بدائع الفوائد

ابن القيم

المجلد الأول

المجلد الأول المجلد الأول ... بدائع الفوائد تأليف: ابن قيم الجوزية بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على رسولنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم قال الشيخ الإمام العالم الأوحد البارع أوحد الفضلاء. وقدوة العلماء. وإرث الأنبياء شيخ الإسلام مفتي الأنام المجتهد المفسر ترجمان القرآن. ذو الفوائد الحسان أبو عبدا لله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية رحمه الله وأدخله الجنة آمين الحمد لله ولا قوة إلا بالله هذه فوائد مختلفة الأنواع فائدة: حقوق المالك شيء وحقوق الملك شيء آخر فحقوق المالك تجب لمن له على أخيه حق وحقوق الملك تتبع الملك ولا يراعى بها المالك وعلى هذا حق الشفعة للذمي على المسلم من أوجبه جعله من حقوق الأملاك ومن أسقطه جعله من حقوق المالكين والنظر الثاني أظهر وأصح لأن الشارع لم يجعل للذمي حقا في الطريق المشترك عند المزاحمة فقال: "إذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " فكيف يجعل له حقا في انتزاع الملك المختص به عند التزاحم وهذه حجة الإمام أحمد نفسه وأما حديث " لا شفعة لنصراني" منكر فاحتج به بعض أصحابه وهو أعلم من أن يحتج به فإنه من كلام بعض التابعين.

فائدة: تمليك المنفعة وتمليك الانتفاع شيء آخر فالأول يملك به الانتفاع والمعاوضة والثاني يملك به الانتفاع دون المعاوضة وعليها إجارة ما استأجره لأنه ملك المنفعة بخلاف المعارضة على البضع فإنه لم يملكه وإنما ملك أن ينتفع به وكذلك إجارة ما ملك أن ينتفع به من الحقوق كالجلوس بالرحاب وبيوت المدارس والربط ونحو ذلك لا يملكها لأنه لم يملك المنفعة وإنما ملك الانتفاع وعلى هذا الخلاف تخرج إجارة المستعار فمن منعها كالشافعي وأحمد ومن تبعهما قال لم يملك المنفعة وإنما ملك الانتفاع ومن جوزها كمالك ومن تبعه قال هو قد ملك المنفعة ولهذا يلزم عنده بالتوقيت ولو أطلقها لزمت في مدة ينتفع بمثلها عرفا فليس له الرجوع قبلها. فائدة: قولهم: إذا كان للحكم سببان جاز تقديمه على أحدهما ليس بجيد وفي العبارة تسامح والحكم لا يتقدم سببه بل الأولى أن يقال إذا كان للحكم سبب وشرط جاز تقديمه على شرطه دون سببه وأما تقديمه عليهما أو على سببه فممتنع ولعل النزاع لفظي فإن شرط الحكم من جملة أسبابه المعتبرة في ثبوته فلو قدمت الظهر مثلا على الزوال والجلد على الشرب والزنا لم يجز اتفاقا وأما إذا كان له سبب وشرط فله ثلاثة أحوال أحدها: أن يتقدم عليهما فلغو والثاني: أن يتأخر عنهما فمعتبر صحيح والثالث: أن يتوسط بينهما فهو مثار الخلاف وله صور إ حداها: كفارة اليمين سببها الحلف وشرطها الحنث فمن جوز توسطها راعى التأخر عن

السبب ومن منعه رأى أن الشرط جزء من السبب الثانية: وجوب الزكاة سببه النصاب وشرطه الحول ومأخذ الجواز وعدمه ما ذكرناه الثالثة: لو كفر قبل الجرح كان لغوا وبعد القتل معتبر وبينهما مختلف فيه الرابعة: لو عفا عن القصاص قبل الجرح فلغو وبعد الموت عفو الوارث معتبر وبينهما ينفذ أيضا الخامسة: إذا أخرج زكاة الحب قبل خروجه لا يجزي وبعد يبسه يعتبر وبين نضجه ويبسه كذلك السادسة: إذا أذن الورثة في التصرف فيما زاد على الثلث قبل المرض فلغو وإجازتهم بعد الموت معتبرة وإذنهم بعد المرض مختلف فيه فأحمد بن حنبل رضي الله عنه لا يعتبره لأنه إجازة من غير مالك ومالك بن أنس رضي الله عنه يعتبره وقوله أظهر السابعة: إذا أسقطا الخيار قبل التبايع ففيه خلاف فمن منعه نظر إلى تقدمه على السبب ومن أجازه وهو الصحيح قال: الفرق بينهما أنهما قد عقدا العقد على هذا الوجه فلم يتقدم هنا الحكم على سببه أصلا فإنه لم يثبت وسقط بعد ثبوته وقبل سببه بل تبايعا على عدم ثبوته وكأنه حق لهما رضيا بإسقاطه وعدم انعقاده وتجرد السبب عن اقتضائه فمن جعل هذه المسألة من هذه القاعدة فقد فاته الصواب ونظيرها سواء إسقاط الشفعة قبل البيع فمن لم ير سقوطها قال هو تقديم للحكم على سببه وليس بصحيح بل هو إسقاط لحق كان بعرض الثبوت فلو أن الشفعة ثبتت ثم سقطت قبل البيع لزم ما ذكرتم ولكن صاحبها رضي بإسقاطها وأن لا يكون البيع سببا لأخذه بها فالحق له وقد أسقطه وقد دل النص على سقوط الخيار والشفعة قبل البيع وصار هذا كما لو أذن له في إتلاف ماله وأسقط الضمان عنه قبل الإتلاف فإنه لا يضمن اتفاقا فهذا موجب النص والقياس وأما إذا أسقطت المرأة حقها من النفقة والقسم فلها الرجوع فيه ولا يسقط لأن الطباع لا تصبر على ذلك ولا تستمر عليه لتجدد اقتضائها له كل وقت بخلاف إسقاط الحقوق الثابتة دفعة كالشفعة والخيار ونحوهما فإنها قد توطن النفس على إسقاطها وأشباهها لا تتجدد فافهمه.

فائدة: الفرق بين الشهادة والرواية أن الرواية يعم حكمها الراوي وغيره على ممر الأزمان والشهادة تخص المشهود عليه وله ولا يتعداهما إلا بطريق التبعية المحضة فإلزام المعين يتوقع منه العداوة وحق المنفعة والتهمة الموجبة للرد فاحتيط لها بالعدد والذكورية وردت بالقرابة والعداوة وتطرق التهم ولم يفعل مثل هذا في الرواية التي يعم حكمها ولا يخص فلم يشترط فيها عدد ولا ذكورية بل اشترط فيها ما يكون مغلبا على الظن صدق المخبر وهو العدالة المانعة من الكذب واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط شهادة المرأة والعبد لما كان النساء ناقصات عقل ودين لم يكن من أهل الشهادة فإذا دعت الحاجة إلى ذلك قويت المرأة بمثلها لأنه حينئذ أبعد من سهوها وغلطها لتذكير صاحبتها لها وأما اشتراط الحرية ففي غاية البعد ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع وقد حكى أحمد عن أنس بن مالك أنه قال: "ما علمت أحدا رد شهادة العبد والله تعالى يقبل شهادته على الأمم يوم القيامة فكيف لا يقبل شهادته على نظيره من المكلفين وتقبل شهادته على الرسول في الرواية فكيف لا يقبل على رجل في درهم ولا ينتقض هذا بالمرأة لأنها تقبل شهادتها مع مثلها لما ذكرناه والمانع من قبول شهادتها وحدها منتف في العبد وعلى هذه القاعدة مسائل أحدها الإخبار عن رؤية هلال رمضان من اكتفى فيه بالواحد جعله رواية لعمومه للمكلفين فهو كالأذان ومن اشترط فيه العدد ألحقه بالشهادة لأنه لا يعم الأعصار ولا الأمصار بل يخص تلك السنة وذلك المصر في أحد القولين وهذا ينتقض بالأذان نقضا لا محيص عنه وثانيها الإخبار بالنسب بالقافة فمن حيث أنه خبر جزئي عن شخص جزئي يخص ولا يعم جرى مجرى الشهادة ومن جعله كالرواية غلط فلا مدخل لها هنا بل الصواب أن يقال من حيث هو منتصب للناس انتصابا

عاما يستند قوله إلى أمر يختص به دونهم من الأدلة والعلامات جرى مجرى الحاكم فقوله حكم لا رواية الجرح للمحدث والشاهد ومن هذا الجرح للمحدث والشاهد هل يكتفي فيه بواحد إجراء له مجرى الحكم أو لابد من اثنين إجراء له مجرى الشهادة على الخلاف وأما أن يجري مجرى الرواية فغير صحيح وأما للرواية والجرح وإنما هو يجرحه باجتهاده لا بما يرويه عن غيره الترجمة للفتوى والخط والشهادة وغيرها هل يشترط فيها التعدد مبني على هذا ولكن بناءه على الرواية والشهادة صحيح ولا مدخل للحكم هنا التقويم للسلع من اشترط العدد رآه شهادة ومن لم يشترطه أجراه مجرى الحكم لا الرواية القاسم هل يشترط تعدده على هذه القاعدة والصحيح الاكتفاء بالواحد لقصة عبد الله بن رواحة تسبيح المصلي بالإمام هل يشترط أن يكون المسبح اثنين فيه قولان مبنيان على هذه القاعدة المخبر عن نجاسة الماء هل يشترط تعدده فيه قولان الخارص والصحيح في هذا كله الاكتفاء بالواحد كالمؤذن وكالمخبر بالقبلة وأما تسبيح المأموم بإمامة ففيه نظر المفتي يقبل واحدا اتفاقا الإخبار عن قدم العيب وحدوثه عند التنازع والصحيح الاكتفاء فيه بالواحد كالتقويم والقائف وقالت المالكية لا بد من اثنين ثم تناقضوا فقالوا إذا لم يوجد مسلم قبل من أهل الذمة. فائدة: قول الواحد في هلال رمضان. إذا كان المؤذن يقبل قوله وحده مع أن لكل قوم فجرا وزوالا وغروبا يخصهم فلأن يقبل قول الواحد في هلال رمضان أولى وأحرى. فائدة: يقبل قول الصبي والكافر والمرأة في الهدية والاستئذان وعليه عمل الأمة

قديما وحديثا وذلك لما احتف بأخبارهم من القرائن التي تكاد تصل إلى حد القطع في كثير من الصور مع عموم البلوى بذلك وعموم الحاجة إليه فلو أن الرجل لا يدخل بيت الرجل ولا يقبل هديته إلا بشاهدين عدلين يشهدان بذلك حرجت الأمة وهذا تقرير صحيح لكن ينبغي طرده وإلا وقع التناقض كما إذا اختلفا في متاع البيت فإن القرائن التي تكاد تبلغ القطع تشهد بصحة دعوى الرجل لما هو من شأنه والمرأة لما يليق بها ولهذا قبله الأكثرون وعليه تخرج حكومة سليمان بين المرأتين في الولد وهي محض الفقه وقد حكى علي بن حزم في مراتب الإجماع إجماع الأمة على قبول قول المرأة الواحدة في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العرس وهو كما ذكر وقد اجتمع في هذه الصورة من قرائن الأحوال من اجتماع الأهل والقرابات وندرة التدليس والغلط في ذلك مع شهرته وعدم المسامحة فيه ودعوى ضرورات الناس إلى ذلك ما أوجب قبول قولها. فائدة: الخبر قبول قول القصاب في الذكاة ليس من هذا الباب بشيء بل هو من قاعدة أخرى وهي أن الإنسان مؤتمن على ما بيده وعلى ما يخبر به عنه فإذا قال الكافر هذه ابنتي جاز للمسلم أن يتزوجها وكذا إذا قال هذا مالي جاز شراؤه وأكله فإذا قال هذا ذكيته جاز أكله فكل أحد مؤتمن على ما يخبر به مما هو في يده فلا يشترط هنا عدالة ولا عدد فائدة: تقسيم الخبر. الخبر إن كان عن حكم عام يتعلق بالأمة فإما أن يكون مستنده السماع فهو الرواية وإن كان مستنده الفهم من المسموع فهو الفتوى وإن كان

خبرا جزئيا يتعلق بمعين مستنده المشاهدة أو العلم فهو الشهادة وإن كان خبرا عن حق يتعلق بالمخبر عنه والمخبر به هو مستمعه أو نائبه فهو الدعوى وإن كان خبرا عن تصديق هذا الخبر فهو الإقرار وإن كان خبرا عن كذبه فهو الإنكار وإن كان خبرا نشأ عن دليل فهو النتيجة وتسمى قبل أن يحصل عليها الدليل مطلوبا وإن كان خبرا عن شيء يقصد منه نتيجته فهو دليل وجزؤه مقدمة. فائدة: معاني لفظ شهد. شهد في لسانهم لها معان أحدها الحضور ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وفيه قولان أحدهما: من شهد المصر في الشهر والثاني: من شهد الشهر في المصر وهما متلازمان والثاني: الخبر ومنه شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله "نهى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح " رواه مسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم والثالث: الإطلاع على الشيء ومنه: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وإذا كان كل خبر شهادة فليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح وعن أحمد فيها ثلاث روايات إحداهن: اشتراط لفظ الشهادة والثانية: الاكتفاء بمجرد الإخبار اختارها شيخنا والثالثة: الفرق بين الشهادة على الأقوال وبين الشهادة على الأفعال فالشهادة على الأقوال لا يشترط فيها لفظ الشهادة وعلى الأفعال يشترط لأنه إذا قال سمعته يقول فهو بمنزلة الشاهد على رسول الله فيما يخبر عنه. فائدة: الاختلاف في حد الخبر اختلف أبو المعالي ابن الباقلاني في قولهم في حد الخبر إنه الذي يحتمل التصديق والتكذيب فقال أبو المعالي يتعين أن يقال يحتمل الصدق أو الكذب

لأنهما ضدان فلا يقبل إلا أحدهما وقال القاضي: "بل يقال يحتمل الصدق والكذب" وقوله أرجح إذ التنافي إنما هو بين المقبولين لا بين القبولين ولا يلزم من تنافي المقبولات تنافي القبولات ولهذا يقال الممكن يقبل الوجود والعدم وهما متناقضان والقبولان يجب اجتماعهما له لذاته لأنه لو وجد أحد القبولين دون الآخر لم يكن ممكنا فإنه لو لم يقبل الوجود كان مستحيلا ولو لم يقبل العدم كان واجبا فلا يتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين وإن تنافى المقبولان وكذلك نقول الجسم يقبل الأضداد فقبولاتها مجتمعة والمقبولات متنافية. فائدة: الإنشاءات التي صيغها أخبار اختلف في الإنشاءات التي صيغها أخبار ك بعت وأعتقت فقالت الحنفية هي أخبار وقالت الحنابلة والشافعية هي إنشاءات لا أخبار لوجوه أحدها لو كانت خبرا لكانت كذبا لأنه لم يتقدم منه مخبره من البيع والعتق وليست خبرا عن مستقبل وفي هذا الدليل شيء لأن لهم أن يقولوا إنها إخبارات عن الحال فخبرها مقارن للتكلم بها الثاني لو كانت خبرا فإما صدقا وإما كذبا وكلاهما ممتنع أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن صدقها متوقف على تقدم أحكامها إما أن تتوقف عليها فلزم الدور أو لا يتوقف وذلك محال لأنه لا توجد أحكامها بدونها ولقائل أن يقول: هو دور معية لا تقدم فليس بممتنع الثالث أنها لو كانت إخبارات فإما عن الماضي أو الحال ويمتنع مع ذلك تعليقها بالشرط لأنه لا يعمل إلا في مستقبل وإما عن مستقبل وهي محال لأنه يلزم تجردها عن أحكامها في الحال كما لو صرح بذلك وقال: ستصيرين طالقا ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون خبرا عن الحال قولكم يمتنع تعليقها بالشرط قلنا إذا علقت بالشرط لم تبق إخبارا عن الحال بل إخبارا عن المستقبل فالخبر عن الحال الإنشاء المطلق وأما المعلق فلا

الرابع: أنه وقال لمطلقة رجعية أنت طالق لزمه طلقة أخرى مع أن خبره صدق فلما لزمه أخرى دل على أنهما إنشاء ولقائل أن يقول: لما قلنا هي خبر عن الحال بطل هذا الإلزام. الخامس: أن امتثال قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أن يقول أنت طالق وليس هذا تحريما فإن التحريم والتحليل ليس إلى المكلف وإنما إليه أسبابهما وليس المراد بالأمر أخبروا عن طلاقهن وإنما المراد إنشاء أمر يترتب عليه تحريمهن ولا نعني بالإنشاء إلا ذلك ولقائل أن يقول: المأمور به هو السبب الذي يترتب عليه الطلاق فهنا ثلاثة أمور الأمر بالتطليق وفعل المأمور به وهو التطليق والطلاق وهو التحريم الناشيء عن السبب فإذا أتى بالخبر عما في نفسه في التطليق فقد وفى الأمر حقه وطلقت السادس: أن الإنشاء هو المتبادر إلى الفهم عرفا وهو دليل الحقيقة ولهذا لا يحسن أن يقال فيه صدق أو كذب ولو كان خبرا لحسن فيه أحدهما وقد أجيب عن هذه الأدلة بأجوبة أخرى فأجيب عن الأول بأن الشرع قدر تقدم مدلولات هذه الأخبار قبل التكلم بها بالزمن الفرد ضرورة الصدق والتقدير أولى من النقل عن الثاني أن الدور غير لازم فإن هنا ثلاثة أمور مترتبة فالنطق باللفظ لا يتوقف على شيء وبعده تقدير تقدم المدلول على اللفظ وهو غير متوقف عليه في التقدير وإن توقف عليه في الوجود وبعده لزوم الحكم ولا يتوقف اللفظ عليه وإن توقف هو على اللفظ عن الثالث إما يلزم أنها إخبارات عن الماضي ولا يتعذر التعليق فإن الماضي نوعان ماض تقدم مدلوله عليه قبل النطق به من غير تقدير فهذا يتعذر تعليقه والثاني ماض بالتقدير لا التحقيق فهذا يصح تعليقه وبيانه أنه إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار فقد أخبر عن طلاق امرأته بدخول الدار فقدرنا هذا الارتباط قبل تطليقها بالزمن الفرد ضرورة الصدق وإذا قدر الارتباط قبل النطق صار الخبر عن الارتباط ماضيا إذ حقيقة الماضي هو الذي تقدم مخبره خبره إما تحقيقا وإما تقديرا وعلى هذا فقد اجتمع الماضي والتعليق ولم يتنافيا عن الرابع أن المطلقة الرجعية إن أراد بقوله لها أنت

طالق الخبر عن طلقة ماضية لم يلزمه ثانية وإن أراد الخبر عن طلقة ثانية فهو كذب لعدم وقوع الخبر فيحتاج إلى التقدير ضرورة التصديق فيقدر تقدم طلقة قبل طلاقه بالزمن الفرد يصح معها الكلام فيلزمه وعن الخامس أن الأمر متعلق بإيجاد خبر يقدر الشارع قبله الطلاق فيلزم به لا أنه متعلق بإنشاء الطلاق حتى يكون اللفظ سببا كما ذكرتموه بل هو علامة ودليل على الوقوع وإنما ينتفي الطلاق عند انتفائه كانتفاء المدلول لانتفاء دليله وعلاماته ولا يقال لا يلزم من نفي الدليل نفي المدلول فإن هذا لازم في الشرعيات لأنها إنما تثبت بأدلتها فأدلتها أسباب ثبوتها عن السادس فهو أقواها وقد قيل إنه لا يمكن الجواب عنه إلا بالمكابرة فإنا نعلم بالضرورة أن من قال لامرأته أنت طالق لا يحسن أن يقال له صدقت ولا كذبت فهذه نهاية أقدام الطائفتين في هذا المقام وفصل الخطاب في ذلك أن لهذه الصيغ نسبتين نسبة إلى متعلقاتها الخارجية فهي من هذه الجهة إنشاءات محضة كما قالت الحنابلة والشافعية ونسبة إلى قصد المتكلم وإرادته وهي من هذه الجهة خبر عما قصد إنشاءه كما قالت الحنفية: "فهي إخبارات بالنظر إلى معانيها الذهنية إنشاءات بالنظر إلى متعلقاتها الخارجية" وعلى هذا فإنما لم يحسن أن يقال بالتصديق والتكذيب وإن كانت أخبارا لأن متعلق التصديق والتكذيب النفي والإثبات ومعناهما مطابقة الخبر لمخبره أو عدم مطابقته وهنا المخبر حصل بالخبر حصول المسبب بسببه فلا يتصور فيه تصديق ولا تكذيب وإنما يتصور التصديق والتكذيب في خبر لم يحصل مخبره ولم يقع به كقولك قام زيد فتأمله فإن قيل: فما تقولون في قول المظاهر أنت علي كظهر أمي هل هو إنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب والله سبحانه قد كذبهم هنا في ثلاثة مواضع أحدها في قوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} فنفى ما أثبتوه وهذا حقيقة التكذيب ومن طلق امرأته لا يحسن أن يقال ما هي مطلقة والثاني قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} والإنشاء لا يكون منكرا وإنما يكون المنكر هو

الخبر والثالث أنه سماه زورا والزور هو الكذب وإذا كذبهم الله دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء الثالث أن الظهار محرم وليست جهة تحريمه إلا كونه كذبا والدليل على تحريمه خمسة أشياء الأول ما وصفه بالمنكر والثاني وصفه بالزور والثالث أنه شرع فيه الكفارة ولو كان مباحا لم يكن فيه كفارة والرابع أن الله قال: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} والوعظ إنما يكون في غير المباحات والخامس قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} والعفو والمغفرة إنما يكونان عن الذنب وإن قلتم: هو إخبار هو باطل من وجوه أحدها أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله في الإسلام تحريما تزيله الكفارة وهذا متفق عليه بين أهل العلم ولو كان خبرا لم يوجب التحريم فإنه إن كان صدقا فظاهر وإن كان كذبا فأبعد له من أن يترتب عليه التحريم والثاني أنه لفظ يوجب حكمه الشرعي بنفسه وهو التحريم وهذا حقيقة الإنشاء بخلاف الخبر فإنه لا يوجب حكمه بنفسه فسلب كونه إنشاء مع ثبوت حقيقة الإنشاء فيه جمع بين النقيضين وثالثها أن إفادة قوله أنت علي كظهر أمي للتحريم كإفادة قوله أنت حرة وأنت طالق وبعتك ووهبتك وتزوجتك ونحوها لأحكامها فكيف يقولون هذه إنشاءات دون الظهار وما الفرق أما الفقهاء فيقولون الظهار إنشاء ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك وقال: الصواب إنه إخبار وأجاب عما احتجوا به من كونه إنشاء قال: أما قولهم كان طلاقا في الجاهلية فهذا لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون العصمة عند النطق به فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء كما زعمتم أو لكونه كذبا وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد ونحو ذلك قال وأما قولكم: إنه يوجب التحريم المؤقت وهذا حقيقة الإنشاء لا الإخبار فلا نسلم أن ثم تحريما ألبتة والذي دل عليه القرآن وجوب تقديم الكفارة على الوطء كتقديم الطهارة على الصلاة فإذا قال الشارع لا تصل حتى تتطهر لا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه بل ذلك نوع ترتيب سلمنا أن الظهار ترتب

عليه تحريم لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له ودلالته عليه وهذا هو الإنشاء وقد يكون عقوبة محضة كترتيب حرمان الإرث على القتل وليس القتل إنشاء للتحريم وكترتب التعزير على الكذب وإسقاط العدالة به فهذا ترتيب بالوضع الشرعي لا بدلالة اللفظ وحقيقة الإنشاء أن يكون ذلك وضع لذلك الحكم ويدل عليه كصيغ العقود فسببية القول أعم من كونه سببا بالإنشاء أو بغيره فكل إنشاء سبب وليس كل سبب إنشاء فالسببية أعم فلا يستدل بمطلقها على الإنشاء فإن الأعم لا يستلزم الأخص فظهر الفرق بين ترتب التحريم على الطلاق وترتبه على الظهار قال وأما قولكم إنه كالتكلم بالطلاق والعتاق والبيع ونحوها فقياس في الأسباب فلا نقبله ولو سلمناه فنص القرآن يدفعه وهذه الاعتراضات عليهم باطلة أما قوله إن كونه طلاقا في الجاهلية لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق إلى آخره فكلام باطل قطعا فإنهم لم يكونوا يقصدون الإخبار الكذب ليترتب عليه التحريم بل كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادة للطلاق ولم يكونوا عند أنفسهم كاذبين ولا مخبرين وإنما كانوا منشئين للطلاق به ولهذا كان هذا ثابتا في أول الإسلام حتى نسخه الله بالكفارة في قصة خولة بنت ثعلبة كانت تحت عبادة بن الصامت حسن فقال لها أنت علي كظهر أمي فأتت رسول الله فسألته عن ذلك فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمت عليه فقالت: يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي فقال: حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقال: رسول الله ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء" فجعلت تراجع رسول الله وإذا قال لها حرمت عليه هتفت وقالت أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكوا إليك وكان هذا أول ظهار في الإسلام فنزل الوحي على رسول الله فلما قضى الوحي قال: ادعي زوجك" فتلا عليه رسول

الله صلى الله عليه وسلم: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} فهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالكفارة وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند ولادتها عشرة أبطن ونحوه فإنه ليس هناك لفظ إنشاء يقتضي التحريم بل هو شرع منهم لهذا التحريم عند هذا السبب وأما قوله إنا لا نسلم أنه يوجب تحريما فكلام باطل فإنه لا نزاع بين الفقهاء أن الظهار يقتضي تحريما تزيله الكفارة فلو وطئها قبل التكفير أثم بالإجماع المعروف من الدين والتحريم المؤقت هنا كالتحريم بالإحرام وبالصيام والحيض وأما تنظيره بالصلاة مع الطهر ففاسد فإن الله أوجب عليه صلاة بطهر فإذا لم يأت بالطهر ترك ما أوجب الله عليه فاستحق الإثم وأما المظاهر فإنه حرم على نفسه امرأته وشبهها بمن تحرم عليه فمنعه الله من قربانها حتى يكفر فهنا تحريم مستند إلى طهارة وفي الصلاة لا تجزي منه بغير طهر لأنها غير مشروعة أصلا وقوله التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له وقد يكون عقوبة إلى آخر جوابه أنهما غير متنافيين في الظهار فإنه حرام تحرم به تحريما مؤقتا حتى يكفر وهذا لا يمنع كون اللفظ إنشاء كجمع الثلاث عند من يوقعها والطلاق في الحيض فإنه يحرم ويتعقبه التحريم وقد قلتم إن طلاق السكران يصح عقوبة له مع أنه لو لم يأت بإنشاء السبب لم تطلق امرأته اتفاقا فكون التحريم عقوبة لا ينفي أن يستند إلى أسبابها التي تكون إنشاءات لها قوله السببية أعم من الإنشاء إلى آخره جوابه أن السبب نوعان فعل وقول فمتى كان قولا لم يكن إلا إنشاء فإن أردتم بالعموم أن سببية القول أعم من كونها إنشاء وإخبارا فممنوع وإن أردتم أن مطلق السببية أعم من كونها سببية بالفعل والقول فمسلم ولا يفيدكم شيئا وفصل الخطاب: أن قوله أنت علي كظهر أمي يتضمن إنشاء وإخبارا فهو إنشاء من حيث قصد التحريم بهذا اللفظ وإخبار من حيث تشبيهها بظهر أمه ولهذا جعله الله منكرا وزورا فهو منكر باعتبار الإنشاء وزور باعتبار الإخبار وأما قوله إن المنكر هو الخبر الكاذب فالخبر الكاذب من المنكر والمنكر أعم منه فالإنكار في الإنشاء والإخبار فإنه

ضد المعروف فما لم يؤذن فيه من الإنشاء فهو منكر وما لم يكن صدقا من الإخبار فهو زور. فائدة: المجاز والتأويل المجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص وإنما يدخل في الظاهر المحتمل له وهنا نكتة ينبغي التفطن لها وهي أن كون اللفظ نصا يعرف بشيئين أحدهما عدم احتماله لغير معناه وضعا كالعشرة والثاني ما أطرد استعماله على طريقة واحدة في جميع موارده فإنه نص في معناه لا يقبل تأويلا ولا مجازا وإن قدر تطرق ذلك إلى بعض أفراده وصار هذا بمنزلة خبر المتواتر لا يتطرق احتمال الكذب إليه وإن تطرق إلى كل واحد من أفراده بمفرده وهذه عصمة نافعة تدلك على خطأ كثير من التأويلات السمعيات التي أطرد استعمالها في ظاهرها وتأويلها والحالة هذه غلط فإن التأويل إنما يكون لظاهر قد ورد شاذا مخالفا لغيره ومن السمعيات فيحتاج إلى تأويله لتوافقها فأما إذا أطردت كلها على وتيرة واحدة صارت بمنزلة النص وأقوى وتأويلها ممتنع فتأمل هذا. فائدة: إضافة الموصوف للصفة أضافوا الموصوف إلى الصفة وإن اتحدا لأن الصفة تضمنت معنى ليس في الموصوف فصحت الإضافة للمغاير وهنا نكتة لطيفة وهي أن العرب إنما تفعل ذلك في الوصف المعرفة اللازم للموصوف لزوم اللقب للأعلام كما لو قالوا زيد بطة أي صاحب هذا اللقب وأما الوصف الذي لا يثبت كالقائم والقاعد ونحوه فلا يضاف الموصوف إليه لعدم الفائدة المخصصة التي لأجلها أضيف الاسم إلى اللقب

فإنه لما تخصص به كأنك قلت صاحب هذا اللقب وهكذا في مسجد الجامع وصلاة الأولى فإنه لما تخصص الجامع بالمسجد ولزمه كأنك قلت صاحب هذا الوصف فلو قلت زيد الضاحك وعمرو القائم لم يجز وكذا إن كان لازما غير معرفة تقول مسجد جامع وصلاة أولى. فائدة: اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا له حقيقة متميزة متحصلة فاستحق أن يوضع له لفظ يدل عليه لأنه شيء موجود في اللسان مسموع بالآذان فاللفظ المؤلف من همزة الوصل والسين والميم عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا واللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان وهو المسمى واللفظ الدال عليه الذي هو الزاي والياء والدال هو الاسم وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم عبارة عنه فقد بان لك أن الاسم في أصل الوضع ليس هو المسمى ولهذا تقول سميت هذا الشخص بهذا الاسم كما تقول حليته بهذه الحلية والحلية غير المحلى فكذلك الاسم غير المسمى صرح بذلك سيبويه وأخطأ من نسب إليه غير هذا وادعى أن مذهبه اتحادهما والذي غر من ادعى ذلك قوله الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وهذا لا يعارض نصه قبل هذا فإنه نص على أن الاسم غير المسمى فقال اسم وفعل وحرف فقد صرح بأن الاسم كلمة فكيف تكون الكلمة هي المسمى والمسمى شخص ثم قال بعد هذا تقول سميت زيدا بهذا الاسم كما تقول علمته بهذه العلامة وفي كتابه قريب من ألف موضع أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى ومتى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو اللام أو جميع ما يلحق الاسم من زيادة ونقصان وتصغير وتكسير وإعراب وبناء

فذلك كله من عوارض الاسم لا تعلق لشيء من ذلك بالمسمى أصلا هل الاسم عين المسمى. لم يقل نحوي قط ولا عربي أن الاسم هو المسمى ويقولون أجل مسمى ولا يقولون أجل اسم ويقولون مسمى هذا الاسم كذا ولا يقول أحد اسم هذا الاسم كذا ويقولون هذا الرجل مسمى بزيد ولا يقولون هذا الرجل اسم زيد ويقولون بسم الله ولا يقولون بمسمى الله وقال رسول الله: "لي خمسة أسماء " رواه البخاري ومسلم ولا يصح أن يقال: لي خمس مسميات "وتسموا باسمي " رواه مسلم ولا يصح أن يقال: تسموا بمسمياتي "ولله تسعة وتسعون اسما" رواه البخاري ومسلم وأحمد ولا يصح أن يقال تسعة وتسعون مسمى وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمى بقيت هاهنا التسمية وهي التي اعتبرها من قال باتحاد الاسم والمسمى والتسمية عبارة عن فعل المسمى ووضعه الاسم للمسمى كما أن التحلية عبارة عن فعل المحلي ووضعه الحلية على المحلى فهنا ثلاث حقائق اسم ومسمى وتسمية كحلية ومحلى وتحلية وعلامة ومعلم وتعليم ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد لتباين حقائقهما وإذا جعلت الاسم هو المسمى بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولا بد فإن قيل فحلوا لنا شبه من قال باتحادهما ليتم الدليل فإنكم أقمتم الدليل فعليكم الجواب عن المعارض فمنها أن الله وحده هو الخالق وما سواه مخلوق فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة لأن أسماءه صفات وهذا هو السؤال الأعظم الذي قاد متكلمي الإثبات إلى أن يقولوا الاسم هو المسمى فما عندكم في دفعه الجواب أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين صحيح وباطل فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها ولا ريب أن الله تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها فلم يزل بأسمائه وصفاته وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العلى وأسماؤه وصفاته داخلة في مسمى اسمه وإن كان لا يطلق على الصفة أنها إله يخلق ويرزق فليست صفاته وأسماؤه غيره وليست هي نفس الإله وبلاء القوم من لفظة الغير فإنه يراد بهما

معنيين أحدهما المغاير لتلك الذات المسماة بالله وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الإعتبار فلا يكون إلا مخلوقا ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا خرجت عنها فإذا قيل علم الله وكلام الله غيره بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام كان المعنى صحيحا ولكن الإطلاق باطل وإذا أريد أن العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره كان باطلا لفظا ومعنى وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن وقالوا كلامه تعالى داخل في مسمى اسمه فالله تعالى اسم الذات الموصوفة بصفات الكمال ومن تلك الصفات صفة الكلام كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوقة وإذا كان القرآن كلامه وهو صفة من صفاته فهو متضمن لأسمائه الحسنى فإذا كان القرآن غير مخلوق ولا يقال إنه غير الله فكيف يقال إن بعض ما تضمنه وهو أسماؤه مخلوقة وهي غيره فقد حصحص الحق بحمد الله وانحسم الإشكال وأن أسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه وكلامه غير مخلوق ولا يقال هو غيره ولا هو هو وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون أسماؤه تعالى غيره وهي مخلوقة ولمذهب من رد عليهم ممن يقول اسمه نفس ذاته لا غيره وبالتفصيل تزول الشبه ويتبين الصواب والحمد لله حجة ثانية لهم قالوا: قال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} وهذه الحجة عليهم في الحقيقة لأن النبي امتثل هذا الأمر وقال سبحان ربي الأعلى سبحان ربي العظيم ولو كان الأمر كما زعموا لقال سبحان اسم ربي العظيم ثم إن الأمة كلهم لا يجوز لأحد منهم أن يقول عبدت اسم ربي ولا سجدت لاسم ربي ولا ركعت لاسم ربي ولا باسم ربي ارحمني وهذا يدل على أن الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالاسم وأما الجواب عن تعلق الذكر والتسبيح المأمور به بالاسم فقد قيل فيه إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم فقد تعظم ما هو من سببه ومتعلق به كما يقال سلام على والباب السامي والمجلس الكريم ونحوه وهذا جواب غير مرض لوجهين أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم

يفهم هذا المعنى وإنما قال سبحان ربي فلم يعرج على ما ذكرتموه الثاني أنه يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل وسائر ما يطلق على المسمى فيقال الحمد لاسم الله ولا إله إلا اسم الله ونحوه وهذا مما لم يقله أحد بل الجواب الصحيح أن الذكر الحقيقي محله القلب لأنه ضد النسيان والتسبيح نوع من الذكر فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعا ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما فصار معنى الآيتين سبح ربك بقلبك ولسانك واذكر ربك بقلبك ولسانك فأقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله لأن اللفظ لا يراد لنفسه فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى وعبر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: "المعنى سبح ناطقا باسم ربك" متكلما به وكذا: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} المعنى سبح ربك ذاكرا اسمه وهذه الفائدة تساوي رحلة لكن لمن يعرف قدرها فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته حجة ثالثة قالوا قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} وإنما عبدوا مسمياتها والجواب: أنه كما قلتم إنما عبدوا المسميات ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها وليس لها من الألوهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها فيقال ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه وكمن سمى

التراب خبزا وأكله يقال: ما أكلت إلا اسم الخبز بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه وما الحكمة ثم إلا مجرد الاسم فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى فإن قيل: فما الفائدة في دخول الباء في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ولم تدخل في قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} قيل التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر ويراد به ذلك مع الصلاة وهو ذكر وتنزيه مع عمل ولهذا تسمى الصلاة تسبيحا فإذا أريد التسبيح المجرد فلا معنى للباء لأنه لا يتعدى بحرف جر لا تقول سبحت بالله وإذا أردت المقرون بالفعل وهو الصلاة أدخلت الباء تنبيها على ذلك المراد كأنك قلت سبح مفتتحا باسم ربك أو ناطقا باسم ربك كما تقول صل مفتتحا أو ناطقا باسمه ولهذا السر والله أعلم دخلت اللام في قوله تعالى {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والمراد التسبيح الذي هو السجود والخضوع والطاعة ولم يقل في موضع سبح الله ما في السموات والأرض كما قال {ولله يسجد من في السموات والأرض} [الرعد 15] وتأمل قوله تعالى {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} [الأعراف 206] فكيف قال ويسبحونه لما ذكر السجود باسمه الخاص فصار التسبيح ذكرهم له وتنزيههم إياه حجة رابعة قالوا قد قال الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر وكذلك قول الأعشى: داع يناديه باسم الماء مبغوم وهذه حجة عليهم لا لهم أما قوله ثم اسم السلام عليكما فالسلام هو الله تعالى والسلام أيضا التحية فإن أراد الأول فلا إشكال فكأنه قال ثم اسم السلام عليكما أي بركة اسمه وإن أراد

التحية فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول وباسمه لفظه الدال عليه والمعنى ثم اسم هذا المسمى عليكما فيراد بالأول اللفظ وبالثاني المعنى كما تقول: زيد بطة ونحوه مما يراد بأحدهما اللفظ وبالآخر المدلول فيه وفيه نكتة حسنة كأنه أراد ثم هذا اللفظ باق عليكما جار لا ينقطع مني بل أنا مراعيه دائما وقد أجاب السهيلي عن البيت بجواب آخر وهذا حكاية لفظه فقال لبيد: لم يرد إيقاع التسليم عليهم لحينه وإنما أراد بعد الحول ولو قال: السلام عليكما كان مسلما لوقته الذي نطق فيه بالبيت فكذلك ذكر الاسم الذي هو عبارة عن اللفظ أي إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول وذلك أن السلام دعاء فلا يتقيد بالزمان المستقبل وإنما هو لحينه ألا ترى أنه لا يقال بعد الجمعة اللهم ارحم زيدا ولا بعد الموت اللهم اغفر لي إنما يقال اللهم اغفر لي بعد الموت فيكون بعد ظرفا للمغفرة والدعاء واقع لحينه فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفا للدعاء صرحت بلفظ الفعل فقلت بعد الجمعة أدعو بكذا أو أسلم أو ألفظ بكذا لأن الظروف إنما يريد بها الأحداث الواقعة فيها خبرا أو أمرا أو نهيا وأما غيرها من المعاني كالطلاق واليمين والدعاء والتمني والإستفهام وغيرها من المعاني فإنما هي واقعة لحين النطق بها وكذلك يقع الطلاق ممن قال بعد يوم الجمعة أنت طالق وهو مطلق لحينه ولو قال: بعد الحول والله لأخرجن انعقدت اليمين في الحال ولا ينفعه أن يقول أردت أن لا أوقع اليمين إلا بعد الحول فإنه لو أراد ذلك لقال بعد الحول أحلف أو بعد الجمعة أطلقك فأما الأمر والنهي والخبر فإنما تقيدت بالظروف لأن الظروف في الحقيقة إنما يقع فيها الفعل المأمور به والمخبر به دون الأمر والخبر فإنهما واقعان لحين النطق بهما فإذا قلت اضرب زيدا يوم الجمعة فالضرب هو المقيد بيوم الجمعة وأما الأمر فأنت في الحال آمر به وكذلك إذا قلت سافر زيد يوم الجمعة فالمتقيد باليوم المخبر به لا الخبر كما أن في قوله: اضربه يوم الجمعة المقيد بالظرف المأمور به لا أمرك أنت فلا تعلق للظرف إلا بالأحداث فقد رجع الباب كله بابا واحدا فلو أن لبيدا قال إلى الحول ثم السلام عليكما لكان مسلما لحينه

ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول وكذلك ذكر الاسم الذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم ليكون ما بعد الحول ظرفا له وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله وأما قوله: باسم الماء والماء المعروف هنا هو الحقيقة المشروبة ولهذا عرفه تعريف الحقيقة الذهنية والبيت لذي الرمة وصدره: لا ينعش الطرف إلا ما تحونه ثم قال: داع يناديه باسم الماء فظن الغالط أنه أراد حكاية صوت الظبية وأنها دعت ولدها بهذا الصوت وهو ماما وليس هذا مراده وإنما الشاعر ألغز لما وقع الإشتراك بين لفظ الماء المشروب وصوتها به فصار صوتها كأنه هو اللفظ المعبر عن الماء المشروب فكأنها تصوت باسم هذا الماء المشروب وهذا لأن صوتها ماما وهذا في غاية الوضوح. فائدة: اسم الله والاشتقاق زعم أبو القاسم السهيلي وشيخه ابن العربي: أن اسم الله غير مشتق لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه تعالى قديم والقديم لا مادة له فيستحيل الإشتقاق ولا ريب أنه إن أريد بالاشتقاق هذا المعنى وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل ولكن الذين قالوا بالاشتقاق لم يريدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرحيم والسميع والبصير فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة والقديم لا مادة له فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله ثم الجواب عن الجميع أننا لا نعني بالإشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر وإنما هو

باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة وقول سيبويه إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء هو بهذا الإعتبار لا أن العرب تكلموا بالأسماء أولا ثم اشتقوا منها الأفعال فإن التخاطب بالأفعال ضروري كالتخاطب بالأسماء لا فرق بينهما فالإشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي وإنما هو اشتقاق تلازم سمي المتضمن بالكسر مشتقا والمتضمن بالفتح مشتقا منه ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى. فائدة: هل الرحمن في البسملة نعت استبعد قوم أن يكون الرحمن نعتا لله تعالى من قولنا: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقالوا الرحمن علم والأعلام لا ينعت بها ثم قالوا: هو بدل من اسم الله قالوا: ويدل على هذا أن الرحمن علم مختص بالله تعالى لا يشاركه فيه غيره فليس هو كالصفات التي هي العليم القدير والسميع والبصير ولهذا تجري على غيره تعالى قالوا ويدل عليه أيضا وروده في القرآن غير تابع لما قبله كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} و {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} و {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} وهذا شأن الأسماء المحضة لأن الصفات لا يقتصر على ذكرها دون الموصوف قال السهيلي: والبدل عندي فيه ممتنع وكذلك عطف البيان لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين فإنه أعرف المعارف كلها وأبينها ولهذا قالوا: وما الرحمن ولم يقولوا وما الله ولكنه وإن جرى مجرى الأعلام فهو وصف يراد به الثناء وكذلك الرحيم إلا أن الرحمن من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه وإنما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية فإن التثنية في الحقيقة تضعيف وكذلك هذه الصفة فكأن غضبان وسكران كامل لضعفين من الغضب والسكر فكان اللفظ مضارعا للفظ التثنية لأن التثنية ضعفان في الحقيقة ألا ترى أنهم أيضا قد شبهوا التثنية بهذا البناء إذا كانت لشيئين متلازمين

فقالوا الحكمان والعلمان وأعربوا النون كأنه اسم لشيء واحد فقالوا اشترك باب فعلان وباب التثنية ومنه قول فاطمة يا حسنان يا حسينان برفع النون لابنيها ولمضارعة التثنية امتنع جمعه فلا يقال غضابين وامتنع تأنيثه فلا يقال غضبانة وامتنع تنوينه كما لا تنون نون المثنى فجرت عليه كثير من أحكام التثنية لمضارعته إياها لفظا ومعنى وفائدة الجمع بين الصفتين الرحمن والرحيم الإنباء عن رحمة عاجلة وآجلة وخاصة وعامة تم كلامه قلت: أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فإنها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية فالرحمن اسمه تعالى ووصفه لا تنافي اسميته وصفيته فمن حيث هو صفة جرى تابعا على اسم الله ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع بل ورود الاسم العلم ولما كان هذا الاسم مختصا به تعالى حسن مجيئه مفردا غير تابع كمجيء اسم الله كذلك وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمن كاسم الله تعالى فإنه دال على صفة الألوهية ولم يجيء قط تابعا لغيره بل متبوعا وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة فتأمل هذه النكتة البديعة يظهر لك بها أن الرحمن اسم وصفة لا ينافي أحدهما الآخر وجاء استعمال القرآن بالأمرين جميعا وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى هو أحسن من المعنيين اللذين ذكرهما وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للفعل فالأول دال أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ولم يجيء قط رحمن بهم فعلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تنجل لك صورتها.

فائدة: حذف العامل في بسم الله. لحذف العامل في بسم الله فوائد عديدة منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله فلو ذكرت الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم الله كما نقول في الصلاة الله أكبر ومعناه من كل شيء ولكن لا نقول هذا المقدر وليكون اللفظ مطابقا لمقصود الجنان وهو أن لا يكون في القلب إلا الله وحده فكما تجرد ذكره في قلب المصلي تجرد ذكره في لسانه ومنها أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالتسمية في كل عمل وقول وحركة وليس فعل أولى بها من فعل فكان الحذف أعم من الذكر فإن أي فعل ذكرته كان المحذوف أعم منه ومنها أن الحذف أبلغ لأن المتكلم بهذه الكلمة كأنه يدعي الاستغناء بالمشاهدة عن النطق بالفعل فكأنه لا حاجة إلى النطق به لأن المشاهدة والحال دالة على أن هذا وكل فعل فإنما هو باسمه تبارك وتعالى والحوالة على شاهد الحال أبلغ من الحوالة على شاهد النطق كما قيل: ومن عجب قول العواذل من به ... وهل غير من أهوى يحب ويعشق فائدة: عطف الصلاة على البسملة استشكل طائفة قول المصنفين بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وقالوا الفعل بعد الواو دعاء بالصلاة والتسمية قبله خبر والدعاء لا يحسن عطفه على الخبر لو قلت مررت بزيد وغفر الله لك لكان غثا من الكلام والتسمية في معنى الخبر لأن المعنى افعل كذا باسم الله وحجة من أثبتها الإقتداء بالسلف والجواب عما قاله هو أن الواو لم تعطف دعاء على خبر وإنما عطفت الجملة على كلام محكي كأنك تقول بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد أو أقول هذا وهذا أو أكتب هذا وهذا.

فائدة: الصلاة قولهم الصلاة من الله بمعنى الرحمة قولهم والصلاة من الله بمعنى الرحمة باطل من ثلاثة أوجه أحدها: أن الله تعالى غاير بينهما في قوله: {علَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، الثاني: أن سؤال الرحمة شرع لكل مسلم والصلاة تختص بالنبي وهي حق له ولآله ولهذا منع كثير من العلماء من الصلاة على معين غيره ولم يمنع أحد من الترحم على معين، الثالث: أن رحمة الله عامة وسعت كل شيء وصلاته خاصة بخواص عباده الصلاة من العباد بمعنى الدعاء وقولهم الصلاة من العباد بمعنى الدعاء مشكل من وجوه أحدها أن الدعاء يكون بالخير والشر والصلاة لا تكون إلا في الخير الثاني إن دعوت تعدى باللام وصليت لا تعدى إلا ب على ودعا المعدى ب على ليس بمعنى صلى وهذا يدل على أن الصلاة ليست بمعنى الدعاء الثالث أن فعل الدعاء يقتضي مدعوا ومدعوا له تقول: دعوت الله لك بخير وفعل الصلاة لا يقتضي ذلك لا تقول صليت الله عليك ولا لك فدل على أنه ليس بمعناه فأي تباين أظهر من هذا ولكن التقليد يعمي عن إدراك الحقائق فإياك والإخلاد إلى أرضه اشتقاق الصلاة رأيت لأبي القاسم السهيلي كلاما حسنا في اشتقاق الصلاة وهذا لفظه قال: معنى الصلاة اللفظة حيث تصرفت ترجع إلى الحنو والعطف إلا أن الحنو والعطف يكون محسوسا ومعقولا فيضاف إلى الله تعالى منه ما يليق بجلاله وينفى عنه ما يتقدس عنه كما أن العلو محسوس ومعقول فالمحسوس منه صفات الأجسام والمعقول منه صفة ذي الجلال والإكرام وهذا المعنى كثير موجود في الصفات والكثير يكون صفة للمحسوسات وصفة للمعقولات وهو من أسماء الرب تعالى وقد تقدس عن مشابهة الأجسام ومضاهاة الأنام فالمضاف إليه من هذه المعاني معقولة غير محسوسة وإذا ثبت هذا فالصلاة كما تسمى عطفا وحنوا تقول اللهم اعطف علينا أي ارحمنا قال الشاعر: وما زلت في ليني له وتعطفي ... عليه كما تحنو على الولد الأم

ورحمة العباد رقة في القلب إذا وجدها الراحم من نفسه انعطف على المرحوم وانثنى عليه ورحمة الله للعباد جود وفضل فإذا صلى عليه فقد أفضل عليه وأنعم وهذه الأفعال إذا كانت من الله أو من العبد فهي متعدية ب على مخصوصة بالخير لا تخرج عنه إلى غيره فقد رجعت كلها إلى معنى واحد إلا أنها في معنى الدعاء والرحمة صلاة معقولة أي انحناء معقول غير محسوس ثمرته من العبد الدعاء لأنه لا يقدر على أكثر منه وثمرته من الله الإحسان والإنعام فلم تختلف الصلاة في معناها إنما اختلفت ثمرتها الصادرة عنها والصلاة التي هي الركوع والسجود انحناء محسوس فلم يختلف المعنى فيها إلا من جهة المعقول والمحسوس وليس ذلك باختلاف في الحقيقة ولذلك تعدت كلها ب على واتفقت في اللفظ المشتق من الصلاة ولم يجز صليت على العدو أي دعوت عليه فقد صار معنى الصلاة أرق وأبلغ من معنى الرحمة وإن كان راجعا إليه إذ ليس كل راحم ينحني على المرحوم ولا ينعطف عليه. فائدة: اشتقاق الفعل من المصدر رأيت للسهيلي فصلا حسنا في اشتقاق الفعل من المصدر هذا لفظه قال فائدة اشتقاق الفعل من المصدر أن المصدر اسم كسائر الأسماء يخبر عنه كما يخبر عنها كقولك أعجبني خروج زيد فإذا ذكر المصدر وأخبر عنه كان الاسم الذي هو الفاعل له مجرورا بالإضافة والمضاف إليه تابع للمضاف فإذا أرادوا أن يخبروا عن الاسم الفاعل للمصدر لم يكن الإخبار عنه وهو مخفوض تابع في اللفظ لغيره وحق المخبر عنه أن يكون مرفوعا مبدوءا به فلم يبق إلا أن يدخلوا عليه حرفا يدل على أنه مخبر عنه كما تدل الحروف على معان في الأسماء وهذا لو فعلوه لكان الحرف حاجزا بينه وبين الحدث في اللفظ والحدث يستحيل انفصاله عن فاعله كما يستحيل انفصال الحركة عن محلها فوجب أن يكون اللفظ غير منفصل لأنه تابع للمعنى فلم يبق إلا أن يشتق من لفظ الحدث لفظا يكون كالحرف في النيابة عنه دالا على معنى في غيره ويكون متصلا اتصال المضاف بالمضاف

إليه وهو الفعل المشتق من لفظ الحدث فإنه يدل على الحدث بالتضمن ويدل على الاسم مخبرا عنه لا مضافا إليه إذ يستحيل إضافة لفظ الفعل إلى الاسم كاستحالة إضافة الحرف لأن المضاف هو الشيء بعينه والفعل ليس هو الشيء بعينه ولا يدل على معنى في نفسه وإنما يدل على معنى في الفاعل وهو كونه مخبرا عنه فإن قلت كيف لا يدل على معنى في نفسه وهو يدل على الحدث قلنا إنما يدل على الحدث بالتضمن والدال عليه بالمطابقة هو الضرب والقتل لا ضرب وقتل ومن ثم وجب أن لا يضاف ولا يعرف بشيء من آلات التعريف إذ التعريف يتعلق بالشيء بعينه لا بلفظ يدل على معنى في غيره ومن ثم وجب أن لا يتثنى ولا يجمع كالحرف ومن ثم وجب أن يبنى كالحرف ومن ثم وجب أن يكون عاملا في الاسم كالحرف كما أن الحرف لما دل على معنى في غيره وجب أن يكون له أثر في لفظ ذلك الغير كما له أثر في معناه وإنما أعرب المستقبل ذو الزوائد لأنه تضمن معنى الاسم إذ الهمزة تدل على المتكلم والتاء على المخاطب والياء على الغائب فلما تضمن بها معنى الاسم ضارعه فأعرب كما أن الاسم إذا تضمن معنى الحرف بني وأما الماضي والأمر فإنهما وإن تضمنا معنى الحدث وهو اسم فما شارك فيه الحرف من الدلالة على معنى في غيره وهي حقيقة الحرف أوجب بناءهما حتى إذا ضارع الفعل الاسم من وجه آخر غير التضمن للحدث خرج عن مضارعة الحرف وكان أقرب شبها بالأسماء كما تقدم ولما قدمناه من دلالة الفعل على معنى في الاسم وهو كون الاسم مخبرا عنه وجب أن لا يخلو عن ذلك الاسم مضمرا أو مظهرا بخلاف الحدث فإنك تذكره ولا تذكر الفاعل مضمرا ولا مظهرا نحو قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} وقوله: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ} والفعل لا بد من ذكر الفاعل بعده كما لا بد بعد الحرف من الاسم فإذا ثبت المعنى في اشتقاق الفعل من المصدر وهو كونه دالا على معنى في الاسم فلا يحتاج من الأفعال الثلاثة إلا إلى لغة واحدة وتلك الصيغة هي لفظ الماضي لأنه أخف وأشبه بلفظ الحدث إلا أن تقوم الدلالة على اختلاف أحوال المحدث فتختلف

صيغة الفعل ألا ترى كيف تختلف صيغته بعد ما الظرفية من قولهم لا أفعله ما لاح برق وما طار طائر لأنهم يريدون الحدث مخبرا عنه على الإطلاق من غير تعرض لزمن ولا حال من أحوال الحدث فاقتصروا على صيغة واحدة وهي أخف أبنية الفعل وكذلك فعلوا بعد التسوية نحو قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} وقوله: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} لأنه أراد التسوية بين الدعاء والصمت على الإطلاق من غير تقييد بوقت ولا حال فلذلك لم يحتج إلا إلى صيغة واحدة وهي صيغة الماضي كما سبق فالحدث إذا على ثلاثة أضرب ضرب يحتاج إلى الإخبار عن فاعله وإلى اختلاف أحوال الحدث فيشتق منه الفعل دلالة على كون الفاعل مخبرا عنه وتختلف أبنية دلالته على اختلاف أحوال الحدث وضرب يحتاج إلى الإخبار عن فاعله على الإطلاق من غير تقييد بوقت ولا حال فيشتق منه الفعل ولا تختلف أبنية نحو ما ذكرناه من الفعل الواقع بعد التسوية وبعد ما الظرفية وضرب لا يحتاج إلى الإخبار عن فاعله بل يحتاج إلى ذكره خاصة على الإطلاق مضافا إلى ما بعده نحو سبحان الله وسبحان اسم ينبيء عن العظمة والتنزيه فوقع القصد إلى ذكره مجردا من التقييدات بالزمان أو بالأحوال ولذلك وجب نصبه كما يجب نصب كل مقصود إليه بالذكر نحو إياك وويله وويحه وهما مصدران لم يشتق منهما فعل حيث لم يحتج إلى الإخبار عن فاعلهما ولا احتيج إلى تخصيصهما بزمن فحكمهما حكم سبحان ونصبهما كنصبه لأنه مقصود إليه ومما انتصب لأنه مقصود إليه بالذكر زيدا ضربته في قول شيخنا أبي الحسن وغيره من النحويين: وكذلك زيدا ضربث بلا ضمير لا تجعله مفعولا مقدما لأن المعمول لا يتقدم على عامله وهو مذهب قوي ولكن لا يبعد عندي قول النحويين أنه مفعول مقدم وإن كان المعمول لا يتقدم على العامل والفعل كالحرف لأنه عامل في الاسم ودال على معنى فيه فلا ينبغي للاسم أن يتقدم على الفعل كما لا يتقدم على الحرف ولكن الفعل في قولك زيدا ضربت قد أخذ معموله وهو الفاعل فمعتمده عليه

ومن أجله صيغ وأما المفعول فلم يبالوا به إذا ليس اعتماد الفعل عليه كاعتماده على الفاعل ألا ترى أنه يحذف والفاعل لا يحذف فليس تقديمه على الفعل العامل فيه بأبعد من حذفه وأما زيدا ضربته فينتصف بالقصد إليه كما قال الشيخ هذا الفصل من أعجب كلامه ولم أعرف أحدا من النحويين سبقه إليه. فائدة: المصدر عند الكوفيين قولهم للضرب ونحوه مصدر إن أريد بحروف مصدر صدر يصدر مصدرا فهو يقوي قول الكوفيين إن المصدر صادر عن الفعل مشتق منه والفعل أصله وأصله على هذا صادر ولكن توسعوا فيه كصوم وزوز وعلل في صائم وبابه قال السهيلي: هو على جهة المكان استعارة كأنه الموضع الذي صدرت عنه الأفعال والأصل الذي نشأت منه قلت: وكأنه يعني مصدورا عنه لا صادرا عن غيره قال: ولا بد من المجاز على القولين: فالكوفي يحتاج أن يقول: الأصل صادر فإذا قيل: مصدر قدر فيه حذف أي ذو مصدر كما يقدر في صوم وبابه ونحن نسميه مصدر استعارة من المصدر الذي هو المكان. فائدة: عمل الحروف أصل الحروف أن تكون عاملة لأنه ليس لها معان في أنفسها وإنما معانيها في غيرها وأما الذي معناه في غيره وهو الاسم فأصله أن لا يعمل في غيره وإنما وجب أن يعمل الحرف في كل ما دل على معنى فيه لأن اقتضاءه معنى فيقتضيه عملا لأن الألفاظ تابعة للمعاني فكما تشبث الحرف عما دخل عليه معنى وجب أن يتشبث به لفظا وذلك هو العمل فأصل الحرف أن يكون عاملا فنسأل عن غير العامل فنذكر الحروف التي لم تعمل وسبب سلبها العمل فمنها هل فإنها تدخل على

جملة وقد عمل بعضها في بعض وسبق إليها عمل الابتداء أو الفاعلية فدخلت لمعنى في الجملة لا لمعنى في اسم مفرد فاكتفي بالعمل السابق قبل هذا الحرف وهو الابتداء ونحوه وكذلك الهمزة نحو أعمرو خارج فإن الحرف دخل لمعنى في الجملة ولا يمكن الوقوف عليه ولا يتوهم انقطاع الجملة عنه لأنه حرف مفرد لا يوقف عليه ولو توهموا ذلك فيه لعمل في الجملة ليؤكدوا بظهور أثره فيها تعلقه بها ودخوله عليها واقتضاؤه لها كما فعلوا في أن وأخواتها حيث كانت كلمات من ثلاثة أحرف فصاعدا يجوز الوقف عليها ك أنه وليته ولعله فأعملوها في الجملة إظهارا لارتباطها وشدة تعلقها بالحدث الواقع بعدها وربما أرادوا توكيد تعلق الحرف بالجملة إذ كان مؤلفا من حرفين نحو هل فربما توهم الوقف عليه أو خيف ذهول السامع عنه فأدخل في الجملة حرف زائد ينبه السامع عليه وقام ذلك الحرف مقام العمل نحو هل زيد بذاهب وما زيد بقائم فإذا سمع المخاطب الباء وهي لا تدخل في الثبوت تأكد عنده ذكر النفي والاستفهام وأن الجملة غير منفصلة عنده ولذلك أعمل أهل الحجاز ما النافية لشبهها بالجملة ومن العرب من اكتفى في ذلك التعلق وتأكيده بإدخال الباء في الخبر ورآها ثابتة في التأثير عن العمل الذي هو النصب وإنما اختلفوا في ما ولم يختلفوا في هل لمشاركة ما ل ليس في النفي فحين أرادوا أن يكون لها أثر في الجملة يؤكد تشبهها بها جعلوا ذلك الأثر كأثر ليس وهو النصب والعمل في باب ليس أقوى لأنها كلمة ك ليت ولعل وكأن والوهم إلى انفصال الجملة عنها أسرع منه إلى توهم انفصال الجملة عن ما وهل فلم يكن بد من إعمال ليس وإبطال معنى الابتداء السابق ولذلك إذا قلت ما زيد إلا قائم لم يعملها أحد منهم لأنه لا يتوهم انقطاع زيد عن ما لأن إلا لا تكون إيجابا إلا بعد نفي فلم يتوهم انفصال الجملة عن ما ولذلك لم يعملوها عند تقديم الخبر نحو ما قائم زيد إذ ليس من رتبة النكرة أن يكون مبدوءا بها مخبرا عنها إلا مع الإعتماد على ما قبلها فلم يتوهم المخاطب انقطاع الجملة عما قبلها لهذا السبب فلم يحتج إلى إعمالها وإظهارها وبقي الحديث كما كان قبل دخولها مستغنيا عن تأثيرها

فيه وأما حرف لا فإن كان عاطفا فحكمه حكم حروف العطف ولا شيء منها عامل وإن لم تكن عاطفة نحو لا زيد قائم ولا عمرو فلا حاجة إلى إعمالها في الجملة لأنه لا يتوهم انفصال الجملة بقوله ولا عمرو لأن الواو مع لا الثانية تشعر بالأولى لا محالة وتربط الكلام بها فلم يحتج إلى إعمالها وبقيت الجملة عاملا فيها الابتداء كما كانت قبل دخول لا فإن قلت فلو لم يعطف وقلت لا زيد قائم قلت هذا لا يجوز لأن لا ينفي بها في أكثر الكلام ما قبلها تقول هل قام زيد فيقال لا وقال سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} وليست نفيا لما بعدها هنا بخلاف ما لو قيل ما أقسم فإن ما لا تكون أبدا إلا نفيا لما بعدها فلذلك قالوا ما زيد قائم ولم يخشوا توهم انقطاع الجملة عنها ولو قالوا لا زيد قائم لخيف أن يتوهم أن الجملة موجبة وأن لا ك هي في النكرات نحو: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور 23] إلا أنهم في النكرات قد أدخلوها على المبتدأ والخبر تشبيها لها ب ليس لأن النكرة أبعد في الابتداء من المعرفة والمعرفة أشد استبدادا بأول الكلام وأما التي للتنزيه فاللنحويين فيها اختلاف أهي عاملة أم لا فإن كانت عاملة فكما أعملوا إن حرصا على إظهار تشبثها بالحديث وإن كانت غير عاملة كما ذهب إليه سيبويه والاسم بعدها مركب معها مبني على الفتح فليس الكلام فيه وأما حرف النداء فعامل في المنادى عند بعضهم قال والذي يظهر لي الآن أن النداء تصويب بالمنادى نحوها وأن المنادى منصوب بالقصد إليه وإلى ذكره كما تقدم من قولنا في كل مقصود إلى ذكره مجردا عن الإخبار عنه أنه منصوب ويدلك على أن حرف النداء ليس بعامل وجود العمل في الاسم دونه نحو صاحب زيد أقبل و {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} وإن كان مبنيا عندهم فإنه بناء كالعمل ألا تراه ينعت على اللفظ كما ينعت المعرب ولو كان حرف النداء عاملا لما جاز حذفه وإبقاء عمله النواصب والجوازم فإن قلت فلم عملت النواصب والجوازم في المضارع والفعل بعدها جملة قد عمل بعضه في بعض ثم إن المضارع قبل دخول العامل عليه كان مرفوعا ورفعه يعامل وهو وقوعه موقع الاسم فهلا منع هذا العامل هذه الحروف من العمل كما منع

كل مخبر عنه أن يكون مرفوعا لفظا وحسا كما أنه مرفوع معنى وعقلا ولذلك استحق الفاعل الرفع دون المفعول لأنه المحدث عنه بالفعل فهو أرفع رتبة في المعنى فوجب أن يكون اللفظ كذلك لأنه تابع للمعنى وأما رفع الفعل المضارع فلوقوعه موقع الاسم المخبر عنه والاسم التابع له فلم يقو قوته في استحقاق الرفع فلم يمنع شيئا من الحروف اللفظية عن العمل اللفظي أقوى من المعنوي وامتنع ذلك في بعض الأسماء المبتدأة لضعف الحروف وقلة العامل السابق للمبتدأ الجواب الثاني أن هذه الحروف لم تدخل لمعنى في الجملة إنما دخلت لمعنى في الفعل المتضمن للحدث من نفي أو إنكار أو نهي أو جزاء أو غيره وذلك كله يتعلق بالفعل خاصة لا بالجملة فوجب عملها فيها كما وجب عمل حروف الجر في الأسماء من حيث دلت على معنى فيها ولم تكن داخلة على جملة قد سبق إليها عامل معنوي ولا لفظي ومما ينبغي أن يعلم أن النواصب والجوازم لا تدخل على الفعل الواقع موقع الاسم لحصوله في موضع الأسماء فلا سبيل لنواصب الأفعال وجوازمها أن تدخل على الأسماء ولا ما هو واقع موقعها فهي إذا دخلت على الفعل خلصته للإستقبال ونفت عنه معنى الحال وهذا معنى يختص بالفعل لا بالجملة وأما إلا في الإستثناء فقد زعم بعضهم أنها عاملة ونقض ذلك بقولهم ما قام أحد إلا زيد وما جاءني إلا عمرو والصحيح أنها موصلة الفعل إلى العمل في الاسم بعدها كتوصيل واو المفعول معه الفعل إلى العمل فيما بعدها وليس هذا بكسر الأصل الذي قدمناه وهو استحقاق جميع الحروف العمل فيما دخلت عليه من الأسماء المفردة والأفعال لأنها إذا كانت موصلة للفعل والفعل عامل فكأنها هي العاملة فإذا قلت ما قام إلا زيد فقد أعملت الفعل على معنى الإيجاب كما لو قلت قام زيد لا عمرو وقامت لا مقام نفي الفعل عن عمرو فلذلك قامت إلا مقام إيجاب الفعل لزيد إذا قلت ما جاءني إلا زيد فكأنها هي العاملة فاستغنوا عن إعمالها عملا آخر وكذلك حروف العطف وإن لم تكن عوامل فإنما جاءت الواو الجامعة منها لتجمع بين الاسمين في الإخبار عنهما بالفعل فقد أوصلت الفعل إلى العمل في الثاني وسائر حروف العطف يتقدر بعدها العامل فيكون في حكم الحروف الداخلة

على الجمل وإذا قلت قام زيد وعمرو فكأنك قلت قام زيد وقام عمرو فصارت هذه الحروف كالداخلة على الجمل فقد تقدم في الحروف الداخلة على الجمل أنها لا تستحق من العمل فيها ما تستحق الحروف الداخلة على الأسماء المفردة والأفعال ونقيس على ما تقدم لام التوكيد وتركهم إعمالها في الجملة مع أنها لا تدخل لمعنى في الجملة فقط بل لتربط ما قبلها من القسم بما بعدها وهذا هو الأصل فيها حتى إنهم ليذكرونها دون القسم فيشعر عند المخاطب بالنهي كقوله: إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إليك مع الصدود لأميل لأنه حين قال لأمنحك علم أنه قد أقسم فلذلك قال قسما وهذا الأصل محيط بجميع أصول أعمال الحروف وغيرها من العوامل وكاشف عن أسرار العمل للأفعال وغيرها من الحروف في الأسماء ومنبه على سر امتناع الأسماء أن تكون عاملة في غيرها هذا لفظ أبي القاسم السهيلي والله أعلم. فائدة: اختصاص الإعراب بالأواخر. اختص الإعراب بالأواخر لأنه دليل على المعاني اللاحقة للمعرب وتلك المعاني لا تلحقه إلا بعد تحصيله وحصول العلم بحقيقته فوجب أن يترتب الإعراب بعده كما ترتب مدلوله الذي هو الوصف في المعرب. فائدة: وصف الحرف بالحركة. قولهم حرف متحرك وتحركت الواو ونحو ذلك تساهل منهم فإن الحركة عبارة عن انتقال الجسم من حيز إلى حيز والحرف جزء من المصوت ومحال أن تقوم الحركة بالحرف لأنه عرض والحركة لا تقوم بالعرض وإنما المتحرك في الحقيقة هو العضو من الشفتين أو اللسان أو الحنك الذي يخرج منه الحرف فالضمة عبارة

عن تحريك الشفتين بالضم عند النطق فيحدث مع ذلك صويت خفي مقارن للحرف إن امتد كان واوا وإن قصر كان ضمة وكذلك الفتحة عبارة عن فتح الشفتين عند النطق بالحرف وحدوث الصوت الخفي الذي يسمى فتحة أو نصبة وإن مدت كانت ألفا وإن قصرت فهي فتحة وكذلك القول في الكسرة والسكون وهو عبارة عن خلو العضو من الحركات عند النطق بالحرف فلا يحدث بعد الحرف صوت فينجزم عند ذلك أي ينقطع فلذلك سمي جزما اعتبارا بانجزام المصوت وهو انقطاعه وسكونا اعتبارا بالعضو الساكن فقولهم فتح وضم وكسر هو من صفة العضو وإذا سميت ذلك رفعا ونصبا وجزما وجرا فهي من صفة الصوت لأنه يرتفع عند ضم الشفتين وينتصب عند فتحهما وينخفض عند كسرهما وينجزم عند سكونهما ولهذا عبروا عنه بالرفع والنصب والجر عن حركات الإعراب إذ الإعراب لا يكون إلا بعامل وسبب كما أن هذه الصفات التي تضاف إلى الصوت من رفع ونصب وخفض إنما تكون بسبب وهو حركة العضو واقتضت الحكمة اللفظية أن يعبر بما يكون عن سبب عما يكون عن سبب وهو الإعراب وأن يعبر بالفتح والضم والكسر والسكون عن أحوال البناء فإن البناء لا يكون بسبب وأعني بالسبب العامل فاقتضت الحكمة أن يعبر عن تلك الأحوال بما يكون وجوده تغيرا له الحركات الموجودة في العضو لا تكون إلا بآلة كما تكون الصفات المضافة إلى الموصوف وعندي أن هذا ليس باستدراك على النحاة فإن الحرف وإن كان عرضا فقد يوصف بالحركة تبعا لحركة محله فإن الأعراض وإن لم تتحرك بأنفسها فهي تتحرك بحركة محالها وعلى هذا فقد اندفع الإشكال جملة وأما المناسبة إلى ذكرها في اختصاص الألقاب فحسنة غير أن كثيرا من النحاة يطلقون كلا منها على الآخر ولهذا يقولون في قام زيد مرفوع وعلامة رفعه ضمة آخره ولا يقولون رفعه آخره فدل على إطلاق كل منهما على الآخر

فائدة: تقول نونت الكلمة ألحقت بها نونا وسينتها ألحقت بها سينا وكوفتها ألحقت بها كافا فإن ألحقت بها زايا قلت زويتها لأن ألف الزاي منقلبة عن واو لأن باب طويت أكثر من باب حوة وقوة وقال بعضهم زييتها وليس بشيء فائدة: التنوين في الكلمة التنوين فائدته التفرقة بين فصل الكلمة ووصلها فلا تدخل في الاسم إلا علامة على انفصاله عما بعده ولهذا كثر في النكرات لفرط احتياجها إلى التخصيص بالإضافة فإذا لم تضف احتاجت إلى التنوين تنبيها على أنها غير مضافة ولا تكاد المعارف تحتاج إلى ذلك إلا فيما قل من الكلام لاستغنائها في الأكثر عن زيادة تخصيصها وما لا يتصور فيه الإضافة بحال كالمضمر والمبهم لا ينون بحال وكذلك المعرف باللام وهذه علة عدم التنوين وقفا إذ الموقوف عليه لا يضاف واختصت النون الساكنة بالدلالة على هذا المعنى لأن الأصل في الدلالة على المعاني الطارئة على الأسماء أن تكون بحروف المد واللين وأبعاضها وهي الحركات الثلاث فمتى قدر عليها فهي الأصل فإن تعذرت فأقرب شبها بها وآخر الأسماء المعربة قد لحقها حركات الإعراب فلم يبق لدخول حركة أخرى عليها سبيل ولا لحروف المد واللين لأنها مشبعة من تلك الحركات ولأنها عرضة الإعلال والتغير فأشبه شيء بها النون الساكنة لخفائها وسكونها وأنها من حروف الزيادة وأنها من علامات الإعراب ولهذه العلة لا ينون الفعل لاتصاله بفاعله واحتياجه إلى ما بعده

فائدة: الحكمة في علامة التصغير جعلت علامة التصغير ضم أوله وفتح ثانيه وحكمة ذلك والله أعلم ما أشار إليه السهيلي فقال التصغير تقليل أجزاء المصغر والجمع مقابلة وقد زيد في الجمع ألف ثالثة كفعالل فزيد في مقابلته ياء ثالثة ولم يكن آخرا كعلامة التأنيث لأن الزيادة في اللفظ على حسب الزيادة في المعنى والصفة التي هي صغر الجسم لا تختص بجزء منه دون جزء بخلاف صفة التأنيث فإنها مختصة في جميع الحيوانات بطرف يقع به الفرق بين الذكر والأنثى وكانت العلامة في اللفظ المنبئة عن معنى المناسبة طرفا في اللفظ بخلاف الياء في التصغير فإنها منبئة عن صفة واقعة على جملة المصغر وكانت ياء لا ألفا لأن الألف قد اختصت بجمع التذكير وكانت به أولى كما كانت الفتحة التي هي أخفها بذلك أولى لأن الفتح ينبيء عن الكثرة ويشار به إلى السعة كما تجد الأخرس والأعجم بطبعه إذا أخبر عن شيء كثير فتح شفتيه وباعد ما بين يديه وإذا كان الفتح ينبيء عن السعة والضم الذي هو ضده ينبيء عن القلة والحقارة كما تجد المقلل للشيء يشير إليه بضم يد أو فم كما فعل رسول الله حين ذكر ساعة الجمعة وأشار بيده يقللها رواه البخاري ومسلم فإنه جمع أصابعه وضمها ولم يفتحها وأما الواو فلا معنى لها في التصغير لوجهين أحدهما دخولها في ضرب من الجموع نحو المفعول فلم يكونوا يجعلونها علامة في التصغير فيلتبس التقليل بالتكثير والثاني أنه لا بد من كسر ما بعد علامة التصغير إذا لم يكن حرف إعراب كما كسر ما بعد علامة التكسير في مفاعل ليتقابل اللفظان وإن تضادا كما قابلوا علم بجهل وروى بعطش ووضع فهو وضيع وشرف فهو شريف فلم يمكن إدخال الواو لئلا يخرجوا منها إلى كسرة واستبقيت الألف لأجل أصل الجمع لها وبقيت الياء وفتح ما قبلها لأجل ضم أول الكلمة لئلا يخرج من ضم إلى كسر

فائدة: تنوع الأفعال. الأفعال واجب وممكن ومنفي أو في حكمه فالرفع للواجب والنصب للمكن والجزم الذي هو عدم الحركة للمنفي أو ما في حكمه هذا هو الأصل وقد يخالف وإن شئت قلت الأفعال ثلاثة أقسام واقع موقع الاسم فله الرفع نحو هل تضرب واقع موقع ضارب وفعل في تأويل الاسم فله النصب نحو أريد أن تقوم أي قيامك وفعل لا واقع موقع اسم ولا في تأويله فله الجزم نحو لم يقم. فائدة: إضافة ظروف الزمان للأحداث. إنما أضيف ظروف الزمان إلى الأحداث الواقعة فيها نحو يوم يقوم زيد لأنها أوقات لها وواقعة فيها فهي لاختصاصها بها أضيف إليها وهذا بخلاف ظروف المكان لأنها لا تختص بتلك الأحداث فإن اختصت غالبا حسنت الإضافة نحو هذا مكان يجلس القاضي ويكون بمنزلة يوم يجلس القاضي سواء وربما أضيفت أسماء الزمان إلى أحداث لا تقع فيها لاتصالها بها كقوله تعالى: {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} فالليلة من ظروف الزمان وقد أضيف إلى الصيام وليس بواقع فيها فلما جاز في بعض الكلام أن يضاف الظرف إلى الاسم الذي هو الحدث وإن لم يكن واقعا فيه أضافوه إلى الفعل لفظا وهو مضاف إلى الحدث معنى وأقحم لفظ الفعل إقرارا للمعنى وتخصيصا للغرض ورفعا لشوائب الإحتمال حتى إذا سمع المخاطب قولك يوم قام زيد علم أنك تريد اليوم الذي قام فيه زيد ولو قلت مكان قولك ليلة الصيام ليلة صيام زيد ما كان له معنى إلا وقوع الصيام في الليل فهو الذي حملهم على إقحام لفظ الفعل عند إرادتهم إضافة الظروف إلى الأحداث وقس على ذلك المبتدأ والخبر وأما ريث فبمنزلة الظرف وقد صارت في

معناه وكذلك حيث وذي تسلم أن المعنى في قول بعضهم ذهب لوقت ذي تسلم أي سلامتك فلما حذفت المنعوت وأقمت النعت مقامه أضفته إلى ما كنت تضيف إلى المنعوت وهو الوقت قال السهيل: وهو عندي على الحكاية حكوا قول الداعي تسلم كما تعيش وتبقى فقولهم: إذهب بذي تسلم أي اذهب بهذا القول مني ولم يقولوا اذهب بتسلم لئلا يكون اقتصارا على دعوة واحدة ولكن قالوا بذي تسلم أي بقول يقال فيه تسلم يريدون هذا المعنى وحذفوا قول المنعوت بذي اكتفاء بدلالة الحال عليه وأما قوله بآية ما تحبون الطعام فالآية هي العلامة وهي هاهنا بمعنى الوقت لأن الوقت علامة للتوقيت والذي يجوز إضافته من ظروف الزمان إلى الفعل ما كان منها مفردا متمكنا جاز إضافته إليها وما كان مثنى كيومين ونحوه لم يضف إليها لأن الحدث إنما يقع مضافا لظرفه الذي هو وقت له فلا معنى لذكر وقت آخر وأيضا فالجملة المضاف إليها نعت للظرف في المعنى فقولك يوم قام زيد كقولك يوم قام زيد فيه في المعنى والفعل لا يدخله التثنية فلا يصح أن يضاف إليه الإثنان كما لا يصح أن ينعت الإثنان بالواحد وجه ثالث وهو أن قولك قام زيد يوما قام عمرو لم يصح إلا أن يكون جوابا ل متى واليومان جواب ل كم وما هو جواب ل كم لا يكون جوابا ل متى أصلا فإن أضفت اليومين إلى الفعل صرت مناقضا لجمعك بين الكمية وبين ما لا يكون إلا ل متى فأما الأيام فربما جاءت إضافتها مجموعة إلى الفعل لأنه قد يراد بها معنى الفرد كالشهر والأسبوع والحول وغيره وكذلك غير المتمكن ك قبل وبعد لا يضاف إلى الفعل لأنك لو أضفتها إليه لاقتضت إضافتها إليه ما يقتضيه قولك يوم قام زيد أي اليوم الذي قام فيه وذلك محال في قبل وبعد لأنه يؤول إلى إبطال معنى القبلية والبعدية وأما سحر يوم بعينه فيمتنع من إضافته إلى الفعل لما فيه من معنى اللام فقس على هذا فائدة الأسماء الخمسة قياس الأسماء الخمسة أن تكون مقصورة قال السهيلي: قياس الأسماء الخمسة أن تكون مقصورة لأن أصلها أبو أخو والواو إذا تحركت وانفتح ما قبلها تقلب ألفا تكون مقصورة كما هو

إحدى لغاتها ولكن هذه الأسماء حذفت أواخرها في حال الإفراد والانفصال عند الإضافة وقال لي بعض أشياخنا في بعلبك إن التنوين لما أوجب حذف الألف المنقلبة لالتقاء الساكنين حذفوها رأسا كما قيل: رأى الأمر يقضي إلى آخر ... فصير آخره أولا فإذا أضيف وزالت عند التنوين رجعت الحروف المحذوفة وكان الإعراب فيها مقدرا كما هو مقدر في الأسماء المقصورة. وقال بهذا بعض النحاة: قال: الأمر عندي علامات إعراب وليست حروف إعراب والمحذوف منها لا يعود إليها في الإضافة كما لا يعود المحذوف من يد ودم وبرهان ذلك أنك تقول أخي وأبي إذا أضفت إلى نفسك كما تقول يدي ودمي لأن حركات الإعراب لا تجتمع مع ياء المتكلم كما تجتمع معها واو الجمع فلو كانت الواو في أخوك حرف إعراب لقلت في الإضافة إلى نفسك هذا أخي كما تقول هؤلاء مسلمي فتدغم الواو في الياء لأنها حرف إعراب عند سيبويه وهي عند غيره علامة إعراب فإذا كانت واو الجمع تثبت مع ياء المتكلم وهي غير زائدة وهي عند غيره علامة إعراب فكيف يحذف لام الفعل وهو أحق بالثبات منها فقد وضح لك أنها ليست الحروف المحذوفة بل هي الأصلية إعراب الأسماء الخمسة بالحروف وإعلالها بالحذف فإن قيل: فلم أعربت بالحروف ولم أعلت بالحذف دون القلب خلافا لنظائرها مما علته كعلتها وهي الأسماء المقصورة قلنا في ذلك جواب لطيف وهو أن اللفظ جسد والمعنى روح فهو تبع له في صحته واعتلاله والزيادة فيه والنقصان منه كما أن الجسد مع الروح كذلك فجميع ما يعتري اللفظ من زيادة أو حذف فإنما يكون بحسب ما يكون في المعنى اللهم إلا أن يكثر استعمال كلمة فتحذف منها تخفيفا على اللسان لكثرة دورها فيه ولعلم المخاطب بمعناها كقولهم إيش في أي شيء وهذه الأسماء الخمسة مضافة إلى المعنى فإذا قطعت عن الإضافة وأفردت نقص المعنى فينقص اللفظ تبعا له مع أن أواخرها حروف علة فلا بد من تغييرها إما بقلب وإما بحذف وكان الحذف فيها أولى كما قدمنا وكان ينبغي على هذا أن يتم لفظها في حال الإضافة كما تم معناها إلا

أنهم كرهوا أن يخلوا الخاء من أخ والباء من أب من الإعراب الحاصل فيها إذ ليس في الكلام ما يكون حرف إعراب في حال الإفراد دون الإضافة فجمعوا بين الغرضين ولم يبطلوا أحد القياسين فمكنوا الحركات التي هي علامات الإعراب في الإفراد فصارت حروف مد ولين في الإضافة وقد تقدم أن الحركات بعض الحرف فالضمة التي في قولك أخ هي بعينها علامة الرفع في أخوك إلا أن المصوت بها يمد ليتمموا اللفظ كما تمموا المعنى بالإضافة إلى ما بعد الاسم ولم يحتاجوا مع تطويل حركات الإعراب إلى إعادة ما حذف من الكلمة رأسا كما لا يعاد محذوف يد ودم وأما التثنية فإنهم صححوا اللفظ فيها بإعادة المحذوف تنبيها على الأصل وهو الإنقلاب إلى ألف فقالوا أخوان وأبوان كما قالوا عضوان ونضوان لأن قياسه في الأصل كقياسه بخلاف يد ودم فإن أصلهما يدي ودمي فلم يكن بابها كباب عصى ورحا فاستمر الحذف فيهما في التثنية والإفراد فإن قيل فلم يعود في ابن في تثنية ولا إضافة قيل لأنهم عوضوا من المحذوف ألف الوصل في ابن واسم فلم يجمعوا بين العوض والمعوض بخلاف أخ وأب ومنعهم أن يعوضوا من المحذوف في أخ وأب الهمزة التي في أولها فرارا من اجتماع همزتين وأما حم فأصلة حمأ بالهمزة فلم يكونوا ليعوضوا من الهمزة همزة أخرى فجعلوه كأخ وأب فائدة جمع ابن على بنون دون ابنون فإن قيل فلم قالوا في جمعه بنون دون ابنون قيل الجمع قد يلحقه التغيير بالكسر وغيره بخلاف التثنية فإنه لا يتغير فيها لفظ الواحد بحال مع أنهم رأوا أن جمع السلامة لا بد فيه من واو في الرفع وياء مكسور ما قبلها في النصب والخفض فأشبهت حاله حال ما لم يحذف منه شيء وليست هذه العلة في التثنية ولم يقولوا ابنات كما قالوا ابنتان فإنهم حملوا جمع المؤنث على جمع المذكر لئلا يختلف وأما أخت وبنت فتاء أخت مبدلة من واو ك تاء تراث وتخمة وإنما حملهم على ذلك هاهنا أنهم رأوا المذكر قد حذفت لامه في الإفراد فقالوا أخ وكان القياس أن يقولوا في المؤنث أخت كسنة ولو فعلوا ذلك لكانت

تلك التاء حرف إعراب في الإضافة والإفراد ولم يمكنهم أن يعيدوا المحذوف في الإضافة إلى اللفظ فيخالف لفظه لفظ المذكر ولا أمكنهم من تطويل الصوت بالحركات ما أمكنهم في التذكير لأن ما قبل تاء التأنيث ليس بحرف إعراب ولا أمكنهم نقصان اللفظ في الموطن الذي تم فيه المعنى فجمعوا بين الأغراض بإبدالها تاء لتكون في حال الإفراد علما للتأنيث وفي حال الإضافة من تمام الاسم كالحرف الأصلي إذ هو موطن تتميم كما تقدم وسكنوا ما قبلها لتكون بمنزلة الحرف الأصلي وضموا أول الكلمة إشعارا بالواو وكسروها في بنت إشعارا بالياء لأنها من بنيت وقالوا في تأنيث ابن ابنة وبنت ولم يقولوا في تأنيث أخ إلا أخت والعلة في ذلك مستقرأة كما تقدم وأما قولهم فوك وفاك وفيك فحروف المد فيها حروف إعراب لانفرادها فلم يلزم فيها ما لزم في الخاء والباء ألا تراهم يقولون هذا في جعلته في في كما يقولون مسلمي فيثبتونها مع ياء المتكلم وهذا يدلك على أنها حرف إعراب بخلاف أخواتها ألا تراهم في حال الإفراد كيف أبدلوا من الواو ميما لتتعاقب عليها حركات الإعراب ويدخلها التنوين إذ لو لم يبدلوها ميما لأذهبها التنوين في الإفراد وبقيت الكلمة على حرف واحد فإذا أضيفت زالت العلة حيث أثبتوا التنوين فلم يحتاجوا إلى قلبها ميما فإن قلت أين علامات الإعراب في حال الأصالة قلت مقدر فيها وإن شئت قلت تغير صيغها في الأحوال الثلاثة هو الإعراب والمتغير هو حرف الإعراب فإن قلت فلم لم تثبت الألف في حال النصب إذا أضيفت إلى ضمير المتكلم فتقول فاي كعصاي قلت الفرق أن ألف عصا ثابتة في جميع الأحوال وهذه لا تكون إلا في حال النصب وقد قلبت تلك ياء في لغة طيىء فهذه أحرى بالقلب وأما ذو مال فكان الأظهر فيه أن يكون حرف العلة حرف إعراب وأن لا يكون الاسم على حرفين كما هو في بعض الأسماء المبهمة كذلك يدلك على ذلك قولهم في الجمع ذوو مال وذوات مال إلا أنه قد جاء في القرآن الكريم: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} و {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} وهذا ينبئ أن الاسم ثلاثي

ولامه ياء انقلبت ألفا في تثنية المؤنث خاصة وقولهم في التثنية ذواتي وفي الجمع ذوات والجمع كان أحق بالرد من التثنية لأن التثنية أقرب إلى لفظ الواحد ولأنها أقرب إلى معناه ألا تراهم يقولون أخت وأختان وابنة وابنتان ولا تقول في الجمع ابنتات فلذلك كان القياس حين قالوا ذوات فلم يردوا لام الكلمة والعلة فيه أن ألف ذو وإن كانت منقلبة عن واو فإن انقلابها ليس بلازم وإنما هو عارض بدخول التأنيث ولولا التأنيث لكانت واوا في حال الرفع غير منقلبة وياء في حال الخفض والتثنية أقرب إلى الواحد لفظا ومعنى فلذلك حين ثبوتها جعلوها واوا كما هي في الواحد إذ كان مرفوعا ومثنى ومجموعا وكان حكم الواو أغلب عليها من حكم الياء والألف ثم ردوا لام الفعل لأنهم لو لم يردوها لقالوا ذواتا مال في حال الرفع فيلتبس بالفعل نحو رمتا وقضتا إذا أخبرت عن امرأتين وذواتا من الذوي فكان في رد اللام رفع لهذا اللبس وفرق بين ما يصح عينه في المذكر نحو ذات وذو وبين ما لا يصح عينه في مذكر ولا في جمع نحو شاة فإنك تقول في تثنيته شاتان كقياس ذات وليس في جمع ذات ما يوجب رد لامها كما في تثنيتها كما تقدم وأما سنتان وشفتان فلا يلزم فيهما من الإلتباس بالفعل ما لزم في ذواتا لو قيل لأن نون الإثنين لا تحذف منهما حذفا لازما لأنهما غير مضافين في أكثر الكلام بخلاف ذواتا فإن النون لا توجد فيها البتة للزومها الإضافة ((فوائد تتعلق بالحروف الروابط بين الجملتين وأحكام الشروط وفيها مباحث وفوائد عزيزة نافعة تحررت بعد فكر طويل بحمد الله)) : فائدة: الروابط بين جملتين الروابط بين جملتين هي الأدوات التي تجعل بينهما تلازما لم يفهم قبل دخولها وهي أربعة أقسام أحدها ما يوجب تلازما مطلقا بين الجملتين إما بين

ثبوت وثبوت أو بين نفي ونفي أو بين نفي وثبوت وعكسه في المستقبل خاصة وهو حرف الشرط البسيط ك إن فإنها تلازم بين هذه الصور كلها تقول إن اتقيت الله أفلحت وإن لم تتق الله لم تفلح وإن أطعت الله لم تخب وإن لم تطع الله خسرت ولهذا كانت أم الباب وأعم أدواته تصرفا القسم الثاني أداة تلازم بين هذه الأقسام الأربعة تكون في الماضي خاصة وهي لما تقول لما قام أكرمته وكثير من النحاة يجعلها ظرف زمان وتقول إذا دخلت على الفعل الماضي فهي اسم وإن دخلت على المستقبل فهي حرف ونص سيبويه على خلاف ذلك وجعلها من أقسام الحروف التي تربط بين الجملتين ومثال الأقسام الأربعة لما قام أكرمته ولما لم يقم لم أكرمه ولما لم يقم أكرمته ولما قام لم أكرمه القسم الثالث أداة تلازم بين امتناع الشيء لامتناع غيره وهي لو نحو لو أسلم الكافر نجا من عذاب الله القسم الرابع أداة تلازم بين امتناع الشيء ووجود غيره وهي لولا نحو لولا أن هدانا الله لضللنا وتفصيل هذا الباب يرسم عشرة مسائل المسألة الأولى: المشهور أن الشرط والجزاء لا يتعلقان إلا بالمستقبل فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى كقولك إن مت على الإسلام دخلت الجنة ثم للنحاة فيه تقديران أحدهما: أن الفعل ذو تغير في اللفظ وكان الأصل إن تمت مسلما تدخل الجنة فغير لفظ المضارع إلى الماضي تنزيلا له منزلة المحقق والثاني: أنه ذو تغير في المعنى وأن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال وبقي لفظه على حاله والتقدير الأول أفقه في العربية لموافقته تصرف العرب في إقامتها الماضي مقام المستقبل وتنزيلها المنتظر منزلة الواقع المتيقن نحو: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} ونظائره فإذا تقرر ذلك في الفعل المجرد فليفهم مثله المقارن لأداة الشرط وأيضا فإن تغيير الألفاظ أسهل عليهم من تغيير المعاني لأنهم يتلاعبون بالألفاظ مع محافظتهم على المعنى وأيضا فإنهم إذا أعربوا الشرط أتوا بأداته ثم أتبعوها فعله يتلوه الجزاء فإذا أتوا بالأداة جاءوا بعدها بالفعل

وكان حقه أن يكون مستقبلا لفظا ومعنى فعدلوا عن لفظ المستقبل إلى الماضي لما ذكرنا فعدلوا عن صيغة إلى صيغة وعلى التقدير الثاني كأنهم وضعوا فعل الشرط والجزاء أولا ماضيين ثم أدخلوا عليهما الأداة فانقلبا مستقبلين والترتيب والقصد يأبى ذلك فتأمله. المسألة الثانية: قال تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فهذا شرط دخل على ماضي اللفظ وهو ماضي المعنى قطعا لأن المسيح إما أن يكون هذا الكلام قد صدر منه بعد رفعه إلى السماء أو يكون حكاية ما يقوله يوم القيامة وعلى التقديرين فإنما تعلق الشرط وجزاؤه بالماضي وغلط على الله من قال إن هذا القول وقع منه في الدنيا قبل رفعه والتقدير إن أكن أقول هذا فإنك تعلمه وهذا تحريف للآية لأن هذا الجواب إنما صدر منه بعد سؤال الله له عن ذلك والله لم يسأله وهو بين أظهر قومه ولا اتخذوه وأمه إلهين إلا بعد رفعه بمئين من السنين فلا يجوز تحريف كلام الله انتصارا لقاعدة نحوية هدم مائة أمثالها أسهل من تحريف معنى الآية وقال ابن السراج: في أصوله يجب تأويلهما بفعلين مستقبلين تقديرهما إن ثبت في المستقبل أني قلته في الماضي يثبت أنك علمته وكل شيء تقرر في الماضي كان ثبوته في المستقبل فيحسن التعليق عليه وهذا الجواب أيضا ضعيف جدا ولا ينبئ عنه اللفظ وليت شعري ما يصنعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه" رواه البخاري ومسلم هل يقول عاقل إن الشرط هنا مستقبل أما التأويل الأول فمنتف هنا قطعا وأما الثاني فلا يخفي وجه التعسف فيه وأنه لم يقصد أنه يثبت في المستقبل أنك أذنبت في الماضي فتوبي ولا قصد هذا المعنى وإنما المقصود المراد ما دل عليه الكلام إن كان صدر منك ذنب فيما مضى فاستقبليه بالتوبة لم يرد إلا هذا الكلام وإذا ظهر فساد الجوابين فالصواب أن يقال جملة الشرط والجزاء تارة تكون تعليقا محضا غير متضمن جوابا لسائل هل كان كذا ولا يتضمن لنفي قول من قال قد كان كذا

فهذا يقتضي الاستقبال وتارة يكون مقصودة ومضمنة جواب سائل هل وقع كذا أو رد قوله قد وقع كذا فإذا علق الجواب هنا على شرط لم يلزم أن يكون مستقبلا لا لفظا ولا معنى بل لا يصح فيه الاستقبال بحال كمن يقول لرجل هل أعتقت عبدك فيقول إن كنت قد أعتقته فقد أعتقه الله فما للاستقبال هنا معنى قط وكذلك إذا قلته لمن قال صحبت فلانا فيقول إن كنت صحبته فقد أصبت بصحبته خيرا وكذلك إذا قلت له هل أذنبت فيقول إن كنت قد أذنبت فإني قد تبت إلى الله واستغفرته وكذلك إذا قال هل قلت لفلان كذا وهو يعلم أنه علم بقوله له فيقول إن قلته فقد علمته فقد عرفت أن هذه المواضع كلها مواضع ماض لفظا ومعنى ليطابق السؤال الجواب ويصح التعليق الخبري لا الوعدي فالتعليق الوعدي يستلزم الاستقبال وأما التعليق الخبري فلا يستلزمه ومن هذا الباب قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وتقول إن كانت البينة شهدت بكذا وكذا فقد صدقت وهذه دقيقة خلت منها كتب النحاة والفضلاء وهي كما ترى وضوحا وبرهانا ولله الحمد المسألة الثالثة: المشهور عند النحاة والأصوليين والفقهاء أن أداة إن لا يعلق عليها إلا محتمل الوجود والعدم كقولك إن تأتني أكرمك ولا يعلق عليها محقق الوجود فلا تقول إن طلعت الشمس أتيتك بل تقول إذا طلعت الشمس أتيتك وإذا يعلق عليها النوعان واستشكل هذا بعض الأصوليين فقال قد وردت إن في القرآن في معلوم الوقوع قطعا كقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وهو سبحانه يعلم أن الكفار في ريب منهم وقوله {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّار} ومعلوم قطعا انتفاء فعلهم وأجاب عن هذا بأن قال إن الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية بل الأوضاع العربية مبنية على خصائص الخلق والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب وعلى منوالهم فكل ما كان في عادة العرب حسنا أنزل القرآن على ذلك

الوجه أو قبيحا لم ينزل في القرآن فكل ما كان شأنه أن يكون في العادة مشكوكا فيه بين الناس حسن تعليقه بأن من قبل الله ومن قبل غيره سواء كان معلوما للمتكلم أو للسامع أم لا وكذلك يحسن من الواحد منا أن يقول إن كان زيد في الدار فأكرمه مع علمه بأنه في الدار لأن حصول زيد في الدار شأنه أن يكون في العادة مشكوكا فيه فهذا هو الضابط لما تعلق على إن فاندفع الإشكال قلت هذا السؤال لا يرد فإن الذي قاله القوم إن الواقع ولا بد يعلق بأن وأما ما يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع فهو الذي يعلق بها وإن كان بعد وقوعه متعين الوقوع وإذا عرفت هذا فتدبر قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ} كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة إصابتها من الله تعالى ب إذا وأتى في إصابة السيئة ب أن فإن ما يعفو الله تعالى عنه أكثر وأتى في الرحمة بالفعل الماضي الدال على تحقيق الوقوع وفي حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق ولا بد وكيف أتى في وصول الرحمة بفعل الإذاقة الدال على مباشرة الرحمة لهم وأنها مذوقة لهم والذوق هو أخص أنواع الملابسة وأشدها وكيف أتى في الرحمة بحرف ابتداء الغاية مضافة إليه فقال: {مِنَّا رَحْمَةً} وأتى في السيئة بباء السببية مضافة إلى كسب أيديهم وكيف أكد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف إن دون الجملة الثانية وأسرار القرآن الكريم أكثر وأعظم من أن يحيط بها عقول البشر وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيَّاهُ} كيف أتى بإذا هاهنا لما كان مس الضر لهم في البحر محققا بخلاف قوله: {لا يَسْأَمُ الإنسان مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} فإنه لم يقيد مس الشر هنا بل أطلقه ولما قيده بالبحر الذي هو متحقق فيه ذلك أتى بأداة إذا وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسَانُ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} كيف أتى هنا ب إذا المشعرة بتحقيق الوقوع المستلزم لليأس فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الشر له فكان الإتيان ب إذا هاهنا أدل على المعنى المقصود من إن بخلاف قوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} فإنه

بقلة صبره وضعف احتماله متى توقع الشر أعرض وأطال في الدعاء فإذا تحقق وقوعه كان يؤوسا ومثل هذه الأسرار في القرآن لا يرقى إليها إلا بموهبة من الله وفهم يؤتيه عبدا في كتابه فإن قلت فما تصنع بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} والهلاك محقق قلت التعليق ليس على مطلق الهلاك بل على هلاك مخصوص وهو هلاك لا عن ولد فإن قلت فما تصنع بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} وتقول العرب: إن كنت ابني فأطعني وفي الحديث: في السلام على الموتى "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " رواه مسلم واللحاق محقق وفي قولة الموصي: " إن مت فثلث مالي صدقة" قلت أما قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} الذي حسن مجيء إن هاهنا الاحتجاج والإلزام فإن المعنى إن عبادتكم لله تستلزم شكركم له بل هي الشكر نفسه فإن كنتم ملتزمين لعبادته داخلين في جملتها فكلوا من رزقه واشكروه على نعمه وهذا كثيرا ما يورد في الحجاج كما تقول للرجل إن كان الله ربك وخالقك فلا تعصه وإن كان لقاء الله حقا فتأهب له وإن كانت الجنة حقا فتزود إليها وهذا أحسن من جواب من أجاب بأن إن هنا قامت مقام إذا وكذا قوله: {إن كنتم بآياته مؤمنين} [الأنعام 118] وكذا قولهم إن كنت ابني فأطعني ونظائر ذلك وأما قوله: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" فالتعليق هنا ليس لمطلق الموت وإنما هو للحاقهم بالمؤمنين ومصيرهم إلى حيث صاروا وأما قول الموصي: " إن مت فثلث مالي صدقة" فلأن الموت وإن كان محققا لكن لما لم يعرف تعين وقته وطال الأمد وانفردت مسافة أمنية الحياة نزل منزلة المشكوك كما هو الواقع الذي يدل عليه أحوال العباد فإن عاقلا لا يتيقن الموت ويرضى بإقامته على حال لا يحب الموت عليها أبدا كما قال بعض السلف: "ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت" وعلى هذا حمل بعض أهل المعاني {ثُمَّ إِنَّكُمْ

بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} فأكد الموت باللام وأتى فيه باسم الفاعل الدال على الثبوت وأتى في البعث بالفعل ولم يؤكده المسألة الرابعة قد يتعلق الشرط بفعل محال ممتنع الوجود فيلزمه محال آخر وتصدق الشرطية دون مفرد بها أما صدقها فلاستلزام المحال المحال وأما كذب مفرديها فلاستحالتهما وعليه: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ومنه قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ومنه قل لو كان معه آلهة كما يقولون: {إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} ونظائره كثيرة وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران أحدهما بيان استلزام إحدى القضيتين للأخرى والثاني أن اللازم منتف فالملزوم كذلك فقد تبين من هذا أن الشرط تعلق به المحقق الثبوت والممتنع الثبوت والممكن الثبوت المسألة الخامسة: اختلف سيبويه ويونس في الاستفهام الداخل على الشرط فقال سيبويه يعتمد على الشرط وجوابه فيتقدم عليهما ويكون بمنزلة القسم نحو قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} وقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران 44] وقال يونس بن حبيب يعتمد على الجزاء فتقول إن مت فأنت خالد والقرآن الكريم مع سيبويه والقياس أيضا كما يتقدم لتكون جملة الشرط والجزاء مقسما عليها ومستفهما عنها لو كان كما قال يونس ابن حبيب: لقال فإن مت أفهم الخالدون المسألة السادسة: اختلف الكوفيون والبصريون فيما إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء ثم ذكر فعل الشرط ولم يذكر له جزاء نحو أقوم إن قمت فقال محمد بن السراج إن الذي عندي أن الجواب محذوف يغني عن الفعل المتقدم قال وإنما يستعمل هذا على وجهين إما أن يضطر إليه شاعر وإما أن يكون المتكلم به محققا بغير شرط ولا نية فقال أجيئك ثم يبدو له أنه لا يجيئه إلا لسبب فيقول إن جئتني فيشبه الاستثناء ويغني عن الجواب ما تقدم وهذا قول البصريين وخالفهم أهل الكوفة وقالوا المتقدم هو الجزاء والكلام مرتبط به وقولهم في ذلك

هو الصواب وهو اختيار الجرجاني قال الدليل على أنك إذا قلت آتيك إن أتيتني كان الشرط متصلا بآتيك وإن الذي يجري في كلامهم لا بد من إضمار الجزاء ليس على ظاهره وأما إن عملنا على ظاهره وتوقفنا أن الشرط متقدم في النفس على الجزاء صار من ذلك شيئان ابتداء كلام ثان ثم اعتقاد ذلك يؤدي إلى إبطال ما اتفق عليه العقلاء في الإيمان من افتراق الحكم بين أن يصل الشرط في نطقه وبين أن يقف ثم يأتي بالشرط وأنه إذا قال لعبده أنت حر إن شاء الله فوصل لم يعتق ولو وقف ثم قال إن شاء الله فإنه يعتق فإذا سمعت ما قلنا عرفت خلاف المسألة فالمشهور من مذهب البصريين امتناع تقديم الجزاء على الشرط هذا كلامه قلت ولم يكن به حاجة في تقرير الدليل إلى الوقف بين الجملة الأولى وجملة الشرط فالدلالة قائمة ولو وصل فإنه إذا قال أنت حر فهذه جملة خبرية ترتب عليها حكمها عند تمامها وقوله: إن شاء الله ليس تعليقا لها عندكم فإن التعليق إنما يعمل في الجزاء وهذه ليست بجزاء وإنما هي خبر محض والجزاء عندكم محذوف فلما قالوا إنه لا يعتق دل على أن المتقدم نفسه جزاء معلق هذا تقرير الدلالة ولكن ليس هذا باتفاق فقد ذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أن الشرط إنما يعمل في تعليق الحكم إذا تقدم على الطلاق فتقول إن شاء الله فأنت طالق فأما إن تقدم الطلاق ثم عقبه بالتعليق فقال أنت طالق إن شاء الله طلقت ولا ينفع التعليق وعلى هذا فلا يبقى فيما ذكر حجة ولكن هذا المذهب شاذ والأكثرون على خلافه وهو الصواب لأنه إما جزاء لفظا ومعنى قد اقتضاه التعليق على قول الكوفيين وإما أن يكون جزاء في المعنى وهو نائب الجزاء المحذوف ودال عليه فالحكم تعلق به على التقديرين والمتكلم إنما بنى كلامه عليه وأما قول ابن السراج إنه قصد الخبر جزما ثم عقبه بالجزاء فليس كذلك بل بنى كلامه على الشرط كما لو قال له علي عشرة إلا درهما فإنه لم يقر بالعشرة ثم أنكر درهما ولو كان كذلك لم ينفعه الاستثناء ومن هنا قال بعض

الفقهاء أن الاستثناء لا ينفع في الطلاق لأنه إذا قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة فقد أوقع الثلاثة ثم رفع منها واحدة وهذا مذهب باطل فإن الكلام مبني على آخره ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض كارتباط التوابع من الصفات وغيرها بمتبوعاتها والاستثناء لا يستقل بنفسه فلا يقبل إلا بارتباطه بما قبله فجرى مجرى الصفة والعطف ويلزم أصحاب هذا المذهب أن لا ينفع الاستثناء في الإقرار لأن المقر به لا يرفع ثبوته وفي إجماعهم على صحته دليل على إبطال هذا المذهب وإنما احتاج الجرجاني إلى ذكر الفرق بين أن يقف أو يصل لأنه إذا وقف عتق العبد ولم ينفعه الاستثناء وإذا وصل لم يعتق فدل على أن الفرق بين وقوع العتق وعدمه هو السكوت والوصل هو المؤثر في الحكم لا تقدم الجزاء وتأخره فإنه لا تأثير له بحال كما ذكره ابن السراج أنه إنما يأتي في الضرورة ليس كما قال فقد جاء في أفصح الكلام وهو كثير جدا كقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} وهو كثير فالصواب المذهب الكوفي والتقدير إنما يصار إليه عند الضرورة بحيث لا يتم الكلام إلا به فإن كان الكلام تاما بدونه فأي حاجة بنا إلى التقدير وأيضا فتقديم الجزاء ليس بدون تقديم الخبر والمفعول والحال ونظائرها فإن قيل الشرط له التصدير وصفا فتقديم الجزاء عليه يخل بتصديره قلنا: هذه هي الشبهة التي منعت القائلين بعدم تقديمه وجوابها إنكم إن عنيتم بالتصدير أنه لا يتقدم معموله عليه والجزاء معمول له فيمتنع تقديمه فهو نفس المتنازع فيه فلا يجوز إثبات الشيء بنفسه وإن عنيتم به أمرا آخر لم يلزم منه امتناع التقديم ثم نقول الشرط والجزاء جملتان قد صارتا بأداة الشرط جملة واحدة وصارت الجملتان بالأداة كأنهما مفردان لشبههما بالمفردين في باب الابتداء والخبر فكما لا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ فكذلك تقديم الجزاء فالجزاء هو المقصود والشرط قيد فيه وتابع له

فهو من هذا الوجه رتبته التقديم طبعا ولهذا كثيرا ما يجيء الشرط متأخرا عن المشروط لأن المشروط هو المقصود وهو الغاية والشرط وسيلة فتقديم المشروط هو تقديم الغايات على وسائلها ورتبتها التقديم ذهنا وإن تقدمت الوسيلة وجودا فكل منهما له التقدم بوجه وتقدم الغاية أقوى فإذا وقعت في مرتبتها فأي حاجة إلى أن نقدرها متأخرة وإذا انكشف الصواب فالصواب أن تدور معه حيثما دار. المسألة السابعة: لو يؤتى بها للربط لتعلق ماض بماض كقولك لو زرتني لأكرمتك ولهذا لم تجزم إذا دخلت على مضارع لأن الوضع للماضي لفظا ومعنى كقولك لو يزورني زيد لأكرمته فهي في الشرط نظير إن في الربط بين الجملتين لا في العمل ولا في الاستقبال وكان بعض فضلاء المتأخرين وهو تاج الدين الكندي ينكر أن تكون لو حرف شرط وغلط الزمخشري في عدها في أدوات الشرط قال الأندلسي في شرح المفصل: فحكيت ذلك لشيخنا أبي البقاء فقال غلط تاج الدين في هذا التغليط فإن لو تربط شيئا بشيء كما تفعل إن قلت ولعل النزاع لفظي فإن أريد بالشرط الربط المعنوي الحكمي فالصواب ما قاله أبو البقاء الزمخشري وإن أريد بالشرط ما يعمل في الجزأين فليست من أدوات الشرط المسألة الثامنة: المشهور أن لو إذا دخلت على ثبوتين نفتهما أو نفيين أثبتتهما أو نفي وثبوت أثبتت المنفي ونفت المثبت وذلك لأنها تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره وإذا امتنع النفي صار إثباتا فجاءت الأقسام الأربعة وأورد على هذا أمور. أحدها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ومقتضى ما ذكرتم أن تكون كلمات الله تعالى قد نفدت وهو محال لأن الأول ثبوت وهو كون أشجار الأرض أقلاما والبحار مدادا لكلماته وهذا منتف والثاني وهو قوله ما نفدت كلمات الله فيلزم أن يكون

ثبوتا الثاني قول عمر: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" لا أصل له فعلى ما ذكرتم يكون الخوف ثابتا لأنه منفي والمعصية كذلك لأنها منفية أيضا وقد اختلفت أجوبة الناس عن ذلك فقال: أبو الحسن بن عصفور: لو في الحديث بمعنى إن لمطلق الربط فلا يكون نفيها إثباتا ولا إثباتها نفيا فاندفع الإشكال وفي هذا الجواب ضعف بين فإنه لم يقصد في الحديث مطلق الربط كما قال وإنما قصد ارتباط متضمن لنفي الجزاء ولا سيق الكلام إلا لهذا ففي الجواب إبطال خاصية لو التي فارقت بها سائر أدوات الشرط وقال غيره لو في اللغة لمطلق الربط وإنما اشتهرت في العرف في انقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس والحديث إنما ورد بمعنى اللفظ في اللغة حكى هذا الجواب محمد القرافي عن الخسر وشاهي وهو أفسد من الذي قبله بكثير فإن اقتضاء لو لنفي الثابت بعدها وإثبات المنفي متلقى من أصل وضعها لا من العرف الحادث كما أن معاني سائر الحروف من نفي أو تأكيد أو تخصيص أو بيان أو ابتداء أو انتهاء إنما هو متلقى من الوضع لا من العرف فما قاله ظاهر البطلان الثالث جواب الشيخ: أبي محمد بن عبد السلام وغيره وهو أن الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه وقد يكون له سببان فلا يلزم من عدم أحدهما عدمه لأن السبب الثاني يخلف السبب الأول كقولنا في زوج هو ابن عم لو لم يكن زوجا لورث أي بالتعصيب فإنهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر وكذلك الناس هاهنا في الغالب إنما لم يعصوا لأجل الخوف فإذا ذهب الخوف عنهم عصوا لاتحاد السبب في حقهم فأخبر عمر أن صهيبا اجتمع له سببان يمنعانه المعصية الخوف والإجلال فلو انتفى الخوف في حقه لانتفى العصيان للسبب الآخر وهو الإجلال وهذا مدح عظيم له قلت وبهذا الجواب بعينه يجاب عن قوله صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة" رواه البخاري ومسلم أي فيها سببان يقتضيان التحريم فلو قدر انتفاء أحدهما لم ينتف التحريم للسبب الثاني وهذا جواب حسن جدا

الجواب الرابع ذكره بعضهم بأن قال جواب لو محذوف وتقديره لو لم يخف الله لعصمه فلم يعصه بإحلاله ومحبته إياه فإن الله يعصم عبده بالخوف تارة والمحبة والإجلال تارة وعصمة الإجلال والمحبة أعظم من عصمة الخوف لأن الخوف يتعلق بعقابه والمحبة والإجلال يتعلقان بذاته وما يستحقه تبارك وتعالى فأين أحدهما من الآخر ولهذا كان دين الحب أثبت وأرسخ من دين الخوف وأمكن وأعظم تأثيرا وشاهد ما نراه من طاعة المحب لمحبوبه وطاعة الخائف لمن يخافه كما قال بعض الصحابة إنه ليستخرج حبه مني من الطاعة ما لا يستخرجه الخوف وليس هذا موضع بسط هذا الشأن العظيم القدر وقد بسطته في كتاب الفتوحات القدسية الخامس أن لو أصلها أن تستعمل للربط بين شيئين كما تقدم ثم إنها قد تستعمل لقطع الربط فتكون جوابا لسؤال محقق أو متوهم وقع فيه ربط فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط كما لو قال القائل إن لم يكن زيد زوجا لم يرث فتقول أنت لو لم يكن زوجا لورث زيد إن ما ذكره من الربط بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربطه وتقول لو لم يكن زيد عالما لأكرم أي لشجاعته جوابا لسؤال سائل يتوهم أنه لو لم يكن عالما لما أكرم فتربط بين عدم العلم والإكرام فتقطع أنت ذلك الربط وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام لأن ذلك ليس بمناسب ولا من أغراض العقلاء ولا يتجه كلامك إلا على عدم الربط كذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوفهم وإن ذلك في الأوهام قطع عمر هذا الربط وقال لو لم يخف الله لم يعصه وكذلك لما كان الغالب على الأوهام أن الشجر كلها إذا صارت أقلاما والبحار المذكورة كلها تكتب به الكلمات الإلهية فلعل الوهم يقول ما يكتب بهذا شيء إلا نفد كائنا ما كان فقطع الله تعالى هذا الربط ونفى هذا الوهم وقال: ما نفدت قلت:

ونظير هذا في الحديث أن زوجته لما توهمت أن ابنة عمه حمزة تحل له لكونها بنت عمه فقطع هذا الربط بقوله إنها لا تحل وذكر للتحريم سببين الرضاعة وكونها ربيبة له وهذا جواب القرافي قال: وهو أصلح من الأجوبة المتقدمة من وجهين أحدهما: "شموله للحديث والآية وبعض الأجوبة لا تنطبق على الآية والثاني أن ورود لو بمعنى إن خلاف الظاهر وما ذكره لا يتضمن خلاف الظاهر" قلت: وهذا الجواب فيه ما فيه فإنه إن ادعى أن لو وضعت أو جيء بها لقطع الربط فغلط فإنها حرف من حروف الشرط التي مضمونها ربط السبب بمسببه والملزوم بلازمه ولم يؤت بها لقطع هذا الارتباط ولا وضعت له أصلا فلا يفسر الحرف بضد موضوعه ونظير هذا قول من يقول: إن إلا قد تكون بمعنى الواو وهذا فاسد فإن الواو للتشريك والجمع وإلا للإخراج وقطع التشريك ونظائر ذلك وإن أراد أن قطع الربط المتوهم مقصود للمتكلم من أدلة فهذا حق ولكن لم ينشأ هذا من حرف لو وإنما جاء من خصوصية ما صحبها من الكلام المتضمن لنفي ما توهمه القائل أو ادعاه ولم يأت من قبل لو فهذا كلام هؤلاء الفضلاء في هذه المسألة وإنما جاء الإشكال سؤالا وجوابا من عدم الإحاطة بمعنى هذا الحرف ومقتضاه وحقيقته وأنا أذكر حقيقة هذا الحرف ليتبين سر المسألة بعون الله لو للملازمة بين أمرين فاعلم أن لو حرف وضع للملازمة بين أمرين يدل على أن الحرف الأول منهما ملزوم الثاني لازم هذا وضع هذا الحرف وطبيعته وموارده في هذه الملازمة أربعة فإنه إما أن يلازم بين نفيين أو ثبوتين أو بين ملزوم مثبت ولازم منفي أو عكسه ونعني بالثبوت والنفي هنا الصوري اللفظي لا المعنوي فمثال الأول: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الأِنْفَاقِ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} ونظائره ومثال الثاني لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت

لي ولو لم يخف الله لم يعصه ومثال الثالث: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ومثال الرابع لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم فهذه صورة وردوها على النفي والإثبات وأما حكم ذلك فأمران أحدهما: نفي الأول لنفي الثاني: لأن الأول ملزوم والثاني لازم والملزوم عدم عند عدم لازمه والثاني تحقق الثاني لتحقق الأول لأن تحقق الملزوم يستلزم تحقق لازمه فإذا عرفت هذا فليس في طبيعة لو ولا وضعها ما يؤذن بنفي واحد من الجزأين ولا إثباته وإنما طبعها وحقيقتها الدلالة على التلازم المذكور لكن إنما يؤتى بها للتلازم المتضمن نفي اللازم أو الملزوم أو تحققها ومن هنا نشأت الشبهة فلم يؤت بها لمجرد التلازم مع قطع النظر عن ثبوت الجزأين أو نفيهما فإذا دخلت على جزأين متلازمين قد انتفى اللازم منهما استفيد نفي الملزوم من قضية اللزوم لا من نفس الحرف وبيان ذلك أن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، لم يستفد نفي الفساد من حرف لو بل الحرف دخل على أمرين قد علم انتفاء أحدهما حسا فلازمت بينه وبين من يريد نفيه من تعدد الآلهة وقضية الملازمة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه فإذا كان اللازم منتف قطعا وحسا انتفى ملزومه لانتفائه لا من حيث الحرف فهنا أمران أحدهما الملازمة التي فهمت من الحرف والثاني انتفاء اللازم المعلوم بالحس فعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم انتفاء اللازم والملزوم ب لو فمن هنا قالوا إن دخلت على مثبتين صارا منتفيين بمعنى أن الثاني منهما قد علم انتفاؤه من خارج فينتفي الأول لانتفائه وإذا دخلت على منفيين أثبتتهما لذلك أيضا لأنها تدخل على ملزوم محقق الثبوت من خارج فيتحقق ثبوت ملزومه كما في قوله: " لو لم تذنبوا" فهذا الملزوم وهو صدور الذنب متحقق في الخارج من البشر فتحقق لازمه وهو بقاء النوع الإنساني وعدم الذهاب به لأن الملازمة وقعت بين عدم الذنب وعدم البقاء لكن عدم الذنب منتف قطعا فانتفى لازمه وهو عدم الذهاب

بنا فثبت الذنب وثبت البقاء وكذلك نفيه الأقسام الأربعة يفهم على هذا الوجه وإذا عرف هذا فاللازم الواحد قد يلزم ملزومات متعددة كالحيوانية اللازمة للإنسان والفرس وغيرهما فيقصد المتكلم إثبات الملازمة بين بعض تلك الملزومات واللازم على تقدير انتفاء البعض الآخر فيكون مقصوده أن الملازمة حاصلة على تقدير انتفاء ذلك الملزوم الآخر فلا يتوهم المتوهم انتفاء اللازم عند نفي ملزوم معين فإن الملازمة حاصلة بدونه وعلى هذا يخرجه لو لم يخف الله لم يعصه ولو لم تكن ربيبتي لما حلت لي فإن عدم المعصية له ملزومات فهي الخشية والمحبة والإجلاء فلو انتفى بعضها وهو الخوف مثلا لم يبطل اللازم لأن له ملزومات أخرى غيره وكذلك لو انتفى كون البنت ربيبة لما انتفى التحريم لحصول الملازمة بينه وبين وصف آخر وهو الرضاع وذلك الوصف ثابت وهذا القسم إنما يأتي في لازم له ملزومات متعددة فيقصد المتكلم تحقق الملازمة على تقدير نفي ما نفاه منها وأما قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} فإن الآية سيقت لبيان أن أشجار الأرض لو كانت أقلاما والبحار مدادا فكتبت بها كلمات الله لنفدت البحار والأقلام ولم تنفد كلمات الله فالآية سيقت لبيان الملازمة بين عدم نفاد كلماته وبين كون الأشجار أقلاما والبحار مدادا يكتب بها فإذا كانت الملازمة ثابتة على هذا التقدير الذي هو أبلغ تقدير يكون في نفاد المكتوب فثبوتها على غيره من التقادير أولى ونوضح هذا بضرب مثل يرتقى منه إلى فهم مقصود الآية إذا قلت لرجل لا يعطي أحدا شيئا لو أن لك الدنيا بأسرها ما أعطيت أحدا منها شيئا فإنك إذا قصدت أن عدم إعطائه ثابت على أعظم التقادير التي تقتضي الإعطاء فلازمت بين عدم إعطائه أسباب الإعطاء وهو كثرة ما يملكه فدل هذا على أن عدم إعطائه ثابت على ما هو دون هذا التقدير وأن عدم الإعطاء لازم لكل تقدير فافهم نظير هذا المعنى في الآية وهو عدم

نفاد كلمات الله تعالى على تقدير أن الأشجار أقلام والبحار مداد يكتب بها فإذا لم تنفد على هذا التقدير كان عدم نفادها لازما له فكيف بما دونه من التقديرات فافهم هذه النكتة التي لا يسمح بمثلها كل وقت ولا تكاد تجدها في الكتب وإنما هي من فتح الله وفضله فله الحمد والمنة ونسأله المزيد من فضله فانظر كيف اتفقت القاعدة العقلية مع القاعدة النحوية وجاءت النصوص بمقتضاهما معا من غير خروج عن موجب عقل ولا لغة ولا تحريف لنص ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذه الفائدة لساوت رحلة فكيف وقد تضمن من غرر الفوائد ما لا يتفق إلا على تجارة وأما من ليس هناك فإنه يظن الجوهرة زجاجة والزجاجة المستديرة المثقوبة جوهرة ويزري على الجوهري ويزعم أنه لا يفرق بينهما والله المعين. المسألة التاسعة: في دخول الشرط على الشرط نذكر فيه ضابطا مزيلا للإشكال إن شاء الله فنقول: الشرط الثاني تارة يكون معطوفا على الأول وتارة لا يكون والمعطوف تارة يكون معطوفا على فعل الشرط وحده وتارة يعطف على الفعل مع الأداة فمثال غير المعطوف إن قمت إن قعدت فأنت طالق ومثال المعطوف على فعل الشرط وحده إن قمت وقعدت ومثال المعطوف على الفعل مع الأداة إن قمت وإن قعدت فهذه الأقسام الثلاثة أصول الباب وهي عشر صور أحدها: إن خرجت ولبست فلا يقع المشروط إلا بهما كيفما اجتمعا الثانية: إن لبست فخرجت لم يقع المشروط إلا بالخروج بعد اللبس فلو خرجت ثم لبست لم يحنث الثالث: إن لبست ثم خرجت فهذا مثل الأول وإن كان ثم للتراخي فإنه لا يعتبر هنا إلا حيث يظهر قصده الرابعة: إن خرجت لا إن لبست فيحتمل هذا التعليق أمرين أحدهما جعل الخروج شرطا ونفي اللبس أن يكون شرطا الثاني أن يجعل الشرط هو الخروج المجرد عن اللبس والمعنى إن خرجت لا لابسة أي غير لابسة ويكون المعنى إن كان منك خروج لا مع اللبس فعلى هذا التقدير الأول يحنث بالخروج وحده وعلى الثاني لا يحنث إلا بخروج لا لبس معه الخامسة: إن خرجت بل إن لبست

ويحتمل هذا التعليق أمرين أحدهما أن يكون الشرط هو اللبس دون الخروج فيختص الحنث به لأجل الإضراب والثاني أن يكون كل منهما شرطا فيحنث بأيهما وجد ويكون الإضراب عن الاقتصار فيكون إضراب اقتصار لا إضراب إلغاء كما تقوله أعطه درهما بل درهما آخر السادسة: إن خرجت أو إن لبست فالشرط أحدهما أيهما كان السابعة: إن لبست لكن إن خرجت فالشرط الثاني وقع ولغا الأول لأجل الاستدراك ب لكن الثامنة: أن يدخل الشرط على الشرط ويكون الثاني معطوفا بالواو نحو إن لبست وإن خرجت فهذا يحنث بأحدهما فإن قيل: فكيف لم تحنثوه في صورة العطف على الفعل وحده إلا بهما وحنثتموه هاهنا بأيهما كان قيل: لأن هناك جعل الشرط مجموعهما وهنا جعل كل واحد منهما شرطا برأسه وجعل لهما جوابا واحدا وفيه رأيان أحدهما: أن الجواب لهما جميعا وهو الصحيح والثاني أن جواب أحدهما حذف لدلالة المذكور عليه وهي أخت مسألة الخبر عن المبتدأ بجزأين التاسعة: أن يعطف الشرط الثاني بالفاء نحو قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} فالجواب المذكور جواب الشرط الثاني وهو وجوابه جواب الأول فإذا قال إن خرجت فإن كلمت أحدا فأنت طالق لم تطلق حتى تخرج وتكلم أحدا العاشرة: وهي أن المسألة التي تكلم فيها الفقهاء دخول الشرط على الشرط بلا عطف نحو إن خرجت إن لبست واختلفت أقوالهم فيها فمن قائل إن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى وإنه لا يحنث حتى يتقدم اللبس على الخروج ومن قائل بل المقدم لفظا هو المقدم معنى وذكر كل منهم حججا لقوله وممن نص على المسألة الموفق الأندلسي في شرحه فقال إذا دخل الشرط على الشرط وعيد حرف الشرط توقف وقوع الجزاء على وجود الشرط الثاني قبل الأول كقولك: إن أكلت إن شربت فأنت طالق فلا تطلق حتى يوجد الشرب منها قبل الأكل لأنه تعلق على أكل معلق على شرب وهذا الذي ذكره أبو إسحاق في المهذب وحكى ابن شاس في الجواهر الثمينة: عن أصحاب مالك بن أنس رضي الله عنه عكسه والوجهان لأصحاب الشافعي رضي الله عنه ولا بد في

المسألة من تفصيل: وهو أن الشرط الثاني إن كان متأخرا في الوجود عن الأول كان مقدرا بالفاء وتكون الفاء جواب الأول والجواب المذكور جواب الثاني مثاله إن دخلت المسجد إن صليت فيه فلك أجر تقديره فإن صليت فيه وحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها وإن كان الثاني متقدما في الوجود على الأول فهو في نية التقدم وما قبله جوابه والفاء مقدرة فيه ومثل قوله عز وجل: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أي فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي وتقول إن دخلت المسجد إن توضأت فصل ركعتين تقديره إن توضأت فإن دخلت المسجد فصل ركعتين فالشرط الثاني هنا متقدم وإن لم يكن أحدهما متقدما في الوجود على الآخر بل كان محتملا للتقدم والتأخر لم يحكم على أحدهما بتقدم ولا تأخر بل يكون الحكم راجعا إلى تقدير المتكلم ونيته فأيهما قدره شرطا كان الآخر جوابا له وكان مقدرا بالفاء تقدم في اللفظ أو تأخر وإن لم يظهر نيته ولا تقديره احتمل الأمرين فمما ظهر فيه تقديم المتأخر قول الشاعر: إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا ... منا معاقل عز زانها الكرم لأن الاستغاثة لا تكون إلا بعد الذعر ومنه قول ابن دريد: فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا ومعلوم أن العثور مرة ثانية إنما يكون بعد الذعر ومن المحتمل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يحتمل أن تكون الهبة شرطا ويكون فعل الإرادة جوابا له ويكون التقدير إن وهبت نفسها للنبي فإن أراد النبي أن يستنكحها فخالصة له ويحتمل أن تكون الإرادة شرطا والهبة جوابا له والتقدير إن أراد النبي أن يستنكحها فإن وهبت نفسها فهي خالصة له يحتمل الأمرين فهذا ما ظهر لي من التفصيل في هذه المسألة وتحقيقها والله أعلم

فائدة عظيمة المنفعة: قال سيبويه: "الواو لا تدل على الترتيب ولا التعقيب" تقول صمت رمضان وشعبان وإن شئت شعبان ورمضان بخلاف الفاء وثم إلا أنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم هذا لفظه قال السهيلي: "وهو كلام مجمل يحتاج إلى بسط وتبيين" فيقال" متى يكون أحد الشيئين أحق بالتقدم ويكون المتكلم ببيانه أعنى قال والجواب أن هذا الأصل يجب الاعتناء به لعظم منفعته في كتاب الله وحديث رسوله إذ لا بد من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر نحو السميع والبصير والظلمات والنور والليل والنهار والجن والإنس في الأكثر وفي بعضها الإنس والجن وتقديم السماء على الأرض في الذكر وتقديم الأرض عليها في بعض الآي ونحو سميع عليم ولم يجيء عليم سميع وكذلك عزيز حكيم وغفور رحيم وفي موضع واحد الرحيم الغفور إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر وليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة وحكمة لأنه كلام الحكيم الخبير وسنقدم بين يدي الخوض في هذا الغرض أصلا يقف بك على الطريق الأوضح فنقول إن تقديم الألفاظ في اللسان على حسب تقدم المعاني في الجنان تقديم المعاني تتقدم المعاني بأحد خمسة أشياء إما بالزمان وإما بالطبع وإما بالرتبة وإما بالسبب وإما بالفضل والكمال فإذا سبق معنى من المعاني إلى الخفة والثقل بأحد هذه الأسباب الخمسة أو بأكثرها سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق وكان ترتب الألفاظ بحسب ذلك نعم وربما كان ترتب الألفاظ بحسب الخفة والثقل لا بحسب المعنى كقولهم ربيعة ومضر وكان تقديم مضر أولى من جهة الفضل ولكن آثروا الخفة لأنك لو قدمت مضر في اللفظ كثرت الحركات وتوالت فلما أخرت وقف عليها بالسكون قلت:

ومن هذا النحو الجن والإنس فإن لفظ الإنس أخف لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وجمامه وأما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه قدم الجن على الإنس في الأكثر والأغلب وسنشير إليها في آخر الفصل إن شاء الله أما ما تقدم بتقدم الزمان فكعاد وثمود والظلمات والنور فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس والمعقول وتقدمها في المحسوس معلوم بالخبر المنقول وتقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} فالجهل ظلمة معقولة وهي متقدمة بالزمان على نور العلم ولذلك قال تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} فهذه ثلاث محسوسات ظلمة الرحم وظلمة البطن وظلمة المشيمة وثلاث معقولات وهي عدم الإدراك الثلاثة المذكورة في الآية المتقدمة إذ لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع وفي الحديث: " إن الله خلق عباده في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره" صحيح ومن المتقدم بالطبع نحو مثنى وثلاث ورباع ونحو: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَة إَِِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية وما يتقدم من الأعداد بعضها على بعض إنما يتقدم بالطبع كتقدم الحيوان على الإنسان والجسم على الحيوان ومن هذا الباب تقدم العزيز على الحكيم لأنه عز فلما عز حكم وربما كان هذا من تقدم السبب على المسبب ومثله كثير في القرآن نحو: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} لأن التوبة سبب الطهارة وكذلك: {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} لأن الإفك سبب الإثم وكذلك: {كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} وأما تقدم هماز على مشاء بنميم فبالرتبة لأن المشي مرتب على القعود في المكان والهماز هو العياب وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه بخلاف النميمة وأما تقدم مناع للخير على معتد فبالرتبة أيضا لأن المناع يمنع من نفسه والمعتدي يعتدي على غيره ونفسه قبل غيره ومن المقدم بالرتبة: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِر} لأن الذي يأتي راجلا يأتي من المكان القريب والذي يأتي على الضامر يأتي من المكان البعيد على أنه قد روي عن

ابن عباس أنه قال: "وددت أني حججت راجلا لأن الله قدم الرجالة على الركبان في القرآن الكريم" فجعله ابن عباس من باب تقدم الفاضل على المفضول والمعنيان موجودان وربما قدم الشيء لثلاثة معان وأربعة وخمسة وربما قدم لمعنى واحد من الخمسة ومما قدم للفضل والشرف: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وقوله: النبيين والصديقين ومنه تقديم السميع على البصير وسميع على بصير ومنه تقديم الجن على الإنس في أكثر المواضع لأن الجن تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجتن عن الأبصار قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} وقال الأعشى: وسخر من جن الملائك شيعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر وأما قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} وقوله: {لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} فإن لفظ الجن هاهنا لا يتناول الملائكة بحال لنزاهتهم عن العيوب وأنه لا يتوهم عليهم الكذب ولا سائر الذنوب فلما لم يتناولهم عموم لفظ هذه القرينة بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم وأما تقديم السماء على الأرض فبالرتبة أيضا وبالفضل والشرف وأما تقديم الأرض في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} فبالرتبة أيضا لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه وهم المخاطبون بقوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} فاقتضى حسن النظم تقديمها مرتبة في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها بخلاف الآية التي في سبأ فإنها منتظمة بقوله عالم الغيب وأما تقديمه المال على الولد في كثير من الآي فلأن الولد بعد وجود المال نعمة ومسرة وعند الفقر وسوء الحال هم ومضرة فهذا من باب تقديم السبب على المسبب لأن المال سبب تمام النعمة بالولد وأما قوله: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِين} فتقديم النساء على البنين بالسبب وتقدم الأموال على البنين بالرتبة ومما تقدم بالرتبة ذكر السمع والعلم حيث وقع فإنه خبر يتضمن التخويف والتهديد فبدأ بالسمع لتعلقه

بما قرب كالأصوات وهمس الحركات فإن من سمع حسك وخفي صوتك أقرب إليك في العادة ممن يقال لك أنه يعلم وإن كان علمه تعالى متعلقا بما ظهر وبطن وواقعا على ما قرب وشطن ولكن ذكر السميع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم فهو أولى بالتقديم وأما تقديم الغفور على الرحيم فهو أولى بالطبع لأن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة تطلب قبل الغنيمة وفي الحديث أن النبي قال: لعمرو بن العاص " أبعثك وجها يسلمك الله فيه ويغنمك وأرغب لك رغبة من المال " صحيح فهذا من الترتيب البديع بدأ بالسلامة قبل الغنيمة وبالغنيمة قبل الكسب وأما قوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة فإما بالفضل والكمال وإما بالطبع لأنها منتظمة بذكر أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم من الحيوان فالرحمة تشملهم والمغفرة تخصهم والعموم بالطبع قبل الخصوص كقوله: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وكقوله: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} ومما قدم بالفضل قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} لأن السجود أفضل وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فإن قيل فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة لأنه انتقال من علو إلى انخفاض والعلو بالطبع قبل الانخفاض فهلا قدم الركوع الجواب أن يقال: انتبه لمعنى الآية من قوله: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ولم يقل اسجدي مع الساجدين فإنما عبر بالسجود عن الصلاة وأراد صلاتها في بيتها لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها ثم قال لها: {اركعي مع الراكعين} أي صلي مع المصلين في بيت المقدس ولم يرد أيضا الركوع وحده دون أجزاء الصلاة ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة كما تقول: ركعت ركعتين وأربع ركعات يريد الصلاة لا الركوع بمجرده فصارت الآية متضمنة لصلاتين صلاتها وحدها عبر عنها بالسجود لأن السجود أفضل حالات العبد وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها ثم صلاتها في المسجد عبر عنها بالركوع لأنه في الفضل دون السجود وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها وهذا نظم بديع

وفقه دقيق وهذه نبذ تسير بك إلى ما وراءها ترشدك وأنت صحيح وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركوع السجود: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} بدأ بالطائفين للرتبة والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين وجمعهم جمع السلامة لأن جمع السلامة أدل على لفظ الفعل الذي هو علة تعلق بها حكم التطهير ولو كان مكان الطائفين الطواف لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله: للطائفين ألا ترى أنك تقول تطوفون كما تقول طائفون فاللفظان متشابهان فإن قيل: فهلا أتى بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين فيقول: وطهر بيتي للذين يطوفون قيل: إن الحكم يعلل بالفعل لا بذوات الأشخاص ولفظ الذين ينبئ عن الشخص والذات ولفظ الطواف يخفي معنى الفعل ولا يبينه فكان لفظ الطائفين أولى بهذا الموطن ثم يليه في الترتيب القائمين لأنه في معنى العاكفين وهو في معنى قوله: {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} أي مثابرا ملازما وهو كالطائفين في تعلق حكم التطهر به ثم يليه بالرتبة لفظ الراكع لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصون بما قرب منه كالطائفين والعاكفين ولذلك لم يتعلق حكم التطهير بهذا الفعل الذي هو الركوع وأنه لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده فلذلك لم يجيء بلفظ جمع السلامة لأنه لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل كما احتيج فيما قبله ثم وصف الركع بالسجود ولم يعطف بالواو كما عطف ما قبله لأن الركع هم السجود والشيء لا يعطف بالواو على نفسه ولفائدة أخرى وهو أن السجود أغلب ما يجيء عبارة عن المصدر والمراد به هاهنا الجمع فلو عطف بالواو لتوهم أنه يريد السجود الذي هو المصدر دون الاسم الذي هو النعت وفائدة ثالثة أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة فلو عطفت هاهنا بالواو لتوهم أن الركوع حكم يجري على حباله فإن قيل فلم قال السجود على وزن فعول ولم يقل السجد كالركع وفي آية أخرى: {رُكَّعاً سُجَّداً} ولم جمع ساجد على السجود ولم يجمع راكع على ركوع فالجواب: أن

السجود في الأصل مصدر كالخشوع والخضوع وهو يتناول السجود الظاهر والباطن ولو قال: السجد في جمع ساجد لم يتناول إلا المعنى الظاهر وكذلك الركع ألا تراه يقول تراهم ركعا سجدا وهذه رؤية العين وهي لا تتعلق إلا بالظاهر والمقصود هنا الركوع الظاهر لعطفه على ما قبله مما يراد به قصد البيت والبيت لا يتوجه إليه إلا بالعمل الظاهر وأما الخشوع والخضوع الذي يتناوله لفظ الركوع دون لفظ الركع فليس مشروطا بالتوجه إلى البيت وأما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن جعل وصفا للركع ومتمما لمعناه إذ لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن ومن حيث تناول لفظه أيضا السجود الظاهر الذي يشترط فيه التوجه إلى البيت حسن انتظامه أيضا مع ما قبله مما هو معطوف على الطائفين الذين ذكرهم بذكر البيت فمن لحظ هذه المعاني بقلبه وتدبر هذا النظم البديع بلبه ارتفع في معرفة الإعجاز عن التقليد وأبصر بعين اليقين أنه تنزيل من حكيم حميد تم كلامه قلت وقد تولج رحمه الله مضائق تضايق عنها أن تولجها الإبر وأتى بأشياء حسنة وبأشياء غيرها أحسن منها فأما تعليله تقديم ربيعة على مضر ففي غاية الحسن وهذا الاسمان لتلازمهما في الغالب صارا كاسم واحد فحسن فيهما ما ذكره وأما ما ذكره في تقديم الجن على الإنس من شرف الجن فمستدرك عليه فإن الإنس أشرف من الجن من وجوه عديدة وقد ذكرناها في غير هذا الموضع تفضيل الإنس على الملائكة وأما قوله: "إن الملائكة أفضل" أو هم أشرف فالمقدمتان ممنوعتان أما الأول فلأن أصل الملائكة ومادتهم التي خلقوا منها هي النور كما ثبت ذلك مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: وأما الجان فمادتهم النار بنص القرآن ولا يصح التفريق بين الجن والجان لغة ولا شرعا ولا عقلا وأما المقدمة الثانية وهي كون الملائكة خيرا وأشرف من الإنس فهي المسألة المشهورة: وهي تفضيل الملائكة أو البشر والجمهور على تفضيل البشر والذين فضلوا الملائكة هم المعتزلة والفلاسفة وطائفة ممن عداهم بل الذي

ينبغي أن يقال في التقديم هنا أنه تقديم بالزمان لقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} تقديم الإنس على الجن وأما تقديم الإنس على الجن في قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} فلحكمة أخرى سوى ما ذكره وهو أن النفي تابع لما تعقله القلوب من الإثبات فيرد النفي عليه وعلم النفوس بطمث الإنس ونفرتها ممن طمثها الرجال هو المعروف فجاء النفي على مقتضى ذلك وكان تقديم الإنس في هذا النفي أهم وأما قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} فهذا يعرف سره من السياق فإن هذا حكاية كلام مؤمني الجن حين سماع القرآن كما قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} الآيات وكان القرآن أول ما خوطب به الإنس ونزل على نبيهم وهم أول من بدأ بالتصديق والتكذيب قبل الجن فجاء قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} بتقديم الإنس لتقدمهم في الخطاب بالقرآن وتقديمهم في التصديق والتكذيب وفائدة أخرى وهي أن هذا حكاية كلام مؤمني الجن لقومهم بعد أن رجعوا إليهم فأخبروهم بما سمعوا من القرآن وعظمته وهدايته إلى الرشد ثم اعتذروا عما كانوا يعتقدونه أولا بخلاف ما سمعوه من الرشد بأنهم لم يكونوا يظنون أن الإنس والجن يقولون على الله كذبا فذكرهم الإنس هنا في التقديم أحسن في الدعوة وأبلغ في عدم التهمة فإنهم خالفوا ما كانوا يسمعونه من الإنس والجن لما تبين لهم كذبهم فبداءتهم بذكر الإنس أبلغ في نفي الغرض والتهمة وأن لا يظن بهم قومهم أنهم ظاهروا الإنس عليهم فإنهم أول ما أقروا بتقولهم الكذب على الله تعالى وهذا من ألطف المعاني وأدقها ومن تأمل مواقعه في الخطاب عرف صحته وأما تقديم عاد على ثمود حيث وقع في القرآن فما ذكره من تقدمهم بالزمان فصحيح وكذلك الظلمات والنور وكذلك مثنى وبابه وأما تقديم العزيز على الحكيم فإن كان من الحكم وهو الفصل والأمر فما ذكره من المعنى صحيح وإن كان من الحكمة وهي كمال

العلم والإرادة المتضمنين اتساق صنعه وجريانه على أحسن الوجوه وأكملها ووضعه الأشياء مواضعها وهو الظاهر من هذا الاسم فيكون وجه التقديم أن العزة كمال القدرة والحكمة كمال العلم وهو سبحانه الموصوف من كل صفة كمال بأكملها وأعظمها وغايتها فتقدم وصف القدرة لأن متعلقة أقرب إلى مشاهدة الخلق وهو مفعولاته تعالى وآياته وأما الحكمة فمتعلقها بالنظر والفكر والاعتبار غالبا وكانت متأخرة عن متعلق القدرة وجه ثان أن النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول والعلم به فينتقل منه إلى النظر فيما أودعه من الحكم والمعاني ووجه ثالث: أن الحكمة غاية الفعل فهي متأخرة عنه تأخر الغايات عن وسائلها فالقدرة تتعلق بإيجاده والحكمة تتعلق بغايته فقدم الوسيلة على الغاية لأنها أسبق في الترتيب الخارجي وأما قوله تعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ففيه معنى آخر سوى ما ذكره وهو أن الطهر طهران طهر بالماء من الأحداث والنجاسات وطهر بالتوبة من الشرك والمعاصي وهذا الطهور أصل لطهور الماء وطهور الماء لا ينفع بدونه بل هو مكمل له معد مهيأ بحصوله فكان أولى بالتقديم لأن العبد أول ما يدخل في الإسلام فقد تطهر بالتوبة من الشرك ثم يتطهر بالماء من الحدث وأما قوله: {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} فالإفك هو الكذب وهو في القول والإثم هو الفجور وهو في الفعل الكذب يدعو إلى الفجور كما في الحديث الصحيح إن الكذب يدعو إلى الفجور وإن الفجور يدعو إلى النار رواه البخاري ومسلم فالذي قاله صحيح معنى ثان في قوله كل معتد أثيم وهو أن العدوان مجاوزة الحد الذي حد للعبد فهو ظلم في القدر والوصف وأما الإثم فهو محرم الجنس ومن تعاطى تعدي الحدود تخطى إلى الجنس الآخر وهو الإثم معنى ثالث وهو أن المعتدي الظالم لعباد الله تعالى عدوانا عليهم والأثيم الظالم لنفسه بالفجور فكان تقديمه هنا على الأثيم أولى لأنه في سياق ذمه والنهي عن طاعته فمن كان معتديا على العباد ظالما لهم فهو أحرى بأن وتوافقه وفيه معنى رابع وهو أنه قدمه

على الأثيم ليقترن بما قبله وهو وصف المنع للخير فوصفه بأنه لا خير فيه للناس وأنه مع ذلك معتد عليهم فهو متأخر عن المناع لأنه يمنع خيره أولا ثم يعتدي عليهم ثانيا ولهذا يحمد الناس من يوجد لهم الراحة ويكف عنهم الأذى وهذا هو حقيقة التصوف وهذا لا راحة يوجدها ولا أذى يكفه تقديم هماز على مشاء بنميم وأما تقديم هماز على مشاء بنميم ففيه آخر غير ما ذكره وهو أن همزه عيب للمهموز وإزراء به وإظهار لفساد حاله في نفسه فإن قال يختص بالمهموز لا يتعداه إلى غيره والمشي بالنميمة يتعداه إلى من ينم عنده فهو ضرر متعد والهمز ضرره لازم للمهموز إذا شعر به ما ينقل من الأذى اللازم إلى الأذى المتعدي المنتشر تقديم الرجال على الركبان وأما تقديم الرجال على الركبان ففيه فائدة جليلة وهي أن الله تعالى شرط في الحج الاستطاعة ولا بد من السفر إليه لغالب الناس فذكر نوعي الحجاج لقطع توهم من يظن أنه لا يجب إلا على راكب وقدم الرجال اهتماما بهذا المعنى وتأكيدا ومن الناس من يقول قدمهم جبرا لهم لأن نفوس الركبان تزدريهم وتوبخهم وتقول: إن الله تعالى لم يكتبه عليكم ولد يرده منكم وربما توهموا أنه غير نافع لهم فبدأ به جبرا لهم ورحمة تقديم غسل الوجه وأما تقديم غسل الوجه ثم اليد ثم مسح الرأس ثم الرجلين في الوضوء فمن يقول إن هذا الترتيب واجب وهو الشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما ومن وافقهما فالآية عندهم اقتضت التقديم وجوبا لقرائن عديدة أحدها: أنه أدخل ممسوحا بين مغسولين وقطع النظير عن نظيره ولو أريد الجمع المطلق لكان المناسب أن يذكر المغسولات متسقة في النظم والممسوح بعدها فلما عدل إلى ذلك دل على وجوب ترتيبها على الوجه الذي ذكره الله الثاني أن هذه الأفعال هي أجزاء فعل واحد مأمور به وهو الوضوء فدخلت الواو عاطفة لأجزائه بعضها على بعض والفعل الواحد يحصل من ارتباط أجزائه بعضها ببعض فدخلت الواو بين الأجزاء للربط فأفادت الترتيب إذا هو الربط المذكور في الآية ولا يلزمه من كونها لا تفيد الترتيب بين أفعال لا ارتباط بينها نحو أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أن لا تفيده بين أجزاء فعل مرتبطة

بعضها ببعض فتأمل هذا الموضع ولطفه وهذا أحد الأقوال الثلاثة في إفادة الواو للترتيب وأكثر الأصوليين لا يعرفونه ولا يحكونه وهو قول ابن أبي موسى من أصحاب أحمد ولعله أرجح الأقوال الثالث أن لبداءة الرب تعالى بالوجه دون سائر الأعضاء خاصة فيجب مراعاتها وأن لا تلغى وتهدر فيهدر ما اعتبره الله تعالى ويؤخر ما قدمه الله وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ما قدمه الله فإنه ينبغي تقديمه ولا يؤخر بل يقدم ما قدمه الله ويؤخر ما أخره الله تعالى فلما طاف بين الصفا والمروة بدأ بالصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله تعالى به" رواه الترمذي ومالك وأخرج مسلم نحوه وفي رواية للنسائي: "ابدءوا بما بدأ الله به" صحيح على الأمر فتأمل بداءته بالصفا معللا ذلك بكون الله تعالى بدأبه فلا ينبغي تأخيره وهكذا يقول المرتبون للوضوء سواء نحن نبدأ بما بدأ الله به ولا يجوز تأخير ما قدمه الله تعالى ويتعين البداءة بما بدأ الله تعالى به وهذا هو الصواب لمواظبة المبين عن الله تعالى مراده صلى الله عليه وسلم على الوضوء المرتب فاتفق جميع من ثقل عنه وضوءه كلهم على إيقاعه مرتبا ولم ينقل عنه أحد قط أنه أخل بالترتيب مرة واحدة فلو كان الوضوء المنكوس مشروعا لفعله ولو في عمره مرة واحدة لتبين جوازه لأمته وهذا بحمد الله أوضح تقديم النبيين على الصديقين فأما تقديم النبيين على الصديقين فلما ذكره ولكون الصديق تابعا للنبي فإنما استحق اسم الصديق بكمال تصديقه للنبي فهو تابع محض وتأمل تقديم الصديقين على الشهداء لفضل الصديقين عليهم وتقديم الشهداء على الصالحين لفضلهم عليهم تقديم السمع على البصر السمع متقدم على البصر حيث وقع في القرآن الكريم مصدرا أو فعلا أو اسما فالأول كقوله تعال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} والثاني كقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} والثالث كقوله تعالى: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} فاحتج بهذا من يقول إن السمع أشرف من البصر وهذا قول الأكثرين وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وحكوا هم وغيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا البصر أفضل ونصبوا معهم الخلاف وذكروا الحجاج من الطرفين ولا أدري ما يترتب على

هذه المسألة من الأحكام حتى تذكر في كتب الفقه وكذلك القولان للمتكلمين والمفسرين وحكى أبو المعالي عن ابن قتيبة: تفضيل البصر ورد عليه واحتج مفضلو السمع بأن الله تعالى يقدمه في القرآن حيث وقع وبالسمع تنال سعادة الدنيا والآخرة فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان بما جاءوا به وهذا إنما يدرك بالسمع ولهذا في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث الأسود بن سريع ثلاثة كلهم يدلي على الله بحجته يوم القيامة فذكر منهم رجلا أصم يقول يا رب لقد جاء الإسلام وأنا لا أسمع شيئا صحيح واحتجوا بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف العلوم الحاصلة من البصر فإن البصر لا يدرك إلا بعض الموجودات المشاهدة بالبصر القريبة والسمع يدرك الموجودات والمعدومات والحاضر والغائب والقريب والبعيد والواجب والممكن والممتنع فلا نسبة لإدراك البصر إلى إدراكه واحتجوا بأن فقد السمع يوجب ثلم القلب واللسان ولهذا كان الأطرش خلقة لا ينطق في الغالب وأما فقد البصر فربما كان معينا على قوة إدراك البصيرة وشدة ذكائها فإن نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطنا فيقوي إدراكها ويعظم ولهذا تجد كثيرا من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقاد والفطنة وضياء الحس الباطن ما لا تكاد تجده عند البصير ولا ريب أن سفر البصر في الجهات والأقطار ومباشرته للمبصرات على اختلافها يوجب تفرق القلب وتشتيته ولهذا كان الليل أجمع للقلب والخلوة أعون على إصابة الفكرة قالوا فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر ولهذا كثير في العلماء والفضلاء وأئمة الإسلام من هو أعمى ولم يعرف فيهم واحد أطرش بل لا يعرف في الصحابة أطرش فهذا ونحوه من احتجاجهم على تفضيل البصر قال منازعوهم يفصل بيننا وبينكم أمران أحدهما أن مدرك البصر النظر إلى وجه الله تعالى في الدار الآخرة وهو أفضل نعيم أهل الجنة وأحبه إليهم ولا شيء أكمل من المنظور إليه سبحانه فلا حاسة في العبد أكمل من حاسة تراه بها الثاني أن هذا النعيم وهذا العطاء

إنما نالوه بواسطة السمع فكان السمع كالوسيلة لهذا المطلوب الأعظم فتفضيله عليه كفضيلة الغايات على وسائلها وأما ما ذكرتم من سعة إدراكاته وعمومها فيعارضه كثرة الخيانة فيها ووقوع الغلط فإن الصواب فيما يدركه السمع بالإضافة إلى كثرة المسموعات قليل في كثير ويقابل كثير مدركاته صحة مدركات البصر وعدم الخيانة وأن ما يراه ويشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه وإذا تقابلت المرتبتان بقي الترجيح بما ذكرناه قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه: "وفصل الخطاب أن إدراك السمع أعم وأشمل وإدراك البصر أتم وأكمل فهذا له التمام والكمال وذاك له العموم والشمول فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختص" به تم كلامه وقد ورد في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: " هذان السمع والبصر " صحيح على الراجح وهذا يحتمل أربعة أوجه أحدها: أن يكون المراد أنهما مني بمنزلة السمع والبصر والثاني يريد أنهما من دين الإسلام بمنزلة السمع والبصر من الإنسان فيكون الرسول بمنزلة القلب والروح وهما بمنزلة السمع والبصر من الدين وعلى هذا فيحتمل وجهين أحدهما التوزيع فيكون أحدهما بمنزلة السمع والآخر بمنزلة البصر والثاني الشركة فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاستين ثابتا لكل واحد منهما فكل منهما بمنزلة السمع والبصر فعلى احتمال التوزيع والتقسيم تكلم الناس أيهما هو السمع وأيهما هو البصر وبنوا ذلك على أي الصفتين أفضل فهي صفة الصديق والتحقيق أن صفة البصر للصديق وصفة السمع للفاروق ويظهر لك هذا من كون عمر محدثا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة أحد فعمر " رواه مسلم والتحديث المذكور هو ما يلقى في القلب من الصواب والحق وهذا طريقه السمع الباطن وهو بمنزلة التحديث والإخبار في الأذن وأما الصديق فهو الذي كمل مقام الصديقية لكمال بصيرته حتى كأنه قد باشر بصره مما أخبر به الرسول ما باشر قلبه فلم يبق بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب فهو

كأنه ينظر إلى ما أخبر به من الغيب من وراء ستوره وهذا لكمال البصيرة وهذا أفضل مواهب العبد وأعظم كراماته التي يكرم بها وليس بعد درجة النبوة إلا هي ولهذا جعلها سبحانه بعدها فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} وهذا هو الذي سبق به الصديق لا بكثرة صوم ولا بكثرة صلاة وصاحب هذا يمشي رويدا ويجيء في الأول ولقد تعناه من لم يكن سيره على هذا الطريق وتشميره إلى هذا العلم وقد سبق من شمر إليه وإن كان يزحف زحفا ويحبو حبوا ولا تستطل هذا الفصل فإنه أهم مما قصد بالكلام فليعد إليه فقيل تقديم السمع على البصر له سببان أحدهما أن يكون السياق يقتضيه بحيث يكون ذكرها بين الصفتين متضمنا للتهديد والوعيد كما جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة كقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} والقرآن الكريم مملوء من هذا وعلى هذا فيكون في ضمن ذلك أني أسمع ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي وأبصر ما يفعلون ولا ريب أن المخاطبين بالرسالة بالنسبة إلى الإجابة والطاعة نوعان أحدهما قابلوها بقولهم صدقت ثم عملوا بموجبها والثاني قابلوها بالتكذيب ثم عملوا بخلافها فكانت مرتبة المسموع منهم قبل مرتبة البصر فقدم ما يتعلق به على ما يتعلق بالمبصر وتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: لموسى {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} هو يسمع ما يجيبهم به ويرى ما يصنعه وهذا لا يعم سائر المواضع بل يختص منها بما هذا شأنه والسبب الثاني أن إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام مع غاية البعد بين السامع والمسموع أشد من إنكارها لرؤيته مع بعده وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: "اجتمع عند البيت ثلاثة نفر ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول فقال: الآخر يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا فقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو

يسمع إذا أخفينا " رواه البخاري ومسلم والترمذي ولم يقولوا أترون الله يرانا فكان تقديم السمع أهم والحاجة إلى العلم به أمس وسبب ثالث وهو أن حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح وأشدها تأثيرا في الخير والشر والصلاح والفساد بل عامة ما يترتب في الوجود من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان فكأن تقديم الصفة المتعلقة به أهم وأولى وبهذا يعلم تقديمه على العليم حيث وقع تقديم السماء على الأرض وأما تقديم السماء على الأرض ففيه معنى وهو أن السموات والأرض تذكر غالبا في سياق آيات الرب الدالة على وحدانيته وربوبيته ومعلوم أن الآيات في السموات أعظم منها في الأرض لسعتها وعظمها وما فيها من كواكبها وشمسها وقمرها وبروجها وعلوها واستغنائها عن عمد تقلها أو علاقة ترفعها إلى غير ذلك من عجائبها وما فيها كقطرة في سعتها ولهذا أمر سبحانه بأن يرجع الناظر فيها البصر كرة بعد كرة ويتأمل استواءها واتساقها وبراءتها من الخلل والفطور فالآية فيها أعظم من الأرض وفي كل شيء له آية سبحانه وبحمده وأما تقديم الأرض عليها في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} وتأخيرها عنها في سبأ فتأمل كيف وقع هذا الترتيب في سبأ في ضمن قول الكفار: {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي اْلأَرْضِ} كيف قدم السموات هنا لأن الساعة إنما تأتي من قبلها وهي غيب فيها ومن جهتها تبتديء وتنشأ ولهذا قدم صعق أهل السموات على أهل الأرض عندها فقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} وأما تقديم الأرض على السماء في سورة يونس فإنه لما كان السياق سياق تحذير وتهديد للبشر وإعلامهم أنه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقها وجليلها وأنه لا يغيب عنه منها شيء اقتضى ذلك ذكر محلهم وهو الأرض قبل ذكر السماء فتبارك من أودع كلامه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنه كلام الله تعالى وأن مخلوقا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الحكم أبدا تقديم المال على الولد وأما تقديم المال على الولد فلم يطرد هذا التقديم في القرآن الكريم بل قد جاء مقدما كذلك في قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ

وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ} وقوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقوله: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وجاء ذكر البنين مقدما كما في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} فأما تقديم الأموال في تلك المواضع الثلاثة فلأنه ينتظمها معنى واحد وهو التحذير من الاشتغال بها والحرص على تحصيلها حتى يفوته حظه من الله والدار الآخرة فهي في موضع عن الإلتهاء بها وأخبر في موضع أنها فتنة وأخبر في موضع آخر أن الذي يقرب عباده إليه إيمانهم وعملهم الصالح لا أموالهم ولا أولادهم ففي ضمن هذا النهي عن الاشتغال بها عما يقرب إليه ومعلوم أن اشتغال الناس بأموالهم والتلاهي بها أعظم من اشتغالهم بأولادهم وهذا هو الواقع حتى إن الرجل ليستغرقه اشتغاله بماله عن مصلحة ولده وعن معاشرته وقربه وأما تقديمهم على الأموال في تينك الآيتين فلحكمة باهرة وهي أن براءة متضمنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها أحب إليه من الجهاد في سبيل الله ومعلوم أن تصور المجاهد فراق أهله وأولاده وآبائه وإخوانه وعشيرته تمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقته ماله فإن تصور مع هذا أن يقتل فيفارقهم فراق الدهر نفرت نفسه عن هذه أكثر وأكثر ولا يكاد عند هذا التصور يخطر له مفارقة ماله بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال وتأمل هذا الترتيب البديع في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر يطلعك على عظمة هذا الكلام وجلالته فبدأ أولا بذكر أصول العبد وهم آباؤه المتقدمون طبعا وشرفا ورتبة وكان فخر القوم بآبائهم ومحاماتهم عنهم أكثر من محاماتهم عن أنفسهم وأموالهم وحتى عن أبنائهم ولهذا حملتهم محاماتهم عن آبائهم ومناضلتهم عنهم إلى أن احتملوا القتل وسبي الذرية ولا يشهدون على آبائهم بالكفر والنقيصة ويرغبون عن دينهم لما في ذلك من إزرائهم بهم ثم ذكر الفروع وهم الأبناء لأنهم يتلونهم في الرتبة وهم أقرب أقاربهم إليهم وأعلق بقلوبهم وألصق بأكبادهم من الإخوان

والعشيرة ثم ذكر الإخوان وهم الكلالة وحواشي النسب فذكر الأصول أولا ثم الفروع ثانيا ثم النظراء ثالثا ثم الأزواج رابعا لأن الزوجة أجنبية عنده ويمكن أن يتعوض عنها بغيرها وهي إنما تراد للشهوة وأما الأقارب من الآباء والأبناء والإخوان فلا عوض عنهم ويرادون للنصرة والدفاع وذلك مقدم على مجرد الشهوة ثم ذكر القرابة البعيدة خامسا وهي العشيرة وبنو العم فإن عشائرهم كانوا بني عمتهم غالبا وإن كانوا أجانب فأولى بالتأخير ثم انتقل إلى ذكر الأموال بعد الأقارب سادسا ووصفها بكونها مقترفة أي مكتسبة لأن القلوب إلى ما اكتسبته من المال أميل وله أحب وبقدره أعرف لما حصل له فيه من التعب والمشقة بخلاف مال جاء عفوا بلا كسب من ميراث أو هبة أو وصية فإن حفظه للأول ومراعاته له وحرصه على بقائه أعظم من الثاني والحس شاهد بهذا وحسبك به ثم ذكر التجارة سابعا لأن محبة العبد للمال أعظم من محبته للتجارة التي يحصله بها فالتجارة عنده وسيلة إلى المال المقترف فقدم المال على التجارة تقديم الغايات على وسائلها ثم وصف التجارة بكونها مما يخشى كسادها وهذا يدل على شرفها وخطرها وأنه قد بلغ قدرها إلى أنها مخوفة الكساد ثم ذكر الأوطان ثامنا آخر المراتب لأن تعلق القلب بها دون تعلقه بسائر ما تقدم فإن الأوطان تتشابه وقد يقوم الوطن الثاني مقام الأول من كل وجه ويكون خيرا منه فمنها عوض وأما الآباء والأبناء والأقارب والعشائر فلا يتعوض منهما بغيرها فالقلب وإن كان يحن إلى وطنه الأول فحنينه إلى آبائه وأبنائه وزوجاته أعظم فمحبة الوطن آخر المراتب وهذا هو الواقع إلا لعارض يترجح عنده إيثار البعيد على القريب فذلك جزئي لا كلي فلا تناقض به وأما عند عدم العوارض فهذا هو الترتيب المناسب والواقع وأما آية آل عمران فإنها لما كانت في سياق الإخبار بما زين للناس من الشهوات التي آثروها على ما عند الله واستغنوا بها قدم ما تعلق الشهوة به أقوى والنفس إليه أشد سعرا وهو النساء التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا وهي القيود التي حالت بين العباد

وبين سيرهم إلى الله ثم ذكر البنين المتولدين منهم فالإنسان يشتهي المرأة للذة والولد وكلاهما مقصود له لذاته ثم ذكر شهوة الأموال لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل وقدم أشرف أنواعها وهو الذهب ثم الفضة بعده ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء والأولاد فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بها وقدم أشرف هذا النوع وهو الخيل فإنها حصون القوم ومعاقلهم وعزهم وشرفهم فقدمها على الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم ثم ذكر الأنعام وقدمها على الحرث لأن الجمال بها والانتفاع أظهر وأكثر من الحرث كما في قوله تعال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} والانتفاع بها أكثر من الحرب فإنه ينتفع بها ركوبا وأكلا وشربا ولباسا وأمتعة وأسلحة ودواء وقنية إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع وأيضا فصاحبها أعز من صاحب الحرث وأشرف وهذا هو الواقع فإن صاحب الحرث لا بد له من نوع مذلة ولهذا قال بعض السلف وقد رأى سكة ما دخل هذا دار قوم إلا دخلهم الذل فجعل الحرث في آخر المراتب وضعا له في موضعه ويتعلق بهذا نوع آخر من التقديم لم يذكره وهو تقديم الأموال على الأنفس في الجهاد حيث ما وقع في القرآن الكريم إلا في موضع واحد وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وأما سائر المواضع فقدم فيها المال نحو قوله: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وقوله: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} وهو كثير فما الحكمة في تقديم المال على النفس وما الحكمة في تأخيره في هذا الموضع وحده وهذا لم يتعرض له السهيلي رحمه الله فيقال: أولا: هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس فإذا دهم العدو وجب على القادر الخروج بنفسه فإن كان عاجزا وجب عليه أن يكتري بماله وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد والأدلة عليها أكثر من أن تذكر هنا ومن تأمل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته في أصحابه وأمرهم بإخراج أموالهم

في الجهاد قطع بصحة هذا القول والمقصود تقديم المال في الذكر وأن ذلك مشعر بإنكار وهم من يتوهم أن العاجز بنفسه إذا كان قادرا على أن يغزو بماله لا يجب عليه شيء فحيث ذكر الجهاد قدم ذكر المال فكيف يقال لا يجيب به ولو قيل إن وجوبه بالمال أعظم وأقوى من وجوبه بالنفس لكان هذا القول أصح من قول من قال لا يجب بالمال وهذا بين وعلى هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذكر وفائدة ثانية على تقدير عدم الوجوب وهي أن المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتها في تحصيله وترتكب الأخطار وتتعرض للموت في طلبه وهذا يدل على أنه هو محبوبها ومعشوقها فندب الله تعالى محبيه المجاهدين في سبيله إلى بذل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته فإن المقصود أن يكون الله هو أحب شيء إليهم ولا يكون في الوجود شيء أحب إليهم منه فإذا بذلوا محبوبهم في حبه نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها وهي بذل نفوسهم له فهذا غاية الحب فإن الإنسان لا شيء أحب إليه من نفسه فإذا أحب شيئا بذل له محبوبه من نفسه وماله فإذا آل الأمر إلى بذل نفسه ضن بنفسه وآثرها على محبوبه هذا هو الغالب وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده فإذا أحس بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه فر وتركهم فلم يرض الله من محبيه بهذا بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتهم وأيضا فبذل النفس آخر المراتب فإن العبد يبذل ماله أولا يقي به نفسه فإذا لم يبق له ماله بذل نفسه فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقا للواقع وأما قوله {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} فكان تقديم الأنفس هو الأولى لأنها هي المشتراة في الحقيقة وهي مورد العقد وهي السلعة التي استلمها ربها وطلب شراءها لنفسه وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنته فكانت هي المقصود بعقد الشراء والأموال تبع لها فإذا ملكها مشتريها ملك مالها فإن العبد وما يملكه لسيده ليس له فيه شيء فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها ومتعلقاتها فحسن تقديم النفس على المال في

هذه الآية حسنا لا مزيد عليه الاستدلال على كلام السهيلي لنرجع إلى كلام السهيلي فما ذكره من تقديم الغفور على الرحيم فحسن جدا وأما تقديم الرحيم على الغفور في موضع واحد وهو أول سبأ ففيه معنى غير ما ذكره يظهر لمن تأمل سياق أوصافه العلى وأسمائه الحسنى في أول السورة إلى قوله وهو الرحيم الغفور فإنه ابتدأ سبحانه السورة بحمده الذي هو أعم المعارف وأوسع العلوم وهو متضمن لجميع صفات كماله ونعوت جلاله مستلزم لها كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره فهو المحمود على كل حال وعلى كل ما خلقه وشرعه ثم عقب هذا الحمد بملكه الواسع المديد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ثم عقبه بأن هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبدا فإنه حمد يستحقه لذاته وكمال أوصافه وما يستحقه لذاته دائم بدوامه لا يزول أبدا وقرن بين الملك والحمد على عاداته تعالى في كلامه فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكل واحد منهما فله كمال من ملكه وكمال من حمده وكمال من اقتران أحدهما بالأخر فإن الملك بلا حمد يستلزم نقصا والحمد بلا ملك يستلزم عجزا والحمد مع الملك غاية الكمال ونظير هذا العزة والرحمة والعفو والقدرة والغنى والكرم فوسط الملك بين الجملتين فجعله محفوفا بحمد قبله وحمد بعده ثم عقب هذا الحمد والملك باسم الحكيم الخبير الدالين على كمال الإرادة وأنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة وعلى كمال العلم وأنه كما يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بخبره فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم فالمراد ظاهر والحكمة باطنة والعلم ظاهر والخبرة باطنة فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة وكمال العلم أن يكون كاشفا عن الخبرة فالخبرة باطن العلم وكماله والحكمة باطن الإرادة وكمالها فتضمنت الآية إثبات حمده وملكه وحكمته وعلمه على أكمل الوجوه ثم ذكر تفاصيل علمه بما ظهر وما بطن في العالم العلوي والسفلي فقال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ

وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ثم ختم الآية بصفتين تقتضيان غاية الإحسان إلى خلقه وهما الرحمة والمغفرة فيجلب لهم الإحسان والنفع على أتم الوجوه برحمته ويعفو عن زلتهم ويهب لهم ذنوبهم ولا يؤاخذهم بها بمغفرته فقال: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} فتضمنت هذه الآية سعة علمه ورحمته وحكمه ومغفرته وهو سبحانه يقرن بين سعة العلم والرحمة كما يقرن بين العلم والحلم فمن الأول قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} ومن الثاني: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} فما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم ومن رحمة إلى علم وحملة العرش أربعة اثنان يقولان سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك فاقتران العفو بالقدرة كاقتران الحلم والرحمة بالعلم لأن العفو إنما يحسن عند القدرة وكذلك الحلم والرحمة إنما يحسنان مع العلم وقدم الرحيم في هذا الموضع لتقدم صف ثم ختم الآية بذكر صفة المغفرة لتضمنها دفع الشر وتضمن ما قبلها جلب الخير ولما كان دفع الشر مقدما على جلب الخير قدم اسم الغفور على الرحيم حيث وقع ولما كان في هذا الموضع تعارض يقتضي تقديم اسمه الرحيم لأجل ما قبله قدم على الغفور وأما قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فقد أبعد النجعة فيما تعسفه من فائدة التقديم وأتى بما ينبو اللفظ عنه وقال غيره السجود كان في دينهم قبل الركوع وهذا قائل ما لا علم له به والذي يظهر في الآية والله أعلم بمراده من كلامه أنها اشتملت على مطلق العبادة وتفصيلها فذكر الأعم ثم ما هو أخص منه ثم ما هو أخص من الأخص فذكر القنوت أولا وهو الطاعة الدائمة فيدخل فيه القيام والذكر والدعاء وأنواع الطاعة ثم ذكر ما هو أخص منه وهو السجود الذي يشرع وحده كسجود الشكر والتلاوة ويشرع في الصلاة فهو أخص من مطلق القنوت ثم ذكر الركوع الذي لا يشرع إلا في الصلاة فلا يسن الإتيان به منفردا فهو أخص مما قبله

ففائدة الترتيب النزول من الأعم إلى الأخص إلى أخص منه وهما طريقتان معروفتان في الكلام النزول من الأعم إلى الأخص وعكسها وهو الترقي من الأخص إلى ما هو أعم منه إلى ما هو أعم ونظيرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} فذكر أربعة أشياء أخصها الركوع ثم السجود أعم منه ثم العبادة أعم من السجود ثم فعل الخير العام المتضمن لذلك كله والذي يزيد هذا وضوحا الكلام على ما ذكره بعد هذه الآية من قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فإنه ذكر أخص هذه الثلاثة وهو الطواف الذي لا يشرع إلا بالبيت خاصة ثم انتقل منه إلى الاعتكاف وهو القيام المذكور في الحج وهو أعم من الطواف لأنه يكون في كل مسجد ويختص بالمساجد لا يتعداها ثم ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض سوى ما منع منه مانع أو استثني شرعا وإن شئت قلت ذكر الطواف الذي هو أقرب العبادات بالبيت ثم الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد ثم الصلاة التي تكون في البلد كله بل في كل بقعة فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة وله رحمه الله مزيد السبق وفضل التقدم:. وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس الواو والألف في يفعلون وتفعلان أصل للواو والألف في الزيدون والزيدان فإنما جعلنا ما هو من الأفعال أصلا لما هو في الأسماء لأنها إذا كانت في الأفعال كانت أسماء وعلامة جمع وإذا كانت في الأسماء كانت علامة محضة لا أسماء وما يكون اسما وعلامة في حال هو الأصل لما يكون حرفا في موضع آخر إذا كان اللفظ واحدا نحو كاف الضمير وكاف المخاطبة في ذلك وهذا أولى بنا من أن نجعل الحرف أصلا والاسم فرعا له يدلك على هذا أنهم لم يجمعوا بالواو والنون من الأسماء إلا ما كان فيه معنى الفعل كالمسلمون والصالحون دون رجلون وخيلون فإن قيل فالأعلام ليس فيها معنى الفعل وقد جمعوها كذلك قيل الأسماء الأعلام لا تجمع هذا الجمع إلا وفيها الألف واللام فلا يقال جاءني زيدون وعمرون

فدل على أنهم أرادوا معنى الفعل أي الملقبون بهذا الاسم والمعرفون بهذه العلامة فعاد الأمر إلى ما ذكرنا وأما التثنية فمن حيث قالوا: في الفعل فعلا وصنعا لمن يعقل وغيره ولم يقولوا: صنعوا إلا لمن يعقل لم يجعلوا الواو علامة للجمع في الأسماء إلا فيما يعقل إذ كان فيه معنى الفعل ومن حيث اتفق معنى التثنية ولم يختلف اتفق لفظها كذلك في جميع أحوالها ولم يختلف استوى فيها العاقل وغيره ومن حيث اختلفت معاني الجموع بالكثرة والقلة اختلفت ألفاظها ولما كان الإخبار عن جمع ما لا يعقل يجري مجرى الجملة والأمة والبلد لا يقصد به في الغالب إلا الأعيان المجتمعة على التخصيص لا كل منهما على التعيين كان الإخبار عنها بالفعل كالإخبار عن الأسماء المؤنثة إذ الجملة والأمة وما هو في ذلك المعنى أسماء مؤنثة ولذلك قالوا: الجمال ذهبت والثياب بيعت إذ لا يتعين في قصد الضمير كل واحد منهما في غالب الكلام والتفاهم بين الأنام ولما كان الإخبار عن جمع ما يعقل بخلاف ذلك وكان كل واحد من الجمع يتعين غالبا في القصد إليه والإشارة وكان اجتماعهم في الغالب عن ملازمتهم وتدبير أغراض عقلية جعلت لهم علامة تختص بهم تنبيء عن الجمع المعنوي كما هي في ذاتها جمع لفظي وهي الواو لأنها ضامة بين الشفتين وجامعة لهما وكل محسوس يعبر عن معقول فينبغي أن يكون مشاكلا له فما خلق الله الأجساد في صفاتها المحسوسة إلا مطابقة للأرواح في صفاتها المعقولة ولا وضع الألفاظ في لسان آدم وذريته إلا موازنة للمعاني التي هي أرواحها وعلى نحو ذلك خصت الواو بالعطف لأنه جمع في معناه وبالقسم لأن واوه في معنى واو العطف وأما اختصاص الألف بالتثنية فلقرب التثنية من الواحد في المعنى فوجب أن يقرب لفظها من لفظه وكذلك لا يتغير بناء الواحد منهما كما لا يتغير في أكثر الجموع وفعل الواحد مبني على الفتح فوجب أن يكون فعل الإثنين كذلك وذلك لا يمكن مع غير الألف فلما ثبت أن الألف بهذه العلة ضمير الإثنين كانت علامة للاثنين في الأسماء كما فعلوا في الواو حين كانت ضمير الجماعة في الفعل جعلت علامة للجمع في الأسماء

إلحاق النون بالأفعال الخمسة وأما إلحاق النون بعد حرف المد في هذه الأفعال الخمسة فحملت على الأسماء التي في معناها المجموعة جمع السلامة والمثناة نحو مسلمون ومسلمان وهي في تثنية الأسماء وجمعها عوضا عن التنوين كما ذكروا ثم شبهوا بها هذه الأمثلة الخمسة وألحقوا النون فيها في حال الرفع لأنها إذا كانت مرفوعة كانت واقعة موقع الاسم فاجتمع فيها وقوعها موقع الاسم ومضارعتها له في اللفظ لأن آخرها حرف مد ولين ومشاركتها له في المعنى فألحق فيها النون عوضا عن حركة الإعراب حملا على الأسماء كما حملت الأسماء عليها فجمعت بالواو والياء فالنون في تثنية الأسماء وجمعها أصل للنون في تثنية الأفعال وجمعها أعني علامة الإعراب هي أصل الحروف والمد في تثنية الأسماء وجمعها التي هي علامات إعراب وحروف إعراب كما تقدم فإن قيل فهلا أثبتوا هذه النون في حال النصب والجزم من الأمثلة الخمسة لعدم العلة المتقدمة وهي وقوعها موقع الاسم وأنت إذا أدخلت النواصب والجوازم لم تقع موقع الأسماء لأن الأسماء لا تكون بعد عوامل الأفعال فبعدت عن الأسماء ولم يبق فيها إلا مضارعتها لها في اتصال حروف المد بها مع الاشتراك في معنى الفعل فإن قيل فأين الإعراب فيها في حال النصب والجزم قلنا مقدر كما هو في كل اسم وفعل آخره حرف مد ولين سواء وسواء كان حرف المد زائدا أو أصليا ضميرا أو حرفا كيرمي القاضي وعصا ورمى وسكرى وغلامي إلا أنه مع هذه الياء مقدر قبلها أعني الإعراب وهو في يرمي ويخشى ونحوه مقدر في نفس الحرف لا قبله لأنه لا يتقدر إعراب اسم في غيره وإذا ثبت ذلك فقولك لن تفعلوا ولن تفعلي إعرابه مقدر قبل الضمير في لام الفعل كما هو كذلك في غلامي وليس زوال النون وحذفها هو الإعراب لأنه يستحيل أن يحول بين حرف الإعراب وبين إعرابه اسم فاعل أو غير فاعل مع أن العدم ليس بشيء فيكون إعرابا وعلامة لشيء في أصل الكلام ومفعوله وأما فعل جماعة النساء فكذلك أيضا إعرابه مقدر قبل علامة الإضمار كما هو مقدر قبل الياء من غلامي فعلامة الإضمار منعت من ظهوره لاتصالها بالفعل وأنها لبعض حروفه

فلا يمكن تعاقب الحركات على لام الفعل معها كما لم يمكن ذلك مع ضمائر الفاعلين المذكورين ولا مع الياء في غلامي ولا يمكن أيضا أن يكون الإعراب في نفس النون لأنها ضمير الفاعل فهي غير الفعل ولا يكون إعراب شيء في غيره ولا يمكن أيضا أن يكون بعدها فإنه مستحيل في الحركات وبعيد كل البعد في غير الحركات أن يكون إعرابا وبينه وبين حرف الإعراب اسم أو فعل فثبت أنه مقدر كما هو في جميع الأسماء والأفعال المعربة التي لا يقدر على ظهور الإعراب فيها لمانع كما تقدم فإن قيل: فقد أثبتم أن فعل جماعة المؤنث معرب وهذا خلاف لسيبويه ومن وافقه من النحويين فإنهم زعموا أنه مبني وإن اختلفوا في علة بنائه قلنا بل هو وفاق لهم لأنهم علمونا وأصلوا لنا أصلا صحيحا فلا ينبغي لنا أن ننقضه ونكسره عليهم وهو وجود المضارعة الموجبة للإعراب وهي موجودة في يفعلن وتفعلن فمتى وجدت الزوائد الأربع وجدت المضارعة وإذا وجدت المضارعة وجد الإعراب فإن قيل: فهلا عوضوا من حركة الإعراب في حال رفعه كما فعلوا في يفعلون لأنه أيضا واقع موقع الاسم قلنا قد تقدم ما في يفعلون ويفعلان من وجوه الشبه بينه وبين جمع السلامة في الأسماء فمنها الوقوع موقع الاسم ومنها المضارعة في اللفظ من جهة حروف المد واللين وهذا الشبه معدوم في يفعلن من جهة اللفظ لأنه ليس مثل لفظ فاعلين ولا فاعلات وإن كان واقعا موقعه في حال الرفع فائدة: أسماء الأيام لما كانت الأيام متماثلة لا يتميز يوم من يوم بصفة نفسية ولا معنوية لم يبق تمييزها إلا بالأعداد ولذلك جعلوا أسماء أيام الأسبوع مأخوذة من العدد نحو الإثنين والثلاثاء والأربعاء أو بالأحداث الواقعة فيها كيوم بعاث ويوم بدر ويوم الفتح ومنه يوم الجمعة وفيه قولان: أحدهما: لاجتماع الناس فيه للصلاة. والثاني: وهو الصحيح

لأنه اليوم الذي جمع فيه الخلق وكمل وهو اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين لفصل القضاء وأما يوم السبت فمن القطع كما تشعر به هذه المادة ومن السبات لانقطاع الحيوان فيه عن التحرك والمعاش والنعال السبتية التي قطع عنها الشعر وعلة السبات التي تقطع العليل عن الحركة والنطق ولم يكن يوما من أيام تخليق العالم بل ابتداء أيام التخليق الأحد وخاتمتها الجمعة هذا أصح القولين وعليه يدل القرآن وإجماع الأمة على أن أيام تخليق العالم ستة فلو كان أولها السبت لكان سبعة وأما حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في صحيحه: "خلق الله التربة يوم السبت " رواه مسلم فقد ذكر البخاري في تاريخه أنه حديث معلول وأن الصحيح: "أنه قول كعب" وهو كما ذكر لأنه يتضمن أن أيام التخليق سبعة والقرآن يرده واعلم أن معرفة أيام الأسبوع لا يعرف بحس ولا عقل ولا وضع يتميز به الأسبوع عن غيره وإنما يعلم بالشرع ولهذا لا يعرف أيام الأسبوع إلا أهل الشرائع ومن تلقى ذلك عنهم وجاورهم وأما الأمم الذين لا يدينون بشريعة ولا كتاب فلا يتميز الأسبوع عندهم من غيره ولا أيامه بعضها من بعض وهذا بخلاف معرفة الشهر والعام فإنه بأمر محسوس فائدة: الأمس واليوم والغد هذا بحث في اليوم وأمس وغد وسبب اختصاص كل لفظ بمعناه اعلم أن أقرب الأيام إليك يومك الذي أنت فيه فيقال فعلت اليوم فذكر الاسم العام ثم عرف بأداة العهد ولا شيء أعرف من يومك الحاضر فانصرف إليه ونظيره الآن من آن وأما أمس وغد فلما كان كل واحد منهما متصلا بيومك اشتق له اسم من أقرب ساعة إليه الأمس فاشتق لليوم الماضي أمس الملاقي للمساء وهو أقرب إلى

يومك من صباحه أعني صباح غد فقالوا: أمس وكذلك غد فقد اشتق الاسم من الغد وهو أقرب إلى يومك من مسائه أعني مساء غد وتأمل كيف بنو أمس وأعربوا غدا لأن أمس صيغ من فعل ماض وهو أمسى وذلك مبني فوضعوا أمس على وزن الأمر من أمسى يمسي وأما الغد فإنه لم يؤخذ من مبني إذ لا يمكن أن يقال هو مأخوذ من غدا كما يمكن أن يقال أمس من أمسى بل أقصى ما يمكن فيه أن يكون من الغدو والغدوة وليستا بمبنيتين وهذه العلة أحسن من علة النحاة أن أمس بني لتضمنه معنى اللام وأصله الأمس قالوا لأنهم يقولون أمس الدابر فيصفونه بذي اللام فدل على أنه معرفة ولا يمكن أن يكون معرفة إلا بتقدير اللام وهذا أولا منقوض بقولهم غد الآتي فيلزم على طرد علتهم أن يبنوا غدا وأيضا فإن أمس جرى مجرى الإعلام وهو والله أعلم بمنزلة أصمت وأطرق مما جاء منها بلفظ الأمر اسم علم لمكان يقول الرجل لصاحبه فقد اصمت إذا جاوزه فاصمت في المكان كأمس في الزمان ولعله أخذ من قولهم أمس بخير وأمس معنا ونحوه ولا يقال كيف يدعي فيهم العلمية مع شيوعه لأنا نقول علميته ليست كعلمية زيد وعمرو بل كعلمية أسامة وذؤالة وبرة وفجار وبابه مما جعل الجنس فيه بمنزلة الشخص في العلم الشخصي فإن قيل فما الفرق بينه وهو اسم الجنس إذا قيل هذا ما أعضل على كثير من النحاة حتى جعلوا الفرق بينهما لفظيا فقط وقالوا يظهر تأثيره في منع الصرف ووصفه بالمعرفة وانتصاب الحال عنه ونحو ذلك ولم يهتدوا لسر الفرق بين أن موضع اللفظ لواحد منهم منكر شائع في الجنس ولمسمى الجنس المطلق فهنا ثلاثة أمور تتبعها ثلاثة أوضاع أحدها معرف معين من الجنس له العلم الشخصي كزيد الثاني واحد منهم شائع في الجنس غير معرف فله الاسم النكرة كأسد من الأسد والثالث الجنس المتصور في الذهن المنطبق على كل فرد من أفراده وله علم الجنس كأسامة فنظير هذا أمس في الزمان ولهذا وصف بالمعرفة فأعلق بهذه الفائدة التي لا تجدها في شيء من كتب القوم والحمد لله الوهاب المان بفضله.

فائدة: حذف لام يد ودم وغد المشهور عند النحاة أن حذف لام يد ودم وغد وبابه حذف اعتباطي لا سبب له لأنهم لم يروه جاريا على قياس الحذف وقد يظهر فيه معنى لطيف وهو أن الألفاظ أصلها المصادر الدالة على الأحداث فأصل مصدر غدا يغدو غدوا بوزن رمى وأصل دمي بوزن فرح مصدر دمي يدمى كبقي يبقى وأصل كذلك يدي من يديت إليه يديا ثم حذفوا فقالوا: يدا وكذلك سم أصله سمو من سما يسمو سموا كعلم يعلم علما فلما زحزحت على أصل موضوعاتها وبقى فيها من المعنى الأول ما يعلم أنها مشتقة منه حذفت منها لاماتها بإزاء ما نقص من معانيها ليكون النقص في اللفظ موازيا للنقص في المعنى فلا يستوفى حروف الكلمة بأسرها إلا عند حصول المعنى بأسره فائدة: دخول الزوائد على الحروف دخول الزوائد على الحروف الأصلية منبه على معان زائدة على معنى الكلمة التي وضعت الحروف الأصلية عبارة عنه فإن كان المعنى الزائد آخرا كانت الزيادة آخر كنحو التاء في فعلت لأنها تنبيء عما رتبته بعد الفعل وإن كان المعنى الزائد أولا كانت الزيادة الدالة عليه سابقة على حروف الكلمة كالزوائد الأربع فإنها تنبيء أن الفعل لم يحصل بعد لفاعله وأن بينه وبين تحصيله جزءا من الزمان وكان الحرف الزائد السابق للفظ مشيرا في اللسان إلى الجزء من الزمان مرتبا في البيان على حسب ترتب المعنى في الجنان وكذلك حكم جميع ما يرد

عليك في كلامهم فإن قيل: فهلا كانت الياء مكان التاء والهمزة قيل: أصل هذه الزوائد الياء بدليل كونها في الوضع الذي لا يحتاج فيه إلى الفرق بين ما مذكر ومؤنث وهو فعل جماعة النساء فإنك إذا قلت النسوة يقمن فالفرق حاصل بالنون وأيضا فأصل الزيادة لحروف المد واللين والواو لا تزاد أولا لئلا يشتبه بواو العطف والألف يتعذر أولا لسكونها فلم يبق إلا الياء فهي الأصل فلما أريد الفرق كانت الهمزة للمتكلم أولى لإشعارها بالضمير المستتر في الفعل إذ هي أول حروف ذلك الضمير إذا برز فلتكن مشيرة إليه إذا خفي وكانت النون لفعل المتكلم أولى لوجودها في أول لفظ الضمير الكامن في الفعل إذا ظهر فلتكن دالة عليه إذا خفي واستتر وكانت التاء من تفعل للمخاطب لكونها في الضمير المستتر فيه وإن لم تكن في أول اللفظ أعني أتت ولكنها في آخره ولم يخصوا بالدلالة عليه ما هو في أول لفظه أعني الهمزة لمشاركته للمتكلم فيها وفي النون فلم يبق من لفظ الضمير إلا التاء فجعلوها في أول الفعل علما عليه وإيماء إليه فإن قيل: فكان يلزم على هذا أن تكون الزيادة في فعل الغائب جاء لوجودها في لفظ ضمير الغائب إذا برز قيل لا ضمير في الغائب في أصل الكلام وأكثر مواضعه لأن الاسم الظاهر يغني عنه ولا يستتر ضمير الغائب حتى يتقدمه مذكور يعود عليه وليس كذلك فعل المتكلم والمخاطب والمخبرين عن أنفسهم فإنه لا يخلو أبدا عن ضمير ولا يجيء بعده اسم ظاهر يكون علامة ولا مضمرا أيضا إلا أن يكون توكيدا للمضمر المنطوي عليه الفعل ومن هاهنا ضارعت الأسماء حتى أعربت وجرت مجراها في دخول لام التوكيد وغير ذلك لأنها ضمنت معنى الأسماء بالحروف التي في أوائلها فهي من حيث دلت على الحدث والزمان فعل محض ومن حيث دلت بأوائلها على المتكلم والمخاطب وغير ذلك متضمنة معنى الاسم فاستحقت الإعراب الذي هو من خواص الاسم كما استحق الاسم المتضمن معنى الحرف البناء

فائدة: فعل الحال. فعل الحال لا يكون مستقبلا وإن حسن فيه عد كما لا يكون المستقبل حالا أبدا ولا الحال ماضيا وأما جاءني زيد يسافر غدا فعلى تقدير الحكاية له إذا وقع وهي حال مقدرة ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} والوقوف مستقبل لا محالة ولكن جاء بلفظ الماضي حكاية لحال يوم الحساب فيه لا يترتب على وقوف قد ثبت وكذلك: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ} وهو كثير والوقت مستقبل والفعل بلفظ الماضي ونحوه: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} حكاية للحال فكذلك يقوم زيد غدا هو على التقرير والتصوير لهيئته إذا وقع وهذا لأن الأصل أنه لا يحكم للفظين متغايرين بمعنى واحد إلا بدليل ولا للفظ واحد بمعنيين إلا بدليل فائدة: حروف المضارعة حروف المضارعة وإن كانت زوائد فقد صارت كأنها من أنفس الكلم وليست كذلك السين وسوف وإن كانوا قد شبهوهما بحروف المضارعة والحروف الملحقة بالأصول ولذلك تقول غدا يقوم زيد فتقدم الظرف على الفعل كما تفعل ذلك في الماضي الذي لا زيادة فيه نحو أمس قام زيد ولا يستقيم هذا في المقرون بالسين وسوف لا تقول غدا سيقوم زيد لوجوه منها أن السين تنبيء عن معنى الاستئناف والاستقبال للفعل وإنما يكون مستقبلا بالإضافة إلى ما قبله فإن كان قبله ظرف أخرجته السين عن الوقوع في الظرف فبقي الظرف لا عامل فيه فبطل الكلام فإذا قلت: سيقوم غدا دلت السين على أن الفعل مستقبل بالإضافة إلى ما قبله وليس قبله إلا حالة التكلم ودل لفظ غدا على استقبال اليوم فتطابقا

وصار ظرفا له الثاني: أن السين وسوف من حروف المعاني الداخلة على الجمل ومعناها في نفس المتكلم وإليه يسند لا إلى الاسم المخبر عنه فوجب أن يكون له صدر الكلام كحروف الاستفهام والنفي والنهي وغير ذلك ولذلك قبح زيد سأضرب وزيد سيقوم مع أن الخبر عن زيد إنما هو بالفعل لا بالمعنى الذي دلت عليه السين فإن ذلك المعنى مستند إلى المتكلم لا إلى زيد فلا يجوز أن يخلط بالخبر عن زيد فتقول زيد سيفعل فإذا دخلت أن على الاسم المبتدأ جاز دخول السين في الخبر لاعتماد الاسم على أن ومضارعتها للفعل فصارت في اللفظ مع اسمها كالجملة التامة فصلح دخول السين فيما بعدها وأما مع عدم أن فيقبح ذلك وهذا مذهب أبي الحسن شيخ السهيلي قال السهيلي: فقلت له: أليس قد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} فقال لي: اقرأ ما قبل الآية فقرأت {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية فضحك وقال: قد كنت أفزعتني أليست هذه أن في الجملة المتقدمة وهذه الأخرى معطوفة بالواو عليها والواو تنوب مناب تكرار العامل فسلمت له وسلمت قال: ونظير هذه المسألة مسألة اللام في إن تقول إن زيدا لقائم ولا تقول زيد لقائم والمصحح لتقديم الظرف على الفعل الماضي أن معنى المضي مستفاد من لفظه لا من حرف زائد على الجملة منفصل عن الفعل كالسين وقد وأما فعل الحال فزوائده ملحقة بالأصل فإن أدخلت على الماضي قد التي للتوقع كانت بمنزلة السين التي للاستئناف وقبح حينئذ أمس قد قام زيد كما قبح غدا يقوم زيد والعلة حذو النعل بالنعل

فائدة: السين تشبه حروف المضارعة السين تشبه حروف المضارعة ونقرر قبل ذلك مقدمة وهي لم تعمل في الفعل وقد اختصت به والجواب أنها فاصلة لهذا الفعل من فعل الحال كما فصلت الزوائد الأربع فعل الحال عن الماضي فأشبهتها وإن لم تكن مثلها في اتصالها ولحوقها بالأصل كما أشبهت لام التعريف العلمية في اتصالها وتعرف الاسم بها وإن لم تكن ملحقة بحروف الأصل فلما لم تعمل تلك اللام في الأسماء مع اختصاصها بها لم تعمل هذه في الأفعال مع استبدادها بها هذا تعليل الفارسي في بعض كتبه وابن السراج والسهيلي وهو يحتاج إلى بيان وإيضاح وتقريره أن الحرف إذا نزل منزلة الجزء من الكلمة لم يعمل فيها لأن أجزاء الكلمة لا يعمل بعضها في بعض ولام التعريف مع المعرف بمنزلة اسم علم فنزلت منزلته مع الماضي بمنزلة فعل الحال فنزلت منزلة جزئه وأما الزوائد الأربع فهي فاصلة لفعل الحال عن الماضي فصارت مع الفعل بمنزلة كلمة واحدة دالة على فعل الحال وكذلك السين مع الفعل فاصلة للمستقبل عن الحال فصارت مع الفعل بمنزلة كلمة واحدة دالة على فعل الاستقبال وهذا المعنى موجود في سوف أيضا فاختصاص الحرف شرط عمله ونزوله منزلة الجزء مانع عن العمل فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم ب أن المصدرية فإنها منزلة الجزء من الكلمة ولهذا يصير الفعل بها في تأويل كلمة مفردة ومع هذا فهي عاملة قيل: هذا لا ينقض ما أصلناه لأن هذا الحرف لم ينزل منزلة الجزء من الفعل وإنما صار به الفعل في تأويل الاسم فلم ينتقض ما ذكرناه وعلل السهيلي بطلان عمل سوف بعلة أخرى فقال وأما سوف فحرف ولكنه على لفظ السوف الذي هو الشم لرائحة ما ليس بحاضر وقد وجدت رائحته كما أن سوف هذه تدل على أن ما بعدها ليس بحاضر وقد علم وقوعه

وانتظر إيابه ولا غرو أن يتقارب معنى الحرف من معنى الاسم المشتق المتمكن في الكلام فائدة: معنى ثم ثم حرف عطف ولفظها كلفظ الثم وهو زم الشيء بعضه إلى بعض كما قال: كنا أهل ثمة ورمة وأصله ثممت البيت إذا كان فيه فرج فسدد بالثمام والمعنى الذي في ثم العاطفة قريب من هذا لأنه ضم شيء إلى شيء بينهما مهلة كما أن ثم البيت ضم بين شيئين بينهما فرجة ومن تأمل هذا المعنى في الحروف والأسماء المضارعة لها ألفاه كثيرا فائدة بديعة: دخول أن على الفعل في دخول أن على الفعل دون الاكتفاء بالمصدر ثلاث فوائد أحدها: أن المصدر قد يكون فيما مضى وفيما هو آت وليس في صيغته ما يدل عليه فجاءوا بلفظ الفعل المشتق منه مع أن ليجتمع لهم الإخبار عن الحدث مع الدلالة على الزمان الثانية: أن تدل على إمكان الفعل دون الوجوب والاستحالة الثالثة: أنها تدل على مجرد معنى الحدث دون احتمال معنى زائد عليه ففيها تحصين من الإشكال وتخليص له من شوائب الإجمال بيانه أنك إذا قلت كرهت خروجك وأعجبني قدومك احتمل الكلام معاني منها أن يكون نفس القدوم هو المعجب لك دون صفة من صفاته وهيأته وإن كان لا يوصف في الحقيقة بصفات ولكنها عبارة عن الكيفيات واحتمل أيضا أنك تريد أنه أعجبك سرعته أو بطؤه

أو حالة من حالاته فإذا قلت أعجبني أن قدمت كانت أن على الفعل بمنزلة الطبايع والصواب من عوارض الإجمالات المتصورة في الأذهان وكذلك زادوا أن بعد لما في قولهم لما أن جاء زيد أكرمتك ولم يزيدوها بغير ظرف سوى لما وذلك أن لما ليست في الحقيقة ظرف زمان ولكنه حرف يدل على ارتباط الفعل الثاني بالأول وأن أحدهما كالعلة للآخر بخلاف الظرف إذا قلت حين قام زيد قام عمرو فجعلت أحدهما وقتا للآخر على اتفاق لا على ارتباط فلذلك زادوا أن بعدها صيانة لهذا المعنى وتخليصا له من الاحتمال العارض في الظرف إذ ليس الظرف من الزمان بحرف فيكون قد جاء لمعنى كما جاءت لما تركيب لما وقد زعم الفارسي أنها مركبة من لم وما وقال السهيلي: ولا أدري ما وجه قوله: وهي عندي من الحروف التي في لفظها شبه من الاشتقاق وإشارة إلى مادة هي مأخوذة منها نحو: ما تقدم في سوف وثم لأنك تقول لممت الشيء لما إذا ضممت بعضه إلى بعض وهذا نحو من هذا المعنى الذي سيقت إليه لأنه ربط فعل بفعل على جهة التسبيب أو التعقيب فإذا كان التسبيب حسن إدخال إن بعدها زائدة إشعارا بمعنى المفعول من أجله وإن لم يكن مفعولا من أجله نحو قوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} ونحوه وإذا كان التعقيب مجردا من التسبب لم يحسن زيادة أن بعدها وتأمله في القرآن الكريم أن التفسيرية وأن المصدرية وأما أن التي للتفسير فليست مع ما بعدها بتأويل المصدر ولكنها تشارك أن التي تقدم ذكرها في بعض معانيها لأنها تحصين لما بعدها من الاحتمالات وتفسير لما قبلها من المصادر المجملة التي في معنى المقالات والإشارات فلا يكون تفسيرا إلا لفعل في معنى التراجم الخمسة الكاشفة عن كلام النفس لأن الكلام القائم في النفس والغائب عن الحواس في الأفئدة يكشفه للمخاطبين خمسة أشياء اللفظ والخط والإشارة والعقد والنصب وهي لسان الحال وهي أصدق من لسان المقال فلا تكون أن المفسرة إلا تفسيرا لما أجمل من هذه الأشياء كقولك كتبت إليه أن اخرج وأشرت إليه اذهب {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ}

وأوصيته أن اشكر وعقدت في يدي أن قد أخذت بخمسين وزريت على حائطي أن لا يدخلوه ومنه قول الله عز وجل: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} هي هاهنا لتفسير النصبة التي هي لسان الحال وإذا كان الأمر فيها كذلك فهي بعينها التي تقدم ذكرها لأنها إذا كانت تفسيرا فإنما تفسر الكلام والكلام مصدر فهي إذا في تأويل مصدر إلا أنك أوقعت بعدها الفعل بلفظ الأمر والنهي وذلك مزيد فائدة ومزيد الفائدة لا تخرج الفعل عن كونه فعلا فلذلك لا تخرج عن كونها مصدرية كما لا يخرجها عن ذلك صيغة المضي والاستقبال بعدها إذا قلت يعجبني أن تقوم وأن قمت فكأنهم إنما قصدوا إلى ماهية الحدث مخبرا عن الفاعل لا الحدث مطلقا ولذلك لا تكون مبتدأة وخبرها في ظرف أو مجرور لأن المجرور لا يتعلق بالمعنى الذي يدل عليه أن ولا الذي من أجله صيغ الفعل واشتق من المصدر وإنما يتعلق المجرور بالمصدر نفسه مجردا من هذا المعنى كما تقدم فلا يكون خبرا عن أن المتقدمة وإن كانت في تأويل اسم وكذلك أيضا لا يخبر عنها بشيء مما هو من صفة للمصدر كقولك قيام سريع أو بطيء ونحوه لا يكون مثل هذا خبرا عن المصدر فإن قلت: حسن أن تقوم وقبح أن تفعل جاز ذلك لأنك تريد بها معنى المفعول كأنك تقول أستحسن هذا أو أستقبحه وكذلك إذا قلت لأن تقوم خير من أن تقعد جاز لأنه ترجيح وتفصيل فكأنك تأمره بأن يفعل ولست بمخبر عن الحدث بدليل امتناع ذلك في المضي فإنك لا تقول إن قمت خير من أن قعد ولا إن قام زيد خير من أن قعد وامتناع هذا دليل على ما قدمناه من أن الحدث هو الذي يخبر عنه وأما أن وما بعدها فإنها وإن كانت في تأويل المصدر فإن لها معنى زائدا ولا يجوز الإخبار عنه ولكنه يراد ويلزم يؤمر به فإن وجدتها مبتدأة ولها خبر فليس الكلام على ظاهره كما تقدم تركيب لن وأما لن فهي عند الخليل مركبة من لا ولن ولا يلزم ما اعترض عليه سيبويه من تقديم المفعول عليها لأنه يجوز في المركبات ما لا يجوز في

البسائط واحتج الخليل بقول جابر الأنصاري وهو من شعراء الجاهلية فإن أمسك فإن العيش حلو ... إلي كأنه عسل مشوب يرجى المرء مالا أن يلاقي ... ويعرض دون أدناه الخطوب فإذا ثبت ذلك فمعناها نفي الإمكان ب لن كما تقدم وكان ينبغي أن تكون جازمة ك لم لأنها حرف نفي مختص بالفعل فوجب أن يكون عمله الجزم الذي هو نفي الحركة وانقطاع الصوت ليتطابق اللفظ والمعنى وقد فعل ذلك بعض العرب فجزم بها حين لحظ هذا الأسلوب النفي ولكن أكثرهم ينصب بها مراعاة ل أن المركبة فيها مع لا إذ هي من جهة الفعل وأقرب إلى لفظه فهي أحق بالمراعاة من معنى النفي فرب نفي لا يجزم الأفعال وذلك إذا لم يختص بها دون الأسماء والنفي في هذا الحرف إنما جاءه من قبل لا وهي غير عاملة لعدم اختصاصها فلذلك كان النصب بها أولى من الجزم على أنها قد ضارعت لم لتقارب المعنى واللفظ حتى قدم عليها معمول فعلها فقالوا زيدا لن أضرب كما قالوا: زيدا لم أضرب ومن خواصها تخليصها الفعل للاستقبال بعد أن كان محتملا للحال فأغنت عن السين وسوف وجل هذه النواصب تخلص الفعل للاستقبال ومن خواصها أنها تنفي ما قرب ولا يمتد معنى النفي فيها كامتداد معنى النفي في حرف لا إذا قلت: لا يقوم زيد أبدا وقد قدمنا أن الألفاظ مشاكلة للمعاني التي أرواحها يتفرس الفطن فيها حقيقة المعنى بطبعه وحسه كما يتعرف الصادق الفراسة صفات الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته وقلت يوما لشيخنا أبي العباس بن تيمية قدس الله روحه قال ابن جني: مكثت برهة إذا ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه ثم أكشفه فإذا هو كما ظننته أو قريبا منه فقال لي رحمه الله: وهذا كثيرا ما يقع لي وتأمل حرف لا كيف تجدها لاما بعدها

ألفا يمتد بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها ولن يعكس ذلك فتأمله فإنه معنى بديع وانظر كيف جاء في أفصح الكلام كلام الله: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} بحرف لا في الموضع الذي اقترن به حرف الشرط بالفعل فصار من صيغ العموم فانسحب على جميع الأزمنة وهو قوله عز وجل: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} كأنه يقول: متى زعموا ذلك لوقت من الأوقات أو زمن من الأزمان وقيل لهم: تمنوا الموت فلا يتمنونه أبدا وحرف الشرط دل على هذا المعنى وحرف لا في الجواب بإزاء صيغة العموم لاتساع معنى النفي فيها وقال في سورة البقرة ولن يتمنونه فقصر من سعة النفي وقرب لأن قبله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ} لأن إن وكان هنا ليست من صيغ العموم لأن كان ليست بدالة على حدث وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر عبارة عن مضي الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث فكأنه يقول عز وجل إن كان قد وجبت لكم الدار الآخرة وثبتت لكم في علم الله فتمنوا الموت الآن ثم قال في الجواب: ولن يتمنوه فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعا وليس في قوله: أبدا ما يناقض ما قلناه فقد يكون أبدا بعد فعل الحال تقول زيد يقوم أبدا قصور المعتزلة في فهم كلام الله ومن أجل ما تقدم من قصور معنى النفي في لن وطوله في لا يعلم الموفق قصور المعتزلة في فهم كلام الله تعالى حيث جعلوا لن تدل على النفي على الدوام واحتجوا بقوله: {لَنْ تَرَانِي} وعلمت بهذا أن بدعتهم الخبيثة حالت بينهم وبين فهم كلام الله كما ينبغي وهكذا كل صاحب بدعة تجده محجوبا عن فهم القرآن وتأمل قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} كيف نفى فعل الإدراك ب لا الدالة على طول النفي ودوامه فإنه لا يدرك أبدا وإن رآه المؤمنون فأبصارهم لا تدركه تعالى عن أن يحيط به مخلوق وكيف نفى الرؤية ب لن فقال: {لَنْ تَرَانِي} لأن النفي بها لا يتأبد وقد كذبهم الله في قولهم بتأبيد النفي ب لن بقوله وقالوا: يا مالك {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فهذا تمن للموت فلو اقتضت لن دوام

النفي تناقض الكلام كيف وهي مقرونة بالتأبيد بقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ولكن ذلك لا ينافي تمنيه في النار لأن التأبيد قد يراد به التأبيد المقيد والتأبيد المطلق فالمقيد كالتأبيد بمدة الحياة مقيد كقولك: والله لا أكلمه أبدا والمطلق كقولك والله لا أكفر بربي أبدا وإذا كان كذلك فالآية إنما اقتضت نفي تمني الموت أبد الحياة الدنيا ولم يتعرض للآخرة أصلا وذلك لأنهم لحبهم الحياة وكراهتهم للجزاء لا يتمنون وهذا منتف في الآخرة فهكذا ينبغي أن يفهم كلام الله لا كفهم المحرفين له عن مواضعه قال أبو القاسم السهيلي: على أني أقول إن العرب إنما تنفي ب لن ما كان ممكنا عند المخاطب مظنونا أنه سيكون فتقول له إن لن تكون لما ظن أنه يكون لأن لن فيها معنى أن وإذا كان الأمر عندهم على الشك لا على الظن كأنه يقول أيكون أم لا قلت في النفي لن يكون وهذا كله مقول لتركيبها من لا وإن وتبين لك وجه اختصاصها في القرآن الكريم بالمواضع التي وقعت فيها دون لا فائدة: إذا الظرفية الشرطية قولهم إذا أكرمك قال السهيلي: هي عندي إذا الظرفية الشرطية خلع منها معنى الاسمية كما فعلوا ذلك بإذ وبكاف الخطاب وبالضمائر المنفصلة وكذلك فعلوا ب إذا إلا أنهم زادوا فيها التنوين فذهبت الألف والقياس إذا وقفت عليها أن يرجع الألف لزوال العلة وإنما نونوها لما فصلوها عن الإضافة إذ التنوين علامة الانفصال كما فصلوها عن الإضافة إلى الجملة فيه فصار التنوين معاقبا للجملة إلا أن إذ في ذلك الموضع لم تخرج عن الاسمية في نحو قوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} جعلها سيبويه هاهنا حرفا بمنزلة إن فإن قيل: ليس شيء من هذه الأشياء التي صيرت حروفا بعد أن كانت اسما إلا وقد بقي فيها معنى من معانيها كما بقي في كاف الخطاب معنى الخطاب وفي على معنى الاستعلاء فما بقي في إذا من معانيها في حال الاسمية

الجواب أنك إذا قلت سأفعل كذا إذا خرج زيد ففعلك مرتبط بالخروج مشروط به وكذلك إذا قال لك القائل قد أكرمتك فقلت إذا أحسن إليك ربطت إحسانك بإكرامه وجعلته جزاء له فقد بقي فيها طرف من معنى الجزاء وهي حرف كما كان فيها معنى الجزاء وهو اسم وأما إذ من قوله إذ ظلمتم ففيها معنى الاقتران بين الفعلين كما كان فيها ذلك في حال الظرفية تقول: لأضربن زيدا إذ شتمني فهي وإن لم تكن ظرفا ففيها معنى الظرف كأنك تنهه على أنك تجازيه على ما كان منه وقت الشتم فإن لم يكن الضرب واقعا في حال الشتم فله رد إليه وتنبيه عليه فقد لاح لك قرب ما بينها وبين أن التي هي للمفعول من أجله ولذلك شبهها سيبويه بها في شواذ كتابه وعجبا للفارسي: حيث غاب ذلك عنه وجعلها ظرفا ثم تحيل في إيقاع الفعل الذي هو النفع فيها وسوقه إليها وأما إذا فإذا كانت منونة فإنها لا تكون إلا مضافا إلى ما قبلها ليعتمد على الظرف المضاف إليها فلا يزول عنها معنى الظرفية كما زال عن أختها حين نونوها وفصلوها عن الفعل الذي كانت تضاف إليه والأصل في هذا أن إذ وإذا في غاية من الإبهام والبعد عن شبه الأسماء والقرب من الحروف لعدم الاشتقاق وقلة حروف اللفظ وعدم التمكن وغير ذلك فلولا إضافتها إلى الفعل الذي يبنى للزمان ويفتقر إلى الظروف لما عرف فيها معنى الاسم أبدا إذ لا تدل واحدة منهما على معنى في نفسها إنما جاءت لمعنى في غيرها فإذا قطعت عن ذلك المعنى تمخض معنى الحرف فيها إلا أن إذ لما ذكرنا من إضافة ما قبلها من الظرف إليها لم يفارقها معنى الاسم وليست الإضافة إليها في الحقيقة ولكن إلى الجملة التي عاقبها التنوين وأما إذا فلما لم يكن فيها بعد فصلها عن الإضافة ما يعضد معنى الاسمية فيها صارت حرفا لقربها من حروف الشرط في المعنى ولما صارت حرفا مختصا بالفعل مخلصا له للاستقبال لسائر النواصب للأفعال نصبوا الفعل بعده إذ ليس واقعا موقع الاسم فيستحق الرفع ولا غير واجب فيستحق الجزم فلم يبق إلا النصب ولما لم يكن العمل فيها أصليا لم تقو قوة إخوتها فألغيت تارة وأعملت أخرى وضعفت عن عوامل الأفعال فإن قيل فهلا فعلوا بها ما فعلوا ب إذ حين نونوها وحذفوا الجملة بعدها فيضيفوا

إليها ظروف الزمان كما يضيفونها إلى إذ في نحو يومئذ لأن الإضافة في المعنى إلى الجملة التي عاقبتها التنوين فالجواب أن إذ قد استعملت مضافة إلى الفعل في المعنى على وجه الحكاية للحال كما قال تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} ولم يستعملوا إذا مضافة إلى الماضي بوجه ولا على الحال فلذلك استغنوا بإضافة الظروف إلى إذ وهم يريدون الجملة بعدها عن إضافتها إلى إذا مع أن إذ في الأصل حرفان وإذا ثلاثة أحرف فكان ما هو أقل حروفا في اللفظ أولى بالزيادة فيه وإضافة الأوقات إليه زيادة فيه لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد وأقوى من هذا أن إذا فيها معنى الجزاء وليس في إذ منه رائحته فامتنع إضافة ظرف الزمان إلى إذا لأن ذلك يبطل ما فيها من معنى الجزاء لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد فلو أضيف إليه والحين إليهما لغلب عليهما حكمه لضعفهما عن درجة حرف الجزاء فتأمله فائدة: بديعة لام كي ولام الجحود لام كي والجحود حرفان ماضيان بإضمار أن إلا أن لام كي هي لام العلة فلا يقع فيها إلا فعل يكون علة لما بعدها فإن كان ذلك الفعل منفيا لم يخرجها عن أن تكون لام كي كما ذهب إليه الصيمري لأن معنى العلة فيها باق وإنما الفرق بين لام الجحود ولام كي وذلك من ستة أوجه أحدها: أن لام الجحود يكون قبلها كون منفي بشرط المضي إما ما كان أو لم يكن لا مستقبلا فلا تقول ما أكون لأزورك وتكون زمانية ناقصة لا تامة ولا يقع بعد اسمها ظرف ولا مجرور لا تقول ما كان زيد عندك ليذهب ولا أمس ليخرج فهذه أربعة فروق والذي يكشف لك قناع المعنى ويهجم بك على الغرض أن كان الزمانية عبارة عن زمان ماض فلا يكون علة لحادث ولا يتعدى إلى المفعول من أجله ولا إلى الحال وظروف

المكان وفي تعديها إلى ظرف الزمان نظر وهذا الذي منعها أن تقع قبلها لام العلة أو يقع بعدها المجرور أو الظرف وأما الفرق الخامس بين اللامين فهو أن الفعل بعد لام الجحود لا يكون فاعله إلا عائدا على اسم كان لأن الفعل بعدها في موضع الخبر فلا تقول ما كان زيد ليذهب عمرو كما تقول يا زيد ليذهب عمرو أو لتذهب أنت ولكن تقول ما كان ليذهب وما كنت لأفعل والفرق السادس جواز إظهار أن بعد لام كي ولا يجوز إظهارها بعد لام الجحود لأنها جرت في كلامهم نفيا للفعل المستقبل بالسين أو سوف فصارت لام الجحود بإزائها فلم يظهر بعدها ما لا يكون بعدها وفي هذه النكتة مطلع على فوائد من كتاب الله ومرقاة إلى تدبره كقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} فجاء بلام الجحود حيث كان نفيا لأمر متوقع وسبب مخوف في المستقبل ثم قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فجاء باسم الفاعل الذي لا يختص بزمان حيث أراد نفي وقوع العذاب بالمستغفرين على العموم في الأقوال لا يخص مضيا من استقبال ومثله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} ثم قال: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى} فلاحظ هذه الآية من مطلع الأخرى تجدها كذلك لام العاقبة أو لام الصيرورة وأما لام العاقبة ويسمونها لام الصيرورة في نحو: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} فهي في الحقيقة لام كي ولكنها تتعلق بالخبر لقصد المخبر عنه وإرادته ولكنها تعلقت بإرادة فاعل الفعل على الحقيقة وهو الله سبحانه وتعالى أي فعل الله تعالى ذلك ليكون كذا وكذا وكذلك قولهم أعتق ليموت لم يعتق لقصد الموت ولم تتعلق اللام بالفعل وإنما المعنى قدر الله أنه يعتق ليموت فهي متعلقة بالمقدور وفعل الله ونظيره إني: "أنسى لا سن" ومن رواه أنسي بالتشديد فقد كشف قناع المعنى وسمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول: يستحيل دخول لام العاقبة في فعل الله فإنها حيث وردت في الكلام فهي لجهل الفاعل لعاقبة فعله كالتقاط آل فرعون لموسى فإنهم لم يعلموا عاقبته أو لعجز الفاعل عن دفع العاقبة نحو لدوا للموت وابنوا للخراب فأما في فعل من لا يعزب عنه مثقال ذرة ومن هو على كل شيء قدير

فلا يكون قط إلا لام كي وهي لام التعليل ولمثل هذه الفوائد التي لا تكاد توجد في الكتب يحتاج إلى مجالسة الشيوخ والعلماء فائدة: نفي الماضي ونفي المستقبل كما أن لن لنفي المستقبل كان الأصل أن تكون لا لنفي الماضي وقد استعملت فيه نحو: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ونحو وأي عبد لك لا ألما ولكن عدلوا في الأكثر إلى نفي الماضي ب لم لوجوه منها أنهم خصوا المستقبل بلن فأرادوا أن يخصوا الماضي بحرف ولا لا تخص ماضيا من مستقبل ولا فعلا من اسم فخصوا نفي الماضي ب لم ومنها أن لا يتوهم انفصالها مما بعدها إذ قد تكون نافية لما قبلها ويكون ما بعدها في حكم الوجوب مثل لا أقسم حتى لقد قيل في قول عمر: لا نقضي ما تجانفنا لإثم إن لا رد لما قبلها ونقضي واجب لا منفي وقال بعض الناس في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترآى ناراهما " صحيح أن لا رد وما بعدها واجب وهذا خطأ في الأثرين وتلبيس لا يجوز حمل النصوص عليه وكذلك: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أيضا بل القول فيها أحد قولين إما أن يقال هي للقسم وهو ضعيف وإما أن يقال أقحمت أول القسم إيذانا بنفي القسم عليه وتوكيدا لنفيه كقول الصديق: "لاها الله تعمد إلى أسد من أسد الله" الحديث ومما يدل على حرصهم على إيصال حرف النفي بما بعده قطعا لهذا التوهم إنما قلبوا لفظ الفعل الماضي بعد لم إلى لفظ المضارع حرصا على الاتصال وصرفا للوهم عن ملاحظة الانفصال فإن قيل: وأي شيء في لفظ المضارع مما يؤكد هذا المعنى أو ليسا سواء هو والماضي قلبا لا سواء فاعلم أن الأفعال مضارعة للحروف من حيث كانت عوامل في الأسماء ك هي ومن هناك استحقت البناء وحق العامل أن لا يكون مهيئا لدخول عامل آخر عليه قطعا للتسلسل الباطن

والفعل الماضي بهذه الصورة وهو على أصله من البناء ومضارعة الحروف العوامل في الأسماء فليس يذهب الوهم عند النطق به إلا إلى انقطاعه عما قبله إلا بدليل يربطه وقرينة تجمعه إليه ولا يكون في موضع الحال البتة إلا مصاحبا لقيد ليجعل هذا الفعل في موضع الحال فإن قلت: فقد يكون في موضع الصفتين النكرة نحو مررت برجل ذهب قبل افتقار النكرة إلى الوصف وفرط احتياجها إلى التخصيص تكملة لفائدة الخبر هو الرابط بين الفعل وبينها بخلاف الحال فإنها تجيء بعد استغناء الكلام وتمامه وأما كونه خبرا للمبتدأ فلشدة احتياج المبتدأ إلى خبره جاز ذلك حتى أنك إذا أدخلت أن على المبتدأ بطل أن يكون الماضي في موضع الخبر إذ قد كان في خبرها اللام لما في الكلام من معنى الابتداء والاستئناف لما بعدها فاجتمع ذلك مع صيغة الماضي وتعاونا على منع الفعل الماضي من أن يكون خبرا لما قبلها وليس ذلك في المضارع وليس المضارع كالماضي لأن مضارعته للاسم هيأته لدخول العوامل عليه والتصرف بوجوه الإعراب كالاسم وأخرجته عن شبه العوامل التي لها صدر الكلام وصيرته كالأسماء المعمول فيها فوقع موقع الحال والوصف وموقع خبر المبتدأ وإن لم يقطعه دخول اللام عن أن يكون خبرا في باب إن كما قطع الماضي من حيث كانت صيغة الماضي لها صدر الكلام كما تقدم فإن قيل: فما وجه مضارعة الفعل المستقبل والحال قبل دخول الزوائد ملحقة بالحروف الأصلية متضمنة لمعاني الأسماء كالمتكلم والمخاطب فما تضمن معنى الاسم أعرب كما بني من الأسماء ما تضمن معنى الحرف ومع هذا فإن الأصل في دخول الزوائد شبه الأسماء وصلح فيها من الوجوه ما لا يصلح في الماضي

فائدة: بديعة لام الأمر ولا الناهية لام الأمر ولا في النهي وحروف المجازاة داخلة على المستقبل فحقها أن لا يقع بعدها لفظ الماضي ثم لم يوجد ذلك إلا لحكمة أما حرف النهي فلا يكون فيه ذلك كي لا يلتبس بالنفس لعدم الجزم ولكن إذا كانت لا في معنى الدعاء جاز وقوع الفعل بعدها بلفظ: الماضي ثم قد يوجد بعد ذلك لوجوه منها أنهم أرادوا أن يجمعوا التفاؤل مع الدعاء في لفظ واحد فجاءوا بلفظ الفعل الحاصل في معرض الدعاء تفاؤلا بالإجابة فقالوا: لا خيبك الله وأيضا فالداعي قد تضمن دعاؤه القصد إلى إعلام السامع وإخبار المخاطب بأنه داع فجاءوا بلفظ الخبر إشعارا بما تضمنه من معنى الإخبار نحو أعزك الله وأكرمك ولا رحم فلانا جمعت بين الدعاء والإخبار فإنك داع ويوضح ذلك أنك لا تقول هذا في حال مناجاتك الله تعالى ودعائك لنفسك لا تقول رحمتني رب ورزقتني وغفرت لي كما تقول للمخاطب رحمك الله ورزقك وغفر لك إذ لا أحد في حال مناجاتك يقصد إخباره وإعلامه وإنما أنت داع وسائل محض فإن قيل: وكيف لم يخافوا اللبس كما خافوه في النهي قلنا للدعاء هيبة ترفع الالتباس وذكر الله مع الفعل ليس بمنزلة ذكر الناس فتأمله فإنه بديع في النظر والقياس فقد جاءت أشياء بلفظ الخبر وهي في معنى الأمر والنهي منها قول عمر صلى رجل في كذا وكذا من اللباس وقولهم أنجز حر ما وعد وقولهم اتقى الله امرؤ وهو كثير فجاء بلفظ الخبر الحاصل تحقيقا لثبوته وأنه مما ينبغي أن يكون واقعا ولا بد فلا يطلب من المخاطب إيجاده بل يخبر عنه به ليحققه خبرا صرفا كالإخبار عن سائر الموجودات وفيه طريقة أخرى وهي أفقه معنى من هذه وهو أن هذا إخبار محض عن وجوب ذلك واستقرار حسنه في العقل والشريعة والفطرة وكأنهم يريدون بقولهم: أنجز حر ما وعد أي ثبت ذلك في المروءة

واستقر في الفطرة وقول عمر: "صلى رجل في إزار ورداء" الحديث رواه البخاري أي هذا مما وجب في الديانة وظهر وتحقق من الشريعة فالإشارة إلى هذه المعاني حسنت صرفه إلى صورة الخبر وإن كان أمرا زائدا لا يكاد يجيء الاسم بعده إلا نكرة لعموم هذا الحكم وشيوع النكرة في جنسها فلو جعلت مكان النكرة في هذه الأفعال أسماء معرفة تمخض فيها معنى الخبر وزال معنى الأمر فقلت اتقى الله زيد وأنجز عمر وما وعد فصار خبرا لا أمرا وهذا هو موضع المسألة المشهورة: "وهي مجيء الخبر بمعنى الأمر" مجيء الخبر بمعنى الأمر في القرآن في نحو قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ونظائره فمن سلك المسلك الأول جعله خبرا بمعنى الأمر ومن سلك المسلك الثاني قال بل هو خبر حقيقة غير مصروف من جهة الخبرية ولكن هو خبر عن حكم الله وشرعه ودينه ليس خبرا عن الواقع ليلزم ما ذكروه من الإشكال وهو احتمال عدم وقوع مخبره فإن هذا إنما يلزم من الخبر عن الواقع وأما الخبر عن الحكم والشرع فهو حق مطابق لمخبره لا يقع خلافه أصلا وضد هذا مجيء الأمر بمعنى الخبر نحو قوله: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " رواه البخاري وأبو داود وابن ماجة فإن هذا صورته صورة الأمر ومعناه معنى الخبر المحض أي من كان لا يستحيي فإنه يصنع ما يشتهي ولكنه صرف عن جهة الخبرية إلى صورة الأمر لفائدة بديعة وهي أن العبد له من حيائه آمر يأمره بالحسن وزاجر يزجره عن القبيح ومن لم يكن من نفسه هذا الأمر لم تنفعه الأوامر وهذا هو واعظ الله في قلب العبد المؤمن الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنفع المواعظ الخارجة إن لم تصادف هذا الواعظ الباطن فمن لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ فإذا فقد هذا الأمر الناهي بفقد الحياء فهو مطيع لا محالة لداعي الغي والشهوة طاعة لا انفكاك له منها فنزل منزلة المأمور وكأنه يقول إذا لم تأتمر لأمر الحياء فأنت مؤتمر لأمر الغي والسفه وأنت مطيعه لا محالة وصانع ما شئت لا محالة فأتى بصيغة الأمر تنبيها على هذا المعنى ولو أنه عدل عنها إلى صيغة الخبر المحض فقيل: إذا لم تستح صنعت ما شئت لم يفهم منها هذا المعنى اللطيف فتأمله وإياك والوقوف مع كثافة الذهن وغلظ الطباع فإنها تدعوك إلى إنكار هذه اللطائف وأمثالها فلا تأتمر لها وأما

وقوع الفعل المستقبل بلفظ الأمر أما وقوع الفعل المستقبل بلفظ الأمر في باب الشرط نحو قم أكرمك أي إن تقم أكرمك فقيل حكمته أن صيغة الأمر تدل على الاستقبال فعدلوا إليها إيثارا للخفة وليست هذه العلة مطردة فإن الأفعال المختصة بالمستقبل لا يحسن إقامة لفظ الأمر مقام أكثرها نحو: سيقوم وسوف يقوم ولن تقوم وأريد أن يقوم ولكن أحسن ما ذكروه أن يقال في قوله: قم أكرمك فائدتان ومطلوبان: أحدهما: جعل القياس سببا للإكرام ومقتضيا له اقتضاء الأسباب لمسبباتها والثاني: كونه مطلوبا للآمر مرادا له وهذه الفائدة لا يدل عليها الفعل المستقبل فعدل عنه إلى لفظ الأمر تحقيقا له وهذا واضح جدا وقوع المستقبل بلفظ الماضي وأما وقوع المستقبل بعد حرف الجزاء بلفظ الماضي فقد علل بنحو هذه العلة وأن الإرادة لا تدل على الاستقبال فعدلوا إلى الماضي لأنه أخف وهي أيضا غير مطردة ولا مستقلة ولو لم ينقض عليهم إلا بسائر الأدوات التي لا يكون الفعل بعدها إلا مستقبلا ومع ذلك لا يقع بلفظ الماضي وأحسن مما ذكروه أن يقال عدل عن المستقبل هنا إلى صيغة الماضي إشارة إلى نكتة بديعة وهي تنزيل الشرط بالنسبة إلى الجزاء منزلة الفعل الماضي فإن الشرط لا يكون سابقا للجزاء متقدما عليه فهو ماض بالإضافة إليه ألا ترى أنك إذا قلت إن اتقيت الله أدخلك جنته فلا يكون إلا سابقا على دخول الجنة فهو ماض بالإضافة إلى الجزاء فأتوا بلفظ الماضي تأكيدا للجزاء وتحقيقا لأن الثاني لا يقع إلا بعد تحقق الأول ودخوله في الوجود وأنه لا يكتفي فيه بمجرد العزم وتوطين النفس عليه الذي في المستقبل بل لا سبيل إلى نيل الجزاء إلا بتقدم الشرط عليه وسبقه له فأتى الماضي لهذه النكتة البديعة مع أمنهم اللبس بتحصين أداة الشرط لمعنى الاستقبال فيهما يبقى أن يقال: فهذا تقرير حسن في فعل الشرط فما الذي حسن وقوع الجزاء المستقبل من كل وجه بلفظ الماضي إذا قلت إن قمت قيل: هذا سؤال حسن وجوابه أنهم أبرموا تلك الفائدة في فعل الشرط قصدوا معها تحسين اللفظ مشاكلة أوله لآخره وازدواجه واعتدال أجزائه فأتوا بالجزاء ماضيا لهذه الحكمة فإن لفظتي الشرط

والجزاء كالأخوين الشقيقين وأنت تراهم يغيرون اللفظ عن جهته وما يستحقه لأجل المعادلة والمشاكلة فيقولون أتيته بالغدايا والعشايا ومأزورات غير مأجورات ونظائره ألا ترى كيف حسن إن تزرني أزرك وإن زرتني زرتك وقبح إن تزرني زرتك وتوسط إن زرتني أزرك فحسن الأولان للمشاكلة وقبح الثالث للمنافرة حتى منع منه أكثر النحاة وأجاز جماعة منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره وهو الصواب لكثرة شواهده وصحة قياسه على الصورة الواقعة وادعى أنه أولى منها قال لأن المستقبل في هذا الباب هو الأصل والماضي فرع عليه فإذا أجزتم أن يكون الماضي أولا والمستقبل بعده فجواز الإتيان بالمستقبل الذي هو الأصل أولا والماضي بعده أولى والتقرير الذي قدمناه من كون الشرط سابقا على الجزاء فهو ماض بالنسبة إليه يدل على ترجيح قولهم وإن زرتني أزرك أولى بالجواز من إن تزرني زرتك والتقرير الذي قرره من جواز المستقبل هو الأصل في هذا الباب والماضي دخيل عليه فإذا قدم الأصل كان أولى بالجواز ترجح ما ذكره فالترجيحان حق ولا فرق بين الصورتين وكلاهما جائز هذا هو الإنصاف في المسألة والله أعلم ولكن هنا دقيقة تشير إلى ترجيح قول الجماعة وهي أن الفعل الواقع بعد حرف الشرط تارة يكون القصد إليه والاعتماد عليه فيكون هو مطلوب المعلق وجعل الجزاء باعثا ووسيلة إلى تحصيله وفي هذا الموضع يتأكد أو يتعين الإتيان فيه بلفظ المضارع الدال على أن المقصود منه أن يأتي به فيوقعه وظهور القصد المعنوي إليه أوجب تأثير العمل اللفظي فيه ليطابق المعنى اللفظ فيجتمع التأثيران اللفظي والمعنوي والذي يدل على هذا أنهم قلبوا لفظ الفعل الماضي إلى المستقبل في الشرط لهذا المعنى حتى يظهر تأثير الشرط فيه واقتضاؤه له وإذا كان الكلام معتمدا على الجزاء والقصد إليه والشرط جعل تابعا ووسيلة إليه كان الإتيان فيه بلفظ: الماضي حسنا أو أحسن من المستقبل فزن بهذه القاعدة ما يرد عليك من هذا الباب فمنه قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}

فانظر كيف جعل فعل الشرط ماضيا والجزاء مستقبلا لأن القصد كان إلى دخولهم المسجد الحرام وعنايتهم كلها مصروفة وهممهم معلقة به دون وقوع الأفعال بمشيئة الله تعالى فإنهم لم يكونوا يشكون في ذلك ولا يرتابون وأكد هذا المعنى تقديم الجزاء على الشرط وهو إما نفس الجزاء على أصح القولين دليلا كما تقدم تقريره وإما دال على الجزاء وهو محذوف مقدر تأخيره وعلى القولين فتقدم الجزاء أو تقديم ما يدل عليه اعتناء بأمره وتجريدا للقصد إليه ويدل عليه أيضا تأكيده باللام المؤذنة بالقسم المضمر كأنه قيل والله لتدخلن المسجد الحرام فهذا كله يدلك على أنه هو المقصود المعنى به ومثل هذا قوله تعال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} ونحوه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ومثله: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وهذا أصل غير منخرم وفيه نكتة حسنة وهي اعتماد الكلام في هذا النوع على القسم كما رأيت فحسن الإتيان بلفظ الماضي إذ القسم أولى به لتحققه ولا يكون الإلغاء مستشنعا فيه لأنه مبني ولما كان الفعل بعد حرف الجزاء يقع بلفظ الماضي لما ذكرناه من الفائدة حسن وقوع المستقبل المنفي بلم بعدها نحو: وإن لم تنتهوا وهما جازمتان ولا يجتمع جازمان كما لا يجتمع في شيء من الكلام عاملان من جنس واحد ولكن لما كان الفعل بعدها ماضيا في المعنى وكانت متصلة به حتى كأن صيغته صيغة الماضي لقوة الدلالة عليه بلم جاز وقوعه بعد إن وكان العمل والجزم لحرف لم لأنها أقرب إلى الفعل وألصق به وكان المعنى في الاستقبال لحرف أن لأنها أولى وأسبق فكان اعتبارها في المعنى واعتبار لم في الجزم ولا ينكر إلغاء أن هنا لأن ما بعدها في حكم صيغة الفعل الماضي كما لا ينكر إلغاؤها قبله وقد أجازوا في إن النافية من وقوع المستقبل بعدها بلفظ الماضي ما أجازوا في إن التي للشرط كما قال تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ} ولو جعلت مكان إن هاهنا غيرها من حروف النفي لم يحسن فيه مثل هذا لأن الشرطية أصل للنافية كأن المجتهد في النفي إذا أراد توكيده يقول إن كان

كذا وكذا فعلي كذا أو فأنا كذا ثم كثر هذا في كلامهم حتى حذف الجواب وفهم القصد فدخلت إن في باب النفي والأصل ما ذكرناه والله أعلم فائدة بديعة في ذكر المفرد والجمع وأسباب اختلاف العلامات الدالة على الجمع واختصاص كل محل بعلامته ووقوع المفرد موقع الجملة وعكسه وأين يحسن مراعاة الأصل وأين يحسن العدول عنه وهذا فصل نافع جدا يطلعك على سر هذه اللغة العظيمة القدر المفضلة على سائر لغات الأمم الأصل في الأسماء هو المفرد اعلم أن الأصل هو المعنى المفرد وأن يكون اللفظ الدال عليه مفردا لأن اللفظ قالب المعنى ولباسه يحتذي حذوه والمناسبة الحقيقية معتبرة بين اللفظ والمعنى طولا وقصرا وخفة وثقلا وكثرة وقلة وحركة وسكونا وشدة ولينا فإن كان المعنى مفردا أفردوا لفظه وإن كان مركبا ركبوا اللفظ وإن كان طويلا طولوه كالقطنط والعشنق للطويل فانظر إلى طول هذا اللفظ لطول معناه وانظر إلى لفظ بحتر وما فيه من الضم والاجتماع لما كان مسماه القصير المجتمع الخلق وكذلك لفظة الحديد والحجر والشدة والقوة ونحوها تجد في ألفاظها ما يناسب مسمياتها وكذلك لفظا الحركة والسكون مناسبتهما لمسمياتهما معلوم بالحس وكذلك لفظ الدوران والنزوان والغليان وبابه في لفظها من تتابع الحركة ما يدل على تتابع حركة مسماها وكذلك الدجال والجراح والضراب والأفاك في تكرر الحرف المضاعف منها ما يدل على تكرر المعنى وكذلك الغضبان والظمآن والحيران وبابه صيغ على هذا البناء الذي يتسع النطق به ويمتلئ الفم بلفظه لامتلاء حامله من هذه المعاني فكان الغضبان هو الممتلئ غضبا الذي قد اتسع غضبه حتى ملأ قلبه وجوارحه وكذلك بقيتها ولا يتسع المقام لبسط هذا فإنه يطول ويدق جدا حتى تسكع عنه أكثر الأفهام وتنبو عنه للطافته فإنه ينشأ

من جوهر الحرف تارة وتارة من صفته ومن اقترانه بما يناسبه ومن تكرره ومن حركته وسكونه ومن تقديمه وتأخره ومن إثباته وحذفه ومن قلبه وإعلاله إلى غير ذلك من الموازنة بين الحركات وتعديل الحروف وتوخي المشاكلة والمخالفة والخفة والثقل والفصل والوصل وهذا باب يقوم من تتبعه سفر ضخم وعسى الله أن يساعد على إبرازه بحوله وقوته ورأيت لشيخنا أبي العباس بن تيمية فيه فهما عجيبا كان إذا انبعث فيه أتى بكل غريبة ولكن كان حاله فيه كما كان كثيرا يتمثل: تألق البرق نجديا فقلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول ولنذكر من هذا الباب حال اللفظ في إفراده وتغييره عند زيادة معناه بالتثنية والجمع دون سائر مغيراته فنقول لما كان المفرد هو الأصل والتثنية والجمع تابعان له جعل لهما في الاسم علامة تدل عليهما وجعلت آخره قضاء لحق الأصالة فيه والتبعية فيهما والفرعية فالتزموا هذا في التثنية ولم ينخرم عليهم وأما الجمع فإنهم ذهبوا به كل مذهب وصرفوه كل مصرف فمرة جعلوه على حد التثنية وهو قياس الباب كالتثنية والنسب والتأنيث وغيرها وتارة اجتلبوا له علامة في وسطه كالألف في جعافر والياء في عبيد والواو في فلوس وتارة جعلوا اختصار بعض حروفه وإسقاطها علامة عليه نحو: عنكبوت وعناكب فإنه لما ثقل عليهم المفرد وطالت حروفه وازداد ثقلا بالجمع خففوه بحذف بعض حروفه لئلا يجمعوا بين ثقلين ولا يناقض هذا ما أصلوه من طول اللفظ لطول المعنى وقصره لقصره فإن هذا باب آخر من المعادلة والموازنة عارض ذلك الأصل ومنع من طرده ومنهم جمعهم فعيل وفعول وفعال على فعل كرغيف وعمود وقذال على رغف وعمد وقذل لثقل المفرد بالمدة فإن كان في واحده ياء التأنيث فإنها تحذف في الجمع فكرهوا أن يحذفوا المدة فيجمعوا عليه بين نقيضين فقلبوا المدة ولم يحذفوها كرسالة ورسائل وصحيفة وصحائف فجبروا النقص بالفرق لا أنهم تناقضوا

وتارة يقتصرون على تغيير بعض حركاته فيجعلونها علامة لجمعه كفلك وفللك وعبد وتارة يجتلبون له لفظا مستقلا من غير لفظ واحدة كخيل وأيم وقوم ورهط ونحوه وتارة يجعلون العلامة في التقدير والنية لا في اللفظ كفلك للواحد والجمع فإن ضمة الواحد في النية كضمة قفل وضمة الجمع كضمة رسل وكذلك هجان ودلاص وأسمال وأعشار مع أن غالب هذا الباب إنما يأتي في الباب لحصول التمييز والعلامة بموصوفاتها فلا يقع لبس ولا يكاد يجيء في غير الصفات إلا نادرا جدا ومع هذا فلا بد أن يكون لمفرده لفظ يغاير جمعه ويكون فيه لغتان لأنهم علموا أنه يثقل عليهم أما في الجر والنصب فلتوالي الكسرات وأما في الرفع فيثقل الخروج من الكسرة إلى الضمة فعدلوا إلى جمع تكسيره ولا يرد هذا عليهم في راحمين وراحمون لفصل الألف الساكنة ومنعها من توالي الحركات فهو كمسلمين وقائمين وكذلك عدلوا عن جمع فعل المضاعف من صفات العقلاء كفظ وبر فلم يجمعوه جمع سلامة ويقولون برون وفظون لئلا يشتبه بكلوب وسفود لأنه برائين فكسروه وقالوا أبرار فلما جاءوا إلى غير المضاعف كصعب جمعوه جمع تصحيح ولم يخافوا التباسا إذ ليس في الكلام فعلول وصعبون فتأمل هذا التفريق وهذا التصور الدال على أن أذهانهم قد فاقت أذهان الأمم كما فاقت لغتهم لغاتهم وتأمل كيف لم يجمعوا شاعرا جمع سلامة مع استيفائه وشروطه بل كسروه فقالوا: شعراء إيذانا منهم بأن واحده على زنة فعيل فجمعوه كرحيم ورحماء لما كان مقصودهم المبالغة في وصفهم بالشعور ثم انظر كيف لم ينطقوا بهذا الوجه المقدر كراهية منهم لمجيئه بلفظ شعير وهو الحب المعروف فأتوا بفاعل ولما لم يكن هذا المانع في الجمع قالوا شعرا فأما التثنية فإنهم ألزموها حالا واحدا فالتزموا فيها لفظ المفرد ثم زادوا عليه علامة التثنية وقد قدمنا أن ألف التثنية في الأسماء أصلها ألف الإثنين في فعلا وذكرنا الدليل على ذلك فجاءت الألف في التثنية في الأسماء كما كانت في فعلا علامة

الإثنين وكذلك الواو في جمع المذكر السالم علامة الجمع نظير واو فعلوا وتقدم أنك لا تجد الواو علامة للرفع في جميع الأسماء إلا في الأسماء المشتقة من الأفعال أو ما هو في حكمها ولما كانت الألف علامة الإثنين في ضمير من يعقل وغيره كانت علامة التثنية في العاقل وغيره وكانت الألف أولى بضمير الإثنين لقرب التثنية من الواحد وأرادوا أن لا يغيروا الفعل عن البناء على الفتح في الإثنين كما كان ذلك في الواحد للقرب المذكور ولما كانت الواو ضمير العاقلين خاصة في فعلوا خصوها بجمع العقلاء في نحو هم مسلمون وقائمون ولما كان في الواو من الضم والجمع ما ليس في غيرها خصوها بالدلالة على الجمع دون الألف وسر المسألة أنك إذا جمعت وكان القصد إلى تعيين آحاد الجموع وأنت معتمد الإخبار عن كل واحد منهم وسلم لفظ بناء الواحد في الجمع كما سلم معناه في القصد إليه فقلت: فعلوا وهم فاعلون وأكثر ما يكون هذا فيمن يعقل لأن جميع ما لا يعقل من الأجناس يجري مجرى الأسماء المؤنثة المفردة كالثلة والأمة والجملة فلذلك تقول الثياب بيعت وذهبت ولا تقول بيعوا وذهبوا لأنك تشير إلى الجملة من غير تعيين آحادها هذا هو الغالب فيما لا يعقل إلا ما أجرى مجرى العاقل وجاءت جموع التكسير معتبرا فيها بناء الواحد جارية في الإعراب مجراه حيث ضعف الإعتماد على كل واحد بعينه وصار الخبر كأنه عن الجنس الكبير الجاري في لفظه مجرى الواحد وكذلك جمعوا ما قل عدده من المؤنث جمع السلامة وإن كان ما لا يعقل نحو الثمرات والسمرات إلا أنهم لم يجعلوا المذكر منه وإن قل عدده إلا جمع تكسير لأنهم في المؤنث لم يزيدوا غير ألف فرقا بينه وبين الواحد وأما التاء فقد كانت موجودة في الواحدة وفي وصفها وإن كثر جمعوه جمع تكسير كالمذكر فإذا كانوا في الجمع القليل يسلمون لفظ الواحد من أجل الإعتماد في إسناد الخبر على إفراده فما ظنك به في الإثنين إذا ساغ لهم ذلك في الجمع الذي هو على حدها لقربه منها فلهذا لا تجد التثنية في العاقل وغيره إلا على حد واحد وكذلك ضمير الإثنين في الفعل تثنية الأسماء

إذا علم هذا فحق العلامة في تثنية الأسماء أن يكون على حدها في علامة الإضمار وأن تكون ألفا في كل الأحوال وكذلك فعلت طوائف من العرب وهم خثعم وطيء وبنو الحرث بن كعب وعليه جاءت في قول محققي النحاة: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وأما أكثر العرب فإنهم كرهوا أن يجعلوه كالاسم المبني والمقصور من حيث كان الإعراب قد ثبت في الواحد والتثنية طارئة على الإفراد وكرهوا زوال الألف لاستحقاق التثنية لها فتمسكوا بالأمرين فجعلوا الياء علامة الجر وشركوا النصب معه لما علمت من تعليل النحاة فكان الرفع أجدر بالألف لا سيما وهي في الأصل علامة إضمار الفاعل وهي في تثنية الأسماء علامة رفع الفاعل أو ما ضارعه وقام مقامه وأما الواو فقد فهمت اختصاصها بالجمع واستحقاق الرفع لها بما قررناه في الألف ولكنهم حولوا إلى الياء في الجر لما ذكرنا في ألف التثنية ومتى انقلبت الواو ياء فكأنها إذ لم يفارقها المد واللين فكأنهما حرف واحد والانقلاب فيهما يعتبر حالا لا تبديلا ولهذا تجدهم يعبرون عن هذا المعنى بالقلب لا بالإبدال ويقولون في تاء تراث وتخمة وتجاه أنها بدل من الواو فإن قيل: فإذا كان بعض العرب قد جعل التثنية بالألف في كل حال فهلا جعلوا الجمع بالواو في جميع أحواله قيل: إن الألف منفردة في كثير من أحكامها عن الواو والياء والواو أختان فكأنهم لما قلبوها ياء في النصب لم يبعدوا عن الواو بخلاف الألف فإنهم إذا قلبوها ياء بعدوا عنها جمع سنين ومئين فإن قيل: فما بال جمعهما جاء على حد التثنية وليس على صفات العاقلين ولا أسمائهم قيل: إن هذا الجمع لا يوجد إلا فيما كملت فيه أربعة شروط أحدها أن يكون معتل اللام الثاني أن لا يكون المحذوف منه غير حرف مد ولين الثالث أن يكون مؤنثا الرابع أن لا يكون له مذكر فخرج من هذا الضابط شفه لأن محذوفها هاء وكذا شاه وعضه وخرج منه أمه لأن لها مذكرا وإن لم يكن على لفظها فقالوا: في جمعها أموات ولم يجمعوه جمع سنين كيلا يظن أنه جمع المذكر إذ كان له مذكر فجمعوا هذا الباب جمع سلامة من أجل أنه مؤنث والمؤنث يجمع

جمع سلامة وإن لم يكن على هذا اللفظ فلما حصل فيه جمع السلامة بالقياس الصحيح وكانت عادتهم رد اللام المحذوفة في الجموع وكانت اللام المحذوفة واوا أو ياء أظهر في الجمع السالم لها ياء أو واو ولم يكن في الواحد وساق القياس إليها سوقا لطيفا حتى حصلت له بعد أخذها منه فما أشبه حال هذا الاسم بحال من أخذ الله تعالى منه شيئا وعوضه خيرا منه وأين الواو والياء الدالة على جمع أولي العلم من ياء أو واو لا تدل على معنى البتة فتأمل هذا النحو ما ألطفه وأغربه وأعزه في الكتب والألسنة ثم انظر كيف كسروا السين من سنين لئلا يلتبس بما هو على وزن فعول من أوزان المبالغة فلو قالوا: سنون بفتح السين لالتبس بفعول من سن يسن فكان كسر السين تحقيقا للجمع إذ ليس في الكلام اسم مفرد على وزن فعيل وفعول بكسر الفاء تثنية الأرض وجمعها فإن قيل: فما أنت صانع في الأرضين قيل ليست الأرض في الأصل كأسماء الأجناس مثل ماء وحجر وتمر ولكنها لفظة جارية مجرى المصدر فهي بمنزلة السفل والتحت وبمنزلة ما يقابلها كالفوق والعلو ولكنها وصف بها هذا المكان المحسوس فجرت مجرى امرأة زور وضيف ويدل على هذا قول الراجز ولم يقلب أرضها البيطار يصف قوائم فرس فأفرد اللفظ وإن كان يريد ما هو جمع في المعنى فإذا كانت بهذه المنزلة فلا معنى لجمعها كما لا يجمع الفوق والتحت والعلو والسفل فإن قصد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعين قطعة محدودة منها خرجت عن معنى السفل الذي هو في مقابلة العلو حيث عين جزءا محسوسا منها فجاز على هذا أن يثنى إذا ضممت إليه جزءا آخر فنقول رأيت أرضين ولا تقول للواحدة أرضة كما تقول في واحد التمر تمرة لأن الأرض ليس باسم جنس كما تقدم ولا يقال أيضا أرضة من حيث قلت: ضربة وجرحة لأنها في الأصل تجرى مجرى السفل والتحت ولا يتصور في العقول أن يقال سفلة وتحتة كما يتصور ذلك في بعض المصادر فلما لم يمكنهم أن يجمعوا أرضا على أرضات من حيث رفضوا أرضة ولا أمكنهم أن يقولوا: آرض ولا آراض من حيث لم يكن مثل أسماء الأجناس كصخر

وكلب وكانوا قد عينوا مجزوءا محدودا فقالوا: فيه أرض وفي تثنيته أرضان لم يستكثروا إذا أضافوا إلى الجزأين بالياء ورابعا أن يجمعوه على حد التثنية فقد تقدم السر في الجمع الذي على حد التثنية وأنه مقصود إلى آحاده على التعيين فإن أرادوا الكثرة والجمع الذي لا يتعين آحاده كأسماء الأجناس لم يحتاجوا إلى الجمع فإن لفظ أرض يأتي على ذلك كله لأنها كلها بالإضافة إلى السماء تحت وسفل فعبر عنها بهذا اللفظ الجاري مجرى المصدر لفظا ومعنى وكأنه وصف لذاتها لا عبارة عن عينها وحقيقتها إذ يصلح أن يعبر به عن كل ما له فوق وهو بالإضافة إلى ما يقابله سفل كما تقدم فسماء كل شيء أعلاه وأرضه أسفله وتأمل كيف جاءت مجموعة في قوله: " طوقه من سبع أرضين " رواه مسلم أحمد لما اعتمد الكلام على ذات الأرضين وأنفسها على التفضيل لآحادها دون الوصف لها بتحت أو سفل في مقابلة فوق وعلو فتأمله جمع السماء واشتقاقها فإن قلت: فلم جمعوا السماء فقالوا: سماوات وهلا راعوا فيها ما راعوا في الأرض فإنها مقابلة فما الفرق بينهما قيل: بينهما فرقان فرق لفظي وفرق معنوي أما اللفظي فإن الأرض على وزن ألفاظ المصادر الثلاثة وهو فعل كضرب وأما السماوات كان نظيرها في المصادر التلاء والجلاء فهي بأبنية الأسماء أشبه وإنما الذي يماثل الأرض في معناها ووزنها السفل والتحت وهما لا يثنيان ولا يجمعان وفي مقابلتهما الفوق والعلو وهما كذلك لا يجمعان على أنه قد قيل: إن السماوات ليس جمع سماء وإنما هي جمع سماوة وسماوة كل شيء أعلاه وأما جمع سماء فقياسه أسمية كأكسية وأغطية أو سموات وليس هذا بشيء فإن السماوة هي أعلى الشيء خاصة ليست باسم لشيء عال وإنما هي اسم لجزئه العالي وأما السماء فاسم لهذا السقف الرفيع بجملته فالسماوات جمعه لا جمع أجزاء عالية منه على أنه كل عال وأحسن من هذا الفرق أن يقال لو جمعوا أرضا على قياس جموع التكسير لقالوا آرض كأفلس أو آراض كأجمال أو أروض كفلوس فاستثقلوا هذا اللفظ إذ ليس فيه من الفصاحة والحسن والعذوبة ما في لفظ السماوات وأنت تجد السمع ينبو عنه بقدر ما يستحسن

لفظ السماوات ولفظ السماوات يلج في السمع بغير استئذان لنصاعته وعذوبته ولفظ الأراضي لا يأذن له السمع إلا على كره ولهذا تفادوا من جمعه إذا أرادوه بثلاثة ألفاظ تدل على التعدد كما قال تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} كل هذا تفاديا من أن يقال أراض وآرض الفرق المعنوي فإن الكلام متى اعتمد به على السماء المحسوسة التي هي السقف وقصد به إلى ذاتها دون معنى الوصف صح جمعها جمع السلامة لأن العدد قليل وجمع السلامة بالقليل أولى لما تقدم من قربه من التثنية القريبة من الواحد ومتى اعتمد الكلام على الوصف ومعنى العلى والرفعة جرى اللفظ مجرى المصدر الموصوف به في قولك: قول عدول وزور وأما الأرض فأكثر ما تجيء مقصودا بها معنى التحت والسفل دون أن يقصد ذواتها وأعدادها وحيث جاءت مقصودا بها الذات والعدد أتي بلفظ يدل على البعد كقوله: {وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ} وفرق ثان وهو أن الأرض لها نسبة لا إلى السماوات وسعتها بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء فهي وإن تعددت وتكبرت فهي بالنسبة إلى السماء كالواحد القليل فاختير لها اسم الجنس وفرق ثالث أن الأرض هي دار الدنيا التي بالإضافة إلى الآخرة كما يدخل الإنسان إصبعه في اليم فما تعلق بها هو مثال الدنيا من الآخرة والله سبحانه لم يذكر الدنيا إلا مقللا لها محقرا لشأنها وأما السماوات فليست من الدنيا هذا على أحد القولين في الدنيا فإنه اسم للمكان فإن السماوات مقر ملائكة الرب تعالى ومحل دار جزائه ومهبط ملائكته ووحيه فإذا اعتمد التعبير عبر عنها بلفظ الجمع إذ المقصود ذواتها لا مجرد العلو والفوق وأما إذا أريد الوصف الشامل للسماوات وهو معنى العلو والفوق أفردوا ذلك بحسب ما يتصل به من الكلام والسياق فتأمل قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} كيف أفردت هنا لما كان المراد الوصف الشامل والفوق المطلق ولم يرد سماء معينة مخصوصة ولما لم تفهم الجهمية هذا المعنى أخذوا

في تحريف الآية عن مواضعها إفراد السماء وجمعها وكذا قال الله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} بخلاف قوله في سبأ: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} فإن قبلها ذكر سبحانه سعة ملكه ومحله وهو السماوات كلها والأرض ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إرادة للجنس وتأمل كيف أتت مجموعة في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} فإنها أتت مجموعة هنا لحكمة ظاهرة وهي تعلق الظرف بما في اسمه تبارك وتعالى من معنى الإلهية فالمعنى وهو الإله وهو المعبود في كل واحدة من السماوات ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه المعبود فذكر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الإقتصار على لفظ الجنس الواحد ولما عزب هذا المعنى عن فهم بعض المتسننة فسر الآية بما لا يليق بها فقال الوقف التام على السماوات ثم يبتديء بقوله وفي الأرض يعلم وغلط في فهم الآية وأن معناها ما أخبرتك به وهو قول محققي أهل التفسير وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} إرادة لهذين الجنسين أي رب كل ما علا وكل ما سفل فلما كان المراد عموم ربوبيته أتى بالاسم الشامل لكل ما يسمى سماء وكل ما يسمى أرضا وهو أمر حقيقي لا يتبدل ولا يتغير وإن تبدلت عين السماء والأرض فانظر كيف جاءت مجموعة في قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} في جميع الصور لما كان المراد الإخبار عن تسبيح سكانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم يكن بد من جمع محلهم ونظير هذا جمعها في قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} وكذلك جاءت في قوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} مجموعة إخبارا بأنها تسبح له بذواتها وأنفسها على اختلاف عددها وأكد هذا المعنى بوصفها بالعدد ولم يقتصر على السماوات فقط بل قال: {السَّبْعُ} وانظر كيف جاءت مفردة في قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فالرزق المطر وما وعدنا به الجنة وكلاهما في هذه الجهة لا أنهما في كل واحدة واحدة من

السماوات فكان لفظ الإفراد أليق بها ثم تأمل كيف جاءت مجموعة في قوله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ} لما كان المراد نفي علم الغيب عن كل من هو في واحدة من السماوات أتى بها مجموعة وتأمل كيف لم يجيء في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت لما لم يكن المراد نزوله من ذات السماء بنفسها بل المراد الوصف وهذا باب قد فتح الله ولك فلجه وانظر إلى أسرار الكتاب وعجائبه وموارد ألفاظه جمعا وإفرادا وتقديما وتأخيرا إلى غير ذلك من أسراره فلله الحمد والمنة لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه هل الرزق من السماء أو من السماوات فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى: في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} وبين قوله في سورة سبأ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} قيل هذا من أدق هذه المواضع وأغمضها وألطفها فرقا فتدبر السياق تجده نقيضا لما وقع فإن الآيات التي في يونس سيقت مساق الاحتجاج عليهم بما أقروا به ولم يمكنهم إنكاره من كون الرب تعالى هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم ومدبر أمورهم وغيرها ومخرج الحي من الميت والميت من الحي فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الاحتجاج به عليهم إن فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له شركاء لا يملكون شيئا من هذا ولا يستطيعون فعل شيء منه ولهذا قال بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي لا بد أنهم يقرون بذلك ولا يجحدونه فلا بد أن يكون المذكور مما يقرون به والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها بالحس ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء حتى تنتهي إليهم ولم يصل علمهم إلى هذا فأفردت لفظ السماء هنا فإنه لا يمكنهم إنكار مجيء الرزق منها لا سيما والرزق هاهنا إن كان هو المطر فمجيئه من السماء التي هي السحاب فإنه يسمى سماء لعلوه وقد أخبر سبحانه أنه بسط السحاب في السماء بقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} والسحاب إنما هو مبسوط في جهة العلو لا في نفس الفلك وهذا معلوم بالحس فلا يلتفت إلى غيره

فلما انتظم هذا بذكر الاحتجاج عليهم لم يصلح فيه إلا إفراد السماء لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح ولا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقية الأبدية وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والموارد الربانية والتنزلات الإلهية وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرزق ولكن القوم لم يكونوا مقرين به فخوطبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم بحيث لا يمكنهم إنكاره وأما الآية التي في سورة سبأ فلم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماوات ولهذا أمر رسوله بأن يتولى الجواب فيها ولم يذكر عنهم أنهم المجيبون المقرون فقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ولم يقل: سيقولون الله فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيب بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السماوات السبع وأما الأرض فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الإثنين إذ يقر به كل أحد مؤمن وكافر وبر وفاجر إفراد الرياح وجمعها ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة وسر ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع وإذا هاجت منها ريح أنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويرد سورتها فكانت في الرحمة ريحا وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد وحمام واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها حتى تنتهي إلى حيث أمرت لا يرد سورتها ولا يكسر شرتها فتمتثل ما أمرت به وتصيب ما أرسلت إليه ولهذا وصف سبحانه الريح التي أرسلها على عاد بأنها عقيم فقال: {أرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} وهي التي لا تلقح ولا خير فيها والتي تعقم ما مرت عليه ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا

رِيحٌ عَاصِفٌ} فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد سيرها فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون ريحا عاصفة بل هي مما يفرح بها لطيبها فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحا ويتغذى بها عن الطعام والشراب والحمد لله الفتاح العليم فمثل هذا الفصل يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام الله والله الموفق للصواب مصطلحات بين الإفراد والجمع مما يدخل في هذا الباب جمع الظلمات وإفراد النور وجمع سبل الباطل وإفراد سبل الحق وجمع الشمائل وإفراد اليمين أما الأول فكقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} وأما الثاني فكقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وأما الثالث فكقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} والجواب عنها يخرج من مشكاة واحدة وسر ذلك والله أعلم أن طريق الحق واحد وهو على الواحد للأحد كما قال تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قال مجاهد: "الحق طريقه على الله ويرجع إليه كما يقال طريقك علي" ونظيره قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} في أصح القولين: أي السبيل القصد الذي يوصل إلى الله وهي طريق عليه قال الشاعر: فهن المنايا أي واد سلكنه ... عليها طريقي أو علي طريقها وقد قررت هذا المعنى وبينت شواهده من القرآن وسر كون الصراط المستقيم على الله وكونه تعالى على الصراط المستقيم كما في قول هود: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} في كتاب التحفة المكية والمقصود أن طريق الحق واحد إذ مرده إلى الله الملك الحق وطرق الباطل متشعبة متعددة فإنها لا ترجع إلى شيء موجود ولا غاية لها يوصل إليها بل هي بمنزلة بنيات الطريق وطريق الحق بمنزلة الطريق

الموصل إلى المقصود فهي وإن تنوعت فأصلها طريق واحد ولما كانت الظلمة بمنزلة طرق الباطل والنور بمنزلة طريق الحق فقد أفرد النور وجمعت الظلمات وعلى هذا جاء قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} فوحد ولي الذين آمنوا وهو الله الواحد الأحد وجمع الذين كفروا لتعددهم وكثرتهم وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها واختلافها ووحد النور وهو دينه الحق وطريقه المستقيم الذي لا طريق إليه سواه ولما كانت اليمين جهة الخير والفلاح وأهلها هم الناجون أفردت ولما كانت الشمال جهة أهل الباطل وهم أصحاب الشمال جمعت في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} فإن قيل فهلا كذلك في قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} وما بالها جاءت مفردة قيل: جاءت مفردة لأن المراد أهل هذه الجهة ومصيرهم ومآلهم إلى جهة واحدة وهي جهة الشمال مستقر أهل النار والنار من جهة الشمال فلا يحسن مجيئها مجموعة لأن الطرق الباطلة وإن تعددت فغايتها المرد إلى طريق الجحيم وهي جهة الشمال وكذلك مجيئها مفردة في قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} لما كان المراد أن لكل عبد قعيدين قعيدا عن يمينه وقعيدا عن شماله يحصيان عليه الخير والشر فلكل عبد من يختص بيمينه وشماله من الحفظة فلا معنى للجمع هاهنا وهذا بخلاف قوله تعالى حكاية عن إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} فإن الجمع هنا في مقابلة كثرة من يريد إغواءهم فكأنه أقسم أن يأتي كل واحد من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ولا يحسن هنا عن يمينهم وعن شمالهم بل الجمع هاهنا من مقابلة الجملة بالجملة المقتضى توزيع الأفراد ونظيره: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وقد قال بعض الناس: إن الشمال إنما جمعت في الظلال وأفرد اليمين لأن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول يبدو كذلك ظلا

واحدا من جهة اليمين ثم يأخذ في النقصان وأما إذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئا فشيئا والثاني منه غير الأول فلما زاد منه شيئا فهو غير ما كان قبله فصار كل جزء منه كأنه ظل فحسن جمع الشمائل في مقابلة تعدد الظلال وهذا معنى حسن المشرق والمغرب بين الجمع والتثنية والإفراد ومن هذا المعنى مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارة مجموعين وتارة مثنيين وتارة مفردين لاختصاص كل محل بما يقتضيه من ذلك فالأول كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} والثاني كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} والثالث كقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} فتأمل هذه الحكمة البالغة في تغاير هذه المواضع في الإفراد والجمع والتثنية بحسب موادها يطلعك على عظمة القرآن الكريم وجلالته وأنه تنزيل من حكيم حميد فحيث جمعت كان المراد بها مشارق الشمس ومغاربها في أيام السنة وهي متعددة وحيث أفردت كان المراد أفقي المشرق والمغرب وحيث ثنيا كان المراد مشرقي صعودها وهبوطها ومغربيهما فإنها تبتديء صاعدة حتى تنتهي إلى غاية أوجها وارتفاعها فهذا مشرق صعودها وينشأ منه فصلا الخريف والشتاء: فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقا واحدا ومشرق هبوطها بجملته مشرقا واحدا ويقابلها مغرباها فهذا وجه اختلاف هذه في الإفراد والتثنية والجمع وأما وجه اختصاص كل موضع بما وقع فيه فلم أر أحدا تعرض له ولا فتح بابه وهو بحمد الله بين من السياق فتأمل وروده مثنى في سورة الرحمن لما كان مساق السورة مساق المثاني المزدوجات فذكر أولا نوعي الإيجاد وهما الخلق والتعظيم ثم ذكر سراجي العالم ومظهري نوره وهما الشمس والقمر ثم ذكر نوعي النبات ما قام منه على ساق وما انبسط منه على وجه الأرض وهما النجم والشجر ثم ذكر نوعي السماء المرفوعة والأرض الموضوعة وأخبر أنه رفع هذه ووضع هذه ووسط بينهما ذكر الميزان ثم ذكر العدل والظلم في الميزان فأمر بالعدل ونهى عن الظلم ذكر نوعي الخارج من الأرض وهما الحبوب والثمار ثم ذكر خلق نوعي المكلفين وهما نوع الإنسان ونوع الجان ثم ذكر نوعي المشرقين ونوعي المغربين ثم ذكر

بعد ذلك البحرين الملح والعذب فتأمل حسن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة وجلالة ورودهما لذلك وقدر موضعهما اللفظ مفردا ومجموعا تجد السمع ينبو عنه ويشهد العقل بمنافرته للنظم ثم تأمل ورودهما مفردين في سورة المزمل لما تقدمهما ذكر الليل والنهار فأمر رسوله علي الصلاة والسلام بقيام الليل ثم أخبره أن له في النهار سبحا طويلا فلما تقدم ذكر الليل وما أمر به فيه وذكر النهار وما يكون منه فيه عقب ذلك بذكر المشرق والمغرب اللذين هما مظهر الليل والنهار فكان ورودهما مفردين في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع لأن ظهور الليل والنهار هما واحد فالنهار أبدا يظهر من المشرق والليل أبدا يظهر من المغرب ثم تأمل مجيئهما مجموعين في سورة المعارج في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} لما كان هذا القسم في سياق سعة ربوبيته وإحاطة قدرته والمقسم عليه أرباب هؤلاء والإتيان بخير منهم ذكر المشارق والمغارب لتضمنهما انتقال الشمس التي هي أحد آياته العظيمة الكبيرة ونقله سبحانه لها وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب فمن فعل هذا كيف يعجزه أن يبدل هؤلاء وينقل إلى أمكنتهم خيرا منهم وأيضا فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر مشهور وقد جعل الله تعالى ذلك بحكمته سببا لتبدل أجسام النبات وأحوال الحيوانات وانتقالها من حال إلى غيره ويبدل الحر بالبرد والبرد بالحر والصيف بالشتاء والشتاء بالصيف إلى سائر تبدل أحوال الحيوان والنبات والرياح والأمطار والثلوج وغير ذلك من التبدلات والتغيرات الواقعة في العالم بسبب اختلاف مشارق الشمس ومغاربها كان ذلك تقدير العزيز العليم فكيف لا يقدر مع ما يشهدونه من ذلك على أن يبدل خيرا منهم وأكد هذا المعنى بقوله وما نحن بمسبوقين فلا يليق بهذا الموضع سوى لفظة الجمع ثم تأمل كيف جاءت أيضا في سورة الصافات مجموعة في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} لما جاءت مع جملة المربوبات المتعددة وهي السماوات والأرض وما بينهما كان

الأحسن مجيئها مجموعة لينتظم مع ما تقدم من الجمع والتعدد ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال لذلك فإن المشارق مظهر الأنوار وأسباب انتشار الحيوان وحياته وتصرفه ومعاشه وانبساطه فهو إنشاء مشهود فقدمه بين يدي الرد على منكري البعث ثم ذكر تعجب بنيه من تكذيبهم واستبعادهم البعث بعد الموت ثم قدر الموت وحالهم فيه وكان الإقتصار على ذكر المشارق هاهنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب والله أعلم. فائدة: إنما ظهرت علامة التثنية والجمع في الفعل دون علامة الواحد لأن الفعل يدل على فاعل مطلق ولا يدل على تثنية ولا جمع لأنهما طارئان على الإفراد وهو الأصل ففعل الواحد مستغن عن علامة الإضمار لعلم السامع أن له فاعلا ولا كذلك في التثنية والجمع لأن السامع لا يعلم أن الفاعل مثنى ولا مجموع استتار الضمير في الفعل فإن قيل: فما معنى استتار الضمير في الفعل وهو حروف مركبة من حركات اللسان فكيف يستتر فيها شيء أو يظهر قيل أكثر ألفاظ النحاة محمول على الاستعارة والتشبيه والتسامح إذ مقصودهم التقريب على المتعلمين والتحقيق أن الفاعل مضمر في نفس المتكلم ولفظ الفعل متضمن له دال عليه واستغني عن إظهاره لتقدم ذكره وعبر عنه بلفظ مضمر ولم يعبر عنه بمحذوف لأن المضمر هو المستتر فهو مضمر في النية مخفي في الخلد والإضمار هو الإخفاء فإن قيل: فهلا سموا ما حذفوه لفظا وأرادوا نيته مضمرا مثل الغاية في قولك الذي رأيت زيد وما الفرق بينهما وبين زيد قام قيل: الضمير في زيد قام لم ينطق به ثم حذف ولكنه مضمر في الإرادة ولا كذلك الضمير المحذوف للعلم به لأنه قد لفظ به في النطق ثم حذف تخفيفا فلما كان قد لفظ به ثم قطع من اللفظ تخفيفا عبر عنه بالحذف والحذف هو القطع من الشيء فهذا هو الفرق بينهما.

