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَيْضًا فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَخُونُونَ» الْحَدِيثَ. ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ الصَّحْبَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَمِيعِ، وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ لَكِنْ ذَهَبَ جَمْعٌ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِهِمْ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ مَثَلُ «أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ» الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ الْقَطْعُ بِأَفْضَلِيَّةِ أَعْرَابِيٍّ جِلْفٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلَّا مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ، وَلَمْ يُخَالِطْ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ عَلَى مِثْلِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَا فِي حَفِيدِ السَّعْدِ عَلَى النَّوَوِيِّ أَنَّ حَدِيثَ «مَثَلُ أُمَّتِي» ضَعِيفٌ فَيَرُدُّهُ مَا فِي الْفَيْضِ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ حَاصِلُهُ أَنَّهُ وَإِنْ ضَعِيفًا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ بَلْ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عِنْدَ الْهَيْثَمِيِّ لَكِنْ عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ لَهُ طَرِيقٌ يَرْتَقِي إلَى الصِّحَّةِ كَمَا أُشِيرَ أَيْضًا آنِفًا وَأَيْضًا عِنْدَ الْمُنْذِرِيِّ بِإِسْنَادٍ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ. وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا عِنْدَ حَدِيثِ «مَثَلُ أُمَّتِي» عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ كَمَا اجْتَهَدَ الْأَوَّلُونَ فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّمْهِيدِ اجْتَهَدَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي التَّجْرِيدِ وَالتَّلْخِيصِ وَصَرَفُوا عُمُرَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ فَكُلٌّ مَغْفُورٌ، وَسَعْيُهُ مَشْكُورٌ، وَأَجْرُهُ مَوْفُورٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَخَيْرِيَّةُ حَدِيثِ «خَيْرُ النَّاسِ» بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْمُوعِ لَا الْأَفْرَادِ وَلَوْ سَلِمَ كُلُّ ذَلِكَ فَإِنَّ حَدِيثَ «أُمَّتِي أُمَّةٌ مُبَارَكَةٌ» لَا كَلَامَ فِي صِحَّتِهِ بَلْ قَالَ فِي الْفَيْضِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ إطْلَاقَ حَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ» مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَكْثَرِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ وَحَدِيثُ «مَثَلُ أُمَّتِي» بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ الْمُجْمَعِ عَلَى جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ: لَقَدْ أَدْرَكْنَا النَّاسَ وَهُمْ الصَّحَابَةُ كُنَّا فِي جَنْبِهِمْ لُصُوصًا، وَقَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ: لَوْ رَآنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَالُوا هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَأَمَّا فِتَنُ نَحْوِ يَوْمِ الدَّارِ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَفَسَادَاتِ يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ فَقَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الصَّلَاحِ فِي زَمَنِهِمْ كَمَا قِيلَ قَلِيلٌ إذَا عُدُّوا ... كَثِيرٌ إذَا شَدُّوا وَكَمَا قِيلَ أَيْضًا إنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ ... قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّوا وَإِنْ كَثُرُوا (فَالْوَرَعُ وَالتَّقْوَى فِي زَمَانِنَا فِي حِفْظِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ) مِنْ آفَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ كُلٌّ فِي مَبَاحِثِهَا لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ حَاصِلِ مَا ذُكِرَ نَفْيُ التَّحَرُّزِ عَنْ الشُّبُهَاتِ مَا لَمْ يَعْلَمْ حُرْمَةَ الْأَكْثَرِ أَوْ الْمُسَاوَاةَ فِي أَحَدٍ وَمَا لَمْ يُعَايِنْ الْحَرَامَ وَحَصْرُ التَّحَرُّزِ وَالتَّقْوَى بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْكُلُّ مَنْظُورٌ فِيهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِحَدِيثِ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» الْحَدِيثَ وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ مَدَارُ أَمْرِ الشَّرْعِ وَقُطْبُ الْأَحْكَامِ وَلِحَدِيثِ «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» أَيْ دَعْ مَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ إلَى مَا لَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْحَلَالِ الْبَيِّنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَرَعُ كُلُّهُ فِي تَرْكِ مَا يَرِيبُ إلَى مَا لَا يَرِيبُ، وَفِيهِ عُمُومٌ يَقْتَضِي أَنَّ الرِّيبَةَ تَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَأَنَّ تَرْكَ الرِّيبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَعٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَأَصْلٌ فِي الْوَرَعِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْيَقِينِ وَرَاحَةٌ مِنْ ظُلَمِ الشُّكُوكِ وَالْأَوْهَامِ الْمَانِعَةِ مِنْ نُورِ الْيَقِينِ وَأَيْضًا لِحَدِيثِ «الْوَرِعُ الَّذِي يَقِفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ» أَيْ يَشْتَبِهُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ أَوْ يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِلَا رُجْحَانٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ عَرَفْت مِمَّا ذُكِرَ أَيْضًا لَمَّا عَرَفْت الْعُمُومَ وَأَنَّ الصُّعُوبَةَ فِيمَا ذُكِرَ لَيْسَتْ بِأَخَفَّ مِمَّا قَبْلَهُ فَمَا وَجْهُ

عَدَمِ الْإِمْكَانِ فِي ذَلِكَ دُونَ هَذَا وَالْجَوَابُ نَفْيُ الْمُصَنِّفِ رَاجِعٌ إلَى الْوُجُوبِ، وَالْأَحَادِيثُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى النَّدْبِيَّةِ وَالْأَوْلَوِيَّةِ وَمَعْنَى مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ لَا الْوُقُوعُ بِالْفِعْلِ أَوْ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْعَوَامّ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْخَوَاصِّ كَالْفَتْوَى وَالتَّقْوَى وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْفَيْضِ عَنْ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَنْبَغِي التَّدْقِيقُ فَالتَّوَقُّفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ لِمَنْ اسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُ وَتَشَابَهَتْ أَعْمَالُهُ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَمَّا سَأَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ أَتَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَقَدْ قَتَلْتُمْ الْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ أَحْمَدَ أَنْ يَكْتُبَ مِنْ مِحْبَرَتِهِ فَقَالَ: اُكْتُبْ هَذَا وَرَعٌ مُظْلِمٌ، وَقَالَ لِآخَرَ لَمْ يَبْلُغْ وَرَعِي وَلَا وَرَعُك هَذَا انْتَهَى وَلَعَلَّ تَعْزِيرَ الْوَرَعِ الْبَارِدِ فِي الْفِقْهِيَّةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لِلْوَرَعِ مَرَاتِبَ الْأُولَى: وَرَعُ الْعُدُولِ وَهُوَ مَا يَحْرُمُ بِفَتَاوَى الْفُقَهَاءِ الثَّانِيَةُ: وَرَعُ الصَّالِحِينَ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ احْتِمَالِ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ رَخَّصَ الْمُفْتِي الثَّالِثَةُ: وَرَعُ الْمُتَّقِينَ وَهُوَ مَا لَا حُرْمَةَ فِيهِ بِحَسَبِ الْفَتْوَى وَلَا شُبْهَةَ فِي حِلِّهِ لَكِنْ يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى مُحَرَّمٍ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ مَخَافَةَ مَا بِهِ بَأْسٌ الرَّابِعَةُ: وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ أَصْلًا، وَلَا يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى مَا بِهِ بَأْسٌ، وَلَكِنَّهُ يُتَنَاوَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا عَلَى نِيَّةِ التَّقَوِّي بِهِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ أَوْ يَتَطَرَّقُ الْأَسْبَابَ الْمُسَهِّلَةَ لَهُ كَرَاهِيَةً أَوْ مَعْصِيَةً وَاعْلَمْ أَنَّ مَا لَا يَتَرَجَّحُ فِيهِ أَحَدُ طَرَفَيْ الشَّكِّ لَيْسَ بِشُبْهَةٍ وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ احْتِمَالُ حُرْمَةٍ يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ وَيُعَارِضُهُ أَصْلُ الْحِلِّ فَعُرُوضُ الشَّكِّ الْمُحَلِّلِ عَلَى مَا عُلِمَ حُرْمَتُهُ لَيْسَ بِمُحَلِّلٍ، وَالشَّكُّ فِي الْمُحَرَّمِ عَلَى مَا عُلِمَ حِلُّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ كَمَا إذَا طَارَ طَائِرٌ فَقَالَ وَاحِدٌ إنْ كَانَ هَذَا غُرَابًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَقَالَ آخَرُ: إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَالْتَبَسَ أَمْرُ الطَّائِرِ فَلَا يُقْضَى بِالتَّحْرِيمِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْوَرَعَ اجْتِنَابُهُمَا وَغَلَبَةُ ظَنِّ الْحِلِّيَّةِ عَلَى مَا حُرِّمَ إنْ اسْتَنَدَتْ إلَى سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَالْمُخْتَارُ الْحِلُّ وَلَكِنَّ اجْتِنَابَهُ وَرَعٌ كَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ ثُمَّ غَابَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا وَغَلَبَ ظَنُّ الْحُرْمَةِ عَلَى الْحِلِّ كَذَلِكَ فَحَرَامٌ كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَةُ أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ لِعَلَامَةٍ مُعَيَّنَةٍ تُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ ثُمَّ الشَّكَّ عِنْدَ اخْتِلَاطِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ فَإِنْ مَحْصُورَيْنِ كَمَنْ تَزَوَّجَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعَيْنِهَا فَتَحْرُمُ فَبِالْأَوْلَى عِنْدَ كَوْنِ الْحَلَالِ مَحْصُورًا وَالْحَرَامِ لَيْسَ بِمَحْصُورٍ، وَإِنْ دُونَ الْحَلَالِ فَيَحِلُّ كَمَا إذَا اخْتَلَطَتْ رَضِيعَةٌ بِنِسْوَةِ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ شَاءَ، وَإِنْ غَيْرَ مَحْصُورَيْنِ كَحُكْمِ الْأَمْوَالِ فِي زَمَانِنَا كَمَنْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ احْتَمَلَ أَنَّهُ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ فَحَلَالٌ لَكِنَّ تَرْكَهُ وَرَعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَ الْغَلُولُ وَاخْتَلَطَ بِالْأَمْوَالِ وَكَذَا أَثْمَانُ الْخُمُورِ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلْ الرِّبَا أَيْضًا وَمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُتَحَقِّقَ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرِيَّةُ الْحَرَامِ لِكَثْرَةِ الظَّلَمَةِ أَوْ كَثْرَةِ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ أَوْ كَثْرَةِ أَيْدِي الظَّلَمَةِ فَمَدْفُوعٌ إذْ الظَّلَمَةُ كَالْجُنْدِيَّةِ وَالْمُتَغَلِّبَةِ إذَا نُسِبَتْ إلَى أَهْلِ الْعَالَمِ فَلَمْ يَبْلُغُوا عُشْرَ عُشْرِهِمْ. وَكَذَا الْمُعَامَلَاتُ فِي الْأَسْوَاقِ بِشُرُوطِ الشَّرْعِ أَكْثَرُ وَكَذَا أَهْلُ الرِّبَا وَأَمَّا كَثْرَةُ أَيْدِي الظَّلَمَةِ فَقِيلَ إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَسْتَنِدُ إلَى عَلَامَةٍ تَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يَحْرُمُ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى التَّوَرُّعَ وَأَيْضًا إنْ اتَّصَلَتْ مَعْصِيَةٌ بِالْمُحَلَّلِ فَأَمَّا فِي الْقَرَائِنِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَكَالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبِ فَمَكْرُوهٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَالْوَرَعُ اجْتِنَابُهُ، وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ دَرَجَاتٌ تَقْرُبُ مِنْ الْحَرَامِ فَالْوَرَعُ عَنْهَا مُهِمٌّ كَالصَّيْدِ بِكَلْبٍ مَغْصُوبٍ وَدُونَهَا الِاحْتِطَابُ بِالْقَدُّومِ الْمَغْصُوبِ، وَدُونَ هَذِهِ الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ. وَأَمَّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّوَاحِقِ فَأَعْلَاهَا بَيْعُ الْعِنَبِ مِنْ الْخَمَّارِ، وَبَيْعُ الْغُلَامِ مِمَّنْ يُعْرَفُ بِالْفُجُورِ فَالْمَأْخُوذُ مَكْرُوهٌ شَدِيدٌ، وَتَرْكُهُ مِنْ الْوَرَعِ الْمُهِمِّ وَيَلِيهَا بَيْعُ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَلَمْ يَكُنْ خَمَّارًا فَالْكَرَاهَةُ وَالْوَرَعُ فَوْقَ الْأَوَّلِ وَيَلِيهَا مَا يَكَادُ يَكُونُ مِنْ الْوَسْوَاسِ كَمَنْ لَا يُجَوِّزُ مُعَامَلَةَ الْفَلَّاحِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَبِيعُونَ الطَّعَامَ مِنْ الظَّلَمَةِ، وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فَالْعُلْيَا مَا بَقِيَ أَثَرُهُ فِي الْمُتَنَاوَلِ كَالْأَكْلِ مِنْ شَاةٍ رَعَتْ مِنْ مَرْعَى حَرَامٍ وَالْوُسْطَى مَا نُقِلَ عَنْ بِشْرٍ مِنْ امْتِنَاعِهِ عَمَّا يُسَاقُ مِنْ نَهْرِ الظَّلَمَةِ وَامْتِنَاعِ آخَرَ عَنْ عِنَبِ

كَرْمٍ سُقِيَ بِنَهْرٍ مَذْكُورٍ، وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ ذِي النُّونِ مِنْ طَعَامٍ حَلَالٍ وَصَلَ إلَيْهِ بِيَدِ سَجَّانٍ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ جَاءَ عَلَى يَدِ ظَالِمٍ، وَالسُّفْلَى قَرِيبَةٌ مِنْ الْوَسْوَاسِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ حَلَالٍ وَصَلَ إلَيْهِ عَلَى يَدِ زَانٍ أَوْ قَاذِفٍ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ شُرْبِ كُوزٍ صَنَعَهُ عَاصٍ أَوْ ضَارِبٌ أَوْ شَاتِمٌ فَوَسْوَاسٌ لَيْسَ بِوَرَعٍ، وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ فِي الْعِوَضِ فَالْعُلْيَا أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا بِثَمَنٍ مَغْصُوبٍ أَوْ حَرَامٍ فَيُسَلِّمَهُ الْبَائِعُ بِطِيبِ الْخَاطِرِ فَيَأْكُلَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَحَلَالٌ، وَعَدَمُ الْأَكْلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا مِنْ الْوَرَعِ الْكَامِلِ، وَإِنَّمَا الْإِثْمُ بِقَضَاءِ الثَّمَنِ مِنْ الْحَرَامِ فَبَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَنْقَلِبُ حَرَامًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَّسْلِيمُ بِطِيبِ الْخَاطِرِ فَحَرَامٌ كَأَكْلِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الرَّهْنِ؛ إذْ لِلْمَالِكِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ لَكِنَّ حُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ. وَأَمَّا إذَا أَوْفَى الثَّمَنَ الْحَرَامَ أَوَّلًا ثُمَّ قَبَضَ فَإِنْ عَالِمًا بِحُرْمَتِهِ بَطَلَ حَقُّ حَبْسِهِ وَبَقِيَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ؛ إذْ مَا أَخَذَهُ لَيْسَ بِثَمَنٍ فَأَكْلُ الْمَبِيعِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حُرْمَتَهُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ لَا يَرْضَى وَلَا يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ فَحَقُّ حَبْسِهِ بَاقٍ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ إلَى أَنْ يُبْرِئَهُ أَوْ يُوَفِّيَ مِنْ حَلَالٍ أَوْ يَرْضَى هُوَ بِالْحَرَامِ وَيُبْرِئَ فَيَصِحَّ إبْرَاؤُهُ وَلَا يَصِحُّ رِضَاهُ بِالْحَرَامِ فَالِامْتِنَاعُ مِنْ أَكْلِهِ وَرَعٌ مُهِمٌّ؛ إذْ رِضَاهُ حِينَئِذٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْكَرَاهَةِ الشَّدِيدَةِ، وَإِنْ جَازَ فِي الْفَتْوَى، وَالْوُسْطَى أَنْ لَا يَكُونَ الثَّمَنُ حَرَامًا لَكِنَّ الْآخِذَ يَعْنِي الْبَائِعَ يَصْرِفُهُ إلَى مَعْصِيَةٍ كَمَنْ يَجْعَلُ الثَّمَنَ عِنَبًا وَالْآخِذُ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ سَيْفًا وَهُوَ قَاطِعُ طَرِيقٍ فَلَا يَحْرُمُ حِينَئِذٍ فِي الْفَتْوَى لَكِنْ مَكْرُوهٌ فِي التَّقْوَى دُونَ الْأَوَّلِ، وَالسُّفْلَى هِيَ دَرَجَةُ الْوَسْوَاسِ كَمَا إذَا حَلَفَ إنْسَانٌ عَلَى أَنْ لَا يَلْبَسَ مِنْ غَزْلِ جَارِيَتِهِ فَبَاعَ غَزْلَهَا وَاشْتَرَى بِهِ ثَوْبًا فَهَذَا لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فَوَرَعُهُ وَسْوَسَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ بِحَصْرٍ بَلْ تَقْرِيبٌ إلَى الْفَهْمِ فَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِدَقَائِق الْوَرَعِ إلَّا بِحَضْرَةِ عَالِمٍ، وَإِلَّا كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْأَدِلَّةِ فَإِنْ تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ فَإِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْحُرْمَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ الْحِلُّ فَجَائِزُ الْعَمَلِ وَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبٌ فَجَانِبُ الْحَظْرِ رَاجِحٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ تَعَارَضَتْ الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَأَنْ يُخْبِرَ عَدْلٌ بِأَنَّ هَذَا الْمَتَاعَ حَلَالٌ، وَآخَرُ حَرَامٌ فَإِنْ ظَهَرَ تَرْجِيحٌ حُكِمَ بِهِ وَلِلْوَرِعِ الِاجْتِنَابُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ، وَإِنْ تَعَارَضَتْ الْأَشْبَاهُ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا مَنَاطُ الْأَحْكَامِ كَمَنْ أَوْصَى لِلْفُقَهَاءِ فَالْفَاضِلُ دَاخِلٌ قَطْعًا وَالْمُتَعَلِّمُ مُنْذُ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ غَيْرُ دَاخِلٍ قَطْعًا وَبَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ يَقَعُ الشَّكُّ فِيهَا فَالْمُفْتِي يُفْتِي بِحَسَبِ الظَّنِّ فَلِلْوَرِعِ الِاجْتِنَابُ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَاتُ فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وَالْغَنِيُّ مَنْ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ. وَأَمَّا مَنْ لَهُ دَارٌ، وَأَثَاثٌ وَثِيَابٌ وَكِتَابٌ فَإِنَّ مَا هُوَ قَدْرُ الْحَاجَةِ مِنْهُ، وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُمَا، وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالتَّقْرِيبِ وَنَحْوِهَا كَسَعَةِ الدَّارِ وَأَبْنِيَتِهَا وَعَدَدِ بُيُوتِهَا وَقَدْرِ قِيمَتِهَا وَمَحَلِّهَا وَجَارِهَا وَنَحْوِهَا فَإِنْ أَفْتَى الْمُفْتِي بِظَنٍّ وَتَخْمِينٍ فَلِلْوَرِعِ التَّوَقُّفُ، وَالْوَجْهُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» (وَ) أَيْضًا الْوَرَعُ فِي زَمَانِنَا (التَّحَرُّزُ عَنْ الظُّلْمِ) وَلَوْ فِي أَقَلِّ قَلِيلٍ (وَإِيذَاءِ الْغَيْرِ) لَا سِيَّمَا حَيَوَانًا (بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ) كَانَ (بِالسُّؤَالِ) فِيمَا لَا رُخْصَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ (وَالِاسْتِخْدَامِ بِغَيْرِ أَجْرٍ) لَا سِيَّمَا فِي الْخِدْمَةِ الْعَزِيزَةِ (وَأَنْ يَجْعَلَ) أَيْ الْوَرِعُ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَجْعَلَ (مَا فِي يَدِ كُلِّ إنْسَانٍ مِلْكًا لَهُ) بِلَا سُوءِ ظَنٍّ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِيَّةِ (مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ) الظَّاهِرُ أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مُلْحَقَةٌ بِالْيَقِينِ فَالشَّكُّ وَالظَّنُّ لَا يُعْتَبَرَانِ (كَوْنُهُ بِعَيْنِهِ مَغْصُوبًا أَوْ مَسْرُوقًا) وَيَلْحَقُهُ نَحْوُ الرِّبَا وَالرِّشَا (وَإِنْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ فِي مَالِهِ حَرَامًا قَالَ) فِي حَقِّهِ (فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ أَنَّ فَقِيرًا) وَكَذَا الْغَنِيُّ (يَأْخُذُ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ) أَيْ عَطِيَّتَهُ (مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُهَا غَصْبًا أَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ خَلَطَ الدَّرَاهِمَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ) بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ (فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ) وَالتَّوَقِّي أَفْضَلُ (وَإِنْ) (دَفَعَ عَيْنَ الْغَصْبِ) أَيْ الْمَغْصُوبَ (مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ) (لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْجَوَابُ يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ إذَا غَصَبَ دَرَاهِمَ

