بذل النصائح الشرعية فيما على السلطان وولاة الأمور وسائر الرعية

أبو حامد المقدسي

[مقدمة المصنف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (رب يسر واختم بخير بمنك وكرمك). الحمد لله المنزه عن كل نقص يعتري البشر الفرد الكامل بصفاته القديمة، فلا تقبل الغيرة، الملك العالم بذنوب عباده ما بطن منها وظهر، العظيم الذي لا يقع في الوجود شيء إلا بقضاء منه وقدر. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة مخلص يرددها في كل ورد وصدر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه - ما أفل نجم وظهر [وبعد]. فهذا كتاب خطر لي في [شعبان سنة 868 هـ] (هذه الأيام) جمعه، تحف نفيس، عميم نفعه، كثير الفوائد والعلوم. ينبغي لكل طالب الاعتناء به، ومطالعته، وفهمه لينتفع به، وينفع غيره من ذوي الخصوص، والعموم. جمعته من كتب نفيسة عزيزة، ولخصته بعبارة جليلة وجيزة، أذكر فيه - إن شاء الله تعالى - ماذا يجب على السلطان، وولاة الأمور من الأمراء، وغيرهم والعلماء، والقضاة، وأرباب الوظائف الدينية، والدنيوية، وأصحاب الحرب والصناعات على اختلاف مراتبهم؛ لينتفع به - إن شاء الله - كل واقف عليه.

وامتثلت في ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - مخاطبا لأصحابه ثلاث مرات: " الدين النصيحة - قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم". فجعلت هذا الحديث الشريف أصلا لهذا التصنيف المنيف، فاقتديت به، ورتبته عليه، وسميته " بذل النصائح الشرعية فيما على السلطان، وولاة الأمور، وسائر الرعية"، وحصرته في مقدمة، وخمسة أبواب، وخاتمة. المقدمة في الكلام على هذا الحديث الشريف. الباب الأول في السلطان وأهل دولته على اختلاف مراتبهم ووظائفهم. ولا ألتزم ترتيبهم بشرف الوظائف؛ لأنه مشهور عند أكثر الناس، وقد لا ينضبط أيضا، وكذا في الباب بعده. الباب الثاني " في القضاة والعلماء، وتوابعهم على اختلاف مراتبهم". الباب الثالث في الكلام على حقيقة الحسبة، وما على المحتسب بخصوصه، وما شارك فيه غيره من الحكام. الباب الرابع في الكلام على أصحاب الحرف، والصناعات، والتجار، ونحوهم على اختلاف مراتبهم.

الباب الخامس في الحسبة على كل واحد من أهل كل حرفة، وصناعة ممن تقدم ذكرهم في الباب قبله، وبيان غشهم فيها، وتدليسهم مفصلا. وهذه الأبواب الثلاثة لنفاستها تستحق أن تفرد بالتصنيف وإنما أطلت فيها، لأن موضوع الحسبة على الخصوص هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو بذلك أمس من غيره كما سيأتي بيانه مفصلا. والخاتمة في ذكر درر ملتقطة، وآداب متفرقة. وختامها سؤا الله المغفرة، وحسن الخاتمة. المقدمة في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال": لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم". أقول: الكلام على هذا الحديث الشريف من وجوه: الأول: أنه رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو من أفراده عن

ترجمة تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه -

(أبي رقية) تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - وهو تميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جذيمة بن ذراع بن عدي بن عبد الدار. ويتصل نسبه إلى يعرب بن قحطان، ويكنى أبا رقية بابنة له لم يولد له غيرها، ينسب إلى جده الدار، ويقال فيه أيضا: الديري، نسبة إلى دير كان يتعبد فيه، وهو أخو أبي هند الداري، واسمه: بر بن عبد الله والعقب له، وك ان أخاه لأمه. وكان تميم بالمدينة، ثم انتقل إلى الشام، ونزل بيت المقدس بعد قتل عثمان بن عفان. وكان إسلامه سنة تسع مع الهجرة روى له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر حديثا، روي عنه مسلم منها هذا الحديث الواحد، وهو من رواية عطاء بن يزيد الليثي عنه.

وروى عنه ابن عباس وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وعبد الله موهب، وقبيصة، وغيرهم وروى له الجماعة إلا البخاري.

وقد روي عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث الجساسة المشهور المخرج في صحيح مسلم من طريق الحسين بن ذكوان وغيره. وهذه منقبة شريفة لتميم، لا يشاركه فهيا أحد، معدودة من رواية الأكابر عن الأصاغر للتشريع لأمته من بعده، وفيها دليل على قبول خبر الواحد. ولما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد الداريين وأسلم قال: يا رسول الله؟ لنا جيرة من الروم، لهم قريتان يقال لأحدهما " حبري"، والأخري بيت " عينون" فإن فتح الله عليك الشام فهما لي، قال: فهما لك. فلما قام أبو

بكر رضي الله عنه أعطاه ذلك، وكتب له به كتابًا. وأقام وفد الداريين حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى لهم بجاد مائة وسق. وهو أول من قص في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بإذن عمر - رضي الله عنه -، وأول من أسرج المساجد، وكان كثير التهجد باليل. ووجد على نصيبة قبره أنه مات سنة أربعين من الهجرة - رضي الله عنه -. قلت: وقد أفرد الكلام على خبر السيد تميم هذا، وأحكامه بمصنف نفيس شيخنا حافظ الزمان شهاب الدين أحمد بن حجر - تغمده الله برحمته - وسماه " الجواب الجليل عن حكم بلد الخليل"، وقد قرأته عليه ولله الحمد، وأجازني به، ولمن سمع في السابع والعشرين من شعبان سنة تسع وأربعين، ومما حكاه فيه عن القاضي أبي بكر ابن العربي في " شرح

إقطاع تميم الداري

الموطأ"، أنه كان عند أولاد تميم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم - بالإقطاع المذكور في قطعة أديم صورته: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هذا ما أقطع محمدٌ رسول الله تميما الداري أقطعه قريتي [حبرون]، وبيت عينون، بلد في الخليل (عليه السلام بجميع ما فيهن نطية بت ونفدت، وسلمت ذلك لهم، ولأعقابهم من بعدهم أبد الآبدين، فمن آذاهم فيها آذاه الله. شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي

ابن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب) فبقي ذلك في يده، ويد

شرح حديث الدين النصيحة

أهله من بعده إلى أن غلب الفرنج على القدس، الخليل سنة اثنتين تسعين وأربعمائة. قلت: والكتاب المذكور رأيته، وتبركت به مرارا وهو موجود مستمر في يد الداريين إلى وقتنا هذا، ولا يعارضهم فيه أحد من غيرهم ببركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - لكن رأيت فيه ألفاظا لم أجدها فيما وقفت عليه من ترجمته فالله أعلم بها. الوجه الثاني: قال بعض العلماء، وهذا الحديث عليه مدار الإسلامن وقيل إنه أحد أرباع الإسلام، وصحح بعضهم الأول. والدين يطلق على ثمان معان: أحدها: الملة وهي: دين الإسلام، وهي المراد هنا، والعادة، والجزاء، والطاعة، وسيرة الملك، والسياسة، والحال، والداء. والنصيحة: اسم من النصح، والنصاحة يقال: نصحته، ونصحت له، وهي أفصح. قال تعالى: {وأنصح لكم}. والنصيح الناصح، والنصح بفتح النون مصدر نصحت الثوب، خطته والناصح: الخياط، ونصح الرجل ثوبه إذا خاطه، شبه

فعل الناصح فيما يتحراره للمنصوح له بسد الخياط خلل الثوب وإصلاحه، والنصاح السلك يخاط به، والمنصحة الإبرة. قال الجوهري ومنه التوبة النصوح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من اغتاب خرق ومن استغفر رفأ". والنصيحة: كلمة جامعة معناها: حيازة الخير للمنصوح له، ويقال: إنها من وجيز الأسماء، ومختصر الكلام، وأنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفي العبارة غير معنى هذه الكلمة، وأنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفي العبارة غير معنى هذه الكلمة، كما قالوا في " الفلاح ": ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الآخرة، والدنيا منها. ومعنى الحديث: عماد الدين وقوامه النصيحة لقوله عليه الصلاة والسلام: " الحج عرفة "، أي" عماده، وقوامه وهو فيها من الحصر المجازي

دون الحقيقي، كأنه لما أريد به المبالغة في النصيحة جعله كل الدين، وإن كان الدين مشتملا على خصال كثيرة غير النصيحة بخلاف الحقيقي نحو الله ربنا، ومحمد نبينا، وعالم البلد زيد إذا لم يكن فيها عالم غيره، وتارة يكون الحصر أيضا مطلقا وتارة مخصوصا: فالأول: نحو، {إنما الله إله واحد}. والثاني: نحو قوله تعالى: {إنما أنت نذيرٌ}: أي بالنسبة إلى من لا يؤمن وإلا فصفاته عليه الصلاة والسلام لا تحصر من البشارة، والشجاعة، والكرم، وغيرها. الثالث: قولهم: " قلنا لمن": يتلوح منه أن العالم لا يلزمه استقصاء المبالغة في البيان لما يلقيه من الأحكام، وغيرها، لكن إذا سمعها المتعلم، فإن فهم استغنى عن المراجعة، وإلا سأل، فكان ذلك أوقع في نفسه، مما إذا هجم عليه البيان من أول وهلة. الرابع: قوله عليه السلام: " لله". قال الخطابي وغيره: النصيحة لله: منها ما هو منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته،

ووصفه بصفات الكمال، والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه عن جميع أنواع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمه، وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة، والحث عليها، والتلطف بالناس، ومن أمكن منهم علما. قال: وحقيقة هذه الأوصاف راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، والله تعالى غني عن نصح الناصحين. الخامس: قوله - عليه السلام -: " ولكتابه" قال العلماء رحمهم الله تعال: أما النصيحة له؛ فالإيمان بأنه كتاب الله تعالى، وتنزيله لا يشبه شيئا من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ثم تعظيمه، وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأول المحرفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتناء بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه، ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه إلى ما ذكرنا من نصيحته. السادس: قوله عليه السلام " ولرسوله " صلى الله عليه وسلم: أما النصيحة له

فبتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره، ونهيه، ونصرته حيا وميتا، ومعاداة من عاده، وموالاة من والاه، وإعظام حقه، وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته، ونشر سنته، ونفي التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها والدعاء إليها، والتلطف في تعليمها، (وإعظام حقها) وإجلالها والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته، وأصحابهن ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك. السابع: قوله عليه الصلاة والسلام: " ولأئمة المسلمين ". فالنصيحة لهم بمعاونتهم على الحق، وطاعتهم وأمرهم به ونهيهم وتذكيرهم (برفق ولطف)، وإعلامهم بما غفلوا عنه [ولم] يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم. قال الخطابي: ومنها الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم. قلت: لكن في مذهب الشافعي ومالك – رضي الله تعالى عنهما – تفصيلا في ذلك، (وهو أنه) إنما يجب دفع الزكوات إليهم إذا كانوا ذوي عدل، وإلا صرفها

أربابها لمستحقيها إذا أمكنهم ذلك من غير أذى يلحقهم. قال أصحابنا: ودفعها إلى السلطان إذا كان عادلاً أفضل فإن كان جائرا فيفرقها بنفسه، أو بوكيله أفضل سواء المال الباطن والظاهر، وفي شرح " المهذب": الأصح دفع زكاة المال الظاهر للإمام، وإن كان جائرا، ومحله ما إذا لم يطلبها السلطان وإلا فيجب الدفع إليه قطعا. ثم قال الخطابي: ومنها ترك الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم وأن يدعي لهم بالصلاح قال، وعلى هذا كله المشهور أن المراد بهم أئمة المسلمين الخلفاء، وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين، وإن من نصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم. الثامن: قوله عليه السلام: " وعامتهم ": أي عامة المسلمين، وهم من عدا ولاة

الأمور فمن نصحيتهم إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، (وإعانتهم على ذلك) بالقول، والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم [وتخولهم] بالموعظة الحسنة، وترك غيبتهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، من الخير ويكره لهم، ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم، وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم، بالفعل، والقول، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه، و [تنسيط] هممهم إلى الطاعات. ولقد كان في السلف الصالح – رضي الله عنه – من تبلغ به النصيحة للمسلمين إلى الإضرار في نفسه ودنياه. واعلم أن مما يتأكد به العناية لكل مسلم أن يعلم أنه يجب على الإنسان النصيحة والوعظ والأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر لكل صغير وكبير إذا لم يغلب على ظنه ترتب مفسدة على وعظه لقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، الآية. وأما الأحاديث بنحو ذلك فكثيرة جدًا. وأما ما يفعله كثير من أهل زماننا من إهمال ذلك في حق كبار المراتب، وتوهمهم أن ذلك من الحياء فخطأ صريح،

وجهل قبيح، فليس هو بحياء بل خور ومهانة وضعف في الدين، وعجز قاله النووي وغيره. انتهى. قلت: والدليل على ما ذكرته ما في صحيح البخاري عن جابر – رضي الله عنه -، قال: " بايعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم". (وفي رواية عنه فيه قلت: " أبايعك على الإسلام، فشرط علي: والنصح لكل مسلم)، فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم. فهذا الحديث بعمومه متناول لكل صغير، وكبير من المسلمين، فلذلك جمعت، هذا التصنيف المبارك إن شاء الله تعالى وأنا أسأل الله من فضله أن يوفقني للإخلاص في القول، والعمل، وأن يجعلني من أهل النصيحة لعباده إخواني من

المسلمين، وما جمعته فيه خالصا لوجهه الكريم، وينفعني به، ومطالعيه، وسامعيه، وسائر المسلمين! قال ابن بطال – رحمه الله -: وهذا الحديث يدل على أن النصيحة تسمى دينا وإسلاما، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول ثم النصيحة فرض كفاية يجزي فيه من قام به من المسلمين ويسقط عن الباقين، وهي لازمة على قدر الحاجة إذا علم النصح أنه يقبل نصحه، ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي أذى فهو في سعة والله أعلم. قال العلماء: وينبغي للسلطان وكل ولي أمر " أن يعلم أن صلاح العباد، والبلاد بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهما من جملة النصيحة لله، ولعباده فإن صلاح المعاش، والمعاد في طاعة الله تعالى، ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بهما، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}. وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر}. وقال تعالى حاكيا عن بني إسرائيل: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس

ما كانوا يفعلون}. وقال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون}. فأخبر تعالى أن العذاب لما نزل نجي الذين ينهون عن السيئات، وأخذ الظالمين بالعذاب الشديد. وفي الحديث الثابت أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – خطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إن الناس إذا راوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه". وفي حديث آخر " إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا ظهرت، فلم تنكر ضرت العامة، والخاصة". نسأل الله السلامة والعفو والتوفيق لما يحب ويرضى.

الباب الأول في السلطان وأهل دولته على اختلاف مراتبهم ووظائفهم

الباب الأول في السلطان وأهل دولته على اختلاف مراتبهم ووظائفهم أقول: قد أكثر الفقهاء في باب الإمامة من الكلام في أحكامه، وأفرد كثير من العلماء الأحكام السلطانية بالتصنيف، وكذا آداب الملوك وسياسيتها أكثر من أن تحصر، ولكن أشير إلى مهمات (وأصول من ذلك). ونفائس لا يستغني عن معرفتها، باختصار إن شاء الله تعالى. فأقول: قال الإمام العلامة أبو الحسن الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية: اعلم أن الإمامة العظمى موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وإن عقدها لمن يقوم بها واجب بالإجماع. وقال والذي يلزم سلطان الأمة من أمورها سبعة أشياء: أحدها: حفظ الدين من تبديل فيه، والحث على العمل به من غير إهمال له.

الأول: السلطان

الثانية: حراسة البيضة، والذب عن الأمة من عدو في دين، أو باغي نفس أو مال. الثالثة: عامرة البلدان باعتماد مصالحها، وتهذيب [سبلها] ومسالكها. الرابعة: تقدير ما يتولاه من الأموال بسبب الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها. الخامسة: معاناة المظالم والأحكام بالتسوية بين أهلها، واعتماد النصفة في فصلها. والسادسة: إقامة الحود على مستحقيها من غير تجاوز فيها، ولا تقصير عنها. والسابعة: اختيار خلفائه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفاءة فيها، والأمانة عليها، فإذا فعل بالأمة ما ذكرناه من هذه الأشياء السبعة كان مؤديا لحق الله فيهم مستوجبا لطاعته، وسأذكر تفصيلها بأبسط من ذلك إن شاء الله تعالى في أمثلة: الأول: " السلطان نفسه ينبغي أن (يعرف أن) ولاية أمور الناس - وأعني بها

الإمامة العظمى – من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس يجمعهم ويرجعون إليه عند اختلافهم وحاجاتهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم"، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم"، ففي تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيه على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى، أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".

وقد روي " إذا مررتم ببلدة ليس فيها سلطان، فلا تدخلوها فإنما السلطان ظل الله في الأرض ورمحه"، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح للناس من ليلة واحدة بلا سلطان. وروى أنه عليه السلام قال: " عدل ساعة في الحكومة خير من عبادة ستين سنة". قال العلماء: خلق الله تعالى الدنيا زادا للمعاد في الأخرى، ليتناول الناس منها ما يؤديهم إلى الدار الآخرة فلو تناولوها بالعدل انقطعت الخصومات ولكنهم

تناولوها بالجور، ومتابعة الشهوات، ومحبة الاستئثار؛ فتولدت بينهم الخصومات، فاحتاجوا إلى سلطان يسوسهم، ويضبط أمورهم، ولولا ردع السلطان، لغلب قويهم ضعيفهم، ولم يكن دافع عن قتل، ولا وازع عن غصب، وقالوا: عمارة الدنيا بأربع: الدين، والملك، والناس، والمال. ومثلوا ذلك بالفسطاط وهو الدين وعمودها، وهو السلطان، وأطنابها، وهم الناس، وأوتادها وهي المال. " ولا يتم إقامة سائر ما ما أوجبه الله على عباده من الجهاد، والصلوات، والزكوات، وإقامة الحج، والجمع، [والأعياد]، والجماعات، والعدل، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، والتعزيرات إلا بالقوة، والسلطان". وقد كان جماعة من السلف الصالح كفضيل بن عياض، والإمام أحمد بن

حنبل وغيرهما يقولون: لو كانت لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان. وقد أوجب الله سبحانه (على العلماء بذل النصيحة) لأئمة المسلمين كما أوجب طاعتهم على سائر الرعايا. قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يرضي لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"، فمما يجب على السلطان وولاة الأمور أداء الأمانة إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، لقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" .. الآية، وفي أداء الأمانة نوعان: الأول الولايات، " فيجب على السلطان أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل مما فيه صلاح المسلمين، ونفع لهم لقوله صلى

الله عليه وسلم: " من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولي رجلا وهو يجد من هو أصلح منه للمسلمين، فقد خان الله ورسوله". " فعليه أن يبحث عن المستحقين للولايات من نوابه في سائر الأمصار التي في عمله من القضاة، والأمراء، والأجناد، ومقدمي العساكر، والوزراء، والكتاب، والشادين والسعادة على الخراج والصدقات، وأئمة الصلاة والمؤذنين، والخطباء، والمقرئين، وأمراء الحاج، وخزان الأموال، وحراس الحصون والبوابين وغيرهم. وعلى كل من ولي شيئا من أعمال المسلمين من هؤلاء، وغيرهم أن يستعمل فيما

تحت يديه في كل موضع أصلح من يقدر عليه"؛ فتولية الأتقياء الأبرار خير (للأمة) من تولية الظلمة الفجار، وأسلم في الآخرة من عذاب النار. قال الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}، فاتباع الهوى مفسد للدين والدنيا. " وينبغي للسلطان أن لا يقدم في الولاية من هذه الأمور من سبق في الطلب لها، بل ينبغي أن يكون سؤاله للولاية، وسبقه لطلبها سببًا لمنعه، (وحرمانه منها) فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم دخلوا عليه وسألوه الولاية: " إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه". وقال لعبد الرحمن بن سمرة: " يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيت عن غير مسألة أعنت عليها". وقال صلى الله عليه وسلم: " من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه، ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكا يسدده".

وينبغي أن لا يعول في طلب ولاية أو شكوى غريم على من سبق كما يفعل كثير من الترك ذلك فيمن سبق بالشكوى إليهم، وإن كان ظالما فيقولون هو مظلوم ويجزمون بأن خصمه ظالم عليه لسبقه له فطالما اشتكى الرجل، وتظلم وهو ظالم. بل ينبغي لمن له الأمر أن يتأني، ويتبصر، ويفحص حتى يظهر له الأحق والمظلوم؛ ليوليه أو يزيل ظلامته، وأفحش من ذلك من يقدم في الولاية من بذل له مالاً سحتا حرامًا في تولية وظيفة، أو منصب ولاية على المسلمين، فإن من يوليه، أو يساعد في ولايته آثم مأزور من وجهين: أحدهما: عدوله عن الأحق الأصلح لتلك الولاية إلى هذا الجاهل الظالم. ثانيهما: قبوله منه هذا السحت الحرام، فإنه يأخذ أضعافه من ضعفة المسلمين، ومساكينهم، فيكون ذلك في صحيفة من ولاه، لأنه السبب، وخصوصا إن كان يعلم منه ذلك، فالبلاء أشد وأعظم. وإذا قال السلطان لعماله، هاتوا فقد قال لهم: خذوا نسأل الله السلامة، " فإن عدل السلطان عن الأحق إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو صهارة، أو صداقة، أو موافقة في بلد، أو مذهب أو طريقة أو جنس كالعربية، والفارسية، والتركية،

والرومية. أو لرشوة يأخذها منه من مال، أو مفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لبغض منه للأحق أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}. " فإن تعذر الأصلح لتلك الولاية، فيجتهد في اختيار الأحق الأمثل، فالأمثل في كل منصب بحسبه، فإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب، وصار من أئمة العدل - إن شاء الله تعالى -. وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره، فلا حرج عليه (إذا لم يمكنه) إلا ذلك. قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال عليه السلام: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". ثم إنه إذا خالف هواه، وشهوة نفسه، وأدى الأمانة وولي المناصب أهلها أثابه الله تعالى، وحفظه في نفسه، وماله، وولده من بعده، ونصره على أعدائه، وسدده. وإن هو أطاع هواه وحظ نفسه عاقبه الله تعالى وأذهب ملكه،

ونصر عليه أعداءه، وأذل أهله وولده من بعده، " فقد حكي أهل التاريخ: أن السيد عمر بن عبد العزيز دخل عليه بنوه في مرض موته، وكانوا بضعة عشر ذكرا ليس فيهم بالغ وكان قد قيل له: يا أمير المؤمنين أفغرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم، فقال: ادخلوهم علي، فلما رآهم، ذرفت عيناه بالدموع ثم قال: يا بني، والله ما منعتكم حقا هو لكم، ولم أكن آخذ أموال المسلمين فأدفعها إليكم، فإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولي الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني فانصرفوا ولم يعطهم شيئا. قال الراوي: فلقد رأيت بعضهم حمل على مائة فرس في سبيل الله تعالى يعني: دفعها لمن يغزو عليها. وكان ما حصل لكل واحد من أولاده من

تركه أبيهم رضي الله عنه. يقال: أنه أقل من عشرين درهما، هذا وقد كان عمر خليفة المسلمين، من أقصي المشرق ببلاد الترك إلى أقصى المغرب بالأندلس وجزيرة قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس وغيرها إلى أقصى اليمن. قال: ولقد حضرت موت بعض الخلفاء بعده وقد اقتسم بنوه تركته، فحصل لكل واحد منهم ستمائة ألف دينار، ثم رأيت بعضهم يتكفف الناس بعد ذلك – أي يسألهم بكفه" فليتأمل العاقل هذه الحكاية، فإن فيها عظة وعبرة لمن يعتبر، نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى. وقد دل الكتاب العزيز والسنة الشريفة على أن الولاية أمانة يجب أداؤها لأهلها، قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا}.

" فهذان الأمران جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة". " فقد ذكر العلماء أنها نزلت في ولاة الأمور، أن عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل"، وأن سبب نزولها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – " لما فتح مكة، وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة، طلبها منه عمه العباس، ليجمع بين سقاية الحاج، وسدانة البيت أي (خدمته) وهم النبي - صلى الله عليه وسلم – بدفعها له؛ فنزلت فأمر – عليا – رضي الله عنه – بدفع المفاتيح إلى أصحابها بني شيبة". وقال - صلى الله عليه وسلم – لأبي ذر في الإمارة: إنها أمانة وإنها

يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن إضاعة الأمانة من علامات قرب الساعة، وأن من إضاعتها: ولاية المناصب لغير أهلها. ففي البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة، قيل يا رسول الله: وما إضاعتها؟ قال": إذا وسد الأمر إلى غير أهلها فانتظر الساعة"، فعلى كل من له ولاية على شيء، ولو وصي يتيم، وناظر وقف أن يتصرف له بالأحظ الأصلح، لأن الولي راع، وكل راعٍ مسئول عن رعيته. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه، وهو مسئول عن رعيته، والعبد راع في مال سيده، وهو مسئول عن رعيته"، وقال – صلى الله عليه وسلم-: " من يسترعيه الله رعية، يموت بوم بموت، وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة". وفي رواية: " من ولي أمرًا من أمور أمتى فلم ينصح لهم، ولم يجتهد؛ فالجنة

عليه حرام". ولما دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان قال له: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل السلام عليك أيها الأمير، فأعادها ثلاثا، فقال معاوية: دعوا أبا مسلم، فإنه أعلم بما يقول: فقال أبو مسلم: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، (فإن أنت) هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها، وفاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تفعل ذلك، عاقبك سيدها ولم يوف أجرك. واعلم أن الله – جل ثناؤه – وتقدست أسماؤه – افترض على كافة الخلق الطاعة،

والإذعان لأئمة الحق كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. افتتحها سبحانه بإيجاب طاعته على الخلق، وثني بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم -، وثلث بطاعة أولى الأمر، وأراد بهم الأئمة الراشدين الذين إليهم أمور هذه الأمة، وأحكامها ولهم التصرف فيها بنشرها وطيها وإثباتها، وإحكامها، هكذا قال أنس بن مالك حين سئل عن تفسير قوله تعالى: {وأولي الأمر منكم}، فقال: هم الأئمة الراشدون فمنهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ومن يلي أمور هذه الأمة إلى قيام الساعة. هكذا سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. قال العلماء فيها: إنها نزلت في الرعية من الأمراء، والجيوش، وغيرهم،

فعليهم أن يطيعوا أولياء الأمر الفاعلين لما ذكرنا في قسمهم، وحكمهم، ومغازيهم، وغيرها إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء من ذلك ردوه إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن لم تفعل ولاة الأمور ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله تعالى ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله، وأعينوا على البر والتقوى، ولا يعاونون على الإثم، والعدوان. وعلى الرعية أيضا ألا يطلبوا من ولاة الأمور ما لا يستحقونه، وليس لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه إليه من الحقوق عليهم التي قدمنا ذكرها، وإن كان ظالما كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم – لما ذكر له جور الولاة، فقال: " أدوا إليهم الذي لهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم". وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا كانت بنو إسرائيل تسوسهم [الأنبياء]، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا [نبي] بعدي، وستكون خلفاء فتكثر قالوا بما تأمرنا قال: فواببيعة الأول فالأول، ثم اعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما

استرعاهم". وقال عبد الله بن عمر: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائرا فعليه الوزر، وعليك الصبر. وينبغي على السلطان أن يتبصر في الولايات على المسلمين في جميع جهاته، وأن يستعمل الرجل للمصلحة الراجحة للناس، لأنهم كانوا في زمن الصحابة - رضي الله عنهم – يستعملون الرجل ومعه من هو أفضل منه في العلم والإيمان طلبا للمصلحة. فيتعرف الأصلح في كل منصب بحسبه، فإن " الولاية لها ركنان: القوة، والأمانة. قال تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}. وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام: {إنك اليوم لدينا مكين أمين}.

وقال تعالى في صفة جبريل عليه السلام: {إنه لقول رسول كريم ذي قوي عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين}. أما ": القوة ففي كل ولاية بحسبها، فالقوى في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وهي الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، والقدرة على أنواع القتال: من رمي، وضرب، وركوب، وكر، وفر ونحو ذلك". " والقوة في الحكم بين الناس، ترجع إلى العلم والعدل الذي دل عليها الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، ولا يكون إلا بالعلم. وأما الأمانة فترجع إلى خشية الله تعالى، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله تعالى على كل من حكم على الناس في قوله: {فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}. " ولكن ينبغي للسلطان، ولكل ذي ولاية إذا كان خلقه يميل إلى اللين أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة، وبالعكس، ليعتدل الأمر، وتتم السياسة، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يؤثر استنابة خالد بن الوليد لشدته، وكان عمر رضي الله عنه يؤثر عزل خالد، واستنابة [أبي] عبيدة

ابن الجراح للينه، فكان ذلك الأصلح لكل منهما ليكون أمره معتدلا، ويكون به من خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم –". قال ابن تيمية من أئمة الحنابلة في كتابه السياسة الشرعية: " فإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، (لحفظ الأموال) قدم الأمين، وأما استخراجها وحفظها، فلابد فيه معها من قوة فيولي عليها شاد قوي يستخرج بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته، وكذلك في إمارة الحرب، إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد، جمع بين عدد" " ويقدم في ولاية القضاء الأورع الأعلم، الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع قدم – فيما قد يظهر حكمه، ويخاف فيه الهوى – الأورع، وفيما يدق حكمه، ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم ففي الحديث مرفوعًا: " إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول

الشهوات" ويقدمات على الأكفأ، إن كان القاضي مؤيدًا بتأييد تام، من جهة وإلى الحرب، أو العامة. ويقدم الأكفأ، إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة" " والكفاءة إما بقهر ورهبة، وإما بإحسان ورغبة. وفي الحقيقة لابد منها" " فأي صفة من هذه الصفات [نقصت] ظهر الخلل"، " وسئل بعض العلماء: إذا لم يوجد من يولي القضاء إلا فاسق عالم، أو جاهل دين، فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد، قدم الدين، وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات، قدم العالم. وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين، فإن الأئمة متفقون، على أنه لابد في المتولي للقضاء من أن يكون عدلا أهلا للشهادة، واختلفوا في اشتراط العلم: هل (يجب أن) يكون مجهتدا، أو يجوز أن يكون مقلدًا أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر؟ ثلاثة أقوال. ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة، إذا كان أصلح الموجودين، يجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال، حتى يكمل في الناس، ما لابد لهم منه، من أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان

في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه، وكما يجب الاستعداد للجهاد، بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بخلاف الاستطاعة في الحج، ونحوها، لا يجب تحصيلها، لأن الواجب هناك لا يتم، إلا بها"، فافهم ذلك، فإنه قد يخفى. واعلم أن من أهم مصالح الدين إقامة الصلاة والجهاد، قال صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله". " وقال: " الصلاة عماد الدين" لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي تعين على ما سواها من الطاعات". " ولما بعث صلى الله عليه وسلم – معاذا إلى اليمن، قال: " يا معاذ، إن أهم أمرك عندي الصلاة"، وكان عمر رضي الله عنه يكتب إلى عماله: " إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حافظ عليها، وحفظها حفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أشد

إضاعة". فعلى السلطان أو من يوليه كالمحتسب أن يأمر مناديا ينادي في الشوارع والأسواق، التي لا يبلغها النداء بالصلاة، ويعاقب من علم منه التخلف عنها، أو عن فعلها في جماعة، وخصوصا [في] يوم الجمعة عند إقامة الصلاة أو قرب إقامتها. وعليه أن ينظر في حال رعيته ومصالحهم من أمر الدين والدنيا لأن الخلق إنما خلقوا لعبادة الله تعالى، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. "فمقصود الشارع: إصلاح دين الخلق، الذي متي فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نفعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قسم المال على المستحقين، وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتد فيهما، أصلح له دينه، ودنياه". " وأما الجهاد في سبيل الله، فهو واجب على هذه الأمة بالاتفاق، كما دل عليه الكتاب والسنة وهو من أفضل الأعمال. ففي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة، كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله"، وقال تعالى: " لما أمر بالجهاد " {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون

الدين لكه لله}، لأن القصد أن تكون كلمة الله هي العليا، وفي الصحيحين قيل: يا رسول الله؟ الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" وكلمة الله، اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}. فإن المقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، أن يقوم الناس بالقسط، في حقوق الله تعالى، وحقوق خلقه، ثم قال: {وأنزلنا الحديث فيه بأس شديد، ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}، فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف، والسيف. فعن جابر رضي الله عنه، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن نضرب بهذا – يعني السيف- من عدل عن هذا – يعني المصحف" " وكل طائفة امتنعت عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، يجب جهادها أيضا حتى يكون الدين (كله لله) بتفاق العلماء. وكذلك من جحد سائر الواجبات المذكورة، والمحرمات التي يجب القتال عليها

بالعقوبة على ترك الواجبات. وفعل المحرمات، وهو مقصود الجهاد في سبيل الله" ولكنه مع ذلك فرض كفاية على الأمة، على أصح الوجهين، فحيث قامت به طائفة منهم في جهة، سقط عن الباقين، وتفاصيل ذلك معلومة في كتب الفقه. " النوع الثاني، من أداء الأمانات: الأموال"، فينبغي أن يعلم أن الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب، والسنة، ثلاثة أصناف: الغنيمة، والصدقة، والفئ، وما يحلق بها من الجزية، والخراج، والعشر، " والمال الذي ليس له مالك، معين كالمغصوب والعواري والودائع التي تعذر معرفة أصحابها،

ومال من لا وارث له" فتحصل من ذلك سبعة أنواع. قال الحافظ صلاح الدين العلائي في قواعده: وقد نظم قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بيتين ضمنها الأموال التي هي أصول بيت المال، وهما: جهات أموال بيت المال سبعتها ... في بيت شعر حواها فيه كاتبه خمس وفيء خراج جزية عشر ... وإرث فرد ومال ضل صاحبه

" فالواجب: في مصرفها أن يبتدأ منها أولا، بالقسمة على الأهم، فالأهم، من مصالح المسلمين العامة، كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة. فمنهم الجند المقاتلة: الذين هم أهل النصرة، والجهاد في سبيل الله، بل هم أحق الناس بالفيء، لأنه لا يحصل إلا بهم وفيهم العلماء والقضاة، والسعاة على الأموال حفظا، وجمعا، وقسمة، ونحوهم حتى أئمة الصلاة، والمؤذنين، وكل ما يعم نفعه للمسلمين، كسداد الثغور بالكراع، والسلاح وعمارة طرق الناس كالجسور والقناطر، وحفر الأنهار، ونحوها. وأما سائر الأموال السلطانية، فلجميع المصالح وفاقا، إلا ما خص به نوع، كالصدقات والمغانم، ومن المستحقين ذوي الولايات عليهم، كالولاة ونحوهم"، وكل ذلك مبسوط في كتب الفقه. فعلى السلطان أن يجتهد بحسب وسعه، وطاقته في صرف هذه الأموال إلى مستحقيها، وإيصال الحقوق إلى أربابها، ودفع الظلامات عن عباد الله المظلومين، ونصرهم، " وأخذ الحق من العتاة المتجبرين، وقهرهم وإذا أخذت الأموال من الرعايا بغير حق، وتعذر ردها إلى أصحابها، كما يقع ذلك كثيرا في الأموال السلطانية في هذا الزمان، فيتعين صرفها في مصالح المسلمين العامة المتقدم ذكرها، من سداد الثغور،

ونفقة الجند المقاتلة"، وشراء أسرى المسلمين من أيدي الكفار، وأرزاق العلماء، والمشتغلين بالعلم كفايتهم، ونحو ذلك من الإعانة على البر والتقوى، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فهذا من أعظم المعاونة للمسلمين على أمر الدين. فعلى ولي الأمر أن يأخذ المال من حله، ويضعه في حقه، ولا يمنعه من مستحقه، " ولا يجوز له أن يعطيه لمن لا يستحقه لهوى نفسه، أو لأجل منفعة محرمة منه، كعطية المرد من الصبيان الأحرار، والمماليك، والبغايا والمغنين، والمساخر، والعرافين من الكهان، والمنجمين، ونحوهم"، فإعطاء كل هؤلاء حرام، وفسق فأما من تخول في مال الله، وتصرف فيه بحسب أغراضه وشهواته، وأعطاه لمن أحب، ومنعه لمن أبغضه، فقد خان الله فيه، وليس مود بالأمانة، لأن حقيقة موضوعه أنه عبد الله، يقسم مال الله بأمر الله، ويضعه حيث أمره الله، فخالف ذلك كله. وأما ما يأخذه ولاة الأمور، وغيرهم من أموال المسلمين بغير حق، قال العلماء: فللسلطان العادل نزعها منهم، واستخراجها ولو بالضرب والعقوبة، حتى

يؤدوها وعليه أن يجتهد في مصالح الرعية، " فمن عليه مال يجب أداؤه لأهله، كوديعة أو مال يتم، أو مال وقف، أو مال بيت المال، أو مال لموكله، أو عليه دين، وهو قادر على وفائه، فإذا امتنع من أداء الحق الواجب عليه من ذلك كله، استحق العقوبة، حتى يوديه، فإذا عرف السلطان طريق المال استوفي الحق منه، ولا حاجة إلى عقوبته". " ففي صحيح البخاري " أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما صالح أهل خيبر على الصفراء، والبيضاء، والسلاح، سأل بعض اليهود وهو شعيه، عم حييى بن أخطب، عن كنز حيي فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك، فدفع النبي – صلى الله عليه وسلم – سعيه إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال: " قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا، فذهبوا به فوجدوا المسك في الخربة". قال بعض العلماء: " ففي هذا أصل لما يفعله ملوك زماننا؛

لأن هذا الرجل كان ذميا، والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق، وكذا كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة، ونحوها يعاقب أيضا على ترك الواجب"، وإن كان مسلما، ومن ذلك الهدايا التي تأخذها العمال". فقد قال أبو سعيد الخدري: " هدايا العمال غلول"، وروى إبراهيم

الحربي في الهدايا عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم عليه وسلم) قال: "هدايا الأمراء غلول، وحديث ابن اللتبية عامل النبي – صلى الله عليه وسلم – على الصدقة وما قاله النبي – صلى الله عليه وسلم – له حين قال له: "هذا لكم، وهذا أهدي إلي". "مشهور في الصحيحين". "وكذلك (محاباة الولاة، والقضاة) في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة، والمضاربة، والمساقاة، ونحوها وهو من نوع الهدية، ولهذا شاطر عمر – رضي الله عنه – من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة، وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك؛ لأنه إمام عدل يقسم

بالسوية. فلما تغير الإمام والرعية، كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه، ويترك ما حرم عليه ولا يحرم عليه ما أباح الله له، وقد يبتلى (الناس من الولاة) بمن يمتنع من الهدية ونحوها، (ليتمكن بذلك) من استيفاء المظالم منهم، ويترك ما أوجبه الله تعالى عليه من قضاء حوائجهم، فيكون من أخذ منه عوضاً عن كف ظلم وقضاء حاجة مباحة، أحب إليهم من هذا. وإنما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة، وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها، من تبليغ ذي السلطان حاجاتهم، وتعريفه بأمورهم، ودلالته على مصالحهم، وصرفه عن مفاسدهم، بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة، كما يفعل ذلك ذوو الأغراض من القبط الكتاب ونحوهم في التوصل إلى أغراضهم"، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود مرفوعاً: "من شفع لأخيه

شفاعة، فأهدى له عليها هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا". "فأخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره"، "فإذا اجتهد ولي الأمر في صلاح دين رعيته، ودنياهم بحسب استطاعته، كان أفضل أهل زمانه، ومن أفضل المجاهدين في سبيل الله"، وثبت ملكه وطالته مدته واستقامت رعيته، وحفظ في نفسه وأهله وولده (بعد موته). وقد روي: "يوم من إمام عادل، أفضل من / عبادة ستين سنة"، وفي مسند الإمام أحمد مرفوعاً "أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام

جائر"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى ورجل قلبه معلق بالمساجد، إذا خرج منها حتى يعود إليها، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله (خالياً ففاضت عيناه)، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا يعلم شماله ما تنفق يمينه". فمن ولى ولاية، وقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دين الله، ومصالح المسلمين، لم يؤاخذه الله – عز وجل – فيما يعجز عنه، ولم تصل قدرته إلى دفعه،

وكان علي رضي الله عنه إذا بلغه ظلم بعض عماله يقول: "اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك، ولا أن يتركوا حقك". وقد روى أن الظلمة وأعوانهم وأشباههم يحشرون في توابيت من نار، ثم يقذفونهم في النار. نسأل الله السلامة. ثم ينبغي للسلطان، أو الأمير، وكل ذي جاه، أن يتنبه لأمر عظيم، وهو أنه لا يجوز أن يحموا أحداً من المفسدين بعد استحقاقه لإقامة الحد عليه، كأن يرتكب بعض الفلاحين أو العربان جريمة، ثم يلتجئ إلى كبير أو قرية صاحب جاه، فيحميه على الله ورسوله والمسلمين. "ففي صحيح مسلم عن علي – رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من أحدث حدثاً، أو آوى محدثاً" "فكل من أوى محدثاً من هؤلاء، فقد خان الله ورسوله، وعليه لعنته"، "فإنه لا يجوز تعطيل حدود الله تعالى وإقامتها، وخصوصاً بعد ثبوتها على مستحقيها، لا بعفو، ولا بشفاعة، ولا هبة، ونحوها، ومن عطلها، وهو قادر على إقامتها فعليه لعنة الله والملائكة

والناس أجمعين"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، تعالى فقد ضاد الله في أمره". "واتفق العلماء على أن قاطع الطريق، واللص وغيرهما، إذا رفعوا إلى ولي الأمر، ثم تابوا بعد ذلك، لم يسقط الحد عنهم بل تجب إقامته. وإن تابوا وكانوا صادقين في التوبة، كان الحد كفارة لهم"، "وإن كانوا كاذبين، فإن الله لا يهدي كيد الخائنين"، "وقال عليه السلام: "حد يعمل به في الأرض، خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً"، وذلك لأن المعاصي سبب لنقص الرزق، والخوف من العدو، كما دل عليه الكتاب والسنة، فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله، ونقصت معصيته وحصل الرزق والنصر. ولا يجوز أن يؤخذ من القاتل، أو السارق، أو الزاني، ونحوهم مال يعطل به الحد، لا لبيت المال، ولا لغيره"، سراً ولا علانية.

ففي الأثر "إذا دخلت الرشوة من الباب، خرجت الأمانة من الكوة" "وهذا المأخوذ سحت حرام خبيث، وإذا فعل ولي الأمر ذلك، فقد جمع فسادين عظيمين: أحدهما: تعطيل الحد. والثاني: أكل السحت، بترك الواجب وفعل المحرم. قال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون}. قال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت .... }، أي وهو الرشوة التي تسمى البرطيل. وتسمى / وتستر بالهدية، ومتى أكل الحاكم السحت، احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها"، وخصوصاً أخذها لمن يمنع الحدود

بقدرته، ويعتاض عنها بسحت يأخذه من هؤلاء المجرمين المراقين [الدم] فكل ذلك حرام بإجماع المسلمين؛ لأنه سبب لترك الواجب وارتكاب الحرام. واعلم أن في إقامة الحدود أصل كبير في مصلحة ولي الأمر والرعية. "وفي تعطيلها فساد كبير؛ لأنه في الغالب يكون سبباً لفساد أمور المسلمين، وسقوط حرمة المتولي عليهم لسقوط قدره، وهيبته من القلوب، وانحلال أمره، ولأنه إذا ارتشى على ذلك، ضعفت نفسه أن يقيم حداً آخر" نسأل الله العافية بمنه! . ويتعين على السلطان، وغيره من ولاة الأمور ألا يستعين بأحد من اليهود، والنصارى في شيء من أعمال المسلمين مطلقاً ولو في الصرف في المال، وجبايته لما في ذلك من المفاسد والدسائس الكثيرة التي يخفى أكثرها على كثير من العقلاء؛ لأنهم أعداؤنا على الحقيقية، ولو وجدوا فرصة وقدرة على إزهاق أنفسنا، وأخذ أموالنا لما تخلفوا عنها، كما أخبر الله تعالى عند في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون}. وكفى بهذه الآية واعظاً لما ذكرته، والمراد بالبطانة: من يطلع على حال المسلمين، كالاطلاع على مقدار خزائنهم من المال، وأعداد جيشهم من الرجال. فلا يقصرون بل يجتهدون في إيصال الفساد إليكم، ويودون ضرركم. وقال (صلى الله عليه وسلم): "اليهود والنصارى خونة لا أعان الله من ألبسهم

ثوب عز". ولما فتحت الصحابة رضي الله عنهم مصر أرسل عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يأمره بأمور منها: أن لا يستعمل كافراً في عمل من أعمال المسلمين، فأجابه عمرو بأن المسلمين إلى الآن لم يعرفوا حقيقة البلاد، ولم يطلعوا على مقادر خراجها وقد اجتهدت في نصراني (عارف بالبلاد)، منسوب إلى أمانة إلى حين معرفتنا بذلك، فنعزله، فغضب عمر. وقال: كيف نستأمنهم، وقد خونهم الله، وكيف نعزهم، وقد أذلهم الله، وكيف نقربهم، وقد ابعدهم الله، ثم تلا قوله تعالى: {يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ..... } الآية. ثم قال في آخر الكتاب مات النصراني والسلام. وكان عمر – رضي الله عنه – يقول: "لا تستعملوا اليهود والنصارى فإنهم أهل رشا في دينهم، ولا يحل

الرشا في ديننا". ولما قد عليه أبو موسى الأشعري من البصرة، وكان بالمسجد استأذن لكاتبه، وكان نصرانياً، فقال له عمر: قاتلك الله وضرب بيده على فخذه، وليت ذمياً على المسلمين، أما سمعت قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} هلا اتخذت حنيفاً مسلماً. فقال يا أمير المؤمنين: لي كتابته، وله دينه فقال والله لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله محمد بن المنتشر أما بعد، "فإنه بلغني أن في عملك رجل يقال له حسان / على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم

والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}. فإذا أتاك كتابي هذا، فادع حسان إلى الإسلام، فإن أسلم فهو منا، ونحن منه، وإن أبا فلا تستعن به، ولا تأخذ من غير دين الإسلام على شيء من أعمال المسلمين، فقرأ الكتاب عليه، فأسلم، وكتب أيضاً إلى سائر عماله ألا تولوا على أعمالنا إلا أهل القرآن. فكتبوا إليه: إنا وجدنا فيهم خيانة فكتب إليهم إن لم يكن في أهل القرآن خير فكيف يكون في غيرهم خير ولاسيما أهل الشرك. قال بعض العلماء المتأخرين من الشافعية: والعجب أنه لا يعرف في إقليم من الأقاليم، من المشرق إلى المغرب، توليتهم أمور المسلمين، إلا في إقليم مصر خاصة،

فيا لله العجب ما بال هذا الإقليم من دون سائر أقاليم المسلمين، هذا مع أنه من أعظم أقاليم الإسلام، وأوسعها عالماً، وأكثر علماً، وفي استخدام الكفار من المفاسد العظيمة، والأمور القبيحة، والأحوال الشنيعة ما لا يرضاه العدو لعدوه، خصوصاً أن يرضاه المسلمون لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم). قلت: وقد ألهم الله سبحانه هذه القربة لسلطاننا في هذا الوقت الملك الظاهر خشقدم أعز الله أنصاره؛ فأمر بإزالة هذه المفسدة العظيمة، ومنع من استعمال أهل الذمة في شيء من أعمال المسلمين تأسياً بالملوك العادلين، وأسلم بسبب ذلك منهم جماعة ببركة نيته الصالحة، ونسأل الله من فضله استمرار هذه النعمة على أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى أن تقوم الساعة. ويتعين على كل عاقل من سلطان [أو] صاحب ولاية، أو منصب، أو رياسة، ألا يغتر بنعمة الله عليه وحلمه عنه، وإمداده له، واستدراجه بحيث ينسى أمر

الآخرة رأساً فلا يذكر لطول أمله، وتخوله في نعم الله تعالى، واغتراره بدار الفناء، معتقداً أن ما هو فيه مما يستحقه على الله، وأنه لذلك أهل دون غيره. فمئال هذا المغرور المفتن في دينه ودنياه، إلى نفس واحد يخرج منه، ثم لا يعود إليه، فيندم حيث لا ينفعه الندم، ويأتيه ذلك بغتة، وهو مستغرق في لذاته، ولا يمكنه من تدارك شيء فاته، بل يجب أن يكون يقظاً بصيراً، يحاسب نفسه كل وقت على ما وقع من هفواته، ويستغفر الله تعالى ويتوب إليه من كل ذنب، ويتفكر في حاله، وما يصير إليه لخير أم لشر، ويتدبر قوله: (صلى الله عليه وسلم): "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وينبغي للسلطان خصوصاً أن يحسن إلى رغيته ما استطاع، ويكف ظلمه عنهم، ليكون ذلك سبباً لانقيادهم إليه، وانعطاف قلوبهم عليه؛ فلعل أن يصادفه دعوة من ولي منهم، أو عالم، أو صالح، أو مظلوم، أزال ظلامته، فإنها مستجابة منهم فيفلح في دنياه، وآخرته، "ومتى اهتمت ولاة الأمور بإصلاح دين الناس، صلح للطائفين دينهم ودنياهم، والا اضطربت الأمور عليهم، وملاك ذلك كله / حسن النية للرعية، وإخلاص الدين كله لله، والتوكل عليه فإن الإخلاص، والتوكل جماع صلاح (الخاصة والعامة). كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: {إياك نعبد وإياك

نستعين} فإن هاتين الكلمتين قد قيل: إنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء. وقد روي أن النبي – صلى الله عليه وسلم -، كان مرة في بعض مغازيه، فقال: "يا مالك يوم الدين غيان نعبد وإياك نستعين"؛ (فجعلت الرؤس تندر عن كواهلها) فأعظم عون لولي الأمر خاصة، ولغيره عامة ثلاثة أمور: أحدها: الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره، وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن. الثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع، والمال الذي هو الزكاة. الثالث: الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب، ولهذا جمع الله في كتابه بين الصلاة والصبر كثيراً، وبينها وبين الزكاة أكثر، والقيام بهذه الثلاثة يصلح حال الراعي والرعية". ثم إن من وظائف السلطان بخصوصه أمور منها: تجنيد الجنود، وإقامة فرض الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، فإن الله سبحانه لم يوله على المسلمين؛ ليكون عظيماً آكلاً شارباً مستريحاً، بل لينصر دين الله، ويعلي

كلمته، فمن حقه ألا يدع الكفار يكفرون بأنعم الله تعالى، ولا يؤمنون بالله ولا برسوله. "فإذا رأيت ملكاً تقاعد عن هذا الأمر، وولاه ظهره، وأخذ يظلم المسلمين، ويأخذ أموالهم بغير حق، ثم سلبه الله نعمته فجاء يعتب الزمان، ويشكو الدهر. أفليس هو الجاني على نفسه؟ ! ، وقد كان يمكنه بدل أخذ أموال المسلمين وظلمهم، أن يقيم جنداً في البحر، يتلصصون أهل الحرب الكفار ويأخذون أموالهم، التي هي من أحل الحلال له، وللمسلمين؛ فإن كان ملكاً شجاعاً ناهضاً فليرنا همته في أعداء الله الكفار، ويجاهدهم ويعمل الحيلة في أخذ أموالهم جلاء وبلاء، ويدع عنه أذية المسلمين، ويتشبه بمن فعل ذلك من الملوك العادلين. "ومنها أن ينظر في الإقطاعات، ويضعها مواضعها، ويستخدم من ينفع المسلمين، ويحمي حوزة الدين، ويكف أيدي المعتدين، فإن فرق الإقطاعات على مماليك، اختارها وزينها بأنواع الملابس والزراكش المحرمة، وافتخر بركوبها بين يديه، وترك الذين ينفعون الناس جياعاً في بيوتهم، ثم سلبه الله نعمته، أفليس هو الجاني على نفسه بحمقه". "ومنها الفكرة في العلماء، والفقراء، وسائر المستحقين، وتنزلهم منازلهم وكفايتهم من بيت المال الذي هو في يده أمانة عنده، ليس هو فيه إلا كواحد منهم"،

وحكى الغزالي أنه يعطى لحافظ القرآن المشتغل بالعلم في كل عام مائتي مثقال ذهباً، وفي بعض كتب الحنفية أنه يعطي للمشتغل بالعلم، في كل سنة خمسون مثقالاً من الذهب. قال أبو الليث: من حفظ القرآن كان حقه في بيت المال في كل سنة مائتي دينار، وألفي درهم إن حرم في الدنيا لم يخرم في الآخرة وإن حفظ نصف القرآن فله النصف من ذلك. "فإن ترك العلماء، والفقراء جياعاً في بيوتهم يبيتون ومنهم من يطوي الليلة / والليلتين هو وعياله. وهو في غفلة عن ذلك، مقبل على شهواته، ومحاسن سماطه، وزينته ولباسه ولباس حاشيته، فذلك أحمق جهول، وإن ضم مع ذلك أنه استكثر على الفقهاء ما بأيديهم من الرزق، وتعرض لأوقاف وقفها أهل الخير ممن (تقدمه عليهم)، فهو بلاء على بلاء بل من حقه أن ينظر مع ذلك في مصالحهم، ولا يكلهم إلى تلك الأوقاف، ويرزقهم من بيت المال ما يتم به كفايتهم"، ومن لم يكن له شيء في ذلك قرر له ما يستحقه ويقوم بكفايته.

