بدائع السلك في طبائع الملك

ابن الأزرق

الجزء 1

ـ[بدائع السلك في طبائع الملك]ـ المؤلف: محمد بن علي بن محمد الأصبحي الأندلسي، أبو عبد الله، شمس الدين الغرناطي ابن الأزرق (المتوفى: 896هـ) المحقق: د. علي سامي النشار الناشر: وزارة الإعلام - العراق الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على مَوْلَانَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الْحَمد لله مَالك الْملك إِيجَاد وتدبير ومبدعه من فيض جوده عليما بأسرار وجوده خيرا ومؤته من شَاءَ رَئِيسا بِهِ وأميرا وجاعل سياسته الحسان تبقى على تَمُدَّن الْإِنْسَان تعبيرا ومعينه بالوزارة الَّتِي كفته من مؤونة الْأَمَانَة عسيرا وَجعلت تشييد أَرْكَانه على حسب إِمْكَانه يَسِيرا نحمده سُبْحَانَهُ وحمده أوجب مَا صدر فِي مبادئ ذَوَات البال تصديرا واعجب مَا اعْتمد فِي الإصدار والإيراد بنجاح الْقَصْد وَالْمرَاد جَدِيرًا ونشكره على نعمه الَّتِي لَا تحصى بمجمل مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن تَفْسِيرا وَلَا يلحظ الْبَصَر مجلى الْجمال مِنْهَا ومظهره إِلَّا وَقد انْقَلب خاسئا بِمَا بهره حسيرا ونشهد أَن لَا اله إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الَّذِي خلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا وَانْفَرَدَ بِحسان أَسْمَائِهِ على خلق أرضه وسمائه قَدِيرًا ونشهد أَن سيدنَا ومولانا مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمبلغ بِهِ مأمول المتوسل بِهِ وسؤله الَّذِي نور بهدايته الْقُلُوب تنويرا وأوضح فِي مَنْهَج السياسة أحْسنهَا فِي تَدْبِير الرياسة تصويرا وَأوجب لخلفائه توقيرا بَالغا وتقديرا وَاتخذ من صَحبه الْكِرَام فِي معالجة الصعب المرام وزيرا الْمُؤَيد من المعجزات القواطع والآيات السواطع بِمَا قَامَ بِهِ بشيرا وَنَذِيرا وأسمع من وَعِيد الْعِصْيَان لطاعة الْملك الديَّان تحذيرا صَاحب اللِّوَاء المنشور والشفاعة

الْعُظْمَى يَوْم النشور وَقد حبر محاسد مقَامه الْمَحْمُود تحبيرا وَأظْهر من خصوصيته للعيان مَا يضيق عَنهُ نطاق الْبَيَان تعبيرا صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الْأَبْرَار وَأَصْحَابه الناصرين لَهُ فِي الأحلاء والأمرار الَّذين بلغُوا خطاب التشريع اقْتِضَاء وتخييرا واعتصموا بواضحات الدّلَالَة فَمَا غيروا بشبهات الضَّلَالَة تغييرا صَلَاة نستمنح بهَا لمنذور الْحَسَنَات توفيرا ولعظائم الجرائم يَوْم ابتلاء السرائر تكفيرا مالاح انبهار الصُّبْح الباهر فِي مطالع الْأُفق الظَّاهِر مُسْتَطِيرا وَمَا زَاد الْغَمَام الماطر وأنفاس الرَّوْض العاطر تعطيرا أما بعد فان من اشهر مَا علم عقلا وسمعا وَجمع فِيهِ بِشَرْط الْقبُول لبرهانه المقبول جمعا إِن الْملك صُورَة الْعمرَان البشري وقراره وَمَعْنَاهُ الَّذِي يشْتَمل عَلَيْهِ فَوَائِد الِاحْتِيَاج وأسراره وَإِنِّي لما رَأَيْت من ذَلِك مَا هُوَ أتنور من شمس الظهيرة وَأجلى فِي الظُّهُور عِنْد الْخَاصَّة وَالْجُمْهُور من القضايا الشهيرة قصدت إِلَى تَلْخِيص مَا كتب النَّاس فِي الْملك والإمارة والسياسة الَّتِي رعيها على الإسعاد بصلاح المعاش والمعاد اصدق إِمَارَة على نهج يكْشف من محيا الْحِكْمَة قناع الاحجاب وَيَأْتِي فِي تَقْرِيره لتهذيب مَا فضل من تحريره بالعجب العجاب لأتحف بِهِ من تشوف لهَذَا الْغَرَض وَلم يعدل فِيهِ من الْجَوْهَر إِلَى الْعرض من أَمِير صدقت فِيهِ رغبته وَظَهَرت