مِنْ قَوْمٍ وَخَلَطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ) قِيلَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخَلْطُ نَاشِئًا مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي وَإِلَّا فَلَا يَمْلِكُ عِنْدَهُ أَيْضًا كَمَنْ غَصَبَ دَرَاهِمَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِالْإِرْثِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ غَصَبَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ وَعَشَرَةً مِنْ آخَرَ فَوَضَعَهُمَا فِي مَكَانِ بَعْدَ جَعْلِهِمَا فِي كِيسٍ عَلَى حِدَةٍ فَوَقَعَ الْخَلْطُ بِانْشِقَاقِ الْكِيسِ لَا يَمْلِكُ بَلْ يَبْقَى بِلَا مِلْكٍ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُوجَدَ خَلْطٌ بَعْدَهُ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَغْصُوبِ طَيِّبًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ مَشْهُورَةٌ طَيِّبٌ أَيْضًا، وَفِي أُخْرَى خَبِيثٌ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْبَدَلَيْنِ لِكَوْنِهِ ضَامِنًا وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ إذَا أَكَلَ عَيْنَ الْغَصْبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَأْكُلُ حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ بِالْمَضْغِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الِابْتِلَاعِ، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِهَذَا كَيْ لَا يَتَجَاسَرَ الْغَاصِبُ وَالظَّلَمَةُ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَهَذَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُسْتَهْلَكَ يَكُونُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ صَالَحَ مِنْ الْمَغْصُوبِ عَلَى أَضْعَافِ قِيمَتِهِ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ جَازَ عِنْدَهُ (وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:) (السُّلْطَانُ) الْجَائِرُ (إذَا قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ إنْ اشْتَرَاهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي الطَّعَامِ شَيْئًا مَغْصُوبًا بِعَيْنِهِ يُبَاحُ أَكْلُهُ انْتَهَى) وَفِي مِفْتَاحِ الْعُلُومِ: إنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ فَهُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَفِيهِ خِلَافٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَرَامُ فِيهِ غَالِبٌ فَلَا يَجُوزُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا لَا أَتَيَقَّنُ بِحُرْمَتِهِ فَلِي أَنْ آخُذَهُ وَالْمُخْتَارُ إنْ كَانَ الْغَالِبُ حَرَامًا فَحَرَامٌ، وَإِنْ حَلَالًا فَمَوْضِعُ تَوَقُّفِنَا، وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَخْذِ بَعْضٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ مَرْوَانَ وَيَزِيدَ، وَمِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَمِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ مِنْ الرَّشِيدِ أَلْفَ دِينَارٍ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَخَذَ مَالِكٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَمْوَالًا جَمَّةً وَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَقْبَلَانِ جَوَائِزَ مُعَاوِيَةَ وَأَمَّا امْتِنَاعُ آخَرِينَ فَيَدُلُّ عَلَى الْوَرَعِ دُونَ الْحُرْمَةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآخِذِينَ أَكْثَرُ مِنْ الْمُمْتَنِعِينَ فَإِنْ وُجِّهَ الرَّدُّ بِالْوَرَعِ فَكَذَا الْأَخْذُ يُوَجَّهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ إذْ الِاحْتِمَالَاتُ أَرْبَعَةٌ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا وَهُوَ أَشَدُّ الْوَرَعِ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا عَلِمَ حِلَّهُ وَهُوَ مَحْمَلُ مَا أَخَذَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَ لِيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُسْتَحَقِّينَ فَإِنَّهُ مَالٌ لَا يَتَعَيَّنُ مَالِكُهُ، وَالسُّلْطَانُ لَا يَصْرِفُهُ فِي مَحَلِّهِ فَأَخْذُهُ وَتَفْرِيقُهُ أَوْلَى، وَهَذَا مَحْمَلُ مَا أَخَذَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَلَالٌ وَيُنْفِقُ كَمَا فِي أَكْثَرِ خُلَفَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خُذْ مَا أَعْطَاك السُّلْطَانُ فَإِنَّ مَا تَأْخُذُهُ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرُ وَأَمَّا مَالُ سَلَاطِينِ زَمَانِنَا فَإِمَّا حَرَامٌ أَوْ أَكْثَرُ وَلَيْسَ فِي عَصْرِ السَّلَفِ إذْلَالٌ وَسُؤَالٌ وَلَا هُمْ يَسْكُتُونَ عَنْ الْحَقِّ لِأَجْلِ عَطَائِهِمْ، وَفِي زَمَانِنَا عَلَى الْعَكْسِ فَيُؤَدِّي الْقَبُولُ إلَى الْمَعْصِيَةِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ (وَهَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَزَادَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ) وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَا هُنَا إلَّا غَلَبَةُ الظَّنِّ فَلَمْ يَجِبْ الِاحْتِرَازُ بَلْ يُسْتَحَبُّ، وَفِي الْخَانِيَّةِ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِ الْوَالِي لِيَكُونَ تَغَيُّرًا عَلَى الْغَاصِبِ، وَسُئِلَ عَنْ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِ السُّلْطَانِ وَالظَّلَمَةِ وَأَخْذُ الْجَائِزَاتِ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى عِنْدَ الْأَخْذِ وَالْأَكْلِ فَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ حَلَالٌ يَأْخُذُ وَيَتَنَاوَلُ وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَأْخُذُ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ يَسْتَقْرِضُ جَمِيعَ حَوَائِجِهِ، وَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْجَائِزَةِ كَانَ يَقْتَضِي بِهَا دَيْنَهُ وَالْحِيلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا ثُمَّ يَنْقُدَ ثَمَنَهُ مِنْ أَيِّ مَالٍ أَحَبَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْحِيلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا فَأَجَابَنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِطَعَامِ السُّلْطَانِ أَوْ الظَّلَمَةِ يَتَحَرَّى إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ حِلُّهُ قَبِلَهُ وَإِلَّا فَلَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ» الْحَدِيثَ، وَجَوَابُ الْإِمَامِ فِيمَنْ بِهِ وَرَعٌ وَصَفَاءُ قَلْبٍ يَنْظُرُ

بِنُورِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَيُدْرِكُ بِالْفِرَاسَةِ قَالَ: مَا أَكَلْت طَعَامًا حَرَامًا قَطُّ فَإِنَّهُ مَا قُدِّمَ إلَيَّ إلَّا، وَقَدْ شَهِدْت بِحِلِّهِ (وَفِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَخْذِ الْجَائِزَةِ مِنْ السُّلْطَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ الْحَرَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ) مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ الْحَلَالِ لِكَوْنِ مَا فِي يَدِهِ حَرَامًا فِي الْعَادَةِ (أَمَّا مَنْ أَجَازَهُ فَقَدْ ذَهَبَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ إنَّ السُّلْطَانَ) الْجَائِرَ (يُصِيبُ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَمَا أَعْطَاك فَخُذْ فَإِنَّمَا يُعْطِي مِنْ الْحَلَالِ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْخَلْطِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَرَوَى عُمَرُ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَلْيَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى» فِي الْحَاشِيَةِ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ شَيْئًا نَكِرَةٌ تَعُمُّ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ فِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي هُوَ مُتَيَقِّنُ الْحُرْمَةِ مُسْتَثْنًى مِنْهُ فَإِذَا خَصَّ الْبَعْضَ يَكُونُ ظَنِّيَّ الدَّلَالَةِ فِي الْبَاقِي انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّ النَّكِرَةَ فِي الْإِثْبَاتِ لَيْسَ لَهَا عُمُومٌ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْمُخَصِّصَ هُوَ الْعَقْلُ كَتَخْصِيصِ الْعَقْلِ الصِّبْيَانَ وَالْمَجَانِينَ مِنْ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ مِنْ قَبِيلِ مَعْلُومِيَّةِ الْقَدْرِ الْمُخْرَجِ فَحِينَئِذٍ قَطْعِيٌّ فِي الْبَاقِي وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمَطْلَبُ ظَنِّيٌّ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ (وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا بِالْأَخْذِ مِنْ الْأُمَرَاءِ) مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْحُرْمَةَ (وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت هَدَايَا الْمُخْتَارِ) هُوَ مَلِكٌ مَشْهُورٌ بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ فِي زَمَانِ وِلَايَتِهِ حَتَّى ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْمُصَنِّفِ لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ بِمُلَاحَظَةِ مَا سَبَقَ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْأَخْذِ (تَأْتِي إلَى ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَيَقْبَلَانِهَا وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ هَدَايَا الْأُمَرَاءِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ أَنَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ خَرَجَ إلَى زُهَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ وَكَانَ) زُهَيْرٌ (عَامِلًا عَلَى حُلْوَانٍ) حَالَ كَوْنِهِ (يَطْلُبُ جَائِرَتَهُ) أَيْ حَقَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ (هُوَ وَأَبُو ذَرٍّ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ مُحَمَّدٌ وَبِهِ) بِالْجَوَازِ (نَأْخُذُ مَا لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ عَطَائِهِ حَرَامًا بِعَيْنِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ) لَا فِعْلُهُ وَعَمَلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْتِي، وَلَا يَعْمَلُ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَأَفْتَيَا بِالْجَوَازِ، وَأَخَذَا مِنْهُ (انْتَهَى) (وَهَكَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَزَادَ) فِيهِ (وَأَصْحَابُهُ بَعْدَ) ذِكْرِ (أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَعَلَّك) لَمَّا ادَّعَى الْمُصَنِّفُ عَدَمَ إمْكَانِ الْوَرَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْجَمِيعِ وَأَثْبَتَهُ بِبُرْهَانٍ إنِّيٍّ أَرَادَ إثْبَاتَهُ بِبُرْهَانٍ لَمِّيٍّ فَقَالَ (وَلَعَلَّك يَخْتَلِجُ

فِي قَلْبِك مَا سَبَبُ امْتِنَاعِ الْوَرَعِ عَنْ الشُّبُهَاتِ، وَالْأَخْذِ بِالْقَوْلِ الْأَحْوَطِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَنَقُولُ: سَبَبُهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ الْأَوَّلُ غَلَبَةُ الْجَهْلِ عَلَى التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالْأُجَرَاءِ وَالشُّرَكَاءِ فِي الْأَصْلِ فَقَطْ) أَيْ رَأْسِ الْمَالِ (أَوْ الْغَلَّةِ) أَيْ الْمُضَارَبَةِ مَثَلًا (فَلَا يُرَاعُونَ شَرَائِطَ الشَّرْعِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فَتَفْسُدُ أَوْ تَبْطُلُ أَوْ تُكْرَهُ فَيَكُونُ مَسْكُوبُهُمْ حَرَامًا) فِي الْبَاطِلِ (أَوْ خَبِيثًا) فِي الْفَاسِدِ وَالْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ خُبْثٍ فِيهِ بَحْثٌ مِيزَانِيٌّ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ عُمُومَ الْأَشْخَاصِ فِي عُمُومِ الْأَزْمَانِ بِعُمُومِ التِّجَارَاتِ يَعْنِي الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ فَظَاهِرٌ أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ، وَأَنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّنَا مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَإِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِالِامْتِنَاعِ بَلْ الْجَوَازَ بَلْ الْوُقُوعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ، وَأَنْتَ لَوْ أَنْصَفْتَ وَجَرَّبْتَ لَوَجَدْت كَثِيرًا عَالِمًا بِأَحْكَامِ التِّجَارَاتِ، وَعَامِلًا بِهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْأَصْلَ إذَا كَانَ يَقِينِيًّا فَلَا يُغَيِّرُهُ إلَّا يَقِينٌ مِثْلُهُ فَتَأَمَّلْ. (وَالثَّانِي غَلَبَةُ الظُّلْمِ مِنْ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالتَّزْوِيرِ وَنَحْوِهَا) كَالرِّبَا لَا يَخْفَى أَنَّ فِيهِ النَّظَرَ السَّابِقَ. (الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: أَنَّ قِوَامَ الْبَدَنِ وَانْتِظَامَ الْمَعَاشِ بِالنُّقُودِ وَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ) مِنْ الْفَوَاكِهِ (وَالْغَالِبُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الدَّرَاهِمُ، وَقَدْ صَغَّرُوهَا حَتَّى لَا يَبْلُغَ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا وَزْنَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ وَالطَّامِعُونَ) مِنْ الطَّمَعِ (مِنْ أَخِسَّاءَ) كَصَحِيحٍ وَأَصِحَّاءَ (الْفَسَقَةِ وَالْكَفَرَةِ يَقْطَعُونَهَا حَتَّى صَارَ الْمَقْطُوعُ فِي الدَّرَاهِمِ غَالِبًا عَلَى غَيْرِهِ وَجَعَلُوهَا) أَيْ الدَّرَاهِمَ (مِنْ الْمَعْدُودَاتِ فِي التَّبَايُعِ وَالِاسْتِقْرَاضِ) وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِوَزْنِهَا قَلَّ أَوْ جَلَّ (وَهَجَرُوا وَزْنَهَا) الْمُعْتَدَّ بِهِ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ كَمَا قَالَ (وَالْفِضَّةُ وَزْنِيَّةٌ أَبَدًا) كَالذَّهَبِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ (لِنَصِّ الشَّارِعِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى وَزْنِيَّتِهَا (فَلَا يَتَبَدَّلُ بِالْعُرْفِ) إذْ الْعُرْفُ لَا يُغَيِّرُ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ كَمَا قَالُوا: الرَّأْيُ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِاسْتِلْزَامِ نَسْخِ النَّصِّ بِالْعَادَةِ فَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ مُقَيَّدٌ بِمَا لَمْ يَقَعْ نَصٌّ مِنْ الشَّارِعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِتَقْدِيمِ الْعُرْفِ عَلَى الشَّرْعِ فِي الْأَيْمَانِ مَثَلًا فَمِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ بِقَرِينَةِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ (إذْ شَرْطُ اعْتِبَارِهِ) أَيْ الْعُرْفِ (عَدَمُ النَّصِّ) وَهَا هُنَا مَوْجُودٌ فَإِنْ قِيلَ: اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ النَّصِّ بَلْ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ قُلْت: قَالَ فِي الْأَشْبَاهُ أَيْضًا عَنْ الْعَلَاءِ: لَمْ أَجِدْ هَذَا الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ أَصْلًا، وَلَا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ وَكَثْرَةِ الْكَشْفِ وَالسُّؤَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ الدَّرَاهِمِ وَزْنِيَّةً أَبَدًا (مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرِوَايَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (اعْتِبَارُ الْعُرْفِ فَقَطْ مُطْلَقًا) وُجِدَ فِي خِلَافِهِ نَصٌّ أَوْ لَا بِشَرْطِ كَوْنِ الْعُرْفِ مَبْدَأً وَسَبَبًا لِنَصِّ الشَّارِعِ بِالْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ

عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمُ الْعُرْفِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَاقِلِ فَكَيْفَ مِنْ أَبِي يُوسُفَ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ لَا يَخْفَى بِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ كَوْنُهُ فِي خِلَافِ النَّصِّ رَسْمًا مُجَرَّدًا؛ إذْ مَرْجِعُهُ نَصٌّ أَيْضًا قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ فِي قَوْلِهِ الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ عَنْ إجَازَةِ الظَّهِيرِيَّةِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ فِي كَوْنِهِ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا، وَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَى كَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِالْعُرْفِ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ثُمَّ قَالَ - بُعَيْدُ مَسْأَلَةٍ -: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّ التَّعَامُلَ بِخِلَافِ نَصٍّ لَا يُعْتَبَرُ (فَإِذَا كَانَتْ) الْفِضَّةُ (وَزْنِيَّةً أَبَدًا) وَافَقَ الْعُرْفُ أَوْ خَالَفَ (وَيَلْزَمُ بَيَانُ وَزْنِهَا فِي التَّبَايُعِ وَالِاسْتِقْرَاضِ) لَكِنْ لَوْ كَانَ مَوْزُونًا عِنْدَ ضَرْبِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَمَا فِي زَمَانِنَا فَالظَّاهِرُ كِفَايَةُ الْعَدَدِ الْمَحْضِ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ عُمُومُ الْبَلْوَى (لِأَنَّ بَيَانَ مِقْدَارِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُشَارًا إلَيْهِ) كَبِعْتُ هَذَا التَّمْرَ (شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ) كَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الثَّمَنِ مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ (وَمِقْدَارُ الْوَزْنِيِّ لَا يُعْلَمُ بِالْعَدَدِ كَالْعَكْسِ) أَيْ كَمَا أَنَّ مِقْدَارَ الْعَدَدِيِّ لَا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِ، وَلَوْ كَانَ أُفْرِدَ الْمَعْدُودُ عَلَى الْوَزْنِ عِنْدَ الضَّرْبِ وَالصَّوْغِ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا فِيهِ فَيَنْبَغِي الْجَوَازُ سِيَّمَا فِيمَا عَمَّتْ فِيهِ الْبَلْوَى الْمُقْتَضِيَةُ فَسَادَ بُيُوعَاتِ الْعَوَامّ وَالْخَوَاصِّ وَخُبْثَ تِجَارَاتِهِمْ فَافْهَمْ (فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ وَزْنَهُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ وَالِاسْتِقْرَاضُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهَا وَلَا مُخَلِّصَ وَلَا حِيلَةَ فِي هَذَا إلَّا التَّمَسُّكُ بِالرِّوَايَةِ الضَّعِيفَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالْأَقْوَالِ الصَّحِيحَةِ لَا سِيَّمَا بِالْإِجْمَاعِ اللَّازِمِ بِمَعِيَّةِ الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَهُمَا وَإِذَا عَرَفْت مَا سَبَقَ آنِفًا فَاعْرِفْ أَيْضًا أَنَّهُ وَقَعَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَعَنْ الثَّانِي اعْتِبَارُ الْعُرْفِ مُطْلَقًا وَرَجَّحَهُ الْكَمَالُ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ سَعْدِيٌّ أَفَنْدِي اسْتِقْرَاضَ الدَّرَاهِمِ عَدَدًا وَبَيْعَ الدَّقِيقِ وَزْنًا فِي زَمَانِنَا، وَفِي الْكَافِي الْفَتْوَى عَلَى عَادَةِ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ أَقَرَّهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي مُصَنِّفَ مَتْنِ الدَّارِيِّ التَّنْوِيرِ فَعَلَى هَذَا لَوْ فُرِضَ كَوْنُهُ ضَعِيفًا مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ فَرَاجِحٌ فِي الْعَمَلِ وَالْمُفْتَى بِهِ (وَأَمْرُ الْأَرَاضِيِ) الَّتِي تَتَحَصَّلُ مِنْهَا الْحُبُوبُ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الرَّابِعُ الْمُشَارُ إلَيْهِ فِيمَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْحُبُوبُ ظَاهِرُهُ الِاسْتِغْرَاقُ لِعَدَمِ الْعَهْدِ لَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ الْأَرَاضِيِ (فِي زَمَانِنَا) الْعُشْرِيَّةَ وَالْخَرَاجِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كَثِيرًا فِي دِيَارِنَا، وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: فِي زَمَانِنَا فِي دِيَارِنَا فَبَعْدَ التَّسْلِيمِ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ؛ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي دِيَارِ الرُّومِ وَهِيَ دِيَارُ الْمُصَنِّفِ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ أَوْ الْخَرَاجِيَّةُ الْمُنْتَقِلَةُ إلَى الْوَرَثَةِ مُطْلَقًا وَيَجْرِي عَلَيْهِ تَمَامُ أَحْكَامِ الْمِلْكِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ اللَّامِ الْجِنْسُ بِدَلَالَةٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ

(مُشَوَّشٌ جِدًّا إذْ أَصْحَابُهَا يَتَصَرَّفُونَ) حَاصِلُهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَرَاضِيَ إمَّا مَمْلُوكَةٌ لِمُتَصَرِّفِيهَا أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ، الْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَالتَّشْوِيشُ فِيهَا ثَابِتٌ كَمَا سَتَعْرِفُهُ. (فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ مِنْ الْبَيْعِ) الشَّائِعِ فِي دِيَارِنَا وَالْوَاقِعِ فِي الْقَوَانِينِ السُّلْطَانِيَّةِ هُوَ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ لَا الْبَيْعِ بَلْ صَرَّحَ فِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّصَرُّفُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ الْوَدِيعَةِ وَالْإِرْثِ (وَالْإِجَارَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِهَا) إذْ أَمْثَالُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَجْرِي فِي غَيْرِ الْمِلْكِ (وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا مِنْ الْمُوَظَّفَةِ) بَيَانٌ لِلْخَرَاجِ وَهُوَ الَّذِي سَمَّوْهُ رَسْمَ زَمِينٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ يُقَالُ لَهَا فِي زَمَانِنَا الْعُشْرُ (وَالْمُقَاسَمَةُ) مَا يَكُونُ الْوَاجِبُ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ الْخَارِجِ كَالرُّبُعِ وَالْخُمُسِ، وَهَذَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ، وَالْمُوَظَّفُ مَا يَكُونُ الْوَاجِبُ شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُجَرَّدِ تَمَكُّنِ الزِّرَاعَةِ (إلَى الْمُقَاتِلَةِ) أَيْ الْغُزَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِ يُؤَدُّونَ (أَوْ) لِطَائِفَةٍ (غَيْرِهَا) مِنْ الْمَصَارِيفِ غَالِبًا (مِمَّنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ) وَكُلُّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ فَيَقْتَضِي الْمِلْكِيَّةَ (إلَّا أَنَّهُمْ إذَا بَاعُوا أَخَذَ بَعْضَ الثَّمَنِ مَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ) . وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ يَقْتَضِي عَدَمَهَا فَيُشَوِّشُ (لِأَخْذِ الْخَرَاجِ) هُوَ مَنْ سَمَّوْهُ " بِالسَّبَاهِي " غَالِبًا وَسَمَّوْا مَا أَخَذَهُ حَقَّ الْقَرَارِ (فَإِذَا مَاتُوا) أَيْ أَصْحَابُ الْأَرَاضِي (فَإِنْ تَرَكُوا أَوْلَادًا ذُكُورًا يَرِثُونَهَا فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ) وَمُقْتَضَى الْمِلْكِ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ لَكِنْ يَقُولُونَ إنَّهُ انْتِقَالٌ عَادِيٌّ لَا إرْثِيٌّ، وَفِي قَوْلِهِ فَإِذَا مَاتُوا بِصِيغَةِ الذُّكُورِ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ ذَلِكَ عِنْدَ فَوْتِ الْإِنَاثِ مِنْ الْمُتَصَرِّفَاتِ (وَلَا يَقْضِي مِنْهَا) أَيْ مِنْ ثَمَنِ تِلْكَ الْأَرَاضِي (دُيُونَهُ وَلَا تَنْفُذُ وَصَايَاهُ وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوا أَوْلَادًا ذُكُورًا بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ أَوْلَادٌ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ إنَاثٌ فَقَطْ (فَيَبِيعُهَا مَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ) الْغُزَاةَ مَثَلًا لَكِنْ لَا بِتَمَامِ الْقِيمَةِ، وَلَا لِمَنْ شَاءَ بَلْ لِأَوْلَادِهِ الْإِنَاثِ ثُمَّ لِلْإِخْوَةِ ثُمَّ لِلْأَخَوَاتِ ثُمَّ وَثُمَّ عَلَى مَا رَتَّبُوا فِي قَوَانِينِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْدٌ مِنْ جِنْسِ مَنْ سَمَّوْهُ بِأَرْبَابِ الطَّابُو فَيَبِيعُونَ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ لِمَنْ شَاءُوا (فَإِذَا اعْتَبَرْنَا الْيَدَ. وَقُلْنَا: إنَّ الْأَرْضَ مِلْكٌ لِذِي الْيَدِ) ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ (يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا لِكُلِّ الْوَرَثَةِ) مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ إلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ (بَعْدَ أَنْ يُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَيُنَفَّذَ وَصَايَاهُ فَحِرْمَانُ مَا عَدَا الْأَوْلَادَ الذُّكُورَ، وَعَدَمُ الْقَضَاءِ وَالتَّنْفِيذِ ظُلْمٌ) إذْ الْفَرْضُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمِلْكِ (وَتَصَرُّفُهُمْ) مُبْتَدَأٌ وَبَيَانُ كَوْنِهِ ظُلْمًا أَيْ تَصَرُّفُ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ (فِيهَا) فِي الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ (وَتَصَرُّفُ مَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَرَثَةِ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ تَصَرُّفٌ) خَبَرُهُ (فِي مِلْكِ الْغَيْرِ) إذْ الْمِلْكُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالذُّكُورِ فِي الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِمَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ عَلَاقَةٌ فِي الثَّانِي (فَيَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْهَا خَبِيثًا) لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَبَاثَتِهِ مَا (قَالَ فِي التتارخانية رَجُلٌ غَصَبَ أَرْضًا فَأَجَّرَهَا وَأَخَذَ غَلَّتَهَا أَوْ زَرَعَ الْأَرْضَ كِرَاءً) مِنْ الْحَبَّةِ (فَخَرَجَ مِنْهُ

ثَلَاثَةُ أَكْرَارٍ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ) أَعْنِي (الْكُرَّ وَيَتَصَدَّقُ بِالْغَلَّةِ) فِي صُورَةِ الْإِجَارَةِ (وَالْكُرَّيْنِ) فِي صُورَةِ الزَّرْعِ (وَيَضْمَنُ النُّقْصَانَ) مِنْ الزِّرَاعَةِ لِرَبِّ الْأَرْضِ إنْ نَقَصَ (وَهَذَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا انْتَهَى) فَلَوْ فُرِضَ كَوْنُ تِلْكَ الْأَرَاضِي مِلْكًا لِمُتَصَرِّفِيهِمْ، وَمَنَعَ غَيْرَ الذَّكَرِ مِنْ الْأَوْلَادِ، وَمِنْ مُطْلَقِ الْوَرَثَةِ فَيَكُونُ غَصْبًا. وَحُكْمُ الْغَصْبِ مَا سَمِعْت مِنْ التتارخانية مِنْ الْخَبَاثَةِ فِي الْمَحْصُولِ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَيَكُونُ أَخْذُ بَعْضِ الثَّمَنِ) عِنْدَ الْبَيْعِ (أَوْ كُلِّهِ) عِنْدَ مَوْتِ الْمُتَصَرِّفِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَكَرٌ (فِي الْبَيْعِ حَرَامًا لِمَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ) يَعْنِي إذَا بَاعَ الْأَرَاضِيَ صَاحِبُهَا أَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَرَثَةً لَيْسَ فِيهِمْ ذُكُورٌ وَكَذَا بَيْعُ الذُّكُورِ أَيْضًا فِي حَقِّ حِصَّةِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْوَرَثَةِ فَتَأَمَّلْ (وَبِمُرُورِ الْأَزْمَانِ) وَتَدَاوُلِ السِّنِينَ (تَخْرُجُ الْأَرَاضِي أَوْ أَكْثَرُهَا عَنْ مِلْكِ ذِي الْيَدِ بِالْكُلِّيَّةِ) لِكَوْنِ الْمَالِكِ الْأَصْلِيِّ نَسْيًا مَنْسِيًّا (وَفِيهِ) أَيْ فِي اعْتِبَارِ ذِي الْيَدِ (فَسَادٌ عَظِيمٌ) وَقِيلَ إلَى خُرُوجِ الْأَرْضِ مِنْ مِلْكِ ذِي الْيَدِ الْمَدْلُولِ لَا بِاقْتِضَاءِ إذْنٍ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ مِنْ وُجُوهٍ: حِرْمَانُ مَا عَدَا الذُّكُورَ، وَعَدَمُ قَضَاءِ الدُّيُونِ وَالتَّنْفِيذُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَأَخْذُ بَعْضِ الثَّمَنِ أَوْ كُلِّهِ فِي حَالِ الْبَيْعِ لِمَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ وَكَذَا يَلْزَمُ الضَّرَرُ لِعَامَّةِ النَّاسِ لَا كُلِّهِمْ خَبِيثًا عَلَى الدَّوَامِ (وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْأَرَاضِيَ) كَأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقُلْنَا إنَّ الْأَرَاضِيَ مِلْكٌ إلَى آخِرِهِ (لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَصْحَابِهَا، وَرَقَبَتُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ؛ إذْ الْمَعْهُودُ فِي زَمَانِنَا، وَمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ) مِنْ الْأَزْمِنَةِ (مِمَّا يَعْرِفُهُ آبَاؤُنَا وَأَجْدَادُنَا أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا فَتَحَ بَلْدَةً لَا يُقَسِّمُ أَرَاضِيهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَهَذَا جَائِزٌ؛ إذْ الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِسْمَةِ) لِلْغَانِمِينَ. (وَ) بَيْنَ (الْإِبْقَاءِ) مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ (لِلْمُسْلِمِينَ) يَنْتَفِعُونَ بِغَلَّتِهَا (إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فِي التتارخانية عَنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ إنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَسَّمَ الْكُلَّ وَتَرَكَ الْأَرْضِينَ وَجَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَلَ إلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَجَعَلَهَا خَرَاجِيَّةً مِنْ خَرَاجِ مُقَاسَمَةٍ أَوْ مُوَظَّفَةٍ لِيَصْرِفَ خَرَاجَهَا إلَى الْمُقَاتِلَةِ انْتَهَى. (بِوَضْعِ الْخَرَاجِ) عَلَيْهَا الْمُوَظَّفَةِ أَوَالْمُقَاسَمَةِ عَلَى رِقَابِهَا، وَعَنْ قَاضِي خَانْ أَيْضًا الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ عِنْدَنَا، وَيَضَعُ الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ وَالْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَتَمَامُهُ فِيهَا (وَيَكُونُ تَصَرُّفُ ذِي الْيَدِ)

عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ (فِيهَا بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ) اللَّذَيْنِ أُشِيرَ إلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ (قَالَ فِي التتارخانية السُّلْطَانُ إذَا دَفَعَ أَرَاضِيَ لَا مَالِكَ لَهَا) بِأَنْ لَا تُمْلَكَ لِأَحَدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ بِطَرِيقِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوْ الْعُشْرِيَّةِ (وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى أَرَاضِيَ الْمَمْلَكَةِ) وَالْأَرَاضِيَ الْأَمِيرِيَّةُ لِتَعَلُّقِ أُمُورِهَا بِالْأَمِيرِ أَوْ الْأَرْضَ الْمِيرِيَّةَ فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ (إلَى قَوْمٍ) الظَّاهِرُ دُونَ الْمُقَاتِلَةِ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً أَوْ عُشْرِيَّةً (لِيُعْطُوا الْخَرَاجَ جَازَ) مُوَظَّفًا كَمَا سَمَّوْهُ فِي دِيَارِنَا بِرَسْمِ زَمِينٍ أَوْ رَسْمِ جَفَّتْ أَوْ مُقَاسَمَةً وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْعُشْرِ سَوَاءٌ كَانَ ثُمُنًا كَمَا فِي بَعْضِ الدِّيَارِ أَوْ عُشْرًا كَمَا فِي أُخْرَى أَوْ نِصْفًا كَمَا فِي بَعْضِ الْأَرَاضِي (وَطَرِيقُ الْجَوَازِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إمَّا إقَامَتُهُمْ) أَيْ لِقَوْمِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِمْ (مَقَامَ الْمُلَّاكِ فِي الزِّرَاعَةِ، وَإِعْطَاءُ الْخَرَاجِ) إلَى الْمَصَارِفِ كَالْمُقَاتِلَةِ لَعَلَّ الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، أَوْ يُرَادُ مِنْ الْخَرَاجِ مَا يَعُمُّ الْعُشْرَ، وَإِلَّا فَالْإِقَامَةُ مَقَامَ الْمِلْكِ لَا تُوجِبُ كَوْنَ الْمِلْكِ مُخْتَصًّا بِالْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَلْ الْعُشْرِيَّةُ كَذَلِكَ لَكِنَّ ظَاهِرَ عِبَارَتِهِ كَمَا تَرَى، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِتَصْرِيحِ أَبِي السُّعُودِ مِنْ أَنَّ رَقَبَةَ أَرْضِ الْمَمْلَكَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ تَصَرُّفُهَا مُفَوَّضٌ إلَى الرَّعَايَا يُعْطُونَ خَرَاجَهَا مُوَظَّفَهَا عَلَى رَسْمِ جَفَّتْ وَخَرَاجَ مُقَاسَمَتِهَا بِاسْمِ الْعُشْرِ وَأَشَارَ إلَى ثَانِي الشَّيْئَيْنِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ الْإِجَارَةُ) فَعَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إمَّا إقَامَتُهُمْ فَالْمُؤَجِّرُ هُوَ السُّلْطَانُ أَوْ وُكَلَاؤُهُ، وَالْأُجْرَةُ (بِقَدْرِ الْخَرَاجِ) أَيْ مَحْصُولِ الْأَرْضِ أَيْ عَلَى طَاقَةِ الْأَرْضِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ بَيَانَ الْمُدَّةِ شَرْطٌ فِي الْإِجَارَةِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَاللَّازِمُ فِي الْإِجَازَةِ الْفَاسِدَةِ هُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ إطْلَاقُ مُطْلَقِ الْجَوَازِ. وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ بِمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَنْفَعَةَ بَلْ إنْ زَرَعَ فَأَصَابَتْ الزَّرْعَ آفَةٌ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا، فَأَصَابَتْ الزَّرْعَ آفَةٌ فَهَلَكَ، أَوْ غَرِقَتْ الْأَرْضُ، وَلَمْ تُنْبِتْ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ تَامًّا ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ قَبَضَ الْأَرْضَ، وَلَمْ يَزْرَعْهَا حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَمَامُ الْأَجْرِ، وَالشَّائِعُ فِي زَمَانِنَا عَدَمُ الْأَجْرِ عِنْدَ عَدَمِ الزَّرْعِ وَلَوْ صَلَحَتْ الْأَرْضُ لِلزِّرَاعَةِ نَعَمْ يَأْخُذُونَ رَسْمَ الزَّمِينِ مُطْلَقًا (وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ خَرَاجًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ أُجْرَةً فِي حَقِّهِمْ انْتَهَى) فَيَصْرِفُهُ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ فَلَا يُصْرَفُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْخَرَاجِ إلَيْهِ فَمَا فِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ عَنْ أَبِي السُّعُودِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ جَوَازِ أَيِّ مَحَلٍّ أَرَادَ فَمَحَلُّ خَفَاءٍ (فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ) مِنْ إقَامَةِ الْمُلَّاكِ وَالْإِجَارَةِ (لَا يَجْرِي فِيهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالشُّفْعَةُ وَالْوَقْفُ وَالْإِرْثُ وَنَحْوُهَا) مِنْ الرَّهْنِ الْوَدِيعَةِ وَالْإِعَارَةِ (أَمَّا عَلَى) الْوَجْهِ (الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ إقَامَتَهُمْ مَقَامَ الْمُلَّاكِ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ عَنْ الضَّيَاعِ أَعْنِي الْخَرَاجَ) تَفْسِيرٌ لِلْحَقِّ (فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا) ؛ إذْ الضَّرُورَةُ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا يَرِدُ عَلَيْهِ إرْثُ الذُّكُورِ إلَّا أَنْ يُدَّعَى: الْمَانِعُ مِنْ الْإِنَاثِ عَدَمُ اقْتِدَارِهِنَّ عَلَى التَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِنَّ فَفِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ لَكِنْ إذَا قِيلَ أَمَّا الْمُقِيمُ أَيْ السُّلْطَانُ إذَا أَقَامَ هَكَذَا يَعْنِي بِإِقَامَةِ الْآبَاءِ ابْتِدَاءً وَالْأَوْلَادِ الذُّكُورِ بَعْدَ انْتِقَالِهِمْ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ لَكِنْ يَرِدُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ تَجُوزَ إقَامَتُهُمْ فِي حَقِّ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَظَاهِرُ سَوْقِهِ عَدَمُ جَوَازِ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ لَعَلَّ الْحَقَّ جَوَازُ كُلِّ ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ إنْ رَأَى ذَلِكَ لِمَا فِي الْفَتَاوَى الزَّيْنِيَّةِ عَنْ الزَّيْلَعِيِّ أَنَّ لِلْإِمَامِ بَيْعَ عَقَارِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُطْلَقًا وَعَلَى الْمُفْتَى بِهِ لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ ثُمَّ ظَاهِرُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَصَرَّحَ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَامَّةً، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ

فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْ الْمُشْتَرَكِ الْعَامِّ جَائِزٌ مِنْ الْإِمَامِ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ صَحَّ بَيْعُهُ انْتَهَى فَقَوْلُهُ شَيْئًا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ الْمَنْقُولَ وَغَيْرَهُ كَالْعَقَارِ وَالدُّورِ وَالْأَرَاضِي لِحَاجَةٍ أَوْ لَا انْتَهَى كَلَامُ الزَّيْنِيَّةِ مُلَخَّصًا، وَكَذَا فِي الْأَشْبَاهِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْأَرَاضِي الَّتِي بَاعَهَا السُّلْطَانُ وَحُكِمَ بِصِحَّةِ بَيْعِهَا ثُمَّ وَقَفَهَا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ شَرَائِطِهِ ثُمَّ قَالَ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ: لِلْإِمَامِ الْبَيْعُ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ، وَتَمَامُهُ فِيهِمَا (وَأَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ) إذْ بَيْعُ الْمُسْتَأْجَرِ وَهِبَتُهُ وَنَحْوُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ إذْ لَا مِلْكَ لَهُمْ حَتَّى يَتَصَرَّفُوا فِيهِ (فَيَكُونُ بَيْعُ ذِي الْيَدِ بَاطِلًا، وَثَمَنُهَا حَرَامًا وَرِشْوَةً) وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ قَاعِدَةُ الْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا فُضُولِيًّا مَوْقُوفًا فَلَا يَكُونُ الثَّمَنُ رِشْوَةً بَلْ مِلْكًا لِبَيْتِ الْمَالِ إنْ فُرِضَ التَّجْوِيزُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ وَالْإِيرَادُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ كَمَا كَانَتْ لَكِنْ فِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ لَا يَجْرِي فِيهَا بَيْعٌ وَلَا شِرَاءٌ، وَإِعْطَاءُ الْقُضَاةِ حُجَّةَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَاطِلٌ مَحْضٌ فَلَوْ وَقَعَ مِثْلُهُ يُقَالُ: فَوَّضَ مُتَصَرِّفُهَا فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ بِمُقَابَلَةِ دَرَاهِمِ كَذَا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْأَرْضِ أَيْ الْمُقَاتِلَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّبَاهِي، وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ فَرَاغَ حَقِّ التَّصَرُّفِ بِمُقَابَلَةِ شَيْءٍ ثُمَّ إذْنُ " السَّبَاهِيُ " لَيْسَ أَمْرًا مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَعَنْهُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَخْذُ شَيْءٍ لِحَقِّ التَّصَرُّفِ ثُمَّ أَعْطَاهُ السَّبَاهِيُ بِالطَّابُو لَيْسَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، وَمَا أَخَذَهُ أُجْرَةً مُعَجَّلَةً لِلْأَرْضِ فَلَا لَكِنْ لَا يُعْلَمُ وَجْهُ عَدَمِ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فِي أَخْذِ الْمُتَصَرِّفِ السَّابِقِ شَيْئًا فِي مُقَابَلَةِ فَرَاغِ التَّصَرُّفِ بَلْ اللَّائِحُ مِنْ قَوَانِينِ الشَّرْعِ كَوْنُهُ رِشْوَةً وَنُقِلَ عَنْ فَتَاوَى ابْنِ كَمَالٍ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدٌ مِنْ صَاحِبِ التَّيْمَارِ وَالْمُتَصَرِّفِ السَّابِقِ لِشَيْءٍ مِنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ فَلَا يَمْلِكَانِ نَحْوَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْإِعَارَةُ لَكِنَّ قَوْلَهُ وَالْإِعَارَةُ مَحَلُّ بَيَانٍ كَمَا فُهِمَ مِمَّا سَبَقَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بِحَسَبِ الْقَانُونِ فَجَائِزٌ الْبَيْعُ وَالْإِرْثُ لِأَوْلَادِهِ الذُّكُورِ، وَهُوَ أَيْضًا كَمَا تَرَى وَفِي رِسَالَةٍ مَنْسُوبَةٍ إلَى الْمُفْتِي الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ بَهَائِيٍّ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ تَقْسِيمُ أَرَاضِي الْمَمْلَكَةِ بِطَرِيقَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَاضِيَ لَا مَالِكَ لَهَا فَيُعْطِيَهَا الْإِمَامُ لِرَجُلٍ لِيَقُومَ عَلَيْهَا كَالْمَالِكِ وَيُعْطِيَ الْخَرَاجَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَالِكَ إنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْخَرَاجِ وَالزِّرَاعَةِ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ، وَإِنَّمَا أَقَامَهُ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ لَكِنْ يَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِ الدَّهْقَانِيَّةِ، وَكَذَا الْإِمَامُ يُؤَاجِرُهَا، وَيَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ الْأُجْرَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ بَاعَ وَأَعْطَى الثَّمَنَ لِلْمَالِكِ، وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنْ الْمُشْتَرِي جَازَ قِيلَ: جَوَازُ الْبَيْعِ قَوْلُهُمَا وَقِيلَ قَوْلُهُ انْتَهَى قَوْلُهُ: وَلَوْ بَاعَ إلَخْ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى تَصْحِيحِ النَّقْلِ لِمَا فِي بُيُوعِ الصُّرَّةِ عَنْ الْمِنَحِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا عُوَارٌ فِي أَيْدِي الرَّعَايَا، وَلَا تَصِيرُ مِلْكًا لِأَحَدٍ إلَّا إذَا مَلَّكَهَا الْإِمَامُ إلَيْهِ، وَلِمَا فِيهِ أَيْضًا عَنْ خِزَانَةِ الْفَتَاوَى: لَوْ بَاعَ الْإِمَامُ هَذِهِ الْأَرَاضِيَ جَازَ، وَإِنْ أَجَّرَهَا جَازَ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ إلَى آخِرِهِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ وَبَعْدَ اللَّتَيَّا وَاَلَّتِي أَنَّ مَا اُعْتِيدَ فِي زَمَانِنَا وَجَرَى عَلَيْهِ قَوَانِينُ سَلَاطِينِنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ بَلْ تَفْوِيضُ تَصَرُّفٍ وَفَرَاغَةٍ فَلَا يَرِدُ إشْكَالُ الْمُصَنِّفِ لَكِنْ يَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَى أَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمُتَصَرِّفُ السَّابِقُ مِنْ الَّذِي فَرَغَ إلَيْهِ شَيْءٌ بَلْ مَا أَخَذَهُ السَّبَاهِيُ أَيْضًا شَيْءٌ لَا يَخْلُو عَنْ كَوْنِهِ رِشْوَةً كَمَا أُشِيرَ، وَلَا يُفِيدُ تَسْمِيَتُهُ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ؛ إذْ الْمُسْتَأْجِرُ الثَّانِي لَا يُعَطِّلُهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَالْأَوَّلِ، وَلَمْ أَقِفْ بَعْدَ تَتَبُّعِ كَثِيرٍ عَلَى رِوَايَةٍ صَرِيحَةٍ، وَلَا بَعْدَ تَأَمُّلٍ عَلَى دِرَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى وَجْهٍ شَرْعِيٍّ، وَقَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى، وَقِوَامُ الْوُجُودِ، وَبَقَاءُ الْعَالَمِ مُحْتَاجٌ ضَرُورِيٌّ إلَى الْأَرَاضِي وَالْعُشْرِ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - يُرِيدُ بِهِمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمْ الْعُسْرَ فَلَا جَرَمَ إمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الرِّشْوَةَ جَائِزٌ كَمَا فِي صُوَرِهَا الْجَائِزَةِ لِلضَّرُورَةِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ جُوِّزَ مِنْ السُّلْطَانِ أَخْذُ شَيْءٍ فِي بَدَلِ الْفَرَاغِ لِمَصْلَحَةٍ وَتَصَرُّفُهُ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلرَّعَايَا جَائِزٌ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: تَصَرُّفُ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ وَيَدَّعِي عَدَمَ مُخَالَفَتِهِ لِلشَّرْعِ سِيَّمَا فِي حَقِّ تِلْكَ الْأَرَاضِي بِمَا نُقِلَ عَنْ الزَّيْنِيَّةِ قَرِيبًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْعَطَاءِ بِإِثْبَاتِ الْإِمَامِ فِيمَنْ لَهُ إعْطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ هَذَا مَبْلَغُ فَهْمِي وَالْعِلْمُ