فإن تعرض لتلك الأوقاف، وباعها بالبراطيل أو وضعها في غير مستحقها، فقد خرق حجاب الهيبة. فما يكون جزاؤه؟ قال جامعه: ووالله إني لم أزل متعجباً كل العجب من ولاة الأمور في زماننا، ومن ضاهاهم كيف يستكثرون على الفقيه أقل قليل من الرزق، ويرون أنه لا يستحق شيئاً من مال الله، الذي جعله بأيديهم، مع ما خولهم الله فيه من النعم التي لا يحصى عدها، فترى رزق أكبر فقيه في اليوم أو الشهر لا يصل إلى مقدار رزق أقل مملوك لهم، أو عبد أو غلام مع ما ينال الفقيه في تحصيل ذلك القليل، الذي هو من فضلات أرزاقهم من المشقة، والذل، والسؤال لمن ليس أهلاً للخطاب، ولا السلام، وترى رزق هؤلاء ونحوهم محمولاً لهم، مهنأ موفراً ميسراً غير محسودين عليه، آخذين له مع العز والقهر، معتقداً أكثرهم أن ذلك مما يستحقه دون غيره لكرامته عند الله. هذا مع أن الفقيه هو السبب لجعلهم مسلمين ملوكاً في الدنيا، لأنه فاتحة كل خير يحصل لهم من نعيم الدين والدنيا، فإنه أول من يلقنهم الإسلام، وكلمتي الشهادة، ويعلمهم آداب الدين، وفرائضه من وضوء وصلاة وقراءة قرآن، وغير ذلك، ويعلمهم الكمالات الإنسانية التي يصيرون بها أهلاً لما (أهلهم الله له). أما علم هو أنهم لا يرزقون، وينصرون إلا بهم، فقد ثبت في الصحيح أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: "إنما تنصرون، ويرزقون بضعفائكم". فالعلماء الصالحون هم الذين يحمون الشريعة، ويقيمون الدين، وهم صلاح الدين والدنيا،

وهم المشار إليهم بقوله (صلى الله عليه وسلم): "ولن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك"، وإن سهام أدعيتهم صائبة لا ترد، وأنفاسهم الزكية محرقة لا تصد وهم أولياء الله على الحقيقة. قال الشافعي: "إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله، فليس لله ولي". وقال (صلى الله عليه وسلم): "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"؛ أي أعلمته وأنذرته بوقوع محاربتي له. نسأل الله اليقظة والسلامة. فتفكرت في ذلك كثيراً، ثم ظهر لي أن الحكمة فيه والله أعلم، هو الحفظ، والحماية لهذه الطائفة الذين هم أهل الله وخاصته، عن التبسط به في الدنيا الفانية، بهذه الأموال الخبيثة أو المشتبهة الحال المحاسب عليها والمعاقب في الآخرة وليعتمدوا على ما أعده الله لهم في دار الآخرة من النعيم المقيم السرمدي ورفع الدرجات لهم / فوق كثير من خلقه. فنبغي للعاقل ألا يأسف ولا يحزن على ما فاته

من ذلك في الدنيا، ويعلم أن ذلك هو الخير الأصلح في حقه، والدليل على محبة الله تعالى له، ويسأل من الله سبحانه الصبر، والإعانة، والتوفيق لما يحب ويرضى. "ومنا بيت مال المسلمين. وقد قدر الشارع المصارف فيه، وجعل لكل مال أقواماً وقدراً، فإن تعدى هذا كله وصرفه في شهواته ولذاته، وظن أن الملك عبارة عن ذلك، فلا يلوم إلا نفسه. وإذا جاءه سهم من قبل الله، فلا يستوحش، وإن أخذ يصرف أموال المسلمين على خواصه، ومن يريد استمالة قلوبهم إليه لبقاء ملكه، لا لإعزاز دين الله، وأعجبه مدائح الشعراء لكرمه فذلك خسف، وقد امتلأت التواريخ ممن كان يهب الألوف للشعراء، والألوف للماليك، والألوف للمغاني وأرباب الملاهي، وكل ذلك وبال على صاحبه". "فقد قال السيد علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – والخزائن مملوءة بين يديه -: "من يشتري مني سيفي هذا؟ ولو وجدت رداءً استتر به ما بعته". ومثل هذا كثير عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين مملوءة بها الدواوين، ولسنا نطالب أهل زماننا بسيرة أولئك الماضيين؛ فإنهم لا يصلون إلى هذا المقام، ولكن نذكرهم بذلك، لعلهم يرجعون، أو يقصرون ويعتبرون، فلا بد في الذكرى من نفع إن شاء الله تعالى".

ومنها النظر في أمر الدين من إقامة الشعراء من الأذان، والصلوات، والصوم، والحج، والزكوات، ونحو ذلك، على أكمل الوجوه وأتمها، ومراعاة خلاف الأئمة الأربعة في أدائها وعلى الوجه الأكمل عندهم، ومن الملوك ونحوهم كالأمراء، والكتاب من تسول له نفسه، ويحسن له حدسه ليعمر الجوامع والمدارس والترب، ويبالغ في زخرفتها، وإنفاق الأموال الكثيرة فيها وهي من أموال المسلمين التي جعلها الله في يده أمانة، فيضعها ظاناً أن ذلك من أعظم القرب، (فينبغي أن يعرف هذا المغرور) أن للنفس، والشيطان في ذلك دسائس خفية كثيرة فمنها: أن يبعد أن يكون مخلصاً لله في بنائها؛ لأنا نرى ما يفعله أكثرهم في زماننا، إنما هو لشياع الاسم. ويقال: هذا جامع فلان، وللوقف عليها في ظاهر الحال كثيراً، ليحفظوا ذلك بجاه الوقف لأنفسهم وأولادهم.

ومنها: ما يحصل في بنائها في هذه الأزمان من كثرة الظلم، لجميع الصناع، وأصحاب المؤن وخراب بيوت الناس المجاورة لها، وما ينضم إلى ذلك من مفاسد لا تحصى كما هو مشاهد. وإنهم لأحق بقول القائل: ومطعمة الأيتام من كد فرجها ... فليتك لا تزني ولا تتصدق "وينبغي أن يفهم مثل هذا الباني أن إقامة جمعتين في بلد لا يجوز عند الشافعي وأكثر العلماء؛ فإن قال قد جوز ذلك بعضهم، فقل له: إذا فعلت ما هو واجب عليك عند كل العلماء، فافعل حينئذ الجائز عند البعض. وأما أنه يترك ما نهى الله عنه أو أمر به، ويريد أن يعمر الجوامع بأموال الرعايا؛ ليقال: هذا جامع فلان، والله، لن يتقبله الله ابداً، فإنه - سبحانه وتعالى - "طيب لا

يقبل إلا طيباً". ومن أقبح / البدع المحرمة تقبيل الأرض بين يدي الملوك، فإن كان سجوداً بأن لاقى بجبهته الأرض". "قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى -: "فسواء كان إلى القبلة أو غيرها، وسواء قصد السجود لله تعالى، أو غفل هو حرام. وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر أو يقاربه. وسئل ابن الصلاح عن هذا السجود فقال: هو من عظائم الذنوب، ويخشى أن يكون كفراً". وفي بعض كتب السادة الحنفية: أنه يكفر مطلقاً، وبعضهم قال: إن أراد التحية، فهو حرام، وإن لم تكن له نية كفر عند أكثرهم. "ثم على السلطان أن يشكر نعمة الله عليه بالولاية، والملك، وأن يعرف أن نفسه وأحد الرعية سواء، لم يتميز عنهم بنفسه، بل بفعل الله تعالى الذي لو شاء لأعطاهم ومنعه، فإذا كان قد أعطاك ذلك ومنعهم، فما ينبغي لك أن تتمرد عليهم وتستعين بنعمه على معاصيه، وإذا خلفه فلا أقل من أن يجتنب أذاهم ويكف عنهم شره، وبجانب

الهوى والميل والغرض. فنعمة الولاية (لا تطلب منه) غير ذلك. ولو ترك الناس هملاً (يأكل بعضهم) بعضاً وجلس في قصره، يصلي ويبكي على ذنوبه لكان مسيئاً على ربه، فإنه سبحانه لم يطلب منه أن يتهجد بالليل ولا أن يصوم النهار، وإنما يطلب منه ما ذكرناه ولعلك تقول: إن قمت بحقوق الرعية وقصرت في حق الله تعالى هل أنا محمود؟ فاعلم أنك محمود من تلك الجهة، مذموم من هذه، ويخشى على من زاد في التقصير في جانب الله تعالى أن يظلم قلبه ظلاماً يورث الطبع على قلبه، وينشأ عن التقصير في تلك الجهة الأخرى، فيصير مذموماً في الجهتين". ومن رشيق عبارات الإمام الشافعي – رضي الله عنه -: "من ضيع حق الله فهو لما سواه أضيع" وعليه بل على كل ولي أمر أن يشاور في أموره المهمة؛ فإن الله تعالى أمر بها نبيه – صلى الله عليه وسلم – فقال: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}. وعن أبي هريرة: لم يكن أحد (أكثر مشورة) لصحابه من رسول الله – صلى

الثاني: مشير السلطان

الله عليه وسلم: "فقيل: أمره الله تعالى بها لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحروب وغيرها، فغيره - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمشاورة". وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس. "فإذا استشار واحداً منهم فعليه أن يتحرى فيما يقوله ويفعله، طاعة الله ورسوله، وإتباع كتاب الله، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان الواجب، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو لعجز الطلب، أو تكافئ الأدلة عنده أو غير ذلك، (فله أن يقلد) من يرضى علمه ودينه، وهذا أقوى الأقوال. وقيل: إنه ليس له التقليد بحال، وقيل: له التقليد بكل حال." انتهى. الثاني: مشير السلطان "وصديقه إذا كان مقبول الكلمة عنده، يجب عليه

أن ينصحه، وينهي إليه ما يصح عنده ويثبت من أمر الرعايا، ويساعد على الحق بما تصل إليه قدرته"، ويبلغه حاجة المحتاج وظلامته. ففي حديث / هند بن أبي هالة، أنه – صلى الله عليه وسلم – (كان يقول): "أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله قدمه على الصراط يوم تزل الأقدام"، ولا يكن حظه منه الاقتصار على حطام يجمعه لنفسه، أو دنيا يضمها إليه، فإن ذلك يكون سبباً لزواله عنه، بل المقتضى لدوام النعمة عليه ما ذكرناه من النصيحة والمساعدة في الحق"؛ وكلمة خير عند ولي أمر جائر. "وما أحمق من كانت له كلمة نافذة عند ذي سلطان، فوجد مظلوماً يستغيث، ولا يجد مغيثاً، فقام يصلي شكراً لله على أن جعله ذا كلمة نافذة عنده، وترك المظلوم، يتخبطه الظلم، ولا يجد منجداً، وهو قادر على إنجاده، فذاك الذي صلاته وعبادته وبال عليه".

وقد روينا في كتاب "الحلية" لأبي نعيم عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً: "لا يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلماً، فإن اللعنة تنزل من السماء على من يحضره إذا لم يدفعوا عنه". وهذا مثل ما قال الفقهاء فيمن كان يصلي فمر به غريق تتلاطمه الأمواج، وهو قادر على إنقاذه، فإنه يجب عليه قطع الصلاة، وإنقاذه وهذا مثله. وروى الشعبي عن عبد الله بن عباس قال: "قال لي أبي: يا بني إني أرى هذا الرجل يعني عمر بن الخطاب قدمك على الأكابر من أصحاب رسول الله – صلى

الثالث: نائب السلطان

الله عليه وسلم - وإني أوصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا تجرين عليه كذباً، ولا تطوين عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً". قال الشعبي: فقلت لابن عباس كل واحدة خير من ألف قال: أي والله، ومن عشرة آلاف. نسأل الله التوفيق والسلامة. الثالث: نائب السلطان وكان قديماً بديار مصر فبطل بعد موت الظاهر برقوق وإلى وقتنا هذا. فعليه إن وجد مثل ما على السلطان، ويزداد أن من حقه مراجعته إذا أمر بما يخالف الشرع، أو المصلحة، والإكثار من تفقد حال الرعية؛ صغيرهم وكبيرهم، جليلهم وحقيرهم، غنيهم وفقيرهم، والنظر في القرى، والغلات،

وإيصال الحقوق إلى مستحقها من ذوي النهضة والكفاية، والحاجة وتولية المناصب لأهلها. فإن اعتذر بأن الزمان لا يمكنه من ذلك، فقل له ولأمثاله: أنتم مطالبون من كل ما نأمركم به بما تصل إليه قدرتكم، فعليكم الجد، والاجتهاد، والله الموفق المعين. ومن حقه إقامة فقيه في كل قرية لا فقيه فيها، يعلم أهلها أمر دينهم، ومن العجب أن أولياء الأمور يستخدمون في كل حضر أو سفر يسافرونه طبيباً بمعلوم كثير من بيت المال، ولا يتخذون فقيهاً يعلمهم دينهم بأقل من ذلك بكثير، وما ذاك إلا لأن أمر أبدانهم أهم عندهم من أمر أديانهم، نعوذ بالله من الخذلان. ومنها إلقاء مقاليد الأحكام إلى الشرع الشريف فإنه لا حاكم إلا الله تعالى، وليس للعقول حكماً. فحق على كل مسلم الرضا بحكم الله تعالى، والانقياد له، قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ... الكافرون ... الظالمون} ". "وإذا رأيت من يعيب على نائب السلطان انقياده للشرع، وينسبه بذلك إلى

اللين والرخاوة. فاعلم أنه يخشى عليه أن يكون ممن طبع على قلبه، وإن عاقبته، وخيمة، عند الله. "ومنها دفع أهل البدع، والأهواء، وكف شرهم عن المسلمين"، فلا يمكنهم من إظهار بدعهم، وإشهارهما بين عوام المسلمين؛ فتفسد عقائدهم الصحيحة بتلك العقائد الفاسدة، ولا يسع الأمراء، ولا الملوك، في دين الله الصبر على من يسب الشيخين أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ويقذف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها، ويفسد عقائد أهل الدين، بل يجب عليهم الغلظة علي هؤلاء بحسب ما تقتضيه المذاهب". قلت: ويرحم الله السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، لو لم يكن له من الفضل في الدنيا، إلا فتح بيت المقدس وقطع دابرة الرافضة الفاطميين بديار مصر، لكان (كافياً له) عند الله في رفع درجاته في الجنة، "وهذه المذاهب الأربعة ولله

الحمد في العقائد واحدة، إلا من لحق منها بأهل الاعتزال أو التجسيم. وإلا فجمهورها على الحق؛ يقرون عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفاً، وخلفاً بالقبول، ويدينون الله برأي شيخ السنة أبي الحسن الأشعري الذي

(لم يعارضه إلا مبتدع) ". "ومنها: النظر في أمر المفسدين من قطاع الطريق، وأهل الفتن كالعشران، والعربان بالغلظة، والتشديد عليهم، ولا يهمل أمرهم فيزداد فسادهم، وإن رأى تقليد بعض المذاهب في شدة تعزيرهم والمبالغة في عقوبتهم، وطول حبسهم فله ذلك، بشرط أن يكون الحامل له على ذلك المصلحة للمسلمين، ودفع الأذى عنهم، لا التشهي وحظ النفس، ومحبة شياع الاسم بالانتقام؛ فإن ذلك فن من الجنون؛ وقل أن يحصل للمسلمين نصرة على يدي من هذه نيته". "ومنها: سفك دم من ينتقص جناب سيدنا (ومولانا وحبيبنا) محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أو يسبه؛ فإن ذلك كفر، وردة. وذهب كثير من العلماء إلى أن توبته لا تقبل، واختاره طوائف من المتأخرين.

فإن كان من وقع (منه ذلك) ممن يتكرر منه، أو عرف بسوء العقيدة وشهدت القرائن فيه بالخبث الباطن، فرأى الشيخ الإمام تقي الدين السبكي وغيره ألا تقبل له توبة، ويسفك دمه من غير مراجعة". "ومنها نظرهم في أمر داود أريتهم. فأكثر ما ينشأ فساد بابهم عنهم وهم غافلون. فحق على نائب السلطان، ونحوه، إذا عرف أن ميزان بابه الدوادار، الاحتياط في أمره، وعدم الإصغاء إليه فيما يقوله؛ بل يستوضح الحال ويستكشفه من بطانة الخير عنده، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من ملك أو أمير إلا وله

الرابع: الداوادار

بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه" فإن رآه مائلاً إلى حب الدنيا، وكثرة الطمع فيها؛ فهو غير ناصح لأستاذه، بدله بمن هو أصلح منه للمسلمين. الرابع "الداوادار، فمن حقه الاستئذان على ذوي الحاجات، / وإنهاء ظلامتهم، ولا يتركهم على بابا أستاذه لا يجدون ملجأ إلى الدخول. ويعلم أن لصحاب الحاجة حقاً عند أستاذه؛ لأن من وظيفة أستاذه سماع كلامه، وقضاء حاجته إذا أمر بها الشرع؛ وليس لأستاذه حق، عنده، والمنة لله سبحانه على أستاذه أن جعل حاجة الخلق إليه، وعليه أيضاً إذ جعله في بابه بالمرصاد لهذا الأمر، فإن هو قصر فيما وصفناه كان هو الظالم لأستاذه، المتسبب في خراب دياره، وعليه المبادرة إلى تقديم الدواة عند ارتفاع القصص، ويذكر مخدومه بها، فربما اشتغل باله عنها".

الخامس: الخازندار

الخامس، "الخازندار، وحق عليه أن لا يمطل من أحيل عليه، بل يدفع إليه ما أمر له به مهنئاً ميسراً"، وإن ترك الأخذ من فقير ومستحق رسم له السلطان بشيء، كان خيراً له في دينه ودنياه. "والخازندار أمين، فلو ادعى أنه دفع المال إلى مخدومه كان القول قوله بيمينه، وإنه كان له على الخزندارية معلوم أو إقطاع؛ لأنه كالوكيل بجعل". السادس "الإستادار، وهو من يتكلم في إقطاع الأمير مع الدواوين، والفلاحين وغيرهم، وعليه ألا يظلم له عباد الله لا سيما الضعفاء منهم، ولا يطعم أستاذه حراماً، ولا يبيعه رخيصاً، وأن يرفق بأهل القرى، ويؤدي أمانة الله التي علقها في رقبته حيث دخل في هذه الوظيفة، فعليه الرفق بالفلاحين، وغيرهم من رعية الأمير. كما عليه أن يؤدي حق الأمير، بل هؤلاء أحوج من الأمير إلى ذلك، فأين يكون الأمير يوم يعض الظالم على يديه لا آمراً إلا الله تعالى".

السابع: الوزير

السابع: الوزير، وكان في الصدر الأول اسم لمن إليه تدبير المملكة، وسائر أرباب الأقلام من [تحت] أمره، وهو الوزير العام وزير الوزراء، والخاص من كان على فرع من تلك الفروع التي أحدثوا لها اسماً بهذه الوظائف الآن. ويلقب أيضاً بالصاحب، وأول من تلقب به أبو [القاسم] إسماعيل بن عباد الطالقاني؛ فإنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد فقيل له صاحب ابن

العميد، فلما تولى الوزارة أطلق عليه هذا اللقب، وبقي علماً عليه ثم سمي به كل من ولي الوزارة بعده. "وأما الوزير في زماننا هذا، فهو اسم لمن ينظر في المكوس، وغيرها من الأموال التي ترفع إلى السلطان، وبيت المال، ومن حقه بذل النصيحة للملك، وكف أذاه عن أموال الرعية، وعدم ظلمهم، وتخفيف الوطأة عنهم ما أمكنه. وقد علم واشتهر عند المسلمين وغيرهم أن المكوس حرام. فإن ضم الوزير إلى أخذها الإجحاف بأهلها، وتشديد الأمر فيها، والعقوبة عليها، فقد ضم حراماً إلى حرام، فإذا لم يقدر على إزالة حرام، وإبطاله فلا يزيد الطين بله، بل لا أقل من الرفق والتخفيف. ومما يجب عليه التيقظ له الأموال التي تجمع عنده، إن كان منها حلال وفيها حرام فعليه أن لا يخلطها بل يدع الحلال بمفرده، والحرام بمفرده، وإلا فمتى خلطها ولم تتميز صار الكل حراماً، ثم إذا تميزا صرف الحلال على أهل العلم والدين، ومن

الثامن: شاد الدواوين

يتحرى أكله وصرف غيره لغيرهم". الثامن: شاد الدواوين: ووظيفته استخلاص ما يتقرر في الديوان على من يعسر استخلاصه منه /، وهو كالوزير بل أشد حالاً منه؛ لأن الوزير يدعي أنه يعرف الحساب، ولا يأخذ إلا بما تقرر، وهذا يقلد الوزير في ظلمه مع الجهل بالحساب، فيضرب ويعاقب على جهل بالشرع والعادة، بل حق عليه التبصر والرفق ما أمكنه". التاسع: الدواوين في سائر الجهات فإن كانوا من دواوين السلطان فكان إلى الوزير مرجعهم قديماً وإن كانوا للأمراء، فأمر كل ديوان الآن إلى مخدومه. وعلى الكل أداء الأمانة، وتجنب الخيانة. (ولقد كثر منهم) اتخاذ دوي الذهب والفضة

أو المحلاة بالذهب والفضة والسكاكين المفضضة، وذلك حرام باتفاق الأئمة الأربعة، والأصح (أيضاً عندنا) تحريم ذلك في المموه بهما، إلا أن يكون [مموهاً] بقدر لا يحصل منه شيء بالعرض على النار. ونقش بعض الكتاب على دواته بالذهب: (دواتنا سعيدة ... ليس لها من متربه عروس حسن جليت ... منقوشة مكتبه قد انطلت حليتها ... على الكرام الكتبه) فقال بعض الظرفاء: والله لم تنطل إلا على اللصوص الكتبة على المكوس، وإذا رأيت ديواناً من وزير أو غيره يخرج من بيته بعد أن امتلأ باطنه من الحرام، وهو لابس الحرام، وجلس على الحرام، وفتح الدواة الحرام، وأخذ يمد الأقلام في الحرام، ثم عاقب المسلمين لأخذ الحرام، أو تسبب في الأخذ منهم، أفليس حقاً عليه أن ينتقم الله منه سريعاً في الدنيا قبل الآخرة، ويزيل نعمته عنه، ويذيقه الخزي،

العاشر: كاتب السر

والنكال". العاشر: "كاتب السر ووظيفته التوقيع عن الملك، والاطلاع على أسراره التي يكاتب بها، وعنه تصدر التواقيع بالولايات والعزل، ومن حقه أن يكون فاضلاً عالماً بالأمور الشرعية، وأن ينهي القصص إلى الملك، ويفهمه إياها، ويعرفه الحق فيها، فإن أكثر الملوك يعسر عليهم الفهم، ويؤتون من قبل ذلك، لا سيما إذا اشتبكت الأمور، وازدحمت الأشغال. فعلى كاتب السر التلطف بحيث يصل إلى ذهن الملك. الحلق ليعمل به، وإلا فمتى ظلم أحداً في واقعة لعدم فهمه، وكان كاتب السر هو الذي قرأ عليه القصة فيها؛ كان شريكاً له أو مستقلاً عنه بالظلم، ومن حقه أن يكتم ما أسر به إليه ما أمكنه وليكن كما قال الشاعر: ويكاتم الأسرار حتى إنه ... ليصونها عن أن تمر بخاطره وأن يحترز من الكتابة في قطع الأرزاق؛ فقلما أفلح كاتبها، وما أحسن ما نقشه بعض كتاب السر على دواته [فقال]: حلفت من يكتب بي ... بالواحد الفرد الصمد

الحادي عشر: الموقعون

أن لا يمد مدة ... في قطع رزق لأحد الحادي عشر: الموقعون: "وعليهم الرفق بالرعية فيما يكتبونه، والتخفيف من التشديدات التي يؤمرون بكتابتها ولا يسوغ الأمر بها شرعاً. فإن كان لا يقدر على التخفيف، فلا أقل من ألا يزيد الطين بلة، فلا يتعدى اللفظ الذي أمر به بحروفه من غير أن يتصرف في العبارة بحسب ما يشتهيه؛ لما يترتب / عليه من الفساد؛ فإنه على لسان السلطان، ولقد حكي أن بعض الملوك أمر موقعه بالكتابة لشخص بالحضور. فأبرق في كتابته وأرعد، وقعقع في العبارة، فلما وصله الكتاب ارعبه بحيث أنه رمى مصارينه، وأما زوجته فكانت حاملاً، فوضعت من شدة خوفهم، مما توعدوا به وذلك كله حرام، لا يجوز فعله لمسلم. فإياك يا أخي أن تكتب بيديك، ما لا يجوز النطق به؛ فإن القلم أحد

الثاني عشر: ناظر الجيش

اللسانين، فاحفظ قلمك عما يجب حفظ اللسان [عنه] ولذلك قال بعض الشعراء: قوم إذا أخذوا الأقلام عن غضب ... ثم استمدوا بها ماء المنيات نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لا ينال بحد المشرفيات ومن حقهم أن يستعملوا الظاهر من اللغات الفصيحة، ولا يستعملوا حوشي اللغة، وما لا يفهمه الأكثر من الناس، لا سيما من يبعد فهمه". الثاني عشر: "ناظر الجيش فمن حقه النظر في حالهم، وتجريد من يرى فيه المصلحة والكفاية والقدرة، وحرام عليه أن يجهز عاجزاً لفقر أو غيره، أو أن يغري عليه السلطان، بل عليه الدفع عنه بما يمكنه. فإنه ناظر عليه كناظر اليتيم، وحرام عليه أن يأخذ مالاً حراماً من بعض الجند، ليعفيه من السفر إما للجهاد، أو غيره، مما فيه نفع للمسلمين ومصلحة، وعليه توقيع التجريدات على حسب مصلحة المسلمين؛ لأنه مطالب بذلك كله، فليتق الله ربه.

قال الشيخ تاج الدين السبكي، ومن قبائح ديوان الجيش إلزامهم الفلاحين في الإقطاعات بالفلاحة، والفلاح حر لا يد لآدمي عليه، وهو أمير نفسه، إن شاء زرع، وإن شاء ترك، وذكر أن العادة في بلاد الشام أن من نزح لدون ثلاث سنين يلزم، ويعاد إلى القرية قهراً، ويلزم بسد الفلاحة" وأظن أن الحال في بلاد مصر (أكثر وأشد) وكل ذلك لا يحل اعتماده، والبلاد إنما تعمر بالعدل [والرضا] والرفق، وتخرب بالظلم، والعنف، ومن ضيق على الناس معيشتهم في الدنيا، ضيق الله عليه معيشته في الدنيا والآخرة. قال: "ومن قبائحهم أنهم إذا اعتمدوا شيئاً مما جرت به عادتهم الخبيثة قالوا: هذا شرع الديوان، والديوان لا شرع له، وإنما الشرع لله ولرسوله - محمد صلى الله عليه وسلم -" فهذا الكلام يقرب من الكفر، يستحق قائله التعزير الشديد

الثالث عشر: ناظر الخاص

بضرب السياط، ونحوه؛ ليكف لسانه عن مثل هذا اللفظ الشنيع، بأن يقول عادة الديوان أو طريقه، أو نحو ذلك. الثالث عشر: ناظر الخاص: ووظيفته حادثة لم تكن قديماً، وإنما هي فرع من الوزراء أفرد بهذا الاسم؛ فعليه حفظ خزانة الخاص التي فيها الخلع السلطانية، ونحوها، وأداء الأمانة، لما فيها من أثاث وقماش، ولا يعمد إلى أخس ما عنده، وأقله قيمة من الخلع، والكوامل لقضاة القضاة (ومشايخ العلم)، فيدفعها إليهم استهانة بهم واستخفافاً بشأنهم؛ (فإنه إن) قصد ذلك؛ فقد باء بإثم عظيم، ويخشى عليه عاقبة / ذلك. ولا ينس حق الله فيما عنده لضعيف مستحق، لا يقدر على شراء شيء من ذلك؛ لما يستتر به أو يتجمل بين الناس ليكسب بذلك حسن الثناء في الدنيا والأجر في الأخرى، ويكون شريكاً للسلطان في حصول هذا الأجر. الرابع عشر: المهمندار: "وهو اسم لمن يقوم بأمور قصاد الملوك، ورسلهم. فمن حقه أن يعتمد مصلحة

الخامس عشر: البريدية

الإسلام، ويرهب القصاد ويوهمهم قوة المسلمين، وشدة بأسهم وعظيم سطوتهم، واتفاق كلمتهم، وقيامهم في حوزة الدين، وأن ينهى أمور القصاد إلى الملك بمقدار ما تكون فيه المصلحة، وقد يكون منهم من يتعين عليه المبادرة إلى إكرامه، ومن يتعين عليه الكف عن إعظامه، بحسب ما يقتضيه الحال، للمتبصر في عواقب الأمور. وحق على السلطان ونوابه الاحتفال عند حضور قصاد الملوك، وإظهار القوة وحسن الملبس وكثرة الجيش واستعدادهم على الوجه الشرعي". الخامس عشر: البريدية: وهم الذين يحملون رسائل الملك وكتبه، وكانت أئمة العدل لا تبرد البرد إلا لمهم من مهمات المسلمين، (لمثله تساق) الخيول، وتزعج النفوس". قال ابن السبكي "وفي زماننا هذا أكثر ما تهلك خيول البريدية وتساق للأغراض الدنيوية، من شراء المماليك الحسان، وجلب الجواري والأمتعة، واستدعاء مغن حسن الصوت، أو خراب بيت شخص أنهى عنه، ما لا صحة له،

السادس عشر: السقاة

وأمثال ذلك وخفي عنهم أن أئمة العدل كانوا يستدعون العلماء من البلاد النائية؛ لأجل نفع المسلمين وإشهار الدين. وكان السيد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يبرد البريد للسلام على قبر سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن حق البريدي كتمان الأسرار، وستر العورات، وكف لسانه عن الفضول، فضلاً عن الكذب، فلقد كثر منهم الكذب ونقل البهتان لأجل حطام الدنيا، ومن حقه حمل رسائل الإخوان إليهم، ففيه أجر عظيم، وشكر لهذه النعمة، وحق على كل بريدي ألا يجهد الفرس في السير، بل يسوقها بقدر طاقتها من غير إزعاج، أفما علموا أنها خلق من خلق الله تعالى؟ فإذا رأيت بريدياً يسوقها في أمر لا يجوز حتى يهلكها، ثم يقدم على أهل بلد، فيزعجهم، ثم يعود إلى السلطان فيدل على عورات المسلمين، ويغري الظلمة بالمساكين الغافلين، ثم يزيل الله عنه نعمته ويذيقه الذل، والهوان، فلا تعجب؛ فذلك عدل من الله سبحانه". السادس عشر: "السقاة". وإليهم أمر المشروب. وهو من أقبح البدع والترفع في الدنيا. فقد كانت الصحابة

رضي الله عنهم وملكهم أعظم وأوسع من ملك الأتراك، والأموال التي كانت في أيديهم من الحلا أضعاف هذه الأموال الحرام بما لا يحصيه إلا الله تعالى، يكرعون في الماء القراح بأفواههم وأيديهم، بلا ساق يسقيهم. ولا يحل لساق يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر لمخدومه منكراً يشربه، وعليه إعمال الفكرة والحيلة في سد هذا الباب، وإبعاده عن أستاذه بقدر طاقته، وله أن / يكذب ويقول: لم أجد شيئاً، أو ذهب صاحبه ونحو ذلك. وإن كان أميره جباراً لا يرجعه عدل فعليه التوسط ودفع المنكر ما أمكنه وإبعاده عنه؛ لا سيما في الأوقات التي يجلس فيها الأمير للحكم بين الرعية، فيا ويح أمير يجلس للحكم بين الناس وهو سكران لا يهتدي الكلام، وعليه حفظ حقوق مخدومه، والخشية عليه من عدو يضع له في المشروب ما يهلكه من سم ونحوه وقد شاع عن جماعة من المماليك السقاة قتل أستاذيهم لأغراض الدنيا فقبحهم الله من طائفة. قال أهل التاريخ: ولقد جرب بالاستقراء فلم ير مملوك فعل ذلك بأستاذه إلا أهلكه الله تعالى سريعاً، ولم يحصل على شيء مما أمله، بل تنعكس عليه آماله وتتغير أحواله، نسأل الله السلامة.

السابع عشر: الطواشية

السابع عشر: الطواشية: "وينبغي أن يعلم أن الممسوح هو من ذهبت أنثياه وذكره. ذهب أكثر الأصحاب الشافعية إلى جواز نظره إلى الأجنبيات، وفي وجه عندنا أنه حرام، وهو مذهب الإمامين أبي حنيفة، وأحمد واختاره السبكي. وأما الخصي: وهو من ذهبت أنثياه دون ذكره، والمجبوب وهو من ذهب ذكره دون انثييه فلا يحل لواحد منهما أن ينظر إلى الأجنبية على الصحيح عندنا، وأما نظر الطواشي إلى سيدته فالذي عليه أكثر أصحابنا أن نظر العبد إلى سيدته حلال، وإن كان سليم الذكر والأنثيين ورجحه الرافعي والنووي وعلى هذا فنظر الطواشي

أولى بالحل؛ ولكن الصحيح عند الشيخ الإمام السبكي وجماعة من المتأخرين أن نظر العبد إلى سيدته حرام؛ وهو الاحتياط والحق الذي ينبغي الاعتماد عليه، وخصوصاً في هذا الزمان العجيب، والنساء ناقصات عقل ودين، فكيف يباح نظر المماليك الحسان الذين يفتنون بجمالهم إلى سيداتهم، فلو كان طواشياً مملوكاً لسيدته، فهو أقرب إلى الجواز ممن يجتمع فيه الأمران. وقال الإمام مالك يجوز نظر المرأة إلى الطواشي إذا كان مملوكاً لها، أو زوجها، ومنعه إذا لم يكن كذلك. ومنهم الزمام هو الذي يختص بحريم السلطان، ومن حقه غض بصره عما يبدو منهن، وعليه النصح لصاحب البيت، وإعلامه بما يعجز عن إزالته من الريب، ومنع أرباب الفجور من العجائز وغيرهن من الدخول عليهن. ومنهم: مقدم المماليك وهو الذي إليه أمر المردان من المماليك السلطانية في

الثامن عشر: الحجاب

الطباق، ولا يحل له المواطأة على الفجور بهم، ولا تمكين بعضهم من مضاجعة بعض في فراش واحد"، وعليه بذل الجهد في تعليمهم القرآن وآداب الشريعة، بحيث يسكن الإسلام في قلوبهم. قال بعض العلماء "وقد كثر في هذه الطائفة نوع القيادة لمخدومهم، وكذا لغيره حتى قيل في الطواشي إنه أشد الناس غيرة، وأكثرهم استحساناً وقيادة على من تحت يده من امرأة أو مملوك إلا من عصمه الله تعالى من ذلك. وفي كتب السادة الحنفية أنه يكره استخدام الخصيان مطلقاً؛ لأن فيه تحريضاً على الخصاء المنهي عنه في الشرع". الثامن عشر: "الحجاب". / "والحجوبية وظيفة قديمة كانت تسمى القيادة، وكان الحاجب يسمى قائد الجيش، ولم يكن في الزمان الماضي يحكم بل يعرض الجيش، ويعتبر حاله، وينهيه إلى الأمير، والآن اصطلحت الترك على أنه يحكم ويفصل القضايا. فنقول: عليه رفع الأمور إلى الشرع، وأن يعتقد أن السياسة لا تنفع شيئاً؛ بل تضر البلاد والرعايا، وتوجب الهرج والمرج، ومصلحة الخلق فيما شرعه خالقهم الذي

هو أعلم بمصالحهم، ومفاسدهم؛ وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم متكفلة بجميع مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم. ولا يأتي الفساد إلا من الخروج عنها، ومن لزمها صلحت أيامه، واستقامت أحكامه، ولم يقض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحبه حتى أكمل الله سبحانه لنا ديننا". "وأنت اعتبر وانظر تواريخ الملوك، والأمراء العادلين والظالمين؛ فلا ترى من دولته أكثر طمأنينة، وأطول أياماً، وأهنأ عيشاً؛ إلا من كان يلقي الأمور إلى الشرع، ومن كان يظن أنه يصلح الدنيا بعقله، وتدبير البلاد برأيه، وسياسته، ويتعدى حدود الله تعالى كانت عاقبته وخيمة، وأيامه قصيرة، منغصة مكدرة، وعيشه ضنكاً"، "فمن خطر له أنه لم يسفك الدماء بغير حق، ويضرب المسلمين بغير ذنب لم تصلح أيامه فعرفه أنه باغ جهول أحمق، دولته قريبة الزوال، ومصيبته سريعة الوقوع، وهو شقي في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} أخبر عز وجل أنا إن لم نحكم هذا النبي العظيم، ثم إذا حكم لم نجد في أنفسنا حرجاً، وضيقاً من حكمه، بل نطمئن له ونسلم وننقاد ونذعن؛ وإلا فنحن غير مؤمنين، فكفى بهذه الآية واعظاً وزاجراً لمن وفقه الله تعالى.

التاسع عشر: النقباء

فإن قال رجل من هؤلاء: "من أين أعرف هذا، وأنا عامي تركي لا أعرف كتاباً ولا سنة؟ ! قلنا له: هذا لا ينفعك عند الله شيئاً، ألم يجعل لك عينين، ولساناً، وشفتين، وهداك النجدين. فإن كنت لا تعرف فاسأل أهل الذكر، وإن عجزت عن الفهم فما لك والدخول في هذه الوظيفة دعها إذا لم تستطع لمن يفهم". التاسع عشر: "النقباء بأبواب الحجاب، والولاة. عليهم إذا جهز أحدهم في طلب غريم - السكون في الحركة، والرفق به. وحرام عليه أن يزعجه، ويرعبه؛ فإن هو فعل ذلك، فهلك المطلوب، أو أحد في الدار. وكثيراً ما تجهض الحامل جنينها - فقد أوجب عليه بعض العلماء القصاص.

العشرون: الوالي

وإن كان إنما فعل ذلك لحطام الدنيا، وأن يقال: النقيب الفلاني شاطر ناهض، فذاك أقبح وأشنع، بل عليه الرفق ذاهباً وآئباً، ويرفق إذا علم الحال في النهاية إلى الحاكم؛ بحيث لا يزداد الأمر شدة، ولا الأمير حدة". العشرون: "الوالي: وكان هذا الاسم قديماً لا يسمى به إلا نائب السلطان، وهو الآن اسم لمن / إليه أمر أهل الجرائم من اللصوص، والخمارين، ونحوهم. ومن حقه الفحص عن المنكرات، وسد الذريعة فيها، والستر على من ستره الله تعالى من أرباب المعاصي، وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم، وليس له أن يتجسس على الناس ويبحث عنهم، ولا كبس بيوتهم لمجرد القيل، قال تعالى: {ولا تجسسوا}. وثبت في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا". قال العلماء: أراد بالظن سوء الظن، وقيل لابن مسعود: هذا فلان تقطر لحيته خمراً. فقال: إنا نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر شيء نأخذ به. أخرجه ابو داود، وأخرج أيضاً عن معاوية، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول: "إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم، أو كدت تفسدهم" فحق على الوالي إذا تيقن شيئاً - أن يبعث سراً رجلاً مأموناً ينهى عن المنكر بقدر ما نهى الله تعالى عنه، ولا يزيد على ذلك، وما يفعله الولاة في زماننا من إخراج القوم من بيوتهم، وإرعابهم وضربهم وهتيكتهم كل ذلك من تعدي حدود الله تعالى، والظلم القبيح. وليس للوالي غير أن يجلدهم فقط بسوط معتدل بين القضيب والعصا لا رطب، ولا يابس، ويفرق السياط على الأعضاء، ويتقي الوجه، والمقتل، ولا يتقي الرأس على الصحيح عندنا، وهو مذهب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وفيه وجه أن يتقيه وهو مذهب: علي - رضي الله عنه -.

وبه قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -، ولا يلقى على وجهه، ولا يمد ولا يجرد عن ثيابه، بل عن مقدار ما يدفع وصول الألم، ويترك عليه قميص، أو قميصان. ولا يقام عليه الحد في حال سكر، بل يؤخر حتى يفيق. فإن أقامه في السكر أخطأ، ولم يعده إذا أفاق، نقله أبو حيان التوحيدي عن القاضي أبي حامد".

الحادي والعشرون: أمراء الدولة

"ومن أحكام الولاة الفاسدة، أنه إذا رفع إليهم من أزال بكارة امرأة أمروه بزواجها، وكذلك إذا أحبلها، ظناً منهم أن ذلك خير من ضياع الولد بلا نسب، وهتيكة الزنا. وهذا خلاف دين الله تعالى؛ فإن ولد الزنا لا يلحق بالزاني، ولا يكون ابناً له، ولا يرثه، فيفعلون حراماً يستمر أبد الآباد، وهو جعل ولد الزنا ولده يرثه الزاني، ويصلي عليه إلى غير ذلك من الأحكام، وحكم الله في من أزال بكارة بكر إن كانت مكرهة، وجب لها مهر بكر، وأرش بكارة على الصحيح وقيل: مهر ثيب، وأرش بكارة. وقيل: مهر بكر فقط. وكل منها وقع للرافعي ترجيحه، وتبعه النووي، ولكن الأول هو التحقيق، وأما المطاوعة فلا يجب لها شيء". الحادي والعشرون: "أمراء الدولة. عليهم تفقد حال مماليكهم وتعليمهم الآداب الشرعية، وكذا الأجناد والأتباع فيعلمونهم قراءة القرآن، أو شيئاً منه، وأمور دينهم، من وضوء وغسل، وصلاة

وصيام، وحج وزكاة، ونحو ذلك. ويعرفونهم بعد ذلك رمي النشاب، واللعب بالرمح والكرة، والصولجان، والمسابقة على الخيل؛ بحيث يعرفون الطعن والضرب، وآلات الحرب. وبحثهم الأمير في المسابقة والمناضلة على الرهن؛ لتنبعث عزائمهم /، أو يبذل لمن غلب منهم شيئاً من الدنيا ليرغبه، والرهن في ذلك جائز. ومن شرط العقد عليه أن لا يكون على صورة القمار، وإلا فهو حرام لا يلزم فيه العوض، وصورة القمار: أن يكون كل واحد منهما لا يخلو عن غنم، أو غرمٍ؛ مثل أن يخرج كل واحد منهما ديناراً مثلاً على أن من سبق منهما أخذ الدينارين جميعاً. فهذا حرام، إلا أن يكون هناك محلل؛ وهو ثالث يسابقهما بفرس كفئ لفرسيهما على أنه إن سبقهما أخذ الدينارين، وإن سبقاه لم يغرم شيئاً، وما تعتاده الأمراء في هذا الزمان من اللعب بالكرة والصولجان حال. وينبغي أن يقصدوا به تعليم الخيل الإقبال، والإدبار، والكر، والفر". "وعلى الأمير إن سار بالجيش الرفق بهم، والسير على سير أضعفهم وتفقد خيولهم، وتقوية قلوبهم، وإعانتهم في مصالحهم. ومن قبائح كثير من الأمراء أنهم لا يوقرون أهل العلم، ولا يعرفون لهم حقوقهم، وينكرون عليهم ما هم مرتكبون أضعافه.

وما أحمق الأمير إذا كان مرتكباً معصية، ووجد فقيها يقال عنه مثلها، أن يبغضه، ويعيبه، وينتقصه، وماله لا ينظر إلى نفسه مع ما خوله الله فيه من النعم! أليس هو [بشراً] مثله غير معصوم، أو أن يعتقد أن المعصية حرام على الفقيه دونه، أما علم أن القبيح عند الله حرام بالنسبة إلى كل أحد. وربما كان الفقيه ما يستر قبيحه، وليس عند الأمير وراء ذلك القبيح إلا أمثاله من القبائح. فمما يتعين على الأمير إذا أنهى إليه عن أحد من أهل العلم سوء أن لا يصدقه، بل يحسن الظن بهذه الطائفة التي لحومهم مسمومة، (ولقد استقرئ أنه ما أمير يغض من جانب الفقهاء وينقصهم، إلا وكانت عاقبته وخيمة، وسيرته ذميمة). فإن تيقن على أحد منهم سوءاً، واتضح عنده كالشمس - ولن يصير ذلك إن شاء الله تعالى - فعلى الأمير بعد ذلك أن يتفقد نفسه؛ فإن كان هو أيضاً يفعل ذلك، فليعد على نفسه باللائمة، ويقول لنفسه: أنا أذنبت ذنبين؛ لأني جاهل مرتكب هذا القبيح، فكيف أؤاخذ من لا يذنب إلا واحداً وأنا أنجس منه". "وحكى أن فقيهاً وقع إلى بعض الأمراء، وهو سكران فأخذ يجلده، والأمير

أيضاً سكران، فلما قام الفقيه قال: رب اغفر لي وتب علي، وجاء إلى قاض فقال له: أقم (علي الحد) فإن الأمير فاسق لا تصح إقامته للحدود، فأهلك الله ذلك الأمير بعد أيام يسيرة، ومنها استكثارهم الأرزاق، وإن قلت - على العلماء، واستقلالهم الأرزاق - وإن كثرت - على أنفسهم. وترى كثيراً منهم يعيبون على بعض الفقهاء ركوب الخيل، ولبس الثياب الفاخرة، وهذه الطائفة يخشى عليها زوال النعمة عن قريب؛ فإنها تتبخر في أنعم الله تعالى مع الجهل والمعصية. وتنقم على خاصة خلقه يسيراً مما هم فيه أفما يخشون ربهم من فوقهم، ولو اعتبر واحد منهم رزق أكبر فقيه لوجده دون رزق أقل مملوك عنده". قلت: وينبغي أن ينقش على دوي الأمراء العادلين ما نظمه الإمام العلامة تاج الدني السبكي - تغمده الله تعالى برحمته - ما صورته /: حلفت من يكتب بي ... بالله رب العالم ألا يمد مدة ... تؤلم قلب عالم "ومنها: ما يبدلونه من الذهب في الأطرزة العريضة والمناطق وغيرها من

أنواع الزراكش التي حرمها الله تعالى على ذكور هذه الأمة المحمدية، وزخرفة البيوت، سقوفها وحيطانها بالذهب، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضيق سكة المسلمين. وأنت إذا اعتبرت ما يذهب من الذهب في هذه الأغراض الفاسدة، تجده قناطير مقنطرة، لا يحصيها إلا الله تعالى، ففكر واحسب كم على وجه الأرض من طراز ومنطقة وكنبوش وسرج وسلسلة وحلي حرام؟ وكم يكون مبلغه إذا اجتمع وضرب نقداً [يتعامل] به المسلمون؟ . "فإنه لا بد في صياغة كل ذلك من ذهاب شيء، - وإن قل تأكله النار، وهو في الأبنية أكثر. فإذا ضممت ذلك القليل إلى قليل آخر على الاختلاف في البقاع، والأزمان؛ لم يحصل ما ضاع من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلا الله، ثم ذاك القدر الذي يسلم، ولا يضيع عندهم محبوساً، يتوارثونه جيلاً بعد جيل، ولو كان

(ذلك مضروباً) سكة يتباذله المسلمون لانتفعوا به، ورخصت البضائع، وكثرت الأموال، ولكنهم احتجروا ذلك وضيقوا على المسلمين معايشهم فلله الأمر". "ولما طلب الملك المظفر سيف الدين قطز شيخ الإسلام سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام بحضرة الملك الظاهر بيبرس، والملك المنصور قلاوون وغيرهما من الأمراء، وحادثه في الخروج إلى لقاء العدو من التتار، لما دهموا البلاد

ووصلوا إلى عين جالوت "فقال له الشيخ اخرج وأنا أضمن لك على الله النصر ... فقال: إن المال في الخزانة قليل، وأريد الاقتراض من التجار". فقال: إذا أحضرت أنت وجميع العسكر كل ما في بيوتكم، وعلى نسائكم من الحلي الحرام، وضربته على السكة، ونفقته في الجيش، وقصر عن القيام بكلفتهم، أنا أسأل لكم الله تعالى في إظهار كنز من الأرض يكفيكم ويفضل عنكم. وأما أنكم تأخذون أموال (المسلمين والرعايا) بغير حق، وتخرجون إلى لقاء العدو، وعليكم مثل هذه المحرمات، وتطلبون من الله النصر، فهذا لا سبيل إليه فوافقوه. وأخرجوا ما عندهم ففرقه وكفى وخرجوا وانتصروا بمعونة الله تعالى". "ومنها ركوبهم والجنائب تقاد بين أيديهم مسرجة غير مركوبة، ويجدون مع ذلك المحتاج المنقطع في الأسفار وغيرها ماشياً، فلا يركبونه، وإنما يمشون بها للفخر والزينة والخيلاء لا للحاجة" "من حمل ضعيف، أو منقطع يرونه في الطريق، أما من قادها لأجل ذلك أو في الجهاد خشية أن فرسه يموت أو يعجز فهو حسن.