فائدة بديعة: لحاق علامة التثنية والجمع للفعل مقدما جاء في لغة قوم من العرب حرصا على البيان وتوكيدا للمعنى إذ كانوا يسمون بالتثنية والجمع نحو فلسطين وقنسرين وحمدان وسلمان مما يشبه لفظه لفظ المثنى والجمع فهذا ونحوه دعاهم إلى تقديم العلامة في قولهم أكلوني البراغيث وقد ورد في الحديث: " يتعاقبون فيكم ملائكة" رواه البخاري ومسلم وكما أن هذه العلامة ليست للفعل إنما هي للفاعلين وكذلك التاء في قامت هند ليست للفعل إذ هو حيث يذكر لا يلحقه تأنيث إلا في نحو: "ضربه وقتله" والفعل لم يشتق من المصدر محدودا وإنما يدل عليه مطلقا فالتاء إذا بمنزلة علامة التثنية والجمع إلا أنها ألزم للفعل منها وقد ذكر النحاة في ذلك فروقا وعللا مشهورة فراجعها إلحاق علامة التأنيث للفعل قالوا إن الاسم المؤنث لو كان تأنيثه حقيقيا فلا بد من لحوق تاء التأنيث في الفعل وإن كان مجازيا لكنت بالخيار وزعموا أن التاء في: {قَالَتِ الأَعْرَابُ} ونحوه لتأنيث الجماعة وهو غير حقيقي وقد كان على لحوق التاء في: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} أولى لأن تأنيثهن حقيقي واتفقوا أن الفعل إذا تأخر عن فاعله المؤنث فلا بد من إثبات التاء وإن لم يكن التأنيث حقيقيا ولم يذكروا فرقا بين تقدم الفعل وتأخره ومما يقال لهم إذا لحقت التاء لتأنيث الجماعة فلم لا يجوز في جمع السلامة المذكر كما جازت في جمع التكسير ومما يقال لهم أيضا إذا كان لفظ الجماعة مؤنثا فلفظ الجمع مذكر فلم روعي لفظ التأنيث دون لفظ التذكير فإن قلت أنت مخير فإن راعيت لفظ التأنيث أنثت وإن راعيت لفظ التذكير ذكرت قيل لهم هذا باطل فإن أحدا من العرب لم يقل الهندان ذهب ولا الإعراب انطلق مراعاة للفظ الجمع فبطلت العلة فهذه عللهم قد انتقضت كما ترى فاسمع الآن سر المسألة وكشف قناعها الأصل في هذا الباب أن الفعل متى اتصل بفاعله ولم يحجز بينهما حاجز لحقت العلامة ولا نبالي

أكان التأنيث حقيقيا أم مجازيا فتقول طابت الثمرة وجاءت هند إلا أن يكون الاسم المؤنث في معنى اسم آخر مذكر كالحوادث والحدثان والأرض فلذلك جاء فإن الحوادث أودى بها فإن الحوادث في معنى الحدثان وجاء ولا أرض أبقل إبقالها فإنه في معنى ولا مكان أبقل إبقالها وإذا فصلت الفعل عن فاعله فكلما بعد عنه قوي حذف العلامة وكلما قرب قوي إثباتها وإن توسط توسط ف حضر القاضي اليوم امرأة أحسن من حضرت وفي القرآن: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} ومن هنا كان إذا تأخر الفعل عن الفاعل وجب ثبوت التاء طال الكلام أم قصر لأن الفعل إذا تأخر كان فاعله مضمرا متصلا به اتصال الجزء بالكل فلم يكن بد من ثبوت التاء لفرط الاتصال وإذا تقدم الفعل متصلا بفاعله الظاهر فليس مؤخر الاتصال كهو مع المضمر لأن الفاعل الظاهر كلمة والفعل كلمة أخرى كان حذف التاء في تأنيث هند وطابت الثمرة أقرب إلى الجواز منه في قولك الثمرة طابت فإن حجز بين الفعل وفاعله حاجز كان حذف التاء حسنا وكلما كثرت الحواجز كان حذفها أحسن فإن كان الفاعل جمعا مكسرا دخلت التاء للتأنيث وحذفت لتذكير اللفظ لأنه بمنزلة الواحد في أن إعرابه كإعرابه ومجراه في كثير من الكلام مجرى اسم الجنس فإن كان الجمع مسلما فلا بد من التذكير لسلامة لفظ الواحدة فلا تقول قالت الكافرون كما لا تقول قالت الكافر لأن اللفظ بحاله لم يتغير بطرو الجمع عليه فإن قيل: فلم لا تقول الأعراب قال: كما تقوله مقدما قيل ثبوت التاء إنما كان مراعاة لمعنى الجماعة فإذا أردت ذلك المعنى أثبت التاء وإن تأخر الفعل لم يجز حذفه لاتصال الضمير وإن لم ترد معنى الجماعة حذفت التاء إذا تقدم الفعل ولم يحتج إليها إذا تأخر لأن ضمير الفاعلين لجماعة في المعنى وليسوا جمعا لأن الجمع مصدر جمعت أجمع فمن قال: إن التذكير في ذهب الرجال وقام الهندات مراعاة لمعنى الجمع فقد أخطأ وأما حذف التاء من وقال نسوة فلأنه اسم جمع كرهط وقوم ولولا أن فيه تاء التأنيث لفتحت التاء في فعله ولكنه قد يجوز أن تقول قالت نسوة كما تقول: سألت قبيلة ونسوة فإن قلت: إذا كانت النسوة باللام كان دخول التاء في الفعل أحسن كما كان ذلك في قالت الأعراب

لأن اللام للعهد وكان الاسم قد تقدم ذكره فأشبهت حال الفعل حاله إذا كان فيه ضمير يعود إلى مذكور من أجل الألف واللام فإنها ترد إلى معهود معنى الصيحة في القرآن الكريم فإذا قلت: فإذا استوى ذكر التاء وتركها في الفعل المتقدم وفاعله مؤنث غير حقيقي فما الحكمة في اختصاصها في قصة شعيب بالفعل وحذفها في قصة صالح وأخذ الذين ظلموا الصيحة قلت الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي إذ كانت منتظمة بقوله سبحانه: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن العذاب المذكور في الآية فقوي التذكير بخلاف قصة شعيب فإنه لم يذكر فيها ذلك هذا جواب السهيلي وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله وهو: أن الصيحة يراد بها المصدر بمعنى الصياح فيحسن فيها التذكير ويراد بها الواحدة من المصدر فيكون التأنيث أحسن وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ أحدها: الرجفة في قوله في الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} الثاني: الظلة بقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} الثالث: الصيحة: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وجمع لهم بين الثلاثة فإن الرجفة بدأت بهم فأصحروا إلى الفضاء خوفا من سقوط الأبنية عليهم فصهرتهم الشمس بحرها ورفعت لهم الظلة فأهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس فنزل عليهم منها العذاب وفيه الصيحة فكان ذكر الصيحة مع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصياح وكان ذكر التاء والله أعلم فإن قيل: فلم قلتم إن التاء حرف ولم تجعلوها بمنزلة الواو والألف في قاما وقاموا قيل: لإجماع العرب على قولهم الهندان قامتا بالتاء والضمير ولا يجوز أن يكون للفعل ضميران فاعلان فإن قيل: فما الفرق بين قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وبين قوله: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} قيل: الفرق من وجهين لفظي ومعنوي أما اللفظي فهو أن الحروف الحواجز بين الفعل والفاعل في قوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} أكثر منها في قوله: {حَقَّتْ عَلَيْهِ} وقد تقدم أن الحذف مع كثرة الحواجز أحسن وأما المعنوي فإن من في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} واقعة على الأمة والجماعة وهي مؤنثة لفظا ألا تراه يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا}

ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} أي من تلك الأمم أمم حقت عليهم الضلالة ولو قال: بدل ذلك ضلت لتعينت التاء ومعنى الكلامين واحد وإذا كان معنى الكلامين واحدا كان إثبات التاء أحسن من تركها لأنها ثابتة فيما هو في معنى الكلام الآخر وأما: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} فالفريق مذكر ولو قال: فريقا ضلوا لكان بغير تاء وقولهم: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} في معناه فجاء بغير تاء وهذا أسلوب لطيف من أساليب العربية تدع العرب حكم اللفظ الواجب له في قياس لغتها إذا كان في معنى كلمة لا يجب لها ذلك الحكم تراهم يقولون هو أحسن الفتيان وأجمله لأنه في معنى هو أحسن فتى وأجمله ونظيره تصحيحهم حول وعور لأنه في معنى أحول وأعور ونظائره كثيرة جدا فإذا حسن الحمل على المعنى فيما كان القياس لا يجوزه فما ظنك به حيث يجوزه القياس والإستعمال وأحسن من هذا أن يقول إنهم أرادوا أحسن شيء وأجمله فجعلوا مكان شيء قولهم الفتيان تنبيها على أنه أحسن شيء من هذا الجنس فلو اقتصروا على ذكر شيء لم يدل على الجنس المفضل عليه ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أحناه على ولد في صغره وأرعاه في ذات يده " رواه البخاري ومسلم وأحمد فهذا يدل على أن التقدير هناك أحسن شيء وأجمله لأنه أحسن فتى إذ لو كان التقدير أحسن فتى لكان نظيره هنا أحنى امرأة على ولد وكان يقال أحناها وأرعاها فلما عدل إلى التذكير دل على أنهم أرادوا أحسن شيء من هذا الجنس وأرعاه فائدة بديعة: قولك ضرب القوم بعضهم بعضا هذه المسألة مما لم يدخل تحت ضبط النحاة ما يجب تقديمه من الفاعلين فإن كلاهما ظاهر إعرابه وتقديم الفاعل متعين وسر ذلك وهو الضمير المحذوف فإن الأصل أن يقال: ضرب القوم بعضهم لأن حق البعض أن يضاف إلى الكل ظاهرا أو مقدرا فلما حذفوه من المفعول استغناء بذكره في الفاعل لم يجوزوا تأخير الفاعل فيقولوا: ضرب بعضا بعضهم لأن اهتمامهم بالفاعل قد

قوي وتضاعف لاتصاله بالضمير الذي لا بد منه فبعد أن كانت الحاجة إلى الفاعل مرة صارت الحاجة إليه مرتين فإن قلت: فما المانع من إضافة بعض المفعول إلى الضمير فتقول ضرب القوم بعضهم بعض أو ضرب القوم بعض بعضهم قلت الأصل أن يذكر الضميران منهما جميعا فلما أرادوا حذفه من أحدهما تخفيفا كان حذفه مع المفعول الذي هو كالفضلة في الكلام أولى من حذفه مع الفاعل الذي لا بد منه ولا غناء عنه كقولك خلطت القوم بعضهم ببعض لأن رتبة المفعول هاهنا التقدم على المجرور كما كانت رتبة الفاعل التقديم على المفعول فحق الضمير العائد على الكل أن يتصل بما هو أهم بالتقديم. فائدة: إذا قلت إنما يأكل زيد الخبز فحققت ما يتصل ومحقت ما ينفصل هذه عبارة بعض النحاة وهي عبارة أهل سمرقند يقولون في إنما وضعت لتحقيق المتصل وتمحيق المنفصل وتلخيص هذا الكلام أنها لنفي وإثبات فأثبتت لزيد أكل الخبز المتصل به في الذكر ونفت ما عداه فمعناه ما يأكل زيد إلا الخبز فإن قدمت المفعول فقلت إنما يأكل الخبز زيد انعكس المعنى والقصد فائدة بديعة: الوصلات في كلامهم التي وضعوها للتوصل بها إلى غيرها خمسة أقسام أحدها حروف الجر التي وضعوها ليتوصلوا بالأفعال إلى المجرور بها ولولاها لما نفذ الفعل إليها ولا باشرها الثاني حرف ها التي للتنبيه وضعت ليتوصل بها إلى نداء ذي الألف واللام الثالث ذو وضعوها وصلة إلى وصف النكرات بأسماء الأجناس غير المشتقة كرجل ذي مال

الرابع الذي وضعوه وصلة إلى وصف المعارف بالجمل ولولاها لما جرت صفاتها عليها الخامس الضمير الذي جعل وصلة إلى ارتباط الجمل بالمفردات خبرا وصفة وصلة وحالا فأتوا بالضمير وصلة إلى جريان الجمل على هذه المفردات أحوالا وأخبارا وصفات وصلات ولم يصفوا المعرفة بالجملة مع وجود هذه الوصلة المصححة كما وصفوا بها النكرة لوجهين أحدهما أن النكرة مفتقرة إلى الوصف والتبيين فعلم أن الجملة بعدها مبينة لها ومكملة لفائدتها الوجه الثاني أن الجملة تتنزل منزلة النكرة لأنها خبر ولا يخبر المخاطب إلا بما يجهله لا بما يعرفه فصلح أن يوصف بها النكرة بخلاف المعرفة فإنك لو قلت جاءني زيد قائم أبوه على وجه الوصف لما ارتبط الكلام بعضه ببعض لاستقلال كل واحد منهما بنفسه فجاءوا بالوصلة التي توصلوا بها إلى وصف النكرة باسم الجنس وهي ذو فقالوا جاءني زيد ذو قام أبوه وهي لغة طيء وهي الأصل ثم إن أكثر العرب لما رآها اسما قد وصف بها المعرفة أرادوا تعريفه ليتفق الوصف والموصوف في التعريف فأدخلوا الألف واللام عليه ثم ضاعفوا اللام كيلا يذهب لفظها بالإدغام وتذهب ألف الوصل في الدرج فلا يظهر التعريف فجاء منه هذا اللفظ تقديرا ل ذو فلما رأوا الاسم قد انفصل عن الإضافة حيث صار معرفة قلبوا الواو منه ياء إذ ليس في كلامهم واو متطرفة مضموم ما قبلها إلا وتنقلب ياء كأدل وأحق وإنما صحب الواو في قولهم: ذو لأنها كانت في حكم التوسط إذ المضاف مع المضاف إليه كالشيء الواحد في معنى ذو وبمعنى الذي طرف من معنى ذا التي للإشارة لأن كلا منهما يبين بأسماء الأجناس كقولك: هذا الغلام وهذا الرجل فيتصل بها على وجه البيان كما يتصل بها ذو على جهة الإضافة وكذلك قالوا في المؤنث من الذي التي بالتاء كما قالوا في المؤنث من هذا هاتان وهاتين إعراب الذي في حالة التثنية فإن قيل: فلم أعرب الذي في حالة التثنية قيل: لأن الألف التي فيه بعضها علامة الرفع في الأسماء المعربة فدار الأمر بين ثلاثة أمور أحدها أن يبنوه وفيه علامة الإعراب وهو مستشنع وصار بمنزلة من تعطل عن التصرف وفيه آلته الثاني أن يسقطوها منه ليعطوه حظه من البناء فيبطل

معنى التثنية الثالث فإنه أسهل شيء عليهم وهو إعرابه فكان ترك مراعاة علة البناء أسهل عليهم من إبطال معنى التثنية ولهذه بعينها أعربوا اثني عشر وهذين وطرد هذا أن يكون هذان معربا وهو الصحيح وممن نص عليه السهيلي وأحسن ما بينا فإن الألف لا يكون علامة بناء بخلاف الضمير فإنها تكون للبناء ك حيث ومنذ فتأمل هذا الموضع فإن قلت: ينتقض عليك بالجمع فإنهم بنوه أعني الذين وهو على حد التثنية وفيه علامة الإعراب قلت الفرق بين الجمع والتثنية من وجهين أحدهما أن الجمع قد يكون إعرابه كإعراب الواحد بالحركات نعم وقد يكون الجمع اسما واحدا في اللفظ كقوم ورهط الثاني أن الجمع نصبه وخفضه يضارع لفظه لفظ الواحد من حيث كان آخره ياء مكسورا ما قبلها فجعلوا الرفع الذي هو أقل حالاته على النصب والخفض وغلبوا عليه البناء حيث كان لفظه في الإعراب في أغلب أحواله كلفظه في البناء وليس كذلك التثنية فإن ياءها مفتوح ما قبلها فلا يضارع لفظها في شيء من أحوالها لفظ الواحد وأما النون في الذين فلا اعتبار بها لأنها ليست في الجمع ركنا من أركان صيغته لسقوطها في الإضافة من الشعر كما قال الشاعر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد هذا تعليل السهيلي وعندي فيه علة ثانية: وهي أن التثنية في واللذين خاصة من خواص الاسم قاومت شبه الحرف فتقابل المقتضيان فرجع إلى أصله فأعرب بخلاف الذين فإن الجمع وإن كان من خواص الأسماء لكن هذه الخاصة ضعيفة في هذا الاسم لنقصان دلالته مجموعا عما يدل عليه مفردا فإن الذي يصلح للعاقل وغيره الذين لا يستعمل إلا للعقلاء خاصة فنقصت دلالته فضعفت خاصية الجمع فيه فبقي موجب بنائه على قوته وهذا بخلاف المثنى فإنه يقال على العاقلين وغيرهما فإنك تقول الرجلان اللذان لقيتهما والثوبان اللذان لبستهما ولا تقول الثياب الذين لبستهم وعلى هذا التعليل فلا حاجة بنا إلى ركوب ما تعسفه رحمه الله من مضارعة الجمع للواحد وشبهه به وتكلف الجواب عن تلك الإشكالات والله أعلم

فائدة بديعة: قول النحاة إن ما الموصولة بمعنى الذي إن أرادوا به أنها بمعناها من كل وجه فليس بحق وإن أرادوا أنها بمعناها من بعض الوجوه فحق والفرق بينهما أن ما اسم مبهم في غاية الإبهام حتى أنها تقع على كل شيء وتقع على ما ليس بشيء ألا تراك تقول إن الله يعلم ما كان وما لم يكن لفرط إبهامها لم يجز الإخبار عنها حتى توصل بما يوضحها وكل ما وصلت به يجوز أن يكون صلة ل الذي فهو يوافق الذي في هذا الحكم ويخالفها في إبهامها فلا تكون نعتا لما قبلها ولا منعوتة لأن صلتها بعينها غير النعت وأيضا فلو نعتت بنعت زائد على الصلة لارتفع إبهامها وفي ارتفاع الإبهام منها جملة بطلان حقيقتها وإخراجها عن أصل موضوعها وتفارق الذي أيضا في امتناعها من التثنية والجمع وذلك أيضا لفظ إبهامها فإذا ثبت الفرق بينهما فاعلم أنه لا يجوز أن توجد إلا موصولة لإبهامها وموصوفة ولا يجوز أن توجد إلا واقعة على جنس تتنوع منه أنواع لأنها لا تخلو من الإبهام أبدا ولذلك كان في لفظها ألف آخره لما في الألف من المد والاتساع في هواء الفم مشاكلة لاتساع معناها في الأجناس فإذا أوقعوها على نوع بعينه وخصوا به من يعقل وقصروها عليه أبدلوا الألف نونا ساكنة فذهب امتداد الصوت فصار قصر اللفظ موازنا لقصر المعنى وإذا كان أمرها كذلك وجب أن يكون ضميرها العائد عليها من الصلة التي لا بد للصلة منه ولولا هو لم ترتبط بموصول حتى تكون صلة له فيجب أن يكون ذلك الضمير بمنزلة ما يعود عليه في الإعراب والمعنى فإذا وقعت على ما هو فاعل في المعنى كان ضميرها فاعلا في المعنى واللفظ نحو كرهت ما أصابك ف ما مفعولة لكرهت في اللفظ وهي فاعلة لأصاب في المعنى فالضمير الذي في أصاب فاعل في اللفظ والمعنى وإذا وقعت على مفعول كان ضميرها مفعولا لفظا ومعنى نحو سرني ما أكلته وأعجبني ما لبسته فهي في المعنى مفعولة لأنها عبارة عن الملبوس فضميرها مفعول

في اللفظ والمعنى وكذلك إذا وقعت على اللفظ كان ضميرها مجرورا ب في لأن الظرف كذلك في المعنى إلا أنها لا تقع على المصادر إلا على ما تختلف أنواعه للإبهام الذي فيها فإن قيل: فكيف وقعت على من يعقل كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وأمثال ذلك قيل: هي في هذا كله على أصلها من الإبهام والوقوع على الجنس العام لما يراد بما ما يراد بمن من التعيين لما يعقل والاختصاص دون الشيوع ومن فهم حقيقة الكلام وكان له ذوق عرف هذا واستبان له وأما قوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} فهذا كلام ورد في معرض التوبيخ والتبكيت للعين على امتناعه من السجود ولم يستحق هذا التبكيت والتوبيخ حيث كان السجود لمن يعقل ولكن للمعصية والتكبر على ما لم يخلقه إذ لا ينبغي التكبر لمخلوق على مثله إنما التكبر للخالق وحده فكأنه يقول سبحانه: لم عصيتني وتكبرت على ما لم تخلقه وخلقته أنا وشرفته وأمرتك بالسجود له فهذا موضع ما لأن معناها أبلغ ولفظها أعم وهو في الحجة أوقع وللعذر والشبهة أقطع فلو قال: ما منعك أن تسجد لمن خلقت لكان استفهاما مجردا من توبيخ وتبكيت ولتوهم أنه وجب السجود له من حيث كان يعقل ولعله موجود في ذاته وعينه وليس المراد كذلك وإنما المراد توبيخه وتبكيته على ترك سجوده لما خلق الله وأمره بالسجود له ولهذا عدل عن اسم آدم العلم مع كونه أخص وأتى بالاسم الموصول الدال على جهة التشريف المقتضية لسجوده له كونه خلقه بيديه وأنت لو وضعت مكان ما لفظة من لما رأيت هذا المعنى المذكور في الصلة وأن ما جيء بها وصلة إلى ذكر الصلة فتأمل ذلك فلا معنى إذا للتعيين بالذكر إذ لو أريد التعيين لكان بالاسم العلم أولى وأحرى وكذلك قوله: والسماء وما بناها لأن القسم تعظيم للمقسم به واستحقاقه للتعظيم من حيث ما وأظهر هذا الخلق العظيم الذي هو السماء ومن حيث سواها وزينها بحكمته فاستحق التعظيم وثبتت قدرته فلو قال: ومن بناها لم يكن في اللفظ دليل على استحقاقه للقسم من حيث اقتدر على بنائها ولكان المعنى مقصورا على ذاته ونفسه دون الإيماء إلى أفعاله الدالة على عظمته المنبئة عن حكمته المفصحة باستحقاقه للتعظيم من خليقته وكذلك قولهم: سبحان

ما يسبح الرعد بحمده" لأن الرعد صوت عظيم من جرم عظيم والمسبح به لا محالة أعظم فاستحقاقه للتسبيح من حيث يستحقه العظيمات من خلقه لا من حيث كان يعلم ولا تقل يعقل في هذا الموضع فإذا تأملت ما ذكرناه استبان لك قصور من قال أن ما مع الفعل في هذا كله سوى الأول في تأويل المصدر وأنه لم يقدر المعنى حق قدره فلا لصناعة النحو وفق ولا لفهم التفسير رزق وأنه تابع الحز وأخطأ المفصل وحام ولكن ما ورد المنهل فوائد سورة الكافرون وأما قوله عز وجل: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فإن ما على بابها لأنها واقعة على معبوده صلى الله عليه وسلم على الإطلاق لأن امتناعهم من عبادة الله تعالى ليس لذاته بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله تعالى ولكنهم كانوا جاهلين به فقوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي لا أنتم تعبدون معبودي ومعبوده هو صلى الله عليه وسلم كان عارفا به دونهم وهم جاهلون به هذا جواب بعضهم قال آخرون: إنها هنا مصدرية لا موصولة أي لا تعبدون عبادتي ويلزم من تنزيههم عن عبادته تنزيههم عن المعبود لأن العبادة متعلقة به وليس هذا بشيء إذ المقصود براءته من معبوديهم وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى فالمقصود المعبود لا العبادة وقيل: إنهم كانوا يقصدون مخالفته صلى الله عليه وسلم حسدا له وأنفة من إتباعه فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود ولكن كراهية لاتباعه صلى الله عليه وسلم وحرصا على مخالفته في العبادة وعلى هذا فلا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ ما لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية وقيل في ذلك وجه رابع: وهو قصد ازدواج الكلام في البلاغة والفصاحة مثل قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} و: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} فكذلك: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ومعبودهم لا يعقل ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان ولهذا لا يجيء في الإفراد مثل هذا بل لا يجيء إلا من كقوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ} {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ} {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ} إلى أمثال ذلك وعندي فيه وجه خامس أقرب من

هذا كله وهو أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقا لها فأتى ب ما الدالة على هذا المعنى كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق ولو أتى بلفظة من لكانت إنما تدل على الذات فقط ويكون ذكر الصلة تعريفا لا أنه هو جهة العبادة ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد تعريف محض أو وصف مقتضى لعبادته فتأمله فإنه بديع جدا وهذا معنى قول محققي النحاة: أن ما تأتي لصفات من يعلم ونظيره: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} لما كان المراد الوصف وأن هو السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح وقصده وهو الطيب فتنكح المرأة الموصوفة به أتى بما دون من وهذا باب لا ينخرم وهو من ألطف مسالك العربية وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا فلنذكر فائدة ثانية: تكرير الأفعال في هذه السورة ثم فائدة ثالثة: كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين وأتى في حقهم بالماضي ثم فائدة رابعة: وهي أنه جاء في نفي عبادة معبودهم عنه بلفظ الفعل المستقبل وجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل ثم فائدة خامسة: وهي كون إيراده النفي هنا ب لا دون لن ثم فائدة سادسة: وهي أن طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته وهذا هو حقيقة التوحيد والنفي المحض ليس بتوحيد وكذلك الإثبات بدون النفي فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات وهذا حقيقة لا إله إلا الله فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض وما سر ذلك وفائدة سابعة: وهي ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن معبوده وفائدة ثامنة: وهي أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا والذين هادوا كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} ولم يجيء يا أيها الكافرون إلا في هذا الموضع فما وجه هذا الاختصاص وفائدة تاسعة: وهي هل في قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} معنى زائد على النفي المتقدم فإنه يدل على اختصاص كل بدينه ومعبوده وقد فهم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور وفائدة عاشرة: وهي تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا

التقسيم والاختصاص وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة وفائدة حادية عشرة وهي أن هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الأخبار أحدهما براءته من معبودهم وبراءتهم من معبوده وهذا لازم أبدا الثاني إخباره بأن له دينه ولهم دينهم فهل هذا متاركة وسكوت عنهم فيدخله النسخ بالسيف أو التخصيص ببعض الكفار أم الآية باقية على عمومها وحكمها غير منسوخة ولا مخصوصة وبعد فهذه عشر مسائل في هذه السورة ذكرنا منها مسألة واحدة وهي: وقوع ما فيها بدل من فنذكر المسائل التسع مستمدين من فضل الله مستعينين بحوله وقوته متبرئين إليه من الخطأ فما كان من صواب فمنه وحده لا شريك له وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بريئان منه وأما المسألة الثانية وهي: فائدة تكرار الأفعال فقيل فيه وجوه أحدها: أن قوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} نفي للحال والمستقبل وقوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مقابلة أي لا تفعلون ذلك وقوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} أي لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي فقال ما عبدتم فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم وقوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مقابله أي لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائما وعلى هذا فلا تكرار أصلا وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضيا وحالا ومستقبلا عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأحضره وأبينه وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها فلنقتصر عليه ولا نتعداه غيره فإن الوجوه التي قيلت في مواضعها فعليك بها وأما المسألة الثالثة: وهي تكريره الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم ففي ذلك سر وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله تعالى له عن الزيغ والانحراف عن عبادة معبوده والاستبدال به غيره وأن معبوده واحد في الحال والمال على الدوام لا يرضي به بدلا ولا يبغي عنه حولا بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبودا وغدا غيره فقال: {لا أَعْبُدُ

مَا تَعْبُدُونَ} يعني الآن {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أنا الآن أيضا ثم قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون وأشبهت ما هنا رائحة الشرط فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي وهو مستقبل في المعنى كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط كأنه يقول مهما عبدتم من شيء فلا أعبده أنا فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل ولا جواب لها وهي موصولة فما أبعد الشرط منها قلنا لم نقل أنها شرط نفسها ولكن فيها رائحة منه وطرف من معناه لوقوعها على غير معين وإيهامها في المعبودات وعمومها وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديا على صفحاته فإذا قلت لرجل ما تخالفه في كل ما يفعل أنا لا أفعل ما تفعل ألست ترى معنى الشرط قائما في كلامك وقصدك وأن روح هذا الكلام مهما فعلت من شيء فإني لا أفعله وتأمل ذلك من مثل قوله تعالى: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} كيف تجد معنى الشرطية فيه حتى وقع الفعل بعد من بلفظ الماضي والمراد به المستقبل وأن المعنى من كان في المهد صبيا فكيف نكلمه وهذا هو المعنى الذي حام حوله من قال من المفسرين والمعربين أنه كان نبيا بمعنى يكون لكنهم لم يأتوا إليه من بابه بل ألقوه عطلا من تقدير وتنزيل وعزب فهم غيرهم عن هذا للطفه ودقته فقالوا كان زائدة والوجه ما أخبرتك فخذه عفوا لك عزمه وعلى سواك غرمه إلا على من في الآية قد عمل فيها الفعل وليس لها جواب ومعنى الشرطية قائم فيها فكذلك في قوله ولا أنا عابد ما عبدتم وهذا كله مفهوم من كلام فحول النحاة كالزجاج وغيره فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} بخلاف قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} لبعد ما فيها عن معنى الشرط تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبودا سواه وأن يتنقل في

المعبودات تنقل الكافرين أما المسألة الرابعة: وهي أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارة وباسم الفاعل أخرى فذلك والله أعلم لحكمة بديعة وهي أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت فأتى أولا بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت فأفاد في النفي الأول أن هذا لا يقع مني وأفاد في الثاني أن هذا ليس وصفي ولا شأني فكأنه قال: عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي وأما في حقهم فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل أي أن الوصف الثابت اللازم العائد لله منتف عنكم فليس هذا الوصف ثابتا لكم وإنما ثبت لمن خص الله وحده بالعبادة لم يشرك معه فيها أحدا وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه وإن عبدوه في بعض الأحيان فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره كما قال أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} أي اعتزلتم معبودهم إلا الله فإنكم لم تعتزلوه وكذا قال المشركون عن معبودهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره فلم ينتف عنهم الفعل لوقوعه منهم ونفي الوصف لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله موصوفا بها فتأمل هذه النكتة البديعة كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد الله وعبده المستقيم على عبادته إلا من انقطع إليه بكليته وتبتل إليه تبتيلا لم يلتفت إلى غيره لم يشرك به أحدا في عبادته وأنه وإن عبده وأشرك به غيره فليس عابدا لله ولا عبدا له وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة التي هي إحدى سورتي الإخلاص التي تعدل ربع القرآن كما جاء في بعض السنن وهذا لا يفهمه كل أحد ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده فلله الحمد والمنة وأما المسألة الخامسة: وهي أن النفي في هذه السورة أتى بأداة لا دون لن وذلك لأن النفي ب لا أبلغ منه ب لن وأن لا أدل على دوام النفي

وطوله من لن وأنها للطول والمد الذي في نفيها طال النفي بها واشتد وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة من أن لن إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال وقد تقدم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق فالإتيان بلا متعين هنا والله أعلم وأما المسألة السادسة: وهي اشتمال هذه السورة على النفي المحض فهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها أنها براءة من الشرك فمقصودها الأعظم هو البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقا للبراءة المطلوبة هذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحا فقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} براءة محضة {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} إثبات أن له معبودا يعبده وأنتم بريئون من عبادته فتضمنت النفي والإثبات وطابقت قول إمام الحنفاء: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي} وطابقت قول فئة الموحدين: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} فانتظمت حقيقة لا إله إلا الله تعالى ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرنها بسورة قل هو الله أحد في سنة الفجر وسنة المغرب فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص صحيح وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد وأنه إله أحد صمد لم يلد فيكون له فرع ولم يولد فيكون له أصل ولم يكن له كفوا أحد فيكون له نظير ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها فتضمنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال ونفي ما لا يليق به من الشريك أصلا وفرعا ونظيرا فهذا توحيد العلم والاعتقاد والثاني توحيد القصد والإرادة وهو أن لا يعبد إلا إياه فلا يشرك به في عبادته سواه بل يكون وحده هو المعبود وسورة قل يا أيها الكافرون مشتملة على هذا التوحيد فانتظمت السورتان نوعي التوحيد وأخلصتا له فكان صلى الله عليه وسلم يفتتح بهما النهار في سنة الفجر ويختم بهما في سنة المغرب وفي السنن أنه كان يوتر بهما فيكونان خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار ومن هنا تخريج جواب المسألة

السابعة وهي تقديم براءته من معبودهم ثم أتبعها ببراءتهم من معبوده فتأمله وأما المسألة الثامنة وهي إثباته هنا بلفظ يا أيها الكافرون دون يا أيها الذين كفروا فسره والله أعلم إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفا ثابتا لا لازما لا يفارقه فهو حقيق أن يتبرأ الله منه ويكون هو أيضا بريئا من الله فحقيق بالموحد البراءة منه فكان في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانبة بحقيقة حاله التي هي غاية الكفر وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة فكأنه يقول كما أن الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة دائما أبدا ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الاستمرار مقابلة الكفر الثابت المستمر وهذا واضح المسألة التاسعة: وهي ما الفائدة في قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وهل أفاد هذا معنى زائدا على ما تقدم فيقال في ذلك من الحكمة والله أعلم أن النفي الأول أفاد البراءة وأنه لا يتصور منه ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم وهم أيضا لا يكونون عابدين لمعبوده وأفاد آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظهم وقسمهم ونصيبهم فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضا فقال له لا تدخل في حدي ولا أدخل في حدك لك أرضك ولي أرضي فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنا اقتسمنا خطتنا بيننا فأصابنا التوحيد والإيمان فهو نصيبنا وقسمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه وأصابكم الشرك بالله والكفر به فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصمون به لا نشرككم به فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب رافلة في حللها فإنها تسبى القلوب وتأخذ بمجامعها ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي خود تزف إلى ضرير مقعد فالحمد لله على مواهبه التي لا تنتهي ونسأله إتمام نعمته وأما المسألة العاشرة: وهي تقديم قسمهم ونصيبهم على قسمه ونصيبه وفي أول السورة قدم ما يختص بهم فهذا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها فإن السورة لما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم ورضي كل بقسمه

وكان المحق هو صاحب القسمة وقد برز النصيبين وميز القسمين وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون الذي لا أردا منه وأنه هو قد استولى على القسم الأشراف والحظ الأعظم بمنزلة من اقتسم هو وغيره سما وشفاء فرضي مقاسمه بالسم فإنه يقول له لا تشاركني في قسمي ولا أشاركك في قسمك لك قسمك ولي قسمي فتقديم ذكر قسمه هاهنا أحسن وأبلغ كأنه يقول هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم وزعمت أنه أشرف القسمين وأحقهما بالتقديم فكان في تقديم ذكر قسمه من التهكم به والنداء على سوء اختياره وقبح ما رضيه لنفسه من الحسن والبيان ما لا يوجد في ذكر تقديم قسم نفسه والحاكم في هذا هو الذوق والفطن يكتفي بأدنى إشارة وأما غليظ الفهم فلا ينجع فيه كثرة البيان ووجه ثان وهو أن مقصود السورة براءته صلى الله عليه وسلم من دينهم ومعبودهم هذا هو لبها ومغزاها وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكملا لبراءته ومحققا لها فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أول السورة ثم جاء قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} مطابقا لهذا المعنى أي لا أشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه بل هو دين تختصون أنتم به لا أشرككم فيه أبدا فطابق آخر السورة أولها فتأمله وأما المسألة الحادية عشرة: وهي أن هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه هل هو إقرار فيكون منسوخا أو مخصوصا أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة: وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب وكلا القولين غلط محض فلا نسخ في السورة ولا تخصيص بل هي محكمة عمومها نص محفوظ وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه وهذه السورة أخلصت التوحيد ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم ومنشأ الغلط ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف فقالوا:

منسوخ وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتاب لهم فقالوا هذا مخصوص ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرا لهم أو إقرارا على دينهم أبدا بل لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد على الإنكار عليهم وعيب دينهم وتقبيحه والنهي عنه والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل ناد وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركونه وشأنه فأبى إلا مضيا على الإنكار عليهم وعيب دينهم فكيف يقال إن الآية اقتضت تقريره لهم معاذ الله من هذا الزعم الباطل وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدا فإنه دين باطل فهو مختص بكم لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق فهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم فأين الإقرار حتى يدعي النسخ أو التخصيص أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يظهر الله منهم عباده وبلاده وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به الداعين إلى غير سنته إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته لكم دينكم ولنا ديننا لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم بل يقولون لهم هذه براءة منها وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة والنبذة المشيرة إلى عظمة هذه السورة وجلالتها ومقصودها وبديع نظمها من غير استعانة بتفسير ولا تتبع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه بل هي استملاء مما علمه الله وألهمه بفضله وكرمه والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ولبالغت في استحسانها وعسى الله المان بفضله الواسع العطاء الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين أن يعين على تعليق تفسير هذا النمط وهذا الأسلوب وقد كتبت على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدس والله

المرجو إتمام نعمته ولنذكر تمام الكلام على أقسام ما ومواقعها ما المصدرية فقد ذكرنا منها ما الموصولة ومن أقسامها المصدرية ومعنى وقوعها عليه أنها إذا دخلت على الفعل كان معها في تأويل المصدر هكذا أطلق النحاة وهنا أمور يجب التنبيه عليها والتنبه لها أحدها الفرق بين المصدر الصريح والمصدر المقدر مع ما والفرق بينهما أنك إذا قلت يعجبني صنعك فالإعجاب هنا واقع على نفس الحدث بقطع النظر عن زمانه ومكانه وإذا قلت يعجبني ما صنعت فالإعجاب واقع على صنع ماض وكذلك ما تصنع واقع على مستقبل فلم تتحد دلالة ما والفعل والمصدر الثاني أنه لا تقع مع كل فعل في تأويل المصدر وإن وقع المصدر في ذلك الموضع فإنك إذا قلت يعجبني قيامك كان حسنا فلو قلت يعجبني ما تقوم لم يكن كلاما حسنا وكذلك يعجبني ما تقوم وما تجلس أي قيامك وجلوسك ولو أتيت بالمصدر كان حسنا وكذلك إذا قلت يعجبني ما تذهب لم يكن في الجواز والاستعمال مثل يعجبني ذهابك قال أبو القاسم السهيلي الأصل في هذا أن ما لما كانت اسما مبهما لم يصح وقوعها إلا على جنس تختلف أنواعه فإن كان المصدر مختلف الأنواع جاز أن تقع عليه ويعبر بها عنه كقولك يعجبني ما صنعت وما عملت وما حكمت لاختلاف الصنعة والعلم والحكم فإن قلت يعجبني ما جلست وما قعدت وما انطلق زيد كان غثا من الكلام لخروج ما عن الإبهام ووقوعها على ما لا يتنوع من المعاني لأنه يكون التقدير يعجبني الجلوس الذي جلست والقعود الذي قعدت فيكون آخر الكلام مفسرا لأوله رافعا للإبهام فلا معنى حينئذ ل ما فأما قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} فلأن المعصية تختلف أنواعها وقوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} فهو كقولك: لأعاقبنك بما ضربت زيدا وبما شتمت عمرا أوقعتها على الذنب والذنب مختلف الأنواع ودل ذكر المعاقبة والمجازاة على ذلك وكأنك قلت لأجزينك بالذنب الذي هو ضرب زيد أو شتم عمرو ف ما على بابها غير خارجة عن بابها هذا كلامه وليس كما زعم رحمه الله فإنه لا يشترط في كونها مصدرية ما ذكر من الإبهام بل تقع على المصدر الذي لا تختلف أنواعه بل هو

نوع واحد فإن إخلافهم ما وعد الله كان نوعا واحدا مستمرا معلوما وكذلك كذبهم وأصرح من هذا كله قوله تعالى: {كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} فهذا مصدر معين خاص لا إبهام فيه بوجه وهو علم الكتاب ودرسه وهو فرد من أفراد العمل والصنع فهو كما منعه من الجلوس والقعود والانطلاق ولا فرق بينهما في إبهام ولا تعيين إذ كلاهما معين متميز غير مبهم ونظيره {بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعام 93] فاستكبارهم وقولهم على الله غير الحق مصدران معينان غير مبهمين واختلاف أفرادهما كاختلاف أفراد الجلوس والانطلاق ولو أنك قلت في الموضوع الذي منعه هذا بما جلست وهذا بما نطقت كان حسنا غير غث ولا مستكره وهو المصدر بعينه فلم يكن الكلام غثا بخصوص المصدر وإنما هو لخصوص التركيب فإن كان بقدر امتناعه واستكراهه إذا صنعته في تركيب آخر زالت الكراهية والغثاثة عنه كما رأيت ما الموصولة والتحقيق أن قوله يعجبني ما تجلس وما ينطلق زيد إنما استكره وكان غثا لأن ما المصدرية والموصولة يتعاقبان غالبا ويصلح أحدهما في الموضع الذي يصلح فيه الآخر وربما احتملها كلام واحد ولا يميز بينهما فيه إلا بنظر وتأمل فإذا قلت يعجبني ما صنعت فهي صالحة لأن تكون مصدرية أو موصولة وكذلك والله عليم بما يفعلون والله بصير بما يعملون فتأمله تجده كذلك ولدخول إحداهما على الأخرى ظن كثير من الناس أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أنها مصدرية واحتجوا بها على خلق الأعمال وليست مصدرية وإنما هي موصولة والمعنى والله خلقكم وخلق الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام فكيف تعبدونه وهو مخلوق لله ولو كانت مصدرية لكان الكلام إلى أن يكون حجة لهم أقرب من أن يكون حجة عليهم إذ يكون المعنى أتعبدون ما تنحتون والله خلق عبادتكم لها فأي معنى في هذا وأي حجة عليهم والمقصود أنه كثيرا ما تدخل إحداهما على الأخرى ويحتملها الكلام سواء وأنت لو قلت يعجبني الذي يجلس لكان غثا من المقال إلا أن تأتي بموصوف يجري هذا صفة له فتقول يعجبني

الجلوس الذي تجلس وكذلك إذا قلت يعجبني الذي ينطلق زيد كان غثا فإذا قلت يعجبني الانطلاق الذي ينطلق زيد كان حسنا فمن هنا يعجبني ما ينطلق وما تجلس إذا أردت به المصدر وأنت لو قلت آكل ما يأكل كانت موصولة وكان الكلام حسنا فلو أردت بها المصدرية والمعنى آكل أكلك كان غثا حتى تأتي بضميمة تدل على المصدر فتقول آكل كما يأكل فعرفت أنه لم يكن الاستكراه الذي أشار إليه من جهة الإبهام والتعيين فتأمله وأما طالما يقوم زيد وقل ما يأتي عمرو ف ما هنا واقعة على الزمان والفعل بعدها متعد إلى ضميره بحرف الجر والتقدير طال زمان يقوم فيه زيد وقل زمان يأتينا فيه عمرو ثم حذف الضمير فسقط الحرف هذا تقدير طائفة من النحاة منهم السهيلي وغيره ويحتمل عندي تقديرين آخرين هما أحسن من هذا أحدهما أن تكون مصدرية وقتية والتقدير طال قيام زيد وقل إتيان عمرو وإنما كان هذا أحسن لأن حذف العائد من الصفة قبيح بخلاف حذفه إذا لم يكن عائدا على شيء فإنه أسهل وإذا جعلت مصدرية كان حذف الضمير حذف فضلة غير عائد على موصوف والتقدير الثاني وهو أحسنها أن ما هاهنا مهيأة لدخول الفعل على الفعل ليست مصدرية ولا نكرة وإنما أتى بها لتكون مهيأة لدخول طال على الفعل فإنك لو قلت طال يقوم زيد وقل يجني عمرو لم يجز فإذا أدخلت ما استقام الكلام وهذا كما دخلت على رب مهيأة لدخولها على الفعل نحو قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} وكما دخلت على إن مهيأة لدخولها على الفعل نحو: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فإذا عرفت هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري ومسلم هو من هذا الباب ودخلت ما بين كاف التشبيه وبين الفعل مهيأة لدخولها عليه في كافة للخافض ومهيأة له أن تقع بعد الفعل وهذا قد خفي على أكثر النحاة حتى ظن كثير منهم أن ما هاهنا مصدرية وليس كما ظن فإنه لم يقع التشبيه بالرؤية وأنت لو صرحت بالمصدر هنا لم يكن كلاما صحيحا فإنه لو قيل صلوا كرؤيتكم صلاتي لم يكن مطابقا للمعنى المقصود فلو قيل إنها موصولة والعائد محذوف والتقدير صلوا كالتي رأيتموني أصلي أي كالصلوات التي رأيتموني أصليها كان أقرب من المصدرية على كراهته فالصواب ما ذكرته لك ونظير هذه المسألة

قوله للصديق "كما أنت " رواه الطبراني فأنت مبتدأ والخبر محذوف فلا مصدر هنا إذ لا فعل فمن قال إنها مصدرية فقد غلط وإنما هي مهيأة لدخول الكاف على ضمير الرفع والمعنى كما أنت صانع أو كما أنت مصل فدم على حالتك ونظير ذلك أيضا وقوعها بين بعد والفعل نحو قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} ليست مصدرية كما زعم أكثر النحاة بل هي مهيأة لدخول بعد على فعل كاد إذ لا يصاغ من كاد وما مصدر إلا أن يتجشم له فعل بمعناه يسبك منها ومن ذلك الفعل مصدر وعلى ما قررناه لا يحتاج إلى ذلك ويؤيد هذا قول الشاعر: أعلاقة أم الوليد بعدما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس أفلا تراها هاهنا حيث لا فعل ولا مصدر أصلا فهي كقوله كما أنت مهيأة لدخول بعد على الجملة الابتدائية ولكن الخبر في البيت مذكور وهو في قوله كما أنت محذوف فإن قلت: فما بالهم لم يدخلوها في قبل كافة لها مهيأة لدخولها على الفعل والجملة قبلما يقوم زيد وقبل ما زيد قائم قلت لا تكون ما كافة لأسماء الإضافة وإنما تكون كافة للحروف وبعد أشد مضارعة للحروف من قبل لأن قبل كالمصدر في لفظها ومعناها تقول جئت قبل الجمعة تريد الوقت الذي تستقبل في الجمعة فالجمعة بالإضافة إلى ذلك الوقت قابله كما قال الشاعر: نحج معا قالت أعاما وقابله ... فإذا كان العام الذي بعد عامك يسمى قابلا فعامك الذي أنت فيه قبل ولفظه من لفظ قابل فقد بان لك من جهة اللفظ والمعنى أن قبل مصدر في الأصل والمصدر كسائر الأسماء لا يكف به ولا يهيأ لدخول الجمل بعد وإنما ذلك في بعض الحروف العوامل لا في شيء من الأسماء وأما بعد فهي أبعد عن شبه المصدر وإن كانت تقرب من لفظ بعد ومن معناه فليس قربها من لفظ المصدر كقرب قبل ألا ترى أنهم لم يستعملوا من لفظها اسم فاعل فيقولون للعام الماضي الباعد كما قالوا للمستقبل القابل فإن قلت: فما تقول في

قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} وقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} وقوله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} فإنها لا يمتنع فيها تقدير المصدر في هذه المواضع كلها فهل هي كافة مهيأة أو مصدرية قلت التحقيق أنها كافة لحرف التشبيه عن عمله مهيأة لدخوله على الفعل ومع هذا فالمصدر ملحوظ فيها وإن لم تكن مصدرية محضة ويدل على أن ما لا تقع مصدرية على حد أنك تجدها لا تصلح في موضع تصلح فيه أن فإذا قلت أريد أن تقوم كان مستقيما فلو قلت أريد ما تقوم لم يستقم وكذلك أحب أن تأتيني لا تقول موضعه أحب ما تأتيني وسر المسألة: أن المصدرية ملحوظ فيها معنى الذي كما تقدم بخلاف أن فإن قلت: فما تقول في كما قمت أكرمتك أمصدرية هنا أم كافة أم نكرة قلت هي هاهنا نكرة وهي ظرف زمان في المعنى والتقدير كل وقت تقوم فيه أكرمك فإن قلت: فهلا جعلتها كافة لإضافة كل إلى الفعل مهيأة لدخولها عليه قلت: ما أحراها بذلك لولا ظهور الظرف والوقت وقصده من الكلام فلا يمكن إلغاؤه مع كونه هو المقصود ألا ترى أنك تقول كل وقت يفعل كذا أفعل كذا فإذا قلت كلما فعلت وجدت معنى الكلامين واحدا وهذا قول أئمة العربية وهو الحق. فصل: قال أبو القاسم السهيلي: اعلم أن ما إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه عمل أو صنع أو فعل وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري سبحانه فلا يصح وقوعها إلا على مصدر لإجماع العقلاء من الأنام في الجاهلية والإسلام على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام لا تقول عملت جملا ولا صنعت جبلا ولا حديدا ولا حجرا ولا ترابا فإذا قلت: أعجبني ما عملت وما فعل زيد فإنما يعني الحدث فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} إلا قول أهل السنة أن المعنى والله خلقكم وأعمالكم ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول لأنه زعموا أن ما واقعة على الحجارة التي كانوا ينحتونها أصناما وقالوا: تقدير الكلام خلقكم والأصنام التي تعملون إنكارا منهم أن تكون أعمالنا مخلوقة لله

سبحانه واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوا لأنه تقدم قوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} فما واقعة على الحجارة المنحوتة ولا يصح غير هذا من جهة النحو ولا من جهة المعنى أما النحو فقد تقدم أن ما لا تكون مع الفعل الخاص مصدرا وأما المعنى فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت وإنما كانوا يعبدون المنحوتات فلما ثبت هذا وجب أن تكون الآية التي هي رد عليهم وتقييد لهم واقعة على الحجارة المنحوتة والأصنام المعبودة ويكون التقدير تعبدون حجارة منحوتة والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون هذا كله معنى قول المعتزلة وشرح ما شبهوا به والنظم على تأويل أهل الحق أبدع والحجة أقطع والذي ذهبوا إليه فاسد محال لأنهم أجمعوا معنا على أن أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام فإن قيل: فقد تقول عملت الصحيفة وصنعت الجفنة وكذلك الأجسام معمولة على هذا قلنا: لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هل التأليف والتركيب وهي نفس العمل وأما الجوهر المؤلف المركب فليس بمعمول لنا فقد رجع العمل والفعل إلى الأحداث دون الجواهر هذا إجماع منا ومنهم فلا يصلح حملهم على غير ذلك وأما ما زعموا من حسن النظم وإعجاز الكلام فهو ظاهر وتأويلنا معدوم في تأويلهم لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق وهم يخلقون فقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أي من لا يخلق شيئا وهم يخلقون وتدعون عبادة من خلقكم وأعمالكم التي تعملون ولو لم يضف خلق الأعمال إليه في الآية وقد نسبها إليهم بالمجاز لما قامت له حجة من نفس الكلام لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم وهو خالق لأجناس أخرى فيشركهم معه في الخلق تعالى الله عن قول الزائغين ولا لعثرات المبطلين فما أدحض حجتهم وما أوهى قواعد مذهبهم وما أبين الحق لمن اتبعه جعلنا الله من أتباعه وحزبه وهذا الذي ذكرنا قاله أبو عبيد في قول حذيفة أن يخلق صانع الجرم وصنعته واستشهد بالآية وخالفه القتيبي في إصلاح الغلط فغلط أشد الغلط ووافق المعتزلة في تأويلها وإن لم يقل بقيلها هذا آخر كلام أبي القاسم ولقد بالغ في رد ما لا

تحتمل الآية سواه أو ما هو أولى بحملها وأليق بها ونحن وكل محق مساعدوه على الله خالق العباد وأعمالهم وأن كل حركة في الكون فالله خالقها وعلى صحة هذا المذهب أكثر من ألف دليل من القرآن الكريم والسنة والمعقول والفطر ولكنه لا ينبغي أن تحمل الآية على غير معناها اللائق بها حرصا على جعلها عليهم حجة ففي سائر الأدلة غنية عن ذلك على أنها حجة عليهم من وجه آخر مع كون ما بمعنى الذي سنبينه إن شاء الله تعالى والكلام إن شاء الله تعالى في الآية في مقامين أحدهما في سلب دلالتها على مذهب القدرية والثاني في إثبات دلالتها على مذهب أهل الحق خلاف قولهم فهاهنا مقامان مقام إثبات ومقام سلب فأما مقام السلب فزعمت القدرية أن الآية حجة لهم في كونهم خالقين أعمالهم قالوا لأن الله سبحانه أضاف الأعمال إليهم وهذا يدل على أنهم هم المحدثون لها وليس المراد هاهنا نفس الأعمال بل الأصنام المعمولة فأخبر سبحانه أنه خالقهم وخالق تلك الأصنام التي عملوها والمراد مادتها وهي التي وقع الخلق عليها وأما صورتها وهي التي صارت بها أصناما فإنها بأعمالهم وقد أضافها إليهم فتكون بأحداثهم وخلقهم فهذا وجه احتجاجهم بالآية وقابلهم بعض المثبتين للقدر وأن الله هو خالق أفعال العباد فقالوا الآية صريحة في كون أعمالهم مخلوقة لله فإن ما هاهنا مصدرية والمعنى والله خلقهم وخلق أعمالهم وقرروه بما ذكره السهيلي وغيره ولما أورد عليهم القدرية كيف تكون ما مصدرية هنا وأي وجه يبقى للاحتجاج عليهم إذا كان المعنى والله خلقكم وخلق عبادتكم وهل هذا إلا تلقين لهم الاحتجاج بأن يقولوا فإذا كان الله قد خلق عبادتنا للأصنام فهي مرادة له فكيف ينهانا عنها وإذا كانت مخلوقة فكيف يمكننا تركها فهل يسوغ أن يحتج على إنكار عبادتهم أجابهم المثبتون بأن قالوا لو تدبرتم سياق الآية ومقصودها لعرفتم صحة الاحتجاج فإن الله سبحانه أنكر عليهم عبادة من لا يخلق شيئا أصلا وترك عبادة من هو خالق لذواتهم وأعمالهم فإذا كان الله خالقكم وخالق أعمالكم فكيف

تدعون عبادته وتعبدون من لا يخلق شيئا لا ذواتكم ولا أعمالكم وهذا من أحسن الاحتجاج وقد تكرر في القرآن الإنكار عليهم أن يعبدوا ما لا يخلق شيئا وسوى بينه وبين الخالق لقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} إلى أمثال ذلك فصح الاحتجاج وقامت الحجة بخلق الأعمال مع خلق الذوات فهذا منتهى إقدام الطائفتين في الآية كما ترى والصواب أنها موصولة وأنها لا تدل على صحة مذهب القدرية بل هي حجة عليهم مع كونها موصولة وهذا يبين بمقدمة نذكرها قبل الخوض في التقرير وهي أن طريقة الحجاج والخطاب أن يجرد القصد والعناية بحال ما يحتج له وعليه فإذا كان المستدل محتجا على بطلان ما قد ادعى في شيء وهو يخالف ذلك فإنه يجرد العناية إلى بيان بطلان تلك الدعوى وأن ما ادعى له ذلك الوصف هو متصف بضده لا متصف به فإما أن يمسك عنه ويذكر وصف غيره فلا وإذا تقرر هذا فالله سبحانه أنكر عليهم عبادتهم الأصنام وبين أنها لا تستحق العبادة ولم يكن سياق الكلام في معرض الإنكار عليهم ترك عبادته وأن ما هو في معرض الإنكار عبادة من لا يستحق العبادة فلو أنه قال لا تعبدون الله وقد خلقكم وما تعملون لتعينت المصدرية قطعا ولم يحسن أن يكون بمعنى الذي إذ يكون المعنى كيف لا تعبدونه وهو الذي أوجدكم وأوجد أعمالكم فهو المنعم عليكم بنوعي الإيجاد والخلق فهذا وزان ما قرروه من كونها مصدرية فأما سياق الآية فإنه في معرض إنكاره عليهم عبادة من لا يستحق العبادة فلا بد أن يبين فيه معنى ينافي كونه معبودا فبين هذا المعنى بكونه مخلوقا له ومن كان مخلوقا من بعض مخلوقاته فإنه لا ينبغي أن يعبد ولا تليق به العبادة وتأمل مطابقة هذا المعنى لقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} كيف أنكر عليهم عبادة آلهة مخلوقة له سبحانه وهي غير خالقة فهذا يبين المراد من قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ

وَمَا تَعْمَلُونَ} ونظيره قوله في سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} أي هم عباد مخلوقون كما أنتم كذلك فكيف تعبدون المخلوق وتأمل طريقة القرآن لو أراد المعنى الذي ذكروه من حسن صفاته وانفراده بالخلق كقول صاحب يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} فهنا لما كان المقصود إخبارهم بحسن عبادته واستحقاقه لها ذكر الموجب لذلك وهي كونه خالقا لعابده فاطرا له وهذا إنعام منه عليه فكيف يترك عبادته ولو كان هذا هو المراد من قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} كان يقتضي أن يقال: ألا يعبدون الله وهو خالقهم وخالق أعمالهم فتأمل فإنه واضح وقول أبي القاسم في تقرير حجة المعتزلة من الآية أنه لا يصح أن تكون مصدرية وهو باطل من جهة النحو وليس كذلك أما قوله إن ما لا تكون مع الفعل الخاص مصدرا فقد تقدم بطلانه إذ مصدريتها تقع مع الفعل الخاص المبهم لقوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} وقوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} إلى أضعاف ذلك فإن هذه كلها أفعال خاصة وهي أخص من مطلق العمل فإذا جاءت مصدرية مع هذه الأفعال فمجيئها مصدرية مع العمل أولى وقولهم إنهم لم يكونوا يعبدون النحت وإنما عبدوا المنحوت حجة فاسدة فإن الكلام في ما المصاحبة للفعل دون المصاحبة لفعل النحت فإنها لا تحتمل غير الموصولة ولا يلزم من كون الثانية مصدرية كون الأولى كذلك فهذا تقرير فاسد وأما تقريره كونها مصدرية أيضا بما ذكره فلا حجة له فيه أما قوله: أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام فيقال: ما معنى عدم وقوعها على الجواهر والأجسام أتعني به أن أفعالهم لا تتعلق بإيجادها أم تعني به أنها لا تتعلق بتغييرها وتصويرها أم تعني به أعم من ذلك وهو المشترك بين القسمين فإن عنيت الأول فمسلم لكن لا يفيدك شيئا فإن كونها موصولة لا تستلزم ذلك فإن كون الأصنام معمولة لهم لا يقتضي أن تكون مادتها معمولة لهم بل هو على حد قولهم عملت بيتا وعملت بابا وعملت حائطا وعملت ثوبا وهذا

إطلاق حقيقي ثابت عقلا ولغة وشرعا وعرفا لا يتطرق إليه رد فهذا ككون الأصنام معمولة سواء وإن عنيت أن أفعالهم لا تتعلق بتصويرها فباطل قطعا وإن عنيت القدر المشترك فباطل أيضا فإنه مشتمل على نفي حق وباطل فنفي الباطل صحيح ونفي الحق باطل ثم يقال إيقاع العمل منهم على الجواهر والأجسام يجوز أن يطلق فيه العمل الخاص وشاهده في الآية {أتعبدون ما تنحتون} فما هاهنا موصولة فقد أوقع فعلهم وهو النحت على الجسم وحينئذ فأي فرق بين إيقاع أفعالهم الخاصة على الجوهر والجسم وبين وإيقاع أفعالهم العامة عليه لا بمعنى أن ذاته مفعولة له بل بمعنى أن فعلهم هو الذي صار به صنما واستحق أن يطلق عليه اسمه كما أنه بعملهم صار منحوتا واستحق هذا الاسم وهذا بين وأما قوله: بجواب النقض ب عملت الصحيفة وصنعت الجفنة أن الفعل متعلق بالصورة التي هي التأليف والتركيب وهي نفس العمل فكذلك هو أيضا متعلق بالتصوير الذي صار الحجر به صنما منحوتا سواء وأما قوله الآية في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق فقد تقدم جوابه وأن الآية وردت لبيان عدم استحقاق معبوديهم للعبادة لأنها مخلوقة لله وذكرنا شواهده من القرآن فإن قيل: كان يكفي في هذا أن يقال أتعبدون ما تنحتون والله خالقه فلما عدل إلى قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} علم أنه أراد الاحتجاج عليهم في ترك عبادته سبحانه وهو خالقهم وخالق أفعالهم قيل في ذكر خلقه سبحانه لآلهتهم ولعابديها من بيان تقبيح حالهم وفساد رأيهم وعقولهم في عبادتها دونه تعالى ما ليس في الاقتصار على ذكر خلق الآلهة فقط فإنه إذا كان الله تعالى هو الذي خلقكم وخلق معبوديكم فهي مخلوقة أمثالكم فكيف يعبد العاقل من هو مثله ويتألهه ويفرده بغاية التعظيم والإجلال والمحبة وهل هذا إلا أقبح الظلم في حق أنفسكم وفي حق ربكم وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} ومن حق المعبود أن لا يكون مثل العابد فإنه إذا كان مثله كان عبدا مخلوقا

والمعبود ينبغي أن يكون ربا خالقا فهذا من أحسن الاحتجاج وأبينه فقد أسفر لك من المعنى المقصود بالسياق صحيحه ووضح لك شرحه وانجلى بحمد الله الإشكال وزال عن المعنى غطاء الإجمال وبان أن ابن قتيبة في تفسير الآية وفق للسداد كما وفق لموافقة أهل السنة في خلق أعمال العباد ولا تستطل هذا الفصل فإنه يحقق لك فصولا لا تكاد تسمعها في خلال المذكرات وتحصل لك قواعد وأصول لا تجدها في عامة المصنفات فإن قيل: فأين ما وعدتم به من الاستدلال بالآية على خلق الله لأعمال العباد على تقدير كون ما موصولة قيل نعم قد سبق "الوعد" بذلك وقد حان إنجازه وآن إبرازه ووجه الاستدلال بها على هذا التقدير أن الله سبحانه أخبر أنه خالقهم وخالق الأصنام التي عملوها وهي إنما صارت أصناما بأعمالهم فلا يقع عليها ذلك الاسم إلا بعد عملهم فإذا كان سبحانه هو الخالق اقتضى صحة هذا الإطلاق أن يكون خالقها بجملتها أعني مادتها وصورتها فإذا كانت صورتها مخلوقة لله كما أن مادتها كذلك لزم أن يكون خالقا لنفس عملهم الذي حصلت به الصورة لأنه متولد عن نفس حركاتهم فإذا كان الله خالقها كانت أعمالهم التي تولد عنها ما هو مخلوق لله مخلوقة له وهذا أحسن استدلالا وألطف من جعل ما مصدرية ونظيره من الاستدلال سواء قوله: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} والأصح أن المثل المخلوق هنا هو السفن وقد أخبر أنها مخلوقة وهي إنما صارت سفنا بأعمال العباد وأبعد من قال إن المثل هاهنا هو سفن البر وهي الإبل لوجهين أحدهما: أنها لا تسمى مثلا للسفن لا لغة ولا حقيقة فإن المثلين ما سد أحدهما مسد الآخر: وحقيقة المماثلة أن يكون بين فلك وفلك لا بين جمل وفلك الثاني أن قوله: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} عقب ذلك دليل على أن المراد الفلك التي إذا ركبوها قدرنا على إغراقهم فذكرهم بنعمه عليهم من وجهين أحدهما: ركوبهم إياها والثاني: أن يسلمهم عند ركوبها من الغرق ونظير هذا الاستدلال أيضا قوله تعالى: {وَاللَّهُ

جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} والسرابيل التي يلبسونها وهي مصنوعة لهم وقد أخبر بأنه سبحانه هو جاعلها وإنما صارت سرابيل بعملهم ونظيره: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً} والبيوت التي من جلود الأنعام هي الخيام وإنما صارت بيوتا بعملهم فإن قلت: المراد من هذا كله المادة لا الصورة قلت: المادة لا تستحق هذه الأسماء التي أطلق الخلق عليها وإنما تستحق هذه الأسماء بعد عملها وقيام صورها بها وقد أخبر أنها مخلوقة له في هذه الحال والله أعلم. فائدة: الذي يدل على أن الضمير من يكرمني ونحوه هو الياء دون ما معها وجوه أحدها القياس على ضمير المخاطب والغائب في أكرمك وأكرمه والثاني: أن الضمير في قولك إني وأخواته هو الياء وحدها لسقوط النون اختيارا في بعضها وجوازا في أكثرها وسماعا في بعضها ولو كان الضمير هو الحرفين لم يسقطوا أحدهما والثالث: إدخالهم هذه النون في بعض حروف الجر وهي من وعن ولو كانت جزءا من الضمير لأطردت في إلى وفي وسائر حروف الجر فإن قلت: فما وجه اختصاصها ببعض الحروف والأسماء الجواب: أنهم أرادوا فصل الفعل والحروف المضارعة له من توهم الإضافة إلى الياء فألحقوها علامة للانفصال وهي في أكثر الكلام نون ساكنة وهو التنوين فإنه لا يوجد في الكلام إلا علامة لانفصال الاسم ولذلك ألحقوها في القوافي المعرفة باللام أبدا بإتمام البيت وانفصاله مما بعده نحو العتابا والزرافا ولذلك زادوها قبل علامة الإنكار حين

أرادوا فصل الاسم من العلامة كي لا يتوهم أنها تمام الاسم أو علامة جمع ففصل بين الاسم وبينها بنون زائدة وأدخل عليها ألف الوصل لسكونها ثم حركها بالكسر لالتقاء الساكنين فلما كان من أصلهم تخصيص النون بعلامة الانفصال واجبا وأرادوا فصل الفعل وما ضارعه عن الإضافة إلى الياء جاءوا بهذه النون الساكنة ولولا سكون الياء لكانت ساكنة كالتنوين ولكنهم كسروها لالتقاء الساكنين. فائدة: السر في حذف الألف من ما الاستفهامية عند حرف الجر أنهم أرادوا مشاكلة اللفظ للمعنى فحذفوا الألف لأن معنى قولهم فيم ترغب في أي شيء وإلام تذهب إلى أي شيء وحتام لا ترجع حتى أي غاية تستمر ونحوه فحذفوا الألف مع الجار ولم يحذفوها في حال النصب والرفع كيلا تبقى الكلمة على حرف واحد فإذا اتصل بها حرف الجر أو اسم مضاف اعتمدت عليه لأن الخافض والمخفوض بمنزلة كلمة واحدة وربما حذفوا الألف في غير موضع الخفض ولكن إذا حذفوا الخبر فيقولون مه يا زيد أي ما الخبر وما الأمر فلما كثر الحذف في المعنى كثر في اللفظ ولكن لا بد من هاء السكت لتقف عليها ومنه قولهم مهيم كان الأصل ما هذا يا امرؤ فاقتصروا من كل كلمة على حرف وهذا غاية الاختصار والحذف والذي شجعهم على ذلك أمنهم من اللبس لدلالة حال المسئول والمسئول عنه على المحذوف فهم المخاطب من قوله مهيم ما يفهم من تلك الكلمات الأربع ونظير هذا قولهم إيش في أي شيء وم الله في يمين الله

فائدة بديعة: قوله عز وجل: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} فالشيعة الفرقة التي شايع بعضها بعضا أي تابعه ومنه الأشياع أي الأتباع فالفرق بين الشيعة والأشياع أن الأشياع هم التبع والشيعة القوم الذين شايعوا أي تبع بعضهم بعضا وغالب ما يستعمل في الذم ولعله لم يرد في القرآن إلا كذلك كهذه الآية وكقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} وقوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} وذلك والله أعلم لما في لفظ الشيعة من الشياع والإشاعة التي هي ضد الائتلاف والاجتماع ولهذا لا يطلق لفظ الشيع إلا على فرق الضلال لتفرقهم واختلافهم والمعنى لننزعن من كل فرقة أشدهم عتوا على الله وأعظمهم فسادا فنلقيهم في النار وفيه إشارة إلى أن العذاب يتوجه إلى السادات أولا ثم تكون الأتباع تبعا لهم فيه كما كانوا تبعا لهم في الدنيا وأيهم أشد للنحاة فيه أقوال أحدها: قول الخليل أنه مبتدأ وأشد خبره ولم يعمل لننزعن فيه لأنه محكي والتقدير الذي يقال فيه: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} وعلى هذا فأي استفهامية الثاني: قول يونس أنه رفع على جهة التعليق للفعل السابق كما لو قلت علمت أنه أخوك فعلق الفعل عن الفعل كما تعلق أفعال القلوب الثالث: قول سيبويه إن أي هنا موصولة مبنية على الضم والمسوغ لبنائها حذف صدر صلتها وعنده أصل الكلام أيهم هو أشد فلما حذف صدر الصلة بنيت على الضم تشبيها لها بالغايات التي قد حذفت مضافاتها ك قبل وبعد وعلى كل واحد من الأقوال إشكالات نذكرها ثم نبين الصحيح إن شاء الله فأما قول الخليل: فقيل يلزمه ستة أمور الأول حذف الموصوف الثاني: حذف الصلة الثالث: حذف العائد لأن تقديره

الذي يقال لهم إنهم أشد وهذا لا عهد لنا فيه باللغة وأما ما يحذف من القول فإنه إنما يكون قولا مجردا عن كونه صلة لموصول نحو قوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} أي يقولون أو قائلين ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الرابع: أنه إذا قدر المحذوف هكذا لم يستقم الكلام فإنه يصير {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} الذين يقال فيهم {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} وهذا فاسد فإن ذلك المنزوع لا يقال فيه: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} بل هو نفسه أشد أو من أشد الشيعة على الرحمن فلا يقع عليه الاستفهام بعد نزعه فتأمله الخامس: أن الاستفهام لا يقع إلا بعد أفعال العلم والقول على الحكاية ولا يقع بعد غيره من الأفعال تقول علمت أزيد عندك أم عمرو ولو قلت ضربت أزيد أم عمرو لم يجز وننزعن ليس من أفعال العلم فإذا قلت: ضربت أيهم قام لم تكن إلا موصولة ولا يصح أن يقال ضربت الذي يقال فيه أيهم قام وإنما توهم مثل ذلك لكون اللفظ صالحا لجهة أخرى مستقيمة فيتوهم متوهم أن حمله على الجهة الأخرى يستقيم والذي يدل عليه أنه لو قدرت موضعه استفهاما صريحا ليس له جهة أخرى لم يجز فإذا قلت: ضرب أزيد عندك أم عمرو لم يجز بخلاف ضرب أيهم عندك فلو كان أيهم استفهاما لجاز الكلام مع الاستفهام الذي بمعناهما وإنما لم يقع الاستفهام إلا بعد أفعال العلم والقول أما القول فلأنه يحكي به كل جملة خبرية كانت أو إنشائية وأما أفعال العلم فإنما وقع بعدها الاستفهام لكون الاستفهام مستعلما به فكأنك إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو كان معناه أعلمني وإذا قلت: علمت أزيد عندك أم عمرو كان معناه علمت ما يطلب استعلامه فلهذا صح وقوع الاستفهام بعد العلم لأنه استعلام ثم حمل الحسبان والظن عليهما لكونهما من بابه ووجه آخر وهو كثرة استعمال أفعال العلم فجعل شأن ليس لغيرها السادس: أن هذا الحذف الذي قدره في الآية حذف لا يدل عليه سياق فهو مجهول الوضع وكل حذف كان بهذه المنزلة كان تقديره من باب علم الغيب وأما قول يونس بن حبيب

فإشكاله ظاهر فإن التعليق إنما يكون في أفعال القلوب نحو العلم والظن والحسبان دون غيرها ولا يجوز أن تقول ضربت أيهم قام على أن تكون أيهم استفهاما وقد علق الفعل عن العمل فيه وأما قول سيبويه فإشكاله أنه بناء خارج عن النظائر ولم يوجد في اللغة شاهد له قال السهيلي ما ذكره سيبويه لو استشهد عليه بشاهد من نظم أو نثر أو وجدنا بعده في كلام فصيح شاهدا له لم نعدل به قولا ولا رأينا لغيره عنه طولا ولكنا لم نجز ما بين لمخالفته غيره لا سيما مثل هذه المخالفة فإنا لا نسلم أنه حذف من الكلام شيء وإن قال: إنه حذف ولا بد والتقدير أيهم هو أخوك فيقال: لم يبنوا في النكرة فيقولون مررت برجل أخوك أو رأيت رجلا أبوك أي هو أخوك وأبوك ولم خصوا أيا هذا دون سائر الأسماء أن يحذف من صلته ثم يبنى للحذف ومتى وجدنا شيئا من الجملة يحذف ثم يبنى الموصوف بالجملة من أجل ذلك الحذف وذلك الحذف لا نجعله متضمنا لمعنى الحرف ولا مضارعا له وهذه علة البناء وقد عدمت في أي قال والمختار قول الخليل ولكنه يحتاج إلى شرح وذلك أنه لم يرد بالحكاية ما يسبق إلى الفهم من تقدير معنى القول ولكنه أراد حكاية لفظ الاستفهام الذي هو أصل في أي كما يحكيه بعد العلم إذا قلت قد علمت من أخوك وأقام زيد أم قعد فقد تركت الكلام على حاله قبل دخول الفعل لبقاء معنى الاختصاص والتعيين في أي الذي كان موجودا فيها وهي استفهام لأن ذلك المعنى هو الذي وضعت له استفهاما كانت أو خبرا كما حكوا لفظ النداء في قولهم اللهم اغفر لي أيها الرجل وارحمنا أيتها العصابة فنحكي لفظ هذا إشعارا بالتعيين والاختصاص الموجود في حال النداء لوجود معنى الاختصاص والتعيين فيه قال وقول يونس: إن الفعل ملغي حق وإن لم يكن من أفعال القلب وعلة إلغائه ما قدمناه من حكاية لفظ الاستفهام للاختصاص فإذا أتممت العلة وقلت ضربت أيهم أخوك زالت مضارعة الاستفهام وغلب فيه معنى الخبر لوجود الصلة التامة بعده قال وأما قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا

أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} وإجماعهم على أنها منصوبة بينقلبون لا ب سيعلم وقد كان يتصور فيها أن تكون منصوبة ب سيعلم على جهة الاستفهام ولكن تكون موصولة والجملة صلتها والعائد محذوف ولكن منع من هذا أصل أصلناه ودليل أقمناه على أن الاسم الموصول إذا عني به المصدر ووصل بفعل مشتق من ذلك المصدر لم يجز لعدم الفائدة المطلوبة من الصلة وهي إيضاح الموصول وتبيينه والمصدر لا يوضح فعله المشتق من لفظه لأنه كأنه هو لفظا ومعنى إلا في المختلف الأنواع كما تقدم قال ووجه آخر أقوى من هذا وهو أن أيا لا تكون بمعنى الذي حتى تضاف إلى معرفة فتقول لقيت أيهم في الدار إذ من المحال أن يكون بمعنى الذي وهو نكرة والذي لا ينكر وهذا أصل يبنى عليه في أي فصل: في تحقيق معنى أي وهو أن لفظ الألف والياء المكررة راجع في جميع الكلام إلى معنى التعيين والتمييز للشيء من غيره فمنه أياة الشمس لضوئها لأنه يبينها ويميزها من غيره ومنه الآية العلامة ومنه خرج القوم بآيهم أي بجماعتهم التي يتميزون بها عن غيرهم ومنه تأييت بالمكان أي تثبت لتبيين شيء أو تمييزه ومنه قول امريء القيس. قف بالديار وقوف حابس ... وتأي إنك غير يائس وقال الكميت: وتأي إنك غير صاغر ومنه إياك في المضمرات لأنه في أكثر الكلام مفعول مقدم والمفعول إنما يتقدم على فعله قصدا إلى تعيينه وحرصا على تمييزه عن غيره وصرفا للذهن عن الذهاب إلى غيره ولذلك تقدم في إياك نعبد إذ الكلام وارد في معرض الإخلاص

وتحقيق الوحدانية ونفي عوارض الأوهام عن التعلق بغيره ولهذا اختصت أي بنداء ما فيه الألف واللام تمييزا له وتعيينا وكذلك أي زيد ومنه إياك المراء والأسد أي ميز نفسك وأخلصها عنه ومنه وقوع أي تفسيرا كقولك عندي عهن أي صوف وأما وقوعها نفيا لما قبلها نحو مررت برجل أي رجل فأي تدرجت إلى الصفة من الاستفهام كان الأصل أي رجل هو على الاستفهام الذي يراد به التفخيم والتهويل وإنما دخله التفخيم لأنهم يريدون إظهار العجز والإحاطة لوصفه فكأنه مما يستفهم عنه بجهل كنهه فأدخلوه في باب الاستفهام الذي هو موضوع لما يجهل وكذلك جاء: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} أي أنها لا يحاط بوصفها فلما ثبت هذا اللفظ في باب التفخيم والتعظيم للشيء قرب من الوصف حتى أدخلوه في باب النعت وأخروه في الإعراب عما قبله ومنه قول:جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط أي كأنه في لون الذئب إن كنت رأيت الذئب ومنه مررت بفارس هل رأيت الأسد وهذا التقدير أحسن من قوله بعض النحويين أنه معمول ووصف مقدر وهو قول محذوف أي مقول فيه هل رأيت كذا وما ذكرته لك أحسن وأبلغ فتأمله. فائدة جليلة: ما يجري صفة أو خبرا على الرب تبارك وتعالى أقسام أحدها ما يرجع إلى نفس الذات كقولك ذات وموجود وشيء الثاني: ما يرجع إلى صفات معنوية كالعليم والقدير والسميع الثالث: ما يرجع إلى أفعاله نحو: الخالق والرزاق الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض ولا بد من تضمنه ثبوتا إذ لا كمال في العدم المحض كالقدوس والسلام الخامس: ولم يذكره أكثر الناس وهو الاسم الدال على جملة

أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة بل هو دال على معناه لا على معنى مفرد نحو المجيد العظيم الصمد فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال ولفظه يدل على هذا فإنه موضوع للسعة والكثرة والزيادة فمنه استمجد المرخ والغفار وأمجد الناقة علفا ومنه {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} صفة للعرش لسعته وعظمه وشرفه وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنا بطلب الصلاة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم كما علمناه لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء وكثرته ودوامه فأتى في هذا المطلوب باسم تقتضيه كما تقول: " اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ولا يحسن إنك أنت السميع البصير" فهو راجع إلى المتوسل إليه بأسمائه وصفاته وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه ومنه الحديث الذي في المسند والترمذي: "ألظوا بياذا الجلال والإكرام " ومنه " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام " فهذا سؤال له وتوسل إليه وبحمده وأنه الذي لا إله إلا هو المنان فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعا عند المسئول وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد أشرنا إليه إشارة وقد فتح لمن بصره الله تعالى تفسر الاسم الإلهي العظيم والصمد ولنرجع إلى المقصود وهو وصفه تعالى بالاسم المتضمن لصفات عديدة فالعظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال وكذلك الصمد قال ابن عباس هو السيد الذي كمل في سؤدده وقال ابن وائل هو السيد الذي انتهى سؤدده وقال عكرمة: الذي ليس فوقه أحد وكذلك قال الزجاج: الذي ينتهي إليه السؤدد فقد صمد له كل شيء وقال ابن الأنباري: "لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم" واشتقاقه يدل على هذا فإنه من الجمع والقصد الذي اجتمع القصد نحوه واجتمعت فيه صفات السؤدد وهذا أصله في اللغة كما قال: ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن يربوع وبالسيد الصمد والعرب تسمي أشرافها بالصمد لاجتماع قصد القاصدين إليه واجتماع صفات

السيادة فيه السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد العفو القدير الحميد المجيد وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن فإن الغنى صفة كمال والحمد كذلك واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر فله ثناء من غناه وثناء من حمده وثناء من اجتماعهما وكذلك العفو القدير والحميد المجيد والعزيز الحكيم فتأمله فإنه من أشرف المعارف تسليط صفات السلب على أسماء الله تعالى وأما صفات السلب المحض فلا تدخل في أوصافه تعالى إلا أن تكون متضمنة لثبوت كالأحد المتضمن لانفراده بالربوبية والإلهية والسلام المتضمن لبراءته من كل نقص يضاد كماله وكذلك الإخبار عنه بالسلوب هو لتضمنها ثبوتا كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} فإنه متضمن لكمال حياته وقيوميته وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} متضمن لكمال قدرته وكذلك قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} متضمن لكمال علمه وكذلك قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} متضمن لكمال صمديته وغناه وكذلك قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} متضمن لتفرده بكماله وأنه لا نظير له وكذلك قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} متضمن لعظمته وأنه جل عن أن يدرك بحيث يحاط به وهذا مطرد في كل ما وصف به نفسه من السلوب ويجب أن تعلم هنا أمور. أحدها: أن ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته كالشيء والموجود والقائم بنفسه فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا. الثاني: أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه بل يطلق عليه منها كمالها وهذا كالمريد والفاعل والصانع فإن هذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق بل هو الفعال لما يريد فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلا وخبرا.

الثالث: أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدا أن يشتق له منه اسم مطلق كما غلط فيه بعض المتأخرين فجعل من أسمائه الحسنى المضل الفاتن الماكر تعالى الله عن قوله فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة والله أعلم. الرابع: أن أسماءه عز وجل الحسنى هي أعلام وأوصاف والوصف بها لا ينافي العلمية بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي علميتهم لأن أوصافهم مشتركة فنافتها العلمية المختصة بخلاف أوصافه تعالى. الخامس: أن الاسم من أسمائه له دلالات دلالة على الذات والصفة بالمطابقة ودلالة على أحدهما بالتضمن ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم. السادس: أن أسماءه الحسنى لها اعتباران اعتبار من حيث الذات واعتبار من حيث الصفات فهي بالاعتبار الأول مترادفة وبالاعتبار الثاني متباينة. السابع: أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفا كالقديم والشيء والموجود والقائم بنفسه فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرد به السمع. الثامن: أن الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل فيخبر به عنه فعلا ومصدرا ونحو السميع البصير القدير يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} هذا إن كان الفعل متعديا فإن كان لازما لم يخبر عنه به نحو الحي بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل فلا يقال حي. التاسع: أن أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم فالرب تبارك وتعالى فعاله عن كماله والمخلوق كماله عن فعاله فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل فالرب لم يزل كاملا فحصلت

أفعاله عن كماله لأنه كامل بذاته وصفاته فأفعاله صادرة عن كماله كمل ففعل والمخلوق فعل فكمل الكمال اللائق به العاشر: إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقا له تعالى أو أمرا إما علم بما كونه أو علم بما شرعه ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد والرأفة والرحمة بهم والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه فأمره كله مصلحة وحكمة ولطف وإحسان إذ مصدره أسماؤه الحسنى وفعله كله لا يخرج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة إذ مصدره أسماؤه الحسنى فلا تفاوت في خلقه ولا عبث ولم يخلق خلقه باطلا ولا سدى ولا عبثا وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده فوجود من سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى ولهذا لا تجد فيها خللا ولا تفاوتا لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله إما أن يكون لجهله به أو لعدم حكمته وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض الحادي عشر: أن أسماءه كلها حسنى ليس فيها اسم غير ذلك أصلا وقد تقدم أن من أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل نحو الخالق والرازق والمحيي والمميت وهذا يدل على أن أفعاله كلها خيرات محض لا شر فيها لأنه لو فعل الشر لاشتق له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلها حسنى وهذا باطل فالشر ليس إليه فكما لا يدخل في صفاته ولا يلحق ذاته لا يدخل في أفعاله فالشر ليس إليه لا يضاف إليه فعلا ولا وصفا وإنما يدخل في مفعولاته وفرق بين الفعل والمفعول فالشر قائم بمفعوله المباين

له لا بفعله الذي هو فعله فتأمل هذا فإنه خفي على كثير من المتكلمين وزلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وهدى الله أهل الحق لما اختلفوا فيه بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم الثاني عشر: في بيان مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة وهذا هو قطب السعادة ومدار النجاة والفلاح المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وهو مرتبتان إحداهما: دعاء ثناء وعبادة والثاني: دعاء طلب ومسألة فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وكذلك لا يسأل إلا بها فلا يقال يا موجود أو يا شيء أو يا ذات اغفر لي وارحمني بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلا إليه بذلك الاسم ومن تأمل أدعية الرسل ولا سيما خاتمهم وإمامهم وجدها مطابقة لهذا وهذه العبارة أولى من عبارة من قال يتخلق بأسماء الله فإنها ليست بعبارة سديدة وهي منتزعة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله على قدر الطاقة وأحسن منها عبارة أبي الحكم بن برهان وهي التعبد وأحسن منها العبارة المطابقة للقرآن وهي الدعاء المتضمن للتعبد والسؤال فمراتبها أربعة أشدها إنكارا عبارة الفلاسفة وهي التشبه وأحسن منها عبارة من قال التخلق وأحسن منها عبارة من قال التعبد وأحسن من الجميع الدعاء وهي لفظ القرآن. الثالث عشر: اختلف النظار في الأسماء التي تطلق على الله وعلى العباد كالحي والسميع والبصير والعليم والقدير والملك ونحوها: فقالت: طائفة من المتكلمين هي حقيقة في العبد مجاز في الرب وهذا قول غلاة الجهمية وهو أخبث الأقوال وأشدها فسادا الثاني: مقابله وهو أنها حقيقة في الرب مجاز في العبد وهذا قول أبي العباس الناشئ الثالث: أنها حقيقة فيهما وهذا قول أهل السنة وهو الصواب واختلاف الحقيقتين فيهما لا يخرجها عن كونها حقيقة فيهما وللرب

تعالى منها ما يليق بجلاله وللعبد منها ما يليق به وليس هذا موضع التعرض لمأخذ هذه الأقوال وإبطال باطلها وتصحيح صحيحها فإن الغرض الإشارة إلى أمور ينبغي معرفتها في هذا الباب ولو كان المقصود بسطها لاستدعت سفرين أو أكثر. الرابع عشر: أن الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاث اعتبارات: اعتبار من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد اعتباره مضافا إلى الرب مختصا به اعتباره مضافا إلى العبد مقيدا به فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتا للرب والعبد وللرب منه ما يليق بكماله وللعبد منه ما يليق به وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات والبصير الذي يلزمه رؤية المبصرات والعليم والقدير وسائر الأسماء فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها فما لزم هذه الأسماء لذاتها فإثباته للرب تعالى لا محذور فيه بوجه بل ثبتت له على وجه لا يماثله فيه خلقه ولا يشابههم فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق ألحد في أسمائه وجحد صفات كماله ومن أثبته له على وجه يماثل فيه خلقه فقد شبهه بخلقه ومن شبه الله بخلقه فقد كفر ومن أثبته له على وجه لا يماثل فيه خلقه بل كما يليق بجلاله وعظمته فقد بريء من فرث التشبيه ودم التعطيل وهذا طريق أهل السنة وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيه عن الله كما يلزم حياة العبد من النوم والسنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك وكذلك ما يلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به وكذلك ما يلزم علوه من احتياجه إلى ما هو عال عليه وكونه محمولا به مفتقرا إليه محاطا به كل هذا يجب نفيه عن القدوس السلام تبارك وتعالى وما لزم صفة من جهة اختصاصه تعالى بها فإنه لا يثبت للمخلوق بوجه كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم وقدرته وإرادته وسائر صفاته فإن ما يختص به منها لا يمكن إثباته للمخلوق فإذا أحطت بهذه القاعدة خبرا وعقلتها كما ينبغي خلصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين آفة

التعطيل وآفة التشبيه فإنك إذا وفيت هذا المقام حقه من التصور أثبت لله الأسماء الحسنى والصفات العلى حقيقة فخلصت من التعطيل ونفيت عنها خصائص المخلوقين ومشابهتهم فخلصت من التشبيه فتدبر هذا الموضع واجعله جنتك التي ترجع إليها في هذا الباب والله الموفق للصواب الخامس العشر: أن الصفة متى قامت بموصوف لزمها أمور أربعة أمران لفظيان وأمران معنويان فاللفظيان ثبوتي وسلبي فالثبوتي أن يشتق للموصوف منها الموصوف ويخبر بها عنه والسلبي أن لا يعود حكمها إلى غيره ولا يكون خبرا عنه وهي قاعدة عظيمة في معرفة الأسماء والصفات فلنذكر من ذلك مثالا واحدا وهو صفة الكلام فإنه إذا قامت بمحل كانت هو التكلم دون من لم تقم به وأخبر عنه بها وعاد حكمها إليه دون غيره فيقال قال وأمر ونهى ونادى وناجى وأخبر وخاطب وتكلم وكلم ونحو ذلك وامتنعت هذه الأحكام لغيره فيستدل بهذه الأحكام والأسماء على قيام الصفة به وسلبها عن غيره على عدم قيامها به وهذا هو أصل السنة الذي ردوا به على المعتزلة والجهمية وهو من أصح الأصول طردا وعكسا. السادس عشر: أن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما في الحديث الصحيح: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" صحيح على الراجح فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه وقسم أنزل به كتابه فتعرف به إلى عباده وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحد من خلقه ولهذا قال استأثرت به أي انفردت بعلمه وليس المراد انفراده بالتسمي به لأن هذا الإنفراد ثابت في الأسماء التي أنزل الله بها كتابه ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن " رواه البخاري ومسلم وتلك المحامد تفي بأسمائه وصفاته ومنه قوله: "لا أحصي

ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" رواه مسلم وأبو داود وغيرهما وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة" رواه البخاري ومسلم فالكلام جملة واحدة وقوله: "ومن أحصاها دخل الجنة " صفة لا خبر مستقبل والمعنى له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها وهذا كما تقول لفلان مائة مملوك وقد أعدهم للجهاد فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم معدون لغير الجهاد وهذا لا خلاف بين العلماء فيه. السابع عشر: أن أسماءه تعالى منها ما يطلق عليه مفردا ومقترنا بغيره وهو غالب الأسماء فالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم وهذا يسوغ أن يدعى به مفردا ومقترنا بغيره فتقول: يا عزيز يا حليم يا غفور يا رحيم وأن يفرد كل اسم وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد والجمع ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقرونا بمقابله كالمانع والضار والمنتقم فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفو فهو المعطي المانع الضار النافع المنتقم العفو المعز المذل لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم عطاء ومنعا ونفعا وضرا وعفوا وانتقاما وأما أن يثنى عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار فلا يسوغ فهذه الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد ولذلك لم تجيء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فاعلمه فلو قلت: يا مذل يا ضار يا مانع وأخبرت بذلك لم تكن مثنيا عليه ولا حامدا له حتى تذكر مقابلها. الثامن عشر: أن الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال وصفات نقص وصفات لا تقتضي كمالا ولا نقصا وإن كانت القسمة التقديرية تقتضي قسما رابعا: وهو ما يكون كمالا ونقصا باعتبارين والرب تعالى منزه عن الأقسام الثلاثة وموصوف بالقسم الأول وصفاته كلها صفات كمال محض فهو موصوف من الصفات

بأكملها وله من الكمال أكمله وهكذا أسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها فليس في الأسماء أحسن منها ولا يقوم غيرها مقامها ولا يؤدي معناها وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرا بمرادف محض بل هو على سبيل التقريب والتفهيم وإذا عرفت هذا فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب أو نقص فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العاقل الفقيه والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر ومن صفات الإحسان البر الرحيم الودود دون الرفيق والشفوق ونحوهما وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف وكذلك الكريم دون السخي والخالق البارئ المصور دون الفاعل الصانع المشكل والغفور العفو دون الصفوح الساتر وكذلك سائر أسمائه تعالى يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها وما لا يقوم غيره مقامه فتأكل ذلك فأسماؤه أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات فلا تعدل عما سمى به نفسه إلى غيره كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون. التاسع عشر: أن من أسمائه الحسنى ما يكون دالا على عدة صفات ويكون ذلك الاسم متناولا لجميعها تناول الاسم الدال على الصفة الواحدة لها كما تقدم بيانه كاسمه العظيم والمجيد والصمد كما قال ابن عباس: فيما رواه عنه ابن أبي حاتم في تفسيره: "الصمد: السيد الذي قد كمل في سؤدده والشريف: الذي قد كمل في شرفه والعظيم: الذي قد كمل في عظمته والحليم الذي قد كمل في حلمه والعليم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الذي قد كمل في أنواع شرفه وسؤدده وهو الله سبحانه إسناده ضعيف" هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفوا أحد وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار هذا لفظه وهذا مما خفي على كثير ممن تعاطى الكلام في تفسير الأسماء الحسنى ففسر الاسم بدون معناه ونقصه من حيث لا يعلم فمن لم يحط بهذا علما بخس الاسم الأعظم حقه وهضمه معناه فتدبره.

العشرون: وهي الجامعة لما تقدم من الوجوه وهي معرفة الإلحاد في أسمائه حتى لا يقع فيه قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها وهو مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادته ل ح د فمنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط ومنه الملحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل قال ابن السكيت: "الملحد المائل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه" ومنه الملتحد وهو مفتعل من ذلك وقوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي من تعدل إليه وتهرب إليه وتلتجئ إليه وتبتهل فتميل إليه عن غيره تقول العرب التحد فلان إلى فلان إذا عدل إليه إذا عرف هذا فالإلحاد في أسمائه تعالى أنواع أحدها: أن يسمى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإلهية والعزى من العزيز وتسميتهم الصنم إلها وهذا إلحاد حقيقة فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أبا وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص كقول أخبث اليهود إنه فقير وقولهم إنه استراح بعد أن خلق خلقه وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد ويقولون لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا ولغة وفطرة وهو يقابل إلحاد المشركين فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها فكلاهما ملحد في أسمائه ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب وكل من جحد شيئا عما وصف الله به نفسه

أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك فليستقل أو ليستكثر وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيرا فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه وبرأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظا ولا معنى بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئا من التشبيه وتنزيههم خليا من التعطيل لا كمن شبه حتى كأنه يعبد صنما أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدما وأهل السنة وسط في النحل كما أن أهل الإسلام وسط في الملل توقد مصابيح معارفهم من: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فنسأل الله تعالى أن يهدينا لنوره ويسهل لنا السبيل إلى الوصول إلى مرضاته ومتابعة رسوله إنه قريب مجيب فهذه عشرون فائدة مضافة إلى القاعدة التي بدأنا بها في أقسام ما يوصف به الرب تبارك وتعالى فعليك بمعرفتها ومراعاتها ثم اشرح الأسماء الحسنى إن وجدت قلبا عاقلا ولسانا قائلا ومحلا قابلا وإلا فالسكوت أولى بك فجناب الربوبية أجل وأعز مما يخطر بالبال أو يعبر عنه المقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} حتى ينتهي العلم إلى من أحاط بكل شيء علما وعسى الله أن يعين بفضله على تعليق شرح الأسماء الحسنى مراعيا فيه أحكام هذه القواعد بريئا من الإلحاد في أسمائه وتعطيل صفاته فهو المان بفضله والله ذو الفضل العظيم.

فائدة: المعنى المفرد لا يكون نعتا ونعني بالمفرد ما دل لفظه على معنى واحد نحو علم وقدرة لأنه لا رابط بينه وبين المنعوت لأنه اسم جنس على حياله فإذا قلت ذو علم وذو قدرة كان الرابط ذو فإذا قلت: عالم وقادر كان الرابط الضمير فكل نعت وإن كان مفردا في لفظه فهو دال على معلومين حامل ومحمول فالحامل هو الاسم المضمر والمحمول هو الصفة وإنما أضمر في الصفة ولم يضمر في المصدر وهو الصفة في الحقيقة لأن هذا الوصف مشتق من الفعل والفعل هو الذي يضمر فيه دون المصدر لأنه إنما صيغ من المصدر ليخبر به عن فاعل فلا بد له مما صيغ لأجله إما ظاهرا وإما مضمرا ولا كذلك المصدر لأنه اسم جنس فحكمه حكم سائر الأجناس ولذلك ينعت الاسم بالفعل لتحمله الضمير فإن قلت: فأيهما هو الأصل في باب النعت قلت: الاسم أصل للفعل في باب النعت والفعل أصل لذلك الاسم في غير باب النعت وإنما قلنا ذلك لأن حكم النعت أن يكون جاريا على المنعوت في إعرابه لأنه هو مع زيادة معنى ولأن الفعل أصله أن يكون له صدر الكلام لعمله في الاسم وحق العامل التقدم لا سيما إن قلنا إن العامل في النعت هو العامل في المنعوت وعلى هذا لا يتصور أن يكون الفعل أصلا في باب النعت لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال فعلى هذا لا ينبغي أن ينعت النعت فتقول: مررت برجل عاقل كريم على أن يكون كريم صفة ل عاقل بل للرجل لأن النعت ينبئ عن الاسم المضمر وعن الصفة والمضمر لا ينعت ولأنه قد صار بمنزلة الجملة من حيث دل على الفعل والفاعل والجملة لا تنعت ولأنه يجري مجرى الفعل في رفع الأسماء والفعل لا ينعت قاله أبو الفتح ابن جني وبعد فلا يمتنع أن ينعت النعت إذا جرى النعت الأول مجرى

الاسم الجامد ولم يرد به ما هو جار على الفعل فصل: ولما علم من افتقاره إلى الضمير لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت لوجهين أحدهما احتماله الضمير فإذا حذفت المنعوت لم يبق للضمير ما يعود عليه الثاني عموم الصفة فلا بد من بيان الموصوف بها ما هو فإن أجريت الصفة مجرى الاسم مثل جاءني الفقيه وجالست العالم خرج عن الأصل الممتنع وصار كسائر الأسماء وإن جئت بفعل يختص بنوع من الأسماء وأعملته في نوع يختص بذلك النوع كان حذف المنعوت حسنا كقولك أكلت طيبا ولبست لينا وركبت فارها ونحوه أقمت طويلا وسرت سريعا لأن الفعل يدل على المصدر والزمان فجاز حذف المنعوت هاهنا لدلالة الفعل عليه وقريب منه قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} لدلالة الذرية على الموصوف بالصفة وإن كان في كلامك حكم منوط بصفة احتمل الكلام على تلك واستغنى عن ذكر الموصوف كقولك مؤمن خير من كافر وغني أحظى من فقير والمؤمن لا يفعل كذا ولعنة الله على الظالمين: "والمؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء" رواه مسلم وقولهم: وأبيض كالمخراق البيت وقول الآخر: وأسمر خطي لأن الفخر والمدح إنما يتعلق بالصفة دون الموصوف فمضمون هذا الفصل ينقسم خمسة أقسام: نعت لا يجوز حذف منعوته كقولك لقيت سريعا وركبت خفيفا ونعت يجوز حذف منعوته على قبح نحو لقيت ضاحكا ورأيت جاهلا فجوازه لاختصاص الصفة بنوع واحد من الأسماء وقسم يستوي فيه الأمران نحو: أكلت

طيبا وركبت فارها ولبست لينا وشربت عذبا لاختصاص الفعل بنوع من المفعولات وقسم يقبح فيه ذكر الموصوف لكونه حشوا في الكلام نحو أكرم الشيخ ووقر العالم وأرفق بالضعيف وارحم المسكين وأعط الفقير وأكرم البر وجانب الفاجر ونظائره لتعليق الأحكام بالصفات واعتمادها عليها بالذكر وقسم لا يجوز فيه البتة ذكر الموصوف كقوله دابة أبطح وأجرع وأبرق للمكان وأسود للحية وأدهم للقيد وأخيل للطائر فهذه في الأصول نعوت ولكنهم لا يجرونها نعتا على منعوت فنقف عند ما وقفوا وترك القياس إذا تركوا فائدة بديعة: إذا نعت الاسم بصفة هي كسببه ففيه ثلاثة أوجه. أحدها: وهو الأصل أن تقول مررت برجل حسن أبوه بالرفع لأن الحسن ليس صفة له فتجري عليه وإنما ذكرت الجملة ليميز بها بين الرجل وبين من ليس عنده أب كأبيه فلما تميز بالجملة من غيره صارت في موضع النعت وتدرجوا من ذلك إلى أن قالوا: حسن أبوه بالجر وأجروه نعتا على الأول وإن كان هو نعت الأب من حيث تميز وتخصص كما يتخصص بصفة نفسه والوجه الثالث مررت برجل حسن الأب فيصير نعتا للأول ويضمر فيه ما يعود عليه حتى كأن الحسن له وإنما فعلوا ذلك مبالغة وتقريبا للنسب وحذفا للمضاف وهو الأب وإقامة المضاف إليه مقامه وهو الهاء فلما قام الضمير مقام الاسم المرفوع

صار ضميرا مرفوعا فاستتر في الفعل فقلت برجل حسن ثم أضفته إلى النسب الذي من أجله كان حسنا وهو الأب ودخول الألف واللام على النسب إنما هي لبيان الحسن وعلى هذا الوجه لا يجوز إلا في الموضع الذي يجوز فيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وذلك غير مطرد الجواز وإنما يجوز حيث يقصدون المبالغة وتفخيم الأمر وإن بعد النسب كان الجواز أبعد كقولك نابح الكلب وصاهل فرس العبد وما امتنع في هذا الفصل فإنه يجوز في الفصل الذي قبله من حيث لم يقيموا فيه مضافا مقام المضاف إليه وإنما حكمنا باختلاف المعاني في هذه الوجوه الثلاثة من حيث اختلف اللفظ فيها لأن الأصل أن لا يختلف لفظان إلا لاختلاف المعنى ولا يحكم باتحاد المعنى مع اختلاف اللفظ إلا بدليل فمعنى الوجه الأول تمييز الاسم عن غيره بالجملة التي بعده ومعنى الوجه الثاني تمييز الاسم من غيره مع انجرار الوصف إليه بمدح أو ذم ومعنى الوجه الثالث نقل الصفة كلها إلى الأول على حذف المضاف مع تبيين السبب الذي صيره كذلك وأكثر ما يكون هذا الوجه فيما قرب سببه جدا نحو عظيم القدر وشريف الأب لأن شرف الأب شرف له وكذلك القدر والوجه وهاهنا يحسن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. فائدة: إن قيل لم أكتسب المضاف التعرف من المضاف إليه ولم يكتسب المضاف إليه التنكير من المضاف وهو مقدم عليه في اللفظ لا سيما والتنكير أصل في الأسماء والتعريف فرع عليه قيل: الجواب من وجهين أحدهما: أنهم قد غلبوا حكم المعرفة على النكرة في غير هذا الموضع نحو هذا زيد ورجل ضاحكين

على الحال ولا يجوز ضاحكان على النعت تغليبا لحكم المعرفة لأنهم رأوا الاسم المعرفة يدل على معنيين الرجل وتعيينه والشيء وتخصيصه من غيره والنكرة لا تدل إلا على مفرد فكان ما يدل على معنيين أقوى مما يدل على معنى واحد وهذا أصل نافع فحصله الثاني: أن المضاف إليه بمنزلة آلة التعريف فصار كالألف واللام ألا ترى أنك إذا قلت غلام زيد فهو بمنزلة قولك الغلام لمن تعرفه بذلك وكذلك إذا قلت كتاب سيبويه فهو بمنزلة قولك الكتاب وكذلك إذا قلت سلطان المسلمين فهو بمنزلة قولك السلطان فتعريفه باللام في أوله وتعريفه بالإضافة من آخره فإن قيل: فإذا اكتسب التعريف من المضاف إليه فكان ينبغي أن يعطى حكمه قيل: وإن استفاد منه التعريف لم يستفد منه خصوصية تعريفه وإنما اكتسب منه تعريفا آخر كما اكتسبه من لام التعريف ألا ترى أنه إذا أضيف إلى المضمر لم يكتسب منه الإضمار وإذا أضيف إلى المبهم لم يكتسب منه الإبهام فلا الأول اقتبس من الثاني خصوصية تعريفه ولا الثاني اقتبس من الأول تنكيره والمضاف إليه في ذلك كالآلة الداخلة على الاسم. فائدة: من كلام السهيلي الكلام هو تعبير عما في نفس المتكلم من المعاني فإذا أضمر ذلك المعنى في نفسه أي أخفاه ودل المخاطب عليه بلفظ خاص سمى ذلك اللفظ ضميرا تسمية له باسم مدلوله ولا يقال فكان ينبغي أن يسمى كل لفظ ضميرا على ما ذكرتم لأن هنا مراتب ثلاثة أحدها المعنى المضمر وهو حقيقة الرجل مثلا والثاني اللفظ المميز له عن غيره وهو زيد وعمرو والثالث اللفظ المعبر عن هذا الاسم الذي إذا أطلق كان المراد به ذلك الاسم بخلاف قولك:

زيد وعمرو فإنه ليس ثم إلا لفظ ومعنى فخصوا اسم الضمير بما ذكرناه أسرار أحكام المضمرات والمضمرات في كلامهم نحو ستين ضميرا وأحوالها معلومة لكن ننبه على أسرارها من أحكام المضمرات اعلم أن المتكلم لما استغنى عن اسم الظاهر في حال الإخبار لدلالة المشاهدة عليه جعل مكانه لفظا يومئ به إليه وذلك اللفظ مؤلف من همزة ونون أما الهمزة فلأن مخرجها من الصدر وهو أقرب مواضع الصوت إلى المتكلم إذ المتكلم في الحقيقة محله وراء حبل الوريد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ألا تراه يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} يعني ما يلفظ المتكلم فدل على أن المتكلم أقرب شيء إلى حبل الوريد فإذا كان المتكلم على الحقيقة محله هناك وأردت من الحروف ما يكون عبارة عنه فأولاها بذلك ما كان مخرجه من جهته وأقرب المواضع إلى محله وليس إلا الهمزة أو الهاء والهمزة أحق بالمتكلم لقوتها بالجهر والشدة وضعف الهاء بالخفاء فكان ما هو أجهر أقوى وأولى بالتعبير عن اسم المتكلم الذي الكلام صفة له وهو أحق بالاتصاف به وأما اتصالها بالهاء مع النون فلما كانت الهمزة بانفرادها لا تكون اسما منفصلا كان أولى ما وصلت به النون أو بحرف المد واللين إذ هي أمهات الزوائد ولم يمكن حروف المد مع الهمزة لذهابها عند التقاء الساكنين نحو: أنا الرجل فلو حذف الحرف الثاني لبقيت الهمزة في أكثر الكلام منفردة مع لام التعريف فتلتبس بالألف التي هي أخت اللام فيختل أكثر الكلام فكان أولى ما قرن به النون لقربها من حرف المد واللين ثم ثبتوا النون لخفائها بالألف في حال السكت أو بهاء في لغة من قال أنه ثم لما كان المخاطب مشاركا للمتكلم في حال معنى الكلام إذ الكلام مبدأه من المتكلم ومنتهاه عند المخاطب ولولا المخاطب ما كان كلام المتكلم لفظا مسموعا ولا احتاج إلى التعبير عنه فلما اشتركا في المقصود بالكلام وفائدته اشتركا في اللفظ الدال على الاسم الظاهر وهو الألف والنون وفرق بينهما بالتاء خاصة وخصت التاء بالمخاطب لثبوتها

علامة الضمير في قمت فإن قلت: فهي علامة لضمير المتكلم في قمت فلم كان المخاطب أولى بها قلت: الأصل في التاء للمخاطب وإنما المتكلم دخيل عليه ولما كان دخيلا عليه خصوه بالضم لأن فيه من الجمع والإشارة إلى نفسه ما ليس في الفتحة وخصوا المخاطب بالفتح لأن في الفتحة من الإشارة إليه ما ليس في الضمة وهذا معلوم في الحس وأما ضمير المتكلم المخفوض فإنما كان ياء لأن الاسم الظاهر لما ترك لفظه استغناء ولم يكن بد من علامة دالة عليه كان أولى الحروف بذلك حرف من حروف الاسم المضمر وذلك لا يمكن لاختلاف أسماء المتكلمين وإنما أرادوا علامة تختص بكل متكلم في حال الخفض والأسماء مختلفة الألفاظ متفقة في حال الإضافة إلى الياء في الكسرة التي هي علامة الخفض إلا أن الكسرة لا تستقل بنفسها حتى تمكن فتكون ياء فجعلوا الياء علامة لكل متكلم مخفوض ثم شركوا النصب مع الحفظ في علامة الإضمار لاستوائها في المعنى إلا أنها زادوا نونا في ضمير المنصوب وقاية للفعل من الكسر وأما ضمير المتكلم المتصل فعلامته التاء المضمومة وأما المتكلمون فعلامتهم نافي الأحوال كلها وسرهم أنهم لما تركوا الاسم الظاهر وأرادوا من الحروف ما يكون علامة عليه أخذوا من الاسم الظاهر ما يشترك جميع المتكلمين فيه في حال الجمع والتثنية وهي النون التي في آخر اللفظ وهي موجودة في التثنية والجمع رفعا ونصبا وجرا فجعلوها علامة للمتكلمين جمعا كانوا أو تثنية وزادوا بعدها ألفا كيلا تشبه التنوين أو النون الخفيفة ولحكمة أخرى وهي القرب من لفظ أنا لأنها من ضمير المتكلمين فإنها ضمير متكلم فلم يسقط من لفظة أنا إلا الهمزة التي هي أصل في المتكلم الواحد وأما جمع المتكلم وتثنيته ففرع طار عن الأصل فلم تمكن فيه الهمزة التي تقدم اختصاصها بالمتكلم حتى خصت به في أفعل وخص المخاطب بالتاء في تفعل لما ذكرناه وأما ضمير المرفوع المتصل فإنما خص بالتاء لأنهم حين أرادوا حرفا يكون علامة على الاسم الظاهر المستغنى عن ذكره

كان أولى الحروف بذلك حرفا من الاسم وهو مختلف كما تقدم فأخذوا من الاسم ما لا تختلف الأسماء فيه في حال الرفع وهي الضمة وهي لا تستقل بنفسها ما لم تكن واوا ثم رأوا الواو لا يمكن تعاقب الحركات عليها لثقلها وهم يحتاجون إلى الحركات في هذا الضمير فرقا بين المتكلم والمخاطب المؤنث والمخاطب المذكر فجعلوا التاء مكان الواو لقربها من مخرجها ولأنها قد تبدل منها في كثير من الكلام كتراث وتجاه فاشترك ضمير المتكلم والمخاطب في التاء كما اشتركا في الألف والنون من أنا وأنت لأنهما شريكان في الكلام لأن الكلام من حيث كان للمخاطب كان لفظا ومن حيث للمتكلم كان معنى ثم وقع الفرق بين ضميريهما بالحركة دون الحرف لما تقدم وأما ضمير المخاطب نصبا وجرا فكان كافا دون الياء لأن الياء قد اختص بها المتكلم نصبا وخفضا فو أمكنت فيه الحركات أو وجد ما يقوم مقامها في البدل كما كانت التاء مع الواو اشترك المخاطب مع المتكلم في حال الخفض كما اشترك معه في الباقي حال الرفع فلما لم يكن ذلك ولم يكن بد من حروف تكون علامة إضمار كان الكاف أحق بهذا الموطن لأن المخاطبين وإن اختلف أسماؤهم الظاهرة فكل واحد منهم متكلم ومقصوده في الكلام الذي هو اللفظ ومن أجله احتيج إلى التعبير بالألفاظ عما في النفس فجعل الكلام المبدوء بها في لفظ الكلام علامة إضمار المخاطب ألا تراه لا يقع علامة إضمار له إلا بعد كلام كالفعل والفاعل نحو: أكرمتك لأنهما كلام والفعل وحده ليس كلاما فلذلك لم تكن علامة الضمير كافا إلا بعد كلام من فعل وفاعل أو مبتدأ وخبر فإن قيل: فالمتكلم أيضا هو صاحب الكلام فهو أحق بأن تكون الكاف المأخوذة من لفظ الكلام علامة للاسم قيل: الكاف لفظ فهي أحق بالمخاطب لأن الكلام إنما لفظ به من أجله وأما ضمير الغائب المنفصل فهاء بعدها واو لأن الغائب لما كان مذكورا بالقلب واستغنى عن اسمه الظاهر بتقدمه كانت الهاء التي مخرجها من الصدر قريبا من محل الذكر أولى بأن تكون عبارة على

مذكور بالقلب ولم تكن الهمزة لأنها مجهورة شديدة فكانت أولى بالمتكلم الذي هو أظهر والهاء لخفائها أولى بالغائب الذي هو أخفى وأبطن ثم وصلت بالواو لأنه لفظ يرمز به إلى المخاطب ليعلم ما في النفس من المذكور والرمز بالشفتين والواو مخرجها من هناك فخصت بذلك ثم طردوا أصلهم في ضمير الغائب المنفرد فجعلوه في جميع أحواله هاء إلا في الرفع وإنما فعلوا ذلك لأنهم رأوا الفرق بين الحالات واقعا باختلاف حال الضمير لأنه إذا دخل عليها حرف الجر كسرت الهاء وانقلبت واوه ياء وإذا لم يدخل عليه بقي مضموما على أصله وإذا كان في حال الرفع لم يكن له علامة في اللفظ لأن الاسم الظاهر قبل الفعل علم ظاهر يغني المخاطب عن علامة إضمار في الفعل بخلاف المتكلم والمخاطب لأنك تقول في الغائب زيد قائم فتجد الاسم الذي يعود عليه الضمير موجودا ظاهرا في اللفظ ولا تقول في المتكلم زيد قمت ولا في المخاطب زيد قمت فلما اختلفت أحوال الضمير الغائب لسقوط علامته في الرفع وتغير الهاء بدخول حروف الخفض قام ذلك عندهم مقام علامات الإعراب في الظاهر وما هو بمنزلتها في المضمر كالتاء المبدلة من الواو والياء المثبتة والكسرة والكاف المختصة بالمفعول والمجرور الواقعين بعد الكلام التام ولا يقع بعد الكلام إلا منصوب أو مجرور فكانت الكاف المأخوذة من لفظ الكلام علامة على المنصوب والمجرور إذا كان مخاطبا وأما نحن فضمير منفصل للمتكلمين تثنية وجمعا وخصت بذلك لما لم يمكنهم التثنية والجمع في المتكلم المضمر لأن حقيقة التثنية ضم شيء إلى مثله في اللفظ والجمع ضم شيء إلى أكثر منه مما يماثله في اللفظ فإذا قلت: زيدان فمعناه زيد وزيد وأنتم معناه أنت وأنت والمتكلم لا يمكنه أن يأتي باسم مثنى أو مجموعا في معناه لأنه لا يمكنه أن يقول أنا فيضم إلى نفسه مثله في اللفظ فلما عدم ذلك ولم يكن بد من لفظ يشير إلى ذلك المعنى وإن لم يكنه في الحقيقة جاءوا بكلمة تقع على الإثنين والجمع في هذا الموطن ثم كانت الكلمة آخرها نون وفي أولها إشارة

إلى الأصل المتقدم الذي لم يمكنهم الإتيان به وهو تثنية أنا التي هي بمنزلة عطف اللفظ على مثله فإذا لم يمكنهم ذلك في اللفظ مثنى كانت النون المكررة تنبيها عليه وتلويحا عليه وخصت النون بذلك دون الهمزة لما تقدم من اختصاص ضمير الجمع بالنون وضمير المتكلم بالهمزة ثم جعلوا بين النون حاء ساكنة لقربها من مخرج الألف الموجودة في ضمير المتكلم قبل النون وبعدها ثم بنوها على الضم دون الفتح والكسر إشارة إلى أنه ضمير مرفوع وشاهده ما قلناه في الباب من دلالة الحروف المقطعة على المعاني والرمز بها إليها وقوع ذلك في منثور كلامهم ومنظومه فمنه قلت لها قفي قالت قاف ومنه ألاتا فيقول الآخر ألافا يعني ألا ترتحل فيقول ألا فارحل ومنه: بالخير خيراتا وإن شرافا ... وما أريد الشر إلا أن تشا وكقولهم مهيم في ما هذا يا امرؤ وإيش في أي شيء وم الله في أيمن الله ومن هذا الباب حروف التهجي في أوائل السور وقد رأيت لابن فورك نحو من هذا في اسم الله قال الحكمة في وجود الألف في أوله أنها من أقصى مخارج الصوت قريبا من القلب الذي هو محل المعرفة إليه ثم الهاء في آخره مخرجها من هناك أيضا لأن المبتدأ منه والمعاد إليه والإعادة أهون من الابتداء وكذلك لفظ الهاء أهون من لفظ الهمزة هذا معنى كلامه فلم يقل ما قلناه في المضمرات إلا اقتضابا من أصول أئمة النحاة واستنباطا من قواعد اللغة فتأمل هذه الأسرار ولا يزهدنك فيها نبو طباع أكثر الناس عنها واستغناؤهم بظاهر من الحياة الدنيا عن الفكر والتنبيه عليها فإني لم أفحص عن هذه الأسرار وخفي التعليل في الظواهر والإضمار إلا قصد التفكر والإعتبار في حكمة من {خلق الإنسان علمه البيان} فمتى لاح لك من هذه الأسرار وكشف لك عن مكنونها فكر فاشكر الواهب للنعمى {قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}

فائدة بديعة: الاسم من هذا الذال وحدها دون الألف على أصح القولين بدليل سقوط الألف في التثنية والمؤنث وخصت الذال بهذا الاسم لأنها من طرف اللسان والمبهم مشار إليه فالمتكلم يشير نحوه بلفظه أو بيده ويشير مع ذلك بلسانه فإن الجوارح خدم القلب فإذا ذهب القلب إلى شيء ذهابا معقولا ذهبت الجوارح نحوه ذهابا محسوسا والعمدة في الإشارة في مواطن التخاطب على اللسان ولا يمكن إشارته إلا بحرف يكون مخرجه من عذبة اللسان التي هي آلة الإشارة دون سائر أجزائه فأما الذال أو التاء فالتاء مهموسة رخوة فالمجهور أو الشديد من الحروف أولى منها للبيان والذال مجهورة فخصت بالإشارة إلى المذكر وخصت التاء بالإشارة إلى المؤنث لأجل الفرق وكانت التاء به أولى لهمسها وضعف المؤنث ولأنها قد ثبتت علامة التأنيث في غير هذا الباب ثم بينوا حركة الذال بالألف كما فعلوا في النون من أنا وربما شركوا المؤنث مع المذكر في الذال فاكتفوا بالكسرة فرقا بينهما وربما اكتفوا بمجرد لفظ التاء في الفرق بينهما وربما جمعوا بين لفظ التاء والكسرة حرصا على البيان وأما في المؤنث الغائب فلا بد من لفظ التاء مع الكسرة لأنه أحوج إلى البيان لدلالة المشاهدة على الخاطر فتقول: تيك وربما زادوا اللام توكيدا كما زادوها في المذكر الغائب إلا أنهم سكنوها في المؤنث لئلا تتوالى الكسرات مع التاء وذلك ثقيل عليهم وكانت اللام أولى بهذا الموطن حين أرادوا الإشارة إلى البعيد فكثرت الحروف حين كثرت مسافة هذه الإشارة وقللوها حين قلت لأن اللام قد وجدت في كلامهم توكيدا وهذا

الموطن موطن توكيد وقد وجدت بمعنى الإضافة للشيء وهذا الموطن شبيه بها لأنك إذا أومأت إلى الغائب بالاسم المبهم فأنت مشير إلى من يخاطب ويقبل عليه لينظر إلى من تشير إما بالعين وإما بالقلب وكذلك جئت بكاف الخطاب فكأنك تقول له لك أقول ولك أرمز بهذا الاسم ففي اللام طرف من هذا المعنى كما كان ذلك في الكاف وكما لم يكن الكاف هاهنا اسما مضمرا لم يكن اللام حرف جر وإنما كل منهما طرف من المعنى دون جميعه فلذلك خلعوا من المكان معنى الاسمية وأبقوا فيها معنى الخطاب واللام كذلك إنما اجتلبت لطرف من معناها الذي وضعت له في باب الإضافة وأما دخول هاء التنبيه فلأن المخاطب يحتاج إلى تنبيه على الاسم الذي يشير به إليه لأن للإشارة قرائن حال يحتاج إلى أن ينظر إليها فالمتكلم كأنه آمر له بالالتفات إلى المشار إليه أو منبه له فلذلك اختص هذا الموطن بالتنبيه وقلما يتكلمون به في المبهم الغائب لأن كاف الخطاب يغني عنها مع أن المخاطب مأمور بالالتفات بلحظه إلى المبهم الحاضر فكان التنبيه في أول الكلام أولى بهذا الموطن لأنه بمنزلة الأمر الذي له صدر الكلام وعندي أن حرف التنبيه بمنزلة حرف النداء وسائر حروف المعاني لا يجوز أن تعمل معانيها في الأحوال ولا في الظروف كما لا يعمل معنى الاستفهام والنفي في هل وما في ذلك ولا نعلم حرفا يعمل معناه في الحال والظرف إلا كان وحدها على أنها فعل فدع عنك ما شعبوا به في مسائل الحال في هذا الباب من قولهم هذا قائما زيد وقائما هذا زيد فإنه لا يصلح من ذلك إلا تأخير الحال عن الاسم الذي هو ذا لأن العامل فيه معنى الإشارة دون معنى التنبيه وكلاهما معنوي فإن قيل: لم جاز أن يعمل فيه معنى الإشارة دون معنى التنبيه وكلاهما معنوي قيل: معنى الإشارة تدل عليه قرائن الأحوال من الإيماء باللحظ واللفظ الخارج من طرف اللسان وهيئة المتكلم فقامت تلك الدلالة مقام التصريح بلفظ الإشارة لأن الدال على المعنى إما لفظ وإما إشارة

وإما لحظ فقد جرت الإشارة مجرى اللفظ فلتعمل فيما عمل فيه اللفظ وإن لم تقو قوته في جميع أحكام العمل وأصح من هذا أن يقال معنى الإشارة ليس هو العامل إذ الاسم الذي هو هذا ليس بمشتق من أشار يشير ولو جاز أن تعمل أسماء الإشارة لجاز أن تعمل علامات الإضمار لأنها أيضا إيماء وإشارة إلى مذكور وإنما العامل فعل مضمر تقديره انظر وأبصر لدلالة الحال عليه من التوجه واللفظ وقد قالوا: من الدار مفتوحا بابها فأعملوا في الحال معنى انظر وأبصر ودل عليه التوجه من المتكلم بوجهه نحوها وكذلك: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} وهو قوي في الدلالة لاجتماع اللفظ مع التوجه وإذا ثبت هذا فلا سبيل إلى تقديم الحال لأن العامل المعنوي خفي يدل عليه الدليل اللفظي أو التوجه أو ما شاكله فائدة: العامل في النعت هو العامل في المنعوت وكان سيبويه إلى هذا ذهب حين منع أن يجمع بين نعتين للاسمين إذا اتفق إعرابهما واختلف عاملاهما نحو جاء زيد وهذا عمرو العاقلان وذهب قوم إلى أن العامل في النعت معنوي وهو كونه في معنى الاسم المنعوت فإنما ارتفع أو انتصب من حيث كان هو الأول في المعنى لا من حيث كان الفعل عاملا فيه وكيف يعمل فيه وهو لا يدل عليه إنما يدل على فاعل أو مفعول أو مصدر دلالة واحدة من جهة اللفظ وأما الظروف فمن دليل آخر قال السهيلي وإلى هذا أذهب وليس فيه نقض لما منعه سيبويه من الجمع بين نعتي الاسمين المتفقين في الإعراب إذا اختلف العامل فيهما لأن العامل في النعت وإن كان هو المنعوت فلولا العامل في المنعوت لما صح رفع النعت ولا نصبه فكان الفعل هو العامل في النعت فامتنع اشتراك عاملين في معمول واحد

وإن لم يكونا عاملين فيه في الحقيقة ولكنهما عاملان فيما هو في المعنى وإنما قوي عندنا هذا القول الثاني لوجوه منها امتناع تقديم النعت على المنعوت ولو كان الفعل عاملا فيه لما امتنع أن يليه معموله كما يليه المعمول تارة والفاعل أخرى وكما يليه الحال والظرف ولا يصح أن يليه ما عمل فيه غيره لو قلت: قام زيدا ضاربا تريد ضارب زيدا أو ضربت عمرا رجلا ضاربا تريد ضربت رجلا ضاربا عمرا لم يجز فلا يلي العامل إلا ما عمل فيه فكذلك لا يلي كان إلا ما عملت فيه ولذلك نقول خبر إن المرفوع ليس بمعمول ل إن وإنما هو على أصله في باب المبتدأ والخبر ولولا ذلك لجاز أن يليها وإنما وليها إذا كان مجرورا لأنها ممنوعة من العمل فيه بدخول حرف الجر مع أن المجرور رتبته التأخير فلم يبالوا بتقديمه في اللفظ إذ كان موضعه التأخير ولأن المجرور ليس هو بخبر على الحقيقة وإنما هو متعلق بالخبر والخبر منوي في موضعه أعني بعد الاسم المنصوب بأن فإن قيل: ولعل امتناع النعت من التقديم على المنعوت إنما هو من أجل الضمير الذي فيه والمضمر حقه أن يترتب بعد الاسم الظاهر قلت: هذا ليس بمانع لأن خبر المبتدأ حامل للضمير ويجوز تقديمه ورب مضمر يجوز تقديمه على الظاهر إذا كان موضعه التأخير فإن قيل: ولعل امتناع تقديم النعت إنما وجب من أجل أنه تبيين للمنعوت وتكملة لفائدته فصار كالصلة مع الموصول قلنا هذا باطل لأن الاسم المنعوت يستقل به الكلام ولا يفتقر إلى النعت افتقار الموصول إلى الصلة ومما يبين لك أن الفعل العامل في الاسم لا يعمل في نعته إذ النعت صفة للمنعوت لازمة له قبل وجود الفعل وبعده فلا تأثير للفعل فيه ولا تسلط له عليه وإنما التأثير فيه للاسم المنعوت إذ بسببه يرفع وينصب وإن لم يجز أن تكون الأسماء عوامل في الحقيقة وهذا بخلاف الحال لأنها وإن كانت صفة كالنعت وفيها ضمير يعود إلى الاسم فإنها ليست بصفة لازمة للاسم كالنعت وإنما هي صفة للاسم في حيز وجود الفعل خاصة فالفعل بها الاسم من الاسم فعمل فيه دونه فلما عمل فيها جاز

تقديمها عليه نحو ضاحكا جاء زيد وجاء ضاحكا زيد وتأخيرها بعد الفاعل لأنها كالمفعول يعمل الفعل فيها والنعت بخلاف هذا كله وسنبين بعد هذا إن شاء الله فصلا عجيبا في أن الفعل لا يعمل بنفسه إلا بثلاثة أشياء الفاعل والمفعول به والمصدر أو ما هو صفة لأجل هذه الثلاثة في حيز وقوع الفعل ويخرج من هذا الفصل ظرفا المكان والزمان والنعوت والإبدال والتوكيدات وجميع الأسماء المعمول فيها ونقيم هنالك البراهين القاطعة على صحة هذه الدعوى. فائدة بديعة: حق النكرة إذا جاءت بعدها الصفة أن تكون جارية عليها ليتفق اللفظ وأما نصب الصفة على الحال فيضعف عندهم لاختلاف اللفظ من غير ضرورة وأورد بعض محققي النحاة هذا القول بالقياس والسماع قال أما القياس فكما جاز أن يختلف المعنى في نعت المعرفة والحال كما إذا قلت جاء زيد الكاتب وكاتبا بينهما من الفرق ما تراه فما المانع من الاختلاف كذلك في النكرة إذا قلت مررت برجل كاتب أو كاتبا لأن الحاجة قد تدعو إلى الحال من النكرة كما تدعو إلى الحال من المعرفة ولا فرق وأما السماع فأكثر من أن يحصر فمنه وصلى خلفه رجال قياما وأما نحو وقع أمر فجأة فحال من مصدر وقع لا من أمر وكذلك أقبل رجل مشيا حال من الإقبال وهذا صحيح ولكن الأكثر ما قاله النحاة إيثارا لاتفاق اللفظ ولتقارب ما بين المعنيين في النكرة ولتباعد ما بينهما في المعرفة لأن الصفة في النكرة مجهولة عند المخاطب حالا كانت أو نعتا وهي في المعرفة بخلاف ذلك ولو كانت الحال من النكرة ممتنعة لأجل تنكيرها لما اتفقت العرب على صحتها حالا إذا تقدمت عليها كما أنشده سيبويه لمية موحشا طلل وقوله

وتحت العوالي والقنا مستكنة ... ظباء أعارتها العيون الجآذر فإن قيل: حمل سيبويه وغيره على أن جعلوا موحشا حالا من طلل وقائما حالا من قولك فيها قائما رجل وهو لا يقول بقول الأخفش أن رجلا وطللا فاعل بالاستقرار الذي تعلق به الجار فلو قال بهذا القول كان عذرا له في جعلها حالا منه ولكن الاسم النكرة عنده مبتدأ وخبره في المجرور قبله ولا بد في خبر المبتدأ من ضمير يعود على المبتدأ تقدم الخبر أو تأخر فلم لا تكون هذه الحال من ذلك الضمير ولا تكون من النكرة وما الذي دعاهم إلى هذا قيل هذا سؤال حسن جدا يجب التقصي عنه والاعتناء به فقد كعّ عند أكثر الشارحين للكتاب والمؤلفين في هذا الباب وما رأيت أحدا منهم أشار فيه إلى جواب مقنع وأكثرهم لم ينتبه للسؤال ولا تعرض له والذي أقوله وبالله التوفيق: إن هذه المسألة في النحو بمنزلة مسائل الدور في الفقه ونضرب فيه مثالا فنقول رجل شهد مع آخر في عبد أنه حر فعتق العبد وقبلت شهادته ثم شهد ذلك الرجل مرة أخرى فأريد تجريحه فشهد العبد المعتق فيه بالجرحة فإن قبلت شهادته ثبت جرح الشاهد وبطل العتق وإذا بطل العتق سقطت الشهادة وإن سقطت شهادته لم يصح جرح الشاهد ودارت المسألة وهكذا وكل فرع يؤول إلى إسقاط أصله فهو أولى أن يسقط في نفسه وكذلك مسألة هذا الفصل فإنك إن جعلت الحال من قولك فيها قائما رجل من الضمير لم يصح تقدير المضمر إلا مع تقدير فعل يتضمنه ولا يصح تقدير فعل بعده مبتدأ لأن معنى الابتداء يبطل ويصير المبتدأ فاعلا وإذا صار فاعلا بطل أن يكون في الفعل ضمير لتقدم الفعل على الفاعل وإذا بطل وجود الضمير بطل وجود الحال منه وهذا بديع في النظر فإن قيل: إن المجرور ينوى به التأخير لأن خبر المبتدأ حقه أن يكون مؤخرا قيل: وإذا نويت به التأخير لم يصح وجود الحال مقدمة على المبتدأ لأنها لا تتقدم على عاملها إذا كان معنويا فبطل كون الحال من شيء غير الاسم النكرة الذي هو مبتدأ عند سيبويه وفاعل عند الأخفش وهذا السؤال لا يلزم الأخفش على مذهبه

وإنما يلزمه سيبويه ومن قال بقوله: ولولا الوحشة من مخالفة الإمام أبي بشر لنصرت قول الأخفش نصرا مؤزرا وجلوت مذهبه في منصب التحقيق مفسرا ولكن النفس إلى مذهب سيبويه أميل هذا كلام الفاضل وهو كما ترى كأنه سيل ينحط من صبب قلت: والكلام معه في ثلاثة مقامات أحدها: تحقيق مذهب الأخفش في أن قولك في الدار رجل ارتفاع رجل بالظرف لا بالابتداء والمقام الثاني: أن الحال من النكرة يمتنع أن يكون حالا من الضمير في الظرف والمقام الثالث: الكلام فيما ذكره من الدور في المسألة النحوية وأنه ليس مطابقا للدور في المسألة الفقهية فأما المقام الأول: فاعلم أن الأخفش مذهبه إذا تقدم الظرف على الاسم المرفوع نحو في الدار زيد كان مرفوعا ارتفاع الفاعل بفعله ومذهبه أيضا أن المبتدأ إذا كان نكرة لا يسوغ الابتداء به إلا بتقديم الخبر عليه وجب تقديمه عليه نحو في الدار رجل فإنه نص على هذا وهذا فلا ينبغي أن يبطل أحد كلاميه بالآخر ف في الدار رجل تقديم الظرف عنده واجب وجوب تقديم الخبر على المبتدأ به وعلى هذا فلا ضمير في الظرف بحال لو كان مذهبه أن المسألتين سواء في أن الاسم مرفوع بالظرف لم يلزم سيبويه أن يقول بقوله حتى يجعل الحال من النكرة وذلك أن قولك في الدار رجل ليس في الظرف ضمير فإنه ليس بمشتق ولا يتحمل ضميرا بوجه أقصى ما يقال إن عامله وهو الاستقرار يتضمن الضمير وهذا لا يقتضي رجوع حكم الضمير إلى الظرف حتى ينصب عنه الحال فإنه ليس واقعا موقعه ولا بدل من اللفظ به ألا ترى أنك لو صرحت بالعامل لم تستغن عن الظرف فلو قلت زيد مستقر لم تستغن عن قولك في الدار فعلم أنه إنما حذف حذفا مستقرا لمكان العلم به وليس الظرف نائبا عنه ولا واقعا موقعه ليصح تحمله الضمير فتأمله فإنه من بديع النحو وإذا كان كذلك فلا ضمير في الظرف فينصب عنه الحال بوجه فلم يبق معك ما يصح أن يكون صاحب الحال إلا تلك النكرة الموجودة فلهذا جعل الإمام أبو بشر وأئمة أصحابه الحال منها لا من غيرها وأما المقام الثاني: فاعلم أن

الظرف إذا تقدم وقدرت فيه الضمير صار بمنزلة الفعل العامل فإنه لا يتحمل الضمير إلا وهو بمنزلة الفعل أو ما أشبهه وإذا صار بمنزلة الفعل وهو مقدم وجب أن يتجرد عن الضمير قضاء لحق التشبيه بالفعل وقيامه مقامه فتعدي الضمير فيه ينافي تقديره فإن قيل: إنما قدرنا فيه الضمير الذي كان يستحقه وهو خبر فلما قدم وفيه ما يستحقه من الضمير بخلاف ما إذا كان عاملا محضا قيل فهلا قدرت مثل هذا في زيد قام أنه يجوز أن يقدم قام وتقول قام زيد ويكون مبتدأ وخبرا فلما أجمع النحاة على امتناع ذلك وقالوا لا يجوز تقديم الخبر هنا لأنه لا يعرف هل المسألة من باب الابتداء والخبر أو من باب الفعل والفاعل وكذلك ينبغي في نائب الفعل من الظرف سواء فتأمله وأما المقام الثالث: وهو ما ذكره من الدور فالدور أربعة أقسام دور حكمي ودور علمي ودور معي ودور سبقي تقدمي فالحكمي توقف ثبوت حكمين كل منهما على الآخر من الجهة التي توقف الآخر منها وأخص من هذه العبارة توقف كل من الحكمين على الآخر من جهة واحدة والدور العلمي توقف العلم بكل من المعلومين على العلم بالآخر والإضافي المعي تلازم شيئين في الوجود لا يكون أحدهما إلا مع الآخر والدور السبقي التقدمي توقف وجود كل واحد منهما على سبق الآخر له وهذا المحال والإضافي واقع والدوران الآخران فيهما كلام ليس هذا موضعه وإذا عرف هذا فما ذكره من الصورتين الفقهية والنحوية ليس بدور إذ ليس فيه توقف كل من الشيئين في ثبوته على الآخر فإن قبول شهادة العبد موقوفة على قبول شهادة شاهد عتقه وليس شهادة شاهد العتق موقوفة على شهادته ولذلك تحمل الظرف للضمير موقوف على تقدير فعل يتضمنه وتقدير الفعل غير موقوف على تحمل الظرف للضمير فتأمله وإنما هذا من باب ما يقتضي إثباته إلى إسقاطه فهو من باب الفروع التي لا تعود على أصولها بالإبطال وإذا بطلت أصولها بطلت هي فهي موقوفة على صحة أصولها وصحة أصولها لا تتوقف عليها ولكن وجه الدور في هذا أنها لو أبطلت أصولها لتوقفت صحة أصولها على

عدم إفسادها لها وهي متوقفة على اقتضاء أصولها لها فجاء الدور من هذا الوجه وكذلك نظائره. فائدة: النعت إذا كان تمييزا للمنعوت مثبتا له لم يقطع برفع ولا نصب لأنه من تمامه وإن كان غير تمييز له بل هي من أداة المدح له أو الذم المحض شاع قطعه تكررت النعوت أو لم تتكرر وإنما يشترط تكرر النعوت إذا كانت للتمييز والتبيين فيحصل الأتباع ببعضها ويسوغ قطع الباقي فتفطن لهذه النكتة والذي يدلك على ذلك قول سيبويه سمعت العرب يقولون الحمد لله رب العالمين فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية وفائدة القطع من الأول أنهم إذا أرادوا تجديد مدح أو ذم جددوا الكلام لأن تجديد غير اللفظ الأول دليل على تجدد المعنى وكلما كثرت المعاني وتجدد المدح كان أبلغ. فائدة بديعة: القاعدة أن الشيء لا يعطف على نفسه لأن حروف العطف بمنزلة تكرار العامل لأنك إذا قلت قام زيد وعمرو فهي بمعنى قام زيد وقام عمرو والثاني غير الأول فإذا وجدت مثل قولهم كذبا ومينا فهو لمعنى زائد في اللفظ الثاني وإن خفي عنك ولهذا يبعد جدا أن يجيء في كلامهم جاءني عمر وأبو حفص ورضي الله عن أبي بكر وعتيقه فإن الواو إنما تجمع بين الشيئين لا بين الشيء الواحد فإذا كان في الاسم الثاني فائدة زائدة على معنى الاسم الأول كنت مخيرا في العطف

وتركه فإن عطفت فمن حيث قصدت تعداد الصفات وهي متغايرة وإن لم تعطف فمن حيث كان في كل منهما ضمير هو الأول فعلى الوجه الأول تقول زيد فقيه شاعر كاتب وعلى الثاني فقيه وشاعر وكاتب كأنك عطفت بالواو الكتابة على الشعر وحيث لم تعطف أتبعت الثاني الأول لأنه هو من حيث اتحد الحامل للصفات وأما في أسماء الرب تبارك وتعالى فأكثر ما يجيء في القرآن الكريم بغير عطف نحو السميع العليم العزيز الحكيم الغفور الرحيم الملك القدوس السلام إلى آخرها وجاءت معطوفة في موضعين أحدهما في أربعة أسماء وهي الأول والآخر والظاهر والباطن الحديد 3 والثاني في بعض الصفات بالاسم الموصول مثل قوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} ونظيره: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا} فأما ترك العطف في الغالب فلتناسب معاني تلك الأسماء وقرب بعضها من بعض وشعور الذهن بالثاني منها شعوره بالأول ألا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة انتقل ذهنك منها إلى الرحمة وكذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر وكذلك: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} وأما تلك الأسماء الأربعة فهي ألفاظ متباينة المعاني متضادة الحقائق في أصل موضوعها وهي متفقة المعاني متطابقة في حق الرب تعالى لا يبقى منها معنى بغيره بل هو أول كما أنه آخر وظاهر كما أنه باطن ولا يناقض بعضها بعضا في حقه فكان دخول الواو صرفا لوهم المخاطب قبل التفكر والنظر عن توهم المحال واحتمال الأضداد لأن الشيء لا يكون ظاهرا باطنا من وجه واحد وإنما يكون ذلك باعتبارين فكان العطف هاهنا أحسن من تركه لهذه الحكمة هذا جواب السهيلي وأحسن منه أن يقال لما كانت هذه الألفاظ دالة على معاني متباينة وأن الكمال في الاتصاف بها على تباينها أتى بحرف العطف الدال على التغاير بين المعطوفات إيذانا بأن هذه المعاني مع تباينها فهي ثابتة

للموصوف بها ووجه آخر وهو أحسن منها وهو أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم وتقريره يكون في الكلام متضمنا لنوع مع التأكيد من مزيد التقرير وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة إلى فهم ما نحن فيه إذا كان لرجل مثلا أربع صفات هي عالم وجواد وشجاع وغني وكان المخاطب لا يعلم ذلك أو لا يقر به ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل فإذا قلت: زيد عالم وكان ذهنه استبعد ذلك فتقول وجواد أي وهو مع ذلك جواد فإذا قدرت استبعاده لذلك قلت وشجاع أي وهو مع ذلك شجاع وغني فيكون في العطف مزيد تقرير وتوكيد لا يحصل بدونه تدرأ به توهم الإنكار وإذا عرفت هذا فالوهم قد يعتريه إنكار لاجتماع هذه المقابلات في موصوف واحد فإذا قيل: هو الأول ربما سرى الوهم إلى أن كونه أولا يقتضي أن يكون الآخر غيره لأن الأولية والآخرية من المتضايفات وكذلك الظاهر والباطن إذا قيل هو ظاهر ربما سرى الوهم إلى أن الباطن مقابله فقطع هذا الوهم بحرف العطف الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية فكأنه قيل: هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن لا سواه فتأمل ذلك فإنه من لطيف العربية ودقيقها والذي يوضح لك ذلك أنه إذا كان للبلد مثلا قاض وخطيب وأمير فاجتمعت في رجل حسن أن تقول زيد هو الخطيب والقاضي والأمير وكان للعطف هنا مزية ليست للنعت المجرد فعطف الصفات هاهنا أحسن قطعا لوهم متوهم أن الخطيب غيره وأن الأمير غيره وأما قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ} فعطف في الاسمين الأولين دون الآخرين فقال السهيلي: إنما حسن العطف بين الاسمين الأولين لكونهما من صفات الأفعال" وفعله سبحانه في غيره لا في نفسه فدخل حرف العطف للمغايرة الصحيحة بين المعنيين ولتنزلهما منزلة الجملتين لأنه يريد تنبيه العباد على أنه يفعل هذا ويفعل هذا ليرجوه ويؤملوه" ثم قال: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} بغير واو لأن الشدة راجعة إلى معنى القوة والقدرة وهو معنى خارج عن صفات

الأفعال فصار بمنزلة قوله: {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وكذلك قوله: {ذِي الطَّوْلِ} لأن لفظ ذي عبارة عن ذاته هذا جوابه وهو كما ترى غير شاف ولا كاف فإن شدة عقابه من صفات الأفعال وطوله من صفات الأفعال ولفظة ذي فيه لا تخرجه عن كونه صفة فعل كقوله: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} بل لفظ الوصف بغافر وقابل أدل على الذات من الوصف ب ذي لأنها بمعنى صاحب كذا فالوصف المشتق أدل على الذات من الوصف بها فلم يشف جوابه بل زاد السؤال سؤالا فاعلم أن هذه الجملة مشتملة على ستة أسماء كل اثنين منها قسم فابتدأها بالعزيز العليم وهما اسمان مطلقان وصفتان من صفات ذاته وهما مجردان عن العطف ثم ذكر بعدهما اسمين من صفات أفعاله فأدخل بينهما العاطف ثم ذكر اسمين آخرين بعدهما وجردهما من العاطف فأما الأولان فتجردهما من العاطف لكونهما مفردين صفتين جاريتين على اسم الله وهما متلازمان فتجريدهما عن العطف هو الأصل وهو موافق لبيان ما في الكتاب العزيز من ذلك كالعزيز العليم والسميع البصير والغفور الرحيم وأما: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} فدخل العاطف بينهما لأنهما في معنى الجملتين وإن كانا مفردين لفظا فهما يعطيان معنى يغفر الذنب ويقبل التوب أي هذا شأنه ووصفه في كل وقت فأتى بالاسم الدال على أن هذا وصفه ونعته المتضمن لمعنى الفعل الدال على أنه لا يزال يفعل ذلك فعطف أحدهما على الآخر على نحو عطف الجمل بعضها على بعض ولا كذلك الاسمان الأولان ولما لم يكن الفعل ملحوظا في قوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} إذ لا يحسن وقوع الفعل فيهما وليس في لفظ {ذِي} ما يصاغ منه فعل جرى مجرى المفردين من كل وجه ولم يعطف أحدهما على الآخر كما لم يعطف في العزيز العليم فتأمله فإنه واضح وأما العطف في قوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} فلما كان المقصود الثناء عليه بهذه الأفعال وهي جملة دخلت الواو عاطفة جملة على جملة وإن كانت الجملة مع الموصول في تقدير المفرد فالفعل مراد مقصود والعطف يصير كلا منها جملة مستقلة مقصودة بالذكر بخلاف ما لو أتى بها

في خبر موصول واحد فقيل: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَاداً} {نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} {خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} كانت كلها في حكم جملة واحدة فلما غاير بين الجمل بذكر الاسم الموصول مع كل جملة دل على أن المقصود وصفه بكل من هذه الجمل على حدتها وهذا قريب من باب قطع النعوت والفائدة هنا كالفائدة في ثم وقد تقدمت الإشارة إليها فراجعها بل قطع النعوت إنما كان لأجل هذه الفائدة فذلك المقدر في النعوت المقطوعة لهذا المحقق في النعوت المعطوفة فالحمد لله على ما من وأنعم فإنه ذو الطول والإحسان وقوع الشدة بين رحمتين. تتمة: تأمل كيف وقع الوصف بشديد العقاب بين صفة رحمة قبله وصفة رحمة بعده فقبله {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} وبعده {ذِي الطَّوْلِ} ففي هذا تصديق الحديث الصحيح وشاهد له وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي" رواه البخاري ومسلم وفي لفظ": سبقت غضبي " وقد سبقت صفة الرحمة هنا وغلبت وتأمل كيف افتتح الآية بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} والتنزيل يستلزم علو المنزل من عنده لا تعقل العرب من لغتها بل ولا غيرها من الأمم السليمة الفطرة إلا ذلك وقد أخبر أن تنزيل الكتاب منه فهذا يدل على شيئين أحدهما علوه تعالى على خلقه والثاني أنه هو المتكلم بالكتاب المنزل من عنده لا غيره فإنه أخبر أنه منه وهذا يقتضي أن يكون منه قولا كما أنه منه تنزيلا فإن غيره لو كان هو المتكلم به لكان الكتاب من ذلك الغير فإن الكلام فإنما يضاف إلى المتكلم به ومثل هذا {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} ومثله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} ومثله: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فاستمسك بحرف من في هذه المواضع فإنه يقطع حجج شعب المعتزلة والجهمية وتأمل كيف قال: {تَنْزِيلٌ مِنَ} ولم يقل تنزيله فتضمنت الآية إثبات علوه ومكانه وثبوت الرسالة ثم قال: {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فتضمن هذان الاسمان صفتي القدرة والعلم وخلق أعمال العباد

وحدوث كل ما سوى الله لأن القدرة هي قدرة الله كما قال أحمد بن حنبل: فتضمنت إثبات القدر ولأن عزته تمنع أن يكون في ملكه ما لا يشاؤه أو أن يشاء ما لا يكون فكانت عزته تبطل ذلك وكذلك كمال قدرته توجب أن يكون خالق كل شيء وذلك ينفي أن يكون في العالم شيء قديم لا يتعلق به خلقه لأن كمال قدرته وعزته يبطل ذلك ثم قال: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} والذنب مخالفة شرعه وأمره فتضمن هذان الاسمان إثبات شرعه وإحسانه وفضله ثم قال: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} وهذا جزاؤه للمذنبين وذو الطول جزاؤه للمحسنين فتضمنت الثواب والعقاب ثم قال: {لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فتضمن ذلك التوحيد والمعاد فتضمنت الآيتان إثبات صفة العلو والكلام والقدرة والعلم والقدر وحدوث العالم والثواب والعقاب والتوحيد والمعاد وتنزيل الكتاب منه على لسان رسوله يتضمن الرسالة والنبوة فهذه عشرة قواعد الإسلام والإيمان تجلى على سمعك في هذه الآية العظيمة ولكن خود تزف إلى ضرير مقعد فهل خطر ببالك قط أن هذه الآية تتضمن هذه العلوم والمعارف مع كثرة قراءتك لها وسماعك إياها وهكذا سائر آيات القرآن فما أشدها من حسرة وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه فالله المستعان فائدة جليلة: العامل في المعطوف مقدر في معنى المعطوف عليه وحرف العطف أغنى عن إعادته وناب منابه وإنما قلنا ذلك للقياس والسماع أما القياس فإن ما بعد حرف العطف لا يعمل فيه ما قبله ولا يتعلق به إلا في باب المفعول معه لأنه قد أخذ معموله ولا يقتضي ما بعد حرف العطف ولا يصح تسليطه عليه بوجه فلا نقول

ضربت وعمرا فكيف يقال إن عاملا يعمل في شيء لا يصح مباشرته إياه وأيضا فالنعت هو المنعوت في المعنى ولا واسطة بينه وبين المنعوت ومع ذلك فلا يعمل فيه ما يعمل في المنعوت على القول الذي نصرناه سالفا وهو الصحيح فكيف بالمعطوف الذي هو غير المعطوف عليه من كل وجه وأما السماع فإظهار العامل قبل المعطوف في مثل قوله: "بل بنو النجار إن لنا فيهم قتلى وإن تره" يريد لنا فيهم قتلى وتره وهذا مطرد في سائر حروف العطف ما لم يمنع مانع كما منع في المعطوف على اسم لا يصح انفراده عنه نحو اختصم زيد وعمرو وجلست بين زيد وعمرو فإن الواو هنا تجمع بين الاسمين في العامل فكأنك قلت اختصم هذان واجتمع الرجلان في قولك اجتمع زيد وعمر الواو أصل تنبني عليه فروع ومعرفة هذه الواو أصل تنبني عليه فروع كثيرة فمنها أنك تقول رأيت الذي قام زيد وأخوه على أن تكون الواو جامعة وإن كانت عاطفة لم يجز لأن التقدير يصير قام زيد وقام أخوه فخلت الصلة من العائد ومنها قوله سبحانه: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} غلب المذكر على المؤنث لاجتماعهما ولو قلت: طلع الشمس والقمر لقبح ذلك كما يقبح قام هند وزيد إلا أن تريد الواو الجامعة لا العاطفة وأما في الآية فلا بد أن تكون الواو جامعة ولفظ الفعل يقتضي ذلك وأما الفاء فهي موضوعة للتعقيب وقد تكون للتسبيب والترتيب وهما راجعان إلى معنى التعقيب لأن الثاني بعدهما أبدا إنما يجيء في عقب الأول فالسبب نحو ضربته فبكى والترتيب: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} دخلت الفاء لترتيب اللفظ لأن الهلاك يجب تقديمه في الذكر لأن الاهتمام به أولى وإن كان مجيء البأس قبله في الوجود ومن هذا أن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد بعد ذلك جده دخلت ثم لترتيب الكلام لا لترتيب المعنى في الوجود وهذا معنى قول بعض النحاة: أنها تأتي للترتيب في الخبر لا في المخبر وعندي في الآية تقديران آخران أحسن من هذا أحدهما: أن يكون المراد بالإهلاك إرادة الهلاك وعبر بالفعل عن الإرادة وهو كثير فترتب مجيء البأس على الإرادة ترتب المراد على الإرادة والثاني وهو ألطف أن يكون الترتيب

ترتيب تفصيل على جملة فذكر الإهلاك ثم فصله بنوعين أحدهما مجيء البأس بياتا أي ليلا والثاني مجيئه وقت القائلة وخص هذين الوقتين لأنهما وقت راحتهم وطمأنينتهم فجاءهم بأس الله أسكن ما كانوا وأروحه في وقت طمأنينتهم وسكونهم على عادته سبحانه في أخذ الظالم في وقت بلوغ آماله وكرمه وفرحه وركونه إلى ما هو فيه وكذلك قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} والمقصود أن الترتيب هنا ترتيب التفصيل على الجمل وهو ترتيب علمي لا خارجي فإن الذهن يشعر بالشيء جملة أولا ثم بطلب تفصيله بعد ذلك وأما في الخارج فلم يقع إلا مفصلا فتأمل هذا الموضع الذي خفي على كثير من الناس حتى ظن أن الترتيب في الآية كترتيب الإخبار أي إنا أخبرناكم بهذا قبل هذا وأما قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} فعلى ما ذكرنا من التعبير عن إرادة الفعل بالفعل هذا هو المشهور وفيه وجه ألطف من هذا وهو أن العرب تعبر بالفعل عن ابتداء الشروع فيه تارة وتعبر عن انتهائه تارة فيقولون فعلت عند الشروع وفعلت عند الفراغ وهذا استعمال حقيقي وعلى هذا فيكون معنى قرأت في الآية ابتداء الفعل أي إذا شرعت وأخذت في القراءة فاستعذ فالاستعاذة مرتبة على الشروع الذي هو مبادئ الفعل ومقدمته وطليعته ومنه قوله: "فصلى الصبح حتى طلع الفجر" رواه مسلم والترمذي والنسائي أي أخذ في الصلاة عند طلوعه وأما قوله: "ثم صلاها من الغد بعد أن أسفر " فالصحيح أن المراد به الابتداء وقالت طائفة: المراد الانتهاء منهم السهيلي: وغلطوا في ذلك والحديث صريح في أنه قدمها في اليوم الأول وأخرها في اليوم الثاني ليبين أول الوقت وآخره وقوله في حديث جبريل عليه السلام: "صلى الظهر حين زالت الشمس" هذا ابتداؤها ليس إلا وقوله عليه الصلاة والسلام: "صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله" فذلك مراد به الابتداء وأما قوله: " وصلى الظهر من الغد حين صار ظل الرجل " مثله فقيل المراد به الفراغ منها أي فرغ منها في هذا الوقت وقيل المراد به الابتداء أي أخرها إلى هذا الوقت بيانا لا آخر الوقت

وعلى هذا فتمسك به أصحاب مالك في مسألة الوقت المشترك والكلام في هذه المسائل ليس هذا موضعه فصل: وأما حتى فموضوعة للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها وغاية كل شيء حده لذلك كان لفظها كلفظ الحد فإنها حاء قبل تاءين كما أن الحد جاء قبل دالين والدال كالتاء في المخرج والصفة إلا في الجهر فكانت لجهرها أولى بالاسم لقوته والتاء لهمسها أولى بالحرف لضعفه ومن حيث كانت حتى للغاية خفضوا بها كما يخفضون ب إلى التي للغاية والفرق بينهما: أن حتى غاية لما قبلها وهو منه وما بعد إلى ليس مما قبلها بل عنده انتهى ما قبل الحرف ولذلك فارقتها في أكثر أحكامها ولم تكن إلى عاطفة لانقطاع ما بعدها عما قبلها بخلاف حتى ومن ثم دخلت حتى في حروف العطف ولم يجز دخولها على المضمر المخفوض إذ كانت خافضة لا تقول قام القوم حتاك كما لا تقول قاموا وك ومن حيث كان ما بعدها غاية لما قبلها لم يجز في العطف قام زيد حتى عمرو ولا أكلت خبزا حتى تمرا لأن الثاني ليس بحد للأول ولا ظرف. تنبيه: ليس المراد من كون حتى لانتهاء الغاية وأن ما بعدها ظرفا أن يكون متأخرا في الفعل عما قبلها فإذا قلت مات الناس حتى الأنبياء وقدم الحجاج حتى المشاة لم يلزم تأخر موت الأنبياء عن الناس وتأخر قدوم المشاة عن الحجاج ولهذا قال بعض الناس: إن حتى مثل الواو لا تخالفها إلا في شيئين أحدهما أن يكون المعطوف من قبيل المعطوف عليه فلا تقول قدم الناس حتى الخيل بخلاف الواو

الثاني أن تخالفه بقوة أو ضعف أو كثرة أو قلة وأما أن يفهم منها الغاية والحد فلا والذي حمله على ذلك ما تقدم من المثالين ولكن فاته أن يعلم المراد بكون ما بعدها غاية وظرفا فاعلم أن المراد به أن يكون غاية في المعطوف عليه لا في الفعل فإنه يجب أن يخالفه في الأشد والأضعف والقلة والكثرة وإذا فهمت هذا فالأنبياء غاية للناس في الشرف والفضل والمشاة غاية للحجاج في الضعف والعجز وأنت إذا قلت: أكلت السمكة حتى رأسها فالرأس غاية لانتهاء السمكة وليس المراد أن غاية أكلك كان الرأس بل يجوز أن يتقدم أكلك للرأس وهذا مما أغفله كثير من النحويين لم ينبهوا عليه فائدة: أو وضعت للدلالة على أحد الشيئين المذكورين معها ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث كان الشك ترددا بين أمرين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر لا أنها وضعت للشك فقد تكون في الخبر الذي لا شك فيه إذا أبهمت على المخاطب ولم تقصد أن تبين له كقوله سبحانه: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي أنهم من الكثرة بحيث يقال فيهم هم مائة ألف أو يزيدون فأو دالة على أحد الشيئين إما مائة ألف بمجردها وإما مائة ألف مع زيادة والمخبر في كل هذا لا يشك وقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ذهب في هذه الزجاج كالتي في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} إلى أنها أو التي للإباحة أي أبيح للمخاطبين أن يشبهوا بهذا أو هذا وهذا فاسد فإن أو لم توضع للإباحة في شيء من الكلام ولكنها على بابها أما قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} فإنه تعالى ذكر مثلين مضروبين للمنافقين في حالتين مختلفتين فهم لا يخلون من إحدى الحالتين فأو على بابها

من الدلالة على أحد المعنيين وهذا كما تقول: زيد لا يخلو أن يكون في المسجد أو الدار ذكرت أو لأنك أردت أحد الشيئين وتأمل الآية بما قبلها وافهم المراد منها تجد الأمر كما ذكرت لك وليس المعنى أبحث لكم أن تشبهوهم بهذا وهذا وأما قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} فإنه ذكر قلوبا ولم يذكر قلبا واحدا فهي على الجملة قاسية أو على التعيين لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون كالحجارة وإما أن تكون أشد قسوة ومن هذا قول الشاعر: فقلت لهم شيئان لا بد منهما ... صدور رماح أشرعت أو سلاسل أي لا بد منهما في الجملة ثم فصل الإثنين بالرماح والسلاسل فبعضهم له الرماح قتلا وبعضهم له السلاسل أسرا فهذا على التفصيل والتعيين والأول على الجملة فالأمران واقعان جملة وتفصيلهما بما بعد أو وقد يجوز في قوله تعالى أو أشد قسوة مثل أن يكون مائة ألف أو يزيدون وأما أو التي للتخيير فالأمر فيها ظاهر وأما أو التي زعموا أنها للإباحة نحو جالس الحسن أو ابن سيرين فلم توجد الإباحة من لفظ أو ولا من معناها ولا تكون أو قط للإباحة وإنما أخذت من لفظ الأمر الذي هو للإباحة ويدل على هذا أن القائلين بأنها للإباحة يلزمهم أن يقولوا إنها للوجوب إذا دخلت بين شيئين لا بد من أحدهما نحو قولك للمكفر أطعم عشرة مساكين أو اكسهم فالوجوب هنا لم يوجد من أو وإنما أخذ من الأمر فكذا جالس الحسن أو ابن سيرين. فصل: فقال السهيلي: أصح القولين فيها أنها مركبة من لا وأن وكاف الخطاب في قول الكوفيين قال السهيلي: وما أراها إلا كاف التشبيه لأن المعنى يدل

اعليها إذا قلت: ذهب زيد لكن عمرو مقيم تريد لا ينتقل عمرو فلا لتوكيد النفي عن الأول وأن لا يجاب الفعل الثاني وهو النفي عن الأول لأنك ذكرت الذاهب الذي هو ضده فدل على انتفائه به قلت وفي هذا من التعسف والبعد عن اللغة والمعنى ما لا يخفى وأي حاجة إلى هذا بل هي حرف شرط موضوع للمعنى المفهوم منها ولا تقع إلا بين كلامين متنافيين ومن هنا قال إنها ركبت من لا والكاف وإن إلا أنهم لما حذفوا الهمزة المذكورة كسروا الكاف إشعارا بها ولا بد بعدها من جملة إذا كان الكلام قبلها موجبا شددت نونها أو خففت فإن كان ما قبلها منفيا اكتفيت بالاسم المفرد بعدها إذا خففت النون منها لعلم المخاطب أنه لا يضاد النفي إلا الإيجاب فلما اكتفيت باسم مفرد وكانت إذا خففت نونها لا تعمل صارت كحروف العطف فألحقوها بها لأنهم حين استغنوا عن خبرها بما تقدم من الدلالة كان إجراء ما بعدها على ما قبلها أولى وأحرى ليتفق اللفظ كما اتفق المعنى فإن قيل: أليس مضادة النفي للوجوب بمثابة مضادة الوجوب للنفي وهي في كل حال لا تقع إلا بين كلامين متضادين فلم قالوا ما قام زيد لكن قام عمرو اكتفاء بدلالة النفي على نقيضه وهو الوجوب ولم يقولوا قام زيد لكن قام عمرو اكتفاء بدلالة الوجوب على نقيضه من النفي قيل إن الفعل الموجب قد تكون له معان تضاده وتناقض وجوده كالعلم فإنه يناقض وجود الشك والظن والغفلة والموت وأخص أضداده به الجهل فلو قلت قد علمت الخبر لكن زيد لم يدر ما أضفت إلى زيد أظن أم شك أم غفلة أم جهل فلم يكن بد من جملة قائمة بنفسها ليعلم ما تريد فإذا تقدم النفي نحو قولك ما علمت الخبر لكن زيد اكتفى باسم واحد لعلم المخاطب أنه لا يضاد نفي العلم إلا وجوده لأن النفي مشتمل على جميع أضداده المنافية للعلم فإن قيل: فلما إذا خففت وجب إلغاؤها بخلاف إن وأن وكأن فإنه يجوز فيها الوجهان مع التخفيف كما قال: كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم قيل: زعم أبو علي الفارسي أن القياس فيهن كلهن الإلغاء إذا خففهن فلذلك ألزموا لكن إذا خففت الإلغاء تنبيها على أن ذلك

هو الأصل في جميع الباب وهذا القول مع ما يلزم عليه من الضعف والوهن ينكسر عليه بأخواتها فيقال له فلم خصت لكن بذلك دون أن وإن ولا جواب له عن هذا قال السهيلي: وإنما الجواب عن ذلك أنها لما ركبت من لا وإن ثم حذفت الهمزة اكتفاء بكسر الكاف بقي عمل إن لبقاء العلة الموجبة للعمل وهي فتح آخرها وبذلك ضارعت الفعل فلما حذفت النون المفتوحة وقد ذهبت الهمزة للتركيب ولم يبق إلا النون الساكنة وجب إبطال حكم العمل بذهاب طرفها وارتفاع علة المضارعة للفعل بخلاف أخواتها إذا خففن فإن معظم لفظها باق فجاز أن يبقى حكمها على أن الأستاذ أبا القاسم الرماني قد حكى رواية عن يونس: أنه حكى الإعمال في لكن مع تخفيفها وكان يستغرب هذه الرواية واعلم أن لكن لا تكون حرف عطف مع دخول الواو عليها لأنه لا يجتمع حرفان من حروف العطف فمتى رأيت حرفا من حروف العطف مع الواو فالواو هي العاطفة دونه فمن ذلك إما إذا قلت إما زيد وإما عمرو وكذلك لا إذا قلت: ما قام زيد ولا عمرو ودخلت لا لتوكيد النفي ولئلا يتوهم أن الواو جامعة وأنك نفيت قيامهما في وقت واحد ولا تكون لا عاطفة إلا بعد إيجاب وشرط آخر وهو أن يكون الكلام قبلها يتضمن بمفهوم الخطاب نفي الفعل عما بعدها كقولك جاءني رجل لا امرأة ورجل عالم لا رجل جاهل ولو قلت مررت برجل لا زيد لم يجز وكذلك مررت برجل لا عاقل لأنه ليس في مفهوم الكلام ما ينفي الفعل عن الثاني وهي لا تدخل إلا لتوكيد نفي فإن أردت ذلك المعنى جئت بلفظ غير فتقول مررت برجل غير زيد ورجل غير عالم ولا تقول برجل غير امرأة ولا بطويل غير قصير لأن في مفهوم الخطاب ما يغنيك عن مفهوم النفي الذي في غير وذلك المعنى الذي دل عليه المفهوم حتى قلت بطويل لا قصير وأما إذا كانا اسمين معرفين نحو مررت بزيد لا عمرو فجائز هنا دخول غير لجمود الاسم العلم فإنه ليس له مفهوم خطاب عند الأصوليين بخلاف الأسماء المشتقة وما جرى مجراها كرجل فإنه

بمنزلة قولك ذكر ولذلك دل بمفهومه على انتقال الخبر عن المرأة ويجوز أيضا مررت بزيد لا عمرو لأنه اسم مخصوص بشخص وكأنه حين خصصته بالذكر نفيت المرور عن عمرو ثم أكدت ذلك النفي ب لا وأما الكلام المنفي فلا يعطف عليه ب لا لأن نفيك الفعل عن زيد إذا قلت ما قام زيد لا يفهم منه نفيه عن عمرو فيؤكد ب لا فإن قلت أكد بها النفي المتقدم قيل لك وأي شيء يكون حينئذ إعراب عمرو وهو اسم مفرد ولم يدخل عليه عاطف يعطف على ما قبله فهذا لا يجوز إلا أن تجعله مبتدأ وتأتي بخبر فتقول ما قام زيد ولا عمرو وهو القائم أما إن أردت تشريكهما في النفي فلا بد من الواو إما وحدها وإما مع لا فلا تكون الواو عاطفة ومعها لا وأما قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فإن معنى النفي موجود في غير فإن قيل: فهلا قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قيل في ذكر غير بيان للفضلة للذين أنعم عليهم وتحصيله لنفي صفة الضلال والغضب عنهم وأنهم الذين أنعم عليهم بالنبوة والهدى دون غيرهم ولو قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين لم يكن في ذلك إلا تأكيد نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما تقول هذا غلام زيد لا عمرو أكدت نفي الإضافة عن عمرو بخلاف قولك هذا غلام الفقيه غير الفاسق ولا الخبيث وكأنك جمعت بين إضافة الغلام إلى الفقيه دون غيره وهي نفي الصفة المذمومة عن الفقيه فافهمه فإن قيل: وأي شيء أكدت لا حتى أدخلت عليها الواو وقد قلت إنها لا تؤكد المنفي المتقدم وإنما تؤكد نصبا يدل عليه اختصاص الفعل الواجب بوصف ما كقولك جاءني رجل عالم لا جاهل فالجواب أنك حين قلت ما جاءني زيد لم يدل الكلام على نفي المجيء عن عمرو كما تقدم فلما عطفت بالواو دل الكلام على انتفاء الفعل عن عمرو كما انتفى عن الأول لقيام الواو مقام تكرار حرف النفي فدخلت لا لتوكيد النفي عن الثاني.

فائدة بديعة: أم تكون على ضربين متصلة وهي المعادلة لهمزة الاستفهام وإنما جعلوها معادلة للهمزة دون هل ومتى وكيف لأن الهمزة هي أم الباب والسؤال بها استفهام بسيط مطلق غير مقيد بوقت ولا حال والسؤال بغيرها استفهام مركب مقيد إما بوقت ك متى وإما بمكان ك أين وإما بحال نحو كيف وإما بنسبة نحو هل زيد عندك ولهذا لا يقال كيف زيد أم عمرو ولا أين زيد أم عمرو ولا من زيد أم عمرو وأيضا فلأن الهمزة وأم يصطحبان كثيرا كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} ونحو قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ} وأيضا فلأن اقتران أم بسائر أدوات النفي غير الهمزة يفسد معناها فإنك إذا قلت كيف زيد فأنت سائل عن حاله فإذا قلت أم عمرو كان خلفا من الكلام وكذلك إذا قلت من عندك فأنت سائل عن تعيينه فإذا قلت أم عمرو فسد الكلام وكذلك الباقي وأيضا فإنما عادلت الهمزة دون غيرها لأن الهمزة من بين حروف الاستفهام تكون للتقرير والإثبات نحو ألم أحسن إليك فإذا قلت أعندك زيد أم عمرو فأنت مقر بأن أحدهما عنده ومثبت لذلك وطالب تعيينه فأتوا بالهمزة التي تكون للتقرير دون هل التي لا تكون لذلك إنما يستقبل بها الاستفهام استقبالا "وسر المسألة" أن أم هذه مشربة معنى أي فإذا قلت أزيد عندك أم عمرو كأنك قلت أي هذين عندك ولذلك تعين الجواب بأحدهما أو بنفيهما أو بإثباتهما ولو قلت نعم أو لا كان خلفا من الكلام وهذا بخلاف أو فإنك إذا قلت أزيد عندك أم عمرو كنت سائلا عن كون أحدهما عنده بخبر معين فكأنك قلت أعندك أحدهما فيتعين الجواب ب نعم أو لا وتفصيل ذلك أن السؤال على أربع مراتب في هذا الباب الأول:

السؤال بالهمزة منفردة نحو: أعندك شيء مما يحتاج إليه فتقول نعم فينتقل إلى المرتبة الثانية: فتقول ما هو فتقول متاع فينتقل إلى المرتبة الثالثة: بأي فتقول أي متاع فتقول ثياب فتنتقل إلى المرتبة الرابعة: فتقول أكتان هي أم قطن أم صوف وهذه أخص المراتب وأشدها طلبا التعيين فلا يحسن الجواب إلا بالتعيين وأشدها إبهاما السؤال الأول لأنه لم يدع فيه أن عنده شيئا ثم الثاني أقل إبهاما منه لأن فيه ادعاء شيء عنده وطلب ماهيته ثم الثالث أقل إبهاما وهو السؤال ب أي لأن فيه طلب تعيين ما عرف حقيقته ثم السؤال الرابع بأم أخص من ذلك كله لأن فيه طلب تعيين فرد من أفراد قد عرفها وميزها والثالث إنما فيه تعيين جنس عن غيره ولا بد في أم هذه من ثلاثة أمور تكون بها متصلة أحدها أن تعادل بهمزة الاستفهام الثاني أن يكون السائل عنده علم أحدها دون تعيينه الثالث أن لا يكون بعدها جملة من مبتدأ وخبر نحو قولك أزيد عندك أم عندك عمرو فقولك أم عندك عمرو يقتضي أن تكون منفصلة بخلاف ما إذا قلت أزيد عندك أم عمرو فإذا وقعت الجملة بعدها فعلية لم تخرجها عن الاتصال نحو أعطيت زيدا أم حرمته "وسر ذلك كله" أن السؤال قام عن تعيين أحد الأمرين أو للأمر فإذا قلت أزيد عندك أم عمرو كأنك قلت أيهما عندك وإذا قلت أزيد عندك أم عندك عمرو كان كل واحد منهما جملة مستقلة بنفسها وأنت سائل هل عنده زيد أو لا ثم استأنفت سؤالا آخر هل عندك عمرو أم لا فتأمله فإنه من دقيق النحو وفقهه ولذلك سميت متصلة لاتصال ما بعدها بما قبلها وكونه كلاما واحدا وفي السؤال بها معادلة وتسوية فأما المعادلة فهي بين الاسمين أو الفعلين لأنك جعلت الثاني عديل الأول في وقوع الألف على الأول وأم على الثاني وأما التسوية فإن الشيئين المسئول عن تعيين أحدهما مستويان في علم السائل وعلى هذا فقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} هو على التقرير والتوبيخ والمعنى أي المخلوقين أشد خلقا وأعظم ومثله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} فإن قيل: هذا

ينقض ما أصلتموه فإنكم ادعيتم أنها إنما يسأل بها عن تعيين ما علم وقوعه وهنا لا خير فيهم ولا في قوم تبع قيل: هذا لا ينقض ما ذكرناه بل يشده ويقويه فإن مثل هذا الكلام يخرج خطابا على تقرير دعوى المخاطب وظنه أن هناك خيرا ثم يدعي أنه هو ذلك المفصل فيخرج الكلام معه والتقريع والتوبيخ على زعمه وظنه أي ليس الأمر كما زعمتم وهذا كما تعاقب شخصا على ذنب لم يفعله مثله وتدعي أنك لا تعاقبه فتقول أنت خير أم فلان وقد عاقبته بهذا الذنب ولست خيرا منه. فصل: وأما أم التي للإضراب وهي المنقطعة فإنها قد تكون أم إضرابا ولكن ليس بمنزلة بل كما زعم بعضهم ولكن إذا مضى كلامك على اليقين ثم أدركك الشك مثل قولهم إنها لأبل أم شاء كأنك أضربت عن اليقين ورجعت إلى الاستفهام حين أدركك الشك ونظيره قول الزباء: عسى الغوير أبؤسا فتكلمت بعسى الغوير ثم أدركها اليقين فختمت كلامها بحكم ما غلب على ظنها لا بحكم عسى لأن عسى لا يكون خبرها اسما عن حدث فكأنها لما قالت عسى الغوير قالته متوقعة شرا تريد الإخبار بفعل مستقبل متوقع كما تقتضيه عسى ثم هجم عليها اليقين فعدلت إلى الإخبار باسم حدث يقتضي جملة ثبوتية محققة فكأنها قالت أصار الغوير أبؤسا فابتدأت كلامها على الشك ثم ختمته بما يقتضي اليقين والتحقيق فكذا أم إذا قلت إنها لأبل ابتدأت كلامك باليقين والجزم ثم أدركك الشك في أثنائه فأتيت ب أم الدالة على الشك فهو عكس طريقه عسى الغوير أبؤسا ولذلك قدرت ب بل لدلالتها على الإضراب فإنك أضربت عن الخبر الأول إلى الاستفهام والشك فإنك أخبرت أولا عما توهمت ثم أدركك الشك فأضربت

عن ذلك الإخبار وإذا وقع بعد أم هذه الاسم المفرد فلا بد من تقدير مبتدأ محذوف وهمزة استفهام فإذا قلت إنها لإبل أم شاء كان تقديره لإبل أهي شاء وليس الثاني خبرا ثبوتيا كما توهمه بعضهم وهو من أقبح الغلط والدليل عليه قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} فهذا ونحوه يدلك على أن الكلام بعدها استفهام محض وأنه لا يقدر ب بل وحدها ولا يقدر أيضا ب الهمزة وحدها إذ لو قدر بالهمزة وحدها لم يكن بينه وبين الأول علاقة لأن الأول خبر وأم المقدرة بالهمزة وحدها لا تكون إلا بعد استفهام فتأمله رحمك الله تعالى هذا شرح كلام النحاة وتقريره في هذا الحرف والحق أن يقال إنها على بابها وأصلها الأول من المعادلة والاستفهام حيث وقعت وإن لم يكن قبلها أداة استفهام في اللفظ وتقديرها ب بل والهمزة خارج عن أصول اللغة العربية فإن أم للاستفهام وبل للإضراب ويا بعد ما بينهما والحروف لا يقوم بعضها مقام بعض على أصح الطريقتين وهي طريقة إمام الصناعة والمحققين من أتباعه ولو قدر قيام بعضها مقام بعض فهو فيما تقارب معناهما كمعنى على وفي ومعنى إلى ومع ونظائر ذلك وأما في مالا جامع بينهما فلا ومن هنا كان زعم من زعم أن لا قد تأتي بمعنى الواو باطلا لبعد ما بين معنييهما وكذلك أو بمعنى الواو فأين معنى الجمع بين الشيئين إلى معنى الإثبات لأحدهما وكذلك مسألتنا أين معنى أم من معنى بل فاسمع الآن فقه المسألة وسرها إعلم أن ورود أم هذه على قسمين أحدهما: ما تقدمه استفهام صريح بالهمزة وحكمها ما تقدم وهو الأصل فيها والأخية التي يرجع إليها ما خرج عن ذلك كله والثاني: ورودها مبتدأة مجردة من استفهام لفظي

سابق عليها نحو قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ} {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} وهو كثير جدا تجد فيه أم مبتدءا بها ليس قبلها استفهام في اللفظ وليس هذا استفهام استعلام بل تقريع وتوبيخ وإنكار وليس بإخبار فهو إذا متضمن لاستفهام سابق مدلول عليه بقوة الكلام وسياقه ودلت أم عليه لأنها لا تكون إلا بعد تقدم استفهام كأنه يقول أيقولون صادق أم يقولون شاعر وكذلك أم يقولون تقوله أي أتصدقونه أم تقولون تقوله وكذلك {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} أي أبلغك خبرهم أم حسبت أنهم كانوا من آياتنا عجبا وتأمل كيف تجد هذا المعنى باديا على صفحات قوله تعالى: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} كيف تجد المعنى أحضر أم كان من الغائبين وهذا يظهر كل الظهور فيما إذا كان الذي دخلت عليه أم له ضد وقد حصل التردد بينهما فإذا ذكر أحدهما استغني به عن ذكر الآخر لأن الضد يخطر بالقلب وهو عند شعوره بضده فإذا قلت: ما لي لا أرى زيدا أم هو في الأموات كان المعنى الذي لا معنى للكلام سواه أحي هو أم في الأموات وكذلك قوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} معناه أهو خير مني أم أنا خير منه وكذلك قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} هو استفهام إنكار معادل لاستفهام مقدر في قوة الكلام فإذا قلت لم فعلت هذا أم حسبت أن لا أعاقبك كان معناه أحسبت أن أعاقبك فأقدمت على العقوبة أم حسبت أني لا أعاقبك فجهلتها وكذلك قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة بغير جهاد فتكونوا جاهلين أم لم تحسبوا ذلك فتكونوا مفرطين وكذلك إذا قلت أم حسبت أن تنال العلم بغير جد

واجتهاد معناه أحسبت أن تناله بالبطالة والهوينا فأنت جاهل أم لم تحسب ذلك فأنت مفرط وكذلك: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي أحسبوا هذا فهم مغترون أم لم يحسبوه فما لهم مقيمون على السيئات وعلى هذا سائر ما يرد عليك من هذا الباب وتأمل كيف يذكر سبحانه القسم الذي يظنونه ويزعمونه فينكره عليهم وأنه مما لا ينبغي أن يكون ويترك ذكر القسم الآخر الذي لا يذهبون إليه فتردد الكلام بين قسمين فيصرح بإنكار أحدهما وهو الذي سيق لإنكاره ويكتفي منه بذكر الآخر وهذه طريقة بديعة عجيبة في القرآن نذكرها في باب الأمثال وغيرها وهي من باب الإكتفاء عن غير الأهم بذكر الأهم لدلالته عليه فأحدهما مذكور صريحا والآخر ضمنا ولذلك أمثلة في القرآن يحذف منها الشيء للعلم بموضعه فمنها قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا} {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} {وَإِذْ فَرَقْنَا} وهو كثير جدا بواو العطف من غير ذكر عامل يعمل في إذ لأن الكلام في سياق تعداد النعم وتكرار الأقاصيص فيشير بالواو العاطفة إليها كأنها مذكورة في اللفظ لعلم المخاطب بالمراد ولما خفي هذا على بعض ظاهرية النحاة قال إن أو زائدة هنا وليس كذلك ومن هذا الباب الواو المتضمنة معنى رب فإنك تجدها في أول الكلام كثيرا إشارة منهم إلى تعداد المذكور بعدها من فخر أو مدح أو غير ذلك فهذه كلها معان مضمرة في النفس وهذه الحروف عاطفة عليها وربما صرحوا بذلك المضمر كقول ابن مسعود: "دع ما في نفسك وإن أفتوك عنه وأفتوك" ومن هذا الباب حذف كثير من الأجوبة في القرآن لدلالة الواو عليها لعلم المخاطب أن الواو عاطفة ولا يعطف بها إلا على شيء كقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} وكقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وهذا الباب واسع في اللغة فهذا ما في هذه المسألة وكان قد وقع لي هذا بعينه أمام المقام بمكة وكان يجول في نفسي فأضرب عنه صفحا لأني لم أره في مباحث القوم

ثم رأيته بعد لفاضلين من النحاة أحدهما حام حوله وما ورد ولا أعرف اسمه والثاني أبو القاسم السهيلي رحمه الله فإنه كشفه وصرح به وإذا لاحت الحقائق فكن أسعد الناس بها وإن جفاها الأغمار والله الموفق للصواب فائدة بديعة: لا يجوز إضمار حرف العطف خلافا للفارسي ومن تبعه لأن الحروف أدلة على معان في نفس المتكلم فلو أضمرت لاحتاج المخاطب إلى وحي يسفر له عما في نفس مكلمه وحكم حروف العطف في هذا حكم حروف النفي والتوكيد والترجي والتمني وغيرها اللهم إلا أن حروف الاستفهام قد يسوغ إضمارها في بعض المواطن لأن للمستفهم هيئة تخالف هيئة المخبر وهذا على قلته فإن قيل: فكيف تصنعون بقول الشاعر: كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يثبت الود في فؤاد الكريم أليس على إضمار حرف العطف وأصله كيف أصبحت وكيف أمسيت قيل ليس كذلك وليس حرف العطف مرادا هنا البتة ولو كان مرادا لانتقض الغرض الذي أراده الشاعر لأنه لم يرد انحصار الود في هاتين الكلمتين من غير مواظبة عليهما بل أراد أن تكرار هاتين الكلمتين دائما يثبت المودة ولولا حذف الواو لانحصر إثبات الود في هاتين الكلمتين من غير مواظبة ولا استمرار عليها ولم يرد الشاعر ذلك وإنما أراد أن يجعل أول الكلام ترجمة على سائر الباب يريد الاستمرار على هذا الكلام والمواظبة عليه كما تقول قرأت ألفا باء جمعت هذه الحروف ترجمة لسائر الباب وعنوانا للغرض المقصود ولو قلت قرأت ألفا وباء لأشعرت بانقضاء المقروء حيث عطفت الباء على الألف دون ما بعدها فكان

مفهوم الخطاب أنك لم تقرأ غير هذين الحرفين وأحسن من هذا أن يقال دخول الواو هنا يفسد المعنى لأن المراد أن هذا اللفظ وحده يثبت الود وهذا وحده يثبته بحسب اللقاء فأيهما وجد مقتضيه وواظب عليه أثبت الود ولو أدخل الواو لكان لا يثبت الود إلا باللفظين معا ونظير هذا أن تقول أطعم فلانا شيئا فيقول ما أطعمه فيقول أطعمه تمرا أقطا زبيبا لحما لم ترد جمع ذلك بل أردت أطعمه واحدا من هذه أيهما تيسر ومنه الحديث الصحيح المرفوع "تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره " رواه مسلم والنسائي وأحمد ومنه قول عمر: "صلى رجل في إزاء ورداء في سراويل ورداء في تبان" ورداء الحديث يتعين ترك العطف في هذا كله لا المراد الجمع فإن قيل: فما تقولون في قولهم اضرب زيدا عمرا خالدا أليس على حذف الواو قيل ليس كذلك إذ لو كان على تقدير الواو لاختص الأمر بالمذكورين ولم يعدهم إلى سواهم وإنما المراد الإشارة بهم إلى غيرهم ومنه قولهم بوبت الكتاب بابا بابا وقسمت المال درهما درهما وليس على إضمار حرف العطف ولو كان كذلك لانحصر الأمر في درهمين وبابين وأما ما احتجوا به من قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} والذي دعاهم إلى ذلك أن جواب إذا هو قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} ولم يكن عندك ما تحملهم عليه تولوا يبكون فيكون الواو في قلت مقدرة لأنها معطوفة على فعل الشرط وهو أتوك هذا تقرير احتجاجهم ولا حجة فيه لأنه جواب إذا في قوله قلت لا أجد والمعنى إذا أتوك لتحملهم لم يكن عندك ما تحملهم عليه فعبر عن هذا بقوله قلت لا أجد ما أحملكم عليه لنكتة بديعة وهي الإشارة إلى تصديقهم له وأنهم اكتفوا من علمهم بعدم الإمكان بمجرد إخباره لهم بقوله: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} بخلاف ما لو قيل لم يجدوا عندك ما تحملهم عليه فإنه يكون تبيين حزنهم

خارجا عن إخباره وكذلك لو قيل لم تجد ما تحملهم عليه لم يؤد هذا المعنى فتأمله فإنه بديع فإن قيل فبأي شيء يرتبط قوله تولوا وأعينهم تفيض وهذا عطف على ما قبله فإنه ليس بمستأنف فالجواب أن ترك العطف هنا من بديع الكلام لشدة ارتباطه بما قبله ووقوعه منه موقع التفسير حتى كأنه هو وتأمل مثل هذا في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} كيف لم يعطف فعل القول بأداة عطف لأنه كالتفسير لتعجبهم والبدل من قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} فجرى مجرى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} فلما كان مضاعفة العذاب بدلا وتفسيرا ل أثاما لم يحسن عطفه عليه وزعم بعض الناس أن من هذا الباب قول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فقال: المعنى أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس الأمر كذلك ولكن قوله حب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدل من قوله هذه وهو من بدل الاشتمال والمعنى لا يغرنك حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه التي قد أعجبها حسنها ولا عطف هناك ولا حذف وهذا واضح بحمد الله. فائدة بديعة: "كل" لفظ دال على الإحاطة بالشيء وكأنه من لفظ الإكليل والكلالة والكلة مما هو في معنى الإحاطة بالشيء وهو اسم واحد في لفظه جمع في معناه ولو لم يكن معناه معنى الجمع لما جاز أن يؤكد به الجمع لأن التوكيد تكرار للمؤكد فلا يكون إلا مثله إن كان جمعا فجمع وإن كان واحدا فواحد وحقه أن يكون مضافا

إلى اسم منكر شائع في الجنس من حيث اقتضى الإحاطة فإن أضفته إلى معرفة كقولك كل إخوتك ذاهب قبح إلا في الابتداء لأنه إذا كان مبتدأ في هذا الموطن كان خبره بلفظ الإفراد تنبيها على أن أصله أن يضاف إلى نكرة لأن النكرة شائعة في الجنس وهو أيضا يطلب جنسا يحيط به فإما أن تقول كل واحد من إخوتك ذاهب فيدل إفراد الخبر على المعنى الذي هو الأصل وهو إضافته إلى اسم مفرد نكرة فإن لم تجعله مبتدأ وأضفته إلى جملة معرفة كقولك رأيت كل إخوتك وضربت كل القوم لم يكن في الحسن بمنزلة ما قبله لأنك لم تضفه إلى جنس ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس كما كان في قولهم كلهم ذاهب وكل القوم عاقل فإن أضفته إلى جنس معرف باللام نحو قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} حسن ذلك لأن اللام للجنس لا للعهد ولو كانت للعهد لقبح كما إذا قلت خذ من كل الثمرات التي عندك لأنها إذا كانت جملة معرفة معهودة وأردت معنى الإحاطة فيها فالأحسن أن تأتي بالكلام على أصله فتؤكد المعرفة ب كل فتقول خذ من الثمرات التي عندك كلها لأنك لم تضطر عن إخراجها عن التوكيد كما اضطررت في النكرة حين قلت لقيت كل رجل لأن النكرة لا تؤكد وهي أيضا شائعة في الجنس كما تقدم فإن قيل: فإذا استوى الأمران كقولك كل من كل الثمرات وكل من الثمرات كلها فلم اختص أحد النظمين بالقرآن في موضع دون موضع قيل: هذا لا يلزم لأن كل واحد منه فصيح ولكن لا بد من فائدة في الاختصاص أما قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فمن هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف وإنما تريد الثمرات نفسها إلا أنه أخرج منها شيئا وأدخل من لبيان الجنس كله ولو قال أخرجنا به من الثمرات كلها لذهب الوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف وأن مفعول أخرجنا فيما بعد ولم يتوهم ذلك مع تقديم كل لعلم المخاطبين أن كلا إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس وإذا تأخرت وكانت توكيدا اقتضت

الإحاطة بالمؤكد خاصة جنسا شائعا كان أو معهودا معروفا وأما قوله تعالى: {كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ولم يقل من الثمرات كلها ففيها الحكمة التي في الآية قبلها ومزيد فائدة وهو أنه تقدمها في النظم قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ} فلو قال بعدها كلي من الثمرات كلها لذهب الوهم إلى أنه يريد الثمرات المذكورة قبل هذا أعني ثمرات النخيل والأعناب لأن اللام إنما تنصرف إلى المعهود فكان الابتداء بكل أحصن للمعنى وأجمع للجنس وأرفع للبس وأبدع في النظم فتأمله وإذا قطعت عن الإضافة وأخذ عنها فحقها أن تكون ابتداء ويكون خبرها جمعا ولا بد من مذكورين قبلها لأنها إن لم تذكر قبلها جملة ولا أضيف إلى جملة بطل معنى الإحاطة فيها ولم يعقل لها معنى وإنما وجب أن يكون خبرها جمعا لأنها اسم في معنى الجمع فتقول كل ذاهبون إذا تقدم ذكر قوم لأنك معتمد في المعنى عليهم وإن كنت مخبرا عن كل فصارت بمنزلة قولك الرهط ذاهبون والنفر منطلقون لأن الرهط والنفر اسمان مفردان ولكنهما في معنى الجمع والشاهد لما بيناه قوله سبحانه: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} {وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} وإن كانت مضافة إلى ما بعدها في اللفظ لم تجد خبرها إلا مفردا للحكمة التي قدمتها قبل وهي أن الأصل إضافتها إلى النكرة المفردة فتقول كل إخوتك ذاهب أي كل واحد منهم ذاهب ولم يلزم ذلك حين قطعتها عن الإضافة فقلت كل ذاهبون لأن اعتمادها إذا أفردت على المذكورين قبلها وعلى ما في معناها من معنى الجمع واعتمادها إذا أضيفتها على الاسم المفرد إما لفظا وإما تقديرا كقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " رواه البخاري ومسلم ولم يقل راعون ومسئولون ومنه كلكم سيروى ومنه قول عمر: "أو كلكم يجد ثوبين" ولم يقل تجدون ومثله قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وقال تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فجمع وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فإن قيل: فقد ورد في القرآن {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} وهذا يناقض ما أصلتم

قيل: إن في هاتين الآيتين قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ دون غيره أما قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} فلأن قبلها ذكر فريقين مختلفين ذكر مؤمنين وظالمين فلو قال: يعملون وجمعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الاختلاف فكان لفظ الإفراد أدل على المعنى المراد كأنه يقول: كل فهو يعمل على شاكلته وأما قوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} فلأنه ذكر قرونا وأمما وختم ذكرهم بذكر قوم تبع فلو قال كل كذبوا وكل إذا أفردت إنما تعتمد على أقرب المذكورين إليها فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تبع خاصة بأنهم كذبوا الرسل فلما قال: {كُلٌّ كَذَّبَ} علم أنه يريد كل فريق منهم لأن إفراد الخبر عن كل حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى كما تقدم ومثله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} وأما قولنا: في كل إذا كانت مقطوعة عن الإضافة فحقها أن تكون مبتدأة فإنما يريد أنها مبتدأة يخبر عنها أو مبتدأة باللفظ منصوبة بفعل بعدها لا قبلها أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعدها نحو: {وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وقول الشاعر: بكل تداوينا ويقبح تقديم الفعل العامل فيها إذا كانت مفردة كقولك ضربت كلا ومررت بكل وإن لم يقبح كلا ضربت وبكل مررت من أجل أن تقديم العامل عليها يقطعها عن المذكور قبلها في اللفظ لأن العامل اللفظي له صدر الكلام وإذا قطعتها عما قبلها في اللفظ لم يكن لها شيء تعتمد عليه قبلها ولا بعدها فقبح ذلك وأما إذا كان العامل معنويا نحو كل ذاهبون فليس بقاطع لها عما قبلها من المذكورين لأنه لا وجود له في اللفظ فإذا قلت ضربت زيدا وعمرا وخالدا وشتمت كلا وضربت كلا لم يجز ولم يعد بخبر لما قدمناه إذا عرفت هذا فقولك كل إخوتك ضربت سواء رفعت أو نصبت يقتضي وقوع الضرب بكل واحد منهم وإذا قلت كل إخوتك ضربني يقتضي أيضا أن كل واحد منهم ضربك فلو قلت كل إخوتي ضربوني وكل القوم جاءوني احتمل ذلك واحتمل أن يكونوا اجتمعوا في الضرب والمجيء لأنك أخبرت عن جملتهم بخبر واقع عن الجملة بخلاف قولك

كل إخوانك جاءني فإنما هو إخبار عن كل واحد منهم وأن الإخبار بالمجيء عنهم جميعهم فتأمل على هذا قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} كيف أفرد الخبر لأنه لم يرد اجتماعهم فيه وقال تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فجمع لما أريد الاجتماع في المجيء وهذا أحسن مما تقدم من الفرق فتأمله ولا يرد على هذا قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} بل هو تحقيق له وشاهد لأن القنوت هنا هو العبودية العامة التي تشترك فيها أهل السموات والأرض لا يختص بها بعضهم عن بعض ولا يختص بزمان دون زمان وهي عبودية القهر فالقنوت هنا قنوت قهر وذل لا قنوت طاعة ومحبة وهذا بخلاف قوله تعالى كل من عليها فان فإنه أفرد لما لم يجتمعوا في الفناء ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "وكلكم مسئول عن رعيته " فإن الله يسأل كل راع بمفرده ومما جاء مجموعا لاجتماع الخبر قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وما أفرد لعدم اجتماع الخبر قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} فأفرد لما لم يجتمعوا في التكذيب ونظيره في سورة ق: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} وتأمل كيف كشف قناع هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} كيف افرد آتيه لما كان المقصود الإشارة إلى أنهم وإن أتوه جميعا فكل واحد منهم منفرد عن كل فريق من صاحب أو قريب أو رفيق بل هو وحده منفرد فكأنه إنما أتاه وحده وإن أتاه مع غيره لانقطاع تبعيته للغير وانفراده بشأن نفسه فهذا عندي أحسن من الفرق بالإضافة وقطعها والفرق بذلك فرقه السهيلي رحمه الله تعالى فتأمل الفرقين وستقرأ الأمثلة والشواهد.

فصل: وأما مسألة كل ذلك لم يكن ولم يكن كل ذلك ولم أصنع كله وكله لم أصنعه فقد أطالوا فيها القول وفرقوا بين دلالتي الجملة الفعلية والاسمية وقالوا إذا قلت: كل ذلك لم يكن وكله لم أصنعه فهو نفي للكل بنفي كل فرد من أفراده فيناقض الإيجاب الجزئي وإذا قلت لم أصنع الكل ولم يكن كل ذلك فهو نفي للكلية دون التعرض لنفي الأفراد فلا يناقضه الإيجاب الجزئي ولا بد من تقرير مقدمة تبنى عليها هذه المسألة وأمثالها وهي أن الخبر لا يجوز أن يكون أخص من المبتدأ بل يجوز أن يكون أعم منه أو مساويا له إذ لو كان أخص منه لكان ثابتا لبعض أفراده ولم يكن خبرا عن جملته فإن الأخص إنما يثبت لبعض أفراد الأعم وأما إذا كان أعم منه فإنه لا يمتنع لأنه يكون ثابتا لجملة أفراد المبتدأ وغيرها وهذا غير ممتنع فإذا عرف ذلك فإذا كان المبتدأ لفظة كل الدال على الإحاطة والشمول وجب أن يكون الخبر المثبت حاصلا لكل فرد من أفراد كل والخبر المنفي مثبتا لكل فرد من أفراده سواء أضفت كلا أو قطعتها عن الإضافة فإن الإضافة فيها منوية معنى وإن سقطت لفظا فإذا قلت كلهم ذهب وكلكم سيروي أو كل ذهب وكل سيروى عم الحكم أفراد المبتدأ فإذا كان الحكم سلبا نحو كلهم لم يأت وكل لم يقم فكذلك ولهذا يصح مقابلته بالإيجاب الجزئي نحو قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل: " أقصرت الصلاة أم نسيت فقال: كل ذلك لم يكن فقال: ذو اليدين بلى قد كان بعض ذلك" رواه مسلم ومن هذا ما أنشده سيبويه رحمه الله تعالى: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع أنشده برفع كل واستقبحه لحذف الضمير العائد من الخبر وغير سيبويه

يمنعه مطلقا وينشد البيت منصوبا فيقول كله لم أصنع والصواب إنشاده بالرفع محافظة على النفي العام الذي أراده الشاعر وتمدح به عند أم الخيار ولو كان منصوبا لم يحصل له مقصوده من التمدح فإنه لم يفعل ذلك الذنب ولا شيئا منه بل يكون المعنى لم أفعل كل الذنب بل بعضه وهذا ينافي غرضه ويشهد لصحة قول سيبويه قراءة ابن عباس في سورة الحديد: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فهذا يدل على أن حذف العائد جائز وأنه غير قبيح ومن هذا على أحد القولين: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} أجاز الزجاج أن تكون الجملة ابتدائية وقد حذف العائد من يستعجل وتقديره يستعجله منه المجرمون كما يحذف من الصلة والصفة والحال إذا دل عليه دليل ودعوى قبح حذفه من الخبر مما لا دليل عليها وللكلام في تقرير هذه المسألة موضع آخر والمقصود أن إنشاد البيت بالنصب محافظة على عدم الحذف إخلال شديد بالمعنى وأما إذا تقدم النفي وقلت لم أصنع كله ولم أضرب كلهم كأنك لم تتعرض للنفي عن كل فرد فرد وإنما نفيت فعل الجميع ولم تنف فعل البعض ألا ترى أن قولك لم أصنع الكل مناقض لقولك صنعت الكل والإيجاب الكلي يناقضه السلب الجزئي ألا ترى إلى قولهم لم أرد كل هذا فيما إذا فعل ما يريده وغيره فتقول لم أرد كل هذا ولا يصح أن تقول كل هذا لم أرده فتأمله فهذا تقرير هذه المسألة وقد أغناك عن ذلك التطويل المتعب القليل الفائدة. فصل: واعلم أن كلا من ألفاظ الغيبة فإذا أضفته إلى المخاطبين جاز لك أن تعيد المضمر عليه بلفظ الغيبة مراعاة للفظه وأن تعيده بلفظ الخطاب مراعاة لمعناه فتقول كلكم فعلتم وكلكم فعلوا

فإن قلت: أنتم كلكم فعلتم وأنتم كلكم بينكم درهم فإن جعلت أنتم مبتدأ وكلكم تأكيدا قلت أنتم كلكم فعلتم وبينكم درهم لتطابق المبتدأ وإن جعلت كلكم مبتدأ ثانيا جاز لك وجهان أحدهما أن تقول فعلوا وبينهم درهم مراعاة للفظ كل وأن تقول فعلتم وبينكم درهم عملا على المعنى لأن كلا في المعنى للمخاطبين. فائدة: اختلف الكوفيون والبصريون في كلا وكلتا فذهب البصريون إلى أنها اسم مفرد دال على الإثنين فيجوز عود الضمير إليه باعتبار لفظه وهو الأكثر ويجوز عوده باعتبار معناه وهو الأقل وألفها لام الفعل ليست ألف تثنية عندهم ولهم حجج منها أنها في الأحوال الثلاثة مع الظاهر على صورة واحدة والمثنى ليس كذلك وأما انقلابها ياء مع الضمير فلا يدل على أنها ألف تثنية كألف على وإلى ولدى هذا قول الخليل وسيبويه واحتجوا أيضا بقولهم كلاهما ذاهب دون ذاهبان وسيبويه لم يحتج بهذه الحجة لما تقدم من أنك إذا أضفت لفظ كل أفردت خبره مع كونه دالا على الجمع حملا على المعنى لأن قولك كلكم راع بمنزلة كل واحد منكم راع فكذا قولك كلاكما قائم أي كل واحد منكما قائم فإن قيل: بل أفرد الخبر عن كل وكلا لأنهما اسمان مفردان قيل هذا يبطل بتوكيد الجمع والتثنية بهما وكما لا ينعت الجمع والمثنى بالواحد فكذلك لا يؤكد به بطريق الأولى لأن التوكيد تكرار للمؤكد بعينه بخلاف النعت فإنه عينه بوجه والمعول عليه لمن نصر مذهب سيبويه على الحجة الأولى على ما فيها وعلى معارضتها بتوكيد الإثنين وكلا والمثنى لا يؤكد بالمفرد كما قررناه فإن قيل: الجواب عن هذا أن كلا اسم للمثنى فحسن التوكيد به وحصلت المطابقة باعتبار مدلوله وهو

المقصود من الكلام فلا يضر إفراد اللفظ قيل هذا يمكن في الجمع أن يكون لفظه واحدا ومعناه جمعا نحو كل وأسماء الجموع ك رهط وقوم لأن الجموع قد اختلفت صورها أشد اختلاف فمذكر ومؤنث مسلم ومكسر على اختلاف ضروبه وما لفظه على لفظ واحد كما تقدم بيانه فليس ببدع أن يكون صورة اللفظ مفردا ومعناه جمعا وأما التثنية فلم تختلف قط بل لزمت طريقة واحدة أين وقعت فبعيد جدا بل ممتنع أن يكون منها اسم فرد معناه مثنى وليس معكم إلا القياس على الجمع وقد وضح الفرق بينهما فتعين أن تكون كلا لفظا مثنى ينقلب ألفه ياء مع المضمر دون المظهر لأنك إذا أضفته إلى ظاهر استغنيت عن قلب ألفه ياء بانقلابها في المضاف إليه لتنزله منزلة الجزئية لدلالة اللفظ على مدلول واحد لأن كلا هو نفس ما يضاف إليه بخلاف قولك ثوبا الرجلين وفرسا الزيدين فلو قلت مررت بكلا الرجلين جمعت بين علامتي تثنية فيما هو كالكلمة الواحدة لأنهما لا ينفصلان أبدا ولا تنفك هذه عن الإضافة بحال ألا ترى كيف رفضوا ضربت رأسي الزيدين وقالوا: رؤوسهما لما رأوا المضاف والمضاف إليه كاسم واحد هذا مع أن الرؤوس تنفصل عن الإضافة كثيرا وكذلك القلوب من قوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فإذا كانوا قد رفضوا علامة التثنية هناك مع أن الإضافة عارضة فما ظنك بهذا الموضع الذي لا تفارقه الإضافة ولا تنفك عنه فهذا الذي حملهم على أن ألزموها الألف على كل حال وكان هذا أحسن من إلزام طيء وخثعم وبني الحرث وغيرهم المثنى للألف في كل حال نحو: الزيدان والعمران فإذا أضافوه إلى الضمير قلبوا ألفه في النصب والجر لأن المضاف إليه ليس فيه علامة إعراب ولا يثنى بالياء ولكنه أبدا بالألف فقد زالت العلة التي رفضوها في الظاهر وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله كما ترى وإن كان سيبويه المعظم المقدم في الصناعة فمأخوذ من قوله ومتروك ومما يدل على صحة هذا القول أن كلا يفهم من لفظه ما يفهم من لفظ كل وهو موافق له في فاء الفعل وعينه وأما اللام فمحذوفة كما حذفت في كثير من الأسماء فمن ادعى أن لام

الفعل واو وأنه من غير لفظ كل فليس له دليل يعضده ولا اشتقاق يشهد له فإن قيل: فلم رجع الضمير إليها بلفظ الإفراد إذا كانت مثناة قيل: لما تقدم من رجوع الضمير على كل لذلك إيذانا بأن الخبر عن كل واحد واحد فكأنك قلت كل واحد من الرجلين قام وفيه نكتة بديعة وهي أن عود الضمير بلفظ الإفراد أحسن لأنه يتضمن صدور الفعل عن كل واحد منفردا به ومشاركا للآخر فإن قيل: فلم كسرت الكاف من كلا وهي من كل مضمومة قيل هذا لا يلزمهم لأنهم لم يقولوا إنها لفظة كل بعينها ولهم أن يقولوا كسرت تنبيها على معنى الإثنين كما يبتدئ لفظ الإثنين بالكسر ولهذا كسروا العين من عشرين إشعارا بتثنية عشر ومما يدل على صحة هذا القول أيضا أن كلتا بمنزلة قولك ثنتا ولا خلاف أن ألف ثنتا ألف تثنية فكذلك ألف كلتا ومن ادعى أن الأصل فيها كلواهما فقد ادعى ما تستبعده العقول ولا يقوم عليه برهان ومما يدل أيضا على صحته أنك تقول في التوكيد مررت بإخوتك ثلاثتهم وأربعتهم فتؤكد بالعدد فاقتضى القياس أن تقول أيضا في التثنية كذلك مررت بأخويك اثنيهما فاستغنوا عنه بكليهما لأنه في معناه وإذا كان كذلك فهو مثنى مثله فإن قيل فإنك تقول كلا أخويك جاء ولا تقول اثنا أخويك جاء فدل على أنه ليس في معناه قيل العدد الذي يؤكد به إنما يكون تأكيدا مؤخرا تابعا لما قبله فأما إذا قدم لم يجز ذلك لأنه في معنى الوصف والوصف لا يقدم على الموصوف فلا تقول ثلاثة إخوتك جاؤوني وهذا بخلاف كل وكلا وكلتا لأن فيها معنى الإحاطة فصارت كالحرف الداخل لمعنى فيما بعده فحسن تقديمهما في حال الإخبار عنها وتأخيرهما في حال التوكيد فهذا في هذا المذهب كما ترى.

فائدة: لا يؤكد بأجمع المفرد مما يعقل ولا ما حقيقته لا تتبعض وهذا إنما يؤكد به ما يتبعض كجماعة من يعقل فجرى مجرى كل فإن قيل: فقد تقول رأيت زيدا أجمع إذا رأيته بارزا من طاقة ونحوه قيل: ليس هذا توكيدا في الحقيقة لزيد لأنك لا تريد حقيقته وذاته وإنما تريد به ما تدرك العين منه وأجمع هذه اسم معرفة بالإضافة وإن لم يكن مضافا في اللفظ لأن معنى قبضت المال أجمع أي كله فلما كان مضافا في المعنى تعرف وأكد به المعرفة وإنما استغنوا عن التصريح بلفظ المضاف إليه معه ولم يستغن عن لفظ المضاف مع كل إذا قلت قبضت المال كله لأن كلا تكون توكيدا وغير توكيد وتتقدم في أول الكلام نحو كلكم ذاهب فصار بمنزلة نفسه وعينه لأن كل واحد منهما يكون توكيدا وغير توكيد فإذا أكدته لم يكن بد من إضافته إلى ضمير المؤكد حتى يعلم أنه توكيد وليس كذلك أجمع لأنه لا يجيء إلا تابعا لما قبله فاكتفى بالاسم الظاهر المؤكد واستغنى به عن التصريح بضميره كما فعل بسحر حين أردته ليوم بعينه فإنه عرف بمعنى الإضافة واستغنى عن التصريح بالمضاف إليه اتكالا على ذكر اليوم قبله فإن قيل: ولم لم تقدم أجمع كما قدم كل قيل الجواب أن فيه معنى الصفة لأنه مشتق من جمعت فلم يكن يقع تابعا بخلاف كل ومن أحكامه أنه لا يثنى ولا يجمع على لفظه أما امتناع تثنيته فلأنه وضع لتأكيد جملة تتبعض فلو ثنيته لم يكن في قولك أجمعا توكيد لمعنى التثنية كما في كليهما لأن التوكيد تكرار المعنى المذكور إذا قلت درهمان أفدت أنهما اثنان فإذا قلت كلاهما كأنك قلت اثناهما ولا يستقيم ذلك في أجمعان لأنه بمنزلة من يقول أجمع وأجمع كالزيدان بمنزلة زيد وزيد فلم يفدك أجمعان

تكرار معنى التثنية وإنما أفادك تثنية واحدة بخلاف كلاهما فإنه ليس بمنزلة قولك كل وكل وكذلك اثناهما المستغنى عنه بكليهما لا يقال فيهما اثن وإثن فإنما هي تثنية لا تنحل ولا تنفرد فلم يصلح لتأكيد معنى التثنية غيرها فلا ينبغي أن يؤكد معنى التثنية والجمع إلا بما لا واحد له من لفظه كيلا يكون بمنزلة الأسماء المفردة المعطوف بعضها على بعض بالواو وهذه علة امتناع الجمع فيه لأنك لو جمعته كان جمعا لواحد من لفظه ولا يؤكد معنى الجمع إلا بجمع لا ينحل إلى الواحد فإن قيل: هذا ينتقض بأجمعين وأكتعين فإن واحده أجمع وأكتع قيل سيأتي جوابه وإن شئت قلت: إن أجمع في معنى كل وكل لا يثنى ولا يجمع إنما يثنى ويجمع الضمير الذي يضاف إليه كل وأما قولهم في تأنيثه جمعاء فلأنه أقرب إلى باب أحمر وحمراء من باب أفضل وفضلى فلذلك لم يقولوا في تأنيثه جمعى ككبرى ودليل ذلك أنه لا يدخله الألف واللام ولا يضاف صريحا فكان أقرب إلى باب أفعل وفعلى وإن خالفه في غير هذا وأما أجمعون وأكتعون فليس بجمع ل أجمع وأكتع ولا واحد له من لفظه وإنما هو لفظ وضع لتأكيد الجمع بوزن الاسمين بمنزلة أثينون تصغير الاثنان فإنه جمع مسلم ولا واحد له من لفظه والدليل على ذلك أنه لو كان واحد أجمعين أجمع لما قالوا في المؤنث جمعاء لأن فعل بفتح العين لا يكون واحده فعلاء وجمعاء التي هي مؤنث أجمع لو جمعت لقيل جمعاوات أو جمع بوزن حمر وأما فعل بوزن كبر فجمع لفعلى وإنما جاء أجمعون على وزن أكرمون وأرذلون لأن فيه طرفا من معنى التفضيل كما في الأكرمين والأرذلين وذلك أن الجموع تختلف مقاديرها فإن كثر العدد احتج إلى كثرة التوكيد حرصا على التحقيق ورفعا للمجاز فإذا قلت: جاء القوم كلهم وكان العدد كثيرا توهم أنه قد شذ منهم البعض فاحتيج إلى توكيد أبلغ من الأول فقالوا: أجمعون أكتعون فمن حيث كان أبلغ من التوكيد الذي قبله دخله معنى التفضيل ومن حيث دخله معنى التفضيل جمع جمع السلامة كما يجمع أفعل الذي

فيه ذلك المعنى جمع السلامة كأفضلون ويجمع مؤنثه على فعل كما يجمع مؤنث ما فيه من التفضيل وأما أجمع الذي هو توكيد الاسم الواحد فليس فيه من معنى التفضيل شيء وكان كباب أحمر ولذلك استغنى أن يقال كلاهما أجمعان كما يقال كلهم أجمعون لأن التثنية أدنى من أن يحتاج إلى توكيدها إلى هذا المعنى فثبت أن أجمعون لا واحد له من لفظه لأنه توكيد لجمع من يعقل وأنت لا تقول فيمن يعقل جاءني زيد أجمع فكيف يكون جاءني الزيدون أجمعون جمعا له وهو غير مستعمل في الإفراد وسر هذا ما تقدم وهو أنهم لا يؤكدون مع الجمع والتثنية إلا بلفظ لا واحد له ليكون توكيدا على الحقيقة لأن كلا جمع ينحل لفظه إلى الواحد فهو عارض في معنى الجمع فكيف يؤكد به معنى الجمع والتوكيد تحقيق وتثبيت ورفع للبس والإبهام فوجب أن يكون مما يثبت لفظا ومعنى وأما حذف التنوين من جمع فكحذفه من سحر لأنه مضاف في المعنى فإن قيل: ونون الجمع محذوفة في الإضافة أيضا فهلا حذفت من أجمعين لأنه مضاف في المعنى قيل الإضافة المعنوية لا تقوى على حذف النون المتحركة التي هي كالعرض من الحركة والتنوين ألا ترى أن نون الجمع تثبت مع الألف واللام وفي الوقف والتنوين بخلاف ذلك فقويت الإضافة المعنوية على حذفه ولم تقو على حذف النون إلا الإضافة اللفطية فإن قيل: ولم كانت الإضافة اللفظية أقوى من المعنوية والعامل اللفظي أقوى من المعنوي قيل: اللفظي لا يكون إلا متضمنا لمعناه فإذا اجتمعا معا كان أقوى من المعنى المفرد عن اللفظ فوجب أن تكون أضعف وهذا ظاهر لمن عدل وأنصف.