عِنْدَ اللَّهِ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُ تِلْكَ الْأَرَاضِي لِبَيْتِ الْمَالِ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لِأَصْحَابِهَا (أَصْلَحُ الِاحْتِمَالَيْنِ) أَحَدُهُمَا هَذَا وَثَانِيهَا كَوْنُهَا لِأَصْحَابِهَا لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ وُجُودُ أَصْلِ الصَّلَاحِ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا عَلَى قَاعِدَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ وَلَيْسَ لَهُ وَجْهُ صَلَاحٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ إلَّا أَنْ يُدَّعَى كَوْنُهُ بِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ أَوْ يُقَالُ: إنَّ قَوْلَهُ هَذَا إشَارَةٌ إلَى طَرِيقِ الْإِجَارَةِ فَحِينَئِذٍ الِاحْتِمَالُ الْآخَرُ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَذْكُورَيْنِ فِي التتارخانية لَكِنْ يَرِدُ حِينَئِذٍ أَنَّ قَوْلَهُ (وَأَقَلُّ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ) يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ الِاحْتِمَالَيْنِ أَبْعَدُ أَوْ بَعِيدٌ مِنْ الشَّرْعِ، وَفِي ثَانِيهِمَا قَلِيلُ مُخَالَفَةٍ لِلشَّرْعِ، وَالْحُكْمُ سِيَّمَا مِنْ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا فِي كُتُبِ الشَّرْعِ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ لَيْسَ فِي طَوْرِ الصِّنَافِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ (وَضِرَرًا لِلنَّاسِ) يُلَائِمُ الْأَوَّلَ (فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا لِمَا فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الزَّيْلَعِيِّ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ يَأْخُذُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْحَرَامِ لَا تَجُوزُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ ارْتِكَابِ الضَّرَرِ الْجُزْئِيِّ لِلْوَصْلَةِ إلَى النَّفْعِ الْكُلِّيِّ (فَيَكُونُ انْتِقَالُهَا لِلْأَوْلَادِ الذُّكُورِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ أَيْضًا) الْمَذْكُورَيْنِ فِي التتارخانية نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ الْإِنَاثُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا انْتَهَى الظَّاهِرُ مُرَادُهُ لَمْ يَجْعَلْهُ السُّلْطَانُ مُنْتَقِلًا إلَى الْإِنَاثِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ قَوَانِينَ السُّلْطَانِ عَلَى إعْطَائِهِنَّ بِمَا سُمُّوا بِالطَّابُو ثُمَّ لِلْأَخِ ثُمَّ لِلْأُخْتِ ثُمَّ لِلْأَبِ ثُمَّ لِلْأُمِّ ثُمَّ لِلشَّرِيكِ ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ الَّذِينَ لَهُمْ أَشْجَارٌ إرْثِيَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْأَرَاضِي ثُمَّ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ إنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ ثُمَّ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُخَيَّرٌ (لَا بِالْإِرْثِ) ؛ وَلِهَذَا سَمَّوْا بِالِانْتِقَالِ الْعَادِيِّ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَسْمِيَةِ الْإِرْثِ فَمَجَازٌ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ أَرَاضِيَ زَمَانِنَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي التتارخانية فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا تَشْوِيشٌ وَقَدْ حُكِمَ بِأَنَّهَا مُشَوَّشَةٌ فَلَا تَقْرِيبَ نَعَمْ يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَقَلُّ مُخَالَفَةٍ لَكِنْ قَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ آنِفًا فَتَأَمَّلْ نَعَمْ فِي الصُّرَّةِ عَنْ التَّجْرِيدِ: لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا، وَأَيْضًا إنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَفِيزِ الطَّحَّانِ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي نَظَرِ الْمُصَنِّفِ مَعَ أَنَّ فِيهِ تَأَمُّلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا جَعْلُ بَيْعِهَا إجَارَةً فَاسِدَةً) لِعَدَمِ بَيَانِ الْمُدَّةِ (لِيَحِلَّ مِقْدَارُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِلْبَائِعِ) وَإِنْ حَرُمَ زِيَادَتُهُ مِنْهُ (فَفَاسِدٌ جِدًّا لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا) قِيلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ هَذَا رَدٌّ لِأَبِي السُّعُودِ؛ إذْ هُوَ الْجَاعِلُ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَإِفْتَائِهِ بِأَنَّ الْأَرَاضِيَ بِأَيْدِي أَصْحَابِهِمْ عَارِيَّةٌ فَبَيْعُهُمْ بَاطِلٌ، وَالثَّمَنُ حَرَامٌ اهـ لَكِنَّ الْوَاقِعَ فِي مَعْرُوضَاتِهِ رَقَبَةُ تِلْكَ الْأَرَاضِي لِبَيْتِ الْمَالِ أُعْطِيت لِلرَّعَايَا عَلَى أُسْلُوبِ الْإِجَارَةِ، وَفِي مَحَلٍّ آخَرَ عَنْ أَبِي السُّعُودِ رَقَبَتُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ فُوِّضَ تَصَرُّفُهَا إلَى الرَّعَايَا إلَى آخِرِهِ، وَفِي مَقَامٍ آخَرَ أَيْضًا عَنْهُ فُوِّضَ تَصَرُّفُهَا لِمُتَصَرِّفِيهَا لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ وَقَفَ عَلَى رِوَايَةٍ كَذَلِكَ أَيْضًا. (أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ فِي الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ) لِلْفَتْوَى لَكِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْخُلَاصَةِ اخْتِيَارُ جَانِبِ جَوَازِهِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ قَالَ بِعْتُك مَنَافِعَ الدَّارِ شَهْرًا بِكَذَا ذَكَرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ ثُمَّ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْتُك نَفْسِي شَهْرًا بِكَذَا لِعَمَلِ كَذَا فَهُوَ إجَارَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَعَنْ الْكَرْخِيِّ الْإِجَارَةُ لَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ثُمَّ رَجَعَ. وَقَالَ: تَنْعَقِدُ (خُصُوصًا إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّوْقِيتُ) لَا يَخْفَى عَدَمُ التَّوْقِيتِ إنَّمَا يَضُرُّ لِصَحِيحِ الْإِجَارَةِ لَا لِفَاسِدِهَا بَلْ يَجُوزُ جَعْلُهُ إجَارَةً لِعَدَمِ التَّوْقِيتِ وَأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْوُرُودِ لِمَا اخْتَارَهُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ التتارخانية (قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ: وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ) إذَا وُجِدَ التَّوْقِيتُ هَذَا دَلِيلُ الْأَوَّلِ نَعَمْ يُقَدَّمُ مَا فِي قَاضِي خَانْ فِي الْوَثَاقَةِ عَلَى الْخُلَاصَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي قَاضِي خَانْ أَيْضًا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ قَالَ لِغَيْرِهِ: اشْتَرَيْتُ مِنْك خِدْمَةَ عَبْدِك شَهْرًا بِكَذَا كَانَتْ إجَارَةً فَاسِدَةً فَافْهَمْ

(وَفِي الْعَتَّابِيَّةِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ إنْ وُجِدَ التَّوْقِيتُ) ظَاهِرُهُ فِي الصَّحِيحَةِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا (وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْإِقَامَةَ مَقَامُ الْمُلَّاكِ) كَمَا فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فِي الْمَنْقُولِ مِنْ التتارخانية (لَيْسَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بَلْ لِضَرُورَةِ) صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُقَاتِلَةِ، وَهَذِهِ تَرْتَفِعُ بِالْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الزَّرْعِ وَإِعْطَاءِ الْخَرَاجِ فَقَطْ فَلَا تَتَعَدَّى إلَى الْبَيْعِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (فَلَا يَمْلِكُ ذُو الْيَدِ الْإِجَارَةَ فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْإِجَازَةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ تِلْكَ الْإِقَامَةِ؛ إذْ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ إلَّا بِلَوَازِمِهِ وَضَرُورِيَّاتِهِ بَلْ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى الثَّانِي عِنْدَ سَلْبِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فَالْإِقَامَةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ضِمْنِ الْإِجَارَةِ فَتَدَبَّرْ. (وَكَذَا فِي) الطَّرِيقِ (الثَّانِي لِوَجْهَيْنِ) ، وَفِي طَرِيقِ الْإِجَارَةِ (الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْخَرَاجُ أُجْرَةً فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ لِضَرُورَةِ عَدَمِ تَحْقِيقِ حَقِيقَتِهِ) أَيْ الْخَرَاجِ (وَمَعْنَاهُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ (هَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْخَرَاجَ (مَئُونَةُ الْأَرْضِ، وَالْمَئُونَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْمَالِكِ) وَذُو الْيَدِ لَيْسَ بِمَالِكٍ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ (فَجَعْلُهُ) أَيْ الْخَرَاجَ (أُجْرَةً فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَقَطْ) لَا مُطْلَقًا. أَقُولُ: الْمَفْهُومُ مِنْ السَّوْقِ الْجَوَازُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَفْظِ الْبَيْعِ عَلَى إرَادَةِ الْإِجَارَةِ مَجَازًا، وَلَا مَانِعَ فِي كَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ ذِي الْيَدِ أَيْضًا (وَلِهَذَا سَقَطَ وُجُوبُ بَيَانِ قَدْرِ الْأُجْرَةِ وَجَازَ مَعَ جَهَالَتِهَا فِي خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ) دُونَ خَرَاجِ الْمُوَظَّفِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَأَمَّا نَحْوَ الْعُشْرِ أَوْ الثُّمُنِ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لِكَوْنِهِ جُزْءًا شَائِعًا فَالْجَوَازُ مَعَ عَدَمِ مَعْلُومِيَّةِ الْأُجْرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ لَا يَخْفَى أَنَّهُ خَرَّجَ بِهِ الْجَوَابَ عَنْ بَعْضِ إشْكَالٍ فِيمَا سَبَقَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى ذَلِكَ هُنَالِكَ لَكِنْ يَجُوزُ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبِ فَسَادِ الْإِجَارَةِ. (فَهُوَ) أَيْ مَا أَخَذَهُ مِنْ ذِي الْيَدِ هُنَا (فِي الْحَقِيقَةِ خَرَاجٌ) وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ (وَلِذَا) لِكَوْنِهِ خَرَاجًا فِي الْحَقِيقَةِ (لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَّا إلَى مَصَارِفِ الْخَرَاجِ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ آثَارِ كَوْنِهِ خَرَاجًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ إجَارَةً فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ لَا سِيَّمَا أَنَّ أَصْلَ الْأَرْضِ لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَوْ كَانَ إجَارَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُنَافِي اخْتِصَاصَ الْمَصْرِفِ بِمَا ذُكِرَ (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أُجْرَةً حَقِيقَةً، وَمِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهَا) أَيْ الْأَرَاضِي (إجَارَتُهَا) لِغَيْرِهِ قِيلَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ إجَارَةَ الْمُسْتَأْجَرِ إنَّمَا تَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا تَجُوزُ، وَإِلَّا فَإِنَّ إجَارَةَ الْمُسْتَأْجَرِ إنْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا تَجُوزُ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ: تَجُوزُ فِي الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَجَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَصْلَحُ الِاحْتِمَالَيْنِ كَيْفَ وَأَنَّ ذَلِكَ فِي كُلِّ الْبِلَادِ عَلَى تَدَاوُلِ الْأَيَادِي فَلَوْ مَنَعَ بِهَذَا فَكَيْفَ سَبِيلُ الْأَصْلَحِيَّةِ وَالْأَقْرَبِيَّةِ فَهَذَا مُشْتَرِكُ الْوُرُودِ. (وَالثَّانِي أَنَّ الْخَرَاجَ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُتَصَرِّفِ فَإِذَا كَانَ شِرَاؤُهُ اسْتِئْجَارًا، وَثَمَنُهُ أُجْرَةً مُعَجَّلَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْخَرَاجَ أُجْرَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَصَرِّفِ) وَهُوَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ (بَلْ يَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ

يَجِبَ الْخَرَاجُ عَلَى الْبَائِعِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُتَصَرِّفِ وَيَكُونُ مَا أَخَذَهُ لَهُ وَإِنْ أَخَذَ بَعْضَهُ مَنْ عَيَّنَهُ السُّلْطَانُ، وَفِي قَاضِي خَانْ وَإِنْ آجَرَ أَرْضَهُ الْخَرَاجِيَّةَ كَانَ الْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ خَرَاجٌ فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهُ، وَجَعْلُهُ أُجْرَةً لَا يَخْفَى أَنَّ جِنْسَ هَذَا لَا يَخْلُو عَنْ مَرْضِيِّ الْمُصَنِّفِ فَافْهَمْ وَقَدْ قِيلَ هَذَا عَلَى إقَامَةِ ذِي الْيَدِ الَّذِي هُوَ الْبَائِعُ مَقَامَ الْمُلَّاكِ عَلَى فَرْضِ مَنْعِ كَوْنِ هَذَا الِاعْتِبَارِ لِلضَّرُورَةِ تَسْلِيمًا لِلْخَصْمِ وَمُجَارَاةً لَهُ ظَاهِرًا. وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ ذِي الْيَدِ أَعْنِي الْبَائِعَ مُسْتَأْجِرًا كَمَا بَنَى عَلَيْهِ كَلَامَهُ فَفِيهِ تَأَمُّلٌ انْتَهَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ كَمَا أُشِيرَ أَنَّ لِلسُّلْطَانِ تَصَرُّفًا فِي الْأَرَاضِي فَيَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ عَيَّنَهُ بِالْإِيجَارِ فَالْبَائِعُ الْمُؤَجِّرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ رَبُّ الْأَرْضِ بِدُونِ إذْنِهِ لَا رَبُّ الْأَرْضِ بَلْ فِي الصُّورَةِ وَالرَّسْمِ فَقَطْ (وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَمُوتُ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ) بِالْمَوْتِ (فَيَجِبُ رَدُّ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ لَهُ) لِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مُرَادِيَ مِنْ الْإِجَارَةِ هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا أَشَرْت إلَيْهِ مِمَّا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى ذِي الْيَدِ فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ فَهُوَ جَوَابُنَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فَسْخَ الْإِجَارَةِ إنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ عَدَمِ وَلَدٍ ذَكَرٍ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْوَلَدُ قَائِمًا مَقَامَ الْأَبِ (فَالْحَقُّ أَنَّ بَيْعَهَا بَاطِلٌ) ظَاهِرُهُ تَفْرِيعٌ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ جَعَلَ بَيْعَهَا إجَارَةً فَاسِدَةً، وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إنْ ادَّعَى الْجَاعِلُ بَيْعًا حَقِيقِيًّا، وَقَدْ جَعَلَهُ إجَارَةً، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِلَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الذَّاتِ أَصْلًا، وَهَا هُنَا بَيْعُ تِلْكَ الْأَرَاضِي جَائِزٌ لِلسُّلْطَانِ إمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضٍ، أَوْ مُطْلَقًا لِمَصْلَحَةٍ كَمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضٍ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ كَيْفَ، وَمِنْ جِنْسِهَا الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ وَالْخَرَاجِيَّةُ وَهُمَا يَقْبَلَانِ الْبَيْعَ فَالْمَانِعُ فِي تِلْكَ الْأَرَاضِي إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَبَيْعُهُ فَاسِدٌ لَا بَاطِلٌ، وَلَوْ أُرِيدَ مِنْ الْبُطْلَانِ الْفَسَادُ فَأَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَالْحَقُّ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ قَبْلُ مِنْ أَنَّهُ بَيْعٌ فُضُولِيٌّ غَيْرُ مَحُوزٍ مَالِكُهُ فَيَكُونُ غَصْبًا فَتَأَمَّلْ فِيهِ (وَالْمَأْخُوذُ رِشْوَةٌ يَجِبُ رَدُّهَا إلَى مُعْطِيهَا) قَدْ عَرَفْت فِيمَا قَبْلُ مَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَشِدَّةِ ضَرُورَةِ احْتِيَاجِ قِوَامِ الْبَدَنِ وَبَقَاءِ الْوُجُودِ (فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ: غَلَبَةُ الْجَهْلِ وَغَلَبَةُ الظُّلْمِ وَتَصْغِيرُ النُّقُودِ وَتَشَوُّشُ الْأَرَاضِي الَّتِي تُسْتَخْرَجُ مِنْهَا الْحُبُوبُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْبَدَنِ. (فَالْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْأَحْوَطِ) الْمُشَارِ إلَيْهِ فِيمَا قَبْلُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ هُوَ مَا اخْتَارَهُ أَبُو اللَّيْثِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِ الرَّجُلِ حَلَالًا جَازَ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ، وَإِلَّا فَلَا كَذَا قِيلَ (فَضْلًا عَنْ الْوَرَعِ عَنْ الشُّبُهَاتِ) فَالْوَرَعُ هُنَا فَوْقَ الْأَحْوَطِ (يَسْتَدْعِي) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: فَالْأَخْذُ (أَنْ لَا يُعَامَلَ مَعَ النَّاسِ) لِلْأَسْبَابِ الْأَرْبَعَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا آنِفًا الْمُفَصَّلَةِ قَبْلُ (لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْحَرَامِ بِالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ لَا يَجُوزُ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا) الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ لِلْقِرَانِ؛ إذْ لَا يُعْلَمُ تَفَاوُتُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ عَنْ الْآخَرِ (وَلَا يَصِيرَ) أَيْ الْحَرَامُ (بِهَا) بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ (حَلَالًا، وَالْخَبِيثُ يَجِبُ عَلَى مَالِكِهِ تَصَدُّقُهُ فَيَأْثَمُ) مَالِكُهُ الصُّورِيُّ (بِغَيْرِهِ) التَّصْدِيقِ أَوْ الرَّدِّ إلَى صَاحِبِهِ (مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَخْذُهُ) أَخْذُ الْخَبِيثِ (بِشِرَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ إلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ) وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يُعْلَمُ صَاحِبُهُ. (وَ) الْحَالُ (هُوَ فَقِيرٌ) أَهْلٌ لِلصَّدَقَةِ لَكِنَّ ظَاهِرَ مَا ذَكَرَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ وَاللَّازِمُ مِنْهَا هُوَ الِاحْتِمَالُ وَالظَّنُّ وَمَا يَقْتَضِي هُوَ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ

لَكِنَّ طَرِيقَ الْمُصَنِّفِ هُوَ التَّقْوَى (فَيَلْزَمُ الْعُزْلَةُ عَنْ النَّاسِ) ؛ لِأَنَّك قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] فَالْمُعَامَلَاتُ وَالْأَكْلُ وَاللُّبْسُ لَا تَخْلُصُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ (وَسُكْنَى الْمَغَارَاتِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَرَتْعُ) أَكْلُ (الْكَلَأِ) الْعُشْبِ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا (وَالْعُشْبِ) الرَّطْبِ (وَلُبْسُهُمَا) وَأَمَّا نَحْوَ أَنْ يَزْرَعَ مِنْ أَرْضِهِ الْمَوْرُوثَةِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ حَبًّا وَقُطْنًا وَنَحْوَهُ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ إمْكَانِهِ نَادِرٌ وَمُتَعَسِّرٌ أَيْضًا وَلَيْسَ النَّادِرُ وَالْمُتَعَسِّرُ مَدَارًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. (وَ) الْحَالُ (الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ) مُحْتَاجٌ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ طَبْعُهُ يَقْتَضِي اجْتِمَاعَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي أَمْرِ مَعَاشِهِمْ لِاحْتِيَاجِ كَسْبِ الْآخَرِ (بِالطَّبْعِ) لِأَسْبَابِ الْمَعَاشِ وَقِوَامِ الْبَدَنِ؛ إذْ جِبِلَّةُ الْإِنْسَانِ تُوجِبُ الِاجْتِمَاعَ مَعَ بَنِي نَوْعِهِ؛ إذْ لَا يَعِيشُ بِمُجَرَّدِ كَسْبِهِ بِلَا انْضِمَامِ كَسْبِ الْآخَرِ (وَفِي هَذَا) الْمَذْكُورِ مِنْ الْعُزْلَةِ وَالرَّتْعِ وَاللُّبْسِ (حَرَجٌ عَظِيمٌ وَتَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ عَادَةً) الظَّاهِرُ عَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ (وَكِلَاهُمَا) الْحَرَجُ وَالتَّكْلِيفُ (مُنْتَفِيَانِ بِالنَّصِّ) مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ مَعَ أَقْسَامِهِ. (فَتَعَيَّنَ الْأَخْذُ لَا مَحَالَةَ فِي هَذَا الزَّمَانِ) سِيَّمَا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ لِمَا سَبَقَ (بِمَا قَالَ) مُتَعَلِّقٌ بِالْأَخْذِ (مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ. وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ) الظَّاهِرُ هُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فَتَأَمَّلْ (مِنْ جَوَازِ أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ) بِالتَّبَايُعِ أَوْ الِاتِّهَابِ أَوْ التَّصَدُّقِ أَوْ الْوَصِيَّةِ أَوْ نَحْوِهَا (بِعِوَضٍ وَبِلَا عِوَضٍ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ بِعَيْنِهِ حَرَامٌ) الظَّاهِرُ الْعِلْمُ بِمَعْنَى غَلَبَةِ الظَّنِّ لِمَا عَرَفْت سَابِقًا وَأَنَّهُ طَرِيقُ الْفَتْوَى؛ إذْ فِي التَّقْوَى يَجِبُ التَّحَفُّظُ عَنْ الشُّبُهَاتِ فَافْهَمْ. (تَمَسُّكًا بِأُصُولٍ مُقَرَّرَةٍ فِي الشَّرْعِ مِنْ أَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ) حَتَّى تَجُوزَ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ مَعَ سَبْقِ الْخَاطِرِ، وَإِلَّا فَلَا (وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ وَأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ؛ إذْ مَا ذَكَرَهُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ غَلَبَةِ ظَنٍّ وَقَدْ عَرَفْت فِيمَا مَرَّ وَهُنَا أَنَّ الْغَلَبَةَ كَافِيَةٌ فِي الْعُدُولِ عَنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ (وَأَنَّ الْأَثْمَانَ النُّقُودَ) غَالِبًا أَوْ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ مُخْتَصَّةٌ بِالثَّمَنِيَّةِ ذُكِرَ عَنْ الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْأَمْوَالَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ثَمَنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَا كَانَ مُقَابِلُهَا مِنْ جِنْسِهَا أَوْ لَا، وَنَوْعٌ مَبِيعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ مَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْعُرُوضِ وَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَمَالِيكِ، وَنَوْعٌ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي الْعَقْدِ كَانَ مَبِيعًا، وَإِلَّا فَإِنْ صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ، أَوْ قَابَلَهُ مَبِيعٌ فَهُوَ ثَمَنٌ (لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ لَا سِيَّمَا الصَّحِيحَيْنِ) مِنْهُمَا وَجْهُ التَّرَقِّي

يُفْهَمُ مِمَّا فِي الْأَشْبَاهِ النَّقْدُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، وَفِي تَعْيِينِهِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ رِوَايَتَانِ إلَى آخِرِهِ فَلَوْ عَيَّنَ الْعَاقِدَانِ دِرْهَمًا مَثَلًا ثُمَّ أَرَادَ الْمُشْتَرِي تَبْدِيلَهُ بِدِرْهَمٍ آخَرَ جَازَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَعَنْ الْعِمَادِيَّةِ أَنَّهُمَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ الْأَصْلِ وَلَا يَتَعَيَّنَانِ فِيمَا يُنْتَقَضُ بَعْدَ الصِّحَّةِ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: وَالصَّحِيحِ تَعَيُّنُهُ فِي الصَّرْفِ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ ثُمَّ قَالَ: وَيَتَعَيَّنُ فِي الْأَمَانَاتِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْغَصْبِ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْعِنَايَةِ: إنَّ عَدَمَ تَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ لَا غَيْرَ فَإِنَّهُمَا يَتَعَيَّنَانِ جِنْسًا وَقَدْرًا وَوَصْفًا بِالِاتِّفَاقِ فَفِي إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ مُسَامَحَةٌ فَافْهَمْ (بَلْ الثَّمَنُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ) حِينَ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ (لَوْ حَالًّا وَمُنَجَّزًا) فَالْمُؤَجَّلُ بِالْأَوْلَى (بِخِلَافِ الْمَبِيعِ) فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بَعْدَ الْعَقْدِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِبْدَالُهُ بِآخَرَ وَإِقَامَتُهُ مَقَامَهُ إلَّا بِالْفَسْخِ وَتَكَرُّرِ الْعَقْدِ (وَ) تَعْيِينِ الْأَخْذِ (بِمَا قَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِكَوْنِ الْفَتْوَى عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا) مِنْ (أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِحَرَامٍ بِعَيْنِهِ) حَرَامٌ مُعَيَّنٌ كَثَمَنِ الْمَغْصُوبِ (حَلَالٌ طَيِّبٌ إلَّا أَنْ يُشَارَ إلَيْهِ حِينَ الْعَقْدِ وَيُسَلَّمَ فَيَكُونَ) الْمَبِيعُ (مِلْكًا خَبِيثًا) وَعَنْ الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ طَعَامًا إنْ لَمْ يُضِفْ الشِّرَاءَ إلَى الْغَصْبِ، وَلَكِنَّهُ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْهَا حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ وَيُؤَكِّلُ غَيْرَهُ وَإِنْ أَضَافَ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْهَا يُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُؤَكِّلَ غَيْرَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ عِنْدَهُ وَرَبِحَ فِيهَا قَالَ نُصَيْرٌ: إنْ أَضَافَ الشِّرَاءَ إلَى الْوَدِيعَةِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ مِنْ الْوَدِيعَةِ يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْ الشِّرَاءَ إلَى الْوَدِيعَةِ أَوْ نَقَدَ غَيْرَهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ انْتَهَى وَفِي الْكَافِي: لَا يَتَنَاوَلُ بِكُلِّ حَالٍ مِنْ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الضَّمَانِ وَبَعْدَ الضَّمَانِ لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ (وَ) تَعَيَّنَ أَيْضًا الْأَخْذُ (بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْخَلْطَ الرَّافِعَ لِلتَّمْيِيزِ) بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ، وَقِيلَ: أَوْ يَتَعَسَّرُ (اسْتِهْلَاكٌ مُوجِبٌ لِلتَّمَلُّكِ وَالضَّمَانِ) فَإِنَّهُ بِالْإِهْلَاكِ يُتَمَلَّكُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَذَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو اللَّيْثِ فَلَوْ مَاتَ عَامِلٌ مِنْ عُمَّالِ السُّلْطَانِ وَأَوْصَى أَنْ تُعْطَى الْحِنْطَةُ لِلْفُقَرَاءِ إنْ مُخْتَلَطًا بِمَالِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ أَخْذُهُ بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ مَعْلُومًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْفَقِيرُ أَنَّهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ فَحَلَالٌ إلَى أَنْ تَتَبَيَّنَ حُرْمَتُهُ وَعِنْدَهُمَا فِي صُورَةِ الِاخْتِلَاطِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ: يَحِلُّ لِلْفَقِيرِ فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَعْلُومًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُبْقِيَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَفِي حَقَّ الْخُصَمَاءِ كَمَا فِي قَاضِي خَانْ (وَ) الْأَخْذُ أَيْضًا (بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ سَبَبَ الطِّيبِ) هُوَ (وُجُوبُ الضَّمَانِ لَا أَدَاؤُهُ) لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الطِّيبِ هُنَا هُوَ الْحِلُّ عِنْدَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا سَبَقَ، وَفِي رِوَايَةٍ سَبَبُهُ أَدَاءُ الضَّمَانِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَغْصُوبِ بِلَا حِلِّ الِانْتِفَاعِ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِهِ أَوْ إبْرَائِهِ أَوْ تَضْمِينِ الْقَاضِي وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ الْحِلُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَبَتَ بِكَسْبِهِ، وَالْمِلْكُ مُجَوِّزٌ لِلتَّصَرُّفِ بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ؛ وَلِذَا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ صَحَّ، جه الِاسْتِحْسَانِ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِيَّةِ مِنْ الْأَثَرِ (نَعَمْ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ) قِيلَ اسْتِدْرَاكٌ مِمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ مَفْهُومِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ التَّمَتُّعَ مِنْ الشُّبُهَاتِ مُمْتَنِعٌ، وَقَدْ كَانَ فِيمَا ذَكَرْتَ سَعَةٌ فَدَفَعَ هَذَا التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ نَعَمْ إلَى آخِرِهِ (لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ فَالْأَوْلَى وَالْأَحْوَطُ الِاحْتِرَازُ عَنْ بَعْضِ الشُّبُهَاتِ) لَعَلَّهُ مَا يَكُونُ قَوِيًّا، وَإِلَّا فَالْبَعْضُ الْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ احْتِرَازُهُ كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ

الفصل الثالث في أمور مبتدعة باطلة

(مِمَّا فِيهِ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْحُرْمَةِ) كَغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي حُرْمَتِهِ لَكِنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» فَيُجْعَلُ عَلَى هَذَا مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَمَعَ هَذَا الْأَوْلَى مُطْلَقُ الِاجْتِنَابِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ (وَمِمَّنْ لَهُ شُهْرَةٌ تَامَّةٌ بِالظُّلْمِ أَوْ الْغَضَبِ أَوْ السَّرِقَةِ) مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَكَذَا قَوْلُهُ (أَوْ الْخِيَانَةِ أَوْ التَّزْوِيرِ أَوْ نَحْوِهَا) عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ غَالِبُ مَالِ الْمَهْدِيِّ إنْ حَلَالًا لَا بَأْسَ بِقَبُولِ هَدِيَّتِهِ وَأَكْلِ مَالِهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ حَرَامٍ وَإِنْ غَالِبُ مَالِهِ حَرَامًا لَا يَقْبَلُهَا وَلَا يَأْكُلُ لَا إذَا قَالَ: إنَّهُ حَلَالٌ وَرِثَهُ أَوْ اسْتَقْرَضَهُ فَلَوْ كَانَ غَالِبُ مَالِهِ حَلَالًا لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَفِي قَاضِي خَانْ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ حَرَامٍ فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ (مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ مَا فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْهُ بِهِ) أَيْ أَوْلَى مِمَّا احْتَرَزَ مَثَلًا إذَا كَانَ فِي التَّوَرُّعِ مِنْ ذَلِكَ خَوْفُ الرِّيَاءِ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ قَطْعِيٌّ أَوْ خَوْفُ لُحُوقِ الضَّرَرِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَقْرِبَائِهِ أَوْ الْأَذَى لَهُ أَوْ عَدَمُ نُفُوذِ قَوْلِهِ فِي دَفْعِ الْمُنْكَرِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَعَدَمُ الِاحْتِرَازِ أَوْلَى وَأَهَمُّ ذَكَرَهُ الْمُحَشِّي (أَوْ) مِنْ غَيْرِ (فِعْلِ مَا تَرَكَهُ كَذَلِكَ) أَيْ مَا تَرَكَهُ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ بِهِ (فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ الْوَرَعُ عَنْ الشُّبُهَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي زَمَانِنَا) لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَغَلَبَةِ الظُّلْمِ وَتَشَوُّشِ الْأَثْمَانِ وَتَشَوُّشِ الْأَرَاضِي كَمَا فُصِّلَ (فَالْمَرْجُوّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنَّ مَنْ اتَّقَى وَتَوَرَّعَ فِي غَيْرِهِمْ) غَيْرِ الشُّبُهَاتِ الْمَالِيَّةِ بِأَنْ تَطَهَّرَ عَمَّا مَرَّ مِنْ الرَّذَائِلِ وَتَزَيَّنَ بِالْفَضَائِلِ (يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابَ الْمُتَّقِي) مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَأَلَّا نُخَطِّئَ عَامَّةَ السَّلَفِ الَّذِينَ تَوَرَّعُوا فِي الْمَالِيَّةِ مَهْمَا أَمْكَنَ بَلْ الْكُلُّ عَنْ بَعْضٍ (وَالْمُتَوَرِّعِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ) قَالَ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الِاسْتِطَاعَةِ فَإِنَّ كَسْبَ الْعَارِفِ بِأَحْكَامِ التِّجَارَاتِ وَلَا ظُلْمَ لَهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ بِهِمَا لَكِنْ بِوَزْنِهِمَا وَهُوَ فِي غَيْرِ دِيَارِ الْأَرَاضِي الْأَمِيرِيَّةِ أَوْ فِيهَا لَكِنْ يُهَاجِرُ مِنْهَا إلَى دِيَارِ الْعُشْرِيَّةِ أَوْ الْخَرَاجِيَّةِ أَوْ لَمْ يُهَاجِرْ، وَلَكِنَّ الْأَرَاضِيَ مَوْرُوثَةٌ لَهُ عَنْ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ ذَكَرًا عَنْ ذَكَرٍ كَمَا سَبَقَ مُمْكِنٌ بَلْ وَاقِعٌ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ وَأَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ التَّوَرُّعُ عَنْ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّوَرُّعِ عَنْ الْبَعْضِ الَّذِي أَمْكَنَ فِي حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَعْضٍ آخَرَ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ عَدَمِ الْإِمْكَانِ وَالِاسْتِطَاعَةِ مَا هُوَ عَلَى جَعْلِهِ - تَعَالَى - كَرَمًا وَفَضْلًا لَهُمْ لَا الْعَقْلِيُّ أَوْ الِامْتِنَاعُ الْعَادِيُّ؛ إذْ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى شُرُوطِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ لَا الْمُمْكِنَةِ، وَأَنَّ مِثْلَ مَا ذُكِرَ نَادِرٌ وَحُكْمُ الشَّرْعِ عَلَى الْغَالِبِ وَأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ عَلَى الْجِنْسِ لَا عَلَى الْأَفْرَادِ وَمَعَ ذَلِكَ لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَا يَنْفِي أَوْلَوِيَّةَ التَّوَرُّعِ عَنْ الْكُلِّ عَلَى شُرُوطِ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ لِمَنْ الْتَزَمَ ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَوْ اعْتِبَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْمُتَّقِي بِالْمَعْنَى الْمُتَوَسِّطِ، وَلَا يَنْفِي عَنْ الْمُتَّقِي بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ كَمَا عَرَفْت الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ مَتْنًا وَشَرْحًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أُمُورٍ مُبْتَدَعَةٍ بَاطِلَةٍ] (أَكَبَّ) أَصَرَّ (النَّاسُ عَلَيْهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا قُرَبٌ مَقْصُودَةٌ) لِاسْتِيلَاءِ الْجَهَالَةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهَا أَوْ بِظَنِّ مَا لَا يَكُونُ دَلِيلًا (وَهَذِهِ كَثِيرَةٌ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي كَاتِّخَاذِ الضِّيَافَةِ لِلْمَيِّتِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالسَّابِعِ وَالْأَرْبَعِينَ وَتَمَامِ السَّنَةِ وَلِلدُّعَاءِ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَلِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ أَوْ الْإِخْلَاصِ وَالْأَكْلِ فِي الْمَقَابِرِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَسَاجِدِ وَوَضْعِ الْكِيزَانِ فِيهَا لِلشُّرْبِ وَدَعْوَةِ النِّسَاءِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَخُرُوجِهِنَّ إلَى أَكْلِ الطَّعَامِ الْمَذْكُورِ فِي بَيْتِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ وَاجْتِمَاعِهِنَّ فِيهِ وَقِرَاءَةِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَوْلِدَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْجَهْرِ وَاسْتِمَاعِ الْبَوَاقِي وَخُرُوجِهِنَّ لِلتَّعْزِيَةِ وَالتَّهْنِئَةِ وَالْعِيَادَةِ لِغَيْرِ الْمَحْرَمِ وَتَجْصِيصِ الْقُبُورِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا وَالْكِتَابَةِ عَلَى أَحْجَارِهَا وَإِيقَادِ الشُّمُوعِ عَلَيْهَا فِي اللَّيَالِيِ وَتَقْبِيلِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَالسُّجُودِ إلَيْهَا وَالْجَهْرِ بِالذِّكْرِ عِنْدَ غُسْلِ الْجِنَازَةِ وَتَشْيِيعِهَا وَعِنْدَ