الثاني والعشرون: الأجناد

ومنه: أن الجندي يقاتل ويخاطر بنفسه فيقتل في الحرب كافراً، فلا يعطونه سلبه. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه إياه كما هو مشهور في الحديث الصحيح فيمنعونه حقه الذي أعطاه إياه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. ويفترون بذلك عزائم الجند وتضعف هممهم. الثاني والعشرون: الأجناد "فمن حق الله سبحانه وتعالى عليهم وشكر نعمته اللطف منهم بالفلاحين، الذين تحت أيديهم، إذ لو شاء الله لقلب الفلاح جندياً، والجندي / فلاحاً فإذا كان الجندي لا يشكر نعمة الله عليه أن رفعه على درجة الفلاح، فلا اقل من أن يكفى الفلاح شره، وظلمه؛ فهو آدمي مثله حر مسلم لا رق فيه ومع ذلك قد يكون فيهم صالحون،

الثالث والعشرون: أمراء العرب في هذا الزمان

ومن هو خير من الجندي عند الله سبحانه، وعلى الجند في حروب الكفار مصابرة العدو إذا التقى الجمعان، فلا ينهزم الجمع إلا عن أكثر من مثليه بما له وقع؛ كانهزام مائة عن مائتين وخمسين، وأما انهزامه عن مثيله. كعشرة من عشرين فلا يجوز، إلا أن ينصرف متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة يستنجد بها، وإذا طلب الكافر المبارزة استحب لمن جرب نفسه الخروج إليه بإذن أمير الجيش، وعليهم تأدية الأمانة فيما حازوه من الغنائم، وامتثال أمر الأمير فيما لم يخالف الشرع، والتعاون والتناصر واجتماع الكلمة لتكون كلمة الله هي العليا". الثالث والعشرون: "أمراء العرب في هذا الزمان. وهم الذين يظعنون وينزلون. وقد أنعم الله تعالى عليهم بالأرزاق الوافرة، والإقطاعات الهائلة، فلا أقل من أن يرفعوا أذاهم عن المسلمين، ويكفوا شرهم عن عباد الله الصالحين.

ومن قبائحهم أنه إذا أقطع السلطان (إقطاع واحد منهم)، تسلط على قطع الطرقات وأذية من لم يؤذه، وأخذ مال من لم يظلمه، ولا يتوقفون في سفك الدماء لأجل هذا الغرض؛ وبذلك يهلكهم الله - عز وجل -، ولو أنهم صبروا واتقوا الله تعالى لكان خيراً لهم. ومن أعظمهم جرماً هرب الحجاز وعبيد عربها، ربما اعتقد بعضهم حل أموال الحاج، وسفك دم امرئ مسلم حاج على درهم. ولا يخفى ما في ذلك من الجرأة على اليد تعالى، وكثير من العرب لا يتزوجون المرأة بعقد شرعي، وإنما يأخذونها باليد، وربما كانت في عصمة واحد فينزل عليها أمير غيره، ويستأذن أباها، ويأخذها من زوجها قهراً. فأي ولد حلال ينتج من هؤلاء؟ لا جرم أنهم لا يلدون إلا فاجراً كفاراً، ومنها: أنهم لا يورثون البنات ما قسم الله لهن في كتابه العزيز، ولا يمنعون الزنا في الجواري، بل جواريهن يتظاهرون بالزنا، وكل ذلك من الموبقات العظام".

الباب الثاني "في القضاة والعلماء وتوابعهم على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم"

الباب الثاني "في القضاة والعلماء وتوابعهم على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم"

الأول: القاضي

الباب الثاني: في القضاة والعلماء وتوابعهم على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم وفيه أمثلة؛ الأول: القاضي: وقد أفرد جماعة من العلماء كتاب القضاء بالتصنيف، وكتب الفقه مشحونة بما يتعين للقاضي وعليه، ولكنا نشير ها هنا إلى عيون من ذلك فنقول: ينبغي أن يعلم أن القاضي لغة: اسم لكل من قضى بين اثنين، أو حكم بينهما سواء سمى خليفة أو سلطاناً أو نائباً، أو والياً؛ حتى من يحكم بين الصبيان، في الخطوط إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه غلب في العرب على المنصوب من جهة الإمام، ليقضي بالشرع أو نائباً له وعليه أمور: منها؛ عدم قبوله الهدايا؛ فإنها من أقبح النتائج به فليسد بابها بالكلية. "وقد علم أن مذهب الشافعي - رضي الله عنه -، أنه لا يجوز للقاضي أن يقبل الهدية، ممن لم تكن له عادة أن يهاديه قبل ولايته القضاء، ولا ممن كانت له عادة ما دامت له حكومة.

ومذاهب العلماء في المسألة معروفة". وروى إبراهيم الحربي عن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها، فأهدى له صاحبها وصيفاً فرده عليه وقال: سمعت ابن مسعود يقول: "من رد عن مسلم مظلمة فرزقه عليها قليلاً، أو كثيراً فهو سحت فقلت: يا ابا عبد الرحمن [ما كنا] نرى السحت إلا الرشوة [في] الحكم قال: ذلك كفر". "ومما يتعين عليه تفهيم الملك الحكم الشرعي فيما ينهي من الوقائع ومناضلته

عنده عنها، وإفهامه أن ذلك هو الدين الذي إن حاد عنه هلك، وإن اعتمده نجا". "ومنها: أن ينظر في أمر الأوقاف، والمستحقين من المشتغلين / والمحتاجين وغيرهم، وهذا يخص قاضي الشافعية ببلادنا، البلاد الإسلامية؛ لأنه كبير القضاة، وله النظر العام في الأوقاف وغيرها، فهو بذلك أمس". قال الشيخ تاج الدين السبكي: "ومما هونت بعض القضاة فيه الأمر الحكم بالصحة، فتراهم يقدمون عليه بمجرد ثبوت العقد والملك والحيازة، وكان الشيخ الإمام - يعني والده - رحمه الله تعالى - يشدد النكير في ذلك، ويذكر للصحة المطلقة عنده اثنين وعشرين شرطاً: ككون المبيع - مثلاً - طاهراً منتفعاً به، مقدوراً على تسليمه، مملوكاً للعاقد، ولمن يقع العقد له، مرئياً رؤية لا تتقدم على العقد بزمان يمكن التغيير فيه معلوماً، وكل واحد من البائع والمشتري كونه بالغاً عاقلاً رشيداً، مختاراً غير محجور عليه في تلك السلعة المبيعة، وكون الثمن المعين مستجمعاً شروط المبيع، وأما الذي في الذمة فالعلم بقدره، ووصفه، وكون العقد بإيجاب، وقبول لا يطول الفصل بينهما، ولا يقترن به شرط مفسد، وأن ينقضي الخيار الحال على ذلك، والدعوى والإنكار (وإقامة البينة بما ليس بظاهر وجوده) من هذه الأشياء وسؤال الحكم، وحضور المحكوم عليه، أو وكيله، أو المنصوب عنه، قال: فهذه عشرون شرطاً قال: والإعذار مختلف فيه. ووصيتي لكل قاضٍ أن لا يحكم إلا به ولا

يحكم بعلمه، بل بالبينة. وفي اشتراط العلم بالملك خلاف معروف فيما لو باع مال أبيه على ظن حياته فبان ميتاً؛ فإن شرطناه فهي اثنان وعشرون شرطاً قال: وأما الصحة بالنسبة إلى المتداعين في شيء كما إذا ادعى أحدهما أنه غير مرئي. وكان الحاكم لا يرى اشتراط الرؤية، فيحكم عليه بالصحة مع عدم الرؤية؛ لأنه مذهبه، ولم يحصل النزاع إلا فيه. فهذا حكم بصحة مقيدة لا بصحة مطلقة، فلا يمنع حاكم آخر من الحكم بفساده من جهة أخرى". وقال الشيخ الإمام العلامة الحافظ "ولي الدين أحمد بن الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي" تغمدهما الله برحمته في ما جمعه على الحكم بالصحة

والحكم الموجب والفرق بينهما. "وقد عهدنا الحكم على طريقة في الحكم بهما، وهي أنهم إن قامت عندهم البينة العادلة باستيفاء العاقد شروط ذلك العقد الذي يراد الحكم به، حكم بصحته، وإن لم تقم البينة باستيفاء شروطه حكم بموجبه. فالحكم بالموجب – عندهم أحط مرتبة من الحكم بالصحة"، إلى أن قال: "وما نقلته من عمل الحكام يدل على أن الحكم بالموجب لا يزيد على الثبوت بالمجرد شيئاً، لكن ما زالوا يرون الحكم بالموجب تمييزاً على مجرد الثبوت والله أعلم. قلت وهذا المصنف المذكور نفيس مفيد، وقد قرأته بحمد الله بحثاً على تلميذ مصنفه شيخنا الإمام العلامة قاضي القضاة شرف الدين يحيى المناوي أطال الله في

عمره وأجازني بإقرائها بحثاً، وروايتها بحث قراءته لها على مؤلفها / وإجازته له كذلك. "ومن كلام الشيخ الإمام تقي الدين السبكي تغمده الله برحمته في وصية أخرى للقضاة بعد أن ساق فيها حديث "القضاة ثلاثة رواه أصحاب السنن بلفظ واحد في الجنة، واثنان في النار؛ قاض قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة، وقاض قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، وقاض قضى بغير الحق فهو في النار". ما نصه: "تنبه أيها القاضي لما أنت فيه من الأخطار، وطب نفساً إذا حكمت بحق، وبعلم لله، تعالى، وإلا فلا – لا. واعلم أن الحلال بين، وهو الذي تجده منصوصاً عليه في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -، أو مجمعاً عليه، أو عليه دليل جيد غير ذلك من سائر الأدلة الراجعة إلى الكتاب والسنة، بحيث ينشرح صدرك بأنه حكم الله تعالى. فهذا حكمك به عبادة تثاب عليه". "وينبغي لك أن تقصد به وجه الله تعالى، ولا يكون حكمك به لمخلوق، ولا لغرض من أغراض الدنيا فبذلك تكمل العبادة فيه، وتنال الأجر من خالقك. وإن حكمت به لغرض من أغراض الدنيا صح الحكم، ولكن لا يكون فيه أجر،

وما سوى هذا فهو على درجات: إحداها: أن تحكم بذلك من غير قصد القربة، ولا غرض من الأغراض الدنيوية، فهذا خير من القسم الذي قبله، ولكن يظهر أيضاً أنه لا أجر فيه؛ لعدم قصد القربة. واعلم أنه لا يشترط وجود قصد القربة عند كل حكم، بل يكتفى به في أصل ولاية القضاء، لأنه قد يشق استحضاره في كل حكم فيكتفي به عند الدخول في أوله، كما اكتفى بنية المجاهد في أول خروجه. الرتبة الثالثة: أن يكون الحكم مختلفاً فيه، وحصل لك ما يجوز الإقدام على الحكم به من الأدلة الشرعية مع احتمال يمنع من انشراح الصدر له الانشراح الكلي. فهذا جائز والأجر فيه دون القسم المجمع عليه؛ لأن المصلحة في المجمع عليه أتم، فالعبادة فيه أكمل". [الرتبة] الرابعة: أن تحصل شبهة تمنع من غلبة الظن بأن ذلك حكم الله تعالى؛ فلا يحل لك الحكم. الخامسة: أن يعتقد أنه خلاف حكم الله تعالى، فلا يحل الحكم وإن كان بعض العلماء قال به. السادسة: أن يكون مجمعاً على أنه ليس بحكم الله تعالى، فلا يحل الحكم أصلاً.

واعلم أن الرتبتين الأخيرتين ما أعلم أحداً يقدم عليهما إن شاء الله تعالى. والرتبة الرابعة: قد يكون عن قيام الشك، ومخالجة الاحتمال. قد تسول لك نفسك، أو الشيطان، أو أحد من الناس الإقدام على الحكم لغرض من الأغراض، ويسهل عليك لأنك لم تجزم بالتحريم، فإياك أن تقدم على الحكم، ثم إياك". فائدة: ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية أن نظر القاضي يشتمل على عشرة أحكام، وينبغي لكل قاض الاعتماد والعمل بكتاب الشيخ الإمام: شيخ الإسلام وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، الذي كتبه لبعض نوابه يوصيه فيه بأمور، لما ولي القضاء بالديار المصرية. وكذا رسالة قاضي القضاة جلال الدين

الثاني: كاتب القاضي

البلقيني إلى القضاة التي سماها: بذل النصيحة في دفع الفضيحة، ينبغي حفظها والعمل بما فيها نسأل الله التوفيق لمرضاته. الثاني: "كاتب القاضي: أي موقعه، ومن حقه أن يعرف مدلولات الألفاظ العرفية واللغوية. وأن يكون حسن الفهم عن اللافظين من عوام الواقفين، والمقرين وغيرهم، وأن ينبع كل لافظ على مدلول ما تلفظ به، وما يترتب عليه من الحكم الشرعي عن الأئمة الأربعة. وينبه على ما لعله يشك في إرادته له، ولقد ضاع كثير من أوقات المفتين والقضاة في مدلولات ألفاظ عوام الواقفين، ضياعاً كثيراً منشؤه الشروطيون المتمسكون بظاهر الألفاظ، من غير معرفة مدلولاتها الشرعية أو العرفية. وقد كثر من العارفين منهم، أن يكتبوا في بيع القرية مثلاً: خلا ما فيها من مسجد لله تعالى، ومقبرة، وملك لأربابه، ووقف: يذكرون ذلك بعد تحديد القرية، ولا يحددون هذا المستثنى، فيورث ذلك الجهل بالمبيع.

الثالث: حاجب القاضي

قال السبكي: إن كانت تلك المواضع معروفة للمتعاقدين صح البيع، وإلا فيحتمل أن يفسد؛ لأن جهالتها تقتضي جهالة الباقي المعقود عليه. ويحتمل أن يقال: الجملة معلومة فلا يضر جهالة القدر المستثنى. قال: ولم أر فيه نقلاً، وأنا كتابة الشروطيين الصداق في الحرير، فمختلف في جوازه، وأفتى النووي بتحريمه، وعزاه إلى جماعات من أصحابنا. قال ابن السبكي: ولكن: الأظهر حله، لأنه لمصلحة النساء. وقد كان الوالد أولاً امتنع من الكتابة عليه، ثم رأيته يكتب، وهذا آخر الأمرين منه". الثالث: حاجب القاضي: من حقه الاستئذان على ذوي الحاجات، ورفع الأمور إلى القاضي بلطف حسب ما ذكره الفقهاء رضي الله عنهم" وأما نقيبه فمن حقه أن يكون عفيفاً نظيفاً محترزاً أن يدخل على القاضي ما يشينه في دينه، أو دنياه، ناصحاً له ما أمكنه، "ومن حقه تنبيه (القاضي على الشهود) وتنبيه (الشهود على القاضي) " "وأما

أمناؤه فعليهم التحفظ في أموال الأيتام والغائبين جهدهم، وأن يراقبوا وجه الله سبحانه ويخشوا عذابه، والصحيح عند السبكي أنه لا يجوز للقاضي إقراض مال اليتيم وعلى الأمناء إذا أمر القاضي بصرف زكاة اليتيم تأديتها لمن يعينها له مهنأة ميسرة. ولا يجوز إخراجها قبل الحول سلفاً، ومن أحوج أم اليتيم أن تتردد إلى بابه لأخذ نفقة اليتيم من ماله، فقد ظلم ظلماً عظيماً". "وأما وكلاء دار القاضي فمن حقهم التفهم عن الموكل، ومعرفة الواقعة، والحق في أي الطرفين، ولا يتوكل على المحق معتذراً بأنه وكيل، ولا يبدي من الحجة إلا ما يعرفه حقاً، أو يقوله له الموكل وهو يجهل الحال فيعتمد عليه. فإن علمه باطلاً وألى به إلى أخذ ما لا يستحقه، فهو في جهنم"، "وقد ذمهم قوم فقالوا هم أناس فضل عنهم الفضول فباعوه لغيرهم، ومدحهم آخرون، فقالوا: هم أناس نصبوا أنفسهم لخلاص حقوق الخلق، والحق أن من أراد منهم وجه الله فهو محمود، وإن تناول أجرته، ومن أراد الخصام وإبطال الحقوق، فهو مذموم" عند الله / وعند الناس.

الرابع: الشهود

الرابع: "الشهود. وبهم قوام غالب المعاش والمبادلات وقد ذكر الفقهاء ما لهم، وعليهم، فاستوعبوا وذمهم قوم. وقالوا: إن سفيان الثوري قال: الناس عدول إلا العدول. وإن عبد الله بن المبارك قال: هم السفلة وأنشدوا: قوم إذا غضبوا كانت رماحهم ... بث الشهادة بين الناس بالزور هم السلاطين إلا أن حكمهم ... على السجلات والأملاك والدور وقال آخر: إياك أحقاد الشهود فإنما ... أحكامهم تجري على الحكام

قوم إذا خافوا عداوة قادر ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام ولآخر: احذر حوانيت الشهو ... د الأخسرين الأرذلينا قوم لئام يسرقو ... ن ويحلفون ويكذبونا وكل هذا غلو، وإفراط، والحق أن من سلك منهم ما أمر به واجتنب ما نهى عنه [فهو] محمود مأجور، غير أنهم قد غلب على أكثرهم التسرع إلى التحمل، وذلك مذموم، وأخذ الأجرة على الأداء وهو حرام وقسمة ما يتحصل لهم في الحانوت، وذلك منهم شركة أبدان، وهي غير جائزة، فعليهم النظر في ذلك كله، ومراقبة الحق سبحانه، وأما شهود القيمة، فعلى خطر عظيم" نسأل الله السلامة.

الخامس: ناظر الوقف

الخامس: ناظر الوقف ونحوه من المباشرين: من حقه عمارة الأوقاف، وتنميتها، ولزوم الأمانة فيها وعدم الخيانة، والاقتصار على تناول ما شرطه له الواقف، وأن يرعوا فيها المستحقين من طلبة العلم الفقراء، دون من له غنى أو جاه، "وقول الأصحاب إن ولي اليتيم لا يجب عليه المبالغة في الاستنماء وإنما الواجب أن يستنمي قدر ما لا يأكل النفقة، والمؤن المال صحيح. ولكن الزيادة من شكر النعمة. ومما تعم البلوى مدرسة أو خانقاه غير محصور عدد فقهائها، فنزل (القاضي أو الناظر) فيها اشخاصاً، وقرر لهم من المعلوم ما يستوعب قدر الارتفاع، فهل يجوز تنزيل زائد عليهم. قال ابن الرفعة: لا يجوز، قال السبكي: وهو الذي استقر عليه رأيي، بشرط أن يكون قرر فيها للفقيه، مثلاً قدراً معيناً. أما لو قرر عشرة مثلاً، ولم ينص

السادس: وكيل بيت المال

في معاليمهم على قدر ولا جزء معين من أصل الوقف، وهو غالباً ما يقع في المدارس التي ليست بمحصورة - فلا يمتنع. ومنه ناظر وقف يؤجر حانوتاً، أو نحوه خراباً، بشرط أن يعمره المستأجر بماله، ويكون ما أنفقه محسوباً من أجرته، وهذه الإجارة باطلة؛ لأن عقد الإجارة غير منتفع به، أما إن كان الحانوت منتفعاً به فأجره بأجرة معلومة، ثم أذن للمستأجر في صرفها إلى العمارة جاز صرح به الرافعي في أوائل الإجارة. ولا يجوز إجارة الحمام بشرط أن تكون مدة تعطله بسبب العمارة، أو نحوها محسوبة على المستأجر، وعلى المؤجر". السادس: وكيل بيت المال. من حقه ألا يبيع من أملاك بيت المال ما المصلحة في بقائه، ولا يبيع إلا بغبطة ظاهرة، أو حاجة، كما في البيع على اليتامى" /. قال ابن السبكي: "وكثر في زماننا من وكلاء بيت المال من يبيع من الشارع ما يفضل عن حاجة المسلمين.

السابع: العلماء

وقد أفتى ابن الرفعة، والشيخ الإمام الوالد بأن ذلك حرام، وفقهاء العصر يترددون في انعزال وكيل بيت المال بانعزال الإمام الأعظم وموته، وكان الشيخ الإمام يرى أنه لا ينعزل بذلك". السابع: العلماء. ويكفي في أمرهم ما جمعه الحافظ [محمد] أبو عبد الله الذهبي وسماه (كشف رغل أهل العلم). ولكنه تغالى فيه كثيراً كعادته، والحاصل أنهم "فرق كثيرة: منهم: المفسر، والمحدث، والفقيه، والأصولي، والمتكلم، والنحوي، وغيرهم. وتتشعب كل فرقة من هؤلاء شعوباً، وقبائل، ويجمع الكل أنه حق عليهم إرشاد المسلمين، وإفتاء المستفتين، ونصح الطالبين، وإظهار العلم للسائلين؛ فمن كتم علماً

ألجمه الله بلجام من نار وألا يقصدوا بالعلم الرياء والمباهاة، والسمعة، ولا جعله سبيلاً إلى الدنيا، فإن الدنيا أقل من ذلك. قال السيد الفضيل بن عياض: إني لأرحم ثلاثة: عزيز قوم ذل، وغنياً افتقر، وعالماً تلعب به الدنيا. فأقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها، وكدورتها وانصرامها، وعظم الآخرة، ودوامها، وصفاءها، وأن يعلم أنهما متضادتان، وأنهما ضرتان، متى أرضيت واحدة أسخطت الأخرى. ومن لا يعلم ذلك فهو فاسد العقل، لأن المشاهدة والتجربة ترشد العقلاء إلى ذلك، فكيف يكون في العلماء من لا عقل له، ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة، ودوامها فهو كافر لا إيمان له، ومن علم هذا كله ثم آثر الدنيا على الآخرة؛ فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته، وغلبت عليه شقوته؛ فكيف يعد من العلماء من هذه درجته". قال ابن السبكي: "وحق الحق إني لأعجب من عالم يجعل علمه سبيلاً إلى حطام الدنيا، وهو يرى كثيراً (من الجهال وصلوا) من الدنيا إلى ما لا ينتهي هو إليه! ولا إلى عشر منه فإذا كانت الدنيا تنال مع الجهل، فما بالنا نشتريها بأنفس

الأشياء، وهو العلم! فتعين عليه أن يقصد بالعلم وجه الله تعالى، والترقي إلى جوار الملأ الأعلى. "والكلام في العلماء، وما ينبغي لهم يطول، ولكننا ننبه على مهمات؛ : فمن هؤلاء من يطلب العلو في الدنيا، والتردد إلى أبواب السلاطين. والأمراء كما ذكرنا، وحب الجاه، والمناصب؛ فيؤديهم ذلك إلى ظلمة قلوبهم بهذه الأكدار، وزوال صفائها، وإلى أن العالم يشتغل بهم عن الازدياد في العلم، وربما كان تردده سبباً لذهاب علمه، وفقهه، ونسيانه، وفساد عقيدة الأمراء فيه؛ فإنهم يستحقرون المتردد إليهم ولا [يزالون] يعظمون الفقيه حتى يسالهم في حوائجه، ويؤول ذلك إلى أنهم يظنون في أهل العلم السوء، ولا يطيعونهم فيما يفتون به، وينتقصون العلم وأهله. وذلك فساد عظيم، وفيه هلاك العالم، فإن قال لك فقيه: إن التردد إلى أبواب السلاطين لإعزاز الحق ولنصرة الدين، ولغرض من الأغراض الصحيحة، فقل له: إن صح ما تقول - وأنت أضر بنفسك -. فأنت على خطر عظيم؛ لأنك قد انغمست في الدنيا، وأنت تدعي أنك / تقصد بها الآخرة. وإن ثبت هذا نقول فما نأمن عليك أن تنجر مع الدنيا وتهلك، ولذلك كان سفيان الثوري - رحمه الله تعالى - يقول: إن دعوك (لأن تقرأ) عليهم قل هو الله أحد، فلا تمض إليهم ولا تقرأها".

"ومنهم من يضيع كثيراً من أوقاته في طلب القضاء وغيره من المناصب؛ فإن كان مراده القوت، فالقوت يجئ بدون ذلك، وإن كان مراده الدنيا، فقد كان في اشتغاله بضعة الأجناد، والدواوين، وغيرهم من العامة، ما لعله أنجح في مقصده؛ فإن الدنيا في ايدي أولئك أكثر بكثير. ومنهم من يقول: أكرهت على القضاء؛ قال ابن السبكي، وأنا منذ عمري، وإلى الآن لم أر من أكره على القضاء الإكراه الشرعي، غير أن بلغنا أن جماعة من السلف ضربوا على أن يلوا القضاء فأبوا، وسمر باب أبي علي بن خيران مدة، ليلي فما ولي، وما ذاك إلا لأنهم يخشون ألا يقيموا فيه الحق لفساد الزمان، وإلا فالقضاء إذا أمكن فيه نصر الحق [ووصوله إلى أهله] من أعظم القربات، ولكن أين ذلك، وهم لا يدخلون في زماننا هذا في القضاء إلا بالسعي الشديد، وبذل المال الكثير، ومذهب كثير من العلماء من الشافعية، والحنفية، وغيرهم أن من يبذل الذهب على القضاء لا تصح أحكامه، ولا يخفى أنه إذا فسق ببذل الذهب لم يكن نافذ الأحكام.

وفي ذلك من الفساد العظيم ما لا يخفى على بصير قال وكأني بأحمق من الفقهاء يقول: تعين علي طلب القضاء، وأنا لا يخفى علي ما قاله الفقهاء فيمن تعين عليه، ولكن من الذي تعين عليه؟ (وأين هو في زماننا هذا) فقائل هذا ممن لبست عليه نفسه واستزله الشيطان من حيث لا يدري، أو ممن يريد التلبيس على الناس، هو [عليهم أضر من إبليس] نعوذ بالله منه"، ثم قال: "وقد أنشدنا بعضهم في قاضيين عزل أحدهما وولي الآخر: عندي حديث طريف ... بمثله يتغنى في قاضيين يعزى ... هذا وهذا يهنا هذا يقول آكرهونا ... وذا يقول استرحنا ويكذبان جميعاً ... [فمن] يصدق منا فإذا بلى الله تعالى أهل هذه الحزقة بولاية الجهال عليهم، ووصول وظائف القضاء، ومناصب الدين لغير أهلها، أليس ذلك عدلاً من الله سبحانه"!

الثامن: المفتي

لبعض ما يستحقه من سوء افعالنا. الثامن: المفتي وحق عليه ألا ينصب نفسه للإفتاء، إلا بعد تأهله، واستكماله لأدواته، وإلا فيكون غاشاً لنفسه وللمسلمين" وقد خص جماعة أدب الفتيا بالتصنيف ولكن ننبه على أمور يرتكبها [المفتون] في زماننا: فمنها: "أن منهم من يسهل أمر الشرع ويتناهى أن يفتي ببعض ما لا يعتقده من المذاهب، ويرخص لبعض الأمراء والأكابر ما رخص فيه لعموم الخلق بعض العلماء، فيقول: مثلاً لمن سأله عن انتقاض الوضوء بمس الذكر: لا ينتقض عند أبي حنيفة، وعن لعب الشطرنج وأكل لحم الخيل حلال عند الشافعي، وعن مجاوزة الحدود في التعزيرات (جائز عند مالك) وعن بيع الوقف إذا خرب، وتعطلت منفعته ولم يكن له ما يعمر به حلال عند أحمد بن حنبل، وهكذا فليت

شعري: بأي مذهب أفتى هذا؟ ! وعلى أي طريقة جرى؟ ! وبأي إمام يتعلق؟ ! فلقد ركب هذا / المفتي لنفسه بمجموع هذه الأمور (مذهباً لم يقله) أحد. فإن قيل: أليس قد ذهب بعضهم إلى جواز تتبع الرخص؟ قلنا: ذلك على ضعفه لا يوجب إغراء السفلة بدين الله، وتخصيص الأكابر دون غيرهم. مع أن قائل ذلك لا يعتقده أيضاً، وهذا من علامة الاستهانة بدين الله تعالى؛ نعوذ بالله من الخذلان". "ومنهم طائفة تصلبت في أمر دينها (تنكر المنكر) فتشدد فيه، وتأخذ بالأغلظ جزاها الله خيراً غير أنها تبالغ فتذكر الأغلظ من المذاهب: لضعفة الإيمان من الأمراء، والعوام، فيؤدي ذلك إلى عدم انقيادهم وسرعة نفورهم، ومن حقهم الملاطفة، وسلوك الطريق الأوسط، وتسهيل ما في تسهيله". فائدة: لمثل هؤلاء وتشديد ما ينبغي التشديد فيه مما يوصل إلى الخير، كل ذلك على

التاسع: المدرس وتوابعه

مقتضى (الشرع الشريف، بحسب ما يراه المفتي لائقاً بالحال. "ومنهم من يتسرع إلى الفتيا معتمداً على) ظواهر الألفاظ، غير متأمل فيها فيوقع الخلق في جهل عظيم، ويقع هو في إثم كبير، وربما أدى ذلك إلى إيراقة الدماء بغير حق" واستحلال الفروج المحرمة، ونحو ذلك، نسأل الله السلامة مما يؤدي إلى ذلك بمنه وكرمه. التاسع: المدرس وتوابعه، وحق عليه أن يحسن إلقاء الدرس، وتفهيمه للحاضرين. ثم إن كانوا مبتدئين فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات، بل يدربهم، ويأخذهم بالأهون فالأهون، إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق، وإن كانوا منتهين فلا يلقي عليهم الواضحات بل يدخل بهم في المشكلات الفقهية، ويخوض بهم في عبابه الزاخر، ومن أقبح المنكرات مدرس يحفظ سطرين أو ثلاثة من كتاب، ويجلس يلقيها ثم ينهض، فهذا المدرس إن كان لا يقدر على غير هذا القدر فهو غير صالح للتدريس. ولا يحل له أن يتناول معلومه، وقد عطل الجهة؛ لأنه لا معلوم لها. وينبغي أن لا يستحق الفقهاء المنزلون معه معلوماً؛ لأن مدرستهم شاغرة من مدرس. وإن كان يقدر على أكثر منه، ولكنه يسهل، ويتأول فهو أيضاً قبيح؛ لأن هذا يطرق العوام إلى روم هذه المناصب، فقل أن يوجد عامي لا يقدر على حفظ سطرين. ولو أن أهل العلم صانوه، وأعطى المدرس منهم التدريس حقه: فجلس، وألقى

جملة صالحة من العلم، وتكلم عليها كلام محقق عارف، وسأل وسئل، واعترض وأجاب، وأطال وأطاب: بحيث إذا حضره أحد من العوام، أو المبتدئين، أو المتوسطين، فهم من نفسه القصور عن الإتيان بمثل ما أتى به، وعرف أن العادة ألا يكون مدرس إلا هكذا والشرع كذلك، لم تطمح نفسه إلى هذه المرتبة، ولم تطمع العوام في أخذ وظائف العلماء" "وأما المعيد فعليه قدر زائد على سماع الدرس ونفعهم، وعمل ما يقتضيه لفظ الإعادة، وإلا فهو والفقيه سواء". وأما المفيد: فعليه أن يعتمد ما يحصل به في الدرس فائدة، من بحث زائد على بحث الجماعة، أو نقل فائدة، لم يقفوا عليها، أو مسألة غريبة ونحو ذلك، وإلا ضاع لفظ الإفادة وخصوصيتها، وكان أخذه العوض في مقابلتها حراماً". "وأما المنتهي من الفقهاء: فعليه / البحث والمناظرة فوق ما على من دونه؛ فإن هو سكت وتناول معلوم المنتهى لكونه في نفسه أعلم من الحاضرين، فما يكون شكر نعمة الله حق شكرها".

وأما "فقهاء المدرسة: فعليهم التفهم على قدر أفهامهم، والمذاكرة مع أقرانهم، والمواظبة على الدرس إلا لعذر شرعي. ومن أقبح ما يركبونه تحدث بعضهم مع بعض في أثناء قراءة الجزء من الربعة، فلا هم يقرءون ولا هم يسلمون من اللغو في الكلام، فإن انضم إلى ذلك أن قراءة الجزء شرط الواقف عليهم، وأن يكون حديثهم غيبة فقد جمعوا محرمات، ومنهم من لا يصغى للمادح، ولا يلتفت لما يقوله المدرس، بل ربما فتح كتاباً ينظر فيه أو جلس بعيداً عنه بحيث لا يسمعه، فهذا لا يستحق شيئاً من المعلوم، ولا يفيده أن يطالع في كتاب، فلو اكتفى الواقف منه بذلك لما شرط عليه الحضور للدرس". وأما "قارئ العشر: فينبغي أن يقدم قراءته قبل الدرس وعقيب فراغ الربعة إذا كان الدرس فيه ربعة تدور، كما هو الغالب، وأن يقرأ آية مناسبة للحال". وأما "المنشد: فينبغي له أن يذكر من الأشعار ما هو واضح اللفظ، صحيح المعنى، مشتملاً على مدائح سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعلى ذكر الله تعالى، و (على آلائه) وعظمته، وذكر الموت وما بعده؛ فكل ذلك حسن. وأهمه مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه الذي يفهم من إطلاق لفظ المنشد، فإن اقتصر على ذكر أبيات غزلية، أو حماسة فقد اساء، لا سيما

إذا كان في مجامع العلم". وأما "كاتب الغيبة: على الفقهاء: فعليه اعتماد الحق، وألا يكتب على كل من لم يحضر، ولكن عليه أن ينظر في سبب تخلفه، فإن كان له عذر بينه وإن هو كتب على غير بصيرة، فقد ظلمه حقه. وما يفعله بعض كتاب الغيبة في زماننا من الكتابة على من حضر ومسامحة من لم يحضر لجاه، وغرض دنيوي، فحرام بإجماع المسلمين، وإن سامح بعضهم لمجرد حطام يأخذه من الفقيه، أو الصوفي فهو على شفير جهنم". وأما "خازن الكتب: فحق عليه الاحتفاظ بها، وترميم شعثها، وحبكها عند الاحتياج والضنة بها على من ليس من أهلها، وبذلها للمحتاج إليها، وأن يقدم

العاشر: شيخ الرواية

في العارية الفقراء الذين يصعب عليهم تحصيل الكتب على الأغنياء، وكثيراً ما يشترط الواقف ألا يخرج الكتاب إلا برهن محرز قيمته، وهو شرط صحيح معتبر، فليس للخازن أن يخرجه إلا برهن، صرح به القفال في الفتاوى، والسبكي في تكملة شرح المهذب وذكر أنه ليس هو الرهن الشرعي. العاشر: "شيخ الرواية عليه أن يسمع المحدثين، ويستمع لما يقرؤونه، لفظة لفظة، بحيث يصح سماعهم، وليصبر عليهم؛ فإنهم وفد الله تعالى، ومتى وجد جزء حديث وكتاب تفرد شيخ بروايته كان فرض عين، عليه أن يسمعه". الحادي عشر: "كاتب السماع، عليه ضبط أسماء الحاضرين والسامعين، وتأمل من يسمع، ومن لا يسمع، وألا يكون كاذباً على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله /: "إن فلاناً سمع ولم يسمع، فإن هو تساهل في ذلك، فليتبوأ مقعده من النار".

الثاني عشر: الخطيب

الثاني عشر: "الخطيب، عليه أن يرفع صوته بحيث يسمعه أربعون نفساً من أهل الجمعة عندنا، فلو خطب سراً بحيث لم يسمع نفسه لم يصح" على الصحيح، وكذا لو كانوا صماً لا يسمعون لم يصح"، وأوصيه بتقوى الله فإنها رأس ماله، وهو بها أجدر من غيره، فإنه يوصي الناس بها، ويقبح عليه أن يكون بخلاف ذلك، وللناس في ذلك كلام كثير من نظم ونثر، فمنه "أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام يابن مريم عظ نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستح مني". "وأما الالتفات في الخطبة، والدق على درج المنبر في صعوده، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس، والمجازفة في وصف السلاطين عند الدعاء لهم، والمبالغة في الإسراع في الخطبة الثانية. فكل ذلك مكروه، ولا بأس بالدعاء للسلطان بالصلاح ونحوه، فإن صلاحه صلاح المسلمين، ولا يطيل الخطبة على الناس؛ فإن وراءه الشيخ، والضعيف، والصغير، وذا الحاجة، ولا يأتي بألفاظ قلقة يصعب فهمها على غير الخاصة، بل يذكر الواضح من الألفاظ، ولا يتكلف السجع، إلى

الثالث عشر: الواعظ

غير ذلك مما ذكره الفقهاء". الثالث عشر: "الواعظ، وعليه نحو ما على الخطيب، فليذكر بأيام الله تعالى، وليخف القوم في الله وينبئهم بأخبار السلف الصالحين وما كانوا عليه، وأهم ما ينبغي له، وللخطيب أن يتلو على نفسه {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، ويتذكر قول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم واعلم أن الكلام إذا خرج من القلب، وصل إلى القلب، فكل خطيب وواعظ لاه يكون عليه سيما الصلاح قل أن ينفع الله به". الرابع عشر: "القاص، وهو من يجلس، أو يقف في الطرقات يذكر شيئاً من الآيات، والأحاديث، وأخبار السلف، وينبغي له ألا يذكر إلا ما تفهمه العامة،

الخامس عشر: قارئ الكرسي

ويشتركون فيه، من الترغيب في الصلاة، والصوم، وإخراج الزكاة، والصدقة، ونحو ذلك، ولا يذكر عليهم شيئاً من أصول الدين، وفنون العقائد، وأحاديث الصفات؛ فإن ذلك يؤذيهم، ويجرهم إلى ما لا ينبغي". الخامس عشر: "قارئ الكرسي: وهو من يجلس يقرأ للعامة على "كرسي" شيئاً من الرقائق، والحديث، والتفسير، فيشترك هو والقاص في ذلك ويفترقان في أن القاص يقرأ من صدره وحفظه، وأما هذا فيقرأ من كتاب، ولا بأس بقراءته مثل: إحياء علوم الدين للغزالي و "رياض الصالحين" للنووي، و "سلاح المؤمن" و "الأدعية" لابن الإمام ونحوها".

السادس عشر: الإمام

السادس عشر: "الإمام من حقه النصح للمؤتمين خلفه: بأن يخلص في صلاته، ويجأر في دعائه، ويتضرع في ابتهاله، ويحسن طهارته وقراءته، ويحضر إلى المسجد أول الوقت؛ فإن اجتمع الناس بادر بالصلاة، وإلا انتظر الجمع ما لم يفحش الانتظار، وبالجملة ينبغي أن يأتي بصلاته على أكمل ما يطيقه من الأحوال، ومراعاة الخلاف، ومما تعم به البلوى إمام مسجد يستنيب في الإمامة بلا عذر /، وقد أفتى الشيخ عز الدين بأنه لا يستحق معلوماً؛ لأنه لم يباشر، ولا يستحق نائبه؛ لأنه غير متول، ووافقه النووي، لكن توقف فيه السبكي"، "وأما من جمع بين إمامة مسجدين فالذي يظهر أنه لا يجوز؛ لأنه مطالب في كل واحد منهما بأن يصلي أول الوقت، وتقديم أحد المسجدين على الآخر تحكم ولا ضرورة إلى ذلك. وأما تولية مدرستين شرط حضور كل منهما في وقت معين يلزم من حضوره في هذه إهمال تلك، فلا يجوز أيضاً". السابع عشر: "المؤذن. فعليه معرفة الوقت، وإبلاغ الصوت. ويؤذن للصبح من نصف الليل، وعند وجوب الوقت، ولذلك فيسن لهما مؤذنان وينبغي له إتقان معرفة علم الميقات لتحقق فن

الثامن عشر: الصوفية

الهيئة وجهة القبلة على الخصوص". الثامن عشر: "الصوفية. (حياهم الله) وقد تشعبت الأقوال فيهم تشعيباً ناشئاً عن الجهل بحقيقتهم ولكثرة المتلبسين بهما بحيث "قال الشيخ أبو محمد الجويني: "لا يصح الوقف عليهم؛ لأنه لا حد لهم يعرف، والصحيح صحته، وأنهم المعرضون

عن الدنيا، المشتغلون في أغلب الأوقات بالعبادة، ومن ثم قال الأستاذ أبو [القاسم] الجنيد: التصوف استعمال كل خلق سني وترك كل خلق دنيء". "وقال أبو بكر الشبلي: "ضبط حواسك، ومراعاة أنفاسك، وقال ذو النون: الصوفي من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإذا سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق"، وقال علي بن بندار: "التصوف إسقاط رؤية.

الخلق ظاهراً أو باطناً". وقال أبو علي الروذباري: الصوفي من لبس الصوف على اصلفا، وأذاق الهوى طعم الجفاء، ولزم طريق المصطفى، وكانت الدنيا منه القفا". "وقال الشيخ الإمام تقي الدين السبكي ينشد: تنازع الناس في الصوفي واختلفوا ... قدما، وظنوه مشتقاً من الصوف ولست أنحل هذا الاسم غير فتى ... صافي فصوفى حتى لقب الصوفي وهذه عبارات متقاربة. والحاصل أنهم أهل الله سبحانه وخاصته، الذين

ترتجي الرحمة بذكرهم، ويتنزل الغيب بدعائهم؛ فرضي الله عنهم وعنا بهم، وللقوم أوصاف وأخبار اشتملت عليها كتبهم" "وطرقهم كما قال شيخ الطائفة [أبو القاسم] الجنيد: طريقنا هذا مظبوط بالكتاب والسنة. وقال: الطريق مسدود على خلق الله، إلا على المقتفين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن حقهم تربية المريد إذا لاحت عليه لوائح الخير، وإمداده بالخاطر" والدعاء. ومنها: "الوقوف في إظهار ما يطلعهم الله عليه من المغيبات، ويخصهم به

التاسع عشر: شيخ الخانقاه

من الكرامات، على الإذن وهم لا يجيزون إشهارها، بلا فائدة، ولا يظهرونها إلا عن إذن لفائدة دينية: من تربية، أو بشارة، أو نذاره". "واعلم أنه قد تشبه بالقوم من ليس منهم؟ فأوجب ذلك نسبة أوليائهم إلى سوء الظن، ولعل ذلك من الله سبحانه قصداً لإخفاء لهذه الطائفة، التي تؤثر الخمول / على الظهور. وأكثرهم لا يرضى بدخول الخوانق، ولا (التعلق بشيء من) أسباب الدنيا. ونحن نتذكر بهم ولا نذكرهم. ولكنا نتكلم على ذوي الأسباب منهم فنقول". التاسع عشر: "شيخ الخانقاه. وربما سمي شيخ الشيوخ؛ وربما قيل شيخ شيوخ العارفين وكان بعض العلماء يشدد النكير في هذه العبارة، ويقول: لم يقنع بادعاء المعرفة؛ حتى ادعى أنه

شيخ شيوخها فحق على شيخ الخانقاه تربية المريد، وحمل الأذى والضين على نفسه، واعتبار قلوب جماعة قبل قوالبهم، والكلام مع كله منهم بحسب ما يقبله عقله، ويحمله قواه، ويصل إليه ذهنه، والكف عن ذكر ألفاظ ليس سامعها من أهلها، كالتجلي، والمشاهدة ورفع الحجاب، والسكر، ونحوها. فإن في ذكرها له من المفاسد ما لا خفاء به، بل يأخذ المريد بالصلاة والتلاوة والذكر، وتربيته على التدريج".

العشرون: فقراء الخوانق

العشرون: "فقراء الخوانق. "وأنت قد عرفت معنى الصوفي، (فقل لفقير) الخانقاه: إذا دخلتها (لتسد رمقك" وتستعين على حصول التصوف والعبادة، فلا بأس. وإن دخلتها لتجعلها وظيفة تحصل بها الدنيا، ولست متصفاً بالإعراض عنها، فأنت مبطل لا تستحق في وقف الصوفية شيئاً، وكل ما تأكله منها حرام؛ لأن الواقف لم يقفها إلا على الصوفية، وأنت لست منهم في شيء. وقد كثر من جماعة اتخاذ الخوانق أسباباً، والدلوق المرفعة طرائقاً للدنيا، فلم يتخلقوا من أخلاق القوم بغير لباء الزوو، وهؤلاء المتشبهة الذين (فيهم يقول) الإمام الشافعي فيما نقل عنه: (رجل نؤوم) أكول كثير الفضول.

الحادي والعشرون: خادم الخانقاه

"وقال أبو المظفر السمعاني: نعوذ بالله من العقرب، [والفار]، ومن الصوفي إذا عرف باب الدار، وكان أبو حيان يقول: هؤلاء أكلة بطلة سطلة لا شغل، ولا مشغلة، وقيل: "رجل يظهر الإسلام، ويبطن فاسد العقيدة، ونهاية الإقدام في رجله جمجم، وعذبته من قدام، يكون غالباً من بلاد الأعجام". "ولكن فيهم ولله الحمد: من لا يدخل الخانقاه إلا ليقطع، علائقه ويشتغل بربه، ويرضى بما تيسر منها معيناً له على سد رمقه وستر عورته فلله دره". الحادي والعشرون: "خادم الخانقاه. من حقه توفير أوقاتهم للعبادة؛ فإنه في عبادة ما دام يعينهم عليها هذه النية،

الثاني والعشروين: شيخ الزاوية

فينبغي له السعي في كل ما يكون [ذريعة إلى] ذلك، وينبغي احتياطه بفاضل أقواتهم، ووضعه في مستحق: من مسكين، أو هرة، ولا يرميه؛ فليس من شيمتهم طرد الزاد. وينبغي له أن ينمى وقفهم، كما ذكرنا في مباشري الأوقاف، فإنه المتكلم عنهم في مصالحهم". الثاني والعشروين: "شيخ الزاوية. وغالب الزوايا في البراري، والقرى، فمن حقه تهيئة الطعام للواردين، والمحتاجين، ومؤانستهم إذا قدموا، بحيث تزول عنهم خجلة الغربة، ولا بأس بإفراد مكان للوارد؛ لئلا يستحي وقت أكله وراحته".

الباب الثالث في الكلام على حقيقة الحسبة وما على المتحسب بخصوصه وما يشارك فيه غيره من الحكام وما ينفرد به

الباب الثالث في الكلام على حقيقة الحسبة وما على المتحسب بخصوصه وما يشارك فيه غيره من الحكام وما ينفرد به

الفصل الأول: الفرق بين المحتسب والمتطوع

الفصل الأول أما الحسبة فقال الإمام أبو الحسن الماوردي في كتاب "الأحكام السلطانية" هي الأمر بالمعروف، إذا ظهر. تركه، والنهي عن المنكر إذ ظهر فعله. قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}. وهذا إن صح عن كل مسلم، فالفرق فيه بين المحتسب، والمتطوع من تسعة أوجه: أحدها: أن فرضه متعين على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في فرض الكفاية. الثاني: أن قيام المحتسب به من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره. الثالث: أنه منصوب للاستعداد إليه [فيما] يجب إنكاره بخلافه. الرابع: أن عليه إجابة من للاستعداء بخلافه. الخامس: أن عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة (ليصل إلى إنكارها)،

ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحيث، ولا فحص. السادس: أن له أن يتخذ على الإنكار أعواناً؛ لأنه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب، ليكون له أقهر، وعليه اقدر، وليس لغيره ذلك. السابع: أن له أن يعزر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوزها إلى الحدود، وليس للمتطوع ذلك. الثامن: أن له أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوع ذلك. التاسع: أن له اجتهاد رأيه فيما يتعلق بالعرف دون الشرع، كالمقاعد في الأسواق، وإخراج الأجنحة، فيقر وينكر من ذلك ما أداه (إليه اجتهاده) وليس ذلك للمتطوع. ومن شروط المحتسب: أن يكون حراً عدلاً، ذا رأي صالح، وصرامة وخشونة في الدين، عالم بالمنكرات الظاهرة، اختلف أصحاب الشافعي هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟

على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الاصطخري أنه (له ذلك) وعليه يجب أن يكون عالماً من أهل الاجتهاد في أحكام الدين، ليجتهد فيها رأيه فيما اختلف فيه. الثاني: ليس له ذلك، ولا يردهم إلى مذهبه، بتسويغ اجتهاد الكافة فيما اختلف فيه، وعليه يجوز أن يكون من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بالمنكرات المتفق عليها.

الفصل الثاني: منزلة الحسبة من أحكام القضاء وأحكام المظالم

الفصل الثاني اعلم أن الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم، فهي لأحكام القضاء من وجهين: أحدهما: جواز الاستعداء إليه، وسماعه دعوى المستعدي على المستعدى عليه في حقوق الآدميين، وليس هذا على عموم الدعاوى، وإنما يختص بثلاثة أنواع منها: أحدها: أن يكون فيما يتعلق ببخس أو تطفيف في كيل أو وزن. الثاني: فيما يتعلق بغش، أو تدليس في مبيع أو ثمن. الثالث: فيما يتعلق بمطل وتأخير لدين مستحق مع المكنة. وإنما جاز نظره في هذه الأنواع الثلاثة دون ما عداها لتعلقها بمنكر ظاهر، هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بين، هو مندوب إلى إقامته؛ / لأن موضوع الحسبة: إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، وليس للناظر فيها أن يتجاوز ذلك إلى الحكم الناجز والفصل البات. الثاني: من وجهي الموافقة: أن له إلزام المدعى عليه الخروج من الحق الذي عليه،

وليس هذا على العموم في كل حق، وإنما هو خاص في الحقوق التي جاز له سماع الدعوى فيها، إذا وجبت باعتراف مع مكنة ويسار، فيلزم المقر للموسر الخروج منها، ودفعها إلى مستحقها؛ لأن في تأخيره لها منكر مع القدوة هو منصوب لإزالته. وقاصرة عنها من وجهين: أحدهما: قصورها عن سماع عموم الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات، من الدعاوى في العقود، والمعاملات، وسائر الحقوق والمطالبات، فلا يجوز له أن ينتدب لسماع الدعوى لها، وألا يتعرض للحكم فيها، لا في كثير الحقوق، ولا في قليلها، من درهم فما دونه، إلا أن يرد ذلك إليه بنص صريح، يزيد على إطلاق الحسبة، فيجوز ويصير بهذه الزيادة جامعاً بين قضاء وحسبة، فيراعي فيه أن يكون من أهل الاجتهاد؛ وإن اقتصر به على مطلق الحسبة، فالقضاة والحكام بالنظر في قليل ذلك وكثيره أحق. الثاني: أنها مقصورة على الحقوق المعترف بها، فأما ما تداخله التجاحد والتناكر فلا يجوز النظر فيها، لأن الحكم فيها يقف على سماع بينة (واختلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بينة) على إثبات حق، ولا أن يحلف يميناً على نفي حق، والقضاة والحكام بسماع البينات، وإحلاف الخصوم أحق، وزائدة عليها من وجهين:

أحدهما: أنه يجوز للناظر فيها أن يتعرض لتصفح ما يأمر به من المعروف، وينهي عنه من المنكر، وإن لم يحضره خصم يستعدي، وليس للقاضي أن يتعرض لذلك إلا بحضور خصم يجوز له سماع الدعوى منه، فإن تعرض القاضي لذلك وليس للقاضي خرج عن منصب ولايته، وصار متجوزاً في قاعدة نظره. الثاني: أن للناظر في الحسبة من سلاطة السلطنة، واستطالة الحماة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة؛ لأن الحسبة موضوعة (على الرهبة)، فلا يكون خروج المحتسب إليها بالسلاطة، والغلظة تجورا فيها، ولا خرقاً، والقضاء موضوع للمناصفة، فهو بالأناة، والوقار أخص. وأما بين الحسبة، والمظالم فبينهما شبه مؤتلف، وفرق مختلف أما الشبه الجامع بينهما فمن وجهين: أحدها: أن موضوعها مستقر على الرهبة المختصة بسلاطة السلطنة وقوة الصرامة. والثاني: جواز التعرض فيهما لأسباب المصالح، والتطلع إلى إنكار العدوان الظاهر. وأما الفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أن النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة، ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخفض، وجاز لوالي المظالم أن يرفع إلى القضاة، والمحتسبة، ولم يجز للقاضي أن يرفع (إلى والي) المظالم، وجاز له أن يرفع إلى المحتسب، ولم يجز للمحتسب أن يرفع إلى واحد منهما. الثاني: أنه يجوز لوالي المظالم أن يحكم، ولا يجوز (لوالي الحسبة) / أن يحكم ... انتهى.