المجلد الثاني

المجلد الثاني المجلد الثاني ... بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية المجلد الثاني بسم الله الرحمن الرحيم فائدة بديعة: "العين" يراد بها حقيقة الشيء المدركة بالعيان أو ما يقوم مقام العيان وليست اللفظة على أصول موضوعها لأن أصلها أن يكون مصدرا وصفة لمن قامت به ثم عبر عن حقيقة الشيء بالعين كما عبر عن الوحش بالصيد وإنما الصيد في أصل موضوعه مصدر من صاد يصيد ومن هاهنا لم يرد في الشريعة عبارة عن نفس الباري سبحانه وتعالى لأن نفسه سبحانه غير مدركة بالعيان في حقنا اليوم وأما عين القبلة وعين الذهب وعين الميزان فراجعة إلى هذا المعنى وأما العين الجارية فمشبهة بعين الإنسان لموافقتها لها في كثير من صفاتها وأما عين الإنسان فمسماة بما أصله أن يكون صفة ومصدرا لأن العين في أصل الوضع مصدر كالدين والزين والبين والأين وما جاء على بنائه ألا تراهم يقولون رجل عيون وعاين ويقولون عنته أصبته بالعين وعاينته رأيته بالعين وفرقوا بين المعنيين وكأن عاينته من الرؤية أولى من عنته لأنه بمنزلة المفاعلة والمقابلة فقد تقابلتما وتعاينتما بخلاف عنته فإنك تفرد بإصابته العين من حيث لا يشعر ومما يدل على أنها مصدر في الأصل قوله تعالى: {عَيْنَ الْيَقِينِ} كما قال: {عِلْمَ الْيَقِينِ} {حَقُّ الْيَقِينِ} فالعلم والحق مصدران مضافان إلى اليقين فكذلك العين هكذا قال السهيلي رحمه الله تعالى وفيه نظر لأن إضافة

عين إلى اليقين من باب قولهم نفس الشيء وذاته فعين اليقين نفس اليقين والعين التي هي عضو سميت عينا لأنها آلة ومحل لهذه الصفة التي هل العين وهذا من باب قولهم امرأة ضيف وعدل تسمية للفاعل باسم المصدر والعين التي هي حقيقة الشيء ونفسه من باب تسمية المفعول بالمصدر كصيد إضافة العين إلى الله قال السهيلي: "إذا علمت هذا فاعلم أن العين أضيفت إلى الباري تعالى كقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} " حقيقة لا مجازا كما توهم أكثر الناس لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك وإنما المجاز في تسمية العضو بها وكل شيء يوهم الكفر والتجسيم فلا يضاف إلى الباري تعالى لا حقيقة ولا مجازا ألا ترى كيف كفر الرومية من النصارى حيث قالوا في عيسى إنه ولد على المجاز لا على الحقيقة فكفروا ولم يدروا ألا ترى كيف لم يضف سبحانه إلى نفسه ما هو في معنى عين الإنسان كالمقلة والحدقة حقيقة ولا مجازا نعم ولا لفظ الإبصار لأنه لا يعطي معنى البصر والرؤية مجردا ولكنه يقتضي مع معنى البصر معنى التحديق والملاحظة ونحوهما قلت كأنه رحمه الله غفل عن وصفه بالسميع البصير وغفل عن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه " رواه مسلم وابن ماجه وأحمد وأما إلزامه التحديق والملاحظة ونحوها فهو كإلزام المعتزلة نظيره في الرؤية فهو منقول من هناك حرفا بحرف وجوبه من وجوه الأول ما تعني بالتحديق والملاحظة أمعنى البصر والإدراك أو قدرا زائدا عليهما غير ممتنع وصف الرب به أو معنى زائدا يمتنع وصفه به فإن عنيت الأولين منعنا انتفاء اللازم وإن عنيت الثالث منعنا الملازمة ولا سبيل إلى إثباتها بحال الثاني أن هذا التحديق والملاحظة إنما تلزم الصفة من جهة إضافتها إلى المخلوق لا تلزمها مضافة إلى الرب تعالى وهذا كسائر خصائص المخلوقين التي تطرقت الجهمية بها إلى نفي صفات الرب وهذا من جهلهم وتلبيسهم فإن خصائص صفات المخلوقين لا تلزم الصفة مضافة إلى الرب تعالى كما لا يلزم خصائص وجودهم وذاتهم وهذا مقرر في موضعه وهذا الأصل الذي فارق أهل السنة طائفتي

الضلال من المشبهة والمعطلة فعليك بمراعاته الثالث قوله لا يعطي الإبصار معنى البصر والرؤية مجرد كلام لا حاصل تحته ولا تحقيق فإنه قد تقرر عقلا ونقلا أن لله تعالى صفة البصر ثابتة كصفة السمع فإن كان لفظ الإبصار لا يعطى الرؤية مجردة فكذلك لفظ السمع وإن أعطى السمع إدراك المسموعات مجردا فكذلك البصر فالتفريق بينهما تحكم محض ثم نعود إلى كلامه قال وكذلك لا يضاف إليه سبحانه وتعالى من آلات الإدراك الأذن ونحوها لأنها في أصل الوضع عبارة عن الجارحة لا عن الصفة التي هي محلها فلم ينقل لفظها إلى الصفة أعني السمع مجازا ولا حقيقة إلا أشياء وردت على جهة المثل بما يعرف بأدنى نظر أنها أمثال مضروبة نحو الحجر الأسود يمين الله في الأرض ضعيف منكر وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن صحيح مما عرفت العرب المراد به بأول وهلة قال: وأما اليد فهي عندي في أصل الوضع كالمصدر عبارة عن صفة لموصوف قال: يديت على ابن خضخاض بن عمرو ... بأسفل ذي الحداة يد الكريم فيديت فعل مأخوذ من مصدر لا محالة والمصدر صفة موصوف ولذلك مدح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله: {أُولِي الأَيْدِي وَالأبْصَارِ} ولم يمدحهم بالجوارح لأن المدح لا يتعلق إلا بالصفات لا بالجواهر قلت المراد بالأيدي والأبصار هنا القوة في أمر الله تعالى والبصر بدينه فأراد أنهم من أهل القوى في أمره والبصائر في دينه فليست من يديت إليه يدا فتأمله مذهب الأشعري قال وإذا ثبت هذا فصح قول أبي الحسن الأشعري رذي الله عنه: "إن اليد من قوله خلق آدم بيده" إسناده حسن وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} صفة ورد رد بها الشرع ولم يقل إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من أصحابه ولا في معنى النعم ولا قطع بشيء من التأويلات تحرزا منه عن مخالفة السلف وقطع بأنها صفة تحرزا عن مذهب المشبهة مفهوم الصفات عند العرب فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يفهمون ولا يستعملون قلنا: ليس الأمر كذلك بل كان معناها مفهوما عند القوم الذين

نزل القرآن بلغتهم ولذلك لم يستفت واحد من المؤمنين عن معناها ولا خاف على نفسه توهم التشبيه ولا احتاج إلى شرح وتنبيه وكذلك الكفار لو كان عندهم لا تعقل إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض واحتجوا بها على الرسول صلى الله عليه وسلم ولقالوا له زعمت أن الله تعالى ليس كمثله شيء ثم تخبر أن له يدا كأيدينا وعينا كأعينا ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر علم أن الأمر كان فيها عندهم جليا لا خفيا وأنها صفة سميت الجارحة بها مجازا ثم استمر المجاز فيها حتى نسيت الحقيقة ورب مجاز كثر واستعمل حتى نسي أصله وتركت حقيقته والذي يلوح في معنى هذه الصفة أنها قريب من معنى القدرة إلا أنها أخص منها معنى والقدرة أعم كالمحبة مع الإرادة والمشيئة وكل شيء أحبه الله فقد أراده وليس كل شيء أراده أحبه وكذلك كل شيء حادث فهو واقع بالقدرة وليس كل واقع بالقدرة واقعا باليد فاليد أخص من معنى القدرة ولذلك كان فيها تشريف لآدم قلت: أما قوله ليس كل شيء أراده فقد أحبه فهذا صحيح وهو أحد قولي الأشعري وقول المحققين من أصحابه وهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة والمعقول كما هو مقرر في موضعه وأما قوله: كل شيء أحبه فقد أراده فإن كان المراد أنه أراده بمعنى رضيه وأراده دينا فحق وإن كان المراد أنه أراده كونا فغير لازم فإنه سبحانه يحب طاعة عباده كلهم ولم يردها ويحب التوبة من كل عاص ولم يرد ذلك كله تكوينا إذ لو أراده لوقع فالمحبة والإرادة غير متلازمين فإنه يريد كون ما لا يحبه ويحب ويرضى بأشياء لا يريد تكوينها ولو أرادها لوقعت وهذا مقرر في غير هذا الموضع قال ومن فوائد هذه المسألة أن نسأل كيف وردت الآية الأولى ب على والآية الثانية بالياء الجواب لا بد أن نسأل عن المعنى الذي لأجله قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بحرف على وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} و {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} بحرف الباء وما الفرق إن الفرق أن الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفيا وإبداء ما كان مكتوما فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يغذون ويصنعون سرا فلما أراد أن يصنع موسى عليه السلام ويغذى

ويربى على حال أمن وظهور لا تحت خوف واستسرار دخلت على في اللفظ تنبيها على المعنى لأنها تعطي الإستعلاء والإستعلاء ظهور وإبداء فكأنه يقول سبحانه وتعالى ولتصنع على أمن لا تحت خوف وذكر العين لتضمنها معنى الرعاية والكلاءة وأما قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} فإنه إنما يريد برعاية منا وحفظ ولا يريد إبداء شيء ولا إظهاره بعد كتم فلم يحتج في الكلام إلى معنى على بخلاف ما تقدم هذا كلامه ولم يتعرض رحمه الله تعالى لوجه الإفراد هناك والجمع هنا وهو من ألطف معاني الآية والفرق بينهما يظهر من الإختصاص الذي خص به موسى في قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} فاقتضى هذا الإختصاص الإختصاص الآخر في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} فإن هذه الإضافة إضافة تخصيص وأما قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} فليس فيه من الإختصاص ما في صنع موسى على عينه سبحانه وتعالى واصطناعه إياه لنفسه وما يسنده سبحانه إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع قد يريد به ملائكته كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} ونظائره فتأمله قال: وأما النفس فعلى أصل موضوعها إنما هي عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد وقد استعمل أيضا من لفظها النفاسة والشيء النفيس فصلحت للتعبير عنه سبحانه وتعالى بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية وأما الذات فقد استهوى أكثر الناس ولا سيما المتكلمين القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة ويقولون ذات الباري هي نفسه ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "في قصة إبراهيم ثلاث كذبات كلهن في ذات الله" رواه البخاري ومسلم وقول خبيب وذلك في ذات الإله قال وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا ولو كان كذلك لجاز أن يقال عند ذات الله واحذر ذات الله كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وذلك غير مسموع ولا يقال إلا بحرف في الجارة وحرف في للوعاء وهو معنى مستحيل على

نفس الباري تعالى إذا قلت جاهدت في الله تعالى وأحببتك في الله تعالى محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء وإنما هو على حذف المضاف أي في مرضاة الله وطاعته فيكون الحرف على بابه كأنك قلت هذا محبوب في الأعمال التي فيها مرضاة الله وطاعته وأما أن تدع اللفظ على ظاهرة فمحال وإذا ثبت هذا فقوله في ذات الله أو في ذات الإله إنما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله فذات وصف للديانة وكذلك هي في الأصل موضوعها نعت لمؤنث ألا ترى أن فيها تاء التأنيث وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف بالإضافة إلى الله تعالى عز وجل لا عن نفسه سبحانه وهذا هو المفهوم من كلام العرب ألا ترى قول النابغة الذبياني: بجلتهم ذات الإله ودينهم فقد بان غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيف إليه وهذا من كلامه من المرقصات فإنه أحسن فيه ما شاء أصل لفظة ذات أصل هذه اللفظة هو تأنيث ذو بمعنى صاحب فذات صاحبة كذا في الأصل ولهذا لا يقال ذات الشيء إلا لما له صفات ونعوت تضاف إليه فكأنه يقول صاحبة هذه الصفات والنعوت ولهذا أنكر جماعة من النحاة منهم ابن برهان وغيره على الأصوليين قولهم الذات وقالوا لا مدخل للألف واللام هنا كما لا يقال الذو في ذو وهذا إنكار صحيح والاعتذار عنهم أن لفظة الذات في اصطلاحهم قد صارت عبارة عن الشيء نفسه وحقيقته وعينه فلما استعملوها استعمال النفس والحقيقة عرفوها باللام وجردوها ومن هنا غلطهم السهيلي فإن هذا الاستعمال والتجريد أمر اصطلاحي لا لغوي فإن العرب لا تكاد تقول رأيت الشيء لعينه ونفسه وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب إليه ومن جهته وهذا كجنب الشيء إذا قالوا هذا في جنب الله لا يريدون إلا فيما ينسب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته لا يريدون غير هذا البتة فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة ظن من ظن أن هذا هو المراد من قوله "ثلاث كذبات في ذات الله" وقوله وذلك في ذات الإله فغلط

واستحق التغليط بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال هاهنا فرطت في نفس الله وحقيقته ويحسن أن يقال فرط في ذات الله كما يقال فعل كذا في ذات الله وقتل في ذات الله تعالى وصبر في ذات الله فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة التي يثنى على مثلها الخناصر والله الموفق المعين. فائدة: ما الفائدة في إبدال النكرة من المعرفة وتبيينها بها فإن كانت الفائدة في النكرة فلم ذكرت المعرفة وإن كانت في المعرفة فما بال ذكر النكرة قيل: هذا فيه نكتة بديعة وهي أن الحكم قد يعلق بالنكرة السابقة فتذكر ويكون الكلام في معرض أمر معين من الجنس مدحا أو ذما فلو اقتصر على ذكر المعرفة لاختص الحكم به ولو ذكرت النكرة وحدها لخرج الكلام عن التعرض لذلك المعين فلما أريد الجنس أتى بالنكرة ووضعت إشعارا بتعليق الحكم بالوصف ولما أتي بالمعرفة كان تنبيها على دخول ذلك المعين قطعا ومثال ذلك قوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} فإن الآية كما قيل: نزلت في أبي جهل ثم تعلق حكمها بكل من اتصف به فقال: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} تعيينا {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} لعدمه وتنبيها ولذلك اشترط في النكرة في هذا الباب أن تكون منعوتة لتحصيل الفائدة المذكورة وليتبين المراد وأما قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً} ففيها قولان أحدهما: أن شيئا بدل من رزقه ورزقا أبين من شيئا لأنه أخص منه والأخص أبين من الأعم وجاز هذا من أجل تقدم النفي لأن النكرة إنما تفيد بالإخبار عنها بعد النفي فلما

اقتضى النفي العام ذكر الاسم العام الذي هو أنكر النكرات ووقعت الفائدة به من أجل النفي صلح أن يكون بدلا من رزق ألا ترى أنك لو طرحت الاسم الأول واقتصرت على الثاني لم يكون إخلالا بالكلام والقول الثاني: أن شيئا هنا مفعول المصدر الذي هو الرزق وتقديره لا يملكون أن يرزقوا شيئا وهذا قول الأكثرين إلا أنه يرد عليهم أن الرزق هنا اسم لا مصدر لأنه بوزن الذبح والطحن للمذبوح والمطحون ولو أريد المصدر لجاء بالفتح نحو قول الشاعر يخاطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله وعفا عنه: واقصد إلى الخير ولا توقه ... وارزق عيال المسلمين رزقه وقد يجاب عن هذا بأن الرزق من المصادر التي جاءت على فعل بكسر أوائلها كالفسق ويطلق على المصدر والاسم بلفظ واحد كالنسخ للمصدر والمنسوخ وبابه وهذا أحسن والبيت لا نسلم أن راءه مفتوحة وإنما هي مكسورة وهذا اللائق بحال عمر ابن عبد العزيز والشاعر فإنه طلب منه أن يرزق عيال المسلمين رزق الله الذي هو المال المرزوق لا أنه يرزقهم كرزق الله الذي هو المصدر هذا مما لا يخاطب به أحد ولا يقصده عاقل والله أعلم فائدة بديعة: قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فيها عشرون مسألة: أحدها: ما فائدة البدل في الدعاء والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان والبدل القصد به بيان الاسم الأول الثانية: ما فائدة تعريف

{الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} باللام وهلا أخبر عنه بمجرد اللفظ دونها كما قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الثالثة: ما معنى {الصِّرَاطَ} ومن أي شيء اشتقاقه ولم جاء على وزن فعال ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن الكريم بهذا اللفظ وفي سورة الأحقاف ذكر بلفظ الطريق فقال: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} الرابعة: ما الحكمة في إضافته إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بهذا اللفظ ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول صراط النبيين والصديقين فلم عدل إلى لفظ المبهم دون المفسر الخامسة: ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ الذي مع صلتها دون أن يقال المنعم عليهم وهو أخصر كما قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وما الفرق السادسة: لم فرق بين المنعم عليهم والمغضوب عليهم فقال في أهل النعمة الذين أنعمت وفي أهل الغضب المغضوب بحذف الفاعل السابعة: لم قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فعدى الفعل بنفسه ولم يعده بإلى كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الثامنة: أن قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} يقتضي أن نعمته مختصة بالأولين دون المغضوب عليهم ولا الضالين وهذا حجة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر فهل هذا استدلال صحيح أم لا التاسعة: أن يقال لم وصفهم بلفظ غير وهلا قال تعالى لا المغضوب عليهم كما قال والضالين وهذا كما تقول مررت بزيد لا عمرو وبالعاقل لا الأحمق العاشرة: كيف جرت غير صفة على الموصوف وهي لا تتعرف بالإضافة وليس المحل محل عطف بيان إذ بابه الإعلام ولا محل لذلك إذ المقصود في باب البدل هو الثاني والأول توطئة وفي باب الصفات المقصود الأول والثاني بيان وهذا شأن هذا الموضع فإن المقصود ذكر المنعم عليهم ووصفهم بمغايرتهم معنى الغضب والضلال الحادية عشرة: إذا ثبت ذلك في البدل فالصراط المستقيم مقصود الإخبار عنه بذلك وليس في نية الطرح فكيف جاء صراط الذين أنعمت عليهم بدلا منه وما فائدة البدل هنا الثانية عشرة: أنه قد ثبت في الحديث الذي رواه

الترمذي والإمام أحمد وابن أبي حاتم: "تفسير المغضوب عليهم بأنهم اليهود والنصارى بأنهم الضالون" حسن فما وجه هذا التقسيم والاختصاص وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه الثالثة عشرة: لم قدم المغضوب عليهم في اللفظ على الضالين الرابعة عشرة: لم أتى في أهل الغضب بصيغة مفعول المأخوذة من فعل ولم يأت في أهل الضلال بذلك فيقال المضلين بل أتى فيهم بصيغة فاعل المأخوذة من فعل الخامسة عشرة: ما فائدة العطف ب لا هنا ولو قيل: المغضوب عليهم والضالين لم يختل الكلام وكان أوجز السادسة عشرة: إذ قد عطف بها فيأتي العطف بها مع الواو للمنفى نحو ما قام زيد ولا عمرو وكقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} وأما بدون الواو فبابها الإيجاب نحو مررت بزيد لا عمرو السابعة عشرة: هل الهداية هنا هداية التعريف والبيان أو هداية التوفيق والإلهام الثامنة عشرة: كل مؤمن مأمور بهذا الدعاء أمرا لازما لا يقوم غيره مقامه ولا بد منه وهذا إنما نسأله في الصلاة بعد هدايته فما وجه السؤال لأمر حاصل وكيف يطلب تحصيل الحاصل التاسعة عشرة: ما فائدة الإتيان بضمير الجمع في اهدنا والداعي يسأل ربه لنفسه في الصلاة وخارجها ولا يليق به ضمير الجمع ولهذا يقول: "رب اغفر لي وارحمني وتب علي" العشرون: ما حقيقة الصراط المستقيم الذي يتصوره العد وقت سؤاله فهذه أربع مسائل حقها أن تقدم أولا ولكن جر الكلام إليها بعد ترتيب المسائل الست عشرة الجواب بعون الله وتعليمه أنه لا علم لأحد من عباده إلا ما علمه ولا قوة له إلا بإعانته فائدة البدل في الدعاء لقد وردت الآية في معرض التعليم للعباد والدعاء حق الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به إذ الدعاء مخ العبادة والمخ لا يكون إلا في عظم والعظم في لحم ودم فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء وجب أن يكون

الطلب ممزوجا بالثناء فمن ثم جاء لفظ الطلب للهداية والرغبة فيها مشوبا بالخير تصريحا من الداعي بمعتقده وتوسلا منه بذلك الاعتقاد الصحيح إلى ربه فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده أن صراط الحق هو الصراط المستقيم وأنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا والداعي يجب عليهم اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه فلذلك أبدل وبين لهم ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبار بفائدتين جليلتين إحداهما فائدة الخبر والفائدة الثانية فائدة لازم الخبر فأما فائدة الخبر فهي الإخبار عنه بالاستقامة وأنه الصراط المستقيم الذي نصبه لأهل نعمته وكرامته وأما فائدة لازم الخبر فإقرار الداعي بذلك وتصديقه وتوسله بهذا الإقرار إلى ربه فهذه أربع فوائد الدعاء بالهداية إليه والخبر عنه بذلك والإقرار والتصديق لشأنه والتوسل إلى المدعو إليه بهذا التصديق وفيه فائدة خامسة وهي أن الداعي إنما أمر بذلك لحاجته إليه وأن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبير ما يطلب وتصور معناه فذكر له من أوصافه ما إذا تصور في خلده وقام بقلبه كان أشد طلبا له وأعظم رغبة فيه وأحرص على دوام الطلب والسؤال له فتأمل هذه النكت البديعة. فصل: وأما المسألة الثانية وهي تعريف الصراط باللام اعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره ألا ترى أن قولك جالس فقيها أو عالما ليس كقولك جالس الفقيه أو العالم ولا قولك أكلت طيبا كقولك أكلت الطيب ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت الحق ووعدك الحق

وقولك الحق" ثم قال: ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق " رواه البخاري ومسلم فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه فإذا عرفت هذا فلو قال اهدنا صراطا مستقيما لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراط ما مستقيم على الإطلاق وليس المراد ذلك بل المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله تعالى لأهل نعمته وجعله طريقا إلى رضوانه وجنته وهو دينه الذي لا دين له سواه فالمطلوب أمر معين في الخارج والذهن لا شيء مطلق منكر واللام هنا للعهد العلمي الذهني وهو أنه طلب الهداية إلى سر معهود قد قام في القلوب معرفته والتصديق به وتميزه عن سائر طرق الضلال فلم يكن بد من التعريف فإن قيل: لم جاء منكرا في قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو أنها ليست في مقام الدعاء والطلب وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم وهداية رسوله إليه ولم يكن للمخاطبين عهد به ولم يكن معروفا لهم فلم يجيء معرفا بلام العهد المشيرة إلى معروف في ذهن المخاطب قائم في خلده ولا تقدمه في اللفظ معهود تكون اللام معروفة إليه وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين أعني أن يكون لها معهود ذهني أو ذكر لفظي وإذ لا واحد منهما في هذه المواضع فالتنكير هو الأصل وهذا بخلاف قوله اهدنا الصراط المستقيم فإنه لما تقرر عند المخاطبين أن لله صراطا مستقيما هدي إليه أنبياءه ورسله وكان المخاطب سبحانه المسئول من هدايته عالما به دخلت اللام عليه فقال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وقال السهيلي: إن قوله تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} نزلت في صلح الحديبية وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه وكان الله تعالى عما يقولون ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فلم يرد صراطا مستقيما

في الدين وإنما أراد صراطا في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم ولو قال في هذا الموطن إلى الصراط المستقيم لجعل للكفر وللضلال حظا من الإستقامة إذ الألف واللام تنبيء أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصلة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر أو ما قرب به في الوهم ولا يكون أحق به إلا أن يكون في الآخر طرف منه وغير خاف ما في هذين الجوابين من الضعف والوهن أما قوله أن المراد بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} في الحرب والمكيدة فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتن الله به على رسول صلى الله عليه وسلم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا وما فيها ومتى سمى الله الحرب والمكيدة صراطا مستقيما وهل فسر هذه الآية أحد من السلف أو الخلف بذلك بل الصراط المستقيم ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمره أن يخبر بأن الله تعالى هداه إليه في قوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ثم فسره بقوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ونصب دينا هنا على البدل من الجار والمجرور أي هداني دينا قيما أفتراه يمكنه هاهنا أن يقول إن الحرب والمكيدة فهذا جواب فاسد جدا وتأمل: ما جمع الله سبحانه لرسوله في آية الفتح من أنواع العطايا وذلك خمسة أشياء أحدها: الفتح المبين والثاني: مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر والثالث: هدايته الصراط المستقيم والرابع: إتمام نعمته عليه والخامس: إعطاء النصر العزيز وجمع سبحانه له بين الهدى والنصر لأن هذين الأصلين بهما كمال السعادة والفلاح فإن الهدى هو العلم بالله تعالى ودينه والعمل بمرضاته وطاعته فهو العلم النافع والعمل الصالح والنصر والقدرة التامة على تنفيذ دينه فالحجة والبيان والسيف والسنان فهو النصر بالحجة واليد وقهر القلوب المخالفين له بالحجة وقهر أبدانهم باليد وهو سبحانه كثيرا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}

في موضعين في سورة براءة وفي سورة الصف وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فهذا الهدى ثم قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فهذا النصر فذكر الكتاب الهادي والحديد الناصر وقال تعالى: {ألم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} فذكر إنزال الكتاب الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحق والباطل وسر اقتران النصر بالهدى أن كلا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانا كما قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} فذكر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان وهو يوم بدر وهو اليوم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم ومن هذا قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين} فالفرقان نصره له على فرعون وقومه والضياء والذكر التوراة هذا هو معنى الآية ولم يصب من قال: إن الواو زائدة وإن ضياء منصوب على الحال كما بينا فساده في "الأمالي المكية" فبين أن آية الفتح تضمنت الأصلين الهدى والنصر وأنه لا يصح فيها غير ذلك البتة وأما جوابه الثاني عن قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بأنه لو عرف لجعل للكفر والضلال حظا من الاستقامة فما أدري من أين جاء له هذا الفهم مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع رحمه الله تعالى وما هي إلا كبوة جواد ونبوة صارم أفترى قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يفهم منه أن لغيره حظا من الاستقامة وما ثم غيره إلا طرق الضلال وإنما الصراط المستقيم واحد وهو ما هدى الله تعالى إليه أنبياءه ورسله أجمعين وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال أنه يفهم منه أن لغيره حظا من الاستقامة بل يقال تعريفه ينبئ أن لا يكون لغيره حظ من الاستقامة فإن

فإن التعريف في قوة الحصر فكأنه قيل الذي لا صراط مستقيم سواه وفهم هذا الاختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة فتأمله هنا وفي نظائره فصل: وأما المسألة الثالثة: وهي اشتقاق الصراط فالمشهور أنه من صرطت الشيء أصرطه إذا بلعته بلعا سهلا فسمي الطريق صراطا لأنه يسترط المارة فيه والصراط ما جمع خمسة أوصاف أن يكون طريقا مستقيما سهلا مسلوكا واسعا موصلا إلى المقصود فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطا ولا الصعب المشتق ولا المسدود غير الموصول ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال جرير: أمير المؤمنين على صراط ... إذا أعوج الموارد مستقيم وبنوا الصراط على زنة فعال لأنه مشتمل على سالكه اشتمال الحلق على الشيء المسروط وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء والغطاء والفراش والكتاب إلى سائر الباب يأتي لثلاثة معان أحدها: المصدر كالقتال والضراب والثاني: المفعول نحو الكتاب والبناء والغراس والثالث: أنه يقصد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها كالخمار والغطاء والسداد لما يخمر به ويغطى ويسد به فهذا آلة محضة والمفعول هو الشيء المخمر والمغطى والمسدود ومن هذا القسم الثالث إله بمعنى مألوه وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} وتعبيرهم عنه هاهنا بالطريق فيه نكتة بديعة وهي أنهم قدموا قبله ذكر موسى وأن الكتاب الذي سمعوه مصدقا لما بين يديه من كتاب موسى وغيره فكان فيه كالنبأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لقومه: {مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} أي لم أكن أول

رسول بعث إلى أهل الأرض بل قد تقدمت رسل من الله إلى الأمم وإنما بعثت مصدقا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان فقال مؤمنوا الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} أي إلى سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله وإنه ليس بدع كما قال في أول السورة نفسها فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ الطريق لأنه فعيل بمعنى مفعول أي مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه فذكر الطريق هاهنا إذا أولى لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين أتباعه والله أعلم ثم رأيت هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي فوافق فيه الخاطر الخاطر فصل: وأما المسألة الرابعة: وهي إضافته إلى الموصول المبهم دون أن يقول صراط النبيين والمرسلين ففيه ثلاث فوائد: إحداها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا فإن استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط فبه صاروا من أهل النعمة وهذا كما يعلق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد لما فيه من الإنعام باستحقاق ما علق عليها من الحكم بها وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} وهذا الباب مطرد فالإتيان بالاسم موصولا على هذا المعنى من ذكر الاسم الخاص الفائدة الثانية: إشارة إلى أن نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هدى إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه فالسائل مستشعر سؤاله الهداية وطلب الإنعام من الله عليه والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار

بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه والثاني يتضمن الطلب والإرادة وأن تكون منه الفائدة الثالثة: أن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة أن المسئول الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا أجل مطلوب وأعظم مسئول ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيرا وقرنه بأنفاسه فإنه لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضا متكررا في اليوم والليلة لا يقوم غيره مقامه ومن ثم يعلم تعين الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها فصل: وأما المسألة الخامسة وهي أنه قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم يقل المنعم عليهم كما قال المغضوب عليهم فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة إحداها أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وقال في الإحسان الذين أنعمت عليهم ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى

ولما جاء إلى ذكر المرض قال وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وقال فهو يشفين ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فأضاف العيب إلى نفسه وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} ومنه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل ومنه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى آخرها ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} إلى آخرها ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وتأمل قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من

غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه وهذا حقيقة العبودية واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم فحذف فاعل الغضب وقال المغضوب عليهم لما كان للمؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإن لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى فإن قولك: الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدم. فصل: المسألة السابعة: وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف إلى فجوابها أن فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة وبحرف إلى تارة وباللام تارة والثلاثة في القرآن فمن المعدى بنفسه هذه الآية وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} ومن المعدى ب إلى قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ومن المعدى باللام قوله في قول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} والفروق لهذه المواضع تدق جدا عن أفهام العلماء ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق وهي أن الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن لا يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف

الآخر وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو: رغبت عنه ورغبت فيه وعدلت إليه وعدلت عنه وملت إليه وعنه وسعيت إليه وسعيت به وأن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق نحو قصدت إليه وقصدت له وهديته إلى كذا وهديته لكذا وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن وهذا نحو قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} فإنهم يضمنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون في ذلك دليل على الفعلين أحدهما: بالتصريح به والثاني: بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها ومنه قوله في السحاب شربن بماء البحر حتى روين ثم ترفعن وصعدن وهذا أحسن من أن يقال يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري وأن يقال يروى بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم فإذا قال يشرب بها دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء فتأمله ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ} وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضمن معنى يهم فيه بكذا وهو أبلغ من الإرادة فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه ويكفي المثالان المذكوران فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي ب إلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الاختصاص والتعيين فإذا قلت هديته لكذا فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع

لذلك كله وهو التعرف والبيان والإلهام فالقائل إذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو طالب من الله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجردا معدي بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها ولو عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف فتأمله: فإنه من دقائق اللغة وأسرارها فصل: وأما المسألة الثامنة: وهي أنه خص أهل السعادة بالهداية دون غيرهم فهذه مسألة اختلف الناس فيها وطال الحجاج من الطرفين وهي أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا فمن ناف محتج بهذه وبقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} فخص هؤلاء بالإنعام فدل على أن غيرهم غير منعم عليه ولقوله لعباده المؤمنين {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} وبأن الإنعام ينافي الانتقام والعقوبة فأي نعمة على من خلق للعذاب الأبدي ومن مثبت محتج بقوله {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} وقوله لليهود: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} وهذا خطاب لهم في حال كفرهم وبقوله في سورة النحل التي عدد فيها نعمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} وهذا نص صريح لا يحتمل صرفا واحتجوا بأن البر والفاجر والمؤمن والكافر كلهم يعيش في نعمة الله وكل أحد مقر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته وهذا معلوم بالاضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابر وجحد حق الله تعالى وكفر بنعمته "وفصل الخطاب

في المسألة" أن النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم ومطلق النعمة عام للخليقة كلهم برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم فالنعمة المطلقة التامة هي المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم فهذه غير مشتركة ومطلق النعمة عام مشترك فإذا أراد النافي سلب النعمة المطلقة للكافر أخطأ وإن أراد إثبات مطلق النعمة أصاب وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع ويتبين أن كل واحد من الفريقين معه خطأ وصواب والله الموفق للصواب. وأما قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم ولهذا يعددها واحدة واحدة بأن أنجاهم من آل فرعون وأن فرق بهم البحر وأن وعد موسى أربعين ليلة فضلوا بعده ثم تاب عليهم وعفا عنهم وبأن ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من نعمه التي يعددها عليهم وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم فأمرهم أن يذكروها ليدعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته وكانت نعمته على آبائهم نعمة منه عليهم تستدعي منهم شكرا فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي وتكذيبكم له ومعاداتكم إياه وهذا لا يدل على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم والله أعلم. فصل: المسألة التاسعة: وهي أنه قال غير المغضوب ولم يقل لا المغضوب عليهم فيقال لا ريب أن "لا" يعطف بها بعد الإيجاب كما تقول جاءني زيد لا عمرو وجاءني العالم لا الجاهل وأما غير فهي تابع لما قبلها وهي صفة ليس إلا كما سيأتي وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج

العطف وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف فتقول لو أخرج الكلام مخرج العطف وقيل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لا المغضوب عليهم لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما هو مقتضى العطف فإنك إذا قلت: جاءني العالم لا الجاهل لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم وأما الإتيان بلفظ غير فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين أحدهما أنهم منعم عليهم والثاني: أنهم غير مغضوب عليهم فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم فإنه يتضمن صفتين ثبوتية وهي كونهم منعما عليهم وصفة سلبية وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب وأنهم مغايرون لأهله ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المنعم عليهم ولم تكن صفة منصوبة على الاستثناء لأنه يزول منها معنى الوصفية المقصود وفيها فائدة أخرى وهي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام فكأنه قيل لهم المنعم عليهم غيركم لا أنتم وقيل: للمسلمين المغضوب عليهم غيركم لا أنتم فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة فتأمله وتأمل كيف قال المغضوب عليهم ولا الضالين ولم يقل اليهود والنصارى مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريدا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم ولم يكونوا منهم بسبيل لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضال فتبارك من أودع كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد. فصل: وأما المسألة العاشرة: وهي جريان غير صفة على المعرفة وهي لا تتعرف بالإضافة ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن غير هنا بدل لا صفة وبدل النكرة من

المعرفة جائز وهذا فاسد من وجوه ثلاثة أحدها أن باب البدل المقصود فيه الثاني والأول توطئة له ومهاد أمامه وهو المقصود بالذكر فقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} المقصود هو أهل الاستطاعة خاصة وذكر الناس قبلهم توطئة وقولك أعجبني زيد علمه إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرت صاحبه توطئة لذكره وكذا قوله {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} المقصود إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر وهذا ظاهر جدا في بدل البعض وبدل الاشتمال ويراعى في بدل الكل من الكل ولهذا سمي بدلا إيذانا بأنه المقصود فقوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} المقصود: لنسفعا بالناصية الكاذبة الخاطئة وذكر المبدل منه توطئة لها وإذا عرف هذا فالمقصود هنا ذكر المنعم عليهم وإضافة الصراط إليهم ومن تمام هذا المقصود وتكميله الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم فجاء ذكر غير المغضوب مكملا لهذا المعنى ومتمما ومحققا لأن أصحاب الصراط المسئول هدايته هم أهل النعمة فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقق وفائدته فائدة الوصف المبين للموصوف المكمل له وهذا واضح الوجه الثاني أن البدل يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتثنيته ولهذا كان في تقدير تكرار العامل وهو المقصود بالذكر كما تقدم فهو الأول بعينه ذاتا ووصفا وإنما ذكر بوصف آخر مقصود بالذكر كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولهذا يحسن الاقتصار عليه دون الأول ولا يكون مخلا بالكلام ألا ترى أنك لو قلت في غير القرآن لله حج البيت على من استطاع إليه السبيل لكان كاملا مستقيما لا خلل فيه ولو قلت في دعائك رب اهدني صراط من أنعمت عليه من عبادك لكان مستقيما وإذا كان كذلك فلو قدر الاقتصار على غير وما في حيزها لاختل الكلام وذهب معظم المقصود منه إذ المقصود إضافة الصراط إلى

الذين أنعم الله عليهم لا إضافته إلى غير المغضوب عليهم بل أتى بلفظ غير زيادة في وصفهم والثناء عليهم فتأمله الوجه الثالث: أن غير لا يعقل ورودها بدلا وإنما ترد استثناء أو صفة أو حالا وسر ذلك أنها لم توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها ولهذا قلما يقال جاءني غير زيد ومررت بغير عمرو والبدل لا بدل أن يكون مستقلا بنفسه كما تبين أنه المقصود ونكتة الفرق أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلت الأول سلما ومرقاة إليه فهو موضع قصدك ومحط إرادتك وفي باب الصفة بخلاف ذلك إنما أنت قاصد الموصوف موضح له بصفته فجعل هذه النكتة معيارا على باب البدل والوصف ثم زن بها غير المغضوب عليهم هل يصح أن يكون بدلا أو وصفا الجواب الثاني أن غير هاهنا صح جريانه صفة على المعرفة لأنها موصولة والموصول مبهم غير معين ففيه رائحة من النكرة لإبهامه فإنه غير دال على معين فصلح وصفه ب غير لقربه من النكرة وهذا جواب صاحب الكشاف فإن قلت: كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف قلت: الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه فهو كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني ومعنى قوله: لا توقيت فيه أي لا تعيين لواحد من واحد كما تعين المعرفة بل هو مطلق في الجنس فجرى مجرى النكرة واستشهاده بالبيت معناه أن الفعل نكرة وهو يسبني وقد أوقعه صفة للئيم المعرفة باللام لكونه غير معين فهو في قوة النكرة فجاز أن ينعت بالنكرة وكأنه قال على لئيم يسبني وهذا استدلال ضعيف فإن قوله: يسبني حال منه لا وصف والعامل فيه فعل المرور المعني أمر على اللئيم سابا لي أي أمر عليه في هذه الحال فأتجاوزه ولا أحتفل بسبه الجواب الثالث: وهو الصحيح أن غير هاهنا قد تعرفت بالإضافة فأن المانع لها من تعريفها

شدة إبهامها أو عمومها في كل مغاير للمذكور فلا يحصل بها تعيين ولهذا تجري صفة على النكرة فتقول رجل غيرك يقول كذا ويفعل كذا فتجري صفة للنكرة مع إضافتها إلى المعرفة ومعلوم أن هذا الإبهام يزول لوقوعها بين متضادين يذكر أحدهما ثم تضيفها إلى الثاني فيتعين بالإضافة ويزول الإبهام الذي يمنع تعريفها بالإضافة كما قال: نحن بنو عمرو الهجان الأزهر ... النسب المعروف غير المنكر أفلا تراه أجرى غير المنكر صفة على النسب كما أجرى عليه المعرف لأنهما صفتان معينتان فلا إبهام في غير لأن مقابلها المعروف وهو معرفة وضده المنكر متميز متعين كتعين المعرف أعني تعين الجنس وهكذا قوله صراط الذين أنعمت عليهم فالمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم فإذا كان الأول معرفة كانت غير معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم فاكتسب منه التعريف وينبغي أن تتفطن هاهنا لنكتة لطيفة في غير تكشف لك حقيقة أمرها ف أين تكون معرفة وأين تكون نكرة وهي أن غيرا هي نفس ما تكون تابعة له وضد ما هي مضافة إليه فهي واقعة على متبوعها وقوع الاسم المرادف على مرادفه فإن المعرف هو تفسير غير المنكر والمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم هذا حقيقة اللفظة فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة وإن أضيفت كما إذا قلت رجل غيرك فعل كذا وكذا وإذا كان متبوعها معرفة لم تكن إلا معرفة كما إذا قيل المحسن غير المسيء محبوب معظم عند الناس والبر غير الفاجر مهيب والعادل غير الظالم مجاب الدعوة فهذا لا تكون فيه غير إلا معرفة ومن ادعى فيها التنكير هنا غلط وقال ما لا دليل عليه إذ لا إبهام فيها بحال فتأمله فإن قلت: عدم تعريفها بالإضافة له سبب آخر وهي أنها بمعنى مغاير اسم فاعل من غاير كمثل بمعنى مماثل وشبه بمعنى مشابه وأسماء الفاعلين لا تعرف بالإضافة وكذا ما ناب عنها قلت اسم الفاعل إنما لا يتعرف بالإضافة إذا أضيف إلى معموله لأن الإضافة في تقدير

الانفصال نحو هذا ضارب زيد غدا وليست غير بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في المفعول حتى يقال الإضافة في تقدير الانفصال بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات ألا ترى أن قولك غيرك بمنزلة قولك سواك ولا فرق بينهما والله أعلم. فصل: وأما المسألة الحادية عشرة: وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مخرج البدل مع أن الأول في نية الطرح "فالجواب" أن قولهم الأول في البدل في نية الطرح كلام لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه بل البدل نوعان نوع يكون الأول فيه في نية الطرح وهو بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال لأن المقصود هو الثاني لا الأول وقد تقدم ونوع لا ينوي فيه طرح الأول وهو بدل الكل من الكل بل يكون الثاني بمنزلة التذكير والتوكيد وتقوية النسبة مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه من الفائدة المتجددة الزائدة على الأول فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار بحصول وصف المبدل للمبدل منه فإنه لما قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فكأن الذهن طلب المعرفة ما إذا كان هذا الصراط مختصا بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا كما إذا دللت رجلا على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها فأنت تقول هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك ثم تزيد ذلك عنده توكيدا وتقوية فتقول وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدرا زائدا على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسي والمتابعة فإذا ذكر لها من تتأسى به

في سلوكها أنست واقتحمتها فتأمله فصل: وأما المسألة الثانية عشرة: وهي ما وجه تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى مع تلازم وصفي الغضب والضلال فالجواب أن يقال هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع أما اليهود فقال تعالى في حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} وفي تكرار هذا الغضب هنا أقوال أحدها: أنه غضب متكرر في مقابلة تكرر كفرهم برسول صلى الله عليه وسلم الله والبغي عليه ومحاربته فاستحقوا بكفرهم غضبا وبالبغي والصد عنه غضبا آخر ونظيره قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} فالعذاب الأول بكفرهم والعذاب الذي زادهم إياه بصدهم الناس عن سبيله القول الثاني: أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح القول الثالث: أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح والغضب الثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والصحيح في الآية أن التكرار هنا ليس المراد به التثنية التي تشفع الواحد بل المراد غضب بعد غضب بحسب تكرر كفرهم وإفسادهم وقتلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح وبمحمد صلى الله عليه وسلم ومعاداتهم لرسل الله إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي

غضبا على حدته وهذا كما في قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي كرة بعد كرة لا مرتين فقط وقصد التعدد في قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أظهر ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة وتحريفهم وتبديلهم يستدعي غضبا وتكذيبهم الأنبياء يستدعي غضبا آخر وقتلهم إياهم يستدعي غضبا آخر وتكذبيهم المسيح وطلبهم قتله ورميهم أمه بالبهتان العظيم يستدعي غضبا وتكذبيهم النبي صلى الله عليه وسلم يستدعي غضبا ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبا وصدهم من أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبا فهم الأمة الغضبية أعاذنا الله من غضبه فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر وكانوا أحق بهذا الاسم والوصف من النصارى وقال تعالى في شأنهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فهذا غضب مشفوع باللعنة والمسخ وهو أشد ما يكون من الغضب وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} فهذا خطاب للنصارى لأنه في سياق خطابه معهم بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} إلى قوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولا ثم أضلوا كثيرا وهم أتباعهم فهذا قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ازدادوا ضلالا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به فتضاعف الضلال في حقهم هذا

قول طائفة منهم الزمخشري وغيره وهو ضعيف فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع فوصفهم بثلاث صفات إحداها أنهم قد ضلوا من قبلهم والثانية: أضلوا أتباعهم والثالثة: أنهم ضلوا عن سواء السبيل فهذه صفات لأسلافهم الذين نهي هؤلاء عن اتباع أهوائهم فلا يصح أن يكون وصفا للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم هم المنهيون أنفسهم لا المنهي عنهم فتأمله وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالا فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده ويعبد من لا ينبغي أن يعبده وقد يصيب مقصودا حقا لكن يضل في طريق طلبة والسبيل الموصلة إليه فالأول ضلال في الغاية والثاني ضلال في الوسيلة ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه وزعموا أن إلههم بشر يأكل ويشرب ويبكي وأنه قتل وصلب وصفع فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به وضلوا عن السبيل الموصلة إليه فلا اهتدوا إلى المطلوب ولا إلى الطريق الموصل إليه ودعوا أتباعهم إلى ذلك فضلوا عن الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرا فكانوا أدخل في الضلال من اليهود فوصفوا بأخص الوصفين والذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق فإنهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها

فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غير عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالا محضا وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوبا عليهم ضالين ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق والبغي يمنعه من إرادته كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة فيعلمه ويعرفه ثم يجعله مريدا له قاصدا لاتباعه فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال كان السلف يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وهذا كما قالوا فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم وتلبيس الحق بالباطل فهذا شبهه باليهود ظاهر وأما من فسد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الإتحاد فشبهه بالنصارى ظاهر فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشبهين غاية البعد ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب فصل تقديم {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ والضالين} .آمين إنه قريب مجيب.

فصل: وأما المسألة الثالثة عشرة: وهو تقديم المغضوب عليهم على الضالين فلوجوه أحدها أنهم متقدمون عليهم بالزمان الثاني أنهم كانوا هم الذين يلون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة والنصارى كانت ديارهم نائية عنه ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور الثالث أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم الرابع وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين فقولك الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك منعم عليه وضال فصل اسم المفعول في المغضوب واسم الفاعل في الضال. فصل: وأما المسألة الرابعة عشرة: وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي الضالين باسم الفاعل فجوابهما ظاهر فإن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوب عليهم وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضلال واكتسبوه ولهذا استحقوا العقوبة عليه ولا يليق أن يقال ولا المضلين مبنيا للمفعول لما في رائحته من إقامة عذرهم وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم بل فعل فيهم ولا حجة في هذا للقدرية فإنا نقول إنهم هم الذين ضلوا وإن كان الله أضلهم بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلا إلا على جهة

المجاز لا الحقيقة فتضمنت الآية الرد عليهم كما تضمن قوله اهدنا الصراط المستقيم الرد على القدرية ففي الآية إبطال قول الطائفتين والشهادة لأهل الحق أنهم هم المصيبون وهم المثبتون للقدر توحيدا وخلقا والقدرة لإضافة أفعال العباد إليهم عملا وكسبا وهو متعلق الأمر والعمل كما أن الأول متعلق الخلق والقدرة فاقتضت الآية إثبات الشرع والقدر والمعاد والنبوة فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه فالمنعم عليهم رسله وأتباعهم ليس إلا وهدى أتباعهم إنما يكون على أيديهم فاقتضى إثبات النبوة بأقرب طريق وأبينهما وأدلها على عموم الحاجة وشدة الضرورة إليها وأنه لا سبيل للعبد أن يكون من المنعم عليهم إلا بهداية الله له ولا تنال هذه الهداية إلا على أيدي الرسل وأن هذه الهداية لها ثمرة وهي النعمة التامة المطلقة في دار النعيم ولخلافها ثمرة وهي الغضب المقتضي للشفاء الأبدي فتأمل كيف اشتملت هذه الآية مع وجازتها واختصارها على أهم مطالب الدين وأجلها والله الهادي إلى سواء السبيل وهو أعلم. فصل: وأما المسألة الخامسة عشرة: وهي ما فائدة زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه ففي ذلك أربع فوائد أحدها: أن ذكرها تأكيد للنفي الذي تضمنه غير فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف عليها ب لا مع الواو فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين أو غير المغضوب عليهم وغير الضالين الفائدة الثانية: أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كل نوع بمفرده فلو لم يذكر لا وقيل: غير المغضوب عليهم والضالين أوهم أن المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين لا ما غاير كل نوع بمفرده فإذا قيل ولا الضالين كان صريحا في أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيد وعمرو فإنما نفيت القيام عنهما ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده الفائدة الثالثة: رفع توهم أن الضالين وصف للمغضوب

عليهم وأنهما صنف واحد وصفوا بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} إلى آخرها فإن هذه صفات المؤمنين ومثل قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} ونظائره فلما دخلت لا علم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر وكانت لا أولى بهذا المعنى من غير لوجوه أحدها: أنها أقل حروفا الثاني: التفادي من تكرار اللفظ الثالث: الثقل الحاصل بالنطق ب غير مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة ولا ريب أنه ثقيل على اللسان الرابع: أن لا إنما يعطف بها بعد النفي فالإتيان بها مؤذن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم كما نفى عنهم الضلال وغير وإن أفهمت هذا فلا أدخل في النفي منها وقد عرف بهذا جواب المسألة السادسة عشرة وهي أن لا إنما يعطف بها في النفي. فصل: وأما المسألة السابعة عشرة: وهي أن الهداية هنا من أي أنواع الهدايات فاعلم أن أنواع الهداية أربعة أحدها الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره وأعطى كل عضو شكله وهيئته وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال وهذه هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره وهداية الجمال المسخر لما خلق له فله هداية تليق به كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها وكذلك كل عضو له هداية تليق به فهدى الرجلين للمشي واليدين للبطش والعمل واللسان للكلام والأذن للاستماع والعين لكشف المرئيات وكل عضو لما خلق له

وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج والتناسل وتربية الولد وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه مراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو فتبارك الله رب العالمين وهدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومن الأبنية ثم تسلك سبل ربها مذللة لها لا تستعصي عليها ثم تأوي إلى بيوتها وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والائتمام به أين توجه بها ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة البناء ومن تأمل بعض هدايته المثبوتة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر وأول وهلة وأحسن طريق وأخصرها وأبعدها من كل شبهة فإنه لم يهمل هذه الحيوانات سدى ولم يتركها معطلة بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه مهملا وسدى معطلا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته بل يتركه معطلا لا يأمره ولا ينهاه ولا يثبه ولا يعاقبه وهل هذا إلا مناف لحكمته ونسبته له مما لا يليق بجلاله ولهذا أنكر ذلك على من زعمه ونزه نفسه عنه وبين أنه يستحيل نسبة ذلك إليه وأنه يتعالى عنه فقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} فنزه نفسه عن هذا الحسبان فدل على أنه مستقر بطلانه في الفطر السليمة والعقول المستقيمة وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل وأنه مما تظاهر عليه العقل والشرع وكما هو أصح الطريقين في ذلك ومن فهم هذا فهم سر اقتران قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة وأن من لم يهمل أمر كل دابة في الأرض ولا طائر

يطير بجناحيه بل جعلها أمما وهداها إلى غاياتها ومصالحها وكيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم فهذه أحد أنواع الهداية وأعمها النوع الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام فإنها سبب وشرط لا موجب ولهذا ينبغي الهدى معها كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا ومنها قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للاهتداء فلا يتخلف عنها وهي المذكورة في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وفي قوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له " رواه مسلم وأحمد والبيهقي وفي قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} النوع الرابع: غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وقال أهل الجنة فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} وقال تعالى عن أهل النار: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} إذا عرف هذا فالهداية المسئولة في قوله: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة خاصة فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام طلب التعريف والبيان والتوفيق فإن قيل: كيف يطلب التعريف والبيان وهو حاصل له وكذلك الإلهام والتوفيق قلنا: لقد أجيب عنها بأن المراد التثبيت ودوام الهداية واعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد ستة أمور هو محتاج إليها حاجة

لا غنى له عنها الأمر الأول معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبا للرب تعالى مرضيا له فيؤثره وكونه مغضوبا له مسخوطا عليه فيجتنبه فإن نقص من هذا العلم والمعرفة شيء نقص من الهداية التامة بحسبه الأمر الثاني: أن يكون مريد الجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازما عليه ومريدا لترك جميع ما نهى الله عازما على تركه بعد خطوره بالبال مفصلا وعازما على تركه من حيث الجملة مجملا فإن نقص من إرادته لذلك شيء نقص من الهدى التام بحسب ما نقص من الإرادة الأمر الثالث أن يكون قائما به فعلا وتركا فإن نقص من فعله شيء نقص من هداه بحسبه فهذه ثلاثة هي أصول في الهداية ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها أحدها: أمور هدي إليها جملة ولم يهتد إلى تفاصيلها فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها الثاني: أمرو هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها لتكمل له هدايتها الثالث: الأمور التي هدي إليها تفصيلا من جميع وجوهها فهو محتاج إلى الاستمرار إلى الهداية والدوام عليها فهذه أصول تتعلق بما يعزم على فعله وتركه الأمر السابع يتعلق بالماضي وهو أمور وقعت منه على غير جهة الاستقامة فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها وإذا كان كذلك فإنما يقال كيف يسأل الهداية وهي موجودة له ثم يجاب عن ذلك بأن المراد التثبيت والدوام عليها إذا كانت هذه المراتب حاصلة له بالفعل فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال تثبيت ودوام فأما إذا كان ما يجهله أضعاف ما يعلمه وما لا يريده من رشده أكثر مما يريده ولا سبيل له إلى فعله إلا بأن يخلق الله فاعليه فيه فالمسئول هو أصل الهداية على الدوام تعليما وتوفيقا وخلقا للإرادة فيه وإقدارا له وخلقا للفاعلية وتثبيتا له على ذلك فعلم أنه ليس أعظم ضرورة منه إلى سؤال الهداية أصلها وتفصيلها علما وعملا والتثبيت عليها والدوام إلى الممات وسر ذلك أن العبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه ويذره أصلا وتفصيلا وتثبيتا ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج

من سؤال الهداية فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم وأن يثبت قلوبنا على دينه. فصل: أما المسألة التاسعة عشرة: وهي الإتيان بالضمير في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} ضمير جمع فقد قال بعض الناس في جوابه: إن كل عضو من أعضاء العبد وكل حاسة ظاهرة وباطنة مفتقرة إلى هداية خاصة به فأتى بصيغة الجمع تنزيلا لكل عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه وعرضت هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فاستضعفه جدا وهو كما قال: "فإن الإنسان اسم للجملة لا لكل جزء من أجزائه وعضو من أعضائه" والقائل إذا قال: "اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني" سائل من الله ما يحصل لجملته ظاهره وباطنه فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألة تخصه يفرد لها لفظه فالصواب أن يقال هذا مطابق لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته فأتى به بصيغة ضمير الجمع أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك فيكون هذا أحسن وأعظم موقعا عند الملك من أن يقول أنا عبدك ومملوكك ولهذا لو قال أنا وحدي مملوكك استدعى مقته فإذا قال أنا وكل من في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك كان أعظم وأفخم لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدا وأنا واحد منهم وكلنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بك وطلب الهداية منك فقد تضمن

ذلك من الثناء على الرب بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الإفراد فتأمله وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ونحو دعاء آخر البقرة وآخر آل عمران وأولها وهو أكثر أدعية القرآن الكريم. فصل: المسألة العشرون: وهي ما هو الصراط المستقيم فنذكر فيه قولا وجيزا فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصه لعباده على ألسن رسله وجعله موصلا لعباده إليه ولا طريق لهم إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة إلا هذا وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحدا في عبوديته ولا يشرك برسوله أحدا في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول وهذا معنى قول بعض العارفين: "إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبته وحسن معاملته" وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأي شيء فسر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته الأول يحصل بالتحقيق بشهادة أن لا إله إلا الله والثاني يحصل بالتحقيق بشهادة أن محمدا رسول الله وهذا هو الهادي ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل له وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها وهي معنى قول من قال علوم وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مشكاة النبوة ومعنى قول من قال: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا علما وعملا

ومعنى قول من قال: الإقرار لله بالوحدانية والاستقامة على أمره وأما ما عدا هذا من الأقوال كقول من قال: الصلوات الخمس وقول من قال: حب أبي بكر وعمر وقول من قال: هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع لا تفسير مطابق له بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم والله أعلم. فائدة: في بدل البعض من الكل وبدل المصدر من الاسم وهما جميعا يرجعان في المعنى والتحصيل إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة إلا أن البدل في هذين الموضعين لا بد من إضافته إلى ضمير المبدل منه بخلاف بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة أما اتفاقهم في المعنى فإنك إذا قلت: رأيت القوم أكثرهم أو نصفهم فإنما تكلمت بالعموم وأنت تريد الخصوص وهو كثير شائع فأردت بعض القوم وجعلت أكثرهم أو نصفهم تبيينا لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم كما كان الاسم المبدل مضافا إلى القوم فقد آل الكلام إلى أنك أبدلت شيئا من شيء وهما لعين واحدة وكذلك بدل المصدر من الاسم لأن الاسم من حيث كان جوهرا لا يتعلق به المدح والذم والإعجاب والحب والبغض إنما متعلق ذلك ونحوه صفات وأعراض قائمة به فإذا قلت: نفعني عبد الله علمه دل أن الذي نفعك منه صفة وفعل من أفعاله ثم بينت ذلك الوصف فقلت علمه أو إرشاده أو رويته فأضفت ذلك إلى ضمير الاسم كما كان الاسم المبدل منه مضافا إليه في المعنى فصار التقدير نفعني صفة زيد أو خصلة من خصاله ثم بينتها بقولك علمه أو إحسانه أو لقاؤه فآل المعنى إلى بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة وإذا تقرر هذا فلا يصح في بدل الاشتمال أن يكون الثاني جوهرا لأنه لا يبدل جوهر من عرض ولا بد من

إضافته إلى ضمير الاسم لأنه بيان لما هو مضاف إلى ذلك الاسم في التقدير والعجب من الفارسي يقول في قوله تعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} أنها بدل من الأخدود بدل اشتمال والنار جوهر قائم بنفسه ثم ليست مضافة إلى ضمير الأخدود وليس فيها شرط من شرائط الاشتمال وذهل أبو علي عن هذا وترك ما هو أصح في المعنى وأليق بصناعة النحو وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فكأنه قيل أصحاب الأخدود أخدود النار ذات الوقود فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة كما قال الشاعر: رضيعي لبان ثدي أم تحالفا على رواية الجر في ثدي أم أراد لبان ثدي فحذف المضاف. فائدة بديعة: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} حج البيت مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله على الناس لأنه وجوب والوجوب يقتضي على ويجوز أن يكون في قوله ولله لأنه يتضمن الوجوب والاستحقاق ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير وكان الأحق أن يكون ولله ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله: "حج البيت على الناس" أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال حج البيت لله تعالى أي حق واجب لله فتأمله وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان إحداهما: أنه اسم للموجب للحج فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع أحدها: الموجب لهذا الفرض فبديء بذكره والثاني: مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس والثالث: النسبة

والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء وهو الحج والفائدة الثانية: أن الاسم المجرور من حيث كان لله تعالى اسما سبحانه وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه وتخويفا من تضييعه إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما أوجبه غيره وأما قوله: من فهي بدل وقد استهوى طائفة من الناس بأنها فاعل المصدر كأنه قال: "أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا" وهذا القول يضعف من وجوه منها أن الحج فرض عين ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم لأن المعنى يؤول إلى ولله على الناس أن يحج البيت مستطيعهم فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين وليس الأمر كذلك بل الحج فرض عين على كل أحد حج المستطيعون أو قعدوا ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه فإذا حج أسقط الفرض عن نفسه وليس حج المستطيعين بمسقط للفرض عن العاجزين وإن أردت زيادة إيضاح فإذا قلت: واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعة للجهاد فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب عن غيرهم وإذا قلت: واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال ولله حج البيت على المستطيعين هذه النكتة البديعة فتأملها الوجه الثاني: أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه وكان يقال ولله على الناس حج البيت من استطاع وحمله على باب يعجبني ضرب زيدا عمرو مما يفصل به بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكثور المرجوح وهي قراءة ابن عامر قتل أولادهم بفتح الدال شركائهم فلا يصار إليه وإذا ثبت أن من بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود

إلى الناس كأنه قيل: من استطاع منهم وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن وحسنه هاهنا أمور منها أن من واقعة على من يعقل كالاسم المبدل منه فارتبطت به ومنها: أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد ومثال ذلك إذا قلت: رأيت أخواتك من ذهب إلى السوق تريد من ذهب منهم لكان قبيحا لأن الذاهب إلى السوق أعم من الأخوة وكذلك لو قلت البس الثياب ما حسن وجمل تريد منها ولم تذكر الضمير لكان أبعد في الجواز لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب وباب بدل البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص ومما حسن حذف الضمير في هذه الآية أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول وأما المجرور من قوله إليه فيحتمل وجهين أحدهما: أن يكون في موضع حال من سبيل كأنه نعت نكرة قدم عليها لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل والثاني أن يكون متعلقا بسبيل فإن قيل: كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل قيل: السبيل كان هاهنا عبارة عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما كان فيه رائحة الفعل ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق فصلح تعلق المجرور به واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير لأنه ضمير يعود على البيت والبيت هو المقصود به الاعتناء وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعنى هذا تعبير السهيلي وهو بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين ولا يليق بالآية سواه وهو الوجوب المفهوم من قوله على الناس أي يجب على الناس الحج فهو حق واجب وأما تعليقه بالسبيل أو جعله حالا منها ففي غاية البعد فتأمله ولا يكاد يخطر بالبال من الآية وهذا كما يقول لله عليك الحج ولله عليك الصلاة والزكاة ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر

والنهي وهو الأكثر أو بلفظ الإيجاب والكتاب والتحريم نحو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} نظم الآية وتأكد الوجوب وفي الحج أتى بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه أحدها: أن قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على ثم أبدل منه أهل الاستطاعة ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي سبيل تيسرت من قوت أو مال فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال: ومن كفر أي بعدم التزام هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه والله تعالى هو الغني الحميد ولا حاجة به إلى حج أحد وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو من أعظم التهديد وأبلغه ثم أكد ذلك بذكر اسم العالمين عموما ولم يقل فإن الله غني عنه لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه عن كل أحد بكل اعتبار وكان أدل على عظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه ثم أكد هذا المعنى بأداة إن الدالة على التوكيد فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكيد هذا الغرض العظيم وتأمل سر البدل في الآية المقتضى لذكر الإسناد مرتين مرة بإسناده إلى عموم الناس ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرار الإسناد ولهذا كان فيه نية تكرار العامل وإعادته ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وحلتين اعتناء به وتأكيدا لشأنه ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه وإن لم يطلب ذلك منها فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فوصفه بخمس صفات أحدها: أنه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض الثاني: أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه وليس في بيوت العالم

أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق الثالث: أنه هدى وصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى كأنه هو نفس الهدى الرابع: ما تضمنه من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية الخامس: الأمن لداخله وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات وهذا يدلك على الاعتناء منه سبحانه بهذا البيت العظيم والتنويه بذكره والتعظيم لشأنه والرفعة من قدره ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسلبت نفوسهم حبا له وشوقا إلى رؤيته فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا كلما ازدادوا له زيادة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسلبهم كما قيل: أطوف به والنفس بعد مشوقة ... إليه وهل بعد الطواف تداني وألثم منه الركن أطلب برد ما ... بقلبي من شوق ومن هيمان فو الله ما أزداد إلا صبابة ... ولا القلب إلا كثرة الخفقان فيا جنة المأوى ويا غاية المنى ... ويا منيتي من دون كل أمان أبت غلبات الشوق إلا تقربا ... إليك فما لي بالبعاد يدان وما كان صدى عنك صد ملالة ... ولي شاهد من مقلني ولساني دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا ... فلبى البكا والصبر عنك عصاني وقد زعموا أن المحب إذا نأى ... سيبلى هواه بعد طول زمان ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا ... دواء الهوى في الناس كل أوان بل إنه يبلى التصبر والهوى ... على حاله لم يبله الملوان وهذا محب قاده الشوق والهوى ... بغير زمام قائد وعنان أتاك على بعد المزار ولو ونت ... مطيته جاءت به القدمان

فائدة بديعة: قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} من باب بدل الاشتمال والسؤال إنما وقع عن القتال فيه فلم قدم الشهر وقد قلتم إنهم يقدمون ما هم ببيانه أهم وهم به أعنى قيل السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال في الشهر وتشنيع أعدائهم عليهم وانتهاك حرمته فكان اعتناؤهم واهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال فالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر فلذلك قدم في الذكر وكان تقديمه مطابقا لما ذكرنا من القاعدة فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر وهلا اكتفى بضميره فقال قل هو كبير وأنت إذا قلت سألته عن زيد أهو في الدار كان أوجز من أن تقول أزيد في الدار قيل في إعادته بلفظ الظاهر نكتة بديعة وهي تعلق الحكم الخبري باسم القتال فيه عموما ولو أتى بالمضمر وقال هو كبير لتوهم اختصاص الحكم بذلك القتال المسئول عنه وليس الأمر كذلك وإنما هو عام في كل قتال وقع في شهر حرام ونظير هذه الفائدة قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته " صحيح فأعاد لفظ الماء ولم يقتصر على قوله: "نعم توضئوا به" لئلا يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص فعدل عن قوله: "نعم توضئوا" إلى جواب عام يقتضي تعلق الحكم والطهور به بنفس مائه من حيث هو فأفاد استمرار الحكم على الدوام وتعلقه بعموم الآية وبطل توهم قصره على السبب فتأمله فإنه بديع فكذلك في الآية لما قال قتال فيه كبير فجعل الخبر بكبير واقعا على قتال فيه فيطلق الحكم به على العموم ولفظ المضمر لا يقتضي ذلك وقريب من هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} ولم يقل

أجرهم تعليقا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين وليس في الضمير ما يدل على الوصف المذكور وقريب منه وهو ألطف معنى قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ولم يقل فيه تعليقا لحكم الاعتزال بنفس الحيض وأنه هو سبب الاعتزال وقال تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} ولم يقل الحيض لأن الآية جار: {قُلْ هُوَ أَذىً} فإنه إخبار بالواقع والمخاطبون يعلمون أن جهة كونه أذى هو نفس كونه حيضا بخلاف تعليق الحكم به فإنه إنما يعلم بالشرع فتأمله. فائدة: إنما امتنع مجيء الحال من المضاف إليه لأن الحال شبه الظرف والمفعول فلا بد لها من عامل ومعنى الإضافة أضعف من لامها ولامها لا تعمل في ظرف ولو مفعول فمعناها أولى بعدم العمل فإن قلت: فاجعل العامل فيها هو العامل في المضاف قلت: هو محال لا يجب اتحاد العامل في الحال وصاحبها فلو كان العامل فيها هو العامل في المضاف لكانت حالا منه دون المضاف إليه فتستحيل المسألة فأما إذا كان المضاف فيه معنى الفعل نحو: قولك هذا ضارب هند قائمة وأعجبني خروجها راكبة جاز انتصاب الحال من المضاف إليه لأن ما في المضاف من معنى الفعل واقع على المضاف إليه وعامل فيما هو حال منه وعلى هذا جاء قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا} فإن ما في مثوى وأصحاب من معنى الفعل يصحح عمله في الحال بخلاف قولك: رأيت غلام هند راكبة فإنه ليس في الغلام شيء من رائحة الفعل وقد يجوز انتصاب الحال عن

المضاف إليه إذا كان المضاف جزءه أو منزلا منزلة جزئه نحو رأيت وجه هند قائمة لأن البعض يجري عليه حكم الكل في اقتضاء العامل له فجاز أن يعمل في الحال ما يعمل في بعض صاحبها لتنزله منزلته وسريان حكم البعض إلى الكل لا ينكر لا لغة ولا شرعا ولا عقلا فاللغة نحو هذا ونحو قوله ذهبت بعض أصابعه وسرقت صدر القناة وتواصفت سور المدينة وهو كثير وأما الشرع فكسريان العتق في الشقص المشترك وأما العقل فإن الارتباط الذي بين الجزء والكل يقتضي أن يثبت لأحدهما ما يثبت للآخر وعلى هذا جاء قول الشاعر: كان حواء منه مدبرا وقول حبيب: والعلم في شهب الأرماح لامعة فائدة بديعة: إن قيل: كيف يضمرون الناصب في مثل ولبس عباءة وتقر عيني وبابه ولا يجوزون إضمار الخافض ولا الجازم ولا إضمار نواصب الأسماء وعوامل الأسماء عندكم أقوى من عوامل الأفعال قيل نحن لا نجيز إضمار أن الناصبة إلا بإحدى شرائط إما مع الواو العاطفة على مصدر نحو تقتضى لبانات وسيام سايم ولبس عباءة وتقر عيني ألا ترى أنك لو جعلت مكان اللبس والتقضي اسما غير مصدر فقلت: يعجبني زيد ويذهب عمرو لم يجز وإنما جاز هذا مع المصدر لأن الفعل المنصوب بأن مشتق من المصدر ودال عليه بلفظه فكأنك عطفت مصدرا على مصدر فإن قيل: فكان ينبغي أن يستغنى بمجرد لفظ الفعل عن ذكر المصدر وإضمار أن فيقال: ألبس عباءة وتقر عيني وأقضي لبانات وسيام سايم قيل: هذا سؤال حسن يستدعي جوابا قويا وقد أجيب عنه بأن الأول لو جعل فعلا مضارعا لكان مرفوعا فإذا عطفت عليه الثاني: شاركه في إعرابه وعامله ورافع المضارع ضعيف

لا يقوى على العمل في الفعلين فإن العامل في المعطوف والمعطوف عليه واحد ولا يخفى فساد هذا الجواب فإنه منتقض بالطم والرم مما يعطف فيه المضارع على مثله كقوله: زيد يذهب ويركب وإنما يذهب ويخرج زيد وأمثال ذلك فالجواب الصحيح أن يقال المراد ما في المصدر من الدلالة على ثبوت نفس الحدث وتعليق الحكم به دون تقييده بزمان دون زمان فلو أتى الفعل المقيد بالزمان لفات الغرض ألا ترى أن قولها ولبس عباءة وتقر عيني المراد به حصول نفس اللبس مع كونها تقر عينها كل وقت شيئا بعد شيء فقرة العين مطلوب تجددها بحسب تجدد الأوقات وليس هذا مرادا في لبس العباءة وكذا قولك آكل الشعير وأكف وجهي عن الناس أحب إلى من أكل البر وأبذل وجهي لهم أفلا ترى تفضيل أكل الشعير على أكل البر ويدوم له كف وجهه عن الناس كما أن تلك فضلت لبس العباءة على لبس الشفوف وتدوم لها قرة العين فعلمت أن المقصود ماهية المصدر وحقيقته لا تقييده بزمان دون زمان ولما كانت أن والفعل تقع موقع المصدر ويؤولان به في الإخبار عنهما كما يخبر عن الاسم نحو قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي صيامكم أول المصدر ب أن والفعل في صحة عطف الفعل عليه وهذا من باب المقابلة والموازنة وقد جاء عطف الفعل على الاسم إذا كان فيه معنى الفعل نحو: صافات ويقبضن وإن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله تعالى ومنه وجيها ومن المقربين ويكلم الناس في المهد لأن الاسم المعطوف عليه لما كان حاملا للضمير صار بمنزلة الفعل ولو كان مصدرا لم يجز عطف الفعل عليه إلا بإضمار أن لأن المصادر لا تتحمل الضمائر فإن قيل: فلم جاز عطف الفعل على الاسم الحامل للضمير ولم يعطف الاسم على الفعل فتقول مررت برجل يقعد وقائم كما تقول قائم ويقعد قيل: هذا سؤال قوي ولما رأى بعض النحاة أنه لا فرق بينهما أجاز ذلك وهو الزجاج فإنه أجازه في معاني القرآن والصحيح أنه قبيح والفرق بينهما أنك إذا عطفت الفعل على الاسم المشتق منه رددت الفرع إلى الأصل لأن الاسم أصل الفعل والفعل متفرع عنه

فجاز عطف الفعل عليه لأنه ثان والثواني فروع على الأوائل وإذا عطفت الاسم على الفعل كنت قد رددت الأصل فرعا وجعلته ثانيا وهو أحق بأن يكون مقدما لأصالته. وسر المسألة: أن عطف الفعل على الاسم في مثل قوله صافات ويقبضن ومررت برجل قائم ويقعد أن الاسم معتمد على ما قبله وإذا كان إسم الفاعل معتمدا عمل عمل الفعل وجرى مجراه والاعتماد أن يكون نعتا أو خبرا أو حالا والذي بعد الواو ليس بمعتمد بل هو اسم محض فيجري مجرى الفعل فائدة: لما كان الفعل اللازم هو الذي لزم فاعله ولم يجاوزه إلى غيره جاء مصدره مثقلا بالحركات إذ المثقل من صفة ما لزم محله ولم ينتقل عنه إلى غيره والخفة من صفة المنتقل من محله إلى غيره فكان خفة اللفظ في هذا الباب وثقله موازنا للمعنى فما لزم مكانه ومحله فهو الثقيل لفظا ومعنى وما جاوزه وتعداه فهو الخفيف لفظا ومعنى ومن هاهنا يرجح قول سيبويه أن دخلت الدار غير متعد لأن مصدره دخول فهو كالخروج والقعود وبابه إلا أن الفعل منه لم يجيء على فعل لأنه ليس بطبع في الفاعل ولا خصلة ثابتة فيه فإن كان الفعل عبارة عما هو طبع وخصلة ثابتة نقلوه بضم العين كظرف وكرم فهذا الباب ألزم للفاعل من باب قعد ودخل فكان أثقل منه لفظا وباب قعد وخرج ألزم للفاعل من الفعل المتعدي كضرب فكان أثقل منه مصدرا وإن اتفقا في لفظ الفعل ولزم مصدر فعل الذي هو طبع وخصلة وزن الفعال كالجمال والكمال والبهاء والسناء والجلال والعلاء هذا إذا كان المعنى عاما مشتملا على خصال لا تختص بخصلة واحدة فإن اختص المعنى بخصلة واحدة صار كالمحدود ولزمته تاء التأنيث لأنها تدل على نهاية

ما دخلت عليه كالضربة من الضرب وحذفها في هذا الباب وفي أكثر الأبواب يدل على انتفاء النهاية ألا ترى أن الضرب يقع على القليل والكثير إلى غير نهاية وإنما استحقت التاء ذلك لأن مخرجها منتهى الصوت وغايته فصلحت للغايات ولذلك قالوا: علامة ونسابة أي غاية في هذا الوصف فإذا عرفت هذا فالجمال والكمال كالجنس العام من حيث لم تكن فيه التاء المخصوصة بالتحديد والنهاية وقولك ملح ملاحة وفصح فصاحة هو على وزنه إلا في التاء لأن الفصاحة خصلة من خصال الكمال وكذلك الملاحة فحددت بالتاء لأنها ليست بجنس عام كالكمال والجمال فصارت كباب الضربة والثمرة من الضرب والثمر ألا ترى إلى قول خالد بن صفوان وقد قالت له امرأته إنك لجميل فقال أتقولين ذلك وليس عندي عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه ولكن قولي إنك لمليح ظريف فجعل الملاحة خصلة من خصال الجمال فبان صحة ما قلناه وعلى هذا قالوا الحلاوة والأصالة والرجاحة والرزانة والمهابة وفي ضد ذلك السفاهة والوضاعة والحماقة والرذالة لأنها كلها خصال محدودة بالإضافة إلى السفال الذي هو في مقابلة العلاء والكمال لأنه جنس يجمع الأنواع التي تحته وهذا هو الأصل في هذا الباب فمتى شذ عنه منه شيء فلمانع وحكمة أخرى كقولهم شرف الرجل شرفا ولم يقولوا شرافا لأن الشرف رفعه في آبائه وهو شيء خارج عنه بخلاف كمل كمالا وجمل جمالا فإنه جماله وكماله وصف قائم به وهذا لأنه شرف مستعار من شرف الأرض وهو ما ارتفع منها فاستعير للرجل الرفيع في قومه كأن آباءه الذين ذكر بهم وارتفع بسببهم شرف له وكذلك قولهم في هذا الباب الحسب لأنه من باب القبص والنقص لا من باب المصادر لأن الحسب ما يحسبه الإنسان ويعده لنفسه من الخصال الحميدة والأخلاق الشريفة واستحق الاسم الشامل في هذا الباب اسم الفعال بفتح الفاء والعين وبعدهما ألف وهي فتح ليكون اللفظ الذي يتوالى فيه الفتح موازنا لانفتاح المعنى واتساعه ولذلك أطرد في الجمع الكثير

نحو مفاعل وفعايل وبابه وأطرد في باب تفاعل نحو تقاتل وتخاصم وتمارض وتغافل وتناوم لأنه إظهار للأمر ونشر له ومن هذا الباب حلم فإنه يوافقه في وجه يخالفه في وجه لأنه يدل على إثبات الصفة فوافق شرف وكرم في الضم وخالفه في المصدر لمخالفته له في المعنى لأنه صفة تقتضي كف النفس وجمعها عن الانتقام والمعاقبة ولا يقتضي انتفاحا ولا انتشارا فقالوا: حلم لأنه من بناء الخصال والطبائع وقالوا: حلماء لأن الصفة صفة جمع النفس وضمها وعدم إرسالها في الانتقام فتأمله ومن هذا الباب كبر وصغر موافق لما قبله في الفعل مخالف له في المصدر لأن الكبر والصغر عبارة عن اجتماع أجزاء الجسم في قلة أو كثرة وليس من الصفات والأحداث المنتشرة وهذا تنبيه لطيف على ما هو أضعاف ذلك. فائدة: فعل المطاوعة هو الواقع مسببا عن سبب اقتضاء نحو كسرته فانكسر فزيدت النون في أوله قبل الحروف الأصلية ساكنة كيلا تتوالى الحركات ثم وصل إليه بهمزة الوصل وقد تقدم أن الزوائد في الأفعال والأسماء موازنة للمعاني الزائدة على معنى الكلمة فإن كان المعنى الزائد مترتبا قبل المعنى الأصلي كانت الحروف الزائدة قبل الحروف الأصلية كالنون في الفعل وكحروف المضارعة في بابها وإن كان المعنى الزائد في الكلمة آخرا كان الحرف الزائد على الحروف الأصلية آخرا كعلامة التأنيث وعلامة التثنية والجمع ومن هذا الباب تفعلل وتفاعل أما تفعل فلا يتعدى البتة لأن التاء فيه بمثابة النون في الفعل إلا أنهم خصوا الرباعي بالتاء وخصوا الثلاثي بالنون فرقا بينهما ولم تكن التاء هنا ساكنة كالنون لسكون عين الفعل فلم يلزم منها من توالي الحركات ما لزم هناك وأما تفاعل فقد توجد متعدية

لأنه لا يراد بها المطاوعة كما أريد بتفعلل وإنما هو فعل دخلته التاء زيادة على فاعل المتعدي فصار حكمه إن كان متعديا إلى مفعولين قبل دخول التاء أن يتعدى بعد دخول التاء إلى مفعول نحو نازعت زيدا الحديث ثم تقول وتنازعنا الحديث وإن كان متعديا إلى مفعول لم يتعد بعد دخول التاء إلى شيء نحو: خاصمت زيدا وتخاصمنا وهذا عكس دخول همزة التعدية على الفعل فإنها تزيده واحدا أبدا وإن كان لازما صيرته متعديا إلى مفعول وإن كان متعديا إلى واحد صيرته متعديا إلى اثنين وأما احمر واحمار ففعل مشتق من الاسم كانتعل من النعل وتمسكن من المسكن وتمدرع وتمندل وتمنطق وزعم الخطابي أن معنى احمر مخالف لمعنى احمار وبابه وذهب إلى أن افعل يقال فيما لم يخالطه لون آخر وافعال يقال لما خالطه لون آخر وهو ثقة في نقله والقياس يقتضي ما ذكر لأن الألف لم يزد في إضعاف حروف الكلمة إلا لدخول معنى زائد بين أضعاف معناها والذي قاله غيره أحسن من هذا وهو أن احمر يقال لما أحمر وهلة نحو: أحمر الثوب ونحوه وأما احمار فيقال لما يبدو فيه اللون شيئا بعد شيء على التدريج نحو احمار البسر واصفار ويدخل أفعل في هذا على أفعال فيقال احمر البسر إذا تكامل لون الحمرة فيه واحمار إذا ابتدأ صاعدا إلى كماله. فائدة: اختلفوا في المتعدي إلى مفعولين من باب كسا هل هو قياسي بالهمزة أم سماعي والثاني قول سيبويه وهو الصحيح فإنك لا تقول أكلت زيدا الخبز ولا آخذته الدراهم ولا أطلقت زيدا امرأته وأعتقته عبده ولكن ينبغي التفطن لضابط حسن وهو أنه ينظر إلى كل فعل حصل منه في الفاعل صفة ما فهو الذي

يجوز فيه النقل لأنك إذا قلت أفعلته فإنما تعني جعلته على هذه الصفة وقلما ينكسر هذا الأصل في غير المتعدي إذا كان ثلاثيا نحو قعد وأقعدته وطال وأطلته وأما المتعدي فمنه ما يحصل للفاعل منه صفة في نفسه ولا يكون اعتماده في الثاني على المفعول فيجوز نقله مثل طعم زيد الخبز وأطعمته وكذلك جرع الماء وأجرعته وكذلك بلع وشم وسمع وذلك لأنها كلها تجعل في الفاعل منها صفة في نفسه غير خارجة عنه ولذلك جاءت أو أكثرها على فعل بكسر العين مشابهة لباب فزع وحذر وحزن ومرض إلى غير ذلك مما له أثر في باطن الفاعل وغموض معنى ولذلك كانت حركة العين كسرة لأن الكسرة خفض للصوت وإخفاء له فشاكل اللفظ المعنى ومن هذا لبس الثوب وألبسته إياه لأن الفعل وإن كان متعديا فحاصل معناه في نفس الفاعل كأنه لم يفعل بالثوب شيئا وإنما فعل بلابسه ولذلك جاء على فعل مقابلة عري وقالوا كسوته الثوب ولم يقولوا أكسيته إياه وإن كان اللازم منه كسى ومنه واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فهذا من كسي يكسي لا من كسا يكسو وسر ذلك أن الكسوة ستر للعورة فجاء على وزن سترته وحجبته فعدوه بتغيير الحركة لا بزيادة الهمزة وأما أكل وأخذ وضرب فلا ينقل لأن الفعل واقع بالمفعول ظاهر أثره فيه غير حاصل في الفاعل منه صفة فلا تقول أضربت زيدا عمرا وأقتلته خالدا لأنك لم تجعله على صفة في نفسك كما تقدم وأما أعطيته فمنقول من عطا يعطو إذا أشار للتناول وليس معناه الأخذ والتناول ألا تراهم يقولون عاط بغير أنواط أي يشير إلى التناول من غير شيء فنفوا أن يكون وقع هذا الفعل لشيء فلذلك نقل كما نقل المتعدي لقربه منه فقالوا: أعطيته أي جعلته عاطيا وأما أنلت من نال التعدية وهي بمنزلة عطا يعطو لا تبنى إلا عن وصول إلى المفعول دون تأثير فيه ولا وقوع ظاهر به ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} ولو كان فعلا مؤثرا في مفعوله لم يجز هذا إنما هو شيء منبئ عن الوصول فقط أو ما

أتيت المال زيدا فمنقول من أتى لأنها غير مؤثرة في المفعول وقد حصل منها في الفاعل صفة فإن قيل: يلزمك أن تجيز آتيت زيدا عمرا أو المدينة أي جعلته يأتيها قلت: بينهما فرق وهو أن إيتاء المال كسب وتمليك فلما اقترن به هذا المعنى صار كقوله: أكسبته مالا أو ملكته إياه وليس كقولك: آتى عمرا وأما شرب زيد الماء فلم يقولوا فيه أشربته الماء لأنه بمثابة الأكل والأخذ ومعظم أثره في المفعول وإن كان قد جاء على فعل ك بلع ولكنه ليس مثله إلا أن يريد أن الماء خالط أجزاء الشارب له وحصل من الشرب صفة في الشارب فيجوز حينئذ نحو قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} وعلى هذا يقال أشربت الدهن الخبز لأن شرب الخبز الدهن ليس كشرب زيد الماء فتأمله وأما ذكر زيد عمرا فإن كان من ذكر اللسان لم ينقل لأنه بمنزلة شتم ولطم وإن كان من ذكر القلب نقل فقلت أذكرته الحديث بمنزلة أفهمته وأعلمته أي جعلته على هذه الصفة. فائدة: "اخترت" أصله أن يتعدى بحرف الجر لأنه يتضمن إخراج شيء من شيء وجاء محذوفا في قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} لتضمن الفعل معنى فعل غير متعد كأنه نخل قومه وميزهم وسبرهم ونحو ذلك فمن هاهنا والله أعلم أسقط حرف الجر كما سقط من أمرتك الخير أي ألزمتك وكلفتك لأن الأمر إلزام وتكليف ومنه تمرون الديار أي تعدونها وتجاوزونها ومنه رحبتك الديار أي وسعتك.

فائدة: الاختيار تقديم المجرور في باب اخترت وتأخير المفعول المجرد عن حرف الجر فتقول اخترت من الرجال زيدا ويجوز فيه التأخير فإذا أسقطت الحرف لم يحسن تأخير ما كان مجرورا به في الأصل فيقبح أن تقول اخترت زيدا الرجال واخترت عشرة الرجال أي من الرجال لما يوهم من كون المجرور في موضع النعت للعشرة وأنه ليس في موضع المفعول الثاني وأيضا فإن الرجال معرفة فهو أحق بالتقديم للاهتمام به كما لزم في تقديم المجرور الذي هو خبر عن النكرة من قولك في الدار رجل لكون المجرور معرفة وكأنه المخبر عنه فإذا حذفت حرف الجر لم يكن بد من التقديم للاسم الذي كان مجرورا نحو اخترت الرجال عشرة والحكمة في ذلك أن المعنى الداعي الذي من أجله حذف حرف الجر هو معنى غير لفظ فلم يقو على حذف حرف الجر إلا مع اتصاله به وقربه منه ووجه ثان وهو أن القليل الذي اختير من الكثير إذا كان مما يتبعض ثم ولي الفعل الذي هو اخترت توهم أنه مختار منه أيضا لأن كل ما يتبعض يجوز فيه أن يختار وأن يختار منه فألزموه التأخير وقدموا الاسم المختار منه وكان أولى بذلك لما سبق من القول فإن كان مما لا يتبعض نحو زيد وعمرو فربما جاز على قلة في الكلام نحو قول الشاعر: ومنا الذي اختير الرجال سماحة وليس هذا كقولك اخترت فرسا الخيل لأن الفرس اسم جنس فقد يتبعض مثله ويختار منه وزيد من حيث كان جسما يتبعض ومن حيث كان علما على شيء بعينه لا يتبعض فتأمل هذا الموضع.

فائدة بديعة: قولهم استغفر زيد ربه ذنبه فيه ثلاث أوجه أحدها: هذا والثاني: استغفره من ذنبه والثالث: استغفر لذنبه وهذا موضع يحتاج إلى تدقيق نظر وأنه هل الأصل حرف الجر وسقوطه داخل عليه أو الأصل سقوطه وتعديه بنفسه وتعديته بالحرف مضمن هذا مما ينبغي تحقيقه قال السهيلي: "الأصل فيه سقوط حرف الجر وأن يكون الذنب نفسه مفعولا باستغفر غير متعد بحرف الجر لأنه من غفرت الشيء إذا غطيته وسترته مع أن الاسم الأول هو فاعل بالحقيقة وهو الغافر" ثم أورد على نفسه سؤالا فقال: "فإن قيل: فإن كان سقوط حرف الجر هو الأصل فيلزمكم أن تكون من زائدة كما قال الكسائي" وقد قال سيبويه والزجاج: "إن الأصل حرف الجر ثم حذف فنصب الفعل وأجاب بأن سقوط حرف الجر أصل في الفعل المشتق منه نحو غفر وأما استغفر ففي ضمن الكلام ما لا بد منه من حرف الجر لأنك لا تطلب عفوا مجردا من معنى التوبة والخروج من الذنب وإنما تريد بالاستغفار خروجا من الذنب وتطهيرا منه فلزمت من في هذا الكلام لهذا المعنى فهي متعلقة بالمعنى لا بنفس اللفظ فإن حذفتها تعدى الفعل فنصب وكان بمنزلة أمرتك الخير فإن قيل: فما قولكم في نحو قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} قلنا هي متعلقة بمعنى الإنقاذ والإخراج من الذنوب فدخلت من لتؤذن بهذا المعنى ولكن لا يكون ذلك في القرآن إلا حيث يذكر الفاعل والمفعول الذي هو الذنب نحو قوله: (لكم) لأنه المنقذ المخرج من الذنوب بالإيمان ولو قلت: يغفر من ذنوبكم دون أن يذكر الاسم المجرور لم يحسن إلا على معنى التبعيض لأن الفعل الذي كان في ضمن

الكلام وهو الإنقاذ قد ذهب بذهاب الاسم الذي هو واقع عليه فإن قلت: فقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} وفي سورة الصف {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فما الحكمة في سقوطها هنا وما الفرق قلت: هذا إخبار عن المؤمنين الذين سبق لهم الإنقاذ من ذنوب الكفر بإيمانهم ثم وعدوا على الجهاد بغفران ما اكتسبوا في الإسلام من الذنوب وهي غير محبطة كإحباط الكفر المهلك للكافر فلم يتضمن الغفران معنى الإستنقاذ إذ ليس ثم إحاطة من الذنب بالمذنب وإنما يتضمن معنى الإذهاب والإبطال للذنوب لأن الحسنات يذهبن السيئات بخلاف الآيتين المتقدمتين فإنهما خطاب للمشركين وأمر لهم بما ينقذهم ويخلصهم مما أحاط بهم من الذنوب وهو الكفر ففي ضمن ذلك الإعلام والإشارة بأنهم واقعون في مهلكة قد أحاطت بهم وأن لا ينقذهم منها إلا المغفرة المتضمنة للإنقاذ الذي هو أخص من الإبطال والإذهاب وأما المؤمنون فقد أنقذوا وأما قوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} فهي في موضع من التي للتبعيض لأن الآية في سياق ثواب الصدقة فإنه قال إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والصدقة لا تذهب جميع الذنوب ومن هذا النحو قوله صلى الله عليه وسلم: "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " رواه مسلم والترمذي وللبخاري نحوه فأدخل عن في الكلام إيذانا بمعنى الخروج عن اليمين لما ذكر الفاعل وهو الخارج فكأنه قال فليخرج بالكفارة عن يمينه ولما لم يذكر الفاعل المكفر في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} ولم يذكر من وأضاف الكفارة إلى الأيمان وذلك من إضافة المصدر إلى المفعول وإن كانت الأيمان لا تكفر وإنما يكفر الحنث والإثم ولكن الكفارة حل لعقد اليمين فمن هنالك أضيفت إلى اليمين كما يضاف الحل إلى العقد إذ اليمين عقد والكفارة حل له والله أعلم.

فائدة: قولك ألبست زيدا الثوب ليس الثوب منتصبا بألبست كما هو السابق إلى الأوهام لما تقدم من أنك لا تنقل الفعل عن الفاعل ويصير الفاعل مفعولا حتى يكون الفعل حاصلا في الفاعل ولكن المفعول الثاني منتصب بما تضمنه ألبست من معنى لبس فهو منتصب بما كان منتصبا به قبل دخول الهمزة والنقل وذلك أنهم اعتقدوا طرحها حين كانت زائدة كما فعلوا في تصغير حميد وزهير ومنه قولهم أحببت حبيبا فجاءوا بحبيب على اعتقاد طرح الهمزة وهي لغة ومنه أدرست البيت فهو دارس على تقدير درسته ومنه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} فجاء المصدر على نبت ومما يوضح هذا أنهم أعلوا الفعل فقالوا أطال الصلاة وأقامها مراعاة لإعلاله قبل دخول الهمزة ولهذا حيث نقلوه في التعجب فاعتقدوا إثبات الهمزة لم يعدوه إلى مفعول ثان بل قالوا ما أضرب زيدا لعمرو باللام لأن التعجب تعظيم لصفة المتعجب منه وإذا كان الفعل صفة في الفاعل لم ينقل ومن ثم صححوه في التعجب فقالوا ما أقومه وأطوله حيث لم يعتقدوا سقوط الهمزة كما صححوا الفعل من استحوذ واستنوق الجمل حيث كانت الهمزة والزوائد لازمة غير عارضة والله أعلم. فائدة: حذف الباء من أمرتك الخير ونحوه إنما يكون بشرطين أحدهما اتصال الفعل بالمجرور فإن تباعد منه لم يكن بد من الباء نحو أمرت الرجل يوم الجمعة

بالخير لأن المعنى الذي من أجله حذفت الباء معنى وليس بلفظ وهو تضمنها معنى كلفتك فلم يقو على الحذف إلا مع القرب من الاسم كما كان ذلك في اخترت ألا ترى إلى قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} كيف أعاد حرف الجر في البدل لما طال بالصلة وكذلك يخرج لنا {مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا} على أحد القولين أي يخرج لنا من بقل الأرض وقثائها وقوله: {مِمَّا تُنْبِتُ} توطئة وتمهيد والقول الثاني أنها متعلقة بقوله: تنبت أي: ما تنبت من هذا الجنس ف من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الجنس وهذا الثاني أظهر فإذا أعيد حرف الجر مع البدل لطول الاسم الأول فإثبات الحرف من نحو أمرتك الخير إذا طال الاسم أجدر الشرط الثاني أن يكون المأمور به حدثا فإن قلت: أمرتك بزيد لم يحذف لأن الأمر في الحقيقة ليس به وإنما هو على غيره كأنك قلت أمرتك بضربه أو إكرامه وأما نهيتك عن الشر فلا يحذف الحرف منه لأنه ليس في الكلام ما يتضمن الفعل الناصب لأن النهي عنه كف وزجر وإبعاد وهذه المعاني التي يتضمنها نهي تطلب من الحرف ما يطلبه نهي بخلاف أمر فإنه كلف وألزم لا تطلب الباء. فائدة بديعة: قولهم عرفت كذا أصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه حتى يظهر للذهن منفردا عن غيره وهذه المادة تقتضي العلو والظهور كعرف الشيء لأعلاه ومنه الأعراف ومنه عرف الديك وأما علمت فموضوعة للمركبات لا لتمييز المعاني المفردة ومعنى التركيب فيها إضافة الصفة إلى المحل وذلك أنك تعرف زيدا على حدته وتعرف معنى القيام على حدته ثم تضيف القيام إلى زيد فإضافة القيام إلى زيد

هو التركيب وهو متعلق العلم فإن قلت: علمت فمطلوبها ثلاثة معان محل وصفة وإضافة الصفة إلى المحل وهن ثلاث معلومات إضافة العلم لله لا المعرفة إذا عرفت هذا فقال بعض المتكلمين: لا يضاف إلى الله سبحانه إلا العلم لا المعرفة لأن علمه متعلق بالأشياء كلها مركبها ومفردها تعلقا واحدا بخلاف علم المحدثين فإن معرفتهم بالشيء المفرد وعلمهم به غير علمهم ومعرفتهم لشيء آخر وهذا بناء منه على أن الله تعالى يعلم المعلومات كلها بعلم واحد وأن علمه بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين علمه بكذب مسيلمة الكذاب والذي عليه محققو النظار خلاف هذا القول وأن العلوم متكثرة متغايرة بتكثر المعلومات وتغايرها فلكل معلوم علم يخصه ولإبطال قول أولئك وذكر الأدلة الراجحة على صحة قول هؤلاء مكان هو أليق به وعلى هذا فالفرق بين إضافة العلم إليه تعالى وعدم إضافة المعرفة لا ترجع إلى الإفراد والتركيب في متعلق العلم وإنما ترجع إلى نفس المعرفة ومعناها فإنها في مجاري استعمالها إنما تستعمل فيما سبق تصوره من نسيان أو ذهول أو عزوف عن القلب فإذا تصور وحصل في الذهن قيل عرفه أو وصف له صفته ولم يره فإذا رآه بتلك الصفة وتعينت فيه قيل عرفه ألا ترى أنك إذا غاب عنك وجه الرجل ثم رأيته بعد زمان فتبينت أنه هو قلت عرفته وكذلك عرفت اللفظة وعرفت الديار وعرفت المنزل وعرفت الطريق " وسر المسألة" أن المعرفة لتمييز ما اختلط فيه المعروف بغيره فاشتبه فالمعرفة تمييز له وتعيين ومن هذا قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} فإنهم كان عندهم من صفته قبل أن يروه ما طابق شخصه عند رؤيته وجاء كما يعرفون أبناءهم من باب ازدواج الكلام وتشبيه أحد اليقينين بالآخر فتأمله وقد بسطنا هذا في كتاب التحفة المكية وذكرنا فيها من الأسرار والفوائد ما لا يكاد يشتمل عليه مصنف وأما ما زعموا من قولهم إن علمت قد يكون بمعنى عرفت واستشهادهم بنحو قوله تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} وبقوله: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} فالذي دعاهم إلى ذلك أنهم رأوا

علمت قد تعدت إلى مفعول واحد وهذا هو حقيقة العرفان فاستشهاد ظاهر على أنه قد قال بعض الناس أن تعدي فعل العلم في هذه الآيات وأمثالها إلي مفعول واحد لا يخرجها عن كونها علما على الحقيقة فإنها لا تتعدى إلى مفعول واحد على نحو تعدى عرفت ولكن على جهة الحذف والاختصار فقوله: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لا تنفي عنه معرفة أعيانهم وأسمائهم وإنما تنفي عنه العلم بعدوانهم ونفاقهم وما تقدم من الكلام يدلك على ذلك وكذلك قوله: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} فربما كانوا يعرفونهم ولا يعلمونهم أعداء لهم فيتعلق العلم بالصفة المضافة إلى الموصوف لا بعينه وذاته قال هذا وإنما مثل من يقول إن علمت بمعنى عرفت من أجل أنها متعدية إلى مفعول واحد في اللفظ كمثل من يقول إن سألت يتعدى إلى غير العقلاء بقولهم: "سألت الحائط وسألت الدار" ويحتج بقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} قال: وإنما هذا جهل بالمجاز والحذف وكذلك ما تقدم وليس ما قاله هؤلاء بقوى فإن الله سبحانه نفى عن رسوله معرفة أعيان أولئك المنافقين هذا صريح اللفظ وإنما جاء نفي معرفة نفاقهم من جهة اللزوم فهو صلى الله عليه وسلم كان يعلم وجود النفاق في أشخاص معينين وهو موجود في غيرهم ولا يعرف أعيانهم وليس المراد أن أشخاصهم كانت معلومة له معروفة عنده وقد انطووا على النفاق وهو لا يعلم ذلك فيهم فإن اللفظ لم يدل على ذلك بوجه والظاهر بل المتعين أنه صلى الله عليه وسلم لو عرف أشخاصهم لعرفهم بسيماهم وفي لحن القول ولم يكن يخفى عليه نفاق من يظهر له الإسلام ويبطن عداوته وعداوة الله عز وجل والذي يزيد هذا وضوحا الآية الأخرى فإن قوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ} فيهم قولان أحدهما: أنهم الجن المظاهرون لأعدائهم من الإنس على محاربة الله ورسوله وعلى هذا فالآية نص في أن العلم فيها بمعنى المعرفة ولا يمكن أن يقال إنهم كانوا عارفين بأشخاص أولئك جاهلين عداوتهم كما أمكن مثله في الإنس والقول

الثاني: أنهم المنافقون وعلى هذا فقوله لا تعلمونهم إنما ينبغي حمله على معرفة أشخاصهم لا على معرفة نفاقهم لأنهم كانوا عالمين بنفاق كثير من المنافقين يعلمون نفاقهم ولا يشكون فيه فلا يجوز أن ينفي عنهم علم ما هم عالمون به وإنما ينفي عنهم معرفة أشخاص من هذا الضرب فيكون كقوله تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} فتأمله ويزيده وضوحا أن هذه الأفعال لا يجوز فيها الاقتصار على أحد المفعولين بخلاف باب أعطى وكسا للعلة المذكورة هناك وهي تعلق هذه الأفعال بالنسبة فلا بد من ذكر المنتسبين بخلاف باب أعطى فإنه لم يتعلق بنسبة فيصح الاقتصار فيه على أحد مفعولين وهذا واضح كما تراه والله تعالى أعلم. وأما تنظيرهم ل سألت الحائط والدار فيما بعد ما بينهما فإن هذا سؤال بلسان الحال وهو كثير في كلامهم جدا على أنه لا يمتنع أن يكون سؤالا بلسان المقال صريحا كما يقول الرجل للدار الخربة ليت شعري ما فعل أهلك وليت شعري ما صيرك إلى هذه الحال وليس هذا سؤال استعلام بل سؤال تعجب وتفجع وتحزن وأما قوله واسأل القرية فالقرية إن كانت هنا اسما للسكان كما هو المراد بها في أكثر القرآن الكريم والكلام فلا مجاز ولا حذف وإن كان المراد بها المسكن فعلى حذف المضاف فأين التسوية والتنظير. تنبيه: قولهم علمت وظننت يتعدى إلى مفعولين ليس هنا مفعولان في الحقيقة وإنما هو المبتدأ والخبر وهو حديث إما معلوم وإما مظنون فكان حق الاسم الأول أن يرتفع بالابتداء والثاني بالخبر ويلغى الفعل لأنه لا تأثير له في الاسم إنما التأثير لعرفت الواقعة على الاسم المفرد تعيينا وتمييزا ولكن أرادوا تشبث علمت بالجملة التي هي الحديث كيلا يتوهم الانقطاع بين المبتدأ وبين ما قبله لأن

الابتداء عامل في الاسم وقاطع له مما قبله وهم إنما يريدون إعلام المخاطب بأن هذا الحديث معلوم فكان إعمال علمت فيه ونصبه له إظهارا لتشبثها ولم يكن عملهما في أحد الاسمين أولى من الآخر فعملت فيهما جميعا وكذلك ظننت لأنه لا يتحدث بحديث حتى يكون عند المتكلم إما مظنونا وإما معلوما فإن كان مشكوكا فيه أو مجهولا عنده لم يسعه التحدث به فمن ثم لم يعملوا شككت ولا جهلت فيما عملت فيه ظننت لأن الشك تردد بين أمرين من غير اعتماد على أحدهما بخلاف الظن فإنه معتمد على أحد الأمرين وأما العلم فأنت فيه قاطع بأحدهما ومن ثم تعدى الشك بحرف في لأنه مستعار من شككت الحائط بالمسمار وشك الحائط إيلاج فيه من غير ميل إلى أحد الجانبين كما أن الشك في الحديث تردد فيه من غير ترجيح لأحد الجانبين إعمال كان ونظير إعمالهم علمت وأخواتها في المبتدأ والخبر إعمالهم كان وأخواتها في الجملة وإنما كان أصلها أن ترفع فاعلا واحدا نحو كان الأمر أي حدث فلما خلعوا منها معنى الحدث ولم يبق فيها إلا معنى الزمان ثم أرادوا أن يخبروا بها عن الحدث الذي هو زيد قائم أي زمان هذا الحدث ماض أو مستقبل أعملوها في الجملة ليظهر تشبثها بها ولئلا يتوهم انقطاعها عنها لأن الجملة قائمة بنفسها وكان كلمة يوقف عليها أو يكون خبرا عما قبلها فكان عملها في الجملة دليلا على تشبثها بها وأنها خبر عن هذا الحدث ولم تكن لتنصب الاسمين لأن أصلها أن ترفع ما بعدها ولم تكن لترفعهما معا فلا يظهر عملها ولذلك رفعت أحدهما ونصبت الآخر نعم ومنهم من يقول: كان زيد قائم فيجعل الحديث هو الفاعل لكان فيكون معمولها معنويا لا لفظيا كأنك قلت كان هذا الحديث وأضمرت الشأن والحديث ودلت عليه قرينة الحال والمسألة على حالها لأن الجملة حينئذ بدل من ذلك الضمير لأنها في معنى الحديث وذلك الحديث هو الأمر المضمر فهذا بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ونظير هذا المعمول المعنوي الذي هو الحديث معمول علمت وظننت إذا ألغيت نحو: زيد ظننت قائم

كأنك قلت ظننت هذا الحديث فلم تعملها لفظا وإنما أعملتها معنى إعمال إن وأخواتها ومن هذا الباب إعمالهم إن وأخواتها وإنما دخلت لمعان في الجملة والحدث ألا ترى إن وأخواتها كلمات يصح الوقف عليها لأن حروفها ثلاثة فصاعدا كما قال الشاعر: ليت شعري وأين مني ليت وقال حبيب: عسى وظن يدنو بهم ولعلما وإذا كان هذا حكمها فلو رفع بعدها على الأصل بالابتداء لم يظهر تشبثها بالحديث الذي دخلت لمعنى فيه فكان إعمالهم في الاسم المبتدأ إظهارا لتشبثها بالجملة كي لا يتوهم انقطاعها عنها وكان عملها نصبا لأن المعاني التي تضمنتها لو لفظ بها لنصبت نحو أؤكد وأترجى وأتمنى وليست هذه المعاني مضافة إلى الاسم المخبر عنه ولكن الحديث هو المؤكد والمتمنى والمترجى فكان عملها نصبا بها وبقي الاسم الآخر مرفوعا لم تعمل فيه حيث لم تكن أفعالا كعلمت وظننت فتعمل في الجملة كلها وأيضا أرادوا إظهار تشبثها بالجملة فاكتفوا بتأثيرها في الاسم الأول يدلك على أنها لم تعمل في الاسم الثاني أنه لا يليها لأنه لا يلي العامل ما عمل فيه غيره فلو عملت فيه لوليها كما يلي كان خبرها ويلي الفعل مفعوله نعم ومن العرب من أعملها في الاسمين جميعا وهو أقوى في القياس لأنها دخلت لمعان في الجملة فليس أحد الاسمين أولى بأن تعمل فيه من الآخر قال: إن العجوز حية حزوزا ... تأكل كل ليلة قفيزا وقال: كان أذنيه إذ تشوفا ... قادمة أو قلما محرفا وليس هذا من باب حذف فعل التشبيه كما قال بعضهم: فإن هذا لغة قائمة بنفسها معاني هذه الحروف واعلم أن معاني هذه الحروف لا تعمل في حال ولا ظرف ولا يتعلق بها مجرور لأنها معان في نفس المتكلم كالاستفهام والنفي والمعاني التي جعلت الحروف أمارات لها وليس لها وجود في اللفظ فإذا قلت هل زيد قائم فمعناه

استفهم عن هذا الحديث وكذلك لا معناها النفي وكذلك ليس ولذلك لما أرادوا تشبثها بالجملة لم ينصبوا بها الاسم الأول كما نصبوا ب أن حيث لم يكن معناها يقتضي نصبا إذا لفظ به كما يقتضي معنى أن ولعل إذا لفظ به اختلاف كأن عن أخواتها تختلف كأن عن أخواتها من جهة أنها تدل على التشبيه وهو معنى في نفس المتكلم واقع على الاسم الذي بعدها فكأنك تخبر عن الاسم أنه يشبه غيره فصار معنى التشبيه مسندا إلى الاسم بعدها كما أن معاني الأفعال مسندة إلى الأسماء بعدها فمن ثم عملت في الحال والظرف تقول كأن زيدا يوم الجمعة أمير فيعمل التشبيه في الظرف ومن ذلك قوله: كأنه خارجا من جنب صفحته ... سفود شرب نسوه عند مفتئد ومن ثم وقعت في موضع الحال والنعت كما تقع الأفعال المخبر بها عن الأسماء تقول: مررت برجل كأنه أسد وجاءني رجل كأنه أمير. وليس ذلك في أخواتها لأنها لا تكون في موضع نعت ولا في موضع حال بل لها صدر الكلام كما لحروف الشرط والاستفهام لأنها داخلة لمعان في الجمل فانقطعت عما قبلها وإنما كانت كأن مخالفة لأخواتها من وجه وموافقة من وجه من حيث كانت مركبة من كاف التشبيه وأن التي للتوكيد وكان أصلها أن زيدا الأسد أي مثل الأسد ثم أرادوا أن يبينوا أنه ليس هو بعينه فأدخلوا الكاف على الحديث المؤكد بأن لتؤذن أن الحديث مشبه به وحكم أن إذا أدخل عليها عامل أن تفتح الهمزة منها فصار اللفظ بها كأن زيدا الأسد فلما جاء في الكلمة من التشبيه المخبر به عن زيد صار زيد بمنزلة من أخبر عنه بالفعل فوقع موقع النعت والحال وعمل ذلك المعنى وتعلقت به المجرورات ومن حيث كان في الكلمة معنى أن دخلت في هذا الباب ووقع في خبرها الفعل نحو قولك كأن زيدا يقوم والجملة نحو: كأن زيدا أبوه أمير ولو لم يكن إلا مجرد التشبيه لم يجز هذا لأن الاسم

لا يشبه بفعل ولا بجملة ولكنه حديث مؤكد بأن والكاف تدل على أن خبرا أشبه من خبر وذلك الخبر المشبه هو الذي عليه زيد فكان المعنى زيد قائم وكأنه قاعد وزيد أبوه وضيع وكأنه أبوه أمير فشبهت حديثا بحديث والذي يؤكد الحديث أن والذي يدل على التشبيه الكاف فلم يكن بد من اجتماعها. فصل: وكل هذه الحروف تمنع ما قبلها أن يعمل فيه ما بعدها لفظا أو معنى أما اللفظ فلأنه لا يجتمع عاملان في اسم واحد وهذه الحروف عوامل وأما المعنى فلا تقول سرني زيد قائم أي سرني هذا الحديث ولا كرهت زيد قائم أي كرهت هذا الحديث كما يكون ذلك في كان وليس لأنها ليست بفعل محض فجاز أن تقول كان زيد قائم أي كان هذا الحديث ولم يجز في سرني ولا بلغني فإن أدخلت ليت أو لعل أو إن المكسورة لم يجز أيضا لأن هذه المعاني ينبغي أن يكون لها صدر الكلام فلا يقع بعدها فعل يعمل ولا يلغى فإن جئت ب أن المفتوحة قلت بلغني أن زيدا منطلق فأعملت الفعل في معمول معنوي وهو الحديث لأن الجملة الملفوظ بها حديث في المعنى وإنما جاز هذا لامتناع الفعل أن يعمل فيما عملت فيه أن ولا بد له من معمول فتسلط على المعمول المعنوي وهو الحديث حيث لم يمكن أن يعمل في اللفظي الذي عملت فيه أن وكذلك كرهت أن زيدا منطلق المفعول هو الحديث وهو معنى لا لفظ فإن قيل: ولم لا جعلوا ل أن المفتوحة صدر الكلام كما جعلوا ل ليت ولعل ولجميع الحروف الداخلة على الجمل قيل: ليس في أن معنى زائدا على الجملة أكثر من التوكيد وتوكيد الشيء بمثابة تكراره لا بمثابة معنى زائد فيه فصح أن يكون الحديث المؤكد بها معمولا لما قبلها حيث منعت هي من عمل ما قبلها في اللفظ الذي بعدها فتسلط العامل

الذي قبلها على الحديث ولم يكن له مانع في صدر الكلام يقطعه عنه كما لو كان ذلك في غيرها فتح همزة إن وكسرها فإن كسرت همزتها كان الكسر فيها إشعارا بتجريد المعنى الذي هو التوكيد عن توطئة الجملة للعمل في معناها فليس بين المكسورة والمفتوحة فرق في المعنى إلا أنهم أرادوا توطئة الجملة لأن يعمل الفعل الذي قبلها في معناها وإن صيروها في معنى الحديث فتحوا الهمزة وإذا أرادوا قطع الجملة مما قبلها وأن يعتمدوا على التوكيد اعتمادهم على الترجي والتمني كسروا الهمزة لتؤذن بالابتداء والانقطاع عما قبل وأنهم قد جعلوا التوكيد صدر الكلام لأنه معنى كسائر المعاني وإن لم يكن في الفائدة مثل غيره وكان الكسر في هذا الموطن أولى لأنه أثقل من الفتح والثقل أولى أن يعتمد عليه ويصدر الكلام به والفتح أولى بما جاء بعد الكلام لخفته وأن المتكلم ليس في عنفوان نشاطه وجمامه مع أن المفتوحة قد يليها الضم والكسر كقولك لأنك وعلمت أنك فلو كسرت لتوالى الثقل فإن قيل: فما المانع أن تكون هي وما بعدها في موضع الابتداء كما كانت في موضع الفاعل والمفعول والمجرور أليس قد صيرت الجملة في معنى الحديث فهلا تقول إنك منطلق يعجبني وما الفرق بينها وبين أن التي هي وما بعدها في تأويل الاسم نحو أن تقوم خير من أن تجلس فلم تكون تلك في موضع المبتدأ ولا تكون هذه كذلك قيل: إن المبتدأ يعمل فيه عامل معنوي والعامل المعنوي لولا أثره في المعمول اللفظي لما عقل وهذه الجملة المؤكدة ب أن إنما يصح أن تكون معمولا لعامل لفظي لأن المعمول معنى أيضا فهذا لا يفهمه المخاطب ولا يصل إلى علمه إلا بوحي فامتنع أن تكون هذه الجملة المؤكدة في موضع المبتدأ لأنه لا ظهور للعامل ولا للمعمول ومن ثم لم تدخل عليه عوامل الابتداء من كان وأخواتها وإن وأخواتها لأنها قد استغنت بظهور عملها في الجملة عن حرف يصير الجملة في معنى الحديث المعمول فيه فلا تقول كان أنك منطلق لا حاجة إلى أن مع عمل هذه الحروف في الجملة وجواب آخر وهو أنهم لو جعلوها في موضع الابتداء لم يسبق إلى الذهن إلا

الاعتماد على مجرد التوكيد دون توطئة الجملة عنها فكانت تكسر همزتها وقد تقدم أن الكسر إشعار بالانقطاع عما قبل واعتماد على المعنى الذي هو التوكيد فلم يتصور فتحها في الابتداء إلا بتقديم عامل لفظي يدل على المراد بفتحها لأن العامل اللفظي يطلب معموله فإن وجده لفظا غير ممنوع منه وإلا تسلط على المعنى والابتداء بخلاف هذا فإن قيل: فلم قالوا علمت أن زيدا منطلق وظننت أنه ذاهب هلا اكتفوا بعمل هذه الأفعال في الأسماء عن تصيير الجملة في معنى الحديث كما اكتفوا في باب كان وأن فقالوا كان زيد قائما ولم يقولوا كان أن زيدا قائما قيل: الفرق بينهما أن هذه الأفعال تدل على الحدث والزمان وليست بمنزلة كان وليس ولا بمنزلة إن وليت فجرت مجرى كرهت وأحببت فلذلك قالوا علمتك أنك منطلق كما قالوا أحببت أنك منطلق إلا أنها تخالف كرهت وسائر الأفعال لأنها لا تطلب إلا الحديث خاصة ولا تتعلق إلا به فمن ثم قالوا علمت زيدا منطلقا وزيد علمت منطلق ولم يقولوا كرهت زيدا أخاك لأنه لا متعلق لكرهت وسائر الأفعال بالحديث إنما متعلقها الأسماء ألا تمنعها أن من العمل في الأسماء فتصير متعلقة بالحديث فافهمه. فصل: فإن قيل: فما العامل في هذا الحديث المؤكد بأن من قولك لو أنك ذاهب فعلت لا سيما ولولا يقع بعدها إلا الفعل ولا فعل هاهنا فما موضع أن وما بعدها "فالجواب" أن أن في معنى التأكيد وهو تحقيق وتثبيت فذلك المعنى الذي هو التحقيق اكتفت به لو حتى كأنه فعل وليها ثم عمل ذلك المعنى في الحديث كأنك قلت لو ثبت أنك منطلق فصارت أن كأنها من جهة اللفظ عاملة في الاسم الذي هو لفظ ومن

جهة المعنى عاملة في المعنى الذي هو الحديث فإن قيل: ألم يتقدم أنه لا يعمل عامل معنوي في معمول معنوي قيل: هذا في الابتداء حيث لا لفظ يسد مسد العامل اللفظي فأما هاهنا ف لو لشدة مقارنتها للفعل وطلبها له تقوم مقام اللفظ فالعامل الذي هو التحقيق والتثبيت التي دلت عليه أن بمعناها ومن ثم عمل حرف النفي المركب مع لو من قولك لولا زيد عمل المصدر فصار زيد فاعلا بذلك المعنى حتى كأنك قلت لو عدم زيد وفقد وغاب لكان كذا وكذا ولولا مقارنة لو لهذا الحرف لما جاز هذا لأن الحروف لا تعمل معانيها في الأسماء أصلا فالعامل في هذا الاسم الذي بعد لو كالعامل في هذا الاسم الذي هو الحديث من قولك لو أنك ذاهب لفعلت كذا وأما اختصاص لا بالتركيب معها في باب لولا زيد لزرتك فلأن لا قد تكون منفردة معنى عن الفعل إذا قيل لك هل قام زيد فتقول لا فقد أخبرت عنه بالقعود وإذا قيل هل قعد قلت لا فكأنك مخبر بالقيام وليس شيء من حروف النفي يكتفي به في الجواب حتى يكون بمنزلة الإخبار إلا هذا الحرف فمن ثم صلح للاعتماد عليه في هذا الباب وساغ تركيبه مع حرف لا يطلب إلا الفعل فصارت الكلمة بأسرها بمنزلة حرف وفعل وصار زيد بعدها بمنزلة الفاعل ولذلك قال سيبويه إنه مبني على لولا وهذا هو الحق لأن ما يهذون به من أنه مبتدأ وخبره محذوف لا يظهر وخامل لا يذكر هذا الفصل كله كلام السهيلي إلى آخره. فائدة: قول سيبويه: لا يجوز الإقتصار على المفعول الأول من باب أعلمت تأوله أصحابه بمعنى لا يحسن الإقتصار عليه قالوا: لأنه هو الفاعل في المعنى فإنه هو الذي علم ما أعلمته به من كون زيد قائما قالوا: والفاعل يجوز الإقتصار عليه لتمام الكلام

به فهكذا ما في معناه بخلاف المفعول الأول من باب علمت فإنه ليس فاعلا لفظا ولا معنى هذا تقرير قولهم وقول إمام النحو هو الصواب ولا حاجة إلى تأويله هذا التأويل البارد وممن أنكر هذا التأويل السهيلي وقال: عندي أن قول سيبويه محمول على الظاهر لأنك لا تريد بقولك أعلمت زيدا أي جعلته عالما على الإطلاق هذا محال إنما تريد أعلمته بهذا الحديث فلا بد إذا من ذكر الحديث الذي أعلمته به فإن قيل: فهل يجوز أظننت زيدا عمرا قائما قيل: الصحيح امتناعه لأن الظن إن كان بعد علم ضروري فمحال أن ينقلب ظنا وإن كان بعد علم نظري لم يرجع العالم إلى الظن إلا بعد النسيان والذهول عن ركن من أركان النظر وهذا ليس من فعلك أنت به فلا تقول أظننته بعد أن كان عالما وإن كان قبل الظن شاكا أو جاهلا أو عاقلا لم يتصور أيضا أن تقول أظننته لأن الظن لا يكون عن دليل يوقفه عليه أو خبر صادق يخبره به كما يكون العلم لأن الدليل لا يقتضي ظنا ولا يقتضي أيضا شبهة كما بينه الأصوليون فثبت أن الظن لا تفعله أنت به ولا تفعل شيئا من أسبابه فلم يجز أظننته أي جعلته ظانا وكذلك يمتنع أشككته أي جعلته شاكا ولكنهم يقولون شككته إذا جذبته بحديث يصرفه عن حال الظن إلى حال الشك هذا كلام السهيلي وليس الأمر كما قال ولا فرق بين أعلمته وأظننته إلا من جهة السماع وأما الجواب مما ذكرناه فيقال ما المانع أن يكون أظننته أي جعلته ظانا بعد أن كان جاهلا أو شاكا مما ذكرته له من الأمارات والأدلة الظنية وقولك إن الظن لا يكون عن دليل يوقفه عليه أو خبر صادق يخبر به دعوى مجردة بل ظاهرة البطلان فإن الظن هو الرجحان فإذا ذكرت له أمارة ظاهرة لا توجب اليقين أفادته الرجحان وهو الظن وهذا كما إذا أخبرك من يثير خبره لك ظنا راجحا ولا ينتهي إلى قطع كالشاهد وغيره فدعوى أن الظن لا يكون عن دليل دعوى باطلة وإن أردت أنه لا يكون عن دليل قاطع لم يفدك شيئا فإنه يكون

عن أمارة تحصل له ولا يلزم من كون الدليل لا يقتضي الظن إلا تقتضيه الإمارة وقوله: فثبت أن الظن لا تفعله أنت ولا تفعل شيئا من أسبابه يقال وكذلك العلم لم تفعله أنت به ولا شيئا من أسبابه إن أردت أنك لم تحدثه فيه وإن أردت أنك لم تتسبب إلى حصوله فيه فباطل فإن ذكر الأمارات والأدلة الظنية سبب إلى حصول الظن له وهذا أظهر من أن يحتاج إلى تقريره ويدل عليه قولهم شككته فإن معناه أحدثت له شكا بما ذكرته له من الأمور التي تستلزم شكه فائدة: كل فعل يقتضي مفعولا ويطلبه ولا يصل إليه بنفسه توصلوا إليه بأداة وهي حرف الجر ثم أنهم قد يحذفون الحرف لتضمن الفعل معنى فعل متعد بنفسه كما تقدم لكن هنا دقيقة ينبغي التفطن لها وهي أنه قد يتعدى الفعل بنفسه إلى مفعول وإلى آخر بحرف الجر ثم يحذف المفعول الذي وصل إليه بنفسه لعلم السامع به ويبقى الذي وصل إليه بحرف الجر كما قالوا نصحت لزيد وكلت له ووزنت له وشكرت له المفعول في هذا كله محذوف والفعل واصل إلى الآخر بحرف الجر ولا يسمع قولهم أربعة أفعال تتعدى بنفسها تارة وبحرف الجر أخرى ويذكرون هذه فإنه كلام مجرد عن تحقيق بل المفعول في الحقيقة محذوف فإن قولك نصحت له مأخوذ من نصح الخياط الثوب إذا أصلحه وضم بعضه إلى بعض ثم استعير في الرأي فقالوا: نصحت له أي نصحت له رأيه أي أخلصته وأصلحته له والتوبة النصوح إنما هي من هذا فإن الذنب يمزق الدين فالتوبة النصوح بمنزلة نصح الخياط الثوب إذا أصلحه وضم أجزاءه ويقولون نصحت زيدا فيسقطون الحرف لأن النصيحة إرشاد فكأنك قلت أرشدته وكذلك شكرت إنما هو

تفخيم للفعل وتعظيم له من شكر بطنه إذا امتلأ فالأصل شكرت لزيد إحسانه وفعله ثم تحذف المفعول فتقول شكرت لزيد ثم تحذف الحرف لأن شكرت متضمنة لحمدت أو مدحت وأما كلت لزيد ووزنت له فمفعولهما غير زيد لأن مطلوبها ما يكال أو يوزن فالأصل دخول اللام ثم قد يحذف لزيادة فائدة لأن كيل الطعام ووزنه يتضمن معنى المبايعة والمقاوضة إلا مع حرف اللام فإن قلت كلت لزيد أخبرت بكيل الطعام خاصة وإذا قلت كلت زيدا فقد أخبرت بمعاملته ومبايعته مع الكيل كأنك قلت بايعته بالكيل والوزن قال تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} أي بايعوهم كيلا أو وزنا وأما قوله: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} فإنما دخلت على لتؤذن أن الكيل على البائع للمشتري ودخلت التاء في اكتالوا لأن افتعل في هذا الباب كله للأخذ لأنها زيادة على الحروف الأصلية تؤذن بمعنى زائد على معنى الكلمة لأن الأخذ للشيء كالمبتاع والمكتال والمشتري ونحو ذلك يدخل فعله من التناول والاجترار إلى نفسه والاحتمال إلى رحله ما لا يدخل فعل المعطي والمبايع ولهذا قال سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} يعني من السيئات لأن الذنوب يوصل إليها بواسطة الشهوة والشيطان والهوى والحسنة تنال بهبة الله من غير واسطة شهوة ولا إغراء عدو فهذا الفرق بينهما على ما قاله السهيلي وفيه فرق أحسن من هذا وهو أن الاكتساب يستدعي التعمل والمحاولة والمعاناة فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمله وأما الكسب فيحصل بأدنى ملابسة حتى بالهم بالحسنة ونحو ذلك فخص الشر بالاكتساب والخير بأعم منه ففي هذا مطابقة للحديث الصحيح: "إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها " رواه البخاري ومسلم وأما حديث: "الواسطة وعدمها" فضعيف لأن الخير أيضا بواسطة الرسول والملك والإلهام والتوفيق فهذا في مقابلة وسائط الشرط فالفرق ما ذكرناه والله أعلم.

فصل: وأما سمع الله لمن حمده فقال السهيلي: مفعول سمع محذوف لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام على بابها إلا أنها تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد وهي الاستجابة لمن حمده وهذا مثل قوله عسى أن يكون ردف لكم ليست اللام لام المفعول كما زعموا ولا هي زائدة ولكن ردف فعل متعد ومعموله غير هذا الاسم كما كان مفعول سمع غير المجرور ومعنى ردف تبع وجاء على الأثر فلو حملته على الاسم المجرور لكان المعنى غير صحيح إذا تأملته ولكن المعنى ردف لكم استعجالكم وقولكم لأنهم قالوا: متى هذا الوعد ثم حذف المفعول الذي هو القول والاستعجال اتكالا على فهم السامع ودلت اللام على الحذف لمنعها الاسم الذي دخلت عليه أن يكون مفعولا وآذنت أيضا بفائدة أخرى وهي معنى عجل لكم فهي متعلقة بهذا المعنى فصار معنى الكلام قل عسى أن يكون عجل لكم بعض الذي تستعجلون فردف قولكم واستعجل لكم فدلت ردف على أنهم قالوا واستعجلوا ودلت اللام على المعنى الآخر فانتظم الكلام أحسن انتظام واجتمع مع الإيجاز معنى التمام قلت: فعل السمع يراد به أربعة معان أحدهما: سمع إدراك ومتعلقه الأصوات الثاني: سمع فهم وعقل ومتعلقه المعاني الثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل الرابع: سمع قبول وانقياد فمن الأول: {سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} و {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} ومن الثاني قوله: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} ليس المراد سمع مجرد الكلام بل سمع الفهم والعقل ومنه سمعنا وأطعنا ومن الثالث سمع الله لمن حمده وفي الدعاء المأثور اللهم اسمع أي أجب وأعط ما سألتك ومن الرابع قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي قابلون له ومنقادون غير

منكرين له ومنه على أصح القولين: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي قابلون ومنقادون وقيل: عيون وجواسيس وليس بشيء فإن العيون والجواسيس إنما تكون بين الفئتين غير المختلطتين فيحتاج إلى الجواسيس والعيون وهذه الآية إنما هي في حق المنافقين وهم كانوا مختلطين بالصحابة بينهم فلم يكونوا محتاجين إلى عيون وجواسيس وإذا عرف هذا فسمع الإدراك يتعدى بنفسه وسمع القبول يتعدى باللام تارة وبمن أخرى وهذا بحسب المعنى فإذا كان السياق يقتضي القبول عدي ب من وإذا كان يقتضي الانقياد عدي باللام وأما سمع الإجابة فيتعدى باللام نحو سمع الله لمن حمده لتضمنه معنى استجاب له ولا حذف هناك وإنما هو مضمن وأما سمع الفهم فيتعدى بنفسه لأن مضمونه يتعدى بنفسه. فصل: ومما يتعلق بهذا قولهم قرأت الكتاب واللوح ونحوهما مما يتعدى بنفسه وأما قرأت بأم القرآن وقرأت بسورة كذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " رواه البخاري ومسلم ففيه نكتة بديعة قل من يتفطن لها وهي أن الفعل إذا عدى بنفسه فقلت: رأت سورة كذا اقتضى اقتصارك عليها لتخصيصها بالذكر وأما إذا عدي بالباء فمعناه لا صلاة لمن لم يأت بهذه السورة في قراءته أو في صلاته أي في جملة ما يقرأ به وهي لا يعطى الإقتصار عليها بل يشعر بقراءة غيرها معها وتأمل قوله في الحديث كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة كيف تجد المعنى أنه يقرأ فيما يقرأ به بعد الفاتحة بهذا العدد وكذلك قوله: "قرأ ب الأعراف إنما هي بعد الفاتحة وكذلك قرأ بسورة ق ونحو هذا" وتأمل كيف لم يأت بالباقي قوله: "قرأ سورة النجم فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون" رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي فقال قرأ سورة النجم ولم يقل بها لأنه لم يكن في صلاة فقرأها وحدها وكذلك قوله: قرأ على الجن سورة الرحمن" حسن لغيره ولم يقل بسورة

الرحمن كذلك: "قرأ على أبي سورة لم يكن" رواه البخاري ومسلم والترمذي ولم يقل بسورة ولم تأت الباء إلا في قراءة في الصلاة كما ذكرت لك وإن شئت قلت: هو مضمن معنى صلى بسورة كذا وقام بسورة كذا وعلى هذا فيصح هذا الإطلاق وإن أتى بها وحدها وهذا أحسن من الأول وعلى هذا فلا يقال قرأ بسورة كذا إذا قرأها خارج الصلاة وألفاظ الحديث تتنزل على هذا فتدبرها. فصل: وأما كفى بالله شهيدا فالباء متعلقة بما تضمنه الخبر عن معنى الأمر بالاكتفاء لأنك إذا قلت كفى بالله أو كفاك الله زيدا فإنما تريد أن يكتفي هو به فصار اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الأمر فدخلت الباء لهذا السبب فليست زائدة في الحقيقة وإنما هي كقولك حسبك بزيد ألا ترى أن حسبك مبتدأ وله خبر ومع الله فقد يجزم الفعل في جوابه فتقول حسبك ينم الناس فينم جزم على جواب الأمر الذي في ضمن الكلام حكى هذا سيبويه عن العرب. فائدة: تعدي الفعل إلى المصدر على ثلاثة أمور أحدها أن يكون مفعولا مطلقا لبيان النوع الثاني أن يكون توكيدا الثالث أن يكون حالا قال سيبويه: "وإنما تذكره لتبين أي فعل فعلت أو توكيدا" وأما الحال فنحو: جاء زيد مشيا وسعيا تريد ماشيا وساعيا وفيه قولان أحدهما هذا والثاني أن الحال محذوف ومشيا معمولها أي يمشي مشيا وقد تقول مشيت ماشيا وقعدت قاعدا تجعلها حالا مؤكدة وقد تقول مشيت مشيا بطيئا ومسرعا فلك فيها وجهان أحدهما أن يكون المصدر

حالا فيكون من باب قوله تعالى: {لِسَاناً عَرَبِيّاً} وهي الحال الموطئة لأن الصفة وطأت الاسم الجامد أن يكون حالا فإن حذفت الاسم وبقيت الصفة وحدها لم يكن في الحال إشكال نحو: سرت شديدا ويبين ما قلناه إن قولك سرت شديدا هي حال من المصدر الذي دل عليه الفعل فإذا أردت بالمصدر هذا المعنى كان بمنزلة الحال ويجوز تقديمه وتأخيره إذا كان مفعولا مطلقا أو حالا ولا يجوز تقديمه على الفعل إذا كان توكيدا له لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد والعامل فيه إذا أردت معنى الحال الفعل نفسه والعامل فيه إذا كان مفعولا مطلقا ليس هو لفظ الفعل بنفسه وإنما هو ما يتضمنه من معنى فعل الذي هو فاء وعين ولام لأنك إذا قلت ضربا فالضرب ليس بمضروب ولكنك حين قلت: ضربت تضمن ضربت معنى فعلت لأن كل ضرب فعل وليس كل فعل ضربا فصار هذا بمنزلة تضمن الإنسان الحيوان وإذا كان كذلك فضربا منصوب بفعلت المدلول عليها بضربت حتى كأنك قلت: فعلت ضربا ولا يكون المصدر مفعولا مطلقا حتى يكون منعوتا أو في حكم المنعوت وإنما يكون توكيدا للفعل لأن الفعل يدل عليه دلالة مطلقة ولا يدل عليه محدودا ولا منعوتا وقد يكون مفعولا مطلقا وليس ثم نعت في اللفظ إذا كان في حكم المنعوت كأنك تريد ضربا تاما فلا يكون حينئذ توكيدا إذ لا يؤكد الشيء بما فيه معنى زائدا على معناه لأن التوكيد تكرار محض تكليم الله لموسى احتج بعض أهل السنة على القائلين من المعتزلة بأن تكليم الله لموسى عليه السلام مجاز بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} فأكد الفعل بالمصدر ولا يصح المجاز مع التوكيد قال السهيلي: فذاكرت بها شيخنا أبا الحسن فقال: هذا حسن لولا أن سيبويه أجاز

في مثل هذا أن يكون مفعولا مطلقا وإن لم يكن منعوتا في اللفظ فيحتمل على هذا أن يريد تكليما ما فلا يكون في الآية حجة قاطعة والحجج عليهم كثيرة الوحي وتفسيره قلت: وهذا ليس بشيء والآية صريحة في أن المراد بها تكليم أخص من الإيحاء فإنه ذكر أنه أوحى إلى نوح والنبيين من بعده وهذا الوحي هو التكليم العام المشترك ثم خص موسى باسم خاص وفعل خاص وهو كلم تكليما ورفع توهم إرادة التكليم العام عن الفعل بتأكيده بالمصدر وهذا يدل على اختصاص موسى بهذا التكليم ولو كان المراد تكليما ما لكان مساويا لما تقدم من الوحي أو دونه وهو باطل وأيضا فإن التأكيد في مثل هذا السياق صريح في التعظيم وتثبيت حقيقة الكلام والتكليم فعلا ومصدرا ووصفه بما يشعر بالتقليل مضاد للسياق فتأمله وأيضا فإن الله سبحانه قال لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} فلو كان التكليم الذي حصل له تكليما ما كان مشاركا لسائر الأنبياء فيه فلم يكن لتخصيصه بالكلام معنى وأيضا فإن وصف المصدر هاهنا مؤذن بقلته وإن نوعا من أنواع التكليم حصل له وهذا محال هاهنا فإن الإلهام تكليم ما ولهذا سماه الله تعالى وحيا والوحي تكليم ما فقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} ونظائره وقال عبادة بن الصامت: "رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه. فكل هذه الأنواع تسمى تكليما ما وقد خص الله سبحانه موسى واصطفاه على البشر بكلامه له وأيضا فإن الله سبحانه حيث ذكر موسى ذكر تكليمه له باسم التكليم الخاص دون الاسم العام كقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} بل ذكر تكليمه له بأخص من ذلك وهو تكليم خاص كقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} فناداه وناجاه والنداء والنجاء أخص من التكليم لأنه تكليم خاص فالنداء تكليم من البعد يسمعه المنادي والنجاء تكليم من القرب وأيضا فإنه اجتمع في هذه الآية

ما يمتنع معه حملها على ما ذكره وهو أنه ذكر الوحي المشترك ثم ذكر عموم الأنبياء بعد محمد ونوح ثم ذكر موسى بعينه بعد ذكر النبيين عموما ثم ذكر خصوص تكليمه ثم أكده بالمصدر وكل من له أدنى ذوق في الألفاظ ودلالتها على معانيها يجزم بأن هذا السياق يقتضي تخصيص موسى بتكليم لم يحصل لغيره وأنه ليس تكليما ما فما ذكره أبو الحسن غير حسن بل باطل قطعا والذي غره ما اختاره سيبويه من حذف صفة المصدر وإرادتها وسيبويه لم يذكر هذا في كل مصدر كان هذا شأنه وإنما ذكر أن هذا مما يسوغ في الجملة فإذا كان في الكلام ما يدل على إرادة التأكيد دون الصفة لم يقل سيبويه ولا أحد أنه موصوف محذوف يدل على تقليله كما إذا قيل: صدقت الرسول تصديقا وآمنت به إيمانا أو قيل قاتل فلان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالا ونصره نصرا وبين الرسول لأمته تبينا وأرشدهم إرشادا وهداهم هدى فهل يقول سيبويه أو أحد أن هذا يجوز أن يكون موصوفا والمراد تصديقا وإيمانا ما وتبيينا ما وهدى ما فهكذا الآية والله تعالى الموفق للصواب. قال السهيلي: وسألته عن العامل في المصدر إذا كان توكيدا للفعل والتوكيد لا يعمل فيه المؤكد إذ هو هو في المعنى فما العامل فيه فسكت قليلا ثم قال ما سألني عنه أحد قبلك وأرى أن العامل فيه ما كان يعمل في الفعل قبله لو كان اسما لأنه لو كان اسما لكان منصوبا بفعلت المتضمنة فيه ثم عرضت كلامه على نفسي وتأملت الكتاب فإذا هو قد ذهل عما لوح إليه سيبويه في باب المصادر بل صرح وذلك أنه جعل المصدر المؤكد منصوبا بفعل هو التوكيد على الحقيقة واختزل ذلك الفعل وسد المصدر الذي هو معموله مسده كما سدت إياك وزيدا مسد العامل فيهما فصار التقدير ضربت ضربت ضربا فضربت الثانية: هي التوكيد على الحقيقة وقد سد ضربا مسدها وهو معمولها وإنما يقدر عملها فيه على أنه مفعول مطلق لا توكيد هذا معنى قول صاحب الكتاب مع زيادة شرح ومن تأمله هناك وجده كذلك والذي أقول به الآن

قول الشيخ أبي الحسن لأن الفعل المختزل معنى والمعاني لا يؤكد بها وإنما يؤكد بالألفاظ وقولك ضربت فعل مشتق من المصدر فهو يدل عليه فكأنك قلت فعلت الضرب فضربت يتضمن المصدر ولذلك تضمره فتقول من كذب فهو شر له وتقيده بالحال نحو قمنا سريعا فسريعا حال من القيام فكما جاز أن تقيده بالحال وأن تكنى عنه جاز أيضا أن تؤكده بضربا كأنك قلت: ضربا ضربا أو نصب ضربا المتضمن ضربا المصرح به وبه يعمل في الثاني يعني فعلت كما كان ذلك في المفعول المطلق إذا قلت ضربت ضربا شديدا أي فعلت ضربا شديدا وليس المؤكد كذلك إنما ينتصب كما ينتصب زيد الثاني في قولك ضربت زيدا مكررا انتصب من حيث كان هو الأول لا أنك أضمرت له فعلا فتأمله. فصل: فيما يؤكد من الأفعال بالمصادر وما لا يؤكد: قد أشرنا إلى أن الفعل قسمان خاص وعام فالعام فعلت وعملت وفعلت أعم لأن عملت عبارة عن حركات الجوارح مع دأب ولذلك جاء على وزن فعل كتعب ونصب ومن ثم لم تجدها يخبر بها عن الله سبحانه إلا أن يراد به سمع فيحمل على المجاز المحض ويلتمس له التأويل قلت: وقد ورد قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} وقد تقدم له كلام أن اليد صفة أخص من القدرة والنعمة كما هو مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله ونصر ذلك المذهب وارتضاه وعلى هذا فلا تأويل في الآية

بل هي على حقيقتها على قوله: وأما الدأب والنصب وإثبات الجارحة فمن خصائص العبد والله تعالى منزه عن ذلك متعال عنه وخصائص المخلوقين لا يجوز إثباتها لرب العالمين بل الصفة المضافة إلى الله لا يلحقه فيها شيء من خصائصهم فإثباتها له كذلك لا يحتاج معه إلى تأويل فإن الله ليس كمثله شيء وقد تقدم أن خصائص المخلوقين غير داخلة في الاسم العام فضلا عن دخولها في الاسم الخاص المضاف إلى الرب تعالى وأنها لا يدل اللفظ عليها بوضعه حتى يكون نفيها عن الرب تعالى صرفا للفظ عن حقيقته ومن اغتفر دخولها في الاسم المضاف إلى الرب ثم توسل بذلك إلى نفي الصفة عنه فقد جمع بين التشبيه والتعطيل وأما من لم يدخلها في مسمى اللفظ الخاص ولا أثبتها للموصوف فقوله محض التنزيه وإثبات ما أثبت الله تعالى لنفسه فتأمل هذه النكتة ولتكن منك على ذكر في باب الأسماء والصفات فإنها تزيل عنك الاضطراب والشبهة والله تعالى الموفق للصواب. عاد كلامه قال: إذا ثبت هذا وما كان نحوها من الأحداث العامة الشائعة فإنها لا تؤكد بمصدر لأنها في الأفعال بمنزلة شيء وجسم في الأسماء فلا يؤكد لأنه لم يثبت له حقيقة معينة عند المخاطب وإنما يؤكد ما ثبت حقيقة والمخاطب أحوج إلى ذكر المفعول المطلق الذي تقع به الفائدة منه إلى توكيد فعلت فلو قلت له فعلت فعلت وأكدته بغاية ما يمكن من التوكيد ما كان الكلام إلا غير مفيد وكذلك لو قال: فعلت فعلا على التوكيد لأن المصدر الذي كنت تؤكد به لو أكدت قياسه أن يكون مفتوح الفاء لأنه ثلاثي والمصدر الثلاثي قياسه فتح فائه كما أن فعله كذلك قلت هذا ليس على إطلاقه فإن فعلت إذا أريد بها الفعل العام الذي لم تتحصل حقيقته عند المخاطب امتنع تأكيدها بل مثل هذا لا يقع في التخاطب وأما إذا أريد بها فعل خاص قد تحصلت حقيقته وتميزت عندهما كما إذا قال له أنت فعلت هذا وأشار إلى فعل معين فإنه إذا أكد الفعل وقال: فعلت فعلت كان الكلام مفيدا أبلغ فائدة وهذا إنما جاء من حيث كانت فعلت مرادا به الحدث الخاص وأكثر ما يجيء فعلت

في الخطاب كذلك فتأمله قال: إذا ثبت هذا فلا يقع بعد فعلت إلا مفعول مطلق إما من لفظها فيكون عاما نحو فعلت فعلا حسنا ومن ثم جاء مكسور الفاء لأنه كالطحن والذبح ليس بمصدر اشتق منه الفعل بل هو مشتق من فعلت وإما أن يكون خاصا نحو فعلت ضربا فضربا أيضا مفعول مطلق من غير لفظ فعل فصار فعلت كطحنت طحنا وفعلت ضربا كطحنت دقيقا الاستغناء بالمفعول المطلق عن المصدر فإن قيل: ألم يجيزوا في ضربت ضربا وقتلت قتلا أن يكون مفعولا مطلقا فلم لم يكن مكسور الأول إذا كان مفعولا مطلقا ومفتوحا إذا كان مصدرا مؤكدا قيل ألم يقدم في أول الفائدة أنه لا يعمل في ضربا إذا كان مفعولا مطلقا إلا معنى فعلت لا لفظ ضربت فلو عمل فيه لفظ ضربت لقلت ضربا بالكسر كطحن وهو محال لأن الضرب لا يضرب ولكنك إذا شققت له اسما من فعلت التي هي عاملة فيه على الحقيقة فقلت: هو فعل وإن شققت له اسما من ضربت التي لا يعمل لفظها فيه لم يجز أن يجعلها كالطحن والذبح لأن الاسم القابل لصورة الفعل إنما يشتق لفظه من لفظ ما عمل فيه فثبت من هذا كله أن فعلت وعملت استغنى بمفعولها المطلق عن مصدرها لأنها لا تتعدى إلا إلى حدث وذلك الحدث يشتق له اسم من لفظها فيجتمع اللفظ والمعنى ويكون أقوى عند المخاطب من المصدر الذي يشتق منه الفعل ولذلك لم يقولوا صنعت صنعا بفتح الصاد ولا عملت عملا بسكون الميم ولا فعلت فعلا بفتح الفاء استغناء عن المصادر بالمفعولات المطلقة لأن العمل مثل القصص والنغص والصنع مثل الدهن والخبز والفعل مثل الطحن وكلها بمعنى المفعول لا بمعنى المصدر الذي اشتق منه الفعل وجميع هذه الأفعال العامة لا تتعدى إلى الجواهر والأجسام إلا أن يخبر بها عن خالقها وإنما تتعدى إلى الجواهر بعض الأفعال الخاصة تحت ضربت زيدا فهو مضروب على الإطلاق وإن اشتق له من لفظ فعلت مفعول به أي فعل به الضرب ولم يفعل هو جاز وأما حلمت في النوم حلما فهو بمنزلة فعلت وصنعت في اليقظة لأن جميع

أفعال النوم تشتمل عليها حلمت وكان جميع أفعال اليقظة يشتمل عليها فعلت فمن ثم لم يقولوا حلما بوزن ضربا لأن حلمت مغنية عن المصدر كما كانت فعلت مغنية عنه وإنما مطلوب المخاطب معرفة المحلوم والمفعول فلذلك قالوا حلما ولذلك جمعوه على أحلام وحلوم لأن الأسماء هي التي تجمع وتثنى وأما الفعل أو ما فائدته كفائدة الفعل من المصادر فلا يجمع ولا يثنى وقولهم إنما جمعت الحلوم والأشغال لاختلاف الأنواع بل يقال لهم وهل اختلفت الأنواع إلا من حيث كانت بمثابة الأسماء المفعولة ألا ترى أن الشغل على وزن فعل كالدهن هو عبارة عما يشتغل المرء عنه فهو اسم مشتق من الفعل وليس الفعل مشتقا منه إنما هو مشتق من الشغل والشغل هو المصدر كما أن الجعل كذلك فعلى هذا ليس الاشتغال والأحلام بجمع المصدر بل هو جمع اسم المصادر على الحقيقة لا تجمع والمصدر على الحقيقة لا يجمع لأن المصادر كلها جنس واحد من حيث كانت عبارة عن حركة الفاعل والحركة تماثل الحركة ولا تخالفها بذاتها ولولا هاء التأنيث في الحركة ما ساغ جمعها فلو نطقت العرب بمصدر حلمت الذي استغنى عنه بالحلم وبمصدر شكرت الذي استغنى عنه بالشكر لما جاز جمعه لأن اختلاف الأنواع ليس راجعا إليه وإنما هو راجع إلى المفعول المطلق ألا ترى أن الشكر عبارة عما يكافأ به المنعم من ثناء أو فعل وكذلك نقيضه وهو الكفر عبارة عما يقابل به المنعم من جحد وقبح فعل فهو مفعول مطلق لا مصدر اشتق منه الفعل إلا أن الكفر يتعدى بالباء لتضمنه معنى التكذيب وشكرت يتعدى باللام التي هي لام الإضافة لأن المشكور في الحقيقة هي النعمة وهي مضافة إلى المنعم وكذلك المكفور في الحقيقة هي النعمة لكن كفرها تكذيب وجحد فلذلك قالوا كفر بالله وكفر نعمته وشكر له وشكر نعمته وإذا ثبت أن الشكر من قولك شكرت شكرا مفعول مطلق وهو مختلف الأنواع لأن مكافأة النعم تختلف جاز أن يجمع كما جمع الحلم والشغل فيحتمل قوله سبحانه حكاية عن المخلصين من عباده: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} أن يكون جمعا لشكر وليس كالقعود

والجلوس لأنه متعد ومصدر المتعدي لا يجيء على الفعول قلت الصحيح أنه مصدر جاء على الفعول لأن مقابله وهو الكفر والجحد والنفار تجيء مصادرها على الفعول نحو كفور وجحود ونفور ويبعد كل البعد أن يراد بالكفور جمع الكفر والكفر لا يعهد جمعه في القرآن قط ولا في الاستعمال فلا يعرف في التخاطب كفار أو كفور وإنما المعروف الكفر والكفران والكفور مصادر ليس إلا فحسن مجيء الشكور على الفعول حمله على مقابله وهو كثير في اللغة وقد تقدمت الإشارة إليه وحتى لو كان الشكور سائغا استعماله جمعا واحتمل الجمع والمصدر لكان الأليق بمعنى الآية المصدر لا الجمع لأن الله تعالى وصفهم بالإخلاص وأنهم إنما قصدوا بإطعام الطعام وجهه ولم يريدوا من المطعمين جزاء ولا شكورا ولا يليق بهذا الموضع أن يقول لا نريد منكم أنواعا من الشكر وأصنافا منه بل الأليق بهم وبإخلاصهم أن يقولوا لا نريد منكم شكرا أصلا فينفوا إرادة نفس هذه الماهية منهم وهو أبلغ في قصد الإخلاص من نفي الأنواع فتأمله فإنه ظاهر فلا يليق بالآية إلا المصدر وكذلك قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} إنما هو مصدر وليس بالمعهود البين جمع الشكر على الشكور واستعماله كذلك كما لو لم يعهد ذلك في الكفور الاستغناء بالمفعول المطلق عن المصدر عاد كلامه قال ويزيد هذا وضوحا قولهم أحببت حبا فالحب ليس بمصدر لأحببت إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب ولذلك جاء على وزنه مضموم الأول ومن ثم جمع كما يجمع الشغل قال: ثلاثة أحباب فحب علاقة ... وحب تملاق وحب هو القتل فقد انكشف لك بقولهم أحببت حبا ولم يقولون إحبابا استغناء بالمفعول المطلق الذي هو أفيد عند المخاطب من الأحباب أن حلمت حلما وشكرت شكرا وكفر كفرا وصنع صنعا كلها واقعة على ما هو اسم للشيء المفعول وناصب له نصب المفعول المطلق وهو في هذه الأفعال أجدر أن يكون كذلك لأنها أعم من أحببت إذ الشكر واقع على أشياء مختلفة وكذلك الكفر والشغل والحلم وكلما كان الفعل

أعم وأشيع لم يكن لذكر مصدره معنى وكان فعل ويفعل مغنيا عنه ولولا كشف الشاعر لاختلاف أنواع الحب ما كدنا نعرف ما فيه من العموم وأنه في معنى الشغل صار أحببت كشغلت وصار الحب كالشغل ولو قال إحبابا لكان بمنزلة شغلت شغلا بفتح الشين ألا ترى أنهم لا يجمعون من المصادر ما كان على وزن الإفعال نحو: الإكرام وعلى وزن الانفعال والافتعال والفعل ونحوها إلا أن يكون محددا كالتمرة من التمر وأما جمعه لاختلاف الأنواع فلا اختلاف للأنواع فيه إنما اختلاف الأنواع فيما كان اسما مشتقا من الفعل استغنى به عن المصدر لخصوصه وعموم المصدر وذلك لا تجده في الثلاثي إلا على وزن فعل وفعل ألا ترى أنهم لا يجمعون نحو الحذر والرمد والخدر والخفس والبرص والعمى وبابه قلت: فعل الحب فيه لغتان فعل وافعل وقد أنشدوا في الصحاح بيتين على اللغتين وهما: أحب أبا مروان من أجل تمره ... واعلم أن الحب بالمرء أرفق ووالله لولا تمره ما حببته ... وكان عياض منه أدنى ومشرق هكذا أنشده المبرد والذي في الصحاح ولا كان أدنى من عبيد ومشرق بالأقواء والبيتان "لغيلان بن شجاع النهشلي وهو عربي" فصيح وإذا ثبت أنهما لغتان في أحببته حبا فأنا له محب وهو محبوب على تداخل اللغتين فأتوا في المصدر الثلاثي كالشكر والشغل واستعملوا من الفعلين الرباعي في غالب كلامهم حتى كأنهم هجروا الثلاثي وأتوا بمصدره حتى كأنهم هجروا الرباعي فلما جاءوا إلى اسم الفاعل أتوا بالاسم من الرباعي حتى كأنهم لم ينطقوا بالثلاثي فقالوا محب ولو يقولوا حاب أصلا وجاءوا إلى المفعول فأتوا به من الفعل الثلاثي في الأكثر فقالوا: محبوب ولم يقولوا محب إلا نادرا كما قال: ولقد نزلت فلا تظنى غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم فهذا من أحببت كما أن المحبوب من حببت ثم استعملوا لفظ الحبيب في

المحبوب أكثر من استعمالهم إياه في المحب مع أنه يطلق عليهما فمن مجيئه بمعنى المفعول قول ابن الدمينة: وإن الكثيب الفرد من جانب الحمى ... إلي وإن لم آته لحبيب أي: لمحبوب ومن مجيئه للفاعل قول المجنون: أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب فهذا بمعنى محبها وربما قالوا: للحبيب حب مثل خدن فخدن وخدين مثل حب وحبيب وإذا ثبت هذا فقوله رحمه الله: الحب ليس بمصدر لأحببت إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب ليس الأمر كما قال بل هي مصدر للثلاثي أجروه على الفعل الرباعي استغناء عن مصدره وهذا لكثرة ولوع أنفسهم بالحب وألسنتهم به استعملوه منه أخف المصدرين استغناء به عن أثقلهما وأما مجيئه بالضم دون الفتح فكثير في ذلك وهو قوة هذا المعنى وتمكنه من نفس المحب وقهره وإذلاله إياه حتى إنه ليذل الشجاع الذي لا يذل لأحد فينقهر لمحبوبه ويستأسر له كما هو معروف في أشعارهم ونثرهم وكما يدل عليه الوجود فلما كان بهذه المثابة أعطوه أقوى الحركات وهي الضمة فإن حركة المحب أقوى الحركات فأعطوا أقوى حركات المتحرك أقوى الحركات اللفظية ليتشاكل اللفظ والمعنى فلهذا عدلوا عن قياس مصدره وهو الحب إلى ضمه وأيضا فإنهم كرهوا أن يجيئوا بمصدره على لفظ الحب الذي هو اسم جنس للمحبة ولم يكن بد من عدولهم إما إلى الضم أو إلى الكسر وكان الضم أولى لوجهين أحدهما: قوته وقوة الحب الثاني: أن في الضمة من الجمع ما يوازي ما في معنى الحب من جميع الهمة والإرادة على المحبوب فكأنهم دلوا السامع بلفظه وحركته وقوته على معناه اشتقاق الحب وتأمل كيف أتوا في هذا المسمى بحرفين أحدهما الحاء التي هي أقصى الحلق مبدأ الصوت ومخرجها قريب من مخرج الهمزة من أصل المصدر الذي هو معدن الحب وقراره ثم قرنوها

بالباء التي هي من الشفتين وهي آخر مخارج الصوت ونهايته فجمع الحرفان بداية الصوت ونهايته كما اشتمل معنى الحب على بداية الحركة ونهايتها فإن بداية حركة المحب من جهة محبوبه ونهايتها إلى الوصول إليه فاختاروا له حرفين هما بداية الصوت ونهايته فتأمل هذه النكت البديعة تجدها ألطف من النسيم ولا تعلق إلا بذهن يناسبها لطافة ورقة. فقل لكثيف الطبع ويحك ليس ذا ... بعشك فادرج سالما غير غانم واشتقاقه في الأصل من الملازمة والثبات من قولهم أحب البعير فهو محب إذ برك فلم يثر قال: حلت عليه بالقطيع ضربا ... ضرب بعير السود إذ حبا فلما كان المحب ملازما لذكر محبوبه ثابت القلب على حبه مقيما عليه لا يروم عنه انتقالا ولا يبغي عنه زوالا قد اتخذ له في سويداء قلبه وطنا وجعله له سكنا. تزول الجبال الراسيات وقلبه ... على العهد لا يلوي ولا يتغير فلذلك أعطوه هذا الاسم الدال على الثبات واللزوم ولما جاءوا إلى المحبوب أعطوه في غالب استعمالهم لفظ فعيل الدال على أن هذا الوصف وهو كون متعلق المحب أمر ثابت له لذاته وإن لم يحب فهو حبيب سواء أحبه غيره أم لا وهذا الوزن موضوع في الأصل لهذا المعنى الشريف وإن لم يشرفه غيره وهو من بناء الأوصاف الثابتة اللازمة كطويل وقصير وكريم وعظيم وحليم وجميل وبابه وهذا بخلاف مفعول فإن حقيقته لمن تعلق به الفعل ليس إلا مضروب لمن وقع عليه الضرب ومقتول ومأكول وبابه فهجروا في أكثر كلامهم لفظ محبوب لما يؤذن من أنه الذي تعلق به الحب فقط واختاروا له لفظ حبيب الدال على أنه حبيب في نفسه تعلق به الحب أم لا جاءوا إلى من قام به الحب فأعطوه لفظ محب دون حاب لوجهين أحدهما: أن الأصل هو الرباعي والنطق به أكثر فجاء على الأصل الثاني: أن حروفه أكثر من حروف حاب والمحل محل تكثير

لا محل تقليل فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب وإنما هي روضة أنف منح العزيز الوهاب فهمها وله الحمد والمنة وقد ذكرنا من هذا وأمثاله في كتاب التحفة المكية ما لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقه من الاستحسان والمدح ولله تعالى الفضل والمنة أنواع الحب وأما جمع الشاعر له على ثلاثة أحباب لا يخرجه عن كونه مصدرا لأنه أراد أن الحب ثلاثة أنواع وثلاثة ضروب وهذا تقسيم للمصدر نفسه وهو تقسيم صحيح فإن للحب بداية وتوسطا ونهاية فذكر الشاعر الأقسام الثلاثة فحب البداية هو حب العلاقة ويسمى علاقة لتعلق القلب بالمحبوب قال الشاعر: أعلاقة أم الوليد بعدما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس والحب المتوسط وهو حب التملق وهو التذلل والتواضع للمحبوب والانكسار له وتتبع مواقع رضاه وإيقاعها على ألطف الوجوه فهذا هو التملق وهو إنما يكون بعد تعلق القلب به والحب الثالث الذي هو يباشر القلب ويصطلم العقل ويذهب اللب ويمنع القرار وهذه المحبة تنقطع دونها العبارة وتمتنع إليها الإشارة ولي فيها من أبيات: وما هي إلا الموت أو هو دونها ... وفيها المنايا ينقلبن أمانيا فقد بان لك أن الشاعر إنما أراد جمع الحب الذي هو المصدر باعتبار أنواعه وضروبه ولنقطع الكلام في هذه المسألة فمن لم يشبع من هذه الكلمات ففي كتاب التحفة أضعاف ذلك والله الموفق. عاد كلامه قال فإن قيل: فقد قالوا سقم وأسقام والسقم مصدر سقم فهذا جمع لاختلاف الأنواع لأنه اسم كما ذكرت قيل: هذه غفلة أليس قد قالوا سقم بضم السين فهو عبارة عن الداء الذي يسقم الإنسان فصار كالدهن والشغل وهو في ذاته مختلف الأنواع فجمع وأما المرض فقد يكون عبارة عن السقم والعلة فيجمع على أمراض وقد يكون مصدرا كقولك مرض فلا يجمع

فإنه قيل: تفريقك بين الأمرين دعوى فما دليلها قلنا: قولك عرق يعرق عرقا لا يخفى على أحد أنه مصدر عرق والعرق الذي هو جسم سائل مائع سائل من الجسد لا يخفى على أحد أنه غير العرق الذي هو المصدر وإن كان اللفظ واحدا فكذلك المرض يكون عبارة عن المصدر وعبارة عن السقم والعلة فعلى هذا تقول تصبب زيد عرقا ليكون له إعرابان تمييز إذا أردت المائع ومفعول من أجله أو مصدر مؤكد إذا أردت المصدر وكذلك دميت إصبعي دما إذا أردت المصدر فهي مثل العمى وإن أردت الشيء المائع فهو دم مثل يد وقد يسمى المائع بالمصدر قال: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدما فهذا مقصور كالعصا وعليه قول الآخر: جرى الدميان بالخبر اليقين فصل: ومن حيث امتنع أن يؤكد الفعل العام بالمصدر لشيوعه كما يمتنع توكيد النكرة لشيوعها وأنها لم تثبت لها عين لم يجز أن يخبر عنه كما لا يخبر عن النكرة لا تقول من فعل كان شرا له بخلاف من كذب كان شرا له لأن كذب فعل خاص فجاز الإخبار عما تضمنه من المصدر ومن ثم لم يقولوا فعلت سريعا ولا علمت طويلا كما قالوا سرت سريعا وجلست طويلا على الحال من المصدر كما يكون الحال من الاسم الخاص ولا يكون من النكرة الشائعة فإن قلت اجعله نعتا للمفعول المطلق كأنك قلت: فعلت فعلا سريعا وعملت عملا كثيرا قيل لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت إلا على شروط مذكورة في موضعها فليس قولهم سرت سريعا نعتا لمصدر نكرة محذوفة إنما هو حال من مصدر في حكم المعرفة بدلالة الفعل الخاص عليه فقد استقام الميسم للناظر في فصول هذه المسألة واستتب القياس

فيها من كل وجه فإن قيل: فما قولكم في علمت علما أليس هو مصدرا لعلمت فلم جاء مكسور الأول كالطحن والذبح قيل: العلم يكون عبارة عن المعلوم كما تقول فرأيت العلم وعبارة عن المصدر نفسه الذي اشتق منه علمت إلا أن ذلك المصدر مفعول لعلمت لأنه معلوم بنفس العلم لأنك إذا علمت الشيء فقد علمته وعلمت أنك علمته بعلم واحد فقد صار العلم معلوما بنفسه فلذلك جاء على وزن الطحن والذبح وليس له نظير في الكلام إلا قليل لا أعلم فعلا يتناول المفعول ويتناول نفسه إلا العلم والكلام لأنك تقول للمخاطب تكلم فيقول قد تكلمت فيكون صادقا وإن لم ينطق قبل ذلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "لما قال له يا ابن عبد المطلب قد أجبتك" رواه البخاري وأبو داود وكان قد أجبتك جوابا وخبرا عن الجواب فتناول القول نفسه ولذلك تعبدنا في التلاوة أن نقول قل هو الله أحد لأن قل أمر يتناول ما بعده ويتناول نفسه فمن ثم جاء مصدر القول على القيل كما جاء مصدر علمت على العلم وجاء أيضا على القال وهو على وزن القبض لأن القول قد يكون مقولا بنفسه وجاء أيضا على الأصل مفتوح الأول وأما العلم فلم يجيء إلا مكسورا مصدرا كان أو مفعولا لأنه لا يكون أبدا إلا معلوما بنفسه والقول بخلاف ذلك قد يتناول نفسه في بعض الكلام وقد لا يتناول إلا المفعول وهو الأغلب وأما الفكر فليس باسم عند سيبويه ولذلك منع من جمعه فقال: لا يجمع الفكر على أفكار حمله على المصادر التي لا تجمع وقد استهوى الخطباء والقصاص خلاف هذا وهو كالعلم لقربه منه في معناه ومشاركته له في محله وأما الذكر فبمنزلة العلم لأنه نوع منه. فصل: فيما يحدد من المصادر بالهاء وفيه بقايا من الفصل الأول فقد تقدم أن الفعل لا يدل على مصدره إلا مطلقا غير محدد ولا منعوت وإنك إذا قلت: ضربته ضربة فإنما هو مفعول مطلق لا توكيد لأن التوكيد لا يكون في معناه زيادة على المؤكد ومن

ثم لا تقول سير بزيد سريعة حسنة تريد سيرة كذلك ولا قعدت طويلة لأن الفعل لا يدل بلفظه على المرة الواحدة ومن ثم بطل ما أجازه النحاس وغيره من قوله: زيد ظننتها منطلق تريد الظنة لأن الفعل لا يدل عليها وإذا ثبت هذا فالتحديد في المصادر ليس يطرد في جميعها ولكن فيما كان منها حركة للجوارح الظاهرة ففيه يقع التحديد غالبا لأنه مضارع للأجناس الظاهرة التي يقع الفرق بين الواحد منه والجنس بهاء التأنيث نحو تمرة وتمر ونخلة ونخل وكذلك تقول ضربة وضرب وأما ما كان من الأفعال الباطنة نحو علم وحذر وفرق ووجل أو ما كان سبعا نحو ظرف وشرف لا يقال في شيء من هذا فعلة لا يقال فهم فهمة ولا ظرف ظرفة وكذلك ما كان من الأفعال عبارة عن الكثرة والقلة نحو طال وقصر وكبر وصغر وقل وكثر لا نقول فيه فعلة وأما قولهم: الكبرة في الهرم فعبارة عن الصفة وليست بواحدة من الكبر وكذلك الكثرة ليست كالضربة من الضرب لأنك لا تقول كثر كثرا وأما حمدا فما أحسبه يقال في تحديده حمدة كما يقال: مدحة الفرق بين الحمد والمدح والفرق بينهما أن حمد يتضمن الثناء مع العلم بما يثنى به فإن تجرد عن العلم كان مدحا ولم يكن حمدا فكل حمد مدح دون العكس ومن حيث كان يتضمن العلم بخصال المحمود جاء فعله على حمد بالكسر موازنا لعلم ولم يجيء كذلك مدح فصار المدح في الأفعال الظاهرة كالضرب ونحوه ومن ثم في الكتاب والسنة حمد: ربنا فلانا ويقول مدح الله فلانا وأثنى على فلان ولا تقول حمد إلا لنفسه ولذلك قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بلام الجنس المفيدة للاستغراق فالحمد كله له إما ملكا وإما استحقاقا فحمده لنفسه استحقاق وحمد العباد له وحمد بعضهم لبعض ملك له فلو حمد هو غيره لم يسغ أن يقال في ذلك الحمد ملك له لأن الحمد كلامه ولم يسغ أن يضاف إليه على جهة الإستحاق وقد تعلق بغيره فإن قيل: أليس ثناؤه ومدحه لأوليائه إنما هو بما علم فلم لا يجوز أن يسمى حمدا قيل لا يسمى حمدا على الإطلاق إلا ما يتضمن العلم بالمحاسن على الكمال وذلك معدوم في غيره سبحانه فإذا مدح فإنما يمدح بخصلة هي ناقصة في حق العبد وهو أعلم

بنقصانها وإذا حمد نفسه حمد بما علم من كمال صفاته قلت: ليس ما ذكره من الفرق بين الحمد والمدح باعتبار العلم وعدمه صحيحا فإن كل واحد منهما يتضمن العلم بما يحمد به غيره ويمدحه فلا يكون مادحا ولا حامدا من لم يعرف صفات المحمود والممدوح فكيف يصح قوله: إن تجرد عن العلم كان مادحا بل إن تجرد عن العلم كان كلاما بغير علم فإن طابق فصدق وإلا فكذب وقوله: ومن ثم لم يجيء في الكتاب والسنة حمد ربنا فلانا يقال وأين جاء فيهما مدح الله فلانا وقد جاء في السنة ما هو أخص من الحمد وهو الثناء الذي هو تكرار المحامد كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به " صحيح فإذا كان قد أثنى عليهم والثناء حمد متكرر فما يمنع حمده لمن شاء من عباده ثم الصحيح في تسمية النبي صلى الله عليه وسلم محمدا أنه الذي يحمده الله وملائكته وعباده المؤمنون وأما من قال: الذي يحمده أهل السموات وأهل الأرض فلا ينافي حمد الله بل حمد أهل السموات والأرض له بعد حمد الله له فلما حمده الله حمده أهل السموات والأرض وبالجملة فإذا كان الحمد ثناء خاصا على المحمود لم يمتنع أن يحمد الله تعالى من يشاء من خلقه كما يثني عليه فالصواب في الفرق بين الحمد والمدح أن يقال: الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا من حب وإرادة أو مقرونا بحبه وإرادته فإن كان الأول فهو المدح وإن كان الثاني فهو الحمد فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح فإنه خبر مجرد فالقائل إذا قال: الحمد لله أو قال: ربنا لك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الحمد المحققة والمقدرة وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا ينبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد ولما كان هذا المعنى مقارنا للحمد لا تتقوم حقيقته إلا به فسره من فسره بالرضى والمحبة وهو تفسير له بجزء مدلوله بل هو رضاء ومحبة ومقارنة للثناء ولهذا السر

والله أعلم جاء فعله على بناء الطبائع والغرائز فقيل: حمد لتضمنه الحب الذي هو بالطبائع والسجايا أولى وأحق من فهم وحذر وسقم ونحوه بخلاف الإخبار المجرد عن ذلك وهو المدح فإنه جاء على وزن فعل فقالوا: مدحه لتجرد معناه من معاني الغرائز والطبائع فتأمل هذه النكتة البديعة وتأمل الإنشاء الثابت في قولك ربنا لك الحمد وقولك الحمد لله كيف تجده تحت هذه الألفاظ ولذلك لا يقال موضعها المدح لله تعالى ولا ربنا لك المدح وسره ما ذكرت لك من الأخبار بمحاسن المحمود إخبارا مقترنا بحبه وإرادته وإجلاله وتعظيمه فإن قلت: فهذا ينقض قولكم إنه لا يمتنع أن يحمد الله تعالى من شاء من خلقه فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا يستحق التعظيم غيره فكيف يعظم أحدا من عباده قلت: المحبة لا تنفك عن تعظيم وإجلال للمحبوب ولكن يضاف إلى كل ذات بحسب ما تقتضيه خصائص تلك الذات فمحبة العبد لربه تستلزم إجلاله وتعظيمه وكذلك محبة الرسول تستلزم توقيره وتعزيزه وإجلاله وكذلك محبة الوالدين والعلماء وملوك العدل وأما محبة الرب عبده فإنها تستلزم إعزازه لعبده وإكرامه إياه والتنويه بذكره وإلقاء التعظيم والمهابة له في قلوب أوليائه فهذا المعنى ثابت في محبته وحمده لعبده سمي تعظيما وإجلالا أو لم يسم ألا ترى أن محبته سبحانه لرسله كيف اقتضت أن نوه بذكرهم في أهل السماء والأرض ورفع ذكرهم على ذكر غيرهم وغضب على من لم يحبهم ويوقرهم ويجلهم وأحل به أنواع العقوبات في الدنيا والآخرة وجعل كرامته في الدنيا والآخرة لمحبيهم وأنصارهم وأتباعهم أولا ترى كيف أمر عباده وأولياءه بالصلاة التي هي تعظيم وثناء على خاتمهم وأفضلهم صلوات الله عليه وسلامه أفليس هذا تعظيما لهم وإعزازا وإكراما وتكريما فإن قيل: فقد ظهر الفرق بين الحمد والمدح واستبان صبح المعنى وأسفر وجهه فما الفرق بينهما وبين الثناء والمجد الفرق بين الحمد والمدح وبين الثناء والمجد قيل: قد تعدينا طورنا فيما نحن بصدده ولكن نذكر الفرق تكميلا للفائدة فنذكر تقسيما جامعا لهذه المعاني الأربعة أعني الحمد والمدح والثناء والمجد فنقول الإخبار عن

محاسن الغير له ثلاث اعتبارات اعتبار من حيث المخبر به واعتبار من حيث الإخبار عنه بالخبر واعتبار من حيث حال المخبر فمن حيث الاعتبار الأول ينشأ التقسيم إلى الحمد والمجد فإن المخبر به إما أن يكون من أوصاف العظمة والجلال والسعة وتوابعها أو من أوصاف الجمال والإحسان وتوابعها فإن كان الأول فهو المجد وإن كان الثاني فهو الحمد وهذا لأن لفظ م ج د في لغتهم يدور على معنى الاتساع والكثرة فمنه قولهم أمجد الدابة علفا أي أوسعها علفا ومنه مجد الرجل فهو ماجد إذا كثر خيره وإحسانه إلى الناس قال الشاعر: أنت تكون ماجد نبيل ... إذا تهب شمأل بليل ومنه قولهم في شجر الغار واستمجد "المرخ" "والعفار" أي كثرت النار فيهما ومن حيث اعتبار الخبر نفسه ينشأ التقسيم إلى الثناء والحمد فإن الخبر عن المحاسن إما متكرر أو لا فإن تكرر فهو الثناء وإن لم يتكرر فهو الحمد فإن الثناء مأخوذ من الثني وهو العطف ورد الشيء بعضه على بعض ومنه ثنيت الثوب ومنه التثنية في الاسم فالمثنى مكرر لمحاسن من يثنى عليه مرة بعد مرة ومن جهة اعتبار حال المخبر ينشأ التقسيم إلى المدح والحمد فإن المخبر عن محاسن الغير إما أن يقترن بإخباره حب له وإجلال أو لا فإن اقترن به الحب فهو الحمد وإلا فهو المدح فحصل هذه الأقسام وميزها ثم تأمل تنزيل قوله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول العبد: "الحمد لله رب العالمين فيقول الله حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي لأنه كرر حمده فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي فإنه وصفه بالملك والعظمة والجلال " رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي فاحمد الله على ما ساقه إليك من هذه الأسرار والفوائد عفوا لم تسهر فيها عينك ولم

يسافر فيها فكرك عن وطنه ولم تتجرد في تحصيلها عن مألوفاتك بل هي عرائس معان تجلى عليك وتزف إليك فلك لذة التمتع بها ومهرها على غيرك لك غنمها وعليه غرمها. فصل: فلنرجع إلى كلامه قال وكل ما حدد من المصادر تجوز تثنيته وجمعه وما لم يحدد فعلى الأصل الذي تقدم لا يثنى ولا يجمع وقولهم إلا أن تختلف أنواعه لا تختلف أنواعه إلا إذا كان عبارة عن مفعول مطلق اشتق من لفظ الفعل لا عن مصدر اشتق الفعل منه ولذلك تجده على وزن فعل بالكسر وعلى وزن فعل نحو عمل والذي هو مصدر حقيقة ما تجده على وزن فعل نحو ضرب وقتل وأما الشرب بالفتح والضم والكسر فالشرب بالفتح هو المصدر والشرب بالضم عبارة عن المشروب أو عن الحدث الذي هو مفعول مطلق في الأصل وربما اتسع فيه فأجرى مجرى المصدر الذي اشتق الفعل منه كما قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} بالضم والفتح قلت هذه كبوة من جواد ونبوة من صارم فإن الشرب بالضم هو المصدر وأما المشروب فهو الشرب بكسر الشين قال الله في الناقة: {هَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} فهذا هو المشروب كما تقول قسم من الماء وحظ ونصيب تشربه في يومها ولكم حظ وقسم تستوفونه في يومكم وهذا هو القياس في الباب كالذبح بمعنى المذبوح والطحن للمطحون والحب للمحبوب والحمل للمحمول والقسم للمقسوم والعرس للزوجة التي قد عرس بها ونظائره كثيرة جدا وأما الشرب بالفتح فقياسه أن يكون جمع شارب كصاحب وصحب وتاجر وتجر وهو يستعمل كذلك وإطلاق لفظ الجمع عليه جريا على عادتهم والصواب أنه اسم جمع فإن فعلا ليس من صيغ الجموع واستعمل أيضا مصدرا وقد قرئت

الآية بالوجوه الثلاثة فمن قرأ بالضم أو الفتح فهو مصدر ومن قرأ بالكسر فهو بمعنى المشروب وعلى الأول يقع التشبيه بين الفعلين وهو المقصود بالذكر شبه شربهم من الحميم بشرب الإبل العطاش التي قد أصابها الهيام وهو داء تشرب منه ولا تروى وهو جمع أهيم وأصله هيم بضم الهاء كأحمر وحمر ثم قلبوا الضمة كسرة لأجل الياء فقالوا: هيم وأما قراءة الكسر فوجهها أنه شبه مشروبهم بمشروب الإبل الهيم في كثرته وعدم الري به والله تعالى أعلم. عاد كلامه قال فإن قيل: الفهم والعقل والوهم والظن مصادر ليست مما ذكرت وقد جمعت فقالوا أفهام وأوهام وعقول قيل: هذه مصادر في أصل وضعها ولكنها قد أجريت مجرى الأسماء حيث صارت عبارة عن صفة لازمة وعن حاسة ناطقة كالبصر ألا ترى أنك إذا قلت عقلت البعير عقلا لم يجز في هذا المصدر الجمع فإذا أردت به المعنى الذي استعير له وهو عقل الإنسان جاز جمعه إذ صار للإنسان كأنه حاسة ناطقة كالبصر ألا ترى أن البصر حيثما ورد في القرآن الكريم مجموع والسمع غير مجموع في أجود الكلام لبقاء السمع على أصله من بناء المصادر الثلاثة ولكون البصر على وزن فعل كالأسماء ولأنه يراد به الحاسة وقد يجوز في السمع على ضعف أن تجمعه إذا أردت به الحاسة دون المصدر كما تجمع الفهم على أفهام ولكن لا يكون ذلك إلا بشرط وهو أن تكون الأفهام والإسماع ونحوها مضافة إلى جمع نحو أفهام القوم وأسماع الزيدين ولو كان هذا الجمع إنما هو لاختلاف أنواع المصدر لما جاز أن تقول عرفت أفهام القوم في هذه المسألة وعرفت علومهم لأن الصفة لا تختلف عند اتحاد متعلقها بل هي مماثلة وإن اختلفت محالها فعلم زيد وعلم عمرو إذا تعلقا بشيء واحد فهما مثلان وعلم زيد بشيء واحد وعلمه بشيء آخر مختلفان لاختلاف المعلومين والمقصود أن الأفهام والعقول لا تجمع لاختلاف أنواعها لأنها قد تجمع حيث لا تختلف وهي

عند اتفاق أفهام على مفهوم واحد وتجيء مفردة عند اختلافها نحو فهم زيد الحساب والنحو وغيرهما لا يقال فيه عرفت أفهام زيد بالعلوم ولكن تقول فهم زيد بالإفراد مع اختلاف متعلقه واختلاف متعلقه يوجب اختلافه وإذا ثبت هذا فلم يجمع الفهم على أفهام إلا من حيث كان بمنزلة حاسة ناطقة للإنسان فإذا أضيف إلى أكثرين جمع وإذا أضيف إلى واحد لم يجمع لأنه كالحاسة الواحدة وإن كان في أصله مصدرا فرب مصدر أجرى مجرى الأسماء كضيف وضيفان وعدل وعدول وصيد وصيود وأما رؤية العين فليست التاء فيها للتحذير بل هي لتأنيث الصفة كالقدرة والصفرة والحمرة وكان الأصل فيها رأيا ولكنهم إنما يستعملون هذا الأصل مضافا إلى العين نحو قوله تعالى: {رَأْيَ الْعَيْنِ} فإذا لم تضف استعمل في الرأي المعقول واستعملت الرؤية في المعنى الآخر للفرق وأما الظن فمصدر لا يثنى ولا يجمع إلا أن تريد به الأمور المظنونة نحو ذلك قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} أي يظنون أشياء كاذبة والظنون على هذا مفعول مطلق لا عبارة عن الظن الذي هو المصدر في الأصل والله أعلم فائدة: سحر على قسمين أحدهما: يراد به سحر يوم بعينه معرفة كان اليوم أو نكرة وهو في هذا ظرف غير منون بشرط أن يكون اليوم ظرفا لا فاعلا ولا مفعولا وفيه وجهان أحدهما: أن تعريفه لما فيه من معنى الإضافة فإنك تريد سحر ذلك اليوم فحذف التنوين منه كما حذف في أجمع وأكتع لما كان مضافا في المعنى الوجه الثاني: وهو اختيار سيبويه أن تعريفه باللام المقدرة كأنك حين ذكرت يوما قبله وجعلته ظرفا ثم ذكرت سحر فكأنك أردت السحر الذي

من ذلك اليوم فاستغنيت عن الألف واللام بذكر اليوم وهذا القول أصح للفرق الذي بين سحر وبين أجمع فإن أجمع توكيد بمنزلة كله ونفسه فهو مضاف في المعنى إلى ضمير المؤكد واستغنى عن إظهار الضمير بذكر المؤكد لأن أجمع لا يكون إلا تابعا له ولا يكون مخبرا عنه بحال وليس كذلك السحر لأنه بمنزلة الفرس والجمل فإن أضفته لم يكن بد من إظهار المضاف إليه وإنما هو معرف باللام كما قال سيبويه: "وهذا كله لما كان اليوم ظرفا لا مفعولا" فلو قلت: كرهت يوم السبت سحر كان بدلا كما تقول أكلت الشاة رأسها فإن قيل: فهلا قلتم أنه بدل إذا كان ما قبله ظرفا أيضا لأنه بعض اليوم فيكون بدل البعض من الكل كما كان ذلك إذا كان اليوم مفعولا قيل: الفرق بينهما أن البدل يعتمد عليه ويكون المبدل منه في حكم الطرح ويكون الفعل مخصوصا بالبدل بعدما كان عموما في المبدل منه فإذا قلت: أكلت السمكة رأسها لم يتناول الأكل إلا رأسها وخرج سائرها من أن يكون مأكولا وليس كذلك خرجت يوم الجمعة سحر لأن الظرف مقدر ب في وجعل سحر ظرفا لا يخرج اليوم عن أن يكون ظرفا بل يبقى على حاله لأنه ليس من شرط الظرف أن يملأه ما يوضع فيه فالكلام معتمد عليه كما كان قبل ذكر سحر نعم وما هو أوسع من اليوم في المعنى نحو الشهر والعام الذي فيه ذكر اليوم وما هو أوسع من العام كالزمان كل واحد من هذه ظرف للفعل الذي وقع في سحر بالذكر فذكر سحر لا يخرج شيء منها أن يكون ظرفا للفعل فلذلك اعتمد الكلام على اليوم واستغنى به عن تجديد آلة التعريف بخلاف كرهت يوم السبت سحرا أو السحر منه لا بد من البدل فيه فقد بان الفرق وبانت علة ارتفاع التنوين لأنه لا يجامع الألف واللام ولا معناها وإن كان في حكم المضاف كما زعم بعضهم فلذلك أيضا امتنع تنوينه وأما مانع تصرفه وتمكنه فإنك لما أردته ليوم هو ظرف فلو تمكن خرج عن أن يكون من ذلك اليوم لأن الظرفية كانت رابطة بينهما ومشعرة بأن السحر من ذلك اليوم فإذا قلت سير بزيد يوم الجمعة سحر

وجعلته مفعولا على السعة لم يجز لعدم الرابط بينه وبين اليوم فإن أردت هذا المعنى فقل سير بزيد يوم الجمعة سحر أو السحر منه حتى يرتبط به لأنك لا تقدر الألف واللام من غير أن يلفظ بهما إلا إذا كان في الكلام ما يغني عنهما وأما إذا كان اسما متمكنا كسائر الأسماء فلا بد من تعريفه بما تعرف به الأسماء أو تجعله نكرة فلا يكون من ذلك اليوم فإن قلت: فقد أجازوا سير بزيد يوم الجمعة سحر برفع اليوم ونصب سحر فلم لا يجوز أيضا يوم الجمعة سحر بنصب اليوم ورفع سحر قيل: لأن اليوم وإن اتسع فيه فهو ظرف في معناه وهو يشتمل على السحر ولا يشتمل السحر عليه فلا يجوز إذا أن يتعرف السحر تعريفا معنويا حتى يكون ظرفا بمنزلة اليوم الذي هو منه ليكون تقديم اليوم مع كونه ظرفا مغنيا عن آلة التعريف. فصل: وأما ضحوة وعشية ومساء ونحو ذلك فإنها مفارقة لسحر من حيث كانت منونة وإن أردتها ليوم بعينه وهي موافقة له في عدم التصرف والتمكن والفرق بينهما أن هذه أسماء فيها معنى الوصل لأنها مشتقة مما وصف به الأوقات التي هي ساعات اليوم فالعشي من العشاء والضحوة من قولك فرس أضحى وليلة إضحيان يريد البياض والصباح من الأصبح وهو لون بين لونين فإذا قلت خرجت اليوم عشاء وظلاما وضحى وبصرا حكاه سيبويه فإنما تريد خرجت اليوم في ساعة وصفها كذا وخرجت وقتا مظلما أو مبصرا ونحو ذلك فقد بان لك أنها أوصاف لنكرات وتلك النكرات هي أجزاء اليوم وساعاته ألا ترى أنك إذا قلت خرجت اليوم ساعة منه أو مشيت اليوم وقتا منه لم يكن إلا منونا إلا أن

ساعة ووقتا غير معين وضحوة وعشية قد تخصصا بالصفة ولكنه لم يتعرف وإن كان ليوم بعينه لأنه غير معرف بالألف واللام كما كان سحر لأن سحر اسم جامد يتعرف كالأسماء ويخبر عنه وأما نعته فلا يكون كذلك لأن النعت لا يكون فاعلا ولا مفعولا ولا يقام مقام المنعوت إلا على شروط مخصوصة فإن قلت: أليست هذه الأوقات معروفة عند المخاطب من حيث كانت ليوم بعينه فلم لا تكون معرفة كما كان سحر إذا كان ليوم بعينه قيل إن سحر لم يتعرف بشيء إلا بمعنى الألف واللام لا من حيث كان ليوم بعينه فقد تعرف المخاطب الشيء بصفته كما تعرف بآلة التعريف فتقول رأيت رجلا من صفته كذا وكذا حتى يعرفه المخاطب فيسري إليه التعريف وهو مع ذلك نكرة وكذلك ضحوة وعشية وإنما استغني عن ذكر المنعوت بهذه الصفات لتقدم ذكر اليوم الذي هو مشتمل على الأوقات الموصوفة بهذه المعاني كما استغنى عن ذكر المنعوت إذا قلت زيد قائم ولا شك أن المعنى زيد رجل قائم ولكن ترك ذكر الرجل لأنه زيد وكذلك جاءني زيد صالحا أي رجلا صالحا ولكن زيد هو الرجل فأغناك عن ذكره وكذلك ما نحن بسبيله من هذه الأسماء التي هي في نفسها أوصاف لأوقات أغنى ذكر اليوم الذي هي له عن ذكرها لاشتمالها عليه ولم يكن ذلك في سحر ومن ثم أيضا لم تتمكن فتقول سير عليه يوم الجمعة ضحوة وعشية لأن تمكنها يخرجها إلى حيز الأسماء ويبطل منها معنى الصفة فلا ترتبط حينئذ باليوم الذي أردتها له وينضاف إلى هذه العلة علة أخرى قد تقدمت في فصل سحر وكذلك كل ما كان من الظروف نعتا في الأصل نحو ذا حاج وكلت مرة وأقمت طويلا وجلست قريبا لا يتمكن ولا يخرج من الظرف ويلحق بهذا الفصل نهارا إذا قلت خرجت اليوم نهارا لأنه مشتق من أنهر الدم بما تشتت تريد الانتشار والسعة ومنه النهر من الماء لأنه بالإضافة إلى موضع تفجره كالنهار بالإضافة إلى فجره لأن النهر ما ينتشر ويتسع فما انفجر من الماء والنهر بمنزلة ما انتشر واتسع من فجر الضياء واليوم أوسع من النهار في معناه

فصار قولك خرجت اليوم نهارا كقولك خرجت اليوم ظهرا وعشيا معنى الاشتقاق فيها كلها بين فجرت مجرى الأوصاف للنكرات في تنوينها وعدم تمكنها قلت: ولما كان النهار أوسع من النهر خص بالألف المعطية اتساع النطق وانفتاح الفم دون النهر. فصل: وأما غدوة وبكرة فهما اسما علم وعدم التنوين فيهما للتعريف والتأنيث والذي أخرجهما عن باب ضحوة وعشية وإن كان فيهما معنى الغدو والبكور كما كان في أخواتهما معاني الفعل أنهما قد بنيا بناء لا يكون عليه المصادر ولا النعوت وغيرها للعلمية كما غير عمارة وعمر وأشباههما وكما غير الدبران وفيه معنى الدبور إيذانا باللمية وتحقيقا لمعناها ألا ترى أن ضحوة على وزن صعبة من النعوت وضربة من المصادر والمصادر ينعت بها وضحى على وزن هدى وعلى وزن حطم من النعت وكذلك سائر تلك الأسماء وغدوة وبكرة بخلاف ذلك قد غيرتا عن لفظ الغدو والبكور تغييرا بينا ففارقتا الفصل المتقدم فإن قيل: فلعل امتناع التنوين فيهما بمثابة امتناعه في سحر ليوم بعينه قيل: كلام العرب يدل على خلاف ذلك لأنهم لا يكادون يقولون خرجت اليوم في الغدوة وللغدوة خير من أول الليل كما يقال السحر خير من أول الليل فالسحر كسائر الأجناس في تنكيره وتعريفه وغدوة وبكرة من اليوم بمنزلة رجب وصفر من العام فقد تبين مخالفتهما لسحر وضحوة وأخواتهما وأنهما بمنزلة أسماء الشهور الأعلام وأسماء الأيام الأعلام نحو السبت والجمعة وإذا ثبت هذا فهما اسمان متمكنان يجوز إقامتهما مقام الفاعل إذا قلت سير بزيد يوم الجمعة غدوة فلا يحتاج إلى إضافة ولا إلى لام تعريف وتقول سير به يوم الجمعة غدوة على الظرف فيهما جميعا لأنها بعض اليوم كما تقول سرت

العام رجبا كله وتقول أيضا سير به يوم الجمعة غدوة برفعهما كأنهما بدل من اليوم ولا تحتاج أيضا إلى الضمير كما تحتاج في بدل البعض من الكل لأنها ظرف في المعنى ولو قلت كره يوم السبت غدوة على البدل لم يكن بد من إضافة غدوة إلى ضمير المبدل منه لأن اليوم ليس بظرف فيكون كقولك كرهت الخميس سحره إذا أردت البدل لأن المكروه هو السحر دون سائر اليوم وإنما يستغنى عن ضمير يعود على اليوم إذا تركته ظرفا على حاله لأن بعض اليوم إذا كان ظرفا لفعل كان جميع ذلك اليوم ظرفا لذلك الفعل الظرف الذي له اسم علم واعلم: أنه ما كان من الظروف له اسم علم فإن الفعل إذا وقع فيه تناول جميعه وكان الظرف مفعولا على سعة الكلام فإذا قلت: سرت غدوة فالسير وقع في الوقت كله وكذلك سرت السبت والجمعة وصفر والمحرم كله مفعول على سعة الكلام لا ظرف للفعل لأن هذه الأسماء لا يطلبها الفعل ولا هي في أصل موضوعها زمان إنما هي عبارة عن معان أخرى فإن أردت أن تجعل شيئا منها ظرفا ذكرت لفظ الزمان وأضفته إليه كقولك سرت يوم السبت وشهر المحرم فالسير واقع في الشهر ولا يتناول جميعه إلا بدليل والشهر ظرف وكذلك اليوم قال سيبويه ومما لا يكون الفعل إلا وقعا به كله سرت المحرم وصفر هذا معنى كلامه وإذا ثبت هذا فرجب ورمضان أسماء أعلام إذا أردتها لعام بعينه أو كان في كلامك ما يدل على عام تضيفها إليه فإن لم يكن كذلك صار الاسم نكرة تقول صمت رمضان ورمضانا آخر وصمت الجمعة وجمعة أخرى إنما أردت جمعة أسبوعك ورمضان عامك وإذا كان نكرة لم يكن إلا شهرا واحدا كما تكون النكرة من قولك ضربت رجلا إنما تريد واحدا وإذا كان معرفة يكون ما يدل على التمادي وتوالي الأعوام لم يكن حينئذ واحدا كقولك المؤمن يصوم رمضان فهو معرفة لأنك لا تريده لعام واحد بعينه إذ المعنى يصوم رمضان من كل عام على التمادي وذكر الإيمان قرينة تدل على أن المراد ولو لم يكن في الكلام ما يدل على هذا لم يكن محله إلا على العام

الذي أنت فيه وإذا ثبت هذا فانظر إلى قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وفي الحديث: "من صام رمضان" رواه مسلم وإذا دخل رمضان بدون لفظ الشهر ومحال أن يكون فعل ذلك إيجازا واختصارا لأن القرآن أبلغ إيجازا وأبين إعجازا ومحال أيضا أن يدع لفظ القرآن مع تحريه لألفاظه وما علم من عادته من الإقتداء به فيدع ذلك لغير حكمة بل لفائدة جسيمة ومعان شريفة اقتضت الفرق بين الموضعين وقد ارتبك الناس في هذا الباب فكرهت طائفة أن تقول صمت رمضان بل شهر رمضان واستهوى ذلك الكتاب اعتل بعضهم في ذلك برواية منحولة إلى ابن عباس: "رمضان اسم من أسماء الله" قالوا: ولذلك أضيف إليه الشهر وبعضهم يقول: إن رمضان من الرمضاء وهو الحر وتعلق الكراهية بذلك وبعضهم يقول: إن هذا استحباب واقتداء بلفظ القرآن وقد اعتنى بهذه المسألة أبو عبد الرحمن النسائي لعلمه وحذقه فقال: "في السن: "باب جواز أن يقال دخل رمضان أو صمت رمضان" وكذلك فعل البخاري وأورد الحديث المتقدم "من صام رمضان" وإذا أردت معرفة الحكمة والتحقيق في هذه النكتة فقد تقدم أن الفعل إذا وقع على هذه الأسماء الأعلام فإنه يتناول جميعها ولا يكون ظرفا مقدرا ب في حتى يذكر لفظ الشهر أو اليوم الذي أصله أن يكون ظرفا وأما الاسم العلم فلا أصل له في الظرفية وإذا ثبت هذا فقول الله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فيه فائدتان أو أكثر إحداهما أنه لو قال رمضان الذي أنزل فيه القرآن لاقتضى اللفظ وقوع الإنزال على جميعه كما تقدم من قول سيبويه وهذا خلاف المعنى لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منه في ساعة منها فكيف يتناول جميع الشهر وكان ذكر الشهر الذي هو غير علم موافقا للمعنى كما تقول سرت في شهر كذا فلا يكون السير متناولا لجميع الشهر الفائدة الأخرى: أنه لو قال: رمضان الذي أنزل فيه القرآن الكريم لكان حكم المدح والتعظيم مقصورا على شهر بعينه إذ قد تقدم أن هذا الاسم وما هو مثله إذا لم تقترن به قرينة تدل على توالي الأعوام التي هو فيها

لم يكن محله إلا العام الذي أنت فيه أو العام المذكور قبله فكان ذكر الشهر الذي هو الهلال في الحقيقة كما قال الشاعر: والشهر مثل قلامة الظفر يريد الهلال مقتضيا لتعليق الحكم الذي هو التعظيم بالهلال والشهر المسمى بهذا الاسم متى كان في أي عام كان مع أن رمضان وما كان مثله لا يكون معرفة في مثل هذا الموطن لأنه لم يرد لعام بعينه ألا ترى أن الآية في سورة البقرة وهي من آخر ما نزل وقد كان القرآن أنزل قبل ذلك بسنين ولو قلت رمضان حج فيه زيد تريد فيما سلف لقيل لك أي رمضان كان ولزمك أن تقول حج في رمضان من الرمضانيات حتى تريد عاما بعينه كما سبق وفائدة ثالثة: في ذكر الشهر وهو التبيين في الأيام المعدودات لأن الأيام تبين بالأيام وبالشهر ونحوه ولا تبين بلفظ رمضان لأن لفظه مأخوذ من مادة أخرى وهو أيضا علم فلا ينبغي أن يبين به الأيام المعدودات حتى يذكر الشهر الذي هو في معناها ثم تضاف إليه وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان" ففي حذف الشهر فائدة أيضا وهي: تناول الصيام لجميع الشهر فلو قال: من صام أو قام شهر رمضان لصار ظرفا مقدرا بفي ولم يتناول القيام والصيام جميعه فرمضان في الحديث مفعول على السعة نحو قوله: {قُمِ اللَّيْلَ} لأنه لو كان ظرفا لم يحتج إلى قوله: {إِلا قَلِيلاً} فإن قيل: فينبغي أن يكون قوله من قام رمضان مقصورا على العام الذي هو فيه لما تقدم من قولكم أنه إنما يكون معرفة علما إذا أردته لعامك أو لعام بعينه قيل قوله من صام رمضان على العموم خطاب لكل فرد ولأهل كل عام فصار بمنزلة قولك من صام كل عام رمضان كما تقول إن جئتني كل يوم سحر أعطيتك فقد مر قرينة تدل على التمادي تنوب مناب ذكر كل عام وقد اتضح الفرق بين الحديثين والآية "فإذا" فهمت فرق ما بينهما بعد تأمل هذه الفصول وتدبرها ثم لم تعدل عندك هذه الفائدة جميع الدنيا بأسرها فما قدرتها حق قدرها والله المستعان على واجب شكرها هذا نص كلام السهيلي بحروفه ثم قال:

فصل: الفعل لا يعمل في الحقيقة إلا فيما يدل عليه لفظه كالمصدر والفاعل والمفعول به أو فيما كان صفة لواحد من هذه نحو سرت سريعا وجاء زيد ضاحكا لأن الحال هي صاحب الحال في المعنى وكذلك النعت والتوكيد والبدل كل واحد من هذه هو الاسم الأول في المعنى فلم يعمل الفعل إلا فيما دل عليه لفظه لأنك إذا قلت ضرب اقتضى هذا اللفظ ضربا وضاربا ومضروبا وأقوى دلالته على المصدر لأنه هو الفعل في المعنى ولا فائدة في ذكره مع الفعل إلا أن تريد التوكيد أو تبيين النوع منه وإلا فلفظ الفعل مغن عنه ثم دلالة الفعل على الفاعل أقوى من دلالته على المفعول به من وجهين أحدهما أنه يدل على الفاعل بعمومه وخصوصه نحو: فعل زيد وعمل عمرو وأما الخصوص فنحو ضرب زيد عمرا ولا تقول فعل زيد عمرا إلا أن يكون الله هو الفاعل سبحانه الوجه الآخر أن الفعل هو حركة الفاعل والحركة لا تقوم بنفسها وإنما هي متصلة بمحلها فوجب أن يكون الفعل متصلا بفاعله لا بمفعوله ومن ثم قالوا ضرب زيد لعمرو وضرب زيدا عمرا فأضافوه إلى المفعول باللام تارة وبغير لام أخرى ولم يضيفوه إلى الفاعل باللام أصلا لأن اللام تؤذن بالانفصال ولا يصح انفصال الفعل عن الفاعل لفظا كما لا ينفصل عنه معنى قلت: وفي صحة قوله: ضرب زيد لعمرو نظر والمعروف الإتيان بهذه اللام إذا ضعف الفعل بالتأخير نحو قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} أو كان اسما نحو: أنا ضارب لزيد أو يعجبني ضربك لزيد لضعف العالم في هذه المواضع دعم باللام ولا يكادون يقولون شربت للماء وأكلت للخبز قال فإن قيل فإن الفعل لا يدل على الفاعل معينا ولا على المفعول معينا

وإنما يدل عليهما مطلقا لأنك إذا قلت: ضرب لم يدل على زيد بعينه وإنما يدل على ضارب وكذلك المضروب وكان ينبغي أن لا يعمل حتى تقول ضرب ضارب مضروبا بهذا اللفظ لأن لفظ زيد لا يدل عليه لفظ الفعل ولا يقتضيه قيل الأمر كما ذكرت ولكن لا فائدة عند المخاطب في الضارب المطلق ولا في المفعول المطلق لأن لفظ الفعل قد تضمنهما فوضع الاسم المعين مكان الاسم المطلق تبيينا له فيعمل فيه الفعل لأنه هو في المعنى وليس بغيره قلت: الواضع لم يضع هذه الألفاظ في أصل الخطاب مقتضية فاعلا مطلقا ومفعولا مطلقا وإنما جاء اقتضاء المطلق من العقل لا من الوضع والواضع إنما وضعها مقتضيات لمعين من فاعل ومفعول طالبة له فما لم يقترن بها المعين كان اقتضاؤها وطلبها بحاله لأن الأخبار والطلب إنما يقعان على المعين فإن قيل: فلو كانت قد وضعت مقتضية لمعين لم يصح إضافتها إلى غيره فلما صح نسبتها وإضافتها إلى كل معين علم أنها وضعت مقتضية للمطلق قيل: الفرق بين المعين على سبيل البدل والمعين على سبيل التعيين بحيث لا يقوم غيره مقامه والسؤال إنما يلزم أن لو قيل إنها مقتضية للثاني أما إذا كانت مقتضية لمعين من المعينات على سبيل البدل لم يلزم ذلك السؤال والله أعلم. قال: وإذا ثبت ما قلناه فما عدا هذه الأشياء فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة حرف نحو المفعول معه والظرف المكاني نحو قمت في الدار لأنه لا يدل عليه بلفظه وأما ظرف الزمان فكذلك أيضا لأن الفعل لا يدل عليه بلفظه ولا بنسبته وإنما يدل بنسبته على اختلاف أنواع الحدث وبلفظه على الحدث نفسه وهكذا قال سيبويه في أول الكتاب: "وإن تسامح في موضع آخر وأما الزمان فهو حركة الفلك فلا ارتباط بينه وبين حركة الفاعل إلا من جهة الإتفاق والمصاحبة" إلا أنهم قالوا: فعلت اليوم لأن اليوم ونحوه أسماء وضعت للزمان يؤرخ بها الفعل الواقع فيها فإذا سمعها المخاطب علم المراد منها واكتفى بصيغتها عن الحرف الجار فإن أضمرتها لم يكف لفظ الإضمار ولا أغنى عن الحرف لأن لفظ الإضمار يصلح

للزمان ولغيره فقلت يوم الجمعة خرجت فيه وقد تقول خرجت في يوم الجمعة لأنها وإن كانت أسماء موضوعة للتاريخ فقد يخبر عن المكان إلا أن الإخبار عن المكان المحدود أكثر وأقوى لأن الأمكنة أشخاص كزيد وعمرو وظروف الزمان بخلاف ذلك فمن ثم قالوا سرت اليوم وسرت في اليوم ولم يقولوا جلست الدار. فصل: فإن كان الظرف مشتقا من فعل تعدى إليه بنفسه لأنه في معنى الصفة التي لا تتمكن ولا يخبر عنها وذلك كقبل وبعد وقريبا منك لأن في قبل معنى المقابلة وهي من لفظ قبل وبعد من لفظ بعد وهذا المعنى هو من صفة المصدر لأنك إذا قلت جلست قبل جلوس زيد فما في قبل معنى المقابلة فهو في صفة جلوسك ولم يمتنع الإخبار عن قبل وبعد من حيث كان غير محدود لأن الزمان والدهر قد يخبر عنهما وهما غير محدودين تقول قمت في الدهر مرة وإنما امتنع قمت في قبلك للعلة التي ذكرناها ومن هذا النحو ما تقدم في فصل غدوة وعشية من امتناع تلك الأسماء من التمكن لما فيها من معنى الوصف نحو خرجت بصرا وظلاما وعشاء وضحى وإن كنا قد قدمنا أن هذه المعاني أوصاف للأوقات فليس بمناقض لما قلناه آنفا لأن الأوقات قد توصف بهذه المعاني مجازا وأما في الحقيقة فالأوقات هي الفلك والحركة لا توصف بصفة معنوية لأن العرض لا يكون حاملا لوصف ومن هذا الفصل خرجت ذات يوم وذات مرة لأن ذات في أصل وضعها وصف للخرجة ونحوها كأنك قلت خرجت خرجة ذات يوم أي لم يكن إلا في يوم واحد فمن ثم لم يجز فيها إلا النصب ولم يجز دخول الجار عليها وكذلك ذا صباح وذا مساء في غير لغة خثعم فإن قيل: فلم أعربها النحويون ظرفا إذا كانت في الأصل

مصدرا قيل لأنك إذا قلت ذات يوم علم أنك تريد يوما واحدا وقد اختزل المصدر ولم يبق إلا لفظ اليوم مع الذات فمن ثم أعربوه ظرفا وسر المسألة في اللغة ما تقدم وأما مرة فإن أردت بها فعلة واحدة من مرور الزمان فهي ظرف زمان وإن أردت بها فعلة واحدة من المصدر مثل قولك لقيته مرة أي لقية فهي مصدر وعبرت عنها بالمرة لأنك لما قطعت اللقاء ولم تصله بالدوام صار بمنزلة شيء مررت به ولم تقم عنده فإذا جعلت المرة ظرفا فاللفظ حقيقة لأنها من مرور الزمان وإذا جعلتها مصدرا فاللفظ مجاز إلا أن تقول مررت مرة فيكون حينئذ حقيقة. فصل: ومن هذا القبيل جلست خلفك وأمامك وفوق وتحت وعندك في معنى القرب لأنها من لفظ العند قال الراجز: وكل شيء قد يحب ولده ... حتى الحبارى فتطير عنده أي إلى جنبه وهذه الألفاظ غير خاف أنها مأخوذة من لفظ الفعل فخلف من خلفت وقدام من تقدمت وفوق من فقت وأمام من أممت أي قصدت وكذلك سائرها إلا أنهم لم يستعملوا فعلا من تحت ولكنها مصدر في الأصل أميت فعله وإذا كان الأمر فيها كذلك فقد صارت كقبل وبعد في الزمان وقريب وصار فيها كلها معنى الوصف فلذلك عمل الفعل فيها بنفسه كما يعمل فيما هو وصف للمصدر أو وصف للفاعل أو المفعول به لأن الوصف هو الموصوف في المعنى فلا يعمل الفعل إلا في هذه الثلاثة أو ما هو في معناها لأنها لا تدل بلفظها إلا عليها كما تقدم فقد بان لك أنه لم يمتنع الإخبار عنها ولا دخول الجار عليها من جهة الإبهام كما قالوه لأنه لا فرق بينهما وبين غير المبهم في انقطاع دلالة الفعل عنها إذ لا يدل

الفعل بلفظه على مبهمها ولا على محدودها ولا على حركة فلك وإنما يدل بلفظه على مصدره وفاعله إذا كان الفاعل مطلقا وعلي المفعول به كذلك فإن قيل: فأين لفظ الفعل في ميل وفرسخ وأي معنى للوصف فيه والفعل قد تعدى إليه بغير حرف وعمل فيه بلا واسطة قيل المراد بالميل والفرسخ تبيين مقدار المشي لا تبيين مقدار الأرض فصار الميل عبارة عن عدة خطى كأنك قلت: سرت خطى عدتها كيت كيت فلم يتعد الفعل في الحقيقة إلا إلى المصدر المقدر بعدد معلوم كقولك ضربت ألف ضربة ومشيت ألف خطوة ألا ترى أن الميل عبارة عن ثلاثة آلاف وخمس مائة خطوة والفرسخ أضعاف ذلك ثلاث مرات فلم ينكسر ما أصلناه من أن الفعل لا يتعدى إلا إلى ما ذكرنا وإنما سموا هذا المقدار من الخطى والأذرع ميلا لأنهم كانوا ينصبون في رأس ثلث كل فرسخ كهيئة الميل الذي يكتحل به إلا أنه كبير ثم يكتبون في رأسه عدد ما مشوه ومقدار ما تخطوه وذكر قاسم بن ثابت: "أن هشام بن عبد الملك مر في بعض أسفاره بميل فأمر أعرابيا أن ينظر في الميل كم فيه مكتوبا وكان الأعرابي أميا فنظر فيه ثم رجع إليه فقال: فيه محجن وحلقة وثالثة كأطباء الكلبة وهامة كهامة القطا فضحك هشام وقال: معناه خمسة أميال" فقد وضح لك أن الأميال مقادير المشي وهو مصدر فمن ثم عمل فيها الفعل ومن ثم عمل في المكان نحو جلست مكان زيد لأنه مفعل من الكون فهو في أصل وضعه مصدر عبر به عن الموضع والموضع أيضا من لفظ الوضع فلا يحتاج الفعل في شيء من هذا القبيل إلى حرف والذي قلناه في مكان أنه من الكون هو قول الخليل في كتاب العين إلا أنهم شبهوا الميم بالحرف الأصلي للزومها فقالوا في الجمع أمكنة حتى كأنه على وزن فعال وقد فعلوا ذلك في ألفاظ كثيرة شبهوا الزائد بالأصلي نحو تمدرع وتمسكن وأما جلست يمينك وشمالك فليس من هذا الفصل ولكنه مما حذف منه الجار لعلم السامع أرادوا عن يمينك

وعن شمالك أي الناحيتين ثم حذف الجار فتعدى الفعل فنصب فهو من باب أمرتك الخير وإنما حذف الحرف لما تضمنه الفعل من معنى الناصب لأنك إذا قلت جلست عن يمينك فمعنى الكلام قابلت يمينك وحاذيته ونحو ذلك فصل تعدي الفعل إلى الحال بنفسه ومن هذا الباب تعدي الفعل إلى الحال بنفسه ونعني بالحال صفة الفاعل التي فيها ضميره أو صفة المفعول أو صفة المصدر الذي عمل فيها لأن الصفة هي الموصوف من حيث كان فيها الضمير الذي هو الموصوف وذلك نحو سرت سريعا وجاء ضاحكا وضربته قائما فلم يعمل الفعل في هذا النحو من حيث كان حالا لأن الحال غير الاسم الذي نزل عليه الفعل ألا ترى أنك إن صرحت بلفظ الحال لم يعمل فيها الفعل إلا بواسطة الحرف نحو جاء زيد في حال ضحك ولا تقول جاء زيد حال ضحك لأن الحال غير زيد ولذلك لا تقول جاء زيد ضاحكا لأنه غيره وغير المجيء فلا يعمل جاء فيه إلا بواسطة فإذا قلت ضاحكا عمل فيه لأن الضاحك هو زيد وإذا قلت جاء مشيا عمل فيه أيضا لا من حيث كان صفة لزيد لأنه لا ضمير فيه يعود على زيد ولكن من حيث كان صفة للمصدر الذي هو المجيء فعمل فيه جاء كما يعمل في المصدر وأما عمله في المفعول من أجله فإنه لم يعمل فيه بلفظ عندي ولكنه دل على فعل باطن من أفعال النفس والقلب وإلا قلت آثار هذا الفعل الظاهر وصار ذلك الفعل الباطن عاملا في المصدر الذي هو المفعول من أجله في الحقيقة والفعل الظاهر دال عليه ولذلك لا يكون المفعول من أجله منصوبا إلا بثلاثة شرائط أن يكون مصدرا وأن لا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة وأن يكون من فعل الفاعل المتقدم ذكره نحو جاء زيد خوفا مثلا ورغبة ولو قلت جاء قراءة للعلم وقتلا للكافر لم يجز لأنها أفعال ظاهرة فقد بان لك أن المجيء إنما يظهر ما كان باطنا خفيا حتى كأنك

قلت جاء زيد مظهرا بمجيئه الخوف أو الرغبة أو الحرص أو أشباه ذلك فهذه الأفعال الظاهرة تبدى تلك الأفعال الباطنة فهي مفعولات في المعنى والظاهرة دالة على ما تتضمنها فإن جئت بمفعول من أجله من غير هذا القبيل الذي ذكرناه لم يصل الفعل إليه إلا بحرف نحو جئت لكذا أو من أجل كذا والله أعلم قلت: ما أدري أي ضرورة به إلى هذا التعسف والتكلف الظاهر الذي لا يصح لفظا ولا معنى أما اللفظ فإنه لو كان معمولا لعامل مقدر وهو قولك يظهر الخوف والمحبة ونحوه لتلفظوا به ولو مرة في كلامهم فإنه لا دليل عليه من سياق ولا قرينة ولا هو مقتضى الكلام فيصح إضماره فدعوى إضماره ممتنعة وأما فساده من جهة المعنى فمن وجوه عديدة منها أن المتكلم لا يخطر بباله هذا المعنى بحال فلا يخطر ببال القائل زرتك محبة لك وزرتك مظهرا لمحبتك ولا بقوله: تركت هذا خوفا من الله تركته مظهرا خوفي من الله وهذا أظهر من أن يحتاج إلى تقديره الثاني: أنه إذا كان التقدير ما ذكر خرج الكلام عن حقيقته ومقصوده إذ لا يبقى فيه دليل على أنه علة الفعل الباعثة عليه فإنه إذا قال خرجت مظهرا ابتغاء مرضاة الله مثلا لم يدل ذلك على أن الباعث له على الخروج ابتغاء مرضاة الله تعالى لأن قوله: مظهر كذا حال أي خرجت في هذه الحال فأين مسألة الحال من مسألة المفعول لأجله الثالث: أن المفعول له هو علة الفعل وهي إما علة فاعلية أو غائية وكلاهما ينتصب على المفعولية تقول فعلت ذلك خوفا وقعدت عن الحرب جبنا وأمسك عن الإنفاق شحا فهذه أسباب حاملة على الفعل والترك لا أنها هي الغايات المقصودة منه وتقول ضربته تأديبا وزرته إكراما وحبسته صيانة فهذه غايات مطلوبة من الفعل إذا ثبت هذا فالمعلل إذ ذكر الفعل طلب المخاطب منه الباعث عليه لما في النفوس من طلب الأسباب والغايات في الأفعال الاختيارية شاهدا أو غائبا فإذا ذكر الباعث أو الغاية وهو المراد من الفعل كان مخبرا بأن هذا هو مقصوده وغايته والباعث له على الفعل فكان اقتضاء الفعل اللفظي

كاقتضاء الفعل الذي هو حدث له فصح نصبه له كما كان واقعا لأجله وهذا بحمد الله واضح. فصل: قال: إذا كانت الحال صفة لازمة للاسم كان حملها عليه على جهة النعت أولى بها وإذا كانت مساوية للفعل غير لازمة للاسم إلا في وقت الإخبار عنه بالفعل مع أن تكون حالا لأنها مشتقة من التحول فلا تكون إلا صفة يتحول عنها ولذلك لا تكون إلا مشتقة من فعل لأن الفعل حركة غير ثابتة وقد تجيء غير مشتقة لكن في معنى المشتق كقوله: "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا" رواه مسلم أي يتحول عن حاله ويعود متصورا في صورة الرجل فقوله: رجلا في قوة متصورا بهذه الصورة وأما قولهم: جاءني زيد رجلا صالحا فالصفة وطأت الاسم للحال ولولا صالحا ما كان رجلا حالا وكذلك قوله تعالى: {لِسَاناً عَرَبِيّاً} قلت: وعلى هذا فيكون أقسام الحال أربعة مقيدة ومقدرة ومؤكدة وموطئة فإن قيل: وما فائدة ذكر الاسم الجامد في الموطئة وهلا اكتفى بالمشتق فيها قيل في ذكر الاسم موصوفا بالصفة في هذا الموطن دليل على لزوم هذه الحال لصاحبها وأنها مستمرة له وليس كقولك جاءني زيد صالحا لأن صالحا ليس فيه غير لفظ الفعل والفعل غير دائم وفي قولك رجلا صالحا لفظ رجل وهو دائم فلذلك ذكر فإن قيل كيف يصح في لسانا عربيا أن يكون حالا وليست وصفا منتقلا ولهذا لو قلت: جاءني زيد قرشيا أو عربيا لم يجز قيل: قوله: {لِسَاناً عَرَبِيّاً} حال من الضمير في مصدق لا من كتاب لأنه نكره والعامل في الحال ما في مصدق من معنى الفعل فصار المعنى أنه مصدق لك في هذه الحال والاسم الذي هو صاحب الحال قديم وقد كان غير موصوف بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى ومن خلا من الرسل وإنما كان عربيا حين أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لما بين يديه

من الكتاب فقد أوضحت فيه معنى الحال وبرح الإشكال قلت: كلا بل زدت الإشكال إشكالا وليس معنى الآية ما ذهبت إليه وإنما لسانا عربيا حال من كتاب وصح انتصاب الحال عنه مع كونه نكرة لكونه قد وصف والنكرة إذا وصفت انتصب عنها الحال لتخصصها بالصفة كما يصح أن يبتدئ بها وأما قوله: إن المعنى مصدق لك فلا ريب أنه مصدق له ولكن المراد من الآية أنه مصدق لما تقدم من كتب الله تعالى كما قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} وقال: {ألم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أفلا ترى كيف اطرد في القرآن وصف الكتاب بأنه مصدق لما بين يديه وقال: وباتفاق الناس أن المراد مصدق لما تقدمه من الكتب وبهذه الطريق يكون مصدقا للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون أبلغ في الدليل على صدقه من أن يقال هذا كتاب مصدق لك فإنه إذا كانت الكتب المتقدمة تصدقها وتشهد بصحة ما فيها مما أنزله الله من غير مواطأة ولا اقتباس منها دل على أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق كما أن الذي جاء بها كذلك وأن مخرجهما من مشكاة واحدة ولهذا قال النجاشي حين قرئ عليه القرآن: "إن هذا والذي جاء به موسى يخرج من مشكاة واحدة" يعني فإذا كان موسى صادقا وكتابه حق فهذا كذلك إذ من المحال أن يخرج شيئان من مشكاة واحدة ويكون أحدهما باطلا محضا والآخر حقا محضا فإن هذا لا يكون إلا مع غاية التباين والتنافر فالقرآن صدق الكتب المتقدمة وهي بشرت به وبمن جاء به فقام الدليل على صدقه من الوجهين معا من جهة بشارة من تقدمه به ومن جهة تصديقه ومطابقته له فتأمله ولهذا كثيرا ما يتكرر هذا المعنى في القرآن إذ في ضمنه الاحتجاج على الكتابيين بصحة صلى الله عليه وسلم بهذه الطريق وهي حجة أيضا

على غيرهم بطريق اللزوم لأنه إذا جاء بمثل ما جاءوا به من غير أن يتعلم منهم حرفا واحدا دل على أنه من عند الله تعالى وحتى لو أنكروا رسالة من تقدم لكان في مجيئه بمثل ما جاءوا به إثبات لرسالته ورسالة من تقدمه ودليل على صحة الكتابين وصدق الرسولين لأن الثاني قد جاء بأمر لا يمكن أن ينال بالتعليم أصلا ولا البعض منه فجاء على يدي أمي لا يقرأ كتابا ولا خطه بيمينه ولا عاشر أحدا من أهل الكتاب بل نشأ بينكم وأنتم شاهدون حاله حضرا وسفرا وظعنا وإقامة فهذا من أكبر الأدلة على أن ما جاء به ليس من عند البشر ولا في قدرتهم وهذا برهان بين من برهان الشمس وقد تضمن ما جاء به تصديق من تقدمه وتضمن ما تقدمه البشارة به فتطابقت حجج الله وبيناته على صدق أنبيائه ورسله وانقطعت المعذرة وثبتت الحجة فلم يبق لكافر إلا العناد المحض أو الإعراض والصد هل معاني الكتب المقدسة واحدة وقوله: إن الاسم الذي هو صاحب الحال قديم وكان غير موصوف بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى وداود عليهم السلام هذا بناء منه على الأصل الذي انفردت به الكلابية عن جميع طوائف أهل الأرض من أن معاني التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر كتب الله معنى واحد فالعين لا اختلاف فيها ولا تعدد وإنما تتعدد وتتكرر العبارات الدالة على ذلك المعنى الواحد فإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وهو نفس التوراة وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وهو نفس القرآن وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وهو أيضا نفس القرآن ونفس التوراة وكذلك سائر الكتب وهذا قول يقوم على بطلان تسعين برهانا لا تندفع "ذكرها شيخ الإسلام في الأجوبة المصرية" وكيف تكون معاني التوراة والإنجيل هي نفس معاني القرآن وأنت تجدها إذا عربت لا تدانيه ولا تقاربه فضلا عن أن تكون هي إياه وكيف يقال إن الله تعالى أنزل هذا القرآن على داود وسليمان وعيسى بعينه بغير هذه العبارات أم كيف يقال إن معاني كتب

الله كلها معنى واحد يختلف التعبير عنها دون المعنى المعبر عنه وهل هذا إلا دعوى يشهد الحس ببطلانها أم كيف يقال إن التوراة إذا عبر عنها بالعربية صارت قرآنا مع تميز القرآن عن سائر الكلام بمعانيه وألفاظه تميزا ظاهرا لا يرتاب فيه أحد وبالجملة فهذا الجواب منه بناء على ذلك الأصل والجواب الصحيح أن يقال: الحال المؤكدة لا يشترط فيها الاشتقاق والانتقال بل التنقل مما ينافي مقصودها فإنما أتى بها لتأكيد ما تقدمها وتقريره فلا معنى لوصف الاشتقاق والانتقال فيها أصلا وتسميتها حالا تعبير نحوي اصطلاحي وإلا فالعرب لم تقل لهذه حل حتى يقال كيف سميتموها حالا وهي وصف لازم وإنما النحاة سموها حالا فيا لله العجب من أن تكون تسميتهم الحادثة الاصطلاحية موجبة لاشتراط التنقل والاشتقاق فلو سماها مسم بغير هذا الاسم وقال هذه نصب على القطع من المعرفة إذا جاءت بعد معرفة أكان يلزمه هذا السؤال فقد بان لك ضعف ما اعتمده من الجواب وبالله التوفيق عاد كلامه قال وأما قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} فقد حكموا أنها حال مؤكدة ومعنى الحال المؤكدة أن يكون معناها كمعنى الفعل لأن التوكيد هو المؤكد في المعنى وذلك نحو قم قائما وأنا زيد معروفا هذه هي الحال المؤكدة في الحقيقة وأما {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} فليست بحال مؤكدة لأنه قال: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} وتصديقه لما معهم ليس في معنى الحق إذ ليس من شرط الحق أن يكون مصدقا لفلان ولا مكذبا له بل الحق في نفسه حق وإن لم يكن مصدقا لغيره ولكن مصدقا هنا حال من الاسم المجرور من قوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} جملة في معنى الحال أيضا والمعنى كيف تكفرون بما وراءه وهو في هذه الحال أعني مصدقا لما معكم كما تقول لا تشتم زيدا وهو أمير محسنا إليك فالجملة حال ومحسنا حال بعدها والحكمة في تقديم الجملة التي في موضع الحال على قولك محسنا ومصدقا أنك لو أخرتها لتوهم أنها في موضع الحال من

الضمير الذي في محسن ومصدق ألا ترى أنك لو قلت اشتم زيدا محسنا إليك وهو أمير لذهب الوهم إلى أنك تريد محسنا إليك في هذه الحال فلما قدمتها اتضح المراد وارتفع اللبس ووجه آخر يطرد في هذه الآية وفي الآية التي في سورة فاطر: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وهو أن يكون مصدقا هاهنا حالا يعمل فيها ما دلت عليه الإشارة المنبئة عنها الألف واللام لأن الألف واللام قد تنبيء عما تنبيء عنه أسماء الإشارة وحكى سيبويه: لمن الدار مفتوحا بابها فقولك مفتوحا بابها حال لا يعمل فيها الاستقرار الذي يتعلق به لمن لأن ذلك خلاف المعنى المقصود وتصحيح المعنى لمن هذا الدار مفتوحا بابها فقد استغنى بذكر الألف واللام وعلم المخاطب أنه مشير وتنبه المخاطب بالإشارة إلى النظر وصار ذلك المعنى المنبه عليه عاملا في الحال وكذلك قوله وهو الحق مصدقا كأنه يقول ذلك هو الحق مصدقا لأن الحق قديم ومعروف بالعقول والكتب المتقدمة فلما أشار نبهت الإشارة على العامل في الحال كما إذا قلت: هذا زيد قائما نبهت الإشارة المخاطب على النظر فكأنك قلت: انظر إلى زيد قائما لأن الاسم الذي هو زيد هو العامل ولكن مشعر ومنبه على المعنى العامل في الحال وذلك المعنى هو انظر ومما أغنت فيه الألف واللام عن الإشارة قولهم: اليوم قمت والساعة جئت والليلة فعلت والآن قعدت اكتفيت بالألف واللام عن أسماء الإشارة قلت: ليس المراد بقول النحاة حال مؤكدة ما يريدون بالتأكيد في باب التوابع فالتأكيد المبوب له هناك أخص من التأكيد المراد من الحال المؤكدة وإنما مرادهم بالحال المؤكدة المقررة لمضمون الجملة بذكر الوصف الذي لا يفارق العامل ولا ينفك عنه وإن لم يكن معنى ذلك الوصف هو معنى الجملة بعينه وهذا كقولهم زيد أبوك عطوفا فإن كونه عطوفا ليس معنى كونه أباه ولكن ذكر أبوته تشعر بما يلازمها من العطف وكذلك قوله: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فإن ما بين يديه حق والحق يلازمه تصديق بعضه بعضا وقوله:

ليس من شرط الحق أن يكون مصدقا لفلان يقال ليس هذا بنظير لمسألتنا بل الحق يلزمه لزوما لا انفكاك عنه تصديق بعضه بعضا فتصديق ما بين يديه من الحق هو من جهة كونه حقا فهذا معنى قولهم إنها حال مؤكدة فافهمه والمعنى أنه لا يكون إلا على هذه الصفة وهي مقررة لمضمون الجملة فإن كونه مصدقا للحق المعلوم الثابت مقررا ومؤكدا ومبينا لكونه حقا في نفسه وأما قوله إنها حال من المجرور في قوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} والمعنى يكفرون به مصدقا لما معهم فهذا المعنى وإن كان صحيحا لكن ليس هو معنى الحال في القرآن حيث وقعت بهذا المعنى وهب أن هذا يمكن دعواه في هذا الموطن فكيف يقول في قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} والكلام والنظم واحد وأيضا فالمعنى مع جعل مصدقا حال من قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} أبلغ وأكمل منه إذا جعل حالا من المجرور فإنه إذا جعل حالا من المجرور يكون الإنكار قد توجه عليهم في كفرهم به حال كونه مصدقا لما معهم وحال كونه حقا فيكونان حالا من المجرور أي يكفرون به في هذه الحال وهذه الحال وإذ جعل حالا من مضمون قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} كان المعنى يكفرون به حال كونه حقا مصدقا لما معهم فكفروا به في أعظم أحواله المستلزمة للتصديق والإيمان به وهو اجتماع كونه حقا في نفسه وتصديقه لما معهم فالكفر به عند اجتماع الوصفين فيه يكون أغلظ وأقبح وهذا المعنى والمبالغة لا تجده فيما إذا قيل يكفرون به حال كونه حقا وحال كونه مصدقا لما معهم فتأمله فإنه بديع جدا فصح قول النحاة والمفسرين في الآية والله أعلم.

فائدة: قولهم: هذا بسرا أطيب منه رطبا فيها أسئلة عشرة أحدها: ما جهة انتصاب بسرا ورطبا أعلى الحال أم خبر كان الثاني: إذا كانا حالين فما هو صاحبهما الثالث: ما العامل في الحالين هل هو أفعل التفضيل أو اسم الإشارة أو غير ذلك الرابع: إنكم إذا جعلتم العامل أفعل التفضيل لزم تقديم معمول أفعل التفضيل عليه والاتفاق واقع على امتناع زيد منك أحسن وإذا لم يتقدم الحال الخامس: متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في الحالين ومتى لا يجوز وما ضابط ذلك السادس: هل يجوز التقديم والتأخير في الحالين جميعا أم لا السابع: كيف تصورت الحال في غير المشتق الثامن: إلى أي شيء وقعت الإشارة بقولهم هذا التاسع: هلا قلتم إن بسرا ورطبا منصوبان على خبر كان وتخلصتم من هذا كله العاشر: هل يشترط في هذه المسألة أن يكون الاسمان المنصوبان اسمين لشيء واحد باعتبار صفتين أوهل يجوز أن يقع بين شيئين مختلفين نحو هذا بسرا أطيب منه عنبا فالجواب عن هذه المسائل. "أما السؤال الأول" فجهة انتصابه على الحال في أصح القولين وهو اختيار سيبويه ومحققي أصحابه خلافا لمن زعم أنه خبر كان وسيأتي إبطاله في جواب السؤال التاسع وإنما جعله سيبويه حالا لأن المعنى عليه فإن المخبر إنما يفضله على نفسه باعتبار حالين من أحواله لولا ذلك لما صح تفضيل الشيء على نفسه فالتفضيل إنما صح باعتبار الحالين فيه فكان جهة انتصابهما على

الحال لوجود شروط الحال وسيأتي الكلام على شرط الاشتقاق فلما كان هذا الباب لا يذكر إلا لتفضيل شيء في زمان أو على حال على نفسه في زمان أو على حال أخرى وسائر وجوه النصب متعذرة فيه إلا الحال أو كونه خبرا لكان وسيأتي بطلان الثاني فيتعين أن يكون حالا فإذا قلت فهلا جعلته تمييزا. قلت: يأبى ذلك أنه ليس من قسمي التمييز فإنه ليس من المقادير المنتصبة عن تمام الاسم ولا من التمييز المنتصب عن تمام الجملة فلا يصح أن يكون تمييزا فصل صاحب الحال وأما السؤال الثاني: وهو ما هو صاحب الحال هاهنا فجوابه أنه الاسم المضمر في أطيب الذي هو راجع إلى المبتدأ من خبره فبسرا حال من ذلك الضمير ورطبا حال من المضمر المجرور ب من هو المرفوع المستتر في أطيب من جهة المعنى ولكنه نزل منزلة الأجنبي ألا ترى أنك لو قلت زيد قائما أخطب من عمرو قاعدا لكان قاعدا حال من الاسم المخفوض بـ (من) وهو عمرو فكذلك رطبا حال من الاسم المجرور ب من هذا قول جماعة من البصريين وقال أبو على الفارسي صاحب الحال المضمر: "المستكن في كان المقدرة التامة. وأصل المسألة هذا إذا كان أي بسرا أطيب منه إذا كان أي وجد رطبا فبسرا ورطبا حالان من المضمر المستكن في كان وهذان القولان مبنيان على المسألة الثالثة وهو ما هو العامل في هذه الحال وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه ما في أطيب من معنى الفعل لأنك تريد أن طيبه في حال البسرية تزيد على طيبه في حال الرطبة فالطيب أمر واقع في هذه الحال القول الثاني: أن العامل فيها كان الثانية المقدرة وهذا اختيار أبي علي القول الثالث: أن العامل فيها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل أي أشير إليه بسرا القول الرابع: أنه ما في حرف التنبيه من معنى الفعل والمختار القول الأول وهو العامل فيها ما في أطيب من معنى الفعل وإنما اخترناه لوجوه أحدها أنهم متفقون على جواز زيد قائما أحسن منه راكبا وثمر نخلتي بسرا أطيب منه رطبا والمعنى في هذا كالمعنى في الأول سواء وهو تفضيل الشيء على نفسه باعتبار حالين فانتفى اسم الإشارة وحرف التنبيه ودار الأمر بين القولين الباقيين أن يكون العامل كان مقدرة أو أطيب والقول بإضمار كان ضعيف فإنها لا تضمر إلا حيث كان في الكلام دليل عليها نحو قولهم إن خيرا فخير وبابه لأن الكلام هناك لا يتم إلا بإضمارها بخلاف هذا وأيضا فإن كان الزمانية ليس المقصود منها الحدث وإنما هي عبارة

عن الزمان والزمان لا يضمر وإنما يضمر الحدث إذا كان في الكلام ما يدل عليه وليس في الكلام ما يدل على الزمان الذي يقيد به الحدث إلا أن يلفظ به فإن لم يلفظ به لم يعقل فإن قلت فمن هاهنا قالوا إن كان هاهنا تامة غير ناقصة بل قد خلعوا منها الدلالة على الزمان وجردوها لنفس الحدث قلت هذا كلام من لم يحصل معنى كان التامة والناقصة كما ينبغي فإن كان الناقصة والتامة يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز إضمار واحد منهما وكشف ذلك يطول لكن نشير إلى بعض وهو أن القائل إذا قال كان برد مطر وكان مطر فهو بمنزلة وقع حدث وكذا غيرهما من الأفعال اللازمة والزمان جزء مدلول الفعل فلا يجوز أن يخلعه ويجرد عنه وإنما الذي خلع من كان التامة اقتضاؤها خبرا يقارن زمانها وبقيت تقتضيه مرفوعا يقارن زمانها كما كان يقارنه الخبر فلا فرق بينهما أصلا فإن الزمان الذي كان الخبر يقترن به هو بعينه الزمان الذي اقترن به مرفوعا وينزل مرفوعها في تمامها به بمنزلة خبرها إذا كانت ناقصة فتأمل هذا السر الذي أغفله كثير من النحاة ويبطل هذا المذهب أيضا بشيء آخر وهو كثرة الإضمار فإن القائل به يضمر ثلاثة أشياء إذا والفعل والضمير وهذا تعد لطور الإضمار وقول بلا دليل عليه الوجه الثاني من وجوه الترجيح أن العامل في الحال لو كان معنى الإشارة لكانت الإشارة إلى الحال لا إلى الجوهر وهذا باطل فإنه إنما يشير إلى ذات الجوهر ولهذا يصح إشارته إليه وإن لم يكن على تلك

الحال كما إذا أشار إلى تمر يابس وقال هذا بسرا أطيب منه رطبا فإنه يصح ولو كان العامل في الحال هو الإشارة لم تصح المسألة الوجه الثالث: أنه لو كان العامل معنى الإشارة لوجب أن يكون الخبر عن الذات مطلقا لأن تقييد المشار إليه باعتبار الإشارة إذا كان مبتدأ لا يوجب تقديم خبره إذا أخبرت عنه ولهذا تقول هذا ضاحكا أبي فالإخبار عنه بالأبوة غير مقيد بحال ضحكه بل التقييد للإشارة فقط والإخبار بالأبوة وقع مطلقا عن الذات فاعتصم بهذا الموضع فإنه ينفعك في كثير من المواضع وإذا عرف هذا وجب أن يكون الخبر بأطيب وقع عن المشار إليه مطلقا الوجه الرابع: أن العامل لو لم يكن هو أطيب لم تكن الأطيبية مقيدة بالبسرية بل تكون مطلقة وإذا لم تكن مقيدة فسد المعنى لأن الغرض تقييد الأطيبية بالبسرية مفضلة على الرطبية وهذا معنى العامل وإذا ثبت أن الأطيبية مقيدة بالبسرية وجب أن يكون بسرا معمولا لأطيب فإن قلت: فلأجل هذا قدرنا الظرف المقيد حتى يستقيم المعنى وقلنا تقديره هذا إذا كان بسرا أطيب منه إذا كان رطبا أي هذا في وقت بسريته أطيب منه في وقت رطبيته قلت: هذا يحتاج إليه إذا لم يكن في اللفظ ما يغني عنه ويقوم مقامه فأما إذا كان معنا ما يغني عنه فلا وجه لتكلف إضماره وتقديره العامل في الحالين فإن قلت: لو كان العامل هو أطيب لزم منه المحال لأنه يستلزم تقييده بحالين مختلفين وهذا ممتنع قلت الجواب: عن هذا أن العامل في الحالين وصاحبهما متعدد ليس متحدا أما العامل في الحال الأولى فهو ما في أطيب من معنى الفعل لأنك إذا قلت هذا أطيب من هذا تريد أنه طاب وزاد طيبه عليه والطيب أمر ثابت له في حال البسرية قال سيبويه: "هذا باب ما ينصب من الأسماء على أنها أحوال وقعت فيها الأمور" وأما الحال الثانية وهي رطبا فالعامل فيه معنى الفعل الذي هو متعلق الجار في قولك منه فإن منه متعلق بمعنى غير الطيب لأن طاب يطيب لا يتعدى بمن ولكن صيغة الفعل تقتضي التفضيل بين شيئين مشتركين في صفة واحدة إلا أن أحدهما متميز من

الآخر منفصل منه بزيادة في تلك الصفة فمعنى التمييز والانفصال الذي تضمنه أفعل هو الذي تعلق به حرف الجر وهو الذي يعمل في الحالة الثانية كما عمل معنى الفعل الذي تعلق به حرف الجر من قولك زيد في الدار قائما في الحال التي هي قائما فإن قلت: فهلا أعملت فيهما جميعا ما في أطيب قلت لاستلزامه المحال المذكور لأن الفعل الواحد لا يقع في حالين كما لا يقع في ظرفين لا تقول زيد قائم يوم الجمعة يوم الخميس ولا جالس خلفك أمامك فإذا قلت: زيد يوم الجمعة أطيب منه يوم الخميس جاز لأن العامل في أحد اليومين غير العامل في اليوم الثاني لأنك فضلت حين قلت أطيب أو أصح أو أقوم صحة وقياما على صحة أخرى وقيام آخر وفضلت حال من حال بمزية وزيادة وكذلك حين قلت هذا بسرا أطيب منه رطبا ولا يجوز أن يعمل عامل واحد في حالين ولا ظرفين إلا أن يتداخلا ويصح الجمع بينهما نحو قولك زيد مسافر يوم الخميس ضحوة لأن الضحوة داخلة في اليوم وكذلك سرت راكبا مسرعا لدخول الإسراع في السير وتضمنه له ولو قلت: سرت مسرعا مبطئا لم يجز لاستحالة الجمع بينهما إلا على تقدير الواو أي مسرعا تارة ومبطئا أخرى وكذلك بسرا ورطبا يستحيل أن يعمل فيهما عامل واحد لأنهما غير متداخلين هذا هو الجواب الصحيح عندي وأجاب طائفة بأن قالوا: أفعل التفضيل في قوة فعلين لأن معناه حسن وزاد حسنه وطاب وزاد طيبه وإذا كان في قوة فعلين فهو عامل في بسرا باعتبار حسن وطاب وفي رطبا باعتبار زاد حتى لو فككت ذلك لقلت هذا زاد بسرا في الطيب على طيبه في حال كونه رطبا فاستقام المعنى المطلوب وهذا جواب حسن والأول أمتن فتأملهما.