بدائع السلك في طبائع الملك

ومأمور وضحت بِهِ دَلَائِل الإفادة بِهِ وبهرت وَلما اشْتَمَل على كثير من أَحْوَال الْملك والدول وأمتع إِيرَاده لمختار مُرَاده من حكم الْأَوَاخِر وَالْأول أبدى من أسرار الْخَلِيفَة عجائب غَرِيبَة وَقرر لَهَا من برهَان الْعقل السَّلِيم مَا كَفاهُ فِي التَّسْلِيم والشكوك المريبة سميته بَدَائِع السلك فِي طبائع الْملك عناية بِمَا احتوى علنه من الْقَوَاعِد الْحكمِيَّة الِاعْتِبَار والحقائق الَّتِي حررها بأوضح الدَّلِيل من شُبُهَات التضليل نحار ير الْعلمَاء الْأَحْبَار والفوائد الشَّرْعِيَّة وان كَانَت الْمُقدمَة بِمَا سواهَا على الْإِطْلَاق مستخدمة فَهِيَ من حَيْثُ قَصده الأول مكملة ولعلمه فِي التفريغ إِذا تعلق بِهِ خطاب التشريع مُهْملَة أَو معملة وَلَو خصت السياسة بلحظ جَانبهَا المرعي الذمام واعمل فِي فَائِدَة عَملهَا بمعتبرها فِي التصريف ومعلمها وَأوجب الْعِنَايَة بهَا والاهتمام لناسب أَن يُسمى بتحرير السياسة فَهِيَ من الْعلم الَّذِي لَا يسْتَغْنى عَنهُ سوقه وَلَا ملك وَلَا من نهج

المقدمة الأولى

بِهِ فِي التَّقْوِيم سَبِيل الرشد القويم وسلك فَمن سَمَّاهُ بذلك فوجهه وضاح الأسرة مشرقها ولحظة فِي الِاعْتِبَار الْمُنَاسب أصيل الْمُنَاسب معرقها وَقد حَاشِيَته من سير اللَّهْو والبطالة وباختصار محصولة من فروع مَا جمع وأصوله عَن الإسهاب والإطالة وهذبت ترتيبه وتفصيله وَذَهَبت بنضار فرائده على كَثْرَة فَوَائِد بَيَانه وتحصيله وَجعلت لكل وَارِد مشرعا وبأ عذب المشارب مترعا فَأن وَقع هُنَاكَ مِمَّن نظر فِيهِ ة اضيا وَعَن استهداف تصنيفه لرميه بسهام تعنيفه متغاضيا فَعَسَى أَن يكون لَهُ بالاجاده شاهدنا ولعذره فِي الإغفال لشروط الاحتفال مَا هدا وَإِلَّا فقبوله من الملتمس لَهُ مأمول وسمحه بإرضائه يستغرقه من أَعْضَائِهِ عُمُوم مِنْهُ وشمول ورتبته على مقدمتين وَأَرْبَعَة كتب وخاتمة اذْكُرْهَا الْآن إِجْمَالا وأدل بهَا النَّاظر على مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ اشتمالا الْمُقدمَة الأولى فِي تَقْرِير مَا يوطىء للنَّظَر فِي الْملك عقلا وفيهَا عشرُون سَابِقَة الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي تمهيد أصُول من الْكَلَام فِيهِ شرعا وفيهَا عشرُون فَاتِحَة