الفصل الثالث: موضوع الحسبة

الفصل الثالث إذا تقرر ما وصفناه من موضوع الحسبة، ووضح الفرق بينها وبين القضاة، والمظالم، فهي تشتمل على فصلين: أحدهما: أمر بمعروف. والثاني: نهي عن منكر؛ فأما الأمر بالمعروف فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما يتعلق بحقوق الله. الثاني: ما يتعلق بحقوق الآدميين. والثالث: ما كان مشتركاً بينهما. فالأول ضربان: أحدهما: ما يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد، كترك الجمعة في وطن مسكون، فإن كانوا عدداً قد اتفق على انعقاد الجمعة بهم، كالأربعين فما زاد فواجب أن يأخذهم بإقامتها، ويأمرهم بفعلها، له أن يأمرهم بصلاة العيد؛ فإن قلنا: هي مسنونة كان الأمر بها ندباً، وإن قلنا من فروض الكفاية كان الأمر بها حتماً. وأما صلاة الجماعة في المساجد، وإقامة الآذان فيها للصلوات، فمن شعائر

الإسلام، وعلامات متعبداته، التي فرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دار الإسلام ودار الشرك. فإذا أجمع أهل محلة، أو بلد على تعطيل (الجماعات، ومساجدهم) وترك الآذان في أوقات صلواتهم، كان المحتسب مندوباً إلى أمرهم بذلك، وهل هو واجب عليه، يأثم بتركه أو مستحب له من يثاب على فعله؟ وجهان: فأما من ترك ذلك من آحاد الناس، أو ترك الآذان والإقامة لصلواته، فلا اعتراض للمحتسب عليه إذا لم يجعله عادة، وإلفاً؛ لأنها من الندب الذي يسقط بالأعذار، إلا أن يقترن به استرابة، أو يجعله إلفاً وعادة، ويخاف تعدي ذلك إلى غيره في الاقتداء به، فيراعى حكم المصلحة في زجره. والثاني: ما يؤمر به أحاد الناس، كتأخير الصلاة حتى تخرج وقتها، فيذكر بها ويؤمر بفعلها، ويراعى جوابه عنها.

فإن قال: تركها (لنسيان حثه) على فعلها بعد ذكره، ولم يؤدبه، فإن تركها لتوان أو هوان، أدبه زجراً وأخذه بفعلها جبراً، ولا اعتراض على من أخرها والوقت باق، لاختلاف الفقهاء في فضل التأخير، وكذلك الطهارة إذا فعلها على وجه سائغ يخالف فيه رأي المحتسب من إزالة النجاسة بالمائعات، والوضوء بما [تغير] بالمذرورات الطاهرات، والاقتصار على مسح أقل الرأس، أو العفو عن قدر

الدرهم من النجاسة، فلا اعتراض له في شيء من ذلك بأمر، ولا نهي. ولكن في اعتراضه عليهم في الوضوء بالنبيذ عندم عدم الماء وجهان، لما فيه من الإفضاء إلى استباحته على كل الأحوال، وأنه ربما يؤول شاربه إلى السكر، ثم على نظائر هذا الباب تكون أوامره بالمعروف في حقوق الله تعالى وأما المتعلق بحقوق الآدميين، فضربان، أيضاً عام، وخاص. فأما العام: فكالبلد إذا تعطل شربه، أو استهدم سوره، أو كان يطرقه بنوا السبيل من ذوي الحاجات، فكفوا عن معونتهم، فإن كان في بيت المال مال لم يتوجه عليهم في ذلك، طلب وكذا لو استهدمت مساجدهم وجوامعهم، ومراعاة ابن السبيل فهو فيهم، متوجه إلى كافة ذوي المكنة منهم، ولا يتعين أحدهم في الأمر به. فإن شرعوا فيه سقط عن المحتسب حق الأمر به، وعليه أن يأخذهم ببناء ما هدموه وليس له أن يأخذهم بإتمام ما / استأنفوه.

وأما الخاص فكالحقوق إذا بطلت، والديوان إذا أخرت، فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة إذا استعداه أصحاب الحقوق، وليس له أن يحبس بها لأن الحبس حكم، وله أن يلازم عليها لأن لصاحب الحق أن يلازم، وليس له الأخذ بنفقات الأقارب لافتقار ذلك إلى اجتهاد شرعي فيمن (تجب له، ويجب عليه) إلا أن يكون الحاكم قد فرضها، فيجوز للمحتسب أن يأمره بالقيام بها بشرطه. وأما قبول الوصايا والودائع، فليس له أن يأمر بها أعيان الناس وأحادهم، وله أن يأمر بها على العموم حثاً على التعاون بالبر والتقوى، ثم على هذا المثال تكون أوامره بالمعروف في حقوق الآدميين، وأما ما كان مشتركاً بين حقوق الله تعالى، وحقوق الآدميين فكأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى، والصالحين من أكفائهن إذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العدد إذا فورقن. وله تأديب من خالف في العدة من النساء، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء، ويأخذ السادة بحقوق العبيد، والإماء، وأن [لا يكلفوا] من العمل ما لا يطيقون، وكذا أرباب البهائم يأمرهم بعلفها إذا قصروا، وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق.

ومن أخذ لقيطاً في كفالته أمره أن يقوم بحق التقاطه، أو يسلمه إلى من يلتزم بكفالته. وكذا واجد الضوال إذا قصر فيها، يأخذه بمثل ذلك من القيام بها، أو تسليمها إلى من يقوم بها، ويكون ضامناً للضالة بالتقصير، ولا يكون ضامناً للقيط، وغذا سلمها إلى غيرها ضمنها، ولا يضمن اللقيط بالتسليم، ثم على نظائر هذا المثال.

الفصل الثاني: في النهي عن المنكر وينقسم أيضاً ثلاثة أقسام: أحدهما: ما كان من حقوق الله تعالى. والثاني: ما كان من حقوق الآدميين. والثالث: ما كان مشتركاً بين الحقين. فالأول على ثلاثة أقسام: أحدها: ما تعلق بالعبادات. والثاني: ما تعلق بالمحظورات. والثالث: ما تعلق بالمعاملات. أما المتعلق بالعبادات؛ فكالقاصد مخالفة هيئتها المشروعة، وتغيير أوصافها المسنونة كأن يقصد الجهر في صلاة الأسرار، وعكسه، أو يزيد فيها، أو في الآذان أذكاراً غير مسنونة، فلمحتسب إنكارها عليه، وتأديب المعاند فيها، إذا لم يقل بما ارتكبه إمام متبوع. وكذا إذا أخل بتطهير جسده، أو ثوبه، أو موضع صلاته، أو بترك الغسل من الجنابة، أو الوضوء، أو الصلاة والصيام، أنكره عليه إذا تحقق ذلك منه، ولا يؤاخذه بالتهمة والظنون، ولكن يجوز له معها أن يعظ ويحذر من عذاب الله تعالى على إسقاط حقوقه، والإخلال بمفروضاته. فإن رآه يأكل في شهر رمضان، لم يقدم على تأديبه، إلا بعد سؤاله عن سبب أكله، إذا التبست أحواله، فربما كان مريضاً، أو مسافراً، ويلزمه السؤال إذا زهرت منه أمارات الريب، فإن ذكر عذراً كف عن زجره، وأمره

بإخفاء أكله، لئلا يعرض نفسه للتهمة، ولئلا يقتدي به من ذوي الجهالة من لا يميز، ولا يلزم إحلافه عند الاسترابة بقوله؛ لأنه موكول إلى أمانته، وإن لم يذكر عذراً جاهر بالإكار عليه وأدبه. فأما الممتنع / من إخراج زكاته؛ فإن كان من الأموال الظاهرة، فلعامل الصدقة أخذها منه جبراً أخص، وهو بتعزيره على الغلول إن لم يجد لع عذراً أحق، وإن كان من الأموال الباطنة فيحتمل أن يكون العامل (بالإنكار عليه أخص)، لأنه لو دفعها إليه أجزأه، ويكون تأديبه معتبراً بشواهد حاله في الامتناع من إخراجها، فإن ذكر أنه يخرجها سراً، وكل إلى أمانته فيها، إن رأى رجلاً يتعرض لمسألة الناس، وطلب الصدقة، وعلم أنه غني عنها بمال أو عمل، أنكر عليه وأدبه فيه. فقد فعل عمر رضي الله عنه مثل ذلك مع قوم من أهل الصفة، وإن رأى عليه آثار الغنى، وهو يسأل أعلمه تحريمها على المستغني، عنها ولم ينكر عليه لجواز أن

يكون في الباطن فقيراً فإن كان ذا جلد وقوة على العمل، زجره وأمره أن يتعرض للاحتراف بعمله فإن أصر على المسألة عزر حتى يقلع عنها، وإذا وجد من يتصدى لعلم الشرع من ليس من أهله، من فقيه، أو واعظ، ولم يأمن اغترار الناس به، في سوء تأويل، أو تحريف جواب، أنكر عليه التصدي لما ليس من أهله، وأظهر أمره لئلا يغتر به، ومن أشكل عليه أمره لم يقدم عليه بالإنكار إلا بعد الاختبار. مر علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – بالحسن البصري رحمه الله – وهو يتكلم على الناس فاختبره، وقال له: ما عماد الدين؟ ، قال: الورع، قال: فما آفته، قال: الطمع، قال: تكلم الآن إن شئت؟ . وهكذا لو ابتدع بعض المنتسبين للعلم قولاً خرق به الإجماع، وخالف فيه النص، ورد قوله علماء عصره، أنكره عليه وزجره عنه، فإن أقلع وتاب، وإلا فالسلطان بتهذيب الدين أحق. وإذا انفرد بعض المفسرين لكتاب الله تعالى بتأويل، عدل فيه عن ظاهر التنزيل إلى باطن بدعة فتكلف له أغمض معانيه، أو انفرد بعض الرواة

بأحاديث مناكير رواتها تنفر منها النفوس لبعدها عن التأويل، كان (على المحتسب) إنكار ذلك والمنع منه، إذا تميز عنده الصحيح من الفاسد، والحق من الباطل، وذلك من أحد وجهين: إما أن يكون لقوته في العلم أو اجتهاده فيه وإما أن [يتفق] علماء الوقت على إنكاره وابتداعه فنعول على الإنكار على أقاوليهم، وفي المنع منه على اتفاقهم. وأما المتعلق بالمحظورات فهو أن يمنع الناس من مواقف الريب، ومظانها ويقدم الإنكار، ولا يعجل بالعقوبة قبل الإنكار. فإذا رأى وقفة رجل مع امرأة في طريق سابل لم يظهر منهما أمارات الريب، لم يتعرض عليهما بزجر ولا إنكار، إذ لا يجد الناس بداً من هذا، وإن كانت في طريق خال، فخلو المكان ريبة، فينكرها ولا يعجل في التأديب، حذراً من أن تكون ذات محرم، وليقل إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب، وإن كانت أجنبية فخف الله تعالى من خلوة تؤديك إلى معصية الله تعالى، وليكن زجره بحسب الأمارات، وإذا جاهر رجل بإظهار الخمر، فإن كان مسلماً أرقها وأدبه، وإن / كان ذمياً

أدب على إظهارها. واختلف الفقهاء في إراقتها عليه، فعند الشافعي رضي الله عنه: أنها تراق عليهم؛ لأنها لا تضمن عنده في حق المسلم ولا الكافر. وذهب أبو حنيفة – رضي الله عنه – إلى أنها لا تراق عليه؛ لأنها عنده من أموالهم المضمونة في حقوقهم. وأما المجاهرة بإظهار النبيذ، فعند أبي حنيفية رضي الله عنه أنه من الأموال التي تقر المسلمون عليها، فيمنع من إراقته ومن التأديب على إظهار. وعند الشافعي: أنه ليس بمال كالخمر، وليس في إراقته غرم، فيعتبر والي الحسبة شواهد الحال فيه، (وينهي منه) عن المجاهرة، ويزجر إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه إلا أن يأمره بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد، لئلا يتوجه عليه غرم إن حكم فيه. وأما السكران فإن تظاهر سكره، وسخف هجرة، أدبه عليه تعزيراً لا حداً، لقلة مراقبته وظهور سخفه.

وأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة، فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشباً يزول هن حكم الملاهي، ويؤدب عليها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي. وأما اللعب بالبنات، فليس يقصد بها المعاصير، وإنما يقصد بها تربية الأولاد، ففيها وجه من وجوه التدبير، تفارقه معصية، تصوير ذوات الأرواح، وتشابه الأصنام، فللتمكين منها وجه، والممتنع منها وجه ويحسب ما يقتضيه شواهد الحال يكون إقراره وإنكاره. "قد دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على عائشة رضي الله عنها، وهي تلعب بالبنات، فأقرها ولم ينكر عليها". وأما ما لم يظهر من المحظورات، فليس للمحتسب أن يبحث عنها، ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستسرار بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى شيئاً من هذه القاذورات [فليستتر] بستر الله، فإنه من يبدلنا صفحته (نقم حد الله

تعالى عليه)، فإن غلب على ظنه استسرار قوم بها (لأمارة دلت، وآثار ظهرت) فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه، أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث، حذاراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وارتكاب المحظورات، وكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوعة، جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. الثاني: ما خرج عن هذا الحد، وقصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه. فقد حكى عن عمر – رضي الله عنه – أنه دخل على قوم يتعاقرون على شراب، ويرقدون في الأخصاص. فقال: نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم، وعن الرقود

في الأخصاص فرقدتم. فقالوا له: قد نهاك الله عن التجسس فتجسست، وعن الدخول بغير إذن فدخلت، فقال: هاتان بهاتين، وانصرف وتركهم. فإن سمع أصوات ملأة منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتها، أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليها بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عما سواه من الباطن، وأما المتعلق بالمعاملات / المنكرة: كالربا والبيوع الفاسدة، وما منع منه الشارع مع تراضي المتعاقدين به، إذا كان متفقاً على حظره، فعلى المحتسب إنكاره، والمنع منه، والزجر عنه وأمره في التأديب مختلف بحسب الأحوال وشدة الحظر، فأما ما اختلف الفقهاء في حظره، وإباحته فلا مدخل له في إنكاره إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد، الخلاف

فيه ضعف، وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه، فهل يدخل في إنكاره بحكم ولايته أم لا؟ فيه الوجهان السابقان. وفي معنى المعاملات، وإن لم يكن منها عقود المناكح المحرمة، فينكرها إن اتفق الفقهاء على حظرها، ولا يتعرض لإنكارها إن اختلف الفقهاء فيها، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كالمتعة، فربما صارت ذريعة إلى استباحة الزنا، ففي إنكاره لها وجهان، ولين بدل إنكاره لها الترغيب في العقود المتفق عليها، ومما يتعلق بالمعاملات: غش المبيعات، وتدليس الأعمال، فينكره، ويمنع منه، ويؤدب عليه بحسب الحال فيه. فإن كان هذا الغش [تلبيساً] على المشتري، ويخفى عليه، فهو أغلظ تحريماً، وأعظم إثماً، والإنكار عليه أغلظ، والتأديب عليه أشد. وإن كان لا يخفى عليه، كان أخف إثماً وألين إنكاراً فإن اشتراه ليبيعه على غيره توجه الإنكار على البائع بغشه، وعلى المشتري بابتياعه، وإن اشتراه ليستعمله خرج عن الإنكار واختص بالبائع وحده، وكذلك القول في تدليس الأثمان، ويمنع من تصرية المواشي عند البيع المنهي عنه وأنه نوع من التدليس.

ومما هو عمدة في نظره المنع من التطفيف، والبخس في المكاييل والموازين، والصنجات، للوعيد عليه في الكتاب العزيز، وليكن الأدب عليه أظهر والمعاقبة فيه أكثر، ويجوز له إذا استراب بموازين السوقة، ومكايلهم أن يختبرها، ويعايرها، فإن كان عليها طابع معروف بين العامة لا يتعاملون إلا به كان أحوط وأسلم. فإن تعامل قوم بغير ما طبع بطابعه، يتوجه الإنكار عليهم إن كان مبخوساً من وجهين: بمخالفته في العدول عن مطبوعه، وإنكاره من الحقوق السلطانية والبخس والتطفيف في الحق وإنكاره من الحقوق الشرعية، وإن زور قوم على طابعه، كان المزور فيه كالمبهرج على طابع الدراهم والدنانير، فإن قرن التزوير بغش، كان التأديب مستحقاً من وجهين: أحدهما: في حق السلطة من جهة التزوير. والثاني: من جهة الشرع في الغش، وهو أغلظ النكيرين. ومما يتولاه المحتسب، اختيار طائفة تقاه أمناء، من الكيالين، والوزانين، والنقادين، والدلالين الأمناء، ويمنع الخونة، منهم، وأجورهم في بيت المال إن اتسع، وإلا قدرها لهم من غير زيادة ولا نقص.

وأما اختيار القسام والذراع، فالقضاة به أحق منه؛ لأنهم قد يستنابون في أموال الأيتام والغيب. وأما اختيار الحراس في القبائل، والأسواق فإلى الحماة وأصحاب المعاون، وإذا وقع في التطفيف تخاصم، جاز أن ينظر المحتسب إن لم يكن مع الخصم فيه [تجاحد] وتناكر /، فإن أفضى إلى ذلك كان القضاة بالنظر فيه أحق من ولاة الحسبة؛ لأنهم بالأحكام أحق ويجوز للمحتسب التأديب فيه، ومما ينكره المحتسب في العموم، لا للخصوص، التبايع بما لا يألفه أهل البلد من المكاييل، والموازين التي تعرف فيه، وإن كانت معروفة في غيره؛ فإن تراضى بها اثنان لم يعترض عليهما بالإنكار والمنع. والثاني: المتعلق بحقوق الآدميين المحضة مثل أن يتعدى رجل في حد لجاره، أو

حريم لداره، أو وضع جذوع على جداره، فلا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجار؛ لأنه حق يخصه فصح منه العفو عنه والمطالبة به، فإن تخصاما فيه للمحتسب نظر فيه إن لم يكن بينهما تنازع وتناكر، أخذ المتعدي بإزالة تعديه، وكان تأديبه عليه بحسب شواهد الحال، فإن تنازعا كان الحاكم بالنظر فيه أحق، وإذا نصب المالك تنوراً في داره، فتأذى الجار بدخانه لم يعترض عليه، ولم يمنع منه. وكذلك لو نصب فيها رحى، أو وضع فيها حدادين أو قصارين لم يمنع؛ لأن للناس التصرف في أملاكهم بما شاءوا، وإذا تعدى مستأجر على أجير في نقصان أجرته، أو استزاده في عمل، كفه عن تعديه، ولو قصر الأجير في حق المستأجر فنقصه من العمل، أو استزاده في الأجرة منعه منه، وأنكره عليه إذا تخاصموا إليه، فإن اختلفوا، وتناكروا كان الحاكم (بالنظر بينهم) أحق. ومما يؤخذ ولاة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف: منهم: من يراعى عمله في الوفور والتقصير، ومنهم من يراعى حاله في الأمانة والخيانة.

ومنهم من يراعى عمله في الجودة، والرداءة، فالأول كالطب والمعلمين، لأن الطب إقدام على النفوس يفضي التقصير فيه إلى تلف أو سقم. وللمعلمين من الطرائق التي ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنه بعد الكبر عسراً فيقر منهم من توفر علمه وحسنت طريقته، ويمنع من قصر أو أساء، من التصدي لما يفسد به النفوس وتخبث به الآداب. والثاني: كالصاغة، والحاكة، والقصارين، والصباغين؛ لأنهم ربما هربوا بأموال الناس؛ فيراعى أهل الثقة منهم، والأمانة، فيقرهم ويبعد من ظهرت خيانته، ويشهر أمره، لئلا يغتر به من لا يعرفه. الثالث: وهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة، ولهم أن ينكروا عليهم في العموم فساد العمل، ورداءته، وإن لم يكن فيه مستعد، فأما في عمل مخصوص

اعتمد فيه الصانع الفساد، والتدليس فإذا استعدى الخصم قابل عليه بالإنكار والزجر. فإن تعلق بذلك غرم روعى حال الغرم، فإن افتقر إلى تقدير أو تقويم لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه، لافتقاره إلى اجتهاد حكمي، وكان القاضي بالنظر فيه أحق. وإن لم يفترق (واستحق فيه) المثل الذي لا اجتهاد فيه ولا تنازع. فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم، والتأديب؛ لأنه قد أخذ بالتناصف والزجر عن التعدي. ولا يجوز أن يسعر على الناس / أقواتهم ولا غيرها في رخص، ولا غلاء، وأجازه مالك في الأقوات مع الغلاء. والثالث: الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى، وحقوق الآدميين فكالمنع من الإشراف على منازل الناس، ولا يلزم من علا ببنائه أن يستر سطحه. وإنما يلزم ألا يشرف على غيره. ويمنع أهل الذمة من تعلية أبنيتهم على أبنية المسلمين، فإن ملكوا أبنية عالية أقروا عليها ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين، وأهل الذمة ويأخذ أهل الذمة بما شرط في متهم، من لبس الغيار والمخالفة في الهيئة، وترك المجاهرة بقولهم في عزير والمسيح، ويمنع عنهم من يتعرض لهم من المسلمين بسب أو اذى، ويؤدب عليه من

خالف فيه. وإذا كان في أئمة المساجد السابلة، والجوامع الحفله من يطيل الصلاة، حتى يعجز عنها الضعفاء، وتنقطع بها ذوو الحاجات أنكر ذلك كما أنكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على معاذ حين أطال الصلاة بقومه، فإن أصر الإمام على الإطالة؛ لم يجز أن يؤدبه عليها، ولكن يستبدل به من يخففها، وإذا كان في القضاة من يحجب الخصوم إذا قصدوه، ويمتنع من النظر بينهم إذا تحاكموا إليه، فله أن يأخذه مع ارتفاع الأعذار بما ندب له، من النظر بين المتحاكمين، وفصل القضاء بين المتنازعين، ولا يمنع علو رتبته من إنكار ما قصر فيه. قد مر إبراهيم بن بطحاء – وإليه الحسبة بجانبي بغداد – بباب أبي عمر بن حماد، وهو يومئذ قاضي القضاة، فرأى الخصوم جلوساً على بابه ينتظرون

جلوسه، وقد تعالى النهار وهجرت الشمس، فوقف واسترعى حاجبه، وقال: تقول لقاضي القضاة الخصوم جلوب بالباب، قد بلغتهم الشمس، وتأذوا بالانتظار، فإما جلست لهم، أو عرفتهم عذرك، لينصرفوا ويعودوا. وإذا كان في سادة العبيد من يستعملهم فيما لا يطيقون الدوام عليه كان منعهم والإنكار عليهم موقوف على استعداء العبيد لا على وجه الإنكار، والعظة، فإذا استعدوه منع حينئذ، وزجر، وإذا كان في أرباب المواشي من يستعملها فيما لا تطيق الدوام عليه؛ أنكره ومنعه منه، جاز للمحتسب أن ينظر فيه؛ لأنه وإن افتقر إلى اجتهاد، فهو عرف يرجع فيه إلى عرف الناس وعادتهم، وليس باجتهاد شرعي، فله الاجتهاد فيه، وإذا استعداه العبد من امتناع سيده من كسوته ونفقته؛ جاز أن يأمره بها ويأخذه بالتزامها. وله أن يمنع أرباب السفن من حمل ما لا يسعها، ويخاف من غرقها، ومن السير عند اشتداد الريح، وإذا حمل فيها الرجال والنساء حجز بينهم بحائل، وإذا كان في أهل الأسواق من يختص بمعاملة النساء راعى المحتسب ستره وأمانته، فإذا تحققها منه أقره، وإن ظهرت منه الريبة، وبان عليه الفجور، منعه من معاملتهن، وأدبه على

التعرض لهن، وينظر والي الحسبة في مقاعد الأسواق، فيقر منها ما لا ضرر على المارة فيه، ويمنع ما أستضر به المارة، ولا يقف منعه على الاستعداء / إليه (وجعله أبو حنيفة موقوفاً على الاستعداء إليه). وإذا بنى قوم في طريق سابل منع منه، وإن اتسع له الطريق، ويأخذهم بهدم ما بنوه، ولو كان المبني مسجداً؛ لأن مرافق الطرق للسلوك لا للأبنية، وإذا وضع الناس الأمتعة وآلات الأبنية في (مسالك الشوارع) والأسواق ارتفاقاً لينقلوه حالاً بعد حال مكنوا منه إن لم يستضر به المارة، ومنعوا منه إذا استضروا به، وهكذا القول في إخراج الأجنحة والسوابيط، ومجاري المياه، وآبار الحشوش، تقر ما لم تضر، ويمنع ما ضر. ويجتهد المحتسب رأيه فيما ضر أو لم يضر؛ لأنه من الاجتهاد العرفي دون الشرعي، والفرق بينهما: أن الشرعي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالشرع، والعرفي: ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالعرف، وبوضوح الفرق بينهما يتميز ما

يسوغ فيه اجتهاد المحتسب مما هو ممنوع من الاجتهاد فيه، وللمحتسب أن يمنع من نقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا في ملك أو مباح، إلا من أرض مغصوبة، فيكون لمالكها أن يأخذ من دفنه فيها بنقلهم منها. واختلف في جواز نقلهم من أرض قد لحقها سيل، أو ندى، فجوزه الزبيري، وأباه غيره. ويمنع من خصاء الآدميين، والبهائم، ويؤدب عليه، وإن استحق فيه قود أودية استوفاه لمستحقه ما لم يكن فيه تناكر وتنازع، ويمنع من خضاب الشيب بالسواد إلا للمجاهد في سبيل الله تعالى، ويؤدب من تصنع به للنساء، ولا يمنع من الخضاب بالحناء والكتم، ويمنع من التكسب بالكهانة، واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي.

وهذا فصل يطول أن يضبط لأن المنكرات لا ينحصر عددها فتستوفى، وفيما ذكرناه من شواهدهما دليل على ما أغفلناه. ثم قال: "والحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول باشروها بأنفسهم لعموم صلاحها، وجزيل ثوابها، ولكن لما أعرض عنها السلطان في زماننا، وندب لها من هان (من عوام المتعممين)، وصارت عرضة للتكسب، وقبول الرشا؛ لأن أمرها هان على الناس نظرها، وليس إذا وقع الإخلال بقاعدة سقطت، وقد (أهمل الفقهاء من) بيان أحكامها ما لم يجز الإخلال به انتهى بنصه من كتاب الأحكام (السلطانية للإمام أبي الحسن الماوردي رحمه الله تعالى). وهذه فصول نافعة من غيره تتعلق بالحسبة والمحتسب، وفيها أشياء غير ما تقدم ذكره.

فصل "لما كانت الحسبة كما قدمنا أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وإصلاحاً بين الناس، وجب أن يكون المحتسب فقهياً عارفاً بأحكام الشريعة، ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، فإن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه [الشرع]، ولا مدخل للعقول في معرفة ذلك إلا بكتاب الله – عز وجل – وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فرب جاهل يستحسن بعقله، ما قبحه الشرع، فيرتكب الحرام، وهو لا يشعر. وأول ما يجب على المحتسب: أن يحتسب على نفسه فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، ويسلك في قوله وفعله مناهج الحق، ولا يكون أمره بهما مخالفاً لفعله. بل عليه وأن / يعمل بما يعلم، قبل أن يأمر به غيره لقوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، وقال تعالى مخبراً عن نبيه شعيب عليه السلام لما، نهى قومه عن بخس الميزان ونقص الميكال: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}. ولا

يكن كما قال الشاعر: أبو همام السلولي: حيث قال: إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعل فذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى (ما يدر لها) نسل وأن يقصد بقوله وفعله وجه الله سبحانه وتعالى وطلب مرضاته، بخلوص النية لا يشوبها رياء ولا سمعة. ويجتنب في رياسته منافسة الخلق، ومفاخرة أبناء الجنس، لينشر الله عليه رداء القبول، ويقذف له في القلوب المهابة والجلالة، والمبادرة إلى قبول قوله بالسمع، والطاعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أرضى الله بسخط الناس؛ كفاه الله شرهم، ومن أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إليهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه".

"وينبغي للمحتسب أن يكون مواظباً على سنن النبي – صلى الله عليه وسلم – من قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، ونظافة الثياب وتقصيرها والتعطر بالمسك ونحوه، وجميع سنن الشرع ومستحباته فإنه إن فعل ذلك كان أزيد في توقيره، وأنفى للطعن في دينه. حكي أن رجلاً حضر إلى السلطان محمود يطالب الحسبة بمدينة غزنة، فنظر إليه فرأى شاربه قد غطى فمه من طوله، وأذياله نسحب على الأرض، فقال: يا شيخ اذهب فاحتسب على نفسك، ثم ارجع إلينا، واطلب الحسبة على الناس". "وليكن من (شيمته الرفق، ولين القول) وطلاق الوجه، وسهولة الأخلاق؛ فإن ذلك أبلغ [في] استمالة القلوب، وحصول المقصود، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}. ولأن الإغلاظ في الزجر ربما أغرى بالمعصية، والتعنيف بالموعظة تمجه الأسماع.

حكى أن رجلاً دخل على المأمون، فأمره ونهاه، وأغلظ له في القول، فقال له المأمون: يا هذا إن الله تعالى أمر من هو خير منك بأن يلين القول لمن هو شر مني، فقال لموسى وهارون – عليهما السلام -: {اذهبا إلى فرعون أنه طغى * فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى}، أعرض عنه ولم يلتفت إليه. "وليكن متأنياً، غير مبادر إلى العقوبة، ولا يؤاخذ أحداً في أول ذنب يصدر [منه]، ولا يعاقبه بزلة تندر، ولأن العصمة في الخلق مفقودة فيما سوى الأنبياء عليهم السلام. وإذا عثر بمن نقص في المكيال، أو بخس في الميزان، أو غش بضاعته، بما يأتي وصفه استتابه عن معصيته، ووعظه وخوفه، وأنذره العقوبة، والتعزير، فإن عاد إلى فعله عزره على حسب ما يليق به بقدر الجناية، ولا يبلغ به الحد ويتخذ له سوطاً ودرة، وغلماناً وأعواناً، فإن ذلك أرعب لقلوب العامة وأشد خوفاً /. ويلازم الأسواق والدروب في أوقات الغفلة عنه، ويتخذ له فيها عيوناً يوصلون إليه الأخبار وأحوال السوقة".

فصل "ومن الشروط اللازمة للمحتسب أن يكون عفيفاً عن أموال الناس، متورعاً عن قبول هديتهم من المتعيشين، وأرباب الصناعات، فإن ذلك رشوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش"، وهو المتوسط بينهما، لأن التعفف عن ذلك أصون لعرضه، وأقوم لهيبته، وأدعى لقبول الحق منه، ويلزم أعوانه وغلمانه بما التزمه من ذلك. فإن أكثر ما يتطرق البلاء إلى المحتسب من غلمانه، وأعوانه، فإن علم أن أحداً منهم أخذ رشوة، أو قبل هدية صرفه عن بابه، لتنتفي عنه الظنون، وتنجلي عنه الشبهات". "ويجوز له أن يجعل لأهل كا صناعة عريفاً من صالح أهلها، خبيراً بصناعتهم بصيراً بغشوشهم، وتدليسهم مشهوراً بالثقة، والأمانة؛ فيكون مشرفاً على

أحوالهم، ليطلعه بأخبارهم وما يجلب إلى سوقهم من السلع والبضائع، وما يستقر عليه من الأسعار"، وغير ذلك من الأسباب التي تلزم المحتسب معرفتها. فإنه يجب عليه "النظر في القوت، وكشف غمة المسلمين، فيما تدعوا (حاجتهم إليه) من ذلك، "والاحتراز في المشروب؛ فطالما أوهم الخمار أنه فقاعي أو قسماوي، والمأكول، فطالما أوهم الطباخ أن لحم الكلاب لحم ضأن، فليتق الله ربه، ولا يكون سبباً في إدخال جوف المسلمين ما كرهه الله تعالى لهم من الخبائث". ويحرم على المحتسب التسعير على أرباب البضائع، من القوات وغيرها، وهو أن يلزمهم ببيعها بسعر معلوم في كل وقت رخص أو غلا على الصحيح من مذهب الشافعي رضي الله عنه، (وهو مذهب الإمام أبي حنيفة

رضي الله عنه) ونقله ابن مفلح في كتابه "الفروع" عن مذهب الإمام أحمد جازماً به. والأصل في ذلك أنه "صلى الله عليه وسلم" لما غلا السعر في زمنه، وقال له أصحابه: سعر لنا يا رسول الله قال: "إن الله هو القابض الباسط المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد يطالبني بمظلة في نفس ولا مال". وأجازه الإمام مالك في الأقوات في زمن الغلاء، وهو وجه عندنا، وقيل يجوز إذا لم يكن مجلوباً، بل كان يزرع في البلد.

وعن مالك إذا خالف واحد أهل السوق بزيادة، أو نقصان، يقال له: إما [أن] تبيع بسعر أهل السوق، أو تنعزل عنهم، وإذا سعر السلطان انقاد الرعية لحكمه، ومن خالفه استحق التعزير، فلو باع رجل متاعه وهو لا يريد بيعه بذلك الثمن، ولم يقدر على ترك البيع كان مكرهاً عندنا، وقال أبو حنيفة – رضي الله عنه – إكراه السلطان يمنع البيع، وإكراه غيره لا يمنع، ويحرم الاحتكار على فاعله في الأقوات بالاتفاق، وهو أن يشتري طعاماً في الغلاء ويمسكه ليزداد ثمنه، لقوله – صلى الله عليه وسلم -: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون، فإذا رأى المحتسب

أحداً يفعله / أجبره على بيعه، وألزمه به، وعززه إن امتنع. "ويمنع من تلقي الركبان وهو أن تقدم قافله ببضائع، فيتلقاهم إنسان خارج البلد فيخبرهم بكساد ما معهم ليبتاعه منهم رخيصاً، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فإن عثر بأحد يفعله زجره وعزره". "قال الشيخ تاج الدين السبكي ومن مهمات المحتسب -: (أمران ارتبطا به ولا سيما ببلاد الشام). أحدهما: النقود من الذهب، والفضة المضروبين، ولا يخفى أن في زغلهما هلاك أموال البشر، فعليه اعتبار العيار بمحك النظر، والتثبت في سكة المسلمين. وثانيهما: المياه فعليه الاحتراز في سياقها (بالعدل والإنصاف) ويعلم أن الخلق في أنهار دمشق كلهم سواء يقدم الأعلى منهم فالأعلى، ولا يجوز بيع شيء من الماء ولا مقره، ولا يقيد رضى قوم من الناس بل ولا كلهم؛ لأنهم لا يملكون إلا الانتفاع، بل ولا يرضى أهل الشام بجملتهم؛ لأن رضاهم لا يكون رضا من بعدهم ممن يحدث من الخلق". وأما الطرقات النافذة المسلوكة، وهي الشوارع ودروب المحلات، فلا يجوز

لأحد إخراج جدار فيها إلى الممر المطروق، أو إبراز جناح، أو ساباط يضر بالمارة، وكل ما فيه إيذاء، وإضرار على السالكين، كالميازيب، ومجاري الأوساخ الخارجة، فيأمرهم أن يجعلوا عوض الميازيب مسيلاً محفوراً في الحائط مكلساً يجري، فيه ماء النضح. وأصحاب مجاري السرايات يكلفهم سدها في الصيف ويحفروا لها حفيرة في الدار يجتمع إليها". "وأما الأسواق فينبغي أن يكون في الاتساع، والارتفاع على ما وضعته الروم قديماً، وأن يكون من جانبي السوق إفريزان تمشي عليهما الناس في زمن الشتاء، إذ لم يكن السوق مبلطاً [ويمنع] من السوقة من يخرج مصطبة دكانه عن سمت أركان السقائف إلى الإفريز الأصلي، لأنه

عدوان، وتضييق على المار"، "ويمنع إحمال الحطب، والتبن، وروايا الماء، ومزابل السرجين، والرماد، وأشباه ذلك – وإن كانت لمتجرة – من المرو في الأسواق، ومزاحمة الناس بها لما فيه من الضرر الكثير عليهم، بتقطيع ثيابهم، وإفساد بضائعهم وإتلافها. ويأمرهم بالمرور بذلك في الليل (أو الشوارع) الواسعة، وإن وقفوا بها، وهي محملة مثقلة على ظهورها بالأحمال، أمرهم بوضعها ونهاهم عن ذلك، لما فيه من إضرارها، وتعذيبها، وهي من خلق الله تعالى لمنافع الخلق العباد. وقد ورد النهي عن تعذيب الحيوان لغير مأكلة ويأمر أهل الأسواق بتنظيفها من الأوساخ، والطين المجتمع، وغير ذلك مما يضر بالناس، كقشور البطيخ، وأوراق البقول ونحوها".

فصل "ينبغي للمحتسب أن يتخذ لمصالح الرعية سوطاً ودرة وطرطوراً: أما السوط فيكون وسطاً، لا بالغليظ الشديد، ولا بالرقيق اللين، لئلا يؤلم الجسم، ولا يخشى منه غائلة؛ وأما الدرة فتكون من جلد البقر أو الجمل، محشوة بنوى التمر، وأما الطرطور فيكون من اللبد، منقوشاً بالخرق الملونة، مكللاً بالخرز، والودع والأجراس، وأذناب الثعالب والسنانير. / وتكون هذه الآلة كلها معلقة على دكتة ليشاهدها الناس، وترعب منها قلوب المفسدين، وينزجر بها أهل التدليس فإذا عثر بشارب خمر جلده بالسوط أربعين جلدة، وإن رأى

المصلحة في جلده ثمانين [جلدة]، فعل؛ لأن عمر – رضي الله عنه – فعل ذلك، بفتوى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، فيجرده عن ثيابه، ثم يرفع الجلاد يده بالسوط بحيث يظهر بياض إبطيه،

ويفرق الضرب على كتفيه وإليتيه وفخذيه؛ وإن كان زانياً – وهو بكر – جلده في ملأ من الناس، مائة سوط قال الله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}. وإن كانت امرأة جلدها في إزارها، وثيابها ملفوفة عليها، وإن كان محصناً فيخرج به ظاهر البلد، ويجمع الناس حوله، ويأمرهم برجمه، كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بماعز؛ وإن كانت امرأة محصنة حفر لها حفيرة في الأرض، فأنزلها بها وأمر الناس برجمها، كما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم بالعامرية، وإن عثر بمن لاط بغلام، أو أتى امرأة في دبرها، فعل به كذلك على الصحيح عندنا، وقيل يلقى من شاهق عال في البلد بعد ثبوته عند الإمام".

فصل وأما التعزير، وهو في المعاصي التي ليس فيها حد، ولا كفارة، فيختلف باختلاف (أحوال الناس)، وقدر جناياتهم، فمن الناس من يكون تعزيره بالحبس، وكشف الرأس، ومنهم من يكون بالقول، أو بالصفع، (والتوبيخ)، ومنهم من يكون بالجلد، ولكن يكون ناقصاً عن أدنى الحدود، ومنهم من يضرب بالدرة، ويلبس الطرطور، ويركب على حمار، أو جمل ويطاف به وينادى عليه. وقد ذهب بعض أصحاب مالك، إلى أن المحتسب إذا ظفر بدقيق مغشوش، أو لبن مغشوش، ونحوهما، فرقه على المساكين وجعل ذلك تعزيراً له، ويرجع فيه إلى ما يراه ولي الأمر على حسب كثرة الذنب، وقلته: "فلو رأى رجلاً حامل خمر، (أو معه) آلة لهو يلعب بها، عزره بحسب ما يراه، بعد أن يريق

الخمر، ويكسر الآلة، وإذا رأى رجلاً اختلى مع امرأة أجنبية، ببيت أو طريق، أو يكلمها في غير معاملة من بيع، أو شراء ونحوهما، أو ينظر إليها، عزره، ومنعه من الوقوف بمجامع النساء، كأسواق الغزل، وأبوب الحمامات والمقابر ونحوها. وكذا لو "رأى رجلاً يقبل صبياً، أو امرأة أجنبية، أو يباشر فيما دون الفرج، أو يأكل ما لا يحل كميتة، أو دم أو يقذف الناس بغير الزنا، أو السرقة من غير حرز؛ أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال، أو الأوقاف، أو مال اليتيم، والشركاء إذا خانوا، أو من يغش في معاملته، أو يشهدون بالزور، أو يلقنون شهادة الزور، أو يرتشون في الحكم، ونحو ذلك من أنواع المحرمات، فهؤلاء كلهم يعاقبون (زجراً وتعزيراً) بما قدمنا". وعليه بتفقد مجال الوعاظ، ويمنع الرجال من الاختلاط بالنساء، ويأمرهم أن يجعلوا بينهما ستارة، وإذا انقضى المجلس ذهب الرجال من طريق، والنساء من

[طريق] أخرى، وتفقد المآتم، والمقابر، فإذا سمع نائحة، او نادبة منعها، وزجرها، وعزرها، / لأن النوح حرام. وقال صلى الله عليه وسلم: "النائحة ومن حولها في النار". ويمنعهن من زيارة القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله زورات القبور"، وإذا رآهن في جنازة أمرهن بالتأخير عن الرجال، ومنعهن من

كشف وجوههن خلف الميت، ويأمر منادياً ينادي في البلد بالمنع من ذلك، والأولى منعهن من تشييع الجنائز. وإذا سمع بامرأة عاهرة، أو مغنية، استتابها عن معصيتها، وزوجها بثقة أمين، فإن عادت عزرها ونفاها من البلد. وكذا يصنع بالمخنثين والمرد لمشهورين بالفساد، ويمنع الخنثى من حلق لحيته، ودخوله على النسوان، وكذلك الأمرد، إذا حلق لحيته أو نتفها، دل على فساده، فيعزره على ذلك، ثم يشرف على (الجوامع، والمساجد)، ويأمر قومها بكنسها كل يوم، وتنظيفها من الأوساخ، ونفض بسطها وحصرها من الغبار،

ومسح قناديلها، وإيقادها في كل ليلة، ويأمرهم بغلق أبوابها عقيب كل صلاة، وصيانتها عن الصبيان والمجانين. ومن يأكل فيها الطعام أو ينام، أو يعمل صناعة، أو يبيع سلعة، أو ينشد ضالة، أو يجلس فيها للحديث مع الناس في الدنيا؛ فكل ذلك ورد الشرع المطهر بتنزيه المساجد عنه. ثم يتقدم إلى جيران كل (مسجد وجامع) بالمواظبة على الجماعة فيه، والسعي لها عند سماع الأذان، لإظهار معالم الدين، وإشهار شعائر الإسلام، ولا يؤذن في منارة المسجد، إلا عدل أمين ثقة عارف بأوقات الصلاة. وينبغي للمحتسب أن يمنحنهم بمعرفة أوقات الصلاة، فمن لم يعرفها منعه ليتعلم، إذ ربما أذن في غير الوقت، فتسمعه العامة فيصلون قبل الوقت، فلا تصح صلاتهم، ويفطرون من صيامهم قبل الغروب فلا يصح صومهم. ويستحب أن يكون صيتاً حسن الصوت، وينهى عن التغني في الأذان، والتمطيط فيه"، "ويأمر الأئمة وأهل القرآن بقراءته مرتلاً كما أمر الله تعالى، وينهاهم عن تلحينه، وقراءته بالأصوات الملحنة، كما تلحن الأغاني

والأشعار، ولا يأتون إلى جنازة من غير أن يستدعيهم ولي الميت. وإذا أعطوا شيئاً على سبيل الصدقة من غير شرط جاز لهم أخذه. فأما اشتراطه فلا يجوز. ولا يغسل الموتى إلا ثقة أمين قد قرأ كتاب الجنائز في الفقه، وينهى العميان، وأهل الكدية عن قراءة القرآن في الأسواق، والحمامات، ونحوها". "وينبغي للمحتسب أن يتردد إلى مجالس القضاة والحكام، ويمنعهم من الجلوس في المساجد، والجوامع للحكم فيها؛ فربما دخلها الجنب، والحائض، والذمي، والصبي، والمجنون، والحافي، فيؤذونها برفع الأصوات، وكثرة اللغط، والخصومات، وينجسون ما فيها من حصر وغيرها.

وقد ورد في الشرع الشريف النهي عن ذلك". "وفي كتاب الإمام أبي [القاسم] الصيمري: "أن المستظهر بالله أمير المؤمنين، ولى رجلاً من أصحاب الشافعي – رضي الله عنه – الحسبة ببغداد، فنزل إلى جامع المنصور، فوجد قاضي القضاة يحكم بين الناس فيه، فقال: سلام عليك، قال الله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}. وقد مكن الله خليفته المستظهر بالله أمير المؤمنين في أرضه، وبسط يده

بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد جعلني الله وإياك نابين عنه في ذلك، قائمين في رعيته بحدود الله عز وجل، {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} ونحن أولى من يعمل بحدوده، ويلزم ما أمر الله به، ونتجنب ما نهى الله عنه، ليقتدي بنا العامة؛ فنحن ملح البلد، نصلح ما فسد من أحوال العامة، فإذا فسد الملح فمن يصلحه. ومجلسك هذا لا يصلح في الجامع، أما سمعت قول الله عز وجل: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة}. وليس في هذا الذي أنت فيه شيء من ذلك؛ وإنه لتدخل إليك المرأة لتحكم مع بعلها، ومعها الطفل فيبول على الحصر؛ وإن الرجل ليمشي على النجاسة، والقذر، ويدوس الحصر بنعله؛ وإن الأصوات لترتفع باللغط خارج حلقتك، وربما دخل إليك الجنب، والمرأة الحائض، وكل ذلك أمرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم

- باجتنابه، فاجلس في وسط البلد، حيث لا يشق على الناس القصد إليك، والسلام. قال: فنهض القاضي من فوره، ولم يعد يجلس في الجامع للقضاء". "وينبغي له منه الوكلاء (بأبواب القضاء) فلا خير فيهم، ولا مصلحة للناس بهم في هذا الزمان، لأن أكثرهم رقيق الدين يأخذ من الخصمين، ثم يتمسكون به لسنة الشرع الشريف، فيقفون (أمرهم)، ويضيعون حقهم، وتخرج من بين أيديهم، بل إذا حضر الخصمان عند الحاكم، ولحناً بحجتهما ظهر له الحق سريعاً من كليهما، ولا حاجة لهما إلى توكيل، وكيل أصلاً، اللهم إلا أن يكون هناك امرأة مخدرة، أو صبي (ونحوهما)؛ فيوكل عنهما القاضي وكيلاً للحاجة".

ثم يقصد جالس الأمراء، والولاة، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، من الظلم والمعاصي، وأكل أموال الناس بالباطل، ويعظهم ويذكرهم، ويأمرهم بالشفقة على الرعية، والإحسان إليهم، ونصر المظلومين. ويذكر ما ورد في ذلك من الأخبار، والآثار، وليكن ذلك كله بلطف، ورفق، وبشاشة من غير تعبيس، ولا جبروت. قال الله تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} وسيأتي في الباب الخامس: الحسبة على (سائر أصحاب) الحرف والصناعات، والبضائع، والغلات، ولا يخفى على المحتسب بعد ذلك كله، الحسبة على أشياء تقع له، [مما] لم يذكر، فليس ما لم يذكر على ما ذكر؛ فإنه سهل عليه إن شاء الله تعالى. "ولو أخذنا في تعداد جميع ما يلزم المحتسب فعله، والأمر به، لطال به الكتاب جداً، ولكني بحمد الله، وتوفيقه قد ذكرت أصولاً وقواعد، وأحكاماً كثيرة، فليقس عليها ما يجانسها ويشابهها. والضابط الجامع لأمور الحسبة، هو الشرع الشريف المطهر؛ فكل ما نهت عنه الشريعة كان محظوراً، يجب على المحتسب إزالته والمنع من فعله، وما أباحته الشريعة

أقره، ولم يعترضه بإنكار، ولا غيره، ولهذا قدمنا أنه يجب أن يكون المحتسب فقيهًا عالمًا بأحكام الشرع؛ فإنه متى كان جاهلاً اختلت عليه الأمور، / ووقع [32/أ] في المحذور، ولم يصل من أمر العامة إلى المقصود".

الباب الرابع في الكلام على أرباب الحرف، والصناعات، والتجار، وأصحاب الأموال، على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم

الباب الرابع في الكلام على أرباب الحرف، والصناعات، والتجار، وأصحاب الأموال، على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم

الأول: الفلاح

• في الكلام على أرباب الحرف، والصناعات، والتجار، وأصحاب الأموال، على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم، وفيه أمثلة: الأول: الفلاح "وهو صاحب الزرع، والشجر، وينبغي أن يعلم أن صناعة الفلاحة، والغراسة، وغيرها من سائر الصنائع من فروض الكفاية في الغالب، ولكن بعضها أكد من بعض، ولا شك أن صناعة الزراعة أكدها؛ إذ بها قوام الحياة، وقوت النفوس، وهي من أعظم الأسباب، وأكثرها أجرًا؛ لأن خيرها متعد للزراع، ولإخوانه المسلمين، وغيرهم (والطير) والبهائم والحشرات. وليس في الصنائع أبرك منها، ولا أنجح إذا كانت على وجهها، وهي من أكبر الكنوز المخبأة في الأرض، لكنها تحتاج إلى معرفة بالفقه، وحسن محاولة، مع النصح التام، والإخلاص؛ فحينئذ تحصل البركات وتأتي الخيرات". وقد ورد في فضل الزراعة والغراس كثير: "ولكن يتعين على معانيها التعلم إن كان فيه أهلية، وإلا فيسأل العلماء عن فقه ما يحتاج إليه في ذلك"، "ولم يزل السلف الماضون - رضي الله عنهم - يتحفظون، على القوت الذي يدخل أجوافهم

التحفظ الكلي، وفيه كان تورعهم". وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل الحلال أربعين يومًا، نور الله وجهه، وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه"، وليعلم صاحب الزرع أن الزكاة واجبة عليه في الأقوات، وما يكمل به الأقوات كالحنطة، والعدس وغيرهما فعليه، إخراج حق الفقراء من ذلك، وعليه أن يعطي الخراج، ولا تجب في شيء من الفواكه إلا في الرطب، والعنب، ولا تجب في شيء من ذلك حتى تبلغ نصابا، والنصاب خمسة أوسق: أي خمسة أحمال، كل وسق تقديره ألف رطل وستمائة رطل بأرطال بغداد، وهو بالأردب المصري ستة أرادب وربع تحديدًا على الأصح.