فصل: تقديم معمول أفعل التفضيل عليه وأما السؤال الرابع وهو تقديم معمول أفعل التفضيل عليه فالجواب عنه من وجهين أحدهما: لا نسلم امتناع تقديم معموله عليه وقولكم الاتفاق واقع على امتناع زيد منك أحسن غير صحيح لا اتفاق في ذلك بل قد جوز بعض النحاة ذلك واستدل عليه بقول الشاعر: كأنه جنى النحل أو ... ما زودت منه أطيب قال هؤلاء: وأفعل التفضيل لما كان في قوة فعلين جاز تقديم معموله عليه قالوا: وتقديمه أقوى من قولك أنا لك محب وفيك راغب وعندك مقيم ولاستقصاء الحجج في هذه المسألة موضع آخر الوجه الثاني: سلمنا امتناع تقديم معموله ولا يقال زيد منك أحسن فهذا الأمر يختص بقولهم منك لا يتعدى إلى الحال والظرف وذلك لأن منك في معنى المضاف إليه بدليل أن قولهم زيد أحسن منك بمنزلة زيد أحسن الناس في قيام أحدهما مقام آخر وإنهم لا يجمعون بينهما فلما قام مقام المضاف إليه لكونه المفضل عليه في المعنى كرهوا تقديمه على المضاف لأنه خلاف لغتهم فلا يلزم من امتناع تقديم معمول هو كالمضاف إليه امتناع تقديم معمول ليس كهو وهذا بين وجواب ثالث وهو أنهم إذا فضلوا الشيء على نفسه باعتبار حالين فلا بد من تقديم أحدهما على العامل وإن كان مما لا يسوغ تقديمه لو لم يكن كذلك فإذا فضلوا ذاتا باعتبار حالين قدموا أحدهما: على العامل وأخروا الآخر عنه فقالوا: زيد قائما أحسن منه قاعدا وكذلك في التشبيه أيضا يقولون زيد قائما كعمرو قاعدا وإذا جاز تقديم هذا المعمول على الكاف التي هي أبعد في العمل من باب أحسن فتقديم معمول أحسن أجدر والغرض هنا بهذا الكلام تفضيل هذه الثمرة في حال كونها بسرا عليها في حال كونها رطبا فصل عمل العامل الواحد في حالين وأما السؤال الخامس وهو متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في حالين فقد فرغنا من جوابه فيما تقدم وأن ذلك يجوز إذا كانت إحدى الحالين متضمنة للأخرى نحو جاء زيد راكبا مسرعا وكذلك يعمل في الظرفين إذا تضمن أحدهما الأخر نحو: سرت يوم الخميس بكرة.

فصل: وأما السؤال السادس: وهو هل يجوز التقديم والتأخير في الحالين أم لا فالجواب عنه أن الحال الأولى يجوز فيها ذلك لأن العامل فيها لفظي وهو ما في أطيب من معنى الفعل فلك أن تقول هذا بسرا أطيب منه رطبا وأن تقول هذا أطيب بسرا منه رطبا وهو الأصل فإن قلت إذا كان هذا هو الأصل فلم مثل سيبويه بها مقدمة وكان ذلك أحسن عنده من أن يؤخرها قلت: كأنه أراد تأكيد معنى الحال فيها لأنه ترجم عن الحال فلو أخرها لأشبهت التمييز لأنك إذا قلت هذا الرجل أطيب بسرا من فلان فبسرا لا محالة تمييز وإذا قدمت بسرا على أطيب من كذا فبسرا لا محالة حال ولا يصح أن يخبر بهذا الكلام عن رجل ولا عن شيء سوى التمر وما هو في معناه فإن قلت: هذا بسرا احتمل الكلام قبل تمامه وقبل النظر في قرائن أحواله أن يكون بسرا تمييزا وأن يكون حالا وبينهما في المعنى فرق عظيم فاقتضى تخصيص المعنى والحرص على البيان للمراد تقديم الحال الأولى على عاملها ولو أخرت لجاز وأما الحال الثانية: فلا سبيل إلى تقديمها على عاملها لأنه معنوي

والعامل المعنوي لا يتصور تقديم معموله عليه لأن العامل اللفظي إذا تقدم عليه منصوبه الذي حقه التأخير قلت: فيه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى فقسمت العبارة بين اللفظ والمعنى فإن لم يكن للعامل وجود في اللفظ لم يتصور تقديم المعمول عليه لأنه لا بد من تأخير المعمول على عامله في المعنى فلا يوجد تعد وعامله متقدم عليه لأنه منوي غير ملفوظ به فلا تذهب النية والوهم إلى غير موضعه بخلاف اللفظي فإن محل اللفظ اللسان ومحل المعنى القلب فإذا ذهب اللسان باللفظ إلى غير موضعه لم يذهب القلب بالمعنى إلا إلى موضعه وهو التقديم. فصل: وأما السؤال السابع: وهو كيف يتصور الحال في غير المشتق فاعلم أنه ليس لاشتراط الاشتقاق حجة ولا يقوم على هذا الشرط دليل ولهذا كان الحذاق من النحاة على أنه لا يشترط بل كل ما دل على هيئة صح أن يقع حالا فلا يشترط فيها إلا أن تكون دالة على معنى متحول ولهذا سميت حالا كما قال: لو لم تحل ما سميت حالا ... وكل ما حال فقد زالا فإذا كان صاحب الحال قد أوقع الفعل في صفة غير لازمة للفعل فلا تبالي أكانت مشتقة أم غير مشتقة فقد جاء في الحديث يتمثل لي الملك رجلا فوقع رجلا هنا حالا لأن صورة الرجلية طارئة على الملك في حال التمثل وليست لازمة للملك إلا في وقت وقوع الفعل منه وهو التمثل فهي إذا حال لأنه قد تحول إليها ومثله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} ومثله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} ومثله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً} ويقولون مررت بهذا العود شجرا ثم مررت به رمادا وهذا زيد أسدا وتأويل هذا كله بأنه معمول الحال والتقدير يشبه بعيد جدا وكذا تأويل ذلك كله بمشتق تعسف ظاهر

والتحقيق ما تقدم وأنها كلها أحوال وإن كانت جامدة لأنها صفات يتحول الفاعل إليها وليس يلزم في الصفات أن تكون كلها فعلية بل فيها نفسية ومعنوية وعدمية وهي صفة النفي وإضافية وفعلية ولا يكون من جميعها حالا إلا ما كان الفعل واقعا فيه وجاز خلوه عنها فأما ما كان لازما للاسم مما لا يجوز خلوه عنه فلا يكون حالا منتصبة بالفعل نحو قولك قرشي وعربي وحبشي وابن وبنت وأخ وأخت فكل هذه لا يتصور وقوعها أحوالا لأنها لا تتحول. فصل: وأما السؤال الثامن: وهو إلى أي شيء وقعت الإشارة بقولك هذا فالجواب أن متعلق الإشارة هو الشيء الذي تتعاقب عليه هذه الأحوال وهو ما تخرجه النخل من أكمامها فيكون بلحا ثم يكون سيابا ثم جدالا ثم بسرا إلى أن يكون رطبا فمتعلق الإشارة المحل الحامل لهذه الأوصاف فالإشارة إلى شيء ثالث غير البسر والرطب وهو حامل البسرية والرطبة وقد عرفت بهذا أنه لا ينبغي تخصيص الإشارة بقولهم إنها إلى البلح والطلع والجدال كل ذلك تمثيل والتحقيق أن الإشارة إلى الحقيقة الحاملة لهذه الصفات والذي يدل على هذا أنك تقول زيد قائما أخطب منه قاعدا وقال عبد الله بن سلام لعثمان: "أنا خارجا أنفع لك مني" داخلا فلا إشارة ولا مشار هنا وإنما هو إخبار عن الاسم الحامل للصفات التي منها القيام والقعود ولا يصح أن يكون متعلق الإشارة صفة البسرية

ولا الجوهر بقيد تلك الصفة لأنك لو أشرت إلى البسرية وكان الجوهر يفيدها لم يصح تقييده بحال الرطبية فتأمله فلم تبق إلا أن تكون الإشارة إلى الجوهر الذي تتعاقب عليه الأحوال وقد تبين لك بطلان قول من زعم أن متعلق الإشارة في هذا هو العامل في بسر فإن العامل فيها إما ما تضمنه أطيب من الفعل وإما كان المقدرة وكلاهما لا يصح تعلق الإشارة به فصل: هل النصب على أنه خبر كان وأما السؤال التاسع وهو قوله هلا قلتم إنه منصوب على أنه خبر كان فجوابه إن كان لو أضمرت لأضمر ثلاثة أشياء الظرف الذي هو إذا وفعل كان ومرفوعها وهذا لا نظير له إلا حيث يدل عليه الدليل وقد تقدم ذلك وقد منع سيبويه من إضمار كان فقال لو قلت عبد الله المقتول تريد كان عبد الله المقتول لم يجز وقد تقدم ما يدل على امتناع إضمار كان فلا نطول بإعادته وإذا لم يجز إضمار كان على انفرادها فكيف يجوز إضمار إذ وإذا معا وأنت لو قلت آتيك جاء زيد تريد إذا جاء زيد كان خلفا من الكلام بإجماع وإذا كان كذلك كان الإضمار من هذا الموطن أبعد لأنه لا يدرى هاهنا إذ تريد أم إذا وفي قولك سآتيك لا يحتمل إلى أحدهما بخلاف قولك زيد قائما أخطب منه قاعدا وإذا بعد كل البعد إضمار الظرف هاهنا فإضماره مع كان أبعد ومن قدره من النحاة فإنما أشار إلى شرح المعنى بضرب من التقريب فإن قيل الذي يدل على أنه لا بد من إضمار كان أن هذا الكلام لا يذكر إلا لتفضيل شيء في زمان من أزمان على نفسه في زمان آخر ويجوز أن يكون الزمان المفضل فيه ماضيا وأن يكون مستقبلا ولا بد من إضمار ما يدل على المراد منهما فيضمر للماضي إذ وللمستقبل إذا وإذ وإذا يطلبان الفعل وأعم الأفعال وأشملها فعل الكون الشامل لكل كائن ولهذا كثيرا ما يضمرونه فلا بد من فعل يضاف إليه الظرف لاستحالة أن تقول هذا إذ بسرا أطيب منه إذ رطبا فتعين إضمار كان لتصحيح الكلام قيل هذا السؤال إنما يلزم إذ أضمرنا الظرف وأما إذا لم نضمره لم نحتج إلى كان ويكون وأما قولكم أنه يفضل الشيء على نفسه باعتبار زمانين وإذ وإذا للزمان فجوابه أن في التصريح بالحالين المفضل أحدهما على الآخر غنية عن ذكر الزمان وتقدير إضماره ألا ترى أنك إذا

قلت هذا في حال بسريته أطيب منه في حال رطبيته استقام الكلام ولا إذ هنا ولا إذا لدلالة الحال على مقصود المتكلم من أن التفضيل باعتبار الوقتين وكذلك تقول هذا في حال شبوبيته أعقل منه في حال شيخوخته ونظائر ذلك مما يصح فيه التفضيل باعتبار زمانين من غير ذكر ظرف ولا تقديره فافهمه فصل اتحاد المفضل والمفضل عليه وأما السؤال العاشر وهو هل يشترط اتحاد المفضل والمفضل عليه بالحقيقة فجوابها أن وضعها كذلك ولا يجوز أن يقال هذا بسرا أطيب منه عنبا لأن وضع هذا الباب لتفضيل الشيء على نفسه باعتبارين وفي زمانين قال الأخفش كل ما لا يتحول إلى شيء فهو رفع نحو هذا بسر أطيب منه عنب فأطيب مبتدأ وعنب خبره وفي هذا التركيب إشكال وتوجيهه أن الكلام جملتان أحدهما قولك هذا بسر والثانية قولك أطيب منه عنب والمعنى العنب أطيب منه فقدرت خبرين أحدهما أنه بسر والثاني أن العنب أطيب منه ولو قلت هذا البسر أطيب منه عنب لاتضحت المسألة وانكشف معناها والله أعلم فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث علقتها صيدا لسوانح الخاطر فيها خشية أن لا يعود فليسامح الناظر فيها فإنها علقت على حين بعدى من كتبي وعدم تمكني من مراجعتها وهكذا غالب هذا التعليق إنما

هو صيد خاطر والله المستعان مسألة: سلام عليكم ورحمة الله في هذا التسليم ثمانية وعشرون سؤالا: السؤال الأول: ما معنى السلام وما حقيقته السؤال الثاني: هل هو مصدر أو اسم السؤال الثالث: هل قول المسلم سلام عليكم خبر أو إنشاء السؤال الرابع: ما معنى السلام المطلوب عند التحية وإذا كان دعاء وطلبا فما الحكمة في طلبه عند التلاقي والمكاتبة دون غيره من المعاني السؤال الخامس: إذا كان من السلامة فمعلوم أن الفعل منها لا يتعدى ب على فلا يقال سلامة عليك وسلمت عليك بكسر اللام وإنما يقال سلام لك كما قال تعالى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} السؤال السادس: ما الحكمة في الابتداء في السلام مع كون الخبر جارا ومجرورا وقياس العربية تقديم الخبر في ذلك نحو في الدار رجل السؤال السابع: لم اختص المسلم بهذا النظم والراد بتقديم الجار والمجرور على السلام وهلا كان رده بتقديم السلام مطلقا كابتدائه السؤال الثامن: ما الحكمة في كون سلام المبتدئ بلفظ النكرة وسلام الراد عليه بلفظ المعرفة وكذلك ما الحكمة في ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة وفي آخرها بالمعرفة فيقال أولا سلام عليكم وفي انتهاء المكاتبة والسلام عليكم وهل هذا التعريف لأجل العهد وتقدم السلام أم لحكمة سوى ذلك السؤال التاسع: ما الفائدة في دخول الواو العاطفة في السلام الآخر فيقول أولا: سلام عليكم وفي الانتهاء والسلام عليكم وعلى أي شيء هذا العطف السؤال العاشر: ما السر في نصب السلام في تسليم الملائكة ورفعه في تسليم إبراهيم وهل هو كما تقول النحاة: أن سلام إبراهيم أكمل لتضمنه جملة اسمية دالة على الثبوت وتضمن سلام الملائكة صيغة جملة فعلية دالة على

الحدوث أم لسر غير ذلك السؤال الحادي عشر: ما السر في نصب السلام من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} ورفعه من قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وما الفرق بين الموضعين السؤال الثاني عشر: ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله والسلام إنما هو طلب السلامة للمسلم عليه فكيف يتصور هذا المعنى في حق الله وهذا من أهم الأسئلة وأحسنها السؤال الثالث عشر: إذا ظهرت حكمة سلامه تعالى عليهم فما الحكمة في كونه سلم عليهم بلفظ النكرة وشرع لعباده أن يسلموا على رسوله بلفظ المعرفة فيقولون السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وكذلك سلامهم على أنفسهم وعلى عباد الله الصالحين السؤال الرابع عشر: ما السر في تسليم الله على يحيى بلفظ النكرة في قوله: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ} وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة بقوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ} وأي السلامين أتم وأعم السؤال الخامس عشر: ما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة {يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} خاصة مع أن السلام مطلوب في جميع الأوقات فلو أتى به مطلقا أما كان أعم فإن هذا التقييد خص السلام بهذه الأيام خاصة السؤال السادس عشر: ما الحكمة في تسليم النبي صلى الله عليه وسلم على من اتبع الهدى في كتاب هرقل بلفظ النكرة وتسليم موسى على من اتبع الهدى بلفظ المعرفة كما جاء في القرآن وهلا كان سلام النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ المعرفة ليطابق القرآن وما الفرق بينهما السؤال السابع عشر: قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} هل هذا سلام من الله فيكون الكلام قد تضمن جملتين طلبية وهي الأمر بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} وخبرية وهي سلامة تعالى على عباده وعلي هذا فيكون من باب عطف الخبر على الطلب أو هو أمر من الله بالسلام عليهم وعلى هذا فيكون قد أمر بشيئين أحدهما: قول الحمد لله والثاني: قول سلام على عباده الذين اصطفى ويكون كلاهما معمولا لفعل القول وأي المعنيين أليق بالآية السؤال الثامن عشر: روى أبو داود في سننه من حديث

أبي جري الهجيمي قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى" صحيح قال الترمذي حديث صحيح وقد صح عنه في السلام على الأموات فعلا وأمرا "السلام عليكم دار قوم مؤمنين " رواه مسلم فما وجه هذا الحديث وكيف الجمع بينه وبين الأحاديث الصحيحة السؤال التاسع عشر: ما وجه دخول الواو في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم " رواه البخاري ومسلم وقد استشكل كثير من الناس أمر هذه الواو حتى أنكر بعضهم من الحذاق أن تكون ثابتة قال: لأن الواو في مثل هذا تقتضي تقرير الأول وتصديقه كما إذا قلت زيد كاتب فقال: المخاطب وفقيه فإنه يقتضي إثبات الأول وزيادة وصف فقيه فكيف دخلت في هذا الموضوع وما وجهها السؤال العشرون: ما السر في اقتران الرحمة والبركة بالسلام دون غيرهما من الصفات كالمغفرة والبر والإحسان ونحو هذا السؤال الحادي والعشرون: لم كانت نهاية السلام عند قوله: "وبركاته" ولم تشرع الزيادة عليها السؤال الثاني والعشرون: ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى وتجريد السلام عن هذه الإضافة ولم لا أضيفت كلها أو ردت كلها السؤال الثالث والعشرون: ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة السؤال الرابع والعشرون: ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي بالمصدر دون الصلاة في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ولم يقل صلوا صلاة السؤال الخامس والعشرون: ما الحكمة في تقديم السلام عليه في الصلاة على الصلاة عليه وهلا وقعت البداءة بالصلاة عليه أولا ثم اتبعت بالسلام لتصح البداءة بما بدأ الله به من تقديم الصلاة على السلام السؤال السادس والعشرون: ما الحكمة في كون السلام عليه في الصلاة بصيغة خطاب المواجهة وأما الصلاة عليه فجاءت بصيغة الغيبة لذكره باسم العلم السؤال السابع والعشرون: وهو ما جر إليه طرد الكلام ما الحكمة في كون الثناء على الله ورد بصيغة في قولنا التحيات لله مع أنه سبحانه هو المناجي

المخاطب الذي يسمع كلامنا ويرى مكاننا وجاء السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الخطاب مع أن الحال كان يقتضي العكس فما الحكمة في ذلك السؤال الثامن والعشرون: وهو خاتمة الأسئلة ما السر في كون السلام خاتمة الصلاة وهلا كان في ابتدائها وإذا كان كذلك فما السر في مجيئه معرفا وهلا جاء منكرا. "وأما السؤال الأول " وهو ما حقيقة هذه اللفظة فحقيقتها البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب وعلى هذا المعنى تدور تصاريفها فمن ذلك قولك: "سلمك الله وسلم فلان من الشر ومنه دعاء المؤمنين على الصراط رب سلم اللهم سلم" ومنه سلم الشيء لفلان أي خلص له وحده فخلص من ضرر الشركة فيه قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} أي خالصا له وحده لا يملكه معه غيره ومنه السلم ضد الحرب قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} لأن كلا من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر ولهذا يبنى منه على المفاعلة فيقال: المسالمة مثل المشاركة ومنه القلب السليم وهو النقي من الغل والدغل وحقيقته الذي قد سلم لله تعالى وحده فخلص من دغل الشرك وغله ودغل الذنوب والمخالفات بل هو المستقيم على صدق حبه وحسن معاملته فهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه والفوز بكرامته ومنه أخذ الإسلام فإنه من هذه المادة لأنه الاستسلام والانقياد لله تعالى والتخلص من شوائب الشرك فسلم لربه وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه ليس فيه شركاء متشاكسون ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم المخلص الخالص لربه والمشرك به ومنه السلم للسلف وحقيقته العوض المسلم فيه لأن من هو في ذمته قد ضمن سلامته لربه ثم سمى العقد سلما وحقيقته ما ذكرناه فإن قيل: فهذا ينتقض بقولهم للديغ سليما قيل: ليس هذا بنقض له بل طرد لما قلناه فإنهم سمعوه سليما باعتبار ما يهمه ويطلبه ويرجو أن يئول إليه حاله من السلامة فليس عنده أهم من السلامة ولا هو أشد طلبا منه لغيرها فسمى سليما لذلك وهذا من جنس تسميتهم المهلكة

مفازة لأنه لا شيء أهم عند سالكها من فوزه منها أي نجاته فسميت مفازة لأنه يطلب الفوز منها وهذا أحسن من قولهم إنما سميت مفازة وسميت اللديغ سليما تفاؤلا وإن كان التفاؤل جزء هذا المعنى الذي ذكرناه وداخل فيه فهو أعم وأحسن فإن قيل: فكيف يمكنكم رد السلم إلى هذا الأصل قيل: ذلك ظاهر لأن الصاعد إلى مكان مرتفع لما كان متعرضا للهوي والسقوط طالبا للسلامة راجيا لها سميت الآلة التي يتوصل بها إلى غرضه سلما لتضمنها سلامته إذ لو صعد بتكلف من غير سلم لكان عطبه متوقعا فصح أن السلم من هذا المعنى ومنه تسمية الجنة بدار السلام وفي إضافتها إلى السلام ثلاثة أقوال أحدها أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه الثاني أنها إضافة إلى تحية أهلها فإن تحيتهم فيها السلام الثالث أنها إضافة إلى معنى السلام أي دار السلام من كل آفة ونقص وشر والثلاثة متلازمة وإن كان الثالث أظهرها فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها لأضيفت إلى اسم من أسمائه غير السلام وكان يقال دار الرحمن أو دار الله أو دار الملك ونحو ذلك فإذا عهدت إضافتها إليه ثم جاء دار السلام حملت على المعهود وأيضا فإن المعهود في القرآن إضافتها إلى صفتها أو إلى أهلها أما الأول: فنحو دار القرار دار المجد جنة المأوى جنات النعيم جنات الفردوس وأما الثاني: فنحو دار المتقين ولم تعهد إضافتها إلى اسم من أسماء الله تعالى في القرآن فالأولى حمل الإضافة على المعهود في القرآن وكذلك إضافتها إلى التحية ضعيف من وجهين أحدهما: أن التحية بالسلام مشتركة بين دار الدنيا والآخرة وما يضاف إلى الجنة لا يكون إلا مختصا بها كالخلد والقرار والبقاء الثاني: أن من أوصافها غير التحية ما هو أكمل منها مثل كونها دائمة وباقية ودار الخلد والتحية فيها عارضة عند التلاقي والتزاور بخلاف السلامة من كل عيب ونقص وشر فإنها من أكمل أوصافها المقصودة على الدوام التي لا يتم النعيم فيها إلا به

فإضافتها إليه أولى وهذا ظاهر. فصل: وإذا عرفت هذان فإطلاق السلام على الله تعالى اسما من أسمائه هو أولى من هذا كله وأحق بهذا الاسم من كل مسمى به لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجد فهو السلام الحق بكل اعتبار والمخلوق سلام بالإضافة فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم وسلام في صفاته من كل عيب ونقص وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار فعلم أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه ونزهه به رسوله فهو السلام من الصاحبة والولد والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل والسلام من الشريك ولذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاما مما يضاد كمالها فحياته سلام من الموت ومن السنة والنوم وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب وعلمه سلام من عزوب شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر وتفكر وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة وكلماته سلام من الكذب والظلم بل تمت كلماته صدقا وعدلا وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما بل كل ما سواه محتاج إليه وهو غني عن كل ما سواه وملكه سلام من منازع فيه أو مشارك أو معاون مظاهر أو شافع عنده بدون إذنه وإلهيته سلام من مشارك له فيها بل هو الله الذي لا إله إلا هو وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذلك أو مصانعة كما يكون من غيره بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظلما أو تشفيا أو غلظة أو قسوة بل هو

محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء مواضعها وهو مما يستحق عليه الحمد والثناء كما يستحقه علي إحسانه وثوابه ونعمه بل لو وضع الثواب موضع العقوبة لكان مناقضا لحكمته ولعزته فوضعه العقوبة موضعها هو من عدله وحكمته وعزته فهو سلام مما يتوهم أعداؤه والجاهلون به من خلاف حكمته وقضاؤه وقدره سلام من العبث والجور والظلم ومن توهم وقوعه على خلاف الحكمة البالغة وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته بل شرعه كله حكمة ورحمة ومصلحة وعدل وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطى ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق بل عطاؤه إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز واستواؤه وعلوه على عرشه سلام من أن يكون محتاجا إلى ما يحمله أو يستوي عليه بل العرش محتاج إليه وحملته محتاجون إليه فهو الغنى عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه فهو استواء وعلو لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى بل كان سبحانه ولا عرش ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرض ولا غيره بوجه ما ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا سلام مما يضاد علوه وسلام مما يضاد غناه وكماله سلام من كل ما يتوهم معطل أو مشبه وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصورا في شيء تعالى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله وغناه وسمعه وبصره سلام من كل ما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل وموالاته لأوليائه سلام من أن تكون عن ذلك كما يوالي المخلوق المخلوق بل هي موالاة رحمة وخير وإحسان وبر كما قال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} فلم ينف أن يكون له ولي مطلقا

بل نفي أن يكون له ولي من الذل وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه أو تملق له أو انتفاع بقربه وسلام مما يتقوله المعطلون فيها وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه فإنه سلام عما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل فتأمل كيف تضمن اسمه السلام كل ما نزه عنه تبارك وتعالى وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمنه من هذه الأسرار والمعاني والله المستعان المسئول أن يوفق للتعليق على الأسماء الحسنى على هذا النمط إنه قريب مجيب ولنقطع هاهنا الكلام على السؤال الأول فصل: وأما السؤال الثاني: وهو هل السلام مصدر أو اسم مصدر؟ فالجواب: أن السلام الذي هو التحية اسم مصدر من سلم ومصدره الجاري عليه تسليم كعلم تعليما وفهم تفهيما وكلم تكليما والسلام من سلم كالكلام من كلم فإن قيل: وما الفرق بين المصدر والاسم قلنا: بينهما فرقان لفظي ومعنوي أما اللفظي فإن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه كالأفعال من أفعل والتفعيل من فعل والانفعال من انفعل والتفعلل من تفعلل وبابه وأما السلام والكلام فليسا بجاريين على فعليهما ولو جريا عليه لقيل تسليم وتكليم وأما الفرق المعنوي فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله فإذا قلت تكليم وتسليم وتعليم ونحو ذلك دل على الحدث ومن قام به فيدل التسليم على السلام والمسلم وكذلك التكليم والتعليم وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده فالسلام والكلام لا يدل لفظه على مسلم ولا مكلم بخلاف التكليم والتسليم وسر هذا الفرق أن المصدر في قولك سلم تسليما وكلم تكليما بمنزلة تكرار الفعل فكأنك قلت سلم سلم وتكلم تكلم والفعل لا يخلو عن فاعله أبدا وأما اسم المصدر

فإنهم جردوه لمجرد الدلالة على الحدث وهذه النكتة من أسرار العربية فهذا السلام الذي هو التحية وأما السلام الذي هو اسم من أسماء الله ففيه قولان أحدهما: أنه كذلك اسم مصدر وإطلاقه عليه كإطلاق العدل عليه والمعنى أنه ذو السلام وذو العدل على حذف المضاف والثاني: أن المصدر بمعنى الفاعل هنا أي السالم كما سميت ليلة القدر سلاما أي سالمة من كل شر بل هي خير لا شر فيها وأحسن من القولين وأقيس في العربية أن يكون نفس السلام من أسمائه تعالى كالعدل وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبا عليه مكررا منه كقولهم: رجل صوم وعدل وزور وبابه وأما السلام الذي هو بمعنى السلامة فهو مصدر نفسه وهو مثل الجلال والجلالة فإذا حذفت التاء كان المراد نفس المصدر وإذا أتيت بالثاء كان فيه إيذان بالتحديد بالمرة من المصدر كالحب والحبة فالسلام والجمال والجلال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه تاء التحديد والسلامة والجلالة والملاحة والفصاحة كلها تدل على الخصلة الواحدة ألا ترى أن الملاحة خصلة من خصال الكمال والجلالة من خصال الجلال ولهذا لم يقولوا كمالة كما قالوا ملاحة وفصاحة لأن الكمال اسم جامع لصفات الشرف والفضل فلو قالوا كمالة لنقضوا الغرض المقصود من اسم الكمال فتأمله وعلى هذا جاءت الحلاوة والأصالة والرزانة والرجاحة لأنها خصلة من مطلق الكمال والجمال محدودة فجاءوا فيها بالتاء الدالة على التحديد وعكسه الحماقة والرقاعة والنذالة والسفاهة فإنها خصال محدودة من مطلق العيب والنقص فجاءوا في الجنس الذي يشمل الأنواع بغير تاء فجاءوا في أنواعه وأفراده بالتاء وقد تقدم تقرير هذا المعنى وأيضا فلا حاجة إلى إعادته فتأمل الآن كيف جاء السلام مجردا عن التاء إيذانا بحصول المسمى التام إذ لا يحصل المقصود إلا به فإنه لو سلم من آفة ووقع في آفة لم يكن قد حصل له السلام فوضح أن السلام لم يخرج عن المصدرية في جميع وجوهه فإن قيل: فما الحكمة في مجيئه اسم مصدر ولم يجيء على أصل المصدر

قيل: هذا السر بديع وهو أن المقصود حصول مسمى السلامة للمسلم عليه على الإطلاق من غير تقييد بفاعل فلما كان المراد مطلق السلامة من غير تعرض لفاعل أتوا باسم المصدر الدال على مجرد الفعل ولم يأتوا بالمصدر الدال على الفعل والفاعل معا فتأمله. فصل: وأما السؤال الثالث: وهو أن قول المسلم سلام عليكم هل هو إنشاء أم خبر فجوابه: أن هذا ونحوه من ألفاظ الدعاء متضمن للإنشاء والإخبار فجهة الخبرية فيه لا تناقض جهة الإنشائية وهذا موضع بديع يحتاج إلى كشف وإيضاح فنقول الكلام له نسبتان نسبة إلى المتكلم به نفسه ونسبة إلى المتكلم فيه إما طلبا وإما خبرا وله نسبة ثالثة إلى المخاطب لا يتعلق بها هذا الغرض وإنما يتعلق تحقيقه بالنسبتين الأوليين فباعتبار تينك النسبتين نشأ التقسيم إلى الخبر والإنشاء ويعلم أين يجتمعان وأين يفترقان فله بنسبته إلى قصد المتكلم وإرادته لثبوت مضمونه وصف الإنشاء وله بنسبته إلى المتكلم فيه والإعلام بتحققه في الخارج وصف الإخبار ثم تجتمع النسبتان في موضع وتفترقان في موضع فكل موضع كان المعنى فيه حاصلا بقصد المتكلم وإرادته فقط فإنه لا يجامع فيه الخبر الإنشاء نحو قوله: بعتك كذا ووهبتكه وأعتقت وطلقت فإن هذه المعاني لم يثبت لها وجود خارجي إلا بإرادة المتكلم وقصده فهي إنشاءات وخبريتها من جهة أخرى وهي تضمنها إخبار المتكلم عن ثبوت هذه النسبة في ذهنه لكن ليست هذه هي الخبرية التي وضع لها لفظ الخبر وكل موضع كان المعنى حاصلا فيه من غير جهة المتكلم وليس للمتكلم إلا دعاؤه بحصوله ومحبته فالخبر فيه لا يناقض الإنشاء وهذا نحو سلام عليكم فإن السلامة المطلوبة لم تحصل بفعل المسلم وليس للمسلم إلا

الدعاء بها ومحبتها فإذا قال سلام عليكم تضمن الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنيها وكذلك ويل له قال سيبويه: "هو دعاء وخبر" ولم يفهم كثير من الناس قول سيبويه على وجهه بل حرفوه عما أراده به وإنما أراد سيبويه هذا المعنى: "أنها تتضمن الإخبار بحصول الويل له مع الدعاء به" فتدبر هذه النكتة التي لا تجدها محررة في غير هذا الموضع هكذا بل تجدهم يطلقون تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء من غير تحرير وبيان لمواضع اجتماعهما وافتراقهما وقد عرفت بهذا أن قولهم سلام عليكم وويل له وما أشبه هذا أبلغ من إخراج الكلام في صورة الطلب المجرد نحو اللهم سلمه. فصل: وأما السؤال الرابع: وهو ما معنى السلام المطلوب عند التحية ففيه قولان مشهوران: أحدهما: أن المعنى اسم السلام عليكم والسلام هنا هو الله عز وجل ومعنى الكلام نزلت بركة اسمه عليكم وحلت عليكم ونحو هذا واختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلامة دون غيره من الأسماء لما يأتي في جواب السؤال الذي بعده واحتج أصحاب هذا القول بحجج منها ما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يقولون في الصلاة: "السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن قولوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " صحيح فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا السلام على الله لأن السلام هو المسلم عليه دعاء له وطلب أن يسلم والله تعالى هو المطلوب منه لا المطلوب له وهو المدعو لا المدعو له فيستحيل أن يسلم عليه بل هو المسلم على عباده كما سلم عليهم في كتابه حيث

يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} وقال في يحيى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ} وقال لنوح: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} ويسلم يوم القيامة على أهل الجنة كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فقولا منصوب على المصدر وفعله ما تضمنه سلام من القول لأن السلام قول ومسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة من حديث محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوقهم فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ قوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ثم يتوارى عنهم فتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم" ضعيف وفي سنن ابن ماجة مرفوعا أول من يسلم عليه الحق يوم القيامة عمر ضعيف جدا وفيه نكارة وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} فهذا تحيتهم يوم يلقونه تبارك وتعالى ومحال أن تكون هذه تحية منهم له فإنهم أعرف به من أن يسلموا عليه وقد نهوا عن ذلك في الدنيا وإنما هذا تحية منه لهم والتحية هنا مضافة إلى المفعول فهي التحية التي يحيون بها لا التحية التي يحيونه هم بها ولولا قوله تعالى في سورة يس: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ رحيم} لاحتمل أن تكون التحية لهم من الملائكة كما قال الله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} ولكن هذا سلام الملائكة إذا دخلوا عليهم وهم في منازلهم من الجنة يدخلون مسلمين عليهم وأما التحية المذكورة في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} فتلك تحية لهم وقت اللقاء كما يحيى الحبيب حبيبه إذا لقيه فماذا حرم المحجوبون عن ربهم يومئذ. يكفي الذي غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه والمقصود أن الله تعالى يطلب منه السلام فلا يمتنع في حقه أن يسلم على عباده ولا يطلب له فلذلك لا يسلم عليه وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو السلام" صريح في

كون السلام اسما من أسمائه قالوا فإذا قال المسلم سلام عليكم كان معناه اسم السلام عليكم ومن حججهم ما رواه أبو داود من حديث ابن عمر: "أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى استقبل الجدار ثم تيمم ورد عليه وقال: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" صحيح قالوا ففي هذا الحديث بيان أن السلام ذكر الله وإنما يكون ذكرا إذا تضمن اسما من أسمائه ومن حججهم أيضا أن الكفار من أهل الكتاب لا يبدؤون بالسلام فلا يقال لهم سلام عليكم ومعلوم أنه لا يكره أن يقال لأحدهم سلمك الله وما ذاك إلا أن السلام اسم من أسماء الله فلا يسوغ أن يطلب للكافر حصول بركة ذلك الاسم عليه فهذه حجج كما ترى قوية ظاهرة القول الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة وهم المطلوب المدعو به عند التحية ومن حجة أصحاب هذا القول أنه يذكر بلا ألف ولام بل يقول المسلم سلام عليكم ولو كان اسما من أسماء الله لم يستعمل كذلك بل كان يطلق عليه معرفة كما يطلق عليه سائر أسمائه الحسنى فيقال: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} فإن التنكير لا يصرف اللفظ إلى معين فضلا عن أن يصرفه إلى الله وحده بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى ومن حججهم أيضا إن عطف الرحمة والبركة عليه في قوله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته يدل على أن المراد به المصدر ولهذا عطف عليه مصدرين مثله ومن حججهم أيضا أنه لو كان السلام هنا اسما من أسماء الله لم يستقم الكلام إلا بإضمار وتقدير يكون به مقيدا ويكون المعنى بركة اسم السلام عليكم فإن الاسم نفسه ليس عليهم ولو قلت اسم الله عليك كان معناه بركة هذا الاسم ونحو ذلك من التقدير ومعلوم أن هذا التقدير خلاف الأصل ولا دليل عليه ومن حججهم أيضا أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرا ودعاء كما يأتي في جواب السؤال الذي بعد هذا ولهذا كان السلام أمانا

لتضمنه معنى السلامة وأمن كل واحد من المسلم والراد عليه من صاحبه قالوا: فهذا كله يدل على أن السلام مصدر بمعنى السلامة وحذفت تاؤه لأن المطلوب هذا الجنس لا المرة الواحدة منه والتاء تفيد التحديد كما تقدم وفصل الخطاب في هذه المسألة: أن يقال الحق في مجموع القولين فلكل منهما بعض الحق والصواب في مجموعهما وإنما نبين ذلك بقاعدة قد أشرنا إليها مرارا وهي أن من دعا الله تعالى بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله حتى كأن الداعي مستشفع إليه متوسل إليه به فإذا قال: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور" فقد سأله أمرين وتوسل إليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد سألته ما تدعو به إن وافقت ليلة القدر: "قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني" صحيح وكذلك قوله للصديق وقد سأله أن يعلمه دعاء يدعو به: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " رواه البخاري ومسلم وهذا كثير جدا فلا نطول بإيراد شواهده وإذا ثبت هذا فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى في لفظها بصيغة اسم من أسماء الله وهو السلام الذي يطلب منه السلامة فتضمن لفظ السلام معنيين أحدهما: ذكر الله كما في حديث ابن عمر والثاني: طلب السلامة وهو مقصود المسلم فقد تضمن سلام عليكم اسما من أسماء الله وطلب السلامة منه فتأمل هذه الفائدة وقريب من هذا ما روي عن بعض السلف أنه قال في آمين أنه اسم من أسماء الله تعالى وأنكر كثير من الناس هذا القول وقالوا ليس في أسمائه آمين ولم يفهموا معنى كلامه فإنما أراد أن هذه الكلمة تتضمن اسمه تبارك وتعالى فإن معناها استجب وأعط ما سألناك فهي متضمنة لاسمه مع دلالتها على الطلب وهذا التضمن في سلام عليكم أظهر لأن السلام من أسمائه تعالى فهذا كشف سر المسألة.

فصل: إذا عرف هذا فالحكم في طلبه عند اللقاء دون غير من الدعاء أن عادة الناس الجارية بينهم أن يحيي بعضهم بعضا عند لقائه وكل طائفة لهم في تحيتهم ألفاظ وأمور اصطلحوا عليها وكانت العرب تقول في تحيتهم بينهم في الجاهلية أنعم صباحا وأنعموا صباحا فيأتون بلفظة أنعموا من النعمة بفتح النون وهي طيب العيش والحياة ويصلونها بقولهم صباحا لأن الصباح في أول النهار فإذا حصلت فيه النعمة استصحب حكمها واستمرت اليوم كله فخصوها بأوله إيذانا بتعجيلها وعدم تأخرها إلى أن يتعالى النهار وكذلك يقولون أنعموا مساء فإن الزمان هو صباح ومساء فالصباح في أول النهار إلى بعض انتصافه والمساء من بعد انتصافه إلى الليل ولهذا يقول الناس صبحك الله بخير ومساك الله بخير فهذا معنى أنعم صباحا ومساء إلا أن فيه ذكر الله وكانت الفرس يقولون في تحيتهم هزا رساله ميمايي أي تعيش ألف سنة وكل أمة لهم تحية من هذا الجنس أو ما أشبهه ولهم تحية يخصون بها ملوكهم من هيئات خاصة عند دخولهم عليهم كالسجود ونحوه وألفاظ خاصة تتميز بها تحية الملك من تحية السوقة وكل ذلك مقصودهم به الحياة ونعيمها ودوامها ولهذا سميت تحية وهي تفعلة من الحياة كتكرمة من الكرامة لكن أدغم المثلان فصار تحية فشرع الملك القدوس السلام تبارك وتعالى لأهل الإسلام تحية بينهم سلام عليكم وكانت أولى من جميع تحيات الأمم التي منها ما هو محال وكذب نحو قولهم تعيش ألف سنة وما هو قاصر المعنى مثل أنعم صباحا ومنها ما لا ينبغي إلا لله مثل السجود فكانت التحية بالسلام أولى من ذلك كله لتضمنها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها فهي الأصل المقدم

على كل شيء ومقصود العبد من الحياة إنما يحصل بشيئين بسلامته من الشر وحصول الخير كله والسلامة من الشر مقدمة على حصول الخير وهي الأصل ولهذا إنما يهتم الإنسان بل كل حيوان بسلامته أولا ثم غنيمته ثانيا على أن السلامة المطلقة تتضمن حصول الخير فإنه لو فاته حصل له الهلاك والعطب أو النقص والضعف ففوات الخير يمنع حصول السلامة المطلقة فتضمنت السلامة نجاته من كل شر وفوزه بالخير فانتظمت الأصلين الذين لا تتم الحياة إلا بهما مع كونها مشتقة من اسمه السلام ومتضمنة له وحذفت التاء منها لما ذكرنا من إرادة الجنس لا السلامة الواحدة ولما كانت الجنة دار السلامة من كل عيب وشر وآفة بل قد سلمت من كل ما ينغص العيش والحياة كانت تحية أهلها فيها سلام والرب يحييهم فيها بالسلام {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} فهذا سر التحية بالسلام عند اللقاء وأما عند المكاتبة فلما كان المراسلان كل منهما غائب عن الآخر ورسوله إليه كتابه يقوم مقام خطابه له استعمل في مكاتبه له من السلام ما يستعمله معه لو خاطبه لقيام الكتاب مقام الخطاب. فصل: وأما السؤال الخامس: وهو تعدية هذا المعنى ب على فجوابه بذكر مقدمة وهي ما معنى قوله: سلمت فإذا عرف معناها عرف أن حرف على أليق به فاعلم أن لفظ سلمت عليه وصليت عليه ولعنت فلانا موضوعها ألفاظ هي جمل طلبية وليس موضوعها معاني مفردة فقولك سلمت موضوعه قلت السلام عليك وموضوع صليت عليه قلت اللهم صل عليه أو دعوت له وموضوع لعنته قلت: اللهم العنه ونظير هذا: سبحت الله قلت: سبحان الله ونظيره وإن كان مشتقا من لفظ الجملة هلل إذا قال لا إله إلا الله وحمدل إذا قال الحمد لله وحوقل إذا قال لا حول

ولا قوة إلا بالله وحيعل إذا قال حي على الصلاة وبسمل إذا قال بسم الله قال: وقد بسملت ليلى غداة لقيتها ... ألا حبذا ذاك الحبيب المبسمل وإذا ثبت هذا فقولك سلمت عليه أي ألقيت عليه هذا اللفظ وأوضعته عليه إيذانا باشتمال معناه عليه كاشتمال لباسه عليه وكان حرف على أليق الحروف به فتأمله وأما قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فليس هذا سلام تحية ولو كان تحية لقال فسلام عليه كما قال: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} ولكن الآية تضمنت ذكر مراتب الناس وأقسامهم عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله فذكر أنهم ثلاثة أقسام مقرب له الروح والريحان وجنة النعيم ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة فوعده بالسلامة ووعد المقرب بالغنيمة والفوز وإن كان كل منهما سالما غانما وظالم بتكذيبه وضلاله فأوعده بنزل من حميم وتصلية جحيم فلما لم يكن المقام مقام تحية وإنما هو مقام إخبار عن حاله ذكر ما يحصل له من السلامة فإن قيل: فهذا فرق صحيح لكن ما معنى اللام في قوله لك ومن هو المخاطب بهذا الخطاب وما معنى حرف من في قوله: {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فهذه ثلاثة أسئلة في الآية قيل: قد وفينا بحمد الله تعالى بذكر الفرق بين هذا السلام في الآية وبين سلام التحية وهو الذي كان المقصود وهذه الأسئلة وإن كانت متعلقة بالآية فهي خارجة عن مقصودنا ولكن نجيب عنها إكمالا للفائدة بحول الله وقوته وإن كنا لم نر أحدا من المفسرين شفى في هذا الموضع الغليل ولا كشف حقيقة المعنى واللفظ بل منهم من يقول المعنى فمسلم لك إنك من أصحاب اليمين ومنهم من يقول غير ذلك مما هو حوم على معناها من غير ورود فأعلم أن المدعو به من الخير والشر مضاف إلى صاحبه بلام الإضافة الدالة على حصوله له ومن ذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} ولم يقل عليهم اللعنة إيذانا بحصول معناها وثبوته لهم وكذلك قوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ

يمِمَّا تَصِفُونَ} ويقول في ضد هذا لك الرحمة ولك التحية ولك السلام ومنه هذه الآية {فَسَلامٌ لَكَ} أي ثبت لك السلام وحصل لك وعلى هذا فالخطاب لكل من هو من هذا الضرب فهو خطاب للجنس أي فسلام لك يا من هو من أصحاب اليمين كما تقول هنيئا لك يا من هو منهم ولهذا والله أعلم أتى بحرف من في قوله: {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} والجار والمجرور في موضع حال أي سلام لك كائنا من أصحاب اليمين كما تقول هنيئا لك من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحزبه أي كائنا منهم والجار والمجرور بعد المعرفة ينتصب على الحال كما تقول أحببتك من أهل الدين والعلم أي كائنا منهم فهذا معنى هذه الآية وهو وإن خلت عنه كتب أهل التفسير فقد حام عليه منهم من حام وما ورد ولا كشف المعنى ولا أوضحه فراجع ما قالوه والله تعالى الموفق المان بفضله. فصل: وأما السؤال السادس: وهو ما الحكمة في الابتداء بالنكرة هاهنا مع أن الأصل تقديم الخبر عليها فهذا سؤال قد تضمن سؤالين أحدهما: حكمة الابتداء بالنكرة في هذا الموضع، الثاني: أنه إذ قد ابتدئ بها فهلا قدم الخبر على المبتدأ لأنه قياس الباب نحو: في الدار رجل والجواب عن السؤال الأول: أن يقال إن النحاة قالوا: إذا كان في النكرة معنى الدعاء مثل سلام لك وويل له جاز الابتداء بها لأن الدعاء معنى من معاني الكلام فقد تخصصت النكرة بنوع من التخصيص فجاز الابتداء بها وهذا كلام لا حقيقة تحته فإن الخبر أيضا نوع من أنواع الكلام ومع هذا فلا تكون جهة الخبر مسوغة للابتداء بالنكرة فكيف تكون جهة الدعاء مسوغة للابتداء بها وأما الفرق بين كون الدعاء نوعا والخبر نوعا والطلب نوعا وهلا يفيد ذلك تعيين مسمى النكرة حتى يصلح الإخبار عنها فإن

المانع من الإخبار عنها ما فيها من الشياع والإبهام الذي يمنع من تحصيلها عند المخاطب في ذهنه حتى يستفيد نسبة الإسناد الخبري إليها ولا فرق في ذلك بين كون الكلام دعاء أو خبرا وقول من قال: إن الابتداء بالنكرة إنما امتنع حيث لا يفيد نحو رجل في الدنيا ورجل مات ونحو ذلك فإذا أفادت جاز الابتداء بها من غير تقييد بضابط ولا حصر بعد وأحسن من تقييد ذلك بكون الكلام دعاء أو في قوة الكلام آخر وغير ذلك من الضوابط المذكورة وهذه طريقة إمام النحو سيبويه فإنه في كتابه لم يجعل للابتداء بها ضابطا ولا حصره بعدد بل جعل مناط الصحة الفائدة وهذا هو الحق الذي لا يثبت عند النظر سواه وكل من تكلف ضابطا فإنه ترد عليه ألفاظ خارجة عنه فإما أن يتمحل لردها إلى ذلك الضابط وإما أن يفردها بضوابط أخرى حتى آل الأمر ببعض النحاة إلى أن جعل في الباب ثلاثين ضابطا وربما زاد غيره عليها وكل هذا تكلف لا حاجة إليه واسترحت من شر أهر ذا ناب وبابه قاعدة جامعة في الابتداء فإن قلت: فما عندك من الضابط إذا سلكت طريقتهم في ذلك قلت: اسمع الآن قاعدة جامعة في هذا الباب لا يكاد يشذ عنها شيء منه أصل المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصا بضرب من ضروب التخصيص بوجه تحصل الفائدة من الإخبار عنه فإن انتفت عنه وجوه التخصيص بأجمعها فلا يخبر عنه إلا أن يكون الخبر مجرورا مفيدا معرفة مقدما عليه بهذه الشروط الأربعة لأنه إذا تقدم وكان معرفة صار كأن الحديث عنه وكأن المبتدأ المؤخر خبر عنه ومثال ذلك إذا قلت: على زيد دين فإنك تجد هذا الكلام في قوة قولك زيد مديان أو مدين فمحط الفائدة هو الدين وهو المستفاد من الإخبار فلا تنحس في قيود الأوضاع وتقول على زيد جار ومجرور فكيف يكون مبتدأ فأنت تراه هو المخبر عنه في الحقيقة وليس المقصود الإخبار عن الدين بل عن زيد بأنه مديان وإن كثف ذهنك عن هذا فراجع شروط المبتدأ وشروط الخبر وإن لم يكن الخبر مفيدا لم تفد المسألة شيئا وكان لا فرق بين

تقديم الخبر وتأخيره كما إذا قلت: في الدنيا رجل كان في عدم الفائدة بمنزلة قولك رجل في الدنيا فهنا لم تمتنع الفائدة بتقديم ولا تأخير وإنما امتنعت من كون الخبر غير مفيد ومثل هذا قولك في الدار امرأة فإنه كلام مفيد لأنه بمنزلة قولك الدار فيها امرأة فأخبرت عن الدار بحصول المرأة فيها في اللفظ والمعنى فإنك لم ترد الإخبار عن المرأة بأنها في الدار ولو أردت ذلك لحصلت حقيقة المخبر عنه أولا ثم أسندت إليه الخبر وإنما مقصودك الإخبار عن الدار بأنها مشغولة بامرأة وأنها اشتملت على امرأة فهذا القدر هي الذي حسن الإخبار عن النكرة هاهنا فإنها ليست خبرا في الحقيقة وإنما هي في الحقيقة خبر عن المعرفة المتقدمة فهذا حقيقة الكلام وأما تقديره الإعرابي النحوي فهو أن المجرور خبر مقدم والنكرة مرفوعة بالابتداء يشترط للابتداء بالنكرة أن تكون موصوفة فإن قلت: فمن أين امتنع تقديم هذا المبتدأ في اللفظ فلا تقول امرأة في الدار ودين على زيد قلت لأن النكرة تطلب الوصف طلبا حثيثا فيسبق الوهم إلى أن الجار والمجرور وصف لها لا خبر عنها إذ ليس من عادتها الإخبار عنها إلا بعد الوصف لها فيبقى الذهن متطلعا إلى ورود الخبر عليه وقد سبق إلى سمعه ولكن لم يتيقن أنه الخبر بل يجوز أن يكون وصفا فلا تحصل به الفائدة بل يبقى في ألم الانتظار للخبر والترقب له فإذا قدمت الجار والمجرور عليها استحال أن يكون وصفا لها لأنه لا يتقدم موصوفه فذهب وهمه إلى أن الاسم المجرور المقدم هو الخبر والحديث عن النكرة وهو محط الفائدة إذا عرفت هذا فمن التخصصات المسوغة للابتداء بها أن تكون موصوفة نحو: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} أو عامة نحو ما أحد خير من رسول الله وهل أحد عندك ومن ذلك أن تقع في سياق التفضيل نحو قول عمر: "تمرة خير من جرادة" فإن التفضيل نوع من التخصيص بالعموم إذ ليس المراد واحدة غير معينة من هذا الجنس بل المراد أن هذا الجنس خير من هذا الجنس وأتى بالتاء الدالة على الوحدة إيذانا بأن هذا التفضيل ثابت لكل فرد فرد

من أفراد الجنس ومنه تأويل سيبويه في قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} "فإنه قدره طاعة أمثل وقول معروف أشبه وأجدر بكم وهذا أحسن" من قول بعضهم: أن المسوغ للابتداء بها هاهنا العطف عليها لأن المعطوف عليها موصوف فيصح الابتداء به وإنما كان قول سيبويه أحسن لأن تقييد المعطوف بالصفة لا يقتضي تقييد المعطوف عليه بها ولو قلت طاعة أمثل لساغ ذلك وإن لم يعطف عليها ومنه وقوع النكرة في سياق تفصيل بعد إجمال كما إذا قلت اقسم هذه الثياب بين هؤلاء فثوب لزيد وثوب لعمرو وثوب لبكر فإن النكرة هاهنا تخصصت وتعينت وزال إبهامها وشياعها في جنس الثياب بل تخصصت بتلك الثياب المعينة فكأنك قلت ثوب منها لزيد وثوب منها لعمرو وهذا تقييد وتخصيص ومنه الابتداء بالنكرة إذا لم يكن الكلام خبرا محضا بل فيه معنى التزكية والمدح فمن ذلك قولهم أمت في الحجر لا فيك لأنهم لم يقولوا أمت في الحجر وسكتوا حتى قرنوه بقولهم لا فيك فصار معنى الكلام نسبة الأمت إلى الحجر أقرب من نسبته إليك والأمت بالحجر أليق به منك لأنهم أرادوا تزكية المخاطب ونفي العيب عنه ولم يريدوا الإخبار عن أمت بأنه في الحجر بل هو في حكم النفي عن الحجر وعن المخاطب معا إلا أن نفيه عن المخاطب أوكد وإذا دخل الحديث معنى النفي فلا غرو أن يبتدأ بالنكرة لما فيه من العموم والفائدة قولهم شر أهر ذا ناب ومن هذا قولهم شر أهر ذا ناب وفيه تقديران أحدهما: أنه على الوصف أي شر عظيم أو شر مخوف أهره والثاني: أنه في معنى كلام آخر وهو ما أهر ذا ناب إلا شر أو إنما أهره شر ولا ريب في في صحة المسألة على وجه الفاعلية فهكذا إذا كانت على وجه المبتدأ والخبر الذي في معناه ومنه قولهم شر ما جاء به لأن معنى الكلام ما جاء به إلا شر فأدت ما الزائدة هنا معنى شيئين النفي والإيجاب كما أدته في قولك إنما جاء به شر وفي قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} أي ما يؤمنون إلا قليلا وقليلا ما يذكرون وقوله: {فَبِمَا

نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} أي ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم ونحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي ما لنت لهم إلا برحمة من الله ولا تسمع قول من يقول من النحاة أن ما زائدة في هذه المواضع فإنه صادر عن عدم تأمل فإن قيل: فمن أين لكم أفادت ما هذه المعنيين المذكورين من النفي والإيجاب وهي لو كانت على حقيقتها من النفي الصريح لم تفد إلا معنى واحد وهو النفي فإذا لم يكن النفي صريحا فيها كيف تفيد معنيين قيل: نحن لم ندع أنها أفادت النفي والإيجاب بمجردها ولكن حصل ذلك منها ومن القرائن المحتفة بها في الكلام أما قولهم شر ما جاء بها فلما انتظمت مع الاسم النكرة والنكرة لا يبتدأ بها فلما قصد إلى تقديمها علم أن فائدة الخبر مخصوصة بها وأكد ذلك التخصيص ب ما فانتفى الأمر عن غير هذا الاسم المبتدأ ولم يكن إلا له حتى صار المخاطب يفهم من هذا ما يفهم من قوله ما جاء به إلا شر واستغنوا هنا ب ما هذه عن ما النافية وبالابتداء بالنكرة عن إلا وأما قولك إنما زيد قائم فقد انتظمت ب أن وامتزجت معها وصارتا كلمة واحدة وأن تعطى الإيجاب الذي تعطيه إلا وما تعطي النفي ولذلك جاز إنما يقوم أنا ولا تكون أنا فاعله إلا إذا فصلت من الفعل ب إلا تقول ما يقوم إلا أنا ولا تقول يقوم أنا فإذا قلت: إنما قام أنا صرت كأنك لفظت ما مع إلا قال: أدافع عن أعراض قومي وإنما ... يدافع عن أعراضهم أنا أو مثلي فإذا عرفت أن زيادتها مع أن واتصالها بها اقتضى هذا النفي والإيجاب فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجر من قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} وتأمل كيف تجد الفرق بين هذا التركيب وبين أن يقال فبرحمة من الله وفبنقضهم ميثاقهم وإنك تفهم من تركيب الآية ما لنت لهم إلا برحمة من الله وما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم وكذلك قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} دلت على النفي بلفظها وعلى الإيجاب بتقديم ما حقه التأخير من المعمول وارتباط ما به مع تقديم كما قرر في قولهم شر ما جاء به وقد بسطنا هذا في كتاب الفتح المكي وبينا هناك أنه ليس في القرآن حرف

زائد وتكلمنا على كل ما ذكر في ذلك وبينا أن كل لفظة لها فائدة متجددة زائدة على أصل التركيب ولا ينكر جريان القلم إلى هذه الغاية وإن لم يكن من غرضنا فإنها أهم من بعض ما نحن فيه وبصدده فلنرجع إلى المقصود فنقول: الذي صحح الابتداء بالنكرة في سلام عليكم إن المسلم لما كان داعيا وكان الاسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء صار هو المقصود المهتم به وينزل منزلة قولك اسأل الله سلاما عليكم واطلب من الله سلاما عليك فالسلام نفس مطلوبك ومقصودك ألا ترى أنك لو قلت: اسأل الله عليك سلاما لم يجز وهذا في قوته ومعناه فتأمله فإنه بديع جدا فإن قلت: فإذا كان في قوته فهلا كان منصوبا مثل سقيا ورعيا لأنه في معنى سقاك الله سقيا ورعاك رعيا قلت سيأتي جواب هذا في جواب السؤال العاشر: في الفرق بين سلام إبراهيم وسلام ضيفه إن شاء الله وأيضا فالذي حسن الابتداء بالنكرة هاهنا أنها في حكم الموصوفة لأن المسلم إذا قال سلام عليكم فإنما مراده سلام مني عليك كما قال تعالى: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} ألا ترى أن مقصود المسلم إعلام من سلم عليه بأن التحية والسلام منه نفسه لما في ذلك من حصول مقصود السلام من التحيات والتواد والتعاطف فقد عرفت جواب السؤالين لم ابتدئ بالنكرة ولم قدمت على الخبر بخلاف الباب في مثل ذلك والله أعلم. فصل: وأما السؤال السابع: وهو أنه لم كان في جانب المسلم تقديم السلام وفي جانب الراد تقديم المسلم عليه فالجواب عنه: أن في ذلك فوائد عديدة أحدها: الفرق بين الرد والابتداء فإنه لو وقال له في الرد السلام عليكم أو سلام عليكم لم يعرف أهذا رد لسلامه عليه أم ابتداء تحية منه فإذا قال عليك السلام عرف أنه قد رد عليه تحيته ومطلوب المسلم من المسلم عليه أن يرد عليه سلامه ليس مقصوده أن يبدأه بسلام كما ابتدأه به ولهذا السر والله أعلم نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلم عليه وهو أنه لم كان في جانب المسلم تقديم السلام وفي جانب الراد تقديم المسلم عليه فالجواب عنه: أن في ذلك فوائد عديدة أحدها: الفرق بين الرد والابتداء فإنه لو وقال له في الرد السلام عليكم أو سلام عليكم لم يعرف أهذا رد لسلامه عليه أم ابتداء تحية منه فإذا قال عليك السلام عرف أنه قد رد عليه تحيته ومطلوب المسلم من المسلم عليه أن يرد عليه سلامه ليس مقصوده أن يبدأه بسلام كما ابتدأه به ولهذا السر والله أعلم نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلم عليه

بقوله عليك السلام عن ذلك فقال: "لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى " صحيح وسيأتي الكلام على هذا الحديث ومعناه في موضعه أفلا ترى كيف نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ابتداء السلام بصيغة الرد التي لا تكون إلا بعد تقديم سلام وليس في قوله: "فإنها تحية الموتى " ما يدل على أن المشروع في تحيات الموتى كذلك كما سنذكره وإذا كانوا قد اعتمدوا الفرق بين سلام المبتدئ وسلام الراد خصوا المبتدئ بتقديم السلام لأنه هو المقصود وخصوا الراد بتقديم الجار والمجرور الفائدة الثانية وهي أن سلام الراد يجري مجرى الجواب ولهذا يكتفي فيه بالكلمة المفردة الدالة على أختها فلو قال وعليك لكان متضمنا للرد كما هو المشروع في الرد على أهل الكتاب مع أنا مأمورون أن نرد على من حيانا بتحية مثل تحيته وهذا من باب العدل الواجب لكل أحد فدل على أن قول الراد وعليك مماثل لقول المسلم سلام عليك لكن اعتمد في حق المسلم إعادة اللفظ الأول بعينه تحقيقا للمماثلة ودفعا لتوهم المسلم عدم رده عليه لاحتمال أن يريد عليك شيئا آخر وأما أهل الكتاب فلما كانوا يحرفوا السلام ولا يعدلون فيه وربما سلموا سلاما صحيحا غير محرف ويشتبه الأمر في ذلك على الراد ندب إلى اللفظ المفرد المتضمن لرده عليهم نظير ما قالوه ولم تشرع له الجملة التامة لأنها إما أن تتضمن من التحريف مثل ما قالوا ولا يليق بالمسلم تحريف السلام الذي هو تحية أهل السلام ولا سيما وهو ذكر الله كما تقدم لأجل تحريف الكافر له وإما أن يرد سلاما صحيحا غير محرف مع كون المسلم محرفا للسلام فلا يستحق الرد الصحيح فكان العدول إلى المفرد وهو عليك هو مقتضى العدل والحكمة مع سلامته من تحريف ذكر الله فتأمل هذه الفائدة البديعة والمقصود أن الجواب يكفي فيه قولك وعليك وإنما كمل تكميلا للعدل وقطعا للتوهم الفائدة الثالثة: وهي أقوى مما تقدم أن المسلم لما تضمن سلامة الدعاء للمسلم عليه بوقوع السلامة عليه وحلولها عليه وكان الرد متضمنا لطلب أن يحل عليه من ذلك مثل ما دعا به فإنه إذا قال

وعليك السلام كان معناه وعليك من ذلك مثل ما طلبت لي كما إذا قال غفر الله تعالى لك فإنك تقول له ولك يغفر ويكون هذا أحسن من قولك وغفر لك وكذا إذا قال رحمة الله عليك تقول وعليك وإذا قال عفا الله عنك تقول وعنك وكذلك نظائره لأن تجريد القصد إلى مشاركة المدعو له للداعي في ذلك الدعاء لا إلى إنشاء دعاء مثل ما دعا به فكأنه قال ولك أيضا وعنك أيضا أي وأنت مشارك لي في ذلك مماثل لي فيه لا أنفرد به عنك ولا أختص به دونك ولا ريب أن هذا المعنى يستدعي تقديم المشارك المساوي فتأمله. فصل: وأما السؤال الثامن: وهو ما الحكمة في ابتداء السلام بلفظ النكرة وجوابه بلفظ المعرفة فتقول سلام عليكم فيقول الراد وعليك السلام فهذا سؤال يتضمن لمسألتين إحداهما: هذه والثانية: اختصاص النكرة بابتداء المكاتبة والمعرفة بآخرها والجواب عنها بذكر أصل نمهده ترجع إليه مواقع التعريف والتنكير في السلام وهو أن السلام دعاء وطلب وهم في ألفاظ الدعاء والطلب إنما يأتون بالنكرة إما مرفوعة على الابتداء أو منصوبة على المصدر فمن الأول: ويل له ومن الثاني: خيبة له وجدعا وعقرا وتربا وجندلا وهذا في الدعاء عليه وفي الدعاء له سقيا ورعيا وكرامة ومسرة فجاء سلام عليكم بلفظ النكرة كما جاء سائر ألفاظ الدعاء وسر ذلك أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل ألا ترى أن سقيا ورعيا وخيبة جرى مجرى سقاك الله ورعاك وكذلك سلام عليك جار مجرى سلمك الله والفعل نكرة فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه وكالبدل منه نكرة مثله وأما تعريف السلام في جانب الراد فنذكر أيضا أصلا يعرف به سره وحكمته وهو أن الألف واللام إذا دخلت على اسم

السلام تضمنت أربع فوائد إحداها الإشعار بذكر الله تعالى لأن السلام المعرف من أسمائه كما تقدم تقريره الفائدة الثانية: إشعارها بطلب معنى السلامة منه للمسلم عليه لأنك متى ذكرت اسما من أسمائه فقد تعرضت به وتوسلت به إلى تحصيل المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم الفائدة الثالثة: إن الألف واللام يلحقها معنى العموم في مصحوبها والشمول فيه في بعض المواضع الفائدة الرابعة: أنها تقوم مقام الإشارة إلى المعين كما تقول: ناولني الكتاب واسقني الماء وأعطني الثوب لما هو حاضر بين يديك فإنك تستغني بها عن قولك هذا فهي مؤدية معنى الإشارة وإذا عرفت هذه الفوائد الأربع فقول الراد وعليك السلام بالتعريف متضمن للدلالة على أن مقصوده من الرد مثل ما ابتدئ به وهو هو بعينه فكأنه قال ذلك السلام الذي طلبته لي مردود عليك وواقع عليك فلو أتى بالرد منكرا لم يكن فيه إشعار بذلك لأن المعرف وإن تعدد ذكره واتحد لفظه فهو شيء واحد بخلاف المنكر ومن فهم هذا فهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "لن يغلب عسر يسرين " مرسل وله طرق تعضده فإنه أشار إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فالعسر وإن تكرر مرتين فتكرر بلفظ المعرفة فهو واحد واليسر تكرر بلفظ النكرة فهو يسران فالعسر محفوف بيسرين يسر قبله ويسر بعده فلن يغلب عسر يسرين وفائدة ثانية: وهي أن مقامات رد السلام ثلاثة مقام فضل ومقام عدل ومقام ظلم فالفضل أن يرد عليه أحسن من تحيته والعدل أن ترد عليه نظيرها والظلم أن تبخسه حقه وتنقصه منها فاختير للراد أكمل اللفظين وهو المعرف بالأداة التي تكون للاستغراق والعموم كثيرا ليتمكن من الإتيان بمقام الفضل وفائدة ثالثة: وهي أنه قد تقدم أن المناسب في حقه تقديم المسلم عليه على السلام فلو نكره وقال عليك سلام لصار بمنزلة قولك عليك دين وفي الدار رجل فخرجه مخرج الخبر المحض وإذا صار خبرا بطل معنى التحية لأن معناها الدعاء والطلب فليس بمسلم من قال عليك سلام إنما المسلم من قال سلام عليك فعرف سلام الراد باللام إشعارا بالدعاء للمخاطب

وأنه راد عليه التحية طالب له السلامة من اسم السلام والله أعلم. فصل: وأما المسألة الثانية: وهي ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة واختتامها بالمعرفة فابتداؤها بالنكرة كما تقدم في ابتداء السلام النطقي بها سواء فإن المكاتبة قائمة مقام النطق وأما تعريفه في آخر المكاتبة ففيه ثلاث فوائد أحدها: أن السلام الأول قد وقع الأنس بينهما به وهو مؤذن بسلامه عليه خصوصا فكأنه قال سلام مني عليك كما تقدم وهذا أيضا من فوائد تنكر السلام الابتدائي للإيذان بأنه سلام مخصوص من المسلم فلما استقر ذلك وعلم في صدر الكتاب كان الأحسن أن يسلم عليه سلاما وهو أعم من الأول لئلا يبقى تكرارا محضا بل يأتي بلفظ يجمع سلامه وسلام غيره فيكون قد جمع له بين السلامين الخاص منه والعام منه ومن غيره ولهذه الفائدة استحسنوا أن يكون قول الكاتب وفلان يقرئك السلام وفلان في آخر المكاتبة بعد والسلام عليك لهذا الغرض الفائدة الثانية: أنه قد تقدم أن السلام المعرف اسم من أسماء الله وقد افتتح الكاتب رسالته بذكر الله فناسب أن يختمها باسم من أسمائه وهو السلام ليكون اسمه تعالى في أول الكتاب وآخره وهذه فائدة بديعة الفائدة الثالثة: ب ديعة جدا وهي جواب السؤال التاسع بعد هذا وهي أن دخول الواو العاطفة في قول الكاتب والسلام عليكم ورحمة الله فيها وجهان أحدهما: قول ابن قتيبة: أنها عطف على السلام المبدوء به فكأنه قال والسلام المتقدم عليكم. والقول الثاني: إنها لعطف فصول الكتاب بعضه على بعض فهي عطف لجملة السلام على ما قبلها من الجمل كما تدخل الواو في تضاعيف الفصول. وهذا أحسن من قول ابن قتيبة لوجوه منها: أن الكلام بين السلامين قد طال فعطف آخره بعد طوله على أوله قبيح غير مفهوم من السياق الوجه الثاني: أنه إذا حمله

على ذلك كان السلام الثاني هو الأول بعينه فلم يفد فائدة متجددة وفي ذلك شح بسلام متجدد وإخلال بمقاصد المتكاتبين من تعداد الجمل والفصول واقتضاء كل جمله لفائدة غير الفائدة المتقدمة حتى أن قارئ الكتاب كلما قرأ جمله منها لفائدة غير الفائدة المتقدمة تطلعت نوازع قلبه إلى استفادة ما بعدها فإذا كررت له فائدة واحدة مرتين سئمتها نفسه فكان اللائق بهذا المقصود أن يجدد له سلاما غير الأول يسره به كما سره بالأول وهو السلام العام الشامل ولما فرغ الكاتب من فصول كتابه وختمها أتى بالواو العاطفة مع السلام المعرف فقال: والسلام عليكم أي وبعد هذا كله السلام عليكم وقد تقدم أن السلام إذا انبنى على اسم مجرور قبله وكان سلام رد لا ابتداء فإنه يكون معرفا نحو وعليك السلام ولما كان سلام المكاتب هاهنا ليس بسلام رد قدم السلام على المجرور فقال والسلام عليكم وأتى باللام لتفيد تجديد سلام آخر والله تعالى أعلم وهذه فصاحة غريبة وحكمة سلفية موروثة عن سلف الأمة وعن الصحابة في مكاتباتهم وهكذا كانوا يكتبون إلى نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وقد فرغنا من جواب السؤال التاسع المتعلق بواو العطف. فصل: وأما السؤال العاشر: وهو السر في نصب سلام ضيف إبراهيم الملائكة ورفع سلامه فالجواب: أنك قد عرفت قول النحاة فيه أن سلام الملائكة تضمن جملة فعلية لأن نصب السلام يدل على سلمنا عليك سلاما وسلام إبراهيم تضمن جملة اسمية لأن رفعه يدل على أن المعنى سلام عليكم والجملة الاسمية تدل على الثبوت والتقرر والفعلية تدل على الحدوث والتجدد فكان سلامه عليهم أكمل من سلامهم عليه وكان له من مقامات الرد ما يليق بمنصبه صلى الله عليه وسلم وهو مقام الفضل إذ حياهم بأحسن من تحيتهم هذا تقرير ما قالوه

وعندي فيه جواب أحسن من هذا وهو أنه لم يقصد حكاية سلام الملائكة فنصب قوله سلاما مفعول القول المفرد كأنه قيل قالوا قولا سلاما وقالوا سدادا وصوابا ونحو ذلك فإن القول إنما تحكي به الجمل وأما المفرد فلا يكون محكيا به بل منصوب به انتصاب المفعول به ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} ليس المراد أنهم قالوا هذا اللفظ المفرد المنصوب وإنما معناه قالوا قولا سلاما مثل سدادا وصوابا وسمي القول سلاما لأنه يؤدي معنى السلام ويتضمنه من رفع الوحشة وحصول الإستئناس وحكى عن إبراهيم لفظ سلامه فأتى به على لفظه مرفوعا بالابتداء محكيا بالقول ولولا قصد الحكاية لقال سلاما بالنصب لأن ما بعد القول إذا كان مرفوعا فعلى الحكاية ليس إلا فحصل من الفرق بين الكلامين في حكاية سلام إبراهيم ورفعه ونصب ذلك إشارة إلى معنى لطيف جدا وهو أن قوله سلام عليكم من دين الإسلام المتلقي عن إمام الحنفاء وأبي الأنبياء وأنه من ملة إبراهيم التي أمر الله بها وباتباعها فحكى لنا قوله ليحصل الإقتداء به والإتباع له ولم يحك قول أضيافه وإنما أخبر به على الجملة دون التفصيل والله أعلم فزن هذا الجواب والذي قبله بميزان غير جائر يظهر لك أقواهما وبالله التوفيق. فصل: وأما السؤال الحادي عشر: وهو نصب السلام من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} ورفعه في قوله حكاية عن مؤمني أهل الكتاب {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} فالجواب عنه أن الله سبحانه مدح عباده الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} فسلاما هنا صفة لمصدر محذوف

فضحه به فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته فيغتر العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة ومن شره أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقدة يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " رواه البخاري ومسلم ومن شره أن يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح قال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه أو قال في أذنيه" رواه البخاري رواه البخاري ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته ويكفي من شره أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة النار من كل ألف وتسعة وتسعين ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له وأن يعبد من دون الله فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته وإقامة دعوة الكفر والشرك ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض ويكفي من شره أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار فرد الله تعالى كيده عليه وجعل النار على خليله بردا وسلاما وتصدى للمسيح صلى الله عليه وسلم حتى أراد اليهود قتله وصلبه فرد الله كيده وصان المسيح ورفعه إليه وتصدى لزكريا ويحيى

لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} فإنها وصف لطائفة من مؤمني أهل الكتاب قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فآمنوا به فغيرهم المشركون وقالوا: قبحتم من وفد بعثكم قومكم لتعلموا خبر الرجل ففارقتم دينكم وتبعتموه ورغبتم عن دين قومكم فأخبر عنهم بأنهم خاطبوهم خطاب متاركة وإعراض وهجر جميل فقالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} وكان رفع السلام متعينا لأنه حكاية ما قد وقع ونصب السلام في آية الفرقان متعينا لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل والأولى للمؤمن أن يعتمده إذا خاطبه الجاهل فتأمل هذه الأسرار التي أدناها يساوي رحلة والله تعالى المحمود وحده على ما من به وأنعم. وهي المواهب من رب العباد فما ... يقال لولا ولا هلا ولا فلما فصل: وأما السؤال الثاني عشر: وهو ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله والسلام هو طلب ودعاء فكيف يتصور من الله فهذا سؤال له شأن ينبغي الاعتناء به ولا يهمل أمره وقل من يدرك سره إلا من رزقه الله فهما خاصا وعناية وليس هذا من شأن أبناء الزمان الذين غاية فاضلهم نقلا أن يحكي قيلا وقالا وغاية فاضلهم بحثا أن يبدي احتمالا ويبرز إشكالا وأما تحقيق العلم كما ينبغي. فللحروب أناس قائمون بها ... وللدواوين كتاب وحساب وقد كان الأولى بنا الإمساك وكف عنان القلم وأن نجري معهم في ميدانهم ونخاطبهم بما يألفونه وأن لا نجلوا عرائس المعاني على ضرير ولا نزف خودها إلى عنين ولكن هذه سلعة وبضاعة لها طلا وعروس لها خطاب فستصير إلى أهلها وتهدي إلى بعلها ولا تستطل الخطابة فإنها نفثة مصدور فلنرجع إلى المقصود فنقول لا ريب أن الطلب يتضمن أمورا ثلاثة طالبا ومطلوبا ومطلوبا منه ولا تتقوم حقيقته إلا بهذه الأركان الثلاثة وتغاير هذه ظاهر إذا كان الطالب يطلب شيئا من غيره كما هو الطلب المعروف مثل من يأمر غيره وينهاه ويستفهمه وأما إذا كان طالبا من نفسه فهنا يكون الطالب هو المطلوب منه ولم يكن هنا إلا ركنان طالب ومطلوب والمطلوب منه هو الطالب نفسه فإن قيل: كيف يعقل اتحاد الطالب والمطلوب منه

وهما حقيقتان متغايرتان فكما لا يتحد المطلوب والمطلوب منه ولا المطلوب والطالب فكذلك لا يتحد الطالب والمطلوب منه فكيف يعقل طلب الإنسان من نفسه قيل هذا هو الذي أوجب غموض المسألة وإشكالها ولا بد من كشفه وبيانه فنقول الفرق بين الإرادة والطلب الطلب من باب الإرادات والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئا فكذلك يريد من نفسه هو أن يفعله والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها والإرادة كالجنس له فكما يعقل أن يكون المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب من نفسه وللفرق بين الطلب والإرادة وما قيل في ذلك مكان غير هذا والمقصود أن طلب الحي من نفسه أمر معقول يعلمه كل أحد من نفسه وأيضا فمن المعلوم أن الإنسان يكون آمرا لنفسه ناهيا لنفسه قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} وقال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم وهذا أكثر من إيراد شواهده فإذا كان معقولا أن الإنسان يأمر نفسه وينهاها والأمر والنهي طلب مع أن فوقه آمرا وناهيا فكيف يستحيل ممن لا آمر فوقه ولا ناه أن يطلب من نفسه فعل ما يحبه وترك ما يبغضه وإذا عرف هذا عرف سر سلامه تبارك وتعالى على أنبيائه ورسله وأنه طلب من نفسه لهم السلامة فإن لم يتسع لهذا ذهنك فسأزيدك إيضاحا وبيانا وهو أنه قد أخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسه الرحمة وهذا إيجاب منه على نفسه فهو الموجب وهو متعلق الإيجاب الذي أوجبه فأوجب بنفسه على نفسه وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بما يوضحه كل الإيضاح ويكشف حقيقته بقوله في الحديث الصحيح: "لما قضى الله الخلق بيده على نفسه في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي: وفي لفظ "سبقت غضبي" رواه البخاري ومسلم والترمذي فتأمل: كيف أكد هذا الطلب والإيجاب

بذكر فعل الكتاب وصفة اليد ومحل الكتابة وأنه كتاب وذكر مستقر الكتاب وأنه عنده فوق العرش فهذا إيجاب مؤكد بأنواع من التأكيد وهو إيجاب منه على نفسه ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} فهذا حق أحقه على نفسه فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ الحق ولفظ على ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لمعاذ " أتدري ما حق الله على عباده قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار " رواه البخاري ومسلم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: في غير حديث "من فعل كذا وكذا كان حقا على الله أن يفعل به كذا وكذا" في الوعد والوعيد فهذا الحق هو الذي أحقه على نفسه ومنه الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إلى الصلاة "أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك" فهذا حق للسائلين عليه هو أحقه على نفسه لا أنهم هم أوجبوه ولا أحقوه بل أحق على نفسه أن يجيب من سأله كما أحق على نفسه في حديث معاذ أن لا يعذب من عبده فحق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين له أن يثيبهم والحقان هو الذي أحقهما وأوجبهما لا السائلون ولا العابدون بل هو سبحانه. ما للعباد عليه حق واجب ... كل ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع ومنه قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} فهذا الوعد هو الحق الذي أحقه على نفسه وأوجبه ونظير هذا ما أخبر به سبحانه من قسمه ليفعلنه نحو: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} وقوله: {نُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} وقوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} إلى أمثال ذلك مما أخبر أن يفعله إخبارا مؤكدا

بالقسم والقسم في مثل هذا يقتضي الحض والمنع بخلاف القسم على ما فعله تعالى مثل قوله: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} والقسم على ثبوت ما ينكره المكذبون فإنه توكيد للخبر وهو من باب القسم المتضمن للتصديق ولهذا يقول الفقهاء اليمين ما اقتضى حقا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا فالقسم الذي يقتضي الحض والمنع هو من باب الطلب لأن الحض والمنع طلب ومن هذا ما أخبر به لا بد أن يفعله لسبق كلماته به كقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وقوله: {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} فهذا إخبار عما يفعله ويتركه أنه لسبق كلمته به فلا يتغير ومن هذا تحريمه سبحانه ما حرمه على نفسه كقوله فيما يرويه عن رسوله صلى الله علي: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما " رواه مسلم والترمذي فهذا التحريم نظير ذلك الإيجاب ولا يلتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة فإن الناظر في سياق هذه المواضع ومقصودها به يجزم ببعد المراد منها كقول بعضهم إن معنى الإيجاب والكتاب في ذلك كله هو إخباره به ومعنى كتب ربكم على نفسه الرحمة أخبر بها عن نفسه وقوله: "حرمت الظلم على نفسي" أي أخبرت أنه لا يكون ونحو ذلك مما يتيقن المرء أنه ليس هو المراد بالتحريم بل الإخبار هاهنا هو الإخبار بتحريمه وإيجابه على نفسه فمتعلق الخبر هو التحريم والإيجاب ولا يجوز إلغاء متعلق الخبر فإنه يتضمن إبطال الخبر ولهذا إذا قال القائل: أوجبت على نفسي صوما فإن متعلقه وجوب الصوم على نفسه فإذا قيل: إن معناه أخبرت بأني أصوم كان ذلك إلغاء وإبطالا لمقصود الخبر فتأمله وإذا كان معقولا من الإنسان أنه يوجب على نفسه ويحرم ويأمرها وينهاها مع كونه تحت أمر غيره ونهيه فالآمر الناهي الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يمتنع في حقه أن

يحرم على نفسه ويكتب على نفسه وكتابته على نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به وتحريمه على نفسه يستلزم بغضه لما حرمه وكراهته له وإرادة أن لا يفعله فإن محبته للفعل تقتضي وقوعه منه وكراهته لأن يفعله تمنع وقوعه منه وهذا غير ما يحبه سبحانه من أفعال عباده ويكرهه فإن محبة ذلك منهم لا تستلزم وقوعه وكراهته منهم لا تمنع وقوعه ففرق بين فعله هو سبحانه وبين فعل عباده الذي يقع مع كراهته وبغضه له ويتخلف مع محبته له ورضاه به بخلاف فعله هو سبحانه فهذا نوع وذاك نوع فتدبر هذا الموضع الذي هو منزلة أقدام الأولين والآخرين إلا من عصم الله وهداه إلى صراط مستقيم وتأمل أين تكون محبته وكراهته موجبة لوجود الفعل ومانعة من وقوعه وأين تكون المحبة منه والكراهة لا توجب وجود الفعل ولا تمنع وقوعه ونكتة المسألة هي الفرق بين ما يريد أن يفعله هو سبحانه وما لا يريد أن يفعله وبين ما يحبه من عبده أن يفعله العبد أو لا يفعله ومن حقق هذا المقام زالت عنه شبهات ارتبكت فيها طوائف من النظار والمتكلمين والله الهادي إلى سواء السبيل واعلم أن الناس في هذا المقام ثلاث طوائف فطائفة منعت أن يجب عليه شيء أو يحرم عليه شيء بإيجابه وتحريمه وهم كثير من مثبتي القدر الذين ردوا أقوال القدرية النفاة وقابلوهم أعظم مقابلة نفوا لأجلها الحكم والأسباب والتعليل وأن يكون العبد فاعلا أو مختارا الطائفة الثانية بإزاء هؤلاء أوجبوا على الرب وحرموا أشياء بعقولهم جعلوها شريعة له يجب عليه مراعاتها من غير أن يوجبها هو على نفسه ولا حرمها وأوجبوا عليه من جنس ما يجب على العباد وحرموا عليه من جنس ما يحرم عليهم ولذلك كانوا مشبهة في الأفعال والمعتزلة منهم جمعوا بين الباطلين تعطيل صفاته وجحد نعوت كماله والتشبيه له بخلقه فيما أوجبوه عليه وحرموه فشبهوا في أفعاله وعطلوا في صفات كماله فجحدوا بعض ما وصف به نفسه من صفات الكمال وسموه توحيدا وشبهوه بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح من الأفعال وسموا ذلك عدلا وقالوا نحن أهل العدل والتوحيد فعدلهم إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج

عنها شيء من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها وتوحيدهم إلحادهم في أسمائه الحسنى وتحريف معانيها عما هي عليه فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلا وعدلهم شركا وهذا مقرر في موضعه والمقصود أن هذه الطائفة مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات وهدى الله الأمة الوسط لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فلم يقيسوه بخلقه ولم يشبهوه بهم في شيء من صفاته ولا أفعاله ولم ينفوا ما أثبته لنفسه من ذلك ولم يوجبوا عليه شيئا ولم يحرموا عليه شيئا بل أخبروا عنه بما أخبر عن نفسه وشهدت قلوبهم ما في ضمن ذلك الإيجاب والتحريم من الحكم والغايات المحمودة التي يستحق عليها كمال الحمد والثناء فإن العباد لا يحصون ثناء عليه أبدا بل هو كما أثنى على نفسه وهذا بين بحمد الله عند أهل العلم والإيمان مستقر في فطرهم ثابت في قلوبهم يشهدون انحراف المنحرفين في الطرفين وهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل هم إلى الله تعالى ورسوله متحيزون وإلى محض سنته منتسبون يدينون دين الحق أنى توجهت ركائبه ويستقرون معه حيث استقرت مضاربه لا تستفزهم بدوات آراء المختلفين ولا تزلزلهم شبهات المبطلين فهم الحكام على أرباب المقالات والمميزون لما فيها من الحق والشبهات يردون على كل باطلة ويوافقونه فيما معه في الحق فهم في الحق سلمه وفي الباطل حربه لا يميلون مع طائفة على طائفة ولا يجحدون حقها لما قالته من باطل سواه بل هم ممتثلون قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون المائدة 8 فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحلمه بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطيء على أن لا يعدل فيهم بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما

جاء به منه علما وعملا ودعوة إلى الله على بصيرة وصبرا من قومهم على الأذى في الله وإقامة لحجة الله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل لا كمن نصب معالمه صادرة عن آراء الرجال فدعا إليها وعاقب عليها وعادى من خالفها بالعصبية وحمية الجاهلية والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به وليكن هذا تمام الكلام في هذا السؤال فقد تعدينا به طوره وإن لم نقدره قدره. فصل: وأما السؤال الثالث عشر: وهو ما السر في كونه سلم عليهم بلفظ النكرة وشرع لعباده أن يسلموا على رسوله بلفظ المعرفة وكذلك تسليمهم على نفوسهم وعلى عباده الصالحين فقد تقدم بيان الحكمة في كون السلام ابتداء بلفظ النكرة ونزيد هنا فائدة أخرى وهي أنه قد تقدم أن في دخول اللام في السلام أربعة فوائد وهذا المقام مستغن عنها لأن المتكلم بالسلام هو الله تعالى فلم يقصد تبركا بذكر الاسم كما يقصد العبد فإن التبرك استدعاء البركة واستجلابها والعبد هو الذي يقصد ذلك ولا قصد أيضا تعرضا وطلبا على ما يقصده العبد ولا قصد العموم وهو أيضا غير لائق هنا لأن سلاما منه سبحانه كاف من كل سلام ومغن عن كل تحية ومقرب من كل أمنية فأدنى سلام منه ولا أدنى هناك يستغرق الوصف ويتم النعمة ويدفع البؤس ويطيب الحياة ويقطع مواد العطب والهلاك فلم يكن لذكر الألف واللام هناك معنى وتأمل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} كيف جاء بالرضوان مبتدأ منكرا مخبرا عنه بأنه أكبر من كل ما وعدوا به فأيسر شيء من رضوانه أكبر الجنات وما فيها من المساكن الطيبة وما حوته ولهذا لما يتجلى لأوليائه في جنات عدن ويمنيهم أي

شيء يريدون فيقولون ربنا وأي شيء نريد أفضل مما أعطيتنا فيقول تبارك وتعالى: "إن لكم عندي أفضل من ذلك أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" وقد بان بهذا الفرق بين سلام الله على رسله وعباده وبين سلام العباد عليهم فإن سلام العباد لما كان متضمنا لفوائد الألف واللام التي تقدمت من قصد التبرك باسمه السلام والإشارة إلى طلب السلام له وسؤالها من الله باسم السلام وقصد عموم السلام كان الأحسن في حق المسلم على الرسول أن يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وإن كان قد ورد سلام عليك فالمعرفة أكثر وأصح وأتم معنى فلا ينبغي العدول عنه ويشح في هذا المقام بالألف واللام والله أعلم. فصل: وقد عرفت بهذا جواب السؤال الرابع عشر وهو ما الحكمة في تسليم الله تعالى على يحيى بلفظ النكرة وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة لا ما يقوله من لا تحصيل له أن سلام يحيى جرى مجرى ابتداء السلام في الرسالة والمكاتبة فنكر وسلام المسيح جرى مجرى السلام في آخر المكاتبة فعرف فإن السورة كالقصة الواحدة ولا يخفى فساد هذا الفرق فإنهما سلامان متغايران من مسلمين أحدهما: سلام الله تعالى على عباده والثاني: سلام العبد على نفسه فكيف يبني أحدهما على الآخر وكذلك قول من قال: إن الثاني عرف لتقدم ذكره في اللفظ فكانت الألف واللام فيه للعهد وهذا أقرب من الأول لإمكان أن يكون المسيح أشار إلى السلام الذي سلمه الله على يحيى فأراد أن لي من السلام في مثل هذه المواطن الثلاثة مثل ما حصل له والله أعلم.

فصل: وأما السؤال الخامس عشر: وهو ما الحكمة في تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة فسره والله أعلم أن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب ومواطن الوحشة وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة وتعلقت بها الهمة فذكرت هذه المواطن الثلاثة لأن السلامة فيها آكد وطلبها أهم والنفس عليها أحرص لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقرا فيها موطن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرض للآفات والمحن والبلاء فإن الجنين من حين خرج إلى هذه الدار انتصب لبلائها وشدائدها ولأوائها ومحنها وأفكارها كما أفصح الشاعر بهذا المعنى حيث يقول: تأمل بكاء الطفل عند خروجه ... إلى هذه الدنيا إذا هو يولد تجد تحته سرا عجيبا كأنه ... بكل الذي يلقاه منه مهدد وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد ولهذا من حين خرج ابتدرته طعنة الشيطان في خاصرته فبكى لذلك ولما حصل له من الوحشة بفراق وطنه الأول وهو الذي أدركه الأطباء والطبائعيون وأما ما أخبر به الرسول فليس في صناعتهم ما يدل عليه كما ليس فيها ما ينفيه فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور الموطن الثاني خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت ونسبة الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريبا وتمثيلا وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأكبر وطلب السلامة أيضا عند انتقاله إلى تلك الدار من أهم الأمور الموطن الثالث موطن يوم القيامة يوم يبعث الله تعالى الأحياء ولا نسبة لما قبله من الدور إليه وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله فإن عطبه لا يستدرك وعثرته لا تقال وسقمه لا يداوى وفقره لا يسد فتأمل

كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها وتأمل ما في السلام مع الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الإبتلاء وعند معاينته هول المطلع إذا قدم على الله وحيدا مجردا عن كل مؤنس إلا ما قدمه من صالح عمل وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها واستعمل بعمل أهلها فأي موطن أحق بطلب السلامة من هذه المواطن فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه. فصل: وأما السؤال السادس عشر: وهو ما الحكمة في تسليم النبي صلى الله عليه وسلم على من اتبع الهدى في كتابه إلى هرقل بلفظ النكرة وتسليم موسى عليهم بلفظ المعرفة فالجواب عنه أن تسليم النبي صلى الله عليه وسلم تسليم ابتدائي ولهذا صدر به الكتاب حيث قال من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ففي تنكيره ما في تنكير سلام من الحكمة وقد تقدم بيانها وأما قول موسى والسلام على من اتبع الهدى فليس بسلام تحية فإنه لم يبتدئ به فرعون بل هو خبر محض فإن من اتبع الهدى له السلام المطلق دون من خالفه فإنه قال له: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أفلا ترى أن هذا ليس بتحية في ابتداء الكلام ولا خاتمته وإنما وقع متوسطا بين الكلامين إخبارا محضا عن وقوع السلامة وحلولها على من اتبع الهدي ففيه استدعاء لفرعون وترغيب له بما جبلت النفوس على حبه

وإيثاره من السلامة وأنه إن اتبع الهدى الذي جاءه به فهو من أهل السلام والله تعالى أعلم وتأمل حسن سياق هذه الجمل وترتيب هذا الخطاب ولطف هذا القول اللين الذي سلب القلوب حسنه وحلاوته مع جلالته وعظمته كيف ابتدأ الخطاب بقوله إنا رسول ربك وفي ضمن ذلك إنا لم نأتك لننازعك ملكك ولا لنشركك فيه بل نحن عبدان مأموران مرسلان من ربك إليك وفي إضافة اسم الرب إليه هنا دون إضافته إليهما استدعاء لسمعه وطاعته وقبوله كما يقول الرسول للرجل من عند مولاه أنا رسول مولاك إليك وأستاذك وإن كان أستاذهما معا ولكن ينبهه بإضافته إليه على السمع والطاعة له ثم إنهما طلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل ويخلي بينهم وبينهما ولا يعذبهم ومن طلب من غيره ترك العدوان والظلم وتعذيب من لا يستحق العذاب فلم يطلب منه شططا ولم يرهقه من أمره عسرا بل طلب منه غاية النصف ثم أخبره بعد الطلب بثلاث إخبارات أحدها قوله تعالى: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} فقد برئنا من عهدة نسبتك لنا إلى التقول والافتراء بما جئناك به من البرهان والدلالة الواضحة فقد قامت الحجة ثم بعد ذلك للمرسل إليه حالتان إما أن يسمع ويطيع فيكون من أهل الهدى والسلام على من اتبع الهدى وإما أن يكذب ويتولى فالعذاب على من كذب وتولى فجمعت الآية طلب الإنصاف وإقامة الحجة وبيان ما يستحق السامع المطيع وما يستحقه المكذب المتولي بألطف خطاب وأليق قول وأبلغ ترغيب وترهيب. فصل: وأما السؤال السابع عشر: وهو أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} هل السلام من الله تعالى فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا فالجواب عنه أن الكلام يحتمل الأمرين ويشهد لكل

منهما ضرب من الترجيح فيرجح كونه داخلا في جملة القول بأمور منها اتصاله به وعطفه عليه من غير فاصل وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع ولهذا إذا قلت الحمد لله وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول ومنها أنه إذا كان معطوفا على المقول كان عطف خبر على خبر وهو الأصل ولو كان منقطعا عنه كان عطفا على جملة الطلب وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب ومنها أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} ظاهر في أن المسلم هو القائل الحمد لله ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ولم يقل سلام على عبادي ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى كقوله سلام على نوح في العالمين سلام على إبراهيم سلام على موسى وهارون سلام على آل ياسين ومنها أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم أما الأول فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله ثم سلامه على رسله وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه ثم سلم على المرسلين وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد وأعظم ما جاءوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض وما خالفه هو الباطل والكذب المحال وهذا المعنى بعينه في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص

وكذب وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى كما هو في آخر الصافات وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} وقوله: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} وقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} ونظائره كثيرة جدا وفصل الخطاب: في ذلك أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا وتنتظمهما انتظاما واحدا فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه وليس فيه إلا البلاغ والكلام كلام الرب تبارك وتعالى فهو الذي حمد نفسه وسلم على عباده وأمر رسوله بتبليغ ذلك فإذا قال الرسول الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه وسلم به هو على عباده فهو سلام من الله ابتداء ومن المبلغ بلاغا ومن العباد اقتداء وطاعة فنحن نقول كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} ونظير هذا قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فهو توحيد منه لنفسه وأمر للمخاطب بتوحيده فإذا قال العبد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كان قد وحد الله بما وحد به نفسه وأتى بلفظة قل تحقيقا لهذا المعنى وأنه مبلغ محض قائل لما أمر بقوله والله أعلم وهذا بخلاف قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فإن هذا أمر محض بإنشاء الاستعاذة لا تبليغ لقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فإن الله لا يستعيذ من أحد وذلك عليه محال بخلاف قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان. فصل: وأما السؤال الثامن عشر: وهو نهى النبي صلى الله عليه وسلم من قال له عليك السلام عن ذلك وقال:" لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى" فما أكثر من

ذهب عن الصواب في معناه وخفي عليه مقصوده وسره فتعسف ضروبا من التأويلات المستنكرة الباردة ورد بعضهم الحديث وقال قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في تحية الموتى "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" رواه مسلم قالوا: وهذا أصح من حديث النهي وقد تضمن تقديم ذكر لفظ السلام فوجب المصير إليه وتوهمت طائفة أن السنة في سلام الموتى أن يقال عليكم السلام فرقا بين السلام على الأحياء والأموات وهؤلاء كلهم إنما أتوا ما أتوه من عدم فهمهم لمقصود الحديث فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "عليك السلام تحية الموتى" ليس تشريعا منه وإخبارا عن أمر شرعي وإنما هو إخبار عن الواقع المعتاد الذي جرى على ألسنة الشعراء والناس فإنهم كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء كما قال قائلهم: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما وقول الذي رثى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق وهذا أكثر في أشعارهم من أن نذكره هاهنا والإخبار عن الواقع لا يدل على جوازه فضلا عن كونه سنة بل نهيه عنه مع إخباره بوقوعه يدل على عدم مشروعيته السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه وأن السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه في السلام على الأحياء وعلى الأموات فكما لا يقال في السلام على الأحياء عليكم السلام فكذلك لا يقال في سلام الأموات كما دلت السنة الصحيحة على الأمرين وكأن الذي تخيله القوم من الفرق أن المسلم على غيره لما كان يتوقع الجواب وأن يقال له وعليك السلام بدءوا باسم السلام على المدعو له توقعا لقوله وعليك السلام وأما الميت فما لم يتوقعوا منه ذلك قدموا المدعو له على الدعاء فقالوا: عليك السلام وهذا الفرق لو صح كان دليلا على التسوية بين الأحياء والأموات في السلام فإن المسلم على أخيه الميت يتوقع الجواب أيضا قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد

عليه السلام" صحيح وبالجملة فهذا الخيال قد أبطلته السنة الصحيحة تشريع السلام على الأحياء والأموات وهنا نكتة بديعة ينبغي التفطن لها وهي أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه على المسلم عليهم لأنه دعاء بخير والأحسن في دعاء الخير أن يتقدم الدعاء به على المدعو له كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} وأما الدعاء بالشر فيقدم فيه المدعو عليه المدعو به غالبا كقوله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} وقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} وقوله: {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} وسر ذلك والله أعلم أن في الدعاء بالخير قدموا اسم الدعاء المحبوب الذي تشتهيه النفوس وتطلبه ويلذ للسمع لفظه فيبدأ السمع بذكر الاسم المحبوب المطلوب ويبدأ القلب بتصوره فيفتح له القلب والسمع فيبقى السامع كالمنتظر لمن يحصل هذا وعلى من يحل فيأتي باسمه فيقول عليك أو لك فيحصل له من السرور والفرح ما يبعث على التحاب والتواد والتراحم الذي هو المقصود بالسلام وأما في الدعاء عليه ففي تقديم المدعو عليه إيذان باختصاصه بذلك الدعاء وأنه عليه وحده كأنه قيل له هذا عليك وحده لا يشركك فيه السامعون بخلاف الدعاء بالخير فإن المطلوب عمومه وكل ما عم به الداعي كان أفضل وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء على الأرض" وذكر في ذلك حديثا مرفوعا عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم: مر به وهو يدعو فقال "يا علي عم فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض" وفيه فائدة ثانية أيضا وهي: أنه في الدعاء عليه إذا قال له عليك انفتح سمعه وتشوف قلبه إلى أي شيء يكون عليه فإذا ذكر له اسم المدعو به صادف قلبه فارغا متشوفا لمعرفته فكان أبلغ في نكايته ومن فهم هذا فهم السر في حذف الواو في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ففاجأهم وبغتهم عذابها وما أعد الله تعالى فيها فهم بمنزلة من وقف على باب

لا يدري بما يفتح له من أنواع الشر إلا أنه متوقع منه شرا عظيما ففتح في وجهه وفاجأه ما كان يتوقعه وهذا كما تجد في الدنيا من يساق إلى السجن فإنه يساق إليه وبابه مغلق حتى إذا جاءه فتح الباب في وجهه ففاجأته روعته وألمه بخلاف ما لو فتح له قبل مجيئه وهذا بخلاف أهل الجنة فإنهم لما كانوا مساقين إلى دار الكرامة وكان من تمام إكرام المدعو الزائر أن يفتح له باب الدار فيجيء فيلقاه مفتوحا فلا يلحقه ألم الانتظار فقال في أهل الجنة {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وحذف الجواب تفخيما لأمره وتعظيما لشأنه على عادتهم في حذف الجوابات لهذا المقصد وهذه الطريقة تريحك من دعوى زيادة الواو ومن دعوى كونها واو الثمانية لأن أبواب الجنة ثمانية فإن هذا لو صح فإنما يكون إذا كانت الثمانية منسوقة في اللفظ واحدا بعد واحد فينتهون إلى السبعة ثم يستأنفون العدد من الثمانية بالواو وهنا لا ذكر للفظ الثمانية في الآية ولا عدها فتأمله على أن في كون الواو تجيء للثمانية كلام آخر قد ذكرناه في الفتح المكي وبينا المواضع التي ادعى فيها أن الواو للثمانية وأين يمكن دعوى ذلك وأين يستحيل فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بأن سيد الخلائق صلى الله عليه وسلم يأتي باب الجنة فيلقاه مغلقا حتى يستفتحه قلنا هذا من تمام إظهار شرفه وفضله على الخلائق أن الجنة تكون مغلقة فلا تفتح لأهلها إلا على يديه فلو جاءها وصادقها مفتوحة فدخلها هو وأهلها لم يعلم الداخلون أن فتحها كان على يديه وأنه هو الذي استفتحها لهم ألا ترى أن الخلق إذا راموا دخول باب مدينة أو حصن وعجزوا ولم يمكنهم فتحه حتى جاء رجل ففتحه لهم أحوج ما كانوا إلى فتحه كان في ذلك من ظهور سيادته عليهم وفضله وشرفه ما لا يعلم لو جاء هو وهم فوجدوه مفتوحا وقد خرجنا عن المقصود وما أبعدنا ولا تستطل هذه النكت فإنك لا تكاد تجدها في غير هذا التعليق والله تعالى المان بفضله وكرمه.

فصل: وأما السؤال التاسع عشر: وهو دخول الواو في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم " رواه البخاري ومسلم فقد استشكلها كثير من الناس كما ذكر في السؤال وقالوا الصواب حذفها وأن يقال عليكم قال الخطابي يرويه عامة المحدثين بالواو وابن عيينة يرويه بحذفها وهو الصواب وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوا بعينه مردودا عليهم وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه لأن الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين قلت: معنى ما أشار إليه الخطابي أن الواو في مثل هذا تقتضي تقرير الجملة وزيادة الثانية عليها كما إذا قلت زيد كاتب فقال المخاطب وشاعر فإنه يقتضي إثبات الكتابة له وزيادة وصف الشعر وكذلك إذا قلت لرجل فلان محب لك فقال: ومحسن إلي عدة أصحاب الكهف ومن هنا استنبط السهيلي في الروض: "أن عدة أصحاب الكهف سبعة قال لأن الله تعالى عطف عليهم الكلب بحرف الواو" فقال: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ولم يذكر الواو فيما قبل ذلك من كلامهم والواو تقتضي تقرير الجملة الأولى وما استنبطه حسن غير أنه إنما يفيد إذا كان المعطوف بالواو ليس داخلا في جملة قولهم بل يكون قد حكى سبحانه أنهم قالوا سبعة ثم أخبر تعالى أن ثامنهم الكلب فحينئذ يكون ذلك تقريرا لما قالوه وإخبارا بكون الكلب ثامنا وأما إذا كان الإخبار عن الكلب من جملة قولهم وأنهم قالوا وهذا وهذا لم يظهر ما قاله ولا تقتضي الواو في ذلك تقريرا ولا تصديقا فتأمله وأما قوله المحدثون يروونه بالواو فهذا الحديث رواه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا وعليكم" رواه البخاري ومسلم وأبو داود قال أبو داود: "وكذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينار ورواه الثوري عن عبد الله بن دينار وقال فيه: "وعليكم" انتهى كلامه وأخرجه الترمذي والنسائي كذلك ورواه مسلم

وفي بعض طرقه فقل: عليك ولم يذكر الواو وحديث مالك الذي ذكره أبو داود وأخرجه البخاري في صحيحه وحديث سفيان الثوري متفق عليه كلها بالواو وأما ما أشار إليه الخطابي من حديث ابن عيينة فرواه النسائي في سننه بإسقاط الواو وإذا عرف هذا فإدخال الواو في الحديث لا تقتضي محذورا البتة وذلك لأن التحية التي يحيون بها المسلمين غايتها الإخبار بوقوع الموت عليهم وطلبه لأن السام معناه الموت فإذا حيوا به المسلم فرده عليهم كان من باب القصاص والعدل وكان مضمون رده أنا لسنا نموت دونكم بل وأنتم أيضا تموتون فما تمنيتموه لنا حال بكم واقع عليكم وأحسن من هذا أن يقال ليس في دخول الواو تقرير لمضمون تحيتهم بل فيه ردها وتقريرها لهم أي ونحن أيضا ندعو عليكم بما دعوتم به علينا فإن دعاءهم قد وقع فإذا رد عليهم المجيب بقوله وعليكم كان في إدخال الواو سر لطيف وهو الدلالة على أن هذا الذي طلبتموه لنا ودعوتم به هو بعينه مردود عليكم لا تحية غيره فإدخال الواو مفيد لهذه الفائدة الجليلة وتأمل هذا في مقابلة الدعاء بالخير إذا قال غفر الله لك فقال له ولك المعنى أن هذه الدعوة بعينها مني لك ولو قلت غفر الله لك فقال لك لم يكن فيه إشعار بأن الدعاء الثاني هو الأول بعينه فتأمله فإنه بديع جدا وعلى هذا فيكون الصواب إثبات الواو كما هو ثابت في الصحيح والسنن فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة فمن وجد شيئا فليلحقه بالهامش فيشكر الله له وعباده سعيه فإن المقصود الوصول إلى الصواب فإذا ظهر وضع ما عداه تحت الأرجل وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا في كتاب تهذيب السنن.

فصل: وأما السؤال العشرون: وهو ما الحكمة في اقتران الرحمة والبركة بالسلام فالجواب عنه: أن يقال لما كان الإنسان لا سبيل له إلى انتفاعه بالحياة إلا بثلاثة أشياء أحدها سلامته من الشر ومن كل ما يضاد حياته وعيشه والثاني حصول الخير له والثالث دوامه وثباته له فإن بهذه الثلاثة يكمل انتفاعه بالحياة لقد شرعت التحية متضمنة للثلاثة فقوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} يتضمن السلامة من الشر وقوله ورحمة الله يتضمن حصول الخير وقوله وبركاته يتضمن دوامه وثباته كما هو موضوع لفظ البركة وهو كثرة الخير واستمراره ومن هنا يعلم حكمة اقتران اسمه الغفور باسمه الرحيم في عامة القرآن ولما كانت هذه الثلاثة مطلوبة لكل أحد بل هي متضمنة لكل مطالبه وكل المطالب دونها ووسائل إليها وأسباب لتحصيلها جاء لفظ التحية دالا عليها بالمطابقة تارة وهو كمالها وتارة دالا عليها بالتضمن وتارة دالا عليها باللزوم فدلالة اللفظ عليها مطابقة إذا ذكرت بلفظها ودلالته بالتضمن إذا ذكر السلام والرحمة فإنهما يتضمنان الثالث ودلالته عليها باللزوم إذا اقتصر على السلام وحده فإنه يستلزم حصول الخير وثباته إذ لو عدم لم تحصل السلامة المطلقة فالسلامة مستلزمة لحصول الرحمة كما تقدم تقريره قد عرف بهذا فضل هذه التحية وكمالها على سائر تحيات الأمم ولهذا اختارها الله لعباده وجعلها تحيتهم بينهم في الدنيا وفي دار السلام وقد بان لك أنها من محاسن الإسلام وكماله فإذا كان هذا في فرع من فروع الإسلام وهو التحية التي يعرفها الخاص والعام فما ظنك بسائر محاسن الإسلام وجلالته وعظمته وبهجته التي شهدت بها العقول والفطر حتى أنها من أكبر الشواهد وأظهر البراهين الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكمال دينه وفضله وشرفه على جميع الأديان وأن معزته في

نفس دعوته فلو اقتصر عليها كانت آية وبرهانا على صدقه وأنه لا يحتاج معها إلى خارق ولا آية منفصلة بل دينه وشريعته ودعوته وسيرته من أعظم معجزاته عند الخاصة من أمته حتى أن إيمانهم به إنما هو مستند إلى ذلك والآيات في حقهم مقويات بمنزلة تظاهر الأدلة ومن فهم هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان بل باب من أبواب الجنة العاجلة يرقص القلب فيه طربا ويتمنى أنه له بالدنيا وما فيها وعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيساعد على تعليق كتاب يتضمن ذكر بعض محاسن الشريعة وما فيها من الحكم البالغة والأسرار الباهرة التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى وحكمته ورحمته وبره بعباده ولطفه بهم وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة ولم يحسن إليهم إحسانا أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة ولهذا لم يذكر في القرآن لفظة المن عليهم إلا في سياق ذكرها كقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فهي محض الإحسان إليهم والرأفة بهم وهدايتهم إلى ما به صلاحهم في الدنيا والآخرة لا أنها محض التكليف والامتحان الخالي عن العواقب الحميدة والغايات التي لا سبيل إليها إلا بهذه الوسيلة فهي لغاياتها المجربة المطلوبة بمنزلة الأكل للشبع والشرب للري والجماع لطلب الولد وغير ذلك من الأسباب التي ربطت بها مسبباتها بمقتضى الحكمة والعزة فلذلك نصب هذا الصراط المستقيم وسيلة وطريقا إلى الفوز الأكبر والسعادة ولا سبيل إلى الوصول إليه إلا من هذه الطريق كما لا سبيل إلى دخول الجنة إلا بالعبور على الصراط فالشريعة هي حياة القلوب وبهجة النفوس ولذة الأرواح والمشقة الحاصلة فيها

والتكليف وقع بالقصد الثاني كوقوعه في الأسباب المفضية إلى الغايات المطلوبة لا أنه مقصود لذاته فضلا عن أن يكون هو المقصود لا سواه فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من الفكر في مصادرها ومواردها يفتح لك بابا واسعا من العلم والإيمان فتكون من الراسخين في العلم لا من الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وكما أنها آية شاهدة له على ما وصف به نفسه من صفات الكمال فهي آية شاهدة لرسوله بأنه رسول حقا وأنه أعرف الخلق وأكملهم وأفضلهم وأقواهم إلى الله وسيلة وأنه لم يؤت عبد مثل ما أوتي فوالهفاه على مساعد على سلوك هذا الطريق واستفتاح هذا الباب والإفضاء إلى ما وراءه ولو بشطر كلمة بل فوالهفاه على من لا يتصدى لقطع الطريق والصد عن هذا المطلب العظيم ويدع المطي وحاديها ويعطي القوس باريها ولكن إذا عظم المطلوب قل المساعد وكثر المعارض والمعاند وإذا كان الاعتماد على مجرد مواهب الله وفضله يغنيه ما يتحمله المتحمل من أجله فلا يثنك شنآن من صد عن السبيل وصدق ولا تنقطع مع من عجز عن مواصلة السري ووقف فإنما هي مهجة واحدة فانظر فيما تجعل تلفها وعلى من تحتسب خلفها. أنت القتيل بكل من أحببته ... فانظر لنفسك في الهوى من تصطفي وأنفق أنفاسك فيما شئت فإن تلك النفقة مردودة بعينها عليك وصائرة لا سواها إليك وبين العبد وبين السعادة والفلاح صبر ساعة لله وتحمل ملامة في سبيل الله. وما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول وقد أطلنا ولكن ما أمللنا فإن قلبا فيه أدنى حياة يهتز إذا ذكر الله ورسوله ويود أن لو كان المتكلم كله ألسنة تالية والسامع كله آذانا واعية ومن لم يجد قلبه ثم

ثم فليشتغل بما يناسبه فكل ميسر لما خلق له وكل يعمل على شاكلته. وكل امريء يهفو إلى من يحبه وكل امريء يصبو إلى ما يناسبه فصل: وقد عرفت بهذا جواب السؤال الحادي والعشرين: أن كمال التحية عند ذكر البركات إذ قد استوعبت هذه الألفاظ الثلاث جميع المطالب من دفع الشر وحصول الخير وثباته وكثرته ودوامه فلا معنى للزيادة عليها ولهذا جاء في الأثر المعروف انتهى السلام إلى وبركاته فصل: وأما السؤال الثاني والعشرون: وهو ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى وتجريد السلام عن الإضافة فجوابه أن السلام لما كان اسما من أسماء الله تعالى استغني بذكره مطلقا عن الإضافة إلى المسمى وأما الرحمة والبركة فلو لم يضافا إلى الله لم يعلم رحمة من ولا بركة من تطلب فلو قيل: عليكم ورحمة وبركة لم يكن في هذا اللفظ إشعار بالراحم المبارك الذي تطلب الرحمة والبركة منه فقيل: رحمة الله وبركاته وجواب ثان أن السلام يراد به قول المسلم سلام عليكم وهذا في الحقيقة مضاف إليه ويراد به حقيقة السلامة المطلوبة من السلام سبحانه وتعالى وهذا يضاف إلى الله فيضاف هذا المصدر إلى الطالب الذاكر تارة وإلى المطلوب منه تارة فأطلق ولم يضف وأما الرحمة والبركة فلا يضافان إلا إلى الله تعالى وحده ولهذا لا يقال رحمتي وبركتي عليكم ويقال سلام مني عليكم وسلام من فلان على فلان وسر ذلك أن لفظ السلام اسم للجملة القولية بخلاف الرحمة والبركة فإنهما اسمان لمعناهما دون لفظهما فتأمله فإنه بديع وجواب ثالث وهو أن الرحمة والبركة

أتم من مجرد السلامة فإن السلامة تبعيد عن الشر وأما الرحمة والبركة فتحصيل للخير وإدامة له وتثبيت وتنمية وهذا أكمل فإنه هو المقصود لذاته والأول وسيلة إليه ولهذا كان ما يحصل لأهل الجنة من النعيم أكمل من مجرد سلامتهم من النار فأضيف إلى الرب تبارك وتعالى أكمل المعنيين وأتمهما لفظا وأطلق الآخر وفهمت إضافته إليه معنى من العطف وقرينة الحال فجاء اللفظ على أتم نظام وأحسن سياق. فصل: وأما السؤال الثالث والعشرين: وهو ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة فجوابه: أن السلام إما مصدر محض فهو شيء واحد فلا معنى لجمعه وإما اسم من أسماء الله تعالى فيستحيل أيضا جمعه فعلى التقديرين لا سبيل إلى جمعه وأما الرحمة فمصدر أيضا بمعنى العطف والحنان فلا تجمع أيضا والتاء فيها بمنزلتها في الخلة والمحبة والرقة ليست للتحديد بمنزلتها في ضربة وتمرة فكما لا يقال رقات ولا خلات ولا رأفات لا يقال رحمات وهنا دخول الجمع يشعر بالتحديد والتقييد بعدد وإفراده يشعر بالمسمى مطلقا من غير تحديد فالإفراد هنا أكمل وأكثر معنى من الجمع وهذا بديع جدا أن يكون مدلول المفرد أكثر من مدلول الجمع ولهذا كان قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} أعم وأتم معنى من أن يقال: فلله الحجج البوالغ وكان قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} أتم معنى من أن يقال: وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها وقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} أتم معنى من أن يقال حسنات وكذا قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} ونظائره كثيرة جدا وسنذكر سر هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى وأما البركة فإنا لما كان مسماها كثرة الخير واستمراره شيئا بعد شيء كلما انقضى منه فرد

خلفه فرد آخر فهو خير مستمر يتعاقب الإفراد على الدوام شيئا بعد شيء كان لفظ الجمع أولى بها لدلالته على المعنى المقصود بها ولهذا جاءت في القرآن كذلك في قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} فأفرد الرحمة وجمع البركة وكذلك في السلام في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فصل: واعلم: أن الرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان أحدهما: مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها فمن الأول قوله في الحديث الصحيح: "احتجت الجنة والنار " فذكر الحديث وفيه "فقال: للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء " رواه مسلم وأحمد فهذه رحمة مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى وسماها رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة وخص بها أهل الرحمة وإنما يدخلها الرحماء ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض " رواه مسلم والحاكم وروى البخاري نحوه ومنه قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} ومنه تسميته تعالى للمطر رحمة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديما وحديثا وهو قول الداعي: "اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك وذكره البخاري في كتاب الأدب المفرد له عن بعض السلف" وحكى فيه الكراهة قال: "إن مستقر رحمته ذاته" وهذا بناء على أن الرحمة صفة وليس مراد الداعي ذلك بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدا وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها لم يحسن إضافة المستقر إليها ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر جنتك فإن الجنة نفسها هي دار القرار وهي المستقر نفسه كما قال حسنت مستقرا ومقاما فكيف يضاف المستقر إليها والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه

الجنة فتأمله ولهذا قال: "مستقر رحمته ذاته" والصواب: أن هذا لا يمتنع حتى ولو قال صريحا اجمعنا في مستقر جنتك لم يمتنع وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة أو عذابا فإذا أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما يبينه ويميزه من غيره كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر ونظير هذا أن يقال اجلس في مستقر المسجد أي المستقر الذي هو المسجد والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا مستكرهة وأيضا فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة فالداعي يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة وهذا ظاهر جدا فلا يمتنع الدعاء بوجه والله أعلم وهذا بخلاف قول الداعي يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فإن الرحمة هنا صفته تبارك وتعالى وهي متعلق الإستغاثة فإنه لا يستغاث بمخلوق ولهذا كان هذا الدعاء من أدعية الكرب لما تضمنه من التوحيد والإستغاثة برحمة أرحم الراحمين متوسلا إليه باسمين عليهما مدار الأسماء الحسنى كلها وإليهما مرجع معانيها جميعها وهو اسم الحي القيوم فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال ولا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفي كمال الحياة وبهذا الطريق العقلي أثبت متكلمو أهل الإثبات له تعالى صفة السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة والكلام وسائر صفات الكمال وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه وهو المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته وهذا من كمال قدرته وعزته فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال والغنى التام والقدرة التامة فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء الرب تعالى وبكل صفة من صفاته فما أولى الإستغاثة بهذين الاسمين أن يكونا في مظنة تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإنالة الطلبات والمقصود أن

الرحمة المستغاث بها هي صفة الرب تعالى لا شيء من مخلوقاته كما أن المستعيذ بعزته في قوله أعوذ بعزتك مستعيذ بعزته التي هي صفته لا بعزته التي خلقها يعز بها عباده المؤمنين وهذا كله يقرر قول أهل السنة إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بكلمات الله التامات " يدل على أن كلماته تبارك وتعالى غير مخلوقة فإنه لا يستعاذ بمخلوق وأما قوله تعالى حكاية عن ملائكته: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً} فهذه رحمة الصفة التي وسعت كل شيء كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} وسعتها عموم تعلقها بكل شيء كما أن سعة علمه تعالى عموم تعلقه بكل معلوم. فصل: وأما البركة: فكذلك نوعان أيضا أحدهما: بركة هي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك ويتعدى بنفسه تارة وبأداة على تارة وبأداة في تارة والمفعول منها: مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل منها تبارك ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز وجل فهو سبحانه المبارك وعبده ورسوله كما قال المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك وأما صفته تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوهما فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته فكذلك تبارك

دال على كمال بركته وعظمها وسعتها وهذا معنى قوله من قال من السلف: "تبارك تعاظم" وقال آخر" معناه أن تجيء البركات من قبله فالبركة كلها منه" وقال غيره: "كثر خيره وإحسانه إلى خلقه" وقيل: "اتسعت رأفته ورحمته بهم" وقيل: "تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله" ومن هنا قيل: "معناه تعالى وتعاظم" وقيل: "تبارك تقدس والقدس الطهارة" وقيل: "تبارك أي باسمه يبارك في كل شيء" وقيل: "تبارك ارتفع والمبارك المرتفع ذكره البغوي" وقيل: "تبارك أي البركة تكتسب وتنال بذكره" وقال ابن عباس: "جاء بكل بركة" وقيل: "معناه ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال ذكره البغوي أيضا" وحقيقة اللفظة: أن البركة كثرة الخير ودوامه ولا أحد أحق بذلك وصفا وفعلا منه تبارك وتعالى وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين وهما متلازمان لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدس وتعاظم ومثل هذه الألفاظ ليس معناها أنه جعل غيره عاليا ولا قدوسا ولا عظيما هذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه وإنما معناها في نفس من نسبت إليه فهو المتعالي المتقدس فكذلك تبارك لا يصح أن يكون معناها بارك في غيره وأين أحدهما من الآخر لفظا ومعنى هذا لازم وهذا متعد فعلمت أن من فسر تبارك بمعنى ألقى البركة وبارك في غيره لم يصب معناها وإن كان هذا من لوازم كونه متباركا فتبارك من باب مجد والمجد كثرة صفات الجلال والسعة والفضل وبارك من باب أعطى وأنعم ولما كان المتعدي في ذلك يستلزم اللازم من غير عكس فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم المعنيين فقال: مجيء البركة كلها من عنده أو البركة كلها من قبله وهذا فرع على تبارك في نفسه وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب الفتح المكي وبينا هناك أن البركة كلها له تعالى ومنه فهو المبارك ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك ولهذا كان كتابه مباركا وبيته مباركا والأزمنة والأمكنة

التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة فليلة القدر مباركة وما حول الأقصى مبارك وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه عند انصرافه من الصلاة: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " رواه مسلم وأبو داود وأحمد فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثناء أعني ثناء التنزيه والتسبيح وثناء الحمد والتمجيد بأبلغ لفظ وأوجزه وأتمه معنى فأخبر أنه السلام ومنه السلام فالسلام له وصفا وملكا وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام وأن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه كلها سلام وكذا الحمد كله له وصفا وملكا فهو المحمود في ذاته وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محمودا فيهبه حمدا من عنده وكذلك العزة كلها له وصفا وملكا وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه ومن عز من عباده فبإعزازه له وكذلك الرحمة كلها له وصفا وملكا وكذلك البركة فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاء من خلقه وعليه فيصير بذلك مباركا {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهذا بساط وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه وأطرافه وأما ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق بالله وأقربهم إلى الله وأعظمهم عنده جاها "لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " رواه مسلم وقال: في حديث الشفاعة الطويل "فأخر ساجدا لربي فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن" رواه البخاري ومسلم وفي دعاء الهم والغم "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" صحيح فدل على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده دون خلقه لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل وحسبنا الإقرار بالعجز والوقوف عند ما أذن لنا فيه من ذلك فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه وبالله التوفيق.

فصل: وأما السؤال الرابع والعشرون: وهو ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بالمصدر دون الصلاة عليه في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فجوابه: أن التأكيد واقع على الصلاة والسلام وإن اختلفت جهة التأكيد فإنه سبحانه أخبر في أول الآية بصلاته عليه وصلاة ملائكته عليه مؤكدا لهذا الإخبار بحرف إن مخبرا عن الملائكة بصيغة الجمع المضاف إليه وهذا يفيد العموم والاستغراق فإذا استشعرت النفوس أن شأنه صلى الله عليه وسلم عند الله وعند ملائكته هذا الشأن بادرت إلى الصلاة عليه وإن لم تؤمر بها بل يكفي تنبيهها والإشارة إليها بأدنى إشارة فإذا أمرت بها لم تحتج إلى تأكيد الأمر بل إذا جاء مطلق الأمر بادرت وسارعت إلى موافقة الله وملائكته في الصلاة عله صلوات الله وسلامه عليه فلم يحتج إلى تأكيد الفعل بالمصدر ولما خلا السلام عن هذا المعنى وجاء في حيز الأمر المجرد دون الخبر حسن تأكيده بالمصدر ليدل على تحقيق المعنى وتثبيته ويقوم تأكيد الفعل مقام تكريره كما حصل التكرير في الصلاة خبرا وطلبا فكذلك حصل التكريم في السلام فعلا ومصدرا فتأمله فإنه بديع جدا والله أعلم وقد ذكرنا بعض ما في هذه الآية من الأسرار والحكم العجيبة في كتاب تعظيم شأن الصلاة والسلام على خير الأنام وأتينا فيه من الفوائد بما يساوي أدناها رحلة مما لا يوجد في غيره ولله الحمد فنقتصر على هذه النكتة الواحدة. فصل: وأما السؤال الخامس والعشرين: وهو ما الحكمة في تقديم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قبل عليه وهلا وقعت البداءة بما بدأ الله به في الآية

فهذا سؤال أيضا له شأن لا ينبغي الإضراب عنه صفحا وتمشية والنبي صلى الله عليه وسلم كان شديد التحري لتقديم ما قدمه الله والبداءة بما بدأ به فلهذا بدأ بالصفا في السعي وقال: "نبدأ بما بدأ الله به " صحيح وبدأ بالوجه ثم اليدين ثم الرأس في الوضوء ولم يخل بذلك مرة واحدة بل كان هذا وضوءه إلى أن فارق الدنيا ثم يقدم منه مؤخرا ولم يؤخر منه مقدما قط ولا يقدر أحد أن ينقل عنه خلاف ذلك لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف ومع هذا فوقع في الصلاة والسلام عليه تقديم السلام وتأخير الصلاة وذلك لسر من أسرار الصلاة نشير إليه بحسب الحال إشارة وهو أن الصلاة قد اشتملت على عبودية جميع الجوارح والأعضاء مع عبودية القلب فلكل عضو منها نصيب من العبودية فجميع أعضاء المصلي وجوارحه متحركة في الصلاة عبودية لله وذلا وخضوعا فلما أكمل المصلي هذه العبودية وانتهت حركاته ختمت بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوس تذلل وانكسار وخضوع لعظمته عز وجل كما يجلس العبد الذليل بين يدي سيده وكان جلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس وأعظمه خضوعا وتذللا فأذن للعبد في هذه الحال بالثناء على الله تبارك وتعالى بأبلغ أنواع الثناء وهو التحيات لله والصلوات والطيبات وعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم بما يليق بهم وتلك التحية تعظيم لهم وثناء عليهم والله أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد من خلقه فجمع العبد في قوله التحيات والصلوات والطيبات أنواع الثناء على الله وأخبر أن ذلك له وصفا وملكا وكذلك الصلوات كلها لله فهو الذي يصلي له وحده لا لغيره وكذلك الطيبات كلها من الكلمات والأفعال كلها له فكلماته طيبات وأفعاله كذلك وهو طيب لا يصعد إليه إلا طيب والكلم الطيب إليه يصعد فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه له ملكا ووصفا ومنه مجيئها وابتداؤها وإليه مصعدها ومنتهاها والصلاة مشتملة على عمل صالح وكلم طيب والكلم الطيب إليه يصعد والعمل الصالح يرفعه فناسب ذكر هذا عند انتهاء الصلاة وقت رفعها إلى الله تعالى سر السلام على النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بهذا الثناء على الرب

التفت إلى شأن الرسول الذي حصل هذا الخير على يديه فسلم عليه أتم سلام معرف باللام التي للاستغراق مقرونا بالرحمة والبركة هذا هو أصح شيء في السلام عليه فلا تبخل عليه بالألف واللام في هذا المقام ثم انتقل إلى السلام على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين وبدأ بنفسه لأنها أهم والإنسان يبدأ بنفسه ثم بمن يعول ثم ختم هذا المقام بعقد الإسلام وهو التشهد بشهادة الحق التي هي أول الأمر وآخره وعندها كل الثناء والتشهد ثم انتقل إلى نوع آخر وهو الدعاء والطلب فالتشهد يجمع نوعي الدعاء دعاء الثناء والخير ودعاء الطلب والمسألة والأول أشرف النوعين لأنه حق الرب ووصفه والثاني حظ العبد ومصلحته وفي الأثر من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ضعيف لكن لما كانت الصلاة أتم العبادات عبودية وأكملها شرع فيه النوعين وقدم الأول منهما لفضله ثم انتقل إلى النوع الثاني وهو دعاء الطلب والمسألة فبدأ بأهمه وأجله وأنفعه له وهو طلب الصلاة من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو من أجل أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته كما ذكرناه في كتاب تعظيم شأن الصلاة على النبي وفيه أيضا أن الداعي جعله مقدمة بين يدي حاجته وطلبه لنفسه وقد أشار إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله ثم لينتخب من الدعاء أعجبه إليه وكذلك في حديث فضالة بن عبيد إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع فتأمل كيف جاء التشهد من أوله إلى آخره مطابقا لهذا منتظما له أحسن انتظام فحديث فضالة هذا هو الذي كشف لنا المعنى وأوضحه وبينه فصلوات الله وسلامه على من أكمل به لنا دينه وأتم برسالته علينا نعمته وجعله رحمة للعالمين وحسرة على الكافرين.

فصل: وأما السؤال السادس والعشرون: وهو ما الحكمة في كون السلام وقع بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة فجوابه: يظهر مما تقدم فإن الصلاة عليه طلب وسؤال من الله أن يصلي عليه فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة إذ لا يقال اللهم صل عليك وأما السلام عليه فأتى بلفظ الحاضر المخاطب تنزيلا له منزلة المواجه لحكمة بديعة جدا وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما كان أحب إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه وأولى به منها وأقرب وكانت حقيقته الذهنية ومثاله العلمي موجودا في قلبه بحيث لا يغيب عنه إلا شخصه كما قال القائل: مثالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب ومن كان بهذه الحال فهو الحاضر حقا وغيره وإن كان حاضرا للعيان فهو غائب عن الجنان فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه أولى من سلام الغيبة تنزيلا له منزلة المواجه المعاين لقربه من القلب وحلوله في جميع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزء إلا ومحبته وذكره فيه كما قيل: لو شق عن قلبي يرى وسطه ذكرك والتوحيد في سطر لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا تستنكر استيلاء المحبوب على قلب المحب وغلبته عليه حتى كأنه يراه ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة مع غاية البعد العياني لكمال القرب الروحي فلم يمنعهم بعد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها ومن كثفت طباعه فهو عن هذا كله بمعزل وإنه ليبلغ الحب ببعض أهله أن يرى محبوبه في القرب إليه بمنزلة روحه التي لا شيء أدنى إليه منها كما قيل: يا مقيما مدى الزمان بقلبي ... وبعيدا عن ناظري وعياني أنت روحي إن كنت لست راها ... فهي أدنى إلي من كل داني

وقال آخر: يا ثاويا بين الجوانح والحشا ... مني وإن بعدت علي دياره وإنه ليلطف شأن المحبة حتى يرى أنه أدنى إليه وأقرب من روحه وهذه أبيات تلم بذلك: وأدنى إلى الصب من نفسه ... وإن كان عن عينه نائيا ومن كان مع حبه هكذا ... فأنى يكون له ساليا ثم يلطف شأنها ويقهر سلطانها حتى يغيب المحب بمحبوبه عن نفسه فلا يشعر إلا بمحبوبه ولا يشعر بنفسه ومن هنا نشأت الشطحات الصوفية التي مصدرها عن قوة الوارد وضعف التمييز فحكم صاحبها فيها الحال على العلم وجعل الحكم له وعزل علمه من البين وحكم المحفوظون فيها حاكم العلم على سلطان الحال وعلموا أن كل حال لا يكون العلم حاكما عليه فإنه لا ينبغي أن يغتر به ولا يسكن إليه إلا كما يساكن المغلوب المقهور لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه وهذه حال الكمل من القوم الذين جمعوا بين نور العلم وأحوال من المعاملة فلم تطفئ عواصف أحوالهم نور علمهم ولم يقصر بهم علمهم عن الترقي إلى ما وراءه من مقامات الإيمان والإحسان فهؤلاء حكام على الطائفتين ومن عداهم فمحجوب بعلم لا نفوذ له فيه أو مغرور بحال لا علم له بصحيحه من فاسده والله تعالى المسؤول من فضله إنه قريب مجيب فالكامل من يحكم العلم على الحال فيتصرف في حاله بعلمه ويجعل العلم بمنزلة النور الذي يميز به الصحيح من الفاسد لا من يقدح في العلم بالحال ويجعل الحال معيارا عليه وميزانا فما وافق حاله من العلم قبله وما خالفه رده ونفاه فهذا أصل الضلال في هذا الباب بل الواجب تحكيم العلم والرجوع إلى حكمه وبهذا أوصى العارفون من شيوخ الطريق كلهم وحرضوا على العلم أعظم تحريض لعلمهم بما في الحال المجرد عنه من الغوائل والمهالك: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

فصل: وأما السؤال السابع والعشرون: وهو ما الحكمة في ورود الثناء على الله في التشهد بلفظ الغيبة مع كونه سبحانه هو المخاطب الذي يناجيه العبد والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الخطاب مع كونه غائبا فجوابه أن الثناء على الله عامة ما يجيء مضافا إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير إلا أن يتقدم ذكر الاسم الظاهر فيجيء بعده المضمر وهذا نحو قول المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وقوله في الركوع: "سبحان ربي العظيم" وفي السجود "سبحان ربي الأعلى" وفي هذا من السر أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى هو لما تضمنت معانيها من صفات الكمال ونعوت الجلال فأتى بالاسم الظاهر الدال على المعنى الذي يثنى به ولأجله عليه تعالى ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك ولهذا إذا كان ولا بد من الثناء عليه بخطاب المواجهة أتى بالاسم الظاهر مقرونا بميم الجمع الدالة على جمع الأسماء والصفات نحو قوله في رفع رأسه من الركوع "اللهم ربنا لك الحمد" وربما اقتصر على ذكر الرب تعالى لدلالة لفظه على هذا المعنى فتأمله فإنه لطيف المنزع جدا وتأمل كيف صدر الدعاء المتضمن للثناء والطلب بلفظة "اللهم كما في سيد الاستغفار "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك" رواه البخاري والترمذي والنسائي الحديث وجاء الدعاء المجرد مصدرا بلفظ الرب نحو قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} وقول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} وقول موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وقول نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي رب اغفر لي" صحيح وسر ذلك أن الله تعالى يسأل بربوبيته

المتضمنة قدرته وإحسانه وتربيته عبده وإصلاح أمره ويثنى عليه بإلهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى وتدبر طريقة القرآن تجدها كما ذكرت لك فأما الدعاء فقد ذكرنا منه أمثلة وهو في القرآن حيث وقع لا يكاد يجيء إلا مصدرا باسم الرب وأما الثناء فحيث وقع فمصدر بالأسماء الحسنى وأعظم ما يصدر به اسم الله جل جلاله نحو: {الحمد لله} حيث جاء ونحو: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} وجاء: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} ونحوه {سبح لله ما في السموات وما في الأرض} حيث وقعت ونحو: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} ونظائره وجاء في دعاء المسيح: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} فذكر الأمرين ولم يجيء في القرآن سواه ولا رأيت أحدا تعرض لهذا ولا نبه عليه سر عجيب دال على كمال معرفة المسيح بربه وتعظيمه له فإن هذا السؤال كان عقيب سؤال قومه له: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} فخوفهم الله وأعلمهم أن هذا مما لا يليق أن يسأل عنه وأن الإيمان يرده فلما ألحوا في الطلب وخاف المسيح أن يداخلهم الشك إن لم يجابوا إلى ما سألوا بدأ في السؤال باسم {اللَّهُمَّ} الدال على الثناء على الله بجميع أسمائه وصفاته ففي ضمن ذلك تصوره بصورة المثني الحامد الذاكر لأسماء ربه المثني عليه بها وأن المقصود من هذا الدعاء وقضاء هذه الحاجة إنما هو أن يثني على الرب بذلك ويمجده به ويذكر آلاءه ويظهر شواهد قدرته وربوبيته ويكون برهانا على صدق رسوله فيحصل بذلك من زيادة الإيمان والثناء على الله أمر يحسن معه الطلب ويكون كالعذر فيه فأتى بالاسمين اسم الله الذي يثني عليه به واسم الرب الذي يدعي ويسأل به لما كان المقام مقام الأمرين فتأمل هذا السر العجيب ولا يثب عنه فهمك فإنه من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتابه وله الحمد وأما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الخطاب فقد ذكرنا سره في الوجه الذي قبل هذا فالعهد به قريب.

فصل: أما السؤال الثامن والعشرون: فقد يتضمن ذلك سؤالين أحدهما: ما السر في كون السلام في آخر الصلاة والثاني: لم كان معرفا والجواب: أما اختتام الصلاة به فقد جعل الله تعالى لكل عبادة تحليلا منها فالتحليل من الحج بالرمي وما بعده وكذلك التحليل من الصوم بالفطر بعد الغروب فجعل السلام تحليلا من الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " صحيح تحريمها هنا هو بابها الذي يدخل منه إليها وتحليلها بابها الذي يخرج به منها فجعل التكبير باب الدخول والتسليم باب الخروج لحكمة بديعة بالغة يفهمها من عقل عن الله وألزم نفسه بتأمل محاسن هذا الدين العظيم وسافر فكره في استخراج حكمه وأسراره وبدائعه وتغرب عن عالم العادة والألف فلم يقنع بمجرد الأشباح حتى يعلم ما يقوم به من الأرواح فإن الله تعالى لم يشرع شيئا سدى ولا خلوا من حكمة بالغة بل في طوايا ما شرعه وأمر به من الحكم والأسرار التي تبهر العقول ما يستدل به الناظر فيه على وراءه فيسجد القلب خضوعا وإذعانا فنقول وبالله التوفيق لما كان المصلي قد تخلى عن الشواغل وقطع جميع العلائق وتطهر وأخذ زينته وتهيأ للدخول على الله تعالى ومناجاته شرع له أن يدخل عليه دخول العبيد على الملوك فيدخل بالتعظيم والإجلال فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى وهو قول الله أكبر فإن في اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور بمن ما لا يوجد في غيره ولهذا كان الصواب أن غير هذا اللفظ لا يقوم مقامه ولا يؤدي معناه ولا

تنعقد الصلاة إلا به كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث فجعل هذا اللفظ واستشعار معناه والمقصود باب الصلاة الذي يدخل العبد على ربه منه فإنه إذا استشعر بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره فلا يكون موفيا لمعنى الله أكبر ولا مؤديا لحق هذا اللفظ ولا أتى البيت من بابه بل الباب عنه مسدود وهذا بإجماع السلف أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضره بقلبه وما أحسن ما قال أبو الفرج بن الجوزي في بعض وعظه: حضور القلب أول منزل من منازل الصلاة فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة فكان أول قرى الضيف اليقظة وكشف الحجاب لعين القلب فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية وقد تبعث قلبك في كل واد فربما تفجأك الصلاة وليس قلبك عندك فتبعث الرسول وراءه فلا يصادفه فتدخل في الصلاة بغير قلب والمقصود أنه قبيح بالعبد أن يقول بلسانه الله أكبر وقد امتلأ قلبه بغير الله فهو قبلة قلبه في الصلاة ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها فلو قضى حق الله أكبر وأتى البيت من بابه لدخل وانصرف بأنواع التحف والخيرات فهذا الباب الذي يدخل منه المصلى وهو التحريم وأما الباب الذي يخرج منه فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماءا الحسنى فيكون مفتتحا لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتما لها باسمه فيكون ذاكرا لاسم ربه أول الصلاة وآخرها فأولها باسمه وآخرها باسمه فدخل فيها باسمه وخرج منها باسمه مع ما في اسم السلام من الخاصية والحكمة المناسبة لانصراف المصلي من بين يدي الله تعالى فإن المصلي ما دام في صلاته بين يدي ربه فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره بل هو في حمى من جميع الآفات والشرور فإذا انصرف من بين يديه تبارك وتعالى ابتدرته الآفات والبلايا والمحن وتعرضت له من كل جانب وجاءه الشيطان بمصائده وجنده فهو متعرض

لأنواع البلايا والمحن فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوبا بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى وكان من تمام النعمة عليه أن يكون انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه فتدبر هذا السر الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره لكان كافيا فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجد عند أبناء الزمان والحمد في ذلك لله وحده فكما أن المنعم به هو الله وحده فالمحمود عليه هو الله وحده وقد عرف بهذا جواب السؤال الثاني وهو مجيء السلام هنا معرفا ليكون دالا على اسمه السلام وليكن هذا آخر الكلام في مسألة سلام عليكم فلولا قصد الاختصار لجاءت مجلدا ضخما هذا ولم تتعرض فيها إلى المسائل المسطورة في الكتب من فروع السلام ومسائله فإنها مملوءة منها فمن أرادها فليأخذها من هناك والحمد لله رب العالمين.

تفسير المعوذتين: روى مسلم في صحيحه من حديث بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون قلت بلى: قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} " وفي الترمذي حدثنا قتيبة بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة " إسناده فيه ضعف وهو صحيح لغيره قال: هذا حديث غريب وفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود عن عبد الله بن حبيب قال:" خرجنا في ليلة مطر وظلمة نطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه فقال: قل فلم أقل شيئا ثم قال: قل فلم أقل شيئا ثم قال: قل قلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء" صحيح قال الترمذي: حديث حسن صحيح وفي الترمذي أيضا من حديث الجريري عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما " حسن قال: وفي الباب عن أنس وهذا حديث غريب نفث النبي بالمعوذتين وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا

آوى إلى فراشه نفث في كفيه ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين جميعا ثم يسمح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به" رواه البخاري ومسلم وأبو داود قلت: هكذا رواه يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة ذكره البخاري ورواه مالك عن الزهري عن عروة عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها " رواه البخاري ومسلم كذلك قال معمر عن الزهري عن عروة عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيده نفسه لبركتها " فسألت ابن شهاب كيف كان ينفث قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه" رواه البخاري ذكره البخاري أيضا وهذا هو الصواب أن عائشة كانت تفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه فلا ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها على رقيته أن يكون مسترقيا فليس أحدهما بمعنى الآخر ولعل الذي كان يأمرها به إنما هو المسح على نفسه بيده فيكون هو الراقي لنفسه ويده لما ضعفت عن التنقل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه ويكون هذا غير قراءتها هي عليه ومسحها على يديه فكانت تفعل هذا وهذا والذي أمرها به إنما هو تنقل يده لا رقيته والله أعلم والمقصود الكلام على هاتين السورتين وبيان عظيم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما وأنه لا يستغني عنهما أحد قط وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين وسائر الشرور وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس فنقول والله المستعان قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول وهي أصول الاستعاذة أحدها:

نفس الاستعاذة والثانية: المستعاذ به والثالثة: المستعاذ منه فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين فلنعقد لهما ثلاثة فصول الفصل الأول: في الاستعاذة والثاني: في المستعاذ به والثالث: في المستعاذ منه. الفصل الأول: اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والنجاة وحقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا كما يسمى ملجأ ووزرا وفي الحديث: "أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها قالت: أعوذ بالله منك فقال لها: قد عذت بمعاذ الحقي بأهلك" رواه البخاري فمعنى أعوذ ألتجئ وأعتصم وأتحرز وفي أصله قولان أحدهما: أنه مأخوذ من الستر والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة فأما من قال: إنه من الستر قال: العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها عوذ بضم العين وتشديد الواو وفتحها فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظلها سموه عوذا فكذلك العائد قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجن به منه ومن قال: هو لزوم المجاورة قال العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص منه عوذ لأنه اعتصم به واستمسك به فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به واعتصم به ولزمه والقولان حق والاستعاذة تنتظمهما معا فإن المستعيذ مستتر بمعاذه متمسك به معتصم به قد استمسك قلبه به ولزمه كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا وقصده به فهرب منه فعرض له أبوه في طريق هربه فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه وفر إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه وبعد فمعنى الاستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من

الالتجاء والاعتصام والإنطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة ونظير هذا التعبير عن معنى محبته وخشيته وإجلاله ومهابته فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك ولا تدرك إلا بالاتصاف بذلك لا بمجرد الصفة والخبر كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنين لم تخلق له شهوة أصلا فلو قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه فإذا وصفتها لمن خلقت فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق وأصل هذا الفعل أعوذ بتسكين العين وضم الواو ثم أعل بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو فقالوا أعوذ على أصل هذا الباب ثم طردوا إعلاله فقالوا في اسم الفاعل عائذ وأصله عاوذ فوقعت الواو بعد ألف فاعل فقلبوها همزة كما قالوا قائم وخائف وقالوا في المصدر عياذا بالله وأصله عواذا كلواذ فقلبوا الواو ياء لكسرة ما قبلها ولم تحصنها حركتها لأنها قد ضعفت بإعلالها في الفعل وقالوا مستعيذ وأصله مستعوذ كمستخرج فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها ثم قلبت الواو قبلها كسرة فقلبت ياء على أصل الباب فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل كقوله فاستعذ بالله ولم تدخل في الماضي والمضارع بل الأكثر أن يقال أعوذ بالله وعذت بالله دون أستعيذ واستعذت قلت: السين والتاء دالة على الطلب فقوله: أستعيذ بالله أي أطلب العياذ به كما إذا قلت أستخير الله أي أطلب خيرته وأستغفره أي أطلب مغفرته وأستقيله أي أطلب إقالته فدخلت في الفعل إيذانا لطلب هذا المعنى من المعاذ فإذا قال المأمور: أعوذ بالله فقد امتثل ما طلب منه لأنه طلب منه الالتجاء والاعتصام وفرق بين نفس الالتجاء والاعتصام وبين طلب ذلك فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما بالله أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله وهذا بخلاف ما إذا قيل: أستغفر الله فقال: أستغفر الله فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله فإذا قال أستغفر الله كان ممتثلا لأن المعنى أطلب من الله تعالى أن يغفر لي وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين فيقول

أستعيذ بالله تعالى أي أطلب منه أن يعيذني ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام والالتجاء والهرب إليه فالأول: يخبر عن حاله وعياذه بربه وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه كأنه يقول أطلب منك أن تعيذني فحال الأول أكمل مجيء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في امتثال هذا الأمر: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأعوذ بكلمات الله التامات وأعوذ بعزة الله وقدرته " دون أستعيذ بل الذي علمه الله إياه أن يقول {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} دون أستعيذ فتأمل هذه الحكمة البديعة فإن قلت فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ومعلوم أنه إذا قيل: قل الحمد لله وقل سبحان الله فإن امتثاله أن يقول الحمد لله وسبحان الله ولا يقول قل سبحان الله قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أبي بن كعب على النبي صلى الله عليه وسلم بعينه وأجابه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال البخاري في صحيحه حدثنا قتيبة ثنا سفيان عن عاصم وعبده عن زر قال: "سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قيل لي فقلت فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري ثم قال حدثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان ثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش وحدثنا عاصم عن زر قال: "سألت أبي بن كعب قلت أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا فقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قيل لي فقلت قل فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: مفعول القول محذوف وتقديره قيل لي قل أو قيل لي هذا اللفظ فقلت كما قيل لي وتحت هذا السر أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له في القرآن إلا بلاغة لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه بل هو المبلغ له عن الله وقد قال الله له: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فكان يقتضي البلاغ التام أن يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} كما قال الله وهذا هو المعنى الذي أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه

بقوله: "قيل لي فقلت" أي إني لست مبتدئا بل أنا مبلغ أقول كما يقال لي وأبلغ كلام ربي كما أنزله إلي فصلوات الله وسلامه عليه لقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وقال كما قيل له فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول هذا القرآن العربي وهذا النظم كلامه ابتدأ هو به ففي هذا الحديث أبين الرد لهذا القول وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه حتى أنه لما قيل له قل لأنه مبلغ محض وما على الرسول إلا البلاغ. الفصل الثاني: المستعاذ به وهو الله وحده رب الفلق ورب الناس ملك الناس إله الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به ولا يستعاذ بأحد من خلقه بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره وقد أخبر الله تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا فقال حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} جاء في التفسير أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقا أي طغيانا وإثما وشرا يقولون سدنا الإنس والجن والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانا لما كان محظورا من الكبر والتعاظم فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بقوله: "أعوذ بكلمات الله التامات " رواه مسلم وهو لا يستعيذ بمخلوق أبدا ونظير ذلك قوله: " أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك" رواه مسلم فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته

وأنه غير مخلوق وكذلك قوله: "أعوذ بعزة الله وقدرته" أخرجه مسلم وقوله: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات" إسناده قابل للتحسين وما استعاذ به النبي صلى الله عليه وسلم غير مخلوق فإنه لا يستعيذ إلا بالله أو صفة من صفاته وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب والملك والإله وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس ولا بد من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة ويقتضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه باسم ويقتضيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين أنه ما تعوذ المتعوذون بمثلها فلا بد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيا للمطلوب وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث وهو الشيء المستعاذ منه فتتبين المناسبة المذكورة فنقول. الفصل الثالث: في أنواع الشرور المستعاذ منها: في هاتين السورتين الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين: إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها وهو أعظم الشرين وأدومهما وأشدهما اتصالا بصاحبه وإما: شر واقع به من غيره وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف والمكلف إما نظيره وهو الإنسان أو ليس نظيره وهو الجني وغير المكلف مثل الهوام وذوات الحمى وغيرها فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه وأدله على المراد وأعمه استعاذة بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه

فيهما فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة أحدها: شر المخلوقات التي لها شر عموما الثاني: شر الغاسق إذا وقب الثالث: شر النفاثات في العقد الرابع: شر الحاسد إذا حسد فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد والتحرز منها قبل وقوعها وبماذا تدفع بعد وقوعها وقبل الكلام في ذلك لا بد من بيان الشر ما هو وما حقيقته فنقول الشر يقال على شيئين: على الألم وعلى ما يفضي إليه وليس له مسمى سوى ذلك فالشرور هي الآلام وأسبابها فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور وإن كان لصاحبها فيا نوع غرض ولذة لكنها شرور لأنها أسباب الآلام ومفضية إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة وعلى الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل وغير ذلك من الأسباب التي تصيبه مفضية إلى مسبباتها ولا بد ما لم يمنع السببية مانع أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان وعظمة الحسنات الماحية وكثرتها فيزيد في كميتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفع الأقوى للأضعف وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة كأسباب الصحة والمرض وأسباب الضعف والقوة والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لذة ما هي شر وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم إذا تناوله الآكل لذا لآكله وطاب له مساغه وبعد قليل يفعل به ما يفعل فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب

ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب كما قيل: إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له والمقصود أن هذه الأسباب شرور ولا بد وأما كون مسبباتها شرورا فلأنها آلام نفسية وبدنية فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والحسرات ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرا كان مفعولا فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم والإشراف والإطلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} و {حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} مدار المستعاذات على الآلام وأسبابها ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها كانت استعاذات النبي صلى الله عليه وسلم جميعها مدارها على هذين الأصلين فكل ما استعاذ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما مؤلم وإما سبب يفضي إليه فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع وأمر بالاستعاذة منهن وهي: "عذاب القبر وعذاب النار فهذان أعظم المؤلمات وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال " رواه البخاري ومسلم والنسائي وهذان سبب العذاب المؤلم فالفتنة سبب العذاب وذكر الفتنة خصوصا وعموما وذكر نوعي الفتنة لأنها إما في الحياة وإما بعد الموت ففتنة الحياة قد يتراخى عنها العذاب مدة وأما فتنة الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ فعادت الاستعاذة إلى الألم والعذاب وأسبابها وهذا من آكد أدعية الصلاة

حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يدع به في التشهد الأخير وأوجبه ابن حزم في كل تشهد فإن لم يأت به بطلت صلاته استعاذة النبي من ثمانية أشياء ومن ذلك قوله: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال" رواه البخاري ومسلم والنسائي فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان فالهم والحزن قرينان وهما من آلام الروح ومعذباتها والفرق بينهما أن الهم توقع الشر في المستقبل والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي أو فوات المحبوب وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح فإن تعلق بالماضي سمي حزنا وإن تعلق بالمستقبل سمي هما والعجز والكسل قرينان وهما من أسباب الألم لأنهما يستلزمان فوات المحبوب فالعجز يستلزم عدم القدرة والكسل يستلزم عدم إرادته فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به والتذاذها بإدراكه لو حصل والجبن والبخل قرينان لأنهما عدم النفع بالمال والبدن وهما من أسباب الألم لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تنال إلا بالبذل والشجاعة والبخل يحول بينه دونها أيضا فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام وضلع الدين وقهر الرجال قرينان وهما مؤلمان للنفس معذبان لها أحدهما قهر بحق وهو ضلع الدين والثاني قهر بباطل وهو غلبة الرجال وأيضا فضلع الدين قهر بسبب من العبد في الغالب وغلبة الرجال قهر بغير اختياره ومن ذلك تعوذه "من المأثم والمغرم " رواه البخاري فإنهما يسببان الألم العاجل ومن ذلك قوله: "أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك" رواه مسلم فالسخط سبب الألم والعقوبة هي الألم فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها فصل: والشر المستعاذ منه نوعان: أحدهما موجود يطلب رفعه والثاني: معدوم يطلب

بقاؤه على العدم وأن لا يوجد كما أن الخير المطلق نوعان أحدهما: موجود فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه والثاني: معدوم فيطلب وجوده وحصوله مطالب العباد أربعة فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين وعليها مدار طلباتهم وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} فهذا الطلب لدفع الشر الموجود فإن الذنوب والسيئات شر كما تقدم بيانه ثم قال: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} فهذا طلب لدوام الخير الموجود وهو الإيمان حتى يتوفاهم عليه فهذان قسمان ثم قال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه ثم قال: {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم وهو خزي يوم القيامة فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسن انتظام مرتبة أحسن ترتيب قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا وهما المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت ثم اتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله وأن لا يخزيهم يوم القيامة فإذا عرف هذا فقوله صلى الله عليه وسلم في تشهد الخطبة "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا" صحيح يتناول الاستعاذة من شر النفس الذي هو معدوم لكنه فيها بالقوة فيسأل دفعه وأن لا يوجد وأما قوله من سيئات أعمالنا ففيه قولان أحدهما أنه استعاذة من الأعمال السيئة التي قد وجدت فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشر المعدوم الذي لم يوجد ومن الشر الموجود فطلب دفع الأول ورفع الثاني والقول الثاني أن سيئات الأعمال هي عقوباتها وموجباتها السيئة التي تسوء صاحبها وعلى هذا يكون من استعاذة الدفع أيضا دفع المسبب والأول دفع السبب فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه وعلى الأول يكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه فإن الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها وعلى الثاني يكون من باب إضافة المسبب إلى

سببه والمعلول إلى علته كأنه قال من عقوبة عملي والقولان محتملان فتأمل أيهما أليق بالحديث وأولى به فإن مع كل واحد منهما نوعا من الترجيح فيترجح الأول: بأن منشأ الأعمال السيئة من شر النفس فشر النفس يولد الأعمال السيئة فاستعاذ من صفة النفس ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة وهذان جماع الشر وأسباب كل ألم فمتى عوفي منها عوفي من الشر بحذافيره ويترجح الثاني: بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل وأسبابها شر النفس فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها والقولان في الحقيقة متلازمان والاستعاذة من أحدهما تستلزم الاستعاذة من الآخر. فصل: ولما كان الشر له سبب هو مصدره وله مورد ومنتهى وكان السبب إما من ذات العبد وإما من خارجه ومورده ومنتهاه إما نفسه وإما غيره كان هنا أربعة أمور شر مصدره من نفسه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى وشر مصدره من غيره وهو السبب فيه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصديق أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه "اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم" صحيح فذكر مصدري الشر وهما: النفس والشيطان وذكر مورده ونهايتيه وهما: عوده على النفس أو على أخيه المسلم فجمع الحديث مصادر الشر وموارده في أوجز لفظه وأخصره وأجمعه وأبينه.

فصل: فإذا عرفت هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين الشر الأول العام في قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وما هاهنا موصولة ليس إلا والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه فإنه لا شر فيه بوجه ما فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته ولا في أفعاله كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلا ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلها حسنى ولعاد إليه منه حكم تعالى وتقدس عن ذلك وما يفعله من العدل بعباده وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض إذ هو محض العدل والحكمة وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم فالشر وقع في تعلقه بهم وقيامه بهم لا في فعله القائم به تعالى ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة فإنه خالق الخير والشر ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على باب أحدهما أن ما هو شر أو متضمن للشر فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا لا يكون وصفا له ولا فعلا من أفعاله الثاني: أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه فله وجهان هو من أحدهما: خير وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها فضلا عن حقيقتها فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد وفاعل الشر لا يفعله لحاجته المنافية لغناه أو لنقصه وعيبه

المنافي لحمده فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلا وإن كان هو الخالق للخير والشر فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه فلا تغفل عن هذا الموضع فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته ويزيل عنك شبهات حارث فيها عقول أكثر الفضلاء وقد بسطت هذا في كتاب التحفة المكية وكتاب الفتح القدسي وغيرهما الشر في أفعاله تعالى أمر نسبي وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة أحدها أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرا وحكما لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم وجلد من يصول عليهم في أعراضهم فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض وحكمة وعدل وإحسان إلى العبيد وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل فلا تناقض حكمته رحمته بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته ولا يلتفت

إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلا وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلا بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزه نفسه عنه فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلهيته "لا إله هو تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا" وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان وكذلك وضع الإحسان والإكرام في موضع العقوبة والانتقام كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق ولظهرت مناقضة الحكمة كما قال الشاعر: نعمة الله لا تعاب ولكن ... ربما استقبحت على أقوام فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله الساعين في خلاف مرضاته الذين يرضون إذا غضب ويغضبون إذا رضي ويعطلون ما حكم

به ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره والحكم لغيره والطاعة لغيره فهم مضادون في كل ما يريد يحبون ما يبغضه ويدعون إليه ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله كما قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره بإخبارنا أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا فأبى ذلك فطرده ولعنه وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا ثم أنتم توالونه من دوني وقد لعنته وطردته إذ لم يسجد لأبيكم وجعلته عدوا لكم ولأبيكم فواليتموه وتركتموني فليس هذا من أعظم الغبن وأشد الحسرة عليكم ويوم القيامة يقول تعالى أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا فليعلمن أولياء الشيطان كيف حالهم يوم القيامة إذا ذهبوا مع أوليائهم وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلى لهم ويقول ألا تذهبون حيث ذهب الناس فيقولون فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده فيقول هي بينكم وبينه علامة تعرفونه بها فيقولون نعم إنه لا مثل له فيتجلى لهم ويكشف عن ساق فيخرون له سجدا فيا قرة عيون أوليائه بتلك الموالاة ويا فرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم وبقوا مع مولاهم الحق فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ولا تستطل هذا البساط فما أحوج القلوب إلى معرفته وتعقله ونزولها منه منازلها فيا للدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة الذين أنعم الله تعالى عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

فصل: إذا عرفت هذا عرف معنى قوله في الحديث الصحيح "لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك" صحيح وإن معناه أجل وأعظم من قول من قال والشر لا يتقرب به إليك وقول من قال والشر لا يصعد إليك وأن هذا الذي قالوه وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه والتقرب به إليه فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما لا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه وإن دخل في مخلوقاته كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به كقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره وإنما المقصود التمثيل وتارة بحذف فاعله كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرحوا بمريد الرشد ونظيره في الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه والضلال منسوبا إلى من قام به والغضب محذوفا فاعله ومثله قول الخضر في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} وفي الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ} ومثله قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فنسب هذا التزيين المحبوب إليه وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} فحذف الفاعل المزين ومثله قول الخليل صلى الله عليه وسلم: {الَّذِي خَلَقَنِي

فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة وهذا كثير في القرآن الكريم ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب الفوائد المكية وبينا هناك السر في مجيء: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} : {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} والفرق بين الموضعين وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما وذلك من أسرار القرآن الكريم ومثله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} وبالجملة فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة وعدل والشر ليس إليه. فصل: وقد دخل في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره إنسيا كان أو جنيا أو هامة أو دابة أو ريحا أو صاعقة أي نوع كان من أنواع البلاء فإن قلت: فهل في ما هاهنا عموم قلت فيها عموم تقييدي وصفي لا عموم إطلاقي والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر فعمومها من هذا الوجه وليس المراد الاستعاذة من شر كل ما خلقه الله تعالى فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر وكذلك الملائكة والأنبياء فإنهم خير محض والخير كله حصل على أيديهم فالاستعاذة من: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} تعم شر كل مخلوق فيه شر وكل شر في الدنيا والآخرة وشر شياطين الإنس والجن وشر السباع والهوام وشر النار والهواء وغير ذلك وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات

من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل منه" رواه مسلم روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد" حسن على الراجح وفي الحديث الآخر: "أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرا وبرا ومن شر ما نزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن " صحيح. فصل: الشر الثاني: شر الغاسق إذا وقب فهذا خاص بعد عام وقد قال أكثر المفسرين أنه الليل قال عبد الله بن عباس الليل إذا أقبل بظلمته من الشرق ودخل في كل شيء وأظلم والغسق الظلمة يقال غسق الليل وأغسق إذا أظلم ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وكذلك قال الحسن ومجاهد: "الغاسق إذا وقب الليل إذا أقبل ودخل والوقوب الدخول وهو دخول الليل بغروب الشمس" وقال مقاتل: "يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار" وفي تسمية الليل غاسقا قول آخر إنه من البرد والليل أبرد من النهار والغسق البرد وعليه حمل عبد الله بن عباس قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً إِلاّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} قال: هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها وكذلك قال مجاهد ومقاتل هو الذي انتهى برده ولا تنافي بين القولين فإن الليل بارد مظلم فمن ذكر برده فقط أو ظلمته فقط اقتصر على أحد وصفيه والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالاستعاذة من البرد الذي

في الليل ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور من شر الغاسق الذي هو الظلمة فناسب الوصف المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة كما سنزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله فإن قيل: فما تقولون فيما رواه الترمذي من حديث ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عائشة قالت: "أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي فنظر إلى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب " صحيح قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وهذا أولى من كل تفسير فيتعين المصير إليه قيل: هذا التفسير حق ولا يناقض التفسير الأول بل يوافقه ويشهد بصحته فإن الله تعالى قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} فالقمر هو آية الليل وسلطانه فهو أيضا غاسق إذا وقب كما غاسق إذا وقب والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب وهذا خبر صدق وهو أصدق الخبر ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم له بالذكر لا ينفي شمول الاسم لغيره ونظير هذا قوله في المسجد الذي أسس على التقوى وقد سئل عنه فقال: "هو مسجدي هذا" رواه مسلم والنسائي والترمذي ومعلوم أن هذا لا ينفي كون مسجد قبا مؤسسا على التقوى مثل ذاك ونظيره أيضا قوله في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين "اللهم هؤلاء أهل بيتي" رواه مسلم فإن هذا لا ينفي دخول غيرهم من أهل بيته في لفظ أهل البيت ولكن هؤلاء أحق من دخل في لفظ أهل بيته ونظير هذا قوله ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يفطن له فيتصدق عليه رواه البخاري ومسلم وهذا لا ينفي اسم المسكنة عن الطواف بل ينفي اختصاص الاسم به وتناول المسكين لغير السائل أولى من تناوله له ونظير هذا قوله: "ليس الشديد بالصرعة ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب " رواه البخاري ومسلم فإنه لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرع الرجال ولكن يقتضي أن ثبوته للذي يملك نفسه عند الغضب

أولى ونظيره الغسق والوقوب وأمثال ذلك فكذلك قوله في القمر هذا هو الغاسق إذا وقب لا ينفي أن يكون الليل غاسقا بل كلاهما غاسق فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم أن المراد به القمر إذا خسف واسود وقوله: وقب أي دخل في الخسوف أو غاب خاسفا قيل: هذا القول ضعيف ولا نعلم به سلفا والنبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى القمر وقال: هذا الغاسق إذا وقب لم يكن خاسفا إذ ذاك وإنما كان وهو مستنير ولو كان خاسفا لذكرته عائشة وإنما قالت: نظر إلى القمر وقال: هذا هو الغاسق ولو كان خاسفا لم يصح أن يحذف ذلك الوصف منه فإن ما أطلق عليه اسم الغاسق باعتبار صفة لا يجوز أن يطلق عليه بدونها لما فيه من التلبيس وأيضا فإن اللغة لا تساعد على هذا فلا نعلم أحدا قال الغاسق القمر في حال خسوفه وأيضا فإن الوقوب لا يقول أحد من أهل اللغة أنه الخسوف وإنما هو الدخول من قولهم وقيت العين إذا غارت ومنه الوقب للثقب الذي يدخل فيه المحور وتقول العرب وقب يقب وقوبا إذا دخل فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم أن الغاسق هو الثريا إذا سقطت فإن الأسقام تكثر عند سقوطها وغروبها وترتفع عند طلوعها قيل إن أراد صاحب هذا القول اختصاص الغاسق بالنجم إذا غرب فباطل وإن أراد أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجه ما فهذا يحتمل أن يدل اللفظ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه وأما أن يختص اللفظ به فباطل فصل: والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب هو أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة وفيه تنتشر الشياطين وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين ولهذا

قال: " فاكتفوا صبيانكم واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء " رواه البخاري ومسلم وفي حديث آخر "فإن الله يبث من خلقه ما يشاء" والليل هو محل الظلام وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار فإن النهار نور والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة وعلى أهل الظلمة وروي أن سائلا سأل مسيلمة كيف يأتيك الذي يأتيك فقال في ظلماء حندس " وسأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك فقال: "في مثل ضوء النهار " فاستدل بهذا على نبوته وإن الذي يأتيه ملك من عند الله وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار فالسحر الليلي عندهم هو السحر القوي التأثير ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم والشياطين تجول فيها وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع وهو فيه أثبت وأمكن. فصل: ومن هاهنا تعلم السر في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع فإن الفلق الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور وهو الذي يطرد جيش الظلام وعسكر المفسدين في الليل فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص وكل قاطع طريق إلى سرب أو كن أو غار وتأوي الهوام إلى أحجرتها والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها فأمر الله تعالى عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها ويقهر عسكرها وجيشها ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور ويدع الكفار في ظلمات كفرهم قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وقال في أعمار الكفار: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي

بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فالإيمان كله نور ومآله إلى نور ومستقره في القلب المضيء المستنير والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة والكفر والشرك كله ظلمة ومآله إلى الظلمات ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة فتأمل الاستعاذة برب الفلق من شر الظلمة ومن شر ما يحدث فيها ونزول هذا المعنى على الواقع يشهد بأن القرآن بل هاتان السورتان من أعظم أعلام النبوة وبراهين صدق رسالة محمد ومضادة لما جاء به الشياطين من كل وجه وإن ما جاء به ما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون فما فعلوه ولا يليق بهم ولا يتأتى منهم ولا يقدرون عليه وفي هذا أبين جواب وأشفاه لما يورده أعداء الرسول عليه من الأسئلة الباطلة التي قصر المتكلمون غاية التقصير في دفعها وما شفوا في جوابها وإنما الله سبحانه هو الذي شفى وكفى في جوابها فلم يحوجنا إلى متكلم ولا إلى أصولي ولا أنظار فله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه. فصل: واعلم أن الخلق كله فلق وذلك أن فلقا فعل بمعنى مفعول كقبض وسلب وقنص بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص والله عز وجل فالق الإصباح وفالق الحب والنوى وفالق الأرض عن النبات والجبال عن العيون والسحاب عن المطر والأرحام عن الأجنة والظلام عن الإصباح ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة فلقا وفرقا يقال هو

أبيض من فرق الصبح وفلقه وكما أن في خلقه فلقا وفرقا فكذلك أمره كله فرقان يفرق بين الحق والباطل فيفرق ظلام الباطل بالحق كما يفرق ظلام الليل بالإصباح ولهذا سمى كتابه الفرقان ونصره فرقانا لتضمنه الفرق بين أوليائه وأعدائه ومنه فلقة البحر لموسى وسماه فلقا فظهرت حكمة الاستعاذة برب الفلق في هذه المواضع وظهر بهذا إعجاز القرآن وعظمته وجلالته وأن العباد لا يقدرون قدره {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . فصل: الشر الثالث: {شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وهذا الشر هو شر السحر فإن النفاثات في العقد هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر والنفث هو النفخ مع ريق وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما والنفث فعل الساحر فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري لا الأمر الشرعي فإن قيل: فالسحر يكون من الذكور والإناث فلم خص الاستعاذة من الإناث دون الذكور قيل في جوابه: إن هذا خرج على السبب الواقع وهو أن بنات لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم هذا جواب أبي عبيدة وغيره وليس هذا بسديد فإن الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم هو لبيد بن الأعصم كما جاء في الصحيح والجواب المحقق إن النفاثات هنا هن الأرواح والأنفس النفاثات لا النساء النفاثات لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة وسلطانه إنما يظهر منها فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث دون

التذكير والله أعلم ففي الصحيح عن هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم طب حتى إنه ليخيل إليه أنه صنع شيئا وما صنعه وأنها دعا ربه ثم قال أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول الله قال جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال الآخر مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الأعصم قال له فبماذا قال في مشط ومشاطه وجف طلع ذكر قال فأين هو قال في ذروان بئر في بني زريق قالت عائشة رضي الله عنها: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رءوس الشياطين قال فقلت له: يا رسول الله هلا أخرجته قال أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمر بها فدفنت" رواه البخاري ومسلم قال البخاري وقال الليث وسفيان بن عيينة عن هشام في مشط ومشافة ويقال أن المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط والمشاقة من مشاقة الكتان قلت: هكذا في هذه الرواية إنه لم يخرجه اكتفاء بمعافاة الله له وشفائه إياه وقد روى البخاري من حديث سفيان بن عيينة قال أول من حدثنا به ابن جريج يقول حدثني آل عروة عن عروة فسألت هشام عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا فقال يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر ما بال الرجل قال مطبوب قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقا قال وفيم قال في مشط ومشاطة قال وأين قال في جف طلع ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان قال فأتى البئر حتى استخرجه فقال هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رءوس الشياطين قال فاستخرج أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا" رواه البخاري ففي هذا الحديث أنه استخرجه وترجم البخاري عليه باب هل يستخرج

السحر وقال قتادة قلت لسعيد بن المسيب: "رجل به طب ويؤخذ عن امرأته أيحل عنه وينشر قال: لا بأس به" إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه فهذان الحديثان قد يظن في الظاهر تعارضهما فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه الأول فيه أنه لم يستخرجه وحديث ابن جريج عن هشام فيه أنه استخرجه ولا تنافي بينهما فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه ثم دفنه بعد أن شفي وقول عائشة رضي الله عنها هلا استخرجته أي هلا أخرجته للناس حتى يروه ويعاينوه فأخبرها بالمانع له من ذلك وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك فيقع الإنكار ويغضب للساحر قومه فيحدث الشر وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة فأمر بها فدفنت ولم يستخرجها للناس فالاستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة والذي يدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه ولم يجيء إليه لينظر إليها ثم ينصرف إذ لا غرض له في ذلك والله أعلم وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث متلقى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته وقد اعتاض على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الإنكار وقابلوه بالتكذيب وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال غلط واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء قال لأن النبي لا يجوز أن يسحر فإنه يكون تصديقا لقول الكفار: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً} قالوا وهذا كما قال فرعون لموسى: {إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} وقال قوم صالح له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} وقال قوم شعيب له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} قالوا فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا فإن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه فما للمتكلمين وما لهذا الشأن وقد رواه غير هشام عن عائشة وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن

والحديث والتاريخ والفقهاء وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حباب عن زيد ابن الأرقم قال: "سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما قال فأتاه جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لذلك عقدا فأرسل رسول الله عليا فاستخرجها فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله كأنما أنشط من عقال فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه قط" رواه ابن أبي شيبة وقال ابن عباس وعائشة: "كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنت إليه اليهود فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها وتولى" ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت هاتان السورتان فيه قال البغوي: "وقيل كانت مغروزة بالدبر فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين وهما أحد عشرة آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات فكلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها فقام النبي كأنما أنشط من عقال قال وروى أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاثة أيام فنزلت المعوذتان قالوا: والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما فإن المرض يجوز على الأنبياء وكذلك الإغماء فقد أغمي عليه في مرضه ووقع حين انفكت قدمه وجحش شقه" رواه البخاري ومسلم وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ونيل كرامته وأشد الناس بلاء الأنبياء فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس فليس ببدع أن يبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلى بالذي رماه فشجه وابتلى بالذي ألقى على ظهره السلا وهو ساجد وغير ذلك فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله قالوا وقد ثبت في الصحيح

عن أبي سعيد الخدري: "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتكيت فقال: نعم فقال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك" فعوذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد لما اشتكى فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشكايته صلى الله عليه وسلم وإلا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره قالوا وأما الآيات التي استدللتم بها لا حجة لكم فيها أما قوله تعالي عن الكفار أنهم قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُوراً} وقوله قوم صالح له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} فقيل: المراد به من له سحر وهي الرئة أي أنه بشر مثلهم يأكل ويشرب ليس بملك ليس المراد به السحر وهذا جواب غير مرض وهو في غاية البعد فإن الكفار لك يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور ولا يعرف هذا في لغة من اللغات وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ البشر فقالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا أنؤمن لبشر مثلنا أبعث الله بشرا رسولا وأما المسحور فلم يريدوا به ذا السحر وهي الرئة وأي مناسبة لذكر الرئة في هذا الموضع ثم كيف يقول فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} أفتراه ما علم أنه له سحرا وأنه بشر ثم كيف يجيبه موسى بقوله: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدقه موسى وقال: نعم أنا بشر أرسلني الله إليك كما قالت الرسل لقومهم لما قالوا لهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} فقالوا {إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ولم ينكروا ذلك فهذا الجواب في غاية الضعف وأجابت طائفة منهم ابن جرير وغيره بأن المسحور هنا هو معلم السحر الذي قد علمه إياه غيره فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي عالم بالسحر وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة وهو أن من علم السحر يقال له مسحور ولا يكاد هذا يعرف في الإستعمال ولا في اللغة وإنما المسحور من سحره غيره كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه: وأما من علم السحر فإنه يقال له ساحر بمعنى أنه عالم بالسحر وإن لم يسحره غيره كما قال قوم فرعون لموسى: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} ففرعون قذفه بكونه مسحورا وقومه قذفوه بكونه ساحرا فالصواب هو الجواب الثالث

وهو جواب صاحب الكشاف وغيره إن المسحور على بابه وهو من سحر حتى جن فقالوا مسحور مثل مجنون زائل العقل لا يعقل ما يقول فإن المسحور الذي لا يتبع هو الذي فسد عقله بحيث لا يدري ما يقول فهو كالمجنون ولهذا قالوا فيه معلم مجنون فأما من أصيب في بده بمرض من الأمراض يصاب به الناس فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان وإنما قذفوهم بما يحذرون به سفهاءهم من اتباعهم وهو أنهم قد سحروا حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون بمنزلة المجانين ولهذا قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} مثلوك بالشاعر مرة والساحر أخرى والمجنون مرة والمسحور أخرى فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في تيهه وتحيره طريقا يسلكه فلا يقدر عليه فإن أي طريق أخذها فهي طريق ضلال وحيرة فهو متحير في أمره لا يهتدي سبيلا ولا يقدر على سلوكها فهكذا حال أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى ضربوا له أمثالا برأه الله منها وهو أبعد خلق الله منها وقد علم كل عاقل أنها كذب وافتراء وبهتان وأما قولكم إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله تعالى لهم فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم وله الحكمة البالغة والنعمة السابغة لا إله غيره ولا رب سواه.

فصل: وقد دل قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وحديث عائشة المذكور: على تأثير السحر وأن له حقيقة وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وقالوا إنه لا تأثير للسحر البتة لا في مرض ولا قتل ولا حل ولا عقد قالوا وإنما ذلك تخيل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وأرباب القلوب من أهل التصوف وما يعرفه عامة العقلاء والسحر الذي يؤثر مرضا وثقلا وحلا وعقدا وحبا وبغضا وتزينا وغير ذلك من الآثار موجود تعرفه عامة الناس وكثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به منه وقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا كما يقوله هؤلاء لم يكن للنفث ولا للنفاثات شر يستعاذ منه وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به مع أن هذا تغير في إحساسهم فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبدن فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركا والمتصل منفصلا والميت حيا فما المحيل لأن يغير صفات نفسه حتى يجعل المحبوب إليه بغيضا والبغيض محبوبا وغير ذلك من التأثيرات وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} فبين سبحانه أن أعينهم سحرت وذلك إما أن يكون لتغيير حصل في المرئي وهو الحبال والعصي مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين فظنوا أنها تحركت بأنفسها وهذا كما إذا جر من لا يراه

حصيرا أو بساطا فترى الحصير والبساط ينجر ولا ترى الجار له مع أنه هو الذي يجره فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين فقلبتها كتقلب الحية فظن الرائي أنها تقلبت بأنفسها والشياطين هم الذين يقلبونها وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأي الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا فتارة يتصرف في نفس الرأي وإحساسه حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به وتارة يتصرف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزئبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة فإنه لو كان كذلك لم يكن هذا خيالا بل حركة حقيقية ولم يكن ذلك سحرا لأعين الناس ولا يسمى ذلك سحرا بل صناعة من الصناعات المشتركة وقد قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} ولو كانت تحركت بنوع حيلة كما يقوله المنكرون: لم يكن هذا من السحر في شيء ومثل هذا لا يخفى وأيضا لو كان ذلك بحيلة كما قال هؤلاء لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزئبق وبيان ذلك المحال ولم يحتج إلى إلقاء العصا لابتلاعها وأيضا فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة بل يكفي فيها حذاق الصناع ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم ووعدهم بالتقريب والجزاء وأيضا فإنه لا يقال في ذلك إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فإن الصناعات يشترك الناس في تعلمها وتعليمها وبالجملة فبطلان هذا أظهر من أن يتكلف رده فلنرجع إلى المقصود. فصل: الشر الرابع: شر الحاسد إذا حسد وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه وإن لم

يؤذه بيده ولا لسانه فإن الله تعالى قال: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} فحقق الشر منه عند صدور الحسد والقرآن ليس فيه لفظة مهملة ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدا إلا إذا قام به الحسد كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود لاه عنه فإن خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه ووجهت إليه سهام الحسد من قبله فيتأذى المحسود بمجرد ذلك فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولا بد فقوله تعالى: {إِذَا حَسَدَ} بيان لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل تأثير العين وقد تقدم في حديث أبي سعيد الخدري الصحيح رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: "بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك" فهذا فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثر فيه شيئا وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة واتسمت واحتدت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه وقوة نفس الحاسد فربما أعطيه وأهلكه بمنزلة من فوق سهما نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلا وربما صرعه وأمرضه والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث فتحدث فيها تلك الكيفية السم فتؤثر في الملسوع وربما قويت تلك الكيفية واشتدت في نوع منها حتى تؤثر بمجرد نظرة فتطمس البصر وتسقط الحبل كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين منها: وقال:"اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل" رواه البخاري ومسلم فإذا كان هذا في الحيات فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية واتسمت وتوجهت

إلى المحسود بكيفيتها فلله كم من قتيل وكم من سليب وكم من معافي عاد مضني على فراشه يقول طبيبه لا أعلم داءه ما هو فصدق ليس هذا الداء من علم الطبائع هذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع وانفعال الأجسام عنها عجائب الأرواح وتأثيراتها وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس والمحجوبون منكرون له ولا يعلم تأثير ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلا من له نصيب من ذوقه وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى وهل الانفعال والتأثر وحدوث ما يحدث عنها من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلا من الأرواح والأجسام آلتها بمنزلة آلة الصانع فالصنعة في الحقيقة له والآلات وسائط في وصول أثره إلى الصنع ومن له أدنى فطنة وتأمل أحوال العالم ولطفت روحه وشاهدت أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها كل ذلك بتقدير العزيز العليم خالق الأسباب والمسببات رأى عجائب في الكون وآيات دالة على وحدانية الله وعظمته وربوبيته وإن ثم عالما تجري عليه أحكام أخرى تشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع وأحسن كل شيء خلقه ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح بل هو أعظم وأوسع وعجائبه أبهر وآياته أعجب وتأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح كيف يصير بمنزلة الخشبة أو القطعة من اللحم فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل وتلك الصنائع الغريبة وتلك الأفعال العجيبة وتلك الأفكار والتدبيرات كيف ذهبت كلها مع الروح وبقي الهيكل سواء هو والتراب وهل يخاطبك من الإنسان أو يراك أو يحبك أو يواليك أو يعاديك ويخف عليك ويثقل ويؤنسك ويوحشك إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر فرب رجل عظيم الهيولي كبير الجثة خفيف على قلبك حلو عندك وآخر لطيف الخلقة صغير الجثة أثقل على قلبك من جبل وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها وبالجملة فالعلق والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد إنما هي

للأرواح أصلا والأشباح تبعا. فصل: والعاين والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته والحاسد يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضا ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه وربما أصابت عينه نفسه فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} إنه الإصابة بالعين فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا ما رأينا مثله ولا مثل حجته وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبقرة السمينة فيعينها ثم يقول لخادمه خذ المكتل والدرهم وآتنا بشيء من لحمها فما تبرح حتى تقع فتنحر وقال الكلبي: "كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائة فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط منها طائفة فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به كفعله في غيره فعصم الله تعالى رسوله وحفظه وأنزل عليه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} هذا قول طائفة وقالت طائفة أخرى منهم ابن قتيبة: ليس المراد أنهم يصيبونك بالعين كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن الكريم نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك قال الزجاج: "يعني من شدة العداوة يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك" وهذا مستعمل في الكلام

يقول القائل: نظر إلي نظر قد كان يصرعني، قال: ويدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن الكريم وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة فيحدون إليه النظر بالبغضاء النظر الذي يؤثر في المنظور قلت: النظر الذي يؤثر في المنظور قد يكون بسببه شده العداوة والحسد فيؤثر نظره في كما تؤثر نفسه بالحسد ويقوى تأثير النفس عند المقابلة فإن العدو إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسه عنه فإذا عاينه قبلا اجتمعت الهمة عليه وتوجهت النفس بكليتها إليه فيتأثر بنظره حتى إن من الناس من يسقط ومنهم من يحم ومنهم من يحمل إلى بيته وقد شاهد الناس من ذلك كثيرا وقد يكون سببه الإعجاب وهو الذي يسمونه بإصابة العين وهو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب به أو استعظام فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين وهذا هو الذي يعرفه الناس من رؤية المعين فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه فيصاب بذلك قال عبد الرزاق بن معمر عن هشام بن قتيبة قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العين حق" رواه البخاري ومسلم "ونهى عن الوشم" رواه البخاري ومسلم وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن عروة عن عامر عن عبيد بن رفاعة أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابني جعفر تصيبهم العين أفتسترقي لهم قال: نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين" صحيح فالكفار كانوا ينظرون إليه نظر حاسد شديد العدواة فهو نظر يكاد يزلقه لولا حفظ الله وعصمته فهذا أشد من نظر العائن بل هو جنس من نظر العائن فمن قال إنه من الإصابة بالعين أراد هذا المعنى ومن قال: ليس به أراد أن نظرهم لم يكن نظر استحسان وإعجاب فالقرآن الكريم حق وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من عين الإنسان" صحيح فلولا أن العين شر لم يتعوذ منها وفي الترمذي من حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير حدثني حابس بن حبة التميمي حدثني أبي "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا شيء في الهام والعين حق " ضعيف لكن قوله "والعين حق" صحيح وفيه أيضا من حديث وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو كان

شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا " رواه مسلم وفي الباب عن عبد الله بن عمر وهذا حديث صحيح والمقصود أن العائن حاسد خاص وهو أضر من الحاسد ولهذا والله أعلم إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن لأنه أعم فكل عائن حاسد ولا بد وليس كل حاسد عائنا فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها الساحر والحاسد فالحاسد عدو النعم وهذا الشر هو من نفس الحاسد وطبعها ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها بل هو من خبثها وشرها بخلاف السحر فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى واستعانة بالأرواح الشيطانية فلهذا والله أعلم قرن في السورة بين: شر الحاسد وشر الساحر لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن فالحسد من شياطين الإنس والجن والسحر من النوعين وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن وهو الوسوسة في القلب فذكره في السورة الأخرى كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه بل هو أذى من أمر خارج عنه ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق والوسواس إنما يؤذي العبد من داخله بواسطة مساكنته له وقبوله منه ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال والعزم الجازم لأن ذلك بسعيه وإرادته بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة ولهذا اليهود أسحر الناس وأحسدهم فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا فقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا

إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} والكلام على أسرار هذه الآية وأحكامها وما تضمنته من القواعد والرد على من أنكر السحر وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات الذي أنكره من أنكر السحر خشية الالتباس وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما في موضع غير هذا إذ المقصود الكلام على أسرار هاتين السورتين وشدة حاجة الخلق إليهما وإن لا يقوم غيرهما مقامهما وأما وصفهم بالحسد فكثير في القرآن كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وفي قوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} والشيطان يقارن الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبها ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان لأن الحاسد شبيه بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله وأبى أن يسجد له حسدا فالحاسد من جند إبليس وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه وربما يعبده من دون الله تعالى حتى يقضي له حاجته وربما يسجد له وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ ولهذا كان سحر عباد الأصنام أقوى من سحر أهل الكتاب وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام وهم الذين سحروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الموطأ عن كعب قال: "كلمات أحفظهن من التوراة لولاها لجعلتني يهود حمارا أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر

وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ" رواه مالك ورجاله ثقات والمقصود أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود والشيطان يقترن به ويعينه ويزين له حسده ويأمره بموجبه والساحر بعلمه وكسبه وشركه واستعانته بالشياطين. فصل: وقول: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} يعم الحاسد من الجن والإنس فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من فضله كما حسد إبليس أبانا آدم وهو عدو لذريته كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن والحسد أخص بشياطين الإنس والوسواس يعمهما كما سيأتي بيانهما والحسد يعمهما أيضا فكلا الشيطانين حاسد موسوس فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعا فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم وتضمنت شرورا أربعة يستعاذ منها شرا عاما وهو شر ما خلق وشر الغاسق إذا وقب فهذا نوعان ثم ذكر شر الساحر والحاسد وهي نوعان أيضا لأنهما من شر النفس الشريرة وأحدهما: يستعين بالشيطان ويعبده وهو الساحر وقلما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان وتقرب إليه إما بذبح باسمه أو بذبح يقصد به هو فيكون ذبحا لغير الله وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له وإن سماه بما سماه به فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه فمن سجد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة كما أقبلها بالنعم أو هذا إكرام لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله فليسمه بما شاء وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب

إليه بما يحب فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة بل يسميه استخداما ما وصدق هو استخدام من الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإنما سماه استخداما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة ولبئس المولى ولبئس العشير فهذا أحد النوعين والنوع الثاني: من يعينه الشيطان وإن لم يستعن به وهو الحاسد لأنه نائبه وخليفته لأن كليهما عدو نعم الله تعالى ومنغصها على عباده. فصل: وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله: {إِذَا حَسَدَ} لأن الرجل قد يكون عنده حسد ولكن يخفيه ولا يرتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده بل يجد في قلبه شيئا من ذلك ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله وقيل للحسن البصري: "أيحسد المؤمن قال: ما أنساك إخوة يوسف" لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعها ولا يأتمر بها بل يعصيها طاعة لله وخوفا وحياء منه وإجلالا له أن يكره نعمه على عباده فيرى ذلك مخالفة لله وبغضا لما يحب الله ومحبة لما يبغضه فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك ويلزمها بالدعاء للمحسود وتمني زيادة الخير له بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح فهذا الحسد

المذموم هو كله حسد تمني الزوال وللحسد ثلاث مراتب أحدهما: هي هذه الثانية: وهي تمني استصحاب عدم النعمة فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله أو قلة دينه فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب فهذا حسد على شيء مقدر والأول حسد على شيء محقق وكلاهما حاسد عدو نعمة وعدو عباده وممقوت عند الله تعالى وعند الناس ولا يسود أبدا ولا يواسي فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبدا إلا قهرا يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها فهم يبغضونه وهو يبغضهم والحسد الثالث حسد الغبطة وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه بل هذا قريب من المنافسة وقد قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} خطأ يبحثها المحقق وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس" رواه البخاري ومسلم فهذا حسد غبطة الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه وحب خصال الخير والتشبه بأهلها والدخول في جملتهم وأن يكون من سباقهم وعليتهم ومصلهم لا من فساكلهم فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة مع محبته لمن يغبطه وتمني دوام نعمة الله عليه فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما فهذه السورة من أكبر أدوية المحسود فإنها تتضمن التوكل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من شر حاسد النعمة فهو مستعيذ بولي النعم وموليها كأنه يقول يا من أولاني نعمته وأسداها إلي أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني ويزيلها عني وهو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجبر المستجير وهو نعم المولى ونعم النصير فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه ومن خافه واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ

مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته فإن الله تعالى بالغ أمره وقد جعل الله لكل شيء قدرا لا يتقدم عنه ولا يتأخر ومن لم يخفه أخافه من كل شيء وما خاف أحدا غير الله إلا لنقص خوفه من الله قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في صدوركم فلا تخافوهم وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم. فصل: ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب: أحدها: التعوذ بالله تعالى من شره واللجوء والتحصن به واللجوء إليه وهو المقصود بهذه السورة والله تعالى سميع لاستعاذته عليم بما يستعيذ منه والسمع هنا المراد به سمع الإجابة لا السمع العام فهو مثل قوله: "سمع الله لمن حمده" وقول الخليل صلى الله عليه وسلم {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} ومرة يقرنه بالعلم ومرة بالبصر لاقتضاء حال المستعيذ ذلك فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله تعالى يراه ويعلم كيده وشره فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته أي مجيب عليم بكيد عدوه يراه ويبصره لينبسط أمل المستعيذ ويقبل بقلبه على الدعاء وتأمل حكمة القرآن الكريم كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ السميع العليم في الأعراف والسجدة وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالإبصار بلفظ السميع البصير في سورة حم المؤمن فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر وأما نزع الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر ويدرك بالرؤية والله أعلم السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك " صحيح فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامه أينما توجه ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف ولمن يحذر السبب الثالث: الصبر على عدوه وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله ولا يستطل تأخيره وبغيه فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغي عليه المحسود يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر فبغيه سهام يرميها من نفسه ولو رأي المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره ومآله وقد قال تعالى: {مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} فإذا كان الله قد ضمن فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولا فكيف بمن لم يستوف شيئا من حقه بل بغى عليه وهو صابر وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم وقد سبقت سنة الله أنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دكا السبب الرابع: التوكل على الله {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم وهو من أقوى الأسباب في ذلك فإن الله حسبه أي كافية ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه وبين الضرر الذي يتشفى به منه قال

بعض السلف جعل الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا من ذلك وكفاه ونصره وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدة حاجة العبد إليه في "كتاب الفتح القدسي" وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة أنه من مقامات العوام وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة وبينا أنه من أجل مقامات العارفين وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجاته إلى التوكل أعظم وأشد وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر والباغي السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له فلا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه بل انعزل عنه لم يقدر عليه فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر وهكذا الأرواح سواء فإذا علق روحه وشبثها به وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناما لا يفتر عنه وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار ودام الشر حتى يهلك أحدهما: فإذا جبذ روحه عنه وصانها عن الفكر فيه والتعلق به وأن لا يخطره بباله فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا فإن الحسد كالنار فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العالية وبين الكيس الفطن وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه وتعلق

روحه به ولا يرى شيئا ألم لروحه من ذلك ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوارعة اللينة التي رضيت بوكالة الله لها وعلمت أن نصره له خير من انتصارها هي لنفسها فوثقت بالله وسكنت إليه واطمأنت به وعلمت أن ضمانه حق ووعده صدق وأنه لا أوفى بعهده من الله ولا أصدق منه قيلا فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها أو نصر مخلوق مثلها لها ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس: وهو الإقبال على الله والإخلاص له وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها تدب فيها دبيب الخواطر شيئا فشيئا حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب والتقرب إليه وتملقه وترضيه واستعطافه وذكره كما يذكر المحب التام المحبة لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه فلا يجعل بيت إنكاره وقلبه معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه والطريق إلى الانتقام منه والتدبير عليه هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته بل إذا مسه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج ناداه حرس قلبه إياك وحمى الملك إذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حل فيها ونزل بها ما لك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك وأدار عليه الحرس وأحاطه بالسور قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وقال في حق الصديق: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن وصار داخل اليزك لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به ولا ضيعة على من آوى إليه ولا مطمع للعدو

في الدنو إليه منه و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه صلى الله عليه وسلم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره وفي الدعاء المشهور "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لم لا أعلم" فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه فقال: له قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إلى ربه ثم خرج إليه فقال له: ما صنعت فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه فيشغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد فما أسعده من عبد وما أبركها من نازلة نزلت به وما أحسن أثرها عليه ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع فما كل أحد يوفق لهذا لا معرفة به ولا إرادة له ولا قدرة عليه ولا حول ولاقوة إلا بالله السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه فإن لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق وإن أصابه شيء من

ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد وكانت له فيه العاقبة الحميدة فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جنة واقية وحصن حصين وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود فحينئذ يبرد أنينه وتنطفيء ناره لا أطفأها الله فما حرس العبد نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله وهو كفران النعمة وهو باب إلى كفران المنعم فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه فمن لم يكن له جند ولا عسكر وله عدو فإنه يوشك أن يظفر به عدوه وإن تأخرت مدة الظفر والله المستعان السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا وله نصيحة وعليه شفقة وما أظنك تصدق بأن هذا يكون فضلا عن أن تتعاطاه فاسمع الآن قوله عز وجل: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم "أنه ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم عنه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" رواه البخاري ومسلم كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه أحدها: عفوه عنهم والثاني: استغفاره لهم الثالث: اعتذاره

عنهم بأنهم لا يعلمون الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال اغفر لقومي كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به هذا ولدي هذا غلامي هذا صاحبي فهبه لي واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ويطيبه إليها وينعمها به اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقا فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن أو اترك فكما تدين تدان وكما تفعل مع عباده يفعل معك فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى ما أساء إليه هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة كما "قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي شكى إليه قرابته وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه فقال: "لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك" رواه مسلم هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ويصيرون كلهم معه على خصمه فإنه كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء وذلك أمر فطري فطر الله عباده فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبرا هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى من أحب الناس إليه وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة والله هو الموفق المعين بيده الخير كله لا إله غيره وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه وفي الجملة ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة سنذكرها في

موضع آخر إن شاء الله تعالى السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله وعليه مدار هذه الأسباب وهو تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه فهو الذي يحسن عبده بها وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك " صحيح فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه وتجرد الله محبة وخشية وإنابة وتوكلا واشتغالا به عن غيره فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل والله يتولى حفظه والدفع عنه فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فإن كان مؤمنا فالله يدافع عنه ولا بد وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع وإن مزج مزج له وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة كما قال بعض السلف من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين قال بعض السلف: "من خاف الله خافه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء" فهذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر وليس له أنفع من التوجه إلى الله وإقباله عليه وتوكله عليه وثقته به وأن لا يخاف معه غيره بل يكون خوفه منه وحده ولا يرجوا سواه بل يرجوه وحده فلا يعلق قلبه بغيره ولا يستغيث بسواه ولا يرجو إلا إياه ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه وكل إليه وخذل من

جهته فمن خاف شيئا غير الله سلط عليه ومن رجا شيئا سوى الله خذل من جهته وحرم خيره هذه سنة الله في خلقه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} . فصل: فقد عرفت بعض ما اشتملت عليه هذه السورة من القواعد النافعة الهامة التي لا غنى للعبد عنها في دينه ودنياه ودلت على أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها تأثير وعلى أن الأرواح الشيطانية لها تأثير بواسطة السحر والنفث في العقد وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق ففرقة أنكرت تأثير هذا وهذا وهم فرقتان: فرقة اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجن وأنكرت تأثيرهما البتة وهذا قول طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والتقوى والتأثيرات وفرقة أنكرت وجودهما بالكلية وقالت: لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس وصفاته وأعراضه فقط ولا وجود للجن والشياطين سوى أعراض قائمة به وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام وهو قول شذوذ من أهل الكلام الذين ذمهم السلف وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة الفرقة الثانية: أنكرت وجود النفس الإنسانية المفارقة للبدن وأقرت بوجود الجن والشياطين وهذا قول كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم الفرقة الثالثة: بالعكس أقرت بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن وأنكرت وجود الجن والشياطين وزعمت أنها غير خارجة عن قوى النفس وصفاتها وهذا قول كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم وهؤلاء يقولون إنما يوجد في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة فهي من تأثيرات النفس ويجعلون السحر والكهانة كله من تأثير النفس وحدها بغير واسطة شيطان منفصل وابن سينا وأتباعه على هذا القول حتى أنهم يجعلون معجزات الرسل من هذا الباب ويقولون إنما هي من تأثيرات النفس في هيولى

العالم وهؤلاء كفار بإجماع أهل الملل وليسوا من أتباع الرسل جملة الفرقة الرابعة وهم أتباع الرسل وأهل الحق أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن وأقروا بوجود الجن والشياطين وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتهما وشرهما واستعاذوا بالله تعالى منه وعلموا أنه لا يعيذهم منه ولا يجيرهم إلا الله تعالى فهؤلاء أهل الحق ومن عداهم مفرط في الباطل أو معه باطل وحق الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فهذا ما يسر الله تعالى من الكلام على سورة الفلق. وأما سورة الناس: فقد تضمنت أيضا استعاذة ومستعاذا به ومستعاذا منه فالاستعاذة تقدمت وأما المستعاذ به فهو الله تعالى {بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} فذكر ربوبيته للناس وملكه إياهم وإلهيته لهم ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان الرجيم كما تقدم فنذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمنة لخلقهم وتدبيرهم وتربيتهم وإصلاحهم وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم هذا معنى ربوبيته لهم وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم الإضافة الثانية: إضافة الملك فهو ملكهم المتصرف فيهم وهم عبيده ومماليكه وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء النافذ القدرة فيهم الذي له السلطان التام عليهم فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجؤهم فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه وهذه طريقة

القرآن الكريم يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة وإذا كان وحده هو ربنا ومالكنا وإلهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه ولا ملجأ لنا منه إلا إليه ولا معبود لنا غيره فلا ينبغي أن يدعي ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه ولا يتوكل إلا عليه لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك ومولي شأنك وهو ربك فلا رب سواه أو تكون مملوكه وعبده الحق فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره ولا يستنصروا بسواه ولا يلجئوا إلى غير حماة فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة وأشدهم ضررا وأبلغهم كيدا ثم إنه سبحانه كرر الاسم الظاهر ولم يوقع المضمر موقعه فيقول رب الناس وملكهم وإلههم تحقيقا لهذا المعنى وتقوية له فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه ولم يعطف بالواو لما فيهم من الإيذان بالمغايرة والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات حتى كأنها صفة واحدة وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب وأخر الإلهية لخصوصها لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه ولكن ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره فهو المطاع إذا أمر وملكه لهم تابع لخلقه إياهم فملكه من كمال ربوبيته وكونه إلههم الحق من كمال ملكه فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها

فهو الرب الحق الملك الحق الإله الحق خلقهم بربوبيته وقهرهم بملكه استعبدهم بإلهيته فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنته هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق رب الناس ملك الناس إله الناس وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان وتضمنت معاني أسمائه الحسنى أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى فإن الرب هو القادر الخالق البارئ المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويسعد من يشاء ويشقي ويعز من يشاء ويذل من يشاء إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى وأما الملك فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمور عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى كالعزيز الجبار الحكم العدل الخافض الرافع المعز المذل العظيم الجليل الكبير الحسيب المجيد الوالي المتعالي مالك الملك المقسط الجامع إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ ويمنع من الوسواس الخناس ولا يسلط عليه وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراء وإن باديه إلى الخافي يسير.

فصل: وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شر من خارج وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه والشر الثاني: في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي فهذا شر المعائب والأول شر المصائب والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة. فصل: إذا عرف هذا فالوسواس فعلال من وسوس وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه فالوسواس الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد ومن هذا وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن والظاهر والله تعالى أعلم إنها سميت وسوسة لقربها وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس وهو الأذن فقيل وسوسة الحلي لأنه صوت مجاور للأذن كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس ويؤكده

عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها فقالوا وسوس وسوسة فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه ونظير هذا ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه كالدوران والغليان والنزوان وبابه ونظير ذلك زلزل ودكدك وقلقل وكبكب الشيء لأن الزلزلة حركة متكررة وكذلك الدكدكة والقلقلة وكذلك كبكب الشيء إذا كبه في مكان بعيد فهو يكب فيه كبا بعد كب كقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} ومثله رضرضة إذا كرر رضه مرة بعد مرة ومثله ذرذره إذا ذره شيئا بعد شيء ومثله صرصر الباب إذا تكرر صريره ومثله مطمط الكلام إذا مطه شيئا بعد شيء ومثله كفكف الشيء إذا كرر كفه وهو كثير وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب لأن الثلاثي لا يدل على تكرار بخلاف الرباعي المكرر فإذا قلت ذر الشيء وصر الباب وكف الثوب ورض الحب لم يدل على تكرار الفعل بخلاف ذرذر وصرصر ورضرض ونحوه فتأمله فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني وقد تقدم التنبيه على ذلك فلا وجه لإعادته وكذلك قولهم عج العجل إذا صوت فإن تابع صوته قالوا عجعج وكذلك ثج الماء إذا صب فإن تكرر ذلك قيل ثجثج والمقصود أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها قبل وسوس. فصل: إذا عرف هذا فاختلف النحاة في لفظ الوسواس هل هو وصف أو مصدر الجواب على قولين: ونحن نذكر حجة كل قول ثم نبين الصحيح من القولين بعون الله تعالى وفضله أما من ذهب إلى أنه مصدر فاحتج بأن الفعل منه فعلل والوصف من فعلل إنما هو مفعلل كمدحرج ومسرهف ومبيطر ومسيطر وكذلك هو من فعل بوزن مفعل كمقطع ومخرج وبابه فلو كان الوسواس صفة لقيل موسوس ألا ترى أن

اسم الفاعل من زلزل مزلزل لا زلزال وكذلك من دكدك مدكوك وهو مطرد فدل على أن الوسواس مصدر وصف به على وجه المبالغة أو يكون على حذف مضاف تقديره ذو الوسواس قالوا والدليل عليه أيضا قول الشاعر: تسمع للحلي بها وسواسا فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء قال أصحاب الرأي الآخر: الدليل على أنه وصف أن فعلل ضربان أحدهما: صحيح لا تكرار فيه كدحرج وسرهف بيطر وقياس مصدر هذه الفعللة كالدحرجة والسرهفة والبيطرة والفعلان بكسر الفاء كالسرهاف والدحراج والوصف منه مفعلل كمدحرج ومبيطر والثاني: فعلل الثنائي المكرر كزلزل ودكدك ووسوس وهذا فرع على فعلل المجرد عن التكرار لأن الأصل السلامة من التكرار ومصدر هذا النوع والوصف منه مساو لمصدر الأول ووصفه فمصدره يأتي على الفعللة كالوسوسة والزلزلة والفعلال كالزلزال وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل الفعلان لأمرين أحدهما أن فعلل مشاكل لأفعل في عدد الحروف وفتح الأول والثالث والرابع: وسكون الثاني فجعل أفعال مصدر أفعل وفعلال مصدر فعلل ليتشاكل المصدران كما يتشاكل الفعلان فكان الفعلان أولى بهذا الوزن من الفعللة الثاني: أن أصل المصدر أن يخالف وزنه وزن فعله ومخالفة فعلال لفعلل أشد من مخالفة فعللة له فكان فعلال أحق بالمصدرية من فعللة أو تساويا في الاطراد من أن فعللة أرجع في الاستعمال وأكثر هذا هو الأصل وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء فقالوا وسوس الشيطان وسواسا ووعوع الكلب وعواعا إذا عوى وعظعظ السهم عظعاظا والجاري على القياس فعلال بكسر الفاء أو فعللة وهذا المفتوح نادر لأن الرباعي الصحيح أصل للمتكرر ولم يأت مصدر الصحيح مع كونه أصلا إلا على فعللة وفعلال بالكسر فلم يحسن بالرباعي المكرر لفرعيته أن يكون

مصدره إلا كذلك لأن الفرع لا يخالف أصله بل يحتذي فيه حذوه وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على فعلال بالفتح فإن شذ حفظ ولم يزد عليه قالوا وأيضا فإن فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من فعلل المكرر ليكون فيه نظير فعال من الثلاثي لأنهما متشاركان وزنا فاقتضى ذلك أن لا يكون لفعلال من المصدرية نصيب كما لم يكن لفعال فيها نصيب فلذلك استندروا وقوع وسواس ووعواع وعظعاظ مصادر وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال قالوا وإذا ثبت هذا فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملا على الأكثر الغالب وتجنبا للشاذ فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه ذو تقديرا فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران أحدهما: أن كل مصدر أضيف إليه ذو تقديرا فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به كرضي وصوم وفطر وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط وسواس ووعواع وعظعاظ على أن منع المصدرية في هذا ممكن لأن غاية ما يمكن أن يستدل به على المصدرية قولهم وسوس إليه الشيطان وسواسا وهذا لا يتعين للمصدرية لاحتمال أن يراد به الوصفية وينتصب وسواسا على الحال ويكون حالا مؤكدة فإن الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} نعم إنما تتعين مصدرية الوسواس بالسمع أعوذ بالله من وسواس الشيطان ونحو ذلك مما يكون الوسواس فيه مضافا إلى فاعله كما سمع ذلك في الوسوسة ولكن أين لكم ذلك فهاتوا شاهده فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرا بانتصابه بعد الفعل الوجه الثاني: من دليل فساد من زعم أن وسواسا مصدر مضاف إليه ذو تقديرا إن المصدر المضاف إليه ذكر تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع بل يلزم طريقة واحدة ليعلم أصالته في المصدرية وأنه عارض الوصفية فيقال امرأة صوم وامرأتان صوم ونساء صوم لأن

المعنى ذات صوم وذاتا صوم وذوات صوم وفعلال الموصوف به ليس كذلك بل يثنى ويجمع ويؤنث فتقول رجل ثرثار وامرأة ثرثارة ورجال ثرثارون وفي الحديث "أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون " حسن وقالوا ريح رفرافة أي تحرك الأشجار وريح سفسافة أي تنخل التراب ودرع فضفاضة أي متسعة والفعل من ذلك كله فعلل والمصدر فعللة وفعلال بالكسر ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح وكذلك قالوا تمتام وفأفاء ولضلاض أي ماهر في الدلالة وفجفاج كثر الكلام وهرهار أي ضحاك وكهكاه ووطواط أي ضعيف وحشحاش وعسعاس أي خفيف وهو كثير ومصدره كله الفعللة والوصف فعلال بالفتح ومثله هفهاف أي خميص ومثله دحداح أي قصير ومثله بجباج أي جسيم وتختاج أي ألكن شمشام أي سريع وشيء خشخاش أي مصوت وقعقاع مثله وأسد فضفاض أي كاسر وحية نضناض تحرك لسانها فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفا لا مصدرا فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر كثرثار وتمتام ودحداح وبابه ويدل عليه وجه آخر وهو أنه وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا بل هو متعين الوصفية وهو الخناس فالوسواس والخناس وصفان لموصوف محذوف وهو الشيطان وحسن حذف الموصوف هاهنا غلبة الوصف حتى صار كالعلم عليه والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا فيقع اللبس كالطويل والقبيح والحسن ونحوه فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره فأما إذا غلب الوصف واختص ولم يعرض فيه اشتراك فإنه يجري مجرى الاسم ويحسن حذف الموصوف كالمسلم والكافر والبر والفاجر والقاصي والداني والشاهد والوالي ونحو ذلك فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره وهذا التفصيل أولى من إطلاق من منع حذف الموصوف ولم يفصل ومما يدل على أن الوسواس وصف لا مصدر أن الوصفية أغلب على فعلال من المصدرية كما تقدم فلو أريد المصدر لأتي بذو المضافة إليه ليزول اللبس وتتعين المصدرية فإن اللفظ إذا احتمل الأمرين على السواء فلا بد

من قرينة تدل على تعيين أحدهما فكيف والوصفية أغلب عليه من المصدرية وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما فإنها مصادر لا تلبس بالأوصاف فإذا جرت أوصافا علم أنها على حذف مضاف أو تنزيلا للمصدر منزلة الوصف مبالغة على الطريقتين في ذلك فتعين أن الوسواس هو الشيطان نفسه وأنه ذات لا مصدر والله أعلم. فصل: وأما الخناس: فهو فعال من خنس يخنس إذا توارى واختفى ومنه قول أبي هريرة: "لقيني النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وأنا جنب فانخنست منه: وحقيقة اللفظ اختفاء بعد ظهور فليست لمجرد الاختفاء ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} قال قتادة: "هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار فتختفي ولا ترى" وكذلك قال علي رضي الله عنه: "هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى" وقالت طائفة: الخنس هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق وهي السبعة السيارة" قالوا: وأصل الخنوس الرجوع إلى وراء" والخناس مأخوذ من هذين المعنيين فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس وانقبض كما ينخنس الشيء ليتوارى وذلك الإنخناس والانقباض هو أيضا تجمع ورجوع وتأخر عن القلب إلى خارج فهو تأخر ورجوع معه اختفاء وخنس وانخنس يدل على الأمرين معا قال قتادة الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس ويقال رأسه كرأس الحية وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه ويحدثه فإذا ذكر الله تعالى خنس وإذا لم يذكره عاد ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه وجيء من هذا الفعل بوزن فعال الذي للمبالغة دون الخانس

والمنخنس إيذانا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه ودينه لا أنه يعرض له ذلك عند ذكر الله أحيانا بل إذا ذكر الله هرب وانخنس وتأخر فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصي ونحوها فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى مما يعذبه ويقمعه به من ذكر الله وطاعته وفي أثر عن بعض السلف أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة فشيطانه معه في عذاب شديد ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا حتى يعزم عليها العبد وجاء بناء الخناس على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل لأنه كلما ذكر الله انخنس ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما. فصل: وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} صفة ثالثة للشيطان فذكر وسوسته أولا ثم ذكر محلها ثانيا وأنها في صدور الناس وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره فهو يجري منه مجرى الدم وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا

فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا أو قال شيئا" رواه البخاري وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط فإذا قضى أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول اذكر كذا اذكر كذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا سجد سجدتي السهو" رواه البخاري ومسلم ومن وسوسته ما ثبت وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا حتى يقول من خلق الله فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته" رواه البخاري ومسلم وفي الصحيح أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: "يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" صحيح ومن وسوسته أيضا أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه قال تعالى حكاية عن صاحب موسى إنه قال: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وتأمل حكمة القرآن الكريم وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة شره جميعه فإن قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} يعم كل شره ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه فيصير إرادة ثم لا يزال

يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسى علمه بضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط وينسى ما وراء ذلك فتصبر الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب فيبعث الجنود في الطلب فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا فإن فتروا حركهم وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم بتلك النخوة والكبر ولا يرضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله كما قال بعضهم: عجبت من إبليس في تيهه ... وقبح ما أظهر من نخوته تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله تعالى عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم فيدخل سارقا ويخرج مغيرا ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما إنه فعل كذا وكذا ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس فيصبح والناس يتحدثون به وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه فأوقعه في الذنب ثم

فضحه به فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته فيغتر العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة ومن شره أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقدة يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان رواه البخاري ومسلم ومن شره أن يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح كما ثبت عن النبي أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه أو قال في أذنيه رواه البخاري رواه البخاري ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته ويكفي من شره أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة النار من كل ألف وتسعة وتسعين ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له وأن يعبد من دون الله فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته وإقامة دعوة الكفر والشرك ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض ويكفي من شره أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار فرد الله تعالى كيده عليه وجعل النار على خليله بردا وسلاما وتصدى حتى أراد اليهود قتله وصلبه فرد الله كيده وصان المسيح ورفعه إليه وتصدى لزكريا ويحيى

حتى قتلا واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض ودعوى أنه ربهم الأعلى وتصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وظاهر الكفار على قتله بجهده والله تعالى يكبته ويرده خاسئا وتفلت على النبي صلى الله عليه وسلم بشهاب من نار يريد أن يرميه به وهو في الصلاة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول ألعنك بلعنة الله وأعان اليهود على سحرهم للنبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته ولا يمكن حصر أجناس شره فضلا عن آحادها إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه ويكن ينحصر شره في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر الشر الأول: شر الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه وهو أول ما يريد من العبد فلا يزال به حتى يناله منه فإذا نال ذلك صيره من جنده وعسكره واستنابه على أمثاله وأشكاله فصار من دعاة إبليس ونوابه فإذا يئس منه من ذلك وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر: وهي البدعة وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها في نفس الدين وهو ضرر متعد وهي ذنب لا يتاب منه وهي مخالفة لدعوة الرسل ودعا إلى خلاف ما جاءوا به وهي باب الكفر والشرك فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها بقي أيضا نائبه وداعيا من دعائه فإن أعجزه من هذه المرتبة وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة ومعاداة أهل البدع والضلال نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر: وهي الكبائر على اختلاف أنواعها فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها ولا سيما إن كان عالما متبوعا فهو حريص على ذلك لينفر الناس عنه ثم يشيع من ذنوبه ومعاصيه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى وهو نائب إبليس ولا يشعر فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها لا نصيحة منهم ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه كل ذلك لينفر

الناس عنه وعن الانتفاع به وذنوب هذا ولو بلغت عنان السماء أهون عند الله من ذنوب هؤلاء فإنها ظلم منه لنفسه إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته وبدل سيئاته حسنات وأما ذنوب أولئك فظلم للمؤمنين وتتبع لعورتهم وقصد لفضيحتهم والله سبحانه بالمرصاد لا تخفى عليه كمائن الصدور ودسائس النفوس فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض " صحيح وذكر حديثا معناه أن كل واحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة: وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظا لوقته شحيحا به يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى المرتبة السادسة: وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه وقل من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة فإنه لا يكاد يقول إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير ويرى أن هذا خير فيقول هذا الداعي من الله وهو معذور ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم ولا يعرف هذا إلا من

كان من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم والله تعالى يمن بفضله على من يشاء من عباده فإن أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيا عليه سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه وقصد إخماله وإطفائه ليشوش عليه قلبه ويشغل بحربه فكره وليمنع الناس من الانتفاع به فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه ولا يفتر ولا يني فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت ومتى وضعها أسر أو أصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله فتأمل هذا الفصل وتدبر موقعه وعظيم منفعته واجعله ميزانك تزن به الناس وتزن به الأعمال فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق والله المستعان وعليه التكلان ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعا لمن تدبره ووعاه. فصل: وتأمل السر في قوله تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ولم يقل في قلوبهم والصدر هو ساحة القلب وبيته فمنه تدخل الواردات إليه فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب فهو بمنزلة الدهليز له ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر ثم تتفرق على الجنود ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب فهو موسوس في الصدر ووسوسته واصلة إلى القلب ولهذا قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} ولم يقل فيه لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله فيه فدخل في قلبه.

فصل: وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور بم يتعلق فقال الفراء وجماعة هو بيان للناس الموسوس في صدورهم والمعنى يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس أي الموسوس في صدورهم قسمان إنس وجن فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي وعلى هذا القول فيكون من الجنة والناس نصب على الحال لأنه مجرور بعد معرفة على قول البصريين وعلى قول الكوفيين نصب بالخروج من المعرفة هذه عبارتهم ومعناها أنه لما يصلح أن يكون نعتا للمعرفة انقطع عنها فكان موضعه نصبا والبصريون يقدرونه حالا أي كائنين من الجنة والناس وهذا القول ضعيف جدا لوجوه أحدها: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدور الجن ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي ويجري منه مجراه من الإنسي فأي دليل يدل على هذا حتى يصح حمل الآية عليه الثاني: أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا فإنه قال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} فكيف يبين الناس بالناس فإن معنى الكلام على قوله: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} الذين هم أو كائنين من الجنة والناس أيجوز أن يقال في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم هذا ما لا يجوز ولا هو استعمال فصيح الثالث: أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين جنة وناس وهذا غير صحيح فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه الرابع: أن الجنة لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا ولفظهما يأبى ذلك فإن الجن إنما سموا جنا من الإجتنان وهو الاستتار فهو مستترون عن أعين البشر قسموا جنا لذلك من قولهم جنه الليل وأجنه إذا ستره وأجن الميت إذا ستره في الأرض قال: ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر

يريد النبي صلى الله عليه وسلم ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه قال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} ومنه المجن لاستتار المحارب به من سلاح خصمه ومنه الجنة لاستتار داخلها بالأشجار ومنه الجنة بالضم لما بقي الإنسان من السهام والسلاح ومنه المجنون لاستتار عقله وأما الناس فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى وبينهما اشتقاق أوسط وهو عقد تقاليب الكلمة إلى معنى واحد والإنس والإنسان مشتق من الإيناس وهو الرؤية والإحساس ومنه قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} أي رآها ومنه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} أي أحسستموه ورأيتموه فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس أي يرى بالعين والناس فيه قولان أحدهما: أنه مقلوب من أنس وهو بعيد والأصل عدم القلب والثاني هو الصحيح أنه من النوس وهو الحركة المتتابعة فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة كما سمي الرجل حارث وهمام أصدق الأسماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم صحيح لأن كل أحد له هم وإرادة وهي مبدأ وحرث وعمل هو منتهى فكل أحد حارث وهمام والحرث والهم حركتا الظاهر والباطن وهو حقيقة النوس وأصل ناس نوس تحركت الواو قبلها فصارت ألفا هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق الناس وأما قول بعضهم أنه من النسيان وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم فليس هذا القول بشيء وأين النسيان الذي مادته ن س ي إلى الناس الذي مادته ن وس وكذلك أين هو من الإنس الذي مادته ان س وأما إنسان فهو فعلان من أن س والألف والنون في آخره زائدان لا يجوز فيه غير هذا البتة إذ ليس في كلامهم أنس حتى لا يكون إنسانا إفعالا منه ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين إذ ليس في كلامهم انفعل فيتبين أنه فعلان من الأنس ولو كان مشتقا من نسي لكان نسيانا لا إنسانا فإن قلت: فهلا جعلته إفعلالا وأصله إنسيان كليلة إصحيان ثم حذفت الياء تخفيفا فصار إنسانا قلت: يأبى ذلك

عدم افعلال في كلامهم وحذف الياء بغير سبب ودعوى ما لا نظير له وذلك كله فاسد على أن الناس قد قيل: إن أصله الأناس فحذفت الهمزة فقيل الناس واستدل بقول الشاعر: إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلين ولا ريب أن أناسا فعال ولا يجوز فيه غير ذلك البتة فإن كان أصل ناس أناسا فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس ويكون الناس كالإنسان سواء في الاشتقاق ويكون وزن ناس على هذا القول عال لأن المحذوف فاؤه وعلي القول الأول يكون وزنه فعل لأنه من النوس وعلى القول الضعيف يكون وزنه فلع لأنه من نسي فقلبت لامه إلى موضع العين فصار ناسا ووزنه فلعا والمقصود أن الناس إسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون من الجنة والناس بيانا لقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} وهذا واضح لا خفاء فيه فإن قيل لا محذور في ذلك فقد أطلق على الجن اسم الرجال كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس قلت: هذا هو الذي غر من قال إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية وجواب ذلك أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا وأنت إذا قلت إنسان من حجارة أو رجل من خشب ونحو ذلك لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس وذلك لأن الناس والجنة متقابلان وكذلك والإنس والجن فالله تعالى يقابل بين اللفظين كقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} وهو كثير في القرآن وكذلك قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} يقتضي أنهما متقابلان فلا يدخل أحدهما في الآخر بخلاف الرجال والجن فإنهما لم يستعملا متقابلين فلا يقال الجن والرجال كما يقال الجن والإنس وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس لأنه قابل بين الجنة

والناس فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر فالصواب القول الثاني وهو أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان للذي يوسوس وأنهما نوعان إنس وجن فالجني يوسوس في صدور الإنس والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي فالموسوس نوعان إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم على أن الجني قد يتمثل له ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي كما في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " رواه البخاري والترمذي فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني ويشتركان في الوسوسة وعلى هذا فتزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين شياطين الإنس والجن وعلى القول الأول إنما تكون الاستعاذة من شر شياطين الجن فقط فتأمله فإنه بديع جدا فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين وله الحمد والمنة وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط فما ذلك على الله بعزيز والحمد لله رب العالمين ونختم الكلام على السورتين بذكر.

قاعدة نافعة: "فما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به منه " وذلك في عشرة أسباب: الحرز الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان أحدهما: الاستعاذة بالله من الشيطان قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفي موضع آخر {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقد تقدم أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع التام وتأمل سر القرآن الكريم كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة هو الدال على تأكيد النسبة واختصاصها وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم كما قال الله تعالى والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا بل يريه أن هذا ذل وعجز ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه وأن لا يسيء إليه ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله تعالى وما عنده على حظه العاجل فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان بل بالإعراض وهذا سهل على النفوس غير مستعص عليها فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين وبين قوله في

حم المؤمن: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وفي صحيح البخاري عن عدي بن ثابت عن سليمان بن صرد قال: " كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد" رواه البخاري ومسلم الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة بالله تعالى من شره ودفعه والتحصن منه ولهذا قال النبي ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وقد تقدم أنه كان يعوذ بهما كل ليلة عند النوم وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة وتقدم قوله إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء الحرز الثالث: قراءة أية الكرسي ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: "وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدقك وهو كذوب ذاك الشيطان" رواه البخاري وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله تعالى وتأييده الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة ففي الصحيح من حديث سهل عن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا وأن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان " رواه مسلم والترمذي حرز الخامس: قراءة خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأنصاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " رواه البخاري ومسلم وفي الترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب كتابا قبل أن

يخلق الخلق بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان " صحيح الحرز السادس: أول سورة {حم} المؤمن إلى قوله تعالى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} مع آية الكرسي في الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" ضعيف وعبد الرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته الحرز السابع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ففي الصحيحين من حديث سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشرة رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك " رواه البخاري ومسلم فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله تعالى عليه الحرز الثامن: كثرة ذكر الله وهو من أنفع الحروز من الشيطان ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وأنه كاد يبطئ بها فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ وقعدوا على الشرف فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وأمركم أن تعملوا بهن أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو

ورق فقال: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجب أو بعجبه ريحها وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم وأمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله قال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من حثاء جهنم فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام قال وإن صلى وصام " صحيح فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح وقال البخاري: الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس وتجمع وانقبض وإذا غفل عن ذكر الله تعالى التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل الحرز التاسع: الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز به منه ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم كما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة

عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض " صحيح وفي أثر آخر " إن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء" ضعيف فما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة فإنها نار والوضوء يطفئها والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والاشتغال به والفكرة في الظفر به فمبدأ الفتنة من فضول النظر كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه " ضعيف جدا أو كما قال صلى الله عليه وسلم فالحوادث العظام إنما كلها من فضول النظر فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة كما قال الشاعر: كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر وقال الآخر: وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر وقال المتنبي: وأنا الذي جلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل ولي من أبيات: يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا ... أنت القتيل بما ترمي فلا تصب وباعث الطرف يرتاد الشفاء له ... توقه إنه يرتد بالعطب ترجو الشفاء بأحداق بها مرض ... فهل سمعت ببرء جاء من عطب ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم ... وصفا للطخ جمال فيه مستلب

وواهبا عمره في مثل ذا سفها ... لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب وبائعا طيب عيش ما له خطر ... بطيف عيش من الآلام منتهب عينت والله غبنا فاحشا فلو اس ... ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب وواردا صفو عيش كله كدر ... أمامك الورد صفوا ليس بالكذب وحاطب الليل في الظلماء منتصبا ... لكل داهية تدنو من العطب شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب ... وضاع وقتك بين اللهو واللعب وشمس عمرك قد حان الغروب لها ... والضي في الأفق الشرقي لم يغب وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت ... عن أفقه ظلمات الليل والسحب كم ذات التخلف والدنيا قد ارتحلت ... ورسل ربك قد وافتك في الطلب ما في الديار وقد سارت ركائب من ... تهواه للصب من سكني ولا أرب فأفرش الخد ذياك التراب وقل ... ما قاله صاحب الأشواق في الحقب ما ربع مية محفوفا يطوف به ... غيلان أشهى له من ربعك الخرب ولا الخدود وإن أدمين من ضرج ... أشهى إلى ناظري من خدك الترب منازلا كان يهواها ويألفها ... أيام كان منال الوصل عن كثب فكلما جليت تلك الربوع له ... يهوى إليها هوي الماء في صب أحيا له الشوق تذكار العهود بها ... فلو دعا القلب للسلوان لم يجب هذا وكم منزل في الأرض يألفه ... وما له في سواها الدهر من رغب في الخيام أخو وجد يريحك إن ... بثثته بعض شأن الحب فاغترب وأسر في غمرات الليل مهتديا ... بنفحة الطيب لا بالنار والحطب وعاد كل أخي جبن ومعجزة ... وحارب النفس لا تلقيك في الحرب

وخذ لنفسك نورا تستضيء به ... يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب فالجسر ذو ظلمات ليس بقطعه ... إلا بنور ينجي العبد في الكرب والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها وكم من حرب جرتها كلمة واحدة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم " صحيح لغيره وفي الترمذي "أن رجلا من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة: طوبى له فقال النبي صلى الله عليه وسلم فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه" ضعيف وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر وهما أوسع مداخل الشيطان فإن جارحتيهما لا يملأن ولا يسأمان بخلاف شهوة البطن فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام فجنايتهما متسعة الأطراف كثيرة الشعب عظيمة الآفات وكان السلف يحذرون من فضول النظر كما يحذرون من فضول الكلام وكانوا يقولون ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شرا فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام وكم من طاعة حال دونها فمن وقى شر بطنه فقد وقى شرا عظيما والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام ولهذا جاء في بعض الآثار " ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن" ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومناه وشهاه وهام به في كل واد فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت مخالطة الناس إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة وكم زرعت من عداوة وكم

غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله القسم الثاني: من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك فإذا فارقك سكن الألم ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب

الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر" ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله فالتفت إلي وقال: "مجالسة الثقيل حمى الربع ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة" أو كما قال وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم فإن اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة والمعروف منكرا والمنكر معروفا إن جردت التوحيد بينهم قالوا تنقصت جناب الأولياء والصالحين وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين وإن وصفت الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا: أنت من المفتنين وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا أنت من المبلسين وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم فأنت عند الله تعالى من الخاسرين وعندهم من المنافقين فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم وأن لا تشتغل بإعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم ولا بغضبهم فإن عين كمالك كما قال: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل وقال آخر:

وقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امريء غير طائل فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه أبواب جهنم وفتح عليها أبواب الرحمة وانغمر ظاهره وباطنه ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد القوم التقي وعند الصباح يحمد القوم السرى والله الموفق لا رب غيره ولا إله سواه.