الكتاب الأول

الْكتاب الأول فِي حَقِيقَة الْملك والخلافة وَسَائِر أَنْوَاع الرياسات وَسبب وجود ذَلِك وَشَرطه وَفِيه بَابَانِ الْبَاب الأول فِي حَقِيقَة الْملك والخلافة وَسَائِر أَنْوَاع الرياسة وَفِيه ثَلَاثَة أنظار النّظر الأول فِي حَقِيقَة الْخلَافَة وَفِيه خمس مسَائِل النّظر الثَّانِي فِي حَقِيقَة الْخلَافَة وَفِيه خمس مسَائِل النّظر الثَّالِث فِي سَائِر أَنْوَاع الرياسة وَهِي نَوْعَانِ الْبَاب الثَّانِي فِي سَبَب وجود الْملك وَشَرطه وَفِيه ثَلَاثَة أَطْرَاف الطّرف الأول فِي سَبَب وجود الْملك وَفِيه عشر حكم يشْتَمل عَلَيْهَا سَبَب الْحَاجة إِلَيْهِ الطّرف الثَّانِي فِي شَرط وجود الْملك وَفِيه عشرُون مَسْأَلَة

الطرف الثالث

الطّرف الثَّالِث فِي الحروب ومذاهب الْأُمَم فِي ترتيبها وَمَا يلْزم فِيهَا من الْآدَاب والمكائد وَفِيه ثَلَاث مُقَدمَات وَسِتَّة فُصُول وتتميمتان الْكتاب الثَّانِي فِي أَرْكَان الْملك وقواعد مبناه ضَرُورَة وكمالا وَفِيه بَابَانِ الْبَاب الأول فِي الْأَفْعَال الَّتِي تُقَام بهَا صُورَة الْملك ووجوده وَهِي عشرُون ركنا ضَرُورِيَّة وكمالية الرُّكْن الأول نصب الْوَزير وَفِيه مقدمتان وَثَلَاثَة مطَالب الرُّكْن الثَّانِي فِي إِقَامَة الشَّرِيعَة وَفِيه مُقَدّمَة وَثَلَاثَة فُصُول الرُّكْن الثَّالِث فِي إعداد الْجند وَفِيه مقدمتان وَأَرْبع عنايات الرُّكْن الرَّابِع حفظ المَال وَفِيه قطبان الرُّكْن الْخَامِس تَكْثِير الْعِمَارَة وَفِيه مقدمتان وَثَلَاثَة مَقَاصِد

الركن السادس

الرُّكْن السَّادِس إِقَامَة الْعدْل وَفِيه مُقَدّمَة ومسلكان الرُّكْن السَّابِع توليد الخطط وَهِي الدِّينِيَّة وَهِي سبع إِقَامَة الصَّلَاة والتدريس والفتيا وَالْقَضَاء وَالْعَدَالَة والحسبة والسككة الرُّكْن الثَّامِن تَرْتِيب الْمَرَاتِب السُّلْطَانِيَّة وَفِيه ثَلَاث مُقَدمَات وَخمْس مَرَاتِب وَهِي الحجابة وَالْكِتَابَة وديوان الْعَمَل والجباية والشرطة الرُّكْن التَّاسِع رِعَايَة السياسة وَفِيه مقدمتان ومنهجان الرُّكْن الْعَاشِر تَقْدِيم مشورة ذَوي الرَّأْي والتجربة وَفِيه ثَلَاث مُقَدمَات وَأَرْبع مقامات الرُّكْن الْحَادِي عشر بذل النَّصِيحَة وَفِيه سِتّ مسَائِل وتكملة الرُّكْن الثَّانِي عشر أَحْكَام التَّدْبِير وَفِيه ثَمَان مسَائِل الرُّكْن الثَّالِث عشر تَقْدِيم الْوُلَاة والعمال وَفِيه ثَمَان مسَائِل وتتميم