الثاني: القزاز

"وعلى صاحب الشجر أن يتعهدها بالسقي؛ فإن ترك ذلك مكروه، لما فيه إضاعة المال". الثاني: القزاز. وهو الحائك فصناعته أيضًا من فروض الكفايات؛ فيحتاج إلى النية؛ "فينبغي له أن ينوي بها إسقاط الفرض عنه، وعن إخوانه المسلمين برفع الكلفة عنهم، والتيسير عليهم، والنصح لهم فيه، فإن الرزق تابع لذلك لا متبوع"؛ فعليه النصح في صناعته، وعدم الغش فيها لإخوانه المسلمين. فإن ذلك مذهب للبركة؛ وإن كثر الثمن كما هو مشاهد، نسأل الله السلامة. "ومن حقه أن لا ينسج ما يحرم استعماله؛ لئلا يكون معينًا على معصية. فلا ينسج ثوب حرير لا يستعمله إلا الرجال؛ أما إذا استعمله الرجال وغيرهم فلا منع، وفي نسج الثياب المصورة وجهان: أصحهما التحريم، "وأما المركب من الحرير وغيره، فمذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه إن كان الحرير أكثر وزنًا حرم، وإن كان غيره أكثر أو استويا لم يحرم"، ويجوز (المطرف) بالحرير بشرط أن لا يتجاوز قدر أصابع".

الثالث: القصار

ويتعين عليه النصيحة للمسلمين في صناعته، وعدم الغش فيها بشيء؛ مثل أن يفعل في القماش الشمع، ونحوه، حتى يحسن ويبرق ويظهر / أنه صفيق، وهو [32/ب] بخلاف ذلك، ومثل أن يأخذ غزل الحرير فيصقله نصف صقلة، ثم يخرجه قبل أن يبيضه، ثم يصبغه فتضعف قوته، وغير ذلك من الغش المتعارف بينهم. فإن وبال ذلك لا يعود إلا عليه، ولا يبارك له في شيء يأخذه من ذلك، وإن كثر ثمنه كما نشاهد ذلك. نسأل الله السلامة. الثالث: القصار. "وعليه أن يتجنب القصارة بماء نجس، ولا يبسط القماش على نجس، ولا يمشي عليه بأقدامه، وإن كانت طاهرة، إلا أن يحتاج إليه، ويحرم عليه استعمال أرواث البقر؛ فإنه يقطع القماش سريعًا لشدة حرارته، وكذا ما يشبهه كالجير، وكذا عصره شديدًا خارجًا عن المعتاد، أو يضربه على الحجارة ضربًا عنيفًا؛ فذلك كله ما يضعفه، ويذهب بقوته، وهو من إضاعة المال، وهو حرام.

الرابع: الصباغ

"والقصارة المباحة هي: بل القماش، ونشره فقط؛ فإذا نشف أعاد عليه الماء، وهكذا حتى يبيض، لكن هذا فيه طول مدة، وهم يفعلون ما تقدم استعجالاً لقصر الزمان، وبعضهم يزيد على هذه المفاسد، بأن يستعمل الخرقة في بيته، ويتخذها سفرة، وسماطًا ويلفها شاشًا على رأسه، ويعيرها لغيره يفعل بها مثل ذلك مدة، ويتعلل لصاحبها عند طلبه بأنها لم تفرغ قصارتها، فلما يعيي صاحبها من الطلب يخرجها عند ذلك من بيته للقصارة، ويفعل بها ما تقدم فتبيض في أقرب وقت، وتتقطع بسبب ذلك في أقرب مدة، وكل ذلك لا يجوز. الرابع: الصباغ. "ومن حقه أيضًا أن لا يصبغ بنجس محرم، كالدم، وإن قلنا إنه إذا غسل، وذهب منه الريح والطعم، وبقي اللون، وعسرت إزالته، إن ذلك لا يضر على الأصح، ويقال إن الثياب الحمر الصوف المربعة كلها من هذا القبيل، والصحيح عندنا أنه يحرم على الرجل لبس الثوب المزعفر، والمعصفر. ولو دفع إنسان خرقة إلى صباغ يصبغها حمراء، وقال كذا أمرتني، وقال الدافع: لم آمرك إلا بصبغها سوداء، أو دفع خرقة إلى خياط، فخاطها قباء، فقال: ما أمرتك إلا

الخامس: الخياط

بقميص، فالأصح أن القول قول المالك، فيحلف، ويلزم الصباغ، والخياط أرش النقص. الخامس: الخياط. ومن حقه ألا يخيط حريرًا، ولا يجعله بطانة لمن يحرم عليه استعماله؛ من الرجال، ويجوز له أن يخيط بالحرير، وعليه أن يحترز عند قطع القماش، ويقدر، ويحسب، ويستأذن، ويقطع على بصيرة، فلو قال له إن هذا الثوب يكفيني قميصًا فاقطعه فقطعه، فلم يكف، ضمن الأرش؛ لأن الإذن مشروط بما لم يوجد، وإن قال: له هل يكفيني؟ فقال؛ نعم: اقطعه، فقطعه، فلم يكف، لم يضمن لأن الإذن مطلق، وإن تقدمته قرينة. لكن من حقه أن لا يتكلم على جهالة، ويتعين عليه النصح في صناعته، ما أمكنه؛ لأنها من فروض الكفايات. ومن أكد الصنائع؛ لأنها متعلقة بستر العورة غالبًا، وهو واجب، وستر باقي البدن سنة، وكمال، وفيه التجمل المطلوب في السنة

المطهرة، ونفعها متعد لجميع الناس، فعليه أن يتجنب المفاسد فيها والغش، فإن ضررها متعد كذلك، ومفاسد عديدة قل أن تنحصر، فمنها أن يخيط بخيط غير / مفتول؛ لأنه لا قوة فيه، وكذا لو أمر الصانع أن يشل ويوسع بين الغرزتين. [33/أ] ولا يخيط ما لا يجوز لبسه، أو يكره، بل يرده على صاحبه، وإن كان مضطرًا لأجرته". "ولا يجوز له الإعانة عليه، وكذا لا يخيط لمن يغلب على ماله الحرام، كالظلمة، والمكاسين؛ لأن فيه إعانة لهم على ذلك فيكون شريكًا لهم في الإثم وما في أيديهم سحت، وهو يتعب في صنعته ليأكل الحلال؟ فكيف يأخذ الحرام البين في أجرته؛ فيجتمع عليه التعب، وأكل الحرام، وأشد من ذلك من يعتقد أن ذلك حلال بسبب صنعته، فإن اضطر إلى أخذ شيء من هؤلاء، فيوسع الحيلة في أخذ أجرته من غير كسبهم، مثل أن يتداينوا ويدفعوا إليه، أو يحيلوه على من هو متستر بلسان العلم"، ويتعين عليه أن يجمع قصاصة كل ما يخيطه (وفضل عنه يحفظه) ويلقيه في الثوب عند طيه، ليدفعه إلى مالكه، ولا يغفل عن ذلك فتتعمر به ذمته"، "ويحذر من خلف المواعيد بالكذب، وكثرة الأيمان، وإن كانت صادقة، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للصانع من غدٍ، وبعد غدٍ، وويل للتاجر من تالله،

السادس: التاجر [في البز]

وبالله" ولا يخيط إلا قباع الحرير للرجال، كما لا يخيط لهم ثوب حرير؛ لأن فيه إعانة لهم. "وينبغي له إذا سمع الأذان أن يترك كل ما هو فيه ويشتغل بإجابة المؤذن، والشروع في أسباب الصلاة من الطهارة، والمضي إلى المسجد للجماعة"، "ويأمر بذلك من عنده من الصناع؛ فإنهم من رعيته. وعليهم التحفظ من الخوض في الباطل، من الغيبة والمزاح بالكذب، وأخبار الناس". السادس: التاجر [في البز] "يتعين عليه أن يجلس في حانوته بنية التيسير على إخوانه المسلمين، والإعانة لهم على قضاء حوائجهم من قليل وكثير، ونصح من يعامله من إخوانه المسلمين،

والتوكل على الله في زرقه إياه بدكان، وبغيرها" "ويحذر ما يفعله بعضهم، من غمز" المشتري إذا دخل السوق، ومر على دكانه والإشارة إليه، فإن ذلك من باب الاستشراف، وهو مذهب للبركة فيتنزه عنه. وإذا رأى أحدًا يشتري من غيره، فلا يرصده؛ لعله (لا يشتري) منه شيئًا فيبيعه هو، بل يصبر حتى يقف المشتري على دكانه، ويسأله من نفسه، فيخرج له حينئذ بلا كلام يمدح به سلعته، أو يزينها"، "وليحذر مما يفعله بعضهم، وهو أن يقيس عرض الخرقة من الطية الأولى، وهو موضع وجهها، لأنها عندهم أعرض مما تحتها، بسبب المط والجبد حتى يزيد في الذرع". "ويحرم عليه إن كان عنده قماش بلد تميل إليه الأنفس، كالإسكندراني، ونحوه، أو عمل صانع مشهور بحسن الصنعة، فيبيع ما عنده منسوبًا إليه، وهو بخلاف ذلك. فكل ذلك من الغش، والكذب". "وينبغي إذا جاءه المشتري يطلب منه خرقة أن يسأله عما يريد، ويخرجه له من أول مرة، ولا يخرج له أولاً دون غرضه، وثانيًا قريبًا منه، وهكذا مرارًا في كل خرقة، يسعر لها ثمنًا ليوطن المشتري على أخذ غرضه بما يريده هو من الثمن".

"ويحرم عليه إذا اشترى بيعة من القماش من نوع واحدٍ بعضها أحسن / من بعض، أو أطول في القياس، ولو بيسير أن يجعل لكل قطعة منها قيمة معلومة (هو، أو غيره)، ويخبر المشتري بذلك الثمن، بل يبين للمشتري كيفية الأمر، ولا يبيع شيئًا منها إلا مساومة اللهم إلا أن يبيعها جملة واحدة، فهو مخير بين المساومة والمرابحة. ويتعين عليه إذا اشترى سلعة، ثم انخفض سوقها أن يبين ذلك للمشتري، ويخبره بقيمتها إذ ذاك، وإذا قال له بكم بعت من هذه الخرقة أن يصدق في إخباره بما باع منها؛ فإن اختلف بيعه أخبره بالجميع بالأقل منه، والأكثر، فإن لم يمكنه رجع إلى المساومة، وإلا كان غشًا"، "بل ينبغي له أن يبيع السلعة مساومة، وأن يحقق شراها، فهو أجل وأبرك، فإن باع مرابحة؛ جاز، ولكن بشرط تحري الصدق في أخبار الشراء بلا زيادة، ولا نقصان"، "وينبغي له أن يكون دكانه بموضع ينير كثير الضوء ليبين للمشتري أمر الخرقة التي يقبلها بنفسه، ونظره لا بقول غيره، ولا

(يجلس بحانوت) مظلم، أو بسوق مستر محجوب عن الشمس؛ فإن ذلك من الغش، والخلابة المذهب للبركة المخالف للسلف الصالحين"، "وأن يجلس في حانوته مطرق الرأس مقبلاً على ذكر ربه - عز وجل -، متشاغلاً عما فيه أهل السوق من اللهو، والغفلة، وكثرة اللغط والخصومات؛ فإن الأسواق والطرقات محل الشياطين، وانكشاف العورات، وإذا رأى شيئًا من ذلك؛ وجب عليه إنكاره، وغض بصره جهده". "وإذا جاءته امرأة تشتري منه شيئًا، وعليها ثياب فاخرة تظهرها، أو معصمها، أو شيئًا منها، أو تتكلم بكلام فيه ليونة، ورقة؛ أن يجاهد نفسه في ترك البيع منها والشراء، ويلاطفها حتى تنصرف عنه بسلام"؛ فإذا خلص منها، وفارقته حمد الله على السلامة. "وينبغي له أن يكون سمحًا في بيعه وشرائه، فيتساهل مع من يعلم أنه فقير من أهل الدين، والخير، فيترك له بعض الربح أو كله ما لم يضر بحاله، وإن كان له جدة وتجب عليه الزكاة، فله رفع شيء مما عليه لمن وصفنا ليقضي حاجته، ويكون له بذلك أجران.

السابع: العطار

وينبغي له أن يبيع بالدين لمن اتصف بما ذكرنا، ويصبر عليه بالثمن، حتى يوسع الله، ويفتح عليه". "وينبغي له في الأوقات التي اعتاده الناس فيها بزينة البلد في الأسواق، ونحوها؛ أن يترك البيع، والشراء في تلك الأيام حتى تنقضي، ويلزم بيته أو المسجد، أو غيرها من المواضع المباحة السالمة مما لا ينبغي؛ فإن جبر على ذلك؛ فلا يحضر بل يدفع لهم ما يلزمونه به من الغرامة، ولا يجلس". "وينبغي له أن لا يدخل السوق في أول النهار بل حتى تطلع الشمس، ويتضحى النهار ولا يتأخر في السوق حتى تغرب الشمس، بل ينصرف إلى بيته قبل اصفرارها؛ فقد قيل أول من يدخل الأسواق الشياطين، ثم يليهم شياطين الإنس وعكسه في الانصراف، نسأل الله السلامة. السابع: العطار. "وعليه مثل ما تقدم في التاجر؛ فيجتنب ما في بضاعته من المفاسد، ويبينها للمشتري وقت الشراء"، "ويحترز أن لا يشتري بالدين، ليسد بذلك باب النزاع، والخلف في المواعيد، ويخلص نفسه من ذل الدين وهوانه عن من هو له، فإن الدين كما قيل ريبة بالليل، ومذلة بالنهار؛ فإن اضطر إلى الدين، وكان من يسلفه معروفًا

/ بالدين والسماحة؛ فلا بأس، ولا يعتمد على ما يعلمه منه من قدم الصحبة وحسن المودة. فإن أعز الأشياء عند أكثر الناس اليوم دنياهم والحرص عليها، وترك المسامحة بها. ("وينبغي له إذا وزن لأحد أن يرجح له، وإن أخذ لنفسه أن يأخذ شحا ليكون ذلك دفعه بينه وبين الحرام"). "وينبغي له أن تكون حوائج العطر عنده كلها محفوظة مرتبة؛ لئلا يقع عليها ما تستقذره النفوس، أو يؤذيها؛ كبول فار، أو مرور شيء، [عليها] من الحشرات، ونحوها؛ فإن وقع فيها شيء من ذلك وعلمه؛ فعليه البيان للمشتري وإلا دخل في الغاشين للمسلمين". "وليحذر مما يفعله بعضهم وهو أنه يزن شاحًا ويدفعه للمشتري، ثم يزيده عليه شيئًا يسيرًا بغير وزن فتلك الزيادة يحتمل أن تكون ناقصة عن حقه، وأن تكون زائدة، وهو إنما دخل على وزن معلوم؛ فتقع الجهالة به حينئذ. وذلك لا يجوز للغرر.

"وليحذر من المفاسد التي يرتكبها بعضهم، منها أنهم يأخذون العود الرديء، ودقه، وبرادة الطيب منه، ويعجنونه بشيء من العنبر الخام، ويبيعونه على أنه كله طيب، وذلك غش، ومنها أنهم يأخذون الزعفران الجنوي، والبرشنوني، والهمذاني، ويطحنون الجميع ويبيعونه على أنه كله جنوي، وذلك لا يجوز. ومنها أنهم يخلطون ماء الورد العتيق بالجديد، ويبيعونه على أنه كله جديد، وذلك من الغش". "وكذا خلطهم المسك والزبدة الجيدان بالرديء منهما". ومنها أنهم يشترون السلعة بثمن معلوم إلى أجل معلوم، فإذا باعها أخبر المشتري بالثمن خاصة، ولم يذكر له الأجل، وبعضهم يزيد على ذلك؛ فيشتريها بثمن معلوم حالاً، أو مؤجلاً، ثم يماكسه، أو يسأله التأخير عن الأجل، وكل ذلك حرام شرعًا". "ومنها أن بعضهم يشتري السلعة ممن يعلم أنه اغتصبها، أو اختلسها أو نحو ذلك. فإن كانت على يد ظالم زاوده في ثمنها ليتخذوا عنده يدًا، وإن كانت في يد غيره؛ نقصوه من ثمنها جدًا على الثلث من قيمتها وأقل، وكل ذلك حرام".

الثامن: الإبرازي

الثامن: الإبرازي. "وعليه ما على العطار، ولكن الغالب عليه البيع بالكيل، أو الجزاف فيحترز في كيله على توفيته، والجزاف من شرطه معاينته للبائع والمشتري قل وأكثر، وليتحفظ أن يصيب ما عنده من السلع شيء تكرهه النفوس، كبول فأرة وعرسة ونحوهما فيتنجس، فعليه بيان ذلك للمشتري". التاسع: الزيات. والزيت دهن مبارك من أحسن ما تتجر فيه، وكان يعانيه جماعة من السلف لسلامته من الغش؛ "لأنه لا يقبل التدليس، بل يظهر فيه سريعًا، حتى لو وضع في الكثير منه الطيب شيء ما رديء، ورجع رديئًا ظاهرًا للمشتري وغيره، ومع ذلك إذا مكث في أوعيته، جف وصفًا وزال منه الكدر"؛ فيتعين على الزيات "ألا يخلط جنس زيت بجنس غيره؛ كأن يخلط زيت السمسم بزيت القرطم مثلاً، أو

زيت السلجم بزيت بذر الكتان ونحوها. وكذا لا يخلط طيب هذه الأنواع برديئها؛ فإنه من التدليس المنهي عنه، ويعود وبال ذلك عليه؛ لأن الطيب منه يرجع ردئيًا؛ خصوصًا زيت / الزيتون، وهو أعظم الزيوت بركة وأعمها نفعًا، ثم زيت السمسم، ثم باقيها". "وعليه أن يتجنب شراء الخلول التي عصرها أهلها بقصد الخمرية، ثم فسدت عليهم؛ فإنها إن كانت من كافرٍ، ففي شرائها منه إعانة له، وبعض النصارى واليهود يجعل الخل في أوعية الخمر، فيتنجس ويبيعها للمسلمين. قال بعض العلماء: ينبغي لمن يعمل العنب خللاً أن يكشف عنه، حتى يتحقق أنه قد صار خلاً، فإنه إن كشف عنه، ورآه خمرًا تعين عليه إراقته، وغسل الأواني منه، ولا يشتري خلاً ولا يبيعه وفيه بقية تخمير، وإنه حرام؛ لأنه خمر بعد. "ويجب عليه في السمن أيضًا) أن لا يخلط جنسًا من يغيره، أو رديئًا بطيب، أو قديمًا بحادث؛ فكل من ذلك من الغش"، "وأن لا يطأ بنعله الموضع الذي يضع عليه السلع؛ لئلا يتنجس. ولا يتركها مكشوفة إن غاب عنها. ولا يخلو حاله من أمرين.

العاشر: الخضري

أحدهما: أن يزن ما يبيعه في كفة ميزانه. الثاني: أن يعاير وعاء المشتري، ويزن له فيه، وهذا أسلم لتحقق براءة الذمة، ولا يمسح كفته بشيء من الخرق المتنجسة، أو المجمعة من الطرق والكيمان، إذ لا يخلو غالبًا من النجاسة أو من أثر ذوي العاهات، وإن غسلت؛ لأن غسلها لا يزيل أذاها، إذا أفرغها في وعاء المشتري فليبالغ في مسحها بيده، حتى لا يبقى شيء، ومع ذلك فلابد أن يرجح المشتري في الوزن بقدر ما يغلب على ظنه أن ما زاده أكثر مما نقص في الكفة، أو القداحة، ثم بعد ذلك يضعها على وعاء نظيف، فإن بقيت منه بقية تصفت في ذلك الوعاء، فإذا اجتمع فيه شيء تصدق به على الفقراء عن أصحابه". العاشر: الخضري فهو كالذي قبله، ويختص بأمور منها: أنه يتجنب ما يفعله بعضهم في بيع الملوخية أول دخولها؛ فيجعلونها حزمًا مربوطة بقش أو حلفًا كثيرًا، ومنها من الطين والماء ما لعله يزيد على الملوخية نفسها؛ فتصير بذلك مجهولة وزنًا كانت أو عددًا، والجهالة تمنع صحة البيع". ومنها: ما أحدثوه في بيع القلقاس فإنه على نوعين: رءوس وأصابع وهو

الحادي عشر: الجزار

أحسنه وأطيبه. فيأخذ بعضهم الرؤوس فيقشرها ويقطعها على قدر الأصابع، ويخلطها، ويسومها سوم واحد؛ وذلك غش وتدليس لا يجوز". "وينبغي أن يفرد كل واحد منهما ويبيعه على حدته بسوم يخصه. ومنها: أن لا يتغالى في مدح سلعته، ويسمى الأشياء بغير مسمياتها كذبًا كأن يقول: في"القثا": يا لوبيا - يا فستق" وفي الجميز يا كنافة - ويا عسل نحل- ويا أحلى من التين". الحادي عشر: الجزار. "فعليه تحسين النية كغيره، من التيسير على إخوانه المسلمين، بل هو أولى بذلك لإحلال الذبيحة، وهي أمانة والناس محتاجون إليه سيما في المواسم، والأعياد". "فتعين عليه أن يكون عالمًا بأحكام الذبح، ثقة أمينًا لئلا يطعم الناس حرامًا، أو يأخذ ما لا يستحقه من أموالهم؛ فإن النجس لا قيمة له شرعًا، والذبيحة تشتمل على فرائض، وسنن، وفضائل، وشروط للصحة، وشروط للفساد. أما فرائضها فخمس: النية، وهي أن يقصد بذبحه تحليلها لمن يأكل منها،

/ والفور: وهو أن يذبحها في وقت واحد بلا مهلة، وقطع (الودجين، والحلقوم)، والمريء. وأما سننها: فأربع: إحداد الشفرة، واستقبال القبلة، والتسمية والصبر عليها إلى أن تبرد. وأما فضائلها فأربع: سوقها إلى موضع الذبح برفق، وِإضجاعها على جنبها الأيسر برفق، وأن يجعل قدمه الأيسر على صفحة خدها الأيمن، ولا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها". ويتعين عليه بعد ذلك أمور منها: "أن يحترز مما يفعله بعضهم من إفاضة الماء عليها بعد سلخها، وإن لم يكن على اللحم شيء الدم المسفوح، ليثقل به اللحم في الوزن". "ومنها ألا يخلط لحمًا طريًا ببائت؛ ويبيعه على أنه طري كله؛ فإن البائت، وإن نقص على بائعه إلا أن كثيرًا من الناس لا يأكله؛ لأن قوته قد نقصت، وربما يحدث لآكليه علل وأمراض". "ومنها أن يجعل مع شحم الذبيحة إذا كان قليلاً شحمًا من غيرها، ليرغب في شراء اللحم لكثرة دهنه.

الثاني عشر: الشرائحي

وهذا من الغش، وينبغي له أن يحترز من الذبح في مواسم الأنصاري؛ لأن فيه إعانة لهم وتعظيم لمواسمهم في الظاهر". "وأن يحرص على استقبال القبلة بذبيحته، فقد قال بعض العلماء إن من تركه لا تؤكل ذبيحته". "وينبغي لكل مكلف في هذا الزمان أن لا يطبخ ما يشتريه من اللحم، إلا بعد غسله لوصول الدم إليه غالبًا". الثاني عشر: الشرائحي. وعليه ما على من تقدم قبله ويختص بأمور منها: "أن لا يخلط لحم شخص بلحم غيره، ولا يبدله ولا شيئًا من حوائجه وإن كان متساويًا موافقًا؛ لأن الناس مختلفون في كسبهم، وفيما يشترون به حوائج الأطعمة، والغالب على الشرائحي طبخه لمن لا يرضى حاله في كسبه". "ويحذر من غسل القدور بالماء المستقذر؛ بل يغسلها بالماء الطهور النظيف مع المبالغة في إزالة الزهومة، بنحو الليفة وما أشبهها، ومن استعمال الخرق التي يغسلون بها آنيتهم، ويمسحونها فإنها مستقذرة". "وليحذر من ترك القدور مكشوفة بأثر الطعام، لأن الحشرات تسرع إليها،

الثالث عشر: الخباز

فيكون سببًا لإتلاف النفوس، أو الوقوع في أمراضٍ خطرة، وإن ترك غسلها ناسيًا وجب عليها البيان لصاحب الطعام؛ فإن لم يرض؛ وجب عليه الغرم"، "وعليه أن يتحفظ على طعام الناس من الصبيان الذين يعينونه في الدكان؛ لئلا يأخذوا منه شيئًا، وإن قل أو يضعوا أيديهم فيه، فإن علم وجب عليه إعلام صاحبه ليتحللوا منه". "وإذا أرسل الطعام لصاحبه، غطى القدر؛ لئلا يتأذى الناس برائحته. وينبغي للإنسان مهما أمكنه ألا يطبخ عند الشرائحي، فإنه وإن أسلم مما ذكر من الآفات، فإن الناس يمرون ويشمون تلك الروائح، وفيهم الفقير والمسكين، والصغير والشيخ الكبير، والحامل والغالب عليهم الحرمان منه وإن طلبوا، فإن فعل، فينبغي له أن يطعم كل من قدر على إطعامه من هؤلاء، وخصوصًا حامل القدر إليه، وكل من باشره من زوجة وجارية وعبد". الثالث عشر: الخباز. "فعليه أن يجتنب خبز الدقيق الرديء، أو / خلطه بالطيب، وحلفه للمشتري أنه من الطيب، وذلك غش، يؤول فيه تعبه وكده إلى الحرام البين، وليزجر الصناع عن عوائدهم الرديئة من تبديهم الدقيق في مواضع العجن ونحوها، والتحفظ على العجين ما أمكن من مشي الخشاش، أو شيء من الحشرات عليه، وليغطى بشيء طاهر نظيف، أو يترك من يحرسه. ويمنع الصناع من عجنه وقت الحر، والعرق يسيل

وسقوط الذباب فيه فيختلط ذلك بالعجين في الغالب؛ فهذا كله لا يجوز وهو من الغش في الدين الممنوع شرعًا. فعليه، أن يأمرهم بغسل أطرافهم، أو يكون على كل واحد منهم ما يتقى به نزول العرق، ويرصد من ينش الذباب، ونحوه حال العجن". "ويمنعهم من العجين بماء الآبار المالحة، ويجعلون مع ذلك فيه الملح، فيصير طعم الخبز مرًا مالحًا". "وكذا يتحفظ على الماء العذب الذي يعجن به من [الذباب] وسائر الحشرات، والمستقذرات، وكذا آنيته، وما يغرس تحته ويغطى به. ويجعل ما تحت الخبز، وهو عجين نظيفًا طاهرًا"، "ولا يمكن أحدًا من دروسه، وإن كانت قدمه طاهرة، فإن لها حرمة". وليتحفظ على الماء الذي يغسل فيه الصناع أيديهم من أثر العجين، وغسالة الأواني التي يعجن فيها، ولا يريقها إلا بموضع طاهر". "ويمنع المصلين منهم من الوضوء [منه] في البرد بالماء المعد للعجين، فإن الغالب عليه أن يكون مختلطًا بأثر العجين"، وألا يخرج الفران الخبز عجينًا قبل

الرابع عشر: الفران

نضجه ليقل في الوزن". "والجملة فيتعين على الجميع مراعاة النصح التام للمسلمين في كل أمورهم". الرابع عشر: الفران. فعليه أن يحترز من أمور منها: أن يحمي فرنه بأنواع النجاسات كأرواث الحمير، والبقر، وشبههما، فيتنجس الفرن، ولا يطهر إلا بعد غسله بالماء، ثم إذا حماه ورد النار إلى ناحية منه، يمسحه بخرقة، مبلولة فيزيده تنجيسًا ثم يردها إلى الماء فينجسه إن كان طاهرًا ثم بعد تنجيس يده، (بذلك بتناول العجين قبل غسلها) فيطعم الناس خبزًا منجسًا، وطريق السلامة من ذلك، أن يحمى الفرن بطاهر كالقش، والحلفاء، ونحوهما من الطاهرات". "وإذا رأت تناول العجين غسل يده من نجاسة، أو غيرها من المستقذرات كالبصاق، والمخاط، والعرق؛ فإن لم يفعل كان غاشًا للمسلمين". "وإذا وضع الخبز في الفرن يتعين عليه ثلاثة أشياء: أن لا يدعه يحترق، ولا يقوي عليه النار جدًا فيتقمر، وأن لا يخرجه عجينًا،

فكل ذلك فيه إضرار بالمسلمين؛ لأن الأولان فيهما إضاعة مال مع ما فيهما ضرر من أكل الجاف، والمحترق بزوال الرطوبة المعتدلة عنه، فإن مثل الشيخ، والصغير، والمريض يتعذر عليهم أكله، وفيه ضرر آخر وهو أنه يمسك الطبيعة. وأما الثالث: ففيه ضرر أيضًا؛ فإن أكله يتولد في بطنه دود لعفونته، ويتولد منها أمراض يحتاج إلى الأدوية، والطبيب، فإذا أصاب الخبز شيء من الأولين تعين عليه أن يغرمه لصاحبه، وفي الثالث أن يرده إلى الفرق قليلاً، لأنه لا يستحق أجرة إلا إذا أحكم صنعته". "وعليه أن يحذر / من خلط أخباز الناس بعضها ببعض"، "أو أن يختلس شيئًا من خبز بعضهم، فإن من له جدة قد لا يتلفت لذلك ويستقبح الطلب، ومن هو ضعيف الحال يتضرر بذلك وقد يمنعه الحياء من الطلب، وكل ذلك حرام. [36/أ]. وكذا يتحفظ جهده من تبديد الدقيق على الأرض، أو الموضع الذي يوضع عليه الأطباق، ويمشي عليه بالأقدام والنعال ففيه امتهان لنعم الله تعالى يخاف من عاقبتها". "وينبغي له أن يقدم السابق أولاً، فأول اللهم إلا أن يكون العجين المتأخر يخاف عليه من التلف فيقدمه، ويجتنب ما يفعله بعضهم من تقديم خبز النقد على خبز

الخامس عشر: الطحان

المشاهرة، وإن كان متأخرًا، وإياه أن يشتغل بالخبز والناس في صلاة الجمعة، أو وهم في الصلوات في الخمس ولا يحضرها، فإنه لا يفلح في الدنيا ولا في الآخرة"، "وليحذر من اجتماع الجواري (العبيد والبنات الأبكار)، والنساء مع الرجال عنده في الفرن مختلطين، وربما يقع بينهم مخاطبات فاحشة، تكون سببا للفاحشة الكبرى نسأل الله السلامة". الخامس عشر: الطحان. "ينبغي له كغيره أن يحسن نيته ما استطاع من قضاء حاجة المسلمين، ليكون في عبادة"، "وعليه أن يرفق بالدواب التي تطحن ولا يكلفها غير طاقتها، ولئلا يجيء الدقيق فيه خشونة سيما إن كان في وقت الحر. ولا يزكوا الدقيق كثيرًا بسبب سوقها، وليحذر مما يفعله بعضهم من أنه إذا أبقى في القادوس قليل من القمح أخذ طحينًا لشخص آخر، ويسكب عليه وهكذا، فتختلط أقوات الناس بعضها ببعض وهي مفسدة عظيمة؛ لأن مكاسبهم مختلفة، فإنه إن اختلط بشيء من كسبه حرام أثر ذلك، وإن قل تأثيرًا عظيمًا في القلب القالب والرزق".

"ويتعين عليه أن يشرط على الصناع ستر العورة، وأداء الصلوات في وقتها المختار في جماعة، ومن لم يسمع منه تعين عليه طرده، فإن لم يشرط ذلك عليهم، كان شريكًا لهم في الإثم"، "ولا يتركهم يفعلون ما اعتاده من مشيهم حفاة على بول الخيل، وزبلها، ودخولهم بيت الراحة حفاة، ثم يدوسون القمح بتلك الأقدام النجسة؛ فيتنجس، وهي مفسدة عظيمة في ذمة مستأجرهم. فعلي الصناع المحافظة الكلية من تنجيس الدقيق؛ لأن صاحبه ربما لا ينخله، فيأكله متنجسًا، وعليه أن يعلم صاحبه إن وقع فيه شيء من ذلك"، "ليتحفظ وليحترز مما يفعله بعضهم، وهو أنه يشتري القمح من بعض الناس بثمن معلوم، ولا يعطيهم ثمنه إلا دقيقًا مقسطًا وذلك لا يجوز في بعض المذاهب، والخروج من الخلاف أولى خصوصًا في القوت". "ويتعين على بائع الدقيق من قمحٍ عتيق، أو مختلط بشعير أو غيره؛ أن يبين ذلك للمشتري وإل يكون غاشًا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا".

السادس عشر: السقاء

وإذا فعل ذلك، وجب عليه التوبة، والاستحلال من باعه ذلك، ويتجنب ما يفعله بعضهم، وهو أنه إذا خرجت الدواب للربيع؛ زادوا في سعر الدقيق وقل أن يظهروه / للناس، والقمح على سعره موجود، وقصدهم بذلك الزيادة في سعر الأقوات على المسلمين وذلك مكروه وربما يكون حرامًا". "ويحتفظ صاحب الطاحون ما أمكنه من تبديد القمح عند شيله وحطه، والمشي عليه بالأرجل، والنعال؛ فإن فيه امتهانًا له فقد قال بعض العلماء: "إن القوت إذا امتهن يستغيث لربه - عز وجل - أن يكرمه، وإذا أكرمه الله رفع سعره"؛ فيحترز ذلك جهده، ويلقطه، ولو حبة منه؛ فإن ذلك يكون سببًا لحصول البركة، وإبقاء النعمة عليه، وعلى المسلمين". "وينبغي للمسلم أن يتجنب شراء الدقيق من طواحين أهل الكتاب، ولا يطحن عندهم لوجوه كثيرة من المفاسد" بل الورع في هذا الزمان ترك الطحن في هذه الطواحين الموجودة الآن، ويطحن في بيته، ولا يخرج قمحه عن يده ولا من تحت نظره لما ذكرنا من المفاسد، والله الموفق المعين. السادس عشر: السقاء. "ويعلم أنه إن أصلحت نيته، واتقى الله في سببه، له أجر عظيم، وخير عميم"؛ "وعليه أن يجتنب أمورًا منها: ما [يفعلونه] من أخذ الماء من الموردة قريبًا من البئر والغالب على

ذلك الموضع النجاسات، وإلقاء الفضلات، وقل أن يسلم من البول منهم، أو من غيرهم، وهذه أحد الملاعن الثلاث التي نص عليها صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم بقوله: "اتقوا الملاعن الثلاث البول في الموارد، وقارعة الطريق، والظل". ولقد أخبرني بعض من شاهدهم: أن بعضهم يغرف من الماء، وهو يبول فيه، والجمل قائم يبول ويروث فيه، وهو مع ذلك يعرف ويكسب في الرواية، فهذا الماء متى

ظهر فيه تغير بطعم، أو لون، أو ريح؛ فهو نجس قطعًا، وفاعل هذا ملعون مرتكب حرامًا، وأعظم من ذلك أنه يحمله للمسلمين المحتاجين إلى شربه؛ فيشربونه نجسًا، ويتنجس به ثيابهم، وأجسامهم، وعجينهم، وغير ذلك. وتبطل صلاة من تطهر به منهم، ويحتاجون إلى مشقة شديدة في غسل جميع ما أصابهم من ذلك، فحق السقاء وواجب عليه أن لا يملاً الراوية إلا من داخل البحر، بحيث يغلب على ظنه أنه موضع سالم مما ذكرـ وإن كان فيه كلفة عليه فهذه الكلفة: واجبة، وإلا أكل حرامًا، وضاع عليه تعبه في الحلال لتركه الواجب عليه، ومع ذلك تكون عينة مراعية لما يحصل في الدلو. فإن طلع فيه شيء مما ذكر أزاله وطهره، وإن كان مستقذرًا صبه وأخذ غيره، وينبغي له أن لا يملأ بالليل لتعذر الاحتراز فيه. فإن فعل فيزيد في الاحتياط، ويبعد في البحر، بحيث يأمن وقوع شيء من ذلك، فإن تحفظ ووقع شيء، فلا (إثم عليه)، ويغرم لمشتري الراوية، ما أخذه من ثمنها، أو يرضيه بمثلها". "وإذا ملأ الراوية بأكملها، ولا يتركها ناقصة، ويحتاط في سلامتها من الخرق، فإن الماء ينقص كثيرًا بذلك سيما إن كان الموضع عن البحر بعيدًا أو (الخروق متسعة). وإذا كانت الراوية جديدة أو قديمة ودهنها، أو كان فيها قطران، أو عليه مما يسلبه الطهورية بين ذلك للمشتري؛ فإن لم يفعل فقد غش". "ويتعين عليه أن يجعل على الرواية غطاء كثيفًا نظيفًا ساترًا /، ليسلم الناس من تلويث ثيابهم فيتأذون منه، فربما لا يخرج بالغسل الكثير، والصابون وأذى المسلمين [37/أ]

حرام بالإجماع". "ويحرم عليه أن يبيع شيئًا من الرواية أو يهبه، ثم يبيعها للغير على أنها كاملة، وتارة يختلسه من المشتري بعد بيعه الراوية، وإذا ربط القربة ربط فمها ربطًا متينًا، لئلا يخرج منها ماءً كثيرًا، فيحصل نقص لا يرضى به بعض الناس، وفيه إضاعة مال، وأذى المسلمين في طرقهم". "وللمشتري إن شح أن ينقص السقاء من الثمن بحسابه مما نقص من الماء". "وينبغي له أن يمشي بالجمل مشيًا متوسطًا بغير عنف يضربه، ولا بطاء فيضره أيضًا، كذلك إذا رجع إلى البحر لا يسوقه سوقًا عنيفًا؛ فإن الجمل ليس من شأنه الجري، بل الحمل لما يستطيعه، وربما صدم الناس في الطرق والأسواق ولوث ثيابهم". "ويتعين عليه ألا يسكب في بيت، وفيه امرأة واحدة وإن كانت لا تظهر عليه ففيه خلوة بالأجنبية" "وإذا دخل استأذن من خارج الباب [وغض] بصره، وأطرق رأسه، ولا ينظر إلى موضع في البيت إلا موضع قدمه، وموضع سكب الماء".

السابع عشر: الطباخ

"وليحذر من فعل بعضهم، وهو أنه يأخذ ثمن عدة من الروايا معجلاً من شخص، فإذا كسد عليه الماء سكب له، وإن لم يكن محتاجًا إليه. وإن كان في الحر سكب له قبل أن يبرد، وإذا جاءه من يكسب منه بالنقد قدمه، وبدأه، وذلك ضرر وغش على من عجل له الثمن". "وليحذر المشاتمة مع بعضهم، وذكر الألفاظ الخبيثة. وإياه من ترك الصلاة كسلاً؛ فغنهم طول يومهم لا يفارقون الماء، والمساجد كثيرة قريبة منهم ولله الحمد". السابع عشر: الطباخ. "ينوي ما تقدم، ويزيد نية التيسير على الغرباء والفقراء الذين يعجزون عن الطبخ في بيوتهم، ويتعين عليه ألا يطبخ إلا لحمًا منفردًا لا يخلطه بغيره من اللحوم كما يفعله بعض الجهال السفهاء منهم، فيخلط الضاني بالبقري، فربما يشتبه على بعض الناس، وخصوصًا إن كان البقري صغيرًا، وذلك من الغش المحرم، وبعضهم يبيت عنده اللحم المطبوخ؛ فإذا كان من الغد طبخ لحمًا طريًا، وخلطه به، وباعه معه على أنه طري، وذلك غش أيضًا محرم، وإن فعل ذلك، فعليه البيان للمشتري، فإن لم يرض انفسخ البيع، ووجب عليه رد الثمن، فإن فات الطعام وجب عليه أن يتحلل من كل من باعه ذلك، فإن عجز فذمته مشغولة، وعليه رد التفاوت بينهما. ومنهم من

الثامن عشر: اللبان

يبيت عنده اللحم المطبوخ (ويصبح يطبخ) [في الغد] بلا لحم ويبيعه على أنه طري". "ومنهم من إذا طبخ اللحم صلقه قليلاً، ولا ينضجه؛ ليثقل في وزنه، وإذا بات منه شيء لا تتغير رائحته". وأما مرقة الطعام فإن كان فيها شيء مما يقصد كالأرز والحمص، والقلقاس، والباذنجان، والدباء، وما شابهها فلا يجوز بيعها وزنًا، بل جزافًا بشرط أن يعاين ذلك المشتري بعد وضعها في إنائه، ويطلع عليها". الثامن عشر: اللبان. "فعليه ألا يشتري اللبن إلا على أحد / وجهين: إما بمعاينته؛ فيجوز بشروط البيع، وإما بأن يسلم فيه فيجوز بشروط السلم، وأن يجتنب ما يفعله

أكثرهم. وهو أن اللبان يأخذ ما يحتاج إليه من اللبن، في كل يوم من الجمعة إلى الجمعة من غير اتفاق مع صاحب اللبن على ثمن معلوم ولا معاقدة شرعية؛ فيؤول أمرهم في آخر الجمعة إلى المنازعة في السعر، وتحصل الجهالة بالثمن، وذلك لا يجوز، وهذه عادة ذميمة مخالفة للشرع عمت بها البلوى، وتسرى هذه المفسدة إلى كل ما يطبخ به". "ومنها: أن بعضهم يخضره، بأن يضع عليه ماء للسلق، وقت غليانه (أو قليل) كركم، فيتغير لونه إلى الصفرة ليوهم أنه خيره، فهذا من الغش، ولا عذر لمن يقول هذه عادة علمت بالعرف، فإن العادة المذمومة شرعًا لا تراعى، ولا يرجع إليها. وليحذر أن يهمل تغطية أواني اللين سواءً كان فيها، أو لم يكن؛ لأن بعض الحيوانات، والحشرات يتبع الرائحة. حتى إن ربما ذوات السموم تلقي سمها في اللبن، ولا يشعر به، فيؤول ذلك إل إتلاف النفوس". نسأل الله السلامة. "فتيعين عليه غسلها بالماء الطلق، وتنظيفها، وتغطيتها" ما أمكنه.

التاسع عشر: قالي الجبن

التاسع عشر: قالي الجبن. قلت عليه أن (يفعل فيه) ما كان يصنعه الأقدمون الناصحون، وهو أن يأخذ الجبن أولاً، ويخدمه في البقوط على المقبض، ثم يعصرها عصرًا جيدًا، ويقلبه خمس، أو ست تقليبات، ويتركه يومًا وثانيًا، ثم يصلقه في ماء حار شديد الحرارة بحيث ينقلب الماء، ثم يبرده قليلاً، ويخدمه بيديه في الماجور، ثم يرفعه على فخ (حتى ينشف) ويجف، وإذا أراد قلبه شطفه مرتين، وثلاثًا بماء حلو، ثم يغلي، فإنه يخرج إلى الغاية في الحسن، واللذة، والطيب. ويكون القنطار منه طريًا على الثلث، أو النصف مقلبًا. وليحذر (أن يفعل ما يصنعه أهل) زماننا، فغنه يصلقه بماء فاتر نصف صلقة، ولا يخرج مشه، ولا ما فيه، من أذى، ثم يغليه كالقوانص ولا لذة فيه أصلاً كما هو. ولقد أخبرني بعض العارفين منهم أنه إذا عمل على الوضع الأول الذي وصفناه؛

العشرون: قالي السمك

كان أقل أداء للحطب، وشربًا للشيرج وأن من يضع خلاف ذلك لا يكاد يفلح أبدًا، ولم يزل مدينًا مهينًا. والذي أراه في ذلك للحسبة أولاً على الفلاح الجالب للجبين للبيع، فإن أصل الفساد منه لطلب الزيادة في الثمن بثقل الوزن. فيتعين على المحتسب أن يعتبر على الفلاح، أولاً، حين قدومه البلد ما ذكرنا، ويكلفه النصح فيما عليه من ذلك، وعدم الغش فيه، ولو بالضرب، وإفساد ما [جلبه]، ويأمر القلايين بأن لا يشتروه أصلاً إذا كان بهذا الوصف، لينزجر أو لينصلح الحال - إن شاء الله تعالى - إذا فعل ذلك والله الموفق والمعين. العشرون: قالي السمك. قلت: عليه ألا يقلي السمك الفائت، ولا يخلطه بدقيق كثير؛ ليخفي ريحه، ويثقل وزنه، ولا يقليه بزيت حلو أو نحوه، ويوهم أنه بشيرج. وليحذر أن يزن بأحجار يسمها لنفسه، لم يحرر [كميتها] ولم يعلم مقدارها، فيزن بها ويرجح؛ فيظن المشتري أنه زاده عن حقه، وفي نفس الأمر أنه ما وفاه حقه،

الحادي والعشرون: قالي البيض

ويحرم عليه / أن يدفع شيئًا من رد السمك لمن يعلم، أو يظن أنه يسحر به الناس، وأن يغطي آنيته من ذلك ليلاً (ونهارًا). الحادي والعشرون: قالي البيض. قلت: وعليه مثل الذي قبله، وألا ينقي البيض الصغار؛ فيجعله أقراصًا أو عججًا، والكبير يجعله في المبعثرة، والعجة، ونحوهما. ولقد أخبرني بعض الثقات عن بعضهم، أنه شاهده يقسم البيض الكبير اثنين، ويجعلها قرصًا ببيضتين. وإذا خرج عليه بيضة مذرة طرحها، ولا يستعملها في ذلك، فإن فعل فهو من الغش المحرم، وعليه بيان ذلك للمشتري؛ إن وقع منه. الثاني والعشرون: الصياد. يجوز له الاصطياد بجوارح السباع؛ كالكلب أسودًا أو غيره، والفهد، والنمر ونحوها. وبجوارح الطير؛ كالبازي والشاهين، والصقر، والباشق. فما

أخذته، وجرحته، وأدركه ميتًا، أو فيه حركة المذبوح حل أكله، ويقوم إرسال الصائد وجرح الجارح في أي موضع كان مقام الذبح في المقدور عليه. ثم يستحب أن يمر السكين على حلقه؛ ليريحه؛ فإن لم يفعل، وتركه حتى مات، فهو حلال، وإن أدركه وفيه حياة مستقرة، ولكن تعذر عليه ذبحه من غير تقصير فحلال أيضًا؛ للعذر. مثل أن يأخذ الآلة، ويسن السكين فيموت قبل إمكان ذبحه، وإلا فهو حرام، مثل: أن تشبث السكين من غمدها، ولم يتمكن من إخراجها حتى مات فحرام على الصحيح؛ لأن من حقه أن يستصحب غمدًا يواتيه، ولابد من قصد الصائد. فلو كان في يده سكين فسقط، وانجرح به صيد ومات فهو حرام، خلافًا لأبي إسحاق المروزي. ولو أرسل سهمًا في الهواء، فصادف صيدًا فقتله، لم يحل على الأصح،

الثالث والعشرون: رامي البندق

ولو رمى إلى خنزير، فلم يصادفه، وصادف غزالاً فهو حرام، على الصحيح. الثالث والعشرون: رامي البندق. ذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام محي الدين النووي في كتاب المنثورات أنه حلال، وأفتى به الشيخ تاج الدين ابن الفركاح، وهو المفهوم من كلام الرافعي.

ولكن قال ابن يونس في شرح التنبيه: ذكر في الذخائر أن الاصطياد بما لا حد له كالدبوس، والبندق لا يجوز، ولا يحل، لما روى البيهقي أن ابن عمر كان يقول في المقتولة بالبندقية: تلك الموقوذة، وصرح أصحابنا بان المحدد إذا قتل [بفعله] لا يحل، بل لابد من الجرح. قالوا: فيحرم الطير إذا مات ببندقية رمى بها [خدشته] أم لا، قطعت رأسه أم لا.

الرابع والعشرون: الشرابي

الرابع والعشرون: الشرابي. "وينبغي أن يكون مشهورًا بالدين، والنصيحة، وعنده معرفة بتركيب الأشربة، وصلاحها، وفسادها، وطرف صالح من الطب، ويتأنى فيما يطلب منه من الأشربة، فربما غلط هو، أو الطبيب"، و"تختبر الأشربة بطعمها، وعلامة الشراب الجيد أن يظهر فيطعم أصله؛ كأن يكون شراب ورد مثلاً، أو ليمونًا؛ فيظهر فيه طعمهما، وإن تغير لونه؛ لأنه إذا عمل على ما ينبغي جاء لونه إلى السواد غالبًا، وعمل الناس (اليوم على) خلاف ذلك. فإنهم إنما يبيعون الأسماء؛ فيضعون القليل مثلاً من الأسطوخوجس، / أو الورد مثلاً معقودًا بالسكر والماء، ولا طعم لأصله فيه، وهذا غير نافع للمريض، فتجد الأشربة عندهم في غاية الصفاء، والرشوق، ولا نفع فيها للمريض، وهذا من الغش المذموم".