المجلد الثالث

المجلد الثالث المجلد الثالث ... بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية المجلد الثالث بسم الله الرحمن الرحيم فصل: دعاء العبادة ودعاء المسألة قوله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} . هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويرادبه مجموعهما وهما متلازمان فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضرر ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} وقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وقوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أو يَنْفَعُونَكُمْ أو يَضُرُّونَ} وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر القاصر والمتعدي فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم. وهذا في القرآن كثير بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع

والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة ويدعى خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة وعلى هذا فقوله تعالى: {وَإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ} يتناول نوعي الدعاء وبكل منهما فسرت الآية قيل أعطيه إذا سألني وقيل أثيبه إذا عبدني والقولان متلازمان وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقة ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقةته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا فتأمله فإنه موضع عظيم النفع قل من يفطن له وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل ومثال ذلك قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} فسر بالزوال وفسر الدلوك بالغروب وحكيا قولين في كتب التفسير وليسا بقولين بل اللفظ يتناولهما معا فإن الدلوك هو الميل ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهي فمبدأه الزوال ومنتهاه الغروب فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار لا يتناول المشترك لمعنييه ولا اللفظ لحقيقته ومجازه. ومثاله أيضا ما تقدم من تفسير الغاسق بالليل والقمر وإن ذلك ليس باختلاف بل يتناولهما لتلازمهما فإن القمر آية الليل ونظائره كثيرة. ومن ذلك قوله عز وجل: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} قيل لولا دعاؤكم إياه وقيل دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول وعلى الأول مضافا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين وعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه. ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ولهذا عقبة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن ذر عن نسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله يقول على المنبر: "إن

الدعاء هو العبادة" ثم قرأ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح". وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} َ وقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً} وقوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة: أحدها: أنهم قالوا {إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى} فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم. الثاني: أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في مواضع أخرى بأنه العبادة كقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أو يَنْتَصِرُونَ} وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنتمْ لَهَا وَارِدُونَ} وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وهو كثير في القرآن فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها. الثالث: أنهم إنما كانوا يعبدونها ويتقربون بها إلى الله فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هو دعاء العبادة، والمعنى: اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره. وأما قول إبراهيم الخليل: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} فالمراد بالسمع هنا السمع الخاص وهو سمع الأجابة والقبول لا السمع العام لأنه سميع لكل مسموع وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء وأجابته للطلب فهو سميع لهذا وهذا. وأما قول زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} فقد قيل إنه دعاء المسألة؛ والمعنى إنك عودتني أجابتك وإسعافك ولم تشقني بالرد والحرمان فهو توسل إليه تعالى بما سلف من أجابته وإحسانه كما حكى أن رجلا سأل رجلا وقال أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا وكذا فقال مرحبا

بمن توسل إلينا بنا وقضي حاجته وهذا ظاهر ههنا ويدل عليه أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد وجعله وسيلة إلى ربه فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوّده من قضاء حوائجه إلى ما سأله {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ، فأما قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الاسماءُ الْحُسْنَى} فهذا الدعاء المشهور وأنه دعاء المسألة وهو سبب النزول قالوا: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا ربه فيقول مرة "يا الله" ومرة: "يا رحمن" فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعوا إليهين فأنزل الله تعالى هذه الآية، قال ابن عباس: "سمع المشركون النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في سجوده (يا رحمن يا رحيم) فقالوا: هذا يزعم أنه يدعوا واحدا وهو يدعوا مثنى مثنى فأنزل الله هذه الآية {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ} . وقيل إن الدعاء ههنا بمعنى التسمية كقولهم: "دعوت ولدي سعيدا" "وادعه بعبد الله" ونحوه والمعنى: سموا الله أو أو سموا الرحمن فالدعاء ههنا بمعنى التسمية وهذا قول الزمخشري والذي حمله على هذا قوله: {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الاسماءُ الْحُسْنَى} فإن المراد بتعدده معنى أي وعمومها ههنا تعدد الاسماء ليس إلا والمعنى أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى إما الله إما الرحمن فله الاسماء الحسنى أي فللمسمي سبحانه الاسماء الحسنى والضمير في (له) يعود إلى المسمى فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في الداء في هذه الآية على التسمية وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المرادبالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في (تدعوا) معنى تسموا فتأمله؛ والمعنى أيا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم والله أعلم. وأما قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة والمعنى إنا كنا من قبل نخلص له العبادة وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض والفوز

والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب. وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً} أي لن نعبد غيره وكذلك قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} . وأما قوله تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} فهذا من دعاء المسألة يبكتهم الله عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم وليس المراد اعبدوهم. وهو نظير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة وأنها هل نقلت عن مسماها في اللغة فصارت حقيقة شرعية منقولة أو استعملت في هذه العبادة مجازا للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائط وعلى ما قررناه ولا حاجة إلى شيء عبادة وثناء أو دعاء طلب ومسألة وهو في الحالين داع فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء فتأمله. إذا عرفت هذا فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فإنه يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن: "بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وأن الله تعالى ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} ". وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة: أحدها: أنه أعظم إيمانا لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي وليس كالذي قال أن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع وصوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به. ثالثها: أنه أبلغ في

التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوله بالنطق فقلبه سائل طالب مبتهل ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا. رابعها: أنه أبلغ في الأخلاص. خامسها: أنه أبلغ في جمعه القلب على الله تعالى في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى. سادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدا أنه دال على قرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه فيسألة مسألة مناجاة للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه وإنه أقرب إليه من كل قريب وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه، ولله المثل الأعلى سبحانه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: "اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" وقال تعالى: {وَإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ} . وقد جاء أن سبب نزولها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: {وَإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ} ، وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء وإنما يسأل مسألة القريب

المناجي لا مسألة البعيد المنادي وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قربا عاما من كل أحد فهو قريب من داعيه وقريب من عابده, وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الأجابة الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه بل هو قرب خاص من الداعي والعابد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم راويا عن ربه تبارك وتعالى "من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا" رواه البخاري ومسلم، فهذا قربه من عابده وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى: {وَإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ} وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب، وأما قربة تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر وشأن آخر كما قد ذكرناه في كتاب التحف المكية على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب وإياك ثم إياك أن تعبر عنه بغير العبارة النبوية أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل قدم بعد ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح وقابلهم من غلط حجابه فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوف فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا، وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهؤلاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق. والمقصود ههنا الكلام علي هذه الآية. سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه وهذانظير من يقرأويكرر رافعا صوته فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته. ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والأنس فشوشت عليه ولا بد ومانعته وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف

أثر الدعاء لكفى ومن له تجربة يعرف هذا فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة. تاسعها: إن أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له، وقد قال يعقوب ليوسف: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار فأصبح يقلب كفيه ولهذا يوصى العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك: من سارروه فأبدي السر مجتهدا ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ... وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا لا يأمنون مذيعا بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذلكم حاشا والقوم أعظم شيء كتمانا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه ولا سيما للمبتدىء والسالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا يخشي عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به لم يبال وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله. وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين وهذه فائدة شريفة نافعة. عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه فهو ذكر وزيادة كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء: الحمد لله" فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض لأن الحمد يتضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب فالحامد طالب لمحبوبه فهو أحق أن

يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما فتأمل هذا الموضع ولا تحتاج إلى ما قيل إن الذاكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض كما قال أمية بن أبي الصلت: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب المحب فهو دعاء حقيقة بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه قال مجاهد وابن جريج: "أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح" وقد تقدم حديث أبي موسى: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" رواه البخاري ومسلم. وتأمل كيف قال في آية الذكر {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} وفي آية الدعاء {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والانكسار وهو روح الذكر والدعاء وخص الدعاء الخفيه لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخفيه لحاجة الذاكر إلى الخوف فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد فمن أكثر من ذكر الله تعالى أثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره لأنها توجب الإدلال والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل ولقد

حدثني رجل إنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ: أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟ فقال له: بلى، فقال له: فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم أو كما قال وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه، فقال له: هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعى حفظ قلبه أو كما قال. فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها وهو يظن أنه من الخاصة أنواع العبادة، سبب هذا اقتران الخوف من الله تعالى بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف: "من عبد الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجي ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن", وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف فهذه طريقة عبادة وأوليائه وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات ويقول المحب لا يضره ذنب. وصنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا "إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب" وهذا كذب قطعا مناف للإسلام فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ وأما عن رسول الله فمعاذ الله من ذلك فله محمل وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب لأن الإصرار على الذنب مناف لكونه محبا لله وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه فإنه يمحو أثره ولا يضر الذنب وكلما أذنب وتاب إلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره

فهذا المعنى صحيح والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب، والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير، والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها، فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق وتركت تركب التعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها، فما حفظت حدود الله ومحارمه ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب عن هذه الثلاثة فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضغف إيمانه بحسبه اقتران الخيفة والخفية بالذكر والدعاء. فتأمل أسرار القرآن الكريم وحكمته في هذا الاقتران فإنه قال: {اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} فلم يحتج بعدها أن يقول: (خفية) وقال في الدعاء: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} فلم يحتج أن يقول في الأول ادعوا ربكم تضرعا وخيفة فانتظمت كل واحدة من الآيتين للخيفة والخفية والتضرع أحسن أنتظام ودلت على ذلك أكمل دلالة. وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء لأن الدعاء مبني عليه فإن الداعي ما لم يطمع في سؤله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبة إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع. وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه كما تقدم فذكر في كل آية ما هو اللائق بها والأولى بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين. فصل المقصود بقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . وقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قيل المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك وقد روى أبو داود

في سنته من حديث حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي نعامة "أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوّذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه سيكون في هذه الآمة قوم يعتدون في الطهور ". وعلى هذا فالاعتداء بالدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يساله تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب أو يسأله أن يطلعه على غيبه أو يساله أن يجعله من المعصومين أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء فكل سؤال يناقض حكمه الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء قال ابن جريح: "من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء والنداء في الدعاء والصياح" وبعد فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء في الدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء دعاء كان أو غيره كما قال: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان وهم الذين يدعون معه غيره فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله أنه لا يحب المعتدين ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع بل دعاء مدل كالمستغني بما عنده المدل على ربه به وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد ومن الاعتداء أن تعبده بما لم يشرعه وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه فإن هذا اعتداء

في دعاء الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين: أحدهما محبوب للرب تبارك وتعالى مرض له وهو الدعاء تضرعا وخفية، الثاني: مكروه له مبغوض مسخوط وهو الاعتداء فأمر بما يحبه الله وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير وهو أنه لا يحب فاعله ومن لم يحبه الله فأي خير يناله وفي قوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} عقب قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم. فقسمت الآية الناس إلى قسمين: داع لله تضرعا وخفية, ومعتد بترك ذلك. فصل: وقوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاحِهَا} قال أكثر المفسرين: "لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} وقال عطية في الآية: "ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم"، وقال غير واحد من السلف: "إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول: اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر" وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والأتباع لرسوله ليس إلا وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة

فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده ونهي عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله. ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله وكل شر في العالم وفتنة وبلا وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله. ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره عموما وخصوصا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فصل: تكرار الأمر بالدعاء. وقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} إنما كرر الأمر بالدعاء لما ذكر معه من الخوف والطمع فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية ثم أمر بأن يكون الدعاء أيضا خوفا وطمعا وفصل بين الجملتين إحداهما خبرية ومتضمنة للنهي وهي قوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} والثانية طلبية وهي قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاحِهَا} والجملتان مقررتان مقويتان للجملة الأولى مؤكدتان لمضمونها. ثم لما ثم تقريرها تقدم وبيان ما يضادها ويناقضها أمر بدعائه خوفا وطمعا ثم قرر ذلك وأكد مضمونة بجملة خبرية وهي {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فتعلق هذه الجملة بقوله وادعواه خوفا وطمعا كتعلق قوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ولما كان قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان وهي الحب والخوف والرجاء عقبها بقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي إنما ينال من دعاة خوفا وطمعا فهو المحسن والرحمة قريب منه لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابله الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله:

{نَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وجوب أنتصاب قوله: {خَوْفاً وَطَمَعاً} إن أنتصاب قوله: {تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} و {خَوْفاً وَطَمَعاً} قيل هو على الحال أي ادعوه متضرعين مخفين خائفين طامعين وهذا هو الذي رجحه السهيلي وغيره وقيل هو نصب على المفعول له وهذا قول كثير من النحاة وقيل هو نصب على المصدر وفيه على هذا تقديران أحدهما أنه منصوب بفعل مقدر من لفظ المصدر والمعنى تضرعوا إليه تضرعا واخفوا خفية الثاني أنه منصوب بالفعل المذكور نفسه لأنه في معنى المصدر فإن الداعي متضرع في حصول مطلوبة خائف من فواته فكأنه قال تضرعوا تضرعا والصحيح في هذا أنه منصوب على الحال والمعنى عليه فإن المعنى ادعوا ربكم متضرعين إليه خائفين طامعين ويكون وقوع المصدر موقع الاسم على حد قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} وقولهم: رجل عدل ورجل صوم قال الشاعر: فإنما هي إقبال وإدبار وهو أحسن من أن يقال: (ادعوه متضرعين خائفين) والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان الدعاء الموصوف المقيد بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته لأن يكون صفة للفاعل وصفة للفعل المأمور به فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت: اذكر ربك تضرعا فإنك تريد اذكره متضرعا إليه واذكره ذكر تضرع فأنت مريد للأمرين معا ولذلك إذا قلت: ادعه طمعا أي ادعه دعاء طمع وادعه طامعا في فضله وكذلك إذا قلت ادعه رغبة ورهبة كقوله تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا كان المراد ادعه راغبا وراهبا وادعه دعاء رغبة ورهبة. فتأمل هذا الباب تجده كذلك فأتى فيه بالمصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال ومما يدل على هذا أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لكيف فإذا قيل كيف أدعوه قيل تضرعا وخفية وتجد اقتضاء كيف لهذا أشد من اقتضاء لم ولو كان مفعولا له لكان جوابا ل لم ولا تحسن هنا ألا ترى أن المعنى ليس عليه فإنه لا يصح أن

يقال لم أدعوه فيقول تضرعا وخفية وهذا واضح ولا هو أنتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه من صلاحيته جوابا لـ (كيف) ، وبالجملة فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال بل الإتيان بالحال ههنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما والله أعلمز فصل: حق العبد الرحمة وواجبه الإحسان وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا وطمعا فقرب مطلوبكم منكم وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم فإن الله تعالى هو الغني الحميد وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله ودلالة بمفهومه فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بتعليله وإيمائه على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة. وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته والله سبحانه يحب المحسنين وببغض من ليس من المحسنين ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه. والإحسان ههنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه

فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابه وحياء ومحبة وخشية فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه" رواه مسلم الترمذي والنسائي وغيرهم. وإذا كان هذا هو الإحسان فرحمه الله قريب من صاحبه فإن الله إنما يرحم أهل توحيده المؤمنين به وإنما كتب رحمته {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} والذين يتبعون رسوله فهؤلاء هم أهل الرحمة كما أنهم هم المحسنون وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان و {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاّ الإحْسَانُ} يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه قال ابن عباس: "هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة" وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: "قرأ رسول الله {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاّ الإحْسَانُ} ثم قال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال: يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ". فصل: وأما الإخبار عن الرحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله (قريب) وهو مذكر ففيه اثنا عشر مسلكا نذكرها ونبين ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب: المسلك الأول: أن فعيلا على ضربين: أحدهما يأتي بمعنى فاعل كقدير وسميع وعليم والثاني يأتي بمعنى مفعول كقتيل وجريح وكف خضيب وطرف كحيل وشعر دهين كله بمعنى مفعول فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر كجميل وجميلة وشريف وشريفة وصبيح وصبيه وصبي وصبية ومليح ومليحة فطويل وطويلة ونحوه وإذ أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن يكون يصحب الموصوف كرجل قتيل وامرأة قتيل أو يفرد عنه فإن

صحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث كرجل قتيل وامرأة قتيل وإن لم يصحب الموصوف فإنه يؤنث إذا جرى على المؤنث نحو قتيلة بني فلان ومنه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {وَالنَّطِيحَةُ} هذا حكم فعيل وفعول قريب منه لفظا ومعنى فإنهما مشتبهان في الوزن والدلالة على المبالغة وورودها بمعنى فاعل ومفعول ولما كان فعيل أخف استغنى به عن فاعل في المضاعف كجليل وعزيز وذليل كراهية منهم لثقل التضعيف إذ قالوا جالل وعازز وذالل فأتوا بفعيل مفصولا فيه بين المثلين بالياء الساكنة ولم يأتوا في هذا بفعولا لأن فعيلا أخف منه ولخفته أيضا اطرد بناؤه من فعل كشريف وظريف وجميل ونبيل وليس لفعول بناء يطرد منه ولخفته أيضا كان في أسماء الله تعالى أكثر من فعول فإن الرحيم والقدير والحسيب والجليل والرقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرؤوف والغفور والشكور والصبور والودود والعفو ولا يعرف إلا هذه الألفاظ الستة وإذا ثبت التشابه بين وفعيل فعول فيما ذكرنا وكانوا قد خصوا فعولا الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث وشركوا بينهما في لفظ المذكر فقالوا رجل صبور وشكور وامرأة صبور وشكور ونظائرهما وأما عدو وعدوة فشاذ فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كرجل ملولة وفروقة وامراة كذلك وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كحلوبة وركوبة فإذا تقر فقريب في الآية هو فعيل بمعنى فاعل وليس المراد أنه بمعنى قارب بل بمعنى اسم الفاعل العام فكان حقه أن يكون بالتاء ولكنهم أجروه مجرى فعيل بمعنى مفعول فلم يلحقوه التاء كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقه التاء كما قالوا خصلة حميدة وفعله ذميمة بمعنى محموده ومذمومة فحملا على جميلة وشريفة في لحاق التاء فحملوا قريبا على امرأة قتيل وكف خضيب وعين كحيل في عدم إلحاق التاء حملا لكل من البابين على الآخر ونظيره قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فحمل رميما وهي بمعنى

فاعل على امرأة قتيل وبابه. فهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة وعليه يعتمدون وقد اعترض عليه بثلاثة اعتراضات: أحدها: أن ذلك يستلزم التسوية بين اللازم والمتعدي فإن فعيلا بمعنى مفعول بابه الفعل المتعدى وفعيلا بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم لأنه غالب ما يأتي من فعل المضموم العين فلو جرى على أحدهما حكم الآخر لكان ذلك تسوية بين اللازم والمتعدي وهو ممتنع. الاعتراض الثاني: إن هذا أن ادعى على وجه العموم فباطل وإن ادعى على سبيل الخصوص فما الضابط وما الفرق بين ما يسوغ فيه هذا الاستعمال وما لا يسوغ. الاعتراض الثالث: أن العرب قد نطقت في فعيل بالتاء وهو بمعنى مفعول وجردته من التاء وهو بمعنى فاعل قال جرير يرثي خالته: نعم القرين وكنت علق مضنه ... وأرى بنعق بلية الأحجار فجرد القرين من التاء وهو بمعنى فاعل وقال: فسقاك حيث حللت غير فقيدة ... هزج الرواح وديمة لا تقلع فقرن فقيدة بالتاء وهو فعيل بمعنى مفعول أي غير مفقودة وقال الفرزدق: فداويته عامين وهي قريبة ... أراها وتدنوا لي مرار وأرشف ويقولون: (امرأة فتين وسريح وهريت) فجردوه عن التاء وهو بمعنى فاعل وقالوا: (امرأة فروك وهلوك ورشوف وأنوف) فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور وقالوا: (امرأة عروب) فجردوه وهو بمعنى فاعل أيضا ودعوى أن التاء ههنا للمبالغة لا دليل عليها فقد رأيت اشتراك فعول وفعيل في الاقتران بالتاء والتجرد منها

فدعوى أصالة المجرد منهما وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها ومع مقابلها قياس اللغة في اقتران المؤنث وتجريد المذكور. وأما ما استشهدتم به من قوله تعالى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فهو على وفق قياس العربية فإن العظام جمع عظيم وهو مذكر ولكن جمعه جمع تكسير وجمع التكسير يجوز أن يراعى فيه تأنيث الجماعة وباعتباره قال وهي ولم يقل وهو ويراعى فيه معنى الواحد وباعتبار قال رميم كما يقال عظم رميم مع أن رميما يطلق على جمع المذكر مفردا وجمعا قال جرير: إلى المهلب جذ الله دابرهم ... أمسو رميما فلا أصل ولا طرف فهذا الاعتراض على هذا المسلك. فصل: المسلك الثاني أن قريبا في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى كقول الشاعر: أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضم إلى كشحيه مخضبا فكف مؤنث ولكن تأويله بمعنى عضو وطرف فذكر صفته فكذلك تؤل الرحمة وهي مؤنثة بالإحسان فيذكر خبرها. قالوا وتأويل الرحمة أولى من تأويل الكف بعضو لوجهين: أحدهما أن الرحمة معنى قائم بالرحم والإحسان هو بر المرحوم ومعنى القرب في البر من المحسنين أظهر منه في الرحمة. الثاني أن ملاحظة الإحسان بالرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين هو مقابلة للإحسان الذي صدر منهم وباعتبار المقابلة ازداد المعنى قوة واللفظ جزالة حتى كأنه قال إن إحسان الله قريب من أهل الإحسان كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاّ الإحْسَانُ} فذكر قريبا ليفهم منه أنه صفة لمذكر وهو الإحسان فيفهم المقابلة المطلوبة قالوا ومن تأويل المؤنث بمذكر ماأنشده الفراء:

وقائع في مضر تسعة ... وفي وائل كانت العاشرة فتأول الوقائع وهي مؤنثة بأيام الحرب المذكرة فأنث العدد الجاري عليها فقال تسعة ولولا هذا التأويل لقال تسع لأن الوقائع مؤنثة قالوا وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال جاءته كتابي أي صحيفتي وفي قول الشاعر: يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت أي ما هذه النصيحة مع أنه حمل أصل على فرغ فلأن يجوز تأويل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع على أصل أولى وأحرى وهذا وجه جيد وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين: أحدهما: أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه لجاز أن يقال كلمتني زيد أكرمتني عمرو وكلمني هند وأكرمني زينب تأويلا لزيد وعمرو بالنفس والجثة وتأويلا لهند وزينب بالشخص والشيخ وهذا باطل وهذا الاعتراض غير لازم فإنهم لم يدعوا اطراد ذلك وإنما ادعوا أنه مما يسوغ أن يستعمل وفرق بين ما يسوغ في بعض الأحيان وبين ما يطرد كرفع الفاعل ونصب المفعول وهم لم يدعوا أنه من القسم الثاني ثم إن هذا الاعتراض مردود بكل ما يسوغ استعماله بمسوغ وهو غير مطرد وهو أكثر من أن يذكر ههنا ولا ينكره نحوى أصلا وهل هذا إلا اعتراض على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات وأهل العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك فلو أنهم قالوا يجوز تاويل كل مؤنث بمذكر يوافقه وبالعكس لصح النقض وأنما قالوا يسوغ أحيانا تاويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمنها التأويل كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرحمة بالإحسان. الاعتراض الثاني: أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملا على حقيقتة أو مجازة وهما ممتنعان فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر لأن الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها وقد يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعة كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه وغيرهم لمصلحة ملكه مع أنه

لا رحمة عنده وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازا؛ أما الحقيقة فظاهر وأما المجاز فإن شرطه خطور المعنى المجازي بالبال ليصح انتقال الذهن إليه فإذا كان منفكا عن الحقيقة لم يخطر بالذهن وهذا الاعتراض أفسد من الذي قبله وهو من باب التعنت والمناكدة وأين هذا من قول أكثر المتكلمين ولعل هذا المعترض منهم أنه لا معنى للرحمة غائبا إلا الإحسان المحض وأما الرقة التي في الشاهد فلا يوصف الله تعالى بها وإنما رحمته مجرد إحسانه ومع أنا لا نرتضي هذا القول بل تثبت لله تعالى الرحمة حقيقة كما أثبتها لنفسه منزهة مبراة عن خواص صفات المخلوقين كما نقوله في سائر صفاته من إرادته وسمعه وبصره وعلمه وحياته وعلمه وحياته وسائر صفات كماله فلم نذكره إلا لنبين فساد اعتراض هذا المعترض على قول أئمته ومن قال بقوله من المتكلمين ثم نقول الرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته استلزام الخاص للعام فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته يستحيل وجودها وأما قضية الأم العاجزة فإنها وإن لم تكن تقدر على الإحسان بالفعل فهي محسنة بالإرادة فرحمتها لا تنفك عن إرادتها التامة للإحسان التي يقترن بها مقدورها إما بدعاء وإما بأيثار بما تقدر عليه ونحو ذلك فتخلف بعض الإحسان الذي لا تقدر عليه عن رحمتها لا يخرج رحمتها عن استلزامها للإحسان المقدور وهذا واضح وأما الملك القاسي إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون رحمة فهذا لأن الإحسان أعم من الرحمة والأعم لا يستلزم الأخص وهم لم يدعوا ذلك فلا يلزمهم وأيضا فإن الإحسان قد يقال إنه يستلزم الرحمة وما فعله الملك المذكور فليس بإحسان في الحقيقة وإن كانت صورته

صورة الإحسان وبالجملة فالعنت والمناكدة على هذا الاعتراض أبين من أن يتكلف معه رده وإبطاله. فصل: المسلك الثالث أن (قريبا) في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال إن مكان الرحمة قريب من المحسنين ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره ومن ذلك قول الشاعر حسان: يسقون من ورد البريص عليهم ... بردي يصفق بالرحيف السلسل فقال يصفق بالياء وبردى هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بيديه ذهبا وحريرا فقال: " هذان حرام على ذكور أمتي" فقال حرام بالإفراد والمخبر عنه مثنى كأنه قال استعمال هذين حرام وهذا المسلك ضعيف جدا لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقا وإلا لالتبس الخطاب وفسد التفاهم وتعطلت الأدلة إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر متضمن مأمورا به ومنهيا عنه ومخبرا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف يخرجه عن تعلق الأمر والنهي والخبرية فيقول الملحد في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} أي معرفة حج البيت و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي معرفة الصيام وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة كما إذا قيل أكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس وكذلك إذا قلت أكل فلان كبد فلان إذا أكل ماله فإن المفهوم أكل ثمرة كبده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة وليس منه {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان

في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من الشراب والذنوب للدلو الملآن ماء النهر والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره ثم إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظه ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة وعلى المسكن تارة بحسب سياق الكلام وبساطه وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه فلا إضمار في ذلك ولا حذف فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه. وإذا عرفت هذا فقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ليس في اللفظ ما يدل على إرادة موضع ولا مكان أصلا فلا يجوز دعوى إضماره بل دعوى إضمار خطأ قطعا لأنه يتضمن الإخبار بأن المتكلم أراد المحذوف ولم ينص على إرادته دليلا لا صريحا ولا لزوما فدعوى المدعي أنه أراده دعوى باطلة وأما قوله بردى يصفق فليس أيضا من باب حذف المضاف بل اراد ببردى النهر وهو مذكر فوصفه بصفة المذكر فقال يصفق فلم يذكر بناء على حذف المضاف وإنما ذكر بناء على أن بردى المراد به النهر فإن قلت فلا بد من حذف مضاف لأنهم إنما يسقون ماء بردى لا نفس النهر قلت هذا وإن كان مراد الشاعر فلم يلزم منه صحة ما ادعاه من أنه ذكر يصفق باعتبار الماء المحذوف فإن تذكيره إنما يكون باعتبار إرادة النهر وهو مذكر فلا يدل على ما ادعوه. وأما قوله: " هذان حرام" ففي إفراد الخبر سر بديع جدا وهو التنبيه والإشارة على أن كل واحد منهما بمفرده موصوف بأنه حرام فلو ثنى الخبر لم يكن فيه تنبيه على هذا المعنى فلهذا أفرد الخبر فكأنه قال وكل واحد من هذين حرام فدل إفراد الخبر على إرادة الإخبار عن كل واحد بمفرده فتأمله فإنه من بديع اللغة وقد تقدم بيانه في هذا التعليق في مسألة كلا وكلتا وإن قولهم: (كلاهما قائم) بالإفراد لا يدل على أن كلا مفرد كما ذهب إليه البصريون بل هو مثنى حقيقة وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن

الإخبار عن كل واحد منهما بالقيام وقد قررنا ذلك هناك بما فيه كفاية. فصل: المسلك الرابع: أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامة كأنه قال إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين أو لطف قريب أو بر قريب ونحو ذلك وحذف الموصوف كثير فمنه قول الشاعر: قامت تبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذل من ليس له ناصر المعنى تركتني شخصا أو إنسانا ذا غربة ولولا ذلك لقالت تركتني ذات غربة ومنه قول الآخر: فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ... فراقك لم أبخل وأنت صديق أراد وأنت شخص أو إنسان صديق وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة حائض وطالق وطال فقال كأنهم قالوا شيء حائض وشيء طامث. وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه: أحدها: أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقاومة إنما يحسن بشرطين أن تكون الصفة خاصة يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره. الثاني: أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر والعالم والجاهل والمتقي والرسول والنبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما غلب استعمال الصفة فيه مجردة عن الموصوف فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وهو كثير جدا في القرآن وكلام العرب وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار على الصفة فلا يحسن أن تقول: جاءني طويل ورأيت جميلا أو قبيحا

وأنت تريد جاءني رجل طويل ورأيت رجلا جميلا أو قبيحا ولا تقول: سكت في قريب تريد في مكان قريب مع دلالة السكنى على المكان. الثاني: إن الشيء أعم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فضلا عن أن يكون بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة فأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق شيء حائض وشيء طامث وشىء طالق وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع فكيف يقدر في الكلام مع أنه لا يتضمن فائدة أصلا إذ كونه شيئا أمر معلوم عام لا يدل على مدح ولا ذم ولا كمال ولا نقصان وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوى الاعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: {وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} بالجر أنه قسم ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} إن المقيمين مجرور بواو القسم ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهي بكثير بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانيه فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها

فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله. الوجه الثالث: أن طالقا وحائضا وطامثا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث فلا لبس فلا حاجة إلى التاء هذا هو الصواب في ذلك وهو المذهب الكوفي. فإن قلت هذا خلاف مذهب سيبويه، قلت فهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين هذه طريقة الخفافيش فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين أبدا وقليل ما هم ولا ريب أن أبا بشر رحمة الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره فهو المصلى في هذا المضمار ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب وإن لا حق إلا ما قاله وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه والمبرزون منهم ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به ولا تنس قوله في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بأضافه حسن إلى الوجه والوجه إلى الضمير ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك فسيبويه رحمة الله ممن يؤخذ من قوله ويترك وأما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا وسنفرد إن شاء الله كتابا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان الراجح من ذلك وبالله التوفيق والتأييد. فإن قلت يكفي في رد ما اخترتموه في طامث وحائض وطالق من المذهب الكوفي قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} فهذا وصف يختص به الإناث وقد جاء بالتاء قلت ليس في هذا

ولله الحمد رد لهذا المذهب ولا إبطال له فإن دخول التاء ههنا يتضمن فائدة لا تحصل بدونها فتعين الإتيان بها وهي أن المراد بالمرضعة فاعلة الرضاع فالمراد الفعل لا مجرد الوصف ولو أريد الوصف المجرد بكونها من أهل الأرضاع لقيل مرضع كحائض وطامث ألا ترى إلى قوله: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" فإن المراد به الموصوفة بكونها من أهل الحيض لا من يجري دمها فالحائض والمرضع وصف عام يقال على من لها ذلك وصفا وإن لم يكن قائما بها ويقال على من قام بها بالفعل فأدخلت التاء ههنا إيذانا بأن المراد من تفعل الرضاع فإنها تذهل عما ترضعه لشدة هول زلزلة الساعة وأكد هذا المعنى بقوله: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} فعلم أن المراد المرضعة التي ترضع بالفعل لا بالقوة والتهيؤ وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا. فصل: المسلك الخامس أن هذا من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني كقول الشاعر: لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع وقال الآخر: مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم وقال الآخر بغي النفوس معيدة نعماءها ... نقما وإن عمهت وطال غرورها فأنت في الأول السور المضاف إلى المدينة وفي الثاني المر المضاف إلى الرياح وفي الثالث البغي المضاف إلى النفوس لتأنيث المضاف إليه مع أن التذكير أصل والتأنيث فرع فحمل الأصل على الفرع فلأن يجوز تذكير المؤنث لإضافته إلى غير

مؤنث أولى لأنه حمل للفرع على الأصل ومن الأول أيضا قول الشاعر: وتشرق بالأمر الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم فأنّث الصدر لإضافته إلى القناة وأنشدني بعض أصحابنا لأبي محمد بن حزم في هذا المعنى بإسناد لا يحضرني: تجنب صديقا مثل ما واحذر الذي ... تراه كعمرو بين عرب وأعجم فإن صديق السوء يردي وشاهدي ... كما شرقت صدر القناة من الدم منه قول النابغة الذبياني: حتى استغن بأهل الملح ضاحية ... يركضن قد قلقت عقد الأطانيب وهذا المسلك وإن كان قد ارتضاه غير واحد من الفضلاء فليس بقوي لأنه إنما يعرف ومنه قول لبيد: فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت أقدامها مجيئه في الشعر ولا يعرف في الكلام الفصيح منه إلا النادر كقولهم ذهبت بعض أصابعه والذي قواه ههنا شدة اتصال المضاف بالمضاف إليه وكونه جزؤه حقيقة فكأنه قال ذهبت إصبع وإصبعان من أصابعه وحمل القرآن على المكثور الذي خلافه أفصح منه ليس بسهل. فصل: المسلك السادس إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الأخ لكونه تبعا له ومعنى من معانيه فإذا ذكر أغنى عن ذكره لأنه يفهم منه ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فاستغنى عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} المعنى والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك

فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله إذ إرضاؤه هو إرضاء رسوله فلم يحتج أن يقول يرضوهما فعلى هذا يكون الأصل في الآية: إن الله قريب من المحسنين، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسي تعبيرا أحسن من هذا وهو مسلك لطيف المنزع دقيق على الأفهام وهو من أسرار القرآن والذي ينبغي أن يعبر عنه به أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه لأن الصفة لا تفارق موصوفها فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين. وقد تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بأجابته وذكرنا شواهد ذلك وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب من ربه بالإحسان وأن من تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم وقربة يستلزم قرب رحمته ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربة وقرب رحمته ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم لأن قربة تعالى أخص من قرب رحمته والأعم لا يستلزم الأخص بخلاف قربة فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأنا وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم فهو مسلك سابع في الآية وهو المختار وهو من أليق ما قيل فيها وإن شئت قلت قربة تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضا قريب منهم وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه

من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربة تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها فكان في العدول عن قريب إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله تعالى. فصل: المسلك الثامن إن الرحمة مصدر والمصادر كما لا تثنى ولا تجمع فحقها أن لا تؤنث وهذا المسلك ضعيف جدا فإن الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وقوله فيما حكى عنه رسوله: "إن رحمتي غلبت أو سبقت غضبي " رواه البخاري ومسلم والترمذي ولو كان حذف التاء من الرحمة لكونها مصدرأ والمصادر لا حظ للتأنيث فيها لم يعد عليها الضمير إلا مذكرا وكذلك ما كان من المصادر بالتاء كالقدرة والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا المسلك. فصل: المسلك التاسع أن القريب يراد به شيئان: أحدهما: النسب والقرابة فهذا بالتاء تقول فلانه قريبة لي. والثاني: قرب المكان وهذا بلا تاء تقول جلست فلانه قريبا مني ولا تقول قريبة منى وهذا مسلك الفراء رحمة الله وجماعة وهو أيضا ضعيف فإن هذا إنما هو إذا كان لفظ القريب ظرفا فإنه يذكر كما قال تقول جلست المرأة مني قريبا فأما إذا كان اسما محضا فلا.

فصل: المسلك العاشر: أن تأنيث الرحمة لما كان غير حقيقي ساغ فيه حذف التاء كما تقول طلع الشمس وطلعت وهذا المسلك أيضا فاسد فإن هذا إنما يكون إذا أسند الفعل إلى ظاهر المؤنث فإما إذا أسند إلى ضميره فلا بد من التاء كقولك الشمس طلعت وتقول الشمس طالعة ولا تقول طالع لأن في الصفة ضميرها فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء. فصل: المسلك الحادي عشر: أن القريب مصدر لا وصف وهو بمنزلة النقيض فجرد من التاء لأنك إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء ولهذا تقول امرأة عدل ولا تقول عدلة وامرأة صوم وصلاة وصدق وبر ونظائره وهذا المسلك من أفسد ما قيل عن القريب فإنه لا يعرف استعماله مصدرا أبدا وإنما هو وصف والمصدر هو القرب لا القريب. فصل: المسلك الثاني عشر: إن فعيلا وفعولا مطلقا يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي كما قال امرؤ القيس: يرهرهه رودة رخصة ... كخرعوبة البانة المنقطر قطيع القيام فتور الكلام ... تفتر عن ذي عزوب خصر

وقال أيضا: له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا وقال جرير: أتنفعك الحياة وأم عمرو ... قريب لا تزور ولا تزار وقال جرير أيضا: كأن لم نحارب يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق وقال أيضا: دعون الهون ثم ارتهن قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق قالوا وشواهد ذلك كثيرة وفي هذا المسلك غنية عن تلك التعسفات والتأويلات. وهذا المسلك ضعيف أيضا ومما رده أبو عبد الله بن مالك فقال: هذا القول ضعيف لأن قائله إما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحق ما يستحقه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد وإما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول فالأول مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما وزنا ودلالة" ولذلك احتاج علماؤهم أن يقولوا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} وقوله: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} أن الأصل هو يغوى على فعول فلذلك لم تلحقه التاء ثم أعل بأبدال الواو ياء والضمة كسرة فصار لفظه كلفظ فعيل ولو كان فعيلا أصلا للحقته التاء فقيل الم أك بغية والثاني أيضا مردود لأن لفعيل على فعول من المزايا ما لا يليق به أن يكون تبعا له بل العكس أولى أن يكون فعولا تبعا لفعيل ولأنه يتضمن حمل فعيل على فعول وهما مختلفان لفظا ومعنى أما اللفظ فظاهر وأما المعنى فلأن قريبا لا مبالغة فيه لأنه يوصف به كل ذي قرب وإن قل وفعول لا بد فيه من المبالغة وأيضا فإن الدال على المبالغة لا بد أن يكون له بنية لا مبالغة فيها ثم يقصد به المبالغة فتتغير بنيته كضارب وضروب وعالم وعليم وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه. وأما بيت امرؤ القيس فلا حجة فيه لوجوه:

أحدها: أنه نادر فلا حكم له فلا كثرت صوره ولا جاء على الأصل كاستجوذ واستوثق البعير واغيمت السماء واغور واحول وما كان كذلك فلا حكم له. الثاني: أن يكون قد أراد قطيعة القيام ثم حذف التاء للأضافه فإنها تجوز بحذفها عند الفراء وغيره وعليه حمل قوله تعالى: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ} أي إقامتها لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظ الإقامة ولا يقال إقام دون أضافه كما لا يقال أراد في أرادة ولا أقال في إقالة لأنهم جعلوا هذه التاء عوضا عن ألف إفعال أو عينه لأن أصل إقامة أقوام فنقلت حركة العين إلى الفاء فانقلبت ألفا فالتقت ألفان فحذفت إحداهما فجاءوا بالتاء عوضا فلزمت إلا مع الأضافه فإن حذفها جائز عند قوم قياسا وعند أخرين سماعا ومثلها في اللزوم تاء عدة وزنة وأصلهما وعد ووزن فحذفت الواو وجعلت التاء عوضا منها فلزمت وقد تحذف للأضافه كقول الشاعر: إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا أي أخلفوك عدة الأمر فحذف التاء وعلى هذه اللغة قرأ بعض القرّاء {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} بالهاء أي عدته فحذف التاء. الثالث: أن يكون فعيل في قوله قطيع القيام بمعنى مفعول لأن صاحب المحكم حكى أنه قال مبينا على قطعه وأقطعه إذا بكته وأقطعه إذا بكته وقطع هو فهو قطيع القول فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي مبكت فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس وإن جعل قطيعا مبنيا على قطع كسريع من سرع فحقه على ذلك أن يلحقه التاء عند جريه على المؤنث إلا أنه شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول فأجرى مجراه. فهذا تمام اثني عشر مسلكا في هذه الآية أصحها المسلك المركب من السادس والسابع وباقيها ضعيف وواه ومحتمل؟ والمبتدىء والمقلد لا يدرك هذه الدقائق والفاضل المنصف لا يخفى عليه قويها من ضعيفها وليكن هذا آخر الكلام على الآية والله أعلم.

فائدة: خبر المبتدأ إما مفرد وإما جملة فإن كان جملة فإما أن يكون نفس المبتدأ أو غيره فإن كان نفس المبتدأ لم يحتج إلى رابط يربطها به إذ لا رابط أقوى من اتحادهما نحو قولي: (الحمد لله) وإن كانت غير المبتدأ فلا بد فيها من رابط يربطها بالمبتدأ لئلا يتوهم استقلالها وانقطاعها عن المبتدأ لأن الجملة كلام قائم تام بنفسه وذلك الرابط لا يتعين أن يكون ضميرا بل يجوز أن يكون ضميرا وهو الأكثر واسم إشارة كقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أولئك أصحاب الجحيم ونظائره كثيرة واسما ظاهرا قائما مقام الضمير كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} وقد يستغني عن الضمير إذا علم الرابط وعدم الاستقلال بالسياق وباب هذا التفصيل بعد الجملة ففيه يقع الاستغناء عن الضمير كثيرا كقولك المال لهؤلاء لزيد درهم ولعمرو درهمان ولخالد ثلاثة ومثله الناس واحد في الجنة وواحد في النار ولا حاجة إلى تقدير ضمير رابط محذوف تقديره لزيد منه درهم وواحد منهم في الجنة فإن تفصيل المبتدأ بالجملة بعده رابط أغنى عن الضمير فتأمله ومثله السمن منوان بدرهم وهذا بخلاف قولك زيد عمرو مسافر فإنه لا رابط بينهما بوجه فلذلك يحتاج أن يقول في حاجته ونحو ذلك ليفيد الإخبار. هذا حكم الجملة وأما المفرد فقد اشتهر على ألسنة النحاة أنه إن كان مشتقا فلا بد من ضمير يربطه بالمبتدأ وإن كان جامدا لم يحتج إلى ضمير وبعضهم يتكلف تأويله بالمشتق وهذا موضع لا بد من تحريره فنقول الخبر المفرد لما كان نفس المبتدأ كان اتحادهما أعظم رابط يمكن فلا وجه لاشتراط الرابط بعد هذا أصلا فإن المخاطب يعرف أن الخبر مسند

إلى المبتدأ وأنه هو نفسه ومن هنا يعلم غلط المنطقيين في قولهم إنه لا بد من الرابط إما مضمرا وإما مظهرا وهذا كلام من هو بعيد من تصور المعاني وارتباطها بالألفاظ ولا تستنكر هذه العبارة في حق المنطقيين فإنهم من أفسد الناس تصورا ولا يصدق بهذا إلا من عرف قوانين القوم وعرف ما فيها من التخبيط والفساد وأما إن كان الخبر اسما مشتقا مفردا فلا بد فيه من ضمير ولكن ليس الجالب لذلك الضمير ربطه بالمبتدأ بل الجالب له أن المشتق كالفعل في المعنى فلا بد له من فاعل ظاهر أو مضمر فإن قيل وما الذي يدل على أن في الفعل ضميرا حتى يكون في ثانية ضمير فإذا قلت زيد قام فإن هذا اللفظ لا ضمير فيه يستمع فدعوى تحمله للضمير دعوى محضة قيل الذي يدل على أن فيه الضمير تأكيدهم له وعطفهم عليه وأبدالهم منه كقولك في التأكيد إن زيدا سيقوم نفسه برفع نفس وفي العطف كقوله تعالى سيصلى نارا ذات لهب وامرأته فامرأته رفع عطفا على الضمير في سيصلى وفي الأبدال قولك إن زيدا يعجبني علمه على أن يكون علمه بدل اشتمال لا فاعل فإذا كان المشتق مفردا كان الضمير الذي فيه فعلا كان أو اسما نحو زيد يذهب وزيد ذاهب وأما في التثنية والجمع فلا يكون ضميرا إلا في الأفعال نحو يذهبان ويذهبون وأما في الأسماء فإنه لا يكون فيها إذا ظهر إلا علامة لا ضميرا نحو ذاهبان وذاهبون فهما في الاسم حرفان وفي الفعل اسمان برهان ذلك انقلابهما في الاسم ياء في التثنية والجمع كما ينقلبان فيما لا يحتمل ضميرا كزيدين والزيدين ولو كان ضميرا ك هما في الفعل لبقيا على لفظ واحد كما تقول في الفعل هؤلاء رجال يذهبون ومررت برجال يذهبون ورأيت رجالا يذهبون وكذلك في التثنية سواء فلا يتغير لفظ الواو لأنها فاعل وليست علامة إعراب الفعل فثبت بهذا صحة دعوى النحاة على العرب أن الضمير المستتر في الاسم المشتق لا يظهر في تثنية ولا جمع وأن الضمير المستتر في الفعل يظهر في التثنية والجمع ولولا الدليل الذي ذكرناه لما عرف هذا أبدا لأن العرب لم تشافهنا بهذا مشافهة

ولا أفصحت عن هذا القدر في هذا ونحوه إلا باستقراء كلامها والتتبع لأنحائها ومقاصدها الموصل إلى غرائب هذه اللغة وأسرارها وحكمها فإن قيل فقد عرفنا صحة ذلك فما هي الحكمة التي من أجلها فرقوا بين المواطنين فجعلوها ضمائر في الأفعال وحروفا في الأسماء قيل في ذلك حكمة بديعة وهي أن الأسماء لما كان أصلها الإعراب كانت أحوج إلى علامة إعراب منها إلى علامة إضمار والأفعال أصلها البناء ولم يكن لها بد من الفاعل ضرورة فكانت أحوج إلى علامة إضمار الفاعلين منها إلى علامة إعراب مع أن هذه العلامة في الأسماء علامة تثنية وجمع وحروف إعراب أيضا والأفعال لا تثنى ولا تجمع إذ هي مشتقة من المصدر وهو لا يثنى ولا يجمع لأنه يدل على القليل والكثير بلفظ واحد هذه علة النحاة. وفيه علة أخرى هي أصح من هذه وألطف وأدق قد تقدمت في أول هذا التعليق وإذا ثبت أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع وعلامة التثنية والجمع حروف إعراب فلا يكون الواو والألف إلا علامة إضمار ولا يكون في الاسماء وإن احتملت الضمائر إلا علامة تثنية وجمع وحروف إعراب على قول سيبويه أي محل الأعراب أو هي الأعراب نفسها على قول قطرب وغيره بمنزلة الحركات في المفرد أو دليل إعراب على قول أبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد. فصل: حكم الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا هذا حكم الخبر إذا كان مفردا أو جملة فأما إذا كان واقعا موقع الخبر وليس هو نفسه خبرا كالظرف والمجرور فإنه واقع موقع مشتق متحمل للضمير وهو إما مفرد وإما جملة وأكثر النحاة يقدرونه بمفرد مشتق نظرا إلى أن الأصل في الخبر أن يكون مفردا فتقديره كذلك موافق للأصل وأيضا فإنما قدر لضرورة صحة الكلام فإن الظرف والمجرور ليس هو نفس المبتدأ وما قدر للضرورة

لا يتعدى به ما تقتضيه الضرورة وهي تزول بالمفرد فتقدير الجملة مستغنى عنه مع أنه خلاف الأصل وأيضا فإنه قدر للتعلق وهذا التعلق يكفي فيه المفرد وأيضا فإنه يقع في موضع لا يصح فيه تقدير الجملة كقولك أما عندك فزيد وأما في الدار فعمر فإن أما لا يليها إلا اسم مفرد فإذا تعين المفرد ههنا يرجح في الباقي ليجري الباب على سنن واحد ولا ينتقض هذا بوقوعه في صلة الموصول كقولك جاءني الذي في الدار إذ يتعين تقدير الجملة لأن كلامنا في التقدير في باب الخبر لا في التقدير في سائر الأبواب كالصلة والصفة والحال ولا يلزم من تعين الجملة في التقدير في الصلة تعينها ولا ترجيحها في باب المبتدأ وسأل أبو الفتح بن جني أبا علي عن هذه المسألة فلم يراجعه بجواب شاف أكثر من أن قال له: تقدير الاسم ههنا أولى لأن خبر المبتدأ في أغلب أحواله اسم. وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال الجار هنا لا يتصور تعليقه بفعل محض إذ الفعل المحض ما دل على حدث وزمان ودلالته على الزمان ببنيته فإذا لم يكن له وجود في اللفظ لم يكن له بنية تدل على الزمان مع أن الجار لا تعلق له بالزمان ولا يدل عليه إنما هو في أصل وضعه لتقييد الحدث وجره إلى الاسم على وجه ما من الأضافه فلا تعلق له إلا بالحدث والحدث الذي هو المصدر لا يمكن تقديره ههنا لأنه خبر المبتدأ والمبتدأ ليس هو الحدث فبطل أن يكون التقدير: زيد استقرار في الدار، وبطل أيضا بما تقدم أن يكون التقدير: زيد استقر في الدار ألا ترى أن يقبح أن يقال: زيد في الدار أمس أو أول من أمس. وإذا بطل القسمان أعنى إضمار المصدر والفعل لم يبق إلا القسم الثالث وهو إضمار اسم الفاعل فتتضح الفائدتان: أحدهما أن يكون خبرا عن المبتدأ ويضمر فيه ما يعود عليه إذ لا يمكن ذلك في المصدر, والثانية أن يصبح تعلق الجار به إذ مطلوبة الحدث واسم الفاعل متضمن للحدث لا للزمان إذا عرف هذا فلا يصح ارتفاع الاسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه فاعل وإن كان في موضع خبر أو نعت وإنما يرتفع بالابتداء كما يرتفع في قولك قائم زيد بالابتداء لا بقائم

خلافا للأخفش فإذا قلت في الدار زيد فارتفاع زيد بالابتداء لا بالاستقرار اسم الفاعل فإن قلت: أليس إذا قلت زيد قائم أبوه ورأيت رجلا قائما أبوه ومررت برجل قائم أبوه فترفع الاسم بقائم إذا كان معتمدا على مبتدأ أو منعوت أو ذي حال وكذلك إذا كان قبله استفهام أو نفي نحو أقائم زيد وما قائم زيد قيل اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه فإذا اقترن به ألف الاستفهام أو قرينة من القرائن التي ذكرت التي يقوي بها معنى الفعل عمل الفعل بخلاف قائم زيد فإنه لا قرينة معه تقتضي أن يعمل عمل الفعل فحمل على أصله من الابتداء والخبر فإن قيل فهلا قلت إن الظرف والمجرور إذا اعتمد كما يعتمد اسم الفاعل أنه يرفع الاسم كما هو معزى إلى سيبويه فإذا قلت: زيد في الدار أبوه كان أبوه مرفوعا بالظرف كما إذا قلت: زيد قائم أبوه؟ قلت قد توهم قوم أن هذا مذهب سيبويه وأنك إذا قلت: مررت برجل معه صقر أن صقرا مرفوعا بالظرف لاعتماده على الموصوف وكنا نظن ذلك زمانا حتى تبين أن هذا ليس بمذهبه وأنه غلط عليه وقد بين أبو سعيد السيرافي مراد سيبويه من كلامه وشرح وجه الغلط عليه بما فيه كفاية فراجعه في كتابه. والفرق بين الظرف وبين اسم الفاعل ما تقدم أن اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه فإذا اعتمد أن اقترنت به قرينة جانب الفعلية فيه فعمل عمل الفعل وأما الظرف فلا لفظ للفعل فيه إنما هو معنى يتعلق به الفعل ويدل عليه ولم يكن في قوة القرينة التي يعتمد عليها أن تجعله كالفعل كما لم يكن في قوته إذا كان ملفوظا به دون قرينة أن يكون كالفعل فإذا اجتمع الاعتماد المقوي لمعنى الفعل مع اللفظ المشتق من الفعل عمل الاسم حينئذ عمل الفعل ووجه آخر من الفرق بين المسألتين أنك إذا قلت مررت برجل قائم أبوه فالقيام لا محالة مسند إلى الأب في المعنى وهو في اللفظ جار على رجل والكلام له لفظ معنى فقائم في اللفظ جار عل ما قبله وفي المعنى مسند إلى ما بعده وأما الظرف والمجرور فليس كذلك إنما هو

معنى يتعلق به الجار وذلك المعنى مسند إلى الاسم المرفوع وخبر عنه فصح أنه مبتدأ والمجرور خبر عنه والجملة في موضع نعت أو خبر فإن قيل فليزمكم إذا قدمتم الظرف في موضع الخبر وقدرتم فيه ضميرا يعود على المبتدأ أن تجيزوا في الدار نفسه زيد وفيها أجمعون إخوتك وهذا لا يجوزه أحد وفي هذا حجة للأخفش ولمن قال بقوله في أن رفع الاسم بالظرف قيل إنما قبح توكيد المضمر إذا كان الظرف خبرا مقدما لأن الظرف في الحقيقة ليس هو الحامل للضمير إنما هو متعلق بالاسم الحامل للضمير وذلك الاسم غير موجود في اللفظ حتى يقال إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى وإذا لم يكن ملفوظا به فهو في المعنى والرتبة بعد المبتدأ والمجرور المقدم قبل المبتدأ دال عليه والدال على الشيء غير الشيء فلذلك قبح فيها أجمعون الزيدون لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد ولذلك صح تقديم خبر إن على اسمها إذا كان ظرفا لأن الظرف ليس هو الخبر في الحقيقة إنما هو متعلق بالخبر والخبر منوي في موضعه مقدر في مكانه ولذلك لم ينكسر أصل الخليل في منعه تقديم خبر المبتدأ مع كثرة هذا النحو في الكلام أعني في الدار زيد ولذلك عدل سيبويه في قولهم فيها قائما رجل ولمية موحشا طلل إلى أن جعل الحال من النكرة ولم يجعلها حالا من الضمير الذي في الخبر لأن الخبر مؤخر في النية وهو العامل في الحال وهو منوي والحال لا يتقدم على العامل المنوي فهذا كله مما يبين أن الظرف والمجرور ليس هو الخبر في الحقيقة ولا الحامل للضمير ولا العامل في شيء من الأشياء لا في حال ولا في ظرف ولا في فاعل ومن جهة المفعول أن الدار إذا انفردت بلفظها لم يصح أن تكون خبرا عن زيد ولا عاملة ولا حاملة للضمير وكذلك في ومن وسائر حروف الجر لو انفردت لم يكن فيها شيء من ذلك فقد وضح أن الخبر غيرها وأنها واقعة موقعة والله أعلم. فإن قيل فما تقول فيما حكاه الزجاج عن بعض النحاة أنك إذا قلت قائم زيد أن قائما مبتدأ أو زيد فاعل به سد مسد الخبر؟ قيل هذا وإن كان قد جوزه بعض النحاة فهو

فاسد في القياس لأن اسم الفاعل اسم محض واشتقاقه من الفعل لا يوجب له عمل الفعل كمسجد ومرقد ومروحة ومغرفة ولكن إنما يعمل إذا تقدم ما يطلب الفعل أو كان في موضع لا تدخل عليه العوامل اللفظية نحو النعت والخبر والحال فيقوى حينئذ معنى الفعل فيه ويعضد هذا من السماع أنهم لم يحكوا قائم الزيدان وذاهب إخوتك عن العرب إلا على الشرط الذي ذكرنا ولو وجد الأخفش ومن قال بقوله سماعا لاحتجوا به على الخليل وسيبويه فإذا لم يكن مسموعا وكان بالقياس مدفوعا فأحرى به أن يكون باطلا ممنوعا. فإن قلت فما تصنع في قول الشاعر: خبير بني لهب فلا تك ملغيا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت فهذا صريح في أن خبير مبتدأ وبنو لهب فاعل به. وفي قول الآخر: فخير نحن عند الناس منكم ... إذا الداعي المثوب قال يالا قلت أما البيت الأول فعلى شذوذه وندرته لا يعرف قائله ولم يعرف أن متقدمي النحاة وأئمتهم استشهدوا به وما كان كذلك فإنه لا يحتج به باتفاق على أنه لو صح أن قائله حجة عند العرب لاحتمل أن يكون المبتدأ محذوفا مضافا إلى بني لهب وأصله كل بني لهب خبير وكل يخبر عنها بالمفرد كما تقدم في أول التعليق ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فاستحق إعرابه، ويدل على إرادة العموم عجز البيت وهو قوله فلا تك ملغيا مقالة لهبي أفلا ترى كيف يعطي هذا الكلام أن كل واحد من بني لهب خبير فلا تلغ مقالة لهبي وكذلك البيت الثاني فلا متعلق فيه أصلا لأن أفعل التفضيل إذا وقع خبرا عن غيره وكان مقترنا بمن كان مفردا على كل حال نحو الزيدون خير من العمرين. فصل: وجوه اسم الفاعل إذا ثبت هذا فيجوز في اسم الفاعل إذا اعتمد على ما قبله أو كان معه

قرينة مقتضية للفعل وبعده اسم مرفوع وجهان: أحدهما: أن يكون خبرا مقدما والاسم بعده مبتدأ وأن يكون مبتدأ والمرفوع بعده فاعل نحو أقائم زيد وما قائم عمرو ونحوه إلا أن يمنع مانع من ذلك وذلك في ثلاث مسائل: أحدها: قولك زيد قائم أخواه فإن هذا يتعين فيه أن يكون أخواه فاعلا بقائم ولا يجوز أن يكون أخواه مبتدأ وقائم الخبر لعدم المطابقة. الثانية: قولك زيد قائمان أخواه فإن هذا يتعين فيه على الأفصح أن يكون مبتدأ وخبرا لو كان من باب الفعل والفاعل لقلت قائم أخواه كما تقول قام أخواه. الثالثة: قولك زيد قائم أنت إليه وزيد قائم هو إذا كان الفاعل ضميرا منفصلا فإن هذا لا يكون إلا مبتدأ وخبرا لأن الضمير المنفصل لا يكون فاعلا مع اتصاله بعامله إنما يكون فاعلا إذا لم يمكن اتصاله نحو ما قائم إلا أنت ونحو الضار به هو. فإذا عرفت ذلك فقوله في حديث المبعث: "أو مخرجي هم " رواه البخاري ومسلم والترمذي، فمخرجي يتعين أن يكون خبرا مقدما وهم مبتدأ لأن الرواية اتفقت على تشديد مخرجي وكان أصله مخرجون لي فحذف اللام وأضيف مخرجون إلى الياء فسقط نون الجمع لأنها تسقط للأضافه فصار مخرجوي فاجتمع الواو والياء والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياء فصار مثلان فأدغم أحدهما في الآخر فجاء مخرجي، ومثله ضاربي ومكرمي ولو أن لصفة ههنا رافعة للضمير لكانت مفردة وكان يقول أو مخرجي هم بالتخفيف كما تقول أضاربي إخوتك ولو جعلته مبتدأ خيرا لقلت أضاربي بالتشديد والله أعلم. فان قلت: ما هم بمخرجي تعين التشديد ليس إلا لأن الفاعل لا يتقدم فلو خففت لكانت المسألة من باب الفعل والفاعل والفاعل لا يتقدم عامله وإن أخرت الضمير جاز لك الوجهان كما تقدم. قولهم ظروف الزمان لا تكون إخبار عن الجثة ليس على إطلاقه بل فيه تفصيل يعرف من العلة في منع ذلك والعلة أن الزمان لما كان عبارة عن أوقات الحوادث وكانوا محتاجين إلى تقييد حوادثهم بأزمنة تقارنها معلومة عن المتكلم والمخاطب كما يقدرونها بالأماكن التي تقع فيها جعل الله

سبحانه وتعالى حركات الشمس والقمر وما يحدث بسببها من الليل والنهار والشهور والأعوام معيارا يعلم به العباد مقادير حوادث أفعالهم وتاريخها ومعيارها لشدة حاجتهم إلى ذلك في الآجال كالعدد والإجارات والسلم والديون المؤجلة ومعرفة مواقيت الحج والصيام وغيرها فصارت حركة الشمس والقمر تاريخا وتقييدا ومعيار للأفعال والحياة والموت والمولد وغير ذلك. فالزمان إذا عبارة عن مقارنة حادث لحادث مقارنة الحادث من الحركة العلوية للحادث من حركات العباد ومعيارا له ولهذا سماه النحاة ظرفا لأنه مكيال ومعيار يعلم به مقدار الحركة والفعل وتقدمه وتأخره وقربه وبعده وطوله وقصره وانقطاعه ودوامه. فإذا أخبرت أن فعلك قارن ذلك الحادث المعلوم من حركة الشمس والقمر يوقت له ويقيد به فسمي وقتا وهو في الأصل مصدر وقت الشيء أوقته حددته وقدرته حتى لو أمكن أن يقيد ويؤرخ بما يقارن الفعل من الحوادث غير الزمان استغنى عن الزمان نحو قمت عند خروج الأمير وعند قدوم الحاج وعند موت فلان لكن ذلك لا يشترك في علمه ومعرفته كالاشتراك في معرفة يوم الجمعة وشهر رمضان ونحوه ولا يطرد مع أنه أيضا توقيت وتاريخ بالزمان في الحقيقة فإن قولك عند خروج الأمير وقدوم الحاج إنما تريد به هذه الأوقات والأزمنة ولكن المعلوم عند جميع المخاطبين إنما هي أجزاء الزمان كالشهر والسنة واليوم وأبعاض ذلك. وإذا عرف ذلك فلا معنى لقولك زيد اليوم وعمرو غدا لأن الجثث ليست بأحداث فتحتاج إلى تقييدها بما يقارنها وإلى تاريخها بحدث معها فما ليس بحدث لا معنى لتقييده بالحدث الذي هو الزمان. وعلى هذا فإذا أردت حدوث الجثة ووجودها فهو أيضا حادث فيجوز أن يخبر عنه بالزمان إذا كان الزمان يسع مدتها تقول نحن في المائة الثامنة وكان الأوزاعي في المائة الثانية والإمام أحمد في المائة الثالثة ونحو هذا. وعلى هذا إذا قلت الليلة الهلال صح ولا حاجة بك إلى تكليف إضمار الليلة طلوع الهلال فإن المراد حدوث هلال ذلك الشهر فجرى مجرى الأحداث وكذلك

تقول الورد في أيار وتقول الرطب في شهر كذا وكذا ومنه قول الشاعر: أكل عام نعم يحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه ومثله قولك البدر ليلة رابع عشرة ولا حاجة إلى تكلف طلوع البدر بل لا يصح هذا التقدير لأن السائل إذا سألك أي وقت البدر فإنه لم يسألك عن الطلوع إذ هو لا يجهله وإنما يسألك عن ذات البدر ونفسه فقولك هو ليلة أربع عشرة تريد به أن ليلة أربع عشرة هي ليلة كونه بدرا لا ليلة طلوعه فتأمله. وعلى هذا فلا يسوغ هذا الاستعمال حتى يكون الزمان يسع ما قيدته به من الحدث والجثة التي في معناه فلو كان الزمان أضيق من ذلك لم يجز التقييد به لأن الوقت لا يكون أقل من المؤنث فلا تقول نحن في يوم السبت وإن صح أن تقول نحن في المائة الثامنة ولا تقول الحجاج في يوم الخميس وتقول الحجاج في زمن بني أمية والله اعلم. إشكالات إعرابية: قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أنتمْ صَامِتُونَ} مما أشكل إعرابه على فحول العربية واختلفت أقوالهم في ذلك: فقال صاحب الكشاف: "سواء اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر" ومنه قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وقوله تعالى: {فِي أربعة أيام سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لأن {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم} في موضع رفع على الفاعلية كأنه قيل: إن للذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول: إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه أو يكون {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم} في موضع الابتداء وسواء خبرا مقدما بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لـ (إن) . فإن قلت الفعل أبدا خبر لا مخبر عنه فكيف صح الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعني وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا، من ذلك قولهم: لا تأكل السمك

وتشرب اللبن معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل والهمزة وأم مجردتان بمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا قال سيبويه: "جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك: (اللهم اغفر لنا أيتها العصابة) يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن إما الإنذار وإما عدمه ولكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين". قلت: هذا قوله وقول طائفة من النحاة وقد اعترض على ما ذكراه بأنه يلزم القائل به أن يجيز سواء قمت أم قعدت دون أن تقول علي أو عليك وأنه يجيز سيان أذهب زيد أم جلس ويتفقان أقام زيد أم قعد وما كان نحو هذا مما لا يجوز في الكلام ولا روي عن أحد لأن التقدير الذي قدروه منطبق على هذا. وقالت طائفة أخرى (سواء) ههنا مبتدأ والجملة الاستفهامية في موضع الخبر وإنما قالوا هذا وإن كان سواء نكرة لأن الجملة لا تكون في موضع المبتدأ أبدا ولا في موضع الفاعل وأورد عليهم أن الجملة إذا وقعت خبرا فلا بد فيها من ضمير يعود على المبتدأ فأين الضمير العائد على سواء ههنا فأجابوا عن هذا بأن (سواء) وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في المعنى خبر لأن المعنى سواء عليهم الإنذار وعدمه. قالوا ولا يلزم أن يعود من المبتدأ ضمير على الخبر فلما كان سواء خبر في المعنى دون اللفظ روعي المعنى، ونظير هذا قولهم ضربي زيدا قائما فإنه لم يعد على ضربي ضمير من الحال التي سدت مسد الخبر لأن معناه اضرب زيدا أو ضربت زيدا والفعل لا يعود عليه ضمير فكذلك ما هو في معناه وقوته، ونظيره أيضا أقائم أخوك لأن أخوك وإن سد مسد الخبر فإنه فاعل في المعنى وقائم معناه معنى الفعل الرافع للفاعل فروعيت هذه المعاني في هذه

المواضع وهجر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى وبقي حكم الابتداء مقتضيا للرفع لفظا والمبتدأ متضمن لمعنى يخالف معنى الابتداء فحكم لذلك المعنى فلم يعد على اللفظ ضمير وحكم للفظ المبتدأ بحكم الابتداء فارتفع. فهذا قول هذه الطائفة الأخرى واعترض عليه بعد الاعتراف بحسنه وقوته بأن العرب لم تنطق بمثل هذا في سواء حتى قرنته بالضمير المجرور ب على نحو سواء عليكم وسواء عليهم وسواء علي فإن طردوا ما أصلوه في سواء سواء قرن بـ (على) أم لم يقرن فليس كذلك وإن خصوه بالمقرون بـ (على) فلم يبينوا سر اختصاصه بذلك. وقالت طائفة ثالثة منهم السهيلي وهذا لفظه "لما كانت العرب لا تقول سيان أقمت أم قعدت ولا مثلان ولا شبيهان ولا يقولون ذلك إلا في سواء مع المجرور بـ (على) وجب البحث عن السر في ذلك وعن مقصد القوم في هذا الكلام وعن المساواة بين أي شيء هي وفي أي الصفات هي من الاسمين الموصوفين بالتساوى فوجدنا معنى الكلام ومقصوده إنما هو تساوي عدم المبالاة بقيام أو قعود أو إنذار أو ترك إنذار ولو أرادوا المساواة في صفة موجودة في الذات لقالوا سواء الإقامة والشخوص كما يقولون سواء زيد وعمرو وسيان ومثلان يعنى استواءهما في صفة ذاتيهما فإذا أردت أن تسوى بين أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما وأنهما قد هانا عليك وخفا عليك، قلت: سواء علي أفعل أم لم يفعل كما تقول: لا أبالي أفعل أم لم يفعل؛ لأن المبالاة فعل من أفعال القلب وأفعال القلب تلغي إذا وقعت بعدها الجمل المستفهم عنها أو المؤكد باللام تقول: لا أدري أقام زيد أم قعد وقد وقعت بعدها ليقومن زيد ولكن لا تلغى هذه الأفعال القلبية حتى يذكر فاعلها في اللفظ أو في المعنى فتكون حينئذ في موضع المفعول بالعلم" ثم قال:

فصل: فإذا ثبت هذا فسواء مبتدأ في اللفظ و (على وعليكم أو عليهم) مجرور في اللفظ وهو فاعل في المعنى المضمون من مقصود الكلام إذ قولك سواء علي في معنى لا أبالي وفي أبالي فاعل وذلك الضمير الفاعل هو المجرور ب على في المعنى لان الأمرين إنما استويا عليك في عدم المبالاة فإن لم تبال بهما لم تلتفت بقلبك إليهما وإذا لم تلتفت فكأنك قلت: لا أدري أقمت أم قعدت، فلما صارت الجملة الاستفهامية في معنى المفعول لفعل من أفعال القلب لم يلزم أن يكون فيها ضمير يعود على ما قبلها إذ لبس قبلها في الحقيقة إلا معنى فعل يعمل فيها من المفعول ضمير على عاملة ولولا قولك: (علي وعليكم) ما قوى ذلك المعنى ولا عمل في الجملة ولكن لما تعلق الجارية صار في حكم المنطوق به وصار المجرور هو الفاعل في المعنى كالفاعل في علمت ودريت وباليت، ألا ترى كيف صار المجرور في قولهم: له صوت صوت غراب، بمنزلة الفاعل في يصوت حتى كأنك نطقت بيصوت فنصب صوت غراب لذلك، وإذا قلت: عليه نوح الحمام؛ رفعت نوح الحمام لأن الضمير المخفوض بعلى ليس هو الفاعل الذي ينوح كما كان في قولك: له صوت صوت غراب، وكذلك المجرور في سواء عليهم هو الفاعل الذي في قولك: لا يبالون ولا يلتفتون إذ المساواة إنما هي في عدم المبالاة والالتفات والمتكلم لا يريد غير هذا فصار الفاعل مذكورا والمبالاة مفعوله مقصوده فوقعت الجملة الاستفهامية مفعولا لها". قال: "ونظير هذه المسألة حذو القذة بالقذه قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} فبدا فعل ماض فلا بد له من فاعل والجملة المؤكدة باللام لا تكون في موضع فاعل أبدا وإنما تكون في موضع المفعول بـ (علمت) وأن لم يكن في اللفظ علموا ففي اللفظ ما هو معناه لأن

قولهم: بدا ظهر للقلب لا للعين، وإذا ظهر الشيء للقلب فقد علم والمجرور من قوله: (لهم) هو الفاعل فلما حصل معنى العلم وفاعله مقدما على الجملة المؤكدة باللام صارت الجملة مفعولا لذلك العلم كما تقول: علمت ليقومن زيد ولام الابتداء وألف الاستفهام يكون قبلها أفعال القلب ملغاة فكذلك: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} رفعت الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله كما تقدم بيان ذلك حين قدرناه بقولك لا يبالون فالواو في يبالون هو الفاعل والضمير في عليهم هو الفاعل في المعنى إلا ترى كيف اختص ب على من بين حروف الجر لأن المعنى إذا كان يرجع إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمران وصار أخف شيء على من لا يبالهما ويلتفت إليهما فتأمله تجد المعاني صحيحة والفوائد كثيرة مزدحمة تحت هذا اللفظ الوجيز فلذلك نبت عنه كثير من الأفهام حتى تناقضت عليهم الأصول التي أصلوها واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي التزموها مع ما غاب عنهم من فوائد هذه الآيات وإعجازها وسمانه هذه الكلمات على إيجازها" ثم قال: فصل: فإن قيل ما بال الاستفهام في هذه الجملة والكلام خبر محض؟ قلنا الاستفهام مع أم يعطي معنى التسوية فإذا قلت أقام زيد أم قعد فقد سويت بينهما في علمك فهذا جواب فيه مقنع وأما التحقيق في الجواب فأن تقول ألف الاستفهام لم يخلع منها ما وضعت له ولا عزلت عنه وإنما معناه علمت أقام زيد أم قعد أي علمت ما كنت أقول فيه هذا القول واستفهم عنه بهذا اللفظ فحكيت الكلام كما كان كما كان ليعلم المخاطب ما كان مستفهما عنه معلوم كما تقول قام زيد فترفعه لأنه فاعل ثم تقول ما قام زيد فيبقى الكلام كما كان وتبقى الجملة محكية على لفظها لتدل على أنه ما كان خبرا متوهما عند المخاطب

فهو الذي نفي بحرف النفي. ولهذا نظائر يطول ذكرها فكذلك قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} لما لم يبالوا بالإنذار ولا نفعهم ولا دخل في قلوبهم منه شيء صار في حكم المستفهم عنه أكان أم لم يكن فلا تسمى الألف ألف التسوية كما فعل بعضهم ولكن ألف الاستفهام بالمعنى الذي وضعت له ولم يزل عنه مجيء أنذرتهم وأدعوتهم بلفظ الماضي. فإن قيل: فلم جاء بلفظ الماضي أعني أنذرتهم وكذلك: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أنتمْ صَامِتُونَ} وأقام زيد أم قعد ولم يجيء بلفظ الحال ولا المستقبل؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن في الكلام معنى الشرط والشرط يقع بعد المستقبل بلفظ الماضي تقول إن قام زيد غذا قمت وههنا يتعذر ذلك المعنى كأنك قلت إن قام زيد أو قعد لم أباله ولا ينتفع القوم إن أنذرتهم أم لم تنذرهم فلذلك جاء بلفظ الماضي وقد قال الفارسي قولا غير هذا ولكنه قريب منه في اللفظ قال إن ألف الاستفهام تضارع إن التي للجزاء لأن الاستفهام واجب كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عدم المشروط فهذه العبارة فاسدة من وجوه يطول ذكرها ولو رأي المعنى الذي قدمناه لكان أشبه على أنه عندي مدخول أيضا لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصة دون الحال والماضي وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} و {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} لا تختص بالاستقبال بل المساواة في عدم المبالاة موجودة في كل حال بل هي أظهر في فعل الحال ولا يقع بعد حرف الشرط فعل حال بوجه. والتحقيق في الجواب أن تقول قد أصلنا في نتائج الفكر أصلا وهو أن الفعل لم يشتق من المصدر مضافا إلا ليدل على كون الاسم مخبرا عنه أعني الفاعل الذي كان المصدر مضافا إليه ولم تختلف أبنيته بعدما اشتق من المصدر إلا لاختلاف أحوال الحدث من مضي أو استقبال فإن كان قصد المتكلم أن لا يقيد الحدث بزمان دون زمان ولا بحال استقبال دون حال مضي بل يجعله مطلقا جاء بلفظ الماضي الذي لا زوائد فيه ليكون أخف على اللسان وأقرب إلى لفظ الحدث المشتق منه ألا ترى أنهم يقولون (لا أفعله ما لاح برق وما طار طائر) بلفظ الماضي خاصة لما أرادوا مدة مطلقة غير

مقيدة وأنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك فلم يجاوزوا لفظ الماضي لأنهم لا يريدون استقبالا ولا حالا على الخصوص فإن قلت ولا يريدون أيضا ماضيا فكيف جاء بلفظ الماضي قلنا قد قرن معه لا أكلمه ولا أفعله فدل على أن قوله ما لاح برق لا يريد به لوحا قد انقضى وانقطع إنما يريد مقارنة الفعل المنفي للفعل الآخر في المدة على الإطلاق والدوام فليس في قوله ما لاح برق إلا معنى اللوح خاصة غير أنه ترك لفظ المصدر ليكون البرق مخبرا عنه كما تقدم فمتى أردت هذا ولم ترد تقييدا بزمان فلفظ الماضي أحق وأولى وكذلك قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه فاشتق من الإنذار الفعل ليدل على أن المخاطب فاعل الإنذار وترك الفعل بلفظ الماضي لأنه مطلق في الزمان كله وأن القوم لم يبالوا بهذا ولا هم في حال مبالاة فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى إذ ليس المراد تقييد الفعل بوقت ولا تخصيصه بحال فإن قلت لفظ الماضي يخصصه بالانقطاع قلت حدث حديثين امرأة وفيما قدمناه ما يغني عن الجواب مع ما في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} من ثبوت هذه الصفة فيهم وحصولها في الحال وفي المآل فلا تقول سواء ثوباك أو غلاماك إذا كان الاستواء فيما مضى وهما الآن مختلفان فهذه القرينة تنفي الانقطاع الذي يتوهم في لفظ المضي كما كان لفظ الحال في قولك: لا أكلمه ما دامت السموات والأرض بنفي الانقطاع المتوهم في دام وإذا أنتفى الانقطاع وانتفت الزوائد الأربع بقي الحدث مطلقا غير مقيد في المسألتين جميعا فتأمل هذا تجده صحيحيا. فصل: الكلام على واو الثمانية: قولهم إن الواو تأتي للثمانية ليس عليه دليل مستقيم

وقد ذكروا ذلك في مواضع فلنتكلم عليها واحدا واحدا: الموضع الأول: قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فقيل الواو في والناهون واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة وذكروا في الآية وجوها آخر منها أن هذا من التفنن في الكلام أن يعطف بعضه ويترك عطف بعضه ومنها أن الصفات التي قبل هاتين الصفتين صفات لازمة متعلقة بالعامل وهاتان الصفتان متعديتان متعلقتان بالغير فقطعتا عما قبلهما بالعطف ومنها أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وكل هذه الأجوبة غير سديدة وأحسن ما يقال فيها أن الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغايرها في نفسها وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها وتارة لا يتوسطها العاطف لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض بحسب هذين المقامين فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف وإن أريد الجمع بين الصفات أوالتنبيه على تغايرها حسن إدخال حرف العطف فمثال الأول: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} وقوله: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ} ومثال الثاني قوله تعالى: {هُوَ الأوَّلُ وَالآخر وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} فأتي بالواو في الوصفين الأولين وحذفها في الوصفين الآخرين لأن غفران الذنب وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما فمن غفر الذنب قبل التوب فكان في عطف أحدهما على الآخر مايدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمه: أحدهما: يتعلق

بالإساءة والإعراض وهو المغفرة، والثاني: يتعلق بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرجوع إليه وهو التوبة فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة، وحسن العطف ههنا هذا التغاير الظاهر وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن ولهذا جاء العطف في قوله: {هُوَ الأوَّلُ وَالآخر وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وترك في قوله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} وقوله: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} وأما: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} فترك العطف بينهما لنكته بديعة وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول وطوله لا ينافى شدة عقابه بل هما مجتمعان له بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية ولهذا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء فأوليته أزليته وآخريته أبديته فإن قلت فما تصنع بقوله والظاهر والباطن فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه فيجتمع في حقه الظهور والبطون والنبي صلى الله عليه وسلم الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء والباطن بأنه الذي ليس دونه شيء وهذا العلو والفوقية مجامع لهذا القرب والدنو والإحاطة قلت هذا سؤال حسن والذي حسن دخوله الواو ههنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة وقد عطف الثاني منها على الأول للمقابلة التي بينهما والصفتان الآخريان كالأوليين في المقابلة ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول فكما حسن العطف بين الأوليين حسن بين الآخريين فإذا عرف هذا فالآية التي نحن فيها يتضح بما ذكرناه معنى العطف وتركه فيها لأن كل صفة لم تعطف على ما قبلها فيها كان فيه تنبيه على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد فلم يحتج إلى عطف فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما متلازمان مستمدان من مادة واحدة حسن العطف ليتبين أن كل وصف منهما قائم على حدته مطلوب تعيينه لا يكتفي فيه بحصول الوصف الآخر بل لا بد أن يظهر أمره بالمعروف بصريحة ونهيه عن المنكر بصريحة وأيضا فحسن العطف ههنا ما تقدم من التضاد فلما كان

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضدين أحدهما طلب الإيجاد والآخر طلب الإعدام كانا كالنوعين المتغايرين المتضادين فحسن لذلك العطف. الموضع الثاني: قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} إلى قوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} فقيل هذه واو الثمانية لمجيئها بعد الوصف السابع وليس كذلك ودخول الواو ههنا متعين لأن الأوصاف التي قبلها المراد اجتماعها في النساء وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكن اجتماعهما فتعين العطف لأن المقصود أنه يزوجه بالنوعين الثيبات والأبكار. الموضع الثالث: قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} قيل المراد إدخال الواو ههنا لأجل الثمانية وهذا يحتمل أمرين: أحدهما: هذا والثاني: أن يكون دخول الواو ههنا إيذانا بتمام كلامهم عند قولهم سبعة ثم ابتدأ قوله وثامنهم كلبهم وذلك يتضمن تقرير قولهم سبعة كما إذا قال لك زيد فقيه فقلت ونحوي وهذا اختيار السهيلي وقد تقدم الكلام عليه وأن هذا إنما يتم إذا كان قوله وثامنهم كلبهم ليس داخلا في المحكي بالقول والظاهر خلافه والله أعلم. الموضع الرابع: قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إذا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فأتى بالواو لما كانت أبواب الجنة ثمانية وقال في النار {حَتَّى إذا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} لما كانت سبعة وهذا في غاية البعد ولا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها بل هذا من باب حذف الجواب لنكتة بديعة وهي أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها ففتحت في وجوههم لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه وأما الجنة فلما كانت ذات الكرامة وهي مأدبة الله وكان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره شرع لهم أبوابها ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب أتى بالواو العاطفة ههنا الدالة على أنها جاءوها بعدما فتحت أبوابها وحذف الجواب تفخيما لشأنه وتعظيما لقدرة كعادتهم في حذف الأجوبة وقد

أشبعنا الكلام على هذا فيما تقدم والله أعلم فصل: اتصال لولا بضمير متصل مذهب سيبويه أن لولا إذا اتصل بها الضمير المتصل نحو لولا هـ ولولاك كان مجرورا وخالفه الأخفش وقال الأخفش والكوفيون هذه الضمائر مما وقع المضمر المتصل موقع المنفصل كما وقع المنفصل موقع المتصل في قولهم ما أنا كأنت ولا أنت كأنا وقد وقع المتصل موقع المنفصل في قوله: وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... أن لا يجاورنا إلاك ديار وقال المبرد: "بقول الكوفيين فأما حجة سيبويه فهي الاستعمال قال الشاعر: وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بإجرامه من قلة النيق منهوي قال الآخر: لولاك هذا العام لم أحجج ... وقال آخر: لولاك لم يعرض لأحسابنا حسن ... واحتج سيبويه على أن الضمير هنا مجرور بأن هذه الضمائر التي هي الهاء والكاف والياء إما أن تكون ضمائر نصب أو ضمائر جر ومحال أن تكون ضمائر رفع ولا يجوز أن تكون ضمائر نصب لأن الحروف إذا اتصل بها ياء المتكلم وكانت في موضع نصب اتصل بها نون الوقاية نحو (إني وأنني وكأني وكأنني) فإن أدى ذلك إلى اجتماع مثلين جاز حذف نون الوقاية فيقال إني وكأني ولكني فلو كانت الياء ضمير نصب لقالوا لولاني كما قالوا ليتني ولم يأت ذلك فتعين أن تكون ضمير جر فإذا ثبت هذا في الياء فكذلك في الكاف والهاء وأما الكوفيين فاحتجوا بأن الظاهر لا يقع بعد هذه الحروف إلا مرفوعا فكذلك المضمر وقد وجد ذلك في المنفصل فيكون المتصل كذلك ولكن هذه الضمائر المتصلة وقعت موقع الضمائر المنفصلة كما يقع المنفصل موقع المتصل فهما يتعاقبان

ويتعاوضان فقالوا ما أنا كأنت فأوقعوا الرفع موقع ضمير الجر فلذلك قالوا لولاك فأوقعوا ضمير الجر موقع ضمير الرفع فالتغيير وقع في الصيغة لا في الإعراب قالوا وقد ثبت أن لولا لا تعمل في الظاهر فكيف تعمل في المضمر. وأجاب البصريون عن هذا بأن الأصل أن الضمائر لا يقع بعضها موقع بعض إلا للضرورة في الشعر وبأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجهين: أحدهما: إيقاع المتصل موقع المنفصل. والثاني: إيقاع المجرور موقع المرفوع وهذا تغيير مرتين فالتغيير في لولا بكونها حرف جر في هذا الموضع أسهل قالوا وأما عملها في المضمر خاصة فليس بمستنكر عمل العامل في بعض الأسماء دون بعض فهذه لدن لا تعمل إلا في غدوة وحدها فإذا كان العامل يعمل في بعض الظاهرات دون بعض وهي جنس واحد فلأن يعمل في المضمر دون الظاهر وهما جنسان أولى وقد رد بعض النحاة هذا الاستعمال جملة وقال هو لحن واختلف على المبرد فقيل إن هذا مذهبه وقيل إن مذهبه قول الكوفيين والله أعلم. فصل: اختلف في المستثنى من أي شيء هو مخرج فذهب الكسائي إلى أنه مخرج من المستثنى منه وهو المحكوم عليه فقط فإذا قلت جاء القوم إلا زيدا فزيدا مخرج من القوم فكأنك أخبرت عن القوم الذين ليس فيهم زيد بالمجيء وأما هو فلم تخبر عنه بشيء بل سلبت الإخبار عنه لا أنك أخبرت عنه بسلب المجيء والفرق بين الأمرين واضح وعلى قوله فالإسناد وقع بعد الآخراج وذهب الفراء إلى أنه مخرج من الحكم نفسه وذهب الأكثرون إلى أنه مخرج منهما معا فله اعتباران أحدهما: كونه مستثنى وبهذا الاعتبار هو مخرج من الاسم المستثنى منه،

والثاني: كونه محكوما عليه بضد حكم المستثنى منه وبهذا الاعتبار هو مخرج من حكمه والتحقيق في ذلك أنه مخرج من الاسم المقيد بالحكم فهو مخرج من اسم مقيد لا مطلق الاحتجاج لكل مذهب ونذكر هنا ما احتج به لهذه المذاهب وما تعقب به على الاحتجاج احتج الكسائي بقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أبي} ووجه الاستدلال أن الاستثناء لو كان مخرجا من الحكم لكان قوله: (أبى) تكرار لأنه قد علم بالاستثناء وأجيب عن هذا بأنه تأكيد واعترض على هذا الجواب بأن المعاني المستفادة من الحروف لا تؤكد فلا يقال ما قام زيد نفيا وهل قام عمرو استفهاما ولكن قام زيد استدراكا ونحوه لأن الحرف وضع على الاختصار ولهذا عدل عن الفعل إليه فتأكيده بالفعل ينافي المقصود بوضعه. والتحقيق في الجواب أن (أبى) أفاد معنى زائدا وهو إن عدم سجوده أستند إلى إبائه وهو أمر وجودي اتصف به نشأ عنه الذنب فلم يكن ترك سجوده لعجز ولا لسهو ولا لغفلة بل كان إباء واستكبارا ومعلوم أن هذا لا يفهم من مجرد الاستثناء وإنما المفهوم منه عدم سجوده وأما الحامل على عدم السجود فلا يدل الاستثناء عليه فصرح بذكره ونظير هذا الاحتجاج والاعتراض والتقدير سواء قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} فإن نفي كونه من الساجدين أخص من نفي السجود عنه لأن نفي الكون يقتضي نفي الأهلية والاستعداد فهو أبلغ في الذم من أن يقال لم يسجد ثم الذي يدل على بطلان هذا المذهب وجوه منها أنه لو كان ما بعد إلا سكوتا عن حكمه لم يكن قولنا لا إله إلاالله توحيدا واللازم باطل فالملزوم مثله والمقدمتان ظاهرتان. ومنها: أن الاستثناء المنقطع لا يتصور الآخراج فيه من الاسم لعدم دخوله فيه فكذلك المتصل. ومنها: أنه لو كان الآخراج من الاسم وحده لما صح الاستثناء من مضمون الجملة كقولك زيد أخوك إلا أنه ناء عنك وعمرو صديقك إلا أنه يواد عدوك ونحو هذا. ومنها أنه لا يوجد في كلام العرب قام القوم إلا زيدا فإنه قام ولو كان الآخراج من الاسم وحده والمستثنى مسكوت عنه لجاز إثبات القيام له كما جاز

نفيه عنه فإن السكوت عن حكمه لا يفيد نفي القيام عنه ولا إثباته فلا يكون واحد منهما مناقضا للاسئثناء. وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب مخرج من الحكم لا من الاسم وكذلك الباب كله وما أجيب عن ذلك بأن المستثنى داخل مع الاسم المحكوم عليه تقديرا إذ يقدر الأول شاملا بوجه ليصح الاستثناء ولمن نصر قول الكسائي أيضا أن يجيب بهذا الجواب. وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب الجمهور أن الآخراج من الاسم والحكم معا فالاسم المستثنى مخرج من المستثنى منه وحكمه مخرج من حكمه وأن الممتنع إخراج الاسم المستثنى من المستثنى منه مع دخوله تحته في الحكم فإنه لا يعقل الآخراج حينئذ البتة فإنه لو شاركه في حكمه لدخل معه في الحكم والاسم جميعا فكان استثناؤه غير معقول ولا يقال إن معنى الاستثناء أن المتكلم تارك للإخبار عنه بنفي أو إثبات مع احتمال كل واحد منهما لأنا نقول هذا باطل من وجوه عديدة منها أنك إذا قلت ما قام إلا زيد وما ضربت إلا عمرا وما مررت إلا بزيد ونحوه من الاستثناءات المفرغات لم يشك أحد في أنك أثبت هذه الأحكام لما بعد إلا كما أنك سلبتها عن غيره بل إثباتها للمستثني أقوى من سلبها عن غيره ويلزم من قال إن حكم المستثنى مسكوت عنه أن لا يفهم من هذا إثبات القيام والضرب والمرور لزيد وهو باطل قطعا ومنها أنه لو كان مسكوتا عنه لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: (لا إله إلا الله) لأنه على هذا التقدير الباطل لم يثبت الإلهية لله وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص فدلالتها على الإثبات أعظم من دلالة قولنا: (الله إله) ولا يستريب أحد في هذا البتة. ومنها أنه لو ادعى عليه بمائة درهم فقال له عندي مائة إلا ثلاثة دراهم فإنه ناف لثبوت المستثنى في ذمته ولو كان ساكتا عنه لكان قد أقر بالبعض ونكل عن الجواب عن البعض وهذا لم يقله عاقل ولو كان حكم المستثنى السكوت لكان هذا ناكلا. ومنها أن المفهوم من هذا عند أهل التخاطب نفي الحكم عن

المستثنى وإثباته للمستثنى منه ولا فرق عندهم بين فهم هذا النفي وذلك الإثبات البتة وذلك جرى عندهم مجرى فهم الأمر والنهي النفي والاستفهام وسائر معاني الكلام فلا يفهم سامع من قول الله عز وجل: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً} أنه أخبر عن تسع مائة عام وخمسين عاما وسكت عن خمسين فلم يخبر عنها بشيء ولا يفهم أحد قط إلا أن الخمسين لم يلبثها فيهم وكذلك قوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} لا يفهم منها إلا أن المخلصين لا يتمكن من إغوائهم وكذلك سائر الاستثناءات. ومنها أن القائل إذا قال قام القوم إلا زيدا لم يكن كلامه صدقا إلا بقيامهم وعدم قيام زيد ولهذا من أراد تكذيبه قال له كذبت بل قام زيد ولو كان زيد مسكوتا عنه لم يكن هذا تكذيبا له والعقلاء قاطبة يعدونه تكذيبا ويعدون خبره كاذبا حيث يعدون الإخبار بخلاف ما الشيء عليه كذبا. إذ عرف هذا فبه ينحل الإشكال الذي أورده بعض المتأخرين على الاستثناء وقال: الاستثناء مشكل التعقل قال لأنك إذا قلت جاء القوم إلا زيدا فإما أن يكون زيد داخلا في القوم أم لا فإن كان غير داخل لم يستقم الاستثناء لأنه إخراج وإخراج ما لم يدخل غير معقول وإن كان داخلا فيهم لم يستقم إخراجه للتناقض لأنك تحكم عليه بحكمين متناقضين. ولهذه الشبهة قال القاضي وموافقوه: إن عشرة إلا ثلاثة مرادف لسبعة فهما اسمان ركبا مع الحرف وجعلا بإزاء هذا العدد فإن أراد القاضي أن المفهوم منهما واحد فصحيح وإن أراد التركيب النحوى فباطل. والجواب عن هذا الإشكال أنه لا يحكم بالنسب إلا بعد كمال ذكر المفردات فالإسناد إنما وقع بعد الآخراج فالقائل إذا قال قام القوم إلا زيد افها هنا خمسة أمور: أحدها: القيام بمفردة. الثاني: القوم بمفردهم. الثالث: زيد بمفرده. الرابع: النسبة بين المفردين. الخامس: الأداة الدالة على سلب النسبة عن زيد فزيد دخل في القوم على تقدير عدم الإسناد وخرج منهم على تقدير الإسناد ثم أسند بعد إخراجه فدخوله وخروجه باعتبارين غير متنافيين فإنه دخل باعتبار الإفراد وخرج باعتبار النسبة

فهو من القوم غير محكوم عليهم وليس من القوم المقيدين بالحكم عليهم هذا إيضاح هذا الإشكال وحله والله الموفق. فصل: المستثني إذا جعل تابعا لما قبله فمذهب البصريين أنه بدل وقد نص عليه سيبويه ومذهب الكوفيين أنه عطف. فأما القول بالبدل فعليه إشكالان: أحدهما: أنه لو كان بدلا لكان بدل بعض إذ يمتنع أن يكون بدل كل من كل وبدل البعض لا بد فيه من ضمير يعود على المبدل منه نحو قبضت المال نصفه. الثاني: أن حكم البدل حكم المبدل منه لأنه تابع يشارك متبوعه في حكمه وحكم المستثنى ههنا مخالف لحكم المستثى منه فكيف يكون بدلا. وأجيب عن الأول بأن (إلا) وما بعدها من تمام الكلام الأول و (إلا) قرينة مفهمة أن الثاني قد كان تناوله الأول فمعلوم أنه بعض الأول فلا يحتاج فيه إلى رابط بخلاف قبضت المال نصفه، وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء قسم على حدته ليس من تلك الأبدال التي تبينت في غير الاستثناء وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء إنما المراعى فيه وقوعه مكان المبدل منه فإذا قلت ما قام أحد إلا زيد ف إلا زيد هو البدل وهو الذي يقع موقع أحد فليس زيد وحده بدلا من أحد فإلا زيد هو الأحد الذي نفيت عنه القيام فقولك إلا زيد هو بيان ألأحد الذي عنيت وعلى هذا فالبدل في الاستثناء أشبه ببدل الشيء من الشيء من بدل البعض من الكل. وأما الإشكال الثاني فقال السيرافي مجيبا عنه: هو بدل منه في عمل العامل فيه وتخافهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البدلية لأن مذهب البدلية أن يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه وتتخالف الصفة والموصوف نفيا وإثباتا نحو مررت برجل لا كريم ولا

لبيب. ومعنى هذا الجواب أنه إنما يشترط في البدل أن يحل محل الأول في العامل خاصة وأما أن يكون حكمهما واحدا فلا وأما القول الكوفي أنه عطف فإنهم جعلوا إلا من حروف العطف في هذا الباب خاصة والحامل لهم على ذلك وجود المخالفة المذكورة قال ثعلب: "كيف يكون بدلا وهو موجب ومتبوعة منفي والعطف توجد فيه المخالفة في المعنى كالمعطوف بـ (بل ولكن) وهذا ممكن خال من التكلف ولا يقال إنه يستلزم الاشتراك في الحروف وهو مذهب ضعيف لأنا نقول ليس هذا من الاشتراك في الحروف فإن (إلا) للإخراج على بابها وإنما سموا هذا النوع من الآخراج عطفا على نحو تسميتةم الآخراج بـ (بل ولكن) عطفا والاشتراك المردود قول من يقول إن (إلا) تكون بمعنى الواو لكن قد رد قولهم بالعطف بأن (إلا) لو كانت عاطفة لم تباشر العامل في نحو ما قام إلا زيد لأن حروف العطف لا تلي العوامل ويجاب عن هذا بأن (إلا) التي باشرت العامل ليست هي العاطفة فليس ههنا عطف ولا بدل البتة وإنما الكلام فيما إذا كان ما بعد (إلا) تابعا لما قبلها" قال ابن مالك: "ولمقوي العطف أن يقول تخالف الصفة والموصوف كلا تخالف لأن نفي الصفتين إثبات لضديهما فإذا قلت مررت برجل لا كريم ولا شجاع فكأنك قلت بخيل جبان وليس كذلك تخالف المستثني والمستثنى منه فإن جعل زيد بدلا من أحد إذا قيل ما فيها أحد إلا زيد يلزم منه عدم النظير إذ لا يدل في غير محل النزاع إلا وتعلق العامل به مساو لتعلقه بالمبدل منه والأمر فيما قام أحد إلا زيد بخلاف ذلك فيضعف كونه بدلا إذ ليس في الأبدال ما يشبهه وإن جعل معطوفا لم يلزم من ذلك مخالف المعطوفات بل يكون نظير المعطوف بـ (لا وبل ولكن) فكان جعله معطوفا أولى من جعله بدلا". قلت ويقوى العطف أيضا أنك تقول: لا أحد في الدار إلا عبد الله فعبد الله لا يصح أن يكون بدلا من أحد فإنه لا يحل محله فإن قيل هذا جائز على توهم ما فيها أحد إلا عبد الله إذ المعنى واحد فأمكن أن يحل أحدهما محل الآخر قيل هذا كاسمه وهم والحقائق

لا تبني على الأوهام وأجاب ابن عصفور عن هذا بأن قال: "لا يلزم أن يحل عبد الله محل أحد الواقع بعد (لا) لأن المبدل إنما يلزم أن يكون على نية تكرار العامل وقد حصل ذلك كله في هذه المسألة وأمثالها ألا ترى أن عبد الله بدل من موضع لا أحد فيلزم أن يكون العامل فيه الابتداء كما أن العامل في موضع لا أحد الابتداء وبلا شك أنك إذا أبدلته منه كان مبتدأ في التقدير وخبره محذوف وكذلك حرف النفي لدلالة ما قبله عليه والتقدير لا أحد فيها إلا عبد الله ثم حذف واختصر". وهذا الجواب غير قوي إذ لو كان الأمر كما زعم لصح البدل مع الإيجاب نحو قام القوم إلا زيد لصحة تقدير العامل في الثاني وهم قد منعوا ذلك وعللوه بعدم صحة حلول الثاني محل الأول فدل على أنه مشترط. فصل: قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ} . قال الزمخشري: "هو استثناء منقطع جاء على لغة تميم لأن الله تعالى وإن صح الإخبار عنه بأنه في السماوات والأرض فإنما ذلك على المجاز لأنه مقدس عن الكون في المكان بخلاف غيره فإن الإخبار عنه أنه في السماء أو في الأرض ليس بمجاز وإنما هو حقيقة ولا يصح حمل اللفظ في حال واحد على الحقيقة والمجاز". قلت: وقوله على لغة تميم يريد أن من لغتهم أن الاستثناء المنقطع يجوز إتباعه كالمتصل إن صح الاستثناء به عن المستثنى به وقد صح ههنا إذ يصح أن يقال لا يعلم الغيب إلا الله. قال ابن مالك: "والصحيح عندي أن الاستثناء في الآية متصل و (في) متعلقة بفعل غير استقر من الأفعال المنسوبة حقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين كذكر ويذكر ونحوه كأنه قيل: لا يعلم من يذكر في السموات والأرض الغيب إلا الله تعالى" قال: "ويجوز تعليق (في) باستقر مستند إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه والأصل لا يعلم من

استقر ذكره في السماوات والأرض الغيب إلا الله ثم حذف الفعل والمضاف واستتر المضمر لكونه مرفوعا وهذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حال واحد وليس عندي ممتنعا لقولهم القلم أحد اللسانين والخال أحد الأبوين وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "الأيدي ثلاثة يد الله ويد المعطى ويد السائل" تم كلامه. فهذا كلام هذين الفاضلين في هذه الآية وأنت ترى ما فيه من التكلف الظاهر الذي لا حاجة بالآية إليه بل الأمر فيها أوضح من ذلك الصواب في الاستثناء في هذه الآية والصواب أن الاستثناء متصل وليس في الآية استعمال اللفظ في حقيقة ومجازة لأن من في السموات والأرض ههنا أبلغ صيغ العموم وليس المراد بها معينا فهي في قوة أحد المنفي بقولك: لا يعلم أحد الغيب إلا الله وأتى في هذا بذكر السموات والأرض أحد المنفي بقولك: لا يعلم أحد الغيب إلا الله وأتى في هذا بذكر السموات والأرض تحقيقا لإرادة العموم والإحاطة فالكلام مؤد معنى لا يعلم أحد الغيب إلا الله وإنما نشأ الوهم في ظنهم أن الظرف ههنا للتخصيص والتقييد وليس كذلك بل لتحقيق الاستغراق والإحاطة فهو نظير الصفة في قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} فإنها ليست للتخصيص والتقييد بل لتحقيق الطيران المدلول عليه بطائر فكذلك قوله: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض} لتحقيق الاستغراق المقصود بالنفي ومن تأمل الآية علم أنه لم يقصد بها إلا ذلك وقد قيل أنه لا يمتنع أن يطلق عليه تعالى أنه في السموات كما أطلقه على نفسه وأطلق عليه رسوله قالوا ولا يلزم أن يكون هذا الإطلاق مجاز بل له منه الحقيقة التي تليق بجلاله ولا يشابهه فيها شيء من مخلوقاته وهذا كما يطلق عليه أنه سميع بصير عليم قدير حي مريد حقيقة ويطلق ذلك على خلقه حقيقة والحقيقة المختصة به لا تماثل الحقيقة التي لخلقه فتناول الإطلاق بطريق الحقيقة لهما لا يستلزم تماثلهما حتى يفر منه إلى المجاز. وأما قوله: "إن الظرف متعلق بفعل غير استقر من الأفعال المنسوبة إلى الله وإلى المخلوقين حقيقة كذكر ويذكر" إلى آخره فيقال: حذف عامل الظرف لا يجوز إلا إذا كان كونا عاما أو استقرارا

عاما فإذا كان استقرار أو كونا خاصا مقيدا لم يجز حذفه وعلى هذا جاء مصرحا به في قوله تعالى فلما رآه مستقرا عنده لأن المراد به الاستقرار الذي هو الثبات واللزوم لا مطلق الحصول عنده فكيف يسوغ حذف عامل الظرف في موضع ليس بمعهود حذفه فيه وأبعد من هذا التقدير ما ذكره في التقدير الثاني أن عامل الظرف استقرار مضاف إلى ذكر محذوف استغنى به عن المضاف إليه والتقدير استقر ذكره فإن هذا لا نظير له وهو حذف لا دليل عليه والمضاف يجوز أن يستغنى به عن المضاف إليه بشرطين أن يكون مذكورا وأن يكون معلوم الوضع مدلولا عليه لئلا يلزم اللبس. وأما ادعاء أضافه شيء محذوف إلى شيء محذوف ثم يضاف المضاف إليه إلى شيء آخر محذوف من غير دلالة في اللفظ عليه فهذا مما يصان عنه الكلام الفصيح فضلا عن كلام رب العالمين. وأما قوله على أنه لا يمتنع إرادة الحقيقة والمجاز معا واستدلاله على ذلك بقولهم القلم أحد اللسانين فلا حاجة فيه لأن اللسانين اسم مثنى فهو قائم مقام النطق بإسمين أريد بأحدهما الحقيقة وبالآخر المجاز وكذلك الخال أحد الأبوين وكذلك الأيدي ثلاثة. وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ} فالاستدلال به أبعد من هذا كله فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الله وملائكته حقيقة بلا ريب والحقيقة المضافة إلى الله من ذلك لا تماثل الحقيقة المضافة إلى الملائكة كما إذا قيل الله ورسوله والمؤمنون يعلمون أن القرآن كلام الله لم يجز أن يقال إن هذا استعمال اللفظ في حقيقتة ومجازه وإن كان العلم المضاف إلى الله غير مماثل للعلم المضاف إلى الرسول والمؤمنين فتأمل هذه النكت البديعة ولله الحمد والمنة. فصل: الاستثناء المنقطع المعروف عند النحاة أن الاستثناء المنقطع هو أن لا يكون المستثنى داخلا في المستثنى منه

عبروا عنه بأن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه وهذا يحتمل شيئين: أحدهما: أن يكون المستثنى فردا من أفراد المستثنى منه. الثاني: أن لا يكون داخلا في ماهيته ومسماه فنحو جاء القوم إلا فرسا منقطع اتفاقا وجاءوا إلا زيدا متصل ورأيت زيدا إلا وجهه منقطع على الاعتبار الأول لأن الوجه ليس فردا من أفراد المستثنى منه ولكن لا أعلم أحدا من النحاة يقول ذلك ويلزم من ذلك أن يكون استثناء كل جزء من كل منقطعا ونحو قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} منقطع على التفسير الأول لعدم دخول الموتة الأولى في المستثنى منه متصل على التفسير الثاني لأنها من جنس الموت في الجملة وفي الاستثناء المنقطع عبارة أخرى وهي أن يكون منقطعا مما قبله إما في العمل إما في تناوله له فالمنقطع تناولا جاء القوم إلا حمارا والمنقطع عملا نحو قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلاّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ} فهذا استثناء منقطع بجملة كذا قاله ابن خروف وغيره وجعلوا من مبتدأ ويعذبه خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجعل الفراء من هذا قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} على قراءة الرفع وقدره إلا قليل منهم لم يشربوا وقواه ابن خروف واستحسنه، ومن هذا قولهم: "ما للشياطين من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء إلا المتزوجون أولئك المطهرون المبرؤون من الخناء" وقيل إن من هذا قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} في قراءة الرفع ويكون امرأتك مبتدأ وخبره ما بعده وهذا التوجيه أولى من أن يجعل الاستثناء في قراءة من نصب من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} وفي قراءة من رفع من قوله: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} ويكون الاستثناء على هذا من فأسر بأهلك رفعا ونصبا وإنما قلنا إنه أولى لأن المعنى عليه فإن الله تعالى أمره أن يسري بأهله إلا امرأته ولو كان الاستثناء من الالتفات لكان قد نهي المسري بهم عن الالتفات وأذن

فيه لامرأته وهذا ممتنع لوجهين: أحدهما: أنه لم يأمره أن يسرى بامرأته ولا دخلت في أهله الذين وعد بنجاتهم. والثاني أنه لم يكلفهم بعدم الالتفات ويأذن فيه للمرأة إذا عرف هذا فاختلف النحاة هل من شرط الاستثناء المنقطع تقدير دخوله في المستثني منه بوجه أو ليس ذلك بشرط فكثير من النحاة لم يشترطوا فيه ذلك وشرطه آخرون. قال ابن السراج: "إذا كان الاستثناء منقطعا فلا بد من أن يكون الكلام الذي قبل (إلا) قد دل على ما يستثنى؛ فعلى الأول لا يحتاج إلى تقدير وعلى الثاني فلا بد من تقدير الرد ولنذكر لذلك أمثله: المثال الأول: قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتِّبَاعَ الظَّنّ} فمن لم يشترط التقدير أجراه مجرى المفرغ والمعنى ما عندهم أو ما لهم إلا اتباع الظن وليس اتباع الظن متعلقا بالعلم أصلا ومن اشترط التقدير قال المعنى ما لهم من شعور إلا اتباع الظن والظن وإن لم يدخل في العلم تحقيقا فهو داخل فيه تقدير إذ هو مستحضر بذكره وقائم مقامه في كثير من المواضع فكان في اللفظ إشعاره به صح به دخوله وإخراجه وهذا بعد تقريره فيه ما فيه فإن المستثنى هو اتباع الظن لا الظن نفسه فهو غير داخل في المستثنى منه تحقيقا ولا تقديرا فالأحسن فيه عندي أن يكون التقدير ما لهم به من علم فيتبعونه ويلقون به إن يتبعون إلا الظن فليس اتباع الظن مستثنى من العلم وإنما هو مستثنى من المقصود بالعلم والمراد به هو اتباعه فتأمله هذا على تقدير اشتراط التناول لفظا أو تقديرا وأما إذا لم يشترط وهو الأظهر فتكون فائدة الاستثناء ههنا كفائدة الاستدراك ويكون الكلام قد تضمن نفي العلم عنهم وإثبات ضده لهم وهو الظن الذي لا يغني من العلم شيئا ومثله قوله تعالى وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ليس المراد به نفي الحكم الجازم وإثبات الحكم الراجح بل المراد نفي العلم وإثبات ضده وهو الشك الذي لا يغنى عن صاحبه شيئا والمذكور من الأمثلة يزيد هذا وضوحا المثال الثاني قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ

اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فهذا استثناء منقطع لأن اتباعه الغاوين لم يدخلوا في عبادة المضافين إليه وإن دخلوا في مطلق العباد فإن الإضافة فيها معنى التخصيص والتشريف كما لم تدخل الخانات والحمامات في بيوت الله قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً} إلى آخر الآيات وقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} فعباده المضافون إليه هم الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وقال تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أنتمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} ومن هذا قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فعباده ههنا الذين يغفر ذنوبهم جميعا هم المؤمنون التائبون والانقطاع في هذا قول ابن خروف وهو الصواب وقال الزمخشري: "هو متصل وجعل لفظ العباد عاما" وقد عرفت غلطه وعلي تقدير الانقطاع فإن لم يقدر دخوله في الأول فظاهر وإن قدرنا دخوله فقالوا تقديره إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا على غيرهم إلا من اتبعك من الغاوين ولا يخفى التكلف الظاهر عليه بل الأحسن أن يقال لما ذكر العباد وأضافهم إليه والأضافه يحتمل أن تكون إلى ربوبيته العامة فتكون أضافه ملك وأن تكون إلى الهيئة فتكون أضافه اختصاص ومحبة والغاووين داخلون في العباد عند التعميم والإطلاق لقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فالأول متناول له بوجه فصح إخراجه. المثال الثالث: قوله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ} على أصح الوجوه في الآية فإنه تعالى لما ذكر العاصم استدعى معصوما مفهوما من السياق فكأنه قيل لا معصوم اليوم من أمره إلا من رحمة فإنه لما قال لا عاصم اليوم من أمره الله بقى الذهن طالبا للمعصوم فكأنه قيل فمن الذي يعصم فأجيب بأنه لا يعصم إلا من رحمة الله ودل هذا الفظ باختصاره وجلالته وفصاحته علي نفي كل عاصم سواه وعلى نفي كل معصوم سوى من رحمة الله فدل الاستثناء على أمرين على

المعصوم من هو وعلى العاصم وهو ذو الرحمة وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه وأوجزه ولا يلتفت إلى ما قيل في الآية بعد ذلك وقد قالوا فيها ثلاثة أقوال آخر: أحدها: أن عاصما بمعنى معصوم كماء دافق وعيشة راضية والمعنى لا معصوم إلا من رحمة الله وهذا فاسد لأن كل واحد من اسم الفاعل واسم المفعول موضوع لمعناه الخاص به فلا يشاركه فيه الآخر وليس الماء الدافق بمنى المدفوق بل هو فاعل على بابه كما يقال ماء جار فدافق كجار فما الموجب للتكليف البارد وأما عيشة راضية فهي عند سيبويه على النسب كتامر ولابن أي ذات رضي وعند غيره كنهار صائم وليل قائم على المبالغة. والقول الثاني: أن من رحم فاعل لا مفعول والمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم فهو استثناء فاعل من فاعل وهذا وإن كان أقل تكلفا فهو أيضا ضعيف جدا وجزالة الكلام وبلاغته تأباه بأول نظر. والقول الثالث إن في الكلام مضافا محذوفا قام المضاف إليه مقامه والتقدير لا معصوم عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحمة الله وهذا من أنكر الأقوال وأشدها منافاة للفصاحة والبلاغة ولو صرح به لكان مستغثا. المثال الربع: قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا قَدْ سَلَفَ} فهذا من الاستثناء السابق زمان المستثنى فيه زمان المستثنى منه فهو غير داخل فيه فمن لم يشترط الدخول فلا يقدر شيئا ومن قال لا بد من دخوله قدر دخوله في مضمون الجملة الطلبية بالنهي لأن مضمون قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} الإثم والمؤاخذة أي أن الناكح ما نكح أبوه آثم مؤاخذ إلا ما قد سلف قبل النهي وإقامة الحجة فإنه لا تتعلق به المؤاخذة وأحسن من هذا عندي أن يقال لما نهي سبحانه عن نكاح منكوحات الآباء أفاد ذلك أن وطأهن بعد التحريم لا يكون نكاحا البتة بل لا يكون إلا سفاحا فلا يترتب عليه أحكام النكاح من ثبوت الفراش ولحوق النسب بل الولد فيه يكون ولد زنية وليس هذا حكم ما سلف قبل التحريم فإن الفراش كان ثابتا فيه والنسب لاحق فأفادا الاستثناء فائدة جليلة عظيمة وهي أن ولد من

نكح ما نكح أبوه قبل التحريم ثابت النسب وليس ولد زنا والله أعلم. المثال الخامس: قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} ومعلوم أن التقاة ليست بموالاة ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضي ذلك معاداتهم والبراءة منهم ومجهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم والدخول ههنا ظاهر فهو إخراج من متوهم غير مراد. المثال السادس: قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلاّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ} فهذا من المنقطع لا بالاعتبار الذي ذكره ابن خروف من كون المستثنى جملة مستقلة بل باعتبار آخر وهو أنه ليس المراد إثبات السيطرة على الكفار فإن الله سبحانه بعثه نذيرا مبلغا لرسالات ربه فمن أطاعة فله الجنة ومن عصاه فله النار قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاغُ} وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} قال المفسرون: المعنى أنك لم ترسل مسلطا عليهم قاهرا لهم جبارا كالملوك بل أنت عبدي ورسولي المبلغ رسالاتي فمن أطاعك فله الجنة ومن عصاك فله النار ويوضح هذا أن المخاطبين بهذا الخطاب هم الكفار فلا يصح أن يكونوا هم المستثنين. المثال السابع: قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} وهذا فيه نفي لسماع اللغو والتأثيم وإثبات لضده وهو السلام المنافي لهما فالمقصود به نفي شيء وإثبات ضده وعلى هذا فلا حاجة إلى تكلف دخوله تحت المستثنى منه لأنه يتضمن زوال هذه الفائدة من الكلام ومن رده إلى الأول قال لما نفي عنهم سماع اللغو والتأثيم وهما مما يقال فكأن النفس تشوفت إلى أنه هل يسمع فيها شيء غيره فقال: {إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} فعاد المعنى إلى لا يسمعون فيها شيئا إلا قيلا سلاما سلاما وأنت إذا تأملت هذين التقديرين رأيت الأول أصوب

فإنه نفى سماع شيء وأثبت ضده وعلى الثاني نفى سماع كل شيء إلا السلام وليس المعنى عليه فإنهم يسمعون السلام وغيره فتأمله. المثال الثامن: قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} فهذا من الاستثناء السابق زمانه زمان المستثنى منه ولما كانت الموته الأولى من جنس الموت المنفى زعم بعضهم أنه متصل. وقال بعضهم: (إلا) بمعنى بعد والمعنى لا يذوقون بعد الموتة الأولى موتا في الجنة وهذا معنى حسن جدا يفتقر إلى مساعدة اللفظ عليه ويوضحه أنه ليس المراد إخراج الموته الأولى من الموت المنفي ولا ثم شيء متوهم يحتاج لأجله إلى الاستثناء وإنما المراد الإخبار بأنهم بعد موتتهم الأولى التي كتبها الله عليهم لا يذوقون غيرها وعلى هذا فيقال لما كان ما بعد إلا حكمه مخالف لحكم ما قبلها والحياة الدائمة في الجنة إنما تكون بعد الموته الأولى كانت أداة إلا مفهمة هذه البعدية وقد أمن اللبس لعدم دخولها في الموت المنفى في الجنة فتجردت لهذا المعنى فهذا من أحسن ما يقال في الآية فتأمله. المثال التاسع: قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً إِلاّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} فهذا على عدم تقدير التناول يكون فيه نفي الشيء وإثبات ضده وهو أظهر وعلى تقدير التناول لما نفي ذوق البرد والشراب فربما توهم أنهم لا يذوقون غيرهما فقال إلا حميما وغساقا فيكون الاستثناء من عام مقدر. المثال العاشر: قوله تعالى: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} فعلى تقدير عدم الدخول نفى الخوف عن المرسلين وأثبته لمن ظلم ثم تاب وعلى تقدير الدخول يكون المعنى ولا غيرهم إلا من ظلم. وأما قول بعض الناس: إن (إلا) بمعنى الواو والمعنى: ولا من ظلم، فخَبْطٌ منه؛ فإن هذا يرفع الأمان عن اللغة ويوقع اللبس في الخطاب والواو وإلا متنافيتان فإحداهما تثبت للثاني نظير حكم الأول والآخرى تنفى عن الثاني ذلك فدعوى تعاقبتهما دعوى باطلة لغة وعرفا والقاعدة أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض خوفا من اللبس وذهاب المعنى الذي قصد بالحرف وإنما يضمن ويشرب معنى فعل آخر يقتضي ذلك الحرف فيكون ذكر

الفعل مع الحرف الذي يقتضيه غيره قائما مقام الذكر الفعلين وهذا من بديع اللغة وكمالها ولو قدر تعاقب الحروف ونيابة بعضها عن بعض فإنما يكون ذلك إذا كان المعنى مكشوفا واللبس مأمونا فيكون من باب التفنن في الخطاب والتوسع فيه فإما أن يدعى ذلك من غير قرينة في اللفظ فلا يصح وسنشبع الكلام على هذا في فصل مفرد إن شاء الله تعالى والذي حملهم على دعوى ذلك أنهم لما رأوا الخوف منتفيا عن المذكور بعد إلا ظنوا أنها بمعنى الواو لكون المعنى عليه وغلطوا في ذلك فإن الخوف ثابت له حال ظلمه وحال تبديله الحسن بعد السوء أما حال ظلمه فظاهر وأما حال التبديل فلأنه يخاف أنه لم يقم بالواجب وأنه لم يقبل منه ما أتى به كما في الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت "قلت: يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هو الرجل يزني ويسرق ويخاف؟ قال: يا بنت الصديق هو الرجل يصوم ويصلي ويخاف أن لا يقبل منه"، فمن ظلم ثم تاب فهو أولى بالخوف وإن لم يكن خوف عليه. وقد يجيء الانقطاع في هذا الاستثناء من وجه آخر وهو أن ما بعد إلا جملة مستقلة بنفسها فهي منقطعة مما قبلها انقطاع الجمل بعضها عن بعض فسمى منقطعا بهذا الاعتبار كما تقدم نظيره والله أعلم. المثال الحادي عشر: قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أعلم بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} فهذا يبعد تقدير دخوله فيما تقدم قبله جدا وإنما هو إخبار عن مال الفريقين فلما بشر الكافرين بالعذاب بشر المؤمنين بالأجر غير الممنون فهذا من باب المثاني الذي يذكر فيه الشيء وضده كقوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} فليس هناك مقدر يخرج منه هذا المستثنى والله أعلم. المثال الثاني عشر: قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} فمن آمن ليس داخلا في الأموال والأولاد ولكنه من الكلام المحمول على المعنى لأنه تعالى أخبر أن أموال العباد وأولادهم لا تقربهم إليه وذلك يتضمن أن أربابها ليسوا

هم من المقربين إليه فاستثنى منهم من آمن وعمل صالحا أي لا قريب عنده إلا من آمن وعمل صالحا سواء كان له مال وولد أو لم يكن له والانقطاع فيه أظهر فإنه تعالى نفى قرب الناس إليه بأموالهم وأولادهم وأثبت قربهم عنده بإيمانهم وعملهم الصالح فتقدير لكن ههنا أظهر من تقدير الاتصال في هذا الاستثناء وإذا تأملت الكلام العربي رأيت كثيرا منه واردا على المعنى لوضوحه فلو ورد على قياس اللفظ مع وضوح المعنى لكان عيا وبهذه القاعدة تزول عنك إشكالات كثيرة ولا تحتاج إلى تكلف التقديرات التي إنما عدل عنها المتكلم لما في ذكرها من التكلف فقدر المتكلفون لنطقه ما فر منه وألزموه بما رغب عنه وهذا كثير في تقديرات النحاة التي لا تخطر ببال المتكلم أصلا ولا تقع في تراكيب الفصحاء ولو سمعوها لاستهجنوها وسنعقد إن شاء الله تعالى فصلا مستقلا. المثال الثالث عشر: قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً} وتقدير الدخول في هذا أظهر إذ المعنى لن ينالوا منكم إلا أذى وأما الضرر فإنهم لن ينالوه منكم {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} فنفى لحوق ضرر كيدهم بهم مع أنهم لا يسلمون من أذى يلحقهم بكيدهم ولو أنه بالإرهاب والكلام وإلجائهم إلى محاربتهم وما ينالهم بها من الأذى والتعب ولكن ليس ذلك بضارهم ففرق بين الأذى والضرر. المثال الرابع عشر: قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ} المشهور ظلم مبنى للمفعول وعلى هذا ففي الاستثناء قولان: أحدهما: أنه منقطع أي لكن من ظلم فإنه إذا شكا ظالمه وجهر بظلمه له لم يكن آثما وتقدير الدخول في الأول على هذا القول ظاهر فإن مضمون لا يحب كذا أنه يبغضه ويبغض فاعلة إلا من ظلم فإن جهره وشكايته لظالمه حلال له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: "الواجد يحل عرضه وعقوبته"، فعرضه شكاية صاحب الحق له وقوله: ظلمني ومطلني ومنعني حقي وعقوبته ضرب الإمام له حتى يؤدي ما عليه في أصح القولين في مذهب أحمد وهو مذهب مالك وقيل هو حبسه وقيل هو استثناء متصل والجهر

بالسوء هو جهره بالدعاء أن يكشف الله عنه ويأخذ له حقه أو يشكوا ذلك إلى الإمام ليأخذ له بحق وعلى هذا التقدير فيجوز فيه الرفع بدلا من احد المدلول عليه بالجهر أي لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا المظلوم ويجوز فيه النصب بدلا من الجهر والمعنى إلا جهر من ظلم وقرىء من ظلم بالفتح وعلى هذه القراءة فمنقطع ليس إلا أي لكن الظالم يجهر بالسوء من القول. المثال الخامس عشر: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فهذا استثناء منقطع تضمن نفي الأكل بالباطل وإباحة الأكل بالتجارة الحق ومن قدر دخوله في الأول قدر مستثنى منه عاما أي لا تأكلوا أموالكم بينكم بسبب من الأسباب إلا أن تكون تجارة أو يقدر بالباطل ولا بغيره إلا بالتجارة ولا يخفي التكلف على هذا التقدير بل هو فاسد إذا المراد بالنهي الأكل بالباطل وحده وقرىء برفع التجارة ونصبها فالرفع على التمام والنصب على أنها خبر كان الناقصة وفي اسمها على هذا وجهان: أحدهما: التقدير إلا أن يكون سبب الأكل أو المعاملة تجارة، والثاني: إلا أن تكون أموال الناس تجارة. المثال السادس عشر: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهذا من أشكل مواضع الاستثناء لأن مملوكته إذا كانت محصنة إحصان التزويج فهي حرام عليه والإحصان ههنا إحصان التزويج بلا ريب إذ لا يصح أن يراد به إحصان العفة ولا إحصان الحرية ولا إحصان الإسلام فهو إحصان التزويج قطعا فكيف يستثنى من المحرمات به لمملوكه فقال كثير من الناس الاستثناء ههنا منقطع والمعنى لكن ما ملكت أيمانكم فهن لكم حلال، ورد هذا بأنه استثناء من موجب والانقطاع إنما يقع حيث يقع التفريغ ورد هذا الرد بأن الانقطاع يقع في الموجب وغيره قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . وقالت طائفة: الاستثناء على بابه متصل و {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مستثنى من المزوجات ثم اختلفوا: فقالت طائفة من الصحابة منهم ابن

عباس وغيره وبعض التابعين: أنه إذا زوج أمته ثم باعها كان بيعها طلاقا وتحل للسيد لأنها ملك يمينه واحتج لهم بالآية. ورد هذا المذهب بأمور: أحدها: أنه لو كان صحيحا لكان وطؤها حلالا لسيدها إذا زوجها لأنها ملك يمينه فكما اجتمع ملك سيدها لها وحلها للزوج فكذلك يجتمع ملك مشتريها لها وحلها للزوج وتناول اللفظ لهما واحد ما دامت مزوجة وينتقل إلى المشتري ما كان يملكه فملكها المشترى مسلوبة منفعة البضع. الثاني: أن المشتري خليفة البائع فانتقل إليه بعقد الشراء ما كان يملكه بائعها وهو كان يملك رقبتها مسلوبة منفعة البضع فإذا فارقها زوجها رجع إليه البضع كما كان يرجع إلى بائعها كذلك فهذا محض الفقه والقياس. الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين "أن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وكانت مزوجة فعتقتها وخيرها النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري ولو بطل النكاح بالشراء لم يخبرها وهذا مما أخذا الأئمة الأربعة وغيرهم فيه برواية ابن عباس وتركوا رأيه فإنه راوي الحديث وهو ممن يقول بيع الأمة طلاقها. وقالت طائفة أخرى: الآية مختصة بالسبايا قال أبو سعيد الخدري: "نزلت في سبايا أوطاس" قالوا: فأباح الله تعالى للمسلمين وطء ما ملكوه من السبي وإن كن محصنات. ثم اختلف هؤلاء متى يباح وطء المسبيه فقال الشافعي وأبو الخطاب وغيرهما: يباح وطؤها إذا تم استبراؤها سواء كان زوجها موجودا أو مفقودا واحتجوا بثلاث حجج: إحداها: أن الله سبحانه أباح وطء المسبيات بملك اليمين مستثنيا لهن من المحصنات الثانية ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري "أن رسول الله حين بعث جيشا إلى أوطاس فلقي عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} " أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن وفي الترمذي عن أبي سعيد: "أصبنا سبايا يوم أو طاس لهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت:

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهذا صريح في إباحتهن في وإن كن ذوات أزواج وفي الترمذي ومسند أحمد من حديث العرباض بن سارية " أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن" فهذا التحريم إلى غاية وهي وضع الحمل فلا بد أن يحصل الحل بعد الغاية ولو كان وجود أزواجهن مانعا من الوطء لكان له غايتان: إحداهما: عدم الزوج، والثاني: وضع الحمل وهو خلاف ظاهر الحديث. قالوا: ولأن ملك الكافر الحربي البضع لم يبق له حرمة ولا عصمة إذ قد ملك المسلمون عليه ما كان يملكه فملكوا رقبة زوجته فكيف يقال ببقاء العصمة في ملك البضع لا سيما والمسلمون يستحقون ملك رقبته وأولاده وسائر أملاكه فما بال ملك البضع وحده باقيا على العصمة فهذا لا نص ولا قياس ولا معنى قالوا فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم وطء السبايا بعد انقضاء عدتهن مطلقا ولو كان بقاء الزوج مانعا لم يأذن في وطئهن إلا بعد العلم بموته وهذا المذهب كما تراه قوة وصحة. وقال أصحابنا القاضي وغيره: "إنما يباح وطؤها إذا سبيت وحدها فلو سبيت مع زوجها فهما على نكاحهما ولا يباح وطؤها قالوا لأنها إذا سبيت وحدها فبقاء الزوج مجهول والمجهول كالمعدوم فنزلت منزلة من لا زوج لها فحل وطؤها ولا كذلك إذا كان زوجها معها" ثم أوردوا على أنفسهم سؤالا وهو إذا سبيت وحدها وعلم بقاء زوجها في دار الحرب؟ وهذا سؤال لا محيد لهم عنه ولا ينجيهم منه إلا قولهم بالحل وإن علم بقاء الزوج استنادا إلى زوال عصمة النكاح بالسبي فإنهم إذا أجابوا بالتزام التحريم خالفوا النصوص خلافا بينا وإن أجابوا بالحل مع تحقيق بقاء الزوج نقضوا أصلهم حيث أسندوا الحل إلى كون المسبية خالية من الزوج تنزيلا للمجهول منزلة المعدوم فقول أبي الخطاب أفقه وأصح وعليه تنزل الآية والأحاديث ويظهر به أن الاستثناء متصل وأن الله تعالى أباح من المحصنات من سباها المسلمون فإن قيل فعلى ما قررتموه يزول الإحصان بالسبي فلا تدخل في المحصنات فيجيء الانقطاع في الاستثناء قيل: لما كانت محصنة قبل

السبي صح شمول الاسم لها فأخرجت الاستثناء. فإن قيل فما تقولون في الأمة المزوجة إذا بيعت محصنة قد ملكت نفسها فهل هي مخصوصة من هذا العموم أو غير داخلة فيه؟ قيل: ههنا مسلكان للناس: أحدهما: أنها خصت من العموم بالأدلة على أن البيع لا يفسخ النكاح وأن الفرج لا يكون حلالا لشخصين في قت واحد. المسلك الثاني: أنها لم تدخل في المستثنى منه لأن السيد إذا زوجها فقد أخرج منفعة البضع عن ملكه فإذا باعها فقد أنتقل إلى المشتري ما كان للبائع فملكها المشتري مسلوبه منفعة البضع فلم تدخل هذه المنفعة في ملكه بعقد البيع فلم تتناولها الآية وهذا المسلك ألطف وأدق من الأول والله أعلم. فوائد شتى منقولة من خط القاضي أبي يعلي رحمه الله تعالى. فائدة: الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء إسماعيل بن سعيد عن أحمد لا يجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء ويصلي صلاة الناس ليس فيها تكبير مثل تكبير العيدين وعند محمد بن الحكم والكوسج والمرزوي يجهر بالقراءة فيها لحديث عبد الله بن زياد، قال أبو حفص: "يحتمل أن هذا القول هو المتأخر لأنه قد قيل إن إسماعيل بن سعيد سماعه قديم".

فائدة: صلاة الخوف ركعة قال أحمد: "لا تعجبني صلاة الخوف ركعة لما روى أبو عياش الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى بعسفان ويوم بنى سليم" وكذلك روى جابر رواه مسلم وابن عباس رواه البخاري وابن أبي خيثمة رواه البخاري في ذات الرقاع وكذلك أبو هريرة في عام نجد "أنه صلى ركعتين" وكذا روت عائشة وابن عمرو وأبو موسى رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي. فائدة: الصلاة وقت الغارة ابن لحيان عن أحمد في القوم إذا أرادوا الغارة فخشوا أن يتبادرهم العدو يصلون على دوابهم أو يؤخرون الصلاة إلى طلوع الشمس؟ قال: "أي ذلك شاءوا فعلوا" والحجة فيه تأخير النبي صلى الله عليه وسلم أربع صلوات يوم الخندق وعنه أبو طالب إن كانوا منهزمين يصلون ركبانا يومئون ولا يؤخرون الصلاة على ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية نزلت بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم والحجة قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أو رُكْبَاناً} . فائدة: نقل محمد بن الحكم عن أحمد بن حنبل في رجل صلى ركعتين من فرض

ثم أقيمت الصلاة؟ قال: "إن شاء دخل مع الإمام فإذا صلى معه ركعتين سلم وأعجب إلى أن يقطع الصلاة ويدخل مع الإمام" قال القاضي: "وظاهر هذا الدخول من غير تحريمه غير انه اختار القطع والدخول بتحريمه". فائدة: أبو طالب سألت أحمد عن الرجل يدخل المسجد يظن أنهم قد صلوا فيصلي ركعتين فتقام الصلاة؟ قال: "قد اختلفوا فيها: بعضهم قال: يمضي لا يدخل فرض في فرض، وبعضهم قال: يسلم" قلت: ما تقول؟ قال: ما يبالي كيف، قلت: يسلم ويدخل معه؟ قال: نعم". قال القاضي: "وظاهره هذا أنه منع من الدخول لأنه قال: "يستأنف" فإذا قلنا: لا يدخل معه فهل يمضي في صلاته أو يقطع؟ على روايتين: محمد بن الحكم عنه "إن شاء دخل معه وأعجب إليّ أن يقطع"، أبو طالب: "يسلم ويدخل معه"، والثانية: "يمضي" فعنه أبو الحارث. وقد سئل عن رجل دخل في مسجد فافتتح صلاة مكتوبة وهو يرى أن قد صلوا فلما صلى ركعة أو ركعتين أقيمت الصلاة؟ قال: "يتم الصلاة التي افتتحها ثم إن شاء صلى مع القوم وإن شاء لم يدخل معهم" قال أبو حفص: "وكذلك نقول فيمن افتتح تطوعا ثم أقيمت الصلاة أنه لا يقطعها ولكن يتمها ووجهه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تحليلها التسليم " فوجب أن لا يخرج منها بغير التسليم الذي بعد التمام" ابن مسعود: "من دخل في صلاة فلا يقطع حتى يفرغ"، ووجه الأخرى وأنه يخرج منها أن صلاة الجماعة واجبة فإن قلنا يمضي في صلاته ففرغ ثم أدرك الجماعة في المسجد فهل يدخل معهم أو يكون مخيرا في الدخول والانصراف؟

على روايتين: إحداهما: يخير وهو المنصوص في رواية أبي الحارث، والآخرى: يجب أن يصلي معهم إذا حضر في مسجد أهله يصلون وهو الأكثر في مذهبه وبه وردت السنة فإن أحرم بتطوع ثم أقيمت الصلاة فهل يقطعها ويدخل في الجماعة أو يتمها؟ على روايتين ولا فرق بين ركعتي الفجر وغيرها كاختلاف قوليه فيمن انفرد بصلاة فريضة ثم أقيمت الصلاة فإن دخل في تطوع ثم ذكر أن عليه فريضة فعنه يعجبني أن ينصرف عن شفع ثم يقضي الفريضة قال أبو حفص: ويخرج عنه في هذه المسألة رواية أخرى كما ذكرنا فيمن دخل في تطوع ثم أقيمت الصلاة ووجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكرها ". فائدة: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة قال أبو الحارث: "سئل أحمد عن العشاء إذا وضع وأقيمت الصلاة قال: "قد جاءت أحاديث وكان القوم في مجاعة فأما اليوم فلو قام رجوت" وقال في روايةجماعة: "يبدأ بالطعام". فإن قلنا يبدأ بالطعام فهل يتناول منه شيئا أويتم عشاءه؟ حنبل عنه: "إذا كان الرجل قد أكل من طعامه لقمة أو نحو ذلك فلا بأس أن يقوم إلى الصلاة فيصلى ثم يرجع إلى العشاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى الصلاة وقد كان يجتز من كتف الشاة فألقى السكين وقام" رواه البخاري، أحمد بن الحسين: "سألت أحمد إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة؟ قال: أبدا بالعشاء قلت: أنال منه شيئا ثم أخرج إلى الصلاة؟ قال: لا بل تعش، قلت: أخاف أن تفوتني الصلاة جماعة؟ قال: إن الرجل إذا تناول منه شيئا ثم تركه فكان في نفسه شغل من ترك الطعام إذا لم ينل منه حاجته، قلت: فيأتي على ما يريد من الطعام ثم يصلي؟ قال: نعم وإن خاف أن تفوته الصلاة ما دام في وقت حرب قلت لأحمد: الرجل يصلي بحضرة الطعام؟ قال: إن كان قد أكل بعضه فأقيمت

الصلاة فإنه يتم أكله وإن كان لم يأكل فأحب إلي أن يصلي" قال القاضي: "وظاهر هذا الفرق بين أن يكون ابتدأ فيستوفي طعامه وبين أن لا يبتدىء فيؤخره". فائدة: هل يجوز للجماعة أن يقوموا قبل رؤية الإمام إذا أقيمت الصلاة والإمام غير حاضر مثل أن يكون لم يخرج من بيته بعد أو هو المؤذن وهو في المنارة فعلى روايتين: روى جماعة لا يقوموا حتى يروه للحديث، وروى الأثرم وغيره أنه جائز للمأمومين أن يقوموا قبل أن يروا الإمام لحديث أبي هريرة: "أقيمت الصلاة وصف الناس صفوفهم وخرج النبي صلى الله عليه وسلم مقامه ثم أومأ إليهم بيده أن مكانكم" راه البخاري ولم ينكر عليهم فدل على جوازه، وروى جعفر بن محمد والمروزي وغيرهما عنه "أنه وسع العمل بالحديثين جميعا فإن شاءوا قاموا قبل أن يروه وإن شاءوا لم يقوموا حتى يروه. فائدة: أنتظار الإمام للمؤذن قال أحمد في رواية أبي طالب: "إن أنتظر الإمام المؤذن فلا بأس قد فعل ذلك عمر وإن لم ينتظره فلا بأس، ووجهه قول بلال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبقني بآمين" فدل على أنه لم ينتظره.

فائدة: عبد الله والكوسج قالا: "كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يضع نعليه بين يديه ولا يجعلهما بين رجليه" يعنى في الصلاة إماما كان أو غير إمام، قال عبد الله بن أحمد: "كان أبي يصلي الفريضة والتطوع ونعلة بين يديه" ونقل حنبل وأحمد بن علي يجعلهما عن يساره. وجه الأولى أنه لا يؤذي بهما أحدا وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في الحديث. ووجه الثانية أنه يوم الفتح بمكة فوضع نعليه عن يساره صحيح فائدة: الوقوف وراء الإمام. قال في رواية على بن سعيد في الرجل الجاهل يقوم خلف الإمام فيجيء من هو أعلم بالسنة منه فيؤخره أو يدفعه ويقوم في مقامه؟ لا أرى ذلك فذكر له حديث قيس بن عباد حين أخّره أبي بن كعب رضي الله عنهما فقال: "إنما كان غلاما" قال القاضي: "إنما لم يجز تأخيره لأنه كبير قد سبق إلى ذلك الموضع" وأجاب أحمد عن حديث أبي بأن قيسا كان غلاما. قلت: وقد يؤخذ من كلام أحمد جواز تأخير الصبي وصلاة الرجل مكانه وقد قال أحمد في رواية الميموني: "يلي الإمام الشيوخ وأصحاب القرآن ويؤخر الغلام والصبيان" وقال في رواية أبي طالب في الصف يكون طويلا فيكون في آخره صبي فيجيء رجل فيقوم خلف الصبي؟ "لا بأس هو متصل بالصف" قال بعض أصحابنا: "وهذا يدل على أنه إذا كان في الصف خلل مقام

رجل لا يبطل الموقف لأن الصبي لا يضاف الرجل وقد حكم باتصاله بالصف فإن كان قد امتلأ الصف وفيه صبي فجاء رجل فللرجل إذا جاء أن يؤخره ويقوم مقامه لأنه أولى بالتقدمة". فائدة: قال المروزي: "كان أبو عبد الله يقوم خلف الإمام فجاء يوما وقد تجافي الناس أن يصلي أحد في ذلك الموضع فاعتزل وقام في طرف الصف وقال: قد نهي أن يتخذ الرجل مصلاه مثل مربض البعير". فائدة: الجاهل يصلي برجل فيجعله عن يساره قال أحمد في رواية ابن عبد الله: "لو أن رجلا جاهلا صلى برجل فجعله عن يساره كان مخالفا للسنة ورد إليها وجازت صلاته وقال في رواية جعفر بن محمد في الرجل يقيم الصلاة وليس معه إلا غلام لا يؤمه في الفريضة وإنما "أم النبي صلى الله عليه وسلم عباس في تطوع صلاة الليل" رواه البخاري ومسلم وأبو داود. وكذلك حديث أنس إنما هو تطوع رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وروى هذه أيضا عنه حرب وابن سندي قال بعض أصحابنا: "وجه ذلك أنه لا يصح أن يكون إماما في هذه الصلاة فلم تنعقد به كالمرأة والعبد في صلاة الجمعة ولا يلزم أنه إذا صلى بامرأة أن تنعقد الجماعة لأنها تصح أن تكون إمامة فيها في حق النساء.

فائدة: علة منع البالغ من مصاففة الصبي اختلف أصحابنا في علة منع البالغ من مصاففة الصبي فقال أبو حفص: "يخشي أن لا يكون متطهرا" يعنى فيصير البالغ فذا وقال غيره: "لما لم يجز أن يؤمه لم يجز أن يصافه كالمرأة وعكسه صلاة النافلة لما جاز أن يؤمه جاز أن يصافه" وإذا ثبت ذلك فالإمام مخير بأن يقف في وسطهما الرجل عن يمينه والصبي عن يساره وبين أن يقفا جميعا عن يمينه إن كانت الصلاة فرضا وإن كانت نافلة جاز أن يقفا خلفه نص عليه فقال: "إذا كان رجل وغلام لم يدرك في صلاة الفريضة فيقوم الرجل وسطهم بينهما كما فعل ابن مسعود في الفريضة قيل له حديث أنس "أمنا رسول الله قال ذلك في التطوع" قال أبو حفص: "واحتج أبو عبد الله في أن الرجل يقف على يمين الإمام والغلام عن يساره بما رواه حدثنا يعقوب ثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: "دخلت أنا وعمي علقمة على عبد الله بن مسعود بالهاجرة" قال: "فأقام لصلاة الظهر فقمنا خلفه فأخذ بيدي وبيد عمي ثم جعل أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره ثم قام بيننا فصففنا صفا واحدا" ثم قال: "هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع إذا كانوا ثلاثة" وحجته في التطوع أنهما يقفان خلف الإمام ما رواه أحمد ثنا عبد الرزاق عن مالك أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس فذكر الحديث وفيه فقمت أنا واليتيم وراءة قال أبو حفص على أن حديث أنس لم يقطع به أبو عبد الله قال في رواية عبد الله: "كان قلبي لا يجسر على حديث إسحاق" لأن حديث موسى يعنى خلافه ليس فيه ذكر لليتيم إنما فيه أن أنسا قام عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد ثنا حجاج ابن محمد قال شعبة قال سمعت عبد الله بن المختار عن موسى ابن أنس

يحدث عن أنس "أنه كان هو ورسول الله وأمه وخالته خلفهما" قال شعبة وكان عبد الله بن المختار أشب مني. فائدة: صفوف الجماعة وترتيبها الأفضل إذا كانا رجلين أن يصليا خلفه نص عليه لحديث جابر وجبار فأما ما ذهب إليه ابن مسعود إذا كانوا ثلاثة يقوم وسطهم فإن أبا عبد الله قال: "لم يبلغ عبد الله هذه الأخبار" وقد سهل أبو عبد الله في ذلك قال: "وأرجوا أن يكون الإمام في الثلاثة واسعا وأحب إلى أن يتقدم كما فعل عمر" وروى عنه المروزي في الرجل يجيء والإمام في التشهد وإلى لزقه رجل هل يقوم معه أو يجذبه؟ قال: "أعجب إلى أن يتقدم الإمام ويجذب الرجل" قال أبو حفص: "قوله يتقدم الإمام ليقل تأخر المأموم ويقرب الإمام من السترة" وقد أجاز جذب الرجل ليصح مقامه معه خلف الإمام وأكثر الروايات عنه أنه كره أن يجذب رجلا لأنه يؤخره عن موقفه فإن اختار هو ذلك وقال في رواية أبي طالب: "إذا صلى الإمام مع رجل وجلس وجاء رجل فليجلس عن يساره حتى يقوم لأن تأخير الجالس يثقل" وكون المأموم عن يسار الإمام إذا كان عن يمينه رجل موسع. فائدة: صلاة المأمومين على علو اختلف قول أحمد في صلاة المأمومين على علو فنقل عنه صالح أنه أجاز ذلك للضرورة إذا كان موضعا ضيقا وقال في الرجل يصلي فوق البيت بصلاة الإمام إن كان في موضع ضيق يوم الجمعة كما فعل أنس ونقل حرب وحنبل وأبو الحارث الجواز مطلقا أن يصلي المأموم وهو يسمع قراءة الإمام في دار أو فوق سطح أو في

الرحبة أو رجل منزله مع المسجد يصلي على سطحه بصلاة الإمام أو على سطح المسجد بصلاة الإمام أسفل وذكر الآثار بذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن عمر وابن عباس. واختلف قوله: إذا كان بينهم نهر أو طريق أو حائط؟ فنقل حرب عنه أنه أجاز للمرأة أنها تصلي فوق بيت بصلاة الإمام وبينهما وبين الإمام طريق ولفظه: "أرجو أن لا يكون به بأس" وذكر حديث أنس أنه كان يفعل ذلك فقيل: "إذا كان وحده؟ قال: "لا من صلى خلف الصف وحده أعاد" ونقل أبو طالب المنع فقال في الرجل يصلي فوق سطح بصلاة الإمام قال: "إذا كان بينهما طريق أو نهر فلا" قيل: أنس صلى؟ قال أنس: "صلى يوم الجمعة في عرفة بعدما كبر ويوم الجمعة لا يكون طريق يمتلىء من الناس" ونقل ابن الحكم جواز ذلك للضرورة قال "إذا كان موضع ضرورة أجزأ عنه يروى عن أنس" فأما التراويح فتجوز فوق سطح وإن كان بينهما طريق نص عليه وقال: "ذلك تطوع" قال أبو حفص: "وجائز أن يصلي الناس يوم الجمعة في طاقات باب خراسان وخارج الطاقات نص عليه" قال أبو حفص: "إذا فعل الرجل مثل فعل أبي بكرة مع العلم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة رواه البخاري فيه فروايتان إحداهما: يعيد وعنه أنه أجاز للرجل أن يكبر ويركع فيما دون الصف ثم يمشي حتى يدخل في الصف إذا علم أنه لا يدرك فقال في رجل كبر قبل أن يدخل في الصف وركع ثم مشي حتى دخل في الصف فقال: "يجوز له ذلك قد روي أن أبا بكرة ركع دون الصف ولم يأمره أن يعيد" وقد روى أيضا عن ابن مسعود وزيد أنهما ركعا دون الصف وقال في رواية إسحاق ابن إبراهيم: "أرى إذا علم أنه يدرك الركعة لم يركع دون الصف وإذا علم أنه لا يدرك ركع وإثنان أحب إلى أن يكبرا جميعا ويدبا إلى الصف" قال أبو حفص: "ووجه ذلك ما روى عبد الله بن أحمد رحمهما الله تعالى ثنا زكريا بن يحيى ثنا إبراهيم بن سعد الزهري عن قبيصة بن ذؤيب قال: "رأيت زيد ابن ثابت يدخل المسجد والقوم ركوع فيركع ثم يدب حتى يصل إلى الصف" وعن ابن مسعود مثله ابن جريج عن عطاء أنه سمع ابن الزبير على المنبر يقول للناس: "إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل

ثم ليدب راكعا حتى يدخل في الصف فإن ذلك من السنة" قال عطاء: "وقد رأيته هو يفعل ذلك" قال أبو حفص البرمكي وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة: "لا تعد" نهي عن شدة السعي بدليل قول ابن الزبير فإن ذلك من السنة. فائدة: قال أحمد في رواية إسحق بن إبراهيم في رجل مكفوف دخل في الصف فلما أراد أن يركع التزق الذين كانوا معه في الصف بصف آخر وبقي هو وحده يعيد وقال في رواية مهنا في رجل صلى يوم الجمعة مع الإمام ركعة وسجدتين في الصف ثم زحموه فصلى الركعة الأخرى خلف الصف وحده يعيد الركعة التي الركعة التي صلى وحده قال في رواية الحسن بن محمد: "إذا ركع ركعة وسجد ثم دخل في الصف يعيد الركعة التي صلاها ولا يعيد الصلاة كلها" وقال في رواية مهنا في رجل ركع ركعة وسجدتين دون الصف ثم جاء الناس فقاموا إلى جنبه في الثلاث ركعات يعيد الصلاة كلها" ثم قال: "لو ركع ركعة وحدها ولم يسجد السجدتين لم يكن عليه إعادة لأن أبا بكرة ركع دون الصف ولم يسجد" قال أبو حفص: "اختلف قول أبي عبد الله في رجل يصلي خلف الصف ركعة كاملة ثم يدخل الصف أو ينضاف إليه قوم هل يعيد تلك الركعة وحدها أو الصلاة كلها. قال أبو حفص: "والأصح عندي أنه يعيد ما صلى خلف الصف حسب فيعيد الركعة أو الركعتين ولا يعيد ما صلى مع غيره" قال: "لأن تكبيرة الإحرام لم تفسد لأنه لا يختلف قوله أنه إذا كبر وحده أنها صحيحة" قال القاضي: "وتحرير قول أبي حفص أنه صلى بعض الصلاة منفردا فلم تبطل جميعها كالتكبيرة والركوع من غير سجود ووجه البطلان أن القياس يقتضي بطلان الصلاة في التكبيرة

والركوع لن ما يفسد جميع الصلاة يفسد بعضها كالحدث وإنما أجاز أحمد ذلك القدر لحديث أبي بكرة قال أحمد: "إذا صلى بين الصفين وحده يعيدها لأنه فذ وإن كان بين الصفين" وقال في الرجل ينتهي إلى الصف الأول وقد تم: "يدخل بين رجلين إذا علم أنه لا يشق عليهم وذلك أنهم قد أمروا أن لا يكون بينهم خلل ويكره أن يمد رجلا من الصف إليه نص عليه" قال: "أما أنا فأستقبح أن يمد رجلا يدخل مع القوم أو ينتزع رجلا من الصف فيركع معه" قال بعض أصحابنا: "ويقرب من هذه المسألة أنه يباح تخطي رقاب الناس إذ تركوا قدامه فرجة في رواية قال في رواية المروزي: "إذا جاء وليس يمكنه الدخول في الصف هل يمد رجلا يصلي معه قال: "لا ولكن يزاحم الصف ويدخل" وقال أبو حفص: "وقد ذكرنا عن أحمد جواز جر الرجل" في رواية المروزي فإن صح النقل كان في المسألة روايتان روي عن أبي أيوب قال: "تحريك الرجل من الصف ظلم" قلت: وفي المدونة قال مالك: "هو خطأ منهما وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ينكره أيضا ويقول: "يصلي خلف الصف فذا ولا يجذب غيره" قال: "وتصح صلاته في هذه الحالة فذا لأن غاية المصافة أن تكون واجبة فتسقط بالعذر. فائدة: انفراج القدمين وضمهما قال مهنا: "رأيت أحمد إذا قام إلى الصلاة يفرج بين قدميه وإذا انحدر للسجود ضم قدميه" قال القاضي: "إنما قلنا يفرج بين قدميه لما روى حرب ثنا أبو حفص ثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال: "لا تقارب ولا تباعد" وكيع عن ابن عيينة عن ابن عبد الرحمن بن حوشب قال: "كنت مع أبي في المسجد يعنى مسجد البصرة فنظر إلى رجل قائما يصلي قد ضيق بين قدميه وألزق

إحداهما بالأخرى فقال أبي: "لقد أدركت في هذا المسجد ثمانية عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت أحدا منهم يصنع هكذا" ولأنه أمكن للقيام في الصلاة وضم القدمين عند الانحدار للسجود أمكن للانحدار قال في رواية حرب وقد سأله الرجل يصف بين قدميه أحب إليك أم يعتمد على هذه مرة وعلى هذه مرة؟ قال: "يراوح بين قدميه أحب إلي يعتمد على هذه مرة وعلى هذه مرة" لما روى الأعمش عن المنهال عن أبي عبيدة قال: "رأى عبد الله رجلا يصلي صافا بين قدميه فقال: لو راوح هذا بين قدميه كان أفضل" ولأنه أروح للمصلى وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم المشقة عن المصلى بقوله: "أبردوا بالصلاة " وكان يتوقى بالثوب في الصلاة حر الأرض وبردها وقال حنبل: "رأيته يراوح بين قدميه في صلاة التطوع فإذا كانت المكتوبة قام منتصبا لا يتحرك منه شيء" وقال أحمد بن الحسين الترمذي: "رأيت أبا عبد الله إذا افتتح الصلاة رفع يديه قريبا من شحمه أذنيه ونشر أصابعه" وقال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل سئل تذهب إلى نشر الأصابع إذا كبرت؟ قال: "لا"، قال أبو حفص: "لعل أبا عبد الله أراد بالنشر الذي لم يذهب إليه التفريق الذي كان يقول به أولا والنشر الذي ذهب إليه آخرا هو مد اليدين" وقد قال صالح سألت أبي عن رفع اليدين في التكبيرة الأولى؟ فقال: "يا بني كنت أذهب إلى حديث أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كبر نشر أصابعه " فظننت أنه التفريق فكنت أفرق أصابعي فسألت أهل العربية فقالوا: هو الضم وهذا النشر ومد أبي أصابعه مدا مضمومة وهذا التفريق وفرق بين أصابعه قال أحمد حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا".وروى يحيي بن اليمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا افتتح الصلاة فرّج بين أصابعه ". وقد ضعفه أحمد فقال أحمد بن أثرم: "إن أبا عبد الله سئل عن ابن سمعان في الحديث فقال: "ليس بشيء" والحديث عنده حديث أبي هريرة "أنه كان يرفع

يديه مدا". قال أحمد في رواية الفضل بن زيد وقد سأله عن رجل بلي بأرض ينكرون فيها رفع اليدين في الصلاة وينسبونه إلى النقص يجوز له ترك الرفع؟ قال: "لا يترك ذلك يداريهم" إنما قال يداريهم لأنه لا طاقة له بهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق قال في رواية ابن مشيش: "رفع اليدين في الصلاة من السنة" وهذا يدل على أن الهيئات في الصلاة يطلق عليها اسم السنة قال أبو حفص: "فأما حديث أحمد بن يونس عن أبي بن بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد عن ابن عمر "أنه كان لا يرفع يديه" فإن أبا عبد الله قيل له إن مجاهدا قال: "ما رأيت ابن عمر رفع يديه إلا في افتتاح الصلاة" قال: "هذا خطأ نافع وسالم أعلم بحديث ابن عمر وإن كان مجاهد أقدم فنافع أعلم منه" قال بعض أصحابنا: "وهذا من أحمد يدل على أصلين: أحدهما: أن رواية الأعلم مقدمة على رواية غيره. والثاني أن رواية من يختص بالصحبة أولى من غيره. فائدة: اختلف قول أحمد في رفع اليدين فيما عدا المواضع الثلاثة فأكثر الروايات عنه أنه لم ير الرفع عند الانحدار إلى السجود ولا بين السجدتين ولا عند القيام من الركعتين ولا فيما عدا المواضع الثلاثة في حديث ابن عمر ونقل عنه ابن الأثرم وقد سئل عن رفع اليدين فقال: "في كل خفض ورفع" قال ابن الأثرم: "ورأيت أبا عبد الله يرفع يديه في الصلاة في كل خفض ورفع" ونقل عنه جعفر بن محمد وقد سئل عن رفع اليدين فقال: "يرفع يديه في كل موضع إلا بين السجدتين" ونقل

عنه المروزي: "لا يعجبني أن يرفع يديه بين السجدتين فإن فعل فهو جائز" عمرو بن مرة عن أبي البحتري عن عبد الرحمن اليحصبي عن وائل بن حجر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير" وقد حكى أحمد لفظ هذا الحديث في موضع آخر "أنه كان يرفع يديه كلما كبر" قال أبو حفص: "وظاهر هذا الحديث يأتي على جميع الصلاة في كل خفض ورفع أحمد عن ابن فضيل عن عاصم بن كليب عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا نهض من الركعتين رفع يديه" رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم قال أحمد: "لا بأس بحديثه" يعنى عاصم ابن كليب رفدة بن قضاعة عن الأوزاعي عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي عن أبيه عن جده قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع كل تكبير في الصلاة المكتوبة"، قال أحمد ويحيى بن معين: "ليس بصحيح ولا يعرف عبيد بن عمير يحدث عن أبيه شيئا ولا عن جده" قال أحمد: "لا أعرف رفدة". وجه الثالث: حديث ابن عمر ولا يرفع بين السجدتين بعد ذكر المواضع الثلاثة. واختلف قوله في حد الرفع فعنه أنه اختار إلى منكبية وعنه فروع أذنيه؛ وجه الأولى حديث ابن عمر، ووجه الثانية حديث مالك بن الحويرث "أن النبي صلى الله عليه وسلم رفعيديه إلى فروع أذنيه" رواه مسلم والنسائي وغيرهما وكيع عن قطن عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين افتتح الصلاة حتى جاوزت إبهاماه شحمة أذنيه"، وكيع عن أبيه عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء ابن عازب قال: "كأني أنظر إلى إبهامي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاذتا شحمة أذنيه في الصلاة" قال أبو حفص: "الأمر عند أبي عبد الله واسع إلى أي موضع رفع ما لم يتجاوز الأذنين ولم يقصر عن المنكبين" الحسين بن محمد الأنماطي "رأيت أبا عبد الله إذا رفع رأسه من الركوع لا يرفع يديه حتى يستتم قائما" والحجة فيه حديث أبي حميد فيقول: "سمع الله لمن حمده ثم يرفع يديه" أبو داود قلت لأحمد: أفتتح الصلاة ولم يرفع يديه أيعيد؟ قال: لا حجته أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه للأعرابي رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم ولا نعلم أحدا قال بالإعادة إلا محمد بن سيرين فإن أحمد ذكر

فائدة: وضع اليدين في الصلاة اختلف قوله في صفة وضع اليد على اليد فعنه أحمد بن أصرم المزني وغيره أنه يقبض بيمينه على رسغ يساره وعنه أبو طالب يضع يده اليمنى وضعا بعضها على ظهر كفة اليسرى وبعضها على ذراعه الأيسر، للأولى حديث وائل "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع اليمنى على اليسرى قريبا من الرسغ" وفي حديث "ثم ضرب بيمينه على شماله فأمسكها"، وللثانية ما روى أنس أنه وضع يمينه على شماله على هذا الوصف وفي حديث وائل وفي طريق زائدة عن عاصم بن كليب قال: "ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه والرسغ والساعد " واختلف في موضع الوضع فعنه فوق السرة وعنه تحتها وعنه أبو طالب سألت أحمد أين يضع يده إذا كان يصلي؟ قال: "على السرة أو أسفل وكل ذلك واسع عنده إن وضع فوق السرة أو عليها أو تحتها" علي رضي الله عنه: "من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة" عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس مثل تفسير علي إلا أنه غير صحيح، والصحيح حديث علي قال في رواية المزني: "أسفل السرة بقليل ويكره أن يجعلهما على الصدر " وذلك لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن التكفير وهو وضع اليد على الصدر. مؤمل عن سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل "أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره " فقد روى هذا الحديث عبد الله بن الوليد عن سفيان لم يذكر ذلك، ورواه شعبة وعبد الواحد لم يذكرا خلاف سفيان قال في رواية صالح والكوسج: "إذا التفت في الصلاة قد أساء وما علمت أني سمعت فيه حديثا" أي أنه يعيد وقال في رواية أبي طالب: "الالتفات في الصلاة لا يقطع إنما كره لأنه يترك الخشوع والإقبال على صلاته" قال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان " الحديث رواه البخاري والنسائي وغيرهم فلو كلف الإعادة شق إذ المصلي لا يكاد يسلم من اختلاسه. فائدة: الاستفتاح في الصلاة قال في رواية حنبل: "كان ابن مسعود وأصحابه لا يعرفون الافتتاح يكبرون ولو فعل هذا رجل أجزأه وأهل المدينة لا يعرفون الافتتاح" وحجته في سقوط وجوب الافتتاح ما روى عن ابن مسعود لأن في الأخبار ضعفاء. قلت: ابن مسعود كان

يذهب في الصلاة إلى أشياء خالفه فيها سائر الصحابة فمنها ترك الرفع فيما عدا الافتتاح ومنها التطبيق في الركوع ومنها قيام إمام الثلاثة في وسطهم ومنها ترك الافتتاح وأحمد لم يضعف أحاديث الافتتاح ولا أسقط وجوبه من أجل ضعفها ولا من أجل ترك ابن مسعود له وإنما لم يوجبه لعدم الأمر به فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" ولم يأمره بالاستفتاح روى حنبل عنه: "إذا أراد أن يبتدىء الصلاة يكبر ثم يستفتح استفتاح عمر ثم يتعوذ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم ثم يقرأ ويبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم هذا كله يخافت به فإن جهر بها فهو سهو يسجد سجدتي السهو إذا جهر بها" قال أبو حفص: "ليس السجود واجبا". حرب عنه: "لا يقرأ الإمام إلا بعد سكته حتى يقرأ من خلفه فاتحة الكتاب" عبد الله عنه: "يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم هذا أعجب إلي" وكذا نقل المروزي ثم قال: "والأمر سهل" الأصل فيه قوله تعالى: {فَإذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وفي هذا جمع بين الأمرين وعن النبي صلى الله عليه وسلم قصة عائشة قال: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ} " روى أحمد بن إبراهيم بن هشام عن أبي عبد الله "أنه سئل عن بسم الله الرحمن الرحيم من فاتحة الكتاب فقال: "نعم هي إحدى آياتها" قال أبو حفص: "ليست هذه الرواية في كتاب الخلال لكنها في سماعنا" وروى أبو طالب: إذا نسي أن يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يسجد سجدتي السهو؟ قال: "لا" قال أبو حفص: "هذا على إحدى الروايتين إذا تركها عند قراءة السورة" وروى عنه الفضل وأبو الحارث وقد سئل عن الجهر بـ (آمين) قال: "اجهر بها فإنها سنة ذهبت من الناس" وهذا يدل على أن الهيئة سنة عند أحمد لأن الجهر هيئة في الكلام. وروى عنه إسحاق بن إبراهيم: "آمين أمر من النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمن القارىء فأمنوا". وهذا يدل على أن المندوب

مأمور به عند أحمد وروى عنه حنبل: "يجهر بها في المكتوبة وغيرها لعموم الإخبار" ابن منصور عن أحمد وقد سأله عن قول أبي هريرة: "لا تسبقني بآمين " قال: "يتأيد حتى يجيء المؤذن لفضل التأمين". نسيان القراءة أول الصلاة: وروى عنه الأثرم وقد سئل إذا كان خلف الإمام فقرأ خلفه فيما يجهر فيه أيقول آمين؟ قال: "لا أدري ولا أعلم به بأسا" اختلف قوله إذا لم يقرأ أول الصلاة هل يقضي؟ فروى عنه عبد الله ابنه أنه إن ترك القراءة في الأولتين قرأ في الآخرتين وسجد سجدتي السهو قبل السلام وإن ترك القراءة في الثالثة ثم ذكر وهو في الرابعة فسدت صلاته واستأنف الصلاة وروى عنه إسماعيل بن سعيد فيمن ترك القراءة من صلاة الغداة أو في ركعتين من الظهر عمدا أو سهوا لا يعتد بتلك الركعة التي لم يقرأ فيها وبيني على صلاته ويقرأ وروى عنه ابن مشيش في إمام صلى بقوم الظهر فلما فرغ ذكر أنه لم يقرأ يعيد ويعيدون وهو الصحيح. وجه الأول ما روى أحمد ثنا وكيع ثنا عكرمة ابن عمار عن ضمضم بن جوس الهسفاني عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب قال: "صلى بنا عمر المغرب فنسي أن يقرأ في الركعة الأولى فلما قام في الثانية قرأ بفاتحة الكتاب مرتين وسورتين فلما قضى الصلاة سجد سجدتين" ووجه الثانية قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" والركعة الواحدة صلاة وروى محمد بن أبي عدي عن الشعبي قال: "قال الأشعري صلى بنا عمر فدخل ولم يقرأ شيئا قال: فاتبعته حتى أتيت الإطناب فقلت يا أمير المؤمنين إنك لم تقرأ شيئا فقال: لقد رأيتني أجهز عيرا بكذا وأفعل كذا قال: فأمر المؤذنين فأذنوا وأقاموا فأعاد بنا الصلاة" قال القاضي: "إذا قلنا يعيد فإنه يعيد الأذان" قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد وقد سأله هل يعيدون الأذان والإقامة إذا كانوا على ذلك؟ قال: "نعم" ووجهه حديث عمر ولأن فيه إعلام الناس ليجتمعوا للإعادة وروى عنه أحمد بن الحسين الترمذي وقد سئل عن حديث عمر "أنه صلى بالناس وهو جنب فأعاد ولم يعيدوا" قال: "هكذا نقول". قلت: فإن لم يقرأ الإمام الجنب والذي على غير طهر ومن خلفه

قال: "يعيد ويعيدون" انتهى قلت: والفرق بين القراءة وترك الطهارة أن القراءة يتحملها الإمام عن المأموم فإذا لم يقرأ لم يكن ثم تحمل والطهارة لا يتحملها الإمام عن المأموم فلا يتعدى حكمها إلى المأموم بخلاف القراءة فإن حكمها يتعدى إليه فإن قيل كيف يتحمل الجنب القراءة عن المأموم وليس من أهل التحمل، قيل كيف يتحمل الجنب القراءة وليس من أهل التحمل قيل لما كان معذورا بنسيانه حدثه نزل في حق المأموم منزلة الطاهر فلا يعيد المأموم وفي حق نفسه تلزمه الإعادة وهذا بخلاف المتعمد للصلاة محدثا أو جنبا فإنه لما لم يكن معذورا نزل فعله بالنسبة إلى المأموم منزلة العبث الذي لا يعتد به وأيضا لما كان هذا يكثر مع السهو لم يتعد بطلان صلاته إلى المأموم رفعا للمشقة والحرج ولما كان يندب مع التعمد تعدى فساد صلاته إليهم واختلف قوله في الصلاة بغير الفاتحة فروى حرب عنه فيمن نسي أن يقرأ بفاتحة الكتاب وقرأ قرآنا؟ قال: "وما بأس بذلك أليس قد قرأ القرآن" قال: وسمعته مرة أخرى يقول: "كل ركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فإنها ليست بجائزة وعلى صاحبها أن يعيدها". قال الخلال: الذي رواه حرب قد رجع عنه أبو عبد الله وبين عنه خلف كثير أنه لا يجزئه إلا أن يقرأ في كل ركعة للثانية ما روى مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قال: "من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن لم يصل إلا وراء إمام" وروى عنه أبو طالب: "من نسي أول ركعة ثم ذكر في آخر ركعة أنه لم يقرأ لا يعتد بالركعة التي لم يقرأ فيها ويصلي ركعة أخرى مكان تلك الركعة فإن ذكرها وقد سلم وتكلم أعادة الصلاة. قراءة القرآن في الفرائض: اختلف قوله في قراءة القرآن الكريم في الفرائض على التأليف على سبيل الدرس فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال: سألت أبي عن الرجل يقرأا لقرآن كله في الصلاة الفريضة قال: "لا أعلم فعل هذا" وقد روى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه "أنه كان يقرأ بعض القرآن سورا على التأليف" وروى عنه حرب في الرجل يقرأ على التأليف في الصلاة اليوم سورة الرعد وغدا التي تليها ونحو ذلك؟ قال: "ليس في هذا شيء أنه يروى عن عثمان أنه فعل ذلك في المفصل وحدها"

وروى عنه مهنا أنه رخص أن يقرأ في الفرائض حيث ينتهي سأل ابن قتيبة عن سهل بن أبي حذيفة عن ثابت عن أنس قال: "كانوا يقرؤون في الفريضة من أول القرآن إلى آخره" وروى المروزي أن أحمد سئل عن حديث أنس هذا فقال: "هذا حديث منكر" روى حنبل عنه "إذا كان المسجد على قارعة الطريق أو طريق يسلك فالتخفيف أعجب إلي وإن كان مسجدا معتزلا أهله فيه ويرضون بذلك فلا أرى به بأسا وأرجو إن شاء الله" وروى عنه أبو الحارث "إذا قرأ بفاتحة الكتاب وهو يحسن غيرها إن كان عامدا فلا أحب له ذلك وإن كان ساهيا فلا بأس صلاته تامة" وعنه محمد بن الحكم "هو عندي مسيء إذا عمد ذلك". قلت يريد الاقتصار على الفاتحة وكلامه يدل على أحد أمرين: إما أن تكون السورة واجبة وإما أن يكون تارك سنة الصلاة مسيئا وروى الفضل بن زياد عنه وقد سئل الرجل يقرأ في المكتوبة في كل ركعة بالحمد لله وسورة قال: قد كان عمر يفعل، قيل: فتراه؟ قال: لا قد فعل النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا اقرأ في الأوليين" أنتهي. وروى عن علي وجابر قالا في الركعتين الآخريين بفاتحة الكتاب. وروى أبو طالب سألت أبا عبد الله عن الرجل يصلي بالناس المكتوبة فيقرأ في الأربع كلها بالحمد لله وسورة؟ قال: "لا ينبغي أن يفعل" قلت: ساهيا؟ قال: "يسجد سجدتين" وروى عنه أحمد بن هاشم وقد سئل عن رجل قرأ في الركعتين الآخريين بالحمد لله وسورة ناسيا هل عليه سجدتا السهو؟ قال: "لا" وكذلك قال مهنا والميموني. وروى عنه أبو الحارث في إمام صلى بقوم فقرأ بفاتحة الكتاب ثم قرأ بعض السورة ولم يتمها ثم ركع لا بأس ثم قال أحمد ثنا عبد الله بن إدريس ثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن أبزي قال: "صليت خلف عمرو فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} وقع عليه البكاء فركع ثم قرأ سورة النجم فسجد فيها ثم قام فقرأ (إذا زلزلت) وروى عنه صالح وقد سأله رجل عن رجل يصلي فيبدأ من أوسط السورة أو من آخرها؟ قال: "أما

آخر السورة فأرجو وأما وسطها فلا" وروى عنه أحمد بن هشام الأنطاكي هل يجزىء مع قراءة الحمد آية؟ قال: "إن كانت مثل آية الدين أو مثل آية الكرسي" وروى عنه محمد بن حبيب يكره أن يقرأ الرجل في صلاة الفجر بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و (أرأيت) إلا أن يكون في سفر" محمد بن حبيب ثنا عمر والناقد ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعيد ثنا أبي عن إسحاق عن مسعر ومالك بن مغول عن الحكم عن عمرو بن ميمون عن عمر "أنه صلي بهم الفجر في طريق مكة فقرأ بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وروى الميموني صلى بنا أبو عبد الله الفجر فقر أفي الأولى وفي الثانية بـ (الفجر) وكنا نصلي خلف أبي عبد الله بغلس فيقرأ بنا في الأولى (تبارك) ونحوها ويقرأ في الثانية (إذا الشمس كورت) وروى عنه أحمد بن الحسين بن حسان في إمام يقصر في الركعة الأولى ويطول في الأخيرة لا ينبغي هذا يطول في الأولى ويقصر في الآخرة قال أبو حفص: "وقد روى عن أنس أنه قرأ في الركعة الأولى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وهذا يدل على جواز الإطالة في الثانية وليس ما ذكره بقوي ومن خطايا القاضي مما قال أنتقيته من كتاب الصيام لأبي حفص. من صام رمضان وهو ينوى التطوع نقل عبد الله قال: سألت أبي عمن صام رمضان وهو ينوى بها تطوعا؟ قال: "لا يفعل هذا إنسان من أهل الإسلام لا يجزئه حتى ينوي لو أن رجلا قام فصلى أربع ركعات لا ينوى بها صلاة فريضة أكان يجزئه" ثم قال: "لا تجزئه صلاه فريضة حتى ينويها" قال أبو حفص: "وقد قال الشافعي: ولو عقد رجل على أن غدا عنده من رمضان في يوم الشك ثم بان أنه من رمضان أجزأه" قال: "وهذا موافق لما قال أبو عبد الله في الغيم" قال عبد الله: قلت لأبي إذا صام شعبان كله؟ قال: "لا بأس أن يصوم اليوم الذي يشك فيه إذا لم ينو أنه من رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان فقد دخل ذلك اليوم في صومه" قال أبو حفص: "مراد أبي عبد الله

في هذه المسألة إذا كان الشك في الصحو لما تقدم من مذهبه في الغيم. ومن خط القاضي أيضا مما ذكر أنه أنتقاه من كتاب حكم الوالدين في مال ولدهما: عتق الأب جارية ابنه: جمع أبي حفص البرمكي قال: "اختلف قول أبي عبد الله في عتق الأب جارية ابنه قبل قبضها فروى عنه بكر بن محمد أنه قال: "ويعتق الأب في ملك الابن وهو في ملك الابن حتى يعتق الأب أو يأخذ فيكون للأب ما أخذ" وعنه المروزي ولو أن لابنه جارية فأعتقها كان جائزا" وعنه بكر بن محمد: "إذا كانت للابن جارية فأراد عتقها قبضها ثم أعتقها ولا يعتق من مال ابنه إلا أن يقبضها" وكذا روى عنه عبد الله وغيره. قلت: الروايتان مأخذهما أن من ملك أن يملك بتصرف قبل تملكه هل ينفذ تصرفه؟ فيه قولان وعلى هذا يخرج تصرف الزوج في نصف الصداق إذا طلق بعد الالإقباض وقبل الدخول وتصرف الموصى له إذا تصرف بعد الموت وقبل القبول على أن الذي تقتضيه قواعد أحمد وأصوله صحة التصرف ويجعل هذا قبولا واسترجاعا للصداق قد قارن التصرف ومن منع صحته قال: "إن غاية هذا التصرف أن يكون دالا على الرجوع والقبول الذي هو سبب الملك ولم يتقدم على التصرف والملك لا بد أن يكون سابقا للتصرف فكما لا يتأخر عنه لا يقارنه" ولمن نصر الأول أن يجيب عن هذا بأن المحذور أن يرد العقد على ما لا يملكه ولا يكون مأذونا له في التصرف فيه فإذا قارن العقد سبب التملك لم يرد العقد إلا على مملوك فقولكم لا بد أن يتقدم الملك العقد دعوى محل النزاع فمنازعوكم يجوزون مقارنة العقد لسبب التملك وهذه المسألة تشبه مسالة حصول الرجعة بالوطء فإنه بشروعه بالوطء تحصل الرجعة وإن لم يتقدم على الوطء فما وطأ إلا من ارتجعها وإن كانت رجعته مقارنة لوطئها فتأمله فإنه من أسرار الفقة. ونظير هذه المسألة الجارية مسألة الموهوبة للولد سواء قال أحمد في رواية أبي طالب: "إذا وهب لابنه جارية وقبضها الابن لم يجز للأب عتقها حتى يرجع فيها ويردها إليه" قال أبو حفص: "ويخرج في هذه المسألة

رواية أخرى بصحة العتق والأول أصح" قال إسحاق بن إبراهيم: "سألت أبا عبد الله رحمه الله تعالى عن جارية وهبها رجل لابنه ثم قبضها الابن من الأب فأعتقها الأب بعدما قبضها الابن؟ قال: "الجارية للابن وأعتق الأب ما ليس له" قلت: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لأبيك" قال: "من قال أن عتق الأب جائز يذهب إلى هذا فأما الحسن وابن أبي ليلى يقولان عتقه عليه جائز ولا أذهب إليه" قلت: إيش الحجة في هذا؟ قال: "لا يجوز عتقه على ما وهبه الابن وأجازه. قبض الأب صداق ابنته: اختلف في قبض الأب صداق ابنته فروى عنه مهنا لا يبرأ الزوج بذلك وروى عنه المروزي وأبو طالب أنه يبرأ وأصل الروايتين عند أصحابنا إبراء الأب عن الصداق فإن فيه روايتين فإن قلنا يصح إبراؤه صح قبضه وإلا فلا كالأجنبي. قلت: وعندي أن الروايتين في القبض غير منيتين على رواية الإبراء بل لما ملك الأب الولاية على ابنته في هذا العقد ملك قبض عوضه فلما ملك تزويجها وهو كإقباض البضع وتمكين الزوج منه ملك قبل الصداق وهذه هي العادة بين الناس والرواية الأخرى لا يقبض لها إلا بإذنها فلا يبرأ الزوج بإقباضه كما لا يتصرف في مالها إلا بإذنها والله أعلم. يستقرض الرجل من مال أولاده ثم يوصي بما أخذ: روى المروزي عنه في الرجل يستقرض من مال أولاده ثم يوصي بما أخذ من ذلك قال: "ذلك إليه فإن فعل فلا بأس" وهذه الرواية تدل على أن الدين يثبت في ذمته وإن لم يملك الابن المطالبة به إذ لولا ثبوته في الذمة لم يملك الوصية به وكانت وصيته لوارث وقد روى عنه أبو الحارث في رجل له على أبيه دين فمات الأب؟ قال: "يبطل دين الابن". قلت: وهذه الرواية عندي تحتمل أمرين: أحدهما: بطلانه وسقوطه جملة وهو الظاهر. والثاني: بطلان المطالبة به فلا يختص به من التركة ثم يقسم الباقي فلو أوصى له به من غير مطالبة فله أخذه يقدم به من التركة موافقا لنصه الآخر في رواية المروزي والله أعلم. فإن قيل لو اشتغلت الذمة به لوجبت الوصية به كسائر الديون قلت: لما كان للأب من الاختصاص في مال ولده ما ليس لغيره فيملك أن يتملك عليه عين ماله فلذلك يملك أن يسقطه من ذمته نفسه وأن

يوفيه إياه فتأمله أخذ الأب من مال ابنه ومات ووجده الابن فهل يأخذه؟ اختلفت الرواية عن أحمد فيما أخذه الأب من مال ابنه ومات ووجده الابن بعينه هل يكون له أخذه؟ على روايتين نقلهما أبو طالب في مسائله واحتج بجواز الأخذ بقول عمر قال أبو حفص: "ولأن قد بينا أن الحق في ذمته ولا يمتنع أن يسقط الرجوع إذا كان دينا ويملك إذا كان عينا كالمفلس بثمن المبيع" ووجه الأخرى أن الأب قد حازه فسقط الرجوع كما لو أتلفه" روى عنه أبو الحارث "كلما أحرزه الأب من مال ولده فهو له رضي أو كره يأخذ ما شاء من قليل وكثير والأم لا تأخذ إنما قال أنت ومالك لأبيك ولم يقل لأمك" وروى عنه إسحاق بن إبراهيم "لا يحل لها يعنى الأم أن تتصدق بشيء من غير علمه" قال أحمد: "أما الذي سمعنا أن المرأة تتصدق من بيت زوجها ما كان من رطب والشيء الذي تطعمه فأما الرجل فلا أحب له أن يتصدق بشيء إلا بإذنها" وروى عنه حنبل في الرجل يقع على جارية أبيه أو ابنه أو أمه لا أراه يلزق به الولد عاهر إلا أن يحلها له قال أبو حفص البرمكي: "يحتمل أن يريد بقوله يحلها له أي بالهبة ويحتمل أن يريد لأنه بحل فرجها لأنه إذا أحل فرجها فوطئها لحقه الولد لأجل الشبهة إلا ترى أنا ندرأ عن المحصن الرجم في هذا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في رواية بكر بن محمد في رجل له جارية يطؤها فوثب عليها ابنه فوطئها فحملت منه وولدت هي أمه تباع لأنه بمنزلة الغريب وهو أشد عقوبة من الغريب لا يثبت له نسب ولكن لو اعتقد الأب قوله وهو أشد عقوبة لوجهين: أحدهما وطؤه موطوءة أبيه والثاني: أنها محرمة عليه على التأبيد وإنما اختار عتقه لأنه من ماء ولده مخلوق ولم يوجبه لعدم ثبوت النسب. عبد الله ابنه: إذا دفع إليه ابنه مالا يعمل به فذهب الابن فاشترى جارية واعتقها وتزوج بها مضى عتقها وله أن يرجع على ابنه بالملك ويلحق به الولد وليس له الرجوع بالجارية. حنبل عنه قال: أرى أن من تصدق على ابنه بصدقة فقبضها الابن أو كان في حجر أبيه فأشهد على صدقته فليس له أن ينقض شيئا من ذلك لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة؟ وعنه المروزي: إذا وهب لابنه جارية فأراد أن يشتريها

فإن كان وهبها على وجه المنفعة فلا بأس أن يأخذها بما تقوم وإذا جعل الجارية لله تعالى أو في السبيل أو أعطاها ابنه لم يعجبني أن يشتريها. أبو حفص: إذا وهبها على جهة المنفعة دون الصدقة جاز أن يشتريها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الرجوع في هبة الولد وإن جعل الجارية صدقة على ابنته وقصد الدار الآخرة لم يجز له الرجوع لا بثمن ولا بغيره لقوله: "لا تعد في صدقتك" قال أبو حفص: "وتحصيل المذهب أنه لا يجوز له الرجوع فيما دفع إلى غير الولد هبة كان أو صدقة ويرجع فيما وهبه لابنه ولا يرجع فيما كان على وجه الصدقة وروى عنه مهنا إذا تصدق الرجل بشيء من ماله على بعض ولده ويدع بعضا قال أبو حفص: "لا فرق بين العطية للمنفعة وبين الصدقة للأجر لأن كلاهما عطية وإنما يختلف حكمها في رجوع الوالد". اختلف قوله في قسمة الرجل ماله بين ولده في حياته فروي "إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم إذا لم يفضل" وروى عنه محمد بن الحكم "أحب إلى أب لا يقسم ماله يدعه على فرائض الله لعله يولد له" علي بن سعيد عن أحمد "إذا زوج بعض ولده وجهزه له ولد سواهم وهم عنده ينفق عليهم ويكسوهم فإن كان نفقته عليهم مما يجحف بماله ينبغي له أن يواسيهم وإن لم يجحف بماله وإنما هي نفقة فلا يكون عليه شيء" قال أبو حفص: "قوله يجحف بماله يعنى ينفق فوق الحاجة ينبغي أن يعطي الذين خرجوا من نفقته بإزاء ذلك لأن ما زاد على النفقة يجري مجرى النحل" وروى عنه أحمد بن الحسين في امرأة جعلت مالها لأحد بنيها إن هو حج بها دون أخويه "تعطيه أجرته وتسوي بين الولد" وروى عنه إسحاق بن إبراهيم في الأب يقول وهبت جاريتي هذه لابني إذا كان ذلك في صحة منه وأشهد عليه كان قبضه لها قبضا وهذه الرواية تدل على أن هبة الأب لابنه الصغير يجري فيها الإيجاب لأنه اعتبر في ذلك القبض وروى عنه يوسف بن موسى في الرجل يكون له الولد البار الصالح وآخر غير بار لا ينيل البار دون الآخر قال أبو حفص: "لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق ولأنه كالبار في الميراث"

وروي عنه "للشاهد أن لا يشهد إذا جاء مثل هذا وعرف فيه الحيف في الوصية" وروى عنه الحكم "لا يشهد إذا فضل ببيت ولده" وروى عنه الفضل بن زياد في رجل كانت له بنت وأخ وله عشرة آلاف درهم لم يجز له أن يصالح الأخ منها على ألفي درهم ليس هذا بشيء قال أبو حفص: "لأنه هضم للحق فبطل ولأنه إنما يستحق بعد الموت فهو كإجازة الشريك لشريكه بيع نصبيه ثم له المطالبة بالشفعة". قلت: هذا القياس غير صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على الشريك البيع قبل استئذان شريكه فقال: "لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق بالشفعة" فدل على أنه إذا أذن في البيع ولم يرد أخذ الشقص سقطت شفعته وعلى هذا موجب النص فسبب الشفعة إرادة البيع واستئذان الشريك فإذا طلبه الشريك وجب على شريكه بيعه إياه هذا مقتضي النص خالفه من خالفه وأما إسقاط الميراث فإسقاط أمر موهوم لا يدري أيحصل أم لا ولعله أن يموت هو قبله فهو جار مجرى إسقاط حقه من الغنيمة قبل الجهاد وتحرك العدو البتة وإسقاط حقه بما لعل الموصى أن يوصي له به وأمثال ذلك مما لا عبرة به والله أعلم. فائدة: أحكام الوالدين بالنسبة لأولادهما: إذا مات ولم يسو فهل يرد فيه؟ روايتان منصوصتان رواية ابنه عبد الله وعمه حنبل وأبي طالب "أنه يرد" وأصحابنا إنما نسبوا ذلك إلى أنه قول أبي حفص ولا ريب أنه اختياره في هذا الكتاب ونقله نصا عن أحمد رواية من سمينا وهو الأقيس نقل عنه حرب في مجوسي كان له ولد فنحل بعض ولده دون بعض وكان للمنحول ابن فمات وترك ابنه كيف حاله في هذا المال الذي ورث عن أبيه وكان الجد نحله؟ قال: "لا بأس يأكله لأن هذا في الشرك" قال أبو حفص: "هذا يجيء على القولين جميعا أما على القول الذي يمضيه بالموت فهو مثله

وأما على القول بالرد بعد الموت فلأنه نحله في حال الشرك وهو مقبوض فيه فهو كما يثبت قبض المهر إذا كان خمرا أو خنزيرا وإن كان مرودا في الإسلام". آخر ما أنتقاه القاضي من الكتاب المذكور. ومما أنتقاه من كتاب أحكام الملل لأبي حفص أيضا: أبو طالب عنه قال وسأله إسماعيل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ قال: "لا يستعان بهم في شيء" وذكر أبو حفص الحديث إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فلن أستعين بمشترك " قال: "وروى أبو معاوية حدثنا أبو حيان التيمي عن الزنباع عن أبي الدهقان قال قيل لعمر إن ههنا رجلا من أهل الحيرة له علم بالديوان أفنتخذه كاتبا؟ فقال عمر: "لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين" وكيع حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري عن أبي موسى قال قلت لعمران: "لي كاتب نصراني؟ فقال: "ما لك قاتلك الله ما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} وذكر الحديث قال أبو حفص: "احتج أبو عبد الله في جبر الكافر على الإسلام بذكر الشهادتين وإن لم يقل أنا بريء من الكفر الذي كنت فيه بقوله لعمه: " أدعوك إلى كلمة أن أقاتل الناس حتى يقولوا إلا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم " فإن قال: لم أرد الإسلام فهل تضرب عنقه أم لا؟ اختلف قوله في ذلك فروى عنه حرب يضرب عنقه وروى عنه مهنا في يهودي أو نصراني أو مجوسي قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقال: لم أنو الإسلام يجبر على الإسلام فإن أبي يحبس" فقلت: يقتل؟ قال: "لا ولكن يحبس" ووجه الأولى أنه قد أتى بصريح الإسلام والاعتبار في الإسلام بالظاهر، ووجه الثانية أنه يحتمل ما قاله وإن لم يقصد الإيمان فجاز أن

يجعل ذلك شبهة في سقوط القتل والقتل سقط بالشبهة بدليل ما لو أعطي الأمان لواحد من أهل الحصن واشتبه علينا. ومما أنتقاه من خط أبي حفص البرمكي: بإسناده إلى أنس بن مالك قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته" وبإسناده إليه يرفعه: "إذا سمعت النداء فأجب وعليك السكينة فإن أصبت فرجة وإلا فلا تضيق على أخيك واقرأ ما تسمع أذنيك ولا تؤذ جارك وصل صلاة مودع " وبإسناده إلى ابن عمر يرفعه "ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتبع المساجد " وبإسناده عن أبي هريرة "يرفعه إذا دخل أحدكم المسجد فوجد الناس سجودا فليسجد ولا يقف كما يقف اليهود" وروى ابن بطة بإسناده إلى أبي أمامة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة وهو سابع سبعة فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفوا ثلاثة صفوف خلفه فصف ثلاثة واثنين وواحد صفا خلف صف فصلى على الميت ثم انصرف" وبإسناده عن سمرة بن جندب يرفعه "من كتم علي غال فهو غال مثله" وبإسناده عن عائشة رضي الله عنها " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشعر؟ فقال: "هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح " وبإسناده عن جابر بن سمرة يرفعه "لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق بصاع كل يوم على مسكين" وبإسناده عن عائشة ترفعه "أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد وليولم أحدكم ولو بشاة" وبإسناده عن إبراهيم الحربي قال: "الناس كلهم عندي عدول إلا من عدله القاضي" قلت: ويروى عن ابن المبارك أنه قال: "الناس كلهم عدول إلا العدول" سمعته من شيخنا وبإسناده عن يحيى القطان "لم يكن يشهد عند الحاكم إلا القسام والذراع فأما المستورون وأهل العلم فلم يكونوا يشهدون" وبإسناده قال رجل لابن المبارك: يا أبا عبد الرحمن من السفل؟ قال: "الذين يلبسون القلانس

ويأتون مجالس الحكام" وبإسناده عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يدعوا فيه المؤمن للعامة فيقول الله عز وجل: ادع لخاصة نفسك أستجب لك فأما العامة فإني عليهم ساخط"، وبإسناده عن عبد الله بن محمد بن الفضل الصيداوي قال: قال أحمد بن حنبل: "إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم" وبإسناده عن همام بن مسعود كان يقول: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقا" وليت القاضي ذكر أسانيد هذه الأحاديث وكتبها لأكشف حالها. ومن خط القاضي أيضا: حكى عن عثمان بن منصور وعمرو بن معدي كرب أنهما كانا يقولان: "الخمر مناحة مباحة ويحتجان بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قالا: "قد آمنا وعملنا الصالحات فلا جناح علينا فيما طعمنا" فلم تكفرهما الصحابة بهذا القول وسؤالهما الحكم في ذلك لأنه لم يكن قد ظهرت أحكام الشريعة في ذلك الوقت ظهورا عاما ولو قال بعض المسلمين في وقتنا هذا لكفرناه لأنه قد ظهر تحريم ذلك. وسبب نزول هذه الآية ما قاله الحسن: "لما نزل تحريم الخمر قالوا كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم وقد أخبر الله أنها رجس فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} وكذلك قد قيل في مانعي الزكاة أنهم على ضربين منهم من حكم بكفره وهم من آمن بمسيلمة وطليحة والعنسي ومنهم من لم يحكم بكفره وهم من لم يؤمنوا بهم لكن منعوا الزكاة وتأولوا أنها كانت واجبة عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عليهم وكانت صلاته سكنا لهم قالوا: وليس صلاة ابن أبي قحافة سكنا لنا فلم يحكم بكفرهم لأنه لم يكن قد أنتشرت أحكام الإسلام ولو منعها مانع في وقتنا حكم بكفره.

ومن خطه أيضا من تعاليقه: عذاب القبر حق، وقد وقيل ولا بد من انقطاعه لأنه من عذاب الدنيا والدنيا وما فيها فان منقطع فلا بد أن يلحقهم الفناء والبلاء ولا يعرف مقدار مدة ذلك يجوز أن يحشر الله العباد يوم القيامة عراة في وقت خروجهم من قبورهم يوم البعث ثم يكسو الله المؤمن حلل الجنان ويجعل على الكافر والعصاة سرابيل القطران والتعبد في الآخرة بترك التكشف زائل. المحشر هل هو في أرض الجنة أو في أرض من أراضي من أراضي الدنيا أو في موضع لا من الجنة ولا من النار؟ فقد قيل: أول حشر الناس عند قيامهم من قبورهم في هذه الأرض التي ماتوا ودفنوا فيها ثم يحولون إلى الأرض التي تسمى الساهرة فهذا معنى قوله: {فَإذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} والساهرة هي التي يحاسبون عليها فإذا فرغوا من الحساب وجازوا على الصراط وميز بين المجرمين والمؤمنين ضرب بينهم بسور فكان ما وراء السور مما يلي الجنة من أرض الجنة وصار ما دون السور مما يلي النار من أرض جهنم وموضع الحساب يصير من جهنم قوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} المراد الأمر في الدنيا لأن الآخرة ليس فيها أمر ولا نهي على الملائكة ولا غيرهم لأن التعبد زائل, وفي البخاري عن علي: "اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل". قلت: هذا وهم منه رحمة الله تعالى فإن الله تعالى يأمر الملائكة يوم القيامة بأخذ الكفار والمجرمين إلى النار وسوقهم إليها وتعذيبهم فيها ويأمر عباده بالسجود له فيخرون سجدا إلا من منعه الله من السجود ويأمر المؤمنين فيعبرون الصراط ويأمر خزنة الجنة بفتحها لهم ويأمر خزنة النار بفتحها لأهلها ويأمر ملائكة السماوات بالنزول إلى الأرض ويأمر بشأن البعث كله وما بعده فالأمر يومئذ لله ولا يعصى الله في ذلك اليوم طرفة عين وأوامره ذلك اليوم للثواب والعقاب

والشفاعة للملائكة والأنبياء وغيرهم تضبطها قدرة الخالق فكيف يقال: ليس في الآخرة أمر ولا نهي حتى يقال لا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون في الدنيا أفترى الله عز وجل لا يأمرهم يوم القيامة في أمر النار بشيء فلا يعصون فيه ويفعلون ما يؤمرون فيه، نعم ليست الآخرة دار حرث وإنما هي دار حصاد وأوامر الرب ونواهيه ثابتة في الدارين وكذلك أوامر التكليف ثابتة في البرزخ ويوم القيامة وحكاه أبو الحسن الأشعري في مقالاته عن أهل السنة في تكليف من لم تبلغه الدعوة في الدنيا أن يكلفوا يوم القيامة فقول القائل: الآخرة ليست دار تكليف ولا أمر ولا نهي قول باطل ودعوى فاسدة والله تعالى الموفق. تحقيق معنى الولاية: قال: ذكر بعضهم أنه يجوز أن يقول: أنا مؤمن ولا يقولك أنا ولي وفرق بينهما فإن الله تعالى أمر من ظهر منه الإيمان أن يسمى مؤمنا قال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} الآية ولم يأمر من ظهر منه ذلك أن يسمى وليا ولا فرق بينهما فإن الله قد وصف الولي بصفة المؤمن فقال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ} وهذه صفة المؤمن ثم لا يجوز أن يصف نفسه بأنه ولي وكذلك المؤمن ولأنه إنما يكون وليا بتوليه لطاعات الله وقيامه بها كالمؤمن. قلت: هذه حجة من منع قول القائل: أنا مؤمن بدون استثناء كما لا يقول: أنا ولي ومن فرق بينهما أجاب بأنه لا يمكنه العلم بأنه ولي لأن الولاية هي القرب من الله عز وجل فولى الله هو القريب منه المختص به والولاء هو في اللغة القرب ولهذا علامات وأدلة وله أسباب وشروط وموجبات وله موانع وآفات وقواطع فلا يعلم العبد هل هو ولي الله أم لا وأما الإيمان فهو أن يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ويلتزم أداء فرائضه وترك محارمه وهذا يمكن أن يعلمه من نفسه بل ويعلمه غيره منه. والذي يظهر لي من ذلك أن ولاية الله تعالى نوعان عامة وخاصة: فالعامة: ولاية كل مؤمن فمن كان مؤمنا لله تقيا كان له وليا وفيه من الولاية بقدر إيمانه وتقواه ولا يمتنع في هذه الولاية أن يقول:

أنا ولي إن شاء الله كما يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. والولاية الخاصة: إن علم من نفسه أنه قائم لله بجميع حقوقه مؤثر له على كل ما سواه في جميع حالاته قد صارت مراضي الله ومحابة هي همه ومتعلق خواطره يصبح ويمسي وهمه مرضاة ربه وإن سخط الخلق فهذا إذا قال: أنا ولي الله كان صادقا. وقد ذهب المحققون في مسألة (أنا مؤمن) إلى هذا التفصيل بعينه فقالوا: له أن يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ولا يقول: أنا مؤمن لأن قوله: أنا مؤمن يفيد الإيمان المطلق الكامل الآتي صاحبه بالواجبات التارك للمحرمات بخلاف قوله: آمنت بالله فتأمله. وإذا دخل خارجي أو قاطع طريق إلى بلد وقد غصب الأموال وسبى الذراري هل يجوز معاملته؟ نظرت فإن لم يكن معهم إلا ما أخذوه من الناس لم يجز معاملتهم وإن كان معهم حلال وحرام لم يجز أيضا إلا أن يبينوه كرجل كان عنده أربع إماء فأعتق واحدة منهن بعينها وعرض واحدة منهن وهو مدع لرقهن لم يجز الشراء منه حتى يبين التي أعتقها وكذلك إذا كان عنده ميتة ومذكاة لم يجز الشراء منه حتى يبين فأما الأموال التي في أيدي هؤلاء الغصبة من الخوارج واللصوص الذين لا يعرف لهم صناعة غير هذه الأموال المغصوبة عليهم فالعلم قد أحاط بأن جميع ما معهم حرام فلا يجوز البيع والشراء منهم ولكن يجوز للفقير أن يأخذ منهم ما يعطوه من جهة الفقر لأن إمام المسلمين لو ظفر بهذا الفاسق وبما معه من الأموال لوجب أن يصرف هذه الأموال في الفقراء وأما المستور فإنه يحكم له بما في يده لأنا لا نعلم أنه في دعواه مبطل. وكذلك لو أن رجلا من فساق المسلمين لا ينزع عن الزنا والقذف ونحوه وكان في يده مال حكم له به ويفارق هذا من يعرف بالغصب والظلم لأن الظاهر أن تلك الأموال حرام غصوب.

ومن خط القاضي من جزء فيه تفسير آيات من القرآن عن الإمام أحمد: رواية المروزي عنه رواية أبي بكر أحمد بن عبد الخالق عنه رواية أبي بكر أحمد ابن جغفر بن سالم الحنبلي رواية أبي الحسين أحمد بن عبد الله السوسنجردي قال المروزي سمعت أبا عبد الله يقول لرجل: "اقعد اقرأ فجئته أنا بالمصحف فقعد فقرأ عليه فكان يمر بالآية فيقف أبو عبد الله فيقول له: ما تفسيرها؟ فيقول: لا أدري فيفسرها لنا فربما خنقته العبرة فيردها. وكان إذا مر بالسجدة سجد الذي يقرأ وسجدنا معه فقرأ مرة فلم يسجد فقلت لأبي عبد الله لأي شيء لم تسجد؟ قال: "لو سجد سجدنا معه قد قال ابن مسعود للذي قرأ: أنت إمامنا إن سجدت سجدنا" وكان يعجبه أن يسلم فيها. وقال: ذهب إلى ابن سواء فكان يقرأ بنسخة لعبد الوهاب فكان يقرأ ويفسر قال ابن سواء: "كان يقرأ ويفسر" قال: "وكان قتادة يقرأ ويفسر" وقال لرجل: "لو قرأت فسمعنا ونحن يسير من العسكر فكان الرجل يقرأ وأبو عبد الله يسمع وربما زاد أبو عبد الله الحرف والآية فتفيض عيناه" وسمعته يفسر القرآن وقال: "قال مجاهد: "عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات وقال: أعيتني الفرائض فما أحسنها" وقرأ عليه {لا شِيَةَ فِيهَا} قال لا سواد فيها: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} قال: "لا كبيرة ولا صغيره" {غَيْرَ مَدِينِينَ} قال: "محاسبين" وقال: "يقرأ السجن والسجن أحب إلى" {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} قال: "حمر تحمل الطعام كفرت بأنعم الله فإذاقها الله" قال تعالى: {وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قال: "هذه نسختها التي في البقرة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أربعة أَشْهُرٍ وَعَشْراً} قال: "يفرض لكل حامل مطلقة كانت أو متوفى عنها زوجها لها النفقة حتى تضع" هكذا رأيت هذا التفسير ولا يخلوا من وهم إما من المروزي أو من

الناقل {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال: "عملك فأصلحه" {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قال: "الرجز عبادة الأوثان" {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قال: "تمنن بما أعطيت لتأخذ أكثر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} قال: "واد في جهنم" (الغاسق) القمر وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا الغاسق قد طلع" يعني القمر {النَّفَّاثَاتِ} السحر و {الْعُقَدِ} الذين يعقدون السحر {حَاسِدٍ إذا حَسَدَ} قال: "هو الحسد الذي يتحاسد الناس" قلت: إيش تفسير {إذا وَقَبَ} قال: "لا أدري" وقرىء عليه {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} قال:"لم تزل" {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} قال: "نقبوا الصخر وجاءوا عليهم جلود النمار قد جابوها قد نقبوها" {عَسْعَسَ} أظلم: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} قال: "هذه مدينه مروان قد مررت بها وهي قريبة من عبد الرزاق رأيتها سوداء حمراء أثر النار تبين فيها ليس فيها أثر زرع ولا خضرة إنما غدوا على أن يصرموها أو يجدوها وفيها حرث وكانوا قد أقسموا أن لا يدخلها مسكين {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قد أكلتها النار حتى تركتها سوداء {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} لا يظلمكم {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} قال: "مثل دردري الزيت" {ذَاتِ الرَّجْعِ} قال: "الرجع: المطر" والصدع: النبات {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً} يكفتون فيها الأحياء الشعر والدم وتدفنون فيها موتاكم قال المروزي وسمعته يقول: "يدفن فيها ثلاثة أشياء الأظافر والشعر والدم" ثم قال {وَأَمْوَاتاً} تدفن فيها الأموات {مَاءً فُرَاتاً} عذبا (الفراش المبثوث) قال: الفراش الذي يطير عند السراج فيحترق {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} قال: "مضاجعته" {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} قال: "كان ابن عباس يقول ترون السماوات ولا ترون العمد {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} قال: "الشجر ما كان إلى طول قائم والنجم النبات الذي على وجه الأرض" وقرىء عليه: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} قال: "مشددة مخالفة على الجهمية {أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} قال: "أخلصوا بذكر الآخرة" {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ} قال: "ضرب أعناقها" {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} قال: "الثناء يتولى إبراهيم الملل كلها يتسولونه {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} قال: "جاءت ريح فقطعت

أطناب الفساطيط فرجعوا" {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} قال: "الجنة" {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخرةِ} قال:" باعوها" قلت يريد أبو عبد الله باعوا الآخرة لا أنه فسر الاشتراء بالبيع فإنهم لم يبيعوا الحياة الدنيا وإنما باعوا الآخرة واشتروا الدنيا {فِيهَا صِرٌّ} برد {فَضَحِكَتْ} حاضت {بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قال: "بعشرين درهما" {قَاصِرَاتُ الطَّرْف} قال: "قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم" {حُورٌ عِينٌ} قال: "كثير بياض أعينهن شديد سواد الحدق {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} قال: "العجم" {يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} قال: "الكفر" {شُرْبَ الْهِيمِ} الإبل {بِالأحْقَافِ} الرمل {سَيْلَ الْعَرِمِ} قال: "السيل هو السيل والعرم هو مسناة البحر" قال المروزي حدثنا محمد بن جعفر ثنا شريك عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة في قوله: {سَيْلَ الْعَرِمِ} قال: "المسناة بلحن اليمن" قال أي شيء تفسير {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} قلت: لكفور؟ قال: نعم" {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قال "الجبلين" {عَيْنَ الْقِطْرِ} النحاس المذاب {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} لا تأخذه نعسة {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} قال: "مكث على عصاة سنة فلما نخرت العصى وقع" {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قال: "الأراك" {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ما لم يكن فيه سرف أو تقتير {وَإني لَهُمُ التَّنَاوُشُ} قال: "التناول من مكان بعيد" {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} قال: "القرآن" {ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} قال: "سجل من العذاب" {ذَاتُ الأكْمَامِ} قال: "الطلع" قرىء عليه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} قال: "الذي قال سفيان إذا اختلفتم في شيء فانظروا ما عليه أهل التقوى" يتأول الآية {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} أخر دعاءه إلى السحر {الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} لم تحلب ولم تصر {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} قال: "ما كسب ولده" {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: "نعيم الدنيا" {نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرض الْجُرُز} هي أرض لا يأتيها المطر إنما يساق إليها الماء وقد مررت بها بليل قلت وكان شيخنا أبو العباس أحمد بن تيمية يقول: "هي أرض مصر وهي أرض إيليز لا ينفعها المطر فلو أمطرت مطر العادة لم ينفعها ولم يروها ولو داوم عليها المطر لهدم البيوت وقطع المعايش فأمطر الله بلاد الحبشه والنوبة ثم ساق الماء إليها" وعندي أن الآية عامة في الماء الذي يسوقه الله على متون الرياح في السحاب

وفي الماء الذي يسوقه وجه الأرض فمن قال هي مصر إنما أراد التمثيل لا التخصيص {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} قال أهل المدينة {قِنْوَانٌ} نضيج. قلت أهل المدينة أول من وكل بها ولمن بعدهم من الوكالة بحسب قيامة بها علما وعملا ودعوة إلى الله تعالى قال بعث شعيب إلى مدينتين قال عذبوا يوم الظلة قال فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين قال: "يقرأ صواع الملك وصواع وصواعب أصوب" قال وكان من ذهب {هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قال: "أشركه معي يا رب قال افعل بنا قال هذا دعاء قال ومن قرأ أشدد به أزري قال موسى: أنا أشركه في أمري قال: "كلا الوجهين حسن" {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قال: "السر ما كان في القلب يسره وأخفى الذي لم يكن بعد يعلمه هو" {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ} قال: "هو الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فليحظها بصره وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم نظرة الفجأة فقال: "اصرف بصرك عنها" {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} قال: "كان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ حيث ما وجد لا يأت بخير قال: أحسن هذا الحرف وقرأه هو {أكثر نَفِيراً} قال: "رجالا" {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} قال: "إنما هو قيما ولم يجعل له عوجا. وقال: "ليس أحد من الأنبياء تمنى الموت غير يوسف {تَوَفَّنِي مُسْلِما} الآية {أَزْكَى طَعَاماً} أحل {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} قال: "عيسى والعزيز". قلت هذا تفسير يحتاج إلى تفسير فإن كان أحمد قال هذا فلعله أراد الشياطين الذين عبدهم اليهود والنصارى وزعموا أنهما عيسى والعزيز وقال: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} قلت هو هارون أخو موسى قال: "نعم كان المشركون قد اختصموا على عهد رسول الله بين موسى وعيسى كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان هذا بدعا بين الأنبياء" قال أبو عبد الله "استعمل عمر رضي الله عنه رجلا فأبى أن يدخل له في عمل فقال يعني عمر: يوسف قد سأل العمل فاستعمل على خزائن الأرض". وقال: "في المائدة ثمانية عشرة فريضة حلال وحرام يعمل بها وليس فيها شيء لا يعمل به إلا آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} قال: "هذه منسوخة" وقال: "آخر شيء نزل

من القرآن المائدة وأول شيء نزل من القرآن اقرأ {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ} قال: "كان ابن عباس يأخذ بذنب الجنين ويقول هذا من بهيمة الأنعام" وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" قال: "وأما أبو حنيفة فقال: "لا يؤكل تذبح نفس وتوكل نفس" {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} عليه قال على أبي بكر وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزلت عليه السكينة. قلت: وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية قدس الله روحه يذهب إلى خلاف هذا ويقول: "الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى صاحبه تبعا له فهو الذي أنزلت عليه السكينة وهو الذي أيده الله بالجنود وسرى ذلك إلى صاحبه" انتهى وقال: "ما نزل بمكة والمدينة من القرآن أربع سور أنزلت بالمدينة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال: "بالمدينة " {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قال: "بمكة". قلت: لم يرد أحمد التخصيص ولا خلاق بين الأمة في أن الأنفال وبراءة والنور والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقين نزلن بالمدينة في سور أخرى وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالمدينة صحيح و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} بمكة فمنه ما هو بالمدينة ومنه ما هو بمكة فالبقرة مدينة وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} قال: "كان ابن عباس يقول: لو ترك الناس الحج سنة واحدة ماتوا طرا" {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قال: "على الأصنام" قال: "وكل شيء يذبح على الأصنام لا يؤكل" {تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ} قال: "كعاب فارس يقال لها النرد وأشباه ذلك" {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: "لو أن رجلا بعدن همّ بقتل رجل وهو في الحرام هذا قول الله {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} هكذا قال ابن مسعود قال وقد خرج جابر من المدينة إلى مكة مجاورا أربعة أشهر وعشرا قال: "والعشر ليال أو أيام" ثم قال: "لو كانت ليالي كان يكون نقصان يوم لكنها وليال عشرة" قال: "وأهل مصر يقولون الشام باديتهم" قال يوسف {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} لا تعبير {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي} قال: "شم ريحه من مسيرة سبعة أيام" {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} لا جزع فيه قلت: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحة مرارا يقول: "ذكر الله الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل فالصبر الجميل الذي

لا شكوى معه والهجر الجميل الذي لا أذى معه والصفح الجميل الذي لا عتاب معه" انتهى {شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} قال قد قال قوم: "حكيم من أهلها" وقال قوم: "القميص الشاهد" وقال قوم: "الصبر" {خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} قال: "منتصبا وقال: القول الآخر أظهر وهو في مشقة وعناء يكابد أمر الدنيا والآخرة" قال الحسن: ما أجد من خلق الله تعالى يكابد ما يكابده ابن آدم" {مَاؤُكُمْ غَوْراً} قال: "لا يناله الرشاء" {بِمَاءٍ مَعِينٍ} قال: "على وجه الأرض" قلت: يحتمل تفسير أحمد أمرين: أحدهما أن يكون معينا فعيلا من أمعن في الأرض إذا ذهب فيها ويحتمل أن يكون مفعولا من العين أي مرئيا بالعين وأصله معيون ثم أعل إعلال مبيع وبابه أو قال قرأ زيد بن ثابت {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} وهو أشبه إذا شاء أنشره {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} قال: "يعزروه النبي صلى الله عليه وسلم ويسبحوه الله تعالى {عَلَى تَخَوُّفٍ} نقصان فيه {يَعْصِرُونَ} قال: "يحلبون" {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} جهنم قلت: لم يرد أحمد المراد بالآية جهنم وإنما أراد أنه يكون جهنم أو موضعها والله أعلم {الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} فاضت {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} قال: "كانوا يؤخرونها حتى يخرج الوقت" {أو دَماً مَسْفُوحاً} هو العبيط ولا يكاد أن يكون في اللحم الصفو فيغسل {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} البحر وحوت في حوت {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} قلت: هذا تفسير فنادى في الظلمات وذكر في ظلمات ثلاث وهم فإن تلك الظلمات هي التي يخلق فيها الجنين لا مدخل لظلمه البحر ولا لظلمه الحوت فيها بل لظلمه الرحم وظلمة المشيمة وظلمة البطن والله أعلم. {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} قال الزنا {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} قال: اشترى ابن المنكدر بجميع ما كان معه بدنة وتأويل هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} قال: "هذه نزلت بمكة والباقي بالمدينة" {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} قال: "نفخ فيه الروح" {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال: "هو أن ينظر قيل أن يرجع طرفه

إليه قال وإنما كان قد علم الاسم الذي يستجاب فدعا به {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} قال: "يسوق إلى أمر الله والشهيد يشهد عليه بما عمل" {الْمَاعُونَ} الفأس والقدر وأشباه ذلك {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} قال: "قدمه على نوح قال هذه حجة على القدرية" قلت: ولعل أحمد أراد القدرية المنكرة للعلم بالأشياء قبل كونها وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف وإلا فلا تعرض فيها خلق الأعمال {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إلى قوله: {وَمَتِّعُوهُنّ} قال: "هذه لها نصف الصداق وإن متعت فحسن وإن لم تمتع فحسن" قال ابن عباس: "تمتع بخادم" ابن عمر: "تمتع بدرع وإزار ونحو هذا" {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنّ} الآية قال: "هذه ليس عليها عدة" وقال سعيد بن جبير: "لكل مطلقة متاع" ابن المسيب: "ليس لها متاع" قال أبو عبد الله: "من متع فحسن ومن لم يمتع فحسن" {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الزوج وقد قال قوم هو الولي فإذا عفا الرجل أعطاها المهر كاملا {أَنْ يَعْفُونَ} قال: "تكون المرأة تترك للزوج ما عليه فتكون قد عفت". قلت: ونص أحمد في رواية أخرى أنه الأب وهو مذهب مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وقد ذكرت على رجحانه بضعة عشر دليلا في موضع آخر {الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قال: "جمعت" وقال قوم: "ماتت" قال من قرأ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} قال: موسى وهارون ومن قرأ ساحران قالك هذان كتابان واحدا بعد واحد. قلت: هكذا رأيته وهو وهم وإنما هذا تفسير الآية التي في القصص {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أراد موسى ومحمدا {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} وقرأ الكوفيون: سحران تظاهرا أرادوا التوراة والقرآن وأما آية طه فليس فيها إلا قراءة واحدة ومعنى واحد لساحران يريدون موسى وهارون فاشتبهت الآيتان على الناقل أو السامع {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} تأكل لحم الساقين قلت: في الآية تفسيران مشهوران أحدهما أن الشوى الأطراف التي ليست مقاتل كاليدين والرجلين تنزعها عن أماكنها ومنه قولهم "رمى الصيد فأشواه" إذا أصاب

أطرافه دون مقاتلة فإن أصاب مقتله فمات موضعه قيل رماه فأصماه فإن حمل السهم وفر به ثم مات في موضع آخر قيل رماه فأنحاه قال الشاعر: فهو لا ينحى رمية ... ما له عد من نفره التفسير الثاني: أن الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس وفروته وتفسير أحمد لا يناقض هذا فلعله إنما ذكر لحم الساقين تمثيلا والله أعلم. {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} لم ينصرف يمينا ولا شمالا {وَمَا طَغَى} لم ينظر إلى فوق وقال: "من قرأ (سال سائل) قال: سال واد ومن قرأ (سأل سائل) قال: دعا" قلت: هذا أحد القولين والثاني أن ذا الألف من السؤال أيضا لكنه قلبت الهمزة فيه ألفا {نَاشِئَةَ اللَّيْل} قال قيام الليل من المغرب إلى طلوع الفجر والناشئة لا تكون إلا من بعد رقدة ومن لم يرقد لا يقال لها ناشئة {هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً} قال هي أشد تبيينا تفهم ما يقرأ وتعي أذنك {وَخَرَّ رَاكِعاً} قال: "كان ابن مسعود لا يسجد فيها يقول هي توبة نبي" {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} قال: "قوينا قال هي أنطاكية وجاء الثالث وقد اجتمع الناس على الاثنين فقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} قال أبو عبد الله: "قال ابن ادريس وددت أني قرأت أهل المدينة المنورة" قال: وقال ابن عيينة قال لي ابن جريح اقرأ علي حتى أفسر لك قال وكان ابن جريح قد كتب التفسير عن ابن عباس وعن مجاهد وقال: "رحم الله سفيان ما كان أفقهه في القرآن وكان له علم" وقال في النجم في آخرها يسجد ثم يقوم فيقرأ هذا في الإمام وقال: "النفاق لم يكن في المهاجرين". وقال: "في القرآن اثنان وثمانون موضعا الصبر محمود وموضعان مذموم" قال: "المذموم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} أو قال: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} المروزي شك {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قال: "بلي بالذبح ذبح ابنه فوفى وبلى بحرق النار فوفى وذكر الثالثة فوفى فلم أحفظه" قلت لأبي عبد الله إيش تفسير {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال: "لا ترضوا أعمالهم" قال: {وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} في الصلاة والخطبة {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: "هو في

التفسير بكتابها قلت لأبي عبد الله في القرآن المحراب: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} هو محراب مثل محاريبنا هذه؟ قال: "لا أدري أي محراب هو" وفي بعض التفسير ذكر محراب داود وسئل عن قوله تعالى: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قال: "أوعية". قلت: هذا أحد القولين والقول الثاني وهو أرجح غلف أي في غشاوة لا نفقه عنك ما تقول نظيره قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يضعف قول من قال أوعية جدا وقال إنما هي جمع أغلف ويقال للقلب الذي في الغشا أغلف وجمعه غلف كما يقال للرجل غير المختون أقلف وجمعه قلف. وسئل عن صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة؟ قال: "كملت للهدي ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فأما أهل مكة فليس عليهم هدى ولا لمن كان بأطراف ما تقصر فيه الصلاة". آخر ما وجد من خط القاضي رحمة الله تعالى. فوائد شتى من كلام ابن عقيل وفتاويه: سئل عمن قال إن برىء مريضي أو قدم غائبي صمت هل يكفي كونه نذرا أو يفتقر إلى أن يقول: لله علي؟ فأجاب: يكفى نذرا لأنه ذكره على وجه المجازاة لأن الله هو يبرىء المرضى فاستغنى بدلالة الحال. وسئل عن رجل طعن بعض الناس فظنه لصا في لصوص هربوا؟ فأجاب: عليه القود لأنه لو كان لصا فهرب لم يجز طعنه ووجب القود فكيف إذا لم يكن. وسئل لو قال منجم إن الشمس تكسف تحت الأرض في وقت كذا هل تصلي صلاة الكسوف؟ فأجاب: لا لأن خبرهم لا يؤخذ به كما لو قالوا الهلال تحت الغيم فإن قيل فإذا قالوا قد زالت الشمس قلنا ذاك موقوف على تقدير ولهذا نقدره بالصنائع انتهى كلامه. ولا حاجة إلى هذا فإن الشمس لو كسفت ظاهرا ثم غابت كاسفة لم يصل للكسوف بعد غيبتها فكيف يصلي لها إذا لم يعاين كسوفها البتة. وذكر له حاكم طعن عليه بأنه يحكم بالفراسة وأنه ضرب بالجريد في إقرار بمال وأخذه منه فقال ابن عقيل: "ليس ذلك فراسة بل حكم

بالأمارات وإذا تأملتم الشرع وجدتموه يجوز التعويل على ذلك وقد ذهب مالك بن أنس رضي الله عنه إلى التوصل إلى الإقرار بما يراه الحاكم وذلك يستند إلى قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} ومتى حكمنا بعقد الأزح وكثرة الخشب ومعاقد القمط في الحصن وما يصلح للمرأة والرجل يعنى في الدعاوي والدباغ والعطار إذا تحاكما في جلد والقيافة والنظر في الخنثى والنظر في أمارات القبلة وهل اللوث في القسامة إلا نحو هذا. أنتهي. قلت الحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال كفقهه في كليات الأحكام ضيع الحقوق فهاهنا فقهان لا بد للحاكم منهما فقه في أحكام الحوادث الكلية وفقه في الوقائع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل ثم يطبق بين هذا وهذا بين الواقع والواجب فيعطي الواقع حكمه من الواجب السياسة العادلة جزء من الشريعة ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها وأن الخلق لا صلاح لهم بدونها البتة علم أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة. فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر وهي من الشريعة علمها من علمها وخفيت على من خفيت عنه ولا تنس في هذا الموضع قول سليمان نبي الله للمرأتين اللتين ادعتا الولد فحكم به داود للكبرى فقال سليمان: ايتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى: لا تفعل هو ابنها فقضي به للصغرى لما دل عليه امتناعها من رحمة الأم ودل رضى الكبرى بذلك على الاسترواح إلى التأسي بمساواتها في فقد الولد. وكذلك قول الشاهد من أهل امرأة العزيز {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} فذكر الله تعالى ذلك مقررا له غير منكر على قائله بل رتب عليه العلم ببراءة يوسف عليه السلام وكذب المرأة عليه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير أن يقرر ابني أبي الحقيق بالتعذيب على إخراج الكنز فعذبهما حتى أقرا به. ومن ذلك قول علي للظعينة التي حملت كتاب حاطب وأنكرته فقال لها: "لتخرجن الكتاب أو

لنجردنك" وهل تقتضي محاسن الشريعة الكاملة إلا هذا وهل يشك أحد في أن كثيرا من القرائن تفيد علما أقوى من الظن المستفاد من الشاهدين بمراتب عديدة فالعلم المستفاد من مشاهدة الرجل مكشوف الرأس وآخر هارب قدامه وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة فالعلم بأن هذه عمامة المكشوف رأسه كالضروري فكيف تقدم عليه اليد التي إنما تفيد ظنا ما عند عدم المعارضة وأما مع هذه المعارضة فلا تفيد شيئا سوى العلم بأنها يد عادية فلا يجوز الحكم بها البتة ولم تأت الشريعة بالحكم لهذه اليد وأمثالها البتة. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وقد نص أحمد على اعتبار الوصف عند تنازع المالك والمستأجر في الدفين في الدار وهذه من محاسن مذهبه ونص على البلد يفتح فيوجد فيه أبواب مكتوب عليها بالكتابة القديمة أنها وقف أنه يحكم بذلك لقوة هذه القرينة وهل الحكم بالقافة إلا حكم بقرينة الشبه وكذلك اللوث في القسامة حتى أن مالكا وأحمد في إحدى الروايتين يقيدان بها وهو الصواب الذي لا ريب فيه وكذلك الحكم بالنكول إنما هو مستند إلى قوة القرينة الدالة على أن الناكل غير محق وبالجملة فالبينة اسم لكل ما يبن الحق ومن خصها بالشاهدين دعواه والشاهدان من البينة ولا ريب أن غيرهما من أنواع البينة قد تكون أقوى منهما وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان مفردة ومجموعة وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" المراد به بيان ما يصحح دعواه الشاهدان من البينة ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد تكون أقوى منهما كدلالة الحال على صدق المدعى فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد. والبينة والحجة والدلالة والبرهان والآية والتبصرة كالمترادفة لتقارب معانيها والمقصود أن الشرع لم يلغ القرائن ولا دلالات الحال بل من استقرأ مصادر الشرع وموارده وجده شاهدا لها بالاعتبار مرتبا عليها الأحكام. وقول ابن عقيل: "ليس هذا فراسة" يقال ولا ضير في تسميتة فراسة فإنها فراسة صادقة وقد مدح الله سبحانه وتعالى الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ

لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وهم المتفرسون الذين يأخذون بالسيما وهي العلامة ويقال: توسمت فيك كذا أي تفرسته كأنك أخذت من السيما وهي فعلا من السمة وهي العلامة وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} وقال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} وفي الترمذي مرفوعا: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} والله أعلم. ذكر مناظرة بين فقيهين في طهارة المني ونجاسته: قال مدعي الطهارة: المني مبدأ خلق بشر فكان طاهرا كالتراب. قال الآخر: ما أبعد ما اعتبرت فالتراب وضع طهورا ومساعدا للطهور في الولوغ ويرفع حكم الحدث على رأي والحدث نفسه على رأي فأين ما يتطهر به إلى ما يتطهر منه على أن الاستحالات تعمل عملها فأين الثواني من المبادىء وهل الخمر إلا ابنة العنب والمني إلا المتولد من الأغذية في المعدة ذات الإحالة لها إلى النجاسة ثم إلى الدم ثم إلى المني. قال المطهر: ما ذكرته في التراب صحيح وكون المني يتطهر منه لا يدل على نجاسته فالجماع الخالي من الإنزال يتطهر منه ولو كان التطهر منه لنجاسته لاختصت الطهارة بأعضاء الوضوء كالبول والدم وأما كون التراب طهورا دون المني فلعدم تصور التطهير بالمني وكذلك مساعدته في الولوغ فما أبعد ما اعتبرت من الفرق وأما دعواك أن الاستحالة تعمل عملها فنعم وهي تقلب الطيب إلى الخبيث كالأغذية إلى البول والعذرة والدم والخبيث إلى الطيب كدم الطمث ينقلب لبنا وكذلك خروج البن من بين الفرث والدم فالاستحالة من أكبر حجتنا عليك لأن المني دم قصرته الشهوة وأحالته النجسة وانقلابه عنها إلى عين أخرى فلو أعطيت الاستحالة حقها لحكمت بطهارته. قال مدعي النجاسة: المذي مبدأ المني وقد دل الشرع على نجاسته حيث أمر بغسل الذكر وما أصابه منه وإذا كان مبدؤه نجسا فكيف بنهايته ومعلوم أن المبدأ موجود في الحقيقة بالفعل.

قال المطهر: هذا دعوى لا دليل عليها ومن أين لك أن المذي مبدأ المني وهما حقيقتان مختلفتان في الماهية والصفات والعوارض والرائحة والطبيعة فدعواك أن المذي مبدأ المني وأنه مني لم تستحكم طبخه دعوى مجردة عن دليل نقلي وعقلي وحسي فلا تكون مقبولة ثم لو سلمت لك لم يفدك شيئا البتة فإن للمبادىء أحكاما تخالفها أحكام الثواني فهذا الدم مبدأ اللبن وحكمهما مختلف بل هذا المني نفسه مبدأ الآدمي طاهر العين ومبدأه عندك نجس العين فهذا من أظهر ما يفسد دليلك ويوضح تناقضك وهذا مما لا حيلة في دفعة فإن المني لو كان نجس العين لم يكن الآدمي طاهرا لأن النجاسة عندك لا تطهر بالاستحالة فلا بد من نقض أحد أصليك فإما أن تقول بطهارة المني أو تقول النجاسة تطهر بالاستحالة وإما أن تقول المني نجس والنجاسة لا تطهر بالاستحالة ثم تقول بعد ذلك بطهارة الآدمي فتناقض مالنا إلا النكير له. قال المنجس: لا ريب إن المني فضله مستحيلة عن الغذاء يخرج من مخرج البول فكانت نجسه كهو ولا يرد على البصاق والمخاط والدمع والعرق لأنها لا تخرج من مخرج البول. قال المطهر: حكمك بالنجاسة إما أن يكون للاستحالة عن الغذاء أو للخروج من مخرج البول أو لمجموع الأمرين فالأول باطل إذ مجرد استحالة الفضلة عن الغذاء لا يوجب الحكم بنجاستها كالدمع والمخاط والبصاق وإن كان لخروجه من مخرج البول فهذا إنما يفيدك أنه متنجس لنجاسة مجراه لا أنه نجس العين كما هو أحد الأقوال فيه وهو فاسد فإن المجرى والمقر الباطن لا يحكم عليه بالنجاسة وإنما يحكم بالنجاسة بعد الخروج والانفصال ويحكم بنجاسة المنفصل لخبثه وعينه لا لمجراه مقره وقد علم بهذا بطلان الاستناد إلى مجموع الأمرين والذي يوضح هذا أنا رأينا الفضلات المستحلة عن الغذاء تنقسم إلى طاهر كالبصاق والعرق والمخاط ونجس كالبول والغائط فدل على أن جهة الاستحالة غير مقتضية للنجاسة ورأينا أن النجاسة دارت مع الخبث

وجودا وعدما فالبول والغائط ذاتان خبيثتان منتنتان مؤذيتان متميزتان عن سائر فضلات الآدمى بزيادة الخبث والنتن والاستقذار تنفر منهما النفوس وتنأى عنهما وتباعدهما عنها أقصى ما يمكن ولا كذلك هذه الفضلة الشريفة التي هي مبدأ خيار عباد الله وساداتهم وهي من أشرف جواهر الإنسان وأفضل الأجزاء المنفصلة عنه ومعها من روح الحياة ما تميزت به عن سائر الفضلات فقياسها على العذرة أفسد قياس في العالم وأبعده عن الصواب والله تعالى أحكم من أن يجعل محال وحيه ورسالاته وقربه مبادئهم نجسه فهو أكرم من ذلك وأيضا فإن الله تعالى أخبر عنه هذا الماء وكرر الخبر عنه في القرآن ووصفه مرة بعد مرة وأخبر أنه دافق يخرج من بين الصلب والترائب وأنه استودعه في قرار مكين ولم يكن الله تعالى ليكرر ذكر شيء كالعذرة والبول ويعيده ويبديه ويخبر بحفظه في قرار مكين ويصفه بأحسن صفاته من الدفق وغيره ولم يصفه بالمهانة إلا لإظهار قدرته البالغة أنه خلق من هذا الماء الضعيف هذا البشر القوي السوي فالمهين ههنا الضعيف ليس هو النجس الخبيث وأيضا فلو كان المني نجسا وكل نجس خبيث لما جعله الله تعالى مبدأ خلق الطيبين من عبادة والطيبات ولهذا لا يتكون من البول والغائط طيب فلقد أبعد النجعة من جعل أصول بني آدم كالبول والغائط في الخبث والنجاسة والناس إذا سبوا الرجل قالوا أصله خبيث وهو خبيث الأصل فلو كانت أصول الناس نجسة وكل نجس خبيث لكان هذا السبب بمنزلة أن يقال أصله نطفة أو أصله ماء ونحو ذلك وإن كانوا إنما يريدون بخبث الأصل كون النطفة وضعت في غير حالها فذاك خبث على خبث ولم يجعل الله في أصول خواص عبادة شيئا من الخبث بوجه ما. قال المنجسون قد أكثرتم علينا من التشنيع بنجاسة أصل الآدمي وأطلتم القول وأغرضتم وتلك الشناعة مشتركة الإلزام بيننا وبينكم فإنه كما أن الله يجعل خواص عباده ظروفا وأوعية للنجاسة كالبول والغائظ والدم والمذي ولا يكون ذلك عائدا عليهم بالعيب والذم فكذلك خلقه لهم من المني النجس وما الفرق. قال

المطهرون: لقد تعلقتم بما لا متعلق لكم به واستروحتم إلى خيال باطل فليسوا ظروفا للنجاسة البتة وإنما تصير الفضلة بولا وغائطا إذا فارقت محلها فحينئذ يحكم عليها بالنجاسة وإلا فما دامت في محلها فهي طعام وشراب طيب غير خبيث وإنما يصير خبيثا بعد قذفة وإخراجه وكذلك الدم إنما هو نجس إذا سفح وخرج فأما إذا كان في بدن الحيوان وعروقه فليس بنجس فالمؤمن لا ينجس ولا يكون ظرفا للخبائث والنجاسات. قالوا والذي يقطع دابر القول بالنجاسة أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الأمة شديدة البلوى في أبدانهم وثيابهم وفرشهم ولحفهم ولم يأمرهم فيه يوما ما بغسل ما أصابه لا من بدن ولا من ثوب البتة ويستحيل أن يكون كالبول ولم يتقدم إليهم بحرف واحد في الأمر بغسله وتأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ممتنع عليه. قالوا: ونساء النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بحكم هذه المسألة وقد ثبت عن عائشة أنها أنكرت على رجل أعارته ملحفة صفراء ونام فيها فاحتلم فغسلها فأنكرت عليه غسلها وقالت: "إنما كان يكفيه أن يفركه بإصبعه ربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعي" ذكره ابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام قال نزل بعائشة ضيف فذكره وقال أيضا حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: "لقد رأيتني أجده في ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحته عنه" تعنى المني وهذا قول عائشة وسعد ابن أبي وقاص وعبد الله بن عباس قال ابن أبي شيبة ثنا هشيم عن حصين عن مصعب بن سعد عن سعد "أنه كان يفرك الجناية من ثوبه" ثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن مصعب ابن سعد عن سعد "أنه كان يفرك الجنابة من ثوبه" حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في المني قال: "امسحه بإذخرة" ثنا هشيم انبأنا حجاج وابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس في الجنابة تصيب الثوب قال: "إنما هو كالنخامة أو النخاعة أمطه عنك بخرقة أو بأذخرة". قالوا: وقد روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه

بعرق الإذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلى فيه" وهذا صريح في طهارته لا يحتمل تأويلا البتة. قالوا: وقد روى الدارقطني من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق ثنا شريك عن محمد ابن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب؟ فقال: "إنما هو بمنزلة البصاق والمخاط وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة" قالوا: هذا إسناد صحيح فإن إسحاق الأزرق حديثه مخرج في الصحيحين وكذلك شريك وإن كان قد علل بتفرد إسحاق الأزرق به فإسحاق ثقة يحتج به في الصحيحين وعندكم تفرد الثقة بالزيادة مقبول. قال المنجس: صح عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أمر بغسله قال أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: "إذا أجنب الرجل في ثوبه ورأى فيه أثرا فليغسله وإن لم ير فيه أثرا فلينضحه" ثنا عبد الاعلى عن معمر عن الزهري عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول في الجنابة في الثوب: "إن رأيت أثره فاغسله وإن علمت أنه قد أصابه وخفي عليك فاغسل الثوب مكانه وعلم أنه قد أصابه غسل الثوب" كله ثنا وكيع عن هشام عن أبيه عن زيد بن الصلت "أن عمر بن الخطاب غسل ما رأى ونضح ما لم ير وأعاد بعدما أضحى متمكنا" ثنا وكيع عن السري بن يحيى عن عبد الكريم بن رشيد عن أنس في رجل أجنب في ثوبه فلم ير أثره قال: "يغسله كله" ثنا جابر ثنا حفص عن أشعت عن الحكم أن ابن مسعود "كان يغسل أثر الاحتلام من ثوبه" ثنا حسين بن علي عن جعفر بن برقان عن خالد بن أبي عزة قال: سأل رجل عمر ابن الخطاب فقال: إني احتلمت على طنفسة؟ فقال: "إن كان رطبا فاغسله وإن كان يابسا فاحككه وإن خفي عليك فارششه". قالوا: وقد ثبت

تسمية المني أذى كما سمي دم الحيض أذى والأذى هو النجس فقال الطحاوي ثنا ربيع الحيرى ثنا إسحاق ابن بكر بن مضر قال حدثني أبي عن جعفر بن ربيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن حديج عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يضاجعك فيه؟ قالت: نعم إذا لم يصبه أذى" وفي هذا دليل من وجه آخر وهو ترك الصلاة فيه وقد روى محمد بن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: "كان رسول الله يصلي في لحف نسائه". قالوا وأما ما ذكرتم من الآثار على مسحه بأذخرة وفركه فإنما هي في ثياب النوم لا في ثياب الصلاة، قالوا وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا بأس بالنوم فيها ولا تجوز الصلاة فيها فقد يجوز أن يكون المني كذلك. قالوا: وإنما تكون تلك الآثار حجة علينا لو كنا نقول لا يصح النوم في الثوب النجس فإذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم ما رويتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ونقول من بعد لا تصلح الصلاة في ذلك فلم يخالف شيئا مما روى في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: وإذا كانت الآثار قد اختلفت في هذا الباب ولم يكن فيها دليل على حكم المني كيف هو اعتبرنا ذلك من طريق النظر فوجدنا خروج المني حدثا أغلظ الأحداث لأنه يوجب أكبر الطهارات فأردنا أن ننظر في الأشياء التي خروجها حدث كيف حكمها في نفسها فرأينا الغائط والبول خروجهما حدث وهما نجسان في أنفسهما وكذلك دم الحيض والاستحاضة هما حدث وهما نجسان في أنفسهما ودم العروق كذلك في النظر فلما ثبت بما ذكرنا أن كل ما خروجه حدث فهو نجس في نفسه وقد ثبت أن خروج المني حدث ثبت أيضا أنه في نفسه نجس فهذا هو النظر فيه. قال المطهر: ليس في شيء مما ذكرت دليل على نجاسته أما كون عائشة كانت تغسله من ثوب رسول الله فلا ريب أن الثوب يغسل من القذر والوسخ والنجاسة فلا يدل مجرد غسل الثوب منه على نجاسته فقد كانت تغسله تارة وتمسحه أخرى وتفركه أحيانا

ففركه ومسحه دليل على طهارته وغسله لا يدل على النجاسة فلو أعطيتم الأدلة حقها لعلمتم توافقها وتصادقها لا تناقضها واختلافها، وأما أمر ابن عباس بغسله فقد ثبت عنه أنه قال: "إنما هو بمنزله المخاط والبصاق فأمطه عنك ولو بإذخرة" وأمره بغسله للاستقذار والنظافة ولو قدر أنه للنجاسة عنده وأن الرواية اختلفت عنه فتكون مسألة خلاف عنه بين الصحابة والحجة تفضل بين المتنازعين على أنا لا نعلم عن صحابي ولا أحد أنه قال إنه نجس ألبته بل غاية ما يروونه عن الصحابة غسله فعلا وأمرا وهذا لا يستلزم النجاسة ولو أخذتم بمجموع الآثار عنهم لدلت على جواز الأمرين غسله للاستقذار والاجتزاء بمسحه رطبا وفركه يابسا كالمخاط وأما قولكم ثبت تسمية المني أذى فلم يثبت ذلك وقول أم حبيبة: "ما لم ير فيه أذى" لا يدل على أن مرادها بالأذى المني لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام فإنها إنما أخبرت بأنه يصلي في الثوب الذي يضاجعها فيه ما لم يصبه أذى ولم تزد. فلو قال قائل: المراد بالأذى دم الطمث لكان أسعد تفسيره منكم وكذلك تركه الصلاة في لحف نسائه لا يدل على نجاسة المني البتة فإن لحاف المرأة قد يصيبه من دم حيضها وهي لا تشعر وقد يكون الترك تنزها عنه وطلب الصلاة على ما هو أطيب منه وأنظف فأين دليل التنجيس. وأما حملكم الآثار الدالة على الاجتزاء بمسحه وفركه على ثياب النوم دون ثياب الطهارة فنصره المذاهب توجب مثل هذا فلو أعطيتهم الأحاديث حقها وتأملتم سياقها وأسبابها لجزمتم بأنها إنما سيقت لاحتجاج الصحابة بها على الطهارة وإنكارهم على من نجس المني قالت عائشة رضي الله عنها: "كنت أفركه من ثوب رسول الله فيصلي فيه " وفي حديث عبد الله بن عباس مرفوعا وموقوفا: "إنما هو كالمخاط والبصاق فأمطه عنك ولو بإذخرة " وبالجملة فمن المحال أن يكون نجسا والنبي صلى الله عليه وسلم شدة ابتلاء الأمة به في ثيابهم وأبدانهم ولا يأمرهم يوما من الأيام بغسله وهم يعلمون الاجتزاء بمسحه وفركه. وأما قولكم إن الآثار قد اختلفت في هذا الباب ولم يكن في المروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان حكم المني فاعتبرتم

ذلك من طريق النظر فيقال الآثار بحمد الله في هذا الباب متفقة لا مختلفة وشروط الاختلاف منتفية بأسرها عنها وقد تقدم أن الغسل تارة والمسح والفرك تارة جائز ولا يدل ذلك على تناقض ولا اختلاف البتة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكل أمته في بيان حكم هذا الأمر المهم إلى مجرد نظرها وآرائها وهو يعلمهم كل شيء حتى التخلي وآدابه ولقد بينت السنة هذه المسألة بيانا شافيا ولله الحمد. وأما ما ذكرتم من النظر على تنجيسه فنظر أعشى لأنكم أخذتم حكم نجاسته من وجوب الاغتسال منه ولا ارتباط بينهما لا عقلا ولا شرعا ولا حسا وإنما الشارع حكم بوجوب الغسل على البدن كله عند خروجه كما حكم به عند إيلاج الحشفة في الفرج ولا نجاسة هناك ولا خارج وهذه الريح توجب غسل أعضاء الوضوء وليست نجسه ولهذا لا يستنجي منها ولا يغسل الإزار والثوب منها فما كل ما أوجب الطهارة يكون نجسا ولا كل نجس يوجب الطهارة أيضا فقد ثبت عن الصحابة أنهم صلوا بعد خروج دمائهم في وقائع متعددة وهم أعلم بدين الله من أن يصلوا وهم محدثون فظهر أن النظر لا يوجب نجاسته والآثار تدل على طهارته وقد خلق الله الأعيان على أصل الطهارة فلا ينجس منها إلا ما نجسه الشرع وما لم يرد تنجيسه من الشرع فهو على أصل الطهارة والله أعلم. فائدة: تعليق الطلاق على أمر: إذا علق الطلاق بأمر يعلم العقل استحالته عادة وأخبر من لا يعلم إلا من جهته بوقوعه وليس خبره مما قام الدليل على صدقه فقد قال كثير من الفقهاء بوقوع الطلاق عند خبره وقال محمد بن الحسن بعدم الوقوع وهو الصواب وهو اختيار ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد بن حنبل. وصورة المسألة إذا قال: إن كنت

تحبين أن يعذبك الله في النار فأنت طالق فقالت: أنا أحب ذلك. قال الموقعون المحبة أمر لا يتوقف عليه ولا يعلم إلا من جهتها فإذا أخبرت به رجع إلى قولها الباطن، اعترض على ذلك ابن عقيل فقال: "إذا كان عليه دلالة أمكن الاطلاع عليه ولا دلالة أكبر من العلم بأن طباع الحيوان لا تصبر على نفحات النار ولا تحبها وإذا علم هذا طبعا صار دعوى خلافه خرقا للعادة فهو كقوله أنت طالق إن صعدت السماء فغابت ثم ادعت الصعود فإنه لا يقع لاستحالته طبعا وعادة قالوا النعام يميل إلى النار فلا يمتنع أن تكون هذه صادقة لإخبارها عن نفسها أو دخل عليها داخل من برد استولى على جسدها فتمنت معه دخول النار". قال ابن عقيل: "لا يستحيل الميل إلى النار من الحيوان الذي ذكرت لكن ذلك خرق للعادة في حق غيرها فلئن جاز أن يصدقها في ذلك لكونه لا يستحيل وجب أن يصدقها في صعود السماء فقد صعدت إليها الملائكة والجن والأنبياء بل يبنى الأمر على العادة دون خرقها وفي مسألتنا لم تقل أحب النار بل قالت: أحب أن يعذبني الله بالنار والنعام لا يتعذب فقد صرحت بحب أعظم الألم ولم يجتمع في حيوان حب وميل إلى ما يعذب به فقد صرحت بحب أعظم الألم ولم يجتمع في حيوان حب وميل إلى ما يعذب به بل طبعه النفور من كل مؤلم فأما تعلقهم بأن ما في قلبها لا يطلع عليه إلا من إخبارها فهذا شيء يرجع إلى ما يجوز أن يكون في قلبها من طريق العادة فأما المستحيل عادة فإنه كالمستحيل في نفسه ولو أنه قال لها إن كنت تعتقدين أن الجمل يدخل في خرم الإبرة فأنت طالق فقالت: أعتقده لم يقع الطلاق إذ لا عاقل يجوز ذلك فضلا عن أن يعتقده". انتهى كلامه وهو كما ترى قوة صحة. حادثة: مسجد عليه وقف خرب وليس في وقفه ما يفي بعمارته هل يجوز نقل ذلك إلى عمارة الجامع الذي لا غنى للقرية عنه؟ قال جماعة يجوز وخالفهم ابن عقيل

فقال "يجب صرف دخل وقف المسجد إلى عمارته بحسبها وقد كان سقف مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سعفا" أنتهي. والتحقيق في المسألة أن المسجد إن تعطل بحيث أنتقل أهله عنه وبقى في مكان لا يصلى فيه فالصواب ما قاله الجماعة وإن كان جبرانه بحالهم وهو بصدد أن يصلى فيه فالصواب ما قاله ابن عقيل والله أعلم. وسئل عن رجل تزوج ضريرة ومعها جارية تخدمها فأنفق عليها مدة ثم قصر في النفقة وعلل ذلك بأنه في مقابلة ما كان أنفق على الجارية فقال هذا فإن من تزوج ضريرة فقد دخل على بصيرة أنه لا بد لها من خادم فتكون المؤونة عليه كمن تزوج امرأة ذات جلالة يلزمه إخدامها. وسئل عن رجل أدرك الناس ركوعا في صلاة الجمعة وسمع من المبلغين قول: (سمع الله لمن حمده) فهل يقدر ما يكون به تابعا للإمام أو يعتبر بمن يليه؟ فقال: "بل يقدر ما يكون به حاكما تابعا للإمام في حال ركوعه لأنه قد يكون ركع والإمام قد رفع ولكن لبعد ما بين المبلغين وبين الإمام قد يكون الأواخر ركعا وذلك أن الشرع علق الإدراك بركوع الإمام فالوسائط لا عبرة بهم. حادثة: طلاق امرأة: رجل قال لامرأته أنت طالق لا كلمتك وأعاده فقال بعض أصحاب أحمد: إن قصد إفهامها بالثاني لم يقع وإن قصد الابتداء وقع المعلق بالثاني"، قال ابن عقيل: "هذا خطأ لأن الثاني هو كلام لها على كل حال سواء قصد الإفهام أو الابتداء وإنما اشتبهت بمسألة إذا قال إن حلفت بطلاقك فأنت طالق وأعاده فإن التفصيل كما ذكرت فأما الكلام فهو على الإطلاق يتناول كل كلام مخصوص بخلاف الحلف فإنه لا يكون حلفا إلا بقصد وإذا كان قصده بالثاني إفهامها لما حلف به أولا لم يكن حلفا. قلت: والصواب القول الأول وهذا الفرق خيالي فإنه إذا قصد إفهامها فلم يرد إلا اليمين الأولى ولم يرد به الكلام المحلوف عليه فتحنيثه بما لم يرده البتة وبساط الكلام

وتبينه إنما يدل على أنه لا كلمتك بعد اليمين مفردة كانت أو مكررة فما كلمها الكلام الذي حلف عليه وإنما أفهمها يمينه فلا فرق بينهما وبين مسألة الحلف وأما قوله: إن الحلف لا يكون حلفا إلا بقصد فيقال: إن كان القصد شرطا في اعتبار المحلوف عليه لم يحنث في الموضعين وإن لم يكن شرط فيه فينبغي أن يحنث في الموضعين فأما أن يجعل القصد شرطا في أحدهما دون الآخر فلا وجه له والله أعلم. فائدة: الوصية لأهل البيت: استدل شيعي على الوصية لأهل البيت بقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فأجيب بأن قيل هذه وصية بهم لا وصية إليهم فهي حجة على خلاف قول الشيعة لأن الأمر لو كان إليهم لأوصاهم ولم يوص بهم ونظير هذا الاحتجاج على أن الأمر في قريش لا في الأنصار بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بالأنصار " فدل على أن الأمر في غيرهم. قلت: وهذا كله خروج عن معنى الآية وما أريد بها ولا دلالة فيها لواحد من الطائفتين فإن معنى الآية: لا أسالكم عليه أجرا إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة فإنه لم يكن بطن من قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم قرابة فقال: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا ولكن صلوا ما بيني وبينكم من القرابة وليست هذه الصلة أجرا، فالاستثناء منقطع فإن الصلة من موجبات الرحم فهي واجبة على كل أحد وهذا هو تفسير ابن عباس الذي ذكره البخاري عنه في صحيحه.

فائدة: من العجب إنكار كون القرعة طريقا لإثبات الأحكام مع ورود السنة بها وإثبات حل الوطء بشهادة شاهدي زور يعلم الزوج الثاني أنهما شاهدا زور ومع هذا فيثبت الحل له بشهادتهما فمن يقول هذا في باب حل الأبضاع والفروج كيف يمنع القرعة. ومن العجب قولهم: إذا منع الذمي دينار من الجزية أنتقض عهده ولو جاهر بسب الله ورسوله ودينه أو حرق بيوت الله لم ينتقض عهده. ومن العجب إباحتهم القرآن بالعجمية ومنع رواية الحديث بالمعنى. ومن العجب قولهم الإيمان نفس التصديق وهو لا يتفاضل والأعمال ليست منه وتكفيرهم من يقول مسيجد وفقيه ومن يلتذ بالسماع ويصلي بلا وضوء ونحو ذلك. ومن العجب إسقاطهم الحد عمن استأجر امرأة لرضاع ولده فزنا بها أو أستأجرها ليزني بها وإيجابهم الحد على من وطىء امرأة في الظلمة بظنها امرأته فبانت أجنبية. ومن العجب تشددهم في المياه أعظم التشديد حتى نجسوا القناطير المقنطرة من الماء بمثل رأس الإبرة من البول ويجوزون الصلاة في ثوب ربعه متضمخ بالنجاسة. ومن العجب منعهم إلحاق النسب بالقيافة التي هي من أظهر الأدلة وقد اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم وعمل بها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإلحاقهم النسب برجل تزوج امرأة بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب وبينهما ما لا يقطعه البشر وقال: تزوجت فلانة وهي طالق ثلاثا عقب القبول ثم جاءت بولد فقالت هو منه. ومن العجب إلحاقهم الولد في هذه الصورة وزعمهم أن الرجل إذا كانت له سرية وهو يطأها دائما فأتت بولد على فراشه لم يلحقه إلا أن يستحلفه. ومن العجب أنهم يقولون إذا شهد عليه أربعة بالزنا فقال: صدقوا في شهادتهم وقد فعلت سقط عنه الحد

وإن اتهمهم وقال كذبوا علي حد. ومن العجب قولهم: لا يصح اسئجار دار لتجعل مسجدا يصلي فيه المسلمون ويصح استئجارها كنيسة يعبد فيها الصليب وبيتا تعبد فيه النار. ومن العجب قولهم: إذا قهقه في الصلاة أنتقض وضوؤه ولو غنى في صلاته وقذف المحصنات وأتى بأقبح السب والفحش فوضوؤه بحالة لم ينتقض. ومن العجب قولهم: إذا وقع في البئر نجاسة ينزح منه أدلاء معينة فإذا حصل الدلو الأول في البئر تنجس وغرف الماء نجسا فما أصاب حيطان البئر منه نجسها وكذلك ما بعده من الدلاء إلى الأخير فإنه ينزل نجسا ثم يصعد طاهرا يقشقش النجاسة من البئر قال الحافظ: "ما يكون أكرم أو أعقل من هذا الدلو". ومن العجب قولهم: لو حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل الجوز ولو كان يابسا منذ سنين ولا يحنث بأكل الرطب والعنب والرمان. وأعجب من ذلك تعليلهم بأن هذه الثلاثة خيار الفاكهة فلا تدخل في الاسم المطلق ذكر الحكم والدليل الاسماقي في شرح الطحاوي. ومن العجب قولهم: لو حلف لا يشرب من النيل أو الفرات أو دجلة فشرب بكفه لم يحنث حتى ينكب ويكرع بفيه مثل البهائم. فائدة: قال جماعة من الناس إذا ماتت نصرانية في بطنها جنين مسلم نزل ذلك القبر نعيم وعذاب فالنعيم للابن والعذاب للأم ولا بعد فيما قالته كما لو دفن في قبر واحد مؤمن وفاجر فإنه يجتمع في القبر النعيم والعذاب.