الركن الرابع عشر

الرُّكْن الرَّابِع عشر اتِّخَاذ البطانة وَأهل الْبسَاط وَفِيه ثَمَان مسَائِل وَثَلَاث فَوَائِد مكملة الرُّكْن الْخَامِس عشر تنظيم الْمجْلس وعوائده وَفِيه خمس مسَائِل الرُّكْن السَّادِس عشر تَقْدِير الظُّهُور والاحتجاب وَفِيه نظران أَحدهمَا فِي الظُّهُور وَفِيه سنتَانِ وَفِيه سِتّ مسَائِل الثَّانِي فِي الاحتجاب وَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا الْمَأْذُون فِيهِ وَفِيه أَربع مسَائِل وَالثَّانِي المنوع مِنْهُ وَفِيه ثَلَاث مسَائِل الرُّكْن السَّابِع عشر رِعَايَة الْخَاصَّة والبطانة وَفِيه عشر مسَائِل الرُّكْن الثَّامِن عشر ظُهُور الْعِنَايَة بِمن لَهُ حق أَو فِيهِ مَنْفَعَة وهم أَصْنَاف سِتَّة أَحدهمَا آل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه ثَلَاث مسَائِل الثَّانِي الْعلمَاء وَفِيه ثَلَاث مسَائِل الثَّالِث الصلحاء وَفِيه ثَلَاث مسَائِل الرَّابِع أَصْحَاب الْوَفَاء مَعَ ذَوي الْيَد السَّابِقَة وَفِيه أَربع مسَائِل الْخَامِس وُجُوه النَّاس وَفِيه ثَلَاث مسَائِل السَّادِس الْأَغْنِيَاء من الرّعية وَفِيه ثَلَاث مسَائِل الرُّكْن التَّاسِع عشر مكافآت ذَوي السوابق وَفِيه ثَلَاث مسَائِل

الركن العشرون

الرُّكْن الْعشْرُونَ تخليد مفاخر الْملك ومآثره وَفِيه مقدمتان ومقامان الْبَاب الثَّانِي فِي الصنفان الَّتِي تصدر بهَا تِلْكَ الْأَفْعَال على أفضل نظام وَفِيه سِتّ مُقَدمَات وَعِشْرُونَ قَاعِدَة الْقَاعِدَة الأولى الْعقل وفيهَا عشر مسَائِل الْقَاعِدَة الثَّانِيَة الْعلم وفيهَا خمس مسَائِل الْقَاعِدَة الثَّالِثَة الشجَاعَة وفيهَا نظران أَحدهمَا فِي بَيَان هَذَا الْوَصْف وقيه عشر مسَائِل الثَّانِي فِي تَقْرِير نقيضه وَهُوَ الْجُبْن وَفِيه خمس مسَائِل الْقَاعِدَة الرَّابِعَة الْعِفَّة وفيهَا ثَمَان مسَائِل الْقَاعِدَة الْخَامِسَة السخاء والجود وفيهَا منهجان أَحدهمَا فِي بَيَان هَذَا الْوَصْف وَفِيه عشر مسَائِل الثَّانِي فِي تَقْرِير نقيضه وَهُوَ الْبُخْل وَفِيه تسع مسَائِل الْقَاعِدَة السَّادِسَة الْحلم وفيهَا سبع مسَائِل الْقَاعِدَة السَّابِعَة كظم الغيظ وفيهَا طرفان أَحدهمَا فِي كظم الغيظ وَفِيه خمس مسَائِل الثَّانِي فِي الْغَضَب وَفِيه عشر مسَائِل الْقَاعِدَة الثَّامِنَة الْعَفو وفيهَا تسع مسَائِل الْقَاعِدَة التَّاسِعَة الرِّفْق وفيهَا سبع مسَائِل الْقَاعِدَة الْعَاشِرَة اللين وفيهَا ثَلَاث مسَائِل الْقَاعِدَة الْحَادِيَة عشرَة التشبث وفيهَا خمس مسَائِل