ولهذا قال ابن زهر: "أخبرني أبي أن والده قال: "إذا صفا شراب الصيدلاني، كدر دينه"، "وكذا يفعلون أيضًا في الأدهان؛ فإنك تسمه مثلاً بدهن البنفسج، أو دهن الورد، أو غيرهما، ولا رائحة فيه لشيء من ذلك، والواجب في كل شراب يتخذ، أن ننقع الأدوية في الماء، بحيث يخرج فيه خاصيتها، ثم ترفع على نار لينة، حتى يأخذ الماء طعم ذلك الدواء، أو رائحته، ويتغير لون الماء تغيرًا ظاهرًا، فحينئذ يصفي ويضاف إلى الصفو السكر، أو العسل، ويعد شرابًا نافعًا. وكذلك يفعل في الأدهان". "ويتعين على الشرابي إذا قدم عنده الشراب ألا يبيعه؛ حتى يبين للمشتري؛ لأنهم يقولون: إن الفاكهة الجديدة إذا دخلت على الأشربة، بطل عمل ما عمل بالقديمة. وكذا يقولون في العقاقير، والأدوية، وهذا في الغالب، وأما في النادر كخيار شنبر وشبهه. فإنهم يقولون: إن قديمه أحسن من جديده". "وليحذر الغش في سببه ما استطاع أكثر من العطار وغيره؛ فإن غشه يؤول إلى إزهاق النفوس، أو الزيادة في المرض أو طوله". "وينبغي له التحفظ على أوعيته، وأوانيه

فيصونها بالتغطية ويتفقدها وقتًا بعد وقت، سيما في زمن الحر، لكثرة هيجان الحشرات فيه. وقد يدخل فيها حيوان؛ فيموت، أو يخرج منه فضلة؛ فيتجنس أو يدخله نمل ربما أكل سمًا قاتلاً؛ فيكون سببًا لهلاك من استعمل من ذلك شيئًا، ولحدوث أمراض لم تكن من قبل ذلك. وإذا وقع له شيء من ذلك؛ لا يجوز له بيعه ويتعين عليه إراقته، وغسل الإناء منه". "وليجتنب أمورًا فاسدة منها: أن يبيع ماء اللسان البلدي؛ فإنه ممكس ويغش فيه غالبًا، ومنها أن يبيع حاجة تسمى بئر خشك يزغلها على أنها سير خشك المعروف، فإنها تشبهها في الصفة، ولا تقاومها في النفع؛ ومنها ألا يخلط الترنجيل بأشياء تشبهه في

الخامس والعشرون: الطبيب

الصفة، وكذا [الخولان] الهندي، وما أشبه ذلك من أنواع الغش"، وهي كثيرة في هذا السبب؛ فعليه أن يتجنبها ونسأل من الله التوفيق. "ويتعين على أولياء الأمور أن يمنعوا اليهود والنصارى من عمل الأشربة، أو بيعها، وأن يجلسوا بالحوانيت؛ ليبيع ذلك للمسلمين؛ (فإن فيه من الغش، والمفاسد مالا يخفى على بصير؛ فإن من معتقد اليهود التدين بغش المسلمين) بل كل من حلل السبت، يباح عندهم دمه وماله. ومن معتقد النصارى أن أموالهم طاهرة، ولا يتدينون بترك نجاسة أبدًا، إلا دم الحيض [فقط]؛ فكيف تطيب نفس عاقل على الإقدام على استعمال دواء، أو شراب يستشفي به، يكون مغشوشًا يعقب فسادًا، أو نجسًا يدخل جوفه". الخامس والعشرون: الطبيب. "يتعين عليه أن يكون مسلمًا، دينًا، ثقة، عارفًا مجربًا، وعليه بذل النصح، والرفق بالمريض، / وإذا علامات الموت لا بأس أن ينبه على الوصية [39/أ]

بلطيف من القول، وله النظر إلى العورة إذا مست الحاجة، بقدر الحاجة. وأكثر ما يؤتى الطبيب من عدم فهمه حقيقة المرض، واستعجاله في ذكر ما يصفه، وعدم فهمه مزاج المريض، وجلوسه لطب الناس قبل استكماله الأهلية"؛ "من الشباب وغيرهم. ولا يغتر عاقل بما معهم من الإجازات بصناعة الطب، والكحل، وغيرهما؛ فإن الشباب لم يحصل لهم كثير من الدربة والتجارب. والخطأ في هذين كثير، عظيم، إذ خطأ الطبيب بالقتل، والكحال بالعمى"، "ولقد أحسن بعض الشعراء بقوله حيث قال: أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه ... وبكحله الأحياء والبصراء (فإذا نظرت رأيت من عميانه ... أممًا على أمواته قراء) "فيتعين على العاقل إذا احتاج لذلك، أن ينظر إلى الأصلح في الوقت من أطباء المسلمين، والكحالين في المعرفة، والتجربة، والدين. وألا يستعمل في ذلك أحدًا من (اليهود والنصارى)، فإنهم لا يرجى منهم نصح، ولا خير، بل يقطع بغشهم، وأذيتهم لمن ظفروا به من المسلمين لا يلون في ذلك جهدًا سيما إن كان كبيرًا في علمه أو دينه؛ فإنهم يتقربون بقتله ديانة.

ومن القاعدة في دين اليهود، أن من نصح مسلمًا فقد خرج من دينهم، وأن من حلل السبت هدر دمه، وحل سفك دمه، وأخذ ماله". "ومن البلية أنا نشاهد بعض العلماء في عصرنا ممن يقتدي بهم يستطبهم مع تحققه منهم ما ذكرناه. ويتعللون بما لا يجدي فيقول بعضهم: أنا لا أسكن إلى قولهم، بل أرجع إلى علمي ومعرفتي، ويكون قولهم تأنيسًا لي، ومع ذلك اضطلع عليه إن كان غشا أو نصحًا. قال بعض العلماء الموفقين: وهذا ليس بشيء لوجهين: أحدهما: أن إخوانه من المسلمين ممن لا يعرف العلم يقتدون به في استعمالهم. وثانيهما: إنه لا يأمن الغفلة، من أن يدسوا عليه شيئًا من الأدوية ونحوها؛ فيكون سببًا لإهلاكه وهو لا يشعر ولهم في التوصل إلى دسائس كثيرة، فمن خبث أنهم

لا يعطون المسلم [في] أول مرة شيئًا يضره في الظاهر من الأدوية، والعقاقير، خوفًا أن (يظهر غشهم وتنقطع) معيشتهم، ولكنهم يضيفون له ما يليق بذلك المرض، ويظهرون الصنعة فيه، والمبالغة في النصح؛ فيتعافى المريض؛ فينسبون إلى الحذق والمعرفة وتكثر طلابهم، ومع ذلك يدسوا في أثناء الحال حاجة، لا يفطن لها فيها من الضرر غالبًا، وفيها نفع من ذلك المرض، فينتعش قليلاً، ويبقى المريض بعدها مدة في صحة وعافية، ثم ينتقض عليه المرض؛ فيعود إليه الضرر في آخر الحال، وقد يدس حاجة أخرى، إن جامع بعدها، أو دخل الحمام انتكس ومات. وإذا استعملها صح وقام من مرضه، وإذا مضى عليه مدة، عادت عليه بالضرر، وتختلف المدة في ذلك. فمنها ما تكون سنة، وأقل وأكثر (وإذا سئل عدو الله عن ذلك / تعلل بأن هذا مرض آخر دخل عليه ليس فيه حيلة) ولو سلم منه، لعاش ويظهر الحزن (عليه، والأسف)، ثم يصف له بعد ذلك أشياء تنفع لمرضه؛ ولكنها لا تفيد بعد أن فات فيه الأمر، فينصح حيث لا ينفع نصحه؛ فإذا رأى ذلك الغمر ظن أنه من الناصحين، وهو من أكبر الغاشين ولقد أحسن من قال: [439/ب]

السادس والعشرون: الكحال

كل العداوة قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك في الدين فقد يستعملون النصح لبعض الناس ممن لا خطر لهم في دين ولا علم، غش منهم؛ لأنهم لم ينصحوا لما حصلت لهم الشهرة بالمعرفة بالطب، ولتعطل عليهم معاشهم، ويستعملونه أيضًا لمن يخافوه من الأمراء والأكابر، ليتسموا بالمعرفة، ويحصل لهم الحظوة عندهم (ويقدمونهم على المسلمين، ويتسلطون بذلك على قتل من أمكنهم من العلماء والصالحين) ". وهذا مكر عظيم، وخبث ظاهر، قل من يتنبه له. نسأل الله السلامة منهم بمنه وكرمه. السادس والعشرون: الكحال. "وعليه مثل ما على الطبيب من الاحتياط"، قلت: ويتعين عليه أنه إذا رأى بعين إنسان ماء قد استحكم، أو نحو ذلك مما لا ينجع فيه القدح والمعالجة، وهو يعرف ذلك، ألا يأخذ منه مالاً على ذلك، ولا يقبل منه شيئًا؛ فإنه سحت، يأخذه لا في مقابلة شيء، مع ما يحصل له من المشقة، والنصب، والترداد إليه بلا فائدة. السابع والعشرون: المزين. وعليه مثل ما على من قبله من الاحتياط " [ومفاسده] كثيرة في الغالب إلا لمن

وفقه الله تعالى. فمنها مباشرته للنساء، وربما كانت وحدها فلا يحل له الخلوة بامرأة ما لم يكن معه محرم لها، أو جماعة نسوة ثقات ويغض طرفه مهما استطاع، ولا ينظر إلا لموضع الضرورة، وكذلك المرأة، وينوي بفعله ذلك القيام بفرض الكفاية، وإسقاط الحرج عن المسلمين، وإغاثة الملهوفين، والمضطرين، وإعانتهم على امتثال السنة في التداوي بإخراج الدم". "والأولى بل الأحب أن يكون للنساء صانعة مسلمة؛ فإن تعذرت فالصبيان المأمون من المراهقين؛ فإن تعذر فالشيوخ، وكل ذلك مع عدم الخلوة، وعند الضرورة". "ويحرم على المرأة أن تدخل المزين، أو الصانعة؛ لتفلج أسنانها، أو تجردها لتبييض، أو تحففها، أو تفعل هي ذلك بنفسها". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنصمات للحسن المغيرات

الثامن والعشرون: معلم الصبيان في المكتب

خلق الله". قال الشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله تعالى - في شرحه لمسلم: "النامصة هي التي تزيل الشعر من الوجه، والمتنصمة هي التي تطلب فعل ذلك بها، وهذا الفعل حرام. ثم قال: "والنهي إنما هو في الحواجب، وما في أطراف الوجه. وليحذر المزين أن يعين "ما يقصده بعض السفلة، والرعاع من جب ذكره، كما يفعله المبتدعة، ومن غلبه حب من لا يصل إليه، ممن لا يكون عقله ثابتًا، فلا يحل له مطاوعته، ولا أن يثقب أذني رجلٍ ليضع فيهما حلقتين" ونحو، ولينبه الصائغ. الثامن والعشرون: "معلم الصبيان / في المكتب". "ينبغي له أن أول ما يبدأ به من تعليم الصبي السور القصار من القرآن، بعد حذفه بمعرفة حروف المعجم، وضبطها بالشكل ويدرجه بذلك تلقينا، حتى يألفه طبعه، ثم يعرفه عقائد أهل السنة والجماعة، ثم أصول الحساب، وما يستحسن من المراسلات، والأشعار المستحسنة البليغة، وإذا أرادوا الرواح أمرهم بتجويد الخط على [40/أ]

المثال، ويكلفهم عرض ما أملاه عليهم حفظًا غائبًا لا نظرًا. ومن كان عمره فوص سبع سنين أمره بالصلاة في الجماعة، ويأمرهم ببر الوالدين، والانقياد إليهما بالسمع والطاعة، والسلام عليهما وتقبيل أديهما عند الدخول، ويضربهم على إساءة الأدب، والفحش من الكلام، وغيره من الأفعال الخارجة عن قانون الشرع، من أنواع اللعب، ولا يضرب صبياً بعصاً غليظة تكسر عظمه، ولا دقيقة تؤلم الجسم، بل تكون وسطاً؛ ويتخذ مجلاداً عريض السير، ويعتمد في الضرب على اللوايا، والأفخاذ، وأسافل الرجلين؛ لأن هذه المواضع لا يخشى منها ضرر. ولا غائلة. ولا ينبغي له أن يستعمل أحداً منهم في حوائجه التي فيها عار على آبائهم، كنقل الزبل، وحمل الحجارة، ونحوها، ولا يرسلهم إلى داره وهي خالية لئلا تتطرق إليه التهمة، ولا يرسل صبياً مع امرأة لكتب كتاب، ولا غيره. فإن كثيراً من الفساق يحتالون على الصبيان بذلك، ويكون السائق لهم إلى دور أهليهم ثقة أمينًا متأهلاً؛ لأنه يتسلمهم في الغدو والرواح، وينفرد بهم في الأماكن الخالية. ولا يعلم الخط امرأةً، ولا جاريةً؛ لأن ذلك مما يزيد المرأة شراً، حتى قيل: "إن المرأة التي تتعلم الخط مثل حية تسقى سما، ويمنع الصبيان من حفظ شيء من شعر

ابن حجاج، والمعمار، ونحوهما من الأشعار السخيفة في الهزل، والمجون كديوان "صريع الدلاء، وابن سودون في زماننا، والأشعار التي عملها الروافض (في) أهل البيت رضوان الله عليهم. فلا يعلمهم شيئًا من ذلك، بل يضربهم عليه وينبغي له أن يكون من أكثر الناس تعظيمًا لشعائر القرآن، وهو مضطر إلى تحسين النية فيه أكثر من غيره (لأن الذي هو) حامله أصل كل خير، وهو من أعلى أعمال الآخرة؛ فيحفظ نفسه أن يجلس بنية استجلاب الرزق، وطلبًا لغرض الدنيا، فيدخل تحت الوعيد العظيم. بل ينوي بذلك امتثال قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، والمراد بالخير هنا الآخرة؛ فإنه المقدم على أعمال الآخرة كلها. إذ به يحصل الفتح لسلوك الطريق إلى الله تعالى؛ لأن أصل ذلك كله، معرفة

الخط، والاستخراج، والحفظ، والضبط، والفهم للمسائل، ومفتاح ذلك كله المؤدب، فهو أول باب من التوفيق يدخله المكلف، فإذا جلس المعلم بنية أن يعلم آية لجاهل، أو يصحح صلاة مسلم بتعليمه الفاتحة، إلى غير ذلك من نفعه العام، للصغير والكبير عادت عليه بركة ذلك سرًا، وجهرًا، حسا، ومعنى. روى القرطبي في تفسيره حديثاً / مرفوعاً: "خير الناس، وخير من [40/ب] يمشي على جدير الأرض المعلمون، كلما خلق الدين جددوه أعطوهم، ولا تستأجروهم؛ فتحوجوهم؛ فإن المعلم إذا فإن المعلم إذا قال للصبي: قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كتب الله براءة للصبي، وبراءة للمعلم، وبراءة لأبويه من النار. "وينبغي أن يكون المعلم حسن العقيدة، خشية أن ينشأ الصبي على عقيدته، وهي فاسدة، فقد وقع لكثير ذلك، فيتعين على أبي الصغير، أو وليه الفحص عن عقيدة المعلم، قبل البحث عن دينه في الفروع، ثم البحث عن دينه في الفروع. ومن حقه ألا يعلم الأطفال شيئًا قبل القرآن، ثم بعده حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتكلم معهم في العقائد؛ حتى يتأهلوا، ثم يأخذهم بعقيدة أهل السنة والجماعة، والأحوط له أن يمسك عن ذلك، وله تمكين الصبي المميز من كتابة القرآن في اللوح، وحمله، وحمل المصحف". وينبغي له أن يكون سائر الصبيان عنده بمنزلة واحدة، وإن كان فيهم فقراء وأيتام؛ فلا يرجع ابن الغني على ابن الفقير في التربية والتعليم، وكذا ولد من أعطاء على

من منعه، فإن فعل ذلك، تبين صدق نيته. وإذا كان عنده (أحد من أولاد من يتسبب بالحرام) من مكس، أو ظلم؛ فيتنزه عنه ما استطاع، ولا يأخذه، فإن أتى له به من وجه مستورٍ بالعلم؛ فلا بأس به؛ كأن يأتيه بشيء من قبل أمة، أو جدته، أو غيرهما. وإذا أخذ العوض أن يكون بأجرة معلومة، وهو أحل ما يأكله لقوله عليه السلام: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله". ويحذر أن يزيد في ذلك شيئًا من مال الصبي، ومن غير إذن وليه؛ فإنه حرام. ويمنع الصبيان أن يأتي أحد منهم بغدائه إلى المكتب، أو فضة معه، أو فلوس، أو أن يشتري شيئًا في المكتب. فإن (بهذا تتلف) أحوالهم، وينكسر خاطر الصغير الفقير، ويتألم قلبه لما يرى من سعة أولاد الأغنياء، بل يأمرهم بالمضي إلى بيوتهم، ليتغدوا، ويرجعوا، ففي ذلك ستر على الفقير، وتعليم الأدب للأطفال. وينبغي له ألا يكثر الكلام مع من يمر عليه من أصحابه؛ لأن ما هو فيه أكد، وأن يكون مكتبه السوق، وبالشوارع، ونحوها في الدكاكين؛ لإظهار الشعائر، والبعد عن التهمة. ويكره أن يكون بموضع ليس بمسلوك؛ فإن الفساد يسرع إلى الصبيان، وكثرة

التاسع والعشرون: الناسخ

القيل والقال، وليحذر أن يتخذه في المساجد. قال صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم"؛ لأنهم ينجسون أرضها، وحصرها، ويؤذون حيطانها، ونحوها، وأن يعلم (الجميع) بنفسه إن أمكنه؛ فإن تعذر عليه، أمر بعضهم أن يقرئ بعضا بحضرته بين يديه، مع ملاحظتهم بالنظر بلا غفلة. وقد كان السلف الصالح يقرئون أولادهم لسبع سنين، وهو زمن أمرهم بالصلاة، وتعليمها، وتعليم الآداب الشرعية، فإن الصبي (غالباً يستقل فيه) والله الموفق. التاسع والعشرون: الناسخ "من حقه ألا يكتب شيئًا من الكتب المضلة، ككتب أهل البدع والأهواء؛ وكتب الفلسفة، والنجوم، وما لا ينفع الله بها كسيرة، عنترة /، والبطال [41/أ]

وغيرهما من الموضوعات المختلفة التي تضيع الزمان، وليس للدين بها حاجة. وكذلك كتب أهل المجون، من الحكايات المضحكة، والأشعار السخيفة، وما وضعوه في أصناف الجماع، وصفات الخمور، ونحوها مما يهيج المحرمات". "فعلى الناسخ ألا يكتب شيئًا من ذلك، وإن بذل له من الأجرة أضعاف ما يعطي في نسخ كتب العلم الشرعي، ولا يبيع دينه بديناه؛ لأنه عبادة عظيمة بنسخ كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وعلوم الشرع، ولو لم يكن فيها من الفضل إلا ما ورد، أن من كتب الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم في كتب؛ بقيت الملائكة تصلي عليه، ما دامت الصلاة عليه مكتوبة في ذلك الكتاب". "وأما ما يفعله بعض من لم يتق الله بأن يكتب عجلاً، ويحذف من أثناء الكتاب شيئًا؛ رغبة في نجازه، وهو قد استؤجر ليكتبه جملة؛ فهذا خائن لله تعالى في تضييع العلم"، "ولمصنف الكتاب في تبتيره وتصنيفه، وللذي استأجره في سرقته منه هذا القدر.

قال أصحابنا: لو أستأجره ليكتب شيئًا، فكتبه خطأ، أو بالعربية فكتبه بالعجمية، أو بالعكس، فعليه ضمان نقصان الورق، ولا أجرة له". "وينبغي له أن يبين الحروف، ولا يغلق خطه، بحيث لا يفهم إلا بعسر لمن له معرفة قوية. فقد قيل: "إن خير الخط ما قرئ". وقد عمت البلوى بذلك، في كتاب الوثائق؛ فإنهم قد اصطلحوا في ذلك على شيء لا يعرفه غيرهم، بل بضعهم لا يعرف أن يقرأ خط غيره؛ فإن لكل واحد منهم اصطلاحاً يخصه قل أن يعرفه غيره". قلت: ولقد رأيت منهم من لا يعرف يقرأ خط نفسه؛ بأن يكون كتبه قبل ذلك ثم يجاء به إليه، وكل ذلك لا يجوز؛ "لما فيه من إضاعة حقوق الناس، وعقود أنكحة المسلمين، وبياعاتهم، ومخالفته للسنة الشريفة". فقد ورد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لمعاوية كاتب الوحي: "ألق الدواة، وحرف القلم، وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم، وضع قلمك خلف أذنك، فإنه أذكر للمملي" انتهى.

الثلاثون: الوراق

"ولأنه يحتمل أن يموت الكاتب، أو يتعذر وجوده، ولا يعرف غيره أن يقرأ خطه؛ وليحذر (من النسخ) بالخبر الذي يخرق الورق، أو ينمحي بسرعة؛ فإن فيه إضاعة مال، وإضاعة علم سيما إن كان الكتاب مما يعز وجوده، ولا ينسخ إلا على وضوء مستقبل القبلة؛ فإن شق عليه، فليكن في أول جلوسه، ويغترف له ما بعد ذلك، إن لم يكن في كتاب الله تعالى، وأن لا يماطل ويخلف مواعيده، مع كثرة الحلف، وعدم الوفاء؛ لأنه في محض عبادة فلا يشوبها بما يناقضها، وليحذر أن يأخذ النسخ من جماعة، لينسخ لهذا، ولهذا، ولا يعلم بعضهم ببعضٍ، وذلك غش ظاهر؛ لما فيه من الاستشراف، والحرص على الدنيا. ولا ينسخ في مسجد؛ وإن كان في عبادة؛ لأنه سبب، والأسباب تنزه عنها المساجد". "وعلى من يستأجره أن يبين له عدد الأوراق، والأسطر في كل صفحة، واختلف في الخبر والأقلام، إذا لم تعين على من تكون، والأصح الرجوع إلى العادة" / والله تعالى أعلم. [41/ب] الثلاثون: الوراق. وهي من أجود الصنائع المقربة إلى الله سبحانه وتعالى، إن أحسن النية فيها، لما فيها من الإعانة على كتب القرآن، والحديث، وعلوم الشرع، وغير ذلك؛ فعليه الرفق بمن يشتري الورق لكتابة ذلك، ويرجع جانبه على من يشتريه لأغراض الدنيا، أو يكتب فيه ما لا ينبغي كتابته، ككتب الظلم، والمكوسات، والعقوبات،

الحادي والثلاثون: مجلد الكتب

ونحوها من كتب الأكذوبات، "والحكايات المضحكة، والهزل، والمجون، فليجتنب ذلك، لئلا يدخل في عموم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} الآية، لأنه إن فعل ذلك، فقد فعل ما لم يقله بلسانه، ولم ينوه بقلبه، فإن قال البائع إني لا أعلم في الغالب حال: من يشتري، فالجواب أن الذي ينبغي في حق كل بائع أن يحمل المسلمين على الطهارة، والخير؛ حتى يتبين له غير ذلك". "وليحذر من خلط الورق الخفيف بالجيد، الذي يصلح للنسخ، أو الشتوي بالصيفي، ونحو ذلك. فإنه من التدليس، بل يكون كل نوع على حدة، ويبيع كل [نوع] منها لمن يناسبه. وعلى معلم الوراقة أن يمنع الصناعة من عمل الورق المكتوب فيه شيء من القرآن، أو الحديث، أو نحوهما من الشرعيات، لأنهم يدوسون ذلك بأرجلهم، ويخبطونه، وذلك أعظم ما يكون من الامتهان، نسأل الله السلامة. الحادي والثلاثون: مجلد الكتب. "وهي صناعة دينية شريفة، لأن بها صون المصاحف، وكتب

ممم ص 358، 359 طايرين من المصور لكن عندنا في البوك وهذا للعلم ليس أكثر ... طيب هما في الحقيقة مش طايرين أنا لقيتهم في المصور بس مش في مكانهم روح للمصور ص 386 و 388 هتلاقيهم ممم الحديث، والعلوم الشرعية، وفيها جمال لها وترفيع، واحترام لشأنها، ويحتاج صاحبها إلى حسن النية، كغيره من إعانته إخوانه المسلمين، وقضاء حاجتهم". "ويتعين عليه أن يتحفظ على عدد الكراريس، وأوراق الكتاب؛ فلا يقدمها، ولا يؤخرها عن مواضعها، ويتأنى في ذلك جهده، فإنه من النصح، وتركه غش. وينبغي أن يكون عارفًا بالاستخراج [ليعرف] اتصال الكلام بما بعده، وله مشاركة في العلم يعرف بها ذلك، ولا يولي عملها من لا يعرف تمييز ذلك من الصناع، والصبيان؛ فيختلط على صاحبه، ومع تعبه في ذلك يأكل حرامًا، وعليه إعادة ذلك إلى الصواب، ولو وقع له مرارًا ولا يأخذ عليه إلا العوض الأول". "وليحذر أن يبطن جلود الكتب بأوراق فيها قرآن، أو حديث، أو اسم من أسماء الملائكة أو الأنبياء عليهم السلام فكل ذلك لا يجوز، وإن كان من العلوم الشرعية، ونحوها، فيكره، ولا بأس أن يبطن بأوراق الحساب، والطب، والهندسة،

الثاني والثلاثون: المذهب

ونحوها". "ولا يجلد لأحد من أهل الأديان الباطلة، أو العقائد الفاسدة؛ لأن فيه إعانة لهم على كفرهم، وضلالهم، والمعين شريك للفاعل". "ولا يعمل غلافًا للدواة فيها ذهب، أو فضة، لأنه لا يجوز استعمالها، ولا لظالم يغلب على ماله الحرام"، "ويتجنب المماطلة، وكثرة الحلف، والخلف في المواعيد". الثاني والثلاثون: المذهب. "من حقه ألا يذهب غير المصحف، وقد اختلاف الناس في تحليه المصحف بالذهب، والذي صححه الرافعي، والنووي / الفرق بين أن يكون لامرأة فيحل، أو لرجل فيحرم، والمختار عند بعض المتأخرين أنه يحل تحليته مطلقًا، وأما غير المصحف فاتفق الأصحاب على أنه لا يجوز تحليته بالذهب".

الثالث والثلاثون: الصائغ

الثالث والثلاثون: الصائغ. "ينبغي له أن يحسن نيته؛ لأن ظاهر صناعته لزخرفة الدنيا؛ فينوي إعانة إخوانه المسلمين على قضاء مآربهم، وتتميم مقاصدهم المحمودة في الشرع. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جهاد المرأة حسن التبعل". "ومنه: الزينة وأعظمها، وأفخرها، لبس الحلي وعليه أن يتعلم أحكام الشرع المتعلقة بصناعته، لئلا يقع في الربا، ويوقع غيره، ولا يدنس نيته بما يفسدها، كأن يعمل، أو يبيع، أو يشتري، لامرأة بغية، أو متبرجة". ولا يتحدث مع امرأة إلا فيما لابد منه، مما يتعلق بحاجتها ولا يتركها تكشف شيئًا من أطرافها، إذ لا ضرورة شرعية تدعوا إليه؛ لأنه يمكنها أن تقيس (معصمها أو ساقها) بنحو خيط، ومثل ذلك يتعين عليها في الخف ونحوه، ولا تتكلم عند إلا لضرورة، وتجعل أصبعها في فمها حين تتكلم ليخش كلامها. وهذا كله إذا عدمت من ينوب عنها في حوائجها، من زوج أو محرم، وإلا فلا يحل لها أن تخرج، فإنه فتنة لها، وللناظر إليها". وليحذر أن يصوغ شيئًا من الصور المحرمة، فإن فعله حرام يجب كسره، وتفكيكه ولا يستحق صناعه أجرة، ولا

يتعامل مع الناس بالربا المجمع على تحريمه شرعًا، كأن يبيع مثلًا خلخالًا، أو سوارًا، مما عمل من فضة الحجر أو فضة الحجر نفسها بالدراهم المغشوشة في هذا الزمان ويأخذون مع ذلك أجرة صياغتهم لها مضافة ثمنها، وهذا ممنوع منه أيضًا. وقد عمت البلوى به جهارًا ينادون عليه على رؤوس الأشهاد، ولا تجد منكرًا ينكره". وينبغي له أن يرد رايع اللحام على مالكه، ولا يختلسُ شيئًا من الذهب بدل اللحام، وعليه إن فعل أن يبين ذلك لمالكه ليحالله وبالجملة، فصناعته خطرة ذميمة؛ فليتق الله ما استطاع.

الرابع والثلاثون: الصيرفي

"وقد روي عن بعض التابعين: أنه كان يوصي أخًا له يا أخي، لا تسلم ولدك في بيعتين، ولا في صنعتين، اما البيعتان فبيع الطعام، وبيع الأكفان، وأما الصنعتان فالجزار، والصواغ. "فإن الجزار قاسي القلب، والصواغ يزخرف الدنيا بالذهب، والفضة" الرابع والثلاثون: الصيرفي. "عليه أن ينوي التيسير على إخوانه المسلمين بصرفه لهم الذهب، والفضة؛ ليتوسعوا بها في قضاء حاجاتهم فيحصل له أجر ذلك، ويتيقظ لذلك، ولا يسامح نفسه في شيء منه؛ لان الصرف باب ضيق"، " فلا يبيع أحد النقدين بالآخر نسيئة بل نقدًا"، "ولأجل كثرة ما يقعُ من الربا، كره التسبيب فيه جماعة من العلماء.

وعن الحسن البصري، الدرهُم الحلال أشد من لقاء الزحف، وأكثر أكلة الربا أهلُ الصرف". وكان يقول: "إذا استسقيت ماءً، فسقيت من بيت صراف، فلا تشربه، وكان عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه- إذا مر علي الصياؤفة / قال لهم (42/ب) أبشروا بالنار". وعن مكحول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التجارة في

القمح والصرف"، "وكان أصبغُ يقول: أكرهُ أن أستظل بجدار صيرفي، وقد ترك ابن (القاسم) رحمه الله ميراثه من أبيه وكان مالاً كثيرًا لان أباه كان صيرفيا"، وليحذر الصيرفي من خلط أموال الناس بعضها ببعض، فيصير

الخامس والثلاثون: شاد العمائر

بذلك عامة أموال الناس حرامًا، والناس لا يعلمون بذلك، فهو في ذمة الصيارف. "ولو سلم صبي (درهماً إلى صيرفي) ينقده، لم يحل للصيرفي في رده إليه، وإنما يرده إلى وليه، ولو تلف في ي الصيرفي؛ لزمه ضمانه. ولا يجوز تولية الذمي صيرفيًا في بيت المال". الخامس والثلاثون: شادٌ العمائر. " من حقه الرفق بالبنائين، وألا يستعمل أحدًا فوق طاقته، ولا يجيعه، بل يمكنه من الأكل، أو يطعمه بحسب ما (يقع بالشرط) عليه، وعليه أن يطلق سراحه أوقات الصلوات، فإنها لا تدخل تحت الإجارة. وما يعتمده بعضهم من تسخير البنائين، وإجاعتهم وإعطائهم من الأجرة دون حقهم، واستعمالهم فوق طاقاتهم. فمن أقبح المحرمات، (وأشنع الجراة على الله تعالى في خلقه) وأقبح من ذلك أنهم يعتمدون هذا في بناء المساجد

السادس والثلاثون: البناء

والمدارس، فليت شعري بأي قربة يتقربون. السادس والثلاثون: البناء. وصنعته لا يستغنى عنها، وهي من فروض الكفايات، فليحسن فيها نيته، من قضاء حوائج المسلمين، ومن ستر عوراتهم، وما يقيهم من حر وبرد، ولا يبني لأحد إلا ما كان بناه علي (طريقة) السلف الصالح، ومشابه له، ولا يوسع في بناء خارج عن العادة لغير ضرورة شرعية، أو زخرفة، وزيادة سرف، إلا إن أكره علي عمل ذلك، أو تدعوه إليه الضرورة". "ولا يزخرف بالذهب؛ فإنه يحرم تمويه السقوف به والجدران، وغن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار"؛ لأنه يكون معينًا على الحرام، والسرف، وإضاعة المال. "ويتعين عليه النصح لصاحب العمل، وتوفرة المؤنة عليه مهما أمكن ولا يطلب منه من المؤن أكثر ما يحتاجه إليه؛ فيضره، وخصوصًا إن كان فقيرًا ضعيف الحال، وليحذر مما يرتكبه بعضهم؛ فإنه يُظهر أولًا لصاحب الشغل أنه لا يحتاج إلى مؤنه كثيرة، فإذا هدم، وشرع في العمل، طلب أضعاف ذلك وهذا غش محرم في شريعتنا".

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا". لما يحصل له من ذلك، من الضرر العظيم، وتحمل المشقة، وتكليفه فوق طاقته، وربما وقفت عمارته قبل كمالها، لعدم ما ينفقه عليها، وتركبه الديون كما هو مشاهد كثيرًا، وإذا عمل (لضعيف أو فقير)، فعليه ان يتقن بناءه أكثر من بناء المتجوة "وصاحب المال الحرام بل يتأنى فيه وينصحه. ولا يسرع بفراغه ليشتهر بالسرعة، وأنه ناصح له؛ فإن الغالب في السرعة الإخلال، وعدم الإتقان؛ فتكون (طوبة خارجة، وطوبة داخلة) عن حد الجدار، بحيث يحتاج مع ذلك إلى الترميم. وإن أغفل عنه سقط عن قريب لضعف الجدار. وعكس هذا أيضًا مضر بصاحب العمل، وهو البُطْء في البناء، والتكاسل فيه، فيذهب الوقت وما عملوا شيئًا له له وقع ويستحقوا الأجر، والمتعين عليه الطريق الأوسط، لا إفراط ولا تفريط، مع النُصح التام" /، "وإذا كان البنِّاء مما يعمل [43/أ] بالطين والجير، تحرى اعتدال قدرهما في العادة على السِّواء، ويتفقده مع ذلك، بالسقى على العادة، ولا يبنى بالجبس وأقبح من ذلك ذلك أن كثيراً من الطيانين لرغبتهم في

السابع والثلاثون: الدهان

الأجر وسرعة العمل يدعوهم شخص إلى (تبيض الجدار) ونحوه، فيرونه منشقًا آيلًا إلى السقوط، فلا ينبهون صاحبه عليه؛ بل يبيضونه، ويعموا خبره على صاحبه، فيكون ذلك سببًا لوقوعه على نفسه أو النفوس، وذلك من الخيانة في الدين" نعوذُ بالله منها. السابع والثلاثون: الدهان. عليه ما قدمنا في البناء ألا يزخرف السقوف، والجدران بالذهب والفضة، "وألِّا يصور عليها صور حيوان، ولا آله من الآلات المحرمة، ولا على الأرض". وأجاز بعض أصحابنا التصوير على الأرض ونحوها، مما يمتهن، والصحيح خلافه. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين، وقال إنهم من

سسس

الأربعون: الحارس في الحمام

في المذهب أنه لا يجب عليه أجرته، والحلاق مفرط، حيثُ لم يشترط قبل أن يحلق. واختار بعضُ المتأخرين أنه يلزمه الأجر إذا جرت العادةُ بذلك، وكان القيمُ معروفًا به (وهو وجه في المذهب محكي عن كذا). وسئل شيخُ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: (هل يجوزُ) تدليك الأجسام، وغسل الأيدي بالعدس؟ . فأجاب: العدُس، وعليه ألا يأكل شيئًا يغير نكهته، كالبصل والثوم، ونحوهما، لئلا يتضرر النِّاس برائحته عند الحلاقة. الأربعون: الحارسُ في الحمام. من حقه ملاحظة ثياب الناس، استحفظ لها أم لم يستحفظ، وحكى

القاضي عن الأصحاب أنه لا يجب عليه إذا لم يستحفظ الحفظ. قال: وعندي يجب للعادة، ولو سرقت الثياب من مسلخ الحمام، والحارس جالس في مكانه مستيقظ فلا ضمان عليه. وإن نام أو قام من مكانه ولم يستنب أحداً موضعه، ضمن لتفريطه. فائدة: تتعلق بالحمام. قال ابن سينا: الفعل الطبيعي للحمام هو التسخين بهوائه، والترتيب عبائه. قالوا: فلبيت الأول بارد مرطب، والثاني مسخن مرخ. والثالث /: (مسخن مجفف)، ولها منافع، ومضار.

الحادي والأربعون: البابا

أما منافعها فتوسع المسام وتستفرغ الفضلات، وتحلل الرياح، وتحبس الطبع، إذا كان سهولته عن هيضة، وتنظف الوسخ، والعرق، وتُذْهبُ الحكة والعفن، وترطب البدن، وتجيدُ اللهمَ، وتنضجُ النزلات والزكام، وتنفع من حمى يوم، والدق، والربع يوم نضج خلطها. وأما مضارها: فترخي الجسد، وتضعف الحرارة عند طول المقام فيها، وتسقط شهوة الطعام، وتضعف الباءة. وأعظم مضارها: صب الماء الحار على الأعضاء الضعيفة. ومن استعمالها على الخلا والريق أورثته تجفيفًا، وهز الاً، وضعفاً، وأجود ما استعملت على الشبع بعد الهضم الأول فإنها ترطب البدن وتسمنه، وتحسن بشرته. الله أعلم. الحادي والأربعون: البابا. من حقه أن يتعلم من الفقهاء مسائل النجاسة، وكيفية تطهيرها من الثياب،

ونحوها [ويحرص] على إزالة نجاسة الثوب قبل غسله من البول، والغائط، والمذي، والدم ونحو ذلك؛ فإنه متى لاقى شيء منها بدن الإنسان، أو ثوبه لم تصح صلاته. فإن علمه البابا في ثوب شخص، ولم يزله بقي ذلك في ذمته، فعليه إفاضة الماء على محل النجاسة، بحيث تضمحل، ويذهب طعمها، وكذلك لونها وريحها، إلا أن يعلق اللون بالمحل كالدم [وتعسر] إزالته؛ فيعفى عنه. وأما بول الغلام الرضيع فيكفي فيه رش الماء، ويغسله من بول الصبية عند الشافعي وأبي حنيفة. وأما دم البراغيث والجراحات البدنية والدمامل واليسير من طين الشوارع فعفو عنه.

الثاني والأربعون: الشرابدار

وإذا غسل البابا ذلك كله فهو أولى، وأحرى. الثاني والأربعون: الشرابدار. قلت: وعليه "أن يحترز فيما يسقيه لمخدومه من وصل شيء إليه ينجسه، أو يقذره، وإياه أن يسقيه محرماً، ويا ويحه إن سقاه سما قاتلاً، ويحافظ على النظافة في أوانيه وثيابه والرائحة الطيبة فيها ما أمكنه". الثالث والأربعون: الطشدار "هو الآن اسم لمن يصب الماء على يد المخدوم يوضئه. وقيل: إنه مكروه، وهو من أقبح البدع، والتنطع. ومن أدبه الاحتراز من ملاقاة ماء الوضوء طهوراً أو غيره؛ فينجسه، أو يقذره، فإن استعان بالطشدار ليغسل أعضاءه بنفسه فهو مكروه، بلا خلاف إلا أن تدعو له ضرورة؛ كأن يكون أقطع - والعياذ بالله تعالى -، أو في بعض أعضائه مرض فيجب الاستعانة، والحالة هذه، وأما ما يفعله بعضهم من نصب أناس بالمرصاد لصب

الرابع والأربعون: الفراشون

الماء على أيديهم عقيب الطعام. فليس بمكروه، ولكنه خلاف الأولى، وكان الشيخ الإمام تقي الدين السبكي تغمده الله برحمته لما طعن في السن يستعين في وضوئه بالصب عليه، ولا يمكن من الصب على رجليه. قال ولده تاج الدين وكنت أفهم لذلك منه سرين؛ أحدهما: أنه إذا فعل ذلك لا يكون قد استعان في وضوئه بل في بعض وضوئه. وثانيهما: أن في الصب على الرجلين بخصوصهما من الرعونة والتنطع أكثر مما في الصب على غيرهما والله أعلم. الرابع والأربعون: الفراشون. "من وظائفهم ضرب خيام الأفراد في الأسفار /، وطريق الحجاز وحق عليهم [44/أ] ألا يحتجزوا على الناس ويمنعوهم أرض الله الواسعة، فما أظلم من فراش جاء إلى ناحية من الفضاء، فوجد فقيرًا قد (سبق إليها، ونزل بها)، فأقامه منها، وأزعجه بالضرب، ليخيم للأمير مكانه، وحكم الله أن السابق أولى، والآمر والمأمور في ذلك سواء. قلت: ومن حق فراش المسجد، أو الخانقاه، أو المدرسة أن يحافظ على النظافة.

الخامس الأربعون: الدلالون

وغسل ما تنجس فيها، من بسط وحصر وغيرهما. ويتعلم كيفية غسل النجاسة من ذلك، ولو على أخف المذاهب، ويحترز جهده، وإلا فهو إن غفل عن ذلك، [أو لم] يبالغ في إزالة النجاسة، تنجس رجل كل داخل، وإن كانت رطبة انتشرت النجاسة من مكان إلى أمكنة (وفي المسجد) من حصر، وبسط، أو ثياب من يلاصقها، فإن علم ذلك، ولم يزله، فقد خان الله تعالى وآذى المسلمين. الخامس الأربعون: الدلالون. وهي سبب مكروه، وكرها ابن سيرين، وكره قتادة أجرة الدلالين. وقد كثر فيهم الكذب، والحلف الباطل، والخيانة، وعدم النصح والأمانة لمن له المتاع، وهم طوائف. "فمنهم: دلال الكتب؛ من حقه ألا يبيع كتب الدين لمن يعلم أنه يضيعها، أو ينظرها لانتقادها والطعن عليها، وألا يبيع شيئًا من كتب أهل البدع، والأهواء، وكتب

المنجمين، والكتب المكذوبة، ولا يحل له أن يبيع كافرًا المصحف، ولا شيئًا من الحديث والفقه. ومنهم دلال الرقيق؛ فلا يحل له بيع عبد مسلم من كافر، وبيع المملوك، أو العبد الحسن الصورة ممن اشتهر باللواط، كبيع العصير ممن يتخذه خمرًا، وكلاهما مكروه. وأما بيع الإماء المغاني فيجوز ولكن إذا كانت جارية فباعها بألفين، ولولا الغناء ما ساوت إلا ألفًا، فالأصحاب اختلفوا في صحته، والأصح الصحة. ومنهم دلال الأملاك، وعليه أن يتحفظ في ذلك، ويستبصر خشية (أن يقع في بيع شيء موقوف)، أو حل وقفه؛ فإن هو باع ذلك عالمًا فقد شارك البائع في الإثم". وألا يمعن في تقعير العبارة والمبالغة [مكروهة] بكثرة الأوصاف فربما

السادس والأربعون: المشاعلية

أوقع السامع لها ثم لا يجدوا لها طائلاً. السادس والأربعون: المشاعلية. "وهم الذين يحملون المشاعل توقد بالنار بين يدي الأمراء ليلاً، وإن أمر بشنق أحد أو توسيطه- والعياذ بالله تعالى- أو النداء عليه تولوا ذلك. ومن حق الله عليهم إذا أمروا بقتل أحد أن يحسنوا القتلة، وأن يمكنوه من صلاة ركعتين قبل القتل لله تعالى فهي سنة، ومتى أمر ولي الأمر مشاعلياً بقتل إنسان بغير حق، وهو يعلم أنه مظلوم، فالمشاعلي قاتل له يجب عليه القصاص، وإن كان ولي الأمر أكرهه، أو جعلنا أمره إكراهاً، فالقصاص حينئذ عليهما جميعاً عند الإمام الشافعي على الصحيح من مذهبه". السابع والأربعون: السجان. من حقه الرفق بالمحبوسين، ولا يمنعهم من صلاة الجمعة إلا إذا منع القاضي من

الثامن والأربعون: حارس الدرب

ذلك، وقد أفتى الغزالي بأن للقاضي المنع من ذلك في الجمعة إذا ظهرت المصلحة في المنع. ولا يمنع المحبوس من شم / الرياحين إن كان مريَا. ويمنع من [44/ب] استمتاعه بزوجته، دون دخولها لحاجة له. وإذا علم السجان أن المحبوس. حبس بظلم كان عليه تمكينه بقدر استطاعته، وإلا يكون شريكًا لمن حبسه في الظلم. الثامن والأربعون: حارس الدرب. عليه أن ينصح لأهل الدرب، ويسهر عينه إذا ناموا وينبه النوام إذا اغتيلوا بحريق، أو لصوص، أو نحو ذلك، ولا يدل على عوراتهم والياً، ولا غيره ممن يؤذيهم. التاسع والأربعون: الطوفية. وهم الفقراء بين البساتين، والمساكين الخارجة عن البلد كالحارس بين الدروب، ومن أقبح صنع هؤلاء المداجاة على كتمان اللصوص، وأهل الفساد، وعلى جلبة الخمر لمن يرضيهم بحطام الدنيا؛ فلا ينكرون عليه المنكر مع إنكارهم زائدًا على الحاجة على من لا يرضيهم، وإذا وجدوا قتيلًا في مكان نقلوه إلى مكان آخر؛ فتارة يجدونه

الخمسون: الكاسح للأخلية

بقرب دار من له عندهم يد، فينقلونه إلى دار من لا يد له عندهم، أو بينه وبينهم عداوة، وتارة تنقله طائفة من الأماكن التي هي في تسليمهم إلى غيرها، دفعًا للتهمة عنهم، وكل ذلك قبيح، والواجب بقاء القتيل في مكانه، ورفع أمره إلى ولي الأمر ليبحث عنه، ويتبصر. الخمسون: الكاسح للأخلية. ويسمى السراباتي قلت عليه: بذل الاجتهاد في تنظيف الأسربة، والقنى، ونحوها، والإخبار عن مليها وفراغها، وتنظيفها بصدق؛ لأنها [مغيبة] (عن ملاكها) ولا يمكنهم كشف ذلك وتعاطيه بأنفسهم غالباً. الحادي والخمسون: الكلابزي والبزدار. فمن نعمة الله عليه أن جعله خادم الكلام، ولم يجعله عاصر خمر، أو

الثاني والخمسون: سائس الدواب

نحوه مما ابتلى به بعضهم، فمن شكر هذه النعمة عليه أن ينصح في خدمة كلاب الصيد، وأن يعلم "أن في كل كبد حرًا أجرً". ومثله البزدار: وهو خادم جوارح الطير لأجل الصيد؛ فإذا كان لهم على خدمتها أجر، فهي نعمة أخرى تجب عليهم أن يوفوها حق شكرها، فإن كانوا في باب أمير، أو ذي جاه، فهي نعمة ثالثة عليهم أن يشكروها أيضاً. الثاني والخمسون: سائس الدواب. من حقه النصح في خدمتها، وتنقية العليق لها وتأدية الأمانة فيه؛ فإنه لا لسان لها تشكوه في الدنيا قال الشيخ تاج الدين بن السبكي، وقد كثر من السواس تعليق حرز على الخيل، ما يشتمل على بعض آيات من القرآن رجاء (الحراسة والحفظ) لها، مع أنها تتمرغ في النجاسات، وأفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام

الثالث والخمسون: الإسكاف

بأن ذلك بدعة، وتعريض للكتاب العزيز للإهانة وذلك لا يجوز. الثالث والخمسون: الإسكاف. "من حقه ألا يخرز بنجس: من شعر خنزير، أو غيره، فإن الصلاة في النعلين جائزة، فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم -: "صلى في النعلين". وإنما فعله بياناً للجواز، وكان أغلب أحواله الصلاة حافيًا، فإذا استعمل الإسكاف في النعل نجاسة، فقد خان الله والمؤمنين"، وليحذر من الغش أيضًا في صناعته، كأن يحشو النعال بخبز الفجل / ونحوه، فيظن أنه في غاية [45/أ] القوة، والصلابة، فإذا داس بها انحلت، وتقطعت سريعًا؛ لضعف جلدها، أو عتقه أو ضعف الخيط.

الرابع والخمسون: غاسل الموتى

الرابع والخمسون: غاسل الموتى. "عليه استيعاب البدن بالماء، بعد أن يزيل عليه من نجاسة، ولا يجب عليه نية الغسل على الأصح، ولكن الأولى أن ينوي (خروجًا من الخلاف) ". ويستحب أن يغسل في موضع مستور عن الأعين لا يدخله أحد سواه، ومن يعنيه وولي الميت إن شاء، ويكره أن ينظر إلى شيء من بدنه إلا لحاجة. ويغسل في قميص بال، أو سحيق، ويدخل يده من تحت القميص" وإذا رأى منه ما يكره ستره، ولا يتكلم به، وإن رأى ما يستحسن ذكره. "وحمل الميت بر وإكرام لا شيء فيه من الدناءة" وربما يقصد لطلب أجر الميت، سيما إذا كان عالمًا صالحًا.

الخامس والخمسون: البيطار

الخامس والخمسون: البيطار. وعليه أن ينصح في صناعته، ولا يغش لأجل حطام الدنيا، وإذا نعل استوفى نسف حافرها، (بحيث لا) يؤلمها، ويحكم المسامير، ويكون دقاقاً بحيث لا ينقصم النعل، وسيأتي في الباب الخامس تفصيل ما عليه فعله من علم البيطرة - إن شاء الله تعالى -. السادس والخمسون: المكاري. "من حقه التحفظ على من يركبه دابته، ولا يحل لمكار يؤمن بالله، واليوم الآخر أن يركب امرأة يعرف منها أنها تمضي إلى الفجور، أو شيء من المعاصي؛ فإن فيه إعانة لها على معصية الله. وترى كثيرًا منهم لا يعجبه أن يركب إلا الفاجرات من النساء، والمغاني، لما يعطونه من الأجرة الكثيرة التي لا يعطيها له غيرهن، فتغره الدنيا ويبيع دينه بها، وينبغي له أن يعلم أن فلسًا من الحلال، خير من درهم وأكثر من الحرام. وكثير منهم يمشي مع المرأة الراكبة إلى مكان معين تقصده، وفي الطريق مواضع خالية من الناس كبين الغيطان. ومعاطفها، ففيها أماكن، لو شاء الفاسق لفعل فيها ما شاء من الفجور، والذي يظهر أن ذلك لا يجوز، فإنه في حكم الخلوة بالأجنبية. "ومن كان معه دابة، أو دواب ضمن ما تتلفه من نفس مال، ليلاً كان أو

نهاراً". وأما إذا بالت في الطريق؛ فتلف به نفس أو مال فلا ضمان، وعلى الراكب الاحتراز عما لا يعتاد: كالسوق الشديد في الوحل، أو مجامع الناس كالشوارع، والأسواق. فإن فعل وجب عليه [ضمان] ما تولد منه. ومن حمل حطبًا على بهيمة، أو على ظهره فحك جدارًا؛ فسقط؛ ضمنه. وما يصنعه بعضهم من الجلاجل والحزور في رقاب الحمير مكروه. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة لا تصحب رفقة: فيها كلب أو جرس". وقال صلة الله عليه وسلم: "الجرس مزامير الشيطان" رواهما مسلم.