فائدة قالت الامامية إن العتق لا ينفذ إلا إذا قصد به القربة لأنهم جعلوه عبادة والعبادة لا تصح إلا بالنية. قال ابن عقيل: "ولا بأس بهذا القول لا سيما وهم يقولون الطلاق لا يقع إلا إذا كان مصادقا للسنة مطابقا للأمر وليس بقربة فكيف بالعتق الذي هو قربة" قلت: وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: "الطلاق ما كان عن وطر والعتق ما ابتغى به وجه الله". فائدة: كثير من الناس يطلب من صاحبه بعد نيله درجة الرياسة الأخلاق التي كان يعامله بها قبل الرياسة فلا يصادفها فينتقض ما بينهما من المودة وهذا من جهل الصأحب الطالب للعادة وهو بمنزلة من يطلب من صاحبه إذا سكر أخلاق الصاحي وذلك غلط فإن الرياسه سكرة كسكرة الخمر أو أشد ولو لم يكن للرياسة سكرة لما اختارها صاحبها على الآخرة الدائمة الباقية فسكرتها فوق سكرة القهوة بكثير ومحال أن يرى من السكران أخلاق الصاحي وطبعه ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيس القبط بالخطاب اللين فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعا وعقلا وعرفا ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب رؤساء العشائر والقبائل وتأمل امتثال موسى لما أمر به كيف قال لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض

لا مخرج الأمر وقال: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ولم يقل إلى أن أزكيك فنسب الفعل إليه هو وذكر لفظ التزكي دون غيره لما فيه من البركة والخير والنماء ثم قال {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك وقال {إِلَى رَبِّكَ} استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيرا ويافعا وكبيرا وكذلك قول إبراهيم الخليل لأبيه {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} فابتدأ خطابه بذكر أبوته الدالة على توقيره ولم يسمه باسمه ثم اخرج الكلام معه مخرج السؤال فقال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} ولم يقل لا تعبد ثم قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} فلم يقل له جاهل لا علم عندك بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على هذا المعنى فقال: {جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} ثم قال: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} هذا ومثل قول موسى لفرعون: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} ثم قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه كما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه وقال: (يمسك) فذكر لفظ المس الذي هو ألطف من غيره ثم نكر العذاب ثم ذكر الرحمن ولم يقل الجبار ولا القهار فأي خطاب ألطف وألين من هذا. ونظير هذا خطاب صاحب يس لقومه حيث قال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ونظير ذلك قول نوح لقومه: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} . وكذلك سائر خطاب الأنبياء لأمتهم في القرآن إذا تأملته وجدته ألين خطاب وألطفه بل خطاب الله لعباده وألطف خطاب وألينه كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآيات وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وتأمل

ما في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} من اللطف الذي سلب العقول وقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} على أحد التأويلين أي نترككم فلا ننصحكم ولا ندعوكم ونعرض عنكم إذا أعرضتم أنتم وأسرفتم وتأمل لطف خطاب نذر الجن لقومهم وقولهم {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . فائدة: سئل ابن عقيل عن رجل له ماء يجري على سطح جاره فعلا داره هل يسقط حق الجري؟ فقال: "لا لكنه إذا سلط الماء على عادته حفر سطح جاره لموضع العلو فينبغي أن يجعل جريه بحدته إلى ملكه ثم يخرجه بسهولة إلى سطح جاره". فائدة: وسئل عن رجل قالت له زوجته: طلقني فقال: إن الله قد طلقك؟ فقال: "يقع الطلاق لأنه كناية استندت إلى دلالة الحال وهي ذكر الطلاق وسؤالها إياه" وأجاب بعض الشافعية بأنه إن نوى وقع الطلاق وإلا لم يقع" قلت: وهذا هو الصواب إن قوله إن الله قد طلقك إن أراد به شرع طلاقك وأباحه لم يقع وإن أراد أن الله قد أوقع عليك الطلاق وأراده وشاءه فهذا يكون

طلاقا لأن ضرورة صدقة أن يكون الطلاق واقعا وإذا احتمل الأمرين فلا يقع إلا بالنية. فائدة: وسئل عن رجل أوقف دابة في مكان فجاء رجل فضربها فرفسته فمات هل يضمن صاحب الدابة؟ فقال: "إذا لم يكن متعديا في إيقافها بأن تكون في ملك الضارب فلا ضمان عليه وإن كان متعديا فالضمان عليه". فائدة: حكى الطحاوي أن مذهب أبي يوسف جواز أخذ بني هاشم الفقراء الزكاة من بني هاشم الأغنياء قاله ابن عقيل قال: "وسألت قاضي القضاة عن ذلك يريد الدامغاني فقال: نعم هو مذهب أبي يوسف وهو مذهب الإمامية" قلت: وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنهم يجوزون لهم الأخذ من الزكاة مطلقا إذا منعوا حقهم من الخمس وأفتى به بعض الشافعية. فائدة: هل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أم الكعبة؟ قال ابن عقيل: "سألني سائل أيما أفضل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فقلت: إن أردت مجرد الحجرة فالكعبة أفضل وإن أردت وهو فيها فلا والله ولا العرش

وحملته ولا جنه عدن ولا الأفلاك الدائرة لأن بالحجرة جسدا لو وزن بالكونين لرجح. وسئل عن حبس الطير لطيب نغمتها؟ فقال: "سفه وبطر يكفينا أن نقدم على ذبحها للأكل فحسب لأن الهواتف من الحمام ربما هتفت نياحة على الطيران وذكر أفراخها أفيحسن بعاقل أن يعذب حيا ليترنم فيلتذ بنياحته" وقد منع من هذا بعض أصحابنا وسموه سفها. فائدة: من دقيق الورع أن لا يقبل المبذول حال هيجان الطبع من حزن أو سرور فذلك كبذل السكران ومعلوم أن الرأي لا يتحقق إلا مع اعتدال المزاج ومتى بذل باذل في تلك الحال يعقبه ندم ومن هنا لا يقضي القاضي وهو غضبان وإذا أردت اختبار ذلك فاختبر نفسك في كل مواردك من الخير والشر فالبدار بالانتقام حال الغضب يعقب ندما وطالما ندم المسرور على مجازفته في العطاء وود أن لو كان اقتصر وقد ندم الحسن على تمثيله بابن ملجم. فائدة: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لسائل عن مواقيت الصلاة: "صل معنا" جواز البيان بالفعل وجواز تأخيره إلى وقت الحاجة إليه وجواز العدول عن العمل الفاضل إلى المفضول لبيان الجواز.

فائدة: تفسير القيراط في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان " سئل أبو نصر بن الصباغ عن القيراطين هل هما غير الأول أو به؟ فقال: "بل القيراطان الأول وآخر معه بدليل قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} . قلت: ونظير هذا قوله صلى صلى الله عليه وسلم: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله" فهذا مع صلاة العشاء في جماعة قد جاء مصرحا به في جامع الترمذي كذلك "ومن صلى العشاء والفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله"، ونظيره أيضا قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أربعة أيام سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} فهي أربعة باليومين الأولين ولولا ذلك لكانت أيام التخليق ثمانية. فائدة: لم أزل حريصا على معرفة المراد بالقيراط في هذا الحديث وإلى أي شيء نسبته حتى رأيت لابن عقيل فيه كلاما قال: "القيراط نصف سدس درهم مثلا أو نصف دينار ولا يجوز أن يكون المراد هنا جنس الأجر لأن ذلك يدخل فيه ثواب الإيمان وأعماله كالصلاة والحج وغيره وليس في صلاة الجنازة ما يبلغ هذا فلم يبق إلا أن يرجع إلى المعهود وهو الأجر العائد إلى الميت ويتعلق بالميت

أجر الصبر على المصاب فيه وأجر تجهيز وغسله ودفنه والتعزية به وحمل الطعام إلى أهله وتسليتهم وهذا مجموع الأجر الذي يتعلق بالميت فكان للمصلي والجالس إلى أن يقبر سدس ذلك أو نصف سدسه إن صلى وانصرف". قلت: كان مجموع الأجر الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحده وقضاء حق أهله وأولاده وجبرهم دينار مثلا فللمصلي عليه قيراط من هذا الدينار والذي يتعارفه الناس من القيراط أنه نصف سدس فإن صلى عليه وتبعه كان له قيراطان منه وهما سدسه وعلى هذا فيكون نسبه القيراط إلى الأجر الكامل بحسب عظم ذلك الأجر الكامل في نفسه وكلما كان أعظم كان القيراط منه بحسبه فهذا بين ههنا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو زرع نقص من أجره أو من عمله كل يوم قيراط" فيحتمل أن يراد به هذا المعنى أيضا بعينه وهو نصف سدس أجر عمله ذلك اليوم ويكون صغر هذا القيراط وكبره بحسب قلة عمله وكثرته فإذا كانت له أربعة وعشرون ألف حسنة مثلا نقص منها كل يوم ألفا حسنة وعلى هذا الحساب والله أعلم بمراد رسوله وهذا مبلغ الجهد في فهم هذا الحديث. فائدة: قوله صلى الله عليه وسلم: "من عزى مصابا فله مثل أجره" استشكله بعضهم وقال: مشقة المصيبة أعظم بكثير من مساواة تعزية المعزي لها مع برد قلبه؟ فأجاب ابن عقيل رحمه الله بجواب بديع جدا فقال: "ليس مراده بعضهم لبعض نسأ الله في أجلك وتعيش أنت وتبقى وأطال الله عمرك وما أشبه ذلك بل المقصود من عمد إلى قلب قد أقلقه ألم المصاب وأزعجه وقد كاد يساكن السخط ويقول الهجر ويوقع الذنب فداوى ذلك القلب بآي الوعيد وثواب الصبر وذم الجزع

حتى يزيل ما به أو يقلله فيتعزى فيصير ثواب المسلى كثواب المصاب لأن كلا منهما دفع الجزع فالمصاب كابده بالاستجابة والمعزي عمل في أسباب المداواة لألم الكآبة. فائدة: قوله صلى الله عليه وسلم: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود " قال ابن عقيل: "المراد بهم الذين دامت طاعاتهم وعدالتهم فزلت في بعض الأحايين أقدامهم بورطة". قلت: ليس ما ذكره بالبين فإن النبي صلى الله عليه وسلم يعبر عن أهل التقوى والطاعة والعبادة بأنهم ذوو الهيئات ولا عهد بهذه العبارة في كلام الله ورسوله للمطيعين المتقين والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد فإن الله تعالى خصهم بنوع التكريم وتفضيل على بني جنسهم فمن كان منهم مستورا مشهورا بالخير حتى كبا به جواده ونبا عصب صبره وأديل عليه شيطانه فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته بل تقال عثرته ما لم يكن حدا من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وقال: إنما هلك بنوا إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد". وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة وسياستها للعالم وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد.

فائدة: اعترض نفاة المعاني والحكم على مثبتيها في الشريعة بأن قالوا الشرع قد فرق بين المتماثلات فأوجب الحد بشرب الخمر ولم يحد بشرب الدم والبول وأكل العذرة وهي أخبث من الخمر وأوجب قطع اليد في سرقه ربع دينار ومنع قطعها في نهبه ألف دينار وأوجب الحد في رمي الرجل بالفاحشة ولم يوجبه في رميه بالكفر وهو أعظم منه ولم يرتب على الربا حدا مع كونه من الكبائر ورتب الحد على شرب الخمر والزنا وهما من الكبائر. فأجاب المثبتون بأن قالوا: هذا مما يدل على اعتبار المعاني الحكم ونصب الشرع بحسب مصالح العباد فإن الشارع ينظر إلى المحرم مفسدته ثم ينظر إلى وازعه وداعية فإذا عظمت مفسدته رتب عليها من العقوبة بحسب تلك المفسدة ثم إن كان في الطباع التي ركبها الله تعالى في بني آدم وازعا عنه اكتفى بذلك الوازع عن الحد فلم يرتب على شرب البول والدم والقيء وأكل العذرة حدا لما في طباع الناس من الامتناع عن هذه الأشياء فلا تكثر مواقعتها بحيث يدعو إلى الزجر بالحد بخلاف شرب الخمر والزنا والسرقة فإن الباعث عليها قوي فلولا ترتيب الحدود عليها لعمت مفاسدها وعظمت المصيبة بارتكابها، وأما النهبة فلم يرتب عليها حدا إما لأن بواعث الطباع لا تدعوا إليها غالبا خوف الفضيحة والاشتهار وسرعة الأخذ وإما لأن مفسدتها تندفع بإغاثة الناس ومنعهم المنتهب وأخذهم على يده. وأما الربا فلم يرتب عليها حدا فقيل لأنه يقع في الأسواق وفي الملأ فوكلت إزالته إلى إنكار الناس بخلاف السرقة والفواحش وشرب الخمر فإنها إنما تقع غالبا سرا فلو وكلت إزالته إلى الناس لم تزل وأحسن من هذا أن يقال لما كان المرابي إنما يقضي له برأس ماله فقط فإن أخذ الزيادة

قضى عليه بردها إلى غريمة وإن لم يأخذها لم يقض له بها كانت مفسدة الربا منتفيه بذلك فإن غريمة لو سأله لم يعطه إلا رأس ماله فحيث رضي بإعطائه الزيادة فقد رضي باستهلاكها وبذلها مجانا والأخذ لها رضي بأكل النار، وأجود من هذين أن يقال ذنب الربا أكبر من أن يطهره الحد فإن المرابي محارب لله ورسوله آكل للجمر والحد إنما شرع طهرة وكفارة والمرابي لا يزول عنه إثم الربا بالحد لأن حرمته أعظم من ذلك فهو كحرمة مفطر رمضان عمدا من غير عذر ومانع الزكاة بخلا وتارك صلاة العصر وتارك الجمعة عمدا فإن الحدود كفارات وطهر فلا تعمل إلا في ذنب يقبل التكفير والطهر ومن هذا عدم إيجاب الحد بأكل أموال اليتامي لأن آكلها قد وجبت له النار فلا يؤثر الحد في إسقاط ما وجب له من النار وكذلك ترك الصلاة هو أعظم من أن يرتب عليه حد ونظير هذا اليمين الغموس هي أعظم إثما من أن يكون فيها حد أو كفارة. وإذا تأملت أسرار هذه الشريعة الكاملة وجدتها في غاية الحكمة ورعاية المصالح لا تفرق بين متماثلين البتة ولا تسوى بين مختلفين ولا تحرم شيئا لمفسدة وتبيح ما مفسدته مساوية لما حرمته أو رجحته عليه ولا تبيح شيئا لمصلحة وتحرم ما مصلحته تساويه لما إباحته البتة ولا يوجد فيما جاء به الرسول شيء من ذلك البتة ولا يلزمه الأقوال المستندة إلى آراء الناس وظنونهم واجتهاداتهم ففي تلك من التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات وإباحة الشيء وتحريم نظره وأمثال ذلك ما فيها. فائدة: سئل ابن عقيل عن كشف المرأة وجهها في الإحرام مع كثرة الفساد اليوم أهو أولى أم التغطية مع الفداء وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "لو علم رسول الله

ما أحدث النساء لمنعهن المساجد"؟ فأجاب: بأن الكشف شعار إحرامها ورفع حكم ثبت شرعا بحوادث البدع لا يجوز لأنه يكون نسخا بالحوادث ويفضي إلى رفع الشرع رأسا وأما قول عائشة فإنها ردت الأمر إلى صاحب الشرع فقالت لو رأى لمنع ولم تمنع هي وقد حبذ عمر السترة على الأمة وقال لا تشبهي بالحرائر ومعلوم أن فيهن من تفنن لكنه لما وضع كشف رأسها للفرق بين الحرائر والإماء جعله فرقا فما ظنك بكشف وضع بين النسك والإحلال وقد ندب الشرع إلى النظر إلى المرأة قبل النكاح وأجاز للشهود النظر فليس ببدع أن يأمرها بالكشف ويأمر الرجال بالغض ليكون أعظم للابتلاء كما قرب الصيد إلى الأيدي في الإحرام ونهي عنه" قلت: سبب هذا السؤال والجواب خفاء بعض ما جاءت به السنة في حق المرأة في الإحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصة كما جاء بالنهي عن القفازين وجاء النهي عن لبس القميص والسراويل ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء لم يرد أنها تكون مكشوفة لا تستر البتة بل قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإزار مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد وكيف يزاد على موجب النص ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهارا فأي نص اقتضى هذا أو مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة بل وجه المرأة كبدن الرجل يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب والبرقع بل ويدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم ينه عنه ألبته. ومن قال إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم ولا يصح قياسه على رأس المحرم لما جعل الله بينهما من الفرق. وقول من قال من السلف إحرام المرأة في وجهها إنما أراد به هذا المعنى أي لا يلزمها اجتناب اللباس كما يلزم الرجل بل يلزمها اجتناب النقاب فيكون وجهها كبدن الرجل ولو قدر أنه أراد وجوب

كشفه فقوله ليس بحجة ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك وأراد به وجوب كشف الوجه ولا سبيل إلى واحد من الأمرين وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كنا إذ مر بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها" ولم تكن إحداهن تتخذ عودا تجعله بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعض الفقهاء ولا يعرف هذا عن امرأة من نساء الصحابة ولا أمهات المؤمنين البتة لا عملا ولا فتوى ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإحرام ولا يكون ظاهرا مشهورا بينهن يعرفه الخاص والعام ومن آثر الإنصاف وسلك سبيل العلم والعدل تبين له راجح المذاهب من مرجوحها وفاسدها من صحيحها والله الموفق والهادي. فائدة: زكاة الحلي: قال ابن عقيل: "يخرج من رواية إيجاب الزكاة في حلي الكراء والمواشط أن يجب في العقار المعد للكراء وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة" قال: "وإنما خرجت ذلك عن الحلي لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحلي لا يجب فيه الزكاة فإذا أعد للكراء وجبت جميع العروض التي لا تجب فيها الزكاة ينشىء إيجاب الزكاة يوضحه أن الذهاب والفضة عينان تجب الزكاة بجنسهما وعينهما ثم إن الصياغة والإعداد للباس والزينة والانتفاع غلبت على إسقاط الزكاة في عينه ثم جاء الإعداد للكراء فغلب على الاستعمال وإنشاء إيجاب الزكاة فصار أقوى مما قوى على إسقاط الزكاة فأولى أن يوجب الزكاة في العقار والأواني والحيوان التي لا زكاة في جنسها أن ينشيء فيها الإعداد للكراء زكاة".

فائدة: قال ابن عقيل: "جاءت فتوى أن حاكما قال بين يديه يهودي: لا ننكر أن محمدا بعث إلى العرب فقال له: وتقول إنه جاء بالحق؟ فقال: نعم. فأفتى جماعة أنه قد أسلم وكتبت لا شك أن قوله: "إنه بعث إلى العرب" قول طائفة منهم وقوله بعد هذا: "وأعتقد أنه جاء بالحق" يرجع إلى ما أقر به من أنه جاء رسولا إلى العرب فإذا احتمل أن يعود كلامه إلى هذا لم يخرج من دينه بأمر محتمل وكتب بذلك كيا والشاشي. فائدة: قال ابن عقيل في مسألة ما إذا ألقى في مركبهم نار واستوى الأمران عندهم فيه رويتان قال: "واعلموا أن التقسيم والتفصيل ما لم تمس النار الجسد فإن مسته فالإنسان بالطبع يتحرك إلى خارج منها لأن طبع الحيوان الهرب من المحس ويغلب الحس على التأمل والنظر في العاقبة فتصير النار دافعة له بالحس والبحر ليس محسوسا إذاه له لكن الغرق والمضرة معلومة والحس يغلب على العلم يبين هذا ما يشاهد من الضرب والوخز للإنسان الذي قد نصبت له خشبة ليصلب عليها أو حفر له بئر ليلقي فيها فإنه يتقدم إلى الخشبه والبئر لأن الضرر فيهما ليس بمحس والوخز بالإنسان والضرب محس فهو أضرار ناجز واقع وإذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى وقوف الحي وجنوحه عن التحرك إذا تكافأ عنده الأمرين في الحس والعلم بيانه إنسان

هجم عليه سبع على حرف نهر جار عميق وهو لا يحسن السباحة فإنه لا محالة يتحرك نحو الماء راميا نفسه لأجل إلجاء السبع له وهجومه عليه فلو هجم عليه من قبل وجهه سبع فالتفت فإذا وراءه سبع آخر وهما متساويان في الهجوم عليه لم يبق للطبع مهرب وتوازنت المكروهات فإنه يقف مستسلما صامدا للبلاء وكذلك تكافؤ كفة الميزان". قلت: هذا صحيح من جهة الوهم والدهش وإلا فلو كان عقله حاضرا معه لتكافأ عنده الأمران المحسوس والمعلوم وكثيرا ما يحضر الرجل عقله إذ ذاك فيتكافأ عنده المحسوس والمعلوم فيستسلم لما لا صنع له فيه ولا يعين على نفسه ويحكم عقله على حسه ويعلم أنه أن صبر كان له أجر من قتل ولم يعن على نفسه وإن ألقى في الهلاك لم يكن من هذا الأجر على يقين بل ولا يستلزم ذلك للإيمان بالثواب بل إذا تصور حمد الناس له على صبره وعدم جزعه بإلقاء نفسه في الهلاك هربا مما لا بد له منه رأى الصبر أحمد عاقبة وأنفع له أجلا فمحكم العقل يقدم الصبر ومحكم الحس يهرب من التلف إلى التلف فليست الطباع هذا متكافئة والله أعلم. فائدة: يذكر عن كعب قال: "قرأت في بعض كتب الله تعالى الهدية تفقأ عين الحكم". قال ابن عقيل: "معناه أن المحبة الحاصلة للمهدي إليه وفرحته بالظفر بها وميله إلى المهدي يمنعه من تحديق النظر إلى معرفة باطل المهدي وأفعاله الدالة على أنه مبطل فلا ينظر في أفعاله بعين ينظر منها إلى من لم يهد إليه" هذا معنى كلامه. قلت: وشاهده الحديث المرفوع الذي رواه أحمد في مسنده: "حبك الشيء يعمى ويصم" فالهدية إذا أوجبت له محبة المهدي ففقأت عين الحق وأصمت أذنه.

فائدة: قال ابن عقيل: "الأموال التي يأخذها القضاة أربعة أقسام: رشوة وهدية وأجرة ورزق. فالرشوة حرام وهي ضربان: رشوة ليميل إلى أحدهما بغير حق فهذه حرام عن فعل حرام على الآخذ والمعطي وهما آثمان, ورشوة يعطاها ليحكم بالحق واستيفاء حق المعطي من دين ونحوه فهي حرام على الحاكم دون المعطي لأنها للاستنقاذ فهي كجعل الآبق وأجرة الوكلاء في الخصومة، وأما الهدية فضربان: هدية كانت قبل الولاية فلا تحرم استدامتها وهدية لم تكن إلا بعد الولاية وهي ضربان: مكروهة وهي الهدية إليه ممن لا حكومة له وهدية ممن قد اتجهت له حكومة فهي حرام على الحاكم والمهدي. وأما الأجرة إن كان للحاكم رزق من الإمام من بين المال حرم عليه أخذ الأجرة قولا واحدا لأنه إنما أجرى له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم فلا وجه لأخذ الأجرة من جهة الخصوم وإن كان الحاكم لا رزق له فعلى وجهين: أحدهما الإباحة لأنه عمل مباح فهو كما لو حكماه ولأنه مع عدم الرزق لا يتعين عليه الحكم فلا يمنع من أخذ الأجرة كالوصي وأمين الحاكم يأكلان من مال اليتيم بقدر الحاجة وأما الرزق من بيت المال فإن كان غنيا لا حاجة له إليه احتمل أن يكره لئلا يضيق على أهل المصالح ويحتمل أن يباح لأنه بذل نفسه لذلك فصار كالعامل في الزكاة والخراج. قلت: أصل هذه المسائل عامل الزكاة وقيم اليتيم فإن الله تعالى أباح لعامل الزكاة جزءا منها فهو يأخذه مع الفقر والغنى والنبي صلى الله عليه وسلم منعه من قبول الهدية وقال: "هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدي إليه أم لا" وفي هذا دليل على أن من أهدي إليه في بيته ولم يكن بسببيه العمل على الزكاة جاز له قبوله فيدل ذلك على أن الحاكم إذا أهدى إليه من

كان يهدي له قبل الحكم ولم تكن ولايته سبب الهدية فله قبولها. وأما ناظر اليتيم فالله تعالى أمره بالاستعفاف مع الغنى وأباح له الأكل بالمعروف مع الفقر وهو إما اقتراض أو إباحة على الخلاف فيه والحاكم فرع متردد بين أصلين عامل الزكاة وناظر اليتيم فمن نظر إلى عموم الحاجة إليه وحصول المصلحة العامة به ألحقه بعامل الزكاة فيأخذ الرزق مع الغني كما يأخذه عامل الزكاة ومن نظر إلى كونه راعيا منتصبا لمعاملة الرعية بأن لا حظ لهم أنهم ألحقه بولي اليتيم إن احتاج أخذ وإن استغنى ترك وهذا أفقه وهو مذهب الخلفيتين الراشدين قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم إن احتاج أكل بالمعروف وإن استغنى ترك" والفرق بينه وبين عامل الزكاة أن عامل الزكاة مستأجر من جهة الإمام لجباية أموال المستحقين لها وجمعها فما يأخذه يأخذه بعمله كمن يستأجره الرجل لجباية أمواله, وأما الحاكم فإنه منتصب لإلزام الناس بشرائع الرب تبارك وتعالى وأحكامه وتبليغها إليهم فهو مبلغ عن الله تعالى عز وجل بفتياه ويتميز عن المفتى بالإلزام بولايته وقدرته والمبلغ عن الله تعالى الملزم للأمة بدينة لا يستحق عليهم شيئا فإن كان محتاجا فله من الفيء ما يسد حاجته وهذا لون وعامل الزكاة لون فالحاكم مفتي في خبره عن حكم الله ورسوله شاهد فيما ثبت عنده ملزم لمن توجه عليه الحق فيشترط له شروط المفتى والشاهد ويتميز بالقدرة على التنفيذ فهو في منصب خلافة من قال: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} فهؤلاء هم الحكام المقدر وجودهم في الأذهان المفقودون في الأعيان الذين جعلهم الله ظلالا يأوي إليها اللهفان ومناهل يردها الظمآن.

فائدة: إذا قال إنسان انفذ لي كتابا فحلف الآخر أنه قد أنفذه أمس ثم بان أنه أنفذه قبله بيوم فمإذا يبني على ذلك؟ قال ابن عقيل: "لا يحنث لا لأجل الخطأ والنسيان بل لأن قصده تصديق نفسه في الإنفاذ الذي هو مقصود الطالب وإذا بان أن المقصود قد حصل قبل أمس فقد بان أنه قد حصل أو في المقصود كما لو حلف قد أعطيتك دينارا فبان أنه أعطاه دينارين". فائدة: إذا ماتت الحامل فصلي عليها هل ينوى الحمل؟ قال ابن عقيل: "يحتمل أن لا يذكر سوى المرأة لأن الحمل غير متيقن ولهذا لا يلاعن عليه ولو قتلت لم تجب ديته". فإن قيل أليس يعزل له الإرث ولا تدفن في مقابر المشركين إذا كانت نصرانية ويتذكى بذكاة أمه؟ قيل أما الإرث فهو الحجة لأنه لا يعطاه ولا يورث عنه حتى يتحقق وضعه عنه وأما دفنه فلظن وجوده وحكم الزكاة تلحقه إذا وضع. فائدة: إذا جب إنسان عبده ليزيد في ثمن عبده فهل تحل له الزيادة؟ فأما على أصلنا وأصل مالك بن أنس رضي الله عنه في العتق بالمثلة فلا تفريع وأما من لم يعتقه بالمثلة فينبغي عنده أن لا تحرم الزيادة كما لو قطع له إصبعا زائدة فزاد ثمنه بقطعها، فإن قيل فالمغنية إذا زادت

قيمتها لأجل الغناء حرمت الزيادة قيل الغناء منهي عنه حال دوامه فيقال لا يحل لك أن تغني ولا يؤخذ العوض عنه وأما الخصاء فهو أثر فعل قد انقضى ولا يتعلق النهي بدوامه فافترقا. فائدة: رجل سرق منديلا لا يساوى نصابا وفي طرفه دينار لم يعلم به قال ابن عقيل: "قياس قول أحمد فيمن سرق إناء من ذهب فيه خمر قال: إنه لا يقطع فكذلك ههنا لا يقطع لأنه جعل القصد للخمر علة لإسقاط القطع بالإناء فقال: لو لم يكن قصده الخمر أراقه. فائدة: رجل له على آخر قود في النفس والطرف فقطع الطرف فسرى إلى النفس هل يسقط حكم القود في النفس بالسراية؟ قال ابن عقيل: يحتمل أن يكون مستوفيا للحق بالسراية لأن القطع قد صار قتلا وما صلح لاستيفاء الحقين حصل به استيفاؤهما كمن أعتق المكاتب عندنا في الكفارة حصل به مقصود المكاتب من العتق ومقصود السيد من التكفير، وكمن أطعم المضطر طعاما قد وجب عليه بذلة لكون المضطر لا طعام له وكون صاحب الطعام غير محتاج إليه ونوي بإطعامه الكفارة فإنه يندفع به الحقين وكذا من دخل المسجد فصلى قضاء ناب عن القضاء والتحية. قلت: وكذلك إذا نذر صيام يوم يقدم فلان فقدم

في نهار رمضان على قول الخرقي وكذلك المتمتع إذا دخل المسجد طاف طوافا واحدا هو طواف العمرة وطواف القدوم وكذلك إذا أخر طواف الزيارة إلى وقت الوداع وطاف طوافا واحدا كفاه عنهما وكذلك إذا سرق وقطع يدا معصومة فطلب القصاص قطعت يده حدا وقصاصا، قال: "ويحتمل أن لا يقع موقعه ويكون فائدة وقوعه على الاحتمال الأول أنه لا يستحق الدية وإن قلنا الواجب أحد أمرين ويكون فائدة عدم وقوعه على الاحتمال الثاني أن تقع السراية هدرا لأنها غير مضمونه عندنا وإن لم تكن مضمونه لم يكن محتسبا بالسراية قتلا فإن الاحتساب بها عن القود الواجب له هو أحد الضمانين فإذا ثبت أنها لا تقع موقع القود كان له الدية على الرواية التي تقول إن الواجب أحد الأمرين". فائدة: مذهب الإمام أحمد رحمه الله يؤخذ من الذمي التاجر إذا جاز علينا نصف العشر ومن الحربي المستأمن العشر، ومذهب أبي حنيفة إن فعلوا ذلك بنا فعلنا بهم وإلا فلا, ومذهب الشافعي لا يجوز إلا بشرط أو تراض بينهم وبين الإمام قال ابن عقيل: "وهذا هو الصحيح من المذهب لأن عقد الذمة للذمي والأمان للحربي أوجب حفظ أموالهم وصيانتها بالعهد والجزية وأخذ ذلك يقع ظلما منا ونقصا لذمتهم الموجبة عصمة أموالهم ودمائهم فأورد عليهم ما يصنع بقضية عمر فقال: "هي محتملة أنه فعل ذلك لفعل كان منهم ويحتمل انه كان شرط على قوم منهم ذلك لمصلحة رآها وحاجة للمسلمين أوجبت ذلك" قال: "ودليلي مصرح بالحكم واضح لا يحتمل فاصرف ظاهر القصة إلى هذا الاحتمال بدليلي الواضح".

فائدة: قال ابن عقيل سئلت عن كتب المهر في ديباج؟ فقلت: "إنما يقصد المباهاة وهي التي حرم لأجلها الحرير وهو الكبر والخيلاء قالوا: فهل يطعن ذلك في الحجة؟ قلت: لا كما لو كتب في ورقة مغصوبة الكتب حرام والحجة ثابتة. فائدة: طلب في الزنا أربعة وفي الإحصان اكتفى باثنين لأن الزنا سبب وعلة والإحصان شرط وأبداء الشروط تقصر عن العلل والأسباب لأنها مصححة وليست موجبة ولهذا لا يكتفي بالإقرار مرة عندنا وعند الحنفية. فائدة: عطية الأولاد المشروع أن يكون على قدر موارثيهم لأن الله تعالى منع مما يؤدي إلى قطيعة الرحم والتسوية بين الذكر والأنثى مخالفة لما وضعه الشرع من التفصيل فيفضي ذلك إلى العداوة ولأن الشرع أعلم بمصالحنا فلو لم يكن الأصلح التفضيل بين الذكر والأنثى لما شرعه ولأن حاجة الذكر إلى المال أعظم من حاجة الأنثى ولأن الله تعالى جعل الأنثى على النصف من الذكر في الشهادات

والميراث والديات وفي العقيقة بالسنة ولأن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء فإذا علم الذكر أن الأب زاد الأنثى على العطية التي أعطاها الله وسواها بمن فضله الله عليها أفضى ذلك إلى العداوة والقطيعة كما إذا فضل عليه من سوى الله بينه وبينه فأيّ فرق بين أن يفضل من أمر الله بالتسوية بينه وبين أخيه ويسوى بين من أمر الله بالتفضيل بينهما، واعترض ابن عقيل على دليل التفضيل وقال: "بناء العطية حال الحياة والصحة والمال لا حق لأحد فيه ولهذا لا يجوز له الهبات والعطايا للوارث وما زاد على الثلث للأجانب عبرة بحال صحته وقطعا له عن حال مرض الموت فضلا عن الموت وكذا تعطى الأخوات مع وجود الابن والأب وإن لم يكن لهم حق في الإرث وتلك عطية من الله على سبيل التحكم لا اختيار لأحد فيه وهذه عطية من مكلف غير محجور عليه فكانت على حسب اختياره من تفضيل وتسوية وهذا هو القول الصحيح عندي". قلت: وهذه الحجة ضعيفة جدا فإنها باطلة بما سلمه من امتناع التفصيل بين الأولاد المتساوين في المذكورة والأنوثة وكيف يصح له قوله إنها عطية من مكلف غير محجور عليه فجازت على حسب اختياره وأنت قد حجرت عليه في التفصيل بين المتساويين. فائدة: قال ابن عقيل: الجري في جواز العمل في السلطنة الشرعية بالسياسة هو الحزم فلا يخلو منه إمام" قال الشافعي: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع" قال ابن عقيل: "السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح وإن أردت ما نطق به

الشرع فغلط وتغليظ للصحابة فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسنن ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة وتحريق علي في الأخاديد وقال: إني إذا شاهدت أمرا منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا ونفي عمر نصر بن حجاج. قلت: هذا موضع مزله أقدام وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بها مصالح العباد وسدوا على نفوسهم طرقا عديدة من طرق معرفة الحق من الباطل بل عطلوها مع علمهم قطعا وعلم غيرهم بأنها أدلة حق ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهة بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء ونفي غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها بل بين ما شرعه من الطرق أن مقصودة إقامة العدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين لا يقال إنها مخالفة له فلا تقول إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به بل هي جزء من أجزائه ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم وإنما هي شرع حق فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نميمة وعاقب في تهمة لما ظهر أمارات الريبة على المتهم فمن

أطلق كل متهم وخلى سبيله مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ونقبه البيوت وكثرة سرقاته وقال: "لا آخذه إلا بشاهدي عدل" فقوله مخالف للسياسة الشرعية وكذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم الغال من سهمه من الغنيمة وتحريق الخلفاء الراشدين متاعه وكذلك أخذه شطره مال مانع الزكاة وكذلك إضعافه الغرم على سارق ما لا يقطع فيه عقوبته بالجلد وكذلك إضعافه الغرم على كاتم الضالة وكذلك تحريق عمر حانوت الخمار وتحريقه قربه خمر وتحريقه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية وكذلك حلقه رأس نصر ابن حجاج ونفيه وكذلك ضربه صبيغا وكذلك مصادرته عماله وكذلك إلزامه الصحابة أن يقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشتغل الناس بالقرآن فلا يضيعوه إلى غير ذلك من السياسة التي ساس بها الأمة فصارت سنة إلى يوم القيامة وإن خالفها من خالفها ومن هذا تحريق الصديق رضي الله عنه للوطي ومن هذا تحريق عثمان رضي الله عنه للصحف المخالفة للسان قريش ومن هذا اختيار عمر رضي الله عنه للناس الإفراد بالحج ليعتمروا في غير أشهره فلا يزال البيت الحرام مقصودا إلى أضعاف أضعاف ذلك من سياسته التي ساسوا بها الأمة وهي بتأويل القرآن وسنته. وتقسيم الناس الحكم إلى شرعية وسياسية كتقسيم من قسم الطريقة إلى شريعة وحقيقة وذلك تقسيم باطل فالحقيقة نوعان: حقيقة: هي حق صحيح فهي لب الشرعية لا قسيمتها، وحقيقة باطلة فهي مضادة للشريعة كمضادة الضلال للهدى. وكذلك السياسة نوعان: سياسة عادلة فهي جزء من الشريعة وقسم من أقسامها لا قسيمتها، وسياسة باطلة فهي مضادة للشريعة مضادة الظلم للعدل. ونظير هذا تقسيم بعض الناس الكلام في الدين إلى الشرع والعقل هو تقسيم باطل بل المعقول قسمان: قسم يوافق ما جاء به الرسول فهو معقول وإنما هي خيلات وشبه باطلة لظن صاحبه أنه معقولات وإنما هي خيالات وشبهات قسم يخالفه هي خيالات وشبه باطلة لظن صاحبها أنها معقولات وإنما هي خيالات وشبهات وكذلك القياس

والشرع فالقياس الصحيح هو معقول النصوص والقياس الباطل المخالف للنصوص مضاد للشرع فهذا الفصل هو فرق ما بين ورثه الأنبياء وغيرهم وأصله مبني على حرف واحد وهو عموم رسالته بالسنة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم التي بها صلاحهم في معاشهم ومعادهم وأنه لا حاجة إلى أحد سواه البتة وإنما حاجتنا إلى من يبلغنا عنه ما جاء به فمن لم يستقر هذا في قلبه لم يرسخ قدمه في الإيمان بالرسول بل يجب الإيمان بعموم رسالته في ذلك كما يجب الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المكلفين فكما لا يخرج أحد من الناس عن رسالته البتة فكذلك لا يخرج حق من العلم به والعمل عما جاء به فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجة بالأمة إلى سواه وإنما يحتاج إلى غيره من قبل نصيبه من معرفته وفهمه فبحسب قلة نصيبه من ذلك تكون حاجته وإلا فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر للأمة منه علما وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقعود والأكل والشرب والركوب والنزول ووصف لهم وآداب العرش والكرسي والملائكة والجنة والنار ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي عين وعرفهم بربهم ومعبودهم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه بما وصفه لهم به من صفات كماله ونعوت جلاله وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى لهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبي لأمته قبله، وعرفهم من أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما جلى لهم ذلك حتى كأنهم يعاينوه، وكذلك عرفهم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع طوائف أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه إلى كلام أحد من الناس البتة، وكذلك عرفهم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق الظفر به ما لو علموه وفعلوه لم يقم لهم عدوا أبدا، وكذلك عرفهم من مكائد إبليس طرقه التي يأتيهم منها ويحترزون به من كيده ومكره وما يدفعون

به شره مالا مزيد عليه وبذلك أرشدهم في معاشهم إلى ما لو فعلوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة وبالجملة فقد جاءهم رسول الله بخير الدنيا والآخرة بحذافيره ولم يجعل الله بهم حاجة إلى أحد سواه ولهذا ختم الله به ديوان النبوة فلم يجعل بعده رسولا لاستغناء الأمة به عمن سواه فكيف يظن أن شريعته الكاملة المكملة محتاجة إلى سياسة خارجه عنها أو إلى حقيقة خارجه عنها أو إلى قياس خارج عنها أو إلى معقول خارج عنها فمن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وكيف يشفى ما في الصدور كتاب لا يفي بعشر معشار ما الناس محتاجون إليه على زعمهم الباطل. ويا لله العجب كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين واستخراج هذه الآراء والمقاييس والأقوال أهل كانوا مهتدين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك حتى جاء المتأخرون أعلم منهم وأهدي منهم هذا ما لا يظنه من به رمق من عقل أو حياء نعوذ بالله من الخذلان ولكن من أوتي فهما في الكتاب وأحاديث الرسول استغنى بهما عن غيرهما بحسب ما أوتيه من الفهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وهذا الفصل لو بسط كما ينبغي لقام منه عدة أسفار ولكن هذه لفظات تشير إلى ما وراءها.

فائدة: قال ابن عقيل: "يحرم خلوه النساء بالخصيان والمجبوبين إذ غاية ما تجد فيهم عدم العضو أو ضعفه ولا يمنع ذلك لإمكان الاستمتاع بحسبهم من القبلة واللمس والاعتناق والخصي يقرع قرع الفحل والمجبوب يساحق ومعلوم أن النساء لو عرض فيهن حب السحاق ومنعنا خلوة بعضهن ببعض فأولى أن يمنع خلوة من هو في الأصل على شهوته للنساء. فائدة: عزى بعض العلماء رجلا بطفلة فقال له: "قد دخل بعضك الجنة فاجتهد أن لا تتخلف بقيتك عنها". قلت: وفي جواز هذه الشهادة ما فيها فإنا وإن لم نشك أن أطفال المؤمنين في الجنة لا نشهد به لمعين أنه فيها كما نشهد لعموم المؤمنين بالجنة ولا نشهد بها لمعين سوى من شهد له النص، وعلى هذا يحمل حديث عائشة رضي الله عنها وقد شهدت للطفل من الأنصار بأنه عصفور من عصافير الجنة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك.." وهكذا نقول لهذا المعزي وما يدريك أن بعض المعزي دخل الجنة. وسر المسألة الفرق بين المعين والمطلق في الأطفال والبالغين والله أعلم.

فائدة: قوله في حديث الجمعة: " وطويت الصحف " أي صحف الفضل فأما صحف الفرض فإنها لا تطوى لأن الفرض يسقط بعد ذلك. فائدة: عن أحمد في الصيد إذا أوجبه والشاة إذا ذبحها ثم سقطت في ماء هل تباح؟ على روايتين وسئل بعض أصحابنا عن هؤلاء الشوائين يذبحون الدجاج ويرمون به في ماء السمط وهو يضطرب فخرجه على هاتين الروايتين وصحح الإباحة قال لأن ذلك الاضطراب ليس له حكم الحياة. فائدة: استدل على تفضيل النكاح على التخلي لنوافل العبادة بأن الله تعالى عز وجل اختار النكاح لأنبيائه ورسله فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} وقال في حق آدم: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} واقتطع من زمن كليمة عشر سنين في رعاية الغنم مهر الزوجة ومعلوم مقدار هذه السنين العشر في نوافل العبادات واختار لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأشياء فلم يحب له

ترك النكاح بل زوجة بتسع فما فوقهن ولا هدي فوقه هدية ولو لم يكن فيه إلا سرور النبي صلى الله عليه وسلم يوم المباهاة بأمته ولو لم يكن فيه إلا أنه بصدد أنه لا ينقطع عمله بموته ولو لم يكن فيه إلا أنه يخرج من صلبه من يشهد بالله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة ولو لم يكن فيه إلا غض بصره وإحصان فرجه عن التفاته إلى ما حرم الله تعالى ولو لم يكن فيه إلا تحصين امرأة يعفها الله به ويثيبه على قضاء وطره ووطرها فهو في لذاته وصحائف حسناته تتزايد ولو لم يكن فيه إلا ما يثاب عليه من نفقته على امرأته وكسوتها ومسكنها ورفع اللقمة إلى فيها ولو لم يكن فيه إلا تكثير الإسلام وأهله وغيظ أعداء الإسلام ولو لم يكن فيه إلا ما يترتب عليه من العبادات التي لا تحصل للمتخلي للنوافل ولو لم يكن فيه إلا تعديل قوته الشهوانية الصارفة له عن تعلق قلبه بما هو أنفع له في دينه ودنياه فإن تعلق القلب بالشهوة أو مجاهدته عليها تصده عن تعلقه بما هو أنفع له فإن الهمة متي انصرفت إلى شيء انصرفت عن غيره ولو لم يكن فيه إلا تعرضه لبنات إذا صبر عليهن وأحسن إليهن كن له سترا من النار ولو لم يكن فيه إلا أنه إذا قدم له فرطين لم يبلغا الحنث أدخله الله بهما الجنة ولو لم يكن فيه إلا استجلابه عون الله له فإن في الحديث المرفوع "ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والمجاهد". فائدة: استدل على وجوب الجماعة بأن الجمع بين الصلاتين شرع في المطر لأجل تحصيل الجماعة مع أن إحدى الصلاتين قد وقعت خارج الوقت، والوقت واجب فلم لم تكن الجماعة واجبة لما ترك لها الوقت الواجب. اعترض على ذلك بأن

الواجب قد يسقط لغير الواجب بك لغير المستحب فإن شطر الصلاة يسقط لسفر الفرجة والتجارة ويسقط غسل الرجلين لأجل لبس الخف وغايته أن يكون مباحا. وهذا الاعتراض فاسد فإن فرض المسافر ركعتين قلم يسقط الواجب لغير الواجب وأيضا فإنه لا محذور في سقوط الواجب لأجل المباح وليس الكلام في ذلك وإنما المستحيل أن يراعى في العبادة أمر مستحب يتضمن فوات الواجب فهذا هو الذي لا عهد لنا في الشريعة بمثله البتة، وبذلك خرج الجواب عن سقوط غسل الرجلين لأجل الخف. واستدل على وجوبها بان الله تعالى أمر بها في صلاة الخوف التي هي محل التخفيف وسقوط ما لا يسقط في غيرها واحتمال ما لا يحتمل في غيرها فما الظن بصلاة الآمن المقيم. فاعترض على ذلك بأن المقصود الاجتماع في صلاة الخوف فقصد اجتماع المسلمين وإظهار طاعتهم وتعظيم شعار دينهم ولا سيما حيث كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان المقصود أن يظهروا للعدو طاعة المسلمين له وتعظيمهم لشأنه حتى أنهم في حال الخوف الذي لا يبقى أحد مع أحد يتبعونه ولا يتفرقون عنه ولا يفارقونه بحال وهذا كما جرى لهم في عمرة القضاء معه حتى قال عروة بن مسعود: "لقد وفدت على الملوك كسرى وقيصر فلم أر ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم محمدا أصحابه" والذي يدل على هذا أنا رأينا الجماعة تسقط عند المطر الذي يبل النعال فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي "ألا صلوا في رحالكم " والجمعة تسقط بخشية فوات الخبز الذي في التنور مع كون الجماعة شرطا فيها وتسقط خشية مصادفة غريم يؤذيه ومعلوم أن عذر الحرب ومواقفة الكفار أعظم من هذا كله ومع هذا فأقيم شعارها في تلك الحال فدل على أن المقصود ما ذكرنا. قلت ونحن لا ننكر أن هذا مقصود أيضا مضموم إلى مقصود الجماعة فلا منافاة بينه وبين وجوب الجماعة بل إذا كان هذا أمرا مطلوبا فهو من أدل الدلائل على وجوب الجماعة في تلك الحال ومع أن هذا مقصود أيضا في اجتماع المسلمين في الصلاة وراء إمامهم وأسباب العبادات التي شرعت

تلك العبادات بل تلك العبادات تستقر وتدوم وإن زالت أسباب مشروعيتها وهذا كالرمل في الطواف والسعي بين الصفا والمروة. ونظير هذا اعتراضهم على أحاديث الأمر بفسخ الحج إلى العمرة بأن المقصود بها الإعلام بجواز العمرة في أشهر الحج مخالفة للكفار فقيل لهم وهذا من أدل الدلائل على استحبابه ودوام مشروعيته فإن ما شرع من المناسك قصدا لمخالفة الكفار فإنه دائم المشروعية إلى يوم القيامة كالوقوف بعرفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم ووقف بها وكانوا يقفون بمزدلفة فقال خالف هدينا هدي المشركين وكالدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس فإنهم كانوا لا يدفعون منها حتى تشرق الشمس فقصد مخالفتهم وصارت سنة إلى يوم القيامة وهذه قاعدة من قواعد الشرع أن الأحكام المشروعة لهذه الأسباب في الأصل لا يشترط في ثبوتها قيام تلك الأسباب فلو كان ما ذكرتم من الأسباب في كون الجماعة مأمورا بها في صلاة الخوف هو الواقع لم يلزم منه سقوط الأمر بها عند زوال تلك الأسباب وفتح هذا الباب يفضي إلى إسقاط كثير من السنن وذلك باطل. فائدة: الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل إذا حرر محل التفضيل صار وفاقا فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح وكم من عاملين أحدهما أكثر عملا بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرها واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة أفضل فإنها

بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير إخواتها، وإن أريد السيادة ففاطمة سيدة نساء الأمة وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل. وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل ولم يوازن بينهما فيبخس الحق وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصيب وهوي لمن يفضله تكلم بالجهل والظلم مسائل متنوعة في التفضيل. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل فأجاب فيها بالتفصيل الشافي فمنها: أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر أو العكس؟ فأجاب بما يشفي الصدور فقال: "أفضلهما أتقاهما لله تعالى فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة". ومنها أنه سئل عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟ فقال: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة" وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة وفيهما يوم عرفة ويوم النحر ويوم التروية وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها وفيها ليلة خير من ألف شهر فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة. ومنها أنه سئل عن ليلة القدر وليلة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل؟ فأجاب بأن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة فحظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حظه من ليلة القدر وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج وإن كان لهم فيها أعظم حظ لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إنما حصلت فيها لمن أسرى به". ومنها أنه سئل عن يوم الجمعة ويوم النحر؟ فقال: "يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ويوم النحر أفضل أيام العام وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه. ومنها أنه سئل عن خديجة وعائشة أمي المؤمنين أيهما أفضل؟ فأجاب بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول

الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به غيرها فتأمل هذا الجواب الذي لو جئت بغيره من التفضيل مطلقا لم تخلص من المعارضة. ومنها أنه سئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية والملائكة أفضل باعتبار البداية فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عما يلابسه بنو آدم مستغرقون في عبادة الرب ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة". وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه فعلى المتكلم في هذا الباب أن يعرف أسباب الفضل: أولا: ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض والموازنة بينها. ثانيا: ثم نسبتها إلى من قامت به. ثالثا: كثرة وقوة ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها. رابعا: قرب صفة هي كمال لشخص وليست كمالا لغيره بل كمال غيره بسواها فكمال خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه وكمال أبي ذر بزهده وتجرده عن الدنيا. فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص وأبعد من الهوى والغرض وههنا نكتة خفية لا ينتبه لها إلا من بصره الله وهي أن كثيرا ممن يتكلم في التفضيل يستشعر نسيته وتعلقه بمن يفضله ولو على بعد ثم يأخذ في تقريظه وتفضيله وتكون تلك النسبة والتعلق مهيجة له على التفضيل والمبالغة فيه واستقصاء محاسن المفضل والإعضاء عما سواها ويكون نظره في المفضل عليه بالعكس. ومن تأمل كلام أكثر الناس في هذا الباب رأى غالبه غير سالم من هذا وهذا مناف لطريقة العلم والعدل التي لا يقبل الله سواها ولا يرضي غيرها ومن هذا تفضيل كثير من أصحاب المذاهب والطرائق واتباع الشيوخ كل منهم

لمذهبه وطريقته أو شيخه وكذلك الأنساب والقبائل والمدائن والحرف والصناعات فإن كان الرجل ممن لا يشك في علمه وورعه خيف عليه من جهة أخرى وهو أنه يشهد حظه نفعه المتعلق بتلك الجهة ويغيب عن نفع غيره بسواها لأن نفعه مشاهد له أقرب إليه من علمه بنفع غيره فيفضل ما كان نفعه وحظه من جهته باعتبار شهوده ذلك وغيبته عن سواه فهذه نكت جامعة مختصرة إذا تأملها المنصف عظم أنتفاعه بها واستقام له نظره ومناظرته والله الموفق فائدة: اختلف ابن قتيبة وابن الأنباري في السمع والبصر أيهما أفضل، ففضل ابن قتيبة السمع ووافقه طائفة واحتج بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} قال: "فلما قرن بذهاب السمع ذهاب العقل ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر كان دليلا على أن السمع أفضل" قال ابن الأنباري: "هذا غلط وكيف يكون السمع أفضل وبالبصر يكون الإقبال والإدبار والقرب إلى النجاة والبعد من الهلاك وبه جمال الوجه وبذهابه شينة، وفي الحديث: "من ذهبت كريمتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة ". وأجاب عما ذكره ابن قتيبة بأن الذي نفاه الله تعالى مع السمع بمنزلة الذي نفاه عن البصر إذا كأنه أراد إبصار القلوب ولم يرد إبصار العيون والذي يبصره القلب هو الذي يعقله لأنها نزلت في قوم من اليهود كانوا يستمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيقفون على صحته ثم يكذبونه فأنزل في الله فيهم {أفأنت تسمع الصم} أي المعرضين ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك بعين نقص أفأنت تهدي العمي أي المعرضين ولو كانوا لا يبصرون قال:

"ولا حجة في تقديم السمع على البصر هنا فقد أخبر في قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} . قلت: واحتج مفضلو السمع بأن به ينال غاية السعادة من سمع كلام الله وسماع كلام رسوله قالوا وبه حصلت العلوم النافعة قالوا وبه يدرك الحاضر والغائب والمحسوس والمعقول فلا نسبة لمدرك البصر إلى مدرك السمع قالوا ولهذا يكون فاقده أقل علما من فاقد البصر بل قد يكون فاقد البصر أحد العلماء الكبار بخلاف فاقد صفة السمع فإنه لم يعهد من هذا الجنس عالم البتة. قال مفضلو البصر أفضل النعيم النظر إلى الرب تعالى وهو يكون بالبصر والذي يراه البصر لا يقبل الغلط بخلاف ما يسمع فإنه يقع فيه الغلط والكذب والوهم فمدرك البصر أتم وأكمل. قالوا وأيضا فمحله أحسن وأكمل وأعظم عجائب من محل السمع وذلك لشرفه وفضله قال شيخنا: "والتحقيق أن السمع له مزية والبصر له مزية فمزية السمع العموم والشمول ومزية البصر كمال الإدراك وتمامه فالسمع أعم وأشمل والبصر أتم وأكمل فهذا أفضل من جهة شمول إدراكه وعمومه وهذا أفضل من جهة كمال إدراكه وتمامه". فائدة: إذا تزوجها على خمر أو خنزير صح النكاح واستحقت مهر المثل ولو خالعها على خمر أو خنزير صح الخلع ولم تستحق عليه شيئا في أحد القولين والفرق بينهما عند بعض الأصحاب أن البضع متقوم في دخوله إلى ملك الزوج ولا يتقوم في خروجه عن ملكه أما تقومه داخلا فلتعلق أحكام المقومات به من استقرار المهر بالدخول ووجوب المهر بوطء الشبهة ولهذا يزوج الأب ابنه الصغير ولا يخلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها ولا فرق بينهما إلا أن الابن حصل في ملكه

ما له قيمة والبنت أخرج ما لها في مقابلة ما لا قيمة له في خروجه إليها ولو كان خروج البضع من ملك الزوج متقوما لكان قد بذل ما لها فيما له قيمة وذلك لا يمتنع ويدل عليه أنه لو طلق زوجته في مرض موته لم يعتبر من الثلث ولو كان بخروج البضع قيمة لاعتبر من الثلث وأيضا لو خالعها في مرض موته بدون مهر مثلها صح الخلع ولو كان خروجه متقوما لكان بمثابة ما لو باع سلعة بدون ثمنها فإنه محاباة محسوبة من الثلث ويدل عليه أيضا أنه يطلق عليه القاضي في الإيلاء والعنت والإعسار بالنفقة وغير ذلك مجانا ولا عهد لنا في الشريعة بمتقوم يخرج عن ملك مالكه قهرا بغير عوض ويدل عليه أنه لو كان بخروجه قيمة لجاز للأب أن يخرجه عن ابنته الصغيرة بشيء من مالها كما يشترى لها عقارا أو غيرها بمالها. قلت: وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية رحمه الله ورضي عنه يضعف هذا القول جدا ويذهب إلى خروج البضع من ملكه متقوم ويحتج عليه بالقرآن قال لأن الله تعالى أمر المسلمين أن يردوا إلى من ذهبت امرأته إلى الكفار مهره إذا أخذوا من الكفار مالا بغنيمة أو غيرها فقال تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} ومعنى (عاقبتم) أصبتم منهم عقبى وهي الغنيمة هذا قول المفسرين والمقصود أنه قال (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) وهو المهر وقال تعالى في هذه القصة: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} فأمر المسلمين أن يسألوا مهور نسائهم ويسأل الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن وأسلمن ولولا أن خروج البضع متقوم لم يكن لأحد الفريقين على الآخر مهرا واختلف أهل العلم في رد مهر من أسلم من النساء إلى أزواجهن في هذه القصة هل كان واجبا أو مندوبا على قولين: أصلهما أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء أم لا؟ والصحيح أن الصلح كان عاما على رد من جاء مسلما مطلقا ولم يكن فيه تخصيص بل وقع بصيغة من المتناولة للرجال والنساء ثم أبطل الله

منه رد النساء وعوض منه رد مهورهن وهذه شبهة من قال إن حكم هذه الآية منسوخ ولم ينسخ منه إلا رد النساء خاصة وكان رد المهور مأمورا به والظاهر أنه كان واجبا لأن الله تعالى قال: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} فثبت أن رد المهور حق لمن يسأله فيجب رده إليه قال الزهري: "ولولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يرد الصداق، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المسلمون بحكم الله تعالى وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله تعالى فيما أمر من رد نفقات المسلمين إليهم فأنزل الله تعالى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فهذا ظاهر القرآن يدل على أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم. قلت ويدل عليه أن الشارع كما جعله متقوما في دخوله فكذلك في خروجه لأنه لم يدخله إلى ملك الزوج إلا بقيمة وحكم الصحابة رضي الله عنهم في المفقود بما حكموا به من رد صداق امرأته إليه بعد دخول الثاني بها دليل على أنه متقوم في خروجه وهذا ثابت عن خمسة من الصحابة منهم عمر وعلي قال أحمد: "أي شيء يذهب من خالفهم فهذا القرآن والسنة وأقوال الخلفاء الراشدين دالة على تقويمه ولو لم يكن له قيمة لما صح بذل نفائس الأموال فيه بل قيمته عند الناس من أغلى القيم ورغبتم فيه من أقوى الرغبات وخروجه عن ملك الرجل من أعظم المغارم حتى يعده غرما أعظم من غرم المال". قلت لشيخنا: لو كان خروجه من ملكه متقوما عليه لكانت المرأة إذا وطئت بشبهة يكون المهر للزوج دونها فحيث كان المهر لها دل على أن الزوج لم يملك البضع وإنما يملك الاستمتاع فإذا خرج البضع عنه لم يخرج عنه شيء كان مالكه فقال لي: "الزوج إنما ملك البضع ليستمتع به ولم يملكه ليعاوض عليه فإذا حصل لها بوطء الشبهة عوض كان لها لأن عقد النكاح لم يقتض ملكش

الزوج المعاوضة عن بضع امرأته فصار ما يحصل لها بجناية الواطىء بمثابة ما يحصل لها بغيره من أروش الجنايات". قلت له: فما تقول في خلع المريض بدون مهر المثل؟ فقال: "هو يملك إخراج البضع مجانا بالطلاق فإذا أخذ منها شيئا فقد زاد الورثة خيرا" قال: "ونحن إنما منعناه من المحاباة فيما ينتقل إلى الورثة لأنه يفوته عليهم وبضع الزوجة لا حق للورثة فيه البتة ولا ينتقل إليهم فإذا أخرجه بدون مهر المثل لم يفوتهم حقا ينتقل إليهم" أنتهي. قلت: وأما منع الأب من خلع ابنته بشيء من مالها فليست مسألة وفاق بل فيها قولان مشهوران ونحن إذا قلنا أن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب وأن له أن يعفو عن صداق ابنته قبل الدخول وهو الصحيح لبضعه عشر دليلا قد ذكرتها في موضع آخر فكذلك خلعها بشيء من مالها بل هو أولى لأنه إذا ملك إسقاط مالها مجانا فلأن يملك إسقاطه ليخلصها من رق الزوج وأسره ويزوجها بمن هو خير لها منه أولى وأحرى. وهذه رواية عن أحمد ذكرها أبو الفرج في مبهجه وغيره واختاره شيخنا. وأما قولكم إنه يخرج من ملكه قهرا بغير عوض فيما إذا طلق عليه الحاكم لإعسار أو عنت أو غيرها فجوابه أن الشارع إنما ملكه البضع بالمعروف وإنما ملكه بحقه فإذا لم يستمتع به بالمعروف الذي هو حقه أخرجه الشارع عنه قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فأوجب الله تعالى الزوج أحد الأمرين إما أن يمسك بمعروف وإما أن يسرح بإحسان فإذا لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان سرح الحاكم عليه قهرا. قلت لشيخنا: فلو قتلت الزوجة لم يجب للزوج المهر على قاتلها مع كونه قد أخرج البضع عن ملكه وفوته إياه فلو كان خروجه متقوما لوجب له على القاتل المهر فقال: "النكاح معقود على مدة الحياة فإذا قتلت زال وقت النكاح وانقضى أمده فلا يجب للزوج شيء بعد ذلك كما لو ماتت" قلت له: فلو أفسد مفسد نكاحها بعد الدخول لاستقر المهر على الزوج ولم يرجع على المفسد فضعف هذا

القول. وقال: عندي أنه يرجع به وهو المنصوص عن أحمد وهو مبنى على هذا الأصل فإذا ثبت أن خروج البضع من ملكه متقوم فله قيمته على من أخرجه من ملكه. قلت: ويرد عليه ما لو أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول فإن مهرها لا يسقط قولا واحدا ولم أسأله عن ذلك وكان يمنع ذلك ويختار سقوط المهر ويثبت الخلاف في المذهب ولا فرق بين ذلك وبين إفساد الأجنبي فطرد قول من طرد هذا الأصل وقال بالتقويم في حال الخروج أن يسقط إذا أفسدته هي ولو قيل إن مهرها لا يسقط بذلك قولا واحدا وإن قلنا بأن خروج البضع متقوم فيجب لها مهرها المسمى في العقد وعليها مهر المثل وقت الإفساد لأن اعتبار خروجه من ملكه حينئذ لكان متوجها ولكن يشكل على هذا أن الله سبحانه وتعالى اعتبر في خروج البضع ما أنفق الزوج وهو المسمى لا مهر المثل وكذلك الصحابة حكموا للمفقود بالمسمى الذي أعطاها لا بمهر المثل فطرد هذه القاعدة أن مهرها يسقط بإفسادها وهو الذي كان شيخنا يذهب إليه. فإن قيل: فما تقولون في شهود الطلاق إذا رجعوا قبل الدخول أو بعده؟ قيل أما قبل الدخول فيلزمه نصف المهر ويرجع به على الشهود وفيها مأخذان: أحدهما: أنه يقوم عليه في دخوله بنصف المهر الذي غرمه فيقوم عليه في خروجه بنظيره، والثاني: أنهم ألجأوه إلى غرمه وكان بصدد السقوط جملة بأن ينسب الزوجة إلى إسقاطه ورجح هذا المأخذ بأنه لو كان الغرم لأجل التقويم للزمهم نصف مهر المثل لأنه هو القيمة لا المسمى وقد تقدم أن الشارع إنما اعتبر تقويمه في الخروج بالمسمى لا بمهر المثل وكذلك خلفاؤه الراشدون. فإن قيل لو كان الغرم لأجل التقويم للزم الشهود جميع المهر لأنهم أخرجوا البضع كله من ملكه قيل هو متقوم عليه بما بذله فلما كان من المبذول نصف المهر كان هو الذي رجع به ولا ريب أن خروج البضع قبل الدخول دون خروجه بعد الدخول فإن المقصود بالنكاح لم يحصل إلا بالدخول فإذا دخل استقر له ملك البضع واستقر عليه الصداق وأما

إذا رجع الشهود بعد الدخول فكذلك يقول يجب عليهم غرم المهر الذي بذله الزوج وهو إحدى الراويتين عن أحمد رضي الله عنه. فإن قيل فما في مقابلة المهر قد استوفاه بوطئه فلم يفت عليه شيء، قيل: ليس كذلك لأنه إنما بذل المهر في مقابلة بضع يسلم له الاستمتاع به فإذا لم يسلم له رجع بما بذله ويدل عليه حكم الله عز وجل في المهاجرات وحكم الصحابة في امرأة المفقود. فإن قيل فما تقولون فيما إذا أفسدت امرأة نكاحه برضاع؟ قيل: إن أفسدته قبل الدخول غرمت نصف المهر وفيه مأخذان: أحدهما: أنها قررته عليه وهذا مأخذ كثير من الأصحاب لظنهم أنه لو كان لأجل التقويم لغرمت كمال المهر بعد الدخول. والثاني: وهو الصحيح أنها إنما غرمت لأنه متقوم في خروجه وقد يقوم بنصف المهر وهو الذي بذله فهو الذي يرجع به وعلى هذا فإذا كان الإفساد بعد الدخول رجع عليها بكمال المهر هذا منصوص الإمام أحمد رحمه الله تعالى وفي رواية أبي القاسم. وقال بعض أصحابه: لا يرجع بشيء والمنصوص هو الأقوى دليلا ومذهبا والله تعالى أعلم. فائدة: إذا خاف على نفسه الهلاك وأبى صاحب الطعام أن يبذله إلا بعقد ربا فهل يباح أخذه منه على هذا الوجه أو يغالبه ويقاتله؟ قال بعض أصحاب أحمد: الربا عقد محظور لا تبيحه الضرورة والمغالبة والمقاتلة للمانع طريق إباحة الشرع فينبغي له أن يغلبه على قدر ما يحتاج إليه ولا يدخل في الربا فإن لم يقدر دخل معه في العقد ملافظة وعزم بقلبه على أن لا يتمم عقد الربا بل إن كان نسيئا عزم على أن يجعل العوض الثابت في الذمة قرضا. ولو قيل إن له أن يظهر معه صورة الربا

ولا يغالبه ولا يقاتله ويكون بمنزلة المكره فيعطيه من عقد الربا صورته لا حقيقتة لكان أقوى من مقاتلة فلو اتفق مثل هذا لامرأة فأبى صاحب الطعام أن يبذله لها إلا بالفخور بها فهل يباح لها ذلك إذا خافت الهلاك؟ قال بعض أصحابنا: لها أن تبذل نفسها ويجرى ذلك مجرى التهديد بقتلها من قادر فإن المنع في هذه الحال قتل ولهذا يجب القود على صاحب الطعام إذا منع المضطر حتى مات. قال: وغاية ما يمكنها مما يبعدها عن الزنا يجب فعله بأن تقول قدم عقد زوجية على أرخص المذاهب ولو بمتعة ولا تمكنه تمكينا بغير عقد رأسا مع إمكان أن يرغب إليه في عقد على قول بعض أهل الإسلام فلو اتفق مثل هذا لصبي صبر لحكم الله ولقائه ولم يجز له التمكين من نفسه بحال لأن الضرر اللاحق له بتمكينه أعظم فسادا من الضرر اللاحق له بفوات الحياة والله أعلم. فائدة: رجل له على ذمي دين فباع الذمي خمرا وقضاه من ثمنه فأبى أن يأخذه قال الإمام أحمد رضي الله عنه: "ليس له إلا أن يأخذه أو يبرئه". فائدة: إذا غصب إنسان مالا وبنى به رباطا أو مسجدا أو قنطرة فهل ينفعه ذلك أو يكون الثواب للمغصوب منه؟ قال ابن عقيل: "لا ثواب على ذلك لواحد منهما أما الغاصب

فعليه العقوبة وجميع تصرفاته في مال الغير آثام متكررة وأما صاحب المال فلا وجه لثوابه لأن ذلك البناء لم يكن له فيه نية ولا حسبة وما لم يكن للمكلف فيه عمل ولا نية فلا يثاب عليه وإنما يطالب غاصبة يوم القيامة فيؤخذ من حسناته بقدر ماله. قلت: في هذا نظر لأن النفع الحاصل للناس متولد من مال هذا وعمل هذا والغاصب وإن عوقب على ظلمه وتعدية واقتص المظلوم من حسناته فما تولد من نفع الناس بعمله له وغصب المال عليه وهو لو غصبه وفسق به لعواقب عقوبتين فإذا غصبه وتصدق به أو بنى به رباطا أو مسجدا أو أفتك به أسيرا فإنه قد عمل خيرا وشرا فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وأما ثواب صاحب المال فإنه وإن لم يقصد ذلك فهو متولد من مال اكتسبه فقد تولد الخير وأيضا فإن أخذ ماله مصيبة فإذا أنفق في خير فقد تولد له من المصيبة خير والمصائب إذا ولدت خيرا لم يعدم صاحب منه ثوابا وكما أن الأعمال إذا ولدت خيرا أثيب عليه وإن لم يقصده فالمصائب إذا ولدت خيرا لم يمنع أن يثاب عليه وإن لم يقصده والله أعلم. فائدة: رجل مات وترك دينا فورثه ولده ولم يستوفه فهل المطالبة به في الآخرة له أو لولده قال بعض أصحاب أحمد: "المطالبة للابن لأن الإرث أنتقل عن الأب إلى الابن فصار الحق له. قلت: وفي هذا نظر وينبغي التفصيل فإذا كان الموروث قد عجز عن استيفائه وتعذر عليه فقد وجب أجره له وله حق المطالبة لا للابن لأن الإرث أنتقل عن الأب إلى يوم القيامة والحقوق الآخروية لا تورث وإن أمكنه

المطالبة به فلم يطالب به حتى مات أنتقل إلى الولد فإذا لم يوفه إياه كان حق المطالبة به للولد. وقد قال بعض الناس: إنه إذا لم يوف الميت ولا وارثه حتى مات الوارث وورثه آخر ثبتت المطالبة لكل واحد منهم، وتضاعفت عليه المطالبة لاستحقاق كل واحد منهم ذلك الحق عليه. فائدة: تأمل سر: {ألم} كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة فالألف إذا بدىء بها أولا كانت همزة وهي أول المخارج من أقصى الصدر واللام من وسط مخارج وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين وترتيب في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية. فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجا فيصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها دار كلام الأمم الأولين والآخرين مع تضمنها سرا عجيبا وهو أن للألف البداية واللام التوسط والميم النهاية فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه فمشتملة على تخليق العالم وغايته وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر فتأمل ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم. وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق والسين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف وتأمل السور التي

اشتملت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف فمن ذلك (ق) والسورة مبنية على الكلمات القافية من ذكر القرآن وذكر الخلق وتكرير القول ومراجعته مرارا والقرب من ابن آدم وتلقي الملكين قول العبد وذكر الرقيب وذكر السائق والقرين والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعيد وذكر المتقين وذكر القلب والقرون والتنقيب في البلاد وذكر القيل مرتين وتشقق الأرض وإلقاء الرواسي فيها وبسوق النخل والرزق وذكر القوم وحقوق الوعيد ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة وسر آخر وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح. وإذا أردت زياة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم أجعل الآلهة لها واحد إلى أخر كلامهم ثم اختصام الخصمين عند داود ثم تخاصم أهل النار ثم اختصم الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفارات ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم ثم خصامة ثانيا في شأن بنيه حلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير (ص) وسورة (ق) غير حرفها وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف والله أعلم. فوائد: من السياسة الشرعية نص عليه الإمام أحمد قال في رواية المروزي

وابن منصور: "المخنث ينفي لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله وإن خاف عليه حبسه". ونقل حنبل عنه "فيمن شرب خمرا في نهار رمضان أو أتى شيئا نحو هذا أقيم عليه الحد وغلط عليه مثل الذي قتل في الحرم دية وثلث". ونقل حرب عنه إذا أتت المرأة تعاقبان وتؤديان وقال أصحاب أحمد: "إذا رأى الإمام تحريق اللوطي بالنار فله ذلك إذا رأى لأن خالد ابن الوليد كتب إلى أبي بكر أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فاستشار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وكان أشدهم قولا فقال: "إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتهم أرى أن يحرقوا بالنار" فأجمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقوا بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقوا ثم حرقهم ابن الزبير ثم حرقهم هشام بن عبد الملك ونص أحمد فيمن طعن في الصحابة على أنه قد وجب على السلطان عقوبته وليس للسلطان أن يعفوا عنه بل يعاقبه ويستتيبه فإن تاب وإلا أعاد عليه العقوبة. فائدة: قال ابن عقيل: "شهد شيخنا ومعلمنا المناظرة أن أبا إسحاق الفيروزبادي لا يخرج شيئا إلى فقير إلا أحضر النية ولا يتكلم في مسألة إلا قدم الاستعانة بالله وإخلاص القصد في نصرة الحق دون التزين والتحسين للخلق ولا صنف مسالة إلا بعد أن صلى ركعات فلا جرم شاع اسمه واشتهرت تصانيفه شرقا وغربا هذه بركات الإخلاص".

فائدة: عوتب ابن عقيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه فقال: "أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلت يده أكان خطأ أم واقعا موقعه؟ قالوا: بلى، قال: فالأب يربي ولده تربية خاصة والسلطان يربي العالم تربية عامة فهو بالإكرام أولى"، ثم قال: "وللحال الحاضرة حكم من لابسها وكيف يطلب من المبتلى بحال ما يطلب من الخالي عنها. فائدة: أورد شيخنا الهراسي سؤالا على القول بكفر تارك الصلاة وزعم أنه لا جواب عنه فقال: "إذا أراد هذا الرجل معاودة الإسلام فبمإذا يسلم فإنه لم يترك كلمة الإسلام؟ فأجابه ابن عقيل بأن قال: إنما كان كفره بترك الصلاة لا بترك الكلمة فهو إذا عاود فعل الصلاة صارت معاودته للصلاة إسلاما فإن الدال على إسلام الكافر الكلمة أو الصلاة". قلت: وهذا الذي ذكره شيخنا يرد عليه في كل من كفر بشيء من الأشياء مع إتيانه بالشهادتين وتلك صور عديدة. فائدة: سأل سائل فقال: إذا كانت الجنة لا موت فيها فكيف يأكلون فيها لحم الطير وهو حيوان قد فارقته الروح؟ فأجيب بأنه يجوز أن لا يكون ميتا. وهذا جواب

في غايه الغثاثة. قال ابن عقيل: "وما الذي أحوجه إلى هذا والجنة دار لا يخلق فيها أذى ولا نصب لا مطلقا بل لا يدخل الدخل إليها ذلك على طريق الإكرام كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} وذلك مشروط بالطاعة فإذا جاز ذلك في حق آدم علم أنه ليس بواجب في حق الطير ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يكون هذا الطائر مشوبا لا عن روح خرجت منه أو عن روح خرجت خارج الجنة وولج الجنة وهو لحم مشوي. قلت: وما الذي أوجب هذا التكلف كله فالجنة دار الخلود لأهلها وسكانها وأما الطير فهو نوع من أنواع الأطعمة التي يحدثها الله لهم شيئا بعد شيء فهو دائم النوع وإن آحاده متصرمة كالفاكهة وغيرها وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن المؤمنين ينحر لهم يوم القيامة ثور الجنة الذي كان يأكل منها فيكون نزلهم" فهذا حيوان قد كان يأكل من الجنة فينحر نزلا لأهلها والله أعلم. فائدة: "الدنيا سجن المؤمن" فيه تفسيران صحيحان: أحدهما: أن المؤمن قيده إيمانه عن المحظورات والكافر مطلق التصرف. الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب فالمؤمن لو كان أنعم الناس فذلك بالأضافه إلى مآله في الجنة كالسجن والكفار عكسه فإنه لو كان أشد الناس بوسا فذلك بالنسبة إلى النار جنته.

فائدة: سأل تلميذ أستاذه أن يمدحه في رقعة إلى رجل ويبالغ في مدحه بما هو فوق رتبته فقال: "لو فعلت ذلك لكنت عند المكتوب إليه إما مقصرا في الفهم حيث أعطيتك فوق حقك أو متهما في الإخبار فأكون كذابا وكلا الأمرين يضرك لأني شاهدك وإذا قدح في الشاهد بطل حق المشهود له". فائدة: قال قائل أراني إذا دعيت باسمي دون لقبي شق ذلك علي جدا بخلاف السلف فإنهم كانوا يدعون بأسمائهم فقيل له هذا لمخالفة العادات لأن أنس النفوس بالعادة طبيعة ثابتة ولأن الاسم عن السلف لم يكن عندهم دالا على قلة رتبة المدعو واليوم صارت المنازل في القلوب تعلم بأمارة الاستدعاء فإذا قصر دل على تقصير رتبته فيقع السخط لما وراء الاستدعاء فلما صارت المخاطبات موازين المقادير شق على المحطوط من رتبته قوة كما يشق عليه فعلا. فائدة: سمع بعض أهل العلم رجلا يدعوا بالعافية فقال له: "يا هذا استعمل الأدوية وادع بالعافية فإن الله تعالى إذا كان قد جعل إلى العافية طريقا وهو التداوي ودعوته

بالعافية ربما كان جوابه قد عافيتك بما جعلته ووضعته سببا للعافية وما هذا إلا بمثابة من بين زرعه وبين الماء ثلمة يدخل منها الماء يسقي زرعه فجعل يصلي ويستسقي لزرعه ويطلب المطر مع قدرته على فتح تلك الثلمة لسقي زرعة فإن ذلك لا يحسن منه شرعا ولا عقلا ولم يكن ذلك إلا لأنه سبق بإعطاء الأسباب فهو إعطاء بأحد الطريقين وله أن يعطي بسبب وبغير سبب وبالسبب ليتبين به ما أفاض من صنعه وما أودع في مخلوقاته من القوى والطبائع والمنافع وإعطاؤه لغير سبب ليتبين للعباد أن القدرة غير مفتقرة إلى واسطة في فعله فإذا دعوته بالعافية فاستنقذ ما أعطاك من العتائد والأرزاق فإن وصلت بها وإلا فاطلب طلب من أفلس من مطلوبه فرغب إلى المعدن كما قال سيد الخلائق: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". قلت: هذا كلام حسن وأكمل منه أن يبذل الأسباب ويسأل سؤال من لم يدل بشيء البتة والناس في هذا المقام أربعة أقسام: - فأعجزهم من لم يبذل السبب ولم يكثر الطلب فذاك أمهن الخلق. - والثاني: مقابلة وهو أحزم الناس من أدلى بالأسباب التي نصبها الله تعالى مفضية إلى المطلوب وسأل سؤال من لم يدل بسبب أصلا بل سؤال مفلس بائس ليس له حيلة ولا وسيلة. - والثالث: من استعمل الأسباب وصرف همته إليها وقصر نظره عليها فهذا وإن كان له حظ مما رتبه الله تعالى عليها لكنه منقوص منقطع نصب الآفات والمعارضات لا يحصل له إلا بعد جهد فإذا حصل فهو وشيك الزوال سريع الانتقال غير معقب له توحيدا ولا معرفة ولا كان سببا لفتح الباب بينه وبين معبوده. - الرابع: مقابلة وهو رجل نبذ الأسباب وراء ظهره وأقبل على الطلب والدعاء والابتهال فهذا يحمد في موضع ويذم في موضع ويشينه الأمر في موضع فيحمد عند كون تلك الأسباب غير مأمور بها إذ فيها مضرة عليه في دينه فإذا تركها وأقبل على السؤال والابتهال والتضرع لله كان محمودا ويذم حيث كانت الأسباب مأمورا بها فتركها وأقبل على الدعاء كمن حصره العدو وأمر بجهاده

فترك جهاده وأقبل على الدعاء والتضرع أن يصرفه الله عنه وكمن جهده العطش وهو قادر على تناول الماء فتركه وأقبل يسأل الله تعالى أن يرويه وكمن أمكنه التداوي الشرعي فتركه وأقبل يسأل العافية ونظائر هذا. ويشتبه الأمر في الأسباب التي لا يتبين له عواقبها وفيها بعض الاشتباه ولها لوازم قد يعجز عنها وقد يتولد عنها ما يعود بنقصان دينه فهذا موضع اشتباه وخطر والحاكم في ذلك كله الأمر فإن خفي فالاستخارة وأمر الله وراء ذلك. فائدة: قال أحمد: "إذا تزوج العبد الحرة عتق نصفه ومعنى هذا أن أولاده يكونون أحرارا وهم فرعه فالأصل عبد وفرعه حر والفرع جزء من الأصل. فائدة: حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء: أحدهما: رد الحق لمخالفته هواك فإنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأسا ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك. والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبدا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ

عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} . فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فليهنه السلامة. فائدة: وقعت حادثة في أيام ابن جرير وهي أن رجلا تزوج امرأة فأحبها حبا شديدا وأبغضته بغضا شديدا فكانت تواجهه بالشتم والدعاء عليه فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا لا تخاطبيني بشيء إلا خاطبتك بمثله فقالت له في الحال: أنت طالق ثلاثا بتاتا، فأبلس الرجل ولم يدر ما يصنع فاستفتى جماعة من الفقهاء فكلهم قال: لا بد أن تطلق فإنه إن أجابها بمثل كلامها طلقت وان لم يجبها حنث وطلقت فإن بر طلقت وإن حنث طلقت. فأرشد به إلى ابن جرير فقال لها: "امض ولا تعاود الأيمان وأقم على زوجتك بعد أن تقول لها: أنت طالق ثلاثا إن أنا طلقتك فتكون قد خاطبتها بمثل خطابها لك فوفيت بيمينك ولم تطلق منك لما وصلت به الطلاق من الشرط" فذكر ذلك لابن عقيل فاستحسنه وقال: "وفيه وجه آخر لم يذكره ابن جرير وهو أنها قالت له: أنت طالق ثلاثا بفتح التاء وهو خطاب تذكير فإذا قال لها أنت بفتح التاء لم يقع به طلاق". قلت: وفيه وجه آخر أحسن من الوجهين وهو جار على أصول المذهب وهو تخصيص اللفظ العام بالنية كما إذا حلف لا يتغدى ونيته غذاء يومه قصر عليه، وإذا حلف لا يكلمه ونيته تخصيص الكلام بما يكرهه لم يحنث إذا كلمه بما يحبه ونظائره كثيرة وعلى هذا فنياط الكلام صريح أو كالصريح في أنه إنما أراد لا تكلم بشتم أو سب أو دعاء أو ما كان من هذا الباب إلا كلمها بمثله ولم يرد أنها قالت له اشتر لي مقنعة أو ثوبا أن يقول لها اشترى لي ثوبا أو مقنعة،

وإذا قالت له لا تشتر لي كذا فإني لا أحبه أن يقول لها مثله هذا مما يقطع أن الحالف لم يرده فإذا لم يخاطبها بمثله لم يحنث وهكذا يقطع بأن هذه الصورة المسؤول عنها لم يردها ولا كان بساط الكلام يقتضيها ولا خطرت بباله وإنما أراد ما كان من الكلام الذي هيج يمينه وبعثه على الحلف ومثل هذا يعتبر عندنا في الأيمان. فائدة: قرأ قارىء {إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإذا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإذا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} وفي الحاضرين أبو الوفاء بن عقيل فقال له قائل: يا سيدي هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بقرنائها بالثواب والعقاب فلم هدم الابنية وسير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وكور الشمس؟ فقال: "إنما بني لهم الدار للسكنى والتمتع وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم من الدار خربها لانتقال الساكن منها فأراد أن يعلمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم وفي إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وبيان المقدرة بعد بيان العزة وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فإذا رأوا آلهتهم قد انهدمت وأن معبوداتهم قد أنتثرت وانفطرت ومحالها قد تشققت، ظهرت فضائحهم وتبين كذبهم وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر له رب يصرفه كيف يشاء تكذيبا لملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدم فكم لله تعالى من حكمة في هدم هذه الدار ودلالة على عظم عزته وقدرته وسلطانه وانفراده بالربوبية وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذعانها لمشيئته فتبارك الله رب العالمين.

فائدة: الدليل على حشر الوحوش وجوه: الأول: قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} . الثاني: قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} . الثالث: حديث مانع صدقه الإبل والبقر والغنم وأنها تجيء يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها وهو متفق على صحته. الرابع: حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شاتين ينتطحان فقال: يا أبا ذر أتدري فيم ينتطحان؟ قال: قلت لا، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما" رواه أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده الخامس: الآثار الواردة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} وأن الله تعالى يجمع الوحوش ثم يقتص من بعضها لبعض ثم يقول لها: كوني ترابا فتكون ترابا فعندها يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} . فائدة: تأمل الحكمة في التشديد في أول التكليف ثم التيسير في أخره بعد توطين النفس على العزم والامتثال فيحصل للعبد الأمران الأجر على عزمه وتوطين نفسه على الامتثال والتيسير والسهولة بما خفف الله عنه. فمن ذلك أمر الله تعالى رسوله بخمسين صلاة ليلة الإسراء ثم خففها وتصدق بجعلها خمسا. ومن ذلك انه أمر أولا بصبر الواحد إلى العشرة ثم خفف عنهم ذلك إلى الاثنين. ومن

ذلك أنه حرم عليهم في الصيام إذا نام أحدهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامع ثم خفف عنهم. ومن ذلك أنه أوجب عليهم تقديم الصدفة بين يدي مناجاة رسوله فلما وطنوا له أنفسهم على ذلك خففه عنهم بإباحة ذلك عنهم إلى الفجر. ومن ذلك تخفيف الاعتداد بالحول بأربعة اشهر وعشرا وهذا كما قد يقع في الابتلاء بالأوامر فقد يقع في الابتلاء بالقضاء والقدر يشدد على العبد أولا ثم يخفف عنه وحكمه تسهيل الثاني بالأول وتلقى الثاني بالرضي وشهود المنة والرحمة. وقد يفعل الملوك ببعض رعاياهم قريبا من هذا فهؤلاء المصادرون يطلب منهم الكثير جدا الذي ربما عجزوا عنه ثم يحطون إلى ما دونه لتطوع لهم أنفسهم بذلة ويسهل عليهم وقد يفعل بعض الحمالين قريبا من هذا فيزيدون على الحمل شيئا لا يحتاجون إليها ثم يحط تلك الأشياء فيسهل حمل الباقي عليهم. والمقصود أن هذا باب من الحكمة خلقا وأمرا ويقع في الأمر والقضاء والقدر أيضا ضد هذا فينقل عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه لئلا يفجأ هذا التشديد بغتة فلا تحمله ولا تنقاد له. وهذا كتدريجهم في الشرائع شيئا بعد شيء دون أن يؤمروا بها كلها وهلة واحدة. وكذلك المحرمات ومن هذا أنهم أمروا بالصلاة أولا ركعتين ركعتين فلما ألفوها زيد فيها ركعتين أخريين في الحضر. ومن هذا أنهم أمروا أولا بالصيام وخيروا فيه بين الصوم عينا وبين التخيير بينه وبين الفدية فلما ألفوه أمروا بالصوم عينا. ومن هذا أنهم أذن لهم بالجهاد أولا من غير أن يوجبه عليهم فلما توطنت عليه نفوسهم وباشروا حسن عاقبته وثمرته أمروا به فرضا. وحكمة هذا التدريج التربية على قبول الأحكام والإذعان لها والانقياد لها شيئا فشيئا وكذلك يقع مثل هذا في قضائه وقدره مقدر على عبده بل لا بد منه اقتضاه حمده وحكمته فيبتليه بالأخف أولا ثم يرقيه إلى ما هو فوقه حتى يستكمل ما كتب عليه منه ولهذا قد يسعى العبد في أول البلاء في دفعه وزواله ولا يزداد إلا شدة لأنه كالمرض في أوله وتزايده فالعاقل يستكين له أولا وينكسر ويذل لربه

ويمد عنقه خاضعا ذليلا لعزته حتى إذا مر به معظمه وغمرته وأذن ليله بالصباح فإذا سعى في زواله ساعدته الأسباب ومن تأمل هذا في الخلق أنتفع به أنتفاعا عظيما ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. فائدة: رجل قالت له زوجته أريد منك أن تطلقني فقال لها إن كنت تريدين أن أطلقك فأنت طالق فهل يقع الطلاق بهذا أو لا بد من إخبارها عن إرادة مستقبلة؟ وقال بعض الفقهاء: "لا بد من إرادة مستقبلة عملا بمقتضى الشرط وأن تأثيره إنما هو في المستقبل". قال بعضهم: "بل تطلق بذلك اكتفاء بدلالة الحال على أنه إنما أراد بذلك أجابتها إلى ما سألته من طلاقها المراد لها فأوقعه معلقا له بإرادتها التي أخبرته بها هذا هو المفهوم من الكلام لا يفهم الناس غيره". وقال ابن عقيل: "ظاهر الكلام ووضعه يدل على إرادة مستقبلة ودلالة الحال تدل على أنه أراد إيقاعه لأجل الإرادة التي أخبرته بها ولم يزد". قلت: وكأنه ترجيح منه للوقوع اكتفاء بدلالة الحال على ما هو المعهود من قواعد المذهب ولفظ الشرط في مثل هذا لا يستلزم الاستقبال وقد جاء مرادا به المشروط المقارن للتعليق وهو كثير في أفصح الكلام كقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وقوله: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} وقول مريم: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} وهو كثير جدا. ولما كان ما يتلو أداة الشرط في هذا لا يراد به المستقبل بل يراد الحال والماضي قال بعض النحاة: إن فيه بمعنى إذا التي تكون للماضي وقال غيره: إنها للتعليل والتحقيق فيها أنها

للشرط على بابها والشرط في ذلك داخل الكون المستمر المطلوب دوامه واستمراره دون تقيده بوقت دون وقت فتأمله. فائدة: استدل على أن النية لا تشترط في طهارة الماء بأن الماء خلق على صفات وطبيعة لا يحتاج في حصول أثرها إلى النية وخلق طهورا وخلق مرويا وخلق مبردا سائلا كل ذلك طبعه ووصفه الذي جعل عليه فكما أنه لا يحتاج إلى النية في حصول الري والتبريد به فكذلك في حصول التطهير يوضحه أنه خلق طاهرا أو طهورا وطاهريته لا تتوقف على نية فكذلك طهوريته. يزيده إيضاحا أن عمله في أقوى الطهارتين وهي طهارة الخبث لا تتوقف على نية فعدم توقف عمله على النية في الطهارة الأخرى أولى وإنما قلنا إنها أقوى الطهارتين لأن سببها وموجبها أمر حسي وخبث مشاهد ولأنه لا بدل لها من التراب فقد ظهرت قوتها حسا وشرعا. يزيده بيانا قوله صلى الله عليه وسلم: "خلق الماء طهورا" صريح في أنه مخلوق على هذه الصفة وطهورا منصوب على الحال أي خلق على هذه الحالة من كونه طهورا وإن كانت حالا لازمة فهي كقولهم: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها فهذه الصفة وهي الطهورية مخلوقة معه نويت أو لم تنو. والاستدلال بهذا قريب من الاستدلال بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} يوضح ذلك أيضا أن النية إن اعتبرت بجريان الماء على الأعضاء فهو حاصل نوى أو لم ينو وإن اعتبر حصول الوضاءة والنظافة فكذلك لا يتوقف حصولها على نية وإن اعتبرت لإزالة الحدث المتعلق بالأعضاء فقد بينا أن الخبث المتعلق بها أقوى من الحدث وزوال هذا الأقوى لا يتوقف على النية فكيف للأضعف. يوضحه أيضا أنا رأينا الشريعة قد قسمت أفعال

المكلفين إلى قسمين: - قسم يحصل مقصوده والمراد منه بنفس وقوعه فلا يعتبر في صحته نية كأداء الديون ورد الأمانات والنفقات الواجبة وإقامة الحدود وإزالة النجاسات وغسل الطيب عن المحرم واعتداد المفارقة وغير ذلك فإن مصالح هذه الأفعال حاصلة بوجودها ناشئة من ذاتها فإذا وجدت حصلت مصالحها فلم تتوقف صحتها على نية. القسم الثاني: ما لا يحصل مراده ومقصوده منه بمجرده بل لا يكفي فيه بمجرد صورته العارية عن النية كالتلفظ بكلمة الإسلام والتلبية في الإحرام وكصورة التيمم والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة والصلاة والاعتكاف والصيام ولما كان إزالة الخبث من القسم الأول اكتفى فيه بصورة الفعل لحصول مقصودة. وقد عللنا أن المراد من الوضوء النظافة والوضاءة وقيام العبد بين يدي الرب تبارك وتعالى على أكمل أحواله مستور العورة متجنبا للنجاسة نظيف الأعضاء وضيئها وهذا حاصل بإتيانه بهذه الأفعال نواها أو لم ينوها. يوضحه أن الوضوء غير مراد لنفسه بل مراد لغيره والمراد لغيره لا يجب أن ينوي لأنه وسيلة وإنما تعتبر النية في المراد لنفسه إذ هو المقصود المراد ولهذا كانت نية قطع المسافة في الحج والجمعة غير واجبة ولا تتوقف الصحة عليها وكذلك نية شراء الماء وشراء العبد في عتق الكفار وشراء الطعام فيها غير واجبة إذ هذه وسائل مرادة لغيرها. وكذلك الوضوء وسيلة تراد للصلاة فهي كطهارة المكان والثياب اعتبار النية في العبادات. يوضحه أن النية لو اعتبرت في الوضوء لاعتبرت في سائر شروط الصلاة كستر العورة وإزالة النجاسة وغيرهما ولا أرى منازعي القوم يتمكنون من الجواب عن هذه الكلمات بجواب شاف هذه أجوبتهم في طريقهم فعليك بمراجعتها ونحن لا ترتضي هذا الرأي ولكن لم نر استدلال منازعتهم وأجوبتهم لهم أقوى من هذه الأدلة وما ذاك لضعف المسألة من جانبهم ولكن لأن الكلام في مسألة النية شديد الارتباط بأعمال القلوب ومعرفة مراتبها وارتباطها بأعمال الجوارح وبنائها عليها وتأثيرها فيها صحة وفسادا وإنما هي الأصل المراد المقصود وأعمال

الجوارح تبع ومكملة ومتممة وأن النية بمنزلة الروح والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث. فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عليها. وكذلك أيضا لا يتحقق الكلام في المسألة إلا بعد معرفة حقيقة النية وهل هي من جنس المعلوم والتصورات أو من جنس الإرادات والعزوم أو حقيقتها مركبة من الأمرين وأما من قبيل انبساطها وانقسامها على حروف معينة لكل حرف منها جزء من أجزاء النية فلم يحصل معنى النية فضلا عن أن يتمكن من رد قول منازعه في اعتبارها. وكذلك من ظن أنها لا تتحقق إلا بجريان ألفاظ من اللسان يخبر بها عنها لم يحصل أيضا معناها فيجب أن نعلم حقيقتها أولا ومنزلتها من أعمال القلوب وأنه مستحيل عليها الانبساط والانقسام وأنه لا مدخل للألفاظ البتة ويفرق بين النية المتعلقة بالمعبود التي هي من لوازم الإسلام وموجباته بل هي روحه وحقيقته التي لا يقبل الله من عامل عملا بدونها البتة وبين النية المتعلقة بنفس العمل التي وقع فيها النزاع في بعض المواضع ثم يعرف ارتباطها بالعمل وكيف قصد به تمييز العبادة عن العادة إذ كانا في الصورة واحدا وإنما يتميزان بالنية فإذا عدمت النية كان العمل عاديا لا عباديا والعادات لا يتقرب بها إلى بارىء البريات وفاطر المخلوقات فإذا عري العمل عن النية كان كالأكل والشرب والنوم الحيواني البهيمي الذي لا يكون عبادة بوجه فضلا أن يؤمر به ويرتب عليه الثواب والعقاب والمدح والذم وما كان هذا سبيله لم يكن من المشروع للتقرب به إلى الرب تبارك وتعالى ولذلك يقصد بها تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض فيميز فرضها عن نفلها ومراتبها بعضها عن بعض وهذه أمور لا تحقق لها إلا بالنية ولا قوام لها بدونها البتة وهي مرادة للشارع بل هي وظائف العبودية فكيف يؤدي وظائف العبودية من لا يخطر بباله التمييز بين العبادات والعادات ولا التمييز بين مراتب تلك الوظائف ومنازلها

من العبودية هذا أمر ممتنع عادة وعقلا وشرعا فالنية هي سر العبودية وروحها ومحلها من العمل محل الروح من الجسد ومحال أن يعتبر في العبودية عمل الأرواح له معه بل هو بمنزلة الجسد الخراب وهذا معنى الأثر المروى موقوفا على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: "لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسبة له". وقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فنهي سبحانه أن يكون أمر عباده بغير العبادة التي قد أخلص عاملها له فيها النية ومعلوم أن إخلاص النية للمعبود أصل لنية أصل العبادة فإذا لم يأمرهم إلا بعمل هو عبادة قد أخلص عاملها النية فيها لربه عز وجل ومعلوم أن النية جزء من العبادة بل هي روح العبادة كما تبين علم أن العمل الذي لم ينو ليس بعبادة ولا مأمور به فلا يكون فاعله متقربا إلى الله تعالى وهذا مما لا يقبل نزاعا. ومن نكت المسألة أن يفرق بين الأفعال التي لا تقع إلا منوية عادة وبين الأفعال التي تقع منوية وغير منوية فالأولى كالوضوء المرتب عضوا بعد عضو فإنه لا يكاد يتصور وقوعه من غير نية فإن علم الفاعل بما يفعله وقصده له هو النية والعاقل المختار لا يفعل فعلا إلا مسبوقا بتصوره وإرادته وذلك حقيقة النية فليست النية أمرا خارجا عن تصور الفاعل وقصده لما يريد أن يفعله وبهذا يعلم غلط من ظن أن الملتفظ مدخلا في تحصيل النية فإن القائل إذا قال نويت صلاة الظهر أو نويت رفع الحدث إما أن يكون مخبرا أو منشأ فإن كان مخبرا فإما أن يكون إخباره لنفسه أو لغيره وكلاهما عبث لا فائدة فيه لأن الإخبار إنما يفيد إذا تضمن تعريف المخبر ما لم يكن عارفا به وهذا محال في إخباره لنفسه وإن كان إخبارا لغيره بالنية فهو عبث محض وهو غير مشروع ولا مفيد وهو بمثابة إخباره له بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجه وزكاته بل بمنزلة إخباره له إيمانه عن حبه وبغضه بل قد يكون في هذا الإخبار فائدة وأما إخبار المأمومين أو الإمام أو غيرهما بالنية فعبث محض ولا يصح أن يكون ذلك إنشاء فإن اللفظ لا ينشىء وجود النية وإنما إنشاؤها

إحضار حقيقتها في القلب لا إنشاء اللفظ الدال عليها. فعلم بهذا أن التلفط بها عبث محض فتأمل هذه النكتة البديعة والمقصود أن مثل هذه الأفعال المرتبة التي لا تقع إلا عن علم وقصد لا تكون إلا منوية وهذا بخلاف الاغتسال مثلا فإنه قد يقع لتنظيف أو تبريد ونحوهما فإن لم يقصد به رفع حدثه لم يكن منويا وكذلك أفعال الصلاة المرتبة التي يتبع بعضها بعضا لا تقع إلا منوية ولو تكلف الرجل أن يصلى أو يتوضأ بغير نية لتعذر عليه ذلك بل يمكن تصوره فيما إذا قصد تعليم غيره ولم يقصد العبادة أو صلى وتوضأ مكرها وأما عاقل مختار عالم بما يفعله يقع فعله وفق قصده فهذا لا يكون إلا منويا، فالنية هي القصد بعينه ولكن بينها وبين القصد فرقان: أحدهما أن القصد معلق بفعل الفاعل نفسه وبفعل غيره والنية لا تتعلق إلا بنفسه فلا يتصور أن ينوى الرجل فعل غيره ويتصور أن يقصده ويريده، الفرق الثاني: أن القصد لا يكون إلا بفعل مقدور يقصده الفاعل وأما النية فينوي الإنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه ولهذا في حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي في ماله ربه ويصل فيه رحمة ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل عند الله وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وأجرهما سواء وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما ذلك شر منزلة عند الله " ثم قال: "وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء". فالنية تتعلق بالمقدور عليه والمعجوز عنه بخلاف القصد والإرادة فإنما لا يتعلقان بالمعجوز عنه لا من فعله ولا من فعل غيره وإذا عرف حقيقة النية ومحلها من الإيمان وشرائعه تبين الكلام في المسألة نفيا وإثباتا بعلم وإنصاف. ولنذكر كلامهم وما فيه من مقبول ومردود فأما قولهم: إن الماء خلق بطبعه مبردا ومرويا وسائلا ومطهرا وحصول هذه الآثار منه لا تفتقر إلى نية إلى آخره. فيقال: إن أردتم بكونه

مطهرا بطبعه أنه منظف لمحل التطهير فمسلم ولكن نزاعنا في أمر وراءه، وإن أردتم أنه يفتتح به الصلاة ويرفع المانع الذي جعله الشارع صادا عن الدخول فيها بطبعه من غير اعتبار نيه فدعوى مجردة لا يمكنهم تصحيحها ألبته بل هي بمثابة قول القائل: استعماله عبادة بمجرد طبعه فحصول التعبد والثواب به لا يحتاج إلى نية وهذا بين البطلان وهذا حرف المسألة وهو أن التعبد به مقصود وهو متوقف على النية والمقدمتان معلومتان مغنيتان عن تقدير. وقد أجابهم بعض الناس بان منع أن يكون في الماء قوة أو طبع وقال هذا مبني على إثبات القوى والطبائع في المخلوقات وأهل الحق ينكرونه. وهذا جواب فاسد يرغب طالب الحق عن مثله وهو باطل طبعا وحسا وشرعا وعقلا وأهل الحق هم المتبعون للحق أين كان والقرآن والسنة مملوءان من إثبات الأسباب والقوى والعقلاء قاطبة على إثباتها سوي طائفة من المتكلمين حملهم المبالغة في إبطال قول القدرة والنفاة على إنكارها جملة. والذي يكشف سر المسألة أن التبريد والري والتنظيف حاصل بالماء ولو لم يرده وحتى لو أراد أن لا يكون وأما التعبد لله بالوضوء فلا يحصل إلا بنية التعبد فقياس أحد الأمرين على الآخر من أفسد القياس فالحاصل بطبع الماء أمر غير التعبد الذي هو مقوم لحقيقة الوضوء الذي لا يكون وضوءا إلا به وبهذا خرج الجواب عن قولهم إن عمله في رفع الخبث لم يتوقف على نية فان لا يتوقف رفعه للحدث أولى فإن رفع الخبث أمر حسي مشاهد لا يستدعي أن يكون رافعة من أهل العبادة بل هو بمنزلة كنس الدار وتنظيف الطرقات وطرح المميتات والخبائث. نوضحه إن زوال النجاسة لا يفتقر إلى فعل من المكلف البتة بل لو أصابها المطر فأزال عينها طهر المحل بخلاف الطهارة من الخبث فإن الله أمر بأفعال متميزة لا يكون المكلف مؤديا ما أمر به إلا بفعلها الاختياري الذي هو مناط التكليف وبهذا خرج الجواب عن قولهم النية إن اعتبرت لجريان الماء على الأعضاء أو لحصول الوضاءة لم يفتقر إلى نية إلى آخره. قولهم: الشريعة قسمت الأفعال إلى قسمين:

قسم يحصل منه مقصوده بمجرد من غير نية، وقسم لا يحصل إلا بالنية فمسلم. قولهم: إن الوضوء من القسم الأول دعوى محل النزاع فلا يقبل قولهم في تقريرها لمقصود الوضاءة أن الوضوء والنظافة وقيام العبد بين يدي ربه على أكمل أحواله. فجوابه أن لله على العبد عبوديتين عبودية باطنة وعبودية ظاهرة فله على قلبه عبودية وعلى لسانه وجوارحه عبودية فقيامه بسورة العبودية الظاهرة مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنة مما لا يقربه إلى ربه ولا يوجب له الثواب وقبول عمله فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر فعمل القلب هو روح العبودية ولبها فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح. والنية هي عمل القلب الذي هو ملك الأعضاء والمقصود بالأمر والنهي فكيف يسقط واجبة ويعتبر واجب رعيته وجنده واتباعه اللاتي إنما شرعت واجباتها لأجله ولأجل صلاحه، وهل هذا إلا عكس القضية وقلب الحقيقة والمقصود بالأعمال كلها ظاهرها وباطنها إنما هو صلاح القلب وكماله وقيامه بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه ومن تمام ذلك قيامه هو وجنوده في حضرة معبوده وربه فإذا بعث جنوده ورعيته وتغيب هو عن الخدمة والعبودية فما أجدر تلك الخدمة بالرد والمقت وهذا مثل في غاية المطابقة. وهل الأعمال الخالية عن عمل القلب إلا بمنزلة حركات العابثين وغايتها أن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب. ولما رأى بعض أرباب القلوب طريقة هؤلاء انحرف عنها إلى أن صرف همه إلى عبودية القلب وعطل عبودية الجوارح وقال: المقصود قيام القلب بحقيقة الخدمة والجوارح تبع. والطائفتان متقابلتان أعظم تقابل هؤلاء لا التفات لهم إلى عبودية جوارحهم ففسدت عبودية قلوبهم وأولئك لا التفات لهم إلى عبودية قلوبهم ففسدت عبودية جوارحهم. والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبودية ظاهرا وباطنا وقدموا قلوبهم في الخدمة وجعلوا الأعضاء تبعا لها فأقاموا الملك وجنوده في خدمة المعبود وهذا هو حقيقة العبودية. ومن المعلوم أن هذا هو مقصود الرب تعالى بإرساله رسله وإنزاله كتبه وشرعه شرائعه فدعوى

المدعي أن المقصود من هذه العبودية حاصل وإن لم يصحبها عبودية القلب من أبطل الدعاوي وأفسدها والله الموفق. ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح فهذه كلمات مختصرة في هذه المسألة لو بسطت لقام منها سفر ضخم وإنما أشير إليها إشارة. وحرف المسألة أن أعمال الجوارح إنما تكون عبادة بالنية والوضوء عبادة في نفسه مقصود مرتب عليه الثواب وعلى تركه العقاب وكما يجب في العبادات إفراد المعبود تعالى عن غيره بالنية والقصد فيكون وحده المقصود المراد فكما أنه يجب في العبادات إفراد المعبود تعالى بها لا سواه فكذلك يجب فيها تمييز العبادة عن العادة ولا يقع التمييز بين النوعين اتحاد صورة العملين إلا بالنية فعمل لا يصحبه إرادة المعبود غير المقبول ولا يعتد به وكذلك عمل لا تصحبه إرادة التعبد له والتقرب إليه غير مقبول ولا معتقد به بل نية التقرب والتعبد جزء من نية الإخلاص ولا قوم لنية الإخلاص للمعبود إلا بنية التعبد فإذا كانت نية الإخلاص شرطا في صحة كل أداء العبادة فاشتراط نية التعبد أولى وأحرى ولا جواب عن هذا البتة إلا بإنكار أن يكون الوضوء عبادة وكذلك يلتحق بإنكار المعلوم من الشرع بالضرورة وهو بمنزلة إنكار كون الصوم والزكاة والحج والجهاد وغيرها عبادات والله الموفق للصواب.

فائدة: ذكر أحمد بن مروان المالكي عن ابن عباس أنه سئل عن ميت مات ولم يوجد له كفن؟ قال: "يكب على وجهه ولا يستقبل بوجهه القبلة" قلت: هذا بعيد الصحة من عبد الله بن عباس بل هو باطل، والصواب أنه يستر بحاجز من تراب ويوضع في لحده على جنبه مستقبل القبلة كما ينام العريان الذي نشر عليه ملاءة أو غيرها وإذا كان عليه حاجز من تراب وهو مستقبل القبلة كان بمنزلة من عليه ثيابه. فائدة وذكر أيضا عن مجاهد قال: "جلست إلى عبد الله بن عمر وهو يصلي فخفف ثم سلم وأقبل إلي ثم قال: إن حقاً عليّ أو سنة إذا جلس الرجل إلى الرجل وهو يصلي التطوع أن يخفف ويقبل إليه" وذكر أيضا عن ابن عباس قال: "ما من يوم إلا ليلته قبله إلا يوم عرفة فإن ليلته بعده". قلت: هذا مما اختلف فيه وحكى عن طائفة أن ليلة اليوم بعده والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله ومنهم من فصل بين الليلة المضافة إلى اليوم كليلة الجمعة والسبت والأحد وسائر الأيام والليلة المضافة إلى مكان أو حال أو فعل كليلة عرفة وليلة النفر ونحو ذلك فالمضافة إلى اليوم قبله والمضافة إلى غيره بعده واحتجوا له بهذا الأثر المروي عن ابن عباس ونقض عليهم بليلة العيد والذي فهمه الناس قديما وحديثا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي" أنها الليلة التي

تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة فإن الناس يسارعون إلى تعظيمها وكثرة التعبد فيها عن سائر الليالي فنهاهم تخصيصها بالقيام كما نهاهم عن تخصيص يومها بالصيام والله أعلم. قال أبو عبد الله الحاكم في كتابه الجامع لذكر أئمة الأمصار المزكين لرواة الأخبار سمعت أبا تراب المذكور يقول: سمعت إبراهيم بن عبد الرحمن بن سهل يقول: سمعت العباس بن محمد الهاشمي يقول: دخل يحيى بن معين مصر فاستقبلته هدايا أبي صالح كاتب الليث وجارية ومائة دينار فقبلها ودخل مصر فلما تأمل حديثه قال: "لا تكتبوا عن أبي صالح" قال الحاكم: "هذه من أجل فضائل يحيى إذ لم يحاب أبا صالح وهو في بلده ونعمته". أنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني ناجدي سمعت علي بن المدني يقول: كان أبو الجعد والد سالم بن أبي الجعد إذا تغذى جمع بنيه فكانوا ستة اثنان مرجئان واثنان شيعيان واثنان خارجيان فكان أبو الجعد يقول: "لقد جمع الله بين أيديكم وفرق بين أهوائكم". قرأت على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي ثنا عبد الله ابن الحسين بن موسى نا عبد الله بن علي بن المديني قال: سمعت أبي يقول: "خمسة أحاديث يروونها ولا أصل لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: "لو صدق السائل ما افلح من رده " وحديث "لا وجع إلا وجع العين ولا غم إلا غم الدين " وحديث "إن الشمس ردت لعلى بن أبي طالب" وحديث "أنا أكرم على الله من أن يدعني تحت الأرض مائتي عام " وحديث " أفطر الحاجم والمحجوم إنهما كانا يغتابان" قال كاتبه: ونظير هذا قول الإمام أحمد: "أربعة أحاديث تدور في الأسواق لا أصل لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذميا فكأنما إذاني " وحديث "من بشرني بخروج إذار ضمنت له على الله الجنة " وحديث " للسائل حق وإن جاء على فرس" وحديث "يوم صومكم يوم نحركم يوم رأس سنتكم". قال الحاكم: سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن إسحاق الثقفي يقول: شاهدت محمد بن إسماعيل البخاري

رحمه الله تعالى ودفع إليه كتابا من محمد ابن كرام يسأله عن أحاديث منها سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص " ومعمر عن الزهري مثله فكتب البخاري رحمه الله تعالى على ظهر كتابه: "من حدث بها استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل سمعت أبا الخير محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت أبا العباس الدغولي يقول: قلت لأبي حاتم الرازي: هل تعرف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه أحمد؟ قال: لا أعلمه، قلت: فهل تعلم في الصحابة رضي الله عنهم من اسمه إسماعيل؟ قال: لا غير الأغر المزني أسيد، قال: لا أعلمه، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أيمن؟ قال: لا أعلم. قلت: أفكان فيهم من اسمه أشعث؟ قال: لا غير أشعت بن قيس الكندي، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أمية؟ قال: صحابي واحد يقال له أمية بن مخشي الخزاعي، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أسلم؟ قال: واحد أسلم أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فهل كان غير أهبان بن صيفي؟ قال: أهبان بن أوس، قلت: فهل كان فيهم أبيض غير ابن حمال؟ فقال: لا أعلمه، قلت: فهل كان فيهم أغر غير الأغر المزني؟ قال: لا أعلمه، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أرقم؟ قال: نعم أرقم بن أبي الأرقم، قلت: فهل كان فيهم من اسمه إبراهيم؟ قال: نعم إبراهيم اسم قديم قد تسمى به رجل قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم المكيون عن عطاء بن إبراهيم عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قابلوا بين النعال". قال كاتبه: وفي كتاب ابن حبان في ترجمة الصحابة أسلم آخر غير أبي رافع قال أسلم بن عبدل لما أسلم أسلمت اليهود بإسلامه لم يزد تم الانتقاء يا جامع المال ما أعددت للحفر ... هل يغفل الزاد من أضحى على سفر أفنيت عمرك في اللذات تطلبها ... واخيبة السعي بل واضيعة العمر قف في ديار بني اللذات معتبرا ... وانظر إليها ولا تسال عن الخبر ففي الذي فعلت أيدي الشتات بهم ... من بعد ألفتهم معنى لمعتبر

قال غيره: قد عرف المنكر واستنكر ... المعروف في أيامنا الصعبة صار أهل العلم في وهدة ... وصار أهل الجهل في رتبة فقلت للأبرار أهل التقى ... والدين لما اشتدت الكربة لا تنكروا أحوالكم قد أتت ... نوبتكم في زمن الغربة وقال غيره: اقنع بأيسر ميسور من الزمن ... واشكر لربك ما أولاك من منن واذكر ملابس من عدن تخص بها ... ذوي التقي واهجروا الأبراد من عدن إن شئت أن تدخل الجنات مجتنبا ... قطوفها فتفوق النار بالجنن وباشر الناس بالمعروف مجتهدا ... وراقب الله في سر وفي علن حديث: روى البيهقي من حديث أبي بكر الحنفي ثنا سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضا فرآه يصلي على وسادة فأخذها فرمى بها فأخذ عودا ليصلي عليه فأخذه فرمى به وقال: صل على الأرض إن استطعت وإلا فأومىء إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك " قال البيهقي: "هذا الحديث يعد في أفراد أبي بكر الحنفي عن الثوري" تم كلامه. وقال ابن أبي حاتم في كتاب العلل: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: إن هذا خطأ إنما هو عن جابر. قوله: "أنه دخل على مريض قيل له" فإن أبا أسامة قد رواه عن الثوري مرفوعا قال: "ليس بشيء هو موقوف" تم كلامه رحمه الله تعالى. ورواه يحيى بن أبي طالب ثنا عبد الوهاب بن عطاء ثنا الثوري فذكره بمثله ورواه البيهقي فهؤلاء ثلاثة رفعوه أبو أسامة وعبد الوهاب بن عطاء وأبو بكر الحنفي فأما أبو أسامة فالعلم المشهور وأما أبو بكر الحنفي من رجال الصحيحين وقواه ووثقه أحمد وأما عبد الوهاب بن عطاء فاحتج به مسلم، والظاهر أن الحديث موقوف كما ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه والله أعلم. والآثار في ذلك معروفة عن

الصحابة كما روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: "إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء ولم يرفع إلى جبهته شيئا" وقد رفعه عبد الله بن عامر الأسلمي عن نافع وقد ضعفه أحمد وأبو زرعة والصواب وقفه. وروى شعبة عن أبي الحق السبيعي عن زيد مولى ابن معاوية عن علقمة قال: "دخلت مع عبد الله بن مسعود على أخيه يعوده وهو مريض فرأى معه مروحة يسجد عليها فانتزعها منه عبد الله وقال: اسجد على الأرض فإن لم تستطع فأومىء إيماء واجعل السجود أخفض من الركوع". وزيد هذا ثقة. حديث قال حنبل: قال أحمد في حديث حجاج المصيصي عن شريك عن إبراهيم بن حزم عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء أتيته بماء فاستنجى ثم مسح بيده على الأرض ثم توضأ " فقال أحمد: "هذا حديث منكر إنما هو عن أبي الأحوص عن عبد الله ولم يرفعه". فائدة: قال بعضهم: قول العامة نسيات ليس بلحن لأن الجوهري حكاه وكأنه جمع نسية بتصغير نسوة. قلت: وعلى هذا فلا يقال إلا على جماعات متعددة منهن لأنه جمع الجمع والعامة تطلقه على الجماعة الواحدة منهن. فائدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنرد فكأنما صيغ يده في لحم خنزير ودمه ". سر هذا التشبيه والله أعلم أن اللاعب بها لما كان مقصوده بلعبه أكل المال بالباطل

الذي هو حرام كحرمة لحم الخنزير وتوصل إليه بالقمار وظن أنه يفيده حل المال كان كالمتوصل إلى أكل لحم الخنزير بذكاته والنبي صلى الله عليه وسلم شبه اللاعب بها بغامس يده في لحم الخنزير ودمه إذ هو مقدمة الأكل كما أن اللعب بها مقدمة أكل المال فإن أكل بها المال كان كأكل لحم الخنزير والتشبه إنما وقع في مقدمة هذا بمقدمة هذا والله أعلم. فائدة: تفسير النبي صلى الله عليه وسلم البقر التي رآها في النوم تنحر بالنفر الذين أصيبوا من أصحابه يوم أحد قيل: وجه هذا التأويل أن البقر والنفر مشتركان في صورة الخط ويمتاز أحدهما عن الآخر بالنقط وهذه جهة من جهات التعبير. وهذا قول فاسد جدا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدرك شيئا من الخط أصلا ولا هذه جهة صحيحة من جهات التأويل فلا يؤل النرد بالبرد ولا الزيد بالزند ولا العين بالغين ولا الحية بالجنة وأمثال ذلك. وقيل وجه الشبة أن البقر معها أسلحتها التي تقاتل بها وهي قرونها وكانت العرب تستعمل الصياصي والقرون في الرماح عند عدم الأسنة وهذا أقرب من الأول ولكنه مشترك بين المسلمين والكفار فإن كل طائفة معها سلاحها. أجود من هذين أن يقال وجه التشبيه أن الأرض لا تعمر ولا تفلح إلا بالبقر فهم عمارة الأرض وبها صلاح العالم وبقاء معيشتهم وقوام أمرهم وهكذا المؤمنون بهم إصلاح الأرض وأهلها وهم زينتها وأنفع أهل الأرض للناس كما أن البقر أنفع الدواب للأرض ومن وجه آخر وهو أن البقر تثير الأرض وتهيئها لقبول البذر وإنباته وهكذا أهل العلم والإيمان يثيرون القلوب ويهيئونها لقبول بذر الهدى فيها ونباته وكماله والله أعلم.

فائدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رأى عيسى رجلا يسرق فقال: سرقت؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت بصري" قيل هو استفهام من المسيح لا أنه إخبار والمعنى: أسرقت فلما حلف له صدقه. ويرد هذا قوله: "وكذبت بصري". وقيل: لما رآه المسيح أخذ المال بصورة السارق فقال: "سرقت؟ " قال: كلا أي ليس بسرقة إما لأنه ماله أو له فيه حق أو لأنه أخذه ليقلبه ويعيده والمسيح عليه السلام أحال على ظاهر ما رأى فلما حلف له قال: "آمنت بالله وكذبت نفسي" في ظني أنها سرقة لا أنه كذب نفسه في أخذه المال عيانا فالتكذيب واقع على الظن لا على العيان وهكذا الرواية "كذبت نفسي" ولا تنافي بينها وبين رواية "وكذبت بصري" لأن البصر ظن أن ذلك الأخذ سرقة فأنا كذبته في ظن أنه رأى سرقة ولعله إنما رأى أخذا ليس بسرقة. وفي الحديث معنى ثالث ولعله أليق به وهو أن المسيح عليه السلام لعظمة وقار الله في قلبه وجلاله ظن أن هذا الحالف بوحدانية الله تعالى صادقا عمله إيمانه بالله على تصديقه وجوز أن يكون بصره قد كذبه وأراه ما لم ير فقال: "آمنت بالله وكذبت بصري" ولا ريب أن البصر يعرض له الغلط ورؤية بعض الأشياء بخلاف ما هي عليه ويخيل ما لا وجود له في الخارج فإذا حكم عليه العقل تبين غلطه والمسيح صلوات الله عليه وسلامه حكم إيمانه على بصره ونسب الغلط إليه والله أعلم.

فائدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أولاد علات " وفي لفظ: "إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ". قال الجوهري: "بنو العلات هم أولاد الرجل من نسوة شتى سميت بذلك لأن الذي تزوجها على أولى كانت قبلها ثم عل من الثانية العلل الشرب الثاني يقال له علل بعد نهل وعله يعله إذا سقاه السقية الثانية". وقال غيره: "سموا بذلك لأنهم أولاد ضرائر والعلات الضرائر. وهذا الثاني أظهر. وأما وجه التسمية فقال جماعة منهم القاضي عياض وغيره: معناه أن الأنبياء مختلفون في أزمانهم وبعضهم بعيد الوقت من بعض فهم أولاد علات إذ لم بجمعهم زمان واحد كما لم يجمع أولاد العلات بطن واحد وعيسى لما كان قريب الزمان من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بينهما نبي كانا كأنهما في زمان واحد فقال: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم عليه السلام قالوا: كيف يا رسول الله؟ فقال: الأنبياء إخوة من علات " الحديث. وفيه وجه آخر أحسن من هذا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه دين الأنبياء الذين اتفقوا عليه من التوحيد وهو عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه بالأب الواحد لاشتراك جميعهم فيه وهو الدين الذي شرعه الله لأنبيائه كلهم فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقال البخاري في صحيحه: "باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد" وذكر هذا الحديث وهذا هو دين الإسلام الذي أخبر الله أنه دين أنبيائه ورسله من أولهم نوح إلى خاتمهم محمد فهو بمنزلة الأب الواحد وأما شرائع الأعمال والمأمورات فقد تختلف فهي بمنزلة الأمهات الشتى التي كان لقاح تلك الأمهات

من أب واحد كما أن مادة تلك الشرائع المختلفة من دين واحد متفق عليه. فهذا أولى المعنيين بالحديث وليس في تباعد أزمنتهم ما يوجب أن يشبه زمانهم بأمهاتهم ويجعلون مختلفي الأمهات لذلك وكون الأم بمنزلة الشريعة والأب بمنزله الدين وأصالة هذا وتذكيره وفرعية الأم وتأنيثها واتحاد الأب وتعدد الأم ما يدل على أنه معنى الحديث والله أعلم. فائدة: في قوله تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِه} دون بعث بعبده وأرسل به ما يفيد مصأحبته له في مسراه فإن الباء هنا للمصأحبة كالهاء في قوله: هاجر بأهله وسافر بغلامه وليست للتعدية فإن أسرى يتعدى بنفسه يقال سري به وأسراه وهذا لأن ذلك السري كان أعظم أسفاره والسفر يعتمد الصأحب ولهذا كان المسافر يقول: "اللهم أنت الصأحب في السفر". فإن قيل: فهذا المعنى يفهم من الفعل الثلاثي لو قيل سري بعبده فما فائدة الجمع بين الهمزة والباء؟ ففيه أجوبة: أحدها: أنهما بمعنى وأن أسرى لازم كسرى تقول سرى زيد وأسرى بمعنى واحد هذا قول جماعة. الثاني: أن أسرى متعد ومفعوله محذوف أي أسرى بعبده البراق هذا قول أبي القاسم السهيلي وغيره ويشهد للقول الأول قول الصديق أسرينا ليلتنا كلها ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة. الجواب الصحيح أن الثلاثي المتعدي بالباء يفهم منه شيئان: أحدهما: صدور الفعل من فاعله. الثاني: مصأحبته لما دخلت عليه الباء. فإذا قلت سريت بزيد وسافرت به كان قد وجد منك السري والسفر مصأحبا لزيد فيه كما قال: ولقد سريت على الظلام بمعشر ... ومنه الحديث: "أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها "، وأما المتعدي

بالهمزة فيقتضي إيقاع الفعل بالمفعول فقط كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ونظائره فإذا قرن هذا المتعدي بالهمزة أفاد إيقاع الفعل على المفعول مع المصأحبة المفهومة من الباء ولو أتى فيه بالثلاثي فهم منه معنى المشاركة في مصدره وهو ممتنع فتأمله. فائدة: كانت كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاجأة من غير ميعاد ليحمل عنه ألم الانتظار ويفاجأ بالكرامة بغتة، وكرامة موسى بعد أنتظار أربعين ليلة. فائدة: لما سافر موسى إلى الخضر وجد في طريقة مس الجوع والنصب فقال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} فإنه سفر إلى مخلوق. ولما واعده ربه ثلاثين ليلة وأتمها بعشر فلم يأكل فيها لم يجد مس الجوع ولا النصب فإنه سفر إلى ربه تعالى. وهكذا سفر القلب وسيره إلى ربه لا يجد فيه من الشقاء والنصب ما يجده في سفره إلى بعض المخلوقين. فائدة: تسخير البراق لحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة مسيرة شهرين ذهابا وإيابا

أعظم من تسخير الريح لسليمان مسيرة شهرين في يوم واحد ذهابا وإيابا فإن الريح سريعة الحركة طبعها الإسراع بما تحمله وأما البراق فالآية فيه أعظم. فائدة: شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم بتطهير قلبه وحشوه إيمانا وحكمة دليل على أن محل العقل القلب وهو متصل بالدماغ واستدل بعض الفقهاء بغسل قلبه الطست من الذهب على جواز تحلية المصاحف بالذهب والمساجد وهو في غايه البعد فإن ذلك كان قبل النبوة ولم يكن ذلك من ذهب الدنيا وكان كرامة أكرم بها من فعل الملائكة بأمر الله وهم ليسوا داخلين تحت تكاليف البشر. وأبعد منه احتجاج من احتج به على جواز أنتفاع الرجل بالحرير تبعا لامرأته كالفراش واللحاف والمخدة قال: لأن الملك لا حرج عليه والنبي صلى الله عليه وسلم أنتفع بذلك تبعا وقد أبعد هذا القائل النجعة وأتى بغير دليل. فائدة: الفعل إن كان منشأ المفسدة الخالصة أو الراجحة فهو المحرم فإن ضعفت تلك المفسدة فهو المكروه ومراتبه في الكراهة بحسب ضعف المفسدة هذا إذا كان منشأ للمفسدة وأما إن كان مفضيا إليها فإن كان الإفضاء قريبا فهو حرام أيضا كالخلوة بالأجنبية والسفر بها ورؤية محاسنها فهذا القسم يسلب عنه اسم الإباحة وحكمها وإن كان الإفضاء بعيدا جدا لم يسلب اسم الإباحة ولا حكمها كخلوة ذي رحم المحرم بها وسفره معها

وكنظر الخاطب الذي مقصوده الإفضاء إلى المصلحة الراحجة فإن قرب الإفضاء قربا ما فهو الورع وهو في المراتب على قدر قرب الإفضاء وبعده وكلما قرب الإفضاء كان أولى بالكراهة والورع حتى ينتهي إلى درجة التحريم. فائدة: قول الملائكة للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء: "مرحبا به" أصل في استعمال هذه الألفاظ وما ناسبها عند اللقاء نحو (أهلا وسهلا ومرحبا وكرامة وخير مقدم وأيمن مورد) ونحوها ووقع الاقتصار منها على لفظ مرحبا وحدها لاقتضاء الحال لها فإن الترحيب هو السعة وكان قد أفضى إلى واسع الأماكن ولم يطلق فيها سهلا لأن معناه وطئت مكانا سهلا والنبي صلى الله عليه وسلم محمولا إلى السماء. فائدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى: "والله لا أحملكم ولا عندي ما أحملكم عليه" يحتمل وجهين: - أحدهما: أن يكون جملة واحدة والواو واو الحال والمعنى لا أحملكم في حال ليس عندي فيها ما أحملكم عليه، ويؤيد هذا جوابه صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ما أنا حملتكم الله حملكم" وعلى هذا فلا تكون هذه اليمين محتاجة إلى تكفير. - ويحتمل أن تكون جملتين حلف من إحداهما أنه لا يحملهم وأخبر في الثانية أنه ليس عنده ما يحملهم عليه. ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث لما قيل له إنك حملتنا وقد حلفت فقال إني " لا أحلف على يمين فأرى غيرها

خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير". ولمن نصر الاحتمال الأول أن يجيب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن هذا استئناف لقاعدة كان سببها اليمين ليبين فيها للأمة حكم اليمين لا أنه حنث في تلك اليمين وكفرها. والجواب الثاني أن هذا كلام خرج على التقدير أي ولو حنثت لكفرت عن يمين وأتيت الذي هو خير والله أعلم. فائدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم عن يوسف "أوتى شطر الحسن " قالت طائفة المراد منه أن يوسف أوتي شطر الحسن الذي أوتيه محمد فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ الغاية في الحسن ويوسف بلغ شطر تلك الغاية قالوا ويحقق ذلك ما رواه الترمذي من حديث قتادة عن أنس قال: "ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا". والظاهر أن معناه أن يوسف عليه السلام اختص على الناس بشطر الحسن واشترك الناس كلهم في شطره فانفرد عنهم بشطره وحده وهذا ظاهر اللفظ فلمإذا يعدل عنه واللام في الحسن للجنس لا للحسن المعين والمعهود المختص بالنبي صلى الله عليه وسلم أدري ما الذي حملهم علي العدول عن هذا إلى ما ذكروه وحديث أنس لا ينافى هذا بل يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الأنبياء وجها وأحسنهم صوتا ولا يلزم من كونه أحسنهم وجها أن لا يكون يوسف اختص عن الناس بشطر الحسن واشتركوا هم في الشطر الآخر ويكون النبي صلى الله عليه وسلم شارك يوسف فيما اختص به من الشطر وزاد عليه بحسن آخر من الشطر الثاني والله أعلم.

فائدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة " لأن اللعن إساءة بل من أبلغ الإساءة والشفاعة إحسان فالمسيء في هذه الدار باللعن سلبه الله الإحسان في الأخرى بالشفاعة فإن الإنسان إنما يحصد ما يزرع والإساءة مانعة من الشفاعة التي هي إحسان. وأما منع اللعن من الشهادة فإن اللعن عداوة وهي منافية للشهادة ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشفعاء وشفيع الخلائق لكمال إحسانه ورأفته ورحمته بهم. فائدة: السر والله أعلم في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وعمر وعثمان إن عليا لو تولى الخلافة بعد موته لأوشك أن يقول المبطلون إنه ملك ورث ملكه أهل بيته فصان الله منصب رسالته ونبوته عن هذه الشبهة. وتأمل قول هرقل لأبي سفيان: هل كان في آبائه من ملك؟ قال: لا فقال له: "لو كان في آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك آبائه" فصان الله منصبه العلي من شبهة الملك في آبائه وأهل بيته وهذا والله أعلم هو السر في كونه لم يورث هو والأنبياء قطعا لهذه الشبهة لئلا يظن المبطل أن الأنبياء طلبوا جمع الدنيا لأولادهم وورثتهم كما يفعله الإنسان من زهده في نفسه وتوريثه ماله لولده وذريته فصانهم الله عن ذلك ومنعهم من توريث ورثتهم شيئا من المال لئلا تتطرق التهمة إلى حجج الله ورسله فلا يبقى في نبوتهم ورسالتهم شبهة

أصلا ولا يقال فقد وليها علي وأهل بيته لأن الأمر لما سبق أنها ليست بملك موروث وإنما هي خلافة نبوة تستحق بالسبق والتقدم كان علي في وقته هو سابق الأمة وأفضلها ولم يكن فيهم حين وليها أولى بها منه ولا خير منه فلم يحصل لمبطل بذلك شبهة والحمد الله تعالى. فائدة: في شراء رجل مسجد المدينة من اليتيمين وجعلها مسجدا من الفقه دليل على جواز بيع عقار اليتيم وإن لم يكن محتاجا إلى بيعه للنفقة إذا كان في البيع مصلحة للمسلمين عامة لبناء مسجد أو سور أو نحوه. ويؤخذ من ذلك أيضا بيعه إذا عوض عنه بما هو خير له منه. وفي نبش قبور المشركين من الأرض وجعلها مسجدا دليل على طهارة المقبرة فإن الصلاة فيها لم ينه عنها لنجاستها وإنما هو صيانة للتوحيد وسدا لذريعة الشرك بالقبور الذي هو أصل عبادة الأصنام كما قال ابن عباس وغيره. فائدة: في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الدؤلي هاديا في وقت الهجرة وهو كافر دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل والأدوية والكتابة والحساب والعيوب ونحوها ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة ولا يلزم من مجرد كونه كافرا أن لا يوثق به في شيء أصلا فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة.

فائدة: في حديث عبد الله بن جحش "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى يسير يومين وأن عبد الله امتثل أمره ففتح الكتاب بعد اليومين فقرأه.." الحديث. فيه من الفقه: - جواز الشهادة على الكتاب الذي لا يدري ما فيه بل إذا قال: هذا كتاب فاشهد عليّ بما فيه جازت الشهادة وهي مسألة خلاف مشهورة وتسمى شهادة التقليد ويدل عليها أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك والنواحي ولا يقرؤها على من يبعثها معه بل يقول هذا كتابي فأوصله إلى فلان وكذلك عمل به خلفاؤه من بعده. - وفيه جواز تراخي القبول عن الإيجاب فإن في هذا الكتاب "أن اقرأه ولا تكره أحدا فمن أجابك فامض به حتى تنزل نخلة". - وفيه مسألة بديعة وهي جواز العقد والتولية على أمر مجهول حال العقد يتبين في ثاني الحال. فائدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أنشدته قتيلة بنت الحارث شعرها المعروف ترثي به أخاها النضر "لو سمعت هذا قبل قتله لم أقتله" ليس فيه الندم على قتله فإنه لم يقتله إلا بالحق ولكن كان رحيما يقبل الشفاعة ويمنّ على الجاني، فمعناه لو شفعت عندي بما قالت قبل أن اقتله لقبلت شفاعتها وتركته. وقريب من هذا قوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها متعة " ليس فيها ندامة على أفضل مما أتى به من النسك فإن الله لم يكن ليختار له إلا أفضل الأنساك وأعلاها ولكن

كان لمحبة تآلف قلوب أصحابه وموافقتهم وتطييب نفوسهم بأن يفعل كما فعلوا ودّ لو أنه أحل كما أحلّوا ولكن منعه سوق الهدي وعلى هذا فيكون الله تعالى قد اختار له أفضل الأنساك بفعله وأعطاه ما تمناه من موافقة أصحابه وتآلف قلوبهم بنيته ومناه فجمع له بين الأمرين وهذا هو اللائق به صلوات الله تعالى وسلامة عليه. فائدة: استشكل الناس من حديث قتل كعب بن الأشرف استئذان الصحابة أن يقولوا في النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ينافي الإيمان وقد أذن لهم فيه. وأجيب عنه بأجوبة: أحدها: بأن الإكراه على التكلم بكلمة الكفر يخرجها عن كونها كفرا مع طمأنينة القلب وبالإيمان وكعب قد اشتد في أذى المسلمين وبالغ في ذلك فكان يحرّض على قتالهم وكان في قتله خلاص المسلمين من ذلك فكان إكراه الناس على النطق بما نطقوا به ألجأهم إليه فدفعوا عن أنفسهم بألسنتهم مع طمأنينة قلوبهم بالإيمان وليس هذا بقوي. الجواب الثاني: أن ذلك القتل والكلام لم يكن صريحا بما يتضمن كفرا بل تعريضا وتورية فيه مقاصد صحيحة موهمة موافقة في غرضه وهذا قد يجوز في الحرب الذي هو خدعة. الجواب الثالث: إن هذا الكلام والنيل كان بإذنه والحق له وصأحب الحق إذا أذن في حقه لمصلحة شرعية عامة لم يكن ذلك محظورا.

فائدة: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ". احتج به من يقول إن النوافل تلزم بالشروع وأن الشروع فيها جار مجرى التزامها بالنذر فإن الشروع التزام بالفعل، والنذر التزام بالقول، والالتزام بالفعل أقوى لأنه الغاية. وفي الاستدلال بالحديث شيء فإن فيه الإشارة إلى الاختصاص بقوله: "ما ينبغي لنبي" ولم يقل ما ينبغي لأحد ولا ما ينبغي لكم فدل على مخالفة حكم غيره له في هذا وأنه من خواصه ويدل عليه أنه كان إذا عمل عملا أثبته وداوم عليه ولهذا لما قضى سنة الظهر بعد العصر أثبتها وداوم عليها. وقولهم الشروع التزام بالفعل يقال تعنون بالالتزام إيجابه إياه على نفسه أم تعنون به دخوله فيه: الأول: محل النزاع، والثاني: لا يفيد وبه خرج الجواب عن قولكم الالتزام بالفعل أقوى. وسر المسألة أن الشارع في النافلة لم يلتزمها التزام الواجبات بل شرع فيها نية تكميلها فعلها فعل سائر النوافل وأما الناذر لها فنذره قد التزم أداءها كما يؤدي الواجبات فافترقا. فائدة: عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال بعض العلماء بالأخبار أنه استقرى نسله فلا يبلغ أحد منهم الحلم إلا أبخر وأهتم يعرف ذلك فيهم من شؤم الآباء على الابناء. واختلف فيما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من

هذا ونحوه فقيل هو قبل نزول قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وقيل العصمة الموعود بها عصمة النفس من القتل لا عصمته من إذاهم بالكلية بل أبقى الله تعالى لرسوله ثواب ذلك الأذى ولأمته حسن التأسي به إذا أوذي أحدهم نظر إلى ما جرى عليه وصبر وللمؤذين الأشقياء الأخذة الرابية. فائدة: قيل إنما فدا النبي صلى الله عليه وسلم سعدا بأبويه لما ماتا عليه وأما الأبوان المسلمان فلا يجوز أن يفدي بهما ولهذا لا يحتاج إليه فإن التفدية نقلت بالعرف عن وضعها الأول وصارت علامة على الرضى والمحبة وكأنه قال أفعل كذا مغبوطا مرضيا عنك. فائدة: في حديث أبا لبابه لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ارتباطه قال: "لو أتاني لاستغفرت له وإذا فعل فلست أطلقه حتى يطلقه الله" فأنزل الله تعال: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} إلى قوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} فأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا ما يدل على صحة قول المفسرين إن (عسى) من الله واجب. وفيه أن فاطمة جاءت تحله فقال: "لا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال: "فاطمة بضعة مني ". فإن قيل فهل يبر الحالف بمثل هذا لو اتفق اليوم؟ قيل: لا إما لأنه مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن فاطمة بضعة منه قطعا والله أعلم.

فائدة: اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر فمنعه قوم ونقل عن مالك واحتجوا بأنه قيل له: "يا سيدنا قال: إنما السيد الله" وجوزه قوم واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم" وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء السيد أحد ما يضاف الله فلا يقال لتميمي أنه سيد كندة ولا يقال لمالك أنه سيد البشر قال وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم. وفي هذا نظر فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو بمعنى المالك والمولى والرب لا بالمعنى الذي يطلق علي المخلوق والله سبحانه وتعالى أعلم. فائدة: وأخلاق كأخلاق الزجاج ... دققت بها فصارت كالزجاج إلى أن عدن لي علا وماء ... كذلك يكون عاقبة العلاج الأول جمع زج وهو نصل الرمح والثاني القوارير ما أنت أول سار غرة قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن فاربأ بنفسك عني إنني رجل ... مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترنى وقال غيره: إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت ... عن الماء فاشتاقت إليها المناهل تحاما الرزايا كل خف ومنسم ... وتلقى رداهن الذرى والكواهل وترجع أعقاب الرماح سليمة ... وقد حطمت في الدار عين العوامل

من أراد من العمال أن ينظر قدره عند السلطان فلينظر مإذا يوليه. وحدث زيد وما رأى الرسول وكفر ابن أبي وقد صلى معه القبلتين. لما تقدم اختبار الطين المنهبط صعد على النار المرتفعة فكانت الغلبة لآدم في حرب إبليس. سبق العلم بنبوة موسى وإيمان آسية فسبق تابوته إلى بيتها فجاء طفل بلا أم إلى امرأة بلا ولد. يا من هو من جملة عسكر الرسول أيحسن بك كل يوم هزيمة. الحيوانات تذل في طلب القوت والفيل يتملق حتى يأكل. إن كان يوجب صبري رحمتي فرضى ... بسوء حالي وحل للضنا بدني منحتك القلب لا أبغي به ثمنا ... إلا رضاك ووافقري إلى الثمن وقال: أحسن بأطراف النهار صبابة ... وبالليل يدعوني الهوى فأجيب وقال غيره: سأتعب نفسي أو أصادف راحة ... فإن هوان النفس أكرم للنفس يا من هو من أرباب الخبرة هل عرفت قيمة نفسك إنما خلقت الأكوان كلها لك يا من غذي بلبان البر وقلب بأيدي الألطاف كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة صورة وأنت المعنى وصدف وأنت الدر ومخيض وأنت الزبد. منشور اختيارنا لك واضح الخط ولكن استخراجك ضعيف. متى رمت طلبي فاطلبني عندك. ويحك لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي إنما ابعدنا إبليس لأنه لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك فواعجبا كيف صالحته وتركتنا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} . لو كان في قلبك محبة لبان أثرها على جسدك. "عجب ربنا من رجل ثار عن وطائه ولحافه إلى صلاته" تأمل معنى ثار ولم يقل قام لأن القيام قد يقع بفتور فأما الثوران فلا يكون إلا بإسراع. حذرا من فائت ما. أنتفع آدم في بلية وعصى بكمال وعلم ولا رد عنه عز اسجدوا

وإنما خلصة ذل {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} . لما عشقت للبلاء به الشجر تعلقت طلبا للعناق فقيل لها مع الكثافة لا يمكن فرضيت بالتحول والتفت. تلق قلبي فقد أرسلته عجلا ... إلى لقائك والأشواق تقدمه ولا تكلني على بعد الديار إلى ... صبري الضعيف فصبري أنت تعلمه وقال الشاعر: إذا لم يكن بيني وبينك مرسل ... فريح الصبا مني إليك رسول ملؤوا مراكب القلوب متاعا لا ينفق إلا على الملك فلما هبت رياح السحر أقلعت تلك المراكب قطعوا بادية الهوى بأقدام الجد فما كان إلا القليل حتى قدموا من السفر فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح الأبد. فرغ القوم قلوبهم من الشواغل فضربت فيها سرادقات المحبة فأقاموا العيون تحرس تارة وترسق الأرض أخرى. سرادق المحبة لا تضرب إلا في قاع فارغ نزه. فرغ لي بيتا اسكنه أعرف مقدار ما ضاع منك وابك بكاء من يدري مقدار الفائت. لو تخيلت قرب الأحباب لأقمت المآثم على بعدك. لو استنشقت ريح الاسحار لأفاق قلبك المخمور. من استطال الطريق ضعف مشيه. وما أنت بالمشتاق إن قلت بيننا ... طوال الليالي أو بعيد المفاوز أما علمت أن الصادق إذا هم ألقى بين عينيه عزمة. إذا نزل آب في القلب سكن إذار في العين. من قبل فم اللذة لا ينكر عض أسنان الندامة. هان سهر الحراس لما علموا أن أصواتهم بمسع الملك. فيقك قيسي وأنت يماني. إذا كنت كلما لاحت لك شهوة طفيل العرائس فانتظر قبله وضاح اليمن. من لاح له كمال الآخرة هان عليه فراق الدنيا. إذا لاح للباشق الصيد نسي مألوف الكف. يا أقدام الصبر احملى بقي القليل. تذكر حلاوة الوصال يهين عليك مر المجاهدة.

قد علمت أين المنزل فأحد لها تسر. قال أبو يزيد: "ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكى حتى سقتها إليه وهي تضحك". الهمة العلية من استعد صاحبها للقاء الحبيب وقدم التقادم بين يدي الملتقي فاستبشر عند القدوم: {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} . الجنة ترضى منك بأداء الفرائض والنار تندفع عنك بترك المعاصي والمحبة لا تقنع منك إلا ببذل لروح: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} . بدم المحب يباع وصلهم. فمن الذي يبتاع بالثمن. لله ما أحلى زيارة تسعى بها أقدام الرضا على أرض الاشتياق. زرناك شوقا ولو أن النوى بسطت ... فرش الفلا بيننا جمرا لزرناك ما سافر الخليل سفرا ولا سلك طريقا أطيب من الفلاة التي دخلها حين خرج من كفة المنجنيق. رآه جبريل قد ودع بلد العادة فظن ضعف التوكل فعرض عليه زاد "ألك حاجة" فرده بأنفه "أما إليك فلا" لما تكامل وفاؤه ما أمر به جاءته خلعته: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} . قالت لطيف خيال زارها ومضى ... بالله صفة ولا تنقص ولا تزد فقال خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد قالت صدقت الوفا في الحب شيمته ... يا برد ذاك الذي قالت علي كبدي وقال غيره: إن قومي بانوا فرقوا بينه وبيني ... فإذا كنت أنا الرهن فمن يقبض ديني وقال غيره: وكم مغرم بين تلك الخيا ... م تحسبه بعض إطنابها للنفس حظ وعليها حق {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} وإن رأيتم منها فتورا فاضربوها بسوط الهجر في المضاجع {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} ارفقوا بمطايا الأبدان فقد ألفت الترف {وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} " إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ". ولا تحملوا على النفوس فوق الطاقة إلى أن

تتمكن المحبة فلها حينئذ حكمها. شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشوق. من تذكر خنق الفخ هان عليه هجران الحبة. يا معرقلا في شرك الهوى حموة عزم وقد خرقت الشبكة لا بد من نفوذ القدر فاجنح للسلم أي تصرف بقى لك في قلبك وهو بين إصبعين. يا منقطعين عن القوم سيروا في بادية الدجى وافتحوا بوادي الذل فإذا فتح باب للواصلين فدونكم فاهجموا هجوم اللوانين وابسطوا أكف {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} لعل هاتف الرحمة يقول لا تثريب. لله ملك السموات والأرض. واستقرض منك حبة فبخلت بها وخلق سبعة أبحر واستقرض دمعة فقحطت عينك بها. إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور والقلب كعبة وما يرضى المعبود بمزاحمه الأصنام. لذات الدنيا كسوداء وقد غلبت عليك والحور العين يعجبن من سوء اختيارك عليهن غير أن زوبعة الهوى إذا ثارت سفت في عين البصيرة فخفيت الجادة. تدور عينك على المحرمات كأنه قد ضاع منك شيء. وراحل همتك في الهوى ما تحمل لها قتب إن قهر نفسك حب الفاني فذكرها العيش الباقي فإن أبت إلا ببيع الغبن فاحجر عليها حجر السفيه وغط بصر باشقك إلى أن ينسى ما رأى واغسل باطن عينيك بطهور المدامع وكلما تذكرت ما أبصرت فاطرق بدمعة لعل فرط البكاء يدفع فساد البصر فيصلح لرؤية الحبيب. وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتها المدامع وتسمع منها لفظة بعدما جرى ... حديث سواها في خروق المسامع وقال غيره: إذا لم أنل منكم حديثا ونظرة ... إليكم فما نفعى بسمعي وناظري تزينت الجنة للخطاب فجدوا في تحصيل المهور. تعرف رب العزة للمحبين فعملوا على اللقاء وأنت مشغول بالجيف. ما يساوى ربع الدينار خجل الفضيحة فكيف بألم القطع. المعرفة بساط لا يطأ عليه إلا مقرب والمحبة نشيد لا يطرب

عليها إلا محب مغرم والحب غدير في صحراء ليس عليه جادة فلهذا قل وراده. المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبة والتعلق بذكره كهرب الحوت إلى الماء والطفل إلى أمه. وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالسر خاليا لو رأيت المحبين في الدجى تمر عليهم زمر النجوم مر الوصائف إلى أن تقبل هوادج هل من سائل فينثرون عليه الأرواح نثر الفراش على النار. ليس للعابدين مستراح إلا تحت شجرة طوبى ولا للمحبين قرار إلا يوم المزيد فمثل لقلبك الاستراحة تحت شجرة طوبى يهن عليك النصب واستحضر يوم المزيد يهن عليك ما تتحمل من أجله. كنوز الجواهر مودعة في مصر الليل فتتبع آثار المحبين لعلك تظفر بكنز. أنت طفل في حجر العادة مشدود بقماط الهوى فما لك ولمزاحمة الرجال. أين أنت والمحبة وأنت أسير الحبة. تمسكت بالدنيا تمسك الرضيع بالظئر والقوم ما أعاروها الطرف. أف لبدوي لا يطربه ذكر حاجر. انقسم الصالحون عند السباق: فمنهم من أخذه القلق فكان يقول "ويل لي إن لم يغفرها أنا أمضي إلى النار أو يغفر" ومنهم من غلبه عليه الرجاء كبلال الحبشي كانت زوجته تقول: "واحزناه" وهو يقول: "واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه" واها لبلال علم أن الإمام لا ينسى المؤذن. اشتغل به في الحياة يكفك ما بعد الموت. دق كؤوس الرحيل فسار الركب وتأهبوا للمسير وعكمت أحمال الزاد وسار رفقة المجدين وأنت في الرقدة الأولى بعد كيف تطيق السهر مع الشيع أم كيف تزاحم أهل العزائم بمناكب الكسل. هيهات ما وصل القوم إلى المنزل إلا بعد مواصلة السرى ولا عبروا إلى مقر الراحة إلا على جسر التعب. وأطيب الأرض ما للقلب فيه هوى ... سم الخياط مع المحبوب ميدان لو رأيت أهل القبور في وثاق الأسر فلا يستطيعون الحركة إلى نجاة {وَحِيلَ

بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . يا منفقا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه ليس في أعدائك أشد شرا عليك منك. ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه وقال غيره: هذا المحب لديك فانظر هل ترى ... قلبا فإن صادفت قلبا فاعذل غاية العاذل إيصال اللوم إلي الأذن فأما القلب فلا سبيل له إليه. سفر الليل لا يطيقه إلا مضمر المجاعة. تمر النجائب في الأول وحاملات الزاد في الآخر ولو وردت ماء مدين لوجدت عليه أمة من الناس يسقون. إقبال الليل عند المحبين كقميص يوسف في أجفان يعقوب. لو أحببت المخدوم حضر قلبك في خدمته. فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال العروس تلبس عند العرض تحت الثياب شعار الخوف من الرد وفوق الثياب حلة الانكسار وحمرة الخجل تغنيها عن تخمير مستعار لأنها لا تدري على مإذا تقدم فكيف يسكن من لا يعرف العواقب. مداراة قيس ممكن ولكن لا مع ذكر ليلى. انقسم العباد ثلاثة: أقسام: فمنهم من لاحظ الحصاد فزاد في البذر ومنهم من رأى حق المخدوم فقام بأدائه ومنهم من خدم حبا وشوقا فتلذذ بالخدمة وهذه الخدمة لا ثقل لها لان محركها الحب وغيرها ثقيل على البدن. نوق أبدان المحبين لا تحس بالنصب وأسماعها مشغولة بصوت الحادي وقلوبها معلقة بالمنزل. من عبده خوفا أمنه ومن عبده رجاء أعطاه أمله ومن عبده حبا فلا تعلم نفس ما أخفي لها. يراها بعين الشوق قلبي على النوى ... فتحظى ولكن من لعيني برؤياها وهبكم منعتم أن يراها بعينه ... فهل تمنعون القلب أن يتمناها كم دخل المجلس عاص في باطنه باطية خمر فما زالت تعمل فيها حدة شمس التذكير حتى انقلبت خلا فحلت. يكون أجاجا دونكم فإذا أنتهي ... إليكم تلقى نشركم فيطيب

فائدة: حلي الشيء في عيني وحلي في فمي، الحذف بالعصا والخذف بالحصا، حسر عن رأسه وسفر عن وجهه وافتر عن نابه وكشر عن أسنانه وأبدى عن ذراعيه وكشف عن ساقيه، مائدة لما عليها الطعام وخوان لما لا طعام عليه، عرق العظم عليه اللحم وعراق جمعه وبدون اللحم عظم، كأس لما فيه شراب وبدونه زجاجة وإناء وقدح كوز لذي العروة وبدونها كوب، رضاب للريق في الفم فإذا انفصل فبصاق، أريكة السرير عليه قبة وبدونا سرير خدر، للخباء فيه المرأة وبدونها ستر ظعينة للمرأة في الهودج، قلم للمبرى وبدون بريه، أنبوب عهن للصوف المصبوغ وبدون صبغه صوف، وقود للحطب المشتعل نارا وبدونها حطب، ركية للبئر ذي الماء وراوية للإبل، حاملات الماء سجل للدلو فيها الماء فإذا ملئت فهي ذنوب ودلو بدونهما، نفق إذا كان له منفذ وبدونه سرب، نعش للسرير عليه الميت وبدونه سرير، خاتم لذي الفص وبدونه حلقة، رمح لذي الزج وبدونها قناة، لطيمة الإبل التي تحمل الطيب والبز خاصة وحمولة لحاملات الأمتعه وبدنة للمهداة هضبة للحمراء من التلول غيث للمطر في إبانه وإلا فمطر الفرق البغض بين الزوجين خاصة الشيم نظير البرق وحده الناعية الصائحة على الميت خاصة والإباق هرب العبد خاصة القتار ريح الشواء خاصة القذف الشتم بالزنا خاصة لا يؤوبه به وله وأما إليه فمن لحن الخاصة ينفل بالكسر والضم ويفسق مثله آسيتك وواكلتك وآخيتك وحكى أبو عبيد واسيتك بالواو فيهن وليس إذا من لحن الخاصة وله وجه في العربية فإنهم يقولون أواسيه بقلب الهمزة واوا في المستقبل فأعطوها ذلك في الماضي لا يقال أقلبه إلا في موضع واحد قلبت الخبز إذا حان وقت قلبها القوة الماسكة ليس بغلط كما زعم طائفة لأنه قد ورد مسك

ثلاثي تعس بفتح العين ما أعطي أحد النصف فأباه إلا أخذ أقل منه. أعجبني الشيء يراد به معنيان: أحدهما سرني وهو من الإعجاب والثاني بمعنى دعاني إلى التعجب منه فتقول عجب يعجب معدي بالهمزة قال كعب بن زهير لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر فأعجبني هنا من العجب لا من الإعجاب فتقول أعجبني وما أعجبني بالاعتبارين. يتحدر في قراءته يسرع ويهدر يهتاج في قراءته مع علو صوته فيها من قولهم هدر الفحل إذا هاج وهدر الحمام وهدرت الضفادع فليس من لحن العامة إذا حلت الشمس بالشرطين بفتح الشين والراء وضمهما لحن يقال عنيت في كذا فأنا عان فيه وعنيت بالضم بها وعنيت بالفتح أي قصدت تقول عنيت كذا أي قصدته غير معدي بالباء فهذا من القصد وأما من العنا فإنما يقال معنى وأما من العناية فإنما يقال عني به مبني للمفعول فصل: أسماء بعض الرجال وأسماء آبائهم بلال بن حمامة وأبوه رباح ابن أم مكتوم وأبوه عمرو بشر بن الحصاصة وأبوه معبد الحارث بن الرضا وأبوه مالك خفاف بن ندية وأبوه عمير شرحبيل بن حسنة وأبوه مالك مالك بن نميلة وأبوه ثابت معاذ ومعوذ ابني عفرا وأبوهما الحارث يعلى بن منبه وأبوه أمية عبد الله بن بحينة وأبوه مالك. فصل: إسماعيل بن علية وأبوه إبراهيم منصور بن صفية وأبوه عبد الرحمن محمد بن عائشة وأبوه حفص إبراهيم بن هراشة وأبوه سلمة محمد بن عثمة وأبوه خالد.

فصل: عطاء عن أبي هريرة " في كل صلاة قراءة " وعطاء مرفوعا " لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن " فذكر الخلفاء الأربعة وعطاء عنه مرفوعا "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " وعطاء عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وعطاء عنه مرفوعا "إذا مضى ثلث الليل يقول الله تعالى: ألا داع " فالأول ابن أبي رباح والثاني الخراساني والثالث ابن يسار والرابع ابن ميناء والخامس مولى أم صفية. عمرة أنها دخلت مع أمها على عائشة فسألتها ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الفرار من الطاعون؟ قالت: سمعته يقول: "كالفرار من الزحف" وعمرة عن عائشة " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن الوصال". الأولى بنت عبد الرحمن الثانية بنت قيس العدوية الثالثة بنت أرطأة الرابعة يقال لها الصاحية. حماد عن ثابت عن أنس "سمع النبي صلى الله عليه وسلم في النخل صوتا" الحديث حماد عن ثابت عن أنس "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الرحمن صفرة" الحديث حماد عن ثابت عن أنس يرفعه "مثل أمتي كالمطر" الأول ابن سلمة الثاني ابن زيد الثالث الأشج. قتادة يروي عن عكرمة مولي ابن عباس وعن عكرمة بن خالد ضعيف. وكيع يروي عن النضر بن عدي ثقة وعن النضر بن عبد الرحمن ضعيف. حفص ابن غياث يروى عن أشعث بن عبد الرحمن ثقة وعن أشعث بن سوار ضعيف. موسى بن عبيدة الزبدي كان أخوه عبد الله بن عبيدة أسن منه بثمانين سنة، طالب أسن من عقيل بعشر سنين وعقيل أسن من جعفر بعشر وجعفر أسن من علي بعشر. يزيد وزياد ومدرك بنو المهلب بن أبي صفرة ولدوا في عام واحد وقتلوا في عام

واحد وعاش كل منهم ثمانيا وأربعين سنة. أربعة أنفس ولد كل منهم مائة ولد أنس بن مالك وعبد الله بن عمر الليثي وخليفة السعدي وجعفر بن سليمان الهاشمي علي بن الحسين وعلي بن عبد الله بن عباس وعلي بن عبد الله جعفر بنو عم ولكل منهم ابن اسمه محمد والكل أشراف والكل علماء والكل أخيار فصل: الله سبحانه مهد الأرض لآدم وذريته قبل خلقه فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} وقضى أن يعرفه قدر المخالفة وأقام عذره بقوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} وتداركه برحمة بقوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّه} يا آدم لا تجزع من كأس خطا كان سبب كيسك فقد استخرج منك داء العجب وألبسك رداء العبودية "لو لم تذنبوا" لا تحزن بقولي لك {اهْبِطُوا مِنْهَا} فلك خلقتها ولكن اخرج إلى مزرعة المجاهدة واجتهد في البذر واسق شجرة الندم بساقية الدمع فإذا عاد العود أخضر فعد لما كان منصب الخلة وهو منصب لا يقبل المزاحمة بغير المحبوب وأخذ الولد شعبة من شعاب القلب غار الحبيب على خليله أن يسكن غيره في شعبة من شعاب قلبه فأمره بذبحه فلما أسلم للامتثال خرجت تلك المزاحمة وخلصت المحبة لأهلها فجاءته البشرى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ليس المراد أن يعذب ولكن يبتلى ليهذب ليس العجب من أمر الخليل بذبح الولد إنما العجب من مباشرة الذبح بيده ولولا الاستغراق في حب الأمر لما هان مثل هذا المأمور فلذلك جعلت آثارها مثابة للقلوب تحن إليها أعظم من حنين الطيور إلى أوكارها. قول لوط لقومه: {يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} يجمع أنواعا من الاستعطاف: أحدها: خطابهم بخطاب الناصح المشفق بقوله: {يَا قَوْمِ} ولم يقل يا هؤلاء. الثاني: عرضه بناته عليهم بقوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} .

الثالث: تنجيز ذلك بالإشارة بلفظ الحضور. الرابع: ترغيبه فيهن لطهارتهن وطيبهن. الخامس: تذكيرهم بالله تعالى بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} . السادس: المطالبة بحفظ الذمام وترك الأذى بقوله: {وَلا تُخْزُونِ} . السابع: التوبيخ الشديد بقوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} . حكم ومواعظ وعبر: لما تمكن الحسد من قلوب إخوة يوسف عليه السلام أرى المظلوم مآل الظالم في مرآة {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} . شكرك لا يساوي قدر قوتك. لا كانت دابة لا تعمل بعلفها.. متى رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي فاعلم أنه قد مسخ. ومتى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله والاستعداد للقائه وحل فيه حب المخلوق والرضا بالحياة الدنيا والطمأنينة بها فالعلم أنه قد خسف به. ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب وأبعد القلوب من الله القلب القاسي. ومتى رأيت نفسك تهرب من الأنس به إلى الأنس بالخلق ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع الأغيار فاعلم أنك لا تصلح له. ومتى رأيته يستزيد غيرك وأنت لا تطلب ويستدني سواك وأنت لا تقرب. فإن تحركت لك قدم في الزيارة تخلف قلبك في المنزل فاعلم أنه الحجاب والعذاب مزاج الإيمان منحرف عن الصحة ونبض الهوى شديد الخفقان. تحكمت أخلاط الشهوات في أعضاء الكسل فثبطت عن الحركة فتولدت الأمراض المختلفة هذا وما يسهل عليك شرب مسهل فإن تداركت المرض وإلا قتل. لو احتميت ساعة لم تحتج إلى معالجة الدواء مدة. من ركب ظهر التفريط والتواني نزل به دار العسرة والندامة. ربك يحب حياة نفسك وأنت تريد قتلها. يريد بك اليسر وأنت تريد العسر. يريد بها الكرامة وأنت جاهد في إهانتها: ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه من أدلج في غياهب الليل على نجائب الصبر صبح منزل السرور. ومن نام على فراش الكسل أصبح ملقى بوادي الأسف. الجد كله حركة والكسل كله سكون. فتورك عن السعي في طلب الفضائل دليل على تأنيث العزم. إذا أردت أن تعرف الديك من الدجاجة وقت خروجه من البيضة فعلقه بمنقارة فإن تحرك فديك وإلا فدجاجة.

الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج فلذلك عيب عشاقها. ميزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي حلفت لنا أن لا تخون عهودها ... فكأنما حلفت لنا أن لا تفي ما حظي الدينار بنقش اسم الملك فيه حتى صبرت سبيكته على الترداد على النار فنفت عنها كل خبث ثم صبرت علي تقطيعها دنانير ثم صبرت على ضربها على السكة فحينئذ يظهر عليها رقم النقش فكيف يطمع في نقش كتب في قلوبهم الإيمان من كله خبث. مكابدة البادية تهون عند ذكر البيت المضحي بوادي الجوع والمعشي بوادي السهر إلى أن تلوح أعلام المنزل. إذا ونت الركاب في السير فبثوا حداة الغزم في نواحيها يطيب لها السرى. إذا حال غيم الهوى بين القلوب وبين شمس الهدى تحير السالك. الحيوان البهيم يتأمل العواقب وأنت لا ترى إلا الحاضر. ما تكاد تهتم بمؤونة الشتاء حتى يقوى البرد ولا بمؤونه الصيف حتى يقوى الحر والذر يدخر الزاد من الصيف لأيام الشتاء. وهذا الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر فهلا بعثت فراش من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون. وهذا اليربوع لا يتخذ بيتا إلا في موضع صلب ليسلم من الحافز ويكون مرتفعا ليسلم من السيل ويكون عند أكمه أو صخرة لئلا يضل عنه ثم يجعل له أبوابا ويرقق بعضها فلا ينقذه فإذا أتى من باب مفتوح دفع برأسه ما رق من التراب وخرج منه وأنت قد ضيقت على نفسك الخناق فما أبقيت للنجاة موضعا. النفس كالعدو إن عرفت صوله الجد منك استأسرت لك وإن أنست عنك المهانة أسرتك أتمنعها ملذوذ مباحاتها ليقع الصلح على ترك الحرام فإذا احتجت لطلب المباح فإما منا بعد وإما فداء. الدنيا والشيطان عدوان خارجان عنك والنفس عدو بين جنبيك. من سنة الجهاد قاتلوا الذين يلونكم. أليس المبارك بالمحاربة كالكمين الذي يطلع عليك من حيث لا تشعر. أقل ما تفعل النفس معك أنها تمزق العمر بكف

التبذير والبطاله اخل معها في بيت الفكر سويعة ثم انظر هل هي معك أو عليك ثم عاملها بما تعامل به واحدا منهما. من لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه. سينقشع غيم التعب عن فجر الآخرة. كم صبر بشر عن شهوة حتى سمع كل يا من لم يأكل. يامن حسد سجاف نعم العبد على قبة ووهبنا له حتى وصل على قدر إنا وجدناه صابرا. كيف يفلح من يشكو الليل إلى ربه من طول يومه والنهار من قبيح فعله. كيف يفلح من هو جيفة بالليل قطرب بالنهار ينصب بميزان البخس ومكيال التطفيف والقدر ثالثة الأثافي. لو فكر الطائر في الذبح ما حام حول القمح. لولا صبر المضمرات على قلة العلف ما قيل لها سوابق. مما أضر بأهل العشق أنهم ... هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا تفنى نفوسهم شوقا وأعينهم ... في إثر كل قبيح وجهه حسن تحمل حميلكم كل رابحة ... فكل بين على اليوم مؤتمن ما في هوادجكم من مهجتي عوض ... إن مت شوقا ولا فيها لها ثمن سهرت بعد رحيل وحشة لكم ... ثم استمر مريري وارعوى الوسن لا تلق دهرك إلا غير مكترث ... ما دام تصحب فيه روحك البدن فما يديم سرورا قد سررت به ... لا يرد عليك الغائب الحزن إذا لم تكن من أنصار الرسول فتناول الحرب فكن من حراس الخيام فإن لم تفعل فكن من نظارة الحرب الذين يتمنون الظفر للمسلمين ولا تكن الرابعة فتهلك. إذا رأيت الباب مسدودا في وجهك فاقنع بالوقوف خارج الدار مستقبلا الباب سائلا مستعطيا فعسى ولكن لا تول ظهرك وتقول ما حيلتي وقد سد الباب دوني. لما نادي منادي الأفضال {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالهَا} سارت نجائب الأعمال قام الجزاء يصيح بالدليل {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} فقال: " ما منكم من ينجيه عمله ". إن لم تقدر على مشارع أرباب العزائم فرد باقي الحياض. فمن لم يكن

عنده ابن لبون قبلت منه ابنة مخاض. لا تحتقر معصية فكم أحرقت شررة. أما عرفت سر: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . لو قنع آدم لاكتفى ولكن المحنة كانت في الشرة. الخلوة شرك لصيد المؤانسة. أخفى الصيادين شخصا وأقلهم حركة أكثرهم التقاط للصيد. ما صاد هرنوا أي صوت. أبدا نفوس العاشقين ... إلى ربوعكم تحن وكذا القلوب بذكركم ... بعد المخافة تطمئن وقال غيره: طلولي إذا يشكو إليها متيم ... شكا غير ذي نطق إلى غير ذي فهم وقال غيره: وأنما عمر الفتى سوق له ... يصدر عنه غانمأ أو خاسرا قال غيره: تراع إذا الجنائز قابلتنا ... ونلهو حين تخفي ذاهبات كروعة ثلة لظهور ذئب ... فلما غاب عادت راتعات خذ نفسك بالعزائم لا ترخص. حائط الباطن خراب فعلام إذا تجصص. العلم والعمل توأمان أمهما علو الهمة. الجهل والبطالة توأمان أمهما إيثار الكسل. أيها المعلم تثبت على المبتدى وقدر في السر فللعالم رسوخ وللمتعلم قلق. ويا أيها الطالب تواضع في الطلب فإن التراب بيننا هو تحت الأخمص صار طهورا للوجه. تجلى عليك عروس المعرفة ولكن علي غير كفؤ. وإنما يحل النظر إذا كان العقد جائزا. فغض الطرف إنك من نمير. ليس العالم شخصا واحدا العالم عالم تصانيف. العالم أولاده المخلدون دون أولاده. من خلق للعلم شف جوهره من الصغر. طول الشهر مفض إلى طيب المرقد والهوان في ظل الهوينا كامن. وجلالة الأخطار في ركوب الأخطار. مياه المعاني مخزونة في قلب العالم يفتح منها للسقي سيحا بعد سيح ويدخر أصفاها لأهل الصفا فإذا تكاثرت عليه نادى للسبيل فيبقي علمه سيح ولهذا يتضاعف

عليه زكاة الشكر. كل وقت تسافر بضائع فكره من مدينة قلبه إلى قلوب الطالبين فينادي عليها دلال لسانه وهو يعرضها في مواسم النصح على تجار الطلب والإرادة من يشترى حكمه وعلما بتخيير الثمن فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج. كم خاض بحرا ملحا حتى وقع بالعذب وكم تاه في مهمه قفر حتى سمى بالدليل وكم أنض مراكب الجسم وفض شهوات الحس وواصل السرى ليلا ونهارا وأوقد نار الصبر في دياجي الهوى فإن وثقتم بأمانته فهذا تخبير السرى. الدنيا تفوق سهامها نحو بنيها وتقول خذوا حذركم فلهذا دم قتلاها هدر. غاب الهدهد عن سليمان ساعة فتوعده فيا من أطال الغيبة عن ربه هل أمنت غضبه تخلف الثلاثة عن الرسول في غزوة واحدة فجرى لهم ما سمعت فكيف بمن عمره في التخلف عنه. إذا سكر الغراب بشراب الحرص تنقل بالجيف فإذا صحا من خماره ندم على الطلل خالف موسى الخضر في طريق الصحبة ثلاث مرات فحل عقدة الوصال بيد هذا فراق بيني وبينك أفما تخاف يا من لم يف لربه قط أن تقول في بعض زلاتك هذا فراق بيني وبينك. أعظم عذاب أهل جهنم جهلهم بالمعذب. لو صحت معرفتهم بما لمالك هنالك لما استغاثوا بمالك يا مالك. وقع بينهم شخص ليس من الجنس كان في باطنه ذرة من المعرفة فكلما حملت عليه النار اتقاها بدرع يا حنان يا منان. كان موته في المعاصي سكن فقبر في جهنم فلما تحرك الروح في الباطن أخرج من القبر. حرص العصفور يخنقه وقنع العنكبوت في زاوية الضعف يسوق إليها الذباب قوتا لها. رب ساع لقاعد. أرسلت قلبك مع كل مطلوب من الهوى ثم تبعث وراءه وقت الصلاة فربما لا يلقاه الرسول فتصلي بلا قلب. خلفت قلبك في الأظغان إذ نزلت ... بالمازمين غداة النفر بالنفر ورحت تطلب في أرض العراق ضحى ... ما ضاع عند مني فاعجب لذا الخبر لما طرقنا مني كان الفؤاد معي ... فضل عني بين الضال والسمر

بأرجل العيس تنبيك الرمال فما ... أمشي بوجدي غذا إلا على الأثر يا من فقد قلبه لا تيأس من عوده فقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا الهوى قاطن والصواب خاطر وطرد القاطن صعب وإمساك الخاطر أصعب. إنك لم تزل في حبس فأول الحبوس صلب الأب والثاني بطن الأم والثالث القماط والمهد والرابع المكتب والخامس الكد على العيال والسادس مرض الموت والسابع القبر فإن وقعت في الثامن نسيت مرارة كل حبس تقدم. ادخل حبس التقوى باختيارك أياما ليحصل لك الإطلاق على الدوام ولا تؤثر إطلاق نفسك فيما تحب فإنه يؤثر حبس الأبد. العذل على حمل العشق علاوة ومريخ قطب الشم يوجده فروى له خبر التعذيب فعرضا متى تركت المعصية وما حللت عقد الإصرار لم يفد شيئا كما لو سكن المرض من غير استفراغ فإنه على حاله إن لم يتحقق قصد القلب لم يؤثر النطق شيئا. يمين المكره لا تنعقد ويحك نفسك سلعتك وقد استامها المشترى بأفخر الثمن فاجهد في إصلاح عيوبها لعلة يرضي بها. منام المنى أضغاث ورائد الأمال كذوب ومرتع الشهوات وخيم. العجز شريك الحرمان التفريط مصائب الكسل. قفل قلبك رومي ما يقع عليه غش. متى خامر من جنود عزمك عليك واحد لم يأمن قلبك الهزيمة عليه. وإذا كان في الأنابيب خلف وقع الطيش في رؤوس الصعاد. كمن قيما على جوارحك ورعيتك إذا وفيتها الحظوظ فاستوف منها الحقوق. تأمل قوله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} كيف شرك بينهما في الخروج وخص الذكر بالشقاء لاشتغاله بالكسب والمعاش والمرأة في خدرها تزود من الماء القراح فلن يرى ... بوادي الغضا ماء نقاحا ولا بردا فهل من نسيم البان والرند نفحة ... فهيهات واد ينبت البان والرندا وكر إلى نجد بطرفك إنه ... متى تسر لا تنظر عقيقا ولا نجدا

انظر يمنه فهل ترى محنة ثم اعطف يسرة فهل ترى إلا حسرة أم الربع العامر فدرس وأما أسر الممات فغرس وأما الراكب فكبت به الفرس ساروا في ظلم ظلامتهم فما عندهم قبس وقفت بهم سفن نجاتهم لأن البحر يبس وانقلبت تلك الدور كلها في تعس وجاء منكر بآخر سبأ ونكير بأول عبس أفلا يقوم لنجاته من طال ما قد جلس. يا نفس ما هي إلا صبر أيام ... كأن مدتها أضغاث أحلام يا نفس جودي عن الدنيا ولذتها ... وخل عنها فإن العيش قدامي ألا يصبر طائر الهوى عن حبة مجهوله العاقبة وإنما هي ساعة ويصل إلى برج أمنة وكم فيه من حبة. وإن حننت للحمى وروضة ... فبالغضا ماء وروضات أخر حامل الكتب من الطير أقوى عزيمة فلعل وضعك على غير الاعتدال. لا تكون الروح الصافية إلا في بدن معتدل ولا الهمة العالية إلا في نفس نفيسة. إذا حمل الطائر الرسالة صابر العزيمة ولازم بطون الأوديه فإن خفيت عليه الطريق تنسم الرياح وتلمح قرص الشمس وتستر وهو مع شدة جوعه يحذر الحب الملقى خوفا من دفينة فخ توجب تعرقل الجناح ويضيع ما حمل فإذا بلغ الرسالة اطلق نفسه في أغراضها داخل البرج. فيا حاملي كتب الأمانه أكثركم على غير الجادة وما يستدل منكم من قد راقه الحب فنزل بما حمل فارتهن وربح فيسلم تعرقل جناحه وينتظر الذبح فلا الحبة حصلت ولا الرسالة وصلت. قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح فلا في الليل نالت ما تمنت ... ولا في الصبح كان لها سراح لو صابرتم مشقة الطريق لانتهي السفر فتوطنتم مستريحين في جنات عدن يا مهملين النظر في العواقب أسلفوا في وقت الرخص فما يؤمن تغير الأسعار لا ترم بسهام النظر فإنها والله فيك تقع رب راع مقلة أهملها فأغير على السرح.

كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فعلت قلب ناظرها ... فعل السهام بلا قوس ولا وتر وقال غيره: وأرى السهام نام من يرمي بها ... فعلام سهم للخط يصمى من رمي اعرف قدر لطفه بل وحفظه لك. إنما نهاك عن المعاصي حماية لك وصيانة لك لا بخلا منه عليك وإنما أمرك بالطاعة رحمة وإحسانا. لا حاجة منه إليك لما عرفته بالعقل حرم ما يزيله وهو الخمر صيانة لبيت المعرفة. يا متناولا للمسكر لا تفعل يكفيك سكر جهلك فلا تجمع بين سكرين. سلعة وإني لغفار لا تبذل إلا بثمن لمن تاب. يا خارجا من سبيلة وأمن عن سكة وعمل صالحا. من داري ضرب ثم اهتدى إن لم تقدر على الجد في العمل فقف على باب الطلب. تعرض لنفحة من نفحات الرب ففي لحظة أفلح السجرة. لا تجزعن من كل خطب عرى ... ولا ترى الأعداء ما يشمت واصبر فبالصبر تنال المنى ... إذا لقيتم فئة فاثبتوا ثمن المعالي الجد والفتور داء أمر من السلوة. أفي عينيك آيات وآثار إذا ما برد القلب فما تسخنه النار. الوجود بحر والعلماء جواهره والزهاد عنبره والتجار حيتانه والأشرار تماسيحه والجهال على ظهره كالزبد. لو كشفت لك الدنيا ما تحت نقابها لرأيت المعشوقة عجوزا وما ترضى إلا بقتل عشاقها وكم تدللت عليهم بالنشوز إذاقتهم برد كانون الأماني وإذا هم في وسط تموز. تطلب مشاركة الغانمين وما شهدت الحرب تحل الغنيمة لمن شهد الوقعة. البلايا تظهر جواهر الرجال وما أسرع ما يفتضح المدعي. تنام عيناك وتشكو الهوى ... لو كنت صبا لم تكن هكذا يا مؤثرا ما يفنى على ما يبقى هذا رأي هواك فهلا استشرت العقل لتعلم أنصحهما لك. لا تحقرن يسير المعصية كالعشب الضعيف يفتل منه حبال تجر السفن. أو

ما نفذت في سد سبأ حيلة جرد العمر ثوب غير مكفوف وكل نفس خيط يسل منه. أنت أجير وعليك عمل فأخر ثياب الراحة إلى انقضاء العمل. كم غرقت سفينة في بحر شوق ساروا وما يسألون ما فعل الفجر ولا كيف مالت الشهب عودهم هجرهم مطالبة الراحات أن يظفروا بما طلبوا. الشجاع يلبس القلب على الدرع والجبان يلبس الدرع علىالقلب. أعظم البلايا تردد الركب إلى بلد الحبيب يودعون الدمن. ومعال لو ادعاها سواهم ... لزمته جناية السراق نالوا السماء وحطوا من نفوسهم ... إن الكرام إذا انحطوا فقد صعدوا لو صدق عزمك قذفتك ديار الكسل إلى بيداء الطلب. الناقد يخاف دخول المبهرج عليه واختلاطه بماله والبهرج آفته. هذا الصديق يمسك بلسانه ويقول هذا أوردني الموارد. وعمر يناشد حذيفة هل أنا منهم والمخلط على بساط الأمن. إذا جن الليل وقع الحرب بين النوم والسهر فكان الشوق والخوف في مقدمة عسكر اليقظة وصار الكسل والتواني في كتيبة الغفلة فإذا حمل الغريم حملة صادقة هزم جنود الفتور والنوم فحصل الظفر والغنيمة فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان وما عند النائمين خبر. قام المتهجدون على اقدام الجد تحت ستر الدجى يبكون على زمن ضاع في غير الوصال. ما زالت مطايا السهر تذرع بيداء الدجى وعيون آمالها لا ترى إلا المنزل وحادى العزم يقول: يا رفقة الليل طاب السير فاغتنموا ... المسرى فمن نام طول الليل لم يصل إلى أن هب نسيم السحر فقام الصادح يبغي ظلام الليل فلما هم بالرحيل تشبث القوم بأذياله يبكون على فراق المحبوب فلما طلع الفجر حدا حاديهم. عند الصباح يحمد القوم السرى. يا من يستعظم أحوال القوم تنقل في المراقي تصل. من جمع بين العلم بالسنة ومتابعتها أنتحاله المعاني البديعة فهي تنادي على رؤوس الأشهاد ولدت من نكاح لا من سفاح ومن قرن بين البدعة والهوى أنتحاله ضروب الهذيان فهي تنادي على رؤوس الأشهاد أيها الفطن لا تغتر إذا فتحت الوردة عينها فرأت الشوك حولها فلتصبر على

مجاورته قليلا فوحدها تقصد وتقبل وتشم إذا تكلم من يريد الدنيا بكلامه فإنه كلما حفر في قليب قلبه وأمعن في الاستنباط انهار عليه تراب الطمع فطمه إذا رأيت سربال الدنيا قد تقلص عنك فاعلم أنه لطف بك لأن المنعم لم يقبضه بخلا أن يتمزق ولكن رفقا بالساعي أن يتعثر فتش على القلب الضائع قبل الشروع فحضور القلب أول منزل من منازل الصلاة فإذا نزلته أنتقلت إلى بادية المعنى فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة فكان أول قرى ضيف اليقظة كشف الحجاب لعين القلب فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية بعد. إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم أخرج عليهن استغرقت إحساس الناظرات فقطعن أيديهن وما شعرن فكيف بالحال يوم المزيد. لو أحببت العبود لحضر قلبك في عبادته قيل لعامر بن عبد القيس أما تسهو في صلاتك قال أو حديث أحب إلى من القرآن حتى استغل به. وكان مسلم بن يسار لا يلتفت في صلاته حتى انهدمت ناحية من نواحي المسجد فزع لها أهل السوق فما التفت وكان إذا دخل منزله سكت أهل بيته فإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا علما منهم بالغيبة. وقيل لبعضهم إنا لنوسوس في صلاتنا قال بأي شيء بالجنة أو الحور العين والقيامة قالوا لا بل بالدنيا فقال لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من ذلك تقف في صلاتك بجسدك وقد وجهت وجهك إلى القبلة ووجهت قلبك إلى قطر آخر ويحك ما تصلح هذه الصلاة مهرا للجنة فكيف تصلح ثمنا للمحبة.. رأت فأرة جملا فأعجبها فجرت خطامه فتبعها فلما وصلت إلى باب بيتها وقف فنادى بلسان الحال إما أن تتخذي دارا تليق بمحبوبك أو محبوبا يليق بدارك وهكذا أنت إما أن تصلي صلاة تليق بمعبودك وإما أن تتخذ معبودا يليق بصلاتك. تعاهد قلبك فإن رأيت الهوى قد أمال أحد الحملين فاجعل في الجانب الآخر ذكر الجنة والنار ليعتدل الحمل فإن غلبك الهوى فاستعنت بصأحب القلب يعينك على الحمل فإن تأخرت الأجابة فابعث رائد الانكسار خلفها تجده عند المنكسرة قلوبهم اللطف مع الضعف أكثر

فتضاعف ما أمكنك. لما كانت الدجاجة لا تحنو على الولد اخرج كاسبا. لما كانت النملة ضعيفة البصر أعينت بقوة الشم فهي تجد ريح المطعوم من البعد. ولما كانت الخلد عمياء ألهمت وقت الحاجة إلى القوت أن تفتح الذباب فيسقط فيه فتناول منه حاجتها. الأطيار تترنم طول النهار فقيل للضفدع ما لك لا تنطقين فقالت مع صوت المزمار يستبشع صوتي ولكن الليل أجمل بي. لا تنس العناية بالسحرة جاءوا يحاربونه ويحاربون رسله وخلع الصلح قد فصلت وتيجان الرضى قد وضعت وشراب الوصال مروق فمدوا أيديهم إلى ما اعتصروا من خمر الهوى فإذا بها قد انقلبت خلا فأقطروا عليه فسكروا بشراب المحبة فلما عربدت عليهم المحبة صلبوا في جذوع النخل. واعجبا لعزمات ما ثناها لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف. سجدوا له سجدة واحدة فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا منازلهم من الجنة فغلبهم الوجد وتمكن منهم الشوق فقالوا اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. تمر الصبا بساكن ذي الغضا ... ويصدع قلبي أن يهب هبوبها قريبة عهد بالحبيب وإنما ... هوى كل نفس أين حل حبيبها قطعت نياق جدهم بادية الليل ولم تجد مس التعب فالطريق إلى المحبوب لا تطول. بعيد على كسلان أو ذي ملالة ... وأما علي المشتاق فهو قريب يا حاضرين معنا بنية النزهة لستم معنا عودوا إلى أوكار الكسل فالحرب طعن وضرب ويا مودعين ارجعوا فقد عبرنا العذيب وعن قريب تأتيكم أخبارنا بعد قليل ويا أيها الحادث عرس بالخيف من منى تعلمك الدموع كيف ترمى حصا الجمار. ضيف المحبة ما له قرى إلا المهج. إذا رأيت محبا ولم تدر لمن وضع يدك على نبضه وسم له من تطبه به فإن النبض ينزعج عند ذكره. المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم. حر الخوف صيف الذوبان وبرودة الرجاء

شتاء العطلة ومن لطف به فزمانه كله فصل الربيع. عين تسر إذا رأتك وأختها ... تبكى لطول تباعد وفراق فاحفظ لواحدة دوام سرورها ... وعد التي أبكيتها بتلاق إذا رزقت يقظة فصنها في بيت عزلة فإن أيدي المعاشرة نهاية واحذر معاشرة البطالين فإن الطبع لص لا تصادقن فاسقا ولا تثق إليه فإن من خان اول منعم عليه لا يفى لك. يا فرح التوبة لازم ذكر الخلوة فإن هر الهوي صيود. إياك والتقرب من طرف الوكر والخروج من بيت العزلة حتى تتكامل نيات الحوافي وإلا كنت رزق الصائد. الأنس بالخلوة دبق أول ما يعلق جناج الطير والمخالطة توجب التخليط وأيسرها تشتيت الهمة وضعف العزيمة أقل ما في سقوط الذئب في غنم ... إن لم يصب بعضها أن تنفر الغنم إن لم تكن من جملة المستحقين للميراث فكن من رفقة إذا حضر القسمة أولوا القربى ويحك لا تحقر نفسك فالتائب حبيب والمنكر صحيح. إقرارك بالإفلاس عين الغنى. تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة. اعترافك بالخطأ نفس الإصابة عرضت سلعة العبودية في سوق البيع فبذلت الملائكة نقد ونحن تسبح بحمدك فقال آدم ما عندي إلا فلوس الإفلاس نقشها ربنا ظلمنا أنفسنا فقيل هذا الذي ينفق على خزانة الخاص. أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين. إن كان يأجوج الطبع ومأجوج الهوى قد كانوا في أرض القلوب فأفسدوا فيها فأعينوا الملك بقوة يجعل بينكم وبينهم ردما. أجمعوا له من العزائم ما يشابه زبر الحديد ثم تفكروا فيما أسلفتم ليثور صعد الأسف فلا يحتاج إلى أن يقول لكم انفخوا. شدوا بنيان العزم بهجر المألوفات والعوائد وقد استحكم البناء فحينئذ أفرغوا عليه قطر الصبر وهكذا بنى الأولياء قبلكم فجاء العدو فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ضاقت أيام الموسم فأسرعوا بالإبل لا تفتكم الوقفة. لا تحد وما لك بعير. لا تمد القوس وما لها وتر كم بذل

نفسه مراء ليمدحه الخلق فذهبت نفسه فانقلب المدح ذما. ولو بذلها لله لبقيت ما بقى الدهر. عمل الرائي بصلة كلها قشور المرائي يحشو جراب الزوادة رملا يثقله في الطريق وما ينفعه. ريح الرياء جيفه تجافاها مشام القلوب لما أخذ دود القز ينسج أقبلت العنكبوت تشبهه وقالت لك نسج ولي نسج فقالت دودة القز ولكن نسيجي أردية الملوك ونسجك شبكة الذباب وعند مس الحاجة يتبين الفرق إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكا ممن تباكا شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنه وشجرة الدباء تصعد في أسبوعين فتقول للصنوبرة إن الطريق التي قطعتها في ثلاثين سنة قطعتها في أسبوعين ويقال لي شجرة ولك شجرة فقالت لها الصنوبرة مهلا حتى تهب رياح الخريف فإن ثبت لها تم فخرك. كان التصوف والفقر في مواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب كان خرقة فصار حرفه. غير زيك أيها المرائي فإنه يصبح بك خذوني. السيف والدرع لتزين هيئتك فضيحة البهرج تبين عند المحك. لو أبصرت طلائع الصديقين في أوائل الركب أو سمعت استغاثة المحبين في وسط الركب أو شاهدت ساقة المستغفرين في آخر الركب لعلمت انك قد انقطعت تحت شجر أم غيلان. واحسرتا لمنقطع دون الركب يعد المنازل. أعد الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا إلام الرواح في الهوى والتفليس وحتام السعي في صحبة إبليس وكم بهرجة في العمل وتدليس. أين أقرنك هل تسمع لهم من حسيس أعلمت أنهم اشتد ندمهم وحسرتهم على إيثار الخسيس تالله لقد ودوا أن لو كانوا طلقوا الدنيا قبل المسيس. عين المنية تغضي غير مطرقة ... وطرف مطلوبها مذ كان وسنان جهلا تمكن منه حين مولده ... فالنطق صاح ولب المرء سكران

لا تنفع الرياضة إلا في نجيب. لو سقى الحنظل بماء السكر لم يخرج إلا مرا. شجر الأثل والصفصاف والحور ونحوها ولو دام الماء في عروقها لا تثمر أبدا سحاب الهوى قد طبق بيداء الأكوان وأمطر مشارق الأرض ومغربها ولكن قيعان أرض قلبك قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ومع هذا فلا تيأس فقد يستحيل الخمر خلا ولكن إنما ذلك لطيب العنصر. خلا الفكر في القلب في بيت التلاوة فجرى ذكر الحبيب وأوصافه فنهض الشوق على قدم السعي يا من لم يشاهد جمال يوسف لم يعرف ما الذي ألم قلب يعقوب. من لم يبت والحب حشوة فؤاده ... لم يدر كيف تفتت ألأكباد يا من هبت على قلبه جنوب المجانبة فتكاثفت عليه غيوم الغفلة فأظلم أفق المعرفة لا تيأس فالشمس تحت الغيم. لو تصاعد منك نفس أسف استحالت شمالا فتقطع السحاب فبانت الشمس تحته. لما كان رزق الطائر اختلاسا لم يجعل له أسنان لأن زمن الانتهاب لا يحتمل المضغ وجعل له حوصلة كالمخلاة ينقل إليها ما يسلب ثم تنقله إلى القاضة في زمن الإمكان فإن كانت له أفراخ أسهمهم قبل النقل. كلما طالت ساق الحيوان طال عنقه ليمكنه تناول الأطعمة من الأرض. رميت صخرة الهوى على ينبوع الفطنة فاحتبس الماء فإن لم تطق رفعها فانقب حولها لعل ينابيع الماء تنفجر. لو بعت لحظة من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قارون لكنت مغبونا في العقد. عشاق الدنيا بين مقتول ومأسور فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر. يا طالبي العلم قد كتبتم ودرستم فلو طلبكم العلم في بيت العمل فلستم وإن ناقشكم على الإخلاص أفلستم. شجرة الإخلاص أصلها ثابت لا يضرها زعازع أين شركائي الذي كنتم تزعمون وأما شجرة الدباء فإنها تجتث عند نسمة من كان يعبد شيئا فليتبعه. رياء المرائين صير مسجد الضرار مزبلة وخربة لا تقم فيه أبدا وإخلاص المخلصين رفع قدر التفث. رب أشعث أغبر قلب من ترائيه بيد من أعرضت عنه يصرفه عنك غلى غيرك فلا على ثواب المخلصين

حصلت ولا إلى ما قصدته بالرياء وصلت وفات الأجر والمدح فلا هذا ولا هذا. لا تنقش على الدرهم الزائف اسم الملك فإنه لا يدخل الخزانة إلا بعد النقد. المخلص يتبهرج على الخلق بستر حاله وببهرجته يصح له النقد والمرائي يتبرطل على باب الملك يوهم أنه من الخواص وهو غريب فسله عن أسرار الملك يفتضح فإن خفي عليك فانظر حاله مع خاصة الملك. يا من لم يصبر عن الهوى صبر يوسف يتعين عليه بكاء يعقوب فإن لم يطق فذل إخواته يوم تصدق علينا. إذا طاب لبث الطين على الأنهار تكامل ربه فإذا نضب عنه الماء استلبت الشمس ما فيه من الرطوبة فيشتد شوقه إلى الماء فلو وضعت منه قطعة على لسانك لأمسكه وعلق به شوقا إلى الورد فيا من نضب ماء معاملته هل أحسست بالعطش وقالوا: يعود الماء في البئر بعدما ... كانت بالحجاز لنا ليال ... نهبناهن من أيدي الزمان ولا تنصب خيامك في محل ... فإن النازلين على ارتحال مداراة الضعفاء باللطف فإذا قووا شدد عليهم. مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم على تركها لعشر. كان الإسلام في بدايته كالنطفة فاقتنع بكلمة التوحيد فلما نفخ فيه الروح احتاج إلى الغذاء ففرضت الصلاة فلما تحرك وجبت الهجرة فلما اشتد وجبت الزكاة فلما قربت الولادة لزم الحج فلما ظهر طفلا حبا بلطف يريد الله بكم اليسر فلما خاف من الزلل والعقاب جاءت بشارة لا تقنطوا فلما ترعرع قال المؤدب من يعمل سوءا يجز به فلما بلغ أشده واستوى جاء ويحذركم الله نفسه. المتعبدون بالليل يقربون إلى نوق الأبدان خيط الرقاد فإذا تناولت سد الفاقة رفعت رؤوسها فإذا الدليل على الجادة فتأخذ في السير. من النجوم الجواري مؤذن ومنها مقيم فأرباب العزائم يؤذن في محلتهم بليل ويقام لهم أول الوقت ومن دونهم يصلون في أول الوقت وأهل الفتور في آخرة. إذا هجمت جنود الرقاد على العيون صاح حارس اليقظة بالمتعبدين الصلاة خير من النوم وهتف رقيب المعاتبة كذب من ادعى محبتي حتى إذا جنة الليل نام عني فيصيح المشتاق

سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان ثم تمر بالمجتهدين سيارة النجوم فيبعثون مع كل فيج رسالة فتسلم أخباره إلى ركب السحر فتهب لمجيئها رياح الأسحار فيقول المنتظر إني لأجد ريح يوسف. سبحان من أنعم على الموجودات بإيجادها من غير طلب فلما وجدت بسطت اكف السؤال لطلب تكميلها فالأجنة في بطون الأمهات تطلب تكميل الخلق والبذر تحت التراب يطلب قوته من الري ومخ الثمار ينتظر من فضله كمال نضجه ومراكب البحار تحريكها بالرياح وأصحاب البضائع ينتظرون وجود الأرباح عليهم وطلاب العلم يسالون فتح منغلق الفهم وأهل المجاهدة يرومون المعاونة على الطبع والمظلوم يترقب طلوع فجر النصر والمريض يتململ بين يديه طلبا للطفه والمكروب ينتظر كشف ما به والخائف يترقب بريد الأمن والأبدان المتمزقة في اللحود تنتظر جمع الشمل بعد الشتات وعرائس الجنان يسألن سلامة بعولتهن وتعجيل اللقاء فإذا قام الخلق من أطباق التراب بإنعاش البعث نكس صاحب الزلل رأس الندم طلبا للعفو ومد العابد يد التقاضي بالمسلم فيه عند حلول الأجل وحدق الزاهد إلى جزاء الصبر واشرف المحب على أطلال الشوق إلى الحبيب وصاح العارف بلسان الوجد إذ لم يبق وقت للصمت لي عندكم دين فواعجبا ... الدين لي وفؤادي الرهن من شاء باهلتي باهلته بهم ... وبعد عند ورود الحوض نستبق وقال غيره: عدمت دوائي بالعراق وربما ... وجدت بنجد لي طبيبا مداويا ويا جبل الريان إن تعر منهم ... فإني سأكسوك الدموع الجواريا ومن جذري لا أسأل الركب عنهم ... وأغلاق وجدي باقيات كما هيا ومن يسال الركبان عن كل غائب ... فلا بد أن يلقى بشيرا وناعيا

فائدة: من له غرض في دقائق المعاني يتجاوز نظره قالب اللفظ إلى لب المعنى والواقف مع الألفاظ مقصود على الزينة اللفظية فتأمل قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} كيف قابل الجوع بالعرى والظمأ بالضحى والواقف مع القالب ربما يخيّل إليه أن الجوع يقابل بالظمأ والعري بالضحى والداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة لأن الجوع ألم الباطن والعري ألم الظاهر فهما متناسبان في المعنى وكذلك الظمأ مع الضحى لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرا وباطنا. وفي هذا الباب حكاية مشهورة وهي أن ابن حمدان قال يوما للمتنبي قد أنتقد عليك قولك: وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم قالوا: ركبت صدر كل بيت على عجز الآخر وكان الأولى أن تقول: وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم فليتم المعنى حينئذ لأن انبساط الوجد ووضوحه مع الوقوف في موقف الموت أشبه بأوصاف الكماة والسلامة من الردى مع مرور الأبطال كلمى هزيمة أعجب في حصول النجاة وهذا كما أنتقد على امرىء القيس قوله: كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أبتطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال فلو قال: كأني لم أركب جوادا ولم أقل ... لخليلي كري كرة بعد إجفال ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أبتطن كاعبا ذات خلخال كان أشبه بالمعنى لأن ركوب الخيل أشبه بالكر على الأبطال وسبأ الزق أليق بتبطن الكواعب. فقال المتنبه يعني قائل الشعر المدعو بالمتنبي الكذاب: أعلم أن القزاز أعلم بالثوب من البزاز لأن القزاز يعلم أوله وآخره والبزاز لا يرى منه إلا ظاهره. وهذا الانتقاد غير صحيح فإني قلت: وقفت وما في الموت شك لواقف ... ... ... ... ... فذكرت الموت وتحقق وقوعه في صدر البيت ثم تممت المعنى بقولي: ... ... ... ... ... كأنك في جفنالردى وهو نائم والردى الموت بعينه فكأني قلت: وقفت في مواضع الموت ولم تمت كأن الموت نائم عنك فحصل المعنى مناسبا للقصد ثم قلت: تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ... ... ... ... ومن شأن المكلوم والمنهزم أن يكونا كاشحي الوجوه عابسيها خائبي الأمل فقلت: ... ... ... ... ... ووجهك وضاح وثغرك باسم لتحصل المطابقة بين عبوس الوجه وقطوبه ونضارته وشحوبه وإن لم تكن ظاهره في اللفظ فهي في المعنى يفهمها من له في إدراك دقائق المعاني قدم راسخ وأما قول امرىء القيس: كأني لم اركب جودا للذة ... ... ... ... فإنه لما ذكر الركوب في البيت الأول تممه بما يشبهه ويناسبه من ركوب الكواعب ليحصل لذة ركوب مهر الحرب وركوب مهر اللذة. وأما البيت الثاني فمن شأن الشارب إذا أنتشي أن تتحرك كوامن صدره ويثور ما في نفسه من كوامن الأخلاق إلى الخارج فلما ذكر الشرب وحالة وتخيل نفسه كذلك فتحرك كامن خلقه من الحماسة والشجاعة فأردفه بما يليق به ثم ذكر الآية وتكلم عليها بنحو ما تقدم. إذا ظفرت من الدنيا بقربكم ... فكل ذنب جناه الحب مغفور

فصل: حكم ومواعظ وعبر من نبت جسمه على الحرام فمكاسبه كبريت به يوقد عليه الحجر المغصوب في البناء أساس الخراب. أتراهم نسوا طي الليالي لمن تقدمهم {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} فما هذا الاغترار وقد خلت من قبلهم المثلات {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أيام الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِم} من لهم إذا طلبوا العودة فحيل بينهم وبين ما يشتهون. سبحان الله كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة واحترقت كبد يتيم وجرت دمعة مسكين {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} : {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} . ما ابيض لون رغيفهم حتى اسود لون ضعيفهم وما سمنت أجسامهم حتى أنتحلت أجسام ما استأثروا عليه. لا تحتقر دعاء المظلوم فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك. ويحك نبال أدعيته مصيبة وإن تأخر الوقت قوسه قلبه المقروح ووتره سواد الليل وأستاذه صاحب لأنصرنك ولو بعد حين وقد رأيت ولكن لست تعتبر. احذر عداوة من ينام وطرفه باك يقلب وجهه في السماء يرمي سهاما ما لها غرض سوى الأحشاء منك فربما ولعلها إذا كانت راحة اللذة تثمر ثمرة العقوبة لم يحسن تناولها. ما تساوي لذة سنة غم ساعة فكيف والأمر بالعكس. كم في يم الغرور من تمساح فاحذر يا غائص ستعلم أيها الغريم قصتك عند علق الغرماء بك إذا التقى كل ذي دين وماطلة ... ستعلم ليلى أي دين تداينت من لم يتتبع بمنقاش العدل شوك الظلم من أيدي التصرف أثر ما لا يؤمن تعديه إلى القلب. يا أرباب الدول لا تعربدوا في سكر القدرة فصأحب الشرطة بالمرصاد سليمان الحكم قد حبس عاصف العقوبة في حصن {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} وأجرى رحا الرخا {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} فلو هبت سموم الجزاء من

مهب {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ} قلعت سكرى {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} فإذا طوفان التلف ينادي فيهم {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} فالحذر {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} وأنت أيها المظلوم فتذكر من أين أتيت فإنك لا تلقى كدرا إلا من طريق جناية {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} كان يشوب الماء باللبن فجاء سيل فذهب بالغنم فجعل يبكي فهتف به هاتف اجتمعت تلك القطرات فصارت سيلا ولسان الجزاء يناديه: يداك أوقدتا وفوك نفخ اذكر غفلتك عن الأمر والأمر وقت الكسب ولا تنس اطراح التقوى عند معاملة الخلق فإذا انقض غاصب فسمعت صوت سوطه يضرب عقد المكسب جزاء لخيانته العقود فلا تستعظم ذاك فأنت الجاني والبادي أظلم. فائدة: ما يقول الفقيه أيده الله ... وما زال عنده إحسان في فتى علق الطلاق بشهر ... قبل ما قبل قبله رمضان في هذا البيت ثمانية أوجه: أحدها: هذا. والثاني: بعدما بعد بعده. والثالث: قبل ما بعد بعده. والرابع: بعد ما قبل قبله. فهذه أربعة متقابلة. والخامس: قبل ما بعد قبله. والسادس: بعد ما قبل بعده. والسابع: بعد ما بعد قبله. والثامن: قبل ما قبل بعده. وتلخيصها إنك إن قدمت لفظه بعد جاء أربعة أحدها بعدات كلها والثانية بعدان وقبل والثالثة بعد وقبلان والرابعة بعد وقبل ثم بعد وإن قدمت لفظه قبل جاءت أربعة كذلك. فإذا عرفت هذا فضابط الجواب عن هذه الأقسام الثمانية أنه إذا اتفقت الألفاظ فإن كانت قبلا فيكون هذا الشهر الذي تقدمه رمضان بثلاثة أشهر فيقع الطلاق في ذي الحجة فكأنه قال:

"أنت طالق في شهر ذي الحجة لأن المعنى أنت طالق في شهر رمضان قبل قبل قبله فلو قال رمضان قبله طلقت في شوال ولو قال قبل قبله لطلقت في ذي القعدة فإن قال قبل قبل قبله طلقت في ذي الحجة وإن كانت الألفاظ بعدات طلقت في جمادي الآخرة لأن المعنى أنت طالق في شهر يكون رمضان بعد بعد بعده ولو قال رمضان بعده طلقت في شعبان ولو قال بعد بعده طلقت في رجب فإن قال بعد بعد بعده طلقت في جمادى الآخرة وإن اختلفت الألفاظ وهي في ست مسائل فضابطها أن كل ما اجتمع فيه قبل وبعد فألفهما نحو قبل بعده وبعد قبله واعتبر الثالث، فإذا قال قبل بعد بعده أو بعد قبل قبله فألغ اللفظين الأولين يصير كأنه قال في الأول بعده رمضان فيكون شعبان وفي الثاني كأنه قال قبله رمضان فيكون شوال وتقرير هذا أن كل شهر واقع قبل ما هو بعده وبعد ما هو قبله وإن توسطت لفظه بين مضادين لها نحو قبل بعد قلبه وبعد قبل بعده فالغ اللفظين الأولين ويكون شوالا وإذا قال بعد بعد قبله أو قبل قبل بعده وهما تمام الثمانية طلقت في الأولى في شعبان كأنه قال بعده رمضان في الصورة الأولى كأنه قال في شهر رمضان وشعبان في الثانية كأنه قال بعده رمضان وفي الثانية في شوال كأنه قال قبله رمضان. فائدة: قال بعض الفضلاء بيتا من الشعر يشتمل على أربعين ألف وثلاث مائة وعشرين بيتا من الشعر وهو لزين الدين المقري: لقلبي حبيب مليح ظريف ... بديع جميل رشيق لطيف وبيان ذلك أن هذا البيت ثمانية أجزاء يمكن أن ينطق بكل جزء من أجزائه

مع الجزء الآخر فتنتقل كل كلمة ثمانية انتقالات فالجزءان الأولان لقلبي حبيب يتصور منهما صورتان بالتقديم والتأخير، ثم خذ الجزء الثالث فيحدث منه مع الأولين ست صور لأن له ثلاثة أحوال تقديمه عليهما وتأخيره وتوسطه ولهما حالان فاضرب أحواله في الحالين يكن ستة، ثم خذ الجزء الرابع وله أربعة أحوال فاضربها في الصور المتقدمة وهي الستة التي لما قبله تكن أربعة وعشرين، ثم خذ الخامس تجد له خمسة أحوال فاضربها في الصور المتقدمة وهي أربعة وعشرون تكن مائة وعشرين، ثم خذ السادس تجد له ستة أحوال فاضربها في مائة وعشرين تكن سبع مائة وعشرين، ثم خذ السابع تجد له سبعة أحوال فاضربها في سبع مائة وعشرين تكن خمسة آلاف وأربعين، ثم خذ الثامن تجد أحواله ثمانية فاضربها في خمسة آلاف وأربعين تكن أربعين ألفا وثلاث مائة وعشرين بيتا فامتحنها تجدها كذلك ومثله لي قلته في القدس: محب صبور غريب فقير ... وحيد ضعيف كتوم حمول فائدة: في دخول الشرط على الشروط وهو صور: أحدها: إن خرجت ولبست فأنت طالق لا يحنث إلا بهما كيفما كانا. الثانية: إن لبست فخرجت لم يحنث إلا بخروج بعد لبس. الثالثة: إن لبست ثم خرجت لا يحنث إلا بخروجها بعد لبسها لا معه ويكون متراخيا هذا البناء على ظاهر اللفظ وأما قصده فيراعي ولا يلتفت إلى هذا. الرابعة: إن خرجت لا إن لبست يحنث بالخروج وحده ولا يحنث باللبس ويحتمل هذا التعليق أمرين: أحدهما: أن يجعل الخروج شرطا ويبقى

أن يكون اللبس شرطا فحكمه ما ذكرنا. الثاني: أن يجعل الخروج مع عدم اللبس شرطا فلا يحنث بخروج معه لبس ويكون المعنى إن خرجت لا لابسه أو غير لابسة فإن خرجت لابسة لم يحنث. الخامسة: إن خرجت بل إن لبست فلا يحنث إلا باللبس دون الخروج ويحتمل هذا التعليق أيضا أمرين: أحدهما: هذا. والثاني: أن يكون كل منهما شرطا فيحنث بأيهما وجد ويكون الإضراب إضراب اقتصار لا إضراب إلغاء فكأنه يقول: لا أقتصر على جعل الأول وحده شرطا بل أيهما وجد فهو شرط فعلى التقدير الأول يكون إضراب إلغاء ورجوع وعلى الثاني إضراب اقتصار وإفراد. السادسة: إن خرجت أو إن لبست يحنث بأيهما وجد. السابعة: إن لبست لكن إن خرجت فالشرط الثاني قد لغا الأول بـ (لكن) لأنها للاستدراك. الثامنة: وهي أشكلها إن لبست إن خرجت وهذه مسألة دخول الشرط على ويحتمل التعليق في ذلك أمرين: أحدهما: أن يجعل كل واحد منهما شرطا مستقلا فيكون كالمعطوف بالواو سواء ولا إشكال. والثاني: أن يجعل أحدهما شرطا في الآخر. واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة فقال أصحاب مالك هو تعليق للتعليق ففي هذا الكلام تعليقان: أحدهما إن لبست فأنت طالق ثم علق هذه الجملة المعلقة بالخروج فكأنه قال شرط نفوذ هذا التعليق الخروج فعلى هذا لا يحنت حتى يوجد الخروج بعد اللبس وممن نص عليها ابن شاش في الجواهر وقال أبو إسحاق في المهذب وقد صور المسألة: "إن كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق ثم كلمت زيدا طلقت وإن كلمت زيدا أولا ثم دخلت الدار لم تطلق لأنه جعل دخول الدار شرطا في كلام زيد فوجب تقديمه عليه" وهكذا عكس قول المالكية ورجح أبو المعالي قول المالكية في نهايته. وقد وقع هذا التعليق في كتاب الله عز وجل في مواضع: أحدها: قوله -حكاية عن نوح-: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُم} وهذا ظاهر في أن الشرط الثاني شرط في الشرط الأول والمعنى إن أراد الله أن يغويكم لم ينفعكم نصحي إن

أردته وهذا يشهد لصحة ما قال الشيخ أبو إسحاق. الموضع الثاني: قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} قالوا فهذه الآية ظاهرة في قول المالكية لأن إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم متأخرة عن هبتها فإنها تجري مجرى القبول في هذا العقد والإيجاب هو هبتها. ونظير هذا أن يقول: إن وهب لي شيئا إن أردت قبوله أخذته فإرادة القبول متأخرة عن الهبة فلا يكون شرطا فيها قال الأولون: يجوز أن تكون إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فهمت المرأة منه ذلك وهبت نفسها له فيكون كالآية الأولى. وهذا غير صحيح والقصة تأباه فإن المرأة قامت وقالت: يا رسول الله إني وهبت لك نفسي فصعّد فيها النظر وصوّبه ثم لم يتزوجها وزوجها غيره. الموضع الثالث: قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} المعنى: فلولا ترجعونها أي تردون الروح إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين مملوكين إن كنتم صادقين وهنا الثاني شرط للأول والمعنى إن كنتم صادقين في قولكم فهلا تردونها إن كنتم غير مدينين ويدل عليه قول الشاعر أنشده عبد الله بن مالك: إن تستغيثوا بنا أن تذعروا وتجدوا ... منا معاقل عز زانها الكرم ومعلوم أن الاستغاثة إنما تكون بعد الذعر فالذعر شرط فيها ومن هذا قول الدريدي فإن عثرت بعدها أن والت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا ومعلوم أن العثور مرة ثانية إنما يكون بعد النجاة من الأولى فوالت شرط في الشرط الثاني وعلى هذا فإذا ذكرت الشرطين وأتيت بالجواب كان جوابا للأول خاصة والثاني جرى معه مجرى الفضلة والتتمة كالحال وغيرها من الفضلات قاله ابن مالك. وأحسن من هذا أن يقال ليس الكلام بشرطين يستدعيان جوابين بل هو شرط واحد وتعليق واحد اعتبر في شطره قيد خاص جعل

شرطا فيه وصار الجواب للشرط المقيد فهو جواب لهما معا بهذا الاعتبار وإيضاحه أنك إذا قلت إن كلمت زيدا إن رأيته فأنت طالق جعلت الطلاق جزاء على كلام مقيد بالرؤية لا على كلام مطلق وكأنه قال إن كلمته ناظرة إليه فأنت طالق وهذا يبين لك حرف المسألة ويزل عنك إشكالها جملة وبالله التوفيق. فائدة: قولهم: الأعم لا يستلزم الأخص عينا وإنما يستلزم مطلق الأخص ضرورة وقوعه في الوجود ولا بد في هذا من تفصيل وهو أن الحقيقة العامة تارة تقع في رتب متساوية فهذه تستلزم الأخص عينا ولا بد كما إذا قال أفعل كذا فإنه أعم من مرة ومرات وهو يستلزم المرة الواحدة عينا وأنفق مالا يستلزم اقل القليل عينا وتارة يقع في رتب غير متساوية كالحيوان والعدد فإنهما لا يستلزمان أحد أنواعهما عينا والله سبحانه وتعالى أعلم. فائدة: حمل المطلق على المقيد في الكلي شيء وحمل المطلق على المقيد في الكلية شيء آخر، فالأول كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقيدها بالإيمان في مكان آخر فهذا إذا حمل المطلق على المقيد فيه لم يكن متضمنا لمخالفة أحدهما بل هو عمل بهما وتوفيه بمقتضاهما ولو عمل بالمطلق دون المقيد لخالف ولا بد، أما الثاني فكما إذا كان الإطلاق في العام كقوله: " في كل أربعين شاة وشاة " فإذا قيل في الغنم السائمة في كل أربعين

شاة شاة فليس هذا من باب حمل المطلق على المقيد فإن اللفظ العام متناول لجميع أفراده فحمله على التخصيص إخراج لبعض مدلوله والفرق بين إخراج بعض مدلول اللفظ وبين تقييد سلب عنه اللفظ الأول رافع لموجب الخطاب والثاني رافع لموجب الاستصحاب وإنما يرجع هذا إلى أصل آخر وهو تخصيص العموم بالمفهوم فتأمله. فائدة: وعلى هذا فلا ينبغي أن يقال يحمل المطلق على المقيد مطلقا بل يفرق بين الأمر والنهي فإن المطلق إذا كان في الأمر لم يكن عاما فحمله على المقيد لا يكون مخالفة لظاهره ولا تخصيصا، وإذا كان الإطلاق في النهي فإنه يعم ضرورة عموم النكرة في سياق النهي، وإذا حمل عليه مقيد آخر كان تخصيصا ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه" فهذا عام في الإمساك وقت البول ووقت الجماع وغيرهما وقال: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول" فهذا مقيد بحالة البول فحمل الأول عليه تخصيص محض. فائدة: حمل المطلق على المقيد مشروط بأن لا يقيد بقيدين متنافيين فإن قيد بقيدين متنافيين امتنع الحمل وبقى على إطلاقه سبع مرات وعلم أن القيدين تمثيل لا تقييد مثاله قوله صلى الله عليه وسلم في ولوغ الكلب: "فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب" مطلق

وفي لفظ "أولاهن " وهذا مقيد بالأول، وفي لفظ: " أخراهن " وهذا مقيد بالآخرة فلا يحمل على أحدهما بل يبقى على إطلاقه. فائدة: إنما يحمل المطلق على المقيد إذا لم يستلزم حمله تأخير البيان عن وقت الحاجة فإن استلزمه على إطلاقه وله مثالان: أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم بعرفات: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين " ولم يشترط قطعا وقال بالمدينة على المنبر لمن سأله ما يلبس المحرم "من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من كعبيه " فهذا مقيد ولا يحمل عليه ذلك المطلق لأن الحاضرين معه بعرفات من أهل اليمن ومكة والبوادي لم يشهدوا خطبته بالمدينة فلو كان القطع شرطا لبينه لهم لعدم علمهم به ولا يمكن اكتفاؤهم بما تقدم من خطبته بالمدينة، ومن هنا قال أحمد ومن تابعه: "إن القطع منسوخ بإطلاقه بعرفات اللبس ولم يأمر بقطع في أعظم أوقات الحاجة" المثال الثاني: قوله لمن سألته عن دم الحيض: " حتيه ثم اغسليه " ولم يشترط عددا مع أنه وقت حاجة فلو كان العدد شرطا لبينه لها ولم يحملها على غسل ولوغ الكلب فإنها ربما لم تسمعه ولعله لم يكن شرع الأمر بغسل ولوغه. فائدة: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه ونهي عن بيع ما لم يقبض في حديث حكيم بن حزام وزيد بن ثابت فقال أصحاب مالك: "النهي مخصوص

بالطعام دون غيره" فمنهم من قال هو من باب حمل المطلق على المقيد وهو فاسد كما تقدم فإنه عام وخاص ولفظه: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه" ومنهم من قال خاص وعام تعارضا فقدم الخاص على العام وهو أفسد من الأول إذ لا تعارض بين ذكر الشيء بحكم وذكر بعضه به بعينه، ومنهم من قال هو من باب تخصيص العموم بالمفهوم وهذا المأخذ أقرب لكنه ضعيف هنا لأن الطعام هنا وإن كان مشتقا فاللقبية أغلب عليه حيث لم يلج معنى يقتضي اختصاص النهي به دون الشراب واللباس والأمتعة فالصواب التعميم. فائدة: قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " وفي لفظ "وترابها طهور " فقيل تخصيص الطهور بالتراب حملا للمطلق على المقيد وهو ضعيف لأنه من باب الخاص والعام. وقيل هو من باب التخصيص بالمفهوم واعترض عليه بثلاثة أمور: أحدها: أن دلالة العموم أقوى لأنها لفظية متفق عليها. الثاني: أنه مفهوم لقب وهو أضعف المفهومات. الثالث: أن التخصيص بالتربة خرج لكونه غالب أجزاء الأرض والتخصيص إذا كان له سبب لم يعتبر بمفهومه. وأجيب بأن ذكر التربة الخاصة بعد ذكر لفظ الأرض عاما في مقام بيان ما اختص به وامتن الله عليه وعلى الأمة به دليل ظاهر على اختصاص الحكم باللفظ الخاص فإن عدوله عن عطفه على اللفظ العام إلى اسم خاص بعده يتضمن زيادة اللفظ والتفريق بين الحكمين وأن الطهور متعلق بالتربة وكونها مسجدا متعلق بمسمى الأرض يفهم تقييد كل حكم بما نسب إليه وتخصيصه بما جعل خبرا عنه وهذا واضح.

فائدة: استشكل جمهور الفقهاء مذهب مالك فيمن قال لنسائه: "إحداكن طالق" فإن الجميع يحرمن عليه بالطلاق وقالوا هذا إلزام بالطلاق لمن لم يطلقها وهو باطل قالوا ويلزم من هذا خلاف الإجماع ولا بد لأن الله تعالى أوجب إحدى خصال الكفارة فأضافه الحكم لأحد الأمور إن اقتضى التعميم وجب أن يوجبوا جميع الخصال وهو خلاف الإجماع وإن لم يقتض العموم وجب أن لا يقتضيه في قوله إحداكن طالق لأنه لو عم لعم بغير مقتض وهو باطل بالإجماع ولكن لقوله رضي الله عنه غور وهو الفرق بين إيجاب القدر المشترك وتحريم القدر المشترك فالإيجاب في الكفارة إيجاب لقدر مشترك وهو مسمى احد الخصال وذلك لا يقتضي العموم كما إذا أوجب عتق رقبة وهي مشتركة بين الرقاب لم يعم سائرها وأما تحرير القدر المشترك فيلزم منه العموم لأن التحريم من باب النهي وإذا نهي عن القدر المشترك كان نهيا عن كل فرد من أفراده بطريق العموم وإذا ثبت هذا فالطلاق تحريم لأنه رافع لحل النكاح فإذا وقع في القدر المشترك وهو إحدى نسائه عم جميعهن كما لو قال: "والله لا قربت إحداكن شهرا" وأما أصحاب أحمد فإنهم قالوا إذا قال: "عبدي حر وامرأتي طالق" عتق عليه جميع عبيده وطلق جميع نسائه ولكن ليس بناء منهم على هذا المأخذ بل لأن عندهم المفرد المضاف يعم كالجمع المضاف وأما أصحاب أبي حنيفة والشافعي فلم يقولوا بالعموم في واحدة من الصورتين وقال أصحاب مالك: "إذا قال لعبيده: (أحدكم حر) كان له أن يختار من شاء منهم فيعينه للعتق ولا يعتق الجميع" قالوا: "لأن العتق قربة وطاعة لا تحريم فهو إيجاب للقدر المشترك وإن لزم منه التحريم ولهذا ولو قال: (لله على أن أعتق أحدكم) لزمه عتق

واحد دون الجميع" فيقال لا فرق بين الطلاق والعتق في ذلك وقول الجمهور أصح وقولكم إن الطلاق تحريم ليس كذلك بل هو كاسمه إطلاق وإرسال للمرأة ويلزم منه التحريم كما أن العتق إرسال للأمة ويلزم منه التحريم فهما سواء ويدل عليه أنه إن قال: (إن كلمت زيدا فلله علي أن أطلق واحدة منكن أو إحداكن) لم يلزمه طلاق جميعهن عند من يعين عليه الوفاء عينا دون الكفارة ومعلوم قطعا أن القائل لنسائه (إحداكن طالق) غير مطلق لبقيتهن لا بلفظه ولا بقصده فكيف يطلقن جميعا فلو طلقن بغير مقتض لطلاقهن ويدل على أن الطلاق ليس بتحريم أن الله تعالى أباحه ولم يبح قط تحريم الحلال والتحريم ليس إلى العبد إنما إليه الأسباب والتحليل والتحريم يتبعها فهو كالعتق سواء وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ثم فرض تحلة اليمين في تحريم الحلال وقد طلق صلى الله عليه وسلم حفصة ولم يكن ذلك تحريما لها ولو كان الطلاق تحريما لشرعت فيه الكفارة كما شرعت في تحريم الحلال وكما شرعت في الظهار الذي هو تحريم، فإن قيل فما تقولون إذا قال لنسائه: (إحداكن عليّ حرام) فإن هذا تحريم للمشترك فينبغي أن يعم، قيل هذا السؤال غير مسموع منكم فإن التحريم عندكم طلاق فهو كقوله: (إحداكن طالق) وأما من يجعله تحريما تزيله الكفارة كالظهار كقول أحمد ومن وافقه فعندهم لا يعم لأنه مطلق في إثبات فهو كقوله: (حرمت واحدة منكن) بخلاف ما إذا أراد المطلق في نفي كقوله (والله لا قربت واحدة منكن) أو في نهي كقوله: (لا تقرب واحدة منهن) فإنه يعم. فائدة: ارتفاع الواقع شرعا محال أي ارتفاعه في الزمن الماضي وأما تقدير ارتفاعه

مع وجوده ممكن وله أمثله: أحدهما: أن من يقول الفسخ رفع للعقد من أصله فيستتبع الولد والثمرة والكسب نقول بقدر ارتفاعه من أصله واقعا لا أنا نقول برفعه من أصله. الثاني: إذا قال لامرأته إن قدم زيد آخر الشهر فأنت طالق أوله وقلنا تطلق أول الشهر بقدومه آخره فإنا نقدر ارتفاع تلك الإباحة قبل قدومه لا أنا نرفعها ونجعل الوطء حراما بل نقدر أن تلك الإباحة في حكم العدم تنزيلا للموجود بمنزلة المعدوم. الثالث: أنا ننزل المجهول كالمعدوم في باب اللقطة فننقل الملك بعد الحول إلى الملتقط مع بقاء المالك تنزيلا له بمنزلة المعدوم. الرابع: أنا في المفقود نزلنا الزوج الذي فقد منزلة المعدوم فأبحنا لامرأته أن تعتد وتتزوج كما قضى فيه الصحابة. الخامس: إن من مات ولا يعرف له قرابة كان ماله لبيت المال تنزيلا للمجهول منزلة المعدوم ولا نقول نوقفه حتى يتبين له قرابة وكذلك لو علمنا له وارثا واحدا وشككنا في غيره دفعنا إلى المعلوم ميراثه ولم نوقفه إلا إن تيقن أنه كان له وارث وشككنا في عدمه فإنه ينبني على تقدير وجوده لأنه الأصل. وعكس هذا تنزيل المعدوم منزلة الموجود تقديرا لا تحقيقا وله أمثله: أحدها: أن المقتول خطأ تورث عنه ديته المستحقة بعد موته تنزيلا لحياته المعدومة وقت ثبوت الدية منزلة الحياة الموجودة ليثبت له الملك ثانيها: لو أعتق عبده عن غيره فإنا نقدر الملك المعدوم للمعتق عنه بمنزلة الموجود الثابت له ليقع العتق عنه ثالثها: الأجزاء التي لم تخلق بعد في بيع الثمار بعد بدو صلاحها فإنها تنزل بمنزلة الموجود حتى يكون موردا للعقد رابعه ا: المنافع المعدومة في الإجازة فإنها تنزل منزلة الموجود ونظائر القاعدتين كثيرة. فائدة: القياس وأصول الشرع يقتضي أنه لا يصح رفض شيء من الأعمال بعد

الفراغ منه وأن نية رفضه وإبطاله لا تؤثر شيئا فإن الشارع لم يجعل ذلك إليه ولو صح ذلك لتمكن المكلف من إسقاط جميع أعماله الحسنة والقبيحة في الزمن الماضي فيقصد إبطال ما مضي من حجة وجهاده وهجرته وزكاته وسائر أعماله الحسنة والقبيحة فيقصد إبطال زناه وسرقته وشربه وقتله ورباه وأكله أموال اليتامى وغير ذلك فما بال الوضوء والصلاة والصوم والحج دون سائر الأعمال خرج فيها الخلاف فالمشهور في مذهب مالك صحة الرفض في الصلاة والصوم وفي الحج والطهارة خلاف وفي الطهارة خاصة وجهان لأصحابنا وليس في هذه المسائل نص ولا إجماع ولا فرق صحيح بينها وبين سائر الأعمال بل المعلوم من قاعدة الشرع أن إبطال ما وقع من الأعمال إنما يكون بأسباب نصيبه الله تعالى مبطلات لتلك الأعمال كالردة المبطلة للإيمان والحدث المبطل للوضوء والإسلام المبطل للكفر والتوبة المبطلة لآثار الذنوب وقريب منه المن والأذى المبطل للصدقة وفي الرياء اللاحق بعد العمل خلاف فهذه الأسباب جعلها الشارع مبطلات لآثار الأعمال وأما الرفض فلا دليل في الشرع يدل على أنه مبطل ولا يمكن طرده وليس له أصل يقاس عليه بل قد يقترن بالعمل أمور تمنع صحته وترتب أثره عليه كالرياء والسمعة وغيرهما وليس هذا إبطالا لما صح وإنما هو مانع من الصحة. فائدة: الأسباب الفعلية أقوى من الأسباب القولية ولهذا تصح الفعلية من المحجور عليه دون القولية فلو استولد ثبت استيلاده ولو عتق كان لغوا ولو تملك مالا بالشراء كان لغوا ولو تملكه باصطياد أو احتطاب ونحوه ملكه وكذلك لو أحياه

ملكه بالإحياء ثم قيل الفرق بينهما احتياجه إلى الفعل دون القول فإنا لو منعناه من وطئه أمته أضررنا بها ولا حاجة به إلى عتقها وهذا غير طائل فإنه قد يحتاج إلى القول أيضا كالشراء والنكاح والإقرار ولكن الفرق أن أقواله يمكن إلغاؤها فإنها مجرد كلام لا يترتب عليه شيء وأما الأفعال فإذا وقعت لا يمكن إلغاؤها فلا يمكن أن يقال إنه لم يسرق ولم يقتل ولم يستولد ولم يتلف وقد وجدت منه هذه الأفعال فجرى مجرى المكره في إلغاء أقواله ومجرى المأذون له في صحة أفعاله والله اعلم. فائدة: الحائض إذا انقطع دمها فهي كالجنب فيما يجب عليها ويحرم فيصح صومها وغسلها وتجب عليها الصلاة ولها أن تتوضأ وتجلس في المسجد ويجوز طلاقها على أحد القولين إلا في مسألة واحدة فإنها تخالف الجنب فيها وهي جواز وطئها فإنه يتوقف على الاغتسال والفرق بينها وبين الجنب في ذلك أن حدث الحيض أوجب تحريم الوطء وحدثه لا يزول إلا بالغسل بخلاف حدث الجنابة فإنه لا يوجب تحريم الوطء ولا يمكن ذلك فيه البتة. واستثنى بعض الفقهاء مسألة أخرى وهي نقض الشعر للغسل فإنه يجب على الحائض في أحد القولين دون الجنب ولا حاجة إلى هذا الاستثناء فتأمله.