الكتاب الثالث

الْقَاعِدَة الثَّانِيَة عشرَة الْوَفَاء بالوعد والعهد وفيهَا طرفان أَحدهمَا الْوَفَاء بالوعد وَفِيه خمس مسَائِل الثَّانِي فِي الْوَفَاء بالعهد وَفِيه سِتّ مسَائِل الْقَاعِدَة الثَّالِثَة عشرَة الصدْق وفيهَا عشر مسَائِل الْقَاعِدَة الرَّابِعَة عشرَة كتم السِّرّ وفيهَا عشر مسَائِل الْقَاعِدَة الْخَامِسَة عشرَة الحزم وفيهَا ثَمَان مسَائِل الْقَاعِدَة السَّادِسَة عشرَة الدهاء والتغافل وفيهَا نظران أَحدهمَا الدهاء وَفِيه أَربع مسَائِل الثَّانِي فِي التغافل وَفِيه أَربع مسَائِل الْقَاعِدَة السَّابِعَة عشرَة التَّوَاضُع وفيهَا ثَلَاثَة مطَالب أَحدهمَا فِي التَّوَاضُع وَفِيه سِتّ مسَائِل الثَّانِي فِي الْكفْر وَفِيه اثْنَتَا عشرَة مَسْأَلَة الثَّالِث فِي الْعجب وَفِيه أَربع مسَائِل الْقَاعِدَة الثَّامِنَة عشرَة سَلامَة الصَّدْر من الحقد والحسد وفيهَا طرفان أَحدهمَا فِي الحقد وَفِيه ثَلَاث مسَائِل الثَّانِي فِي الْحَسَد وَفِيه إِحْدَى عشرَة مَسْأَلَة الْقَاعِدَة التَّاسِعَة عشرَة الصَّبْر وفيهَا عشر مسَائِل الْقَاعِدَة الْعشْرُونَ الشُّكْر وفيهَا سبع مسَائِل التكملة فِي سرد مَا رتب من الْأَوَامِر والنواهي على الْقُلُوب والجوارح والحواس الْكتاب الثَّالِث فِيمَا يُطَالب بِهِ السُّلْطَان تشييدا لأركان الْملك وتأسيسا لقواعده وَفِيه مُقَدّمَة وبابان الْمُقدمَة الأولى فِي التحذير من مَحْظُورَات تخل بذلك الْمَطْلُوب شرعا وسياسة وَهِي جملَة أَتبَاع الْهوى والترفع عَن المدرات وَقبُول السّعَايَة والنميمة واتخاذ الْكَافِر وليا والغفلة عَن مُبَاشرَة الْأُمُور

الْبَاب الأول فِي جَوَامِع مَا بِهِ السياسة الْمَطْلُوبَة من السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ وَفِيه ثَلَاثَة فُصُول الْفَصْل الأول فِي سياسة السُّلْطَان وَهِي سياستان أَحدهمَا فِي سياسة الرّعية وفيهَا جملتان تأسيس مَا يقوم عَلَيْهِ بناؤها وَفِيه عشر مسَائِل واقتضاء الْحق الْوَاجِب لَهُ على الرّعية وَهُوَ نَوْعَانِ امْتِثَال مَا وَجب فعله وَهُوَ خَمْسَة حُقُوق وَاجْتنَاب مَا لزم تَركه وَهُوَ خمس مخالفات الثَّانِيَة سياسة الْأُمُور الْعَارِضَة وَالْمَذْكُور مِنْهَا خَمْسَة الْجِهَاد وَفِيه عشرُون مَسْأَلَة وخاتمة وَالسّفر وَفِيه عشر مسَائِل حكمِيَّة وشرعية والشدائد النَّازِلَة وفيهَا تذكيرات خَمْسَة وتكميل بِمَا يتَوَجَّه بِهِ فِي شدَّة تكالب الْعَدو والوباء والمجاعة والرسالة وفيهَا عشر رعايات وتتميم والوفود وفيهَا خَمْسَة عنايات الْفَصْل الثَّانِي فِي سياسة الْوَزير وَهِي بِاعْتِبَار مَا يَخُصُّهُ ثَلَاث مَرَاتِب أَحدهمَا سياسة نَفسه وجوامعها ضَرْبَان أَخذ نَفسه بمعتقدات علمية وَهِي خَمْسَة وبعزائم عملية وَهِي خَمْسَة الثَّانِيَة سياسته لسلطانه وَهِي نَوْعَانِ آدَاب يعظم بهَا على مقَامه وَهِي عشرَة ومتقيات يحذر مِنْهَا على خدمَة ملكه وَهِي عشرُون الثَّالِثَة سياسته لخواص السُّلْطَان وَسَائِر أَرْبَاب الدولة وهم طبقتان المسالمون لَهُ فِي الظَّاهِر وسياستهم بِخمْس مدارات والمتطلعون إِلَى مَنْزِلَته وسياستهم بِخمْس مقابلات الْفَصْل الثَّالِث فِي سياسة سَائِر الْخَواص والبطانة فِي صُحْبَة السُّلْطَان وخدمته