نَقْلِ الْعَرُوسِ وَالْخِتَانِ وَعِنْدَ تَشْيِيعِ الْحَاجِّ وَقُدُومِهِمْ وَعِنْدَ قُدُومِ الْمَشَايِخِ وَاللَّحْنِ بِالذِّكْرِ بِأَنْ يَقُولَ لَا إيلَاهَا إيَّلَا اللَّهُ، وَفِي الْأَذَانِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّغَنِّي فِيهِمَا وَالِاسْتِمَاعِ لَهُمَا وَالتَّلَذُّذِ بِهِمَا وَالنِّدَاءِ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ لِأَجْلِ الْمُهِمَّاتِ وَالْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ وَتَطْوِيلِهِ وَالتَّصْلِيَةِ وَالتَّرْضِيَةِ وَالتَّأْمِينِ بِالْجَهْرِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ وَفَرْشِ الْبُسُطِ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَفْعِ بِنَائِهَا وَتَزْيِينِهَا بِالنُّقُوشِ وَغَيْرِهَا وَإِنْفَاقِ مَالٍ عَظِيمٍ لِأَجْلِهَا وَإِعْطَاءِ سُؤَالِهِمَا وَوَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَاسْتِرْبَاحِهَا بِالْعِينَةِ الَّتِي ذَمَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ حَتَّى قَالُوا إيَّاكُمْ وَالْعِينَةَ فَإِنَّهَا لَعِينَةٌ مَذْمُومَةٌ مَكْرُوهَةٌ اخْتَرَعَهَا أَكَلَةُ الرِّبَا وَالِاسْتِئْجَارِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالتَّسْبِيحِ وَإِعْطَاءِ الثَّوَابِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْوَصِيَّةِ بِدَرَاهِمَ لِمَنْ يَقْرَأُ عِنْدَ قَبْرِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَالْوَقْفِ بِهَا لَهُ وَالِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَالْبَرَاءَةِ وَالْقَدْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَتَفْضِيلِهَا عَلَى السُّنَنِ بَلْ الْفَرَائِضِ وَالرُّكُوعِ عِنْدَ السَّلَامِ وَرَدِّهِ لِلْكُبَرَاءِ بِلَا إسْمَاعٍ وَالْإِشَارَةِ بِالرَّأْسِ عِنْدَهُمَا لِلْأَصَاغِرِ بِلَا إسْمَاعٍ أَيْضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى قَوْلُهُ مَذْمُومَةٌ مَكْرُوهَةٌ إلَى آخِرِهِ قَدْ سَبَقَ مَتْنًا وَشَرْحًا لَكِنْ هُنَا فِي هَامِشِ الْوَسِيلَةِ سُئِلَ الْمُصَنِّفُ عَمَّا مَرَّ فِي قَاضِي خَانْ وَكَذَا الْخُلَاصَةُ مِنْ الْعِينَةِ وَهُوَ رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَلَاثَةَ عَشْرَ إلَى أَجَلٍ إلَى آخِرِهِ هَلْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ صَحِيحَةٌ وَلَوْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا هَلْ يَخْلُصُ مِنْ الْكَرَاهَةِ فَأَجَابَ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ وَالْمَسْأَلَةُ اخْتِلَافِيَّةٌ وَعَلَى فَهْمِ هَذَا الْفَقِيرِ أَصِحِّيَّةُ الْكَرَاهَةِ بُيِّنَ فِي آخِرِ إنْقَاذِ الْهَالِكِينَ انْتَهَى (فَلْنَذْكُرْ أَعْظَمَهَا مِنْهَا وَقْفُ الْأَوْقَافِ سِيَّمَا النُّقُودُ) لَعَلَّ الْأَوْلَى وَقْفُ النُّقُودِ سِيَّمَا (لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ) كَانَ مُرَادُهُ هَذَا وَأَنَّ عِبَارَتَهُ ذَلِكَ وَأَمَّا أَصْلُ وَقْفِ النُّقُودِ كَمَا أَشَارَ آنِفًا فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ فَفِي الْخُلَاصَةِ وَعَنْ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ أَصْحَابِ زُفَرَ فِيمَنْ وَقَفَ الدَّرَاهِمَ أَوْ الطَّعَامَ أَوْ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُوزَنُ أَيَجُوزُ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ قِيلَ وَكَيْفَ قَالَ يَدْفَعُ الدَّرَاهِمَ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِفَضْلِهَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ وَمَا يُكَالُ وَيُوزَنُ يُبَاعُ وَيَدْفَعُ ثَمَنَهُ مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً كَالدَّرَاهِمِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ هَذَا الْكُرُّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَقْفٌ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقْرِضَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا بَذْرَ لَهُمْ أَنْ يَزْرَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَدْرَ الْقَرْضِ ثُمَّ يُقْرِضَ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَبَدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا قَالَ فِي الصُّرَّةِ بَعْدَ مَا حَكَى قَوْلَ الْخُلَاصَةِ: سُئِلَ صَاحِبُ الْمِنَحِ عَنْ امْرَأَةٍ قَالَتْ فِي صِحَّتِهَا: إنْ مِتُّ فَعَشَرَةٌ سُلْطَانِيَّةٌ مِنْ مَالِي تَكُونُ وَقْفًا عَلَى مَصَالِحِ بِرِّ كَذَا أَجَابَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِعَدَمِ كَوْنِ الدَّرَاهِمِ مُسَلَّمَةً إلَى الْمُتَوَلِّي، وَهُوَ الشَّرْطُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ثُمَّ قَالَ: وَيَلْزَمُ الْوَقْفُ بِدُونِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمَشَايِخُ بَلْخٍ يُفْتُونَ بِهِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْجَهُ، وَفِي الْمُنْيَةِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَكَذَا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ وَشَرْحِ مُلَّا خُسْرو ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ وَقْفُهَا، وَيَلْزَمَ عَلَى قَوْلِهِ الْمُفْتَى بِهِ فَحِينَئِذٍ تُؤْخَذُ الدَّنَانِيرُ مِنْ تَرِكَتِهَا وَتَجْعَلُ وَقْفًا عَلَى مَا شَرْطُهَا عَلَيْهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا لَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَهُمْ فِيمَا يَصِحُّ وَقْفُهُ مُطْلَقًا، وَالدَّرَاهِمُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ثُمَّ قَالَ: وَسُئِلَ أَبُو السُّعُودِ عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً وَشَرَطَ أَنْ تُسْتَرْبَحَ وَمَا حَصَلَ مِنْ الْمُرَابَحَةِ لِنَفْسِهِ مَادَامَ حَيًّا وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ هَلْ يَصِحُّ مَعَ شَرْطِهِ أَجَابَ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ وَقْفِيَّةِ النُّقُودِ مَرْوِيَّةٌ عَنْ زُفَرَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ صَحِيفَةٍ: وَلَمَّا جَرَى التَّعَامُلُ فِي زَمَانِنَا فِي الْبِلَادِ الرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهَا فِي وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ دَخَلَتْ تَحْتَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْمُفْتَى بِهِ فِي وَقْفِ كُلِّ مَنْقُولٍ فِيهِ تَعَامُلٌ كَمَا لَا يَخْفَى فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى تَخْصِيصِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ وَقْفِهَا لِمَذْهَبِ زُفَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ أَفْتَى مَوْلَانَا صَاحِبُ الْبَحْرِ بِجَوَازِ وَقْفِهَا وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا مِنْ وَقْفِ الْمِنَحِ انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى آخِرِهِ مَنْظُورٌ فِيهِ، وَفِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقُضَاةُ الْيَوْمَ مَأْمُورُونَ بِالْحُكْمِ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِطَرِيقَتَيْنِ أَحَدُهُمَا قَضَاءُ الْقَاضِي بِلُزُومِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ وَالثَّانِي أَنْ يُسَلِّمَ الْوَاقِفُ مَا وَقَفَ إلَى الْمُتَوَلِّي ثُمَّ يُرِيدَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَيُنَازِعَهُ لِعِلَّةِ عَدَمِ

اللُّزُومِ وَيَخْتَصِمَانِ إلَى الْقَاضِي فَيَقْضِي الْقَاضِي بِلُزُومِهِ قَاضِي خَانْ وَعَنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ قَالَ: إذَا كَتَبَ فِي آخِرِ الصَّكِّ وَقَدْ قَضَى بِصِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ وَبِلُزُومِهِ قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ قَاضِي خَانْ انْتَهَى بِلَفْظِهِ، وَفِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى شَرْحِ الْمُنْتَقَى عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْكَتْبُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذُكِرَ هُنَالِكَ قُلْت: وَعَلَيْهِ مَعَ مَا مَرَّ عَنْ الزَّاهِدِيِّ فَلَا يَحْتَاجُ لِرِوَايَةِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ زُفَرَ بِوُقُوفِ الدِّرْهَمِ وَالدَّنَانِيرِ كَمَا ظَنَّ وَقَدْ أَمَرَ الْقُضَاةُ بِالْحُكْمِ بِهِ كَمَا فِي مَعْرُوضَاتِ أَبِي السُّعُودِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - انْتَهَى فَعَلَى مَا ذُكِرَ كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَنْعُ الْمُصَنِّفِ مَصْرُوفًا إلَى الْقَيْدِ يَعْنِي قَوْلُهُ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى آخِرِهِ كَمَا قَالُوا: الْأَصْلُ كَوْنُ الْحُكْمِ فِي الْمُقَيَّدِ دَائِرًا عَلَى الْقَيْدِ مُثْبَتًا أَوْ مَنْفِيًّا لَكِنْ يَخْدِشُهُ مَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ آنِفًا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ صَرْفَ النَّفْيِ هُنَالِكَ أَيْضًا إلَى الْقَيْدِ أَعْنِي الْعِينَةَ فَبَقِيَ أَصْلُ جَوَازِ وَقْفِ الدَّرَاهِمِ بِتِجَارَاتِ غَيْرِ الْعِينَةِ وَلِغَيْرِ نَحْوِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ لَكِنَّ السَّابِقَ إلَى ذَوْقِ الْمُصَنِّفِ هُوَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا (أَوْ لَأَنْ يُصَلِّيَ نَوَافِلَ أَوْ لَأَنْ يُسَبِّحَ أَوْ لَأَنْ يُهَلِّلَ أَوْ لَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعْطِيَ ثَوَابَهَا الرُّوحَ الْوَاقِفَ أَوْ الرُّوحَ مَنْ أَرَادَهُ) كَأَبَوَيْهِ أَوْ رُوحِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَفِي الْإِنْقَاذِ اعْلَمْ أَنَّ الشَّائِعَ فِي زَمَانِنَا وَقْفُ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ لِلْقِرَاءَةِ لِرُوحِهِ أَوْ لِرُوحِ غَيْرِهِ، وَاسْتِغْلَالُهَا بِأَنْ يَدْفَعَ الْقَيِّمُ لِرَجُلٍ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً قَرْضًا ثُمَّ يَبِيعَ ثَوْبًا لَهُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ يَأْمُرَهُ الْمُشْتَرِي بِأَنْ يَهَبَهُ لِرَجُلٍ، وَيَأْمُرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِالْهِبَةِ لِنَفْسِهِ، وَفِيهِ أَرْبَعُ خَبَائِثَ الْأُولَى وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ فِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ إلَّا جَوَازُ الْوَقْفِ دُونَ لُزُومِهِ وَوُجُوبِهِ فَلَا يَلْزَمُ بِحُكْمِ الْقَاضِي بِلُزُومِهِ فَيَلْزَمُ زَكَاتُهَا وَتَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يُفْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَوَبَالُهُ عَلَى الْوَاقِفِ وَالثَّانِيَةُ: الِاسْتِرْبَاحُ بِالْعِينَةِ الَّتِي ذَمَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَرَّحَ بِكَرَاهَتِهَا صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي وَالزَّيْلَعِيُّ وَأَكْمَلُ الدِّينِ وَغَيْرُهُمْ وَالثَّالِثَةُ جَهْلُهُمْ بِالصُّورِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْفَتَاوَى لِجَوَازِهِ وَإِنْ كَانَ بِكَرَاهَةٍ وَذُهُولُهُمْ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا» وَكَوْنُ الرِّبْحِ لِلْقَيِّمِ دُونَ الْوَاقِفِ وَالرَّابِعَةُ:

كَوْنُهُمْ سَبَبًا لِلْأَكْلِ بِالدِّينِ وَابْتِذَالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَوْضَاعِهِمْ، وَالتَّفْصِيلُ فِي الْإِنْقَاذِ كَمَا سَيُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ أَقُولُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ النُّقُولِ وَلْيُوَفَّقْ أَوْ لِيُرَجَّحْ (وَمِنْهَا الْوَصِيَّةُ بِاتِّخَاذِ الطَّعَامِ وَالضِّيَافَةِ يَوْمَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَهُ) قِيلَ عَنْ الْخَانِيَّةِ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الْبَلْخِيّ رَجُلٌ أَوْصَى بِأَنْ يُتَّخَذَ الطَّعَامُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلنَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَذَكَرَ فِي السِّرَاجِيَّةِ: إذَا أَوْصَى بِأَنْ يَتَّخِذُوا طَعَامًا بَعْدَ وَفَاتِهِ وَيُطْعِمُونَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ التَّعْزِيَةَ جَازَ مِنْ الثُّلُثِ انْتَهَى وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ فِي حَمْلِ الطَّعَامِ إلَى أَهْلِ الْمُصِيبَةِ وَالْأَكْلِ عِنْدَهُمْ قَالَ حَمْلُهُ فِي الِابْتِدَاءِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِاشْتِغَالِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بِتَجْهِيزِهِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا حَمْلُ الطَّعَامِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَجْتَمِعُ النَّائِحَاتُ فَإِطْعَامُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ إعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَعَنْ الْقُنْيَةِ: وَفِي زَمَانِنَا تَتَعَارَفُ الْوَصِيَّةُ بِالطَّعَامِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْغَنِيِّ أَوْ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْمُوصِي تَبَعًا لِلْعُرْفِ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَ الْمَصْرِفَ، وَعَنْ الْمِنَحِ عَنْ الْخَانِيَّةِ: وَلَوْ أَوْصَى بِاتِّخَاذِ الطَّعَامِ لِلْمَأْتَمِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَيُطْعَمُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ التَّعْزِيَةَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ، وَيَحِلُّ لِلَّذِينَ يَطُولُ مَقَامُهُمْ عِنْدَهُ، وَلِلَّذِي يَجِيءُ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ، وَلَا يَجُوزُ لِلَّذِي لَا تَطُولُ مَسَافَتُهُ وَلَا مَقَامُهُ وَفِي التتارخانية فِي الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ: إذَا قَالَ الْمُوصِي لِلْوَصِيِّ: أَعْطِ الْوَصِيَّةَ مَنْ شِئْت صَحَّتْ وَيُعْطِيهَا مَنْ شَاءَ مِنْ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ (وَبِإِعْطَاءِ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ لِمَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ لِرُوحِهِ أَوْ يُسَبِّحُ لَهُ أَوْ يُهَلِّلُ) وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَفِي النَّوَازِلِ رَجُلٌ أَوْصَى لِقَارِئِ الْقُرْآنِ يَقْرَأُ عِنْدَ قَبْرِهِ بِشَيْءٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ قِيلَ عَنْ هَوَامِشِ الْمُصَنِّفِ عَنْ الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ لَا مَعْنَى لِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَلَا لِصِلَةِ الْقَارِئِ بِقِرَاءَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ، وَالْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَنْقُلْهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ انْتَهَى (أَوْ بِأَنْ يَبِيتَ عِنْدَ قَبْرِهِ رِجَالٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ) فِي الْجَلَاءِ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ وَسَبَبٌ لِأُمُورٍ مَكْرُوهَةٍ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عِنْدَ الْقَبْرِ (أَوْ بِأَنْ يُبْنَى عَلَى قَبْرِهِ بِنَاءٌ) عَنْ الْخُلَاصَةِ، وَفِي النَّوَازِلِ الْوَصِيَّةُ بِتَطْيِينِ الْقَبْرِ وَأَنْ يُضْرَبَ عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةٌ بَاطِلَةٌ، وَعَنْ السِّرَاجِيَّةِ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ فُلَانٌ، أَوْ يُحْمَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى بَلَدِ كَذَا، وَيُكَفَّنَ فِي ثَوْبِ كَذَا، أَوْ يُطَيَّنَ قَبْرُهُ أَوْ يُضْرَبَ عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةٌ، أَوْ يُدْفَعَ إلَى إنْسَانٍ شَيْءٌ لِيَقْرَأَ عَلَى قَبْرِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ (وَكُلُّ هَذِهِ بِدَعٌ مُنْكَرَاتٌ وَالْوَقْفُ وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَانِ وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُمَا حَرَامٌ لِلْآخِذِ وَهُوَ عَاصٍ بِالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا) ؛ لِأَنَّهُ رِيَاءٌ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدٌ وَلَا شَرْطٌ فَقَرَأَ لِرُوحِ الْمَيِّتِ لِمَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَعْطَاهُ قَرِيبُ الْمَيِّتِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ

خاتمة الكتاب

بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فَجَائِزٌ كَمَا سَبَقَ جِنْسُهُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ إعْطَاءُ الْمَاءِ مُتَعَارَفًا بِالْقِرَاءَةِ لَهُ أَوْ فِي قَبْرِهِ مَثَلًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عُرْفًا كَالْمُشْتَرَطِ شَرْطًا نَعَمْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرُوفِيَّةُ فِي جَانِبِ الصِّلَةِ فَتَأَمَّلْ وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْكِتَابِ هُنَا مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَارِئٍ مُعَيَّنٍ لِقَصْدِ إينَاسِ الْمَيِّتِ بِالْقُرْآنِ أَوْ إسْمَاعِ الْأَحْيَاءِ أَوْ لِإِعَانَةُ مَنْ يَحْصُرُ وَقْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَتَفَرَّغُ وَقْتًا لِلِاكْتِسَابِ صَحِيحٌ فَتَكُونُ غَلَّةُ الْوَقْفِ صِلَةً لَا أُجْرَةً فَإِنْ جَعَلَ مَدَارَ الْجَوَازِ عَدَمَ الْعَقْدِ وَعَدَمَ قَصْدِ أَخْذِ الْمَالِ فَيَكُونُ رَاجِعًا إلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا لَكِنْ يَخْفَى حِينَئِذٍ كَوْنُ أَكْثَرِهِمْ قُيُودَاتِهِ حَشْوًا مُوهِمًا بَلْ مُشْعِرًا بِخِلَافِ مَقْصُودِهِ، وَإِنْ جَعَلَ مَدَارَهُ كَوْنَ الْقَارِئِ مُعَيَّنًا أَوْ نَحْوَ الْإِينَاسِ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْمُحِيطِ قَالَ بَعْضٌ: إذَا كَانَ الْقَارِئُ مُعَيَّنًا يَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ وَصِيَّتُهُ لَهُ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ مُعَيَّنًا، وَفِي الْوَسِيلَةِ قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ: وَيُكْرَهُ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَبَعْدَ الْأُسْبُوعِ. وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَلَا يُبَاحُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الضِّيَافَةَ تُتَّخَذُ عِنْدَ السُّرُورِ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لِلْمُصِيبَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَالْأَطْعِمَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ عِنْدَ السُّرُورِ، وَلَا يُوصِي بِدَفْعِ شَيْءٍ لِمَنْ يَقْرَأُ عِنْدَ قَبْرِهِ الْقُرْآنَ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ قَالَ فِي الْمُحِيطَيْنِ وَالْخُلَاصَةِ وَالِاخْتِيَارِ رَجُلٌ أَوْصَى لِقَارِئِ قُرْآنٍ عِنْدَ قَبْرِهِ بِشَيْءٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ وَنَقَلَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ بِالْأُجْرَةِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ لَا لِلْمَيِّتِ وَلَا لِلْقَارِئِ وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الْوَاقِعَاتِ وَيُمْنَعُ الْقَارِئُ لِلدُّنْيَا وَالْآخِذُ وَالْمُعْطِي آثِمَانِ، وَلَا يُوصِي بِتَجْصِيصِ الْقَبْرِ وَلَا تَطْيِينِهِ وَبِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ صَرَّحَ بِهَا فِي الِاخْتِيَارِ وَغَيْرِهِ وَعَلَّلُوا بِقَوْلِهِمْ لِأَنَّ عِمَارَةَ الْقُبُورِ لِلْإِحْكَامِ مَكْرُوهَةٌ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» قَالَ التوربشتي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ بِالْحِجَارَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَالْأُخْرَى أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِ خِبَاءً أَوْ نَحْوَهُ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ انْتَهَى، وَفِي التتارخانية عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «صَفْقُ الرِّيَاحِ وَقَطْرُ الْأَمْطَارِ عَلَى قَبْرِ الْمُؤْمِنِ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ» انْتَهَى وَلَمَّا اقْتَضَى تَحْقِيقُ ذَلِكَ زِيَادَةَ بَسْطٍ وَتَفْصِيلٍ لِكَثْرَةِ الْأَقْوَالِ وَلَمْ يَتَحَمَّلْ الْمَقَامُ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ أَحَالَ مَحَلَّ ذَلِكَ التَّحْقِيقِ إلَى رَسَائِلَ فَقَالَ (وَقَدْ بَيَّنَّا) أَدِلَّةَ (ذَلِكَ) وَتَحْقِيقَهُ عَلَى صَرِيحِ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَاقْتِضَاءِ قَوَاعِدِهِمْ (فِي بَعْضِ رَسَائِلِنَا) إذْ لِلْمُصَنِّفِ رَسَائِلُ سِوَاهَا كَمَعْدِلِ الصَّلَاةِ (السَّيْفِ الصَّارِمِ وَإِنْقَاذِ الْهَالِكِينَ وَإِيقَاظِ النَّائِمِينَ وَجَلَاءُ الْقُلُوبِ فَعَلَيْك) أَيُّهَا السَّاعِي لِتَحْقِيقِ هَذَا الْمَطْلَبِ الْخَفِيِّ الْمُهِمِّ (بِهَا وَطَالِعْهَا) لِتَخْرُجَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَوْهَامِ وَتَخْلُصَ عَنْ كَدُورَاتِ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ، وَتَدْخُلَ فِي أَنْوَارِ الْأَعْيَانِ، وَتَصِلَ إلَى ذُرْوَةِ التَّحْقِيقِ (حَتَّى تَعْلَمَ حَقِيقَةَ مَقَالِنَا) ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا فِيهَا هُوَ النُّقُولُ الصَّحِيحَةُ وَالْمَذَاهِبُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَالْحُجَجُ الْيَقِينِيَّةُ [خَاتِمَة الْكتاب] ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا التَّصْنِيفُ مِنْ عَظَائِمِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ لِعِظَمِهِ وَعَدَمِ نَظِيرِهِ وَمِثْلُهُ مَظِنَّةُ الْعُجْبِ وَنَحْوِهِ قَالَ شُكْرًا لَهُ تَعَالَى وَنَفْيًا لِدَوَاعِي نَحْوِ الْعَجَبِ تَبَرُّكًا وَاقْتِبَاسًا بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ (وَ) نَحْنُ (نَقُولُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأعراف: 43] وَهُوَ الظَّاهِرُ {الَّذِي} [الأعراف: 43] اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: نَقُولُ أَنْتَ وَلِمَنْ خَصَّ هَذَا الْحَمْدَ بِالْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي أُحِيلَ تَحْقِيقُهَا إلَى تِلْكَ الرَّسَائِلِ كَمَا يَشْهَدُهُ الذَّوْقُ وَكَمَا نَبَّهَ آنِفًا وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّ الْحَمْدَ كَمَا يَلْزَمُ فِي الْبِدَايَةِ يَلْزَمُ فِي النِّهَايَةِ كَمَا تَحَقَّقَ فِي مَحَلِّهِ، وَفِيهِ أَيْضًا حُسْنُ تَنَاسُبِ النِّهَايَةِ إلَى الْبِدَايَةِ {هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] أَوْصَلْنَا إلَى هَذَا التَّصْنِيفِ فَتَأَمَّلْ {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ صَدَرَ مِنْ الْعَبْدِ لَيْسَ إلَّا بِتَوْفِيقِهِ - تَعَالَى. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ لَعَلَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ إنَّمَا هِيَ بِتَوْسِيطِ إرَادَةِ الْعِبَادِ عَلَى نَهْجِ حِكْمَتِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى

إيجَادِهِ فِي الْعِبَادِ بِقُدْرَتِهِ الْمُسْتَقِلَّةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْإِيجَابِيَّةِ الْغَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ بِمَعِيَّةِ إرَادَةِ الْعِبَادِ مَعَ إرَادَتِهِ - تَعَالَى، وَعَدَمِ تَوْسِيطِهِ بَلْ بِإِيجَادِهِ - تَعَالَى - فِي الْعَبْدِ بِلَا مَدْخَلِيَّةِ إرَادَةِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ جَبْرًا مَحْضًا وَقَدْ عَرَفْت التَّفْصِيلَ فِي الْمَبْحَثِ الِاعْتِقَادِيِّ سَابِقًا فَلَا تَتَجَاسَرْ عَلَى الْإِشْكَالِ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ شُكْرُ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِعَبْدٍ مِثْلِهِ كَمَا يَشْكُرُهُ - تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ احْتِيَاجُهُ - تَعَالَى - فِي إيجَادِ فِعْلِ الْعَبْدِ إلَى إرَادَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ نَقْصٌ وَاجِبُ تَنْزِيهِهِ وَأَيْضًا فِيهِ حُسْنُ الْخِتَامِ؛ لِأَنَّ إيذَانَ السَّامِعِ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلنَّفْسِ تَشَوُّفٌ إلَى مَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ تَحْمِيدٍ وَدُعَاءٍ، وَكَذَا اقْتِبَاسُهُ بِقَوْلِهِ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] عَمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْحَقَّةِ وَحَقَائِقِ التَّقْوَى وَفُرُوعَاتِهَا كَالْأَخْلَاقِ وَغَيْرِهَا كَمَا اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُمَّ إلَى جَمِيعِ مَا وَفَّقَهُ - تَعَالَى - مِنْ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ تَصْفِيَةِ الْبَاطِنِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إنْ شَاءَ أَقَامَهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ عَنْهُ» وَقِيلَ: لَا تُبْلِنَا بِبَلَايَا تَزِيغُ فِيهَا قُلُوبُنَا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] إلَى الْحَقِّ كَالتَّصْنِيفِ أَوْ الْعُمُومِ، وَقِيلَ: لَفْظُ إذْ بِمَعْنَى إنْ {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [آل عمران: 8] تُقَرِّبُنَا إلَيْك وَنَفُوزُ بِهَا عِنْدَك أَوْ تَوْفِيقًا لِلثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ أَوْ مَغْفِرَةً لِلذُّنُوبِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] مُبَالِغٌ فِي الْعَطَاءِ بِلَا عِوَضٍ وَلَا غَرَضٍ أَوْ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَحُسْنِ الْخِتَامِ لَا سِيَّمَا بِرُتْبَةِ الشَّهَادَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى إلْحَاقِ الرِّفْقَةِ الْعَلِيَّةِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ - {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]- وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِحُسْنِ الْخِتَامِ، وَهُوَ غَايَةُ أَمَانِي الْعَارِفِينَ وَنِهَايَةُ قُصْوَى مَقَاصِدِ الْعَابِدِينَ، وَأَسْنَى مَرَاصِدِ الْعُبَّادِ الْمُتَوَرِّعِينَ وَأَعْلَى مَعَالِمِ الزَّاهِدِينَ الْمُتَّقِينَ، وَنَتِيجَةُ إنْزَالِ الْكُتُبِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَخُلَاصَةُ ثَمَرَةِ إرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فَلْنَسْأَلْ اللَّهَ - تَعَالَى - مُوجِبَاتِ رَحْمَتِهِ وَلْنَفْدِ أَجْسَامَنَا وَأَرْوَاحَنَا فِي تَحَمُّلِ مِحَنِهَا وَتَجَشُّمِ مَشَاقِّهَا وَتَذَوُّقِ أَتْعَابِهَا وَكُلُفَاتِهَا تَضَرُّعًا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى بِنَحْوِ دُعَاءِ حَبِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ اللَّهُمَّ اُحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ وَاسْتَعْمِلْنَا بِسُنَّتِهِ وَتَوَفَّنَا عَلَى مِلَّتِهِ وَاجْعَلْنَا فِي حِزْبِهِ اللَّهُمَّ وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ كَمَا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَرَهُ وَلَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ حَتَّى تُدْخِلَنَا مُدْخَلَهُ وَتَجْعَلَنَا مِنْ رُفَقَائِهِ - {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]- (اللَّهُمَّ صَلِّ) وَسَلِّمْ (عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ) لِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَم فَمَنْ سِوَاهُ إلَّا تَحْتَ لِوَائِي» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَا قَائِدُ الْمُرْسَلِينَ وَلَا فَخْرَ» الْحَدِيثَيْنِ، وَفِي آخَرَ «أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا» ، وَفِي آخَرَ «آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي وَلَا فَخْرَ» وَالتَّفْصِيلُ فِيمَا سَبَقَ (وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِحْبَابِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خِتَامِ كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ كَمَا فِي بِدَايَتِهِ وَلَعَلَّك سَمِعْت ذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ تَفْصِيلًا قِيلَ مِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيْ الْآلِيَّةِ وَالصَّحْبِيَّةِ كَعَلِيٍّ وَالْحَسَنَيْنِ أَوْ انْفَرَدَ بِالصَّحْبِيَّةِ فَقَطْ كَسَائِرِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَوْ بِالْآلِيَّةِ كَأَشْرَافِ الزَّمَانِ، وَقَدْ عَرَفْت قَبْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ إمَّا مِنْ جَانِبِ الْأَبِ فَقَطْ أَوْ هُوَ، وَمِنْ الْأُمِّ مُطْلَقًا بَعْدَ الِاتِّفَاقِ فِي شَرَفِ الْأَوْلَادِيَّةِ فِي الْمُطْلَقِ، وَأَيْضًا فِي الْجَمْعِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِحْبابِيَّتِه وَأَوْلَوِيَّتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ - {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]-، وَفِيهِ إشَارَةٌ أَيْضًا إلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْآلِ

وَالصَّحْبِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْآلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَوَدَّةَ الْقُرْبَى أَقْدَمُ مِنْ مَوَدَّةِ الصُّحْبَةِ يَعْنِي: اسْتِحْقَاقُ الْقَرَابَةِ أَوْلَى وَأَقْدَمُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الصُّحْبَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى دَرَجَةِ الْفَضْلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] لَعَلَّ وَجْهَ التَّكْرِيرِ أَنَّ الْأَوَّلَ لِلنِّعْمَةِ الْخَاصَّةِ وَهَذَا لِلْعَامَّةِ أَوْ الْأَوَّلُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَهَذَا عَلَى الْكُلِّ، أَوْ الْأَوَّلُ عَلَى كَوْنِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ اخْتِيَارِيًّا، وَهَذَا عَامٌّ أَوْ الْأَوَّلُ اسْتِحْقَاقُهُ الْحَمْدَ مِنْ حَيْثُ صِفَاتُهُ، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ، أَوْ الثَّانِي حِكَايَةُ حَمْدِهِ - تَعَالَى - نَفْسَهُ عَلَى صِفَاتِهِ بِمَعْنَى إكْمَالِ كَمَالِ ضَرَاعَتِهِ كَمَا فَصَّلَ الْمُحَقِّقُ الشَّرِيفُ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمَطَالِعِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الثَّانِي هُوَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ الْأَوَّلِ عَلَى نَهْجِ التَّأْكِيدِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْحَمْدِ لِقُوَّةِ عَظَمَةِ النِّعَمِ الَّتِي مِنْهَا التَّصْنِيفُ الَّذِي هُوَ أَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَأَعْظَمُ الْأَعْمَالِ الدَّائِمَةِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ وَأَقْوَى الصَّدَقَاتِ الْجَارِيَةِ لِجَمْعِهِ جَمِيعَ مُهِمَّاتِ الدِّينِ اعْتِقَادًا وَأَخْلَاقًا وَأَعْمَالًا وَفِي إيثَارِهِ لَفْظَ الْحَمْدِ دُونَ الشُّكْرِ وَالْمَدْحِ عَمَلٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ» وَامْتِثَالٌ وَعَمَلٌ وَاقْتِبَاسٌ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ تَعْلِيمِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ ذِهْنٍ ذَاهِلٍ وَقَلْبٍ غَافِلٍ وَقَائِلٍ لَا فَاعِلٍ وَعَالِمٍ لَا عَامِلٍ وَوَاعِظٍ غَيْرِ مُتَّعِظٍ وَنَاصِحٍ غَيْرِ مُتَنَصِّحٍ وَآمِرٍ بِتَقْوَى غَيْرِ مُتَّقٍ كَطَبِيبٍ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ مَرِيضٌ وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَغْلَطُونَ فِي اسْمِهِ فِي زَعْمِهِمْ بِحُسْنِهِ وَلَيْسَ بِحَسَنٍ فِي نَفْسِهِ لِتَبَحُّرِهِ فِي الْفُرُطَاتِ وَتَعَمُّقِهِ فِي إكْمَالِ التَّقْصِيرَاتِ لِكَوْنِهِ خَدِيمَ الْأَهْوَاءِ الْهُيُولَانِيَّةِ وَانْتِكَاسِهِ فِي مَهَاوِي سِجِّينِ الدُّنْيَاوِيَّةِ لِعَدَمِ نَظَرِ نَفْسِهِ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَعَدَمِ اتِّقَائِهِ فِي الْيَوْمِ بِرَغَدٍ فَأَيْنَ أَمْرُ «جَاهَدُوا فِينَا» حَتَّى يُتَوَصَّلَ إلَى «لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» وَقَدْ كَانَ مَنْ جَاهَدَ إنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 144] وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلٍ بِلَا عَمَلٍ وَدَعْوَى عِلْمٍ مَعَ تَقْصِيرٍ فِيهِ وَخَلَلٍ، وَمِنْ خَاطِرٍ دَعَانَا إلَى التَّصْنِيعِ فِي كِتَابٍ سَطَّرْنَاهُ أَوْ كَلَامٍ نَظَّمْنَاهُ أَوْ عِلْمٍ أَفَدْنَاهُ، وَمِنْ كُلِّ مَا زَلَّ بِهِ الْقَدَمُ أَوْ طَغَى بِهِ الْقَلَمُ وَنَسْأَلُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ وِزْرًا وَوَبَالًا وَيَجْعَلَهُ ذَرِيعَةَ عَفْوٍ وَغُفْرَانٍ وَسَلَامَةَ بَالٍ وَحَاشَا أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ عَدَّ نَفْسِي مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ بَلْ إنْجَازَ وَعْدٍ سَبَقَ فِي حُضُورِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ خِدْمَةً وَقُرْبَةً لِرَحْمَةِ الْعَالَمِينَ عَسَى أَنْ يَحْشُرَنِي اللَّهُ فِي زُمْرَتِهِ مَعَ الصَّالِحِينَ وَقَدْ اتَّفَقَ مَسْكِيَّةُ الْخِتَامِ قُبَيْلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ اللَّيَالِي الْعِظَامِ وَظَهَرَ أَثَرُ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ بِإِشَارَاتٍ قُدْسِيَّةٍ وَتَلْوِيحَاتٍ أُنْسِيَّةٍ لَائِحَةٍ بِالْقَبُولِ وَالْإِحْسَانِ لِكُلِّ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ فَحَمْدًا ثُمَّ حَمْدًا ثُمَّ حَمْدًا لَهُ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَصَلَاةً وَسَلَامًا عَلَى أَفْضَلِ مَنْ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَعَلَى آلِ كُلٍّ أَجْمَعِينَ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنْ هِجْرَةِ مَنْ لَهُ الْعِزُّ وَالشَّرَفُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آمِينَ

§1/1