قاعدة: في المسائل التي يتعلق بها الاحتياط الواجب وترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس ومدارها على ثلاثة قواعد: - قاعدة في اختلاط المباح بالمحظور حسا. - وقاعدة في اشتباه أحدهما بالآخر والتباسه به على المكلف. - وقاعدة في الشك في العين الواحدة هل هي قسم من المباح أم قسم من المحظور فهذه القواعد الثلاث هي معاقد هذا الباب. فأما القاعدة الأولى وهي اختلاط المباح بالمحظور حسا فهي قسمان: أحدهما: أن يكون المحظور محرما لعينه كالدم والبول والخمر والميتة. والثاني: أن يكون محرما لكسبه لأنه حرام في عينه كالدرهم المغصوب مثلا فهذا القسم الثاني لا يوجب اجتناب الحلال ولا تحريمه البتة بل إذا خالط ماله درهم حرام أو أكثر منه أخرج مقدار الحرام وحل له الباقي بلا كراهة سواء كان المخرج عين الحرام أو نظيره لأن التحريم لم يتعلق بذات الدرهم وجوهره وإنما تعلق بجهة الكسب فيه فإذا خرج نظيره من كل وجه لم يبق لتحريم ما عداه معنى هذا هو الصحيح في هذا النوع ولا تقوم مصالح الخلق إلا به. وأما القسم الأول: وهو الحرام لعينه كالدم والخمر ونحوهما فهذا إذا خالط حلالا وظهر أثره فيه حرم تناول الحلال ولا نقول أنه صير الحلال حراما فإن الحلال لا ينقلب حراما البتة ما دام وصفه باقيا وإنما حرم تناوله لأنه ما تعذر الوصول إليه إلا بتناول الحرام فلم يجز تناوله وهذه العلة بعينها منصوصة للإمام أحمد وقد سئل بأي شيء يحرم الماء إذا ظهرت فيه النجاسة؟ فأجاب بهذا وقال: "حرم الله تعالى الميتة والدم ولحم الخنزير فإذا خالطت هذه الماء فمتناوله كأنه قد تناول هذه الأشياء" هذا معنى كلامه. هذا إذا ظهر أثر المخالط فلو استهلك ولم يظهر أثره فهنا معترك

النزال وتلاطم أمواج الأقوال وهي مسألة الماء والمائع إذا خالطته النجاسة فاستهلكت ولم يظهر لها فيه أثر البتة والمذاهب فيها لا تزيد على اثني عشر مذهبا نذكرها في غير هذا الموضع إن شاء الله أصحها مذهب الطهارة مطلقا مائعا كان ما خالطته أو جامدا ماء أو غيره قليلا أو كثيرا لبراهين كثيرة قطعية أو تكاد تذكر هناك إن شاء الله وعلى هذا فإذا وقعت قطرة من لبن في ماء فاستهلكت وشربه الرضيع لم تنتشر الحرمة ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة لم يحد بشربه ولو كانت قطرة بول لم يغير ويشربه وهذا لأن الحقيقة لما استهلكت امتنع ثبوت الاسم الخاص بها فنفى الاسم والحقيقة للغالب فيتعين ثبوت أحكامه لأن الأحكام تتبع الحقائق والاسماء وهذا أحد البراهين في المسألة. فصل: وأما القاعدة الثانية: وهي اشتباه المباح بالمحظور إن كان له بدل لا اشتباه فيه أنتقل إليه وتركه وإن لم يكن له بدل ودعت الضرورة إليه اجتهد في المباح واتقى الله ما استطاع فإذا اشتبه الماء الطاهر بالنجس أنتقل إلى بدله وهو التيمم ولو اشتبها عليه في الشرب اجتهد في أحدهما وشربه، وكذلك لو اشتبهت ميتة بمذكاة أنتقل إلى غيرهما ولم يتحر فيهما فإن تعذر عليه الانتقال ودعته الحاجة اجتهد، ولو اشتبهت أخته بأجنبية أنتقل إلى نساء لم يشتبه فيهن فإن كان بلدا كبيرا تحرى ونكح ولو اشتبه ثوب طاهر بنجس أنتقل إلى غيرهما فإن لم يجد فقيل يصلي في كل ثوب صلاة ليؤدي الفرض في ثوب متيقن الطهارة وقيل بل يجتهد في أحد الثوبين ويصلي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قال: "لأن اجتناب النجاسة من باب الترك ولهذا لا تشترط له النية"، ولو صلى في ثوب لا يعلم نجاسته ثم علمها بعد الصلاة لم يعد فإن اجتهد فقد صلى في ثوب يغلب على ظن

طهارته وهذا هو الواجب عليه لا غير. قلت: وهذا كما لو اشترى ثوبا لا يعلم حاله جاز له أن يصلي فيه اعتمادا على غلبة ظنه وإن كان نجسا في نفس الأمر فكذلك إذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الثوبين وغلب على ظنه جاز أن يصلي فيه وإن كان نجسا في نفس الأمر فالمؤثر في بطلان العلم بنجاسة الثوب لا نجاسته المجهولة بدليل ما لو جهلها في الصلاة ثم علمها بعد الصلاة لم يعد الصلاة فهذا القول ظاهر جدا وهو قياس المذهب، وقيل يراعى في ذلك جانب المشقة فإذا كثرت الثياب اجتهد في أحدها وإن قلت صلى بعدد الثياب النجسة وزاد صلاة وهو اختيار ابن عقيل المني أو المذي، ومن هذا الباب ما لو استيقظ فرأى في ثوبه بللا واشتبه عليه أمني هو أم مذي ففي هذه المسألة قولان في كل مذهب من المذاهب الأربعة إلا أن أصحاب الإمام أحمد رضي الله عنه قالوا إن سبق منه سبب يمكن إحالة كونه مذيا عليه مثل القبلة والملاعبة والفكر مع الانتشار فهو مذي إذ الظاهر أن الذكر بعد ذلك إنما انكسر به فهو المتيقن وما زاد عليه فمشكوك فيه فلا يجب عليه غسل بالشك وإن لم يتقدم منه شيء من ذلك فهو مني في الحكم إذ هو الغالب على النائم ولم يتقدم سبب يعأرضه والنوم في مظنة الاحتلام وقد قام شاهد المظنة ظاهر القياس بموجب شهادته وقوة هذا المسلك مما لا يخفي على منصف اشتباه جهة القبلة. ومن هذا الباب إذا اشتبهت عليه جهة القبلة ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: يجتهد ويصلي صلاة واحدة هذا أصح الأقوال في المذاهب الأربعة وهو المشهور. الثاني: أنه يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات ليؤدي مسيتقنا كما قالوا في الثياب النجسة وكما قالوا فيمن فاتته صلاة من يوم لا يعلم عينها صلى خمس صلوات. والقول الثالث: أنه قد سقط عنه فرض الاستقبال في هذه الحال فيصلي حيث شاء وهذا مذهب أبي محمد بن حزم واحتج بأن الله إنما فرض الاستقبال على العالم بجهة الكعبة القادر على التوجه إليها فأما العاجز عنها فلم يفرض الله عليه التوجه إليها قط فلا يجوز أن يلزم بما لا يلزمه الله ورسوله به وإذا لم يكن التوجه واجبا

عليه لأن وجوبه مشروط بالقدرة صلى إلى أي جهة شاء كالمسافر المتطوع والزمن الذي لا يمكنه التوجه إلى جهة القبلة. قلت: وهذا القول أرجج وأصح من القول بوجوب أربع صلوات عليه فإنه إيجاب ما لم يوجبه الله ورسوله ولا نظير له في إيجابات الشارع البتة ولم يعرف في الشريعة موضع واحد أوجب الله على العبد فيه أن يوقع الصلاة ثم يعيدها مرة أخرى إلا لتفريط في فعلها أولا كتارك الطمأنينة والمصلى بلا وضوء ونحوه وأما أن يأمره بصلاة فيصليها بأمره ثم يأمره بإعادتها بعينها فهذا لم يقع قط وأصول الشريعة ترده. وقياس هذه المسألة على مسألة الثياب وناسي صلاة من يوم قياس لمختلف فيه على مثله ولعل الكلام إلا في تينك المسألتين أيضا فلو أن حكمهما ثبت بكتاب أو سنة أو إجماع لكان في قياس عليها ما فيه بل لم يكن صحيحا لأن جهة الفرق إما مساوية لجهة الجمع أو أظهر وعلى التقديرين فالقياس منتف بقي النظر في ترجيح أحد قولي الاجتهاد والتخيير في مسألة القبلة على الآخر فمن نصر التخيير احتج بما في الترمذي وسنن ابن ماجة عن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} " قال الترمذي: "هذا حديث حسن إلا أنه من حديث أشعث السمان وفيه ضعف" وروى الدارقطني من حديث عطاء عن جابر قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي فلم يأمرنا بالإعادة فقال: "قد أجزأتكم صلاتكم" قال الدارقطني: "رواه محمد ابن سالم عن عطاء قال: "ويروى أيضا عن محمد بن عبد الله العرزمي عن عطاء وكلاهما ضعيف". وقال العقيلي: "لا يروى متن هذا الحديث من وجه يثبت. واحتجوا أيضا بما تقدم حكايته أن الله لم يأمر بالاستقبال إلا من كان عالما به وقادرا عليه وأما العاجز الجاهل فساقط عنه فرض

الاستقبال فلا يكلف به ومن نصر الاجتهاد احتج بأن الله تعالى أوجب على العبد أن يتقيه ما استطاع وهذا مقتضي وجوب الاجتهاد عليه في تقوى ربه تعالى والتقوى هي فعل ما أمر وترك ما نهي قالوا وأيضا فإنه من المعلوم أنه إذا قام إلى الصلاة لم يجز له أن يستقبل أي جهة شاء ابتداء بل ينظر إلى مطالع الكواكب ومساقطها وسمت جهة القبلة حتى إذا علم جهتها استقبلها وهذا نوع اجتهاد وأدلة الجهة متفاوتة الخفاء والظهور فيجب على كل أحد فعل مقدوره من ذلك فإن لم يصبها قطعا أصابها ظنا وهو الذي يقدر عليه فمتى ترك مقدوره لم يكن قد اتقى الله تعالى بحسب استطاعته. وقولكم إن الله إنما أوجب الاستقبال على القادر عليه العالم به قلنا الله سبحانه وتعالى أوجب على كل عبد ما تؤديه إليه استطاعته من طاعته فإذا عجز عن هذا اليقين وأدلة الجهة سقط عنه ولكن من أين يسقط عنه بذل وسعه ومقدوره اللائق به. فصل: ومن هذا الباب لو طلق إحدى امرأتيه بعينها ثم اشتبهت عليه بالآخرى فقيل يجب عليه اعتزالها ويوقف الأمر حتى يتبين الحال وعليه نفقتهما وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وهي اختيار صاحب المغنى. وقيل يقرع بينهما كما لو أبهم الطلاق في واحدة لا بعينها وهذا هو المشهور في المذهب وهذا اختيار عامة أصحاب أحمد ونص عليه الخرقي في المختصر فقال: "ولو طلق واحدة من نسائه ونسيها أخرجت بالقرعة" قال المانعون من القرعة في هذه الصورة اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلا تحل له إحداهما بالقرعة كما لو اشتبهت أخته بأجنبية لم يكن له أن يعقد على إحداهما بالقرعة. قالوا: ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة ولا ترفع الطلاق عمن وقع عليه ولا تزيل احتمال كون المطلقة

غير من وقعت عليها القرعة بدليل أن التحريم لو ارتفع بالقرعة لما عاد إذا ذكرها فلما عاد التحريم بالذكر دل على أن القرعة لم ترفع تحريم المطلقة. قالوا: وأيضا القرعة لا يؤمن وقوعها على غير المطلقة وعدولها عن المطلقة وذلك يتضمن مفسدتين تحريم المحللة له بلا سبب وتحليل المحرمة عليه مع جواز كونها المطلقة. قالوا: وأيضا فلو حلف لا يأكل تمرة بعينها ثم وقعت في تمر فإنها لا تخرج بالقرعة ولو حلف لا يكلم إنسانا بعينه ثم اختلط في آخرين لم يخرج بالقرعة إلى أمثال ذلك من الصور فهكذا قالوا وأيضا فلا نعلم سلفا باستعمال القرعة في مثل هذه الصورة قالوا وأيضا لو حلف لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة فقد قال الخرقي: "لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها فحرمها مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعأرضه يقين التحريم فهاهنا أولى" قالوا وأيضا فقد قال الخرقي فيمن طلق امرأته ولم يدر أواحدة طلق أو ثلاثا: "اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة فإن راجعها في العدة لم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق فلم يبح له وطؤها لاحتمال كون الطلاق ثلاثا والأصل عدمه واحتمال كون غير من خرجت عليها القرعة هي المطلقة كاحتمال كون هذه مطلقة ثلاثا بل هو هناك أقوى فإن في صورة الشك في عدد الطلاق لم يتيقن تحريما يرفع النكاح والأصل بقاء الحل وفي المنسية قد تيقنا ارتفاع النكاح جملة عن إحداهما وأنها أجنبية وحصل الشك في تعيينها. قالوا ولا يصح قياس هذه الصورة على ما إذا طلق واحدة مبهمة فقال: واحدة منكن طالق جاز له أن يعينها بالقرعة لان الطلاق ههنا لم يثبت لواحدة بعينها فإذا عينتها القرعة تعينت لان الشارع جعل القرعة صالحة للتعيين منشئة له وفي مسألتنا المطلقة معينة في نفسها لا محالة والقرعة لا ترفع الطلاق عنها ولا توقعه على غيرها كما تقدم. وسر المسألة أن القرعة إنما تعمل في إنشاء التعيين الذي لم يكن لا في إظهار تعيين كائن قد نسي فهذا ما احتج به من نصر هذا القول وأما من نصر القول بالقرعة فقالوا الشارع جعل القرعة معينة في كل موضع تتساوى فيه الحقوق ولا يمكن التعيين إلا

بها إذ لولاها لزم أحد باطلين إما الترجيح بمجرد الاختيار والشهوة وهو باطل في تصرفات الشارع وإما التعطيل ووقف الأعيان وفي ذلك تعطيل الحقوق وتضرر المكلفين بما لا تأتي به الشريعة الكاملة بل ولا السياسة العادلة فإن الضرر الذي في تعطيل الحقوق أعظم من الضرر المقدر في القرعة بكثير ومحال أن تجيء الشريعة بالتزام أعظم الضرر لدفع أدناهما. وإذا عرف هذا فالحق إذا كان لواحد غير معين فإن القرعة تعينه فيسعد الله بها من يشاء ويكون تعيين القرعة له هو غاية ما يقدر عليه المكلف فالتعيين بها تعيين لتعلق حكم لما عينته فهي دليل من أدلة الشرع واجب العمل به وإن كان نفس الأمر بخلافه كالبينة والإقرار والنكول فإنها أدلة منصوبة من الشارع لفصل النزاع وإن كانت غير مطابقة لمتعلقها في بعض الصور فلهذا نصّب الشارع القرعة معينة للمستحق قاطعة للنزاع، وإن تعلقت بغير صاحب الحق في نفس الأمر فإن جماعة المستحقين إذا استووا في سبب الاستحقاق لم تكن القرعة ناقله لحق أحدهم ولا مبطلة له بل لما لم يمكن تعميمهم كلهم ولا حرمانهم كلهم وليس أحدهم أولى بالتعيين من الآخرين جعلت القرعة فاصلة بينهم معينة لأحدهم فكأن المقرع يقول: اللهم قد ضاق الحق عن الجميع وهم عبيدك فخص بها من تشاء منهم به ثم تلقى فيسعد الله بها من يشاء ويحكم بها على من يشاء وهذا سر القرعة في الشرع وبهذا علم بطلان قول من شبهها بالقمار الذي هو ظلم وجور وكيف يلحق غاية الممكن من العدل والمصلحة بالظلم والجور هذا من أفسد القياس وأظهره بطلانا وهو كقياس البيع على الربا فإن الشريعة فرقت بين القرعة والقمار كما فرقت بين الربا والبيع فأحل الله البيع وحرم الربا وأحل الشارع القرعة وحرم القمار وقد قال تعالى {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} وقال تعالى -إخبارا عن ذي النور-: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} . وقد احتج الأئمة بشرع من قبلنا جاء ذلك منصوصا عنهم في مواضع وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن

خرج سهمها خرج بها معه" وثبت عنه في الصحيح أيضا " أن رجلا أعتق ستة مملوكين لا مال له سواهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم أجزاء وضرب عليهم بسهمي رق وسهم حربة فأعتق اثنين وأرق أربعة ". وكل ما ذكروه في الطلاق فهو منتقض عليهم بهذه الصورة بل القرعة في الطلاق أولى لأن القرعة ههنا إنما هي لجمع الحرية في بعضهم وقد كان في الممكن أن يعتق من كل واحد سدسه وليستسعى في بقية نفسه كما يقول أبو حنيفة أو يترك رقيقا ومع هذا فاقرع بينهم لجمع الحرية في اثنين منهم وعين بها عبدين من الستة مع تشوفه إلى العتق وحكمه به في السراية في ملكه وملك شريكه فما الظن بالطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله ورسوله ولأنا لو لم نستعمل القرعة في المنسية لزم احد محذورين: إما إيقاع الطلاق على الأربع إذ أنسيت بينهن وهذا باطل لأنه يتضمن تحريم من لم يطلقها ولا حرمها الله عليه، وأما أن يعطل أنتفاعه بهن ويتركهن معلقات أبدا إلى الممات ومع هذا نوجب عليه نفقتهن وكسوتهن وإسكانهن ونقول لا يحل لك قربان واحدة منهن وعليك القيام بجميع حقوقهن فهذا لو جاء به الشارع لقوبل بالسمع والطاعة ولكن حكمة شرعه ورحمته تأبياه ولا شاهد له يرد إليه ويعتبر به، وأما القول بالقرعة فقد ذكرنا من أصول شرعه ما يدل عليه وأنه أولى الأقوال في المسألة. وقد روى البخاري في صحيحه " أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف". وفي السنن والمسند عن أبي هريرة "أن رجلين تداعيا في دابة ليس لواحد منهما بينة فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها". وفي المسند والسنن أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها فليستهما عليها ". وفي السنن عن أم سلمة أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينه فقال: " إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له

قطعة من النار يأتي بها أسطاما في عنقه يوم القيامة " فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما عليه ثم ليتحلل كل منكما صاحبه". وأقرع سعد يوم القادسية بين المؤذنين فهذه قرعة في الحضانة وفي تخفيف السفينة وفي السفر بالزوجة والبداءة بها في القسم وفي الحلف على الحق وفي تعيين الحق المتنازع فيه وفي الأذان وفي العتق وجمع الحرية وتكميلها في رقبة كاملة. وصح عن علي رضي الله عنه "أنه سئل عن رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ونكح ثم مات لا يدري الشهود أيتهن طلق؟ فقال: أقرع بين الأربع وأنذر منهن واحدة وأقسم بينهن الميراث" فهذه قرعة يدري الشهود فهذه قرعة إما في الطلاق وإما في الاستحقاق للمال وأياً ما كان فالموانع التي ذكروها في الطلاق بعينها قائمة في استحقاق المال سواء بسواء فأيّ فرق بين تحريم مال أحله الله تعالى وبين تحريم فرج أحله الله فإن كانت القرعة تتضمن أحد الفسادين فهي متضمنة للآخر قطعا وإن لم تتضمن الآخر لم تتضمن ذلك، وقولكم المال فهي أسهل لا ينفعكم في دفع هذا الإلزام والله أعلم. قالوا: ونحن نجيب عن كلماتكم: أما قولكم اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم يحل المشتبه بالقرعة كما لو اشتبهت قبل العقد أخته بأجنبية فجوابه: أن الأصل قبل العقد التحريم وقد شككنا في دفعة والأصل بقاؤه فمنعنا ثم أصل مستصحب لا يجوز تركه إلا بسبب يزيله ولا كذلك في مسألتنا إذ ثبت الحل قطعا فنحن إذا أخرجنا المطلقة بالقرعة بقيت الأخرى على الحل المستصحب قبل الطلاق وقد شككنا في إصابة الطلاق لها فنتمسك بالأصل حتى يثبت ما يزيله وهذا واضح، وقد اتفق على هذا الأصل أعنى استصحاب ما ثبت حتى ثبت رفعه. وأما قولكم القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة ولا ترفع الطلاق عمن وقع عليه ولا تزيل احتمال كون المطلقة غير التي وقع عليها القرعة فجوابه أنه منقوض بالعتق وما كان جوابكم عن العتق فهو جوابنا بعينه ومنقوض بالقرعة في الملك المطلق فحق المالك في ملك المال كحقه في ملك

البضع والعتق بالقرعة متضمن إرقاق رقبة من ثبت له الحرية وسقوط الحج والجهاد عنه وثبوت أحكام العبيد له على تقدير كونه هو المعتق في نفس الأمر وإن كانت امة يضمن إباحة فرجها لغير مالكها ومع هذا فالقرعة معينة للمعتق فتعينها للمطلقة كذلك أولى. وجواب آخر وهو أن القرعة لم تزل تحريما ثابتا في المطلقة وإنما عينت حكما لم يكن لنا سبيل إلى تعيينه إلا بالقرعة واحتمال كون غير التي خرجت لها القرعة هي المطلقة في نفس الأمر كما لم يكلفنا به الشارع لتعذر الوصول إلى علمه فنزل منزلة المعدوم وهذا كما أن احتمال كون غير الأمة التي خرجت لها القرعة هي الحرة في نفس الأمر ساقطا عنا لتعذر علمنا به فتنزل منزل المعدوم وكذلك كون مالك المال الضائع موجودا في نفس الأمر لا يمتنع من نقله عنه إلى الملتقط بعد حول التعريف لتعذر معرفته فنزل منزلة المعدوم وكذلك حكم الصحابة عمر وغيره في المفقود تتزوج امرأته وإن كان باقيا حيا على وجه الأرض وقد أبيح فرج زوجته لغيره من غير طلاق منه ولا وفاة لتعذر معرفته فنزل في منزلة المعدوم. قولكم لو ارتفع التحريم بالقرعة لما عاد إذا ذكرها قلنا ارتفاع التحريم مشروط باستمرار النيسان وإذا زال النسيان زال شرط الارتفاع والقرعة إنما صرنا إليها للضرورة ولا ضرورة مع التذكر. قولكم القرعة لا يؤمن وقوعها على غير المطلقة وعدولها عن المطلقة وذلك يتضمن مفسدتين إلى آخره. قلنا منقوض بالعتق وبالملك المطلق وأيضا لما كان ذلك مجهولا معجوزا عن علمه نزل منزلة المعدوم ولم يضر كون المستحق في نفس الأمر غير المستحق بالقرعة كما قدمنا من النظائر فلسنا مؤاخذين بما في نفس الأمر ما لم نعلم به وهذه قاعدة من قواعد الشرع وهي أن المؤاخذة وترتب الأحكام على المكلف إنما هي على علمه لا على ما في نفس الأمر إذا لم يعلمه وعليها جل الشريعة في الطهارات والنجاسات والمعاملات والمناكحات والأحكام والشهادات فإن الشاهد إذا عرف أن لزيد قبل عمرو حقا وجب عليه أن يشهد به وإن كان قد برىء إليه

منه ويحكم به الحاكم فالشريعة غير منكر فيها ذلك وهل تتم مصالح العباد إلا بذلك. قولكم لو حلف لا يأكل تمرة ولا يكلم إنسانا ثم اختلط المحلوف عليه بغيره لم يخرج بالقرعة فيقال هذه المسألة ليست منصوصا عليها ولا يعلم فيها إجماع البتة فإن كانت مثل مسألتنا سواء فالصواب التسوية بينهما وإن كان بينهما فرق بطل الإلحاق فبطل الإلزام بها على التقديرين نعم غاية ما يفيدكم إلزام الفرق بينهما وإن كان بينهما فرق بطل التقديران بالتناقض وأنه يجب عليه التسوية بينهما في الحكم وهذا ليس بدليل يثبت لكم حكم المسألة إذ منازعكم يقول تناقض في الفرق بين المسألتين ليس بدليل على صحة ما ذهبتم إليه فإن كان التفريق باطلا جاز أن يكون الباطل في عدم القول بالقرعة في مسألة الإلزام ولا يتعين أن يكون الباطل القول بها في المسألة المتنازع فيها فهذا جواب إجمالي كاف فكيف والفرق بينهما في غاية الظهور فإنه إذا حلف لا يأكل تمرة بعينها ثم وقعت في تمر فأكل منه واحدة فإنه لا يحنث حتى يأكل الجميع أو ما يعلم به أنه أكلها وما لم يتيقن أكلها لم يتيقن حنثه فلا حاجة إلى القرعة. وكذلك مسألة كلام رجل بعينه فإن قيل فهل يأمرونه بالإقدام على الأكل مع الاختلاط؟ قيل الورع أن لا يقدم على الأكل فإن أكل لم يحنث حتى يتيقن أكله لها. قولكم لا سلف بالقرعة في هذه الصورة فيقال سبحان الله تعالى وأي سلف معكم يوقف الرجل عن جميع زوجاته وجعلهن معلقات لا مزوجات ولا مطلقات إلى الموت مع وجوب نفقتهن وكسوتهن وسكناهن عليه وينبغي أن يعلم أن القول الذي لا سلف به الذي يجب إنكاره أن المسألة وقعت في زمن السلف فأفتوا فيها بقول أو أكثر من قول فجاء بعض الخلف فأفتى فيها بقول لم يقله فيها احد منهم فهذا هو منكر فأما إذا لم تكن الحادثة قد وقعت بينهم وإنما وقعت بعدهم فإذا أفتى المتأخرون فيها بقول لا يحفظ عن السلف لم يقل أنه لا سلف لكم في المسألة اللهم إلا أن يفتوا في نظيرها سواء بخلاف ما أفتى به المتأخرون فيقال حينئذ أنه لا سلف لكم بهذه الفتوى

وليس هذا موضع بسط الكلام في هذا الموضع فإنه يستدعي تحريرا أكثر من هذا. وأما قولكم لو حلف لا يأكل تمرة قد وقعت في تمر فأكل منه واحدة فإن الخرقي يحرم عليه امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت عليها اليمين مع أن الأصل بقاء النكاح فهنا أولى. قلت: الخرقي لم يصرح بالتحريم بل أفتى بأنه لا يقرب زوجته حتى يتبين الحال وهذا لا ينهض للتحريم ولفظ الخرقي في مختصره هذا وإذا حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فإن أكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت عليها اليمين ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله هذا لفظه وآخر كلامه يدل على أن منعه من وطئها إنما هو على سبيل الورع فإنه لا يحرمها عليه بحنث مشكوك فيه وهذا ظاهر. وأما مسألة من طلق ولم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا فالاحتجاج بها في غاية الضعف وكذلك الإلزام بها فإن الخرقي بناها على كون الرجعية محرمة ولهذا صرح في المختصر بذلك في تعليل المسألة فقال: "وإذا طلق فلم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة فإن راجعها في العدة لم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق لأنه متيقن للتحريم شاك في التحليل" فالخرقي يقول هذا قد تيقن وقوع الطلاق وشك هل الرجعة رافعة له أم لا وغيره ينازعه في إحدى المقدمتين ويستفصل في الأخرى فيقول: لا نسلم أن الرجعية محرمة فلم يتيقن تحريما البتة وعلى تقدير أن تكون محرمة فالتحريم المتيقن أي تحريم يعنون به تحريما تزيله الرجعة أو تحريما لا تزيله الأول مسلم ولا يفيدكم شيئا والثاني ممنوع وعلى التقديرين فلا حجة لكم في هذه المسألة ولا إلزام فإنها ليست منصوصة ولا متفق عليها ولا ملزمة أيضا فإنه بناها على أصله من كون الرجعية محرمة فقد تيقن تحريمها وشك في رفع هذا التحريم بالرجعة ولا كذلك فيمن خرجت على سواها فإنه لم يتيقن تحريمها وإزالة التحريم بالقرعة فافترقا. وأما قولكم لا يصح قياسها على ما إذا طلق واحدة مبهمة حيث يعينها بالقرعة لأن الطلاق لم يثبت لواحدة بعينها

فتعيينها بالقرعة بخلاف المنسية. قلت: لا ريب أن بين المسألتين فرقا ولكن الشأن في تأثيره ومنعه من إلحاق إحداهما بالآخرى فإن صح تأثير الفرق بطل هذا الدليل المعين ولا يلزم من بطلان دليل معين بطلان الحكم إلا أن لا يكون لهم دليل سواه ونحن لم نحتج بهذا الدليل أصلا حتى يلزم بطلان ما ذكرناه وإن بطل تأثير الفرق وجب إلحاق إحدى الصورتين بالآخرى ونحن نبين بحمد الله أن هذا الفرق ملغى فنقول: إذا قال لنسائه إحداكن طالق فإما أن ينفذ الطلاق على واحدة منهن عقب إيقاعه أو لا يقع إلا بتعيينه والثاني باطل لأن التعيين ليس بسبب صالح للتطليق فلا يصح أضافه الطلاق إليه فيتعين أن الطلاق استند إلى واحدة في إيقاعه أولا فقد وقع بواحدة منهن ولا بد والأقوال هنا ثلاثة: أحدها: أنه يملك تعيين المطلقة فيمن شاء وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة. القول الثاني: أنه تطلق عليه الجميع وهذا قول مالك ومن وافقه. القول الثالث: أنه يخرج المطلقة بالقرعة وهذا مذهب أحمد وهو قول علي وابن عباس ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة وبه قال الحسن البصري وأبو ثور وغيرهما وهو الصحيح من الأقوال فإن طلاق الأربع مع كون اللفظ غير صالح له والإرادة غير متناوله له مخالفة للأصول وإيقاع الطلاق من غير سببه وقد تقدم الكلام على مأخذ هذا القول وما فيه فلا نعيده وعلى هذا القول فلا قرعة ولا تعيين وإنما الكلام على قولي القرعة والتعيين فنقول: القول بالقرعة أصح وإذا كان القول بها أصح في هذه المسألة فالقول بها في مسألة المنسية أولى فهذان مقامان بهما يتم الكلام في المسألة فأما المقام الأول فيدل عليه أن القرعة قد ثبت لها اعتبار في الشرع كما قدمناه وهي أقرب إلى العدل وأطيب للقلوب وأبعد عن تهمة الغرض والميل بالهوى إذ لولاها لزم أحد الأمرين إما الترجيح بالميل والغرض وإما التوقف وتعطيل الانتفاع وفي كل منهما من الضرر ما لا خفاء به فكانت القرعة من محاسن هذه الشريعة وكمالها وعموم مصالحها. وأما تعيين

المطلقة بعد إبهامها وانتظار ما يعينه النصيب والقسمة التي لا تتطرق إليها تهمة ولا ظن فليس ذلك إلى المكلف بل إليه إنشاء الطلاق ابتداء في واحدة منهن وأما أن يكون إليه تعيين من جعل طريق تعيينه خارجا عن مقدوره وموكولا إلى ما يأتي به القدر ويخرجه النصيب المقسوم المغيب عن العباد فكلا. وسر المسألة أن العبد له التعيين ابتداء وأما تعيين ما أبهمه أولا فلم يجعل إليه ولا ملكه الشارع إياه والفرق بينهما أن التعيين الابتدائي تعلق به إرادته وباشره بسبب الحكم فتعين بتعيينه وبمباشرته بالسبب وأما التعيين بعد الإبهام فلم يجعل إليه لأنه لم يباشره بالسبب والسبب كان قاصرا عن تناوله معينا وإنما تناوله مبهما والمكلف كان مخيرا بين أن يوقع الحكم معينا فيتعين بتعيينه أو يوقعه مهما فيصير تعيينه إلى الشارع. وسر ذلك أن الحكم قد تعلق في المبهم بالمشترك فلا بد من حاكم منزه عن التهمة يعين ذلك المشترك في فرد من أفراده والمكلف ليس بمنزه عن التهمة فكانت القرعة هي المعينة وأما إذا عينه ابتداء فلم يتعلق الحكم بمشترك بل تعلق بما اقتضاه تعيينه وغرضه فأنفذه الشارع عليه فهذا مما يدلك على دقة فقه الصحابة رضي الله عنهم وبعد غور مداركهم ولهذا أفتى علي وابن عباس بالقرعة ولم يجعلا التعيين إليه ولا نحفظ عن صحابي خلافهما. وإذا ثبت أن القرعة في هذه الصورة راجحة على تعيين المكلف تبين بذلك تقرير المقام الثاني وهو أن القول بها في مسألة المنسية أولى لأنها إذا علمت في محل قد يعلق الحكم فيه بالمشترك وهو أحد الزوجات إذ كل واحدة منهن يصدق عليها أنها أحدها وهذا هو مأخوذ من عمم الوقوع فلأن يعمل في محل تعلق الحكم فيه ببعض أفراده أولى فإن الحكم في الأول كان صالحا لجميع الأفراد لتعلقه بالقدر المشترك ومع هذا فالقرعة قطعت هذه الصلاحية وخصتها بفرد بعينه والحكم في الثانية إنما تعلق بفرد بعينه لكنه جهل فاستفيد علمه من القرعة ولما جهل صار كالمعدوم إذ المجهول المطلق في الشريعة كالمعدوم وليس

لنا طريق إلى اعتباره موجودا إلا بالقرعة فإذا قطعت القرعة الحق المشترك من غير المعين فلأن يعين مجهولا لا سبيل إلى تعينها إلا بها أولى وأحرى. فإن شئت قلت إخراج المجهول أيسر من تعيين المبهم وأوسع طريقا وأقل مانعا لأن المبهم لا تثبت له حقيقة معينه بعد ولا سيما إذا كان مشتركا بين أفراد تقتضيه اقتضاء واحد فليس ثبوت التعيين لفرد أولى من ثبوته لغيره والمجهول قد ثبتت له الحقيقة أولا ثم جهلت فيكفي في الدلالة عليها أي دليل وجد وأي علامة أمكنت فإنها علامة ودليل على وجودها لا علة لأنيتها وبغير المبهم ليس دليلا محضا بل هو كالعلة لانيتها وثبوته فإذا صلحت القرعة لتعيين المبهم فلان تصلح للدلالة على المجهول بطريق الأولى ونحن لا ندعي ولا عاقل أن القرعة تجعل المخرج بها هو متعلق الحكم في نفس الأمر بل نقول إن القرعة تجعل المخرج بها متعلق الحكم ظاهرا وشرعا وهو غاية ما يقدر عليه المكلف ولم يكلفه الله علم الغيب ولا موافقة ما في نفس الأمر بل القرعة عندنا لا تزيد على البينة والنكول والأمارات الظاهرة التي هي طرق لفصل النزاع والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل: وأما القاعدة الثالثة وهي قاعدة الشك ينبغي أن يعلم أنه ليس في الشريعة شيء مشكوك فيه البتة وإنما يعرض الشك للمكلف بتعارض أمارتين فصاعدا عده فتصير المسألة مشكوكا فيها بالنسبة إليه فهي شكية عنده وربما تكون ظنية لغيره أوله في وقت آخر وتكون قطعيه عند آخرين فكون المسألة شكية أو ظنية أو قطعية ليس وصفا ثابتا لها بل هو أمر يعرض لها عند إضافتها إلى حكم المكلف. وإذا عرف هذا فالشك الواقع في المسائل نوعان: أحدهما: شك سببه تعارض الأدلة والأمارات كقولهم في سؤر البغل والحمار مشكوك فيه فنتوضأ ونتيمم فهذا

الشك لتعارض دليلي الطهارة والنجاسة وإن كان النجاسة لا يقاوم دليل الطهارة فإنه لم يقم على تنجيس سؤرهما دليل وغاية ما احتج به لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية: "إنها رجس" والرجس هو النجس وهذا لا دليل فيه لأنه إنما نهاهم عن لحومها وقال: "إنها رجس " ولا ريب أن شحومها ميتة لا تعمل الذكاة فيها فهي رجس ولكن من أين يلزم أن تكون نجسة في حياتها حتى يكون سؤرها نجسا وليس هذا موضع هذه المسألة. ومن هذا قولهم للدم الذي تراه المرأة بين الخمسين سنة إلى الستين أنه مشكوك فيه فتصوم وتصلي وتقضي فرض الصوم لتعارض دليلي الصحة والفساد وإن كان الصحيح أنه حيض ولا معارض لدليل كونه حيضا أصلا لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا معقول فليس هذا مشكوكا فيه والمقصود التمثيل. القسم الثاني: الشك العارض للمكلف بسبب اشتباه أسباب الحكم عليه وخفائها لنسيانه وذهوله أو لعدم معرفته بالسبب القاطع للشك فهذا الحكم واقع كثيرا في العيان والأفعال وهو المقصود لذكر القاعدة التي تضبط أنواعه. والضابط فيه أنه إن كان للمشكوك فيه حال قبل الشك استصحبها المكلف وبني عليها حتى يتيقن الانتقال عنها هذا ضابط مسائله. فمن ذلك إذا شك في الماء هل أصابته نجاسة أم لا؟ بني علي يقين الطهارة ولو تيقن نجاسته ثم شك هل زالت أم لا؟ بنى على يقين النجاسة. الثالثة: إذا أحدث ثم شك هل توضأ أم لا؟ بنى على يقين الحدث ولو توضأ وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة وفروع المسألة مبنية على هذا الأصل. الرابعة: إذا شك الصائم في غروب الشمس لم يجز له الفطر ولو أكل أفطر ولو شك في طلوع الفجر جاز له الأكل ولو أكل لم يفطر. الخامسة: لو شك هل صلى ثلاثة أو أربعا وهو منفرد بنى على اليقين إذ الأصل بقاء الصلاة في ذمته وإن كان إماما فعلى غالب ظنه لأن المأموم ينبهه فقد عارض الأصل هنا ظهور تنبيه المأموم على الصواب، وقال الشافعي ومالك: "يبني على اليقين مطلقا لأنه الأصل". السادسة: إذا رمى صيدا فوقع في ماء فشك

هل كان موته بالجرح أو بالماء؟ لم يأكله لأن الأصل تحريمه وقد شك في السبب المبيح وكذلك لو خالط كلابا أخرى ولم يدر أصاده كلبه أو غيره لم يأكله لأنه لم يتيقن شروط الحل في غير كلبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". السابعة: إذا شك هل طاف ستا أو سبعا أو رمى ست حصيات أو سبعا؟ بنى على اليقين: الثامنة: إذا شك هل عم الماء بدنه وهو جنب أم لا؟ لزمه يقين تعميمه ما لم يكن ذلك وسواسا. التاسعة: إذا اشترى ثوبا جديدا أو لبيسا وشك هل هو طاهر أو نجس؟ فيبني الأمر على الطهارة ولم يلزمه غسله. العاشرة: إذا أصابه بلل ولم يدر ما هو؟ لم يجب عليه أن يبحث عنه ولا يسأل من أصابه به ولو سأله لم يجب عليه أجابته على الصحيح وعلى هذا لو أصاب ذيله رطوبة بالليل أو بالنهار لم يجب عليه شمها ولا تعرفها فإذا تيقنها عمل بموجب يقينهز الحادية عشر: إذا كان عليه حق لله عز وجل من صلاة أو زكاة أو كفارة أو عتق أو صيام وشك هل أتى به أم لا؟ لزمه الإتيان به. الثانية عشرة: إذا شك هل مات مورثه فيحل له ماله أو لم يمت؟ لم يحل له المال حتى يتيقن موته. الثالثة عشرة: إذا شك في الشاهد هل هو عدل أو لا؟ لم يحكم بشهادته لأن الغالب في الناس عدم العدالة. وقول من قال: "الأصل في الناس العدالة" كلام مستدرك بل العدالة طارئة متجددة والأصل عدمها فإن خلاف العدالة مستنده جهل الإنسان وظلمه والإنسان خلق جهولا ظلوما فالمؤمن يكمل بالعلم والعدل وهما جماع الخير وغيره يبقى على الأصل أي فليس الأصل في الناس العدالة ولا الغالب. الرابعة عشرة: إذا شك هل صلى ثلاثا أو أربعا؟ بنى علي اليقين وألغى المشكوك فيه واستثنى من هذا موضعين: أحدهما: أن يقع الشك بعد الفراغ من الصلاة لم يلتفت إليه. الثاني: أن يكون إماما فيبني على غالب ظنه. فأما الموضع الأول فهو مبني على قاعدة الشك في العبادة بعد الفراغ منها فإنه لا يؤثر شيئا وفي الوضوء خلاف فمن ألحقه بهذه القاعدة نظر إلى أنه قد انقضى بالفراغ منه ومن نظر إلى بقاء حكمه

وعمله وأنه لم يفعل المقصود به ألحقه بالشك في العبادة قبل انقطاعها والفراغ منها. وأما الموضع الثاني فإنما استثنى لظهور قطع الشك والرجوع إلى الصواب بتنبيه المأموم له فسكوتهم وإقرارهم دليل على الصواب هذا ظاهر المذهب عند الإمام أحمد. ومذهب الشافعي أنه يبني على اليقين مطلقا إماما كان أو منفردا ولا يلتفت إلى قول غيره. ومذهب مالك أنه يبنى على اليقين إلا أن يكون مستنكحا بالشك فلا يلتفت إليه ويلهي عنه فإن لم يمكنه أن يلهي عنه بنى على خواطره. ومذهب أبي حنيفة أنه إن عرض له ذلك في أول صلاته أعادها وإن عرض له فيما بعدها بنى على اليقين. الخامسة عشرة: إذا شك هل دخل وقت الصلاة أو لا؟ لم يصل حتى يتيقن دخوله فإن صلى مع الشك ثم بان له أنه صلى في الوقت فقد قالوا إنه يعيد صلاته، وعلى هذا إذا صلى وهو يشك هل هو محدث أو متطهر ثم تيقن أنه كان متطهرا؟ فإنه يعيدها أيضا، وكذلك إذا صلى إلى جهة وشك هل هي القبلة أو غيرها ثم تبين لها أنها جهة القبلة ولا كذلك إذ شك في طهارة الثوب والبدن والمكان فصلى فيه ثم تيقن أن ذلك كان طاهرا لأن الأصل هنا الطهارة وقد تيقنه آخرا فتوسط الشك بين الأصل واليقين لا يؤثر بخلاف المسائل الأولى لأن الأصل فيها عدم الشك فالشك فيها مستند إلى أصل يوجب عليه حكما لم يأت به. والذي يقتضيه أصول الشرع وقواعد الفقه في ذلك هو التفرقة بين المعذور والقادر فالمعذور لا يجب عليه الإعادة إذا لم ينسب إلى تفريط وقد فعل ما أداه إليه اجتهاده وأصاب فهو كالمجتهد المصيب. وعلى هذا فإذا تحرى الأسير وفعل جهده وصام شهرا يظنه رمضان وهو يشك فيه فبان رمضان أو ما بعده أجزأه مع كونه شاكا فيه، وكذلك المصلي إذا كان معذورا محتاجا إلى تعجيل الصلاة في أول الوقت إما لسفر لا يمكنه النزول في الوقت ولا الوقوف أو لمرض يغمى عليه فيه أو لغير ذلك من الأعذار فتحرى الوقت وصلى فيه مع شكه ثم تبين له أنه أوقع الصلاة في الوقت لم يجب عليه الإعادة بل الذي يقوم عليه الدليل في مسألة الأسير أنه

لو وافق شعبان لم يجب عليه الإعادة وهو قول الشافعي لأنه فعل مقدوره ومأموره والواجب على مثله صوم شهر يظنه من رمضان وإن لم يكنه والفرق بين الواجب على القادر المتمكن والعاجز. فإن قيل فما تقولون في مسألة الصلاة إذا بان أنه صلاها قبل الوقت؟ قيل: الفرق بين المسألتين أن الصوم قابل لإيقاعه في غير الوقت للعذر كالمريض أو المسافر والمرضع والحبلى فإن هؤلاء يسوغ لهم تأخيره ونقله إلى زمن آخر نظرا لمصلحتهم ولم يسوغ لأحد منهم تأخير الصلاة عن وقتها البتة. فإن قيل فقد يسوغ تأخيرها للمسافر والمريض والممطور من وقت إحداهما إلى وقت الأخرى قيل: ليس بتأخير من وقت إلى وقت وإنما جعل الشارع وقت العبادتين في حق المعذور وقتا واحدا فهو يصلي الصلاة في وقتها المشروع الذي جعله الشارع وقتا لها بالنسبة إلى أهل الأعذار فهو كالنائم والناسي إذا استيقظ وذكر فإنه يصلي الصلاة حينئذ لكون ذلك وقتها بالنسبة إليهما وإن لم يكن وقتا بالنسبة إلى الذاكر المستيقظ على أن للشافعي قولين في المسألتين والله أعلم. فصل: مدح العلماء العاملين ابن عيينة عن محمد بن المنكدر قال: "إن العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم". وقال سهل بن عبد الله: "من أراد أن ينظر إلى محاسن الأنبياء فلينظر إلى محاسن العلماء يجيء الرجل فيقول: يا فلان إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا فيقول: طلقت امرأته وهذا مقام للأنبياء فاعرفوا لهم ذلك". قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى

هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ما منهم من أحد إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا". وقال ابن مسعود: "من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون"، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال حصين الأسدي: "إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر"، وعن الحسن والشعبي مثله. وقال الحاكم: سمعت أبا عبد الله الصفار يقول: سمعت عبد الله ابن أحمد يقول: سمعت أبي: يقول سمعت الشافعي يقول: سمعت مالك ابن أنس يقول: سمعت محمد بن عجلان يقول: "إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله" وروى ذلك بنحوه عن ابن عباس. وذكر أبو عمر عن القاسم بن محمد أنه جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم: "لا أحسنه فجعل الرجل يقول إني دفعت إليك لا أعرف غيرك فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله لا أحسنه فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيت في مجلس أبيك مثل اليوم فقال القاسم: والله لئن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا أعلم". وذكر أبو عمر عن ابن عيينة وسحنون: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما". وكان مالك بن أنس يقول: "من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة أو النار وكيف يكون خلاصه في الآخرة". سئل عن مسألة فقال: "لا أدري" فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال: "ليس في العلم شيء خفيف ألم تسمع قوله جل ثناؤه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. وقال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة فكيف بنا الذين غطت الخطايا والذنوب قلوبنا". وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك يسأله عن شيء أياما ما يجيبه فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أريد الخروج وقد طال التردد إليك فأطرق طويلا ثم رفع رأسه وقال:

"ما شاء الله يا هذا إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ولست أحسن مسألتك هذه". وسئل الشافعي عن مسألة فسكت فقيل له ألا تجيب يرحمك الله؟ فقال: "حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب". وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتى فتيا ولا يقول شيئا إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني". وقال سحنون: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره؛ فقال: تفكرت فيه وجدته المفتى يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته فيقول له: لا شيء عليك فيذهب الحانث فيستمتع بامراته ورقيقته وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا". وجاء رجل إلى سحنون يسأله عن مسألة فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام فقال: مسألتي أصلحك الله اليوم ثلاثة أيام؟ فقال له: "وما أصنع بمسألتك مسألتك معضلة وفيها أقاويل وأنا متحير في ذلك فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة؟ فقال سحنون: هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار وما أكثر ما لا أعرف إن صبرت رجوت أن تنقلب بمسألتك وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامض تجاب في مسألتك في ساعة فقال: إنما جئت إليك ولا استفتي غيرك قال: فاصبر ثم أجابه بعد ذلك". وقيل له: إنك تسأل عن المسألة لو سئل عنها أحد من أصحابك لأجاب فيها فتتوقف فيها؟ فقال: "إن فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنه المال". وقال بعض العلماء: "قلّ من حرص على الفتوى وسابق إليها وثابر عليها إلاّ قلّ توفيقه واضطرب في أمره وإن كان كارها لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه وقدر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه وفتاويه أغلب". وقال بشر الحافي: "من أحب أن يسأل فليس بأهل أن يسأل". وذكر أبو عمر عن مالك "أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي فقال: ما يبكيك أمصيبة دخلت عليك وارتاع لبكائه؟ فقال: "لا ولكن استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم". قال ربيعة: "ولبعض من يفتى ههنا أحق بالحبس من السراق".

ومن مسائل إسحاق الكوسج لأحمد: قلت: يتوضأ الرجل في المسجد؟ قال: "فعل ذلك قوم إسحاق هو حسن ما لم يستنج فيه". قلت: إذا عطس الرجل يوم الجمعة؟ قال: "لا تشمته". قلت: يقاتل اللص؟ قال: "إذا كان مقبلا فقاتله وإذا ولى لا تقاتل". قال إسحاق: "كما قال ويناشده في الإقبال ثلاثا فإن أبي وإلا يقاتله". قلت: "الضالة المكتومة؟ قال: "الذي يكتمها إذا زالت القطع فغرامة مثلها عليه". قال إسحاق: "كما قال سنة مسنونة". قلت: سئل سفيان عن صبي افتض صبية؟ قال: "لها مهر مثلها في ماله"، قال أحمد: "يكون على عاقلته إذا بلغ الثلث"، قال إسحاق: "كما قال سفيان في ماله". قلت: قال سفيان: "استفتي يوسف بن عمر بن أبي ليلى في هذه فقال: لها مهر مثلها في ماله"، قال أحمد: "لا بل على عاقلته"، قال إسحاق: "كما قال ابن أبي ليلى". قلت: كأنه أراد والله أعلم أرش البكارة فسماه مهرا أو يقال أن استيفاء هذه المتعة منه تجري مجرى جنايته عليها فإذا أوجبت مالا كان على من يحمل جنايته ولا ريب أن الوطء يجرى مجرى الجناية إذ لا بد فيه من عفو أو عقوبة وجناية الصبي على النفوس والأعضاء والمنافع على عاقلته وهذه جناية على منفعة الصبية فتكون على عاقلته وهذا أصوب الاحتمالين ولم أر أصحابنا تعرضوا لهذا النص ولا وجّهوه. قلت: أيقطع في الطير؟ قال: "لا يقطع في الطير" قال إسحاق: "كما قال". قلت: لعله أراد به الطير إذا تفلت من قفصه فصاده وهو خلاف ظاهر كلامه إذ يقال الطير لا تستقر عليه اليد ولا يثبت في الحرز ولا سيما إذا اعتاد الخروج والمجيء كالحمام. وأجود من هذين المأخذين أن يقال إذا أخذه فهو بمنزلة من فتح القفص عنه حتى ذهب ثم صاده من الهواء فإن ملك صاحبه عليه في الحالين واحد وهو لو تفلت من قفصه ثم جاء إلى دار إنسان فأخذه لم يقطع ولو صاده من الهواء لم يقطع فكذلك إذا فتح قفصه وأخذه منه، والقاضي تأول هذا النص على الكير غير المملوك ولا يخفى فساد هذا التأويل والذي عندي فيه أن أحمد ذهب إلى قول

أبي يوسف في ذلك والله أعلم. قلت: رجل زوج جاريته ثم وقع عليها؟ قال أحمد: "أما الرجم فادرأ عنه لكن أضربه الحد محصنا كان أو غير محصن" قال إسحاق: "كما قال يجلد مائة جلدة نكالا كما قال عمر". قلت لعله سمى التعزير حدا وبلغ به مائة أو لما سقط عنه الرجم حده حد الزاني غير المحصن. قلت: سئل سفيان عن رجل قال لرجل ما كان فلان ليلد مثلك؟ قال: "ما أرى في هذا شيئا" فقال أحمد: "هو تعريض شديد فيه الحد" قلت: سئل سفيان عن رجل قال لرجل أنت أكثر زنا من فلان وقد ضرب فلان في الزنا؟ قال: "ما أرى الحد بينا أرى أن يعزر" قال أحمد: "هذا تعريض يضرب الحد" قال إسحاق: "كما قال أحمد فقد نص على وجوب الحد بالتعريض وهو الصواب بلا ريب فإنه أنكى وأوجع من التصريح وهو ثابت عن عمر" قلت: قال سفيان: "من رمى الجمرتين ولم يقم عندهما فليذبح شاة أو ليتصدق بصاع" قال أحمد: "لا أعلم عليه شيئا ويتقرب إلى الله تعالى بما شاء وقد أساء. قال إسحاق: "كما قال أحمد". قلت: الحائك يدفع إليه ثوبا على الثلث والربع؟ قال: "كل شيء من هذا الغزل والدار والدابة وكل شيء يدفع إلى الرجل يعمل فيه على الثلث والربع فعلى قصة خيبر" قال إسحاق: "كما قال أحمد" قلت: من بنى في فناء قوم بإذنهم أو بغير إذنهم؟ قال: "إذا كان بإذنهم فله عليهم نفقته وإن كان بغير إذنهم قلع بناءه وأحب إلىّ إذا كان البناء ينتفع به هنا أن يعطيه النفقة ولا يقلع بناءه"، قال إسحاق: "كما قال سواء" قلت: رجل ضل بعير له أعجف فوجده في يد رجل قد أنفق عليه حتى سمن؟ قال: "هو بعيره يأخذه من أمر هذا أن يأخذه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعها فإن معها حذاءها وسقاءها"، قال إسحق: "إذا كان أخذه في دار مضيعة فأنفق عليه ليرده إلى الأول ويأخذ النفقة كان له ذلك". قلت: ولا يناقض هذا قاعدته فيمن أدى عن غيره واجبا بغير إذنه أنه يرجع عليه لأن هذا متعد بأخذ البعير حيث نهاه الشارع عن أخذه والله تعالى أعلم.

المجلد الرابع

المجلد الرابع المجلد الرابع ... بدائع الفوائد لابن القيم الجوزية المجلد الرابع بسم الله الرحمن الرحيم فصول: في أصول الفقه والجدل وآدابه والإرشاد إلى المنافع كما جاء في القرآن والسنة: فصل: النكرة في سياق النفي تعم مستفاد من قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن} وفي الاستفهام من قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} الشرط من قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} وفي النهي من قوله: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} وفي سياق الإثبات بعموم العامة والمقتضى كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} وإذا أضيف إليها كل نحو: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} ومن عمومها بعموم المقتضى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} . فصل: ويستفاد عموم المفرد المحلى باللام من قوله: {ونفس وما سواها} وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} وعموم المفرد المضاف من قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقّ} والمراد جميع الكتب التي أحصيت فيها أعمالهم وعموم الجمع المحلى باللام من قوله: {وَإذا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا

مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى آخرها. والمضاف من قوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} وعموم أدوات الشرط الاسماء من قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} {وَإذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} {وَإذا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} هذا إذا كان الجواب طلبا مثل هاتين الآيتين فإن كان خبرا ماضيا لم يلزم العموم كقوله: {وَإذا رَأَوْا تِجَارَةً أو لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} {إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وإن كان مستقبلا فأكثر موارده للعموم كقوله: {وَإذا كَالُوهُمْ أو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} {وَإذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} وقد لا تعم كقوله: {وَإذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} . فصل: ويستفاد كون الأمر المطلق للوجوب من ذمه لمن خالفه وتسميتة إياه عاصيا وترتيبه عليه العقاب العاجل أو الآجل. ويستفاد كون النهي للتحريم من ذمه لمن ارتكبه وتسميته عاصيا وترتيبه العقاب على فعله. ويستفاد الوجوب بالأمر تارة وبالتصريح بالإيجاب والفرض والكتب ولفظة (عليّ) ولفظة (حق على العباد وعلى المؤمنين) وترتيب الذم والعقاب على الترك وأحباط العمل بالترك وغير ذلك. ويستفاد التحريم من النهي والتصريح بالتحريم والحظر والوعيد على الفعل وذم الفاعل وإيجاب الكفارة بالفعل وقوله (لا ينبغي) فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع عقلا أو شرعا ولفظة (ما كان لهم كذا ولم يكن لهم) وترتيب الحد على الفعل

ولفظة (لا يحل ولا يصلح) ووصف الفعل بأنه فساد وأنه من تزيين الشيطان وعمله وإن الله لا يحبه وأنه لا يرضاه لعباده ولا يزكي فاعله ولا يكلمه ولا ينظر إليه ونحو ذلك. وتستفاد الإباحة من الإذن والتخيير والأمر بعد الحظر ونفي الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة والإخبار بأنه معفو عنه وبالإقرار على فعله في زمن الوحي وبالإنكار على من حرم الشيء والإخبار بأنه خلق لنا كذا وجعله لنا وامتنانه علينا به وإخباره عن فعل من قبلنا له غير ذام لهم عليه فإن اقترن بإخباره مدح فاعله لأجله دل على رجحانه استحبابا أو وجوبا. فصل: وكل فعل عظمه الله ورسوله ومدحه أو مدح فاعله لأجله أو فرحه به أو أحبه أو أحب فاعله أو رضي به أو رضي عن فاعله أو وصفه بالطيب أو البركة أو الحسن أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لشكره له أو لهدايته إياه أو لإرضاء فاعله أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته أو لقبوله أو لنصرة فاعله أو بشارة فاعله بالطيب أو وصف الفعل بكونه معروفا أو نفي الحزن والخوف عن فاعله أو وعده بالأمن أو نصبه سببا لولايته أو أخبر عن دعاء الرسل بحصوله أو وصفه بكونه قربة أو أقسم به أو بفاعله كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها أو ضحك الرب جل جلاله من فاعله أو عجبه به فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب. فصل: وكل فعل طلب الشارع تركه أو ذم فاعله أو عتب عليه أو لعنه أو مقته أو مقت فاعله أو نفى محبته إياه أو محبة فاعله أو نفى الرضى به أو الرضاء عن فاعله أو شبه

فاعله بالبهائم أو بالشياطين أو جعله مانعا من الهدى أو من القبول أو وصفه بسوء كراهة أو استعاذ الأنبياء منه أو أبغضوه أو جعل سببا لنفي الصلاح لعذاب عاجل أو آجل أو لذم أو لوم أو لضلالة أو معصية أو وصف بخبث أو رجس أو نجس أو بكونه فسقا أو أسما أو سببا لإثم أو رجس أو لعن أو غضب أو زوال نعمة أو حلول نقمة أو حد من الحدود أو قسوة أو خزي أو ارتهان نفس أو لعداوة الله أو لمحاربته أو للاستهزاء به وسخريته أو جعله الرب سببا لنسيانه لفاعله أو وصف نفسه بالصبر عليه أو بالحلم والصفح عنه أو دعا إلى التوبة منه أو وصف فاعله بخبث أو احتقار أو نسبة إلى عمل الشيطان وتزيينه أو تولى الشيطان لفاعله أو وصفه بصفة ذم مثل كونه ظلما أو بغيا أو عدوانا أو إثما أو تبرأ الأنبياء منه أو فاعله أو شكوا إلى الله من فاعله أو جاهروا فاعله بالعداوة أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا أو ترتب عليه حرمان الجنة أو وصف فاعله بأنه عدو لله وأن الله عدوه أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله أو حمل فاعله إثم غيره أو قيل فيه (لا ينبغي هذا ولا يصلح) أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه أو أمر بفعل يضاده أو هجر فاعله أو تلاعن فاعلوه في الآخرة وتبرأ بعضهم من بعض أو وصف فاعله بالضلالة أو أنه ليس من الله في شيء من الرسول وأصحابه أو قرن بمحرم ظاهر التحريم في الحكم والخبر عنهما بخبر واحد أو جعل اجتنابه سببا للفلاح أو فعله سببا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين أو قيل لفاعله هل أنت منته أو نهي الأنبياء عن الدعاء لفاعله أو رتب عليه إبعادا وطردا ولفظة قتل من فعله أو قاتل الله من فعله أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وإن الله لا يصلح عمله ولا يهدي كيده وأن فاعله لا يفلح ولا يكون يوم القيامة من الشهداء ولا من الشفعاء أو أن الله يغار من فعله أو منه على وجه المفسدة فيه أو أخبر أنه لا يقبل من فاعله صرفا ولا عدلا أو أخبر أن من فعله قيض له شيطان فهو له قرين أو جعل الفعل سببا لإزاغة الله قلب فاعله

أو صرفه عن آياته وفهم كلامه أو سؤال الله تعالى عن علة الفعل لم فعل نحو {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} ما لم يقترن به جواب من المسؤول فإن اقترن به جواب كان بحسب جوابه. فهذا ونحوه يدل على المنع من الفعل ودلالته على التحريم أطرد من دلالته على مجرد الكراهة، وأما لفظة يكرهه الله تعالى ورسوله أو مكروه فأكثر ما تستعمل في المحرم وقد يستعمل في كراهة التنزيه وأما لفظة أما أنا فلا أفعل فالمتحقق من الكراهة كقوله: "أما أنا فلا آكل متكئا " وأما لفظة ما يكون لك وما يكون لنا فاطرد استعمالها في المحرم نحو {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} . فصل: وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال ورفع الجناح والإذن والعفو وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل من الامتنان بما في الأعيان من المنافع وما يتعلق بها من الأفعال نحو {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً} ونحو {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ومن السكوت عن التحريم ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحي وهو نوعان إقرار الرب تبارك وتعالى وإقرار رسوله صلى الله عليه وسلم إذا علم الفعل. فمن إقرار الرب تعالى قول جابر: "كنا نعزل والقرآن ينزل"، ومن إقرار رسوله صلى الله عليه وسلم قول حسان لعمر: "كنت أنشد وفيه من هو خير منك".

فائدة: قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} جمعت أصول أحكام الشريعة كلها فجمع الأمر والنهي والإباحة والخبر. فائدة: تقديم العتاب على الفعل من الله تعالى لا يدل على تحريمه وقد عاتب الله تعالى نبيه في خمسة مواضع من كتابه في الأنفال وبراءة والأحزاب وسورة التحريم وسورة عبس خلافا لأبي محمد بن عبد السلام حيث جعل العتب من أدلة النهي. فائدة: لا يصح الامتنان بممنوع منه خلافا لمن زعم أنه يصح ويصرف الامتنان إلى خلقه للصبر عنه.

فائدة: قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} جمعت بين التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة والحض على فعل الخير والزجر عن فعل الشر إذ قوله: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} يتضمن حثهم على كسب الخير وزجرهم عن كسب الشر. فائدة: التعجب كما يدل على محبة الله لفعل نحو "عجب ربك من شاب ليست له صبوة" "ويعجب ربك من رجل ثار من فراشه ووطائه إلى الصلاة" ونحو ذلك وقد يدل على بعض الفعل نحو قوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} وقوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} وقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} وقد يدل على امتناع الحكم وعدم حسنه نحو: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} وقد يدل على حسن المنع منه وأنه لا يليق به فعله نحو: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} . فائدة: نفي التساوي في كتاب الله تعالى قد يأتي بين الفعلين كقوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ

الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} وقد يأتي بين الفاعلين نحو: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقد يأتي بين الجزئين كقوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وقد جمع الله بين الثلاثة في آية واحدة وهي قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ} فالأعمى والبصير الجاهل والعالم والظلمات والنور الكفر والإيمان والظل والحرور والجنة والنار الأحياء والأموات والمؤمنون والكفار. فائدة: ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور التذكير والوعظ والحث والزجر والاعتبار والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره في صورة المحسوس بحيث يكون نسبته للعقل كنسبة المحسوس إلى الحس. وقد تأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر على المدح والذم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر والله أعلم. فائدة: السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة. وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته فانظر إلى قوله تعالى:

{ذُقْ إِنَّكَ أنت الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير. فائدة: إخبار الرب تبارك وتعالى عن المحسوس الواقع له عدة فوائد: - منها: أن يكون توطئة وتقدمه لإبطال ما بعده. - ومنها أن يكون موعظة وتذكير. - ومنها أن يكون شاهدا على ما أخبر به من توحيده وصدق رسوله وإحياء الموتى. - ومنها أن يذكر في معرض الامتنان. - ومنها أن يذكر في معرض اللوم والتوبيخ. - ومنها أن يذكر في معرض المدح والذم. - ومنها أن يذكر في معرض الإخبار عن إطلاع الرب عليه وغير ذلك من الفوائد. فائدة: قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} هو من أحسن النظم وأبدعه فإنه ثنى أولا إذ كان موسى وهارون هما الرسولان المطاعان ويجب على بنى إسرائيل طاعة كل واحد منهما سواء وإذا تبوءا البيوت لقومهما فهم تبع لهما ثم جمع الضمير فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} لأن إقامتها فرض على الجميع ثم وحده في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أن موسى هو الأصل في الرسالة وأخوه ردءا ووزيرا وكما أرسلا برسالة واحدة كانا رسولا واحدا كقوله تعالى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهذا الرسول هو الذي قيل له: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .

فائدة: الفقهاء يقولون عدم المانع شرط في ثبوت الحكم لأن الحكم يتوقف عليه ولا يلزم من تحقق عدم المانع ثبوت الحكم وهذا حقيقة الشرط واعترض على هذا الشهاب القرافي وزعم أنه غير صحيح بأن قال: "المشكوك فيه ملغى في الشريعة فإذا شككنا في الشرط أو في السبب لم يترتب الحكم وإذا شككنا في المانع رتبنا الحكم كما إذا شككنا في ردة زيد قبل وفاته أو في طلاقه لامرأته لم يمنع ذلك ترتيب الميراث" ثم قال: "فلو كان عدم المانع شرطا لاجتمع النقيضان فيما إذا شككنا في طريان المانع لأن الشك في أحد النقيضين يوجب الشك في النقيض الآخر فإذا شككنا في وجود المانع شككنا في عدمه ضرورة فلو كان عدمه شرطا لكنا قد شككنا في الشرط والشك في الشرط يمنع ترتب الحكم والشك في المانع لا يمنع ترتب الحكم فيجتمع النقيضان". قلت: وهذا الاعتراض في غاية الفساد فإن الشك في عدم المانع إنما لم يؤثر إذا كان عدمه مستصحبا بالأصل فكون الشك في وجوده ملغى بالأصل فلا يؤثر الشك ولا فرق بينه وبين الشرط في ذلك لو شككنا في إسلام الكافر وعتق العبد عند الموت لم نورث قريبة المسلم منه إذ الأصل بقاء الكفر والرق وقد شككنا في ثبوت شرط التوريث. وهكذا إذا شككنا في الردة أو الطلاق لم يمنع الميراث لأن الأصل عدمهما ولا يمنع كون عدمها شرطا ترتب الحكم مع الشك فيه لأنه مستند إلى الأصل كما لم يمنع الشك في إسلام الميت الذي هو شرط التوريث منه لأن بقاءه مستند إلى الأصل فلا يمنع الشك فيه من ترتب الحكم فالضابط أن الشك في بقاء الوصف على أصله أو خروجه عنه لا يؤثر في الحكم استنادا إلى الأصل سواء كان شرط أو عدم مانع فكما لا يمنع الشك في بقاء الشرط من ترتب الحكم فكذلك لا يمنع الشك استمرار عدم

المانع من ترتب الحكم فإذا شككنا هل وجد مانع الحكم أم لا؟ لم يمنع من ترتب الحكم ولا من كون عدمه شرطا لأن استمراره على النفي الأصلي يجعله بمنزلة العدم المحقق في الشرع وإن أمكن بطلانه كما أن استمرار الشرط على ثبوته الأصلي يجعله بمنزلة الثابت المحقق شرعا وإن أمكن خلافه فعلم أن إطلاق الفقهاء صحيح واعتراض هذا المعترض فاسد. ومما يبين لك الأمر اتفاق الناس على أن الشرط ينقسم إلى وجودي وعدمي بمعنى أن وجود كذا شرط فيه وعدم كذا شرط فيه وهذا متفق عليه بين الفقهاء والأصوليين والمتكلمين وسائر الطوائف وما كان عدمه شرطا فوجوده مانع كما أن ما وجوده شرط فعدمه مانع فعدم الشرط مانع من موانع الحكم وعدم المانع شرط من شروطه وبالله التوفيق. فائدة: الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة والأسباب والبينات؛ فالأدلة تعرفه الحكم الشرعي الكلي والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أو أنتفاءه عنه والبينات تعرفه طريق الحكم عند التنازع ومتى أخطأ في واحد من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم وجميع خطأ الحكام مداره على الخطأ فيها أو في بعضها. مثال ذلك: إذا تنازع عنده اثنان في رد سلعة مشتراة بعيب فحكمه موقوف على العلم بالدليل الشرعي الذي يسلط المشتري على الرد وهو إجماع الأمة المستند إلى حديث المصراة وغيره، وعلى العلم بالسبب المثبت بحكم الشارع في هذا البيع المعين وهو كون هذا الوصف عيبا يسلط على الرد أم ليس بعيب وهذا لا يتوقف العلم به على الشرع بل على الحس أو العادة والعرف أو الخبر ونحو ذلك وعلى البينة التي هي طريق الحكم بين المتنازعين وهي كل ما تبين له صدق أحدهما يقينا أو ظنا من إقرار أو شهادة

أربعة عدول أو ثلاثة في دعوى الإعسار بتلف ماله على أصح القولين أو شاهدين أو رجل وامرأتين أو شاهد ويمين أو شهادة رجل واحد وهو الذي يسميه بعضهم الإخبار ويفرق بينه وبين الشهادة مجرد اللفظ أو شهادة امرأة واحدة كالقابلة والمرضعة أو شهادة النساء منفردات حيث لا رجل معهن كالحمامات والأعراس على الصحيح الذي لا يجوز القول بغيره أو شهادة الصبيان على الجراح إذا لم يتفرقوا أو شهادة الأربع من النسوة أو المرأتين أو القرائن الظاهرة عند الجمهور كمالك وأحمد وأبي حنيفة كتنازع الرجل وامرأته في ثيابهما وكتب العلم ونحو ذلك وكتنازع النجار والخياط في القدوم والجلم والإبرة والذراع وكتنازع الوراق والحداد في الدواة والمسطرة والقلم والمطرقة والكلبتين والسندان ونحو ذلك مما يقضي فيه أكثر أهل العلم لكل واحد من المنتازعين بآلة صنعته بمجرد دعواه. والشافعي يقسم الخف بين الرجل والمرأة ويقسم الكتاب الذي يقرأ فيه بينهما وكذلك طيلسانه وعمامته أو الشاهد واليمين أو اليمين المردودة أو النكول المجرد أو القسامة أو التعان الزوج ونكول الزوجة أو شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر أو شهادة بعضهم على بعض أو الوصف للقطة أو شهادة الدار أو الحبل في ثبوت زنا التي لا زوج لها أو رائحة المسكر أو قيئه أو وجود المسروق عند من ادعى عليه سرقته على أصح القولين أو وجود الآجر ومعاقد القمط وعقد الأزج عند من يقول بها فهذه كلها داخلة في اسم البينة فإنها اسم لما يبين الحق ويوضحه وقد أرشد الله سبحانه إليها في كتابه حيث حكى عن شاهد يوسف اعتباره قد القميص وحكى عن يعقوب وبنيه أخذهم البضائع التي باعوا بها بمجرد وجودهم لها في رحالهم اعتمادا على القرائن الظاهرة بأنها وهبت لهم ممن ملك التصرف فيها وهم لم يشاهدوا ذلك ولا علموا به ولكن اكتفوا بمجرد القرينة الظاهرة وكذلك سليمان بن داود عليهما السلام حكم للمرأة بالولد بقرينة رحمتها له لما

قال: "إيتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى: لا تفعل هو ابنها فقضى به لها" وهذا من أحسن القرائن وألطفها. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعذيب أحد ابني الحقيق اليهودي ليدله على كنز حيي ابن أخطب وقد ادعى ذهابه فقال: "هو أكثر من ذلك والعهد قريب". فاستدل بهذه القرينة الظاهرة على كذبه في دعواه فأمر الزبير أن يعذبه حتى يقر به فإذا عذب الوالي المتهم إذا ظهر له كذبه ليقر بالسرقة لم يخرج عن الشريعة إذا ظهرت له ريبة بل ضربه له في هذه الحال من الشرع. وقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة وقد عزم علي والزبير على تجريد المرأة التي معها الكتاب وتفتيشها لما تيقنا أن الكتاب معها. فإذا غلب على ظن الحاكم أن المال المسروق أو غيره في بيت أو غيره في بيت المدعى عليه أو معه فأمر بتفتيشه حتى يظهر المال لم يكن بذلك خارجا عن الشرع وقد قال النعمان بن بشير للمدعي على قوم بسرقة مال لهم: "إن شئتم أن أضربهم فإن ظهر متاعكم عندهم وإلا أخذت من ظهوركم مثله" يعنى مثل ضربهم فقالوا: هذا حكمك؟ قال: بل هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم". والرجوع إلى القرائن في الأحكام متفق عليه بين الفقهاء بل بين المسلمين كلهم وقد اعتمد الصحابة على القرائن في الحدود فرجموا بالحبل وجلدوا في الخمر بالقيء والرائحة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستنكاه المقر بالسكر وهو اعتماد على الرائحة. والأمة مجمعة على جواز وطء الزوج للمرأة التي تهديها إليه النساء ليلة العرس ورجوعه إلى دلالة الحال أنها هي التي وقع عليها العقد وإن لم يرها ولم يشهد بتعيينها رجلان. ومجمعة على جواز أكل الهدية وإن كانت من فاسق أو كانت من صبي ومن نازع في ذلك لم يمكنه العمل بخلافه وإن قاله بلسانه. ومجمعة على جواز شراء ما بيد الرجل اعتمادا على قرينة كونه في يده وإن جاز أن يكون مغصوبا وكذلك يجوز إنفاق النقد إذا أخبر بأنه صحيح رجل واحد ولو كان ذميا فالعمل بالقرائن ضروري في الشرع والعقل والعرف.

فائدة: الفرق بين دليل مشروعية الحكم وبين دليل وقوع الحكم فالأول متوقف على الشارع والثاني يعلم بالحس أو الخبر أو الزيادة. فالأول: الكتاب والسنة ليس إلا وكل دليل سواهما يستنبط منهما. والثاني: مثل العلم بسبب الحكم وشروطه وموانعه فدليل مشروعيته يرجع فيه إلى أهل العلم بالقرآن والحديث ودليل وقوعه يرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأسباب والشروط والموانع. ومن أمثله ذلك بيع المغيب في الأرض من السلجم والجزر والقلقاس وغيره فدليل المشروعية أو منعها موقوف على الشارع لا يعلم إلا من جهته. ودليل سبب الحكم أو شروطه أو مانعه يرجع فيه إلى أصله فإذا قال المانع من الصحة هذا غرر لأنه مستور تحت الأرض قيل كون هذا غررا أو ليس بغرر يرجع إلى الواقع لا يتوقف على الشرع فإنه من الأمور العادية المعلومة بالحس أو العادة مثل كونه صحيحا أو سقيما وكبارا أو صغارا ونحو ذلك فلا يستدل على وقوع أسباب الحكم بالأدلة الشرعية كما لا يستدل على شرعيته بالأدلة الحسية فكون الشيء مترددا بين السلامة والعطب وكونه مما يجهل عاقبته وتطوى مغبته أو ليس كذلك يعلم بالحس أو العادة لا يتوقف على الشرع ومن استدل على ذلك بالشرع فهو كمن استدل على أن هذا الشراب مسكر بالشرع وهذا ممتنع بل دليل إسكاره الحس ودليل تحريمه الشرع. فتأمل هذه الفائدة ونفعها ولهذه القاعدة عبارة أخرى وهي أن دليل سببية الوصف غير دليل ثبوته فيستدل على سببيته بالشرع وعلى ثبوته بالحس أو العقل أو العادة فهذا شيء وذلك شيء.

فائدة: الأمر المطلق والجرح المطلق والعلم المطلق والترتيب المطلق والبيع المطلق والماء المطلق والملك المطلق غير مطلق الأمر والجرح والعلم إلى آخرها والفرق بينهما من وجوه: أحدها: أن الأمر المطلق لا ينقسم إلى أمر الندب وغيره فلا يكون موردا للتقسيم ومطلق الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر ندب فمطلق الأمر ينقسم والأمر المطلق غير منقسم. الثاني: أن الأمر المطلق فرد من أفراد مطلق الأمر ولا ينعكس. الثالث: أن نفي مطلق الأمر يستلزم نفي الأمر المطلق دون العكس. الرابع: أن ثبوت مطلق الأمر لا يستلزم ثبوت الأمر المطلق دون العكس. الخامس: أن الأمر المطلق نوع لمطلق الأمر ومطلق الأمر جنس للأمر المطلق. السادس: أن الأمر المطلق مقيد بالإطلاق لفظا مجرد عن التقييد معنى ومطلق الأمر مجرد عن التقييد لفظا مستعمل في المقيد وغيره معنى. السابع: أن الأمر المطلق لا يصلح للمقيد ومطلق الأمر يصلح للمطلق والمقيد. الثامن: أن الأمر المطلق هو المقيد بقيد الإطلاق فهو متضمن للإطلاق والتقييد ومطلق الأمر غير مقيد وإن كان بعض أفراده مقيدا. التاسع: أن من بعض أمثلة هذه القاعدة الإيمان المطلق ومطلق الإيمان فالإيمان المطلق لا يطلق إلا على الكامل الكمال المأمور به ومطلق الإيمان يطلق على الناقص والكامل ولهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان المطلق عن الزاني وشارب الخمر والسارق ولم ينف عنه مطلق الإيمان لئلا يدخل في قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ولا في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ولا في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى آخر الآيات ويدخل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وفي قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} وفي قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر " وأمثال ذلك. فلهذا كان

قوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} نفيا للإيمان المطلق لا لمطلق الإيمان لوجوه: منها أنه أمرهم أو أذن لهم أن يقولوا أسلمنا والمنافق لا يقال له ذلك. ومنها أنه قال: {قَالَتِ الأعْرَابُ} ولم يقل قال المنافقون. ومنها أن هؤلاء الجفاة الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات ورفعوا أصواتهم فوق صوته غلظة منهم وجفاء لا نفاقا وكفرا. ومنها أنه قال {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ولم ينف دخول الإسلام في قلوبهم ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى الإيمان. ومنها أن الله تعالى قال: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} أي لا ينقصكم والمنافق لا طاعة له. ومنها أنه قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} فأثبت لهم إسلامهم ونهاهم أن يمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن إسلاما صحيحا لقال لم تسلموا بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} لما لم تطابق شهادتهم اعتقادهم. ومنها أنه قال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} ولو كانوا منافقين لما من عليهم. ومنها أنه قال: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ} ولا ينافي هذا قوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} فإنه نفى الإيمان المطلق ومن عليهم بهدايتهم إلى الإسلام الذي هو متضمن لمطلق الإيمان. ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم القسم قال له سعد: أعطيت فلانا وتركت فلانا وهو مؤمن فقال: "أو مسلم ثلاث مرات" وأثبت له الإسلام دون الإيمان. وفي الآية أسرار بديعة ليس هذا موضعها والمقصود الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان؛ فالإيمان المطلق يمنع دخول النار ومطلق الإيمان يمنع الخلود فيها. العاشر: إنك إذا قلت الأمر المطلق فقد أدخلت اللام على الأمر وهي تفيد العموم والشمول ثم وصفته بعد ذلك بالإطلاق بمعنى أنه لم يقيد بقيد يوجب تخصيصه من شرط أو صفة وغيرهما فهو عام في كل فرد من الأفراد التي هذا شأنها وأما مطلق الأمر فالأضافه فيه ليست للعموم بل للتمييز فهو قدر مشترك مطلق لا عام فيصدق بفرد من أفراده وعلى هذا فمطلق البيع جائز والبيع المطلق ينقسم إلى جائز وغيره والأمر المطلق للوجوب ومطلق الأمر ينقسم إلى

الواجب والمندوب والماء المطلق طهور ومطلق الماء ينقسم إلى طهور وغيره والملك المطلق هو الذي يثبت للحر ومطلق الملك يثبت للعبد. فإذا قيل العبد هل يملك أم لا يملك؟ كان الصواب إثبات مطلق الملك له دون الملك المطلق. وإذا قيل هل الفاسق مؤمن أم غير مؤمن؟ فهو على هذا التفصيل والله تعالى أعلم. فبهذا التحقيق يزول الإشكال في مسألة المندوب هل هو مأمور به أم لا؟ وفي مسألة الفاسق هل هو مؤمن أم لا. فائدة: نص الشافعي على أن البيع لا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول وخرج ابن شريح له قولا أنه ينعقد بالمعاطاة واختلف أصحابه من أين خرجه؟ فقال بعضهم: خرجه من قوله في الهدي: "إذا عطب قبل المحل فإن المهدي ينحره ويغمس نعله في دمه ويخلي بينه وبين المساكين ولا يحتاج إلى لفظ بل القرينة كافية". واعترض على هذا التخريج بأن ذلك من باب الإباحات وهي مبنية على المسامحات يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها كتقديم الطعام للضيف والبيع من باب المعاوضات التي تعقد على المسامحة ويطلب الشارع قطع النزاع والخصومة بكل طريق. وقال بعضهم: هو مخرج عن مسألة الغسال والطباخ ونحوهما فإنه يستحق الأجرة مع انه لم يسم شيئا. واعترض على ذلك بأنه لا نص للشافعي فيها إلا عدم الاستحقاق وإنما قال بعض أصحابه يستحق الأجرة. وقال بعضهم: هو مخرج من مسألة الخلع إذا قال لها أنت طالق إن أعطيتني ألفا فوضعتها بين يديه فإنها تطلق ويملك الألف مع أنه لم يصدر منها لفظ يدل على التمليك. وحكى أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام كان يرجع التخريج من ههنا واعترض عليه بأن في الخلع شائبة التعلق

والمعاوضة وأما البيع فمعاوضة محضة ولهذا يصح الخلع بالمجهول دون البيع. فائدة: ما علق جواز البدل فيه على فقد المبدل فإذا فقدا معا فهل يجب عليه تحصيل المبدل أو يتخير بينه وبين البدل؟ فيه خلاف وعليه إذا وجب عليه بنت مخاض فعدمها فابن لبون فإن عدمه فقولان: أحدهما: متخير بينهما في الشراء. والثاني: أنه يتعين شراء الأصل. ومنها أنه لو ملك مائتين من الإبل وقلنا يخرج أربع حقاق فعدمها فهل يجوز أن يشترى خمس بنات لبون؟ فيه خلاف. فائدة: ثلاثة من الصحابة جمعوا بين كونهم أنصارا ومهاجرين ذكرهم ابن إسحاق في سيرته: - أحدهم ذكوان بن عبد قيس من بنى الخزرج قال ابن إسحاق: "كان خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معه بمكة المكرمة ثم هاجر منها إلى المدينة وكان يقال له مهاجري أنصاري شهدا بدرا وقتل بأحد شهيدا". - والعباس بن عبادة بن نضلة من بني الخزرج أيضا قال ابن إسحاق: "كان فيمن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة المكرمة فأقام معه بها قتل يوم أحد شهيدا. - وعقبة بن وهب خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة إلى مكة وكان يقال له مهاجري أنصاري حليف لبني الخزرج.

فائدة: إذا قال الحاكم المولى: كنت حكمت بكذا قبل قوله عند أحمد والشافعي والجمهور وعند مالك لا يقبل قوله. قال الجمهور هو يملك للإنشاء فيملك الإقرار كولي المجبرة إذا قال زوجتها من فلان قبل قوله اتفاقا. قال أصحاب مالك الفرق بينهما أن ولي المجبرة غير متهم بخلعها لكمال شفقته وكمال رعايته لمصالح ابنته بخلاف الحاكم. قال أصحاب القول: وكذلك نحن إنما نقبل قول الحاكم: "حكمت" حيث تنتفي التهمة فأما إذا كان تهمة لم يقبل. قال أصحاب مالك: هذا نفسه في مظنة التهمة فوجب رده كما يرد حكمه لنفسه وحكمه بعلمه فمظنة التهمة كافيه وأما الأب فهو في مظنة كمال الشفقة ورعاية مصلحة ابنته فافترقا وهذا فقه ظاهر ومأخذ حسن والإنصاف أولى من غيره. فائدة: إذا حلف على شيء بالطلاق الثلاث أنه لا يفعله ثم خلع ولم يفعله ثم تزوجها فقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "الصحيح أنه لا يعود الحنث" فذكر له اختيار الشيخ أبي إسحاق في كتاب الطلاق فقال: "ذلك غلط" قال: "ومأخذنا في هذه المسألة أنه لو عاد الحنث في النكاح الثاني تملك بالعقد الواحد أكثر من ثلاث تطليقات" بيانه أن النكاح يملك به ثلاثا والتنجيز كالتعليق فإنه يملك بالعقد الطلاق المنجز والمعلق ولا يزيد ذلك على ثلاث فلو عاد الحنث لملك ثلاثا بالعقد لو نجزها لوقعت

وملك المعلق بتقدير عود الحنث وهو محال. فائدة: ربما يظن بعض الناس أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر ليال فإذا طلع فجر الليلة العاشرة انقضت العدة. ووقع في التنبيه: "وإن كانت أمة اعتدت بشهرين وخمس ليال" ويقوي هذا الوهم حذف التاء من العشر وإنما يحذف مع المؤمن نحو سبع ليال وثمانية أيام. وجواب هذا أن المعدود إذا ذكر مع عدده فالأمر كما ذكر تحذف التاء مع المؤنث وتثبت مع المذكر وإذا ذكر العدد دون معدوده المذكر جاز فيه الوجهان حذف التاء وذكرها حكاه الفراء وابن السكيت وغيرهما وعلي هذا جاء قوله: "من صام رمضان واتبعه بست من شوال" ولم يقل: "بستة" وقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً} فهذه أيام بدليل ما بعدها وعلى هذا فلا تنقضي العدة حتى تغيب شمس اليوم العاشر وما وقع في التنبيه فغلط والله تعالى أعلم. ووقع له هذا في باب العدد وباب الاستبراء. فائدة: المرضع من لها ولد ترضعه والمرضعة من ألقمت الثدي للرضيع وعلى هذا فقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أبلغ من مرضع في هذا المقام فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعه لم تذهل عنه إلا لأمر أعظم عندها من اشتغالها

بالرضاع. وتأمل - رحمك الله تعالى - السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله: {ذَاتِ حَمْلٍ} فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل وعلى من هي في أول حملها ومبادئه فإذا قيل ذات حمل لم يكن إلا لمن ظهر حملها وصلح للوضع كاملا أو سقطا كما يقال ذات ولد فأتى في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع والله تعالى أعلم. فائدة: قال الشيخ تاج الدين: "سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن معنى قول الفقهاء للمطلق الطلاق الرجعي (قل راجعت زوجتي إلى نكاحي) ما معناه وهي لم تخرج من النكاح فإنها زوجة في جميع الأحكام؟ فقلت له: معناه إنها رجعت إلى النكاح الكامل الذي لم تكن فيه صائرة إلى بينونة بانقضاء زمان وبالطلاق صارت إلى بينونة بانقضاء العدة" فقال: "أحسنت". فائدة: القاضي والمفتى مشتركان في أن كلا منهما يجب عليه إظهار حكم الشرع في الواقعة ويتميز الحاكم بالإلزام به وإمضائه فشروط الحاكم ترجع إلى شروط الشاهد والمفتى والوالي فهو مخبر عن حكم الشارع بعلمه مقبول بعدالته منفذ بقدرته.

فائدة: كان الشيخ عز الدين يستشكل مذهب الشافعي في أن حجر الصبي يستمر بمجرد الفسق والسفه في الدين وقال: "قد اتفق الناس على أن المجهول يسمع الحاكم دعواه والدعوى عليه فالغالب في الناس وجودا عدم الرشد في الدين فلو كان الصلاح في الدين شرطا في كل الحجر لزم أن لا يسمع دعوى المجهول ولا إقراره وذلك خلاف الإجماع المستمر عليه العمل". فائدة: اختلف الناس هل السماء أشرف من الأرض أم الأرض أشرف من السماء؟ فالأكثرون على الأول. واحتج من فضل الأرض بأن الله تعالى أنشأ منها أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين وبأنها مساكنهم ومحله أحياء وأمواتا وبأن الله سبحانه وتعالى لما أراد إظهار آدم للملائكة قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} فأظهر فضله عليهم بعلمه واستخلافه في الأرض وبأن الله سبحانه وتعالى وضعها بأن جعلها محل بركاته عموما وخصوصا فقال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ} ووصف الشام بالبركة في ست آيات ووصف بعضها بأنها مقدسة ففيها الأرض المباركة والمقدسة والوادي المقدس وفيها بيته الحرام ومشاعر الحج والمساجد التي هي بيوته سبحانه والطور الذي كلم عليه كليمه ونجيه وبإقسامه سبحانه بالأرض عموما وخصوصا أكثر من إقسامه بالسماء فإنه أقسم بالطور والبلد الأمين والتين والزيتون ولما أقسم بالسماء أقسم بالأرض معها وبأنه سبحانه خلقها قبل خلق

السماء كما دلت عليه سورة (حم السجدة) وبأنها مهبط وحيه ومستقر كتبه ورسله ومحل أحب الأعمال إليه وهو الجهاد والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومغايظة أعدائه ونصر أوليائه وليس في السماء من ذلك شيء وبأن ساكنيها من الرسل والأنبياء والمتقين أفضل من سكان السماء من الملائكة كما هو مذهب أهل السنة فمسكنهم أشرف من مسكن الملائكة وبأن ما أودع فيها من المنافع والأنهار والثمار والمعارف والأقوات والحيوان والنبات ما هو من بركاتهم لم يودع في السماء مثله وبأن الله سبحانه قال: {وَفِي الأرض آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} ثم قال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فجعل الأرض محل آياته والسماء محل رزقه ولو لم يكن له فيها إلا بيته وبيت خاتم أنبيائه ورسله حيا وميتا وبأن الأرض جعلها الله قرارا وبساطا ومهادا وفراشا وكفاتا ومادة للساكن لملابسه وطعامه وشرابه ومراكبه وجميع آلاته ولا سيما إذا أخرجت بركتها وازّيّنت وأنبتت من كل زوج بهيج. قال المفضلون للسماء على الأرض: يكفي في فضلها أن رب العالمين سبحانه فيها وأن عرشه وكرسيه فيها وأن الرفيق الأعلى الذي أنعم الله عليه فيها وأن دار كرامته فيها وانها مستقر أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين يوم الحشر وأنها مطهرة مبرأة من كل شر وخبث ودنس يكون في الأرض ولهذا لا تفتح أبوابها للأرواح الخبيثة ولا يلج ملكوتها ولأنها مسكن من لا يعصون الله طرفة عين فليس فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو قائم وبأنها أشرف مادة من الأرض وأوسع وأنور وصفى وأحسن خلقه وأعظم آيات وبأن الأرض محتاجة في كمالها إليها ولا تحتاج هي إلى الأرض ولهذا جاءت في كتاب الله في غالب المواضع مقدمة على الأرض وجمعت وأفردت الأرض فبشرفها وفضلها أتى بها مجموعة وأما الأرض فلم يأت بها إلا مفردة وحيث أريد تعدادها قال: {وَمِنَ الأرْضِ} وهذا القول هو الصواب والله سبحانه وتعالى أعلم.

فائدة: فرق النكاح عشرون فرقة: الأولى: فرقة الطلاق الثانية: الفسخ للعسرة بالمهر الثالثة: الفسخ للعسر عن النفقة الرابعة: فرقة الإيلاء الخامسة: فرقة الخلع السادسة: تفريق الحكمين السابعة: فرقة العنين الثامنة: فرقة اللعان التاسعة: فرقة العتق تحت العبد العاشرة: فرقة الغرور الحادية عشر: فرقة العيوب الثانية عشرة: فرقة الرضاع الثالثة عشر: فرقة وطء الشبهة حيث تحرم الزوجة الرابعة عشر: فرقة إسلام أحد الزوجين الخامسة عشر: فرقة ارتداد أحدهما السادسة عشر: فرقة إسلام الزوج وعنده اختان أو أكثر من أربع أو امرأة وعمتها أو امرأة وخالتها السابعة عشر: فرقة السبا الثامنة عشر: فرقة ملك أحد الزوجين صاحبة التاسعة عشر: فرقة الجهل بسبق أحد النكاحين العشرون: فرقة الموت. فهذه الفروق منها إلى المرأة وحدها فرقة الحرية والغرور والعيب ومنها إلى الزوج وحده الطلاق والغرور والعيب أيضا ومنها ما للحاكم فيه مدخل وهو فرقة العنين والحكمين والإيلاء والعجز عن النفقة والمهر ونكاح الوليين ومنها ما لا يتوقف على أحد الزوجين ولا الحاكم هو اللعان والردة والوطء بالشبهة وإسلام أحدهما وملك احد الزوجين صاحبة والرضاع. وهذه الفرق منها ما لا يتلافى إلا بعد زوج وإصابة وهو استيفاء الثلاث ومنها ما لا يتلافى أبدا وهو فرقة اللعان والرضاع والوطء بشبهة ومنها مالا يتلافى في العدة خاصة وهي فرقة الردة وإسلام احد الزوجين الطلاق الرجعي ومنها ما يتلافى بعقد جديد وهي فرقة الخلع والإعسار بالمهر والنفقة وفرقة الإيلاء والعيوب والغرور وكلها فسخ إلا الطلاق وفرقة الإيلاء والفرقة بالحكمين.

فائدة: حيث أطلق الفقهاء لفظ الشك فمرادهم به التردد بين وجود الشيء وعدمه سواء تساوى الاحتمالان أو رجح أحدهما كقوله: إذا شك في نجاسة الماء أو طهارته أو أنتقاض الطهارة أو حصولها أو فعل ركن في الصلاة أو شك هل طلق واحدة أو أكثر؟ أو شك هل غربت الشمس أم لا؟ ونحو ذلك بنى على اليقين ويدل على صحة قوله صلى الله عليه وسلم: " وليطرح الشك وليبن على ما أستيقن ". وقال أهل اللغة: الشك خلاف اليقين، وهذا ينتقض بصور: منها أن الإمام متى تردد في عدد الركعات بنى على الأغلب من الاحتمالين. ومنها أنه إذا شك في الأولى بنى على الأغلب في ظنه عندما يجوز له التحري. ومنها أنه إذا شك في القبلة بنى على غالب ظنه في الجهات. ومنها أنه إذا شك في دخول وقت الصلاة جاز له أن يصلى إذا غلب على ظنه دخول الوقت. ومنها أنه إذا غلب على ظنه عدالة الراوي والشاهد عمل بها ولم يقف على اليقين. ومنها إذا شك في المال هل هو نصاب أم لا وغلب على ظنه أنه نصاب فإنه يزكيه كما لو أخبره خارص واحد بأنه نصاب. ومنها لو وجد في بيته طعاما وغلب على ظنه أنه أهدى له جاز له الأكل وإن لم يتيقن كما لو أخبره بد ولده أو امرأته. ومنها أنه لو شك في مال زيد هل هو حلال أم حرام وغلب على ظنه أنه حرام فإنه لا يجوز له الأكل منه. ونظائر ذلك كثيرة جدا فما ذكر من القاعدة ليس بمطرد.

فائدة: إذا تزاحم حقان في محل أحدهما متعلق بذمة من هو عليه والآخر متعلق بعين من هي له قدم الحق المتعلق بالعين على الآخر لأنه يفوت بفواتها بخلاف الحق الآخر وعلى ذلك مسائل: أحدها: إذا جنى العبد المرهون قدم المجنى عليه بموجب جنايته على المرتهن لاختصاص حقه بالعين خلاف المرتهن. الثانية: إذا جنى عبد المدين قدم المجنى عليه على الغرماء كذلك. الثالثة: إذا تشاح البائع والمشتري في المبتدىء بالتسليم فإن كانا عينين جعل بينهما عدل وإن كان الثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع أولا لتعلق حقه بعين المبيع بخلاف المشتري فإن حقه متعلق بذمة البائع. قاعدة: فرق بين ما ثبت ضمنا وبين ما ثبت أصالة بأنه يغتفر في الثبوت الضمني ما لا يغتفر في الأصل وعلى ذلك مسائل: ومنها لو أقر المريض بمال لوارث لم يقبل إقراره ولو اقر بوارث قبل إقراره واستحق ذلك المال وغيره. ومنها لو اشترى منه سلعة فخرجت مستحقة رجع عليه بدرك المبيع وقد تضمن شراؤه منه إقراره له بالملك وقد أقر له بالملك صريحا ثم اشتراها فخرجت مستحقة لا يرجع عليه بالدرك. ومنها لو قال الكافر لمسلم أعتق عبدك المسلم عنى وعلى ثمنه فإنه يصح في أحد الوجهين ونظيره إذا أعتق الكافر الموسر شركا له في عبد مسلم عتق عليه

جميعه في أحد الوجهين ولو قال للمسلم يعني عبدك المسلم حتى أعتقه لم يصح بيعه. قاعدة: ما تبيحه الضرورة يجوز الاجتهاد فيه حال الاشتباه وما لا تبيحه الضرورة فلا وعلى هذه مسائل: أحدها: إذا اشتبهت أخته بأجنبية لم يجز له الاجتهاد في أحدهما. الثانية: طلق إحدى امرأتيه واشتبهت عليه لم يجز له أن يجتهد في إحداهما. الثالثة: اشتبه عليه الطاهر بالنجس لم يجب عليهم أن يتحرى في أحدهما وهذا بخلاف ما لو اشتبهت ميتة بمذكاة أو طاهر بنجس للشرب عند الضرورة تبيحه وتبيح ترك القبلة في حال المسايفة وغيرها. قاعدة: ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مبدله لم يبق متعبدا به بحال فإن وجود المبدل بعد الشروع فيه كوجوده قبل الشروع فيه وما لم يبطل حكمه رأسا بل بقى معتبرا في الجملة لم يبطل وجود المبدل بعد الشروع فيه وعلى هذا مسائل: إحداهما: المعتدة بالأشهر إذا صارت من ذوات القرء قبل انقضاء عدتها أنتقلت إليها لبطلان اعتبار الأشهر حال الحيض. الثانية: المتيمم إذا قدر على الماء بعد التيمم سواء شرع في الصلاة أولم يشرع فيها بطل تيممه. الثالثة: إذا شرع في صوم الكفارة ثم قدر على الإطعام أو العتق لم يلزمه الانتقال عنه إليهما لأن الصوم

لم يبطل اعتباره بالقدرة على الطعام بل هو معتبر في كونه عبادة وقربة وقد شرع فيه كذلك ولم يبطل تقربه وتعبده به. الرابعة: المتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال لذلك وفرق ثان أن الاعتبار في الكفارات بحال وجوبها على المكلف لأنه حال استقرار الواجب في ذمته فالواجب عليه أداؤها كما وجبت في ذمته ولهذا لو قدر على الطعام بعد الحنث وقبل الصوم لم يلزمه الانتقال إليه كذلك بخلاف العدة والصلاة فإن الواجب عليه أداء الصلاة على أكمل الأحوال وإنما أبيح له ترك ذلك للضرورة وما أبيح بشرط الضرورة فهو عدم عند عدمها وكذلك العدة سواء. قاعدة: المكلف بالنسبة إلى القدرة والعجز في الشيء المأمور به والآلات المأمور بمباشرتها من البدن له أربعة أحوال: إحداهما: قدرته بهما فحكمه ظاهر كالصحيح القادر على الماء والحر القادر علىالرقبة الكاملة الثانية: عجزه عنهما كالمريض العادم للماء والرقيق العادم للرقبة فحكمه أيضا ظاهر الثالثة: قدرته ببدنه وعجزه عن المأمور به كالصحيح العادم للماء والعاجز عن الرقبة في الكفارة فحكمه الانتقال إلى بدله إن كان له بدل يقدر عليه كالتيمم أو الصيام في الكفارة ونحو ذلك فإن لم يكن له بدل سقط عنه وجوبه كالعريان العاجز عن ستر عورته في الصلاة فإنه يصلى ولا يعيد الرابعة: عجزه ببدنه وقدرته على المأمور أو بدنه فهو مورد الإشكال في هذه الأقسام وله صور: إحداها: المغصوب الذي لا يستمسك على الراحلة وله مال يقدر أن يحج به عنه فالصحيح وجوب الحج عليه بماله لقدرته على المأمور به وإن عجز عن مباشرته هو بنفسه

وهذا قول الأكثرين ونظيره القادر على الجهاد بماله العاجز ببدنه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء وهما رويتان منصوصتان عن أحمد رحمه الله تعالى الصورة الثانية: الشيخ الكبير العاجز عن الصوم القادر على الإطعام فهذا يجب عليه الإطعام عن كل يوم مسكينا في اصح أقوال العلماء الصورة الثالثة: المريض العاجز عن استعمال الماء فهذا حكمه حكم العادم وينتقل إلى بدله كالشيخ العاجز عن الصيام ينتقل إلى الإطعام. وضابط هذا أن المعجوز عنه في ذلك كله إن كان له بدل أنتقل إلى بدله وإن لم يكن له بدل سقط عنه وجوبه. فإذا تمهدت هذه القاعدة ففرق بين العجز ببعض البدن والعجز عن بعض الواجب فليسا سواء بل متى عجز ببعض البدن لم يسقط عنه حكم البعض الآخر وعلى هذا إذا كان بعض بدنه جريحا وبعضه صحيحا غسل الصحيح وتيمم للجريح على المذهب الصحيح كما دل عليه حديث الجريح. ونظيره إذا ملك المعتق بعض ما يتمكن به من عتق واجب لزمه الإعتاق. ونظيره إذا ذهب بعض أعضاء وضوئه وجب عليه غسل الباقي وأما إذا عجز عن بعض الواجب فهذا معترك الإشكال حيث يلزمه به مرة ولا يلزمه به مرة ويخرج الخلاف مرة فمن قدر على إمساك بعض اليوم دون إتمامه لم يلزمه اتفاقا ومن قدر على بعض مناسك الحج وعجز عن بعضها لزم فعل ما يقدر عليه ويستناب عنه فيما عجز عنه ولو قدر بعض رقبة وعجز عن كاملة لم يلزمه عتق البعض ولو قدر على بعض ما يكفيه لوضوئه أو غسله لزمه استعماله في الغسل وفي الوضوء وجهان: أحدهما: يلزمه والثاني: له أن ينتقل إلى التيمم ولا يستعمل الماء. وضابط الباب أن ما لم يكن جزؤه عبادة مشروعة لا يلزمه الإتيان به كإمساك بعض اليوم وما كان جزؤه عبادة مشروعة لزمه الإتيان به كتطهير الجنب بعض أعضائه فإنه يشرع كما عند النوم والأكل والمعاودة يشرع له الوضوء تخفيفا للجنابة. وعلى هذا جوز الإمام أحمد للجنب أن يتوضأ ويلبث في المسجد كما كان الصحابة يفعلونه وإذا ثبت

تخفيف الحدث الأكبر في بعض البدن فكذلك الأصغر. يبقى أن يقال: فهذا ينتفض عليكم بالقدرة على عتق بعض العبد فإنه مشروع ومع هذا فلا يلزمونه به. قيل: الفرق بينه وبين القدرة على بعض الطهارة أن الله سبحانه وتعالى إنما نقل المكلف إلى البدن عند عدم ما يسمى ماء فقال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وبعض ماء الطهارة ماء لا يتيمم مع وجوده. وأما في العتق فإن الله سبحانه وتعالى نقله إلى الإطعام والصيام عند استطاعه إعتاق الرقبة فقال: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} لا ريب فيه أن المعنى فمن لم يستطع فتحرير رقبة ولا يحتمل الكلام غير هذا البتة والقادر على بعض الرقبة غير مستطيع تحرير رقبة والله سبحانه وتعالى أعلم. فهذا ما ظهر لي في هذه القاعدة. فائدة: من وجب عليه شيء وأمر بإنشائه فامتنع فهل يفعله الحاكم عنه أو يجبره عليه؟ فيه خلاف مأخذه أن الحاكم نصب نائبا ووكيلا من جهة الشارع لصاحب الحق حتى يستوفيه له أو مجبرا وملزما لمن هو عليه حتى يؤديه فإذا اجتمع الأمران في حكم فهل يغلب وصف الإلزام والإجبار أو وصف الوكالة والنيابة هذا سر المسألة وعلى هذا مسائل: إحداها: المولى إذا امتنع من الفيئة والطلاق فهل يطلق الحاكم عليه أو يجبره على الطلاق فيه خلاف. الثانية: إذا امتنع من الإنفاق على رقيقة أو على بهيمته لإعساره كلف بيع البعض للإنفاق على الباقي فإذا امتنع فهل يجبره عليه أو يبيع الحاكم عليه فيه خلاف أيضا. الثالثة: إذا اشترى عبدا بشرط العتق وامتنع من عتقه وقلنا لا نجبر البائع بين الفسخ والإمضاء فهل يجبر على العتق أو يعتق الحاكم فيه خلاف.

فائدة: الشافعي رضي الله عنه يبالغ في رد الاستحسان وقد قال به في المسائل: الأولى: أنه استحسن في المتعة في حق الغني أن يكون خادما وفي حق الفقير مقنعة وفي حق المتوسط ثلاثين درهما. الثانية: استحسن التحليف بالمصحف. الثالثة: أنه استحسن في خيار الشفعة أن تكون ثلاثة أيام. الرابعة: أنه نص في أحد أقواله أنه يبدأ في النضال بمخرج السبق اتباعا لعادة الرماة قال: "أصحابه هو استحسان". فائدة: من أصول مالك اتباع عمل أهل المدينة وإن خالف الحديث وسد الذرائع وإبطال الحيل ومراعاة المقصود والنيات في العقود واعتبار القرائن وشواهد الحال في الدعاوى والحكومات والقول بالمصالح والسياسة الشرعية. ومن أصول أبي حنيفة الاستحسان وتقديم القياس وترك القول بالمفهوم ونسخ الخاص المتقدم بالعام المتأخر والقول بالحيل. ومن أصول الشافعي مراعاة الألفاظ والوقوف معها وتقديم الحديث على غيره. ومن أصول أحمد الأخذ بالحديث ما وجد إليه سبيلا فإن تعذر فقول الصحابي ما لم يخالف فإن اختلف أخذ من أقوالهم بأقواها دليلا وكثيرا ما يختلف قوله عند اختلاف أقوال الصحابة فإن تعذر عليه ذلك كله أخذ بالقياس عند الضرورة وهذا قريب من أصول الشافعي بل هما عليه متفقان.

فائدة: شرط العمل بالظنيات الترجيح عند التعارض فإن وقع التساوي ففيه قولان التخيير والتوقف فإن كان طريق التقليد فهل يشترط الترجيح في أعيان من يقلده فيه وجهان فإن كان طريق العمل اليقين فلا مدخل للترجيح هناك إذ الترجيح إنما يكون بين متعارضين ولا تعارض في اليقينيات وهل تسمع المعارضة فيها فيه لأهل الجدل قولان منهم من يسمعها ومنهم من لا يسمعها والحق التفصيل أنها إن كانت معارضة في مقدمة قطعية لم تسمع بحال وإن كانت معارضة في غيرها سمعت. فائدة: الحقوق المالية الواجبة لله تعالى أربعة أقسام: أحدها: حقوق المال كالزكاة فهذا يثبت في الذمة بعد التمكن من أدائه فلو عجز عنه بعد ذلك لم يسقط ولا يثبت في الذمة إذا عجز عنه وقت الوجوب وألحق بهذا زكاة الفطر. القسم الثاني: ما يجب بسبب الكفارة ككفارة الأيمان والظهار والوطء في رمضان وكفارة القتل فإذا عجز عنها وقت انعقاد أسبابها ففي ثبوتها في ذمته إلى الميسرة أو سقوطها قولان مشهوران في مذهب الشافغي وأحمد. القسم الثالث: ما فيه معنى ضمان المتلف كجزاء الصيد وألحق به فدية الحلق والطيب واللباس في الإحرام فإذا عجز عنه وقت وجوبه ثبت في ذمته تغليبا لمعنى الغرامة وجزاء المتلف وهذا في الصيد ظاهر

وأما في الطيب وبابه فليس كذلك لأنه ترفه لا إتلاف إذ الشعر والظفر ليسا بمتلفين ولم تجب الفدية في إزالتها في مقابلة الإتلاف لأنها لو وجبت لكونها إتلافا لتقيدت بالقيمة ولا قيمة لها وإنما هي من باب الترفه المحض كتغطيه الرأس واللباس فأي إتلاف ههنا وعلى هذا فالراجح من الأقوال أن الفدية لا تجب مع النسيان والجهل. القسم الرابع: دم النسك كالمتعة والقرآن فهذه إذا عجز عنها وجب عنها بدلها من الصيام فإن عجز عنها ترتب في ذمته أحدهما فمتى قدر عليه لزمه وهل الاعتبار بحال الوجوب أو بأغلظ الأحوال فيه خلاف. وأما حقوق الآدميين فإنها لا تسقط بالعجز عنها لكن إن كان عجزه بتفريط منه في أدائها بها الآخرة وأخذ لأصحابها في حسناته وإن كان عجزه بغير تفريط كمن احترق ماله أو غرق أو كان الإتلاف خطأ مع عجزه عن ضمانه ففي إشغال ذمته به وأخذ أصحابها من حسناته نظر ولم أقف على كلام شاف للناس في ذلك والله تعالى أعلم. فائدة: قولهم من ملك الإنشاء لعقد ملك الإقرار به ومن عجز عن إنشائه عجز عن الإقرار به غير مطرد ولا منعكس فأما اختلال طرده ففي مسائل: أحدها: ولي المرأة غير المجبرة يملك إنشاء العقد عليها دون الإقرار به الثانية: الوكيل في الشراء إذا أنه اشترى ما وكل فيه وأنكره الموكل لم يقبل إقراره عليه مع ملكه لإنشائه الثالثة: الوكيل بالبيع إذا أقر به وأنكر الموكل فالقول قول الموكل وأما اختلال عكسه ففي مسائل: الأولى: أن العاقل لا يملك إنشاء إرقاق نفسه ولو أقر به قبل فهذا عاجز عن الإنشاء قادر على الإقرار. الثانية: المرأة عاجزة عن إنشاء النكاح ولو أقرت به قبل إقرارها. الثالثة: لو أقر العبد المأذون بعد الحجر عليه بدين قبل إقراره ولم يملك الإنشاء. الرابعة: لو

أقر المريض لأجنبي أنه كان وهبه في الصحة ما يزيد على الثلث قبل إقراره في أصح الروايتين ولم يملك الإنشاء. الخامسة: الحاكم إذا بعد قال العزل كنت حكمت في ولايتي لفلان على فلان بكذا قبل قوله وحده وإن لم يملك الإنشاء وكذلك لو قال القاضي المعزول عن مال في يد أمين أقر أنه تسلمه منه هو لفلان وقال الأمين بل هو لفلان قبل قول القاضي دون الأمين. وهذه المسألة مما يعيا بها وهي رجلان في يد أحدهما مال وهو أمين عليه والآخر ليس المال في يده ولا له حكم ولا هو أمين عليه يقبل إقرار هذا الثاني في المال دون الأمين من كان يعلم أن الموت مدركه ... والقبر مسكنه والبعث مخرجه وأنه بين جنات ستبهجه ... يوم القيامة أو نار ستنضجه فكل شيء سوى التقوى به سمج ... وما أقام عليه منه أسمجه ترى الذي اتخذ الدنيا له وطنا ... لم يدر أن المنايا سوف تزعجه تظل على أكتاف أبطالها القنا ... وهاتيك في أغمارهن المناصل تحامى الرزايا ضف ومنسم ... وتلقى رداهن الذرى والكواهل وترجع أعقاب الرماح سليمة ... وقد حطمت في الدارعين العوامل فإن كنت تبغي العيش فاقنع توسطا ... فعند التناهي يقصر المتطاول مسائل: هل يجوز للحاكم أن يسمع شهادة أبية وابنه ويحكم بها؟ أجاب أبو الخطاب يجوز له سماع شهادتهما لغيره ويحكم بها. جواب ابن عقيل يجوز إذا لم يتعلق عليهما من ذلك تهمة ولم يوجب لهما بقبول شهادته ريبة لم تثبت بطريق التزكية. إذا سأل الحاكم الشهود عن مستند شهادتهم فقالوا أخبرنا جماعة أجاب؟ أبو

الخطاب: "تقبل شهادتهم في ذلك ويحكم فيه بشهادة الاستفاضة" وأجاب ابن عقيل "إن صرحا بالاستفاضة أو استفاض بين الناس قبل في الوفاة والنسب جميعا". من فتاوى أبي الخطاب وابن عقيل وابن الزاغوني: هل للذمي أن يصلى بإذن المسلم؟ أجاب أبو الخطاب لا يجوز له أذن المسلم أو لم يأذن لأنه حق لله تعالى لله تعالى، وأجاب ابن عقيل مثله. هل يصح أن توقف على المسجد ستور؟ أجاب أبو الخطاب يصح وقفها على المسجد ويبيعها وينفق أثمانها على عمارته ولا ستر حيطانه بخلاف الكعبة الشريفة فإنها خصت بذلك كما خصت بالطواف حولها، وأجاب ابن عقيل لا ينعقد هذا الوقف رأسا لأنه بدعة وهو على حكم الميراث. إذا وجد لقطه فخاف إذا عرفها أن ينتزعها منه ظالم؟ أجاب أبو الخطاب لا يكون معذورا في ترك التعريف ولا يملكها إلا بعد تعريفها، أجاب ابن عقيل التعريف يراد به حفظها على مالكها وهذا التعريف يفضي إلى تضييعها فيدعها أبدا في يده إلى أن يجد فسحة وأمنا فيعرفها حولا. إذا وجد في البرية شاة فذبحها؟ وجب عليه ضمانها إذا جاء مالكها وفي المصر يعرفها لأن الظاهر أنها خرجت من دار أهل المحلة بخلاف البرية هذا جواب أبي الخطاب، وجواب ابن عقيل لا يجوز له ذبحها أوان ذبحها ثم ولزمه ضمان قيمتها. إذا صادر السلطان إنسانا وعنده وديعة هل يضمن؟ أجاب أبو الخطاب عليه الإثم والضمان إذا فرط فيها فإن تحقق أنه يتأذى في نفسه كان عليه الضمان من غير إثم فإن استدعى السلطان المودع إذا لم يدله عليها وأخذت بغير اختياره فلا ضمان عليه، جواب ابن عقيل إذا غلب على ظنه أنه يأخذها منه بإقراره وكان ذلك دلالة عليها وعليه الضمان. إذا كان عنده وديعة فاعترض السلطان لها ظلما؟ أجاب أبو الخطاب إن حلف وورّى عنها وتأول كان مثابا مثل أن يحلف أنه لم يودعني في المسجد الحرام أو بموضع لم يسلكاه أو في زمان كرمضان ونحوه فإن لم يحلف وأخذها السلطان من حرزه لم يضمن فإن طلب منه أن يحلف بالطلاق فدفعها إليه أو دله على مكانها ضمن، وأجاب ابن عقيل لا يسقط الضمان بخوفه

من وقوع الطلاق بل يضمن بدفعها إليه لأنه افتدى بها عن ضرره بوقوع الطلاق إذا كان كلب المسلم قد علمه مجوسي فهل يجوز أن يصطاد به أجاب أبو الخطاب وابن عقيل بالإيجاب. هل يجوز كتابة المصحف بالذهب؟ وهل تجب فيه الزكاة؟ فإن وجبت فهل يجوز حكه لمعرفة قدره؟ أجاب أبو الخطاب تجب فيه الزكاة إن كان نصابا ويجوز له حكه وأخذه، وسأل عنها ابن عقيل بن الزاغوني فأجاب إنّ كتابة القرآن بالذهب حرام لأنه من جملة زخرفة المصاحف ويؤمر بحكه ورفعه وإن كان مما إذا حكّ اجتمع منه شيء يتمول وجبت فيه الزكاة لأنه ينزل منزلة الأواني المحرمة وإن كان إذا حك لا يجتمع منه شيء كان بمنزلة التالف فلا شيء فيه. إذا أجّرت امرأة نفسها للرضاع فكان الصوم ينقص من لبنها أو يغيره فطالبها أهل الصبي بالفطر في رمضان لأجل ذلك هل يجوز لها الفطر؟ فإن لم يجز هل يثبت لأهل الصبي الخيار؟ وما المانع من جوازه وقد قلنا يجوز للأم أن تفطر؟ أجاب أبو الخطاب إذا كانت قد أجّرت نفسها إجارة صحيحة جاز لها الإفطار إذا نقص لبنها أو تغير بحيث يتأذى بذلك المرتضع وإذا امتنعت لزمها ذلك فإن لم تفعل كان لأهل الصبي الخيار في الفسخ، أجاب ابن الزاغوني وقد سئل عنها يجوز لها أن تؤجر نفسها للرضاع لولدها ولغير ولدها سواء وجد غيرها أو لم يوجد، فإذا أدركها الصوم الفرض فإن كان لا يلحقها المشقة ولا يلحق الصبي الضرر لم يجز لها الفطر وإن لحقها المشقة في خاصتها دون الصبي جاز لها الفطر وتقضي ولا فدية عليها وإن لحقها ولحق الصبي المشقة والضرر جاز لها الفطر ووجب عليها مع القضاء الفدية وإن أبت الفطر مع تغيير اللبن ونقصانه بالصوم فمستأجرها لرضاع الصبي بالخيار في المقام على العقد وفي الفسخ فإن قصدت بالصوم الإضرار بالصبي أثمت وعصت وكان للحاكم إلزامها الفطر إذا طلب ذلك. إذا علم قردا أن يدخل دور الناس ويخرج المتاع فهل يقطع بذلك صاحبه؟ أجاب أبو الخطاب: لا يلزمه القطع، وأجاب ابن عقيل لاحكم لفعل القرد في نفسه ولا

قطع على صاحبه وإنما عليه الرد لما أخذه والغرم لما أتلفه. وسئل ابن الزاغوني عن هذه المسألة بعينها وقيل له ما الفرق بينها وبين لو أمر صبيا لا يعقل بالقتل فإنه يجب القود على الآمر. فأجاب بأنه لا قطع ويجب الرد والضمان. وأما إذا أمر صبيا أو أعجميا فإنه يتعلق به الضمان لأن فعل الصبي أو الأعجمي مضمون في الخطأ على عاقلته. وقد قال قوم من الفقهاء للصبي عمل في القتل ولم يقل أحد في فعل القرد مثل ذلك. قلت: لو قيل بالقطع لكان أولى لأن القرد آلته فهو ككلابه وخطافته وكما لو رمي حبلا فيه دبق فعلق به المتاع ولا يقوى الفرق بين هذه الصورة ومسألة القرد. وقد قالوا لو أرسل عليه حية أو سبعا اقتله افتداه نزلوا الحية والسبع منزلة سلاحه فتنزيل القرد هنا منزلة آلته وعدته التي يتناول بها المتاع منه أولى فهذه الأسباب التي يخرج بها المسروق من الحرز لا يمكن الاحتراز منها غالبا وأسباب القتل يمكن التحرز منها غالبا. وأيضا فجناية القرد حصلت بتعليم صاحبه وجناية الحية والسبع لم يحصل بتعليم من أنهشها والله أعلم. إذا وطىء ميتة هل عليه إعادة غسلها؟ أجاب ابن الزاعوني ينظر فيه فإن كان صلى عليها فلا غسل عليها لأن الغسل طهارتها لأجل الصلاة عليها وإن لم يكن صلى عليها أعيد غسلها. وقد اختلف أصحابنا في وطء الميتة هل يوجب الحد وينشر الحرمة؟ على وجهين: أحدهما: يوجب الحد وينشر الحرمة فعلى هذا إيجاب الغسل أولى. والثاني: لا يجب الحد ولا ينشر الحرمة فعلى هذا يكون الأمر على التفصيل المتقدم. وأجاب أبو الخطاب عن هذه المسألة بأن قال: "يجب غسلها بعد الوطء كذا الظاهر عندي ولا أعرف فيه رواية".

فوائد شتى: قال القاضي: "نص أحمد على أن الإسراء كان يقظة وحكي له أن موسى بن عقبة قال: "أحاديث الإسراء منام" فقال: "هذا كلام الجهمية". ونقل حنبل أن الرؤية منام ونقل الأثرم وغيره أنه رآه ولا يطلق سوى ذلك وقال أبو بكر النجار: "رآه إحدى عشرة مرة بالسنة تسع مرات ليلة المعراج حين كان يتردد بين موسى وبين ربه عز وجل ومرتين بالكتاب". فائدة: قال القاضي: "صنف المروزي كتابا في فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه إقعاده على العرش" قال القاضي: "وهو قول أبي داود وأحمد بن أصرم ويحيى بن أبي طالب وأبى بكر بن حماد وأبى جعفر الدمشقي وعياش الدوري وإسحاق بن راهوية وعبد الوهاب الوراق وإبراهيم الأصبهإني وإبراهيم الحربي وهارون بن معروف ومحمد بن إسماعيل السلمي ومحمد بن مصعب بن العابد وأبي بن صدقة ومحمد بن بشر بن شريك وأبى قلابة وعلي بن سهل وأبى عبد الله بن عبد النور وأبي عبيد والحسن بن فضل وهارون بن العباس الهاشمي وإسماعيل بن إبراهيم الهاشمي ومحمد بن عمران الفارسي الزاهد ومحمد بن يونس البصري وعبد الله ابن الإمام والمروزي وبشر الحافي". انتهى. قلت: وهو قول ابن جرير الطبري وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير وهو قول أبي الحسن الدارقطني ومن شعره فيه

حديث الشفاعة عن أحمد ... إلى أحمد المصطفى مسنده وجاء حديث بإقعاده ... على العرش أيضا فلا نجحده أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده ولا تنكروا أنه قاعده ... ولا تنكروا أنه يقعده فائدة: سئل القاضي عن مسائل عديدة وردت عليه من مكة وكان منها: - ما تقول في قول الإنسان إذا عثر: (محمد أو علي) ؟ فقال: إن قصد الاستعانة فهو مخطىء لأن الغوث من الله تعالى فقال وهما ميتان فلا يصح الغوث منهما ولأنه يجب تقديم الله على غيره". - إذا قال القاضي أفضل الناس بعد رسول الله الخلفاء ثم طلحة ثم الزبير ثم سعد إلى آخر العشرة؟ فأجاب: الأولى العطف على الأربعة بالواو لأن ثم تقتضي الترتيب فيقتضى تقديم طلحة على الزبير والزبير على عبد الرحمن ولا يمكن لأنه ليس فيه نقل يرجع إليه وعمر رضي الله عنه أمرهم أن يختاروا للخلافة واحدا من ستة ولم ينص على واحد منهم وظاهره التساوي. - ومنها وقد سئل عن حركة اللسان بالقرآن الكريم؟ فقال: "لا يجوز أن يقال إنها قديمة بل حركة اللسان بالقرآن الكريم محدثة" - ومنها في البدريين أنهم أفضل في الجملة من غيرهم ولا تفضل آحادهم على غيرهم لأنه قد يكون في غيرهم من هو أفضل من آحادهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" فخاير بين القرون في الجملة لأنه قد يكون في التفضيل من غيره أفضل منه ولهذا يعلم أن أحمد أفضل من يزيد ويزيد في عصر التابعين لما جرى من يزيد بما عاد في القدح في عدالته. - ومنها هل يجوز أن يقال إن الله يرحم الكافر؟ قال: "لا يجوز أن يقال إن الله يرحم الكافر

لأن فيه رد الخبر الصادق {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} إلى أمثاله بل يقال: يخفف عذاب بعضهم قال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} و {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} . فائدة: قال ابن عقيل: "قولهم: إن الله تعالى جعل للمرأة شهوة تزيد على شهوة الرجل بسبعة أجزاء؟ قال: لو كان كذلك ما جعل الله للرجل أن يتزوج بأربع ويتسرى بما شاء من الإماء وضيق على المرأة فلا تزيد على رجل ولها من القسم الربع وحاشا حكمته أن تضيق على الأحرج وتوسع على من دونه في الحرج". أجابه حنبلي آخر فقال: " إن ذلك إنما كان لعارض راجح وهو خوفه اشتباه الأنساب، وأيضا ففي التوسعة للرجل يكثر النسل الذي هو من أهم مقاصد النكاح، وأيضا فإن الرجل والمرأة لما اشتركا في التذاذ كل منهما بصاحبه وقضاء وطره منه وخص الرجل بالنفقة والكسوة وكلفة المرأة عوض بأن أطلق له الاستمتاع بغيرها، وأيضا فإن المرأة مقصورة في الخدر لا تدخل ولا تخرج إلا لحاجة حتى أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد لم يقع نظرها من الرجال على ما يقع نظر الرجل عليه فحاجته إلى أكثر من واحدة أشد من حاجتها، وأيضا فإن طبيعة الذكر الحرارة وطبيعة الأنثى البرودة وصأحب الحرارة يحتاج من الجماع فوق ما يحتاج إليه صاحب البرودة، وأيضا فإن الله فضل الذكر على الأنثى في الميراث والدية والشهادة والعقيقة وغير ذلك ولهذا قال تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} فكان من تفضيله الذكر على الأنثى أن خص بجواز نكاح أكثر من واحدة والله أعلم.

فائدة: سئل ابن عقيل هل يجوز أن يتخذ النساء السفر والمطارح والمخاد وغير ذلك حريرا؟ فقال: "لا بل ملابس فقط". فائدة: سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن رجل سمع مؤذنا يقول: أشهد أن محمدا رسول الله فقال: كذبت هل يكفر؟ فقال: "لا لا يكفر لجواز أن يكون قصده تكذيب القائل فيما قال لا في أصل الكلمة فكأنه قال: أنت لا تشهد هذه الشهادة كقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . فائدة: قال الخلال: حدثنا العباس بن أحمد اليمامي بطرسوس ثنا أو انبأ عبد الله رجل عن الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم "يكفر أحد من أهل التوحيد بذنب " فقال: "موضوع لا أصل له" فكيف بحديث النبي صلى الله عليه وسلم "من ترك الصلاة فقد كفر" فقال له: يورث بالملة؟ فقال: "لا يورث ولا يرث".

فائدة: قال ابن الجوزي في آخر منتخب الفنون مما بلغه عن ابن عقيل من غير الفنون قال سمعت أبا يعلى بن الفراء يقول: "من قال إن بينه وبين الله سرا فقد كفر وأي وصلة بينه وبين الإله وإنما ثم ظواهر الشرع فإن عنى بالسر ظاهر الشرع فقد كذب لأنه ليس بسر وإن شيئا وراء ذلك فقد كفر". وقال في قول المتوسلين بالميت: (اللهم إني أسلك بالسر الذي بينك وبين فلان) أي سر بين العبد وبين ربه لولا حماقة هذا القائل، قال ابن الجوزي معترضا عليه: "إنما يعنى المتوسل بذلك العبادات المستورة عن الخلق". فائدة: سئل رجل عن رجل تزوج أم رجل وأختيه؟ فقال: " صورة المسألة رجلان وطئا أمة في طهر واحد فأتت بولد فتداعياه فأرى القافة فألحقوه بهما على مذهب من يرى ذلك وكان للرجلين بنتان فجاء رجل أجنبي فتزوج بالأمة بعد عتقها وتزوج بنتي الواطئين لأنه ليس إحداهما أختا للأخرى وإن كانتا أختين للولد الملحق بالواطئين فقد جمع هذا الرجل الأجنبي بين أم ذلك الولد وأختيه من الواطئين فأمه ليست أمهما.

فائدة: استدل على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد بتخصيص آية الميراث بقوله: " لا نورث ما تركناه صدقة " والصديق أول من خصصه. قال ابن عقيل: "وهذه بلاهة من هذا المستدل فإن الصديق لم يخصصه إلا بما سمعه شفاها من النبي صلى الله عليه وسلم قطعي وليس النزاع فيه. فائدة: قال ابن عقيل في مناظرته لبعض المعتزلة: "أنتم اعتمدتم في نفي التثنية على دليل التمانع وهو بعينه ينقلب عليكم في خلق الأفعال لأنا إذا قدرنا أنه تعالى أراد تحريك جسم وأراد العبد تسكينه فلا يخلوا إلى آخره وفعل الله لا يدخل تحت مقدور العبد وفعل العبد لا يدخل تحت مقدور الله عندكم فلا انفكاك لكم البتة عن هذا السؤال فأين توحيدكم؟!. فائدة: جعفر بن محمد سألت أبا عبد الله عن رجل ينقد للناس مائة دينار بدرهم فخرج في نقده دينار ردىء؟ قال: "وجب عليه أن يرد من أجرته من مائة

من درهم" قال القاضي: "إنما صحت هذه الإجارة وإن لم يشاهد الدنانير لأنه لا تفاوت بين الدنانير في النقد فصحت الإجارة":. انتهى. فعلى هذا إذا استأجره ليكيل له مائة مكوك من طعام في بيت لم يره صحت الإجارة للعلة التي ذكرناها وإنما رجع عليه بجزء من مائة جزء من الدرهم لأن العمل لا يتفاوت في كل واحد منها كما لو كان له مائة مكوك إلا مكوكا واحدا. إذا رأى إنسانا يغرق فلا يمكنه تخليصه إلا بأن يفطر هل يجوز له الفطر؟ أجاب أبو الخطاب يجوز له الفطر إذا تيقن تخليصه من الغرق ولم يمكنه الصوم مع التخليص. وأجاب ابن الزاغوني عنها إذا كان يقدر على تخليصه وغلب على ظنه ذلك لزمه الإفطار وتخليصه ولا فرق بين أن يفطر بدخول الماء في حلقه وقت السباحة أو كان يجد من نفسه ضعفا عن تخليصه لأجل الجوع حتى يأكل لأنه يفطر للسفر المباح فلأن يفطر للواجب أولى. قلت: أسباب الفطر أربعة: السفر والمرض والحيض والخوف على هلاك من يخشى عليه بصوم كالمرضع والحامل إذا خافتا على ولديهما ومثله مسألة الغريق، وأجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوي على الجهاد وفعله وأفتى به لما نازل العدو دمشق في رمضان فأنكر عليه بعض المتفقهين وقال: "ليس سفرا طويلا" فقال الشيخ: "هذا فطر للتقوي على جهاد العدو وهو أولى من الفطر للسفر يومين سفرا مباحا أو معصية والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم وربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة الإسلام وهل يشك فقيه أن الفطر ههنا أولى من فطر المسافر وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا على عدوهم" فعلل ذلك للقوة على العدو لا للسفر والله أعلم. قلت: إذا جاز فطر الحامل والمرضع لخوفهما على ولديهما وفطر من يخلص الغريق ففطر المقاتلين أولى بالجواز ومن جعل هذا من المصالح المرسلة فقد غلط بل هذا أمر من باب قياس الأولى ومن باب دلالة النص وإيمائه. إذا وطء ميتة هل يجب إعادة غسلها؟ أجاب ابن الزاغوني: "ينظر فيه فإن كان صلى عليها فلا غسل عليها لأن الغسل طهارتها لأجل الصلاة عليها وقد سقط فرض

الصلاة عنها بالأولى غير أنه يمنع من إعادة الصلاة عليها بعد ذلك وإن لم يكن صلى عليها أعيد غسلها، وقد اختلف أصحابنا في وطء الميتة هل يوجب الحد وينشر الحرمة فعلى هذا إيجاب الغسل أولى والثاني لا يجب الحد ولا ينشر الحرمة فعلى هذا يكون الأمر على التفصيل المتقدم". وأجاب أبو الخطاب عن هذه المسألة بأن قال يجب غسلها بعد الوطء كذا الظاهر عندي ولا أعرف فيه رواية". إذا صلى سهوا خلف المرأة؟ أجاب أبو الخطاب تلزمه الإعادة إذا علم وتجوز إمامة المرأة بالنساء ويجوز على رواية عن أحمد أن تصلي بالرجال نافلة وتكون وراءهم وهي بعيدة. قلت: إن كان أميا وهي قارئة لم تلزمه الإعادة وإن كان قارئا مثلها ففي وجوب الإعادة نظر إذ غاية ذلك أن يكون كرجل صلى خلف محدث لا يعلم حدثه فإنه لا تلزمه الإعادة وهنا أولى لأن صلاة المرأة في نفسها صحيحة بخلاف المحدث وأجاب ابن الزاغوني إذا علم ذلك حكم ببطلان صلاته والإعادة ولم يجوّز إمامنا أحمد أن يتابع رجل امرأة في الصلاة مفترضا فأما في النفل فإنه أجازه في موضع وهو إذا كانت امرأة تحفظ القرآن فإنه يجوز للأمي أن يتابعها في النافلة كصلاة التروايح وتكون صفوف الرجال بين يديها وهي والنساء خلفهم. إذا امتنع من صلاة الجمعة وقال أنا أصلي الظهر هل يقتل أم لا؟ أجاب أبو الخطاب يستتاب فإن تاب وإلا قتل زاد ابن عقيل في جوابه إذا لم يكن على وجه قد اعتقد اعتقاد بعض المجتهدين في أنها لا تتعقد في القرايا. جواب ابن الزاغوني الجمعة تفعل في موضعين: أحدهما: متفق على وجوبه فيه وهو البلد الكبير الواسع مع إذن الإمام في إقامتها فهذا متى ترك الجمعة في هذه الحالة قتل كما يقتل في سائر. والموضع الثاني: ما اختلف الفقهاء في وجوبها معه كالأرباض والقرى وإذا لم يأذن الإمام وأمثال ذلك فهذا إن ترك الجمعة متأولا قول أحد من الفقهاء فإنه يكون معذورا بذلك ولا يعترض

عليه. إذا كانت للأخرس إشارة مفهومة فأشار بها في صلاته فهل تبطل؟ أجاب ابن الزاغوني أما الإشارة برد السلام فلا تبطل الصلاة من الآخرس والمتكلم وأما غير ذلك فإنه يجري منهما مجرى العمل في الصلاة إن كان يسيرا عفي عنه وإن كان كثيرا أبطل الصلاة، وجواب أبي الخطاب إذا كثر ذلك منه بطلت صلاته، وجواب ابن عقيل إشارته المفهومة تجري مجرى الكلام فإن كانت برد السلام خاصة لم تبطل صلاته وما سوى ذلك تبطل. قلت: إشارة الآخرس منزلة كلامه مطلقا وأما تنزيلها منزلة الكلام في غير رد السلام خاصة فلا وجه له وإنما كان رد السلام من الناطق بالإشارة غير مبطل في أصح قولي العلماء كما دل على النص أن إشارته لم تنزل منزلة كلامه بخلاف الآخرس فإن إشارته المفهومة ككلام الناطق في سائر الأحكام. إذا توضأ بماء زمزم هل يجوز أم لا؟ أجاب ابن الزاغوني لا يختلف المذهب أنه منهي عن الوضوء منه والأصل في النهي قول العباس: "لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل". واختلف في السبب الذي لأجله ثبت النهي وفيه طريقان: أحدهما: أنه اختيار الواقف وشرطه وهو قول العباس. وقد اختلف أصحابنا في مسألة مثل هذه وهي أن رجلا لو سبّل ماء للشرب فهل يجوز لأحد أن يأخذ منه ما يتوضأ به؟ قال بعضهم: يجوز ويكره فعلى هذا يكون النهي عنها كراهة تنزيه لا تحريم. وقال آخرون من أصحابنا: لا يجوز له الوضوء به لأنه خلاف مراد الواقف فعلى هذا لا يجوز الوضوء بماء زمزم فأما الطريق الآخر أن سببه الكرامة والتعظيم. فإن قلنا ما يتحدر عن أعضاء المتوضىء طاهر غير مطهر كأشهر الروايات كره الوضوء بماء زمزم وإن قلنا بالرواية الثانية أنه يحكم بنجاسة ما ينفصل من أعضاء الوضوء حرام الوضوء به وإن قلنا بالرواية الثالثة أن المنفصل طاهر مطهر لم يحرم الوضوء به ولم يكره لأنه لم يؤثر الوضوء فيه بما يوجب رفع التعظيم عنه فأما إن أزال به نجاسة وتغير كان فعله محرما وإن لم يتغير وكان في الغسلة السابعة فهل يحرم أو يكره على روايتين وإن قلنا إن الماء لا ينجس إلا بالتغير فمتى انفصل

غير متغير في أي الغسلات كان كره ولم يحرم. قلت وطريقة شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية كراهة الغسل به دون الوضوء وفرق بأن غسل الجناية يجرى إزالة النجاسة من وجه ولهذا عمّ البدن كله لما صار كله جنبا ولأن حدثها أغلظ ولأن العباس إنما حجرها على المغتسل خاصة. وجواب أبي الخطاب وابن عقيل يصح الوضوء به رواية واحدة وهل تكره على روايتين. فوائد شتى من خط القاضي أبي يعلى: أبو الفرج الهمداني سمعت المروزي يقول: سئل أحمد عما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله احتجر التوبة عن صاحب بدعة وحجب التوبة" إيش معناه؟ فقال أحمد: "لا يوفق ولا يسير صاحب بدعة لتوبة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهل الأهواء والبدع ليست لهم توبة". فوائد: من مسائل أبي جعفر محمد بن أبي حرب الجرجاني بخط القاضي أبي يعلى: قيل لأبي عبد الله: الرجل يحفر إلى جنب قناة الرجل ولا يضر بها أله أن يمنعه؟ قال: "له يروى عن الزهري أنه قال: "حريم العيون خمس مائة ذراع" كأنه ذهب إليه. قيل لأبي عبد الله: فإن حفر على أكثر من خمس مائة ذراع فأضر به هل له أن يمنعه؟ قال: "ليس أن يمنعه إذا جاوز حريمه أضر به أو لم يضر به" قيل لأبي عبد الله: رجل عمل في قناة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء فجاء صاحب

القناة؟ فقال: "لهذا الذي عمل نفقته إذا عمل ما يكون منفعة لصاحب القناة". في الحاشية بخط القاضي: "إنما رجع بنفقته لأن الآبار كالأعيان ولو عمل في ملك غيره عملا له فيه أعيان رجع بها كذلك في الآبار هذا كلام القاضي". وفيه نظر. قيل لأبى عبد الله: الرجل يسبق إلى دكاكين السوق؟ قال: "إذا لم يكن لأحد ولم يحجز أخذه فمن سبق إليه عدوة فهو له إلى الليل" قال: "وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى". قيل: أيكره بيع الطعام وأن تكون تجارة الرجل كلها في الطعام؟ قال: "إذا لم يرد الحكرة فلا بأس هذا ضيق بالمدينة ومكة فأما ههنا فربما كان خيرا" ثم قال: "إنما ههنا شبه البحر. قيل: من أحق بالسوم؟ قال: "البائع". قلت له: فإن أوقد نارا في السفينة؟ فقال: "لا بد له من أن يطبخ" وكأنه لم يرد عليه. قيل له: رجل اشترى من رجل حائطا على أن يعمل له فيه سنة أو سنتين؟ قال: "لا بأس". وكتبت إلى أبي عبد الله أسأله قلت: بنت أخ لي خطبها ابن أخت لي فقير وأمها تقر ذلك؟ قال: "لا تفعل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وأمروا النساء في بناتهن" وما ذكرت من أمر الفقر فزوج فإن الفقر والغنى إلى الله فزوجت الفقير فلم أر إلا خيرا". وسألته عن الرجل يشترى البقر للأكار؟ فكرهه. قلت: يأخذ الرجل يحج عن الرجل؟ قال: "لا يأخذ". قلت: فيأخذ الفرس أو لا يأخذ في السبيل؟ قال: "يأخذ لم يزل الناس يأخذون فإذا بلغ مغزاه فهو كسائر ماله". وسئل عن الطواف؟ فقال: "ثلاثة واجبة طواف القدوم وطواف الزيارة وطواف الصدر وأما طواف الزيارة فلا بد منه ولو أنسية الرجل حتى يرجع إلى مدينته على أن يأتي به. قيل له: كيف يصنع؟ قال: يدخل معتمرا فيطوف بعمرة ثم يطوف للزيارة بعد ذلك. وسئل عن المحرم يغسل بدنه بالمحلب؟ قال: "أراه يكرهه وكره الأشنان". وسئل عن الخضاب للمحرم؟ فقال: "ليس هو بمنزلة الطيب ولكنه زينة". وسئل عن صيد الليل؟ فقال: "لا أعلم فيه شيئا". حديث ثابت روى فيه حديث ابن عباس ثم ذكر تفسيره أراه عن نافع أو غيره قال: "كانوا في الجاهلية إذا خرجوا يطيرون الطير من مكانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقروه في

مكانه" يعنى أنه لا يضر ولا ينفع ولم ير به باسا". وسئل عن أكل الكراث والبصل في السفر؟ قال: "إن كان من علة فأرجوا وإن كان من غير ذلك فلا يؤكل وأما الكراث فليس له كبير شيء وهو أهون من البصل". قيل له فالثوم؟ قال: "إنما جاءت الكراهة في الثوم والبصل فلا تأكل". وسألته عن أكل الجبن هل سمعت في كراهيته شيئا ثبت؟ قال: "لا وكأنه لم يكرهه ولم يتكلم فيه" وسألته عن شراء الأرض بالثغور؟ فقال: "هو أيسر من غيره لأنهم بإزاء العدو وهم يدفعون عن المسلمين". فوائد: من مسائل أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي لأحمد سمعت أبا عبد الله يقول: السائمة التي ترعى والسائبة التي تسيب وليس لها رعاء وفي السائمة الزكاة؟ وقال رجل لأحمد: بلغني أن نصارى يكتبون المصاحف فهل يكون ذلك؟ قال: "نعم نصارى الحيرة كانوا يكتبون المصاحف وإنما كانوا يكتبون لقلة من كان يكتبها فقال رجل: يعجبك ذلك؟ فقال: "لا يعجبني". وسئل عن رجل أعطى رجلا درهما يشترى له شيئا فخلطه مع دراهمه فضاع؟ قال: "ليس عليه شيء". وسئل عن رجل أوصى أن يشترى بألف درهم فرسا للجهاد ومائة للنفقة؟ قال: "يشترى له مثل ما أوصى لا يزاد على ذلك شيء قال: فإن أصيبا بأقل من ألف بخمسين أو أكثر؟ قال: يزاد على نفقته". إذا قال: بعتك هذه السلعة ولم يسم الثمن؟ أجاب أبو الخطاب: "لا يصح البيع وإذا قبض السلعة فهي مضمونة عليه". وجواب ابن الزاغوني: "أما البيع من غير ذكر العوض فإبطال وإذا اقتض السلعة عند هذا العقد فله ردها فإن تلفت تحت يده وجب عليه ضمانها في المشهور من المذهب لأنها تجرى مجرى المقبوضة على وجه السوم". وقد روي عن أحمد في المقبوض على وجه السوم إذا

تلف من غير تفريط فلا ضمان فيه ومثله ههنا. وجواب شيخنا ابن تيمية صحة البيع بدون تسمية الثمن فانصرافه إلى ثمن المثل كالنكاح والإجازة كما في دخول الحمام ودفع الثوب إلى القصار والغسال واللحم إلى الطباخ ونظائره. قال: فالمعاوضة بثمن المثل ثابتة بالنص والإجماع في النكاح وبالنص في إجارة المرضع في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وعمل الناس قديما وحديثا عليه في كثير من عقود الإجارة وكذلك البيع بما ينقطع به السعر وهو بيع بثمن المثل وقد نص أحمد على جوازه وعمل الأمة وعليه. قلت: والمحرمون له لا يكادون يخلصون منه فإن الرجل يعامل اللحام والخباز والبقال ويأخذ كل يوم ما يحتاج إليه من أحدهم من غير تقدير ثمن الذي ينقطع به وكذلك جرايات الفقهاء وغيرها فحاجة الناس إلى هذه المسألة تجرى مجرى الضرورة وما كان هكذا لا يجيء الشرع بالمنع منه البتة كيف وقد جاء بجوازهن في العقد الذي الوفاء بموجبه أكثر تأكيدا من غيره من العقود وهو النكاح وتفريقهم بينه وبين البيع بأن الصداق داخل فيه لا يصح بل هو ركن فيه يبطل العقد بنفيه كما نص عليه صاحب الشرع في الشغار وجاء بجوازه أيضا في عقد الإجارة الذي تقديره العوض فيها أكثر تأكيدا من تقديره في البيع لأن قيمة العين في البيع أقل اختلافا في المنفعة لأنها تتجدد بتجدد الأوقات فتختلف باختلافها غالبا فإذا جازت الإجارة بعوض المثل فالبيع بثمن المثل وما ينقطع به السعر أولى ولو فرعنا على بطلان العقد فالمقبوض به يضمن بنظيره وهو إما مثله وإما قيمته ولا يصح إلحاقه للمقبوض على وجه السوم فإن القابض هناك لم يدخل على أنه ضامن بل مختبر مقلب للمقبوض والقابض ههنا دخل على أنه ضامن بثمن المثل لم يقبضه على أنه مستام مقلب بل مالك له بعوضه فإذا تلف ضمنه فإن قيل هو لم يملكه بهذا العقد الفاسد قلنا دخل على أنه مالك ضامن فلا وجه لإسقاط الضمان عنه وكونه لم يملكه في نفس الأمر لا يوجب سقوط الضمان عنه

كالمستعار والمقبوض بالعقود الفاسدة والمغصوب وأما إذا فرعنا على صحة العقد فالضمان يكون بثمن المثل وهو القيمة لا بالمثل نفسه والله أعلم. كم مقدار التراب المعتبر في الولوغ؟ جواب أبي الخطاب: "ليس له حد وإنما هو بحيث تمر أجزاء التراب مع الماء على جميع الإناء". وأجاب ابن عقيل: "يكون بحيث تظهر صفته ويغير صفة الماء". وأجاب ابن الزاغوني فقال: النجاسات على ضربين: - نجاسة لا تزول عن محلها إلا بالحت والفرك والتراب الذي يظهر أثره فهذا الحت والقرص والتراب في إزالتها واجب. الثاني: ما يكفى فيها فراغ الماء ففي وجوب التراب فيها لأصحابنا وجهان: أحدهما: وجوبه عينا وهو اختيار أبي بكر. والثاني: مستحب غير واجب. والقائلون بوجوبه إذا كان المغسول مما لا يضره التراب الكثير فلا بد أن يطرح في الغسل ما يؤثر وإن كان مما يضره التراب كالثوب ونحوه فهل يجرى ما يقع عليه اسم التراب وإن لم يظهر أثره فيه أيضا عن أصحابنا وجهان: أحدهما: لا يجزئه إلا ما يظهر أثره. الثاني: يجزئه ما يقع على الاسم وإن لم يظهر أثره وهل ينوب عنه الصابون والأشنان وأمثال ذلك مما يضره التراب فيه عن أصحابنا وجهان. إذا قلنا الواجب التوجه إلى عين القبلة وكان الصف طويلا يزيد على سمت الكعبة؟ اختلف كلام أحمد في ذلك على روايتين: إحداهما: أن طول الصف مع البعد الكثير لا يؤثر ذلك ميلا عن الكعبة إلا قدرا يخفى أمره ويعسر اعتباره لا سيما فيما هو مأخوذ بالاجتهاد فعفي عنه. والرواية الثانية: أنه إذا طال الصف من جانبي الإمام انحرف الطرفان إلى ما يلي الإمام انحرافا يسيرا يجمع به توجيه الجميع إلى العين ولا يشبه هذا خلاف المجتهدين لأن كل واحد من المجتهدين يعتقد خطأ صاحبه في اجتهاده وفي مسألتنا قد اتفقا في الاجتهاد. قلت: الصواب أنه مع كثرة البعد يكثر المحاذي للعين فإن قيل هذا إنما يكون مع التقوس كالدائرة حول نقطة قلنا نعم ولكن الدائرة إذا عظمت واتسعت جدا فإن

التقوس لا يظهر في جوانب محيطها إلا خفيفا فيكون الخط الطويل متقوسا نحو شعرة وهذا لا يظهر للحس. إذا وطىء الصبي هل يجب عليه الغسل؟ أجاب ابن الزاغوني: "هذا لا نسميه جنبا لأن الجنب اسم لمن أنزل الماء والصبي لا ماء له وهل يجب عليه الغسل لالتقاء الختانين ينظر فيه فإن كان مراهقا وهو أن يجد الشهوة في ذلك وجب عليه الاغتسال وإن لم يجد ذلك فلا اغتسال عليه لكن يؤمر به تمرينا وعادة". وهكذا أجاب ابن عقيل عن هذه المسألة في صبي وطىء مثله؟ قال: "إن كان له شهوة لزمه الغسل وإن كان ذلك على سبيل اللعب لغير شهوة فلا غسل عليه". إذا سجد على شيء مرتفع لعذر فهل يجوز؟ أجاب ابن الزاغوني: "إذا كانت الأرض ذات صعود وهبوط فلا يضر إن سجد على الأعلى ويجلس في المنهبط فأما إذا كان متخذا كالدرجة والضفة وأمثال ذلك ولا حاجة تدعوه إلى السجود عليها فإنه لا يجوز له ذلك وإن كان مريضا لم يجز له أن يعتمد مثل ذلك بل يومىء بركوعه وسجوده ولا ينزل تحت جبهته شيئا دون الأرض يسجد عليه فأما إذا زحم ولم يقدر إلا أن يسجد على ظهر أخيه سجد على ظهر أخيه وأجزأه". وأجاب أبو الخطاب "إن كان ارتفاعه بحيث يخرج به عن صفة السجود لم يجزئه وإن فعل ذلك لعذر جاز" هل يجوز له أن يحدث حماما يتأذى به الجيران؟ أجاب أبو الخطاب: "لا يجوز له فعل ما يتأذى به عقار الجيران وأبنيتهم ويؤذيهم في أجسامهم". وأجاب ابن عقيل "إذا كان ذلك في خاصة ملكه بحيث لا يتزلزل حيطانهم بالرحا ولا يتعدى دخان نار حمامه ولا ينزو ماؤه إلى جدار جاره جاز". وأجاب ابن الزاغوني: "لا يجوز له أن يتصرف في ملكه على وجه يضر بجيرانه بزلزال حائط أو حر نار أو ماء ينزل في بالوعة أو غير ذلك مما به ضرر عليهم إلا بإذنهم". إذا قال القاضي لشاهدين اعلمكما أني حكمت

بكذا وكذا هل يجوز أن يقولا أشهدنا أنه حكم على نفسه بكذا وكذا؟ أجاب ابن الزاغوني: "الشهادة على الحاكم تكون في وقت حكمه فأما بعد ذلك فإنه مخبر لهما بحكمه فيقول الشاهد أخبرني أو أعلمني أنه حكم بكذا في وقت كذا". وأجاب أبو الخطاب وأبن عقيل بأنه لا يجوز أن يقولا أشهدنا وإنما يقولان أخبرنا وأعلمنا. قلت: الصواب المقطوع به أنه يجوز أن يقولا أشهدنا كما يقولان أعلمنا وأخبرنا لأن الخبرة شهادة وكل مخبر شاهد قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ثم ذكر شهادته فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} قال ابن عباس: "شهد عندي رجال مرضيون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر" الحديث وقال علي بن المديني: "أقول إن العشرة في الجنة ولا أشهد بذلك" فقال الإمام أحمد: "متى قلت هم في الجنة فقد شهدت". قال شيخنا: "وهذا صريح من أحمد أن لفظ الشهادة ليس بشرط"، قال:" وهو الصحيح". قلت: عن أحمد ثلاث روايات منصوصات حكاها أبو عبد الله بن تيمية في ترغيبه: - الاشتراط وهي المعروفة عند متأخري أصحابنا. - الثانية عدم الاشتراط اختارها شيخنا. الثالث: الفرق بين الأقوال والأفعال فإن شهد على الفعل لم يشترط لفظ الشهادة بل يكفيه أن يقول: رأيت وشاهدت وتيقنت ونحوه وإن شهد على القول فلا بد من لفظ الشهادة إذا عرف هذا. فإذا قال الحاكم أعلمكما أو أخبركما أو قال شاهد الأصل لشاهدي الفرع يعلمكما أو يخبركما بأنا نشهد بكذا وكذا ساغ أن يقولا اشهدنا كما ساغ أن يقولا أخبرنا وأعلمنا ولا فرق بينهما البتة لا في اللفظ ولا في المعنى ولا في الشرع ولا في الحقيقة فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين. قلت: والشريعة تأباه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع كتبه إلى رسله ينفذونها إلى المكتوب إليه ولم يقل لأحد منهم أشهدك أو هذا كتابي وكان الرسول يدفع كتابه إلى المرسل إليه ولا يقول أشهد أن هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أشهدني على ما فيه ولو سئل الشهادة لشهد

قطعا وقال أشهد أنه كتابه. مما يدل على أن لفظ الشهادة غير مشترط قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} ومعلوم قطعا أنه لم ينكر عليهم إلا مجرد قولهم إن الله حرم هذا لم يخص الإنكار بقول من قال يشهد أن الله تعالى حرمه ولا نهى رسول الله يتلفظ بالشهادة على التحريم بل هو نهي له أن يقول إن الله حرمه. فوائد: من مسائل شتى من جامع الأنباري سألته عن رجل مالا وديعة فمات الرجل الذي أودعه وله صبي فكان أوسع له أن يدفع المستودع المال إلى رجل مستور ينفق عليه. قال القاضي: "ومعنى هذا إذا لم يكن وصي ولا حكام". وسئل عن الرجل يكون له الجاه عند السلطان فيسأل له الماء؟ فاستقى منه إذا لم يكن تركه له يرد على من قد سئل عنه أو نحوا مما قلت له فأجاز لي ذلك إذا أخذت بقدر حاجتي وذهب في الشفعة أن لا يحلف للذي يطالبه وإن قدمه إلى الحاكم فأخرجه خرج ورأى أن ما كان في النطفة والعلقة أنه لا يكون نفاسا وما كان في حد المضغة أنه نفاس وودعته غير مرة فقال أحسن الله لك الصحابة وطوى لك البعيد. قلت له: كيف الحديث الذي جاء في المعاريض في الكلام؟ قال: المعاريض لا تكون في الشراء والبيع وتصلح بين الناس. وسألته عن الأذان الذي يوجب علي من كان خارجا من المصر أن يشهد الجمعة هو الأذان الذي على المنارة أو الأذان بين يدي المنبر؟ قال: "هو الذي في المنارة". وسألته عن كتابه الحديث بالأجرة؟ فلم ير به بأسا وكتابه القرآن أيضا. وسألته عن رجل اشترى من

رجل شيئا بدنانير أو دراهم فدفعها إليه فقال: "اذهب فانتقدها وزن حقك ورد عليّ الباقي فضاعت فرأى أنها من مال المشترى إلا أنه يقول هذا حقك فخذه ورد على الباقي فكان معنى قوله يكون من مال البائع إذا ضاعت. الرجل يوجد ميتا مخضوبا أقلف فرأى الصلاة عليه. قلت: فإن وجد ميتا أقلف فرأى دفنه ولم ير الصلاة عليه. وكنت على باب أحمد فجاء رجل يسأل عن رجل أراد أن يتصدق يعنى بمال اشترى به موضع غلته أو يتصدق به فخرج إليه الجواب أنه لا يدري من يقوم بها وقال: إن كان له قرابة محتاجون تصدق عليهم. قلت له: ما تقول فيمن باع دابة بنساء هل يشتريها من صاحبها إذا حل ماله بأقل مما باعها إذا كان قد هزلها وعمل عليها؟ فقال: "فيه اختلاف ولم يجزه ولم يعدل عنده أن يكون مثل من باع ما يكال فيأخذ ما يكال فذكرت له الشراء عند الضرورة فلم يكرهه. قلت: ما تقول إذا ضرب رجل بحضرتي أو شتمه فأرادني أن أشهد له عليه عند السلطان؟ فقال: "إن خاف أن يتعدى عليه لم يشهد وإن لم يخف شهد". ولم يعجبه أن يكون في الكفن ثوب رقيقا قال: "وكانوا يكرهون الرقيق". ومن مسائل البرزاطي: بخط القاضي أنتقاه من خط ابن بطة حديث ابن عمر: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع". قال ابن بطة: "أنا أقول هذا الحديث مرفوع ويدخل في المسند لقوله: "مضت السنة". مسجد فيه نخلة: أفترى لجيران المسجد أن يأكلوا من ثمرتها؟ فقال: "إن كانت في أرض لرجل فجعلها مسجدا والنخلة فيه لا بأس أن يأكلوا منها وإن كانت غرست بعد أن صار مسجدا وصلى فيه فهذه غرست بغير حق والذي غرسها ظالم غرس فيما لا يملك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق ". فلا أحب الأكل منها والتوقي منها

وسئل عن رجل تيمم في السفر لسجود القرآن أو للقراءة في المصحف وصلى به فريضة؟ قال: "يعيد ما صلى من الفريضة بذلك التيمم". قلت: يخرج الرجل من الصف ويقيم أباه في موضعه؟ قال: "ما يعجبني هو يقدر أن يبر أباه بغير هذا". رجل تيمم في السفر وصلى على جنازة ثم جيء بجنازة أخرى فصلى عليها بذلك التيمم؟ فقال: "إن جيء بالآخرى حين سلم من الأولى صلى عليها بذلك التيمم وإن كان بينهما مقدار ما يمكنه التيمم لم يصل على الأخرى حتى يعيد التيمم". قال القاضي: "قد ذكر هنا يتيمم لكل صلاة" وقال في الفوائت: "يصليها بتيمم واحد فتخرج الجميع على روايتين قوله إن جيء بالآخرى حين يسلم صلى بذلك التيمم لأحد وجهين: أحدهما: أن وقت الأولى إلى تمام فعلها فإذا جاء بعد ذلك فقد خرج الوقت والتيمم يقدر بالوقت. والثاني: أنه إذا جاءت الثانية عقيب الأولى لحقته المشقة في التيمم لتفاوت الزمان وإذا تراخى لم يشق ويجب أن تكون المسألة محمولة على أنه تعين عليه الصلاة عليها فأما إن لم يتعين عليه جاز أن يصلي بتيمم واحد كالنوافل تجمع بتيمم واحد ولو قيل إنه يصلى عليها بتيمم واحد مع التعين وجها واحدا. وفي الفوائت على روايتين لأن الجنازة إذا تعينت فهي فرض على الكفاية فهي أخف وتلك فرض على الأعيان فهي آكد" انتهى كلام القاضي. وعدنا إلى مسائل البرزاطي: الرجل يتوضأ بفضل وضوء المرأة وسؤرها؟ قال: "أكره ذلك". قلت: فإن توضأ وصلى؟ قال: "لا آمرهم بالإعادة". رجل في سوقة مسجد لا يصلي فيه إلا الظهر والعصر ويسأله أهل سوقه أن يصلي بهم فيه هاتين الصلاتين؟ قال: "أحب لهم أن يخرج يصلي مع الناس في مساجد الجماعة التي يصلي فيها الصلوات الخمس". مسجد في بعضه غصب؟ قال: "إذا كان موقف الإمام منه في الغصب أعاد الإمام ومن صلى خلفه وإذا لم يكن موقف الإمام في الغصب أعاد من صلى في الغصب". قلت: رجل دخل المسجد ورجلان

يقرءان سورتين فيهما سجدة فسجدا جميعا؟ قال: "إذا سمعها جميعا يقرآن السجدة وقد سجدا سجد الرجل سجدتين". سألت أحمد عن رجل يعمل القلانس ويبيعها فربما خلط القطن العتيق بالقطن الجديد أو بشيء من الصوف وحشي القلانس به؟ قال: "هذا من الغش وأكره له ذلك إلا أن يعرف من يشتريها أن القطن فيه عتيق وفيه صوف. سالت أحمد عن رجل مات وخلف أولادا صغارا وخلف لهم مالا ولهم والدة أترى لها أن تأكل من مالهم؟ قال: "لا أحب لها أن تأكل من مالهم إذا كان لها مال". قلت: إنها تكفلهم وتحضنهم وتقوم عليهم ألا يجوز لها أن تأكل من مالهم؟ قال: "لا إلا من ضرورة وحاجة ولا تجد إلا ذلك أو تصير إلى الحاكم حتى يفرض لها من مالهم حق الحضانة لمثلها". سألت أحمد عن الرجل يرهن الثوب عند التاجر فلما رام انفكاكه أخرج المرتهن الثوب إليه فقال الراهن ليس هذا ثوبي قال المرتهن هذا ثوبك الذي رهنته؟ قال: "القول قول الراهن مع يمينه أن هذا ثوبك وأنه ما خرج من يده إلى يد غيره منذ أخذه إلى يوم أخرجه إليه". وفي الحاشية بخط القاضي قوله: " (القول قول الراهن) سهو من الراوي" ومعناه المرتهن لأن كلامه فيما بعد يدل عليه وهو قوله: (يمينك) وإن هذا ثوبك ما خرج من يده إلى يد غيره منذ أخذه لأنه غارم ولأنه أمين. قلت لأحمد ماتت زوجته وقد حكم عليه القاضي أن يدفع صبيانه إلى جدتهم لتحضنهم وهي في قرية بعيدة عن قريته؟ قال: "إن كانت بحيث يمكن أن يراهم في كل يوم ويرونه فلا بأس بذلك قد مضى أبو بكر على عمر أن يدفع ابنه لجدته وهي بقبا وعمر بالمدينة". سألت عن معنى "نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن منع نفع البئر"؟ قال: "هو الرجل تكون له الأرض وليس فيها بئر ولجاره بئر في أرضه فليس له أن يمنع جاره أن يسقي أرضه من بئره". سألته عن إجارة بيت الرحى الذي يديره الماء؟ قال: "الإجارة على البيت والأحجار والحديد والخشب فأما الماء فإنه يزيد وينقص ويذهب فلا تقع عليه إجارة" قلت: إذا قال لعبده: أنت حر وقال: إنما أردت من هذه الصنعة؟ قال: "هو حر ونيته فيما وبينه وبين الله". وسألته عن رجل

يزعم أنه يعالج المجنون من الصرع بالرقى والعزائم ويزعم أنه يخاطب الجن ويكلمهم وفيهم من يحدثه فترى أنه يدفع إليه الرجل المجنون ليعالجه؟ قال: "ما أدري ما هذا ما سمعت في هذا شيئا ولا أحب لأحد أن يفعله وتركه أحب إليّ". وسئل عن رجل مات وخلف ألف درهم وعليه للغرماء ألفا درهم وليس له وارث غير ابنه فقال ابنه لغرمائه: اتركوا هذه الألف في يدي وأخروا لي حقوقكم ثلاث سنين حتى أوفيكم جميع حقوقكم ترى هذا جائزا؟ قال: "إذا كانوا قد استحقوا قبض هذه الألف وإنما يؤخرون لأجل تركها في يديه فهذا لا يؤخر فيه إلا أن يقبضوا الألف منه ويؤخرونه بالباقي ما شاءوا". قلت: وجه هذا الألف قد انتقلت إلى ملكهم وليس له في ذمة الابن شيء فإذا أخروا قبضها استوفوها ألفين صار كالنسيئة بزيادة وبعد فلا يخلوا ذلك من نظر فإنهم لو أخروا فبض الألف اتفاقا لا لأجل الزيادة ثم اتجر الولد بالتركة وربح فيها ما يقوم بوفائهم لاستوفوا حقهم كله ولا يكون هذا من باب عمل الإنسان في مال غيره فإنهم لا يستحقون الربح كله وإنما يستحقون منه تمام حقهم وحق الغرماء، وإن تعلق بالتركة فهو كتعلق الرهن لا أنهم يملكون التركة بمجرد موت الغريم ولو وفاهم الورثة من غيرها لم يكن أن يمتنعوا من الاستيفاء وهذا على قولنا إن الدين لا يمنع انتقال التركة إلى الورثة أظهر فإن التركة تنتقل إليهم وتبقى ديون الغرماء على نفس التركة فلو ربحت لاستحقوا من الربح بقدر ديونهم وليس هذا من الربا في شيء فإن الغريم يستحق الألفين استحقاقا صحيحا بوجه لا ربا فيه وإنما يؤخر قبض بعض حقه ليستوفيه كاملا فليس هذا من باب الزيادة على رأس ماله لأجل الأجل في شيء وهذا حقيقة الربا وإنما هذا صبر منه يستوفي ما وجب له بأصل العقد كما لو كان الغريم حيا وأفلس ولم يسع ما له لوفاء ما عليه فصبر الغرماء ليستوفوا حقهم كاملا ولا يعنى الفرق أن ذمة الميت قد خرجت بالموت وذمة المعسر باقية لوجهين أحدهما المنع بل الدين باقي في ذمة الميت كما هو باقي في ذمة الحي وإنما تعذرت المطالبة

بالموت والذمة مشغولة مرتهنة بالدين وتعذرت مطالبته كتعذر مطالبة الغريم إذا سقط عنه التكليف بالجنون وذلك غير مانع من التأخير بتمام الاستيفاء وكذا في الموت وهذا على أصول أبي عبد الله وقواعده والله تعالى أعلم. رجل قال لعبده: إذا فرغت من هذا العمل فأنت حر وقال: أردت أنك حر من العمل؟ أجاب ابن عقيل وأبو الخطاب وابن الزاغوني: "لا يقبل قوله في ظاهر الحكم وأما بينه وبين الله فيحتمل". قلت: أما التوقف لكونه يدين فلا وجه له فإنه إذا أراد بلفظه ما يحتمله ولم يخطر بقلبه العتق وليس هنالك قرينة ظاهرة تكذبه فهو أعلم بنيته ومراده وقد قال أحمد في رواية بشر بن موسى في الرجل يكتب إلى أخيه أعتق جاريتي فلانة ويريد أن يهددها بذلك وينوي التصحيف أكره ذلك لا بخبر وهو عبث فيهددها ويسعه فيما بينه وبين الله أن يبيعها والقاضي يفرق بينهما. قلت: مراده بالتصحيف التعريض وكأنه تصحيف للمعنى وهو العدول باللفظ عن معناه الموضوع له وقد قال في رواية أبي الحارث إذا قال: أنت طالق وهو يريد طالق من عقال إذا كانت قد سألته الطلاق أو كان بينهما غضب لم يقبل قوله وهذا يدل على قبوله عند عدم القرينة الدالة على الطلاق فعلى هذا إذا قال له عبده أعتقني لله فقال: إذا فرغت من هذا العمل فأنت حر لم يقبل قوله. وأما إذا قال أرحني من هذا العمل واستعملني في غيره أو اعتقني من هذا العمل فقال إذا فرغت منه فأنت حر وأراد من هذا العمل قبل قوله فالمراتب ثلاثة بما يبعد معه صرف اللفظ عن غرضه لما هنالك من القرائن فلا يقبل قوله وبما يعرف معه الصرف كقرائن تحف به فيقبل قوله وما يكون تجردا عن الأمرين فهو محل تردد. إذا لقي امرأة في الطريق فقال تنحي يا حرة فإذا هي جاريته؟ فأجاب ابن الزاغوني بأن قال: "اختلف أصحابنا فيما إذا لقي امرأة في الطريق فقال: تنحي يا طالق فإذا هي امرأته فهل تطلق؟ على وجهين قال: "والعتق مثله". قلت: وقوع العتق في هذه الصورة بعيد إذ من عادة الناس في خطابهم في الطرقات وغيرها

إطلاق هذا اللفظ ولا يريد به المخاطب إنشاء العتق هذا عرف مستقر وأمر معلوم وأيضا فإنما يريدون حرية الأفعال وحرية العفة لا حرية العتق ولم تجر العادة بأن تخاطب المرأة الأجنبية بالطلاق فلا يلزم من الحكم بوقوع الطلاق في مثل هذا الحكم بوقوع العتق. إذا علم الحاكم من حال الشاهدين أنهم لا يفترقان بين أن يشهدا بما يذكر أن الشهادة قديمة به وبين أن يعتمدا على معرفة الخط من غير ذكر هل يجوز إذا شهدا الشهادة قديمة أن يسألهما هل يعتمدان على الخط أو هما ذاكران للشهادة؟ أجاب ابن الزاغوني: "إذا علم الحاكم أنهما يجوزان بذلك صار حكمهما في ذلك حكم المغفلين أو المحرفين إذا علم أنهما يحرفان ومن هذه صفته لا يجوز له قبول شهادتهما بحال فإذا كان يتوهم ذلك من غير تحقيق لم يجز له أن يسألهما عن ذلك ولا يجب عليهما أن يخبراه بالصفة. أجاب أبو الخطاب: "لا يلزم الحاكم سؤالهما عن ذلك ولا يلزم جوابه إذا قالا نشهد من حيث جاز لنا الشهادة وإذا علم تجوزهما في الشهادة صارا كالمغفلين فلا يجوز له قبول شهادتهما. إذا شهدا أنا لا نعلم لفلان وارثا إلا هذا فدفع إليه الحاكم الملك ثم عاد وشهد الآخر أنه وارثه معه فهل يشارك الأول؟ أجاب ابن الزاغوني: "ليس بين الشهادتين تناقض لأنه يعلم الإنسان بعض المعلوم في وقت ويعلم في وقت آخر ما بقي وإذا ثبت هذا وجب أن يشارك الثاني الأول وأجاب أبو الخطاب يقبل قولهما وتقسم التركة بينهما". وأجاب ابن عقيل "الشهادة الأولى لا تنافي الثانية ولا تناقض بينهما وأن نفي العلم في حال لا ينافى ثبوته بطريقة فيما بعد فيرثان جميعا". إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين ثم بان له فسقهما أو كذبهما وقت الشهادة؟ أجاب أبو ألخطاب ينقضي الحكم الأول ولا يجوز تنفيذه. أجاب ابن عقيل "لا يقبل قوله بعد الحكم فإن قال كنت عالما بفسقهما قبل قوله" وجواب ابن الزاغوني "لا يخلو قبوله لشهادة الشاهدين إما أن يكون لعدالة ثبتت عنده بعلمه أو بعدالة

ثبتت بتعديل مزك أو بظاهر عدالة الإسلام فإن كان لعدالة ثبتت عنده بعلمه فالأمر في ذلك مبني على الحاكم هل يجوز له أن يحكم بعلمه وفي ذلك عن أحمد رويتان: إحداهما: أنه لا يحكم بعلمه فعلى هذا قد أخبر بأنه حكم على وجه لا يجوز له الحكم به فنقض حكمه. والرواية الثانية: أنه يجوز له الحكم بعلمه فعلى هذه الرواية لا ينتقض حكمه لأنه متهم في نقضه وذلك بأنه أتى بقولين مختلفين يضيفهما إلى نفسه لعمل يكون على الأول دون الثاني. وإن كان حكم بعدالتهما لشاهدة مزكى بعدالتهما لم يجز له أن ينقض حكمه إذا أضافه إلى علمه وهل يقتصر في حكمه إلى شاهدين غيره يشهدان بفسقهما أو يكتفى معه بشاهد واحد فيه وجهان ذكرهما أبو علي ابن أبي موسى من أصحابنا فإن حكم بشهادتهما لظاهر عدالة الإسلام فهل يجوز له ذلك. فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: لا يجوز الحكم بشهادة شاهد حتى يعلم عدالته باطنا وظاهرا فتعلى هذا ينقض حكمه. والرواية الثانية: أنه لا يجوز له ذلك فعلى هذا يجوز له أن ينقض حكمه يحتمل وجهين: إحدهما: لا يجوز له ذلك إلا أن يثبت عنده ببينة. والثاني: يجوزله نقض الحكم لأنه قد تظهر بالإسلام عدالة من ولو كشفت حاله لم يكن عدلا وكان قوله محتملا يبعد عن التهمة ثم ينظر بعد هذا فإن وافقه المشهود له على ما ذكر وجب عليه رد ما أخذ فإن كان ما نقض الحكم بنفسه دون الحاكم وإن خالفه فيه فإن أوجبه دون غرامه لزمت الحاكم إذا قال المشهود عليه أشهدت على نفسي بما في هذا الكتاب ولم أعلم ما فيه ولم يقرأعلى وليس في الكتاب أنه قرىء عليه هل يمنع ذلك الحكم به وهل يجوز للشاهد أن يقول للمشهود عليه اشهد عليك بجميع ما نسب إليك في هذا الكتاب من غير أن يعرفه ما به ويشهد به؟ أجاب ابن الزاغوني: "لا يجوز للشاهد أن يشهد على المشهود عليه إلا بأن يقرأ عليه الكتاب ويقول المشهود عليه قد قرىء علي أو يقول قد فهمت جميع ما فيه وعرفته فإذا اقر بذلك عند الشهود شهدوا عليه به وإذا شهد الشاهدان عند الحاكم أنه قد أقر عندهم بفهم جميع ما في الكتاب لم

يلتفت إلى إنكار المشهود عليه". وأجاب أبو الخطاب: "إذا قال المشهود عليه أشهدتم على نفسي بما في هذا الكتاب لا يشهد الشاهدان إلا أن يقولا له نشهد عليك بجميع ما في هذا الكتاب وقد فهمته أو قرىء عليك فيقول نعم أو يقرأعليه فإذا وجد ذلك لم يقبل قوله لم أعلم ما فيه ولزمه الحكم في الظاهر". قلت: وعلى هذا فكثير من كتب هذه الأوقاف المطولة التي واقفها امرأة أو أعجمي أو تركي أو عامي لا يعرف مقاصد الشروط لا يجب القيام بكثير من الشروط التي تضمنته لأن الواقف لم يقصدها ولا فهمها وقد صرح كثير من الواقفين بذلك بعد الوقف وعلى هذا فيصير كالوقف الذي لا نعلم شروطه. ومن مسائل أبي جعفر محمد بن علي الوراق: قيل له: قال: حج عني؟ قال: "يحج عنه يعنى يفرد الحج. قيل له: قال: وما فضل فهو لك كيف ترى؟ قال: "إذا قال فأرجو أن يطيب له" صلى بنا أبو عبد الله يوم جمعة صلاة الفجر فقرأ تنزيل السجدة وعبس فسها أن يقرأ السجدة فجاوزها فسجد سجدتي السهو قبل التسليم قيل له لم سجدت سجدتي السهو؟ قال: "لا يضره وذكر حديث ابن عباس "إن استطعت أن لا تصلي صلاة إلا سجدت بعدها سجدتين" أما رأيتني ما صنعت يقول إني لم أقرأ السجدة. قلت: هذه الرواية في غاية الإشكال لأن سجدة يوم الجمعة ليست من سنن صلاة الفجر ولهذا لا يستحب أن يتعمد قراءة آية سجدة من هذه السورة ولا من غيرها في فجر الجمعة وإنما المقصود قراءة هاتين السورتين (تنزيل وهل أتى) وذلك لما فيهما من بدء خلق الإنسان وذكر القيامة فإنها في يوم الجمعة فإن آدم خلق يوم الجمعة وفي يوم الجمعة تقوم الساعة فاستحب قراءة هاتين السورتين في هذا اليوم تذكيرا للأمة بما كان فيه ويكون والسجدة جاءت تبعا غير مقصود فلا يستحب لمن لم يقرا سورة تنزيل أن يتعمد

قراءة آية سجدة من غيرها لاسيما وقد آل هذا بخلق كثير إلى اعتقادهم أن يوم الجمعة خص بزيادة سجدة فيشتد إنكارهم على من لم يسجد ذلك اليوم وربما يعيدون الصلاة وينسبونه مع سعة علمه وفقهه إلى أنه لا يحسن يصلي ولهذا والله أعلم كرهها مالك وأبو حنيفة وغيرها فالسجدة ليست من سنن الصلاة فلا يستحب سجود السهو لتركها وهذا إن كان قد صح عن أحمد فالظاهر والله أعلم أنه رجع عن ذلك فلم يستقر مذهبه عليه وقول ابن عباس: "إن استطعت أن لا تصلي صلاة إلا سجدت بعدها سجدتين" إنما أراد به ابن عباس الركعتين بعد الفريضة جابرين بما يكون من الفريضة من خلل والركعة تسمى سجدة وقال ابن عمر: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الصبح وسجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها" الحديث. وهو كثير في ألأحاديث والآثار إطلاق اسم السجدتين على الركعتين. وقد ذهبت طائفة من الزيدية إلى أنه يشرع لكل مصل أن يسجد سجدتين للسهو في آخر كل صلاة ولعلهم فهموا ذلك من قول ابن عباس والله أعلم. ولا أعلم للوراق متابعا على هذه الرواية والمذهب على خلافها عدنا إلى مسائله. قال: قلت: الإمام إذا ختم يقرأ المعوذتين ثم يقرأ بفاتحة الكتاب ويبتدى بالقراءة؟ قال: "لا أدري ما سمعت في هذا بشيء". قلت: تجزىء العمامة في الكسوة في كفارة اليمين؟ فقال لي: "تجزىء القلنسوة ثم قال: لا إلا الثوب أو القميص وإن كسا امرأة فقميص ومقنعة لأنه لا يجوز للمرأة أن تصلي إلا في قميص ومقنعة الكسوة فيما تجوز فيه الصلاة". وسأله رجل عن مسألة فقال: "لا أدري فردها الرجل عليه فقال: أكل العلم نحسنه نحن! قال: فاذهب إلى هؤلاء فاسألهم يعنى أصحاب الرأي فقال: لا أنظر إلى من يذهب إلى رأي أهل المدينة. وسمعت أحمد يقول: "كان الحجاج بن أرطاة يقول: لا تقولوا من حدثك ولا من أخبرك قولوا: من ذكره قيل له كان يدلس؟ قال: نعم". ومن مسائل أبي العباس أحمد بن محمد البزي: قلت: إذا تلاعن الزوجان ما أمرهما فسخ أو طلاق بتفريق الحاكم وكيف يكون حال المرأة

إذا ارتدت عن الإسلام والخلع وما أشبه هذا؟ فقال: "هذه مسألة أنا فيها منذ ثلاثين سنة لم يتضح الأمر فيها فلا أدري اللعان فيها أو لا". ومن مسائل زياد الطوسي: سألته عن العقيقة؟ فقال: "ليست بواجبه وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن الحسن والحسين". قال زياد: وأخبرني أبو عبد الله أنه قال: تعطي القابلة الراحل كذا بخط القاضي بحاء مهملة وهو سهو منه وصوابه الرجل بالجيم. وروى أحمد بإسناده "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يبعثوا إلى القابلة برجل " يعني من العقيقة ذكره الخلال في جامعه. قال: وسمعت أحمد يقول: "لا يعجبنا أن يقول مؤمن حقا ولا يكفر من قاله" وقال: "وسمعته يقول: لا تسمى في التشهد إلا ما روي عن عبد الله "التحيات". ومن مسائل بكر بن أحمد: سألت أبا عبد الله إذا فاتتني أول صلاة الإمام فأدركت معه ركعة من آخر صلاته؟ فقال لي: "تقرأ فيما تقضي يعني الحمد لله وسورة وفي القعود على ابتداء صلاتك". ومن مسائل الفضل بن زياد: قال: سمعت أبا عبد الله قيل له: ما تقول في التزويج في هذا الزمان؟ فقال: "مثل هذا الزمان ينبغي للرجل أن يتزوج ليت أن الرجل إذا تزوج اليوم ثنتين". فقلت:

"ما يأمن أحدكم أن ينظر النظر فيحبط عمله". قلت له: كيف يصنع من أين يطعمهم؟ فقال: "أرزاقهم على الله عز وجل". ومن مسائل عبد الملك الميموني: قال: "الزكاة أهون من الصدقة لأن الله قال فيها {وَابْنَ السَّبِيلِ} وهو حين يأخذ الزكاة فيخرج من منزلة تلك الساعة هو ابن السبيل". قال القاضي: "قوله: (حين يأخذ الزكاة يخرج من منزلة تلك الساعة هو ابن السبيل) يدل علىأن ابن السبيل هوالمنشىء للسفر وعنه خلاف وأنه المختار" انتهى الكلام. ولم يفسر قول أحمد الزكاة أهون من الصدقة وأراه قد خفي عليه معنى كلام أحمد ولم يرد أحمد ما فهم القاضي. وقال الميموني: "قلت: يعتق من زكاته؟ قال: "نعم". قلنا له فإن جنى جناية أو أحدث حدثا أليس يرجع عليه؟ قال: "بلى". قلنا له فميراثه له؟ قال: "لا". قلنا: ولم قال: إن ذا لله فإذا ورث منه شيئا جعله في مثله؟ قلت: يعقل عنه ويؤخذ بجريرته في جنايته فإذا مات ذهب ميراثه قال: "هو أراده وضيعه بنفسه". وسألته عن الحب يجمع؟ قال: "مسألة فيها اختلاف". قلت: إذا كنا نذهب في الذهب والفضة إلى أن لا نجمعها لم لا تشبه الحبوب بها؟ قال: "هذه يقع عليها اسم طعام واسم حبوب" قال: ورأيت أبا عبد الله في الحبوب يحب جمعها ومذهبه في الذهب والفضة والبقر والغنم أن يزكى كل واحد منها على حدة ولا يجمع بعضها إلى بعض. وسألته عن الرجل من أهل الكتاب لي عليه اليمين أستحلفه؟ قال: "نعم إلا أن من الناس من يقول استحلفه بالكنيسة ويغلظ عليه بأيمانهم ومنهم من يقول يستحلفه بالله". قلت: فإن استحلفه بالله أو بالكنيسة أليس ترى ذلك جائزا؟ قال: "بلى وإذا رفع إلى الحاكم استحلفه بالكنيسة ويغلظ عليه أو بالله عز وجل"، في

الحاشية بخط القاضي قوله: "أو بالكنيسة يحتمل أن يريد به يستحلفه بالله في الكنيسة ولم يرد أن يحلفه بها ويحتمل أن يريد يستحلفه بالله ويضم إليه وهدم الله الكنيسة". قلت: ما تقول في الصفي؟ قال: "ذلك شيء للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة" قلت: قال الله عز وجل: {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الآية أن جعلها رجل في صنف واحد أجزأ عنه قال لي: "ما علمت أن أحدا قال بذا يجعل في الأصناف كلها" وقال: "أرأيت إن كان عنده عشرة آلاف وعليه عشرة آلاف لا يحج ما تقول في حج هذا إذا حج؟ قلت: على القياس حجه فاسد على قول من قال ليس له أن يحج من هذا المال فقال لي: "ما يرى هذا إلا شنيع". قلت: هذا القياس غير صحيح لأنه وإن كان دينه بقدر ما بيده فهو لم يحج بمال حرام حتى تكون مسألة الحج بالمال الحرام وإنما حج بماله نفسه ولكنه أثم بتأخير قضاء الدين من هذا المال ولو أنه اكتسب في هذا المال ونما لكان نماؤه لم يختص به ولو تصدق منه لكان ثوابه له فلا يصح قياسها على ما لو سرق مالا لغيره وحج به. عدنا إلى المسائل: قلت: وتخرج صدقة قوم من بلد إلى بلد؟ قال: "لا إلا أن يكون فيها فضل عنهم" قلت: كيف يكون عن فضل؟ قال: "يعطيهم ما يكفيهم ويخرج الفضل عنهم لأن الذي كان يجىء المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكر وعمر إنما من فضل عنهم". وقال لي أبو عبد الله: "إذا بيت فإصاب نساءهم فليس عليه كفارة وليس عليه شيء وإذا عمد فليس عليه أيضا لا دية ولا كفارة ولكن لا يقتل لا يدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم". وقال أبو عبد الله: "إنما الجهر بالقراءة في الجماعة أرأيت إن صلى وحده عليه أن يجهر إنما الجهر في الجماعة إذا صلى". وسألوه عن الجرح يكون بالإنسان يخاف عليه كيف يمسح عليه؟ قال: "ينزع الخرقة ثم يمسح على الجرح نفسه". قلت: هذا النص خلاف المشهور عند الأصحاب فإنهم يقولون إذا كان مكشوفا لم يمسح عليه حتى يستره فإن لم يكن مستورا تيمم

له ونص أحمد صريح في أنه يكشف الخرقة ثم يباشر الجرح بالمسح وهذا يدل على أن مسح الجرح البارز أولى من مسح الجبيرة وأنه خير من التيمم. وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه وهو المحفوظ عن السلف من الصحابة والتابعين ولا ريب أنه بمقتضى القياس فإن مباشرة العضو بالمسح الذي هو بعض الغسل المأمور به أولى من مباشرة غير ذلك العضو بالتراب ولم أزل أستبعد هذا حتى رأيت نص أحمد هذا بخلافه. ومعلوم أن المسح على الحائل إنما جاء لضرورة المشقة بكشفة فكيف يكون أولى من المسح على الجرح نفسه بغير حائل فالقياس والآثار تشهد بصحة هذا النص والله أعلم. وقد ذكرت في الكتاب الكبير الجامع بين السنن والآثار من قال بذلك من السلف وذكرت الآثار عنهم بذلك وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية رحمة الله يذهب إلى هذا ويضعف القول بالتيمم بدل المسح. رجعنا إلى المسائل: وقال: "إذا كان الإمام من أئمة الأحياء يسكر هذا لا تقبل صلاته أربعين يوما كيف أصلي خلف هذا لي أن أختار ليس هو والي المسلمين والصلاة خلف الولاة لا بد والصلاة خلف أئمة الأحياء لنا أن نختار". قال أبو عبد الله: "لم ترث بنات عم من مواليه شيئا". ومن مسائل الفضل بن زياد القطان: سمعت أحمد وسئل عن الرجل يختن نفسه؟ فقال: "إذا قوي على ذلك". قلت: من أقرأهم؟ قال: "أحفظهم". سألت أحمد عن المتطوع جالسا هل يتربع؟ قال: "إن كان يطيل القراءة تربع وإن كان يكثر الركوع والسجود لم يتربع". وسألت أحمد رضي الله عنه عن الرجل يصلي تطوعا فيصير بعض ذلك عن والديه؟ فقال: "أما الطواف فقد سمعنا وأما الصلاة فما أدري أحتاج أن انظر فيه". وسمعته يسأل عن القنوت قبل الركوع أو بعد؟ فقال:

"كل حسن إلا أني أختار بعد الركوع". وسألته إذا قنت الرجل في الوتر يكبر ثم يقنت؟ فقال: "إذا قنت قبل الركوع ففرغ من القراءة كبر ثم قنت وإن قنت بعد الركوع فرفع رأسه من الركوع قال: اللهم إنا نستعينك ونستهديك ولم يكبر". وسألته عن قدر القيام في القنوت؟ فقال: "كقنوت عمر". وسمعته وسئل عن الإمام يقنت ويؤمّن من خلفه؟ قال: "ما أحسنه إلا أنا نحن ندعوا جميعا". سألت أحمد قلت: أختم القرآن أجعله في الوتر أو في التراويح؟ قال: "إجعله في التراويح قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام". وسألت أحمد عن إمام قوم إذا آخر ليلة من الشهر أقبل على الناس ووعظ وذكر وحمد الله وأثنى عليه ودعا قال: "حسن قد كان عامة البصريين يفعلون هذا". أخبرنا أحمد ثنا عبد الرزاق انبأ عقيل عن معقل بن وهب بن منبه عن جابر بن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم عن النشرة؟ فقال: "هي من الشيطان". كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن حديث ابن عباس "إياكم والغلو" ما معنى الغلو؟ فأتاني الجواب: "يغلوا في كل شيء في الحب والبغض". صافحت أبا عبد الله كثيرا فصافحني وابتدأني بالمصافحة غير مرة ورأيته يصافح الناس كثيرا. أخبرنا أبو طالب عن أبي عبد الله قال: قلت: هؤلاء إذا قلنا لهم يهديكم الله يصلح بالكم قالوا إنما يقال هذا لليهود أليس بقرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قلت: أليس دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "اهدني فيمن هديت" قال: "بلى الفضل". قال أبو طالب: سألته عن اليهود والنصارى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: لا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أمتي أمتي " يقع على اليهودي والنصارى. وسألت أبا عبد الله عن الرجل يشتري الأضحية ثم يبدوا له أن يشترى خيرا منها؟ قال: "إذا سماها فلا يبيعها إلا لمن يريد أن يضحى بها". وسألت عن الإزار تحت السرة أعجب إليك أم فوق السرة؟ فقال: "تحت السرة". وسمعت يسأل عن معنى "لا تراءى نارهما"؟ فقال: "لا ينزل من المشركين في موضع إذا أوقدت رأوا فيه نارك وإذا أوقدوا رأيت فيه نارهم ولكن تباعد عنهم". وسألته عن طواف الزيارة

كم هو؟ قال: "واحد وعشرون طوافا ثلاثة أسابيع لذلك أعجب إلينا". قلت: يريد أحمد أن أكمل الطواف ثلاثة أسابيع سبعة للقدوم وسبعة للإفاضة وسبعة للوداع فأجاب السائل عن سؤاله وغيره وقد صرح بهذا في مواضع أخرى. وسمعته يقول لقوم قدموا من مكة "يبارك الله لكم في مقدمكم وتقبل منكم". وسمعته وقد سئل عن المرأة تلبس الحلي وهي محرمة؟ فقال: "لا بأس به". وسمعته وقد سئل عن محرم أحرم من خرسان فلما صار ببغداد مات أوصى أن يحج عنه يحرم عنه من بغداد أو من المواقيت؟ قال: "من المواقيت". وسألته عن المحرم يستظل؟ قال: "لا يستظل". قلت: عليه دم؟ فقال: "الدم عندي كثير". وكتبت إليه أسأله عن رجل له قرابات محاويج لا يعرفون شرائع الإسلام ولا يتعلمونه أيضع زكاته فيهم أو في من يعرف شرائع من غير القرابات؟ فأتى الجواب: "ينبغي له أن يعلمهم ويضعها فيهم ويعطيهم من غير الزكاة". وكتبت أسأله عن الحديث "من أقر بالخراج وهو قادر على أن لا يقر به فعليه لعنة الله"؟ فأتى الجواب: "ما سمعت بهذا هو حديث منكر وقد روى عن ابن عمر "أنه كان يكره الدخول في الخراج" وإنما كان الخراج على عهد عمر. وسألته عن الرجل يكتب عن الرجل ولا يراه؟ فقال: "كتبت عن علي بن هشام ولم أره". نافع عن ابن عمر قال: "كان يبعث بها قبل الفطر باليومين والثلاثة إلى المجمع وكان عطاء يعطي عن أبوية صدقة الفطر حتى مات قيل لأبى عبد الله يعجبك هذا؟ قال: "هذا تبرع ما أحسن هذا"؟ سمعت أبا عبد الله يقول: "أكذب الناس القصاص والسؤال" وسمعت يرد على السائل إذا وقف ببابه "أعاننا الله وإياك" كتبت إليه أسأله عن رجل يعمل الخوص قوته ليس يصيب منه أكثر من ذلك هل يقدم على التزويخ فأتاني الجواب "يقدم على التزويج فإن الله يأتي برزقه ويتزوج ويستقرض" وسألته عن رجل تزوج امرأة على ألف درهم فبعث إليها بقيمته متاعا وثيابا ولم يخبرهم أنه من الصداق فلما دخل بها سألته الصداق؟ فقال أبو عبد الله: "لها ذلك" قلت: فإنه قال لها إني قد بعثت إليك بهذا المتاع واحتسبته

من الصداق فقالت المرأة: إنما صداقي دراهم فقال ابن عبد الله: "صدقت" قلت: كيف يصنع بهذا؟ قال: "ترد عليه الثياب والمتاع وترجع المرأة عليه بصداقها" وسئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إن لبست من غزلك وعليه من غزلها يلقى ما عليه من غزلها ساعة وقعت اليمين قيل له فإن هو نسي وذكر بعد؟ قال: "يلقيه عنه ساعة ذكر" قيل له: فإن مشى خطوات وهو ذاكر له يقول الساعة ألقيه أخشى أن يكون قد حنث قلت: هذا منصوص أحمد ههنا وفي مسألة الحمل إذا قال إن حملت فأنت طالق فبانت حاملا طلقت وقال صاحب المحرر: "وعندي أنها لا تطلق إلا بحمل متجدد وقد أوافق أبو البركات على مسألة اللبس فقال: إذا حلف لا يلبس ثوبا هو لابسه أو لا يسكن دارا هو ساكنها أو لا يساكن فلانا وهو مساكنه فاستدام ذلك حنث وكذلك إذا حلف أن لا يتسرى فوطىء أمة له قال يحنث" ثم قال: "وإن حلف لا يتطيب وهو متطيب أولا يتطهر وهو متطهر أو لا يتزوج وهو متزوج فاستدام ذلك لم يحنث" ثم قال: "وإن حلف لا يدخل دارا هو فيها فهل يحنث بالاستدامة إذا لم تكن له نية فعلى وجهين. وهذه المسألة تحتاج إلى فرق صحيح ويعسر أو يتعذر إبداؤه فأما إن اعتبرنا النية فالجميع سواء وإن تعذر اعتبار النية لم يظهر فرق البتة بين أن يحلف أن لا يتسرى أو أن يحلف أن لا يتزوج فيحنث بوطء أمته بخلاف التزوج فإن وطء الزوجة لا يقال له تزوج وهذا الفرق ليس بشيء فإن التزوج أيضا مأخوذ من ضم الزوج إلى زوجة ولكن عند الإطلاق لا يفهم من التسري والتزوج إلا تجديد فراش أمته أو زوجه فإن كان استدامة فراش الأمة يعد تسريا فاستدامه فراش الزوجة يعد زواجا وبالجملة فلا يظهر لي في هذه المسائل فرق يعتمد عليه. عدنا وسئل عن امرأة اختلعت من زوجها في مرضه فمات وهي في العدة لا ترثه ليس هي مثل الطلاق ابتداء والخلع هو من قبلها حديثا أبو طالب عن أبي عبد الله أنه سأله عن الأمة إذا فقدت

زوجها تتربص سنتين على النصف من الحرة سمعت أحمد يقول في حديث أبي هريرة "من حمل جنازة فليتوضأ " فقال: "كأنه يقول لا يحملها حتى يتوضأ" أو كما قال وسألته عن قوم مات فيهم ميت وليس عندهم ماء؟ فقال: "يتيمم" قلت: فإنهم يمحوه وصلوا عليه وأصابوا الماء قال: "لا أدري ما هذا لم أسمع في هذا بشيء" وكتبت إليه أسأله عن زائر القبر يقف قائما أو يجلس؟ فأتى الجواب "أرجوا أن لا يكون به بأس" ومن مسائل أحمد بن أحرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله ابن حسان بن عبد الله بن المغفل المزني الصحابي: سمعته وقال له رجل: (جمعنا الله تعالى وإياك في مستقر رحمته) فقال: "لا تقل هكذا". قلت: اختلف السلف في هذه الدعوة وذكرها البخاري في كتاب الأدب المفرد له وحكى عن بعض السلف أنه كرهها وقال: "مستقر رحمته ذاته" هذا معنى كلامه وحجة من أجازها ولم يكرهها الرحمة هنا المراد الرحمة المخلوقة ومستقرها الجنة وكان شيخنا يميل إلى هذا القول انتهى. وسئل عن رجل استأجر أجيرا على أن يحتطب له على حمارين كل يوم ينقل عليهما وكان الأجير ينقل على الحمارين وعلى حمار رجل آخر في نوبة هذا أو يأخذ منه الأجر فقال: "إن كان يدخل عليه فيه ضررا رجع عليه بالقيمة" أو قال كلاما هذا معناه. قلت: وشبيه بهذه المسألة إذ أخذ من رجل مالا مضاربة ثم ضارب لغيره وعلى الأول ضرر في ذلك فإنه يرد حصته من الربح في شركة الأول ووجه هذا أن منافعه صارت مستحقة للمستأجر والمضارب فإذا بذلها لغيره بعوض كان العوض لمستحقها. وسأله رجل أن والدي توفي وترك عليه دينا أفأقضيه من زكاة مالي؟ قال: "لا".

وسئل عن رجل أسلم في طعامه إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل يشترى منه عقارا أو دارا؟ فقال: "نعم يشترى منه مالا يكال ولا يوزن" وسمعته سئل عن رجل حلف أن لا يلبس من غزل امرأته فخاط الخياط من غزلها فلم يجب فيه شيء وسئل عن امرأة رميت فأقرت على نفسها ثم ولدت فبلغ زوجها فطلقها؟ قال: "الولد للفراش حتى يلاعن" وسئل عن رجل أسلم من أهل حرب في دار الحرب ثم دخل دار الإسلام وليس له ولى في دار الإسلام فقتله رجل من المسلمين خطأ أيلزم المسلم الدية مع الرقبة؟ قال: "الذي أذهب إليه أنه ليس عليه دية وعليه رقبة". وسئل عمن طاف وراء المقام وقيل له روى عن عطاء أنه قال: "من لم يمكنه الطواف إلا خلف المقام جلس" كأن عطاء كره الطواف خلف المقام فقال: "من روى هذا ليس هذا بشيء الذي يكره من هذا أكثر لتعبه وأعظم لأجره" قيل له: طاف من وراء السقاية؟ قال: "نعم هو أكثر لتعبه" قيل له: تذهب إلى حديث عبد الله بن حكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " قال: "نعم" قيل له: وقد رواه خالد الحذاء عمن سمع عبد الله بن عكيم قال: "قد رواه شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم أصح من هذا وقد رواه عباد ورواه شعبة عن الحكم كأنه صححه من غير حديث خالد. ومن مسائل الفضل بن زياد القطان: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن حديث النعمان بن بشير "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" ما الشبهات؟ فأتاني الجواب "هي منزلة بين الحلال والحرام إذا استبرأ لدينه لم يقع فيها". أحمد رضي الله عنه حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن محمد يعنى ابن واسع أنه كان يكره أن يشترى بالدنانير إلا العتق وبالدراهم التي فيها

كتاب الله أن يشترى بها أو يبيع. وقال أحمد: "سمعت من معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: "كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البحر منهم طلحة بن عبد الله وسعيد بن زيد". سمعت أبا عبد الله وقد سئل عن بيع الجزاف؟ فقال: "إذا استوى علمهما فلا بأس" يعنى إذا جهلا به فإذا علم أحدهما وجهل الآخر فلا وسألته قلت: القطن يبيعه فيرفع ظرفه العدل خمسة أمنان؟ قلت نعم وربما زاد فيحسبه المشترى فرخص فيه ولم ينكره على طريق الصلح قلت: فإنا نبيع بيعا آخر نبيع القطن في الكساء فقال: "هذا أحب إلى من ذلك لأنه يكون بمنزلة التمر في جلالته وقواصره ما زال هذا يباع في الإسلام" قلت: فإنهم يحملونا على أن نكشفه؟ فقال: "هذا ضرورة ليس عليكم هذا" قال القاضي: "إنما لم يشترط كشفه على الرواية التي أجاز بيع الجرب قبل حلها وقوله نبيعه بظرفه أحب إلى من أن يحتسب بوزن الظرف لأنهم ربما اختلفوا في وزنه" انتهى. قلت: قول أحمد نبيع القطن في الكساء أحب إلي وقوله لأنه ربما يكون بمنزلة التمر في جلاله وقواصره ما زال هذا يباع في الإسلام يؤخذ منه بيع المغيبات في الأرض كالجزر والقلقاس والسلجم ونحوها بل أولى وما زال هذا يباع في الإسلام ويتعذر عليهم بيع المزارع إلا هكذا وعلمهم بما في الأرض أتم من علم المشترى بما في الجرب والإعدال لأنهم يعرفونه بورقه ولا يكاد تخلو معرفتهم به بل ربما كان اختلاف ما في الجرب والإعدال أكثر من اختلاف المغيب في الأرض والعسر فيه أكثر لأنه بحسب دواعي البسر وما في الأرض لا صنع لهم فيه فالغالب تساويه وبالجملة فلم يزل ذلك يباع في الإسلام. وهذه قاعدة من قواعد الشرع عظيمة النفع أن كل ما يعلم أنه لا غنى بالأمة عنه ولم يزل يقع في الإسلام ولم يعلم من النبي صلى الله عليه وسلم تغييره ولا إنكاره ولا من الصحابة فهو من الدين وهذا كإجارة الاقطاع وبيع المعاطاة وقرض الخبز والخمير ورد أكثر منه وأصغر وأكل الصيد من غير تفريز محل أنياب الكلب ولا غسله وصلاة المسلمين

في جراحاتهم كما قال البخاري: "لم يزل المسلمون يصلون في جراحاتهم ومسحهم سيوفهم من غير غسل وصلاتهم وهم حاملوها" ولو غسلت السيوف لفسدت ولا يعرف في الإسلام غسل السيوف ولا إلقاؤها وقت الصلاة وكذلك صلاة النساء في ثياب الرضاعة أمر مستمر في ألإسلام مع أن الصبيان لا يزال لعابهم يسيل على الأمهات وهم يتقيئون ولا تغسل أفواههم وكذلك البيع والشراء بالسعر لم يزل واقعا في الإسلام حتى أن من أنكره لا يجد منه بدا فإنه يأخذ من اللحام والخباز وغيرهما كل يوم ما يحتاج إليه من غير أن يساومه على كل حاجة ثم يحاسبه في الشهر أو العام ويعطيه ثمن ذلك فما يأخذه كل يوم إنما يأخذه بالسعر الواقع من غير مساومة وكذلك الإجارة بالسعر في مثل دخول الحمام وغسل الغسال وطبخ الطباخ والخباز وغيرهم لم يزل الناس يفعلون ذلك من غير تقدير إجارة اكتفاء منهم بإجارة المثل وقد نص الله على جواز النكاح من غير تسمية وحكم النبي صلى الله عليه وسلم المثل فإذا كان هذا في النكاح ففي سائر العقود من البيوع والإجارات أولى وأحرى وقول القائل: الصداق في النكاح دخيل غير مقصود ولا ركن كلام لا تحقيق وراءه بل هو عوض مقصود تنكح عليه المرأة وترد بالعيب وتطالب به وتمنع نفسها من التسليم قبل قبضه حيث يكون لها ذلك وهو أحق أن يوفى به من ثمن المبيع وعوض الإجارة فهو في هذا العقد أدخل من ثمن المبيع وعوض الإجارة فيهما ولأن منافع الإجارة والأعيان المباعة قد تستباح بغير عوض بل تباح بالبدل بخلاف منفعة البضع والمرأة لم تبذل بضعها إلا في مقابلة المهر وبضعها أعز عليها من مالها فكيف يقال إن الصداق عارية في النكاح غير دخيل في العقد أنهم رأوا النكاح يصح بدون تسمية فدلت على أنه ليس ركنا في العقد فهذا هو الذي دعاهم إلى هذا القول. وجواب هذا أن النكاح لم ينعقد بدونه البتة وإنما انعقد عند الإطلاق بصداق المثل فوجب صداق المثل بنفس العقد حتى صار كالمسمى

وجعل الشارع سكوتهم عنه بمنزلة الرضي به وتسميتة فلم ينعقد النكاح بغير صداق وإنما بغير تسمية صداق وفرق بين الأمرين. والمقصود أن الشارع جوز أن يكون أعراض المبيعات والمنافع في الإجارات ومنفعة البضع منصرفة عند الإطلاق إلى عوض المثل وإن لم يسم عند العقد وليس هذا موضع تقرير هذه المسائل وإنما أشرنا إليها إشارة. قال: وسألته عن الرجل يشتري الثوب بدينار ودرهم؟ فقال: "لا بأس به" قلت: فإنه اشتراه بدينار غير درهم؟ قال: "لا يجوز هذا" وسمعت أنه سئل عن المكحلة؟ قال: "لا يشترى بها شيئا ولكن إذا كان لك على رجل دراهم فأعطاك مكحلة فخذ منه كأنك أخذت دون حقك" ورأيته يشدد في الشريعة جدا وسئل عن رجل كان ساكنا فقال له صاحب الدار: تحول فقال الساكن: قد دفنت في دارك شيئا فقال صاحب الدار: ليس ذلك لك؟ فقال أبو عبد الله: "ينبش كل واحد منهما ما دفن فكل من أصاب الوصف كان ذلك له" أو نحو هذا قلت: هذا له ثلاثة أصول أحدها: وصف اللقطة فإنه يوجب أو يسوغ على القول الآخر دفعها إلى الواصف الثاني: الدعوى المؤيدة بالظاهر والعادة الثالث: إن العلم المستفاد من وصف أحدهما له بصدقة أقوى من العلم المستفاد بالشاهد الواحد واليمين أو نكول الخصم وهذا ما لا سبيل للنفس إلى دفعه ومحال أن يحكم بالأضعف ويلغى حكم ما هو أقوى منه والذي منع منه الشرع أن المدعى لا يعطي بدعوى مجردة لا دليل معها شيئا فإذا تميزت بدليل لم يحكم له بدعوى مجردة ولهذا يحكم له بالشاهدين تارة وبالمرأة تارة وبالنكول تارة وبالقرائن الظاهرة وبالصفة وبالشبه وهذا كله أمر زائد على مجرد الدعوى فلم يحكم له بدعوى مجردة وأين يقع معاقد القمط ووجوه الآجر والجص من الصفة ههنا وفي اللقطة والله الموفق. قال أحمد: "إذا دعى أحدهما الدار أجمع وقال الآخر لي نصفها فهي بينهما نصفان وقد يقول بعض الناس هي بينهما ثلاثة أرباع لمدعى

الجميع وللآخر الربع". قلت وجه هذا أن مدعى النصف قد اعترف أن النصف الآخر لا حق له فيه فلا منازع لخصمه فيه فينفرد به وخصمه ينازعه في هذا النصف المدعى وكلاهما يدعيه فهما فيه سواء. ووجه المنصوص وهو القياس أن أيديهما على الدار سواء فلكل واحد نصفها ومدعى الكل يدعي النصف الذي للآخر وهو ينكره فلو أعطى منه شيئا لأعطي بمجرد دعواه وهو باطل فإن خصمه إنما يقر له بالنصف فلأي شيء يعطي نصف ما بيد خصمه بمجرد الدعوى فهذا القول ضعيف جدا وقولهم إنه يقر لخصمه بالنصف فينفرد به وهما متداعيان للنصف الآخر فيقسم بينهما فجوابه أن استحقاق خصمه للنصف لم يكن مستندا إلى إقراره له به بل النصف له سواء أقر له به خصمه أو نازعه فإقراره إنما زاد تأكيدا ويد كل منهما مثبتة لنصف المدعى واحدة ما يقول لصاحبه ليست يدك يد عدوان والآخر يقول لمدعى النصف يدك يد عدوان فلو قضينا له بشيء بيد خصمه لقضينا له بمجرد قوله ودعواه وهذا لا نص ولا قياس والله أعلم. وقال له رجل: أكرى نفسي لرجل ألزم له الغرماء؟ قال: "غير هذا أعجب إلى" وسمعته يقول: "ما أقل بركة بيع العقار إذا بيع وقيل له ما تقول في رجل اكترى من رجل دارا فوجد فيها كناسة فقال صاحب الدار لم يكن هذا في دارى وقال الساكن بل قد كان في دارك فقال: "هو على صاحب الدار". سألت أبا عبد الله عن الصائغ يغسل الفضة بدردي الخمر؟ قال: "هذا غش يغسل الفضة تكون سوداء فتبيض" أملى على أبو عبد الله إنما على الناس اتباع الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحها من سقيمها ثم بعد ذلك قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قول بعضهم لبعض مخالفا فإن اختلف نظر في الكتاب فأي قولهم كان أشبه بالكتاب أخذ به أو بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم به فإذا لم يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نظر في قول التابعين فأي قولهم كان أشبه بالكتاب والسنة أخذ به وترك ما أحدث الناس بعدهم. سمعت أبا عبد الله وقد سئل عن الرجل يسأل عن الشيء

من المسائل فيرشد صاحب المسألة إلى الرجل يسأله قال له: "إذا كان رجلا متبعا أرشده إليه فلا بأس". وقال ابن أبي ذئب: "ما رأينا بعد أصلح في تدينه وأورع وأقوم بالحق من مالك عن السلاطين" فدخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر فلم يهمله أن قال له بالحق وكان يشبه ابن أبي ذئب بسعيد بن المسيب في زمانه. قلت رجل يقرىء رجلا مائتي آية ويقرىء آخر مائة آية؟ قال: "ينبغي له أن ينصف بين الناس". قلت: إنه يأخذ على هذا مائتي آية لأنه يرجو أن يكون عاملا به ويأخذ على هذا أقل لأنه لم يكن يبلغ مبلغ هذا في العمل؟ قال: "ما أحسن هذا الإنصاف في كل شيء". وسمعت أبا عبد الله وذكر عنده أبو الوليد فقال: "هو شيخ الإسلام". أبو عبد الله عن عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن أبي خالد قال وذكر له أن موسى لما أخذ الألواح قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الأولون والآخرون السابقون قال قتادة: "هم الأولون في العرض يوم القيامة وهم الآخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد قال: إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها قال قتادة: "وكان من قبلكم إنما يقرأون كتبهم نظرا فإذا رفعوها لم يعوها ولم يحفظوها وأن الله أعطى هذه الأمة من الحفظ ما لم يعط الأمم قبلها" وذكره إلى آخره وسألت أبا عبد الله عن الطعام في أرض العدو إلى متى يأكلون؟ فقال: "إذا بلغوا الدرب ألقوا ما معهم" قال ابن هانىء سألت أبا عبدا لله عن الرجل يأخذ من عارضيه؟ قال: "يأخذ من اللحية بما فضل عن القبضة" قلت له: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم "احفوا الشوارب واعفوا عن اللحى" قال: "يأخذ من طولها ومن تحت حلقه". ورأيت أبا عبد الله يأخذ من عارضيه من تحت حلقه قال: ورأيت أبا عبد الله يأخذ حاجبه بالمقراض. قال: وسألته عن خاتم الحديد؟ فقال: "لا تلبسه". وسئل عن جلود الثعالب؟ قال: "إلبسه ولا تصل فيه". وسئل عن السراويل أحب إليك أم المئرز؟ فقال: "السراويل محدث ولكنه أستر". قال ابن هانىء خرج أبو عبد الله على قوم في المسجد فقاموا له فقال: "لا تقوموا لأحد فإنه مكروه" قال: وكنت مع أبي عبد الله

في مسجد الجامع فصلينا ثم رجعنا فقعدنا واستراح وأنا معه فجاء رجل كأنه محموم فقال يا أبا عبد الله إني كنت شارب مسكر فتكلمت فيك بشيء فاجعلني في حل؟ فقال: "أنت في حل إن لم تعد". قلت: يا أبا عبد الله لم قلت له لعله يعود؟ قال: "ألم تر إلى ما قلت له إن لم يعد فقد اشترطت عليه" ثم قال: "ما أحسن الشرط إذا أراد أن يعود فلا يعود إن كان له دين". قلت: وهذا صريح في جواز تعليق الإبراء على الشرط وهو الصواب. وقال إسحاق بن هانىء قال رجل لأبي عبد الله أوصني فقال: "أعز أمر الله حيث كنت يعزك الله". وقال لي: "يا إسحاق ما هو أهون الدنيا على الله عز وجل". قال الحسن: "أهينوا الدنيا فوالله إني لأهنأ ما يكون حين تهان" وقيل له ما معنى الحديث "لا يقم أحد لأحد" فقال: "إذا كان على جهة الدنيا مثل ما روى معاوية فلا يعجبني قيل له يكون الرجل حاجا فيأتيه الناس وفيهم المشايخ أيقوم لهم قال قد قام النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر في المعانقة احتج بحديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم عانقه. وسألته عن الرجل يلقى الرجل أيعانقه؟ قال: "نعم قد فعله أبو الدرداء". ومحوت قدامه لوحا بثوبي فقال: "لا تملأ ثيابك سوادا امح اللوح برجلك". وجئته بكتاب من خراسان فإذا عنوانه لأبي عبد الله أبقاه الله فأنكره وقال إيش هذا. قال ابن هانىء: دفع إلى أبو عبد الله يوما في المسجد الجامع ثلاث قطع فيها قريب من دانقين أعطيها وأشار إلى رجل فجاء معي حتى وقف عليه فدفعها إليه وهو ينظر إلى فلما أن دخل المسجد وصلينا الفريضة إذا نحن بالسائل يقول والله ما دفع إلى اليوم شيء ولا وقع بيدي اليوم شر من حرماني الطريق قال لي أبو عبد الله ألم تر ذلك السائل ويمينه بالله عز وجل يروي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم إن صح: " لو صدق السائل ما أفلح من رده". وقال لي أبو عبد الله: "يكذبون خير لنا لو صدقوا ما وسعنا حتى نواسيهم بما معنا". وما رأيته تصدق في مسجد الجامع غير تلك المرة. ففي هذا جواز الصدقة على سؤال المساجد فيها ووجوب المواساة عند الحاجة وجواز رواية الحديث الضعيف فقلنا باشتراط الصحة.

فصل: إذا سبح أحد في مسألة فإن كان السائل عن تحريمها أو كراهتها فهو تقرير لما سأله عنه لقول ابن منصور له يكره التحريش بين البهائم؟ قال: "سبحان الله أي لعمري" وإن سبح جوابا للسائل فإن كان قرينة ظاهرة في التحريم حمل عليه وإلا احتمل وجهي التحريم والكراهة وإن قال لا ينبغي فهو للتحريم وإن قال ينبغي ذلك فهل هو للوجوب أو الاستحباب على وجهين والصواب النظر إلى القرينة. قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد رضي الله عنه: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: "إن طاف طوافين فهو أجود وإن طاف طوافا واحدا فلا بأس" قلت: كيف هذا؟ قال: "أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من منى لم يطوفوا بين الصفا والمروة" وكذلك قال لي في رواية ابن عبد الله إلا أنه لم يزل يذكر الدليل وكذلك نقل عنه ابن مشيش. وقال ابن منصور قلت لأحمد: إذا علم من الرجل الفجور أيخبر به الناس؟ قال: "ربك يستر عليه إلا أن يكون داعية" وزاد ابن منصور "يخبر به عند الحاجة في تعديل أو تجريح أو تزويج" قلت: يكره الخضاب بالسواد؟ قال: "أي والله مكروه". قال ابن منصور كما قال شديدا إلا أن يريد به قريبا لأهله ولا يغر به امرأة. قلت: يكره أن يقول الرجل للرجل فداك أبي وأمي؟ قال: "يكره أن تقول جعلني الله فداك ولا بأس أن يقول فداك أبي وأمي". قال ابن منصور كما قال. قال حرب: باب من تزوج امرأة ولم يدخل بها فجاءت بولد قال أحمد في رجل تزوج امرأة فلم يدخل بها وإنها ولدت ولدا أنه لا يلزمه. قال ابن منصور قلت لأحمد: في كم تعطي الدية؟ قال: "لا أعرف فيه حديثا إلا إذا كانت العاقلة تقدر أن تحملها في سنة فلا أرى به بأسا ويعجبني ذلك" قال ابن منصور: "في ثلاث سنين كل سنة ثلث لأنه وإن لم يكن الإسناد متصلا عن عمر فهو أقوى من غيره".

ومن مسائل ابن بدينا محمد بن الحسين: سمعت أبا عبد الله سئل نحضر الجمعة والجنازة ونخاف الفوت فبأيهما نبدأ؟ قال: "نبدأ بالجنازة" كذا فيه وهو غلط من الكاتب وإنما الصواب "نبدأ بالجمعة". حدثني أبو بكر الأشرم قال قلت لأبي عبد الله روى شعبة عن قتادة عن أنس أنه كره إذا أعتق الأمة أن يتزوجها قال: "نعم إذا أعتقها لوجه الله كره له أن يرجع في شيء منها فأما إن أعتقها ليس لوجه الله إنما اعتقها ليكون عتقها صداقها فجائز". وروى بإسناده عن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تزوج امرأة ونوى أن يذهب بصداقها لقي الله وهو زان". ومن مسائل أبي علي الحسن بن ثوبان: قال قلت: الرجل يقال له اشهد أن هذه فلانة؟ قال: "إذا كانت ممن قد عرف اسمها ودعيت فذهبت وجاءت فليشهد وإن كان لا يعلم ما اسمها فلا يشهد". قلت ولا يجوز أن يقول الرجل للرجل اشهد إذا كان عنده ثقة أن هذه فلانة فيشهد على شهادة ذلك الرجل؟ قال: "إذا عرفت فاشهد". قلت رجلا زنى بامرأة أبيه تحرم عليه امرأته؟ قال: "نعم" ومعنى هذا القول أن يكون رجل تزوج امرأة وابنة بنتها ثم وطىء الابن أم زوجته. قلت رجل حفر بئرا قال: "إن كان ما أخذه به السلطان فلا

يضمن وإن كان مما أراد بها النفع لداره أو ليحدث فيها الشيء ضمن وضمن الحفار معه إذا جاء به إلى الطريق وهو يعلم مثله لا يكون ملكا له محفر له شاركه في الضمان" قلت: فإن كان حفر نصفها في حده ونصفها في فنائه فوقع فيها رجل؟ قال: "يضمن ولا يضمن الحفار" قلت: فإن أخذ الحفار؟ قال: "إن علم أن هذا الذي حفر لم يكن له ضمن وإن قال جئت إلى شيء أظن أنه ملك لهذا فليس عليه شيء". قيل له: فما ترى في رجل حفر بئرا قامة فجاء آخر فحفرها حتى وصل الماء فوقع فيها رجل لمن يلزم الضمان؟ قال: "بينهما". قلت: ما ترى في المرأة تحج أو تسافر في غير محرم؟ قال: "أعوذ بالله" قلت: ترى إن حجت من غير محرم يبطل؟ قال: "أعوذ بالله تعالى إن حجها جائز لها ولكنها أتت غير ما أمرها النبى صلى الله عليه وسلم". قلت: ما تقول في رجل مملوك له أب حر وأولاد أحرار من امرأة حرة مات العبد ولاء ولده لمن؟ قال: "لموالي أمه" قلت: إن بعضهم يزعم أن الجد يجر ولاءهم؟ قال: "ليس هذا ذاك الذي يجر الجد ولاءهم إنما ذلك في رجل مملوك وله أب مملوك وأولاد أحرار مات الرجل المملوك والجد مملوك ثم إن الرجل عتق فهو يجر ولاءهم لأنه عتق بعد موت ابنه". قيل له: ما ترى في رجل حفر في داره بئرا فجاء آخر فحفر في داره بئرا إلى الحائط الذي بينه وبينه فجرت هذه البئر بماء تلك البئر؟ قال: "لا تسد هذه من أجل تلك هذه في ملك صاحبها". ومن مسائل أبي بكر بن محمد بن صدقة: قال سمعت أبا عبد الله وقد سئل عن رجل قال بسم الله التحيات؟ فقال: "لا تقل بسم التحيات ولكن لتقل التحيات لله". وسئل عن الرجل يشهد وهو رديء اللفظ؟ قال: "يكتبه هو عنده" فقال: فإن ودعت الشهادة أصلا أتم ثم قال: "إن كان يضر بأهل القرية ومثله يحتاج إليه فلا يفعل". وسئل عن مسجد إلى جنب رجل ومسجد آخر

كان أبوه يؤذن فيه أترى أن أصلى في المسجد الذي إلى جنبي؟ قال: "إن كان عهد جميعا فكلما بعد فهو خير". وسئل عن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إغرار في الصلاة ولا تسليم" قال: "الإغرار عندنا أن يسلم منها ولا يكملها وأما التسليم فلا أدري". قيل له حديث ابن عمر "أنه كان يحتجم ولا يتوضأ" قال: "لا يصح لأن عمر كان يتوضأ من الرعاف" وسئل عن الرجل يعطي أخاه أو أخته من الزكاة؟ فقال: "نعم إذا كان لا يخاف مذمتهم وإن كان قد عودتهم فأعطهم" وسئل عن رجل توضأ بأقل من مد واغتسل بأقل من صاع؟ فقال: "ما سمعنا بأقل من مد النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع وتوضأ بالمد". وسئل عن رجل يموت يقول: وارثي فلان؟ فقال له: "كيف هذا وارثك فلان وفلان أقرب إليك منه ببطن" قال: ليس ذاك مرادي فلان جده كان داعيا وينكر ذلك أهل القرية والجيران وفي السامع المستفاض أن هذا الذي زعم أنه جده دعي وارث وأقرب إليه يقبل قوله قال: "لا يقبل قوله الولد للفراش". وسئل عن المجوسيه تكون تحت أخيها أو أبيها فيطلقها قال أو يموت عنها فيرفعان إلى المسلمين ألها مهر قال أحمد: "لم يسلما قال لا فليس لها مهر". وسئل عن الدرهم إذا رأيته مطروحا هل آخذه قال: "لا تأخذه فإن أخذه يعرفه سنة للخبر" وسئل عن أحاديث وهب بن منبه عن جابر كيف هي قال: "أرجو ولم يكن إسماعيل يحدث بها ونحن ثمة وكتبت أنا عن إبراهيم بن عقيل بن معقل شيخا كبيرا حديثين منها ولم يكن إسماعيل يحدث وأرجوا وعقيل بن معقل أحب إلي من عبد الصمد" وسئل عن رجل حلف بصدقة ما يملك فقال: "هذه يمين فقيل له ثلاثين حجة قال لا أفتي فيه بشيء" وسئل عن الرجل يعزي الرجل يصافحه قال: "ما أذكره ما سمعت" وسئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لا تأتوا النساء طروقا " قال: "نعم يؤذيهن قال بكتاب قال نعم". والله لما بلغ المقابر خلع نعليه ورأيته لما حثى التراب على الميت انصرف ولم يجلس. قال أحمد في رواية المروزي: "من اشترى ما يكاله وكاله البائع فوجده المشترى زائدا فقد يتغابن الناس بالقليل فإن كان كثيرا رده إليه" قيل له: في القفيز؟ قال: "هذا فاحش يرده قيل فكيلحة

ونحوه قال: هذا قد يتغابن الناس بمثله" قال في رواية أحمد بن الحسين الترمذي: "العينة عندنا أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبعه إلا بنسيئة فإن باع بنقد ونسيئة فلا بأس". وقال في رواية صالح بن القاسم: "أكره للرجل أن لا يكون له عادة غير العينة لا يبيع بنقد". وقال في رواية صالح في الذي يبيع الشيء على حد الضرورة كأنه يوكل به السلطان لأخذ خراج فيبيع فيودي "لا يعجبني أن يشترى منه". قال في رواية حنبل: "يكره بيع المضطر الذي يظلمه السلطان وكل بيع يكون على هذا المعنى فأحب أن يتوفاه لأنه يبيع ما يسوى كذا بكذا من الثمن الدون". وقال في رواية الميموني: "ولا بأس بالعربون" وفي رواية الأشرم وقد قيل له نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان فقال: "ليس بشيء". واحتج أحمد بما روى نافع عن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دارا بشجرة فإن رضي عمر وإلا له كذا وكذا قال الأشرم فقلت لأحمد: فقد يقال هذا قال أي شيء أقول هذا عمر رضي الله عنه. وقال حرب قيل لأحمد: ما تقول في رجل اشترى ثوبا وقال لآخر انقد عني وأنت شريكي قال: "إن لم يرد منفعة ولم يكن قرض جر نفعا فلا بأس". قال حرب وسئل أحمد عن دار بين ثلاثة اشترى أحدهم ثلثها بمائة والآخر الثلث الآخر بمائتين والآخر بثلاث مائة ثم باعوها بغير تعيين مساومة قال: "الثمن بينهم بالسوية لأن أصل الدار بينهم أثلاثا". وسئل أحمد مرة أخرى عن ثوب بين رجلين قوم نصفه على أحدهما بعشرين ونصفه على أحدهما بثلاثين فباعاه مساومة فقال قال ابن سيرين: "الثمن بينهما نصفين". قال حرب: "وهو مذهب أحمد" قيل: لم قال إن لكل واحد منهما نصفه؟ قلت: وإن كان عبدا قال وإن كان عبدا وكل شيء بهذه المنزلة" انتهى. قلت: فإن باعوه مرابحة فالثمن بينهم على قدر رؤوس أموالهم لأن الربح تابع لرأس المال فإن كان الربح عشرة في مائة فقد قابل عشرة درهما فيقسم الثمن بينهم كما يقسم الربح وقال صاحب المغني نص أحمد على أنهما إذا باعاه مرابحة فالثمن بينهما نصفان وعنه رواية أخرى حكاها أبو بكر أنها على قدر رؤوس أموالهم قال حرب: وسمعت أحمد يقول: "يأخذ

الرجل من مال ولده ما شاء" قلت: وإن كان الأب غنيا قال: "نعم". قيل: فإن كان للابن فرج شبه الأمة قال: "أما الفرج فلا وذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك " وحديث عائشة "إن أولادكم من كسبكم" والله أعلم. فصل: قال أحمد في رواية أبي طالب فيمن عنده رهون لا يعرف صاحبها "يبيعها ويتصدق بها ولا يأخذ ما على الرهن إذا باعه فإن جاء صاحبها غرمها". قال ابن عقيل: "ولا أعرف لقوله ولا يأخذ ما على الرهن وجها مع تجويز بيعها فإن كان المنع لأجل جهالة صاحبها فيجب أن يمنع البيع والصدقة بالثمن كما منع من اقتضاء الدين وإن لم يمنع من الصدقة والبيع فلا وجه لمنع اقتضاء الدين ونقل أبو الحارث في ذلك ويتصدق يبيعه بالفضل فإذا جاء صاحبها كان بالخيار بين الأخذ أو الثمن". قلت: فقد اختلفت الرواية عنه في جواز أخذه حقه من تحت يده قال ابن عقيل: "وأصل هاتين الروايتين جواز شراء الوكيل من نفسه" وفيه روايتان كذلك أخذه من تحت يده يخرج عليهما وقد تضمن نصاه جواز البيع وإن لم يستأذن الحاكم وتأولهما القاضي على ما إذا تعذر إذن الحاكم قال: "وأما إذا أمكن فلا يجوز له ذلك لأنه لا ولاية له على مال الغائب لا بولاية عامة ولا خاصة ومجرد كون مال الغير في يده لا يوجب الولاية" قال: "قد نص أحمد في رواية أبي طالب إذا كان عنده رهن وصاحبه غائب وخاف فساده كالصوف ونحوه يأتي إلي السلطان ليأمره ببيعه ولا بيعه بغير إذن السلطان فهذا النص منه يقضي على ذلك الإطلاق" قلت: والصواب تقرير النصين والفرق بين المسألتين ظاهر فإن في الثانية صاحب الرهن موجود ولكنه غائب فليس له أن يتصرف في مال الغائب بغير وكالة أو ولاية ولا يأمن شكايته

ومطالبته إذا قدم وهذا بخلاف ما إذا جهل صاحب المال أو ليس من معرفته فإن المعنى الذي في حق الغائب الموجود مفقود في حق هذا والله أعلم. ومن مسائل أحمد بن خالد البرائي: قال سألت أبا عبد الله فقلت: إذا فاتتني أول صلاة الإمام فأدركت معه من آخر صلاته فما أعتد به أول صلاتي فقال: "تقرأ فيما مضي يعني الحمد وسورة وفي العقود تقعد على ابتداء صلاتك" ومن خط القاضي أيضا نقل مهنا عن أحمد في أسير في أيدي الروم مكث ثلاث سنين يصوم شعبان وهو يرى أنه رمضان يعيد قيل له كيف؟ قال: "شهرا على أثر شهر كما يعيد الصلوات". ونقل عبد الله عنه في الرجل يكبر تكبيرة الافتتاح قبل الإمام هذا ليس مع الإمام يعيد الصلاة إنما أمره بالإعادة ولم يجعله منفردا بالصلاة لأنه يرى الائتمام بمن ليس بإمام لأنه إذا كبر قبله فليس بإمام له ولم تصح صلاة الانفراد لأن النية قد بطلت فإن صلى نفسان ينوي كل واحد منهما أنه يأتم بصاحبه لم تصح صلاتهما لأنه ائتم بغير إمام فإن صلى نفسان كل واحد منهما أنه نوى أته إمام صاحبه لم تصح صلاتهما أيضا لأنه نوي الإمامة بمن لا يأتم به فهو كما لو نوى الائتمام بغير إمام. نقل الحسن ب علي بن الحسن سالت أبا عبد الله عن الرجل يكبر خلف الإمام يخافت أو يعلن به قال: "لا نعرف فيه شيئا إنما الحديث إذا كبر فكبروا" قال القاضي: "ظاهر كلامه التوقف عن جهر المأموم بذلك ويجب أن يكون السنة في ذلك الإخفات في حقه كسائر الأذكار في حقه ولأن الإمام إنما يجهر ليعلم المأموم بدخوله في الصلاة وركوعه وإلا فالسنة الإخفات لسائر الأذكار غير القراءة" انتهى.

من خط القاضي أبي يعلى مما انتقاه من شرح مسائل الكوسج لأبى حفص البرمكي قال أبو حفص: "إذا ترك التشهد أن صلاته تجزئه ولا فرق عنده بين التشهد الأول والثاني إن تركهما عامدا أعاد الصلاة وإن تركهما ناسيا فصلاته جائزة وعليه سجود السهو". قال: "ومن الأبدال عندنا ما يكون غير واجب وإن كان مبدله واجبا مثل النكاح واجب وجعل النبي صلى الله عليه وسلم منه الصيام وهو غير واجب: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فبدأ بالسجود قيل ذلك في غير شريعتنا لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولأن الركوع يسمى سجودا والسجود ركوعا وبدليل حديث عائشة "صلى النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف ركعتين في كل ركعة سجدتين يريد ركوعين" وفي حديث أبي هريرة م"ن أدرك من العصر سجدة يريد ركعة" وقال تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} يريد ساجدا. قال أحمد: "وإن انغمس في المياه لا يجزئه حتى يتوضأ" قال أبو حفص: "إن كان اغتساله لغيره الجنابة لا يجزئه من وضئه وإن نوى الوضوء ليس عليه الترتيب وإذا خرج من الماء أخرجه رأسه قبل وجهه ولأن الغسل لا يقوم مقام المسح والمغمس في الماء غير ماسح بل غاسل فلا يجزئه وإن ربت الأعضاء في جوف الماء فإن مسح برأسه وغسل رجليه بعد أن خرج رأسه من الماء ويكون قد تمضمض واستنشق أولا الوضوء لنفسه لأن أبا داود روي عنه إذا علم رجلا الوضوء ونوى أجزأه لأن عثمان وعليا رضي الله عنهما جلسا يعلمان الناس وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لهما طهورا. عن أحمد ثلاث روايات في الجنب هل يحتاج إلى وضوء؟ إحداهن يجزئه الغسل بلا وضوء الثانية يجزئه الغسل عن الوضوء إذا نواه الثالثة لا يجزئه حتى يتوضأ. قلت: قد استشكل بعض الأصحاب الرواية الأولى وهي الصحيحة دليلا لأن حكم الحدث الأصغر قد اندرج في الأكبر وصار جزءا منه فلم ينفرد بحكم لا سيما وكل ما يجب غسله من الحدث الأصغر يجب غسله في الأكبر وزيادة فهذه الرواية هي الصحيحة وبهذه الطريق كان

الصحيح أن العمرة ليست بفريضة لدخولها في الحج والنبي صلى الله عليه وسلم الطهر بإفاضة الماء على جميع الجسد ولم يشترط وضوءا وفعله النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الغسل. قال أبو حفص: "إن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد المضمضة والاستنشاق بالذكر عن الوجه فقال: "إن العبد إذا تمضمض واستنشق خرجت ذنوبه من فيه ومنخريه فإذا غسل وجهه" الحديث قيل لا يمنع ذلك أن يكونا من الوجه كما قال: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} فلم يمنع تمييزه بين الحميم وبين جهنم أن يكون من جهنم ولأنه أفردهما لأنه خص الوجه بمعنى آخر هو خطايا النظر ولأنه يمكن فعلهما في الحال فجمع بينهما في الذكر ولا يمكن جمعهما مع الوجه في الاستعمال فأفردا بالذكر وإنما لم يجب غسل باطن العينين لأنه يورث العمى فسقط للمشقة وفيهما في الغسل روايتان: إحداهما لا يجب للمشقة والأخرى يجب لعدم التكرار. واختلف أصحابنا في المبالغة في الاستنشاق؟ فقال ابن أبي علي: "هي غير واجبة لأنها تسقط في صوم التطوع" وقال أبو إسحاق: "هي واجبة ولا يدل سقوطها في الصوم على سقوط فرضها في غيره لأن سفر التطوع يسقط الجمعة ولا تسقط في غير السفر" وأجاب أبو حفص بأن الجمعة فيها بدل وليس من المبالغة بدل وأجاب أبو إسحاق بأنه قد يسقط الفرض بالتطوع ولا بدل كالسفر يسقط بعض الصلاة. قال إن قيل يلزم أن يجعل ما خلف الأذن من البياض من الرأس قيل يقول: إنه منه قيل يلزم أن يجوز الاقتصار من التقصير من شعر الأذن قيل عندنا يلزم استيعاب الرأس بالأخذ من جميع شعره والمرأة تقصر من طرف شعرها أنملة لأن شعرها منسبل فهو يأتي على شعرها قيل يلزم أن يجوز الاقتصار بالمسح عليهما في الوضوء قيل في المسح روايتان إحداهما استيعاب الجميع والأخرى البعض ولا يجوز الاقتصار على الأذنين إجماعا وقال: صفة مسح المرأة أن تمسح من وسط رأسها إلى مقدمة ثم من وسط رأسها إلى مؤخره على استواء الشعر وكذا الرجل إذا كان له شعر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه مسح من مقدمه إلى مؤخره". يجزىء في المذي النضح لأنه ليس بنجس لقوله صلى الله عليه وسلم: "ماء الفحل ولكل

فحل ماء" فلما كان ماء الفحل طاهرا وهو المني وكان هذا مثله لأنهما ينشآن من الشهوة. قال قوله: "إذا قام أحدكم من منامه إشارة إلى نوم الليل لأن المنام المطلق إشارة إلى الليل ولأنه قال باتت يده والبيتوتة لا تكون إلا بالليل كقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أهل الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أهل الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} فخص البيات بالليل ثم ذكر النهار". قال أحمد: "بئس الدرهم الأبيض على غيرا وضوء وأرجو يحتمل أن يكون سهلا لحاجة الناس إلى المعاملة به وتقليبه". قال أحمد في الرجل يجامع أهله في السفر وليس معه ماء؟ "لا أكره له ذلك قد فعله بن عباس". روي أنه تيمم وصلى بمتوخئين ثم التفت إليهم فقال: "إني أصبت من جارية رومية ثم تيممت وصليت بكم" واحتج للتيمم لا يجوز بغير تراب بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قال فإن قيل النبي صلى الله عليه وسلم سمى المدينة طيبة وطابة وكانت سبخة قيل سماها طيبة لأنها طابت له وبه لا أن هذا الاسم استحقته الأرض. قال في الدم أكثر الروايات أن الفاحش ما يستفحشه الإنسان في نفسه وقد قال ههنا بالذراع والشبر ولا يدل ذلك على أن ما دونه ليس بفاحش لأنه قال في مسائل المروزي خمس بصاقات من دم وإنما لم يوقت في ذلك لأن التوقيت لم يأت عمن تقدم. روى عن ابن عمر "أنه تيمم والماء منه على غلوة أو غلوتين ثم دخل المصر وعليه وقت أي غسل" روى وهب بن الأجدع عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية " قيل يحتمل أنه يعنى وقت العصر لأنه روي أنه نهي عن الصلاة بعد العصر أي فعل الصلاة قوله: " اسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ".فيه ضعف ويريد بذلك الإسفار في نفس الصلاة فيكون قد ابتدأها بعدها طلع الفجر وأسفر بها بتطويل القراءة. أبو بكر قرأ بهم البقرة في الفجر وقال: "لو طلعت ما وجدتنا غافلين". قلت للناس في هذا الحديث أربع طرق: إحداها: تضعيفه وهي طريقة أبي حفص وغيره. الثانية: حمله على الإسفار بها ليالي الغيم والليالي المقمرة خشية الصلاة قبل الوقت. الثالثة: أن الإسفار المأمور به هوا لإسفار

بها استدامة وتطويلا لا ابتداء وهذه أصح الطرق ولا يجوز حمل الحديث على غيرها إذ من المحال أن يكون تأخيرها إلى وقت إسفار أفضل وأعظم للأجر والنبي صلى الله عليه وسلم يواظب على خلافة هو وخلفاؤه الراشدون من بعده وتفسير هذا الحديث يؤخذ من فعله وفعل خلفائه وأصحابه فإنهم كانوا يسفرون باستدامتها لابابتدائها وهو حقيقة اللفظ فإن قوله: أسفروا بها الباء للمصاحبة أي أطيلوها إلى وقت الإسفار وفهم هذا المعنى من اللفظ أقوى من فهم معنى آخر احتمالا مساويا لم يجز حمله على معنى المخالف لعمله وعمل خلفائه الراشدين والله أعلم. الطريقة الرابعة: أن تأخيرها أفضل وحملوا الإسفار بها على تأخرها إلى وقت الإسفار. قال: دليل الجمع للمطير روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع قال: "كان أهل المدينة إذ جمعوا بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة صلى معهم ابن عمر وروى عن ابن الزبير مثله قال: وروى عن أحمد الشفق الحمرة حضرا وسفرا وعنه البياض سفرا وحضرا. قال: احتج من قال بطهارة الكلب بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} وإطلاق الماء يقتضي الطهرة. وقيل لا يمنع أن يقلب الله عينها إلى النجاسة كالعصير يتخمر والماء ينقل بولا. سئل أحمد عن جيران المسجد قال: "كل من سمع النداء". سئل يؤم الرجل أباه قال: "أي والله يؤم القوم أقرؤهم" واحتج أبو حفص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ورأيتني في جماعة من الأنبياء" إلى أن ذكر إبراهيم قال: "فصليت بهم ". عن أحمد في النفخ قال: "أكرهه شديدا إلا أني لا أقول بقطع الصلاة وليس هو بكلام وعنه أن النفخ يقطع الصلاة وعلى الروايتن هو مكروه". صلاة الضحى قيل عثمان وما أحد يسبحها قيل وليس في ترك الصحابة ما يمنع من فعلها فقد فعلها وتركها وقتا وهذا اختيار أحمد أن لا يداوم عليها. قال: إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة وجب أن يقوم الإمام ولا يسبقوه ثم يقوموا وإذا لم يكن في المسجد أيضا قاموا فانتظروه قياما وقد روى

أبو هريرة قال: "أقيمت الصلاة وصف الناس صفوفهم فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله: "ثم ذكر أنه لم يغتسل فقال بيده للناس مكانكم " وأما قوله: "لا تقوموا حتى تروني " فنقول "إذا لم يكن في المسجد جاز أن يقوموا إذا قال: قد قامت الصلاة ينتظرونه قياما لحديث أبي هريرة "وإذا كان في المسجد قاموا ولم يتقدموه" لأنه قال: "حتى تروني" أي قائما. اختار أحمد حديث عمر في الاستفتاح وقد روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بصحيح لأن رواية علي بن علي الرقاعي عن أبي المتوكل الباجي عن أبي سعيد وقد قال أحمد: "علي بن علي لا يعبأ به شيئا" حديث البراء "أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه ثم لا يعود" قال أحمد: "لم يعد من كلام وكيع" قال: "لا يختلف المذهب في اللحن الذي هو مخالفة الإعراب لا يبطل الصلاة". واختلف قوله إذا ختم آية رحمة بآية عذاب؟ على روايتين إحداهما عليه الإعادة الثانية لا، ووجهها ما روى قابوس بن أبي ظبيان أبي ظبيان عن ابن عباس قال: ":صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون قال: فأكثروا فقال: إن له قلبين ألا تسمعون إلى قوله والآية في الصلاة". قال ابن عباس: "لا يؤم الغلام حتى يحتلم". وإن قيل يلزم عليك إمامته إذا كان ابن عشر لأنه خوطب بالصلاة عندك قيل الخبر ألزم ذلك في النظر إن قيل أم عمرو بن سلمة وهو غلام قيل سمى غلاما وهو بالغ ورواية أنه كان له سبع سنين فيه رجل مجهول فهو غير صحيح. الكوسج قلت: يؤم القوم وفيهم من يكره ذلك؟ قال: "إذا كان رجلا أو رجلين فلا حتى يكونوا جماعة ثلاثة فما فوقه". قال أبو حفص: "جعل الحكم للكثير في الكراهة لأن الحكم للأغلب". روى أنس "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم أنا ويتيم لنا وأم سليم خلفنا" يحتمل أن يكون كان بالغا ويحتمل أن يكونا صبيين أما إذا كان أحدهما بالغا فعلى حديث عبد الله بن مسعود "أنه صلى بعلقمة والأسود واحدة ما غير بالغ فأقام غير بالغ فأقام أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم". الكوسج قلت: إذا دخل والإمام راكع يركع قبل أن يصل إلى الصف قال: "إذا كان وحده وظن أنه يدرك فعل".

واحتج أبو حفص بحديث أبي بكرة. فإن قيل فقد نهاه قيل نهاه عن شدة السعي. قلت: الإشارة في الصلاة؟ قال: قد أشار النبي صلى الله عليه وسلم اجلسوا إذا كان يفهمهم شيئا أمر صلاتهم. الصلاة لغير القبلة وهو لا يعلم ثم علم؟ قال: "يستدير" قلت: يعيد ما صلى؟ قال: "لا". أبو حفص دليلة أهل قبا قوله صلى الله عليه وسلم: " فليصل إلي سترة وليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته" إن قيل فقد روي أنه خنق شيطانا وهو يصلي، قيل: يحتمل أن خنقه يمنه أو يسرة قال أحمد: "لا يعجبني أن ينقص وتره" وعنه الجواز لحديث عثمان وابن عباس وأسامة رخصا فيه. قلت: إن رجلا قال يا رسول الله إني أعمل العمل أسره فيطلع عليه فيعجبني؟ قال لما أسر العمل فأظهر الله له الثناء الحسن فأعجبه فلم يعب ذلك أن الرجل يعجبه أن يقال فيه الخير لا بأس أن يعجب الإنسان ما قيل عنه من الخير إذا كان مقصده في عمله الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن تسره حسنة ". وقوله: "إذا نسي أحدكم صلاة فليصلها إذا ذكرها لوقتها من الغد ". محمول على النسخ بحديث عمران بن حصين "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره إلى قوله: " فصلى بنا رسول الله فقلنا: يا رسول الله نقضيها لميقاتها من الغد؟ قال: لا ينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم ". قال ابن مسعود: "لا يقصر إلا حاج أو غاز" يحمل على ما شاهده من الرسول لأن أسفاره لم تكن إلا في حج أو غزو واختلفت الرواية في صلاة النائم فروي عنه على جنب وعنه مستلقيا ورجلاه إلى القبلة. تجب الصلاة على الصبي عند تكامل العشر لا كما يقول مخالفنا عند تكامل الخمس عشرة. قلت: رجل وضع يديه على فخديه في الركوع أو وضع إحدى يديه على ركبتيه ولم يضع الأخرى قال أحمد: "أرجو أن يجزئه". قال أبو حفص: "معنى هذه المسألة إذا كان ذلك من علة أما من غير علة فلا لما روى عن سعد كنا نطبق ثم أمرنا أن نضع الأيدي على الركب وابن مسعود لم يبلغه ذا وكان يطبق ولو أن رجلا لم يبلغه فعمل بالمنسوخ كابن مسعود لم تبطل صلاته ولزمه ذلك منذ وقت علم. إذا سها في صلاته عشرين مرة يكفيه سجدتان لحديث عمران بن حصين فإنه

حصل منه سهو كثير واكتفى بسجدتين من ذلك أنه جلس في الثالثة ساهيا وسلم ساهيا وسؤالهم له ساهيا ودخوله الحجرة ساهيا. إذا أدرك إحدى سجدتي السهو يقضي السجدة ثم يقوم فيقضي ما فاته إنما لم يجز تأخيرها إلى آخر صلاته بل يقضيها معه لقوله: "وما فاتكم فاقضوا " وقد فاتته سجدة فيجب أن يسجدها لا زيادة عليها. رجلان نسى أحدهما الظهر أمس والآخر أول أمس قال أحمد: "يجمعان جميعا من يوم واحد وأيام متفرقة" وعنه في رواية صالح أنهما لا يجمعان من أيام متفرقة وجه رواية الكوسج أن صلاتهما يجمعهما اسم ظهر وليس بينهما اختلاف هذا قول أبي حفص وجه رواية صالح ما ذكره الشريف أبو جعفر من أن ظهر يوم واحد في حكم الجنس الواحد ومن يومين في حكم الجنسين بدليل أنه قد سقط ظهر أحدهما بما لا يسقط به ظهر الآخر وهو ظهر يوم الجمعة وبقية الأيام تسقط بظهر مثلها وهذا معدوم في اليوم الواحد وهذا فرق صحيح وقد ذكرناه بعينه إذا كان عليه كفارتان من جنسين أنه يفتقر إلى التعيين. قال في رجلين صليا جميعا ائتم كل واحد منهما بصاحبه يعيدان جميعا والدليل عليه أنه لم يصل واحد منهما معتقدا للإمامة قال: "ولو أن رجلا ائتم برجل ولم ينو ذلك الرجل أن يكون إمامه يجزى للإمام ويعيد هو دليله أن الإمامة لا تصح إلا بنية فإن قيل عبد الله بن عباس ائتم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وكان قد ابتدأها لنفسه قيل النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره وهو إمام كيف تصرفت أحواله إلا أن ينقل نفسه فيصير مأموما. قال إسحاق الكوسج: قلت يكره لهؤلاء الخياطين الذين في المساجد قال: لعمري شديد دليله عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلين يتبايعان في المسجد فقال: "هذا سوق الآخرة فاخرجا إلى سوق الدنيا". قضاء الركعتين بعد العصر خصوصا له النبي صلى الله عليه وسلم بدليل حديث أم سلمة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنقضيها إذا فاتتنا؟ قال: "لا". الفرق بين الإسلام يصح في الأرض المغصوبة دون الصلاة لأن الإسلام لا يفتقر إلى مكان بخلاف الصلاة. المسلم إذا أعتق عبده النصراني فهل عليه جزية على روايتين وجه سقوطها أن ذمته ذمة سيده. كراهته للمعتكف أن يعتكف في خيمة إلا أن يكون بردا لأن الخيمة تضيق المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في زمان بارد في قبة وخيمة يدل عليه قوله: "إني رأيتني

أسجد في صبيحتها في ماء وطين " فعلم أن الزمان بارد لوجود المطر. في إتيان المستحاضة قال: "لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها" وليس أنه أباح ذلك إذا طال ومنع ذلك إذا قصر ولكنه أراد أنه إذا طال علمت أيام حيضها من أيام استحاضتها يقينا وهذا لا تعلمه إذا قصر بذلك. وقوله في المرأة تشرب دواء يقطع الدم عنها؟ قال: "إذا كان دواء يعرف فلا بأس". قال أبو حفص: "معناه عندي إذا ابتليت بالاستحاضة الشديدة فهو مرض لا بأس بشرب الدواء أما الحيض فلا لأن الحيض كتبه الله على بنات آدم وإنما تلد إذا كان حيضها موجودا ولا جائز أن يتعرض لما يقطع الولد". في إتيان الحائض قال أحمد: "لو صح الحديث كنا نرى عليه الكفارة" وقال أبو حفص: "إن لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عن ابن عباس ومذهب أحمد الحكم بقول الصحابي إذا لم يخالف" قال: "واختياري ما قال الكوسج أنه مخير في الدينار أو النصف دينار". قوله: في أكثر الحيض أكثر ما سمعنا سبعة عشر يوما يحتمل أن يكون ذكره لأنه قوله ويمكن أن يكون على طريق الحكاية والأشبه عندي أن يكون قوله لا يختلف أنه خمسة عشر يوما وإنما أخبر عن السبع عشرة أنه سمعه لا أنه يقلده قوله في الطهر أنه على قدر ما يكون فليس عنده أن لأقله حدا كما ليس لأكثره حد وكل شيء لأكثره حد ليس لأقله حد فإن قيل ينبغي إن كان ليس لأقله حد لو ادعت انقضاء عدتها في أربعة أيام تباح للأزواج قيل العدة ليس من هذا لأن قوله: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} يريد الإقراء الكاملة وأقل الكاملة أن تكون في شهر لحديث علي مع شريح. وقوله في الصبي لا يزوج لا يكون وليا حتى يحتلم وعنه ابن عشر يزوج ويتزوج. آخر المنتقى من خط القاضي مما انتقاه من شرح مسائل الكوسج لأبي حفص قال: "ومبلغه ستة أجزاء".

فصل: قال أحمد في رواية الحسن بن ثوبان: "إذا كان الرهن غلاما فاستعمله المرتهن أو ثوبا فلبسه وضع عنه قدر ذلك" قال أصحابنا: "يعني أنه يضع من دين الرهن بقدر ما أنتفع من الرهن" ونقله عنه أيضا إذا كان الرهن دارا فقال المرتهن أنا أسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي تنتقل فتصير دينا وتتحول عن الرهن وهذا نص منهم على أن الراهن إذا أجر العين المرهونة للمرتهن خرجت عن الرهن وبقي دينه بلا رهن هذا معنى قوله تنتقل فتصير دينا أي يبقى حقه في الذمة فقط ولا يتعلق برقبة الدار وتخرج الدار عن كونها رهنا. ونقل عنه بكر بن محمد "إذا رهن جارية فسقت ولد المرتهن وضع عنه بقدر ذلك يعنى وضع عن الراهن من الدين بقدر أجرة لرضاع ولد المرتهن. فصل: إذا قال الراهن للمرتهن إن جئت بحقك إلى كذا وإلا فالرهن لك بالدين الذي أخذته منك فقد فعله الإمام أحمد في حجته ومنع منه أصحابه وقالوا نص في رواية حرب على خلافه فقال: "باب الرهن يكتب شراء". قيل لأحمد المتبايعان بينهما رهن فيكتبان شراء فكرهه كراهة شديدة وقال: "أول شيء أنه يكذب هو رهن يكتب شراء فكرهه جدا" قال ابن عقيل: "ومعنى هذا أن المرتهن يكتب شراء لموافقة بينه وبين الراهن وإن لم يأته بالحق إلى وقت كذا يكون الرهن مبيعا فهو باطل من حيث تعليق البيع على الشرط وحرام من حيث أنه كذب واكل مال بالباطل". قلت: وهذا لا يناقض فعله وهذا شيء وما فعله شيء فإن الراهن والمرتهن قد اتفقا على أنه رهن ثم كتبا أنه عقد تبايع في الحال وتواطئا

على أنه رهن فهو شراء في الكتابة رهن في الباطن فأين هذا من قولهما ظاهرا وباطنا إن جئتك بحقك في محله وإلا فهو لك بحقك ألا ترى أن أحمد قال: "هذا كذب" ومعلوم أن العقد إذا وقع على جهة الشرط فليس بكذب وليس في الأدلة الشرعية ولا القواعد الفقهية ما يمنع تعليق البيع بالشرط والحق جوازه فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا وهذا لم يتضمن واحدا من الأمرين فالصواب جواز هذا العقد وهو اختيار شيخنا على عادته حمل ذلك وفعل إمامنا. قال أحمد في رواية أبي طالب: "إذا ضاع الرهن عند المرتهن لزمه". قال ابن عقيل: "وهذه الرواية بظاهرها تعطي أن الرهن مضمون إلا أن شيخنا علي عادته حمل ذلك على التعدي لأجل نصوص أحمد على أن الرهن أمانة وعادته تأويل الرواية الشاذة لأجل الروايات الظاهرة وهذا عندي لا يجوز إلا بدلالة فأما صرف الكلام عن ظاهره بغير دلالة تدل فلا يجوز كما لا يجوز في كلام صاحب الشرع" انتهى كلامه. فصل: إذا قدر الرجل على التزوج أو التسري حرم عليه الاستمناء بيده قال ابن عقيل: "وأصحابنا وشيخنا لم يذكروا سوى الكراهة لم يطلقوا التحريم" قال: "وإن لم يقدر على زوجة ولا سرية ولا شهوة له تحمله على الزنا حرم عليه الاستمناء لأنه استمتاع بنفسه والآية تمنع منه وإن كان متردد الحال بين الفتور والشهوة ولا زوجه له وله أمة ولا يتزوج به كره ولم يحرم وإن كان مغلوبا على شهوته يخاف العنت كالأسير والمسافر والفقير جاز له ذلك نص عليه أحمد رضي الله عنه وروي أن الصحابة كانوا يفعلونه في غزواتهم وأسفارهم وإن كانت امرأة لا زوج لها واشتدت غلمتها فقال بعض أصحابنا: يجوز لها اتخاذ الاكرنبج وهو شيء

يعمل من جلود على صورة الذكر فتستدخله المرأة أو ما أشبه ذلك من قثاء وقرع صغار. والصحيح عندي أنه لا يباح لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرشد صاحب الشهوة إذا عجز عن الزواج إلى الصوم ولو كان هناك معنى غيره لذكره وإذا كان غائبا عنها لأن الفعل جائز ولا يحرم من توهمه وتخيل وإن كان غلاما أو أجنبية كره له ذلك لأنه إغراء لنفسه بالحرام وحث لها عليه وإن قور بطيخة أو عجينا أو أديما أو نجشا في صنم إليه فأولج فيه فعلى ما قدمنا من التفصيل قلت: وهو أسهل من استمنائه بيده وقد قال أحمد فيمن به شهوة الجماع غالبا لا يملك نفسه ويخاف أن تنشق أنثياه أطعم وهذا لفظ منا حكاه عنه في المغني ثم قال: "أباح له الفطر لأنه يخاف على نفسه فهو كالمريض يخاف على نفسه من الهلاك لعطش ونحوه وأوجب الإطعام بدلا من الصيام وهذا محمول على من لا يرجو إمكان القضاء فإن رجا ذلك فلا فدية عليه والواجب انتظار القضاء وفعله إذا قدر عليه لقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} الآية وإنما يصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء فإن أطعم مع يأسه ثم قدر على الصيام احتمل أن لا يلزمه لأن ذمته قد برئت بأداء الفدية التي كانت هي الواجب فلم تعد إلى الشغل بما برئت منه واحتمل أن يلزمه القضاء لأن الإطعام بدل إياس وقد تبينا ذهابه فأشبه المعتدة بالشهور لليأس إذا حاضت في أثنائها. في الفصول روى عن أحمد في رجل خاف أن تنشق مثانته من الشبق أو تنشق انثياه لحبس الماء في زمن رمضان يستخرج الماء ولم يذكر بأي شيء يستخرجه قال: "وعندي أنه يستخرجه بما لا يفسد صوم غيره كاستمنائه بيده أو ببدن زوجته أو أمته غير الصائمة فإن كان له أمة طفلة أو صغيرة استمنى بيدها وكذلك الكافرة ويجوز وطؤها فيما دون الفرج فإن أراد الوطء في الفرج مع إمكان إخراج الماء بغيره فعندي أنه لا يجوز لأن الضرورة إذا رفعت حرام ما وراءها

كالشبع مع الميتة بل ههنا آكد لأن باب الفروج آكد في الحظر من الأكل". قلت: وظاهر كلام أحمد جواز الوطء لأنه أباح له الفطر والإطعام فلو اتفق مثل هذا في حال الحيض لم يجز له الوطء قولا واحدا فلو اتفق ذلك لمحرم أخرج ماءه ولم يجز له الوطء. فصل: فإن كان شبق الصائم مستداما جميع الزمان سقط القضاء وعدل إلى الفدية كالشيخ والشيخة وإن كان يعتريه في زمن الصيف أو الشتاء قضي في الزمن الآخر ولا فدية هنا لأنه عذر غير مستدام فهو كالمريض ذكر ذلك في الفصول. فائدة: وقوله في المقنع: "وإن جاءت وهو جالس لم يقم لها يعنى الجنازة لم أر هذا في كلام أحمد رضي الله عنه وقد قال: "وإن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس" وقال الميموني في مسائله سمعته يقول: "إذا تبع الجنازة فلا يجلس حتى توضع كذا قال أبو هريرة وأبو سعيد وإذا رآها قام" قال: "كان هذا أكثر في الخبر من عشرة من أصحاب رسول الله يروونه" ثم قال الميموني: "تسمية من يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى جنازة قام لها عثمان بن عفان سعيد بن زيد عامر بن ربيعة قيس بن سعد سهل بن حنيف زيد بن ثابت أخو زيد بن ثابت أبو سعيد الخدري أبو هريرة أبو موسى الأشعري ابن عباس حسن وحسين فهؤلاء اثنا عشر من الصحابة رضي الله عنهم ثم ساق الميموني أحاديثهم كلها بإسناده. وقال حرب في مسائله: قلت

لأحمد يري الجنازة أيقوم لها؟ فقال: "قد روى عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد" وكان ابن عمر يقوم وسهل أبو عبد الله فيه. وقال أبو داود في مسائله سمعت أحمد بن حنبل سئل عن القيام إذا رأى الجنازة قال: "إن لم يقم أرجو وإن قام أرجو" قيل القيام أفضل عندك قال: "لا" وقال في رواية إسحاق بن هانىء: "إذا رأى الجنازة فقام فلا بأس وإن لم يقم فلا بأس". قال إسحاق بن هانىء وسئل يعنى أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن الرجل يموت فيوصي أن يدفن في داره قال: "يدفن في مقابر المسلمين وإن دفن في داره أضر بالورثة والمقابر مع المسلمين أعجب إليّ" وقال في روايته: "أكره أن يجعل على القبر ترابا من غيره تغسيل الميت". قال: وسئل عن الحائض تغسل المرأة الميتة؟ قال: "لا يعجبني أن تغسل الحائض شيئا من الميت والجنابة أيسر من الحيض". قال: وسئل عمن غسل الميت أعليه غسل أم وضوء؟ قال: "يتوضأ وقد أجزأه". قال: وسألته هل على من غسل الميت غسل قال: "عليه الوضوء فقط" واتبع أحمد في ذلك آثار الصحابة فإنه صح عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة الأمر بالوضوء منه ولا يحفظ عن صحابي خلافهم وهو قول حذيفة وعلى أيضا. وقال الجوزجاني حدثنا يزيد بن هارون أنا مبارك بن فضالة عن بكر عن عبد الله المزنى عن علقمة بن عبد الله المزني قال: "غسل أباك" يعنى أبا بكر بن عبد الله أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن بايع نبي الله تحت الشجرة فما زادوا على أن شمروا أكمتهم وجعلوا قمصهم تحت حجرهم وتوضأوا ولم يغتسلوا". وفي الموطأ مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر غسلت أبا بكر الصديق حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار فقالت: إني صائمة وإن هذا اليوم شديد البرد فهل علي من غسل قالوا: لا. قال إسماعيل بن سعيد قلت لأحمد بن حنبل أرأيت إن كان الميت كافرا قال: "عليه الغسل لحديث علي" يعنى على غاسله الغسل وهو قول أبي أيوب. قال الجوزجاني: "وأقول أن هذا وهم منهما وذلك أنه ليس في حديث على أنه غسل أبا طالب".