الكتاب الرابع

وَفِيه مقدمتان فِي التَّرْهِيب من مخالطته وَلَو بِمُجَرَّد الدُّخُول عَلَيْهِ وَفِي التحذير من صحبته ثمَّ حصر آدابها فِي نَوْعَيْنِ مَا يتأدب بِفِعْلِهِ وبتركه الْبَاب الثَّانِي فِي وَاجِبَات يلْزم السُّلْطَان سياسة الْقيام بهَا وَفَاء بعهدة مَا تحمله وطولب بِهِ وَالْمَذْكُور مِنْهَا خَمْسَة بعْدهَا تَتِمَّة بَيَان الْوَاجِب الأول حفظ أصُول الدّين وَفِيه ثَلَاث مسَائِل الْوَاجِب الثَّانِي تَنْفِيذ الْأَحْكَام وَفِيه مقدمتان وطرفان أَحدهمَا فِيمَا يسوغ للسُّلْطَان فِي هَذَا الْمقَام رعيا للسياسة الْمُعْتَبرَة وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الثَّانِي فِيمَا لَا يسوغ لَهُ لعدم اعْتِبَاره وَمن ذَلِك الفراسة الْوَاجِب الثَّالِث إِقَامَة الْحُدُود وَفِيه خمس مسَائِل وَعشر فَوَائِد فقهية وعاطفة وتتميم الْوَاجِب الرَّابِع عُقُوبَة الْمُسْتَحق وتعزيره وَفِيه مقدمتان ونظران وتكملة أَحدهمَا من حَيْثُ هُوَ مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة وَفِيه عشر مسَائِل الثَّانِي مَا يخص السُّلْطَان بِحَسب رِعَايَة السياسة فِيهِ وَفِيه عشر مسَائِل التكملة فِي النّظر فِي السجْن شرعا وسياسة وَفِيه خمس مسَائِل وخاتمة الْوَاجِب الْخَامِس رِعَايَة أهل الذِّمَّة وَفِيه خمس مسَائِل تَكْمِلَة الْبَيَان فِي ذكر مَا بِهِ طَاهِر بن الْحُسَيْن لِابْنِهِ فِي السياسة الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا سَائِر الطَّبَقَات الْكتاب الرَّابِع فِي عوائق الْملك وعوارضه وَفِيه بَابَانِ الْبَاب الأول فِي عوائق الْملك الْمَانِعَة من دَوَامه وَفِيه ثَلَاثَة أنظار

النّظر الأول فِي التَّعْرِيف بالعوائق المنذرة بِمَنْع دوَام الْملك وَهِي ثَمَانِيَة أَحدهمَا حُصُول النعم والترف للقبيلة الثَّانِي لحاق المذلة للقبيلة وانقيادهم لسواهم الثَّالِث استحكام طبيعة الْملك من الِانْفِرَاد بالمجد وَحُصُول الترف وإيثار الذِّمَّة الرَّابِع إرهاف الْحَد الْخَامِس الْحجاب الْوَاقِع دَلِيلا على الْهَرم السَّادِس حجر السُّلْطَان والاستبداد عَلَيْهِ السَّابِع استظهار السُّلْطَان على قومه وَذَوي عصبيته بِالْمَوَالِي والمصطنعين الثَّامِن انقسام الدولة الْوَاحِدَة بدولتين النّظر الثَّانِي فِي التَّعْرِيف بكيفية الْخلَل إِلَى الدول فِي العصبية وَالْمَال النّظر الثَّالِث فِي بِأَن مُقْتَضى الْإِنْذَار بِمَنْع دوَام الْملك لاستحكام هرمه لَا يتَخَلَّف الْبَاب الثَّانِي فِي عوارض الْملك اللاحقة لطبيعة وجوده وَفِيه أَربع فُصُول أَحدهمَا فِي عوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ وَفِيه خَمْسَة عشرَة مَسْأَلَة الثَّانِي فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية للاجتماع وَفِيه خمس عشرَة مَسْأَلَة الثَّالِث فِي اكْتِسَاب المعاش وَفِيه ثَلَاثُونَ مَسْأَلَة الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم وَفِيه ثَلَاث عشرَة مَسْأَلَة الخاتمة وفيهَا سياستان ومسكة ختام