السابع والخمسون: البواب بالمدرسة أو الجامع، أو غيرهم

السابع والخمسون: البواب بالمدرسة أو الجامع، أو غيرهم. "من حقه المبيت بقرب الباب، بحيث يسمع من يطرق عليه، والفتح للساكن في المكان، أو قاصداً مقصداً دينياً: من صلاة، أو اشتغال بعلم شرعي في أي وقت جاء من أوقات الليل. وما يفعل بعضهم من غلق الباب في وقت معلوم من الليل؛ كبعد صلاة العشاء أو نحوه بحيث إذا جاء أحد من السكان أو الطلبة بعد ذلك الوقت لا يفتح له، غير جائز بل هو آثم ذلك ظالم اللهم إلا أن تكون مدرسة شرط واقفها ألا يفتح بابها إلا في وقت معلوم". قال ابن السبكي: وفي صحة مثل هذا الشرط نظر واحتمال. وأما لو شرط ذلك في مسجد أو جامع فمن الواضح (أنه لا يصح) والله أعلم. (/ الثامن والخمسون: الفقير الشحاذ، في الطرقات والأسواق ونحوها: لله عليه نعمة إذ أقدره على ذلك، وكان من الممكن أن يخرس لسانه فيعجز عن السؤال، أو يقعده فيعجز عن السعي، أو يقطع يديه فيعجز عن مدهما، إلى غير ذلك. فعليه أن يقتصد في السؤال على قدر حاجته، ولا يلح في، ويجمل في الطلب ولا يضيع أوقاته في العي فيه. فترى كثيراً من الحرافيش اتخذوا السؤال عادة

أرجو الانتباه فيه لخبطة في الصفحات ددد يا دكتور دول سايبين ملاحظات كده عادي في وسط الكلام هنقفش الحاجات دي ازاي احنا ددد وصناعة: يسألون عن غير حاجة [ويقعدون] على أبواب المساجد وغيرها يشحذون، ولا يصلون، ومنهم من يقسم على الناس في سؤاله بما يقشعر الجلود عند ذكره، وذلك منكر قبيح، وبعضهم يستغيث بأعلى صوته "لوجه الله فلس أو رغيف". وقد جاء في الحديث: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة". وبعضهم يقول: "يشيبه أبي بكر فلس" فانظر ماذا يسألون من الحقير، وبماذا يستشفعون به من العظيم، ويسمعهم اليهود والنصارى ويروا المسلمين ربما لا يعطوهم شيئًا، فيشتمون، ويسخرون، وربما كان المسلم معذورًا في المنع، والكافر لا يفهم، والرأي الصالح في مثل هذا الشحاذ أن يؤدب وغيره، حتى لا يعود إلى هذه المقالة، أو نحوها. ومنهم من يكشف عورته ويمشي عرياناً بين الناس، يوهم أنه لا يجد ما يستر به عورته، إلى غير ذلك من حيلهم ومكرهم. نسأل الله السلامة).

الباب الخامس في الحسبة على كل واحد من أهل كل حرفة وصناعة، ممن تقدم ذكرهم في الباب قبله

سسس الباب الخامس في الحسبة على كل واحد من أهل كل حرفة وصناعة، ممن تقدم ذكرهم في الباب قبله

الباب الخامس: في الحسبة على كل واحد من أهل كل حرفة وصناعة، ممن تقدم ذكرهم في الباب قبله، وبيان غشهم (فيها وتدليسهم) مفصلاً. وهو باب مهم كثير الفوائد. فينبغي ضبطه وشدة العناية به، وخصوصًا للمحتسب. ولنقدم عليه الكلام على معرفة، القنطار، والرطل، والمثقال، والدرهم، والدينار ونحوها، من أصول المعاملات، لمسيس الحاجة إليها، إذ بها يعتبر سائر المبيعات، والمعاوضات، فإذا عرفها وتحقق كميتها واختلافهما بالزيادة والنقص في سائر البلاد، انتفى الغرر، الغبن الفاحش فيها. فاعلم أن أهل كل إقليم، أو بلد اصطلحوا في معاملاتهم على قناطير، وأرطال تتفاوت بالزيادة، والنقص، سيما أهل (بلاد مصر)، والشام، أما القنطار الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، فنقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه: ألف

ومائتا أوقية، وعن أبي سعيد الخدري ذهباً. وأما المتعرف في هذا الزمان: هو مائة رطل، وأما الرطل "فقال بعضهم:

اتفق الناس على أنه اثنا عشر أوقية، وإنما اختلفوا في تقدير الأوقية بالدراهم. فالرطل الشيرازي الذي وضعه بها "بنو منقذ" ستمائة وأربعة وثلاثون درهماً، والأوقية سبعة وخمسون درهماً، ورطل بغداد فهو نصف المن، والمن

رطلان، وأما رطل حلب (وغزة) فهو سبعمائة وأربعة وعشرون درهماً، وأوقيتها ستون درهماً وثلث درهم. وأما رطل دمشق: فستمائة درهم، وأوقيتها خمسون درهماً، ورطل حمص ثمانمائة درهم وأربعة وتسعون درهماً، وأوقيتها سبعة وستون درهماً وحبة وثلث حبة والمشهور الآن أنه ثمان مائة درهم، / وأوقيتها ستة وستون

[درهماً] وثلثين، ورطل حماة ستمائة وستون درهماً، وأوقيتها خمسة وخمسون درهماً. ورطل المعرة مثل الحمصي، ولكنه مائتا درهم، وستون درهماً، وأما رطل (بيت المقدس والرملة) ونابلس، وبلد الخليل عليه السلام، فكلها سواء

كالحمصي، وأما رطل مصر فهو مائة وأربعة، وأربعين درهماً، والأوقية اثنا عشر درهماً، وأما المثقال، قال ابن الرفعة المتفق عليه بين أصحابنا أن المثقال من حين وضع لم تختلف فيه جاهلية ولا إسلام. قال النووي: إن زنته ثنتان وسبعون حبة من حب الشعير الممتلئ غير خارج عن مقادير الشعير غالباً، فهو درهم ودانقان ونصف، وهو أربعة وعشرون

قيراطًا، وهو خمسة وثمانون حبة، والدرهمُ الشامي ستون حبة، وكذلك القفيزان، والمكاكيك أيضًا مختلفة، فالقفيزُ مكيالُ معروف، وهو ثمانية مكاكيك.

وقال ابن الملقن: أنه يسعُ اثني عشر صاعًا، وهو بالشيزر ستة عشر سنبلًا، ويسع رطلًا ونصف بالشيزر، والقفيزُ الحمصي مثل الحموي، والمكوك

الحلبيُ يزيدُ علي القفيز الشيزري ثلاث سنابل، والمعري مثله، والغرارةُ الدمشقية ثلاثُ مكاكي بالحلبي ولكن جميع ذلك غير مستمر في كُل زمن، بل هو اصطلاح من أهل كُلٌ زمان بحسب سلطانهم، فإذا تغير ربما غيروه والأردب؛ المصري ست وبيات، والوبيةُ: أربعة أربع، والربع أربعة أقداح، والقدح مائتان اثنان، وثلاثون درهمًا، ويختلفُ الأردب في الأرياف، وأكثر ما يكون ثمان وبيات. وأما غرارة دمشق، فاثنا عشر كيلًا، كل كيل ستة أمداد،

والمُد ينقص قليلًا عن الربع المصري، ونسبة ما بين الغرارة والإردب، أن كل غرارة ومد ونصف ثلاثة أرادب بالمصري تحريرًا، أو الغرارة الدمشقية مكوكان ونصف بالحلبي. وأما الدرهم الشرعيُ: فستةُ دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، فالدانقُ سدس الدرهم، وهو ثمان حبات، وخمسا حبة من الدرهم؛ خمسون حبة وخمسًا حبة بالشعير المتوسط، الذي لم يقشر، ولكن قطع من طرفيه ما دق وطال. وأما الدينار: فهو معرب: وقالوا: إنه لم يختلف وزنه أصلا (في جاهلية،

ولا إسلام وهو أربعةُ وعشرون قيراطًا، كل قيراط ثلاثُ شعيرات معتلات، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرة. وأما القبان، فالرُومي أصح من القبطي، ويسمى في هذي الديار بالهندي، وحسابه معروفٌ عند أهله، وعليه أن يعتبره عليهم بعد كلُ حين؛ فإنه ربما أعوج من شيل الأثقال، فيفسدُ ويضيع بذلك أموال الناس عليهم. وأما "الميزانُ فأصحه وضعًا ما استوى جانباه، واعتدلت كفتاه، وكان ثقب علاقته في جانبي وسط القصبة في ثلث سمكها، فيكون تحت مرود العلاقة الثلث، ومن فوقه الثلثان. وهذا يعرف رجحانُهُ بخروج اللسان من قب العلامة، وهبط الكفة. وأما الشواهينُ المشقية، فتوضعُ ثقب علاقتها بخلاف / ماذكرناه، [46/ب] ويعرفُ رجحانها بدخول اللسان في قب العلاقة من غير هبوط الكفة، وقد يكون مرود العلاقة مربعًا ومثلثًا ومدورًا، وأجودها المثلث، لأنه أسرع رجحانًا،

وينبغي أن الوزان يسكنُ الميزان عند الوزن ويضع فيه البضاعة برفق، ولا يرفع يديه في حال الوضع لها، ولا يلحق البضاعة في الكفة، ولا يهمز حافتها بإبهامه، فكل ذلك بخسُ. ومن البخس الخفي في ميزان الذهب أن يرفعه تلقاء وجهه، ثم ينفخُ على الكفة التي فيها الذهب نفخًا خفيفًا، فيرجع ولهم في مسك الميزان صناعات يحصلُ بها ابخس فيلزم المحتسب مراعاة ذلك في كل وقت. وأما الذراع فذراع الحديد الذي تقاس به الثياب أربعة وعشون أصبعًا، والأصبع ست حبات شعير مصفوفة بطون بعضها إلى بعض، وذراع اليد ينقص عنه بثلاثة قراريط، وهي ثمن ذراع. وينبغي له أن يأمر المتقيسين باتخاذ الأرطال، والأواقي من الحديد، ويعيرها على الصنج الطيارة، ولا يتخذها من الحجارة، لأنها تنتحت بقرع بعضها بعضًا فتنقص، فإن الحاجةُ دعت إلى اتخاذها فيأمره المحتسب بتجليدها، ثم يختتمها بعد العيار، ويجدد

النظر فيها بعد كل حين، لئلا يتخذوا مثلها من الخشب. ولا يكون في الحانوت الواحد دستان من أرطال، أو أواقي من غير حاجة، لأنها تهمة، ولا يتخذ ثلث رطل، ولا ثلث أوقية، ولا ثلث درهم لمقاربته بالنصف؛ فربما اشتبه عليه في حال الوزن. وأن يتفقد عيار الصنج، والحبات، ونحوها على حين غفلة من أصحابها؛ فإن منهم من يأخذ حبات الشعير أو الحنطة، فينقعها في بعض الأدهان، ثم يغرز فيها رؤوس الإبر، ثم يجففها في الظل، فتعود إلى سيرتها الأولى، ولا يظهر فيها شيء من ذلك. وينبغي له أن يأمر أصحاب الموازين بمسحها وتنظيفها من الأوساخ، والأدهان في كل ساعة؛ فربما جمد ذلك فيها، فيظهر في الوزن، ويختبر القبانين أيضًا بعد كل حين؛ لأنه ربما أعوج شيء من شيل الأثقال فتفسد، وأما المكيال الصحيح فهو ما استوي أعلاه وأسفله في الفتح، والسعة من غير أن يكون فيه مخصرًا، ولا أزورارًا، ولا بعضه داخلاً وبعضه خارجًا، وإن كان في أعلاه طوق من حديد، كان أحفظ، وأن يشد بالمسامير، لئلا يصعد فيزيد، أو ينزل فينقص.

وأجود ما عيرت به المكاييل الحبوب الصغار التي لا تختلف في العادة، كالكسفرة، والخردل، وبزر القطونا ونحوها. وأن يكون في كل حانوت ثلاث مكاييل، كامل، ونصف، وثمن، لأن الحاجة تدعو إليها. وينبغي له أن يجدد النظر في المكيال، والميزان بعد كل وقت؛ ويراعى ما يطففون به؛ فإن منهم من يصب في أسفل الكيل الجص فيلصق به، ولا يكاد يعرف، ومنهم من يلصق في جوانبه الكسب، أو خبز الفجل، أو يأخذ لبن التين، فيعجنه بالزيت، حتى يصير كالمرهم، ثم يلصقه في داخله. ولهم في مسكه صناعة عجيبة يحصل التطفيف، ولا يشعر بها صاحب الغلة فمنها: أنهم / ثم نقول وبالله المستعان: أما الحسبة على أصحاب الغلال، والخبازين؛ فيعلمهم أولاً أن احتكار الأقوات حرام كما قدمنا، وأن لا يخلطوا أردأ الحنطة وغيرها بالجيد، ولا العتيق منها [47/أ]

بالجديد، وإن دعت الحاجة إلى غسلها جففت بعده تجفيفًا بليغًا، ثم تباع منفردةً، ويلزمهم بغربلتها، وتنقيتها قبل طحنها، وإن رشوا على الحنطة ماءً يسيرًا، فلا بأس، لأنه يقال: إنه يكسو الدقيق بياضًا، وجودة، ولا يخلطوا دقيق الشعير بالحنطة، ولا ما طحن على رحاه منفردة، أو ما خالطه زيوان أو غبار بغيره. وإذا ارتاب منهم حلفهم أن لا يفعلوا شيئًا من ذلك. والمصلحة تقتضي أن يجعل عليهم وظائف يرفعونها إلى حوانيت الخبازين، في كل يومٍ. وأما حوانيت الخبازين، فينبغي أن ترفع سقائفها، وتفتح أبوابها، ويجعل في السقائف منافس واسعة، يخرج منها الدخان، لئلا يتضرر بالصدر. وإذا فرغ من السجر مسح داخل التنور بخرقة، ثم شرع في الخبز. وينبغي للمحتسب أن يكتب في دفتره أسماء الخبازين ومواضع حوانيتهم؛ ليعرفوا، ويأمرهم بنظافة أو عميتهم، وتغطيتها، وغسل المعاجن، ونظافتها، وما يغطى به الخبز، وما يحمل عليه، ولا يعجن بقدميه، ولا بركبتيه، ولا بمرفقيه، لما فيه من الإهانة، وربما قطر في العجين شيء من عرق إبطيه، ولا يعجن إلا وعليه

عرقشين أو بشت مقطوع الأكمام، مثلما إذ ربما عطس، أو تكلم، فيقطر شيء من بصاقه، أو مخاطه، ويشد على جبينه عصابة بيضاء؛ للعرق، ويحلق شعر ذراعيه؛ لئلا يسقط منه شيء في العجين، وإن عجن نهارًا يكون عنده إنسان بيده مذبة يطرد عنه الذباب، ونحوه، لئلا يسقط. وأن يعتبر عليهم ما يغشون به الخبز، فإن منهم من يذر على وجهه الجلبان والبيسار، أو يغشه بدقيق الحمص، أو الأرز؛ لأنهما يثقلانه ويفتحانه، ومنهم من يعجن الخشكار، أو دقيق الشعير، ويبطن به الخبز، وكل ذلك لا يخفى على وجه الخبز، وفي منظره ومكسوه. ويمنعهم أن يضعوا فيه البورق وهو لأنه مضر، وإن حسن وجه الخبز. ولا

يقللوا ملحه لثقل وزنه، ولا يخبزونه، حتى يختمر، فإن الفطير يثقل في الوزن، وعلى المعدة، وأن ينثروا على وجهه الأبازيز الطيبة الصالحة له، مثل الكمون الأبيض والشونيز والسمسم، ولا يخرجونه من التنور؛ حتى ينضج حق نضجه، من غير احتراق، ويوظف على كل حانوت، وفرن وظيفة ورسمًا يخبزونه كل يوم لئلا تتعطل البلد عند قلة الخبز، ولا يلزمهم ذلك إن امتنعوا منه. وأما الفرانين فيفرقهم في الدروب، والمحال، وأطراف البلد، لما فيهم من الرفق، وعظم (حاجة الناس) إليهم، ويأمرهم بإصلاح المداخن، وتنظيف بلاط الفرن في كل ساعة، ويجعل بين يديه أجانة نظيفة للماء، فإذا فرغ من الخبز أراق ما بقى فيها من الماء ثم يغسلها من الغد ويسكب فيها ماءً طريًا نظيفًا ويتعاهد جوف الدف الذي بين يديه، لأن العجين يلصق عليه / وإذا كثر عنده أطباق العجين [47/ب]

أخرج كل واحد بعلامةٍ يتميز بها على غيره، لئلا يختلط على الناس خبزهم. وينبغي أن يكون له مخبزان، أحدهما: للخبز، والآخر: للسمك واللحم ونحوهما، أو يجعل السمك بمعزل، لئلا يسيل شيء من دهنه على الخبز، ولا يأخذ من دقيق الناس شيئًا، ولا من عجينهم. وأما [القلايين والشوايين ونحوهم]، فقالي الزلانية ينبغي أن يكون مقلاه من النحاس الأحمر الجيد، وأول ما يحرق فهي النخالة، ثم يدلكه بورق السلق إذا برد، ثم يعاد إلى النار، ويجعل فيه قليل عسل ويوقد عليه حتى يحترق العسل. (ثم يجلى بعد ذلك بدقيق الخزف)، ثم يغسل ويستعمل؛ لأنه ينقى بذلك من وسخه ونجاره، وأن يكون ثلث دقيق الزلابية ناعمًا، وثلثاه سميذًا خشخاشيا؛ لأنه إن أكثر السميذ زادت الزلابية بياضًا، وخفة في الوزن ونضجًا؛

غير أنه يشرب من الشيرج أكثر من الناعم، فلهذا يكرهونه. ولا يسرع بالقلي؛ حتى يختمر العجين، وعلامته أنها تطفو على وجه الدهن، والفطير منها يرسب، والمختمرة تكون مثل الأنابيب، مجوفة، وإذا جمعتها في كفك اجتمعت، والفطيرة تكون مرصوصة، وليس فيها تجويف. وسوادها يكون من وسخ المقلي، أو دقيقها ناعمًا لا سميذ فيه، أو يقلوه بالدهن المعاد، وربما جارت عليها النار، أو فطيرًا فتسود لسوء الصنعة. وينبغي ألا يجعل في عجينها ملحًا؛ لأنها تؤكل بالحلو فإذا كانت مالحة غثت النفس، وأن تكون سنابلها صغارًا لطيفة كل أربعون منها رطل بالقدسي، ومتى حمص عجينها جعلها خميرًا وخبزها. وأما قالي السمك: فيؤمر كل يوم بغسل أوانيه- من قفة وطبق- التي يحملون فيها السمك، وينثرون في الملح المسحوق، كل ليلة بعد الغسل، وكذا يفعلون بموازينهم الخوص؛ لأنهم إذا غفلوا عن غسلها فاح نتنها، وكثر وسخها، فإذا وضع فيه السمك الطري تغير ريحه، وفسد طعمه.

وأن يبالغ في غسل السمك، وتنظيفه، وتنقيته من جلده، وفلوسه، ثم يرش عليه الملح والدقيق، ثم يقلي بعد أن يجف من طراوته، ولا يخلط البائت منه بالطري، وعلامته أن خياشيمه محمرة، والبائت ليس كذلك. وينبغي لعريف المحتسب أن يتفقد عليهم أوانيهم من المقلي وغيره؛ لئلا يقلونه بدهن الشحم المستخرج من بطون السمك، أو يخالطون هذا الدهن بالشيرج ولا يقلونه بالمعاد إذا كان متغير الرائحة، ولا يخرجون السمك حتى ينتهي نضجه من غير إحراق. وإذا تغير السمك أو دود القديد منه وجب أن يرمى على الكيمان خارج البلد. وأما قالي النقانق: فيتأكد عليهم ألا يعملوها إلا بقرب دكة المحتسب، ليراعيهم بعينه، فإن الغش فيها كبير لا يكاد يعرف. ويأمرهم بتنقية اللحم وجودته، واستسمانه ونعومة دقة على القدم النظيفة، وليكن عنده حال عمل ذلك واحد بمذبة يطرد عنه الذباب، ونحوه. ولا يخلطون باللحم البصل، والتوابل إلا بحضرة العريف ليعلم مقداره / بالوزن ثم يحشونه بعد ذلك في المصاريف النقية النظيفة. [48/أ]. وأما قالي الجبن والبيض: فقد تقدم الكلام عليهما.

وأما الشرايون: فينبغي للمحتسب أن يزن عليهم الخرفان قبل إنزالها في التنور ويكتبه في دفتره، ثم يعيدها إلى الوزن بعد إخراجها. فإن كان قد نقص منه الثلث، فقد تناهى نضجه، وإن كان دون ذلك أمره بإعادته إلى التنور، وعلامو نضجه أن ينجذب الكتف بسرعة؛ فإن جاءت فقد انتهى، وأن ينشق الورك؛ فإن ظهر فيها عروق حمر، ونزل منها ماء أحمر، فهو نيئ لم بنضج، ومنهم من يذبح خرافًا كثيرة؛ ثم يحمل بعضها إلى المتحسب، ويخفى الباقي. وليحذر أن يغم الشواء حالة إخراجه من التنور، ولا يوضع في أواني الرصاص وهو حار. وقد قال الأطباء إنه يستحيل سماً، ويأمرهم أن يطينوا التنانير بطين حر قد عجن بما طاهر، فربما أخذوا طيناً من أراضي حوانيتهم، مختلطاً بالدم، والفرث، فإذا فتحو التنور ربما انتثر فيه على الشواء، فينجس [ويتقذر].

ومنهم من يضع عنده إذا باع الشواء المرضوض الملح والماء في قدح، ويجعل عليه قليلًا من الليمون فكل ما باع شيئًا رش عليه منه، وبما فضل عندهم هذا الماء في ليالي الصيف؛ فيصبح متغيراً فيمزجوه بالليمون؛ ليخفي ريحه، ومنهم من يشتري الرؤوس المغمومة عند كسادها، ويقطع لحمها على القرمة، ثم يخلطه بالشواء قليلاً؛ وربما رضوا معه الكلى، والكبود عند غفلة المشتري. وكل ذلك من الغش، والتدليس المحرم. وأما [الطباخون] فيؤمرون بتغطية أوانيهم، وحفظها من الذباب وهوام الأرض، بعد غسلها بالماء الحار والأشنان، وأن لا يخلطوا لحم ضأن بمعز، ولا بقر بإبل، فربما أكلها ناقة، من مرض فيكون سبباً لنكسته، ويأمرهم بكثرة تأديم طعامهم بالدهن وقلة اللحم، ويمنعهم من نزع الدهن [عن] وجه الطعان، وبيعه مفرداً. وبعضهم يصب قليلاً من الدهن المستعار على وجه الطعام؛ فيغتر به الناس، ويظنون

من كثرة اللحم. وعلامة لحوم المعز في الدست سوادها، وزهومتها، ورقة عظامها. ويمنعهم من الغش في الأطعمة، وهي أنواع كثيرة (لا نطول بها)، وذكر يعقوب الكندي في رسالته المعروفة بكيمياء الطبائخ – ألواناً لهم تطبخ من غير لحم، وقلايا كبود من غير كبود، ومخ من غير مخ، ونقانق وعجة من غير لحم وبيض، وجواديب من غير أرز، وحلاوة من غير عسل، ولا سكر، وألوان كثيرة من غير عناصر يطول شرحها، ولا ينبغي أن يهتدي إليها الطباخون، لئلا يعملونها للناس، فينتبه المحتسب لذلك ويعتبره عليهم بحدة نظره وحذقه.

وأما الهراسون فيعتبر عليهم أوسط عيار الهريسة من غير حيف، بأن يكون لكل صاع من القمح ثمانية أوراق من لحم الضأن، ورطل من لحم البقر، ويكون لحم الهريسة فتياً سميناً، نقياً من الدرن، والغدد والعروق والأعصاب، طرياً غير غث، [48/ب] ولا متغير الرائحة، ويجعله في الماء والملح ساعة، حتى يخرج ما فيه من الدم، ثم بغسل، وينزل في القدر بحضرة العريف، ويختم عليه بخاتم المحتسب، فإذا كان وقت السحر حضر للعريف، وكسر الختم، وهرسوها بحضرته؛ لئلا يسلون منها اللحم، ثم يعيدوه إليها من الغد، ومنهم من يغشها بالقلقاس المدبر، ومنهم من يأخذ رؤوس الغمة عند كسادها، ورخصها، ويهرسها. ومنهم من يسلق لحم البقر أو الجمل، ثم يجففه، ويدخره لها، فإذا أمكنه العمل، نقعه بالماء الحار ساعة، ثم يضعه في الهريسة، وربما فضل عندهم في القدور فضلة، فيخلطوها من الغد، فيراعي المحتسب (عليهم ذلك) كله بالختم.

وينبغي أن يكون من دهن الهريسة خصوصاَ طرياً طيب الرائحة، بالمصطكا والدارصين، ونحوهما ويعتبر ما يغشون به من دهن عظام البقر وأقطابها ورؤوسها، والجمال، فإنهم يستخرجونه، ويمزجون به دهن الهريسة. وعلامة معرفة ذلك أنك تقطر منه شيئا على بلاطة، فإن سال ولم يجمد، أو كان لونه يشف؛ فهو مغشوش. وأما [الرواسيون] فيأمرهم بسمط الرؤوس والأكارع بالماء الشديد الحرارة، ويغسل داخلها بعد أن يدق مقدم الرأس، وينزل ما فيه من القذا، والوسخ، والدود المتولد، إن كان فيه شيء، ولا يخلطوا رؤوس المعز بالضأن، ويجعلون في أفواه المعز كرعها (لتتميز ولا تشتبه) على الجاهل. وعلامة رؤوس الضأن أن تحت كل عين ثقبا، وليس ذلك في المعز وخطمه دقيق من أصله، بخلاف الضأن، وربما

كسدت عندهم فيخلطونها من الغد بالطرية، وعلامة البائت أنك تسل العظم الرقيق الذي في المبلع المسمى بالشوكة، ثم تشم رائحته، فإن كان متغيرا فهو بائت، ومنهم من يأخذ دهن [القاطر] من الشواء، ويخلطه بدهن الكارع ويسقي به الخبز المترود. وينبغي ألا تخرج الرؤوس من الغمة حتى ينتهي نضجها، وإذا باعها نثر عليها الملح والسماق مسحوقين مع الرائحة الطيبة. وأما الجزارون: فيستحب أن يكون الجزار مسلما، (بالغا عاقلا)، يذكر اسم الله تعالى عند الذبح، ويستقبل بها القبلة، وينحر الإبل معقولة، والبقر والغنم مضجعة على الجنب الأيسر. ولا يجر الشاة برجلها جرا عنيفا، ولا يذبح بسكين كالٍّ لما فيه من التعذيب المنهي عنه، ويلزمه أن يقطع الودجين والمريء والحلقوم، ولا يسرع في السلخ بعد الذبح حتى تبرد الشاة (ويخرج منها الروح، ولا ينفخوها بعد السلخ؛ لأن نكهة الآدمي تغير اللحم) وتزفره. ومنهم من يشق اللحم من الساقين، وينفخ فيه

الماء؛ ولهم أمكنة في اللحم غير ذلك ينفخونها بالماء؛ فيراعيهم في ذلك كله. ومنهم من يشهر في الأسواق البقر السمان ونحوها، ويذبح غيرها. وأما القصابون فيمنعون من بروز اللحم عن حد مصاطب حوانيتها بل تكون متمكنة في / الدخول عن حد المصطبة [والركبتين]؛ لئلا يتأذى الناس بتنجيس ثيابهم، وأن يفردوا لحم المعز عن لحم الضأن، وغيرها، ولا يخلطوها، وينتقطوا لحم المعز بالزعفران، ليتميز، ويعلقوا أذنابها على لحومها إلى آخر البيع، ويعرف لحمها ببياض شحمه، وصفائه، وشحم الضأن يعلوه صفرة ويبيعوا اللوايا منفردة عن اللحم، لا يخالطها جلد، ولا لحم. وإذا فرغ من البيع وأراد الانصراف، أخذ ملحاً مسحوقاً أو أشناناً ونثره على القرمة التي يقطع عليها [اللحم]؛ لئلا يلحسها كلب، أو يدب عليها شيء من هوام الأرض؛ والمصلحة تقتضي ألا يشارك بعضهم بعضاً؛ لئلا يتفقوا على لحم واحد، وسعر واحد.

ويمنعهم أن يبيعوا اللحم بالحيوان، وأن يشتري الشاة بأرطال من اللحم معلومة، يدفع إليه كل يوم ما يتفقان عليه، وهذا واقع فيه أكثر الناس اليوم. وإذا شك المحتسب في الحيوان هل هو ميتة أو مذبوح، ألقاه في الماء؛ فإن رسب فمذبوح، وإن طفا فميتة. وكذا البيض إذا طرح في الماء، ما كان منه مذرًا يطفو، وما كان سليمًا رسب. ويعتبر ذلك على صيادي الطير، فإن أكثرهم لا دين له، وكثيرًا ما تختنق معهم الطيور أو تموت فيبيعونها مع المذبوح. وأما الزياتون ونحوهم، فيعتبر عليهم المكاييل والموازين والأرطال، على ما تقدم، وينهاهم عن خلط البضاعة الجيدة بالرديئة، وإلا يخلطوا عتيق التمر، والزبيب، ونحوهما بالجديد، وأن لا يرشوا الماء على التمر، والزبيب ليرطبه، ويزيد في وزنه، ولا يدهنوا الزبيب بالزيت، ليصفو لونه، ويحسن منظره، ومنهم من يمزج عسل القصب بالماء الحار، ويرشه على الرطب، ومنهم من يغش الزيت وقت نفاقه بزيت القرطم، ومعرفة غشه إذا ترك على النار يكون له دخان عظيم ويختنق.

ومنهم من يخلط الشيرج بالزيت الحلو لرقته وصفائه، والزيت الذي قد ترك فيه الجبن في الخوابي بالزيت الطيب الصافي، ويعرف غشه بنقعه في السراج وزفرته. وبعضهم يغش الخل بالماء، وعلامة الخالص إذا صب منه شيء على الأرض نشر، والمغشوش لا ينشر، وأيضًا إذا وضع فيه حشيشة الطحلب يشرب الماء دون الخل، وكذا اللبن المشوب بالماء تطرح فيه هذه الحشيشة فتفصل بينهما. ويعرف غش اللبن الحليب؛ بأن يغمس فيه شعرة، ثم تخرج، فإن علق عليها اللبن، وتكوكب كان خالصًا، وإلا فمغشوشاً. ويعتبر عليهم المخلالات على اختلاف أجناسها، بأن يطرح عليه الكمرخ فما كان مجسه يابسًا قويًا أعيد إلى الخل الثقيف، وإذا لأن مجسه رمى به؛ لأنه قد فسد، ومتى حمضت عندهم الكوامخ أمرهم بإراقتها خارج البلد؛ لفسادها، وكذا كل ما تغير عندهم، ودود من الجبن وسائر البضائع، ولا يجوز لهم بيعه لما فيه من الضرر بالناس ويمنعهم من عمل المريء المطبوخ على النار، فإنه يورث الجذام.

ومنهم من يغش الدبس البعلبكي بدقيق الحوارة. والحوار وعسل حل بالماء، ومعرفة غشهما / إذا جعل شيئًا من الدبس في الماء رسبت الحوارة في [49/ب] نفل الإناء، وربما بقى [للماء] رغوة، وفي العسل أنه زمن الشتاء يبقى سببًا الكسميد، وفي الصيف يكون مائعًا. وينبغي أن تكون بضائعهم مصونةً في البراني، والقطارميز، مغطأة، لئلا وصل إليها شيء من الذباب، والنمل، وغيرهما من تراب ونحوه، وأن تكون أسقاف مغطأة بالمبارز، ولم تزل المذبة بيده، يذب بها عن بضاعته، ويلزمهم نظافة أثوابهم، وغسل أوانيهم وأيديهم، ومسح مكايلهم، وموازينهم، خصوصاً الحوانيت المنفردة في الدروب الخارجة عن الأسواق.

وأما الحلوانيون: فصناعتهم تشتمل على أنواع كثيرة وأجناس مختلفة، ولا يمكن ضبطها بصفة وعيار أخلاطها على قدر أنواعها، مثل النشا، والدقيق، واللوز، والفستق، ونحوها، فقد يكون كثيرًا في نوع، قليلاً في آخر، ويرجع في معرفة ذلك (إلى العريف) العارف الناصح. وينبغي أن تكون الحلوى تامة النضج، غير نيئة، ولا محترقة. ومن غشهم أنهم يمزجون العسل برب الكرم، (وعلامته: إذا غلى على النار ظهرت رائحته، والعسل القصب بالدبس)، وعلامته أنه يركد في أصل الإناء، وبالدقيق والنشا- ودقيق الأرز، والعدس، وقشر السمسم، وعلامته أن يطفو على وجه الماء والناطف بالسميد المقلو بالكشك، والناطف الأصفر

بالفتيت والخشكناك المقلو بالدقيق، وأما الخشكنانج الذي يخبز في التنور، فإنه إن غش فيه، وقع في التنور، وسقط منهم، فلما يفعلونه. وجميع غشوش الحلاوة لا يخفى في منظرها وذوقها، فليعتبر المحتسب عليهم جميع ذلك. وأما الشرابيون: فينبغي ألا يعقد الأشربة ولا المعاجين والسفوفات ونحوها، إلا من اشتهرت معرفته وديانته، وظهرت مخبرته، وتجربته، وشاهد تجربة العقاقير ومقاديرها من أربابها وأهل الخبرة بها ولا يركبها إلا من الأقراباذنات المعروفة؛ كسابور، والمكي، ومنهاج الدكان، والقانون. وعليه أن يتقي الله، ويخشى اليوم الآخر، ولا يتهاون ويفرط بأوزانها، وأن يدخل فيها ما ينافيها ويسلبها خاصيتها، فإن كثيراً منهم يغش في الأشربة؛ فيعمد إلى عسل القصب المدبر باللبن الحليب، والخل، والأسفيداج؛ فيخرج صافي اللون طيب الطعم، والرائحة، فيركب منه الأشربة، والمعاجين بدلاً من السكر وعسل

النحل، فيحلفهم المحتسب، ويكتب عليهم قسامة بان لا يعلمونه؛ لأنه يؤدي إلى فساد عظيم؛ فإنه يحزق الأمزجة، ويفسدها فيصبر الدواء داءً. ومعرفة غشه أن يرجع إلى السوداء إذا أضيف إلى غيره من الشربة، ويظهر فيه رائحة الخل إذا مضت عليه مدة. ويطرح منه شيء في وسط الكف، ويقطر عليه الماء، ثم يحله بإصبعه، فيبيض مثل الفانيد، فيعتبر المحتسب عليهم أشربتهم في رأس كل شهر، فما وجده منها حامضاً لطول المدة عليه أو متغيراً؛ فيعلم فساده، ويمنع من بيعه للناس، ولو أراد صاحبه عوده إلى الطبخ ثانياً، فإنه لا يفيده، اللهم إلا أن يكون شراب الورد / أو البنفسج، فإن تغيرهما يكون سريعاً، وردهما إلى الطبخ، يزيدهما قوة ونقاءً للمعدة، والسكنجبيب البزوري، متى كان مائلاً إلى السواد، فهو مغشوشٌ بعسل القصب المذكور؛ وكذا المعاجين إذا تغربت في

البراني، وحمضت، أو يبست تكون مغشوشة. ومنهم من يعجن عكر الخل بدبس، وشاد يروان ثم يقرصه، ويبيعه على أنه عصارة برباريس. وينبغي للصانع أن يقوي عقد الأشربة، حتى يصير لها قوام، وإذا عقد من العناب مثلاً شراباً قواه بكثرته فيه، بحيث يظهر في طعمه، فإنه يراد لتطفئة زيادة الدم. وكذا في سائر الأشربة. وأما الصيادلة: وهم الذين يبيعون الأشربة والعقاقير ويسمون في زماننا هذا بالشراباتية والعطارين، وغش هؤلاء وتدليسهم كثير لا يمن حصره، فرحم الله من نظر في ذلك، وعرف استخراج غشوشهم، زيادة على ما ذكرت وكتبها في حواشي هذا الكتاب تقرباً إلى الله تعالى، لأنها أصر على الخلق من كل صناعة؛ لأن العقاقير والأشربة مختلفة الطبائع والمزحة، والتداوي بها بحسب ذلك، فإذا أضيف إليها غيرها أحرفها عن مزاجها، فأضربت بالمريض إضراراً ظاهراً. وينبغي للمحتسب أن يعظهم، ويخوفهم وبنذرهم العقوبة والتعزيز، ويعتبر

عليهم عقاقيرهم في كل أسبوع، فمن غشوشهم المشهورة الأفيون المصري يغشونه بنشا مآميتا، وبعصارة ورق (الخص البري)، وبالصبر، وبالصمغ. وعلامة غشه إذا [أذيب] بالماء، ظهرت له رائحة كرائحة الزعفران، إن غش بالماء ميتا، وإن غش بعصارة الخس، كان خشناً، ورائحته ضعيفة، وإن صفى لونه وضعفت قوته كان مغشوشاً بالصمغ، ويغشون الرواند بنبتة يقال لها رواند الدواب تنبت بالشام، وعلامته أن الجيد هو الأحمر الذي لا رائحة له، ويكون خفيفاً، وأقواه الذي يسلم من السوس، وإذا نقع كان في لونه صفرة، وما خالف هذا كان مغشوشاً.

والطباشير بالعظام المحترقة ومعرفته إذا طرح في الماء رسبت العظام وطفت الطباشير. واللبان الذكر بالقلفونية، والصمغ، ومعرفته إذا طرح في النار التهبت القلفونية، وظهرت رائحتها، ويغشون [التمر] هندي بلحم الأجاس. والحضض بعكر الزيت، ومرائر البقر؛ في وقت طبخه، ومعرفته إذا طرح منه شيء في النار يلتهب الخالص، وإذا طفيته بعد اللالتهاب يصير لونه رغوة كلون الدم؛ والجيد منه أسود، ويرى داخله ياقوتي اللون، وما لا يرغي ولا يلتهب؛ يكون مغشوشاً بما ذكرناه. ويغشون القسط بأصول الرأس، ومعرفته أن القسط له رائحة، إذا

وضع على اللسان يكون له طعم، والرأس بخلاف ذلك، وزغب السنبل بزغب القلقاس، وعلامته أن يوضع في الفم فينعرف. والمصطكا بصمغ الأبهل. والمقل بالصبغ القوي، ومعرفته أن الهندى تكون له رائحة ظاهرة إذا بخر به، وليس فهي مرارة، والأفتيمون الأقريطشي، بالشامي / وبزغب السائح ويغشون المحمودة بلبن الملتوع المجمد، ومعرفته أن

توضع على اللسان، فإن قرصت فيه مغشوشة. وتغش أيضاً بنشارة القرون، يعجن بماء الصمغ: عمل على هيئة المحمودة؛ وبدقيق الباقلاء أو الحمص، ومعرفة ذلك أن الخالصة صافية اللون مثل الغري، والمغشوشة بخلافه، ويغشون المر بالصمغ المنقوع في الماء، والخالص يكون خفيفاً ولونه واحداً وإذا كسر ظهر فيه أشياء ككل الأظفار ملساء تشبه الحصا، وله رائحةٌ طيبة، وما كان ثقيلاً لونه مثل الزفت فلا خير فيه. وقشر اللبان بقشر شجر الصنوبر، ومعرفته أن يلقى في النار، فإن النهب وفاحت له رائحة طيبة فخالص، وإلا فمغشوش، والمزر نجوش ببزر الحندقوق والزنجار بالرخام [والقلقند] ومعرفته أن تبل إبهامك وتغمسه فيه، ثم

تدلك بها السبابة، فغن نعم، واسود فهو خالصٌ، وإن ابيض وتحبب، فهو مغشوش، وأيضاً تحمى صفيحة في النار، ثم يدور عليها، فإن أحمر فمغشوش بالعلفت، وإن أسود فهو خالص وينفقون من الأهليج الأسود أهليجاً أصفر، ويبيعونه مع الكابلي يرشون الماء على الخيار شنبر، وهو ملفوف في الأكسية عند بيعه، فيزيد رطله نصفاً، ويغشون اللك فيسكبوه على النار، ويخلطون معه الآجر المسحوق، والغرة، ثم يعقده أقراصاً، ثم يكسره بعد جفافه، ويبيعه على أنه دم الأخوين. ومنهم من يدق الكعك قاً جريشا، ثم يجعل شيئاً من الجاوشير على

النار في عسل النحل، ويلقى فيه شيئاً من الزعفران فإذا غلي وأرغى، طرح فيه الكعك، وحركه حتى يشتد، ثم يعمله أقراصاً، إذا برد، ويكسوه ويخلطه مع الجاوشير. وأما جميع الأدهان الطبية؛ فيغشونها بدهن الخل بعد أن يغلي على النار، ويطرح فيه جوز ولوز مرضوضان، تزيل رائحته، وطعمه، ثم تخلط بالأدهان. ومنهم من ياخذ نوى المشمش، والسمسم، فيعجنها بعد دقهما، ويعصرهما، ويبيع دهنهما على أنه دهن لوز، ويغشون دهن البلسان بدهن السوسن، ومعرفته أن يقطر منه على خرقة صوف، ثم يغسل، فإن زال عنها ولم تؤثر فخالص، وإلا فمغشوش، وأيضاً الخالص إذا قطر في الماء الحل، ويصير في قوام اللبن، والمغشوش يطفو مثل الزيت، ويبقى كواكب فوق الماء. وهذا ما اشتهر غشه، ويتعاطاه كثير منهم.

وقد ذكر صاحب كيميا العطر، أشياء كثيرةٌ من ذلك غير مشهورة، فرحم الله من وقع هذا الكتاب، في يده فمزقه وغسله تقرباً إلى الله - عز وجل -، فربما يقع في يد غير أمين (فيدلس به على المسلمين). وأما العطارون وهم الماورديون في هذا الزمان، فقد ذكرنا أن غشهم أيضًا كثير، مختلف لاختلاف أنواع العطر وأجناس الطيب، فمن غشوشهم المشهورة في المسك، أنهم يعملون نافجة مسكٍ من قشور الأملج الشيطرج الهندي ومثلها شاديروان، ويعجنونه / بماءً صمغ الصنوبر، ويجعلون مع كل أربعة من هذا واحد مسك، ويخشون به النافجة، ويسدون رأسها بالشمع، ثم يجففونها على رأس التنور. وخعرفة غشها أن يفتحها ويلثمها كالمحتسي للشيء، فإن طلع إلى فيه من المسك حدة كالنار، فهو فحل لا غش فيه، وإن كان بالضد فمغشوش. ومنهم من يعمل نافجة من الأملج والشادوران الذي قد نزع صبغة بالماء الحار، ومعهما أنزروت، ويعجنه بماء الصمغ ويخدمه، ثم يجعل عليه لكل ثلاثة

واحداً من المسك، ويسحق الجميع، ثم تحشى النافجة، ثم تجفف على تنور، ومعرفة غشه بما ذكرنا. ومنهم من يعمل نافجة من قشور البلوط المخدوم بالنار ويخلط فيه لكل ثلاثة واتحدًا [من المسك] ثم يحشىى كذلك. ومنهم من يعمل مسكاً غير نافجة، من زرواند ورامك ودم الآخوين، ويعجن، ويجعل للواحد واحداً، ثم يعجن الجميع بماء ورد، ويخلطه بمثله، ويحشون جميع ذلك عنبراً؛ ومعرفة غش جميع هذه الأنواع، أن تضع منه شيئاً في فمك، ثم تنقله على قميص أبيض، ثم تنفضه، فإن انتفض ولم يصبغ فلا غش فيه، وإلا فمغشوش.

ومنهم من يلقي على المسك الخالص شيئاً من دم الأخوين أو دم الجدي؛ ومنهم من يستحقه بدم الغزال، ثم يحشيه في مصرانها، ويشده بخيط، ثم يجففه في الظل، ويخلطه مع غيره في القرارير، ومنهم من يغشه بالكبود المحرقة؛ أو يطرح معه رصاصاً على مقدار الفلفل أو أصغر مصبوغ بالحبر فلا يظهر إلا عند السحق. وأما العنبر فمنهم من يغشه بزبد البحر والصمغ الأسود، والأبيض، والصندروس، وجوزة الطيب (ويخدمه بمثله، ومنهم من يضيف إلى زبد البحر، والسندروس العود والسنبل والصب)، ويخدمه في بطون الخيل ثمانية [أيام]، ثم يخرجه ويخلطه بمثله، وربما عملوه على هيئة تمثال أو قلائد أو غيرها. ومنهم من يعمله من المسك، والشمع، والعنبر. ومعرفة غش ذلك أن يجعل شيئاً من في النار، فيظهر ولا يخفى رائحة الأخلاط

فيه، وأيضًا فأنه لا يجف، وإن كان فيه سندروس فإنه يتفتت. وأما الكافور، فمنهم من يعمله من نخالة رخام الخراطين المدبر. ومنهم من بعجن الكافور، والصمغ الأبيض، ثم ينجره على الغرابيل أو يعمله من حجارة النسار، ويكسره صغاراً، ثم يخلطه أو يعمله من ذريرة غير مفتوقة، وجبس غير مشوي. وصمغ أبيض، ومثل الجميع كافور أبيض وغير ذلك، ومعرفة غشه أن يلقى منه شيئاً في الماء، فإن رسب فمغشوش، وإن طفا فخالص، وأيضًا يلقى منه شيء على خرقة، ثم يجعلها على النار، فإن طار ولم يثبت فخالص، وإن احترق وصار رمادًا فمغشوش. وأما الزعفران الشعر فمنهم من يغشه بصدور الدجاج ولحوم البقر، بعد سلقها

بالماء، ثم ينشر ويقدد ويصبغ ثم يجفف، ويجعله في السلال، ومعرفة غشه أن ينقع منه شيئاً في الخل، فإن تقلص، أو تغير لونه؛ فهو مغشوش. ومنهم من يقطع الكشوت شعرة الزعفران. ثم يصبغه بالمطبوخ من البقم الطيب، / ويضيف إليه شيئاً مصبوغاً بماء الزعفران الخالص، ويذر عليه قليلاً من السكر، ليثقل، ويلصق بعضه ببعض، ثم يخلطه بمثله من الزعفران، ويرفعه في السلال، وبيان غشه أن تجعله في فيك، فإن كان خلواً فمغشوش، ومنهم من يأخذ من نبات حلبة، وينقعه في خمر عتيق قد ترك فيه فلفل، وكركم منخولين، وزعفران أياماً معلومة، ثم ينشر في الظل، ثم يجعل في السلال. وعلامة جميع غشوشه أنه يكون يابس الشعرة، فتأخذ من وسط السلة يظهر لك يبسة.

ومنهم من يطحن الزعفران المغشوش ناعماً، ويحنطه بدم الأخوين ليبقى لونه جيداً؛ فإن المغشوش إذا طحن أبيض لونه، ومعرفته أن يلقى منه شيئاً في الماء في قدح زجاج، فإن رسب فمغشوش، وإن طفا فخالص. ومنهم من يغشه بسحاقه الزجاج وبالنشا. وأما الغالية، فمنهم من يجعل أصلها من القطران المدبر، ثم يجعل لكل درهمين درهم مسك جيد، ودرهم عود مسحوق، (ودرهم مسك) مسبوك بالنار، ونصف مثقال عنبر، ويخلط الجميع في أربعة مثاقيل دهن بان فيجيء غاليه، لا تكاد تعرف. ومنهم من يجعل جسدها من نخالة الرخام الرخو، والشادروان المدر، ويحمل على كل درهمين ما قدمنا ذكره. ومنهم من يجعل جسدها من الفستق، ويحمل عليها لكل واحد واحد. ومنهم من يجعله من السمسم الجديد المقشور، والقرطاس المحرق، ويحمل عليها الطيب المذكور.

ومنهم من يعمل جسدها من شمع وجميع هذه الغشوش لا يخفى على من له بصيرة، واللوله والرائحة والقوام. أما الزباد فغشوشه أيضًا كثيرة ولا فرق بين جسده وجسد الغالية في الغش وإنما الاختلاف في وزن الخميرة. وأما العود الهندي فيؤخذ الصندل فيبرد كالعود، وينقع في مطبوخ الكرم العتيق، ثم يروجه يخلطه بالعود الهندي، ومعرفة غشه أن يلقى منه شيء على النار فيظهر فيه رائحة الصندل. ومنهم من يعمله من قشور خشب الزيتون. واما دهن البان، فيغش من وهو حب القطر، او نوى المشمش، ويتبعه بشيء من المسك، والأفاوي.

ومنهم من يعمله من زيت الأنفاق ثم يعتقه، ويطرح فيه آطراف الآس، فيجيء فيه خضرة، أو يصعد عقد الصنوبر، وقشور الكندر، ولا يشك أنه من ماء الكافور؛ ومعرفته أن يقطر منه على خرقة بيضاء، ثم يغسلها، فإن علق فيها وأثر فمغشوش. وأما الشمع فيغش بشحم المعز، والقلقونيا، وقد يذرون فيه عند [سبكه] [دقيق] الباقلاء، والرمل الناعم، والكحل الأسود؛ ثم يجعل ذلك بطانة داخل الشمع، ثم يغشها بالشمع الخالص "ومنهم من يغش الأبيض خاصة بالشحم وعلامته / لا تخفى عند إيقادها؛ فعلى المحتسب ظاو العريف يراعى ذلك كله، ويعتبره عليهم ولا يهمله، وأكثر من يتجاسر على عمل ما في هذا الباب. والذي قبله، الغرباء، والأعاجم، فعليه أن يشهر فاعله بالضرب، والتعزيز وغير ذلك" بما يراه.

وأما البزازون، فينبغي أولاً على صاحب هذا السبب، أن يتعلم أحكام البيع، وعقود المعاملات، وما يحل منها وما يحرم، وألا يقع في المحظورات والشبه وهو لا يعلم. قال عمر رضي الله عنه: "لا يتجر في سوقنا إلا من تفقه في دينه، وإلا آكل الربا، شاء أو أبى" وقد ذكر الفقهاء في كتبهم ما فيه كفايةً من ذلك، وعلى المحتسب بعد ذلك أن يعتبر عليهم الصدق في القول في تخبير الشراء، أو مقدار رأس المال في بيع المرابحة، فإن أكثرهم يفعل أشياء لا تجوز، فيشتري أحدهم سلعة بثمن معلوم إلى أجل معلوم، ثم يخبر برأس المال، وهذا لا يجوز؛ لأن الأجل يقابله قسط من الثمن. ومنهم من يماكس بعد انعقاد البيع، فينقص البائع شيئاً من الثمن، ومنهم من يشارك الدلال أو غيره، ليعينه على نقص السلعة عن قيمتها إذا اشتراها، وزيادتها إذا باعها، ومنهم من يشتري الثوب بثمن معلوم؛ فيحد به عيباً؛ فيأخذ أرشه من بائعه، ثم يخير برأس ماله في الثوب من غير أرش، ومنهم من يواطيء غلامه أو جاره؛ فيبيعه ثوباً بعشرة دراهم مثلاً، ثم يشتريه منه، بخمسة عشر، فيخبر به في بيع المرابحة، وهذا كله وأشباهه لا يجوز فعله، ويكون سبباً لذهاب البركة عنه، وركوب الدين عليه.