فصل: قال أحمد في الرجل يعمل الخير ويجعل النصف لأبيه أو لأمه؟ "أرجو" وقال: "الميت يصل إليه كل شيء من الخير لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من البر بعد البر أن تصلى لهما مع صلاتك وأن تصوم مع صومك وأن تتصدق لهما مع صدقتك" انتهى. ولا يشترط تسمية المهدي إليه باسمه بل يكفي النية نص عليه في رواية ابنه عبد الله لا بأس أن يحج عن الرجل ولا يسميه. فصل: قال إسحاق الكوسج قلت لأحمد رضي الله عنه قال الحسن في الرجل يقول لامرأته أنت طالق إن شاء الله تعالى كان يلزمه فقال أحمد: "أما أنا فلا أقول فيه شيئا" قلت: لم قال: "الطلاق ليس هو يمين" قلت: وكذلك العتق؟ قال: "نعم". فصول: في أحكام الوطء في الدبر: فمنها أنه من الكبائر ومنها أنه يوجب القتل إذا كان من غلام نص عليه أحمد في إحدى الروايتين والثانية حده حد الزاني كقول مالك والشافعي فإن كان من زوجه أو امة أوجب التعزير وفي الكفارة وجهان أحدهما عليه كفارة من وطىء حائضا اختاره ابن عقيل والثاني لا كفارة فيه وهو قول أكثر الأصحاب ومنها أن للزوجة أن تفسخ النكاح به وذكره غير واحد من أصحابنا وإن كان من امرأة أجنبية فاختلف أصحابنا في حده فالذي

قاله أبو البركات وأبو محمد وغيرهما حده حد الزاني وقال ابن عقيل في فصوله: "فإن كان الوطء في الدبر في حق أجنبية وجب الحد الذي أوجبناه في اللواط وعلى هذا فحده القتل بكل حال وإن كان في مملوكه فذهب بعض أصحابنا أنه يعتق عليه وأجراه مجرى المثلة الظاهرة وهو قول بعض السلف. قال النسائي في سننه الكبير: "الإباحة للحاكم أن يقول للمدعى عليه احلف قبل أن يسأله المدعى أنبأ هناد بن السري عن أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " فقال الأشعت فيّ والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود دار فجحدني فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألك بينه فقلت: لا فقال: لليهودي احلف فقلت: والله إذا يحلف فيذهب حقي فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية قال النسائي: "لا نعلم أحدا تابع أبا معاوية على قوله: "فقال لليهودي احلف" انتهى. ويسوغ للحاكم أن يقول له احلف إذا قصد به الزجر والتخويف أو كان يعلم أن المدعى قاصدا لتحليفه أو كان يعلم أن المدعى عليه بريء من الدعوى فإنه في قصده الصور الثلاث قد أعان على البر والتقوى وظهور الحق وأكثر أوضاع الحكام ورسومهم لا أصل لها في الشريعة والله المستعان. فصل: مسائل فقهية في مذهب أحمد إذا كانت داية ترضع ولد غيرها هل يجوز لها الإفطار كما لو كان ولدها قال ابن عقيل في فصوله: "جارية جاءت إلى الشيخ أبي نصر بن الصباغ وأنا حاضر فتحصل من الجواب أنها تستبيح الإفطار لأن أكثر ما فيه أنه نوع ضرر لأجل المشاق كإفطار المسافر في المضاربة يستبيح كالمسافر بمال نفسه وفارق العمل في الصنائع الشاقة لأنها إذا بلغ فيها الجهد إلى حد يبيح في حق نفسه إباحة في عمل

غيره وإن لم تبلغ المشقة إلى حد إباحة الإفطار لم يبح في حقه ولا حق غيره". قال أحمد في رواية ابن ماهان: "لا بأس للعبد أن يتسرى إذا أذن له سيده فإن رجع السيد فليس له أن يرجع إذا أذن له مرة وتسرى" فتأوله القاضي قال: "يحتمل أنه أراد بالتسري ههنا التزويج وسماه تسريا مجازا ويكون للسيد الرجوع فيما ملكه عبده وهذا نظير تأويل الشيخ أبي محمد النكاح بالتسري في مسألة تزويج عبده بأمته". وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد وحرب ليس للسيد أن يأخذ سرية العبد إذا أذن له في التسري فإن تسري بغير إذنه أخذها منه وإذا باع العبد وله سرية فهي لسيده ولا يفرق بينهما لانها بمنزلة المرأة" انتهى كلامه. وهذا يرد قول الأصحاب إن التسري مبني على الملك وأنه إذا لم يملك لم يتسر ويرد قولهم إن للسيد انتزاع سريته منه ويرد قولهم إنه إذا باعه رجعت السرية إلى سيده ولا يطأها العبد. قال أحمد في رواية ابن هانىء وحرب ويعقوب بن لحيان: "إذا زوج عبده من أمته ثم أعتقها لا يجوز أن يجتمعا حتى يجدد النكاح" فاستشكل معنى هذه الرواية فقال وعن أحمد: "إن عتقا معا انفسخ النكاح" ومعناه والله أعلم أنه إذا وهب لعبده سرية أو اشترى له سرية وأذن له في التسري بها ثم أعتقها جميعا صارا حرين وخرجت من ملك العبد فلم يكن له إصابتها إلا بنكاح جديد هكذا روى جماعة من أصحابه فيمن وهب لعبده السرية أو اشترى له سرية ثم أعتقها لا يقربها إلا بنكاح جديد واحتج على ذلك بما روى نافع عن ابن عمر أن عبدا له كان له سريتان فأعتقهما فنهاه أن يقربهما إلا بنكاح جديد. قلت: وهذا تأويل بعيد جدا من لفظ أحمد فإن هؤلاء الثلاثة إنما رووا المسألة عنه بلفظ واحد وهو أنه زوج عبده أمته ثم قوله حتى يجدد النكاح مع قوله زوج صريح في أنه نكاح لا تسر وعنه في هذه المسألة ثلاث روايات هذه إحداهن والثانية لهما الخيار نص عليه في رواية الأثرم والثالثة أنهما على نكاحهما نص عليه في رواية محمد بن حبيب وحكاه أبو بكر في زاد المسافر ثلاث روايات منصوصات

في مسألة التزويج وللبطلان وجه دقيق وهو أنه إنما زوجها بحكم ملكه لهما وقد زال ملكه بخلاف تزويجها بعبد غيره وبين المسألتين فرق ولهذا في وجوب المهر في هذه المسألة نزاع فقيل لا يجب بحال وقيل يجب ويسقط والمنصوص إنه يجب ويتبع به بعد العتق بخلاف تزويجها بعبد الغير والله أعلم. قوله في المقنع: "وإن باعه السلعة برقمها أو بألف دينار ذهبا وفضة أو بما ينقطع به السعر أو بما باع به فلان أو بدينار مطلق وفي البلد نقود لم يصح أما الرقم فقد نص علي صحة البيع به فقال حرب سألت أحمد عن بيع الرقم فلم ير به بأسا وأما البيع بالسعر فقد اختلفت الرواية عنه فيه فقال في رواية ابن منصور في الرجل يأخذ من الرجل السلعة يقول أخذتها منك على سعر ما تبيع لم يجز ذلك. وحكى شيخنا عنه الجواز نصا وأما البيع بدينار مطلق وفي البلد نقود فقال في رواية الأثرم في رجل باع ثوبا بكذا وكذا درهما أو أكثرى دابة بكذا وكذا واختلفا في النقد فقال له نقد الناس بينهم قيل له نقد الناس بينهم مختلف قال له قال ابن عقيل: "فظاهر هذا جواز البيع بثمن مطلق مع كون النقود مختلفة وإنما يكون لهم أدناها" وقال الأثرم: "باب الرجل يأخذ من الرجل المتاع ولا يقاطعه على سعره سئل أبو عبد الله عن الرجل يأخذ من البقال الأوقية من كذا والرطل من كذا ثم يحاسبه أيجوز له أن يقول اكتب ثمنه علي ولا يعطيه على المكان قال: "أرجو أن يجوز لأنه ساعة أخذه إنما أخذه على معنى الشراء ليس على معنى السلف إنما يكره إذا كان على معنى السلف فإذا قاطعه بقيمته يوم أخذه" قيل له فإن لم يدرك قيمته يوم أخذه؟ قال: "يتحرى ذلك" وسألته مرة أخرى فقلت: رجل أخذ رطلا من كذا ومن كذا ولم يقاطعه على سعره ولم يعطه ثمنا أيجوز هذا؟ قال: "ليس على معنى البيع أخذه؟ قلت: بلى قال: فلا بأس ولكنه إذا حاسبه أعطاه على السعر يوم أخذه لا يوم حاسبه". قال إسحاق بن هانىء: سألت أبا عبد الله عن رجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها؟ قال: "لا يتزوجها حتى يعلم أنها قد تابت لأنه لا يدري لعلها تعلق عليه ولدا

من غيره قلت: وما علمه أنها قد تابت؟ قال: يريدها على ما كان أرادها عليه فإن امتنعت فهي تائبة". قلت: وهذا التفاوت من أحمد إلى القرائن ودلائل الحال وجواز إيهام غير الحق قولا وفعلا ليعلم به الحق وهذه اقتداء بنبي الله سليمان بن داود حيث قال في الحكومة بين المرأتين في الصبي: "ائتوني بالسكين أشقه بينكما" ومن تراجم النسائي على حديثه هذا التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله افعل ليستبين به الحق وهذا الذي قاله أحمد اتبع فيه ابن عمر فإنه قال يريدها على نفسها فإن طاوعته لم تتب وإن أبت فقد تابت وأنكر الشيخ في المغنى هذا جدا وقال: "لا ينبغي لمسلم أن يدعوا امرأة إلى الزنا ويطلبه منها ولأن طلبه ذلك إنما يكون في خلوة ولا تحل الخلوة بأجنبية ولو كان في تعليمها القرآن فكيف يحل في مراودتها على الزنا ثم لا يأمن إن أجابته إلى ذلك أن يعود إلى المعصية فلا يحل التعرض بمثل هذا ولأن التوبة من سائر الذنوب بالنسبة إلى سائر الأحكام وفي حق سائر الناس على غير هذا الوجه فكذا هذا قول ابن عمر لأحمد أفقه فإن التوبة لما كانت شرطا في صحة النكاح لم يكن بد من تحقيقها ولا سبيل له إلى العلم بها إلا بذلك أو بأن يأمر غيره بمراودتها ولا ريب أن المفاسد المذكورة أقرب إلى الغير إذا لا غرض له في نكاحها بخلاف الخاطب فإن أرادته لنكاحها وعزمه عليه يمنعه من معاودة ما يعود على مقصوده بالإبطال. فائدة: الذي وقع في صحيح البخاري وأكثر كتب الحديث "وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته" ووقع في صحيح ابن خزيمة والنسائي بإسناد الصحيحين من

رواية جابر "وابعثه المقام المحمود" ورواه ابن خزيمة عن موسى بن سهل الرملي وصدقه أبو حاتم الرازي وباقي الإسناد شرطهما ورواه النسائي عن عمر بن منصور عن علي بن عباس والصحيح ما في البخاري لوجوده: أحدها اتفاق أكثر الرواة عليه. الثاني: موافقته للفظ القرآن. الثالث: إن لفظ التنكير فيه مقصود به التعظيم لقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} وقوله وهذا كتاب مصدق ونظائره. الرابع: أن دخول اللام يعينه ويخصه بمقام معين وحذفها يقتضي إطلاقا وتعددا كما في قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ومقاماته المحمودة في الموقف متعددة كما دلت عليه الأحاديث فكان في التنكير من الإطلاق والإشاعة ما ليس في التعريف. الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على ألفاظ القرآن تقديما وتأخيرا وتعريفا وتنكيرا كما يحافظ على معانيه وعنه ومنه قوله وقد بدأ بالصفا "أبدأ بما بدأ الله به" تقدم تخريجه ومنه بداءته في الوضوء بالوجه ثم اليدين باتباعا للفظ القرآن ومنه قوله في حديث البراء ابن عازب: "آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت " موافقة لقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} وعلى هذا فالذي وعدته إما بدل وإما خبر مبتدأ محذوف وإما مفعول فعل محذوف وإما صفة لكون مقاما محمودا قريبا من المعرفة لفظا ومعنى فتأمله. قال أحمد في رواية بن هانىء: "لا تجوز شهادة من أيسر ولم يحج وليس به زمانة ولا أمر يحبسه عنه" وقال: "لا يجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده إذا كانوا يجرون الشيء لأنفسهم" وقال: "تجوز شهادة الغلام إذا كان ابن اثني عشر سنة أو عشر سنين وأقام شهادته جازت شهادته" وقال ابن هانىء: سمعت أبا عبد الله يقول: "لا يعجبني أن يعدل القاضي لأن الناس يتغيرون ولا يدري ما يحدث" وسئل عن الرجل يعدل الرجل فقال: "ما يقضي يعدله لأنه لا يدري ما يحدث والناس يتغيرون". وسئل متى يعدل الرجل فقال قال إبراهيم: "إذا لم تظهر منه ريبة يعدل". ولأصحابه فيما إذا سئل

عن مسألة فأجاب فيها بحكاية قول من بعد الصحابة وجهان أحدهما أن يكون مذهبا له والثاني لا. فائدة: الفرق بين الشك والريب من وجوه: أحدها: أنه يقال شك مريب لا يقال ريب مشكك. الثاني: أن يقال رابني أمر كذا ولا يقال شككني. الثالث: أنه يقال رابه يريبه إذا أزعجه وأقلقه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد مر بظني خافت في أصل شجرة "لا يريبه أحد" ولا يحسن هنا لا يشككه أحد. الرابع: أنه لا يقال للشاك في طلوع الشمس أو في غروبها أو دخول الشهر أو وقت الصلاة هو مرتاب في ذلك وأن كان شاكا فيه. الخامس: إن الريب ضد الطمأنينة واليقين فهو قلق واضطراب وانزعاج كما أن اليقين والطمأنينة ثبات واستقرار. السادس: يقال رابني مجيئه وذهابه وفعله ولا يقال شككني فالشك سبب الريب فإنه يشك أولا فيوقعه شكه في الريب فالشك مبتد االريب كما أن العلم مبتدأ اليقين الاستنجاء. ومما أنتقاه القاضي من شرح أبي حفص لمبسوط أبي بكر الخلال أحمد في رواية أحمد بن الحسين يغسل يده ثلاثا ثم يستنجي ثم يغسل يده ثم يتوضأ قال أبو حفص قد بينا عن أبي عبد الله غسل اليد في الطهارة في ثلاثة مواضع أحدها قبل الاستنجاء والثاني غسل اليد اليسرى بعد الاستنجاء والثالث عند ابتداء الوضوء الاستجمار. وقال في الرجل يستجمر ويعرق في سراويله "إذا استجمر ثلاثة فلا بأس" يحتمل أن يحمل على ظاهرها فيكون الموضع قد طهر بالاستجمار ولا يضر العرق ويحتمل أن يأول على أنه عرق غير موضع الحدث أو عرق فلم يصب ذلك الموضع

سراويله وهذا القول أولى لأن الموضع عفى عنه تخفيفا فإذا نال الموضع رطوبة وجب إزالة الأثر كما تجب إزالة العين ونجس ما لاقاها كالعين. قلت: اختلف أصحابنا في أثر الاستجمار هل هو نجس معفو عنه أو طاهر؟ على وجهين وعلى ما اختاره أبو حفص تصير المسألة على ثلاثة أوجه وقوله الذي اختاره ضعيف جدا مذهبا ودليلا وعملا فإن الصحابة لم يكن أكثرهم يستنجي بالماء وإنما كانوا يستجمرون صيفا وشتاء والعادة جارية بالعرف في الإزار ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسله وهو يعلم موضعه ولا كانوا هم يفعلونه مع أنهم خير القرون وأتقاهم لله ولا أعلم أحدا من أصحابنا اختار ما اختاره أبو حفص وهو خلاف نص أحمد والله أعلم. واختلف قوله إذا لم يجمع المستنجي بين الأحجار والماء أيهما أولى بالاستعمال فنقل الشالنجي أنه قال: "عمر كان لا يمس ذكره بالماء" وروى أبو عبد الله عن أحب إسماعيل بن أمية عن نافع قال: "إن لم يكن مع الأحجار ماء فالأحجار أحب إلي" والوجه فيه أن ابن عمر كان لا يمس ذكره بالماء وروى أبو عبد الله عن إسماعيل بن أمية عن نافع قال: "كان ابن عمر لا يغسل أثر المبال" واستعمال الحجارة أتت في الأخبار روى حرب الكرماني والحسن بن ثوبان تضعيف الأخبار في الاستنجاء بالماء وقال في حديث معاذ عن عائشة عن قتادة لم يرفعه ولأن المستجمر لا تلاقي يده النجاسة وعنه هما سواء وعنه الماء أفضل جاء في البول من التغليظ ما لم يأت في الكلب. اختلف قوله إذا لم يقدروا أن يصلوا في السفينة قياما جماعة وأمكنهم الصلاة فرادى قياما فهل يصلون جماعة؟ وعنه في رواية حرب "يصلي كل إنسان على حدته" وقال في رواية الفضل بن زياد "تصلى وحدك قائما" ووجهه أن القيام آكد لأنه لو صلى قاعدا مع قدرته على القيام لم يجزئه ولو صلى منفردا مع قدرته على الجماعة أجزأ والقول الآخر تخريجا على قوله: "إن الأمام إذا صلى جالسا يصلي من خلفه جلوسا" فقد أجاز للمأموم الصلاة جالسا لأجل الجماعة قال القاضي: قلت أنا ولأنا أسقطنا القيام لعدم الستارة فكذا الجماعة". واختلف قوله في صفه جلوس العريان في صلاته فعنه يجعل قيامه تربعا قال

القاضي: "قلت أنا كالمريض والمننفل وعنه يتضامون لأنهم إذا تضاموا كان أستر لعوراتهم والمتربع يفضي بفرجه إلى السماء ولا يمكنه وضع يده على فرجه لئلا تنتقض طهارته". واختلف قوله إذا توارى بعضهم عن بعض فصلوا قياما فعنه "لا بأس" وعنه أنه قال: "يصلي العريان قاعدا يجعل قيامه متربعا فقد ذكر عريانا واحدا أن يصلى قاعدا وهذا أصح في مذهبه لأن ستر العورة آكد عنده من القيام لأن مذهبة في العراة يصلون جلوسا ولأن ستر العورة يراد للصلاة ألا ترى أنه لا يجوز للخالي أن يصلى مكشوف العورة ولا إذا كان جيبه واسعا ينظر إلى عورته ولحيته تحول بينه وبين النظر. فائدة: حديث " يا رسول الله عندي دينار قال أنفقه على بيتك" إلى الخامس قال: " أنت أبصر " قيل لعله أشار إلى أنه قبل الخامس في حكم الفقير فلما أخبره أن معه خامسا والدينار كان عندهم اثنا عشر درهما فقد ملك قيمة خمسين درهما من الذهب وزاد عليها ففوض الأمر إليه في الصدقة في الخامس دون ما قبله فهذا يؤيد حديث من سأل وله ما يغنيه قيل وما يعنيه قال: "خمسون درهما"الحديث والله أعلم. قال أبو حفص: "واختلف قوله في الاستدارة في المحمل فروى محمد بن الحكم عنه من صلى في محمل فإنه لا يجزئه إلا أن يستقبل القبلة لأنه يمكنه أن يدور وصاحب الراحلة والدابة لا يمكنه والحجة أمر الله تعالى باستقبال القبلة حيث كان المصلى وذلك ممكن في المحمل كما في السفينة بخلاف الدابة تسقط لعدم الإمكان وروى عنه أبو طالب أنه قال: "الاستدارة في المحمل شديدة يصلي حيث كان وجهه لأن الاستدارة في المحمل شديدة على الجمل فجاز تركها

كما جاز في الراحلة لأجل المشقة على الراكب السجود في المحمل". اختلف قوله في السجود في المحمل فروى عنه عبد الله ابنه أنه قال: "وإن كان محملا فقدر أن يسجد في المحمل سجد" وروى عنه الميموني "إذا صلى على المحمل أحب إلى أن يسجد لأنه يمكنه" وعن الفضل بن زياد "يسجد في المحمل إذا أمكنه" ووجهه أنه تعالى أمر بالسجود وإنما سقط عن المصلى على الراحلة لعدم الإمكان. وروى عنه جعفر بن محمد السجود على المرفقة إذا كان المحمل ربما اشتد على البعير ولكن يومىء ويجعل السجود أخفض من الركوع وكذا روى عنه أبو داود ووجهه المشقة على البعير قلت: الذي أوجب هذا أن الصحابة لم يكن سفرهم ولا حجهم في المحامل وإنما حدث في زمن الحجاج فالصلاة فيها دائرة الشبه بين الصلاة في السفينة والصلاة على الراحلة فمن راعى شبهها بالسفينة أوجب الاستقبال لأن المحمل بيت سائر في البر كما أن السفينة بيت سائر في البحر ومن راعى مشقة الاستدارة على المصلى والبعير أسقط الاستقبال وهو الأقيس والله أعلم. مسألة: قال المروزي: "كان أبو عبد الله إذا سلم من المكتوبة ركع ركعتين قبل التراويح" وجهه ما روى عن على رضي الله عنه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر". ظاهره العموم في رمضان وغيره ولا يترك ذلك لأجل التراويح لأن كلا منهما مقصود. وروى أحمد بن الحسين "صليت مع أبي عبد الله في شهر رمضان التراويح فكان إذا صلى العتمة لا يصلي حتى يقوم إلى التراويح". قال الخلال: "لم يضبط هذا وإن كان قد ضبط ما رواه فوجهه أنه جعل التراويح أو الركعتين قبل ركعة الوتر موضع الركعتين بعد المكتوبة". قال حنبل: "كان أبو عبد الله يصلي معنا فإذا فرغنا من الترويحة جلس وجلسنا وربما تحدث ويسأل عن الشيء فيجيب ثم

يقوم فيصلي ثم يدعو بعد الصلاة بدعوات ثم يوتر ثم ينصرف". وقال الفضل: "رأيت أحمد يقعد بين التراويح ويردد هذا الكلام (لا إله إلا الله وحده لا شريك له أستغفر الله الذي لا إله إلا هو) وجلوس أبي عبد الله للاستراحة لأن القيام إنما سمي تراويح لما يتخلله من الاستراحة بعد كل ترويحة". واختلف قوله في تأخير التراويح إلى آخر الليل؟ فعنه إن أخروا القيام إلى آخر الليل فلا بأس به كما قال عمر: "فإن الساعة التي تنامون عنا أفضل" ولأنه يحصل قيام بعد رقدة وقال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} الآية وروى عنه أبو داود "لا يؤخر القيام إلى آخر الليل سنة المسلمين أحب إلي" وجهه فعل الصحابة ويحمل قول عمر على الترغيب في الصلاة آخر الليل ليواصلوا قيامهم إلى آخر الليل لا أنهم يؤخرونها ولهذا أمر عمر من يصلي بهم أول الليل. قال القاضي: "قلت ولأن في التأخير تعريضا بأن يفوت كثيرا من الناس هذه الصلاة لغلبة النوم القيام ليلة العيد" واختلف قوله في القيام ليلة العيد فروى عنه حنبل: "أما قيام ليلة الفطر فما يعجبني ما سمعنا أحدا فعل ذلك إلا عبد الرحمن وما أراه لأن رمضان قد مضى وهذه ليلة ليست منه ما أحب أن أفعله وما بلغنا من سلفنا أنهم فعلوه وكان أبو عبد الله يصلي ليلة الفطر المكتوبة ثم ينصرف ولم يصلها معه قط وكان يكرهه للجماعة". الفضل بن زياد: "شهدت أحمد ليلة الفطر وقد اختلف الناس في الهلال فصلى المكتوبة وركع أربع ركعات وجلس يستخبر خبر الهلال فبعث رسولا فقال: اذهب نحو أبي إسحاق فاستخبر خبر الهلال فلم يزل جالسا ونحن معه حتى رجع الرسول فقال: قد رؤي الهلال فانتقل أحمد ثم قام فدخل منزله" وعنه أبو طالب أنه قال في الجماعة يقومون ليلة العيد إلى الصباح يجمعون؟ قال: "من فعل ذلك هو زيادة خير كان عبد الرحمن بن الأسود يعتكف فيقوم ليلة العيد إلى الصباح من فعله فحسن ومن لم يفعله فليس عليه شيء". انتهى. لما روى مالك بن دينار عن سالم عن ابن عمر "كان يحيي ليلة العيد عبد الرحمن بن الأسود كان يصلي بقومه في شهر رمضان يقرأ بهم القرآن كل ليلة الوتر". قال أبو عبد الله في الرجل

يصلي شهر رمضان يقوم فيوتر بهم وهو يريد يصلي بقوم آخرين "يشتغل بينهم بشيء بأكل أو شرب أو يجلس" رواه المروزي وذلك لأنه يكره أن يوصل بوتره صلاة فيشتغل بينهم بشيء ليكون فصلا بين وتره وبين الصلاة الثانية وهذا إذا كان يصلي بهم في موضعه أما في موضع آخر فذهابه فصل ولا يعيد الوتر ثانية "لا وتران في ليلة". وقال أبو عبد الله في الرجل يجيء والإمام يوتر في شهر رمضان المبارك فيلحق معه ركعة "إن كان الإمام يفصل بينهم بسلام أجزأته الركعة التي لحق وإذا كان لا يسلم في الثنتين يقضي مثل ما صلى ثلاثا إذا فرغ قام يقضي ولا يقنت". قوله: (ولا يقنت) يحتمل لأنه قد قنت مع الإمام فلا يقنت كما لو سجد للسهو معه لا يسجد آخر صلاته ويحتمل لأنه أدرك آخر صلاته فلا يقنت في أولها. محمد بن بحر رأيت أبا عبد الله في شهر رمضان وقد جاء فضل بن زياد القطان فصلى بأبي عبد الله التراويح وكان حسن القراءة فاجتمع المشايخ وبعض الجيران حتى امتلأ المسجد فخرج أبو عبد الله فصعد درجة المسجد فنظر إلى الجمع فقال: "ما هذا تدعون مساجدكم وتجيئون إلى غيرها" فصلى بهم ليالي ثم صرفه كراهية لما فيه يعني من إخلاء المساجد وعلى جار المسجد أن يصلي في مسجده. قال أحمد رضي الله عنه في الرجل يترك الوتر متعمدا: "هذا رجل سوء يترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ساقط العدالة إذا ترك الوتر متعمدا" روى هذا المسألة هارون بن عبد الله البزاز ونقل أبو طالب وصالح "من ترك الوتر متعمدا هذا رجل سوء وذلك لقول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم. واختلف قوله إذا أوتر بعد طلوع الفجر هل يوتر بواحدة أو بثلاث؟ فعنه الميموني قال: "إذا استيقظ وقد طلع الفجر ولم يكن تطوع ركع ركعتين ثم يوتر بواحدة لأن الركعتين من وتره" ونحوه الأثرم وأبو داود ووجهه أن الوتر اسم الثلاث لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بها ولأنه وقت لفعل الوتر وكان وقتا للثلاث ونقل يوسف بن موسى يوتر بواحدة وذلك نقل أحمد بن الحسين في الرجل يفجؤه الصبح ولم يكن صلى قبل العتمة ولا بعدها شيئا يوتر بواحدة ولا يصلي قبلها شيئا ووجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل

مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" فجعل ما قبلها من صلاة الليل وأمره بالمبادرة بواحدة ولأن ما بعد طلوع الفجر لا يجوز فيه إلا ركعتا الفجر وإنما أجزنا الوتر لتأكده. واختلف قوله في اختياره الوتر فروى عنه أبو بكر بن حماد أنه قال أذهب إلى حديث أبي هريرة "أوصاني خليلي بثلاث " الحديث وعنه الميموني "لست أنام إلا على وتر". وعنه الفضل بن زياد قال: "آخره أفضل فإن خاف رجل أن ينام أوتر أول الليل" قال أبو حفص: "وإنما يكون الوتر آخر الليل أفضل في غير شهر رمضان فأما في شهر رمضان فالوتر أول الليل تبع للإمام أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى مع إمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة". قال أحمد: "إذا كان يقنت قبل الركوع افتتح القنوت بتكبيرة" رواه أبو داود والفضل بن زياد ودليله ابن مسعود "كان يقنت في الوتر إذا فرغ من القراءة كبر ورفع يديه ثم قنت قدر القيام في القنوت". اختلف قوله في قدر القيام في القنوت فعنه بقدر: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} أو نحو ذلك وقد روى أبو داود وسمعت أحمد سئل عن قول إبراهيم القنوت قدر: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} قال: "هذا قليل يعجبني أن يزيد" وعنه كقنوت عمر وعنه كيف شاء وجه: الأولى: أنه وسط من القيام. والثانية: فعل عمر. والثالثة: أن طريقة الاستحباب فسقط التوقيت فيه نقل يوسف بن موسى عنه لا بأس أن يدعو الرجل في الوتر بحاجته وروى عنه علي بن أحمد الأنماطي أنه قال: "يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت" قال أحمد: "يدعو الإمام ويؤمن من خلفه" وعنه أبو داود "إذا لم يسمع صوت الإمام يدعوا" أبو حفص: "لأن التأمين لما يسمعون قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام فأمنوا" وعنه "إذا دعا وأمنوا فجيد وإن دعا ودعوا فلا بأس كل موسع" وجهه أن المؤمن داع قال تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وكان هارون مؤمنا قال: "يجهر الإمام بالقنوت ولم ير أن بخافت إذا قنت البتة لما روى "أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقنوت" بدليل أن أصحابه كانوا يؤمنون. وروى أبو عبد الله حدثنا محمد بن جعفر ثنا سعيد عن جعفر عن أبي عثمان "صليت خلف عمر

بن الخطاب فقنت بعد الركوع ورفع يديه في قنوته ورفع صوته بالدعاء حتى سمع من وراء الحائط". وعن أبي أنه جهر بالقنوت وعن معاذ القارىء أنه جهر. المروزي: "كان أبو عبد الله في دعاء الوتر لم يكن يسمع دعاءه من يليه هذا يدل على أنه كان مأموما والمأموم لا يجهر". مهنا سئل أحمد عن الرجل يقنت في بيته أيعجبك يجهر بالدعاء في القنوت أو يسره؟ قال: "يسره وذلك أن الإمام إنما يجهر ليؤمن المأموم". عبد الله قلت: لأبي يمسح بهما وجهه قال: "أرجو أن لا يكون به بأس". وكان الحسن إذا دعا مسح وجهه وقال سئل أبي عن رفع الأيدي في القنوت ويمسح بهما وجهه قال: "لا بأس يمسح بهما وجهه" وقال أبي عن رفع الأيدي في القنوت ويمسح بهما وجهه قال: "لا بأس يمسح بهما وجهه". قال عبد الله: "ولم أر أبي يمسح بهما وجهه فقد سهل أبو عبد الله في ذلك وجعله بمنزلة مسح الوجه في غير الصلاة لأنه عمل قليل ومنسوب إلى الطاعة واختيار أبي عبد الله تركه" قال حنبل: قلت لأبي عبد الله ما أحب إليك ما يتقرب به العبد من العمل إلى الله؟ قال: "كثرة الصلاة والسجود وأقرب ما يكون العبد من الله إذا عفر وجهه له ساجدا". يعنى بهذا إذا سجد لله على التراب في هذا بيان أن الصلاة أفضل أعمال الخير وروى عنه المروزي أنه قال: "كل تسبيح في القرآن صلاة إلا موضع واحد قال: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} ركعتين قبل الفجر {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ركعتين بعد المغرب. قال أبو حفص: "والحجة في تفضيل الصلاة على سائر أعمال القرب قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} وكان حذيفة إذا أحزنه أمر صلى وقال: "أعني على نفسك بكثرة السجود" وقال: "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" وقال: " جعلت قرة عيني في الصلاة " ولأنها تختص بجمع الهمة وحضور القلب والانقطاع عن كل شيء سواها بخلاف غيرها من الطاعات ولهذا كانت ثقيلة على النفس. نقل عنه محمد بن الحكم في الرجل يفوته ورده من الليل لا يقرأ به في ركعتي الفجر كان النبي صلى الله عليه وسلم لكن يقرأ إذا أصبح أرجو أن يحسب له بقيام الليل. اختلفت الرواية في الركعتين بعد الظهر فعنه الأثرم "يصليهما في المسجد" ووجهه حديث أم

سلمة في الركعتين بعد العصر ظاهرة أنهم شغلوه عن صلاة الركعتين في المسجد. الفضل بن زياد رأيت أحمد لا يصلي بعد المكتوبة شيئا في المسجد إلا مرة بعد الظهر كان يوما نادرا ووجهه حديث عائشة "كان يصلي قبل الظهر أربعا في بيتي ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين". والله أعلم. مسألة: أبو الصقر عنه "لا بأس أن يجهر الرجل بالقراءة بالليل ولا يجهر بالنهار في التطوع" وقال في الرجل يصلي بقوم صلاة الفريضة فمرت به آيات العذاب فقال: أستجير بالله مضت صلاته ولا يعيد الصلاة وقال في الرجل يصلى ويأتي على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة قال: "إن كان تطوعا صلى عليه وإن كان الفريضة فلا صلاة الضحى". واختلف قوله في المداومة على صلاة الضحى فعنه قال: "ما أحب أن أداوم عليها وقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح" وقال: "ربما صليت وربما لم أصل ووجهه ما روى أبو هريرة قال: "ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الضحى قط إلا مرة" قال الميموني قال أحمد: "ما سمعناه إلا من وكيع" وإسناده جيد وروي عنه موسي بن هارون الخطاب قال: "مر بي أحمد بن حنبل ومعه المروزي وأنا في المسجد قبل الزوال أصلى الضحى لأني كنت شغلت عنها فوقف عليّ فقال: ما هذه الصلاة وليس هذا إلى وقت الظهر قال: قلت يا أبا عبد الله هذه ركعات كنت أصليها ضحى فشغلت عنها إلى هذا الوقت؟ قال: "لا تتركها ولو ذكرتها بعد العتمة". ووجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ". قال في رواية مهنا وعبد الله: "صلاة التسبيح لم يثبت عندي فيها حديث" وقال في رواية أبي الحارث "صلاة التسبيح حديث ليس لها أصل ما يعجبني أن يصليها يصلي غيرها" وقال علي بن سعيد ذكرت لأبي عبد الله حديث عبد الله بن مرة من رواية المستمر بن الريان فقال: "المستمر شيخ ثقة" وكأنه أعجبه. أحمد بن الأثرم في الركعتين قبل المغرب قال: "أحاديث

جياد أو قال صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين فمن شاء صلى بين الأذان والإقامة". وعنه الفضل بن زياد "ما فعلته قط إلا مرة فلم أر الناس عليه فتركتها" وقال في رواية حنبل: "السنة أن يصلي الرجل الركعتين بعد المغرب في بيته" كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال السائب بن يزيد: "لقد رأيت الناس في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا انصرفوا من المغرب انصرفوا جميعا حتى لا يبقى في المسجد أحد كان لا يصلون بعد المغرب يعني حتى يصيروا إلى أهلهم" فإن صلى الركعتين في المسجد هل يجزئه اختلف قوله روى عبد الله أنه قال: بلغني عن رجل سماه أنه قال: "لو أن رجلا صلى الركعتين في المسجد بعد المغرب ما أجزأه" وقال: "ما أحسن ما قال هذا الرجل وما أجود ما أسرع" ووجهه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في البيوت وقال له المروزي: من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد يكون عاصيا؟ قال: "ما أعرف هذا". قلت له يحكى عن أبي ثور أنه قال: "هو عاص" قال: "لعله ذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فاجعلوها في بيوتكم" ووجهه أنه لو صلى الفرض في البيت وترك المسجد أجزأه فكذا السنة في المسجد. قلت ليس هذا وجهه عند أحمد وإنما وجهه أن السنن لا يشترط لها مكان معين ولا جماعة فتفعل في المسجد والبيت والله أعلم. قال في رواية الميموني والمروزي: "يستحب أن لا يكون قبل الركعتين بعد المغرب إلى أن تصلهما كلام". وقال الحسن بن محمد: "رأيت أحمد سلم الإمام من صلاة المغرب قام ولم يتكلم ولم يركع في المسجد وتكلم قبل أن يدخل الدار" وجه الكراهة قول مكحول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى ركعتين بعد المغرب يعنى قبل أن يتكلم رفعت صلاته في عليين" ولأنه يصل النفل بالفرض. وقال أحمد في رواية حرب ويعقوب وإبراهيم بن هانىء: "إن ترك ركعتي المغرب لا يعيدهما إنما هما تطوع". المروزي رأيت أبا عبد الله يركع فيما بين المغرب والعشاء. المروزي عنه في رجل يريد سفرا فيقصر يوما ثم يبدو له فيرجع فيتم وجاءه رسول الخليفة رده من بعض الطريق في الليل فأتم الصلاة فقيل له أليس نحن مسافرون قال: "أما الساعة فلا" وكان نحوا من سبع فراسخ محمد بن الحكم عنه في الرجل يخرج إلى بعض البلدان يتنزه أو إلى

بلد يتلذذ فيه ليس يطلب فيه حجا ولا عمرة ولا تجارة "ما يعجبني أن يقصر الصلاة" والوجه فيه أن الأصل الإتمام فلا يجوز أن ينقص الفرض لطلب النزهة والله أعلم. مسألة: إن لم يكن مع الملاح أهله وكان يسافر ويرجع إلى أهله قصر الصلاة قال في رواية حرب إن لم يتم المكاري في أهله ما يقضي رمضان يقضي في السفر وذلك أن هذه حال ضرورة والقضاء عليه فرض. اختلف قوله في المسافر يرد على أهله لا يريد المقام فروي عنه عبد الله لو أن مسافرا ورد على أهله أمسك عن الطعام وأتم الصلاة إلا أن يكون مارا وكذا نقل إسحاق الكوسج في رجل خرج مسافر فبدا في حاجة إلى بيته ليأخذها فأدركته الصلاة وهو مسافر ويقصر إذا لم يكن له أهل وهو أهون لأنه على نية السفر فوروده على أهله لم يخرجه عن حكم السفر. عنه صالح في رجل خرج مسافرا فبدا له فرجع في حاجة إلى بيته فأدركته الصلاة يتم لأن ابن عباس قال: "إذا قدمت على أهل أو ماشية فأتم" والوجه فيه حديث ابن عباس ولا يصح حمله على ما إذا نوى المقام لأنه إذا نوى المقام في غير أهله لزمه الإتمام ولأنه لو أنشأ السفر من بلده يجز له القصر حتى يفارق منزله كذا بعد رجوعه لحاجة عنه المروزي ركعتا الفجر والمغرب لا يدعهما في السفر عنه صالح والكوسج إذا نوى المسافر المقام وهو في الصلاة يتم وإن قعد في الركعتين حتى يخرج بتسليم ووجهه أنه قد صار مقيما. مسألة: الأثرم عنه إذا أجمع أن يقيم إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصّر فإذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك أتم واحتج بحديث جابر وابن عباس قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وكذا نقل ابن الحكم. ونقل المروزي "إذا عزم على مقام إحدى وعشرين فليتم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الغداة يوم التروية بمكة وكذلك نقل حرب "إذا دخل إلى قرية نوى أن يقيم أربعة أيام وزيادة صلاة أتم". وكذا نقل ابن أصرم وصالح والكوسج إذا أزمع على إقامة

أربعة أيام وزيادة صلاة يتم في أول يوم واحتج بحديث جابر. قال أبو حفص: "هذه الرواية ليست مستقصاة والأدلة مستقصاة أنه لا يلزمه الإتمام بالعزيمة على إقامة أربعة أيام وزيادة صلاة حتى ينوى أكثر من ذلك فكيف يقول إذا أزمع على إقامة أربع وزيادة صلاة أتم ويحتج بحديث جابر في هذا المقدار وقد كشف هذا في رواية الفضل بن عبد الصمد قيل له يا أبا عبد الله يحكون أنك تقول: "إذا أجمع على إقامة أكثر من أربعة وصلاة أتم" فقال: "لا يفهمون النبي صلى الله عليه وسلم أجمع على أقامة أربع وصلاة فقصر". ونقل عنه أيوب بن إسحاق بن سافري أنه قال: "إن أزمع على إقامة خمسة أيام يتم وما دون ذلك يقصر" قال أبو حفص: "ليس في هذا خلاف لذلك لأنه إذا أوجب الإتمام بإقامة أكثر من أربعة أيام وزيادة صلاة فبخمسة أيام أولى أن يوجب الإتمام وقوله ما دون ذلك يقصر يحتمل أن يكون أراد به الأربعة أيام وزيادة صلاة لأنها دون الخمسة أيام ويحتمل أن يكون ذكره لليوم الخامس لأن الصلاتين بعد الأربعة أيام من اليوم الخامس لا أنه أراد إكمال اليوم الخامس". وقد بين ذلك في رواية طاهر بن محمد التميمي فقال: "إذا نوى أربعة أيام وأكثر من صلاة من اليوم الخامس أتم". فقد بين مراده من ذكر اليوم الخامس أنه بعضه لأنه أكثر من مقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي قصر فيه الصلاة". قال القاضي: "وظاهر كلام أبي حفص هذا أن المسألة على رواية واحدة وأن مدة الإقامة ما زاد على أحدى وعشرين صلاة وتأول بقية الروايات واحتج في ذلك بحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صبح رابعة فصلى بها الغداة وخامسة وسادسة وسابعة أربعة أيام كوامل وزاد صلاة لأنه صلى الغداة يوم التروية بمكة بالأبطح وخرج يوم الخامس إلى منى فصلى الظهر بمنى وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها". ويجوز أن يحمل كلام أحمد على ظاهره فيكون في قدر الإقامة ثلاث روايات: إحداها: ما زاد على إحدى وعشرين اختارها الخرقي وأبو حفص. الثانية:

ما زاد على أربعة أيام ولو بصلاة لأنها مدة تزيد على الأربعة فكان بها مقيما دليلة إذا نوى زيارة على إحدى وعشرين. الثالثة: ما نقص عن خمسة أيام ولو بوقت صلاة لأنها مدة تنقص عن خمس أيام فكان في حكم السفر دليلة مدة إحدى وعشرين أو عشرين صلاة الكسوف. اختلف قوله في صلاة الكسوف بغير إذن الإمام؟ فروى عنه يعقوب بن حسان "لا بأس به". وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله بن مهدي عن حماد بن يزيد قال: "بلغ أيوب أن سليمان التيمي لما انكسفت الشمس صلى في مسجده فبلغ أيوب فأنكر عليه فقال: "إنما هذا للأئمة" فقال أبو عبد الله: "إلى هذا نذهب في كسوف الشمس الأئمة يفعلون ذلك" وعنه محمد بن الحكم يستحب العتاقة في صلاة الكسوف الاستسقاء. اختلف في خروج الناس للاستسقاء بغير إمام؟ فعنه أحمد بن القاسم "إن لم يخرج الإمام لا تخرجوا" وعنه الميموني "إن أخرجهم الإمام خرجوا وإلا فيخرجون لأنفسهم يستسقون لا بأس بذلك". فإن قلنا يخرجون بغير إمام فهل يصلون جماعة أو يستسقون وينصرفون؟ فعنه الميموني "يخرجون لأنفسهم يستسقون ما يعجبني يصلي بهم بعضهم" وعنه حرب أنه قال في أهل قرية ليس فيها وال خرجوا يستسقون يصلي بهم إمامهم جماعة؟ قال: "أرجو أن لا يضيق". هذا آخر ما وجدته من هذا المنتقى. فائدة: لا يكون الجحد إلا بعد الاعتراف بالقلب واللسان ومنه قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} ومنه {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} عقيب قوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} ومنه {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاّ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاّ الْكَافِرُونَ} وعلى هذا لا يحسن استعمال الفقهاء لفظ الجحود في مطلق

الإنكار في باب الدعاوى وغيرها لأن المنكر قد يكون محقا فلا يسمى جاحدا. فائدة: قال إسحاق بن هانىء: "تعشيت مرة أنا وأبو عبد الله وقرابة لنا فجعلنا نتكلم وهو يأكل وجعل يمسح عند كل لقمة بيده بالمنديل وجعل يقول عند كل لقمة: "الحمد لله وبسم الله" ثم قال لي: "أكل وحمد خير من أكل وصمت". فائدة: منع كثير من النحاة أن يقال البعض والكل لأنهما اسمان لا يستعملان إلا مضافان ووقع في كلام الزجاج وغيره بدل البعض من الكل. وجوز أبو عبيدة أن يكون بمعنى الكل كما جوز ذلك في الأكثر فالأول كقوله:: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} والثاني كقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} ولا دليل له في ذلك لأن قوله: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} من خطاب التلطف والقول اللين وأما {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فلا يمتنع أن يكون فيهم من يصدق في كثير من أقواله. إذا عرف هذا فقالت طائفة البعض للجزء القليل والكثير والمساوي وفي هذا نظر إذ إطلاق لفظ بعض العشرة على التسعة مما يحتاج إلى نقل واستعمال والظاهر أنه قريب من البعض معنى كما هو قريب منه لفظا وليس في عرف اللغة والتخاطب إذا قال خذ بعض هذه الصبرة أن يأخذها كلها إلا حفنة منها ولا لمن يجيئك في أيام الشهر كلها إلا يوما واحدا هو يجيء في بعض أيام الشهر مسائل فقهية عن الإمام أحمد قال أحمد في رواية حنبل حديث عائشة

رضي الله عنها "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق " يريد الغضب". وقال في رواية أبي داود: "حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امراته البتة لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون ثلاثا البتة". وقال في رواية أحمد بن أصرم أن أبا عبد الله سئل عن حديث ركانة في البتة فقال: "ليس بشيء" وقال في رواية أبي الحارث في رجل غصب رجلا على امراته فأولدها ثم رجعت إلى زوجها وقد أولدها "لا يلزم زوجها الأولاد وكيف يكون الولد للفراش في مثل هذا وقد علم أن هذه في منزل رجل أجنبي وقد أولدها في منزلة إنما يكون الولد للفراش إذا ادعاه الزوج وهذا لا يدعى فلا يلزمه". قال أحمد في رواية إسحاق بن منصور: "إذا زوج السيد عبده من أمته ثم باعها يكون بيعها طلاقها كقول ابن عباس ورواية أكثر أصحابه عنه لا يكون طلاقا" قال أحمد في رواية أبي طالب: "لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين منهم عطاء ومجاهد وأهل السنة وأهل المدينة على تسري العبد فمن احتج بهذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم} وأي ملك للعبد فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من اشترى عبدا وله مال فالمال للسيد" جعل له مالا هذا يقوي التسري". وابن عباس وابن عمر أعلم بكتاب الله ممن احتج بهذه الآية لأنهم أصحاب رسول الله وانزل القرآن على رسول الله يعلمون فيما أنزل قالوا بتسري العبد. إذا ثبت هذا فقد قال في رواية إسحاق بن إبراهيم: "يتسرى العبد في ماله هو ما لم يأخذه سيده منه". وقال في رواية جعفر بن محمد وحرب: "ليس للسيد أن يأخذ سرية العبد إذا أذن له في التسري فإن تسري بغير إذنه أخذها منه وإذا باع العبد وله سرية هي لسيده ولا يفرق بينهما لأنها بمنزلة المرأة فقد فرق أحمد بين أن يتبع العبد فتكون السرية للسيد ولا يفرق بينهما وبين العبد وعلل بأنها بمنزلة الزوجة وبين أن يبقى العبد على ملكه فليس له أخذ السرية منه إذا أذن له كما لو أذن له في التزويج ليس له أن يفرق بينه وبين امرأته وعلى

كلا النصين مشكل وله فقه دقيق". وقال في رواية ابن منصور: "إذا تزوج الحرة على الأمة يكون طلاقا للأمة لحديث ابن عباس". قال أبو بكر: "مسألة ابن منصور مفردة" وقال في رواية أبي الحارث "إذا تزوج امرأة فشرط أن لا يبيت عندها إلا ليلة الجمعة فإن طالبته كان لها المقاسمة وإن أعطته مالا واشترطت عليه أن لا يتزوج عليها يرد عليها المال إذا تزوج ولو دفع إليها مالا على أن لا تتزوج بعد موته فتزوجت ترد المال إلى ورثته". وقال في رواية أحمد بن القاسم: "الأمة إذا كان زوجها حرا فعتقت فلا خيار لها لأن الحديث عندنا أن زوج بريرة كان عبدا فاجعل الرواية هكذا ولا أزيل النكاح إلا في الموضع الذي أزالته السنة وهذا ابن عباس وعائشة يقولون إنه عبد وعليه أهل المدينة وعلمهم وإذا روى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو أصح ما يكون وليس يصح أن زوج بريرة كان حرا إلا عن الأسود وحده وأما غيره فيقول إنه عبد". وقال أحمد في رواية حنبل: "لا يكنى ولده بأبي القاسم لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه". وقال في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن الحديث "تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي " هو أن يجمع ببن اسمه وكنيته أو يفرد أحدهما؟ فقال: "آخر الحديث "تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" وهذا موافق لرواية حنبل وقال ابن منصور: قلت لأحمد تكنى المرأة؟ قال: نعم عائشة كناها النبي صلى الله عليه وسلم أم عبد الله". وقال في روايته أيضا عمر كره يكنى بأبي عيسى وقال في رواية حنبل: "لا بأس أن يكنى الصبي قال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا عمير وكان صغيرا وقال في رواية الأثرم وسئل عن الرجل يعرف بلقبه قال: "إذا لم يعرف إلا به" قال أحمد الأعمش: "إنما يعرفه الناس هكذا فسهل في مثل هذا إذا كان قد شهر به". وقال ابن منصور: قلت لأحمد رجل نذر أن يذبح نفسه؟ قال: "يفدي نفسه إذا حنث يذبح كبشا" قال إسحاق كما قال وقال أيضا: قلت لأحمد: من مات ولم يحج فهو من جميع المال؟ قال: "إذا كان له مال كثير واجب على الورثة أن ينفذوا ذاك وأما إذا كان مال قليل فإنما هو شيء ضيعه ليس هذا مثل الزكاة".

وقال أيضا قلت له: طواف المكي قبل المغرب؟ قال أحمد: "لا يخرج من مكة حتى يودع البيت" وقال أحمد في رواية ابن منصور: "يكره أن يقول للرجل جعلني الله فداك ولا بأس أن يقول فداك أبي وأمي". وقال في رواية ابن منصور: "يكره الجلوس بين الشمس والظل أليس قد نهي عنه وقال إسحاق ابن راهوية: "قد صح الخبر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لو ابتدأ وجلس فيه كان أهون" وقال في رواية أبي طالب وسألته: يكنى الرجل أهل الذمة؟ فقال: "قد كنى النبي صلى الله عليه وسلم نجران وعمر". قال: "يا أبا حسان لا بأس فيه" وقال في رواية يعقوب بن لحيان وسأله عن النورة والحجامة والأربعاء فكرهها قال: "وبلغني عن رجل أنه تنور واحتجم فأصابه المرض قلت كأنه تهاون قال: "نعم" وقال في رواية مهنا في الرجل تأتيه المرأة المسحورة فيطلق عنها السحر قال: "لا بأس". وحدثنا إسماعيل بن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: سألت سعيد ابن المسيب عن المرأة تأتي الرجل فيطلق عنها السحر فقال: "لا بأس" فقلت لأحمد: أحدث بهذا عنك قال: "نعم" وقال في رواية المروزي: "حممت فكتب لي في الحمى بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله ومحمد رسول الله {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ} اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل إشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك إله الحق آمين" وقال في رواية عبد الله: "يكتب للمرأة إذا عسر عليها الولادة في جام أو شيء نظيف لا إلة إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} ثم تسقي وينضح بما بقى دون سرتها وقال في رواية الكوسج: "يكره التفل في الرقية ولا بأس بالنفخ" وقال في رواية صالح: "الحقنة إذا كانت لضرورة فلا

بأس" وقال في المروزي: "الحقنة إن اضطر إليها فلا بأس" قال المروزي: "ووصف لأبي عبد الله ففعل" وقال إسحاق بن هانىء: "رأيت أبا عبد الله إذا كان يوم الجمعة يصلي حتى يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول فإذا قاربت أمسك عن الصلاة حتى يؤذن فإذا أخذ في الأذان قام فصلى ركعتين أو أربعا يفصل بينهما بالسلام فإذا صلى الفريضة انتظر في المسجد ثم يخرج منه فيأتي بعض المساجد التي بحضرة الجامع فيصلى فيها ركعتين ثم يجلس وربما صلى أربعا ثم يجلس ثم يقوم فيصلى ركعتين ثم يجلس وربما صلى أربعا ثم يجلس ثم يقوم فيصلى ركعتين أخريين فتلك ست ركعات على حديث على رضي الله عنه". فائدة: ظن بعض الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاء الدين بسبب أن الغريم إذا قبض المال صار في ذمته للمدين مثله ثم يقع التقاضي منهما والذي أوجب لهم هذا إيجاب المماثلة بين الواجب ووفائه ليكون قد وفى الدين بالدين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا تكلف أنكره جمهور الفقهاء وقالوا بل نفس المال الذي قبضه يحصل به الوفاء ولا حاجة إلى أن يقدروا في ذمة المستوفي دينا والدين في الذمة من جنس المطلق الكلي والعين من جنس العين الجزئي فإذا ثبت في ذمته دين مطلق كلي كان المقصود منه الأعيان الشخصية الجزئية فأي معين استوفاه حصل به مقصوده لمطابقته للكل مطابقة الأفراد الجزئية.

فائدة: قال أحمد في رواية صالح في المضارب إذا خالف فاشترى غير ما أمر به صاحب المال فالربح لصاحب المال ولهذا أجرة مثله إلا أن يكون الربح محيطا بأجرة مثله فيذهب قال وكنت أذهب إلى الربح لصاحب المال ثم استحسنت". وقال في رواية الميموني: "استحسن أن يتمم لكل صلاة ولكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى يحدث أو يجد الماء" وقال في رواية المروزي: "يجوز شراء أرض السواد ولا يجوز بيعها فقيل له كيف تشترى ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما يقول ولكن هو استحسان" واحتج بأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شراء المصاحف وكرهوا بيعها وهذا يشبه ذاك وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضا وزرعها "الزرع لرب الأرض وعليه النفقة وليس هذا شيئا يوافق القياس" استحسن أن يدفع إليه نفقته وقال في رواية أبي طالب "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا نستحسن هذا وندع القياس فيدعون الذين يزعمون أن الحق بالاستحسان" قال: "وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه" فقال القاضي: "ظاهر هذا يقضي إبطال القول بالاستحسان وأنه لا يجوز قياس المنصوص عليه على المنصوص عليه وجعل المسألة على روايتين ونصر هو وأتباعه رواية القول بالاستحسان" ونازعهم شيخنا في مراد أحمد من كلامه وقال: "مراده أني استعمل النصوص كلها ولا أقيس على أحد النصين قياسا يعارض النص الآخر كما يفعل من ذكره حيث يقيسون على أحد النصين ثم يستثنون موضع الاستحسان إما لنص أو لغيره والقياس عندهم موجب العلة فينقضون العلة التي يدعون صحتها مع تساويها في محالها وهذا من أحمد بين أنه يوجب طرد العلة الصحيحة وأن انتقاضها مع تساويها

ينقصه النص الآخر". وهذا مثل حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم أن يضحى ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته شيئا" مع حديث عائشة: "كنت أفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم نبعث به وهو مقيم لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم " والناس في هذا على ثلاثة أقوال منهم من يسوى بين الهدى والأضحية في المنع ويقول إذا بعث الحلال هديا صار محرما ولا يحل حتى ينجر كما روى عن ابن عباس وغيره ومنهم من يسوى بينهما في الأذن ويقولك بل المضحى لا يمنع عن شيء كما لا يمنع باعث الهدى فيقيسون على أحد النصين ما يعارض الآخر وفقهاء الحديث كيحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل وغيرهما عملوا بالنصين ولم يقيسوا أحدهما على الآخر وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاء الحديث لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الناس قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا ثم لما افتتحوا الصلاة قياما أتمها بهم قياما فعمل بالحديثين ولم يقس على أحدهم قياسا ينقص الآخر ويجعله منسوخا كما فعل غيره. قلت: وكذلك فعل في حديث الأمر بالوضوء من لحوم الإبل وترك الوضوء مما مست النار عمل بهما ولم يقس على أحدهما قياسا يبطل الآخر ويجعله منسوخا وكذلك فعل في أحاديث المستحاضة ونظائرها ثم القائلون بالاستحسان منهم من يقول هو ترك الحكم إلى حكم أولى منه ومنهم من يقول هو أولى القياسين. وقال القاضي: "الحجة التي نرجع إليها في الاستحسان هي الكتاب تارة والسنة تارة والإجماع تارة والاستدلال يترجح بعض الأصول على بعض فالاستحسان لأجل الكتاب كما في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر إذا لم يجد مسلما ومما قلنا فيه بالاستحسان السنة فيمن غصب أرضا وزرعها الزرع لرب الأرض وعلى صاحب الأرض النفقة لحديث رافع بن خديج والقياس أن يكون الزرع لزارعة ومما فيه قلنا بذلك الإجماع جواز سلم الدراهم والدنانير في الموزونات والقياس أن لا يجوز ذلك لوجود الصفة المضمونة إلى الجنس وهي الوزن إلا أنهم استحسنوا

فيه الإجماع" انتهى. قال شيخنا: "ومن ذلك أن نفقة الصغير وأجرة مرضعته على أبيه دون أمة بالنص والإجماع". قلت: إلا خلافا شاذا في مذهب أبي حنيفة وغيره بإيجابها على الأبوين كالجد والجدة. وكذلك يقولون إجارة الظئر ثابتة بالنص والإجماع على خلاف القياس والاستحسان يقول يرجع إلى تخصيص العلة بل هو نفسه كما قاله الحسن البصري والرازي وغيرهما والمشهور عن الشافعية منع تخصيصها وعن الحنفية القول بتخصيصها ولأصحاب أحمد قولان وحكينا روايتان عن أحمد وحكى تخصيص العلة مذهب الأئمة الأربعة وهو الصواب والقاضي وابن عقيل يمنعون تخصيص العلة مع قولهم بالاستحسان وأبو الخطاب يختار تخصيص العلة مع قوله بالاستحسان. وفرق القاضي بين التخصيص والاستحسان بأن التخصيص منع العلة عملها في حكم خاص والاستحسان ترك قياس الأصول للنصوص أي مخالفة القياس لأجل النص كما في شهادة أهل الذمة وإجارة الظئر وإعطاء الزرع لمالك الأرض ونظائره كحمل العاقلة دية الخطأ. فصول عظيمة النفع جدا: في إرشاد القرآن والسنة إلى طريق المناظرة وتصحيحها وبيان العلل المؤثرة والفروق المؤثرة وإشارتها إلى إبطال الدور والتسلسل بأوجز لفظ وأبينه وذكر ما تضمناه من التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين والأجوبة عن المعارضات وإلغاء ما يجب إلغاؤه من المعاني التي لا تأثير لها واعتبار ما ينبغي اعتباره وإبداء تناقض المبطلين في دعاويهم وحججهم وأمثال ذلك وهذا من كنوز القرآن التي ضل عنها أكثر المتأخرين فوضعوهم لهم شريعة جدلية فيها حق وباطل ولو أعطوا القرآن حقه لرأوه وافيا بهذا المقصود كافيا فيه مغنيا عن غيره والعالم عن الله من آتاه الله فهما في

كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم أول من بين العلل الشرعية والمآخذ والجمع والفرق والأوصاف المعتبرة والأوصاف الملغاة وبين الدور والتسلسل وقطعهما فانظر إلى قوله سئل عن البعير يجرب فتجرب لأجله الإبل فقال " من أعدى الأول" كيف اشتملت هذه الكلمة الوجيزة المختصرة البينة على إبطال الدور التسلسل وطالما تفيهق الفيلسوف وتشدق المتكلم وقرب ذلك بعد اللتيا والتي في عدة ورقات فقال: من أوتى جوامع الكلم فمن أعدى الأول ففهم السامع مع هذا أن اعداء الأول إن كان من اعداء غيره له فإنه لم ينته إلى غاية فهو التسلسل في المورثات وهو باطل بصريح العقل وإن انتهى إلى غاية وقد استفادت الجرب من اعداء من جرب به له فهو الدور الممتنع. وتأمل قوله في قصة ابن اللتبية "أفلا جلس في بيت أبيه وأمه وقال: هذا أهدى لي" كيف يجد تحت هذه الكلمة الشريفة أن الدوران يفيد العلية والأصولي ربما كد خاطره حتى قرر ذلك بعد الجهد فدلت هذه الكلمة النبوية على أن الهدية لما دارت مع العمل وجودا وعدما كان العمل سببها وعلتها لأنه لو جلس في بيت أبيه وأمه لانتفت الهدية وإنما وجدت بالعمل فهو علتها. وتأمل قوله: اللقطة وقد سئل عن لقطة الغنم فقال: "إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" فلما سئل عن لقطة الإبل غضب وقال: "ما لك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجرة" ففرق بين الحكمين باستغناء الإبل واستقلالها بنفسها دون أن يخاف عليها الهلكة في البرية واحتياج الغنم إلى راع وحافظ وإنه إن غاب عنها فهي عرضة للسباع بخلاف الإبل فهكذا تكون الفروق المؤثرة في الأحكام لا الفروق المذهبية التي إنما يفيد ضابط المذهب وكذلك قوله في اللحم الذي تصدق به على بريرة " هو عليها صدقة ولنا هدية" ففرق في الذات الواحدة وجعل لها حكمين مختلفين باختلاف الجهتين إذ جهة الصدقة عليها غير جهة الهدية منها وكذلك الرجلان اللذان عطسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فلما سئل عن

الفرق أجاب بأن هذا حمد الله والآخر لم يحمده فدل على أن تفريقه في الأحكام لافتراقها في العلل المؤثرة فيها. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في الميتة "إنما حرم منها أكلها " كيف تضمن التفرقة بين أكل اللحم واستعمال الجلد وبين أن النص إنما تناول تحريم الأكل وهذا تحته قاعدتان عظيمتان: إحداهما: بيان أن التحليل والتحريم المضافان إلى الأعيان غير مجمل وأنه غير مراد به من كل عين ما هي مهيأة له وفي ذلك الرد على من زعم أن ذلك يتضمن لمضمر عام وعلى من زعم أنه مجمل. والثانية: قطع إلحاق استعمال الجلد بأكل اللحم وأنه لا يصح قياسه عليه فلو أن قائلا قال وإن دلت الآية على تحريم الأكل وحده فتحريم ملابسة الجلد قياسا عليه كان قياسه باطلا بالنص إذ لا يلزم من تحريم الملابسة الباطنية بالتعدي تحريم ملابسة الجلد ظاهرا بعد الدباغ ففي هذا الحديث بيان المراد من الآية وبيان فساد إلحاق الجلد باللحم. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم للنعمان بن بشير وقد خص ابنه بالنحل "أتحب أن يكونوا في البر سواء" كيف تجده متضمنا لبيان الوصف الداعي إلى شرع التسوية بين الأولاد وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض فكما أنك تحب أن يستووا في برك وأن لا ينفرد أحدهم ببرك وتحرمه من الآخر فكيف ينبغي أن تفرد أحدهما بالعطية وتحرمها الآخر وتأمل قوله لعمر وقد استأذنه في قتل حاطب فقال: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" كيف تجده متضمنا لحكم القاعدة التي اختلف فيها أرباب الجدل والأصوليون وهي أن التعليل بالمانع هل يفتقر إلى قيام المقتضي فعلل النبي صلى الله عليه وسلم عصمة دمه شهود بدرا دون الإسلام العام فدل على أن مقتضى قتله كان قد وجد وعارض سبب العصمة وهو الجس على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن عارض هذا المقتضي مانع منع من تأثيره وهو شهوده بدرا وقد سبق من الله مغفرته لمن شهدها وعلى هذا فالحديث حجة لمن رأى قتل الجاسوس لأنه ليس ممن شهد بدرا وإنما امتنع قتل حاطب لشهوده بدرا ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم

لعمر سأله عن القبلة للصائم فقال: "أرأيت لو تمضمضت " الحديث فتحت هذا إلغاء الأوصاف التي لا تأثير لها في الأحكام وتحته تشيبه الشيء بنظيره وبإلحاقه به وكما أن الممنوع منه الصائم إنما هو الشرب لا مقدمته وهو وضع الماء في الفم فكذلك الذي منع إنما هو الجماع لا مقدمته وهي القبلة فتضمن الحديث قاعدين عظمتين كما ترى. ومن ذلك قوله وقد سئل عن الحج عن الميت فقال للسائل: "أرأيت لو كان عليه دين أكنت قاضية قال: نعم قال: فدين الله أحق بالقضاء" فتضمن هذا الحديث بيان قياس الأولى وأن دين المخلوق إذا كان يقبل الوفاء مع شحه وضيقه فدين الواسع الكريم تعالى أحق بأن يقبل الوفاء ففي هذا أن الحكم إذا ثبت في محل الأمر وثم محل آخر أولى بذلك الحكم فهو أولى بثبوته فيه ومقصود الشارع في ذلك التنبيه على المعاني والأوصاف المقتضية لشرع الحكم والعلل المؤثرة وإلا فما الفائدة في ذكر ذلك والحكم ثابت بمجرد قوله. ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق الولد في قصة وليدة زمعة بعبد ابن زمعة عملا بالفراش القائم وأمر سودة أن تحتجب منه عملا بالشبه المعارض له فرتب على الوصفين حكميهما وجعله أخا من وجه دون وجه وهذا من ألطف مسالك الفقه ولا يهتدي إليه ألا خواص أهل العلم والفهم عن الله تعالى ورسوله. وتأمل قوله في التشهد وقد علمهم أن يقولوا: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" ثم قال: " فإذا قلتم ذلك أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض" كيف قرر بهذا عموم اسم الجمع المضاف وأغنانا عن طريق الأصوليين وتعسفها كذلك قوله تعالى وقد سئل عن زكاة الحمر فقال: لم ينزل علي إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} فسمى الآية جامعة أي عامة شاملة باعتبار اسم الشرط فدل على أن أدوات الشرط العموم وهذا في مخاطبته ومحاورته أكثر من أن يذكر وإنما يجهله من كلامه من لم يحط به علما. وتأمل قوله للرجل الذي استفتاه عن امرأته وقد ولدت غلاما أسود فأنكر ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألك إبل؟ قال: نعم قال: فما لونها؟ قال: سود

قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم قال: فأنى له ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" كيف تضمن إلغاء هذا الوصف الذي لا تأثير له في الحكم وهو مجرد اللون ومخالفة الولد للأبوين فيه وإن مثل هذا لا يوجب ريبة وأن نظيره في المخلوقات مشاهد بالحس والله تعالى خالق الإبل وخالق بنى آدم وهو الخلاق العليم فكما أن الجمل الأورق قد يتولد من بين أبوين أسودين فكذلك الولد الأسود قد يتولد من بين أبوين أبيضين وإن ما جوز به من سبب ذلك في الإبل هو بعينه قائم في بنى آدم. فهذا من أصح المناظرات والإرشاد إلى اعتبار ما يجب من الأوصاف وإلغاء ما يجب إلغاؤه منها وإن حكم الشيء حكم نظيره وإن العلل والمعاني حق شرعا وقدرا. فصل: وإذا تأملت القرآن وتدبرته وأعرته فكرا وافيا اطلعت فيه من أسرار المناظرات وتقرير الحجج الصحيحة وإبطال الشبه الفاسدة وذكر النقض والفرق والمعارضة والمنع على ما يشفي ويكفي لمن بصره الله وأنعم عليه بفهم كتابه فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} فهذه مناظرة جرت بين المؤمنين والمنافقين فقال لهم المؤمنون: {لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ} فأجابهم المنافقون بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فكأن المناظرة انقطعت بين الفريقين ومنع المنافقون ما ادعى عليهم أهل الإيمان من كونهم مفسدين وأن ما نسبوهم إليه إنما هو صلاح لا فساد فحكم العزيز الحكيم بين الفريقين بأن سجل على المنافقين أربع إسجالات: أحدها: تكذيبهم. والثاني الإخبار بأنهم مفسدون. والثالث: حصر الفساد فيهم بقوله: {هُمُ الْمُفْسِدُونَ} . والرابع: وصفهم بغاية الجهل وهو أنه لا شعور لهم البتة بكونهم

مفسدين. وتأمل كيف نفى الشعور عنهم في هذا الموضع ثم نفى العلم في قولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} فنفى علمهم بسفههم وشعورهم بفسادهم وهذا أبلغ ما يكون من الذم والتجهيل أن يكون الرجل مفسدا ولا شعور له بفساده البتة مع أن أثر فساده مشهور في الخارج مرئي لعباد الله وهو لا يشعر به وهذا يدل على استحكام الفساد في مداركه وطرق علمه وكذلك كونه سفيها والسفه غاية الجهل وهو مركب من عدم العلم بما يصلح معاشه ومعاده وإرادته بخلافه فإذا كان بهذه المنزلة وهو لا يعلم بحاله كان من أشقى النوع الإنساني فنفي العلم عنه بالسفه الذي هو فيه متضمن لإثبات جهله ونفى الشعور عنه بالفساد الواقع منه متضمن لفساد آلات إدراكه فتضمنت الآيتان الإسجال عليهم بالجهل وفساد آلات الإدراك بحيث يعتقدون الفساد صلاحا والشر خيرا. وكذلك المناظرة الثانية معهم أيضا فإن المؤمنين قالوا لهم: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} فأجابهم المنافقون بقولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} وتقرير المناظرة من الجانبين أن المؤمنين دعوهم إلى الإيمان الصادر من العقلاء بالله ورسوله وأن العاقل يتعين عليه الدخول فيما دخل فيه العقلاء الناصحون لأنفسهم ولا سيما إذا قامت أدلته وصحت شواهده فأجابهم المنافقون بما مضمونه أنا إنما يجب علينا موافقة العقلاء وأما السفهاء الذي لا عقل لهم يميزون به بين النافع والضار فلا يجب علينا موافقتهم فرد الله تعالى عليهم وحكم للمؤمنين وأسجل على المنافقين بأربعة أنواع: أحدها: تسفيههم. الثاني: حصر السفه فيهم. الثالث: نفي العلم عنهم. الرابع: تكذيبهم فيما تضمنه جوابهم من دعواهم التنزيه من السفه ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ

لِلْكَافِرِينَ} فهذا استدلال في غاية الظهور ونهاية البيان على جميع مطالب أصول الدين من إثبات الصانع وصفات كماله من قدرته وعلمه وإرادته وحياته وحكمته وأفعاله وحدوث العالم وإثبات نوعى توحيده تعالى توحيد الربوبية المتضمن أنه وحده الرب الخالق الفاطر وتوحيد الإلهية المتضمن أنه وحده الإله المعبود المحبوب الذي لا تصلح العبادة والذل والخضوع والحب إلا له ثم قرر تعالى بعد ذلك إثبات نبوة رسوله محمد أبلغ تقرير وأحسنه وأتمه وأبعده عن المعارض فثبت بذلك صدق رسوله في كل ما يقوله وقد أخبر عن المعاد والجنة والنار فثبت صحة ذلك ضرورة. فقررت هذه الآيات هذه المطالب كلها على أحسن وجه فصدرها تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهذا خطاب لجميع بني آدم يشتركون كلهم في تعلقه بهم ثم قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فأمرهم بعبادة ربهم وفي ضمن هذه الكلمة البرهان القطعي على وجوب عبادته لأنه إذا كان ربنا الذي يربينا بنعمة وإحسانه وهو مالك ذواتنا ورقابنا وأنفسنا وكل ذرة من العبد فمملوكه له ملكا خالصا حقيقيا وقد رباه بإحسانه إليه وإنعامه عليه عبادته له وشكره إياه واجب عليه ولهذا قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ولم يقل إلهكم والرب هو السيد والمالك والمنعم والمربي والمصلح والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها فلا شيء أوجب في العقول والفطر من عبادة من هذا شأنه وحده لا شريك له. ثم قال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} فنبه بهذا أيضا على وجوب عبادته وحده وهو كونه أخرجهم من العدم إلى الوجود وأنشأهم واخترعهم وحده بلا شريك باعترافهم وإقرارهم كما قال في غير موضع من القرآن {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فإذا كان هو وحده الخالق فكيف لا يكون وحده المعبود وكيف يجعلون معه شريكا في العبادة وأنتم مقرون بأنه لا شريك له في الخلق. وهذه طريقة القرآن يستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية ثم قال: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فنبه بذلك على أنه وحده الخالق لكم ولآبائكم ومن تقدمكم وإنه لم يشركه أحد في خلق من قبلكم ولا في خلقكم وخلقه تعالى لهم

متضمن لكمال قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته وذلك يستلزم لسائر صفات كماله ونعوت جلاله فتضمن ذلك إثبات صفاته وأفعاله ووحدانيته في صفاته فلا شبيه له فيها ولا في أفعاله فلا شريك له فيها ثم ذكر المطلوب من خلقهم وهو أن يتقوه فيطيعونه ولا يعصونه ويذكرونه فلا ينسونه ويشكرونه ولا يكفرونه فهذه حقيقة تقواه وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قيل إنه تعليل للأمر وقيل تعليل للخلق وقيل المعنى اعبدوه لتتقوه بعبادته وقيل المعنى خلقكم لتتقوه وهو أظهر لوجوه: أحدها: أن التقوى هي العبادة والشيء لا يكون علة لنفسه. الثاني: أن نظيره قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} . الثالث: أن الخلق أقرب في اللفظ إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} من الأمر. ولمن نصر الأول أن يقول لا يمتنع أن يكون قوله لعلكم تتقون تعليلا للأمر بالعبادة ونظيره قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهذا تعليل لكتب الصيام ولا يمتنع أن يكون تعليلا للأمرين معا وهذا هو الأليق بالآية والله أعلم. ثم قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} فذكر تعالى دليلا آخر متضمنا للاستدلال بحكمته في مخلوقاته فالأول متضمن لأصل الخلق والإيجاد ويسمى دليل الاختراع والإنشاء والثاني متضمن للحكم المشهودة في خلقه ويسمى دليل العناية والحكمة وهو تعالى كثيرا ما يكرر هذين النوعين من الاستدلال في القرآن ونظيره قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} فذكر خلق السموات والأرض ثم ذكر منافع المخلوقات وحكمها ونظيره قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ

قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} إلى آخر الآيات على أن في هذه الآيات من الأسرار والحكم بما بحسب عقول العالمين أن يفهموه ويدركوه ولعله أن يمر بك إن شاء الله التنبيه على رائحة يسيرة من ذلك. ونظير ذلك أيضا قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وهذا كثير في القرآن لمن تأمله. وذكر سبحانه في سورة البقرة قرار العالم وهو الأرض وسقفه وهو السماء وأصول منافع العباد وهو الماء الذي انزله من السماء فذكر المسكن والساكن وما يحتاج إليه من مصالحه ونبه تعالى بجعله للأرض فراشا على تمام حكمته في أن هيأها لاستقرار الحيوان عليها فجعلها فراشا ومهادا وبساطا وقرارا وجعل سقفها بناء محكما مستويا لا فطور فيه ولا تفاوت ولا عيب ثم قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فتأمل هذه النتيجة وشدة لزومها لتلك المقدمات قبلها وظفر العقل بها بأول وهلة وخلوصها من كل شبهة وريبة وقادح وإن كل متكلم ومستدل ومحاج إذا بالغ في تقرير ما يقرره وأطاله وأعرض القول فيه فغايته إن صح ما يذكره أن ينتهي إلي بعض ما في القرآن فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من البرهان الشافي في التوحيد أي إذا كان الله وحده هو الذي فعل هذه الأفعال فكيف يجعلون له أندادا وقد علمتم أنه لا ند له يشاركه في فعله إعجاز القرآن في بلاغته. فلما قرر نوعي التوحيد انتقل إلى النبوة فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إن حصل لكم ريب في القرآن الكريم وصدق من جاء به وقلتم إنه مفتعل فأتوا بسورة واحدة تشبهه وهذا خطاب لأهل الأرض أجمعهم ومن المحال أن يأت واحد منهم بكلام يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه ثم يطالب أهل الأرض بجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزء منه

يكون مقداره ثلاث آيات من عدة ألوف ثم تعجز الخلائق كلهم عن ذلك حتى أن الذين راموا معارضته كان ما عارضوه من أقوى الأدلة على صدقه فإنهم أتوا بشيء يستحي العقلاء من سماعه ويحكمون بسماجته وقبح ركاكته وخسته فهو كمن أظهر طيبا لم يشم احد مثل ريحه قط وتحدى الخلائق ملوكهم وسوقتهم بأن يأتوا بذرة طيب مثله فاستحى العقلاء وعرفوا عجزهم وجاء الحمقاء بعذرة منتنة خبيثة وقالوا قد جئنا بمثل ما جئت به فهل يزيد هذا ما جاء به إلا قوة وبرهانا وعظمة وجلالة وأكد تعالى هذا التوبيخ والتقريع والتعجيز بأن قال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كما يقول المعجز لمن يدعى مقاومته أجهد علي بكل من تقدر عليه من أصحابك وأعوانك وأوليائك ولا تبق منهم أحدا حتى تستعين به فهذا لا يقدم عليه إلا أجهل العالم وأحمقه وأسخفه عقلا إن كان غير إن كان غير واثق بصحة ما يدعيه أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقوله والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية وأمثالها على أصناف الخلائق أميهم وكتابيهم وعربهم وعجمهم ويقول لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدا فيعدلون معه إلى الحرب والرضى بقتل ألأحباب فلو قدروا على الإتيان بسورة واحدة لم يعدلوا عنها إلى اختيار المحاربة وأيتام الأولاد وقتل النفوس والإقرار بالعجز عن معارضته. وتقرير النبوة بهذه الآية وجوه متعددة: هذا أحدها. وثانيها: إقدامه هذا الأمر وإسجاله على الخلائق إسجالا عاما إلى يوم القيامة أنهم لن يفعلوا ذلك أبدا فهذا لا يقدم عليه ويخبر به إلا عن علم لا يخالجه شك مستند إلى وحي من الله تعالى وإلا فعلم البشر وقدرته يضعفان عن ذلك. وثالثها: النظر إلى نفس ما تحدى به وما اشتمل عليه من الأمور التي تعجز قوى البشر على الإتيان بمثله الذي فصاحته ونظمه وبلاغته فرد من أفراد إعجازه. وهذا الوجه يكون معجزة لمن سمعه وتأمله وفهمه وبالوجهين الأولين يكون معجزة لكل من بلغة خبره ولو لم يفهمه ولم يتأمله فتأمل هذا الموضع من إعجاز القرآن تعرف فيه قصور كثير من المتكلمين وتقصيرهم في بيان إعجازه وأنهم

لن يوفوه عشر معشار حقه حتى قصر بعضهم الإعجاز على صرف الدواعي عن معارضته مع القدرة عليها وبعضهم قصر الإعجاز على مجرد فصاحته وبلاغته وبعضهم على مخالفة أسلوب نظمه لأساليب نظم الكلام وبعضهم على ما اشتمل عليه من الإخبار بالغيوب إلى غير ذلك من الأقوال القاصرة التي لا تشفي ولا تجدي وإعجازه فوق ذلك ووراء ذلك كله فإذا ثبتت النبوة بهذه الحجة القاطعة فقد وجب على الناس تصديق الرسول في خبره وطاعة أمره وقد أخبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعن المعاد والجنة والنار فثبت صحة ذلك يقينا فقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} الآية فاشتملت الآيات على تقرير مهمات أصول الدين من إثبات خالق العالم وصفاته ووحدانيته ورسالة رسوله والمعاد الأكبر ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} الآية وهذا جواب اعتراض اعترض به الكفار على القرآن وقالوا إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ونحوها من الحيوانات الخسيسة فلو كان ما جاء به محمد كلام الله لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة فأجابهم الله تعالى بأن قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} فإن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه وإبطال الباطل وإدحاضه كان من أحسن الأشياء والحسن لا يستحيا منه فهذا جواب الاعتراض فكأن معترضا اعترض على هذا الجواب أو طلب حكمه ذلك فأخبر تعالى عما له في ضرب تلك الأمثال من الحكمة وهي إضلال من شاء وهداية من شاء ثم كأن سائلا سأل عن حكمة الإضلال لمن يضله بذلك فأخبر تعالى عن حكمته وعدله وأنه إنما يضل به الفاسقين: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} فكانت أعمالهم هذه القبيحة التي ارتكبوها سببا لأن أضلهم وأعماهم عن الهدى. ومن ذلك قوله تعالى: {كَيْفَ

تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فهذا استدلال قاطع على أن الإيمان بالله تعالى أمر مستقر في الفطر والعقول وأنه لا عذر لأحد في الكفر به البتة. فذكر تعالى أربعة أمور ثلاثة منها مشهودة في هذا العالم والرابع منتظر موعود به وعد الحق: الأول: كونهم كانوا أمواتا لا أرواح فيهم بل نطفا وعلقا ومضغة مواتا لا حياة فيها. الثاني: أنه تعالى أحياهم بعد هذه الإماتة. الثالث: أنه تعالى يميتهم بعد هذه الحياة. الرابع: أنه يحييهم بعد هذه الإماتة فيرجعون إليه فما بال العاقل يشهد الثلاثة الأطوار الأول ويكذب بالرابع وهل الرابع إلا طور من أطوار التخليق فالذي أحياكم بعد أن كنتم مواتا ثم أماتكم بعد أن أحياكم ما الذي يعجزه عن إحيائكم بعد ما يميتكم وهل إنكاركم ذلك إلا كفر مجرد بالله تعالى فكيف يقع منكم بعد ما شاهدتموه ففي ضمن هذه الآية الاستدلال على وجود الخالق وصفاته وأفعاله على المعاد ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أعلم مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أعلم غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فهذه كالمناظرة من الملائكة والجواب عن سؤالهم كأنهم قالوا إن استخلفت في الأرض خليفة كان منه الفساد وسفك الدماء وحكمتك تقتضي أن لا تفعل ذلك وإن جعلت فيها فتجعل فيها من يسبح بحمدك ويقدس لك ونحن نفعل ذلك فأجابهم تعالى عن هذا السؤال بأن له من الحكمة في جعل هذا الخليفة في الأرض ما لا تعلمه الملائكة وإن وراء ما زعمتم من الفساد مصالح وحكما لا تعلمونها أنتم وقد ذكرنا منها قريبا من أربعين حكمة في كتاب التحفة المكية فاستخرج تعالى من هذا الخليفة

وذريته الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين وعمر بهم الجنة وميز الخبيث من ذريته من الطيب فعمر بهم النار. وكان في ضمن ذلك من الحكم والمصالح ما لم يكن للملائكة تعلمه ثم إنه سبحانه أظهر فضل الخليفة عليهم بما خص به من العلم الذي لم تعلمه الملائكة وأمرهم بالسجود له تكريما له وتعظيما له وإظهار لفضله. وفي ضمن ذلك من الحكم ما لا يعلمه إلا الله فمنها امتحانهم بالسجود لمن زعموا أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء فأسجدهم له وأظهر فضله عليهم لما أثنوا على أنفسهم وذموا الخليفة كما فعل سبحانه ذلك بموسى لما أخبر عن نفسه أنه أعلم أهل الأرض فامتحنه بالخضر وعجزه معه في تلك الوقائع الثلاث وهذه سنته تعالى في خليقته وهو الحكيم العليم. ومنها خبره لهذا الخليفة وابتداؤه له بالإكرام والإنعام لما علم مما يحصل له من الانكسار والمصيبة والمحنة فابتدأه بالجبر والفضل ثم جاءت المحنة والبلية والذل وكانت عاقبتها إلى الخبر والفضل والإحسان فكانت المصيبة التي لحقته محفوفة بإنعامين إنعام قبلها وبعدها ولذريته المؤمنين نصيب مما لأبيهم فإن الله تعالى أنعم عليهم بالإيمان ابتداء وجعل العاقبة لهم فما أصابهم بين ذلك من الذنوب والمصائب فهي محفوفة بإنعام قبلها وإنعام بعدها فتبارك الله رب العالمين. ومنها استخراجه تعالى ما كان كامنا في نفس عدوه إبليس من الكبر والمعصية الذي ظهر عند أمره بالسجود فاستحق اللعنة والطرد والإبعاد على ما كان كامنا في نفسه عند إظهاره والله تعالى كان يعلم منه ولم يكن ليعاقبه ويلعنه على علمه فيها بل على وقوع معلومة فكان أمره بالسجود له مع الملائكة مظهرا للخبث والكفر الذي كان كامنا فيه ولم تكن الملائكة تعلمه فأظهر لهم سبحانه ما كان يعلمه وكان خافيا عنهم من أمره فكان في الأمر بالسجود له تكريما لخليفته الذي أخبرهم بجعله في الأرض وجبرا له وتأديبا للملائكة وإظهارا لما كان مستخفيا في نفس إبليس وكان ذلك سببا لتمييز الخبيث من الطيب وهذا من بعض حكمه تعالى في إسجادهم لآدم ثم إنه سبحانه لما

علم أدم ما علمه ثم امتحن الملائكة بعلمه فلم يعلموه فأنبأهم به آدم وكان في طي ذلك جوابا لهم عن كون هذا الخليفة لا فائدة في جعله في الأرض فإنه يفسد فيها ويسفك الدماء فأراهم من فضله وعلمه خلاف ما كان في ظنهم فصل مناظرة إبليس في آدم. في ذكر مناظرة إبليس عدو الله في شأن آدم وإنائه من السجود له وبيان فسادها وقد كرر الله تعالى ذكرها في كتابه وأخبر فيها أن امتناع إبليس من السجود كان كبرا منه وكفرا ومجرد إباء وإنما ذكر الشبهة تعنتا وإلا فسبب معصيته الاستكبار والإباء والكفر وإلا فليس في أمره بالسجود لآدم ما يناقض الحكمة بوجه وأما شبهته الداحضة وهي أن أصله وعنصره النار وأصل آدم وعنصره التراب ورتب علي ذلك أنه خير من آدم ثم رتب على هاتين المقدمين أنه لا يحسن منه الخضوع لمن هو فوقه وخير منه فهي باطلة من وجوه عديدة منها أن دعواه كونه خيرا من آدم دعوى كاذبة باطلة واستدلاله عليها بكونه مخلوقا من نار وآدم من طين استدلال باطل وليست النار خيرا من الطين والتراب بل التراب خير من النار وأفضل عنصرا من وجوه: أحدها: أن النار طبعها الفساد وإتلاف ما تعلقت به بخلاف التراب. الثاني: أن طبعها الخفة والحدة والطيش والتراب طبعه الرزانة والسكون والثبات الثالث: أن التراب يتكون فيه ومنه أرزاق الحيوان وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم والآت معايشهم ومساكنهم والنار لا يتكون فيها شيء من ذلك الرابع: أن التراب ضروري للحيوان لا يستغني عنه البتة ولا عن ما يتكون فيه ومنه والنار يستغني عنها الحيوان البهيم مطلقا وقد يستغنى عنها الإنسان الأيام والشهور فلا تدعوه إليها الضرورة فأين انتفاع الحيوان كله بالتراب إلى انتفاع الإنسان بالنار في بعض

الأحيان. الخامس: أن التراب إذا وضع فيه القوت أخرجه أضعاف أضعاف ما وضع فيه فمن بركته يؤدي إليك ما تستودعه فيه مضاعفا ولو استودعته النار لخانتك وأكلته ولم تبق ولم نذر. السادس: أن النار لا تقوم بنفسها بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به فيكون حاملا لها والتراب لا يفتقر إلى حامل فالتراب أكمل منها السابع: أن النار مفتقرة إلى التراب وليس بالتراب فقر إليها فإن المحمل الذي تقوم به النار لا يكون إلا مكونا من التراب أو فيه فهي الفقيرة إلى التراب وهو الغني عنها الثامن: أن المادة الإبليسية هي المارج من النار وهو ضعيف يتلاعب به الهوى فيميل معه كيفما مال ولهذا غلب الهوى على المخلوق منه فأسره وقهره ولما كانت المادة الآدمية التراب وهو قوي لا يذهب مع الهوى أينما ذهب وقهر هواه وأسره ورجع إلى ربه فاجتباه واصطفاه فكان الهوى الذي مع المادة الآدمية عارضا سريع الزوال فزال وكان الثبات والرزانة أصليا له فعاد إليه وكان إبليس بالعكس من ذلك فرجع كل من الأبوين إلى أصله وعنصر آدم إلي أصله الطيب الشريف واللعين إلى أصله الردىء. التاسع: أن النار وإن حصل بها بعض المنفعة والمتاع فالشر فيها لا يصدها عنه إلا قسرها وحبسها ولولا القاسر والحابس لها لأفسدت الحرث والنسل وأما التراب فالخير والبر والبركة كامن فيه كلما أثير وقلب ظهرت بركته وخيره وثمرته فأين أحدهما من الآخر. العاشر: أن الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه وأخبر عن منافعها وخلقها وأنه جعلها مهادا وفراشا وبساطا وقرارا وكفاتا للأحياء والأموات ودعا عباده إلى التفكر فيها والنظر في آياتها وعجائب ما أودع فيها ولم يذكر النار إلا في معرض العقوبة والتخويف والعذاب إلا موضعا أو موضعين ذكرها فيه بأنها تذكرة ومتاع للمقوين تذكرة بنار الآخرة ومتاع لبعض أفراد الإنسان وهم المقوون النازلون بالأرض الخالية إذا نزلها المسافر تمتع بالنار في منزلة فأين هذا من أوصاف الأرض في القرآن. الحادي عشر: أن الله تعالى وصف الأرض بالبركة في غير موضع من كتابه خصوصا وأخبر أنه بارك فيها عموما فقال: {أَإِنَّكُمْ

لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} فهذه بركة عامة وأما البركة الخاصة ببعضها فكقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً} وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وأما النار فلم يخبر أنه جعل فيها بركة أصلا بل المشهور أنها مذهبة للبركة ما حقه لها فأين المبارك في نفسه المبارك فيما وضع فيه إلى مزيل البركة وما حقها. الثاني عشر: أن الله تعالى جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال عموما وبيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا فيه وهدى للعالمين خصوصا ولو لم يكن في الأرض إلا بيته الحرام لكفاها ذلك شرفا وفضلا على النار. الثالث عشر: أن الله تعالى أودع في الأرض من المنافع والمعادن والأنهار والعيون والثمرات والحبوب والأقوات وأصناف الحيوانات وأمتعتها والجبال والجنان والرياض والمراكب البهية والصور البهيجة ما لم يودع في النار شيئا منه فأي روضة وجدث في النار أو جنة أو معدن أو صورة أو عين فوارة أو نهر مطرد أو ثمرة لذيذة أو زوجة حسنة أو لباس وسترة. الرابع عشر: أن غاية النار أنها وضعت خادمة لما في الأرض فالنار إنما محلها محل الخادم لهذه الأشياء المكمل لها فهي تابعة لها خادمة فقط إذا استغنت عنها طردتها وأبعدتها عن قربها وإذا احتاجت إليها استدعتها استدعاء المخدوم لخادمة ومن يقضي حوائجه. الخامس عشر: أن اللعين لقصور نظره وضعف بصيرته رأى صورة الطين ترابا ممتزجا بماء فاحتقره ولم يعلم أن الطين مركب من أصلين الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي والتراب الذي جعله خزانة المنافع والنعم هذا وكم يجىء من الطين من المنافع وأنواع الأمتعة فلو تجاوز نظره صورة الطين إلى مادته ونهايته لرأى أنه خير من النار وأفضل وإذا استقريت الوجوه التي تدلك على أن التراب أفضل من النار وخير

منها وجدتها كثيرة جدا وإنما أشرنا إليها إشارة ثم لو سلم بطريق الفرض الباطل أن النار خير من الطين لم يلزمه من ذلك أن يكون المخلوق منها خيرا من المخلوق من الطين فإن القادر على كل شيء يخلق من المادة المفضولة من هو خير ممن خلقه من المادة الفاضلة والاعتبار بكمال النهاية لا ينقص المادة فاللعين لم يتجاوز نظره محل المادة ولم يعبر منها إلى كمال الصورة ونهاية الخلقة فأين الماء المهين الذي هو نطفة ومضغة واستقذار النفوس له إلى كمال الصورة الإنسانية التامة المحاسن خلقا وخلقا وقد خلق الله تعالى الملائكة من نور وآدم من تراب ومنه ذرية آدم من هو خير من الملائكة وإن كان النور أفضل من التراب فهذا وأمثاله مما يدلك على ضعف مناظرة اللعين وفساد نظره وإدراكه وأن الحكمة كانت توجب عليه خضوعه لآدم فعارض حكمه الله وأمره برأيه الباطل ونظره الفاسد فقياسه باطل نصا وعقلا وكل من عارض نصوص الأنبياء بقياسه ورأيه فهو من خلفائه وأتباعه فنعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة من هذا البلاء الذي ما رمي العبد بشر منه ولأن يلقي الله بذنوب الخلائق كلها ما خلا الإشراك به أسلم له من أن يلقي الله وقد عارض نصوص أنبيائه برأيه ورأي بنى جنسه وهل طرد الله تعالى إبليس ولعنه وأحل عليه سخطه وغضبه إلا حيث عارض النص بالرأي والقياس ثم قدمه عليه والله يعلم أن شبه عدو الله مع كونها داحضة باطلة أقوى من كثير من شبه المعارضين لنصوص الأنبياء بآرائهم وعقولهم فالعالم يتدبر سر تكرير الله تعالى لهذه القصة مرة بعد مرة وليحذر أن يكون له نصيب من هذا الرأي والقياس وهو لا يشعر فقد أقسم عدو الله أنه ليغوين بنى آدم أجمعين إلا المخلصين منهم وصدق تعالى ظنه عليهم وأخبر أن المخلصين لا سبيل له عليهم والمخلصون هم الذين أخلصوا العبادة والمحبة والإجلال والطاعة لله والمتابعة والانقياد لنصوص الأنبياء فيجرد عبادة الله عن عبادة ما سواه ويجرد متابعة رسوله وترك ما خالفه لقوله دون متابعة غيره فليزن العاقل نفسه بهذا الميزان قبل أن يوزن يوم القدوم

على الله والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فهذا مطالبته لهم بتصحيح دعواهم وترديد لهذه المطالبة بين أمرين لا بد من واحد منهما وقد تعين بطلان أحدهما فلزم ثبوت الآخر فإن قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} خبر عن غيب لا يعلم إلا بالوحي فإما أن يكون قولا على الله بلا علم فيكون كاذبا وإما أن يكون مستندا إلى وحي من الله وعهد عهده إلى المخبر وهذا منتف قطعا فتعين أن يكون خبرا كاذبا قائله كاذب على الله تعالى. فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فهذه حجة من الله احتج بها على أهل الكتاب فإنه كان قد أخذ عليهم الميثاق أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يجليه عن دياره وأن يفدي بعضهم بعضا من الأسر فهذه ثلاث عهود خالفوا منها عهدين وأخذوا بالثالث فقتل بعضهم بعضا وأخرجه من دياره ثم فادوا أسراهم لأن الله أمرهم بذلك فإن كنتم قد فاديتم الأسارى لأن الله أمركم بفدائهم فلم قتلتم بعضكم بعضا وأخرجتموهم

من ديارهم والله وقد نهاكم عن ذلك والأخذ ببعض الكتاب يوجب عليكم الأخذ بجميعه فكيف تكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون. فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} فهذا هو الذي تسميه النظار والفقهاء التشهي والتحكم فيقول أحدهم لصاحبه لا حجة لك على ما ادعيت سوى التشهي والتحكم الباطل فإن جاءك ما لا تشتهيه دفعته ورددته وإن كان القول موافقا لما تهواه وتشتهيه إما من تقليد من تعظمه أو موافقة ما تريده قبله وأجزته فترد ما خالف هواك وتقبل ما وافق هواك وهذا الاحتجاج والذي قبله مفحمان للخصم لا جواب له وعليهما البتة فإن الأخذ ببعض الكتاب يوجب الأخذ بجميعه والتزام بعض شرائعه يوجب التزام جميعها ولا تجوز أن تكون الشرائع تابعة للشهوات إذ لو كان الشرع تابعا للهوى والشهوة لكان في الطباع ما يغني عنه وكانت شهوة كل أحد وهواه شرعا له ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن. فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} فهذه حجة أخرى على اليهود في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم

فإنهم كانوا يحاربون جيرانهم من العرب في الجاهلية ويستنصرون عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره فيفتح لهم وينصرون فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به وجحدوا نبوته فاستفتاحهم به وجحد نبوته مما لا يجتمعان فإن كان استفتاحهم به لأنه نبي كان جحد نبوته محالا وإن كان جحد نبوته كما يزعمون حقا كان استفتاحهم به باطلا فإن كان استفتاحهم به حقا فنبوته حق وإن كانت نبوته كما يقولون باطلا فاستفتاحهم به باطل وهذا مما لا جواب لأعدائه عنه البتة ويمكن تقريرها على صورة عديدة: منها: أن يقال قد أقررتم قبل ظهوره باستفتاحكم به فتعين عليكم الإقرار بها بعد ظهوره الثانية: أن يقال كنتم تستفتحون به وذلك إقرار منكم بنبوته قبل ظهوره استناد إلى ما عندكم من العلم بظهوره فلما شاهدتموه وصار المعلوم معاينا بالرؤية فالتصديق به حينئذ يكون أولى فكفرتم به عند كمال المعرفة وآمنتم به حين كانت غيبا لم تكمل فآمنتم به على تقدير وجوده وكفرتم به عند تحقق وجوده فأي تناقض وعناد أبلغ من هذا. الثالثة: أن يقال إيمانكم به لازم لاستفتاحكم به ووجود الملزوم بدون لازمه محال الرابعة: أن يقال استفتاحكم به هل كان عن دليل أولا عن دليل فلا بد أن يقولوا كان عن دليل وحينئذ يجب طرد الدليل والقول بموجبه حيث وجد فأما أن يقال بموجبه في موضع ويجحد موجبه في موضع أقوى منه فمن أبطل الباطل. الخامسة: أن يقال إن كان الاستفتاح به تصديقا للنبي الذي أخبر بظهوره وقامت البراهين على صدقه فالإيمان به متعين تصديقا للنبي الأول أيضا وإن كان ترك الإيمان قبل ظهوره تكذيبا للنبي الأول فترك الإيمان به بعد ظهوره أشد تكذيبا فأنتم في كفركم به مكذبون للنبي الأول والثاني وهذا من أحسن الوجوه. السادسة: أن يقال إن كان الاستفتاح به حقا لما ظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم المبشر به من المعجزات فالإيمان به عند ظهوره يكون أقوى لانضمام المعجزات التي ظهرت على يده وهي تستلزم لصدقه إلى المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم المبشر به فقويت أدلة الصدق وتظافرت براهينه. السابع: أن يقال أحد الأمرين لازم

ولا بد إما خطؤكم في استفتاحكم به وإما في كفركم وتكذيبكم به فإنهما لا يمكن اجتماعهما فأيهما كان خطأ كان الآخر صوابا لكن استفتاحكم به مستند إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم الأول فهو مستند إلى حق فتعين أن يكون كفرهم به هو الباطل ولا يمكن أن يقال إن التكذيب به هو الحق والاستفتاح به كان باطلا لأنه يستلزم تكذيب من أقررتم بصدقة ولا بد. الثامنة: أن يقال التصديق به قبل ظهوره من لوازم التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم الأول والتكذيب به حينئذ كفر فالتصديق به بعد ظهوره كذلك وإن كان تكذيب به قبل ظهوره مستلزما للكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم الأول فهو بعد ظهوره أشد استلزاما فلا يجتمع التكذيب به والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم الأول أبدا لا قبل ظهوره ولا بعده أما قبل ظهوره فباعترافكم وإما بعد ظهوره فلأن دلالة صدقه حينئذ أظهر وأقوى كما تقدم بيانه. التاسعة: أن يقال الاستفتاح به تصديق وإقرار بنبوته وتكذيبه جحد وكفر بها والإيمان والتصديق برسالة الرجل الواحد والتكذيب والجحد بها مستلزم للكفر ولا بد فإنه يستلزم أحد الأمرين إما التصديق بنبوة من ليس بنبي وإما جحد نبوة من هو نبي وأيهما كان فهو كفر وقد أقررتم على أنفسكم بالكفر ولا بد فلعنه الله على الكافرين. العاشرة: تقرير الاستدلال بطريقة استسلاف المقدمات المؤاخذة بالاعتراف فيقال لهم ألستم كنتم تستفتحون به فيقولون بلى فيقال أليس الاستفتاح به إيمان به فلا بد من الاعتراف بذلك فيقال أفليس ظهور من كنتم تؤمنون به قبل وجوده موجبا عليكم الإيمان به فلا بد من الاعتراف أو العناد الصريح وليس لأعداء الله على هذا الوجوه اعتراض البتة سوى أن قالوا هذا كله حق ولكن ليس هذا الموجود بالذي كنا نستفتح به وهذا من أعظم البهت والعناد وإن الصفات والعلامات التي فيه طابقت ما كانت عندهم مطابقة المعلوم لعلمه فإنكار أن يكون هو إنما يكون جحدا للحق وإنكارا له باللسان والقلب يعرفه ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} فأغني عن هذه الوجوه والتقريرات كلها قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ

وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} والمادة الحق يمكن إبرازها في الصورة المتعددة وفي أي قالب أفرغت وصورة أبرزت ظهرت صحيحة وهذا شأن مواد براهين القرآن في أي صورة أبرزتها ظهرت في غاية الصحة والبيان والحمد لله المان بالهدى على عباده المؤمنين. فصل: وتأمل قوله تعالى في هذه الآية: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} كيف تجد تحته برهانا عظيما على صدقه وهو مجيء الرسول الثاني بما يطابق ما جاء به الرسول الأول ويصدقه مع تباعد زمانها وشهادة أعدائه وإقرارهم له بأنه لم يتلقه من بشر ولهذا كانوا يمتحنونه بأشياء يعلمون أنه لا يخبر بها إلا بني أو من أخذ عنه وهم يعلمون أنه لم يأخذ عن أحد البتة ولو كان ذلك لوجد أعداؤه السبيل إلى الطعن عليه ولعارضوه بمثل ما جاء به إذ من الممكن أن لو كان ما جاء به مأخوذا عن بشر أن يأخذوهم عن ملك أو عن نظيره فيعارضوا ما جاء به والمقصود أن مطابقة ما جاء به لما أخبر به الرسول الأول من غير مواطأة ولا تشاعر ولا تلقي منه ولا ممن أخذ عنه دليل قاطع على صدق الرسولين معا. ونظير هذا أن يشهد رجل بشهادة فيخبر فيها بما يقطع به أنه صادق في شهادته صدقا لا يتطرق إليه شبهة فيجيء آخر من بلاد أخرى لم يجتمع بالأول ولم يتواطأ معه فيخبر بنظير تلك الشهادة سواء مع القطع بأنه لم يجتمع به ولا تلقاها عن أحد اجتمع به فهذا يكفى في صدقه إذا تجرد الأخبار فكيف إذا اقترن بأدلة يقطع بها بأنه صادق أعظم من الأدلة التي اقترنت بخبر الأول فيكفي في العلم بصدق الثاني مطابقة خبره لخبر الأول فكيف إذا بشر به الأول فكيف إذا أقترن بالثاني من البراهين الدالة على

صدقة نظير ما اقترن بالأول وأقوى منها والله أعلم. فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هذه حكاية مناظرة بين الرسول وبين اليهود لما قال لهم آمنوا بما أنزل الله تعالى فأجابوه بأن قالوا {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} ومرادهم بهذا التخصيص أن نؤمن بالمنزل علينا دون غيره فظهرت عليهم الحجة بقولهم هذا من وجهين دل عليهما قوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} إلى آخر الآية. قال إن كنتم قد آمنتم بما أنزل عليكم لأنه حق فقد وجب عليكم أن تؤمنوا بما جاء به محمد لأنه حق مصدق لما معكم وحكم الحق الإيمان به أين كان ومع من كان فلزمكم الإيمان بالحقين جميعا أو الكفر الصراح وفي وقوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} نكتة بديعة جدا وهي أنهم لما كفروا به وهو حق لم يكن إيمانهم بما انزل عليهم لأجل أنه حق فإذا لم يتبعوا الحق فيما أنزل عليهم ولا فيما جاء به محمد لأنهم لو آمنوا بالمنزل عليهم أنه حق لآمنوا بالحق الثاني وأعطوا الحق حقه من الإيمان ففي ضمن هذه الشهادة عليهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الأول ولا بالثاني وهكذا الحكم في كل من فرق الحق فآمن ببعضه وكفر ببعضه كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وكمن آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض لم ينفعه إيمانه بما كفر به حتى يؤمن بالجميع. ونظير هذا التفريق من يرد آيات الصفات وأخبارها ويقبل آيات الأوامر والنواهي فإن ذلك لا ينفعه لأنه آمن ببعض الرسالة وكفر ببعض فإن كانت الشبهة التي عرضت لمن كفر ببعض الأنبياء غير نافعة له فالشبهة التي عرضت لمن رد بعض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن لا تكون نافعة وإن كانت هذه عذرا له فشبهة من كذب بعض الأنبياء

مثلها وكما أنه لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع الأنبياء ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بعضه ورد بجميعهم فكذلك لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع ما جاء به الرسول فإذا آمن ببعضه فهو كمن كفر به كله. فتأمل هذا الموضع واعتبر به الناس على اختلاف طوائفهم يتبين لك أن أكثر من يدعى الإيمان برىء من الإيمان ولا حول ولا قوة إلا بالله. الوجه الثاني من النقض قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ووجه النقض أنكم إن زعمتم أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم وبالأنبياء الذين بعثوا فيكم فلم قتلتموهم من قبل وفيم أنزل إليكم الإيمان بهم وتصديقهم فلا آمنتم بما انزل إليكم ولا بما أنزل على محمد ثم كأنه توقع منهم الجواب بأنا لم نقتل من ثبتت نبوته ولم نكذب به فأجيبوا على تقدير هذا الجواب الباطل منهم بأن موسى قد جاءكم بالبينات وما لا ريب في صحة نبوته ثم عبدتم بعد غيبته عنكم وأشركتم بالله وكفرتم به وقد علمتم نبوة موسى وقيام البراهين على صدقة فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} فهكذا تكون الحجج والبراهين ومناظرات الأنبياء لخصومهم ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كانوا يقولون نحن أحباء الله ولنا الدار الآخرة خالصة من دون الناس وإنما يعذب منا من عبد العجل مدة ثم يخرج من النار وذلك مدة عبادتهم له فأجابهم تبارك وتعالى عن قولهم إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة بالمطالبة وتقسيم الأمر بين أن يكون لهم عند الله تعالى عهد عهده إليهم وبين أن يكونوا قد قالوه عليه ما لا يعلمون ولا سبيل لهم إلى ادعاء العهد فتعين الثاني وقد تقدم ثم أجابهم عن دعواهم خلوص الآخرة لهم بقوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} لأن الحبيب لا يكره لقاء حبيبة والابن لا يكره لقاء أبيه لا سيما إذا علم أن كرامته ومثوبته مختصة به بل أحب شيء إليه لقاء حبيبه وأبيه فحيث لم يحب ذلك ولم يتمنه فهو كاذب في قوله مبطل في دعواه. ونظير هذا قوله

في سورة المائدة ردا عليهم قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} يعني أن الأب لا يعذب ابنه والحبيب لا يعذب حبيبه. وههنا نكتة لطيفة جدا قل من ينتبه لها نحن نقررها بسؤال وجواب فإن قيل معلوم أن الأب قد يؤدب ولده إذا أذنب والحبيب قد يهجر حبيبه إذا رأى منه بعض ما يكره قيل لو تأملت أيها السائل قوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} لعلمت الفرق بين هذا التعذيب وبين الهجران والتأديب فإن التعذيب بالذنب ثمرة الغضب المنافي للمحبة فلو كانت المحبة قائمة كما زعموا لم يكن هناك ذنوب يستوجبون عليها العذاب من المسخ قردة وخنازير وتسلط أعدائهم عليهم يستبيحونهم يستعبدونهم ويخربون متعبداتهم ويسبون ذراريهم فالمحب لا يفعل هذا بحبيبه ولا الأب بابنه ومعلوم أن الرحمن الرحيم لا يفعل هذا بأمه إلا بعد فرط إجرامها وعتوها على الله واستكبارها عن طاعته وعبادته وذلك ينافى كونهم أحبابه فلو أحبوه لما ارتكبوا من غضبه وسخطه ما أوجب لهم ذلك ولو أحبهم لأدبهم ولم يعذبهم فالتأديب شيء والتعذيب شيء والتأديب يراد به التهذيب والرحمة والإصلاح والتعذيب للعقوبة والجزاء على القبائح فهذا لون وهذا لون وفي ضمن هذه المناظرة معجزة باهرة للنبي وهي أنه في مقام المناظرة مع الخصوم الذين هم أحرص الناس على عداوته وتكذيبه وهو يخبرهم خبرا جزما أنهم لن يتمنوا الموت أبدا ولو علموا من نفوسهم أنهم يتمونه لوجدوا طريقا إلى الرد عليه بل ذلوا وغلبوا وعلموا صحة قوله وإنما منعهم من تمنى الموت معرفته بما لهم عند الله تعالى من الخزي والعذاب الأليم بكفرهم بالأنبياء وقتلهم لهم وعداوتهم لرسول الله. فإن قيل فهلا أظهروا التمني وإن كانوا كاذبين فقالوا فنحن نتمناه قيل وهذا أيضا معجزة أخرى وهي أن الله تعالى حبس عن تمنيه قلوبهم وألسنتهم فلم ترده قلوبهم ولم تنطق به ألسنتهم تصديقا لقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ

إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذه دعوى من كل واحد من الطائفتين أنه لن يدخل الجنة إلا من كان منهما فقالت اليهود لا يدخلها إلا من كان هودا وقالت النصارى لا يدخلها إلا من كان نصرانيا فاختصر الكلام أبلغ اختصار وأوجزه مع أمن اللبس ووضوح المعنى فطالبهم الله تعالى بالبرهان على صحة الدعوى فقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهذا هو المسمى سؤال المطالبة بالدليل فمن ادعى دعوى بلا دليل يقال له هات برهانك إن كنت صادقا فيما ادعيت ويحتج بهذه الآية من يقول بلزوم النافي الدليل كما يلزم المثبت وحكوا في ذلك ثلاث مذاهب ثالثها يلزمه في الشرعيات دون العقليات واستدلالهم بالآية لا يصح لأن الله تعالى لم يطالبهم بدليل النفي المجرد بل ادعوا دعوى مضمونها إثبات دخولهم الجنة وإن غيرهم لم يدخلها فطولبوا بالدليل الدال على هذه الدعوى المركبة من النفي والإثبات وصاحب هذه الدعوى يلزمه الدليل باتفاق الناس وإنما الخلاف في النفي المجرد ولو استدل هؤلاء بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} لكان أقرب مع كونه متضمنا للنفي والإثبات لكن الدعوى فيه إنما توجهت إلى النفي ومقصود الكلام إنا لا نعذب بعد تلك الأيام فلم ينكر عليهم اعترافهم بالتعذيب تلك الأيام بل دعواهم أنهم لا يعذبون بعدها وذلك نفي محض فلذلك قلنا إن الاستدلال بها أقرب من هذه الآية. وبعد فالتحقيق في مسألة النافي هل عليه دليل أن النفي نوعان: - نوع مستلزم لإثبات ضد المنفي فهذا يلزم النافي فيه الدليل كمن نفي الإباحة فإنه يطالب بالدليل قطعا لأن نفيها يستلزم ثبوت ضد من أضدادها ولا بد من دليل وكذلك نفي التعذيب بالنار بعد ألأيام المعدودة يستلزم دخول الجنة والفوز بالنعيم ولا بد له من دليل. - النوع الثاني نفي لا يستلزم ثبوتا كنفي صحة عقد من العقود أو شرط وعبادة في الشرعيات ونفي إمكان شيء ما من الأشياء في العقليات فالنافي إن نفي العلم به لم يلزمه دليل وإن نفى المعلوم نفسه وادعى أنه منتف في نفس الأمر فلا

بد له من دليل الحجة الأولى ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} إلى قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} فرد عليهم سبحانه دعواهم له اتخاذ الولد ونزه نفسه عنه ثم ذكر أربع حجج على استحالة اتخاذه الولد: أحدها: كون ما في السموات والأرض ملكا له وهذا ينافي أن اتخاذ الولد فيهما ولد له لأن الولد بعض الوالد وشريكه فلا يكون مخلوقا له مملوكا له لأن المخلوق مملوك مربوب عبد من العبيد والابن نظير الأب فكيف يكون عبده تعالى ومخلوقه ومملوكه بعضه ونظيره فهذا من أبطل الباطل وأكد مضمون هذه الحجة بقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فهذا تقرير لعبوديتهم له وأنهم مملوكون مربوبون ليس فيهم شريك ولا نظير ولا ولد فإثبات الولد لله تعالى من أعظم الإشراك به فإن المشرك به جعل له شريكا من مخلوقاته مع اعترافه بأنه مملوك كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك" فكانوا يجعلون من أشركوا به مملوكا له عبدا مخلوقا والنصارى جعلوا له شريكا هو نظير وجزء من أجزائه كما جعل بعض المشركين الملائكة بناته فقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} فإذا كان له ما في السموات والأرض عبيد قانتون مربوبون مملوكون استحال أن يكون له منهم شريك وكل من أقر بأن الله تعالى ما في السموات وما في الأرض لزمه أن يقوله بالتوحيد ولا بد ولهذا يحتج سبحانه على المشركين بإقرارهم بذلك كقوله: {قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بيان لهذا في موضعه. الحجة الثانية: قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} هذه من أبلغ الحجج على استحالة نسبة الولد إليه ولهذا قال في سورة الأنعام بديع السموات والأرض أني يكون له ولد أي من أين يكون لبديع السموات والأرض ولد ووجه تقرير هذه الحجة أن من اخترع هذه السموات والأرض مع عظمهما وآياتهما وفطرهما وابتدعهما فهو قادر على اختراع ما هو دونهما ولا نسبة له إليهما البتة فكيف يخرجون هذا الشخص بالعين عن قدرته وإبداعه ويجعلونه نظيرا وشريكا وجزءا مع أنه تعالى بديع العالم العلوي والسفلي وفاطره ومخترعه

وبارئه فكيف يعجزه أن يوجد هذا الشخص من غير أب حتى يقولوا إنه ولده فإذا كان قد ابتدع العالم علوية وسفلية فما يعجزه ويمنعه عن إبداع هذا العبد وتكوينه وخلقه بالقدرة التي خلق بها العالم العلوي والسفلي فمن نسب الولد لله فما عرف الرب تعالى ولا آمن به ولا عبده فظهر أن هذه الحجة من أبلغ الحجج على استحالة نسبة الولد إليه وإن شئت أن تقرر الاستدلال بوجه آخر وهو أن يقال إذ كانت نسبة السموات والأرض وما فيهما إليه إنما هي بالاختراع والخلق والإبداع أنشأ ذلك وأبدعه من العدم إلى الوجود فكيف يصح نسبة شيء من ذلك إليه بالنبوة وقدرته على اختراع العالم وما فيه لم تزل ولم يحتج فيها إلى معاون ولا صاحب ولا شريك. وإن شئت أن تقررها بوجه آخر فتقول النسبة إليه بالنبوة تستلزم حاجته وفقره إلى محل الولادة وذلك ينافى غناه وانفراده بإبداع السموات والأرض وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} فكمال قدرته وكمال غناه وكمال ربوبيته يجعل نسبة الولد إليه ونسبته إليه تقدح في كمال ربوبيته وكمال غناه وكمال قدرته. ولذلك كانت نسبة الولد إليه مسبة له تبارك وتعالى كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: شتمني عبدي ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته" وقال عمر بن خطاب رضي الله عنه في النصارى: "أذلوهم ولا تظلموهم فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر" قال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ} الآية وأخبر تعالى {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} وما ذاك إلا لتضمنه شتم الرب تبارك وتعالى والتنقص به ونسبة ما يمنع كمال ربوبيته وقدرته وغناه إليه. الحجة الثالثة: قوله تعالى:

{وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وتقرير هذه الحجة أن من كانت قدرته تعالى كافية في إيجاد ما يريد إيجاده بمجرد أمره وقوله (كن) فأي حاجة به إلى ولد وهو لا يتكثر به من قلة ولا يتعزر به ولا يستعين به يعجز عن خلق ما يريد خلقه وإنما يحتاج إلى الولد من لا يخلق ولا إذا أراد شيئا قال له كن فيكون. وهذا المخلوق العاجز المحتاج الذي لا يقدر على تكوين ما أراد وقد ذكر تعالى حججا أخرى على استحالة نسبة الولد إليه فنذكرها في هذا الموضع. الحجة الرابعة: كما علمه وعموم خلقه لكل شيء واستحالة نسبة الصاحبة إليه فقال تعالى في سورة الأنعام: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} الآية فأما منافاة عموم خلقه لنسبه الولد إليه فظاهر فإنه لو كان له ولد لم يكن مخلوقا بل جزءا وهذا ينافي كونه خالق كل شيء وبهذا يعلم أن الفلاسفة الذين يقولون بتولد العقول والنفوس عنه بواسطة أو بغير واسطة شر من النصارى وأن من زعم أن العالم قديم فقد أخرجه عن كونه مخلوقا لله وقوله أخبث من قول النصارى لأن النصارى أخرجوا عن عموم خلقه شخصا واحدا أو شخصين ومن قال بقدم العالم فقد أخرج العالم العلوي والسفلي والملائكة عن كونه مخلوقا لله والنصارى لم يصل كفرهم إلى هذا الحد وأما منافاة عدم المصاحبة للولد فظاهر أيضا لأن الولد إنما يتولد من أصلين فاعل ومحل قابل يتصلان اتصالا خاصا فينفصل من أحدهما جزء في الآخر يكون منه الولد فمن ليس له صاحبة كيف يكون له ولد ولذلك لما فهم عوام النصارى أن الابن يستلزم الصاحبة لم يستنكفوا من دعوى كون مريم آلهة وأنها والدة الإله عيسى فيقول عوامهم يا والدة الإله اغفري لي ويصرح بعضهم بأنها زوجة الرب ولا ريب أن القول بالإيلاد يستلزم ذلك أو إثبات إيلاد لا يعقل ولا يتوهم فخواص النصارى في حيرة وضلال وعوامهم لا يستنكفون أن يقولوا بالزوجة والإيلاد المعقول تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا والقوم في هذا المذهب الخبيث أضل خلق

الله فهم كما وصفهم الله بأنهم {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . الحجة الخامسة: وأما منافاة عموم علمه تعالى للولد فيحتاج إلى فهم خاص وتقريره أن يقال لو كان له ولد لعلمه لأنه بكل شيء عليم وهو تعالى لا يعلم له ولد فيستحيل أن يكون له ولد لا يعلمه وهذا استدلال بنفي علمه للشيء على نفيه في نفسه إذ لو كان لعلمه فحيث لم يعلمه فهو غير كائن ونظير هذا قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} الآية فهذا نفي لما ادعوه من الشفعاء بنفي علم الرب تعالى بهم المستلزم لنفي المعلوم ولا يمكن أعداء الله المكابرة وأن يقولوا قد علم الله وجود ذلك لأنه تعالى إنما يعلم وجود ما أوجده وكونه ويعلم أنه سيوجد ما يريد إيجاده فهو يعلم نفسه وصفاته ويعلم مخلوقاته التي دخلت في الوجود وانقطعت والتي دخلت في الوجود وبقيت والتي لم توجد بعد وأما شيء آخر غير مخلوق له ولا مربوب فالرب تعالى لا يعلمه لأنه مستحيل في نفسه فهو يعلمه مستحيلا لا يعلمه واقعا إذ لو علمه واقعا لكان العلم به عين الجهل وذلك من أعظم المحال. فهذه حجج الرب تبارك وتعالى على بطلان ما نسبه إليه أعداؤه والمفترون عليه فوازن بينها وبين حجج المتكلمين الطويلة العريضة التي هي كالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع فإذا وازنت بينهما ظهرت لك المفاضلة إن كنت بصيرا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا فالحمد لله الذي أغنى عباده المؤمنين بكتابه وما أودعه من حججه وببيانه عن شقاشق المتكلمين وهذيانات المتهوكين فلقد عظمت نعمة الله تعالى على عبد أغناه بفهم كتابه عن الفقر إلى غيره {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} فأجيبوا عن هذه الدعوى بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا الجواب

مع اختصاره قد تضمن المنع والمعارضة: أما المنع: مما تضمنه حرف بل من الإضراب أي ليس الأمر كما قالوا. وأما المعارضة: ففي قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أي أتتبع أو يتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وفي ضمن هذه المعارضة إقامة الحجة على أنها أولى بالصواب مما دعوتم إليه من اليهودية والنصرانية لأنه وصف صاحب الملة بأنه حنيف غير مشرك ومن كانت ملته الحنيفية والتوحيد فهو أولى بأن يتبع ممن ملته اليهودية والنصرانية فإن الحنيفية والتوحيد هي دين جميع الأنبياء الذي لا يقبل الله من أحد دينا وسواه وهو الفطرة التي فطر عليها عباده فمن كان عليها فهو المهتدي لأن من كان يهوديا أو نصرانيا فإن الحنيفية تتضمن الإقبال على الله بالعبادة والإجلال والتعظيم والمحبة والذل. والتوحيد يتضمن إفراده بهذا الإقبال دون غيره فيعبد وحده ويحب وحده ويطاع وحده ولا يجعل معه إلها آخر فمن أولى بالهداية صاحب هذه الملة أو ملة اليهودية والنصرانية ولا يبقى بعد هذا للخصوم إلا سؤال واحد وهو أن يقولوا فنحن على ملته أيضا لم نخرج عنها وإبراهيم وبنوه كانوا هودا أو نصارى فأجيبوا عن هذا السؤال بأنهم كاذبون فيه وأن الله تعالى قد علم أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا فقال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى} الآية وقرر تعالى هذا الجواب في سورة آل عمران بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} إلى قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} فإن قالوا فهب أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا فنحن على ملته وإن انتحلنا هذا الاسم فأجيبوا عن هذا بقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فهذه للمؤمنين قال: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} وإن أتوا من الإيمان بمثل ما أتيتم به فهم على ملة إبراهيم وهم مهتدون وإن لم يأتوا بإيمان مثل إيمانكم فليسوا من إبراهيم وملته في شيء وإنما هم في شقاق وعداوة فإن ملة إبراهيم الإيمان بالله وكتبه ورسله وأن لا يفرق بين أحد منهم فيؤمن ببعضهم ويكفر ببعضهم فمن لم يأت بمثل هذا الإيمان فهو بريء من ملة إبراهيم مشاق لمن هو على ملته. وقوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أعلم أَمِ اللَّهُ}

أي الله تعالى يعلم ما كان عليه إبراهيم والنبي صلى الله عليه وسلمون من الملل وأنهم لم يكونوا يهودا ولا نصارى فالله تعالى يعلم ذلك فلو كانوا يهودا أو نصارى والله تعالى لا يعلم ذلك لكنتم أعلم من الله بهم هذا مع أن عندكم شهادة وبينه من الله تعالى بما كان عليه إبراهيم وبأن هذا النبي صلى الله عليه وسلم على ملته ولكنكم كتمتم هذه الشهادة عن أتباعكم فلم تؤدوها إليهم مع تحققكم لها ولا أظلم ممن كتم شهادة استشهده الله بها فهي عنده من الله إلا أنه كتمها من الله فالمجرور متعلق بما تضمنه الظرف الذي هو عنده من الكون والحصول. فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هذا سؤال من السفهاء أورده على المؤمنين ومضمونه أن القبلة الأولى إن كانت حقا فقد تركتم الحق وإن كانت باطلا فقد كنتم على باطل ولفظ الآية وإن لم يدل على هذا فالسفهاء المجادلون في القبلة قالوه. فأجاب الله تعالى عنه بجواب شاف بعد أن ذكر قبله مقدمات تقرره وتوضحه والسؤال من جهة الكفار أوردوه على صور متعددة ترجع إلى شيء واحد فقالوا ما تقدم وقالوا لو كان نبيا ما ترك قبلة الأنبياء قبله وقالوا لو كان نبيا ما كان يفعل اليوم شيئا وغدا خلافه. قال المشركون: قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم، وقال أهل الكتاب: ولو كان نبيا ما فارق قبله الأنبياء. وكثر الكلام وعظمت المحنة على بعض الناس كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} وتأمل حكمه العزيز الحكيم ولطفه وإرشاده في هذه القصة لما علم أن هذا التحويل أمر كبير كيف وطأه ومهده وذلله بقواعد قبله فذكر النسخ وأنه إذا نسخ شيئا أتى بمثله أو خير منه وأنه قادر على ذلك فلا يعجزه ثم قرر التسليم للرسول وأنه لا ينبغي أن يعترض عليه ويسأل تعنتا كما

جرى لموسى مع قومه ثم ذكر البيت الحرام وتعظيمه وحرمته وذكر بانيه وأثنى عليه وأوجب اتباع ملته فقرر في النفوس بذلك توجهها إلى البيت بالتعظيم والإجلال والمحبة وإلى بانيه بالاتباع والموالاة والموافقة وأخبر تعالى أنه جعل البيت مثابة للناس يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا فالقلوب عاكفة على محبته دائمة الاشتياق إليه متوجهة إليه حيث كانت ثم أخبر أنه أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهيره للطائفين والقائمين والمصلين وأضافه إليه بقوله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} وهذه الإضافة هي التي أسكنت في القلوب من محبته والشوق إليه ما أسكنت وهي التي أقبلت بأفئدة العالم إليه فلما استقرت هذه الأمور في قلوب أهل الإيمان وذكروا بها فكأنها نادتهم أن استقبلوه في الصلاة ولكن توقفت على ورود الأمر من رب البيت فلما برز مرسوم فول وجهك شطر المسجد الحرام تلقاه رسول الله والراسخون في الإيمان بالبشرى والقبول وكان عيدا عندهم لأن رسول الله كان كثيرا ما يقلب وجهه في السماء ينتظر أن يحول الله عن قبلة أهل الكتاب فولاه الله القبلة التي يرضاها وتلقى ذلك الكفار بالمعارضة وذكر الشبهات الداحضة وتلقاه الضعفاء من المؤمنين بالإغماض والمشقة فذكر تعالى أصناف الناس عند الأمر باستقبال الكعبة وابتداء ذلك بالتسلية لرسوله وللمؤمنين عما يقول السفهاء من الناس فلا تعبأوا بقولهم فإنه قول سفيه ثم قال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فأخبر تعالى أن المشرق والمغرب له أنه رب ذلك فأياًّ ما تعبد له عبادة بأمره إلى أي جهة كانت فهم مطيعون له كما قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فلم يصل مستقبل الجهات بأمره إلا له تعالى فإذا كنتم تصلون إلى غير الكعبة بأمره ثم أمركم أن تصلوا إليها فما صليتم إلا له أولا وآخرا وكنتم على حق في الاستقبال الأول والآخر لأن كليهما كان بأمره ورضاه فانتقلتم من رضاه ثم نبه على فضل الجهة التي أمرهم بالاستقبال إليها ثانيا بأنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم كما هداكم للقبلة التي جعلها قبلتكم وشرعا لكم ورضيها

ولكن أمركم باستقبال غيرها أولا لحكمة في ذلك وهو أن يعلم سبحانه من يتبع الرسول ويدور معه حيثما دار ويأتمر بأوامره كيف تصرفت وهو العالم بكل شيء ولكن شاء أن يعلم معلومه الغيبي عيانا مشاهدا فتميز بذلك الراسخ في الإيمان المسلم للرسول المنقاد له ممن يعبد الله تعالى على حرف فينقلب على عقبة بأدنى شبهة. فهذا من بعض حكمه في أن جعل القبلة الأولى غير الكعبة فلم يشرع ذلك سدى ولا عبثا ثم أخبر سبحانه أنه كما جعل لهم أوسط الجهات قبلة بتعبدهم فكذلك جعلهم أمة وسطا فاختار القبلة الوسط في الجهات للأمة الوسط في الأمم ثم ذكر أن هذا التفضيل والاختصاص ليستشهدهم على الأمم فيقبل شهادتهم على الخلائق يوم القيامة ثم أجاب تعالى عما سأل عنه المؤمنون من صلاتهم إلى القبلة الأولى وصلاة من مات من إخوانهم قبل التحويل فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وفيه قولان: أحدهما: ما كان ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس بل يجازيكم عليها لأنها كانت بأمره ورضاه، والثاني: ما كان ليضيع إيمانكم بالقبلة الأولى وتصديقكم بأن الله شرعها ورضيها وأكثر السلف والخلف على القول الأول وهو مستلزم للقول الآخر الحكمة في نسخ الاستقبال لبيت المقدس. ثم ذكر منته على رسوله واطلاعه على حرصه على تحويله عن قبلته الأولى فقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب بأنهم يعلمون أنه الحق من ربهم ولم يذكر للضمير مفسرا غير ما في السياق وهو الأمر باستقبال المسجد الحرام وأن أهل الكتاب عندهم من علامات هذا النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل بيت الله الذي بناه إبراهيم في صلاته. ثم أخبر تعالى عن شدة كفر أهل الكتاب بأنهم لو أتاهم الرسول بكل آية ما تبعوا قبلته ففي ذلك التسلية له وتركهم وقبلتهم ثم برأه من قبلتهم فقال: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} ثم ذكر اختلافهم في القبلة وأن كل طائفة منهم لا تتبع الطائفة الأخرى لأن القبلة من خواص الدين وأعلامه وشعائره الظاهرة فأهل كل دين لا يفارقون قبلتهم إلا أن يفارقوا دينهم فأخبر تعالى في هذه

الجمل الثلاث بثلاث إخبارات تتضمن براءة كل طائفة من قبله الطائفة الأخرى وتتضمن الأخبار بأن أهل الكتاب لو رأوا كل آية تدل على صدق الرسول لما تبعوا قبلته عنادا وتقليدا لآبائهم وأنهم إن اشتركوا في خلاف القبلة الحق منهم مختلون مختلفون في باطلهم فلا تتبع طائفة قبلة الأخرى فهم متفقون على خلاف الحق في اختيار الباطل وفي هذه الآية أيضا ثبيت للرسول والمؤمنين على لزوم قبلتهم وأنه لا يشتغل بما يقوله أهل الكتاب ارجعوا إلى قبلتنا فنتبعكم على دينكم فإن هذا خداع ومكر منهم فإنهم لو رأوا كل آية تدل على صدقك ما تبعوا قبلتك لأن الكفر قد تمكن من قلوبهم فلا مطمع للحق فيها ولست أيضا بتابع قبلتهم فليقطعوا مطامعهم من موافقتك لهم وعودك إلى قبلتهم وكذلك هم أيضا مختلفون فيما بينهم فلا يتبع أحد منهم قلبة الآخر فهم مختلفون في القبلة ولستم أيها المؤمنون موافقين لأحد منهم في قبلته بل أكرمكم الله بقبلة غير قبلة هؤلاء المختلفين اختارها الله لكم ورضيها وأكد تعالى هذا المعنى بقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فهذا كله تثبيت وتحذير من موافقتهم في القبلة وبراءة من قبلتهم كما هم براء من قبلتك وكما بعضهم بريء من قبله بعض فأنتم أيها المؤمنون أولى بالبراءة من قبلتهم التي أكرمكم الله تعالى بالتحويل عنها ثم أكد ذلك بقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ثم أخبر تعالى عن اختصاص كل أمة بقبلتهم فقال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} وأصح القولين أن المعنى هو متوجه إليها أي موليها وجهه فالضمير راجع إلى كل، وقيل إلى الله اي الله موليها إياه وليس بشيء لأن الله لم يول القبلة الباطلة أبدا ولا أمر النصارى باستقبال الشرق قط بل هم تولوا هذه القبلة من تلقاء أنفسهم وولوها وجوههم وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} مشعر بصحة هذا القول أي إذا كان أهل الملل قد تولوا الجهات فاستقبوا أنتم الخيرات وبادروا إلى ما اختاره الله لكم ورضيه وولاكم إياه ولا تتوقفوا فيه {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} يجمعكم من الجهات المختلفة

والأقطار المتباينة إلى موقف القيامة كما تجتمعون من سائر الجهات إلى جهة القبلة التي تؤمونها فهكذا تجتمعون من سائر أقطار الأرض إلى جهة الموقف الذي يؤمه الخلائق وهذا نظير قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} المرجع إلى الله تعالى. وأخبر أن مرجعهم إليه عند إخباره بتعدد شرائعهم ومنها هجم كما ذكر ذلك بعينه عند إخباره بتعدد وجهتهم وقبلتهم فقال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} وتحت هذا سر بديع يفهمه من يفهمه وهو أنه عند الاختلاف في الطرائق والمذاهب والشرائع والقبل يكون أقربها إلى الحق ما كان أدل على الله وأوصل إليه لأن مرجع الجميع إليه يوم القيامة وحده وإن اختلفت أحوالهم وأزمنتهم وأمكنتهم فمرجعهم إلى رب واحد وإله واحد فهكذا ينبغي أن يكون مرد الجميع ورجوعهم كلهم إليه وحده في الدنيا فلا يعبدون غيره ولا يدينون بغير دينه إذ هو إلههم الحق في الدنيا والآخرة فإذا كان أكثر الناس قد أبي ذلك إلا كفورا وذهابا في الطرق الباطلة وعبادة غيره وإن دانوا غير دينه فاستبقوا أنتم أيها المؤمنين للخيرات وبادروا إليها ولا تذهبوا مع الذين يسارعون في الباطل والكفر فتأمل هذا السر البديع في السورتين يوم الفصل والبعث. وفي قوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} سر آخر أيضا وهو أن هذا الاختلاف دليل على يوم الفصل وهو اليوم الذي يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق ويبين لهم حقيقة ما اختلفوا فيه فنفس الاختلاف دليل على يوم الفصل والبعث وقد أوضح ذلك قوله تعالى في سورة النحل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} فذكر تعالى حكمتين بالغتين في بعثة الأموات بعدما أماتهم: إحداهما: أن يبين للناس الذي اختلفوا فيه وهذا بيان عياني تشترك فيه الخلائق كلهم والذي حصل في الدنيا بيان إيماني اختص به بعضهم. الحكمة الثانية: علم المبطل بأنه كان كاذبا وإن كان على باطل وأن نسبة أهل الحق إلى الباطل من افترائه وكذبه وبهتانه

فيخزيه ذلك أعظم خزي فتأمل أسرار كلام الرب تعالى وما تضمنته آيات الكتاب المجيد من الحكمة البالغة الشاهدة بأنه كلام رب العالمين والشاهدة لرسوله بأنه الصادق المصدوق وهذا كله من مقتضى حكمته وحمده تعالى وهو معنى كونه خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق ولم يخلق ذلك باطلا بل خلقه خلقا صادرا عن الحق آيلا إلى الحق مشتملا على الحق فالحق سابق لخلقها مقارن له غاية له ولهذا أتى بالباء الدالة على هذا المعنى دون اللام المفيدة لمعنى الغاية وحدها فالباء مفيدة معنى اشتمال خلقها على الحق السابق والمقارن والغاية فالحق السابق صدور ذلك عن علمه وحكمته فمصدر خلقه تعالى وأمره عن كمال علمه وحكمته وبكمال هاتين الصفتين يكون المفعول الصادر عن الموصوف بهما حكمه كله ومصلحة وحقا ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} فأخبر أن مصدر التلقي عن علم المتكلم وحكمته وما كان كذلك كان صدقا وعدلا وهدى وإرشادا وكذلك قالت الملائكة لامرأة إبراهيم حين قالت: أألد وأنا عجوز عقيم {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} وهذا راجع إلى قوله وخلقه وهو خلق الولد لها على الكبر وأما مقارنة الحق لهذه المخلوقات فهو ما اشتملت من الحكم والمصالح والمنافع والآيات الدالة للعباد على الله ووحدانيته وصفاته وصدق رسله وأن لقاءه حق لا ريب فيه ومن نظر في الموجودات ببصيرة قلبه رآها كالأشخاص الشاهدة الناطقة بذلك بل شهادتها أتم من شهادة الخبر المجرد لأنها شهادة حال لا يقبل كذبا فلا يتأمل العاقل المستبصر مخلوقا حق تأمله إلا وجده دالا على فاطره وبارئه وعلى وحدانيته وعلى كمال صفاته وأسمائه وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه حق لا ريب فيه وهذه طريقة القرآن في إرشاده الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأحوالها على إثبات الصانع وعلى التوحيد والمعاد والنبوات فمرة يخبر أنه لم يخلق خلقه باطلا ولا عبثا ومرة يخبر أنه خلقهم بالحق ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار والاستدلال بها على صدق ما أخبرت

به رسله حتى يبين لهم أن الرسل إنما جاؤوهم بما يشاهدون أدلة صدقة وبما لو تأملوه لرأوه مركوزا في فطرهم مستقرا في عقولهم وأن ما يشاهدونه من مخلوقاته شاهد بما أخبرت به رسله عنه من أسمائه وصفاته وتوحيده ولقائه ووجود ملائكته وهذا باب عظيم من أبواب الإيمان إنما يفتحه الله على من سبقت له منه سابقة السعادة وهذا أشرف علم يناله العبد في هذه الدار. وقد بينت في موضع آخر أن كل حركة تشاهد علىاختلاف أنواعها فهي دالة على التوحيد والنبوات والمعاد بطريق سهلة واضحة برهانية وكذلك ذكرت في رسالة إلى بعض الأصحاب بدليل واضح أن الروح مركوز في أصل فطرتها وخلقتها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن الإنسان لو استقصى التفتيش لوجد ذلك مركوزا في نفس روحه وذاته وفطرته فلو تأمل العاقل الروح وحركتها فقط لاستخرج منها الإيمان بالله تعالى وصفاته والشهادة بأنه لا إله إلا هو والإيمان برسله وملائكته ولقائه وإنما يصدق بهذا من أشرقت شمس الهداية على أفق قلبه وانجابت عنه سحائب غيبه وانكشف عن قلبه حجاب {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} فهنالك يبدو له سر طال عنه اكتتامه ويلوح له صباح هو ليلة وظلامه فقف الآن عند كل كلمة من قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ثم تأمل وجه كونها آية وعلى ماذا جعلت آية أعلى مطلوب واحد أم مطالب متعددة وكذلك سائر ما في القرآن الكريم من هذا النمط كآخر سورة آل عمران وقوله في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِه} إلى آخرها وقوله في سورة النمل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} إلى آخر الآيات وأضعاف ذلك في القرآن الكريم وكقوله في سورة الذاريات {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}

فهذا كله من الحق الذي خلقه به السموات والأرض وما بينهوما وهو حق لوجود هذه المخلوقات مسطور في صفحاتها يقرؤه كل موفق كاتب وغير كاتب كما قيل: تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل وأما الحق الذي هو غاية خلقها فهو غاية تراد من العباد وغاية تراد بهم فالتي تراد منهم أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله عز وجل وأن يعبدوه لا يشركوا به شيئا فيكون هو وحده إلههم ومعبودهم ومطاعهم ومحبوبهم قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فأخبر أنه خلق العالم ليعرف عباده كمال قدرته وإحاطة علمه وذلك يستلزم معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وتوحيده وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} فهذه الغاية هي المرادة من العباد وهي أن يعرفوا ربهم ويعبدوه وحده وأما الغاية المرادة بهم فهي الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} وقال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} فتأمل الآن كيف أشتمل خلق السموات والأرض وما بينهما على الحق أولا اوآخرا ووسطا وأنها خلقت بالحق وللحق وشاهدة بالحق وقد أنكر تعالى على من زعم خلاف ذلك فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا

لا تُرْجَعُونَ} ثم نزه نفسه عن هذا الحسبان المضاد لحكمته وعلمه وحمده فقال فتعالى الله الملك الحق وتأمل ما في هذين الاسمين وهما الملك الحق من إبطال هذا الحسبان الذي ظنه أعداؤه إذ هو مناف لكمال ملكه ولكونه الحق إذ الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي فيتصرف في خلقه بقوله وأمره وهذا هو الفرق بين الملك والمالك إذ المالك هو المتصرف بفعله والملك هو المتصرف بفعله وأمره والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره فمن ظن أنه خلق خلقه عبثا لم يأمرهم ولم ينههم فقد طعن في ملكه ولم يقدره حق قدره كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فمن جحد شرع الله وأمره ونهيه وجعل الخلق بمنزلة الأنعام المهملة فقد طعن في ملك الله ولم يقدره حق قدره وكذلك كونه تعالى إله الخلق يقتضي كمال ذاته وصفاته وأسمائه ووقوع أفعاله على أكمل الوجوه وأتمها فكما أن ذاته الحق فقوله الحق ووعده الحق وأمره الحق وأفعاله كلها حق وجزاؤه المستلزم لشرعه ودينه ولليوم الآخر حق فمن أنكر شيئا من ذلك فما وصف الله بأنه الحق المطلق من كل وجه وبكل اعتبار فكونه حقا يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه فكيف يظن بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثا وأن يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قال الشافعي رحمه الله: "مهملا لا يؤمر ولا ينهى" وقال غيره: "لا يجزي بالخير والشر ولا يثاب ولا يعاقب" والقولان متلازمان فالشافعي ذكر سبب الجزاء والثواب والعقاب وهو الأمر والنهي والآخر ذكر غاية الأمر والنهي ذكر سبب الجزاء والثواب والعقاب ثم تأمل قوله تعالى بعد ذلك: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} فمن لم يتركه وهو نطفة سدى بل قلب النطفة وصرفها حتى صارت أكمل مما هي وهي العلقة ثم قلب العلقة حتى صارت أكمل مما هي حتى خلقها فسوى خلقها فدبرها بتصريفه وحكمته في أطوار كمالاتها حتى انتهى كمالها بشرا سويا فكيف يتركه سدى لا يسوقه

إلى غاية كماله الذي خلق له. فإذا تأمل العاقل البصير أحوال النطفة من مبدئها إلى منتهاها دلته علىالمعاد والنبوات كما تدله على إثبات الصانع وتوحيده وصفات كماله فكما تدل أحوال النطفة من مبدئها إلى غايتها على كمال قدرة فاطر الإنسان وبارئه فكذلك تدل على كمال حكمته وعلمه وملكه وأنه الملك الحق المتعالى عن أن يخلقها عبثا ويتركها سدى بعد كمال خلقها وتأمل كيف لما زعم أعداؤه الكافرون أنه لم يأمرهم ولم ينههم على ألسنة رسله وأنه لا يبعثهم للثواب والعقاب كيف كان هذا الزعم منهم قولا بأن خلق السموات والأرض باطل فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} فلما ظن أعداؤه أنه لم يرسل إليهم رسولا ولم يجعل لهم أجلا للقائه كان ذلك ظنا منهم أنه خلق خلقه باطلا ولهذا أثنى تعالى على عباده المتفكرين في مخلوقاته بأن أوصلهم فكرهم فيها إلى شهادتهم بأنه تعالى لم يخلقها باطلا وأنهم لما علموا ذلك وشهدوا به علموا أن خلقها يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه فذكروا في دعائهم هذين الأمرين فقالوا {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} فلما علموا أن خلق السموات والأرض يستلزم الثواب والعقاب تعوذوا بالله من عقابه ثم ذكروا الإيمان الذي أوقعهم عليه فكرهم في خلق السموات والأرض فقالوا {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} فكانت ثمرة فكرهم في خلق السموات والأرض الإقرار به تعالى وبوحدانيته وبدينه وبرسله وبثوابه وعقابه فتوسلوا إليه بإيمانهم الذي هو من أعظم فضله عليهم إلى مغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم وإدخالهم مع الإبرار إلى جنته التي وعدهموها وذلك تمام نعمته عليهم فتوسلوا بإنعامه عليهم أولا إلى إنعامه عليهم آخرا وتلك وسيلة بطاعته إلى كرامته وهو إحدى الوسائل إليه وهي الوسيلة التي أمرهم بها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وأخبر عن خاصة عبادهم أنهم يبتغون الوسيلة إليه إذ يقول تعالى: {أُولَئِكَ

الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} على أن في هاتين الآيتين أسرارا بديعة ذكرتها في كتاب التحفة المكية في بيان الملة الإبراهيمية فأثمر لهم فكرهم الصحيح في خلق السموات والأرض أنه لم يخلقها باطلا وأثمر لهم الإيمان بالله ورسوله ودينه وشرعه وثوابه وعقابه والتوسل إليه بطاعته والإيمان به وهذا الذي ذكرناه في هذا الفصل قطرة من بحر لا ساحل له فلا تستطله فإنه كنز من كنوز العلم لا يلائم كل نفس ولا يقبله كل محروم والله يختص برحمته من يشاء ولنرجع إلى ما كنا بصدده من الكلام في ذكر محاجه أهل الباطل للمسلمين في القبلة ونصر الله لهم بالحجة عليهم وقد رأيت لأبي القاسم السهيلي في الكلام على هذه الآيات فصلا اذكره بلفظه قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم للبراء بن معرور: "قد كنت على قبلة لو صبرت عليها" يعنى لما صلى إلى الكعبة المشرفة قبل الأمر بالتوجه إليها ولم يأمره بالإعادة لأنه كان متأولا. قلت: ونظير هذا أنه لم يأمر من أكل في نهار رمضان بالإعادة لما ربط الخيطين في رجليه وأكل حتى يتبينا له لأجل التأويل. ونظيره أنه لم يأمر أبا ذر بإعادة ما ترك من الصلاة مع الجنابة إذ لم يعرف شرع التيمم للجنب فقال: يا رسول الله إني تصيبني الجنابة فأمكث الشهر والشهرين لا أصلي يعني في البادية فقال: "أين أنت عن التيمم". ونظيره أيضا أنه لم بأمر المستحاضة بالإعادة وقد قالت: إني أستحاض حيضة شديدة وقد منعني الصوم والصلاة فأمرها أن تجلس أيام الحيض ثم تصلي ولم يأمرها بإعادة ما تركت. ونظيره أيضا أنه لم يأمر المسىء في صلاته بإعادة ما تقدم له من الصلوات التي لم تكن صحيحة وإنما بالإعادة في الوقت لأنه لم يؤد فرض وقته مع بقائه بخلاف ما تقدم له. ونظيره أيضا أنه لم يأمر المتمعك في التراب كما تتمعك الدابة لأجل التيمم بالإعادة مع أنه لم يصب فرض التيمم. ونظيره أيضا أنه لم يأمر معاوية بن الحكم السلمي بإعادة الصلاة وقد تكلم فيها بكلام أجنبي ليس من مصلحتها. ونظيره أيضا أنه لم يضمن أسامة قتيله بعد إسلامه بقصاص ولا دية ولا كفارة. ولا تجد هذه النظائر مجموعة في موضع فالتأويل والاجتهاد في إصابة الحق منع في هذه المواضع من

الإعادة والتضمين ثبوت الأحكام في حق العبد. وقاعدة هذه الباب أن الأحكام إنما تثبت في حق العبد بعد بلوغه هو وبلوغها إليه فكما لا يترتب في حقه قبل بلوغه وهو كذلك لا يترتب في حقه قبل بلوغها إليه وهذا مجمع عليه في الحدود أنها لا تقاوم إلا على من بلغه تحريم أسبابها وما ذكرناه من النظائر يدل على ثبوت ذلك في العبادات والحدود ويدل عليه أيضا في المعاملات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإمرهم تعالى أن يتركوا ما بقي من الربا وهو ما لم يقبض ولم يأمرهم برد المقبوض لأنهم قبضوه قبل التحريم فأقرهم عليه بل أهل قبا صلوا إلي القبلة المنسوخة بعد بطلانها ولم يعيدوا ما صلوا بل استداروا في صلاتهم واتموها لأن الحكم لم يثبت في حقهم إلا بعد بلوغه إليهم. وفي هذا الأصل ثلاثة أقوال للفقهاء وهي لأصحاب أحمد هذا أحدها: وهو أصحها وهو اختيار شيخنا رضي الله عنه. الثاني: أن الخطاب إذا بلغ طائفة ترتب في حق غيرهم ولزمهم كما لزم من بلغه وهذا اختيار كثير من اصحاب الشافعي وغيرهم. الثالث: الفرق بين الخطاب الابتدائي والخطاب الناسخ فالخطاب الابتدائي يعم ثبوته من بلغه وغيره والخطاب الناسخ لا يترتب في حق المخاطب إلا بعد بلوغه والفرق بين الخطابين أنه في الناسخ مستصحب لحكم مشروع مأمور به بخلاف الخطاب الابتدائي ذكره القاضي أبو يعلي في بعض كتبه ونصوص القرآن والسنة تشهد للقول الأول وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة وإنما أشرنا إليها إشارة قال أبو القاسم: "وفي الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس وهو قول ابن عباس يعني قوله للبراء: "لقد كنت على قبلة" وقالت طائفة: "ما صلى إلى بيت المقدس إلا منذ قدم المدينة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا فعلى هذا يكون في القبلة نسخان نسخ سنة بسنة ونسخ سنة بقرآن وقد بين حديث ابن عباس منشأ الخلاف في هذه المسألة فروى عنه من طرق صحاح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بمكة استقبل بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس" فلما كان يتحرى القبلتين جميعا لم يبن توجهه إلى بيت

المقدس للناس حتى خرج من مكة ولذلك والله أعلم قال الله تعالى في الآية الناسخة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي من أي جهة جئت إلى الصلاة وخرجت إليها فاستقبل الكعبة كنت متسدبرا بيت المقدس أو لم تكن لأنه كان بمكة يتحرى في استقباله بيت المقدس أن تكون الكعبة بين يديه. قال: "تدبر قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ولم يقل حيث ما خرجتم وذلك لأنه كان إمام المسلمين فكان يخرج إليهم في كل صلاة ليصلي بهم وكان ذلك واجبا عليه إذ كان الإمام المقتدي به فأفاد ذكر الخروج في خاصته هذا المعنى ولم يكن حكم غيره هكذا يقتضي الخروج ولا سيما النساء ومن لا جماعة عليه". قلت: ويظهر في هذا معنى آخر وهو أن قوله {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} خطاب عام له ولأمته يقتضي أمرهم بالتوجه إلى المسجد الحرام في أي موضع كانوا من الأرض وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} خطاب بصيغة الإفراد والمراد هو الأمة كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} ونظائره وهو يفيد الأمر باستقبالها من اي جهة ومكان خرج منه وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} يفيد الأمر باستقبالها في أي موضع استقر فيه وهو تعالى لم يقيد الخروج بغاية بل أطلق غايته كما عم مبدأة فمن حيث خرج إلى أي مخرج كان من صلاة أو غزو أو حج أو غير ذلك فهو مأمور باستقبال المسجد الحرام هو والأمة وفي أي بقعة كانوا من الأرض فهو مأمور هو والأمة باستقباله فتناولت الآيتان أحوال الأمة كلها في مبدأ تنقلهم من حيث خرجوا وفي غايته إلى حيث أنتهوا وفي حال اسقرارهم حيث ما كانوا فأفاد ذلك عموم الأمر بالاستقبال في الأحوال الثلاث التي لا ينفك منها العبد فتأمل هذا المعنى ووازن بينه وبين ما أبداه أبو القاسم يتبين لك الرجحان والله أعلم بما أراد من كلامه وإنما هو كد أفهام أمثالنا من القاصرين فقوله من حيث خرجت يتناول مبدأ الخروج وغايته له وللأمة

وكان أولى بهذا الخطاب لأن مبدأ التوجه كان على يديه وكان شديد الحرص على التحويل. وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} يتناول أماكن الكون كلها له وللأمة وكانوا أولى بهذا الخطاب لتعدد أماكن أكوانهم وكثرتها بحسب كثرتهم واختلاف بلادهم وأقطارهم واستدارتها حول الكعبة شرقا وغربا ويمنا وعراقا فكان الأحسن في حقهم أن يقال لهم وحيث ما كنتم أي من أقطار الأرض في شرقها وغربها وسائر جهاتها ولا ريب أنهم أدخل في هذا الخطاب منه. فتأمل هذه النكت البديعة فلعلك لا تظفر بها في موضع غير هذا والله أعلم. قال أبو القاسم: "وكرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلي بيت الحرام في ثلاث آيات لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس اليهود لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم وأهل الريب والنفاق اشتد إنكارهم له لأنه كان أول نسخ نزل وكفار قريش قالوا ندم محمد على فراق ديننا فسيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل وقد فارق قبله إبراهيم وإسماعيل وآثر عليها قبلة اليهود فقال الله له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} على الاستثناء المنقطع أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون وقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الذين شكوا وامتروا ومعنى الحق من ربك أي الذي أمرتك به من التوجه إلى بيت الحرام هوالحق الذي كان عليه الأنبياء قبلك فلا تمتر في ذلك فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} وقال: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء ثم ساق من طريق أبي داود في كتاب الناسخ والمنسوخ". قال حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة عن يونس عن ابن شهاب قال: "كان سليمان بن عبد الملك لا يعظم إيليا كما يعظمها أهل بيته قال: فسرت معه وهو ولي عهد قال: ومعه خالد بن يزيد بن معاوية فقال سليمان وهو جالس فيه: "والله إن في هذه القبلة التي صلى إليها

المسلمون والنصارى لعجبا كذا رأيته. والصواب اليهود قال خالد بن يزيد: "أما والله إني لأقرأ الكتاب الذي انزله الله على محمد فلم تجدها اليهود في الكتاب الذي أنزله الله عليهم ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة فلما غضب الله عز وجل على بني إسرائيل رفعه فكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشاورة منهم". وروى أبو داود أيضا أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة فقال أبو العالية: "إن موسى كان يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام فكانت الكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه وقال اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته الكعبة". انتهى. قلت: وقد تضمن هذا الفصل فائدة جليلة وهي أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي والتوقيف من الله بل كان عن مشورة منهم واجتهاد أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق أبدا وهم مقرون بذلك ومقرون أن قبله المسيح كانت قبلة بني إسرائيل وهي الصخرة وإنما وضع لهم شيوخهم وأسلافهم هذه القبلة وهم يعتذرون عنهم بأن المسيح فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال المشرق على لسان رسوله أبدا والمسلمون شاهدون عليهم بذلك وأما قبلة اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة. وأما السامرة فإنهم يصلون إلى طور لهم بأرض الشام ويعظمونه ويحجون إليه ورأيته أنا وهو في بلد نابلس وناظرت فضلاءهم في استقباله وقلت هو قبلة باطلة مبتدعة فقال مشار إليه في دينهم هذه هي القبلة الصحيحة واليهود أخطأوها لأن الله تعالى أمر في التوراة باستقباله عينا ثم ذكر نصا يزعمه من التوراة في استقباله فقلت له هذا خطأ قطعا على التوراة لأنها إنما أنزلت على بني إسرائيل فهم المخاطبون بها وأنتم فرع عليهم فيها وإنما

تلقيتموها عنهم وهذا النص ليس في التوراة التي بأيديهم وأنا رأيتها وليس هذا فيها فقال لي: صدقت إنما هو في توراتنا خاصة قلت: له فمن المحال أن يكون أصحاب التوراة المخاطبون بها وهم الذين تلقوها عن الكليم وهم متفرقون في أقطار الأرض قد كتموا هذا النص وأزالوه وبدلوا القبلة التي أمروا بها وحفظتموها أنتم وحفظتم النص بها فلم يرجع إلى الجواب. قلت وهذا كله مما يقوى أن يكون الضمير في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} راجعا إلى كل أي هو موليها وجهه ليس المراد أن الله موليه إياها لوجوه هذا أحدها. الثاني: أنه لم يتقدم لاسمه تعالى ذكر يعود الضمير عليه في الآية وإن كان مذكورا فيما قبلها ففي إعادة الضمير إليه تعالى دون كل رد الضمير إلى غير من هو أولى به ومنعه من القريب منه اللاحق به. الثالث: أنه لو عاد الضمير عليه تعالى لقال هو موليه إياها هذا وجه الكلام كما قال تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} فوجه الكلام أن يقال ولاه القبلة لا يقال ولى القبلة إياه فتأمله. وقول أبي القاسم أنه تعالى كرر ذكر الأمر باستقبالها ثلاثا ردا على الطوائف الثلاث ليس بالبين ولا في اللفظ إشعار بذلك والذي يظهر فيه إنه أمر به في كل سياق لمعنى يقتضيه فذكره أول مرة ابتداء للحكم ونسخا للاستقبال الأول فقال {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ثم ذكر أن أهل الكتاب يعلمون أن هذا هو الحق من ربهم حيث يجدونه في كتبهم كذلك ثم أخبر عن عبادتهم وكفرهم وأنه لو أتاهم بكل آية ما تبعوا قبلته ولا هو أيضا بتابع قبلتهم ولا بعضهم بتابع قبلة بعض ثم حذره من اتباع أهوائهم ثم كرر معرفة أهل الكتاب به كمعرفتهم بأبنائهم وأنهم ليكتمون الحق عن علم ثم أخبر أن هذا هو الحق من ربه فلا يلحقه فيه امتراء ثم أخبر أن لكل من الأمم وجهة هو مستقبلها وموليها وجهة فاستبقوا أنتم أيها المؤمنون الخيرات ثم أعاد الأمر باستقبالها من حيث خرج في ضمن هذا السياق الزائد على مجرد النسخ ثم أعاد الأمر به غير

مكرر له تكررا محضا بل في ضمنه أمرهم باستقبالها حيثما كانوا كما أمرهم باستقبالها أولا حيثما كانوا عند النسخ وابتداء شرع لحكم فأمرهم باستقبالها حيثما كانوا عند شرع الحكم وابتدائه وبعد المحاجة والمخاصمة والحكم لهم وبيان عنادهم ومخالفتهم مع علمهم فذكر الأمر بذلك في كل موطن لاقتضاء السياق له فتامله والله أعلم. وقوله: (إن الاستثناء في قوله {إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} منهم منقطع) قد قاله أكثر الناس ووجهة أن الظالم لا حجة له فاستثناؤه مما ذكر قبله منقطع وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "ليس الاستثناء بمنقطع بل هو متصل على بابه وإنما أوجب لهم أن حكموا بانقطاعه حيث ظنوا أن الحجة ههنا المراد بها الحجة الصحيحة الحق والحجة في كتاب الله يراد بها نوعان: أحدهما: الحجة الحق الصحيحة كقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} . ويراد بها مطلق الاحتجاج بحق أو بباطل كقوله: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله} وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} وقوله: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وإذا كانت الحجة إسما لما يحتج به من الحق أو باطل صح استثناء حجة الظالمين من قوله: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} وهذا في غاية التحقيق والمعنى أن الظالمين يحتجون عليك بالحجة الباطلة الداحضة فلا تخشوهم واخشوني. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} فهذه مناظرة حكاها الله بين المسلمين والكفار فإن الكفار لجأوا إلى تقليد الآباء وظنوا أنه منجيهم لإحسانهم ظنهم بهم فحكم الله بينهم بقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} وفي موضع آخر {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} وفي موضع آخر {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} فأخبر عن بطلان هذه الحجة وأنها لا تنجني من عذاب الله تعالى لأنها تقليد من ليس عنده علم ولا

هدى من الله والمعنى ولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير يقلدونهم ولو كانوا لا علم عندهم ولا هدى يقلدونهم أيضا وهذا شأن من لا غرض له في الهدى ولا في اتباع الحق إن غرضه بالتقليد إلا دفع الحق والحجة إذا لزمته لأنه لو كان مقصوده الحق لاتبعه إذا ظهر له وقد جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم فلو كنتم ممن يتبع الحق لأتبعتم ما جئتكم به فأنتم لم تقلدوا الآباء لكونهم على حق فقد جئتكم أهدى مما وجدتموهم عليه وإنما جعلتم تقليدهم جنة لكم تدفعون بها الحق الذي جئتكم به. فائدة: ليس من شرط الدليل اندراجه تحت قضية كلية تكن بها جزءا من قياس شمولي ولا استلزامه نظيرا يكون به قياس تمثيل بل يجوز كونه معينا مستلزما لثبوت معين وإنما شرطه اللزوم فيما كان بينهما تلازم شرعا أو عقلا أو عادة استدل فيه بثبوت الملزوم على ثبوت لازمه وبنفي اللازم على نفي ملزومه فكل ملزوم دليل على لازمه والعلم بدلالته متوقف على العلم به وعلى العلم بلزومه ولهذا كانت أدلة التوحيد والمعاد والنبوات التي في القرآن آيات ودلالات معينات مستلزمة لمدلولها بنفسها من غير احتياج إلى اندراجها تحت قضية كلية فالمخلوقات جميعها وما تضمنته من التخصيصات والحكم والغايات مستلزمة لخالق سبحانه عينا بخلاف ما يزعم كثير من النظار أنه دليل لقولهم كل ممكن مفتقر إلى واجب وكل محدث مفتقر إلى محدث فإن هذه القضية الكلية بعد تعبهم في تقريرها ودفع ما يعأرضها لا يدل على مطلوب معين وخالق معين إنما يدل على واجب ومحدث ما وأما آياته سبحانه وأدلة توحيده وما أخبر به من المعاد وما نصته من الأدلة لصدق رسله فلا يفتقر

في كونها آيات إلى قياس شمولي ولا تمثيلي وهي مستلزمة لمدلولها عينا والعلم بها مستلزم للعلم بالمدلول لا يختلف عنه فانتقال الذهن منها إلى المدلول انتقال بين في غاية البيان وهو كانتقال الذهن من رؤية الدخان إلى أن تحته نارا ومن رؤية الجسم المتحرك قسرا إلى ان له محركا ومن رؤية شعاع الشمس إلى العلم بطلوعها ونظائر ذلك فالعلم بمفردات هذه القضايا الكلية أسبق إلى الذهن والحركة من القضية الكلية بل لا تتوقف دلالتها على القضية الكلية البته وعلم العقل بمدلول الآية المعينة الحسية كعلم الحس بتلك الآية لا فرق في العلم بينهما إلا أن الآية تدرك بالحس ومدلولها بالعقل فعلم العقل بثبوت التوحيد والمعاد والنبوات وجزمه بها كجزم الحس بما يشاهده من آياتها المشهودة. فائدة: الفعل بالنسبة إلى التكليف نوعان: أحدهما: اتفق الناس على جوازه ووقوعه واختلفوا في نسبة إطلاق القول عليه بأنه لا يطاق. والثاني: اتفق الناس على أنه لا يطاق وتنازعوا في جواز الأمر به ولم يتنازعوا في عدم وقوعه ولم يثبت بحمد الله تعالى أمر اتفق المسلمون على أنه لا يطاق وقالوا إنه يكلف به العبد ولا اتفق المسلمون على فعل كلف به العبد وأطلقوا القول عليه بأنه لا يطاق. وللمسألة ثلاثة مآخذ: أحدها: أن الاستطاعة مع الفعل أو قبله والصواب أنها نوعان نوع قبله وهي المصححة للتكليف التي هي شرط فيه ونوع مقارن له فليست شرطا في التكليف. المأخذ الثاني: إن تعلق علم الله سبحانه بعدم وقوع الفعل هل يخرجه عن كونه مقدورا للعبد فمن أخرجه عن كونه مقدورا قال الأمر به أمر بما لا يطاق ومن لم يخرجه عن كونه مقدورا لم يطلق عليه ذلك والصواب أنه لا يخرجه عن كونه مقدروا

القدرة المصححة التي هي مناط التكليف وشرط فيه وإن أخرجه عن كونه مقدورا القدرة الموجبة للفعل المقارنة له. المأخذ الثالث: أن ما تعلق علم الله بأنه لا يكون من أفعال المكلفين نوعان: أحدهما: أن يتعلق بأنه لا يكون لعدم القدرة عليه فهذا لا يكون ممكنا مقدورا ولا مكلفا به. والثاني: ما تعلق بأنه لا يكون لعدم إرادة العبد له فهذا لا يخرج بهذا العلم عن الإمكان ولا عن جواز الأمر به ووقوعه. المأخذ الرابع: وهو من أدقها وأغمضها وهو أن علم الله أنه لا يكون لعدم مشيئته له ولو شاء للعبد لفعله هل يخرجه عدم مشيئة الرب تعالى له عن كونه مقدورا ويجعل الأمر به أمرا بما لا يطاق. والصواب أن عدم مشيئة الرب له لا يخرجه عن كونه ممكنا في نفسه كما أن عدم مشيئته لما هو قادر عليه من أفعاله لا يخرجه عن كونه مقدورا له وإنما يخرج الفعل عن الإمكان إذا كان بحيث لو أراده الفاعل لم يمكنه فعله وأما امتناعه لعدم مشيئته فلا يخرجه عن كونه مقدورا ويجعله محالا. فإن قيل هو موقوف على مشيئة الله وهي غير مقدورة للعبد والموقوف على غير المقدور غير مقدور قيل إنما يكون غير مقدور إذا كان بحيث لو أراده العبد لم يقدر عليه فيكون عدم وقوعه لعدم قدرة العبد عليه فأما إذا كان عدم وقوعه لعدم مشيئته له فهذا لا يخرجه عن كونه مقدورا له وإن كانت مشيئته موقوفة على مشيئة الرب تعالى كما أن عدم وقوع الفعل من الله لعدم مشيئته له لا يخرجه عن كونه مقدورا له وإن كانت مشيئته تعالى موقوفة على غيرها من صفاته كعلمه وحكمته فالنزاع في هذا الأصل يتنوع إلى النظر إلى المأمور به وإلى النظر إلى جواز الأمر به ووقوعه. ومن جعل القسمين واحدا وادعى جواز الأمر به مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي يظنها مما لا يطاق وقاس عليها النوع الذي اتفق الناس على أنه لا يطاق وأن وقوع ذلك النوع يستلزم لوقوع القسم المتفق على أنه لا يطاق أو على جوازه فقد أخطأ خطأ بينا فإن من قاس الصحيح المتمكن من الفعل القادر عليه الذي لو أراده لفعله على العاجز عن الفعل إما لاستحالته في نفسه أو لعجزه عنه لجامع ما يشتركان فيه من كون الاستطاعة مع الفعل ومن تعلق علم الرب تعالى بعدم وقوع الفعل منهما فقد جمع بين ما علم

الفرق بينهما عقلا وشرعا وحسا وهذا منافسد القياس وأبطله والعبد مأمور من جهة الرب تعالى ومنهي. وعند هؤلاء أن أوامره تكليف لما يطاق فهي غير مقدورة للعبد وهو مجبور على ما فعله من نواهيه فتركها غير مقدور له فلا هو قادر على فعل ما أمر به ولا على ترك ما ارتكبه مما نهي عنه بل هو مجبر في باب النواهي مكلف بما لا يطيقه في باب الأوامر وبإزاء هؤلاء القدرية الذين يقولون إن فعل العبد لا يتوقف على مشيئة الله ولا هو مقدور له سبحانه وأنه يفعله بدون مشيئة الله لفعله وتركه بدون مشيئة الله لتركه فهو الذي جعل نفسه مؤمنا وكافرا وبرا وفاجرا ومطيعا وعاصيا والله لم يجعله كذلك ولا شاء منه أفعاله ولا خلقها ولا يوصف بالقدرة عليها. وقول هؤلاء شر من قول أولئك من وجه وقول أولئك شر من قول هؤلاء من وجه وكلاهما ناكب عن الحق حائد عن الصراط المستقيم. فائدة: قوله تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} هي جمع مدينة وفيها قولان: أحدهما: أنها فعيله واشتقاقها من مدن وعلى هذا فتهمز لأنها فعائل كعقائل وظرائف وابه. الثاني: أنها مفعلة واشتقاقها من دان يدين وأصلها مديونة مفعولة من دان أي مملوكة مذللة لملكها منقادة له وفعل بها ما فعل بمبيوع حتى صار مبيعا فعند الخليل أنك ألقيت ضمه الياء على الباء فسكنت الياء التي هي عين الفعل وبعدها واو مفعول وهي ساكنة فاجتمع ساكنان فحذفت واو مفعول لأنها زائدة فهي أولى بالحذف من العين. قال أبو الحسن الأخفش: "المحذوف عين الفعل والباقية هي واو

مفعول وإنما صارت ياء لأنهم لما ألقوا ضمة الياء على الباء انضمت الباء وبعدها ياء ساكنة فأبدلت الضمة كسرة للياء التي بعدها ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنه مع الواو واو مفعول بعد أن ألزمت الفاء الكسرة التي حدثت لأجل الياء فصادفت واو مفعول ساكنة فقلبتها ياء ورجح قول الخليل بأنهم قالوا ماء مشيب وارض مميت عليها إي ممات عليها وغار منيل وهو الذي ينال ما فيه من النوال. وأصل هذه الكلمات مشيوب ومميوت ومنيول فحذفوا واو مفعول وبقوا عين الفعل ولا يجوز أن تكون المحذوفة اللام وواو مفعول هي الباقية المنقلبة ياء لأن واو مفعول إنما تقلب ياء إذا اعتلت لام الفعل كمرمى ومقضي مقضي عليه وإلا فإذا كانت لام الفعل صحيحة بقيت واو مفعول على حالها كمضروب ومقتول ورجح قول الأخفش بأن واو مفعول جاءت لمعنى فحذفها مخل بما جاءت لإجله ألا ترى أنهم يقولون مررت بقاض يحذفون الياء الأصلية ويبقون التنوين لأنه جاء لمعنى. ورجح أيضا بأن العين قد أعلت في قال وباع وقيل وبيع ومبيع ومقول فلما اعتلت بالإسكان والقلب اعتلت بالحذف وواو مفعول لم ينقلب من شيء ولم يعتل في الفعل فكان إبقاؤها وحذف المعتل أوجب وايضا فإن العين في مقول ومبيع حذفت في قولهم قل وبع فلما حذفت ههنا كانت أولى بالحذف في مقول ومبيع ولمن نصر قول الخليل أن يقول الساكنان إذا التقيا في كلمة واحدة حرك الثاني منهما فكذلك إذا حذف أحد الساكنين من كلمة يحذف الآخر منهما. ولمن نصر قول الأخفش أن يقول هذا الدليل نقلبه عليكم فنقول: "إذا التقى الساكنان في كلمة واحدة حذف أولهما كخف وقل وبع وقياس الحذف على الحذف أقرب من قياس الحذف على الحركة وأيضا فكما اعتلت العين بالقلب مع ألف فاعل كقائم وقائل اعتلت بالحذف مع واو مفعول". قالت الخليلية: "الميم في أول مفعول دالة على أنه اسم مفعول فتبقى الواو زائدة محضة فتكون أولى بالحذف من الحرف الأصلي". قالت الأخفشية: "الميم لا تستقل بالدلالة على المفعولية فإن مبيعا يشبه مسيرا أو مقيلا من

المصادر ولا يتميزان إلا بواو مفعول فلا سبيل إلى حذفها فصار في المدينة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها فعلية من مدن. والثاني: مفعولة وعينها محذوفة. والثالث: مفعلة وواو المفعول محذوفة فإن كانت المدائن فعائل تعين همزها كصحائف لأن المدة وقعت بعد ألف الجمع وإن كانت فهي مفعلة كمعيشة فلا تهمز لأنها ليست بمدة. فإن قلت فما تقول في قراءة من قرأ معائش بالهمز وهي جمع معيشة وياؤها ليست زائدة بل أصلها الحركة إما مفعلة وإما مفعلة وكذلك ما تقول في همزهم مصائب وهي جمع مصيبة. قلت: أما معائش فكدرت عيش أهل التصريف حتى قال فيها أبو عثمان في تصريفه: "وأما قراءة أهل المدينة معائش بالهمز فهي خطأ فلا يلتفت إليها فإنما أخذت عن نافع بن أبي نعيم ولم يكن يدري ما العربية وله أحرف يقرؤها لحنا نحوا من هذا وأما مصائب فلقد أصيبوا منها بمصائب". قال المازني: "وقد قالت العرب مصائب فهمزوا وهو من الغلط قالوا حلاب السويق وكأنهم توهموا أن مصيبة فعيلة فهمزوها حتى جمعوها كما همزوا شقائق وإنما مصيبة مفعلة من أصاب يصيب فأصلها مصوبة فألقوا حركة الواو علىالصاد فانكسرت الصاد وبعدها واو ساكنة فأبدلت ياء وأكثر العرب يقول: مصاوب فيجيء بها على القياس وما ينبغي فيقال: ومن المصائب تخطئه العرب وأهل المدينة ونحن إنما نجهد أنفسنا في استخراج المقاييس لنوافقهم فيما تكلموا به فإذا كان ما ثبت عنهم خطأ ولحنا وخالفناهم فيه لم نكن تابعين لهم ولا قاصدين لنهج كلامهم ولا ريب أن المهموز في هذا الجمع هو ما كانت حروف العلة في واحدة مدة زائدة كصحيفة ورسالة وعجوز فإذا همزوا ما كان حرف العلة فيه اصليا في بعض المواضع تشبيها له بما هو فيه بمدة زائدة فأي خطأ يلزمهم وأي غلط يسجل به عليهم وطالما يخرجون الشيء من كلامهم عن أصله لغرض ما من تشبيه أو تخفيف أو تنبيه على أنه كان ينبغي أن يكون كذا ولأغراض عديدة أفتراهم لما صححوا استحوذ فصححوا ما حقه الإعلال كانوا مخطئين. وكذلك لما صححوا استنوق

فهلا قلتم إن القوم لما القوا الهمزة بعد ألف مفاعل فيها حرف العلة مدة في واحدة لم يستنكروها في معايش ومصايب لأن الموضع موضع همز فليست الهمزة بشديدة الغربة في هذا الموضع ويا للعجب كم في اللغة من قلب وأبدال وحذف غير مقيس بل هو مسموع سماعا مجردا ولو تكلم بغيره لكان غلطا وخطأوإن كان مقتضى القياس. وقد ذكر ابن جني من الأمثلة التي زعم أنها وقعت غلطا في كلامهم ثم قال وإنما يجوز مثل هذا لغلط عليهم لما يستهويهم من الشبه لأنهم ليست لهم قياسات يعتصمون بها وإنما يخلدون إلى بدائعهم وأين هذا من كلام الإمام المقدم سيبويه حيث يقول وليس شيء مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها وهذا من النحاة شبيه من رد الجهمية نصوص الصفات لمخالفتها أقيستهم ومن رد أحاديث الأحكام عند مخالفتها الرأي والمقصود بالأقيسة والاستنباطات فهم المنقول لا تخطئته والله الموفق. فائدة: استطاع استفعل من طاع يطوع ولم ينطق به وإنما نطقوا بالرباعي منه فيقال أطاعة وقالوا طوع له أي حسنة وزينة وكأنه جعل نفسه مطيعة لداعية فالهمزة من أطاعه همزة التعدية والنقل من اللزوم إلىالتعدي والتضعيف في طوع لكونه في معنى حسن وزين وأما السين والتاء في استطاع فإما أن تكون للوجود أي وجدته طوعا لي كاستجدته أي وجدته جيدا واستصوبت كلامه أي وجدته صوابا واستعظمته أي وجدته عظيما وأما أن تكون للطلب أي طلبت أن يطيعني إذا امرته ولا يستعصي علي بل يكون طوع قدرتي وقد يأتي هذا البناء بمعنى فعل كقر واستقر ومر واستمر وقد يأتي بمعنى الصيرورة كاستنوق البعير واستحجر

الطين وبابهما الفعل اللازم وقد يأتي موافق تفعل كتعظم واستعظم وأما استعتبت فهو للطلب أي طلب الاعتاب فهو لطلب مصدر الرباعي الذي هو أعتب أي ازال عتبه لا لطلب الثلاثي الذي هو العتب فقوله تعالى وإن يستعبوا فما هم من المعتبين أي إن يطلبوا إعتابنا وإزالة عتبنا عليهم ويقال عتب عليه إذا أعرض عنه وغضب عليه ثم يقال استعتب السيد عبده أي طلب منه أن يزيل عتب نفسه عنه بعوده إلى رضاه فأعتبته عبده اي أزال عتبه بطاعته ويقال استعتب العبد سيده أي طلب منه أن يزيل غضبه وعتبه عنه فأتبعه سيده أي فأزال عتب نفسه عنه وعلى هذا فقوله تعالى وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين أي وإن يطلبوا إعتابنا وهو إزالة عتبنا عنهم فما هم من المزال عتبهم لأن الآخرة لا تقال فيها عثراتهم ولا يقبل فيها توبتهم. وقوله: {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يطلب منهم إعتابنا وإعتبابه تعالى إزالة عتبة بالتوبة والعمل الصالح فلا يطلب منهم يوم القيامة أن يعتبوا ربهم فيزيلوا عتبه بطاعته واتباع رسله وكذلك قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الطائف: "لك العتبى" هو اسم من الإعتاب لا من العتب أي أنت المطلوب إعتابه ولك علي أن أعتبك وأرضيك بطاعتك فافعل ما ترضى به عني وما يزول به عتبك علي فالعتب منه على عبده والعتبي والإعتاب له من عبده فههنا أربعة أمور: الأول: العتب وهو من الله تعالى فإن العبد لا يعتب على ربه فإنه المحسن العادل فلا يتصور أن يعتب عليه عبده إلا والعبد ظالم ومن ظن من المفسرين خلاف ذلك غلط أقبح غلط. الثاني: الإعتاب وهو من الله ومن العبد باعتبارين فإعتاب الله عبده إزالة عتب نفسه عن عبده وإعتاب العبد ربه إزالة عتب الله عليه والعبد لا قدرة له على ذلك إلا بتعاطي الأسباب التي يزول بها عتب الله تعالى عليه. الثالث: استعتاب وهو من الله أيضا ومن العبد بالاعتبارين فالله تعالى يستعتب عباده أي يطلب منهم أن يعتبوه ويزيلوا عتبة عليهم ومنه قول ابن مسعود وقد وقعت الزلزلة بالكوفة إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه والعبد يستعتب ربه أي يطلب

منه إزالة عتبه. الرابع: العتبي وهي اسم الإعتاب فاشدد يديك بهذا الفضل الذي يعصمك من تخبيط كثير من المفسدين لهذه المواضع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل له" فأما محسن فلعله أن يزداد وإما مسيء فلعله أن يستعتب أي يطلب من ربه إعتابه إياه بتوفيقه للتوبة وقبولها منه فيزول عتبة عليه، والاستعتاب نظير الاسترضاء وهو طلب الرضى وفي الأثر "إن العبد ليسترضي ربه فيرضى عنه" وإن الله ليسترضي فيرضى لكن الاسترضاء فوق الاستعتاب فإنه طلب رضوان الله تعالى والاستعتاب طلب إزالة غضبه وعتبه وهما متلازمان. رجعنا إلى (استطاع) وفيها خمس لغات هذه إحداها. الثانية: اسطاع بحذف تاء استفعال تخفيفا ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} . الثالثة: اصطاع بالصاد وفيه أمران أحدهما حذف التاء والثاني إبدل السين صادا لأجل مجاورتها الطاء. الرابعة: اسطاع بإدغام التاء في الطاء وهو إدغام على خلاف القياس لأن فيه التقاء الساكنين على غير حدهما. الخامسة: اسطاع بقتح الهمزة وقطعها وهي أشكلها فقال سيبويه: "السين عوض عن ذهاب حركة العين لأن أصله أطوع فنقلت فتحه الواو إلى الطاء ثم أعل بقلب واوه ألفا لتحركها أصلا وانتفاح ماقبلها لفظا فزيدت السين عوضا من ذهاب حركة السين". وتعقب المبرد هذا على سيبويه وقال: "إنما يعوض من الشيء إذا فقد وذهب فأما إذا كان موجودا في اللفظ فلا وحركة العين منقولة إلى الفاء فلم تعدم". وأجيب عن هذا بأن العين لما سكنت وهنت وتهيأت للحذف عند سكون اللام نحو لم يطع وأطعت فلو بقيت حركتها فيها لما تطرق إليها الحذف بل كنت تقول لم يطوع وأطوعت فزيدت السين ليكون عوضا من هذا الإعلال المتضمن لثلاثة أمور نقل حركة المتحرك ووهنه بالسكون وتعريضه للحذف عند سكون ما بعده فجبروا هذا الإعلال هذا بزيادة السين في أوله سواء قولهم اهراق فإن أصله أراق فقلبت عينه ألفا بعد تسكينها فصارت عرضة للحذف كقولك لم يرق وارقت فأعل بالنقل والقلب والحذف فعرضت الهاء في أوله جبرا لإعلاله

وأما أراق فعلى الأصل وأما هراق فعلى أبدال الهمزة هاء لمجاورتها في المخرج ونظيره أيضا قولهم اهراح في أراح يريح هذا قول البصريين" وقال الفراء: "أصله استطاع ثم حذفوا التاء فعرضوا منها فتح الهمزة وقطعها وهذا الذي قاله اقل عملا وأبعد من التكلف". ورد عليه بأنهم قالوا (اسطاع) بكسر الهمزة ووصلها مع حذف التاء فلو كان حذف التاء يوجب الفتح والقطع لما عدلوا عنه وهذا ظلم للفراء فإنه لم يدع لزوم ذلك وإنما ذكر ان هذا الحذف مسوغ للفتح والقطع ويقال ولو كان ما ذكرتم من الإعلال مسوغ لزيادة السين والهاء طراد في أقام وأنام وأجاد وأقال وما لا يحصى وليس نقضكم عليه بأقل من نقوضه فعلم أن هذه مسوغات لا موجبات". فائدة: يقال مجنون ومغبون ومهروع مخفوع ومعتوه وممتوه وممته وممسوس وبه لمص ومصاب في عقله فهذه عشرة ألفاظ وأما مخروع فصحفها العامة من مهروع. فائدة: دلالة الاقتران تظهر قوتها في موطن وضعفها في موطن وتساوى الأمرين في موطن فإذا جمع المقترنين لفظ اشتركا في إطلاقه وافتراقا في تفصيله قويت الدلالة كقوله: "الفطرة خمس " وفي مسلم: "عشر من الفطرة" ثم فصلها فإذا جعلت الفطرة بمعنى السنة والسنة هي المقابلة للواجب ضعف الاستدلال بالحديث على وجوب الختان. لكن تلك

المقدمتان ممنوعتان فليست الفطرة بمرادفة للسنة ولا السنة في لفظ النبي صلى الله عليه وسلم هي المقابلة للواجب بل ذلك إصطلاح وضعي لا يحمل عليه كلام الشارع ومن ذلك قوله: "على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة ويستاك ويمس من طيب بيته" فقد اشترك الثلاثة في اطلاق لفظ الحق عليه إذا كان حقا مستحبا في اثنين منها كان في الثالث مستحبا وأبين من هذا قوله: " وبالغ في الاستنشاق " فإن اللفظ تضمن الاستنشاق والمبالغة فإذا كان أحدها مستحبا فالآخر كذلك. ولقائل أن يقول اشتراك المستحب والمفروض في لفظ عام لا يقتضي تساويها لا لغة ولا عرفا فإنهما إذا اشتركا في شيء لم يمتنع افتراقهما في شيء فإن المختلفات تشترك في لازم واحد فيشتركان في أمر عام ويفترقان بخواصهما فالاقتران كما لا يثبت لأحدهما خاصية لا ينفيها عنه فتأمله وإنما يثبت لهما الاشتراك في أمر عام فقط وأما الموضع الذي يظهر ضعف دلالة الاقتران فيه فعند تعدد الجمل واستقلال كل واحدة منهما بنفسها كقوله: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة " وقوله: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" فالتعرض لدلالة الاقتران ههنا في غاية الضغف والفساد فإن كل جملة مفيدة لمعناها وحكمها وسببها وغايتها منفردة به عن الجملة الأخرى واشتراكهما في مجرد العطف لا يوجب اشتراكهما فيما وراءه وإنما يشترك حرف العطف في المعنى إذا عطف مفردا على مفرد فإنه يشترك بينهما في العامل كقام زيد وعمرو وأما نحو اقتل زيدا وأكرم بكرا فلا اشتراك في معنى وأبعد من ذلك ظن من ظن أن تقييد الجملة السابقة بظرف أو حال أو مجرور يستلزم تقييد الثانية وهذا دعوى مجردة بل فاسدة قطعا. ومن تأمل تراكيب الكلام العربي جزم ببطلانها وأما موطن التساوى فحيث كان العطف ظاهرا في التسوية وقصد المتكلم ظاهرا في الفرق فيتعارض ظاهر اللفظ وظاهر القصد فإن غلب ظهور أحدهما اعتبر وإلا طلب الترجيح والله أعلم.

فائدة: رضي لامه واو من الرضوان وانقلبت واوه ياء لانكسار ما قبلها وقالوا في الماضي المسند إلى اثنين رضيا بالياء وجاءوا إلى المضارع فقالوا يرضيان بالياء والقياس يرضوان إذ لا موجب لقلب الواو ياء ولكن حملوا يرضيان على رضيا كما حملوا أعطيا على يعطيان ولم يقولوا اعطوا وذلك ليجري الباب على سنن واحد ولا يختلف عليهم. فائدة: إنما امتنعوا من النطق بأفعال ويله وويحه وويسه وويبه لأنه لفيف مقرون فلو وضعوا له فعلا لوقعت الواو بعد حرف المضارعة وذلك يوجب إعلالها بالحذف ك يعد ويزن ويثق ووقعت العين وهي حرفة علة أيضا ثالثة وذلك يوجب نقل حركتها إلى الساكن قبلها وإعلالها بالإسكان كيبيع ويحيد فيتوالي عليهم إعلالات في كلمة واحدة وهم لا يسمحون بذلك فرفضوا الفعل رأسا. فائدة: قوله تعالى لإبليس: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً}

أعاد الضمير بلفظ الخطاب وإن كان من تبعك يقتضي الغيبة لأنه اجتمع مخاطب وغائب فغلب المخاطب وجعل الغائب تبعا له كما كان تبعا له في المعصية والعقوبة فحسن أن يجعل تبعا له في اللفظ وهذا من حسن ارتباط اللفظ بالمعنى واتصاله به وانتصب جزاء موفورا عند ابن مالك على المصدر وعامله عنده المصدر الأول قال والمصدر يعمل في المصدر تقول عجبت من قيامك قياما ويعمل فيه الفعل نحو قيام قياما واسم الفاعل كقوله: فأصبحت لا أقرب الغانيا ... ت مزدجرا عن هواها ازدجارا واسم المفعول هو مطلوب طلبا وبعد ففي نصب جزاء قولان آخران: أحدهما: أنه منصوب بما في معنى فإن جهنم جزاؤكم من الفعل فإنه متضمن لتجازون وهو الناصب جزاء. الثاني: أنه حال وساغ وقوع المصدر حالا ههنا لأنه موصوف. ذكر الزمخشري هذين القولين وهذا كما تقول خذ عطاءك عطاء موفورا. والذي يظهر في الآية أن جزاء ليس بمصدر وإنما هو اسم للحظ والنصيب فليس مصدر جزيته جزاء بل هو كالعطاء والنصيب ولهذا وصفه بأنه موفورا اي تام لا نقص فيه وعلى هذا فنصبه على الاختصاص وهو يشبه نصب الصفات المقطوعة وهذا كما قال الزمخشري وغيره في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} إلى قوله: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} قال: نصبه على الاختصاص أي أعني نصيبا مفروضا ويجوز أن ينتصب انتصاب المصادر المؤكدة كقوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} . فائدة: المسك مذكر بدليل قولهم أذفر وقد ظن بعضهم تأنيثه محتجا بقوله: مرت بنا ما بين أترابها ... والمسك من أردانها ناقحة

ولا يثبت التأنيث بمثل ذلك لأنه خبر عن مضاف محذوف أي رائحة المسك وهذا يجوز عند أمن اللبس. فائدة: من كليات النحو كل صفة نكرة قدمت عليها انقلبت حالا لا ستحالة كونها صفة تابعة مع تقدمها فجعلت حالا ففارقها لفظ الصفة لا معناها فإن الحال صفة في المعنى. وكل صفة علم قدمت عليه انقلب الموصوف عطف بيان نحو مررت بالكريم زيد وكذلك غير العلم كقولك مررت بالكريم أخيك لأن الثاني تابع له مبين له وكل تابع صلح للبدلية وعطف البيان نظرت فيه فإن تضمن زيادة بيان فجعله عطفا أولى من جعله بدلا وإن لم يتضمن ذلك فجعله بدلا أولى مثال الأول قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وقوله {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وقوله {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} . فائدة: الأفعال ثلاثة ماض ومضارع وأمر؛ فالأمر لا يكون إلا للاستقبال ولذلك فلا يقترن به ما يجعله لغيره وأما وروده لمن هو ملتبس بالفعل فلا يكون المطلوب منه إلا أمرا متجددا وهو إما الاستدامة وإما تكميل المأمور به نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وأما الماضي فيصرف إلى الاستقبال بعد أدوات الشرط وفي الوعد والإنشاء ونحوه لا في الخبر كقوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وكقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وكقوله النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إن كنت

ألمت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه" ونظائره كثيرة جدا. ولا يخفى فساد تأويل ذلك بأن المعنى إن ثبت في المستقبل وقوع ذلك في الماضي أفترى المسيح يقول لربه إن ثبت في المستقبل أني قلته في الماضي فقد علمته وهل هذا إلا فاسد في الكلام ممتنع من العاقل إطلاقه وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة إنما أراد إن كان وجد فيما مضى ذنب فتداركيه بالتوبة التغيير في لفظ الفعل وصرفه إلى معنى آخر وأما ما يصير به الماضي مستقبلا فكقولك: إن قمت أكرمتك وإن زرتني أحسنت إليك فهذا ماضي اللفظ مستقبل المعنى وللنحاة ههنا مسلكان: أحدهما: أن التغيير وقع في لفظ الفعل وكان الموضع للمستقبل فغير إلى لفظ الماضي والأداة هي التي تصرفت في تغييره وهذا اختيار أبي العباس المبرد. والثاني: أن التغيير إنما هو في المعنى والأداة وردت على فعل ماض فغيرت معناه إلى الاستقبال وهذا هو الصواب لأن الأدوات المغيرة للكلم إنما تغيره معانيها دون ألفاظها كالاستفهام المغير لمعنى ما بعده من الخبر إلى الطلب وكالتمنى والترجي والطلب والنفي ونظائره ويتصرف إلى الحال بقرينة الإنشاء كتزوجت وبعتك وطلقتك على أحد القولين في هذه الصيغ ومن جعلها أخبارا عما قام بالنفس فهي ماضية على بابها. والتحقيق أنها إنشاء للخارج إخبار عما في النفس فجهة الخبر فيها لا ينافي جهة الإنشاء وينصرف إلى الاستقبال بقرينة الطلب والدعاء كقولك: غفر الله لك وأدخلك الجنة وأعاذك من النار ونحو عزمت عليك إلا فعلت ويتصرف إليه أيضا بالوعد عند بعضهم مستشهدا بقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} و {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ونحوه وفيه نظر ظاهر للمتأمل وينصرف أيضا إلى الاستقبال بعطفه على ما علم استقباله كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وينصرف إلى الاستقبال أيضا بالنفي بـ (لا) وإن بعد القسم كقوله تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} وكقول الشاعر: ردوا فوالله لا زدناكم أبدا ... ما دام في مائنا ورد لنزال

ويحتمل المضي والاستقبال بعد همزة التسوية نحو سواء على أقمت أم قعدت والصواب أن المراد هنا المصدر المدلول بالفعل وهو أعم من الحال والاستقبال فلم يجيء الاحتمال من جهة الهمزة بل من جهة القصد إلى المصدر. فإن قلت: فلو اقترن الفعل الواقع بعد أم بلم فهل يصلح الماضي للحال والاستقبال أم يتعين الماضي. قلت: ذهب صاحب التسهيل إلى تعيين المضي واحتج بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} والصواب أنه لا يتعين المضي فإن المعنى سواء عليهم الإنذار وعدمه فلا فرق بين ذلك وبين أن يقال سواء عليهم أأنذرت أم تركت الإنذار. وكذلك لو كان بعد أم جملة إسمية لم يتعين المضي في الفعل كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} وإذا وقع الماضي بعد حرف التحضيض صلح أيضا للماضي والمستقبل كقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} والصواب أن الماضي ههنا باق على وضعه لم يتغير عنه كقوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} ويقول: هلا اتقيت الله تعالى فيما أتيت والآية إنما نزلت في غزوة تبوك في سياق ذم المتخلفين عن رسول الله فأخبر تعالى أن المؤمنين لم يكونوا لينفروا كافة ثم وبخهم توبيخا متضمنا للحض على أن ينفر بعضهم ويقعد بعضهم. وأصح القولين أنه ينفر منهم طائفة في السرايا والبعوث وتقعد طائفة تتفقه في الدين فتنذر القاعدة الطائفة النافرة إذا رجعت إليهم وتخبرهم بما نزل بعدهم من الحلال والحرام والأحكام لوجوه: أحدها: أن الآية هي في سياق النفير في الجهاد وتوبيخ القاعدين عنه. الثاني: أن النفير إنما يكون في الغزو ولا يقال لمن سافر في طلب العلم أنه نفر ولا استنفر ولا يقال للسفر فيه نفير. الثالث: أن الآية تكون قد اشتملت على بيان حكم النافرين والقاعدين وعلى بيان اشتراكهم في الجهاد والعلم فالنافرون أهل الجهاد والقاعدون أهل التفقه والدين إنما يتم بالجهاد والعلم فإذا اشتغلت طائفة بالجهاد وطائفة بالتفقه في الدين ثم يعلم أهل الفقه للمجاهدين إذا رجعوا إليهم حصلت المصلحة بالعلم

والجهاد وهذا الأليق بالآية والأكمل لمعناها وأما إذا جعل النفير فيها نفيرا لطلب العلم لم يكن فيها تعرض للجهاد مع إخراج النفير عن موضعه. والذي أوجب لهم دعوى أن النفير في طلب العلم أنهم رأوا الضمير إنما يعود على المذكور القريب فالمنذرون هم النافرون وهم المتفقهون وجواب هذا الضمير إنما يرجع إلىالأقرب عند سلامته من معارض يقتضي الأبعد وقد بينا أن السياق يقتضي أن القاعد هو المتفقة المنذر للنافر الراجع. والمقصود أن نفر في الآية ماض وإنما يفهم منه الاستقبال لأن التحضيض يؤذن به والتحقيق في هذا الموضع أن لفظه لولا وهلا إن تجرد للتوبيخ لم يتغير الماضي عن وضعه وإن تجرد للتحضيض تغير إلى الاستقبال وإن كان توبيخا مشربا معنى التحضيض صلح للأمرين وإن وقع بعد كلما جاز أن يراد به المضي كقوله تعالى: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} وإن يراد به الاستقبال كقوله كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها وقد ظن صاحب التسهيل أنه إذا وقع صلة للموصول جاز أن يراد به الاستقبال محتجا بقوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم وهذا وهم منه رحمة الله والفعل ماضي لفظا ومعنى والمراد إلا الذين تقدمت توبتهم القدرة عليهم فخلوا سبيلهم والاستقبال الذي لحظه رحمه الله إنما هو لما تضمنه الكلام من معنى الشرط ففيه معنى من تاب قبل أن تقدروا عليه فخلوا سبيله فلم يجيء هذا من قبل الصلة ولو تجردت الصلة عن معنى الشرط لم يكن الفعل إلا ماضيا وضعا ومعنى كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءا سمع مقالتي " فقال صاحب التسهيل: "إن الاستقبال في (سمع) جاء من كونه وقع صفة لنكرة عامة وهذا وهم أيضا فإن ذلك لا يوجب استقبالا بحال تقول: كم من مال أنفقته وكم رجل لقيته وكم نعمة كفرها أبو جهل وكم مشهد شهده علي مع رسول الله جاء الاستقبال من جهة ما تضمنه الكلام من الشرط فهو في قوة من سمع مقالتي فوعاها نضره الله فتأمله وكذلك إذا

وقع مضافا إليه حيث صلح للاستقبال إذا تضمنت معنى الشرط كقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فلم يأت الاستقبال ههنا من قبل حيث كما ظنه وإنما جاء من قبل ما تضمنه الكلام من الشرط ولهذا لو تجرد من الشرط لم يكن إلا للمضي كقولك: اذهب حيث ذهب فلان وأما قول الشاعر: وإني لآتيكم بذكر ما مضى ... من الأمر واستحباب ما كان في غد فلم تكن كان ههنا مستقبلة المعنى لكونها في صلة الموصول بدليل وقوعها للمضي في قوله ما مضى من الأمر وإنما جاء الاستقبال من جهة الظرف الذي جعل وقتا للفعل. فصل: وإذا نفي المضارع بـ (لا) فهل يختص في الاستقبال أو يصلح له وللحال مذهبان للنحاة: مذهب الأخفش صلاحيته لهما ووافقه بن مالك وزعم أنه لازم لسيبويه محتجا بإجماعهم على صحة قام القوم لا يكون زيد فهو بمعنى إلا زيدا. ومن ذلك قولهم أتحبه أم لا تحبه وأتظن ذلك أم لا تظنه لا ريب أنه بمعنى الحال وقولهم: ما لك لا تقبل وأراك لا تبالي قال تعالى: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} و {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} و {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وزعم الزمخشري أنه يتخلص بها للاستقبال اخذا من قول سيبويه وإذا قال هو يفعل ولم يكن الفعل واقعا فإن نفيه لا يفعل وهذا ليس صريحا في اختصاصه بالمستقبل فإن لا تنفى الحال والاستقبال وهو لم يقل لا تنفى الحال وإنما أراد سيبويه أن يفرق بين نفي الفعل بـ (ما) ونفيه بـ (لا) في أكثر الأمر فقال: وإذا قال هو يفعل أي هو في حال فعل كان نفيه ما يفعل وإذا قال هو يفعل ولم يكن الفعل واقعا فإن نفيه لا يفعل ومعلوم أن ما لا يخلص الفعل المنفي بها للحال وسيبويه قد

جعلها في فعل الحال كـ (لا) في فعل الاستقبال فعلم أنه إنما اراد الأكثر من استعمال الحرفين. وتأمل كيف جاء نفي المضارع وهو مرفوع بما ولا وهما لا يزيلان رفعه لتشاكل المنفي بالمثبت ويقابل مرفوع بمرفوع والمشاكلة مهمة في كلامهم حتى يغيروا بها بعض الألفاظ كقولهم: أخذه ما قدم وما حدث والغدايا والعشايا ونظائره وترجع الحال بدخول لام الابتداء عليه نحو إني لأحبك وأما قوله تعالى حكاية عن يعقوب: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} ذهابهم مستقبل وهو فاعل الحزن ويمتنع أن يكون الفاعل مستقبلا والفعل حالا فزعم صاحب التسهيل أن هذا دليل على أن اللام لا تخلص للحالية واحتج أيضا بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . ولقائل أن يقول: التخلص إنما يكون باللام المجردة وأما إذا اقترن بالفعل قرينة تخلصه للاستقبال لم تكن اللام للحال وهذا كسوف كما في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} فلولا هذه القرائن لتخلص للحال وهذا كان مع لم كقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} فإن منعت اقتضاء لم للمضي واما الآن وآنفا والساعة فمخلصة للحال خلافا لبعضهم واحتج بقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} والأمر إنما يكون للمستقبل وقد عمل في الآن. وأجيب عن ذلك بأن (الآن) هنا هو الزمن المتصل أوله بالحال مستمرا في الاستقبال فعبر عنه بالآن اعتبارا بأوله كقوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} والصواب أن الآن في الآية ظرف للأمر والإباحة لا لفعل المأمور به والمعنى فالآن أبحث لكم مباشرتهن لا أن المعنى فالآن مدة وقوع المباشرة منكم وترجع الحالية بنفيه بـ (ما) وليس وإن كقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} وكقوله: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} . مثال نفيه بـ (ليس) قول الشاعر: ولست وبيت الله أرضي بمثلها ... ولكن من يمشي سيرضى بما ركب وأما قوله: فما مثله فيهم ولا كان قبله ... وليس يكون الدهر ما دام بدل فإنما جاء للاستقبال من تقسيم النفي إلى ماض وحال ومستقبل وقال ابن مالك:

"لا يخلصه النفي بذلك للاستقبال" واحتج بهذا البيت وبقوله: والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاق وتأميل وبقول أبي ذؤيب: أودى بني وأودعوني حسرة ... عند الرقاد وعبرة ما تقلع وبقول النابغة الذبياني يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: له نافلات ما يغب نوالها ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا وبقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيّ} والتحقيق في ذلك ان هذه الأدوات تنفي الفعل المبتدىء من الحال مستمر النفي في الاستقبال فلا تنفيه في الحال نفيا منقطعا عن التعرض للمستقبل ولا تنفيه في المستقبل مع جواز التلبس به في الحال فتأمله. وتتخلص للاستقبال بعشرة أشياء: حرف تسويف أو مصأحبة ناصب أو أداة ترج أو إشفاق كلعل أو مجازاة أو نوني التوكيد أو لو المصدرية كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} ومثال الإشفاق قول الشاعر: فأما كيس فنجا ولكن ... عسى يغتر بي حمق لئيم فائدة: قوله في الحديث الصحيح: "إنما كنت خليلا من وراء وراء " يجوز فيه وجهان: الأول: فتحهما معا وهو الأشهر والأفصح وهما مبنيان على الفتح للتركيب المتضمن للحرف كقولهم: هو جاري بيت بيت والمعنى بيته إلى بيتي ومنه قولهم همزة بين بين وفلان يأتيك صباح مساء ويوم يوم وتركوا البلاد حيث بيث وحاث بات ووقعوا في حيص بيض بيض وأصل هذا كله خمسة عشر وبابه فإن أصله قبل التركيب العطف فركب وبني لتضمنه معنى حرف العطف ولا كذلك بعلبك وبابه لأن

الاسمين في خمسة عشر مقصود دلالتهما قبل التركيب بخلاف بعلبك. الوجه الثاني: بناء وراء وراء على الضم كالظروف المقطوعه عن الإضافه ورجح هذا بعض المتأخرين محتجا بما أنشده الجوهري في صحاحه بالضم: إذا أنا لمن اومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء هكذا أنشده بالضم وعلى هذا فوراء الأولى بنيت كبناء قبل وبعد إذا قطعنا وفي الثانية أربعة أوجه: الأول: أن يكون بناؤها كذلك أيضا على تقدير من فيها أي من وراء من وراء حذفت من اكتفاء بالأولى. الثاني: أن تكون تأكيدا لفظيا للأولى وتبعتها في حركة البناء لقوتها ولأن لها أصلا في الإعراب وبناؤها عارض فهي كحركة المنادي المفرد كقولك يا زيد زيد. الثالث: أن يكون بدلا منها. الرابع: أن يكون عطف بيان كقوله: إني واسطار سطرا ... لقائل يا نصر نصر نصرا وهذان الوجهان عند التحقيق لا شيء لأن الشيء لا يبدل بنفسه إلا باختلاف ما في تعريف وتنكير أو إظهار أو إضمار ومع الاتحاد من كل وجه لا يبدل أحدهما من الآخر لخلو هذا الأبدال عن الفائدة وكذلك عطف البيان فإن الشيء لا يتبين بنفسه ولا يفهم حقيقة عطف البيان بين لفظين متساويين من جميع الوجوه وعلىالوجه الأول وهو فتحهما ففيهما وجهان: أحدهما البناء كما تقدم تقريره، والثاني: الإعراب وتكون فتحة وراء فتحة إعراب ولكنه غير منصرف وتقريره أن وراء لما لم يقصد بها قصد مضاف بعينه صارت كأنها اسم مستقل بنفسه وهو علم جنسي لمطلق الخلفية والكلمة مؤنثة فاجتمع فيها التأنيث والعلمية فمنعت الصرف وعلى هذا ففي وراء الثانية الأوجه الأربعة التي تقدمت في المضمومة ويدل على صحة ما ذكرنا ما وقع في بعض روايات الحديث من وراء من وراء بتكرار من في الموضعين وفتح وراء وهذا ينفي التركيب فيتعين به الإعراب ومنع الصرف والدليل على تأنيث الكلمة أن الجوهري نص في كتابه على تأنيثها فقال: "وهي

مؤنثة لأنهم قالوا في تصغيرها وريئة". قلت: ولكن ليس تأنيثها بالهمزة الممدودة بل تأنيثها معنوي لا علامة له لكن ما تأنيثه بالهمزة إذا صغر لم تقع الهمزة في حشوة كحمراء فلما قالوا وريئة علم أن همزتها ليست للتأنيث بل تأنيثها كتأنيث قوس وإذن ونحوهما وقد حكيت في هاتين الكلمتين أربعة أوجه أخرى: أحدها: من وراء وراء بكسر الهمزة فيهما وهي كسرة بناء. الثانية: من وراء وراء بفتح الأولى وضم الثانية ووجه إضافه الأولى إلى الثانية فأعربت الأولى وبنيت الثانية على الضم قالوا فتكون الأولى ظرفا منصوبا والثانية غاية مقطوعة. قلت: وتصحيح هذا يستلزم أن يكون وراء صفة لمحذوف ليصح تقدير الظرفية فيه فيكون تقديره من مكان وراء وإلا فمع مباشرة من لا ينتصب ظرفا. الثالثة: من وراء وراء بالنصب فيهما علىالظرفية ووجهة ما أشرنا إليه من تقدير موصوف محذوف أي من مكان وراء وراء. الرابعة: من وراء وراء بكسر الأولى وفتح الثانية فتجر الأولى بإضافتها وتعرب الثانية إعراب غير المنصرف كقولك: من أحجر عثمان وموضوع هذه الكلمة كخلف وضد أمام. وذهب بعض المفسرين واللغوين إلى أنها قد تأتي بمعني أمام فتكون مشتركة بينهما واحتج بأمرين: الأول قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} وجهنم إنما هي أمام الكافر وكذلك قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} وإنما العذاب الغليظ أمامه وفيما يستقبله الثاني قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} أي أمامهم بدليل قراءة عبد الله بن عباس وكان إمامهم ملك وهذا المذهب ضعيف ووراء لا يكون أماما كما لا يكون أمام وراء إلا بالنسبة إلى شيئين فيكون أمام الشيء وراء لغيره ووراء الشي أماما لغيره فهذا الذي يعقل فيها وأما أن يكون وراء زيد بمعنى أمامه فكلا. وأما ما استدلوا به فلا حجة فيه فأما قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} فالمعنى أنه ملاق جهنم بعد موته فهي من بعده أي بعد مفارقته الدنيا فهي لما كانتبعد حياته كانت وراءه لأن وراء كبعد فكما

لا يكون بعد قبل فلا يكون وراء أمام وأنت لو قلت جهنم بعد موت الكافر لم يكن فيها معنى قبل بوجه فوراء ههنا زمان لا مكان فتأمله رحمك الله تعالى فهي خلف زمان حياته وبعده وهي أمامه ومستقبلته فكونها خلفا وأماما باعتبارين وإنما وقع الاشتباه لأن بعدية الزمان إنما يكون فيما يستقبل أمامك كقولك: بعد غد وورائية المكان فيما تخلف وراء ظهرك فمن ورائه جهنم ورائية زمان لا مكان وهي إنما تكون في المستقبل الذي هو أمامك فلما كان معنى الأمام لازم لها ظن من ظن أنها مشتركة ولا اشتراك فيها وكذلك قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} وكذلك: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} وأما قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} فإن صحت قراءة وكان أمامهم ملك فلها معنى لا يناقض القراءة العامة وهو أن الملك كان خلف ظهورهم وكان مرجعهم عليه فهو وراءهم في ذهابهم وأمامهم في مرجعهم فالقراءتان بالاعتبارين والله سبحانه وتعالى أعلم. فائدة: قولهم: البدل في نية تكرار العامل إن أريد به أن العامل فيه غير العامل في متبوعه فلا بد من إعادته إما ظاهرا وأما مقدرا كما هو مذهب ابن خروف وغيره فضعيف جدا وهو مخالف لمذهب سيبويه فإن الذي دل عليه كلامه أن العامل فيهما هو الأول ويتعين هذا لأن من المبدلات ما يبدل من مجرور ومجزوم ولا يعاد عامله فلو كان العامل مقدرا لزم اطراد إضمار الجار في الجازم في الأبدال من المجرور والمجزوم وهو ممتنع والذي أوجب لهم ما ادعوه أمران: أحدهما: أنهم رأوا البدل كثيرا ما يعاد معه العامل كقوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} ولم يروه معادا مع غيره من التوابع إلا نادرا. الثاني: أن البدل

هو المقصود بالذكر والأول في نية الإطراح فلما كان هو المقصود كانت مباشرته بالعامل أولى بخلاف بقية التوابع فإن المقصود في النعت وعطف البيان والتأكيد هو الأول والثاني توضيح وتبيين وأما عطف النسق وإن قصد فيه التابع والمتبوع فالمعطوف فيه ثان تابع لمقصود فاكتفى فيه بالعامل الأول ولا حجة في شيء من ذلك أما الأول فمجيء البدل خاليا من تكرار العامل أكثر من اقترانه بإعادة العامل وإنما أعيدت اللامم في الآية لمزيد البيان والاختصاص وأن القول من المستكبرين إنما كان للمؤمنين المستضعفين خاصة ونظير إعادة اللام ههنا إعادتها في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} وإذا كانوا يزيدون اللام في قولهم لا أبا لك مع شدة ارتباط المضاف بالمضاف إليه لقصد الاختصاص والتببين فالإتيان بها في مثل هذه الآية أولى واقوى ولهذا لم يعد في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وفي قوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} . وفي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِين} ولا في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي} الآية ولا في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} ولا في وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} فنظائره أكثر من أن تذكر. وأما استدلالهم بأن المبدل منه في نية الطرح والمقصود مباشرة العامل للمبدل فغير صحيح فإن الأول مقصود أيضا ولكن ذكر توطئة للمبدل منه ولم يقصد طرحه ويدل عليه قول الشاعر: إن السيوف عدوها وروحها ... تركت هوازن مثل قرن الأعصب فجعل الخبر للسيوف وألغى البدل وجعله كالمطروح إذ لو لم يلغه لقال تركا وإنما يكون الأول في نية الطرح في نوعين من البدل وهما بدل الغلط والأكثر فيهما أن يقعا بعد بل والله أعلم.

فائدة: البدل والمبدل إما أن يتحدا في المفهوم أولا فإن اتحدا فهو المسمى بدل الكل من الكل وأحسن من هذه التسمية أن يقال بدل العين من العين وبعضهم يقول بدل الموافق من الموافق لأن هذا البدل يجرى فيما لا يقبل التبعيض والكل كقوله تعالى: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} ونحوه وإن لم يتحدا في المفهوم فإما ان يكون الثاني جزءا من الأول أولا، فإن كان جزءا منه فهو بدل البعض من الكل وإن لم يكن جزءه فإما أن يصح الاستغناء بالأول عن الثاني أولا فإن صح فهو بدل الاشتمال بملابس إما وصف أو فعل أو طرف أو مجاور أو مقصود من العين أو يكون مظروفا للأول فالأول كقولك أعجبني زيد حسنه والثاني كقولك أعجبني زيد صلاته والثالث أعجبني زيد داره والرابع أعجبني زيد ثيابه والخامس دعي زيد للطعام أكله والسادس: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه} وهل الأول مشتمل على الثاني أو الثاني على الأول أو العامل مشتمل عليهما ثلاثة أقوال لا طائل تحتها وكلها صحيحة لأن الملابسة حاصلة بين الأول والثاني وهي المرادة من الاشتمال وأما اشتمال العامل عليهما وإن عم سائر أقسام البدل فسمى هذا النوع به لأن كل واحد من الأنواع اختص باسمه فأعطى الاسم العام لهذا النوع من البدل وإن لم يصح الاستغناء بالأول فإما أن يكون المتكلم قد قصده ثم أراد إطراحه أو لم يقصده فإن كان قصده فهو بدل البدا وإن لم يقصده فهو بدل الغلط. فمثال الأول أن تقول: أعط السائل رغيفا ثم ترق عليه فتقول دينارا ومثال الثاني أن تقول أكلت لحما ثم تذكر فتقول خبزا.

فائدة: قد تبدل الجملة من الجملة كبدل الفعل من الفعل والجملة من المفرد كقولك عرفت زيدا أبو من هو. قال ابن جني ومنه قول الشاعر: إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يتلقيان قال فكيف يلتقيان بدل من حاجة كأنه قال إلى الله أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقاؤهما ويبدل المفرد من المفرد. وأما بدل المفرد من الجملة فلا يتصور إلا أن تكون الجملة في تأويل المفرد فيصح أبدال المفرد من معناها لا من لفظها كقولك أزورك يوم يعافيك الله تعالى يوم السرور. فائدة: لا يشترط في بدل النكرة من المعرفة اتحاد اللفظين وشرطه الكوفيون محتجين لقوله تعالى: {بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ} واحتج البصريون بقول الشاعر: فلا وأبيك خير منك إني ... ليؤذيني التحمحم والصهيل

فائدة: يشترك المصدر واسم الفاعل في عملهما عمل الفعل ويفترقان في عشرة أحكام: الأول: أن اسم الفاعل يتحمل ضميرا مستترا نحو هذا ضارب زيد والمصدر لا يتحمله فإذا قلت يعجبني أكل الخبز لم يكن في أكل ضمير فقيل لأنه ليس بمشتق والضمير إنمايحمله المشتقات. الثاني: أن المصدر يعمل بمعنى المضي والحال والاستقبال لأنه أصل الفعل واسم الفاعل يختص عمله بما إذا كان في معنى الحال والاستقبال لأنه يتحمله لشبهه بالفعل المضارع الذي لا يكون إلا لأحدهما. الثالث: أن المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول كما يسلط الفعل عليهما واسم الفاعل لا يضاف إلى الفاعل لاستحالة إضافته إلى نفسه. الرابع: أن اسم الفاعل يعمل فيما قبله والمصدر لا يعمل فيما قبله وسر الفرق أن المصدر في تقدير أن والفعل فمعموله من صلته فلا يتقدم عليه بخلاف اسم الفاعل. الخامس: أن أضافه اسم الفاعل لا يفيد التعريف إلا إذا كان بمعنى المضي وأضافه المصدر تفيد التعريف مطلقا. السادس: أن الألف واللام إذا دخلت على اسم الفاعل كانت موصولة وإذا دخلت على المصدر لم تكن موصولة ومن الفرق عود الضمير عليها من اسم الفاعل دون المصدر. السابع: أن المصدر ينعقد منه ومن معموله كلام تام لا يفتقر إلي شيء قبله نحو ضربا زيدا واسم الفاعل لا ينعقد منه ومن معمولة كلام تام حتى يعتمد على شيء قبله نحو هذا ضارب زيدا وجاءني مكرم عمرا. الثامن: أن جهة عمل المصدر كونه أصلا للفعل وجهة عمل أسم الفاعل كونه فرعا على الفعل. التاسع: أن أضافه المصدر لا يمنع من نصبه مفعوله وأضافه أسم الفاعل تمنع من نصبه مفعوله إلا أن يتعدي فعله إلى أكثر من واحد فينتصب حينئذ ما عدا

المفعول الأول. العاشر: أن الألف واللام إذا دخلت على المصدر أذهبت عمله فلم أنكل عن الضرب مسمعا شاذ نادر وإذا دخلت على اسم الفاعل قوت عمله ولهذا لا يعمل بمعنى المضي فإن اقترنت به الألف واللام عمل تقول هذا الضارب زيدا أمس وسر الفرق أن الألف واللام فيه موصولة تقوى جانب الفعلية فيه بخلافها في المصدر. فائدة: (إما) لا تكون من حروف العطف لأربعة أوجه: أحدها: أنك تقول ضربت إما زيدا وإما عمرا فتذكره قبل معمول الفعل فلو كانت إما من حروف العطف لكنت قد عطفت معمول الفعل عليه وهو ممتنع فلما وقعت إما بين الفعل ومعموله علم أنها ليست بعاطفة. الثاني: أنك تقول جاءني إما زيد وإما عمروا فتقع إما بين الفعل والفاعل ومعلوم أن الفاعل كالجزء من الفعل فلا يصح الفصل بينهما بالعاطف. الثالث: أن تقول وإما عمرو فتدخل الواو عليه ولو كانت حرف عطف لم يدخل عليها حرف عطف آخر كما لا تقول ضربت زيدا أو عمرا. الرابع: أن العطف لا بد أن يكون عطف جملة على جملة أو مفرد على مفرد وإذا قلت ضربت إما زيدا وإما عمرا فإما الأولى لم تعطف زيدا علىمفرد ولا يصح عطفه على الجملة بوجه فالصواب أن حروف العطف تسعة لا عشرة.

فائدة: إذا قلت: جاءني زيد بل عمرو فله معنيان: أحدهما: أنك نفيت المجيء عن زيد وأثبته لعمرو وعلى هذا فيكون إضراب نفي. والثاني: أنك أثبت لعمرو المجيء كما أثبته لزيد وأتيت بـ (بل) لنفي الاقتصار على الأول لا لنفي الإسناد إليه بل لنفي الاقتصار على الإسناد إليه ويسمى إضراب اقتصار وهذا أكثر استعمالا في القرآن وغيره كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وكقوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ونظائره ويسمى هذا إضرابا وخروجا من قصة إلى قصة. وإذا قلت: ما جاءني زيد بل عمرو فله معنيان: أحدهما: أنك نفيت المجيء عن زيد وأثبته لعمرو وهذا قول الأكثرين. والثاني: أنك نفيت المجيء عنهما معا فنسبت إلى الثاني حكم الأول وأنت حكمت على الأول بالنفي ثم نسبت هذا الحكم إلى الثاني. والتحقيق في أمر هذا الحرف أنه يذكر لتقرير ما بعده نفيا كان أو إثباتا فالنظر فيه في أمرين فيما قبله فيما بعده ولما لم يفصل كثير من النحاة بين هذين النظرين وقع في كلامهم تخليط كثير في معناه فنقول أما حكم ما بعده فالتقرير والتحقيق وهو شبيه بمصحوب قد وتجريد العناية بالكلام إلي ما بعده أهم عندهم من الاغتناء بما قبله فقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} المقصود تقرير هذه الجملة لا الإضراب عن قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وكذلك قوله: {كَلاّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} المقصود تقرير هذا النفي وتحقيقه لا الإضراب عن قوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} وكذلك إذا وقعت بين جملتين متضادتين أفادت تقرير كل واحدة منهما كقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فالمقصود تقرير الطلب والخبر وكذلك

قولك لا تضرب زيدا بل اضرب عمرا وكذلك ما قام زيد بل قام عمرو فهي في ذلك كله لتقرير جملتين وكذلك قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُون} المعنى أنكم إذا نزل بكم هذا الأمر العظيم لا تدعون غير الله بل تدعونه وحده فهو تقرير لترك دعائهم الهتهم ولدعائهم الإله الحق وحده فيدخل في مثل ذلك على مقرر بعد مقرر والأول تارة يكون تقريره توطئة للثاني كقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} وتارة لا يكون توطئة كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعاً} وتارة يدخل على كلام مقرر بعد كلام مردود كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وفي مثل هذا يظهر معنى الإضراب وليس المراد بهم إضراب عن الذكر بل الإضراب عن المذكور ونفيه وإبطاله وتارة يأتي لتقرير كلام بعد كلام قد رجع عنه المتكلم إما لغلط أو لظهور رأى أو لعروض نسيان وذلك كله إما في الإخبار وإما في المخبر به فمثال الأول أن تقول: أنت عبدي بل سيدي ومثال الثاني لاح برق بل ضوء نار ومثال الثالث خذ هذا بل هذا ومثال الرابع شربت عسلا بل لبنا وتأتي مع التكرار لقصد ما بعدها بالإولوية والذكر دون نفي ما قبلها كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِر} فهم لم يقصدوا إبطال ما قبل كل واحدة بل قصدوا أولوية المتأخر بالقصد إليه والاعتماد عليه مع ثبوت ما قبله وكذلك قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} فليس القصد نفي إدراك علمهم في الآخرة ولا نفي شكهم فيها فتأمله ومن مواردها مجيئها بعد قسم لم يذكر جوابه فيتضمن تحقيق ما بعدها وتقريره ويتضمن ذلك مع القسم تحقيق ما قصده بالقسم وتقريره.

فائدة: احتمال اللفظ للمعنى شيء ودلالته عليه شيء فالمطلق بالنسبة إلى المقيدات محتمل غير دال والعام بالنسبة إلى الأفراد دال. فائدة: حمل اللفظ على المعنى يراد به صلاحيته له تارة ووضعه له تارة فإن أريد بالحمل الإخبار بالوضع طولب مدعيه بالنقل وأن أريد صلاحيته لم يكف ذلك في حمله عليه لأنه لا يلزم من الصلاحية له أن يكون مرادا به ذلك المعنى هذا إن أريد بالحمل الإخبار عن مراد المتكلم وإن أريد به إنشاء معنى يدعيه صاحب الحمل ثم يحمل عليه الكلام فإن ذلك يكون وضعا جديدا فليتأمل هذا من قولهم يحمل اللفظ على كذا وكذا فكثير من النظار أطلق ذلك ولا يحصل معناها. فائدة: تجرد اللفظ عن جميع القرائن الدالة على مراد المتكلم ممتنع في الخارج وإنما يقدره الذهن ويفرضه وإلا فلا يمكن استعماله إلا مقيدا بالمسند والمسند إليه ومتعلقاتهما وأخواتهما الدالة على مراد المتكلم فإن كان كل مقيد مجازا استحال أن يكون في الخارج لفظ

حقيقة وإن كان بعض المقيدات مجازا وبعضها حقيقة فلا بد من ضابط للقيود التي تجعل اللفظ مجازا والقيود التي لا تخرجه عن حقيقته ولن يجد مدعو المجاز إلى ضابط مستقيم سبيلا البتة فمن كان لديه شيء فليذكره. فائدة: منع الدلالة شيء ومنع عليه شيء فالثاني مستلزم للأول من غير عكس فمن منع الدلالة مع تسليم للمدلول عليه فانتقل عنه منازعة إلى دليل آخر كان انقطاعا وإن منع المدلول فانتقل عنه المنازع إلى دليل آخر لم يكن انقطاعا كما إذا طعن الخصم في شهود المدعي فأقام بينة أخرى غير مطعون فيها فله ذلك فينبغي التفطن في المناظرة لذلك. فائدة: من ادعى صرف لفظ عن ظاهره إلى مجازه لم يتم له ذلك إلا بعد أربع مقامات: أحدها: بيان امتناع إرادة الحقيقة. الثاني: بيان صلاحية اللفظ لذلك المعنى الذي عينه وإلا كان مفتريا على اللغة. الثالث: بيان تعيين ذلك المجمل إن كان له عدة مجازات. الرابع: الجواز عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة. فما لم يقم بهذه الأمور الأربعة كانت دعواه صرف اللفظ عن ظاهره ولم يعين له مجملا لزمه أمران: أحدهما: بيان الدليل الدال على امتناع إرادة الظاهر. والثاني: جوابه عن المعارض.

فائدة: صرف اللفظ عن حقيقتة إلى مجازه مدعى صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه يتضمن دعواه الإخبار عن مراد المتكلم ومراد الواضع. أما المتكلم فكونه أراد ذلك المعنى الذي عينه الصارف وأما الواضع فكونه وضع اللفظ المذكور دالا على هذا المعنى فإن لم تكن دعواه مطابقة كان كاذبا على المتكلم بخلاف مدعي الحقيقة فإنه إذا تضمنت دعواه إرادة المتكلم للحقيقة وإرادة الواضع كان صادقا أما صدقة على الواضع فظاهر وأما صدقة على المتكلم معرفة مراد المتكلم إنما يحصل بإعادته من كلامه وأنه إنما يخاطب غيره للتفهيم والبيان فمتى عرف ذلك من عادته وخاطبنا لما هو المفهوم من ذلك الخطاب علمنا أنه مراده منه وهذا بحمد بين لاخفاء فيه. فائدة: دلالة اللفظ على مدعى المستدل شيء ودلالته على بطلان قول منازعه شيء آخر وهما ملازمان إن كان القولان متقابلين تقابل التناقض فللمستدل حينئذ تصحيح قوله بأي الطريقين شاء وإن تقابلا تقابل النضاد لم يلزم من إقامته الدليل على بطلان مذهب منازعه صحة مذهبه هو بجواز بطلان المذهبين وكون الحق في ثالث وإن أقام دليلا على صحة قوله لزم منه بطلان قول منازعه لاستحالة جمع الضدين.

فائدة: الاستدلال شيء والدلالة شيء آخر فلا يلزم من الغلط في أحدهما الغلط في الآخر فقد يغلط في الاستدلال والدلالة صحيحة كما يستدل بنص منسوخ أو مخصوص على حكم فهو دال عليه تناولا والغلط في الاستدلال لا في الدلالة وعكسه كما إذا استدللنا بالحيضة الظاهرة على براءة الرحم فحكمنا بحلها للزوج ثم بانت حاملا فالغلط هنا وقع في الدلالة نفسها لا في الاستدلال فتأمل هذه الفروق. فائدة: تسليم موجب الدليل لا يستلزم تسليم المدعى إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون موجبه هو المدعى بعينه أو ملزوم المدعى. الثاني: أن لا يقوم دليل راجح أو مساو على نقيض المدعى ومع وجود هذا المعارض لا يكون تسليم موجب الدليل الذي قد عورض تسليما للمدعى إذ غايته أن يعترف له منازعه بدلالة دليله على المدعى وليس في ذلك تعرض للجواب عن المعارض ولا يتم مدعاه إلا بأمرين جميعا.

فائدة: ما يذكره المجتهد العالم بالله من موضوع اللفظ لغة شيء وما يعين له مجملا خاصا في بعض موارده من جملة محامله شيء؛ فالأول حكم قوله فيه حكم قول أئمة اللغة فيقيد بشرطه، والثاني حكم قوله فيه حكم ما يفتى به فيطلب له الدليل مثاله: قوله الباء في {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} للتبعيض فهذا حمل منه للباء على التبعيض في هذا المورد وليس هو كقوله ابن السبيل هوالمسافر الذي انقطع عن أهله ووطنه. ونظائره ذلك فهذا نقل محض اللغه والأول استنباط وحمل ومن لم يفرق بين الأمرين غلط في نظره وغالط في مناظرته والله أعلم. فائدة: قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} وليس له مثل والجواب من أوجه: الأول: أن المراد به التبكيت والمعنى حصلوا دينا آخر مثله وهو لا يمكن. الثاني: أن المثل صلة. الثالث: أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف ولا تحريف فإن آمنوا بالتوراة من غير تصحيف ولا تحريف فقد اهتدوا. الرابع: أن المراد أن آمنوا بمثل ما صرتم به مؤمنين روى ابن جرير أن ابن عباس قال: "قولوا {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِه} قال عبد الجبار: "ولا يجوز ترك القراءة المتواترة".

فائدة: قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أنث عدد الأمثال لتأويلها بحسنات ومثله قراءة أبي العالية: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} بالتاء والفعل مسند إلى الإيمان لكنه طاعة وإثابة في المعنى. فائدة: الجهل قسمان: - بسيط: وهو عبارة عن عدم المعرفة مع عدم تلبس بضد. - ومركب وهو جهل أرباب الاعتقادات الباطلة والقسم الأول هو الذي يطلب صاحبه العلم أما صاحب الجهل المركب فلا يطلبه. فائدة: الأجداث القبور وفيها لغتان بالثاء والفاء أهل العالية تقوله بالثاء وأهل السافلة بالفاء. فائدة: في النوم فائدتان: إحداهما: انعكاس الحرارة إلى البطن فينهضم الطعام. الثانية: استراحة الأعضاء التي قد كلت بالأعمال. فائدة: في صحيح البخاري ما انفرد به من رواية عمران بن حصين أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعدا قال: "إن صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد". قلت: اختلف العلماء هل قوله: "من صلى قاعدا" في الفرض أو النفل؟ فقالت

طائفة: هذا في الفرض وهو قول كثير من المحدثين واختيار شيخنا فورد على هذا أن من صلى الفرض قاعدا مع قدرته على القيام فصلاته باطلة وإن كان مع عجزه فأجر القاعد مساو لأجر القائم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما" فقال لي شيخنا: "وضع صلاة القاعد على النصف مطلقا وإنما كمل الأجر بالنية للعجز". قلت: ويرد على كون هذا في الفرض قوله: "إن صلى قائما فهو أفضل" وهذا لا يكون في الفرض مع القدرة لأن صلاته قائما لا مساواة بينها وبين صلاته قاعدا لأن صلاته قاعدا والحالة هذه باطلة فهذه قرينة تدل على أن ذلك في النفل كما قاله طائفة أخرى لكن يرد عليه أيضا قوله: "ومن صلى نائما" فإنه يدل على جواز التطوع للمضطجع وهو خلاف قول الأئمة الأربعة مع كونه وجها في مذهب أحمد والشافعي. وقال الخطابي: "تأولت الحديث في شرح البخاري على النافلة إلا أن قوله: "من صلى نائما" يبطل هذا التأويل لعدم جواز التطوع نائما". وقال في شرح أبي داود: أنا الآن أتأوله على الفرض وأحمله على من كان القيام مشقا عليه فإذا صلى قاعدا مع إمكان القيام ومشقته فله نصف أجر القائم". وقال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه لا يجوز التنفل مضطجعا". قلت: في الترمذي جوازه عن الحسن البصري وروى الترمذي بإسناده عن الحسن قال: "إن شاء صلى صلاة التطوع وجالسا قائما ومضطجعا" والله أعلم. فائدة: قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ولم يقل فيها لأن عند الفناء ليس الحال حال القرار والتمكين.

فائدة: إن قيل لم كان عاشوراء يكفر سنة ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل فيه وجهان: أحدهما: أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام بخلاف عاشوراء. الثاني: أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم والله أعلم. منتخب من الفوائد المنتقية من الرقوم الشرقية. فائدة: من كتاب المجمل لابن فارس "السبت من الأيام والجمع أسبت وسبوت. والسبت الدهر والسبت الراحة والسبت السير السهل والسبت حلق الرأس والسبت الحيرة والمسبت المتحير والسبت ضرب العنق والسبت الغلام العارم". قال: "يصبح سهلان ويمسى مسبتا والسبت جلود مدبوغة بقرظ". فائدة: روي أنا لما حضرت الحطيئة الوفاة قال: "لكل جديد لذة غير أنني وجدت جديد الموت غير لذيذ".

فائدة: في (إبراهيم) ست لغات: أحدها: إبراهيم وهي اللغة الفاشية والثانية: إبراهم والثالثة: إبراهم والرابعة: إبراهيم والخامسة: إبراهام والسادسة: أبرهم. قال عبد المطلب: عذت بما عاذ به إبراهم ... مستقبل الكعبة وهو قائم وقال أيضا: نحسن آل الله في كعبة ... لم يزل ذاك على عهد إبراهم فائدة: قال ابن الأثير في النهاية: "وقد تكرر ذكر الموالي في الحديث وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو: الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتق والمنعم عليه". قال في النهاية أيضا: "القنوت في الحديث ويرد بمعان متعددة كالطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والعبادة والقيام وطول القيام والسكوت". فائدة: العلوم التابعة هي الانفعالية والمتقدمة هي الفعلية وعلوم الله تعالى فعلية والانفعالي عليه محال. قال الشيخ: قلت العلم الفعلي هو الذي يتبعه الفعل كمن

يعلم مصلحة فيفعلها والعلم الانفعالي هو الذي ينشأ عن الأسباب كما إذا أمر زيد بين يديك فحصل لك العلم بمروره وقد يكون علما خاليا عن القسمين كعلمنا بوجود السماء. فائدة: القبلة عربية والبوس فارسي. فائدة: قال الراغب: "الأشياء ثلاثة أقسام: - واجب والعقل يقتضيه. - وممتنع والعقل ينفيه. - وجائز والعقل يتوقف فيه. فائدة: قال المارزي: "المعنى في قول الإنسان: (سبحانك اللهم وبحمدك) أي بحمدك سبحانك".

فائدة: عشر حقائق لا تتعلق إلا بمعدوم: الشرط وجزاؤه والأمر والنهي والدعاء والوعد والوعيد والترجي والتمنى والإباحة. فائدة: قال في المحرر: "الربا محرم إلا بين مسلم وحربي لا أمان بينهما ولم يذكر هذه المسألة في المغني وذكر تحريم الربا مطلقا، وقال أبو حنيفة: "لا يحرم الربا في دار الحرب". قال الشيخ: قلت رأيت في تحريم الربا بين المسلم والحربي الذي لا أمان بينهما روايتين منصوصتين. فائدة: قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} وكذا على أربع يدل على استعمال من فيمن لا يعقل وفيه وجهان: أحدهما: أن صدر الآية قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} فاجتمع جميع الدواب ومنهم العالمون كالإنس وغير العالمين كالبهائم. والقاعدة: إذا اجتمع من يعقل وغيره غلب من يعقل فلما وقع التفصيل وقع تفصيلا للعقلاء فقط. الوجه الثاني: أنه قابل من يمشي في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} فعدل عن الأصل للمقابلة المطلوبة وقيل ما للعالمين أيضا كقوله:

{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وأجيب بأن (ما) هنا مصدرية تقديره: ولا أنتم عابدون عبادتي ولا أنا عابد عبادتكم فما عبر بها إلا عمن لا يعقل وكذلك أجابوا عن قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} غير أنه أشكل عليهم الضمير في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} و (ما) المصدرية حرف لا تعود عليها الضمائر والتزم بعضهم عود الضمير عليها أعنى المصدرية وهو ضعيف ومما أول قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى} ومما عسر تأويله قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} والنساء يعقلن. قال الشيخ: قلت ذكر أبو البقاء وغيره أنه إنما قيل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} لأن من لم يعقل ولا يوصف الله تعالى بهذا الإطلاق وإنما يوصف بالعلم فأتي بـ (ما) الدالة على مسمى شيء سواها وأما قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} فهي لصفات من يعقل والصفات لا تعقل فهي على أصلها وأما قوله تعالى: {مَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} فقال جماعة من النحاة: يعبر بها عن نوع من يعقل كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ولا يعبر بها عن شخص من يعقل فلا يقال: جاءنى ما عندك. قال الشيخ: قلت وهذا ضعيف لأن آدم -عليه السلام- شخص لا نوع وإنما أتى بما في حقه ليكون اللائمة إلى ترك السجود بمجرد مخالفة الأمر من غير تعلق بغيرها. مسألة: إذا قال: يا مخنث فليس فيه حد نص عليه. قال الشيخ: قلت لأن مدلول هذا ليس صريحا في عمل الفاحشة بل في زيادة التشبه بالنساء ومنه الحديث كان يدخل عليهن مخنث.

فائدة: قال أبو بكر عبد العزيز: غلام الخلال سمعت بعض شيوخنا يقول إنما امتنع سائر الأنبياء من الشفاعة لأنهم عوتبوا قبل الغفران فأحجمهم عن الهجوم عليه ونبينا عليه السلام غفر له قبل العتاب. فائدة: الحلولات ثلاثة أقسام: - حلول الإحاطة: كحلول الماء في الكوز. - وحلول السريان: كحلول السواد في الجوهر. - وحلول الغاية والظرفية: كحلول النقطة في الخط. قال الشيخ: قلت حلول الروح في البدن قد يشبه حلول الإحاطة بمعنى أن البدن محيط بالروح لأنه ليس بحلول السريان ولا بحلول الغاية فإن لم يكن من حلول الماء في الظرف فهو نوع آخر من الحلول. فائدة: إذا شرب في رمضان زيد الحد عشرين تعزيزا كما فعله علي بالنجاشي نص عليه. وقال أبو بكر: "يجلد خمسين أربعين للشرب وعشرة لرمضان".

فائدة: لما توفى العباس أحجم الناس عن تعزية ولده عبد الله إجلالا له وتعظيما حتى قدم رجل من البادية فأنشده: إصبر نكن بك صابرين وإنما ... صبر الرعية عند صبر الراس خير من العباس صبرك بعده ... والله خير منك للعباس قال: فسرى عنه وأقبل الناس على تعزيته. فائدة: قال أبو عمر غلام شعبة: سأل أبو موسى أبا العباس يعنى ثعلبا هل بين يتفرقان ويفترقان خلاف؟ قال: "نعم أخبرنا ابن الأعرابي عن المفضل قال: يقال افترقا بالكلام وتفرقا بالإجسام. فائدة: في الحديث "أصحابي كالنجوم" فهذا عام وفي الصحيح "لا تسبوا أصحابي " وهو عموم أيضا وفي المأثور "إن الله اختارني واختار لي أصحابا" وهو عام أيضا وفي مسند الترمذي وصححه "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" فخص

الأربعة وروى الشافعي وغيره "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" فهذا خصوص من خصوص وفي الصحيح "أنه قال للمرأة: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر" وهذا خاص من خاص من خاص في الدرجة الثالثة. فائدة عزيزة الوجود: احتج المعتزلة على مخلوقية القرآن بقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ونحو ذلك من الآيات. فأجاب الأكثرون بأنه عام مخصوص يخص محل النزاع كسائر الصفات من العلم ونحوه قال ابن عقيل في الإرشاد: "ووقع لي أن القرآن لا يتناوله هذا الإخبار ولا يصلح لتناوله" قال: "لأن به حصل عقد الإعلام بكونه خالقا لكل شيء وما حصل به عقد الإعلام والإخبار لم يكن داخلا تحت الخبر" قال: "ولو أن شخصا قال: لا أتكلم اليوم كلاما إلا كان كذبا لم يدخل إخباره بذلك تحت ما أخبر به". قلت: ثم تدبرت هذا فوجدته مذكورا في قوله تعالى: في قصة مريم {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} وإنما أمرت بذلك لئلا تسأل عن ولدها فقولها فلن أكلم اليوم إنسيا به حصل إخبار بأنها لاتكلم الإنس ولم يكن ما أخبرت به داخلا تحت الخبر وإلا كان قولها هذا مخالفا لنذرها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1