المقدمة الأولى في تقرير ما يوطىء للنظر في الملك عقلا وفيه عشرون سابقة

السياسة الأولى سياسة الْمَعيشَة وفيهَا ثَلَاثَة مطالع أَحدهَا فِي كليات مَا تدبر بِهِ الْمَعيشَة من جَانب الْوُجُود وَفِيه خمس إنارات الثَّانِي فِي أُمَّهَات مِمَّا تحفظ بِهِ من جَانب الْعَدَم وَفِيه خمس إضاءات الثَّالِث فِي مهمات دينية يعْتَبر بهَا حفظ المعاش من جَانِبي الْوُجُود والعدم وَفِيه ثَلَاث لوامع السياسة الثَّانِيَة سياسة النَّاس وفيهَا سِتّ مسَائِل مسكة الختام بتقرير أَن سيرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سياستي الدّين وَالدُّنْيَا هِيَ السِّيرَة الجامعة لمحاسن الشيم وَمَكَارِم الْأَخْلَاق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَسْلِيمًا وَبعد دلَالَة هَذَا العنوان على مُجمل مَا حواه مَجْمُوع الدِّيوَان فلنشرع فِي إِيرَاده مفصلا وبكفاية الِاقْتِصَار على أوجز الِاخْتِصَار محصلا وَالله تَعَالَى الْمَحْمُود على مَا أعَان عَلَيْهِ من ذَلِك وأقدر وأمد من طوله بِمَا أورد من حوله وأصدر وَهُوَ سُبْحَانَهُ المسؤول أَن يعْصم فِيهِ من الزلل ويحفظ من سوء الْخَطَأ والخلل وَيحسن فِيهِ النِّيَّة ويبلغ الْمُقدمَة الأولى فِي تَقْرِير مَا يوطىء للنَّظَر فِي الْملك عقلا وَفِيه عشرُون سَابِقَة السَّابِقَة الأولى إِن الِاجْتِمَاع الإنساني هُوَ عمرَان الْعَالم ضَرُورِيّ وَمن ثمَّ قَالَ

السابقة الثانية

الْحُكَمَاء الْإِنْسَان مدنِي بالطبع أَي لابد لَهُ من الِاجْتِمَاع الَّذِي هُوَ المدنية عِنْدهم ليحفظ بِهِ وجوده وَبَقَاء نَوعه إِذْ لَا يُمكنهُ انْفِرَاده بتحصيل أَسبَاب معاشه وإعداد مَا يدْفع بِهِ عَن نَفسه دون معِين من أَبنَاء جنسه فيضطر بِهِ إِلَى اجْتِمَاع يتكفل لَهُ بذلك على أيسر مرام لتتم حِكْمَة إيجاده وَغَايَة مَا خلق لَهُ السَّابِقَة الثَّانِيَة إِن من الْعَوَارِض الطبيعية لهَذَا الِاجْتِمَاع أمورا خَمْسَة البدو الَّذِي يكون فِي الضواحي وَالْجِبَال وَفِي الْحلَل المنتجعة للقفار وأطراف الرمال والتغلب الَّذِي غَايَته الْملك بالعصية الْقَاهِرَة والحضر الَّذِي يسْتَقرّ بالأمصار والمدن والقرى والمداشر اعتصاما بهَا وتحصنا والمعاش المبتغي بِهِ التمَاس الرزق كسبا وصناعة واكتساب الْعُلُوم تَعْلِيما وتحصيلا وَلما كَانَ الْملك مَسْبُوقا بالبدو ومبدأ التغلب مُتَأَخّر عَنهُ سائرها فالمتقدم مَا سبق طبعا من ذَلِك السَّابِقَة الثَّالِثَة إِن الْمُوجب لانقسام الْعمرَان إِلَى بدوي وحضري إِن للتعاون بِهِ مقصدين أَحدهمَا أَن يَتَقَرَّر بِحَسب الضَّرُورِيّ فَقَط وَهَذَا هُوَ البدوي ضَرُورَة وَأَن انتحال الفلح فِيهِ يضْطَر إِلَى البدو والمتسع المسارح للحيوان والمزارع للغرس وَالزَّرْع وَإِذا ذَاك فالكن فِيهِ والدفء إِنَّمَا هُوَ بِقدر مَا يحفظ بِهِ الْحَيَاة خَاصَّة