فعلى المحتسب أن يعتبر عليهم جميع ذلك، وينهاهم عن فعله، ويتفقد موازينهم وأذرعتهم (كل قليل). وأما الدلالون: فينبغي أن يكونوا تقاة أمناء، عندهم صدق لهجة، ونصح للمسلم؛ لأنهم يتسلمون بضائع الناس، ويقلدوهم الأمانة في بيعها: فلا يجوز لأحدهم أن يزيد في السلعة من نفسه، ولا أن ينقص منها من غير أن يوكله صاحبها، ومتى علم الدلال أن في السلعة عيباً؛ وجب عليه أن يعلم المشتري، ويوقفه على العيب، وترى كثيراً منهم يرتكب أموراً، منها: أن يعطى القزازين وصناع البز ذهباً على سبيل القرض، ويشترط عليهم أن لا يبيع لهم أحد غيره، وهذا حرام؛ لأنه قرض جر منفعة. ومنهم من يشتري السلعة لنفسه، ويوهم صاحبها أن التاجر اشتراها منه، أو يواطيء غيره على شرائها منه، ومنهم من تكون السلعة له، فينادى عليها ويزيد في ثمنها من عند نفسه، ويوهم التاجر أنها لغيره. ومنهم من يكون بينه، وبين البزاز شرط، ومواطأة على شيء معلوم من الأجرة، فإذا جاء بها إلى التاجر، وتأخر ومعه المتاع قليلاً؛ فيستدعى البزاز المنادي ليبيعه فإذا باعه وأخذ الأجرة، أعطى البزاز ما كان قد شرطه له وواطأة عليه؛ وكل ذلك حرام فعله، وعلى المحتسب أن يعتبر عليهم جميع ذلك. وأما النخاسون: وهم دلالوون الرقيق، والدواب؛ فمن شرطه أيضًا يكون

/عدلاً، مشهوراً بالعفة، لأنه يتسلم جواري الناس وغلمانهم، وربما اختلى بهم في منزله. وينبغي ألا يبيع لأحدٍ عبداً، أو جارية، حتى يعرف البائع، أو يأتي بمن يعرفه، ويكتب اسمه وصفته في دفتره، لئلا يخرج المبيع حرًا أو مملوكاً لغيره، ولا يبيعهما إذا كانا مسلمين لكافر، إلا أن يعلم يقيناً أن المملوك ليس بمسلم، ومتى علم بالمبيع عيباً، وجب عليه بيانه للمشترى، كما قلنا. وأن يكون بصيراً بعيوب الرقيق، والدواب، خبيراً بإيتاء العلل والأمراض؛ فإذا أراد بيع غلام نظر إلى جميع جسده سوى عورته ويعتبر ذلك ويخبر به المشتري، فإن رأى وجهه حائل اللون إلى (الصفرة أو الغبرة)؛ دل على مرض، أو علة في الكبد، أو الطحال، أو بواسير أو غير ذلك. وأما القزازون فيأمرهم بحوزتهم بجودة عمل الشقة وصفاقتها، ونهاية طولها المتعارف به، وعرضها ودقة غزلها، وتنقيتها من القشرة السوداء بالحجر الأسود الخشن: ويمنعهم من دلكها بالدقيق، أو الجبصين المشوي؛ ليظهر صفاقتها، فإنه تدليس.

وكذا يمنعهم من نسج وجه الشقة بالغزل الجيد والمصطحب، ثم ينسج باقيها من الغليظ، أو المعقود من الهذاب؛ ويكلفهم أن يجعلوا لأجرانهم التي ينقعوا فيها الغزل أغطيةً من خشب؛ لئلا يقع فيها الكلاب وتبول، أو يغسلوها في كل يوم سبع مرات إحداهن بالتراب، عند استعمالها، ولا يمدوا سيقانهم في طرقات المسلمين، فيضروا بها المارة. وأما الخياطون: فيأمرهم بجودة التفصيل، وتحريره قبل القطع، وحسن فتح الجيب، وسعة التخاريس، واعتدال الكمين والأطراف، واستواء الذيل، والأجود أن تكون الخياطة درزاً لا شلاً، والإبرة دقيقة، والخيط يملأ الخرم قصير؛ لأنه إذا طال انتقض فيضعف، لكثرة نثره. ولا يفصل شيئاً حتى يحبسه، ويقدره، ثم يقطعه، فإن كان له قيمة كالحرير، والديباج، فلا يأخذه إلا بعد أن يزنه، وإذا خاطه رده إلى صاحبه بالوزن. ويمنعهم من سرقة ما يخيطونه من قماش الناس، فإن نهم من يحشوه وقت كفه رملاً، أو سراساً، ويسرق بقدره من الحرير إذا كان موزوناً، وأن لا يعطلوا الناس بخياطة أمتعتهم، ويكذبون كثيراً، ويتضرروا بالترداد إليهم، ويحبسونها عنهم.

وإذا شرطوا علبهم زمنا معلوماً كأسبوع، ونحوه، لا يتعدوا الشرط، وعلى المحتسب أن يحلف الرفايين ألا يرفوا لأحد م الفصارين أو الدقاقين ثوباً مخرقاً، إلا بحضرة صاحبه، ويأمر القلانس أن يعملوها من الخرق الجديدة، وخيوط الحرير، أو الكتان المصبوغ؛ لا من الخرق البالية المصبوغة، ويشبعونها بالأشراس والسرافة فإن ذلك تدليس محرم. وأما [القطانون]: فيأمرهم ألا يخلطوا جديد القطن بعتيقه، ولا أحمره بأبيضه، وأن يكرروا ندفه، حتى تطير منه القشرة السوداء والحب المكسر؛ لأن بقاء ذلك فيه؛ يزيد في وزنه، / وإذا طرح على لحاف، أو جبة قرضه الفأر، ولا يضعون القطن بعد ندفه في المواضع الندية، ليزيد في وزنه؛ فإذا جف قص وألا يجلسوا النساء على أبواب حوانيتهم، يتحدثون معهن لانتظار فراغ الندف، فيمنعهم من ذلك كله.

وأما الغزولية: فلا يخلطوا جيدها برديئها، ولا الكتان النابلسي بالمصري، فإن أجوده المصري الجيزي الناعم المورق، وأرادأه القصير الخشن، الذي يتعصف تحت الصدفة، : ويمنعهم من خلط القنداس وهو ما يخرج من السرافة الكتان الناعم بعد مشطه، فإن ذلك تدليس. وأما الحريريون: فلا يصبغون القز قبل تبيضه لئلا يتغير بعد ذلك، ويفعلونه ليزيد لهم، ومنهم من يثقل الحرير بالنشا المدبر، أو بالسمن، أو الزيت، ومنهم من يجعل في ظفره عقداً من غيره. فيعتبر عليهم ذلك. وأما الصباغون: فمنعهم من صبغ الحرير الأحمر، وغيره من الغزل، بالحنا عوضاً عن الفوة، فإنه يخرج مشرقاً، فإذا أصابته الشمس تغير لونه، وزال

إشراقه، ومنهم من يدلي الثياب بالعفص والزاج إذا أراد صبغها كحليا، ثم يلقيها في الخابية، فتخرج صافية اللون شديدة السواد، فإذا مضت عليها أقل مدة تغير لونها، ونقص صبغها، وأكثر الصباغين والمرندجين إذا كان في أيام اللأعياد والمواسم، يغيرون ثياب الناس، وربما يكرونها بالأجرة، لمن يلبسها ويتزين بها، وهذه خيانة وعدوان. وينبغي أن يكتبوا على ثياب الناس أسماءهم [بالحبر] لئلا تبدل وأما الأساكفة: فلا يكثرون حشو النعال من الخرق وخبز الفجل بين البشتيك، والبطانة، والنعل، والظهارة ويشدون حشو الأعقاب، ولا يسدون نعلا قد اخترق بالدبع، ولا فطيراً لم ينضج، وأن يكموا إبرام الخيط، ولا يطولونه أكثر من

ذراع، لئلا ينتقض برمه، ويضعف عن الجذي، ولا يخرزون بشعر خنزير، بل يجعلون عوضه ليفاً، أو شارب الثعلب، فإنه يقوم مقامه ولا يمطلوا أحداً متاعه، إلا أن يشرطوا له يوماً معلوماً، وألا يعلموا الورق، أو اللبد، ونحوه في أخفاف النساء، فيضرهم عند المشي. وأما الصيارف: فينبغي أن يعلموا أنهم على خطر عظيم في أديانهم، وإذا كان الصيرفي جاهلاً بالشريعة غير عالم بأحكام الربا، فيحرم عليه تعاطي ذلك قبل معرفته بالشرع وعلى المحتسب أن يتفقد سوقهم، ويعتبر عليهم موازينهم وصنجهم، ويتجسس عليهم فإن عثر باحد منهم رابى أو فعل في الصرف ما لا يجوز –عزره وأقامه من السوق، هذا بعد أن يعرفهم بأصول مسائل الربا، وأنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، إلا مثلا بمثل يداً بيد، فإن أخجذ زيادة على المثل، أو تفرقا قبل القبض، كان ذلك حراماً، أما بيع الذهب بالفضة، فيجوز فيه التفاضل، ويحرم فيه النسأ أي التأخير والتفرق قبل التقابض، ولا يجوز بيع الخالص بالمغشوش، ولا المغشوش بالمغشوش من الذهب والفضة كبيع / الدنانير الصورية مثلاً، أو الصورية بالصورية، أو الدراهم (الأحدية بالقروية) لوجود الجهل

بمقدارهما، وعدم التماثل بينهما، ولا يجوز بيع دينار صحيح بدينار قراضة قيمتيهما، ولا دينا قاساني سابوري؛ لاختلاف صنعتهما. ولا يجوز بيه دينار وثوب بدينارين. وقد يفعله بعض الصيارف والزازين على غير هذا الوجه، فيعطيه ديناراً ويجعله قرضاً، ثم يبيعه ثوباً بدينارين، فيصير له عنده ثلاثة دنانير إلى أجل معلوم، ويشهد عليه بجملتها وهذا حرام؛ لأنه قرض جر منفعة. وأنا الصاغة فيجب عليهم أيضاً أن ألا يبيعوا أواني الذهب والفضة، والحلي المصنوعة إلا بغير جنسها، ليحل فيها التفاضل والنسأ، فإن باعها بجنسها حرم فيها التفاضل والنسأ والتفرق قبل القبض، كما قدمنا وإن باع بجنسها حرم فيها التفاضل والنسأ والتفرق قبل القبض، كما قدمنا وإن باع شيئاً من الحلي المغشوشة؛ لزمه أن يعرف المشتري بمقدار ما فيها من الغش، ليدخل على بصيرة. وإذا أراد صياغة شيء فلا يسبكه في الكير إلا بحضرة صاحبه بعد تحقق وزنه، فإذا أخرجه أعاد الوزن.

وكذا يزن اللحام قبل إدخاله، وإذا أخرجه أعاد الوزن ولا يركب شيئاً من الفصوص على الخواتم، والحلي إلا بعد وزنها بحضرة صاحبها، "ولا يجوز بيع تراب دكاكين الصاغة ورمادها، إلا بالفلوس أو بعرض غير النقدين، فإنه لا يخلو من ذهب وفضة". وبالجملة فتدليس الصائغ وغشوشه خفية لا تكاد تعرف، ولا يصده عنها إلا أمانته ودينه، فإنهم يعرفون من الجلاوات والصباغ ما لا يعرفه غيرهم. فمنهم من يصبغ الفضة صبغاً لا يفارق الجسد إلا بعد السبك الطويل في الرواباص ثم يمزجون بها الذهب للواحد اثنين. فمن ذلك صفة تصغيره، ذكرها صاحب كتاب "نهاية الرتبة" في طلب الحسبة وهو الشيخ الإمام عبد الرحمن ابن نصر الشيرازي الشافعي فقال: يؤخذ [ساذبخ] قد شويت ودهنت على الانفراد، وراسخت قد شوى بماء المرنج المدبر سبع

مرات، وزاج وزنجفر مشويان بماء العقاب المحلول في القارورة، ثم يجمع بين الجميع في السحق بعد ذلك، ثم يسوى بين قدحين بماء المرنج المذكور سبع مرات، ثم بالعقاب المحلول سبع مرات، فإنه ينعقد حجراً أحمر مثل، الدم يلقى منه درهماً لي عشرة (ثم يزده) شمساً في عيار ستة عشر، فإن حل هذا الحجر الأكسير أحمر، ثم عقد القمر في عيار ستة عشر، فإن حل هذا الحجر الأكسير أحمر، ثم عقد القمر في عيار عشرين، يفرغ دنانير ويعمل منه مصبوغاً، ومنهم من يأخذ (رأس أخت) يشويه بمرارة البقر سبعاً، ثم يضيفه إلى مثله ذهباً مكلساً بصفرة الكبريت المستخرجة بالجير والقلي، الجميع بماء العقاب

المحلول سبعاً، ثم يدهنه بدهن زعفران الطوب سبعاً، فإنه ينعقد حجراً مثل الأول، فإن حله، وعقده صار أبلغ من الأول، يقارب المعدني، والملقى منه قيراط على درهم قمر. انتهى. فيجب على كل مسلم أن يخاف الله –عز وجل -، ولا يزغل على المسلمين بهذا، ولا بغيره. وأما النحاسون: فلا يجوز لهم أن يخلطوا النحاس بالحبق / الذي يخرج من الصاغة، وسباكين الفضة عند السبك، فإنه يصلب الحديد ويزده يبساً، ولكن إذا أفرغ منه هاون أو طائه ونحوها انكسر سريعاً، ويقصف كالزجاج. وينبغي لهم (أن يمزجوا أيضًا) النحاس المكسور ومن الأواني ونحوها بالنحاس المعدني. وأما الحدادون: فلا يضربون سكيناً ولا مقصاً ونحوهما من الصلب،

ويبيعونه على أنه فولاذ، ولا يخلطون المسامير المحماة المطرقة بالمسامير الجديدة الضرب، فكل ذلك تدليس. وأما البياطرة: فينبغي أن يعلم أن البيطرة علم جليل سطرته الفلاسفة في كتبهم، ووضعوا فيها تصانيف، وهي أصعب علاجاً من أمراض الآدميين؛ لأن الدواب ليس لها ن طق تعبر به عما نجد، وإنما يستدل على عللها بالجس والنظر، فيفتقر البيطار إلى حذقٍ وبصيرة بعلل الدواب، وعلاجاتها، ولا يتعاطاها إلا من له دين يصده عن الهجوم عليها [بفصد، أو قطع] أو كي، وما أشبهه بغير مخبرة؛ فيؤدي إلى هلاك الدابة أو عطبها، وأن يكون خبيراً بما حدث أو يحدث فيها من العيوب، يرجع الناس إليه في ذلك إذا اختلفوا، وقد ذكر بعض الحكماء في كتاب البيطرة أن علل الدواب ثلثمائة، وعشرين علة؛ ومنها: الخناق، والخنان الرطب، والخنان اليابس، والجنون، وفساد الدماغ، والصداع والحمرة،

والنفخة، والورم، والمرة الهائجة، [والدببة] والحام ووجع الكبد، ووجع القلب، والدول في البطن، والمغل، والمغس، وريح السوس، والقصاع، والصدام، والسعال البارد، والسعال الحار، وانفجار الدم من الدبر، والذكر، والبجل والخلد واللقوة، والماء الحادث في العين،

والمتاخويا، ورخاوة الأذنين، والضرس، وغير ذلك مما يطول شرحه، وهو مذكور في كتب القوم. فتعين معرفة ذلك كله على البيطار ومعرفة علاجه، وسبب حدوث هذه العلل، فإن منها ما إذا حدث في الدابة صار عيباً دائماً، ومنها ما لم يصر عيباً دائماً، ويمكن زواله، ينبغي للبيطار أن ينظر أولاً رسغ الدابة، ويعتبر حافرها قبل تقليمه، فإن كان [أحنفاً] أو مائلاً، نسف من الجانب الآخر قدراً يحصل به الاعتدال وإن كانت الدابة قائمة يجعل المسامير المؤخرة صغاراً المقدمة كباراً، وإن كان يدها بالضد من ذلك صغر المقدمة وكبر المؤخرة، ولا يبالغ في تنسيف الحافر، فيعمر الدابة، ولا يرخي المسامير فيتحرك النعل ويدخل تحته الحصى والرمل، فيرهص، ولا يشدها على الحافر قوياً فيرص.

والعم أن النعال المطرقة ألزم للحافر، واللينة أثبت من الصلبة، والمسامير الرقيقة خير من الغليظة، وإذا احتاجت الدابة إلى تسريح أو فتح عرق أخذ المبضع بين إصبعه، وجعل نصابه في راحته، وأخرج من رأسه مقدار نصف ظفر، ثم يفتح العرق تعليقاً إلى فوق بخفة ورفق، ولا يضرب العرق حتى يحبسه بإصبعه، سيما عروق الأوداج، فإنها خطرة لأجل مجاورتها للمرئ فإن أراد فتح شيء من عروق الأوداج خنق الدابة خنقاً شديداً، حتى تبرز عروق / العنق، فيتمكن بعد ذلك فيما أراده. فعلى المحتسب امتحان البيطار في معرفة ذلك كله، ولا يهمله، ومراعاة فعله بدواب الناس، ولا يغفل عن ذلك. وأما قومه الحمامات: فينبغي للمحتسب أن يأمرهم بكنس الحمام، وغسلها، وتنظيفها بالماء الطاهر، غير ماء الغسالة، ويفعلون ذلك مراراً في كل يوم، ويدلكون البلاط بالأشياء الخشنة، ليزول ما لصق بها من السدر، والصابون ونحوهما، ويغسلون الخزانة من الأوساخ المجتمعة في مجاريها، والعكر الراكد في أسفلها في كل شهر مرة، لأنها إن تركت أكثر من ذلك تغير الماء فيها في الطعم والرائحة. وإذا أراد القيم الصعود إلى الخزانة ليفتح الماء إلى الأحواض يغسل رجليه بالماء

قبل صعوده؛ لئلا تكون رجلاه متنجسة، ولاا يسد الأنابيب بشعرالمشاطة، بل بالليف والخرق الطاهرة، ليخرج من الخلاف. ويطلق فيها البخور في كل يوم مرتين سيما وقت كنسها وغسلها. وإذا بردت الحمام، فينبغي أن تبخر بالخزامى فإن بخاره، يحمي هواءها، ويطيب رائحتها، ولا يحبس ماء الغسالات في مسيل الحمام لئلا تقوح رائحتها، ولا يمكن الأساكفة، ونحوهم يدخلون بالجلود إلى الحمام، أو ما له رائحة كريهة، ولا يجوز أن يدخلها ذو عاهة من أجذم، وأبرص، وأجرب. ويلزم الحارس فتحها وقت السحر، ليدخلها من يحتاج إلى التطهير لأجل الصلاة، وأن يحفظ ثياب الناس، فإنه إن ضاع منها شيء؛ لزمه ضمانه، على الصحيح من مذهب الشافعي إن قصر. وينبغي للحلاق أن يكون خفيف اليد، [رشيقاً] بصيراً بالحلاقة، وحديدته رطبة قاطعة، ولا يستقبل الرأس، ومنابت الشعر استقبالاً، ولا يأكل ما يغير

نكهته كبصل وثوم، وكراث؛ لئلا يتضرر الناس بريحه، وأن يخفف الجبين والصدعين، ولا يحلق شعر صبي إلا بإذن وليه، ولا يحلق عذراً أسود، ولا لحية مخنث، ويمنع القيم من دلوك الباقلاء، والعدس في الحمام، لأنها طعام، ولا يجوز امتهانة، ويأمره أن يخشن يديه بقشور الرمان ونحوه؛ ليخرج بهما الوسخ عن البدن، ويستلذ بها الإنسان. وعلى المحتسب لأن يتفقد الحمامات في كل يوم مراراً، ويعتبر عليهم ما ذكرناه؛ وإذا رأى أحداً قد كشف عورته عزره؛ لأن كشفها حرام، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الناظر والمنظور إليه". فائدة: قال بعض الحكماء: خير الحمامات ما قدم بناؤه، وامتنع هواءه، وعذب

ماؤه، وقدر الأنان وقوده، بقدر مزاج من أراد وروده، وينبغي أن يعلم أن الفعل الطبيعي للحمام هو التسخين بهوائه، والترطيب بمائه، والحمامات الموضوعة على قانون الحكمة هي حمامات بلاد الشام، فالبيت الأول منها: مبرد مرطب، والثاني: مسخن مرطب، والثالث: مسخنٌ مجففٌ. والحمام فيه منافع ومضار: أما منافعه؛ فتوسيع المسام واستفراغ الفضلات، وتحليل الرياح، وحبس الطبع إذا كانت سهولة عن هيضة، وتنظيف الوسخ والعروق، وإذهاب الحكة، والجرب، والإعياء، وترطب البدن، وتجود الهضم، وتنضج النزلات، وتنفع من حمى يوم، ومن حمى الدق، والربع بعد نضج خلطها. وأما مضارة: فترخي الجسد، وتضعف الحرارة عند طول المقام فيه /، وتسقط

شهوة الطعام، وتضعف الباء، وأعظم مضارها صب الماء الحار على الأعضاء الضعيفة، وقد تستعمل على الريق والخلاء، فتجفف، وتهزل، وتضعف، وقد تستعمل على قرب العهد بالشبع فتسمن، إلا أنه يحدث منه داء، وأجود ما استعمل على الشبع بعد الهضم الأول، فإنه يرطب البدن، ويسمنه، ويحسن بشرته. وأما [الفصادون]: فينبغي ألا يتصدى للفصد إلا من اشتهرت معرفته بتشريح الأعضاء والعضل، والعروق والشرايين، وأحاط بمعرفة تراكيبها وكيفيتها، فربما يقع مبضعه في غير عرق مقصود، أو في عضلة أو شريان، فيؤدي إلى زمانة العضو وتعطيله، وربما هلك كثير من ذلك، فمن أراد تعلم الفصد فليدمن أولاً بفصد ورق السلق أعنى العروق التي في باطنها حتى تستقيم يده. وينبغي له أن يمنع نفسه من علم صناعة مهينة، تكسب أنامله صلابة، وعسر جس، وأن يراعى بصره بالأكحال المقوية، والايارجات إن احتاج إليها، ولا

يفصد عبداً، ولا صبياً إلا بإذن وليه وسيده، ولا حاملاً، ولا طامثاً، ولا يفصد إلا في مكان مضيء، وبآلة ماضية؛ ولا هو منزعج الجنان. وعلى المحتسب أن يأخذ عليهم العهد والميثاق أنهم لا يفصدون في عشرة أمزجة، إلا بعد مشاورة الأطباء، وهي: في السن القاصر عن الرابع عشرة، وفي سن الشيخوخة، وفي الأبدان الشديدة القصافة والشديدة السمن، والأبدان البيض المترهلة، والأبدان الصفر العديمة الدم، والتي طالت (بها الأمراض). وفي المزاج الشديد البرد، وعند الوجع الشديد. وقد نهت الأطباء أيضًا عن الفصد في خمسة أحوال: الأولى: عقب الجماع، وبعد الاستحمام. وفي حالة امتلاء المعدة والأمعاء من الثقل. وفي حال شدة الحر والبرد. وله وقتان. وقت اختيار ووقت اضطرار. أما الاختيار فهو ضحوة النهار بعد تمام الهضم والنقص، وأما الاضطرار فهو الوقت الموجب الذي لا يسع تأخيره، ولا يلتفت فيه إلى سبب [مانع]. وينبغي للمفتصد ألا يمتلئ من الطعام بعده، بل يتدرج في الغداء ويلطفه، ولا

يرتاض بعده، بل يميل إلى الاستلقاء، ولا يجوز النوم عقبه فإنه يحدث انكسارًا في الأعضاء؛ ومن افتصد، وتورمت يده اقتصد في اليد الأخرى، بمقدار الاحتمال، وينبغي أن يكون مع الفاصد منافع كثيرة، من ذوات الشعيرة، وغيرها، وكبة من حرير، أو خز، وشيء من آلة السقي، من خشب أو ريش، ويكون معه وبر الأرنب، ودواء الصبر والكندر، وصفته أن ياخذ من الكندر والصبر والمر، ودم الأخوين، من كل واحد جزء ومن العلفطار والزاج من كل واحد نصف جزء، يخلط ويعمل كالمرهم، ويرفعه لوقت الحاجة ويكون معه أيضًا نافجة مسك، وأقراص المسك.

فإذا عرض للمفصود غش بادره فألقم البضع كبة الحرير وقياه بآلة القيء، وشممه النافجة، وجرعه من أقراص المسك لتنتعش قوته، وإن حدث له / فتوق دم، من عرق أو شريان، [بادر] فحشاه بوبر الأرنب ودواء الكندر، ولا يضرب ببضع كال، فإنه كثير المضرة؛ لأنه يخطئ فلا يلحق، ويورم ويمسح رأس مبضعه بالزيت، فإنه لا يؤلم غير أنه لا يلتحم سريعاً، ويأخذ المبضع بالإبهام والوسطى، ويترك السبابة للجس، ويكون الأخذ على النصف، لئلا تضطرب يده، ولا يرفع المبضع باليد غمراً، بل بالاختلاس، ليصل طرف المبضع حشو العرق، وتوسيع المبضع في الشتاء أولى لئلا يجمد الدم، وتضييقه في الصيف لئلا يسرع إليه الغثيان ويثبت الفصد بحفظ قوة المفصود، فمن أرادها في يومه فليشق العوق موارباً، ليستلحم سريعاً وأجود البقية ما أخر يومين أو ثلاث، ومتى تغير لون الدم، أو

حدث غشي، أو ضعف في النبض، فيلبادر إلى شده ومسكه. قال صاحب كتاب الرتبة: لم أر في صناعة الفصد أحذق من رجلين رأيتهما بمدينة حلب، افتخر كل منهما على صاحبه. أحدهما: ليس غلالته، وشديده من فوقها، وانغمس في بركة ثم فصد يده في قعر الماء من فوق الغلالة. والثاني: مسك المبضع بإبهام رجله اليسرى، ثم فصد يده اليمنى. قال: واعلم أن العروق المفصودة كثيرة متفرقة في البدن، فعلى المحتسب أن يمتحنهم بمعرفتها، وبما يجاورها من العضل والشرايين أما التي في الرأس فعرق الجبهة، وهو المنتصب بين الحاجبين، وفصده ينفع من ثقل الرأس وثقل العينين، والصداع الدائم؛ وعرق فوق الهامة ينفع الشقيقة وقروح الرأس، والعرقان الملويان على الصدغين ينفعان من الرمد والدمعة وقروح الرأس وجرب الأجفان

ونتوئهما, وعرقان خلف الأذنين, يفصدان لقطع النسل, فعلى المحتسب أن يحلفهم ألا يفصدوا أحداً فيهما؛ لأن قطع النسل حرام. وعروق الشفة فصدها ينفع من قرح الفم, والقلاع وأوجاع اللثة وأورامها, والعرق الذي تحت اللسان ينفع الخوانيق وأورام اللوزتين, وأما عروق اليدين فستة, القيفال. والأكحل, والباسليق, وحبل الذراع, والأسليم, والإبطي - وهو شعبة الباسليق, وأسلم هذه العروق القيفال, ويجب أن يتنحى في فصده عن رأس العضلة إلى موضع لين ويسع بضعه إن أراد أنه بيني, أما الأكحل ففي فصده خطر عظيم, لأجل العصبة التي تحته, وربما وقعت بين عصيين, وربما كان فوقها عصبة دقيقة مدورة كالوتر؛ فيجب أن يعرف ذلك ويجتنيه.

وأما الباسليق: فعظيم الخطر أيضاً: لوقوع الشريان إذا بضع لم يرق دمه, وأما الأسيلم, فالأصوب أن يفصد طولاً, ويفصد حبل الذراع موارياً, وكلما انحدر في فصد الباسليق إلى الزراع كان أسلم, وأما عروق البدن, فعرقان على البطن, أحدهما موضوع على الكبد, والآخر على الطحال؛ ينفع فصد الأيمن منهما الاستسقاء والأيسر الطحال, وأما عروق الرجلين, فأربعة؛ منها عرق النساء, ويفصد / عند الجانب الوحشي من الكعب, فإن خفي (فلتفصد شعبته التي) بين الخنصر, والبنصر؛ ومنفعه فصده عظيمة سيما في النقرس, والدولي, وداء الغيل, ومنها عرق الصافن, وهو على الجانب الإنسي وهو أظهر من عروق النساء, وفصده ينفع من البواسير, ويدر دم الطمث, وينفع

الأعضاء التي تحت الكبد, ومنها عرق نابض الركبة, وهو مثل الصافن في النفع, ومنها العرق الذي خلف العرقوب, وكأنه شعبة من الصافن, ومنفعته مثل الصافن. وأما الشرايين المقصودة: في الغالب, فيجوز فصدها, وهي الصغار, والبعيدة من القلب, فإن هذه هي التي [يرقى] دمها إذا فصدت, وأما الشرايين الكبار القريبة الوضع من القلب, فإنه لا يرقى دمها, والتي يحوز فصدها على الأكثر شريان الصدغين, والشريان بين الإبهام, والسبابة, وقد أمر جالينوس بفصدها في المنام. وأما الحجامون: فالحجامة عظيمة المنفعة, وهي أقل خطراً من الفصد, وينبغي أن يكون الحجام خفيفاً رشيقاً, خبيراً يخف يده في الشرط, ثم يعلق المحجمة, تعليقاً خفيفاً سريع القلع, ثم يتدرج إلى إبطاء القلع والإمهال, ويمتحنه

المحتسب بوضع ورقة يلصقها على أخرى, ثم يأمره بشرطها, فإن تعدا المشراط كان ثقيل اليد, سيئ الصناعة؛ وعلامة حذقة وخفة يده ألا يؤلم المحجوم, وقد ذكر الحكماء أن الحجامة تكره في أول الشهر وفي آخره؛ لأنها في أوله لا (تكون الدماء) قد تحركت, ولا هاجت, وفي آخره نقصت, فلا يفيد شيئاً, ويستحب في وسط الشهر, إذا تكامل النور في حرم القمر, لأن الأخلاط تكون هائجة, والأدمغة زائدة في الإقحاف؛ وأفضلها الساعة الثانية, والثالثة من النهار, وأما منافعها على النقرة خليفة لفصد الأكحل, وتنفع من ثل الحاجبين, وجرب العينين, والبخر في الفم, غير أنها تورث النسيان, كما قال صلى الله عليه وسلم "إن موخر الدماغ موضع الحفظ, وتضعفه الحجامة", وعلى الكاهل خليفة

فصد الباسليق, وينفع من وجع المنكب والحلق, غير أنها تضعف فم المعدة, والحجامة في الأخدعين حليفة فصد القيفال, وينفع من وجع الوجه, والأسنان, والضرس, والعينين والأذنين, والحلق والأنف, ورعشة الرأس, غير أنها تحدث رعشة في الرأس, وتحت الدقن تنفع الوجه والأسنان والحلقوم, [وتنفى] الرأس, وعلى الهامة تنفع من اختلاط العقل والدوار, وتبطئ بالشيب؛ غير أنها تضر الذهن, وتورث بلها, وعلى الفخذين تنفع من وجع الخصيتين, وجراحات الساقين, وعلى الفخذين من خلف ينفع من الجراحات والأورام الحادثة في الاليتين, وعلى الساقين يقوم مقام الفصد, وتنقى الدم, وتدر الطمث. وأما المجبرون, فلا يحل لمجير يقدم ويتصدى للجبر إلا بعد أن يحكم له بمعرفة المقالة السادسة من كتاب قوانين في الجبر, / وأن يعلم عدد عظام الآدمي - وهي ماتتا [56 / ب

عظم, وثمانية وأربعون عظماً - وصورة كل عظم منها, وشكله وقدره, حتى إذا انكسر منها شيء رده إلى موضعه, على هيئته التي كان عليها, فيمتحنهم المحتسب بمعرفة جميع ذلك. وأما الجرانحيون: فيجب عليهم معرفة كتابين عن جالينيوس أحدهما المعروف "بقاطايس" في الجراحات, والمراهم, وأن يعرفوا التشريح وأعضاء الإنسان, وما فيه من العضل, والعرق, والشرايين, والأعصاب, ليتجنب ذلك في فتح المواد وقطع البواسير, ويكون معه دست من المباضع, فيه كدورات الشعيرات, والموربات, والحرمان وفأس الجبهة, ومنشار القطع, ومجرفة الأذن, ودور السلع, ومر همدان المراهم, ودواء الكندر والقاطع للدم الذي قدمنا صفته, وقد يبهرجون على الناس بعظام تكون معهم فيدسونها في الجرح دكا, ثم يخرجونها بمحضر من الناس, ويزعمون أن أدويتهم القاطعة أخرجتها, ومنهم من يضع مراهما

من الكلس المغسول بالزيت, ثم يصبغ لونه أحمد بالمغرة, وأخضر بالكركم, والنيل, وأسود بالفحم المسحوق, فيعتبر عليهم العريف [جميع] ذلك. وأما الأطباء: فينبغي أن يعلم أن الطب علم نظري وعملي, أباحته الشريفة المطهرة عمله وعمله, لما فه من حفظ الصحة ورفه العلل, والأمراض عن هذه البنية الشريفة, والطبيب هو العارف يتركب البدن, ومزاج الأعضاء, والأمراض الحادثة فيها, وأسبابها وأعراضها وعلاماتها, والأدوية فيها والاعتياض عما لم يوجد, والوجه في استخراجها, وطريق مداواتها, ليساوي بين الأمراض والأدوية في كمياتها, ويخالف بينهما وبين كيفياتها, فمن لم يكن بهذه الصفة, فلا يحل له مداواة المرضي ولا يجوز الإقدام على علاج تخاطر فيه, ولا أن يتسرع إلى ما لم يحكم عمله من جميع ما ذكرناه, فقد حكوا أن ملوك اليونان كانوا يجعلون في كل مدينة حكيماً مشهوراً بالحكمة, ثم يعرضون عليه بقية أطباء البلد ليمتحنهم, فمن وجده مقطراً في علمه أمره بالاشتغال بالعلم ونهاه عن المعالجة. وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه, وعماً يجده من

الألم, ثم يرتب له قانوناً من الأشربة وغيرها؛ ثم يكتب نسخة بما ذكره المريض وبما رتبة له في مقابلة مرضه, ويسلم النسخة إلى أولياء المريض, بشهادة من حضر (معه عند) المريض, فإذا كان الغد حضره, ونظر إلى دائه, سأله ورتب له قانوناً على حسب مقتضى الحال, وكتب له نسخة أيضاً, ويسلمها إليهم, ثم في اليوم الثالث كذلك, ثم في الرابع وهكذا إلى أن يبرأ المريض, أو يموت فإن برئ أخذ الطبيب أجرته وكرامته, وإن مات حضر الطبيب وأولياء المريض عند الحكيم العالم المشهور في البلد, وعرضوا عليه النسخ التي كتبا لهم, فإن رآها على مقتضى الحكمة وصناعة الطب من غير تفريط, ولا تقصير من الطبيب حمدوه, وشكروا [عمله] , وأمانته, وإن رأى الأمر بخلاف ذلك, قال لهم: خذوا دية صاحبكم منه, فإنه هو الذي قتله بسوء صناعته وتفريطه. وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد بقراط الذي أخذه على ساتر الأطباء,

ويحلفهم ألا يعطوا أحداً دواء مضراً, ولا يركبون له سما, ولا يصفون السمومات عند أحد من العامة, ولا يذكرون للنساء دواء يسقط الأجنة, ولا للرجال دواء يقطع النسل, ويمتحنهم بما ذكره حنين في كتابة المعروف محنة الطبيب. وأما محنة الطبيب لجالينيوس, فلا يكاد أحد يقوم بما شرطه عليهم, [وليغضوا] أبصارهم عن المحارم إذا دخلوا على المريض, ولا يفشون الأسرار, ولا يهتكون الأستار, وأن يكون عنده جميع آلات الطب على الكمال, وهي كلبات الأضراس والعلق, ومكاري الطحال, وذرقات,

القولنج, وزراقات الذكر, وملزم البواسير, ومخرط المناخير, ومبخل البواسير وقالت التشمير, ورصاص التثقيل, ومفتاح الرحم, وبوار النساء, ومكمدة الحشا, وفدح الشوصة, وغير ذلك مما يحتاج إليه في صناعته. وإما الكحالون: فيمتحنهم المحتسب بكتاب "حنين بن إسحاق أعني العشر مقالات في العين, فمن وجده قيما بها, عارفاً بتشريح طبقات العين السبعة, وعدد رطوباتها الثلاثة, وأمراضها الثلاثة, وما تفرع من ذلك من الأمراض, وكان خبيراً بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير, أذن له في التصدي لمداواة أعين الناس.

وينبغي له ألا يفرط بشيء من آلات صنعته؛ مثل السبل [والظفرة] ومحك الجرد، وجبهة القدح، ومباضع الفصد، ودرج المكاحل، وغير ذلك. وأما كحالين الطرقات، فلا يوثق بأكثرهم، إذ لا دين لهم يصدهم عن الهجوم على أعين الناس بالقطع، والكحل، بغير علم، ومخبرة بالأمراض والعلل الحادثة؛ فلا ينبغي لأحد أن يركن إليهم، ولا يثق بأكحالهم واشيافاتهم فإن أكثرها غشٌ ضار غير نافع؛ فيحلفهم المحتسب على ذلك إذا لم يمكنه منعهم. والله سبحانه الموفق لكل خير ويقول الفقير إلى الله تعالى (جامعه رحم الله تعالى) من عرف قدراً زائداً من غشوشهم؛ أو اطلع على ما لم أذكره في هذا الكتاب من ذلك، فيلحقه بحواشيه تقرباً إلى الله تعالى جعله الله سبحانه خالصاً لوجهه الكريم، ونفعني بما جمعته فيه، وأحبائي وسائر المسلمين.

الخاتمة في ذكر درر ملتقطة وأداب متفرقة

الخاتمة في ذكر درر ملتقطة وأداب متفرقة وختامه سؤال الله المغفرة وحسن الخاتمه

روي أنه عليه السلام قال: "انظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم". وقال عليه السلام: "أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلا ويده بيد الله تعالى". وقال عليه السلام: "لو أن الرجل كالقدح المقوم، لقال الناس فيه: لو، ولولا". وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "أفضل الصدقة جهد المقل، وأسوأ الناس حالاً من / لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحدٌ لسوء فعله، وأصبر الناس من لا يفشى سره إلى صديقه، مخافة التقلب يوماً ما، وأعجز الناس المفرط في طلب الأخوان.

وقال: "انتهزوا الفرص، فإنها تمر مر السحاب، ولا تطلبوا أثرًا بعد عينٍ". وقال: "إذا أقبلت الدنيا على رجلٍ أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عن رجلٍ سلبته محاسن نفسه، قال: بين الحق والباطل أربع أصابع، فالحق أن يقول رأيت بعيني، والباطل أن يقول: سمعت بأذني وقال المستنصر بالله: والله ما ذل ذو حق، ولو اتفق العالم عليه، ولا عز ذو باطل، ولو طلع القمر في جبينه. وسئل بعضهم عن أعدل الناس؟ فقال: "أعدلهم من أنصف من نفسه، وأجور الناس من ظلم لغيره، وأكيس الناس من أخذ أهبة الأمر قبل نزوله، وأحمق الناس من باع آخرته بدنيا غيره، وأسعد الناس من ختم له في عاقبته بخير، وأشقى الناس من اجتمع عليه فقر الدنيا، وعذاب الآخرة". وقال حكيم: "لا يكون الرجل عاقلًا، حتى يكون عنده تعنيف الناصح، ألطف موقعًا، من ملق الكاشح".

وقال آخر: "اطلب في الدنيا العلم، والمال، تحيز الرئاسة على الناس؛ لأنهم بين خاص وعام، فالخاص: تفضله بالعلم، والعام يفضلك بالمال. وقيل لحكيم: "ما يجمع القلوب على المودة؟ قال: كف بذول، وبشر جميل، ومتى يحمد الكذب؟ ، قال: إذا جمعت به بين متقاطعين، ومتى يذم الصدق]؟ قال: إذا كان غيبة، ومتى يكون الصمت خيرًا من النطق؟ قال: عند المراء. وقال ابن المقفع: إن حاججت فلا تغضب فإن الغضب يقطع عنك الحجة، ويظهر عليك الخصم. وقال أفلاطون: الملك كالنهر الأعظم، يستعمل منه الأنهار الصغار، (فلإن كان) عذبًا عذبت، وإن كان مالحًا ملحت.

وقال آخر: ولا ينبغي أن يكون كذابًا، ولا بخيلًا، ولا حسودًا، ولا جبانًا، فإنه إن كان كذابًا، ثم وعد خيرًا لم يرج، أو وعد شرًا لم يخش، وإن كان بخيلًا لم يناصحه أحد ولا يصلح الملك، إلا بالمناصحة، وإن كان حسودًا لم يشرف أحدًا، ولا تصلح الناس، إلا بأشرافهم. وإن كان جبانًا اجترأ عليه عدوه، وضاعت ثغوره. وقال آخر: فضل الملوك في الإعطاء، وشرفهم في العفو، وعزهم في العدل. وقال أبو مسلم الخراساني: خاطر من ركب البحر، وأشد منه مخاطرة، من داخل الملوك، ومن أوصاف الملك الجميلة: حسن العهد، ومراعاة سالف المعرفة". دخل رجل من بني شيبان على معن بن زائدة فعاتبه على التأخر عنه بعد

الولاية، وكان صديقه قبل ذلك فقال الرجل: أبقى الله الأمير في نعمةٍ زائدةٍ، وكرامةٍ دائمةٍ، ما غاب عن العين من ذكره القلب، وما زال شوقي عظيم، وهو دون ما يجب لك علي، وذكري للكثير وهو دون قدرك، ولكن جفوة الحجاب، وقطوب الغلمان، وقلة بشرهم، يمنعني من إتيانك، فتقدم معن بتسهيل حجابه. ينبغي لمسامر السلطان ومنادمه / أن يكون فصيحًا، بليغًا، عارفًا بما يورده من الأخبار والأحاديث، مقتصرًا على ما يفيد غير متجاوز لما يريد، فليست البلاغة بكثرة الكلام، ولكنها بإصابة المعنى. قال الحجاج لابن القبعثري: ما أوجز الكلام؟ قال: أن يسرع فلا يبطئ، وأن يصيب فلا يخطئ". وينبغي لمن آنسه السلطان بمؤاكلته، وشرفه بحضور مائدته ألا ينبسط في المطعم بين يديه، ولا يشره، ولا يشبع إلا أن يكون أخًا للملك، أو قريب له، أو صديق، ولا يضع يده معه في إناءٍ واحد، وليعلم أن حظه من مؤاكلة الملك، الرتبة، والشرف، لا غيره.

فإن موائد الملوك للتشرف لا للسرف، وينبغي لمن يساير السلطان، أن يكون عالمًا بالطرق والمنازل، فكه الحديث، عالمًا بأخبار الناس، شديد التحرز فيما يورده، من نادرةٍ، أو مثلٍ. كان حارثة ابن زيد الغداني ذا بيان وفصاحة، وكان كثيرًا ما يساير زيادًا إذا ركب. وكان حارثة منهومًا بالشراب فعوتب زياد على الاستئثار به، فقال: كيف أطرح رجلًا يسايرني منذ دخلت العراق، فلم يصكك ركابه ركابي قط [تقدمني] فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ الشمس علي في شتاء، ولا اظل والروح في صيف، ولا سألته عن شيءٍ من العلم إلا قدرت أنه لا يحسن غيره. وينبغي للملك أن يكثر من فرش مرقده ... كانت ملوك الفرس يجعلون للملك منهم أربعين فراشًا، في أربعين موضعًا مختلفةً، ليس فيها فراش يراه أحد إلا ويظن أنه فراش الملك، وأنه نائم فيه. ولا ينبغي لأحد أن يطلع على الموضع الذي ينام فيه الملك إلا الوالدان خاصةً، أما الولد وسائر الأقارب فلا.

ومن كلام الفضل بن الربيع: "إياكم ومخاطبة الملوك بكلما يقتضي جوابًا؛ لأنهم إن أجابوكم اشتد عليهم، وإن لم يجيبوكم اشتد عليكم. وقال معاوية لأبي الجهم العدوي: أنا أكبر أم أنت يا أبا الجهم؟ فقال: لقد أكلت في عرس أمك، قال: عند أي أزواجها؟ . قال في عرس حفص بن المغيرة، فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان، فإنه يغضب غضب الصغير، ويعاقب عقوبة الأسد، وأن قليله يغلب كثير الناس. وقال عبد الله بن طاهر: من دخل إلى الملوك، فليدخل أعمى وليخرج

أخرس. وكان هرمز بن سابور يقول نحن كالنار من قاربها عظم عليه ضررها، ومن باعدها لم ينتفع بها. وقال أبو سلمة الخلال: وزير السفاح: خاطر من ركب البحر، وأشد منه مخاطرة من داخل الملوك". وقال رستم: السيد إذا كلف عبده ما لا يطيقه، فقد أقام عذره في مخالفته، وقال سابور بن أزدشير: انحطاط ألف من علية الناس، أحمد عاقبةً من ارتفاع واحد من السفلة. وكان يقال: ينبغي على الملك أن يعنى بترفيه جسمه، وتحسين ذكره، وتنفيذ أمره. وقال صلى الله عليه وسلم: إن لله أقوامًا يختصهم بنعمه لمنافع العباد،

فيقرها في أيديهم ما بذلوها /، فإذا منعوها انتزعها منهم إلى غيرهم. في كتب الفرس إن سألت فاسأل من كان في غنى، ثم افتقر، فإن عز الغني يبقى في قلبه أربعين سنة، ولا تسأل من كان في فقر ثم استغنى؛ فإن ذل الفقير يبقى في قلبه أربعين سنة. وجد مكتوب على صنمٍ: حرامٌ على النفس الخبيثة أن تخرج من هذه الدنيا حتى تسئ إلى من أحسن إليها. وقال عمر رضي الله عنه: أشقى الولاة من شقيت به رعيته، وكان يقول: لو ماتت سخلةٌ بشاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها.

وقال أبو مسلم الخولاني لمعاوية: يا معاوية إنك إن عملت خيرًا، جزيت خيرًا، وإن عملت شرًا، جزيت شرًا، إنك لو عدلت بين أهل الأرض، ثم جرت على واحدٍ منهم، لما وفي جورك بعدلك، ورأيت في سلوان المطاع. روي أن سليمان بن عبد الملك قال لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين أعجبه ما صار إليه من الخلافة: يا عمر كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال عمر: يا أمير المؤمنين هذا سرورٌ لولا أنه غرور، ونعيمٌ لولا أنه عديمٌ، وملكٌ لولا أنه هلكٌ، وفرحٌ لو لم يعقبه ترحٌ، ولذات لو لم تقرن بآفات، وكرامة لو صحبتها سلامة، فبكى سليمان حتى اخضلت لحيته. وكان المنصور يقول: لذة العفو ألذ من لذة التشفي؛ لأن لذة العفو يتبعها حميد العاقبة، ولذة الانتقام يتبعها سوء العاقبة. وكان المقتدر بالله يقول: لم يملكنا الله الدنيا لننسى نصيبنا منها، ولم يوسع علينا لنضيق على من في ظلالنا.

حكى أن ناصر الدولة الحمداني سخط على كاتب له، [وأمره بلزوم بيته، فاستؤذن في قطع معلومه، فقال: إن الملوك يؤدبون بالهجران، ولا يعاقبون بالحرمان، وخوطب خوارزم شاة في أسقاط جراية بعض خدمه، فقال: لا أحب توفير مالي بنقصان أتباعي. وقال أنو شروان: مثل الملك الذي يعمر خزائنه بأموال رعيته، كمثل من يطين سطح بيته بالتراب الذي يقتلعه من أساسه وإذا رغبت الملوك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة. وكان يقال: كيمياء الملوك العمارة، ولا تحسن لهم التجارة. وقال طهماسف: العمارة، كالحياة، والخراب كالموت، وبناء كل ملك على قدر همته، وأعقل الملوك أبصرهم بعواقب الأمور.

وقال بنو جمهر: الملك للرعية كالروح للجسد، والرأس للبدن. وقال خسرو ابن فيروز: قلوب الرعية خزائن ملكها، فما أودعه إياها وجده فيها. وقال أفقور شاه: شجر الملك لا يثمر حتى يسقى بماء قلوب الرعية، وينبغي على الملك أن يعرف للناصح قدره، ويشكره ويظهر له بشره، فإن سمع فيه أقاويل الأعداء بطل نصحه، وكان له العذر، وقال أبو محمد العامري أحق الناس بالمودة، أبذلهم للنصيحة. وقال الإسكندر: لا تستحقر بالرأي الجليل، يأتيك به الرجل الحقير؛ فإن الدرة الفائقة لا تستهان، لهوان غائصها. وقال بطليموس الثاني: خذ الدرة من البحر، والذهب من الحجر، والمسك من الفارة، والحكمة ممن قالها.

وقال الأحنف: كل / ملكٍ غدار، وكل دابةٍ شرود، وكل امرأةٍ خؤون. وقال خاقان ملك الخرز: من طباع الملوك إنكارهم القبيح من غيرهم، واحتمالهم إياه من أنفسهم. وقال خودرز: لا تثق بمودة الملوك؛ فإنهم يوحشونك من أنفسهم، أنس ما كنت منهم، وقال النعمان بن المنذر: الملك حلو المطعم، مر التكاليف. وقال قابوس: لذة الملوك فيما لا يشاركهم فيه العامة من معالي الأمور. وقال حكيمٌ: إذا ساوى (الوزير الملك) في زيه وماله وطاعة الناس له؛ فليصرعه، وإلا فليعلم أنه المصروع. وقال آخر: من شارك السلطان في عز الدنيا، شاركه في ذل الآخرة.

وينبغي لمن خصه الله بمنصب الملك، أن يكون من (أشد الناس) خوفًا وإشفاقًا على نفسه، طويل الفكرة في عواقب الأمور، والنظر في مصالح المسلمين، ورفع الأذى عنهم؛ لأنه إمامهم وهم رعيته، وهو مسئول عنهم لا محالة. روى أن لقمان عليه السلام: نودي إني جعلتك خليفة في الأرض. فقال: إن أجبرني ربي فسمعًا وطاعة، وإن خيرني اخترت العافية، (فأولاه الله العافية)، وصرف الخلافة عنه إلى داود عليه السلام، فكان إذا رآه داوود، يقول: وقيت الفتنة يا لقمان. وروي أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: تضرعت إلى ربي سنة أن يريني أبي في النوم، حتى رأيته، وهو يمسح العرق عن جبينه، فسألته فقال: لولا رحمة ربي لهلك أبوك، إنه سألني عن عقال بعير الصدقة، وحياض الإبل، فكيف الناس؟ ". ولما سمع بهذا عمر بن عبد العزيز صاح، وضرب يده على رأسه، وقال فعل هذا بالتقي الطاهر، فكيف بالمترف بن المترف عمر بن عبد العزيز.

سسس

تكون عاقبة أمره، وبماذا يختم به أجله؟ ، أخيرًا؟ ، أم شرًا والعياذ بالله تعالى؟ ، فهذه هي الليلة العظيمة التي تقصم الظهور، وتفتت القلوب، وتذيب الأكباد، وهي خوف نزع المعرفة من القلب، عند الخاتمة والعياذ بالله تعالى. فقد وقع ذلك لكثير من الأكابر المشهورين بالعلم والصلاح، نسأل الله السلامة. ففي صحيح البخاري: ويذكر عن الحسن ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق. روينا عن الحافظ أبي نعيم في كتابه الحلية، بسنده إلى وهب بن منبه، أنه قال في قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا ختم له بخير عمله، وإذا أراد به شرًا، ختم له بشر عمله نسأل الله حسن الخاتمة. وحكى الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: في كتابه "منهاج العابدين"، وغيره عن يوسف بن أسباط. أنه قال: دخلت على سفيان الثوري. فبكى ليله

§1/1