السابقة الرابعة

الثَّانِي أَن يتَجَاوَز إِلَى الحاجي والتكميلي وَهَذَا هُوَ الحضري لأجل أَن التَّوَسُّع بِحُصُول مَا فَوق الْحَاجة يَدْعُو إِلَى السّكُون والدعة وإختطاط المدن والأمصار وَعند ذَلِك يتزايد الرفه فتجيء عوائد الترف وتكسب بالصنائع وَالتِّجَارَة السَّابِقَة الرَّابِعَة إِن تقدم البدو على الْحَضَر كَمَا إِنَّه مَادَّة لَهُ ظَاهر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن البدو لما اقْتصر فِيهِ على الضَّرُورِيّ الَّذِي هُوَ أقدم من الْحَاج الَّذِي تجوز إِلَيْهِ فِي الْحَضَر وَكَانَ الضَّرُورِيّ أصلا والحاجي فرعا دلّ ذَلِك على أَن البدو مُتَقَدم على الْحَضَر وأصل لَهُ ومادة الثَّانِي إِن العيان شَاهد بِأَن أولية أهل الْأَمْصَار فِي الْأَكْثَر إِنَّمَا هِيَ من أهل البدو عُدُولًا إِلَى الدعة والترف لما يسروا وارتاشوا وَهُوَ يدل على أَن أَحْوَال الحضارة ناشئة عَن أَحْوَال البدواة السَّابِقَة الْخَامِسَة إِن أهل البدو أقرب إِلَى الْخَيْر من أهل الْحَضَر لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن النَّفس مَتى بقيت على الْفطْرَة الأولى تهيأت لقبُول مَا يرد عَلَيْهَا من خير أَو شَرّ والبدو أقرب إِلَيْهَا من الْحَضَر لما انطبع فِي نُفُوسهم من سوء الملكات بعوائد الحضارة وَحِينَئِذٍ فعلاج أهل البدو اسهل وَهُوَ معنى أَنهم أقرب إِلَى الْخَيْر

السابقة السادسة

الثَّانِي إِن الحضارة كَمَا يرد بعد إِن شَاءَ الله هِيَ النِّهَايَة فِي إِكْمَال الْعمرَان الْخَارِج بِهِ إِلَى الْفساد والغاية فِي النشر الْبعيد عَن الْخَيْر وَمن سلم من ذَلِك فَلَا خَفَاء فِي قربه من الْخَيْر قلت وَمَعَ ذَلِك فللحضر من الْفضل على البدو مَالا يخفى وَإِنَّمَا هَذَا بِاعْتِبَار مَا يعرض من الشَّرّ بِالْقَصْدِ الثَّانِي السَّابِقَة السَّادِسَة إِن أهل البدو أقرب إِلَى الشجَاعَة من أهل الْحَضَر لِأَن تعود أهل الْحَضَر لما نشئوا عَلَيْهِ من الانغماس فِي النعم والاعتماد فِي المدافعة عَن النَّفس وَالْمَال على الْوُلَاة والحماة صَار لَهُم كالخلق الطبيعي حَتَّى تنزلوا بِهِ منزلَة النسوان والولدان وَأَصْبحُوا لأَجله عَالَة على من وكلوا إِلَيْهِ أَمرهم وَأهل البدو لتوحشهم وانفرادهم عَن الحامية قائمون بالدفاع عَن أنفسهم لايكلونه إِلَى غَيرهم إذلالا بالبأس ووثوقا بالشجاعة إِذْ قد صَار ذَلِك لَهُم خلقا وسجية قَالَ ابْن خلدون وَأَصله أَن الْإِنْسَان ابْن عوائده ومألوفة لَا ابْن طَبِيعَته ومزاجه فَالَّذِي أَلفه فِي الْأَحْوَال حَتَّى صَار لَهُ خلقا وملة وَعَادَة تنزل منزلَة الطبيعة والجبلة وَالله يخلق مَا يَشَاء السَّابِقَة السَّابِعَة إِن معاناة أهل الْحَضَر للْأَحْكَام مُفسد للبأس وذاهب

برهان وجود

بالمنعة لِأَن الْغَالِب أَن الْإِنْسَان إِنَّمَا هُوَ فِي ملكة غَيره والأمراء المالكون لأمر النَّاس قَلِيل ماهم وَحِينَئِذٍ فأحكام هَذِه الملكة أَنْوَاع أَحدهمَا العادلة الَّتِي لَا يعاني مِنْهَا جور وَهَذِه لَا تغير مَا فِي النَّفس من شجاعة أَو جبن وثوقا بِالْعَدْلِ الْوَازِع وادلالا الثَّانِي الْقَاهِرَة الَّتِي تعاني بهَا شدَّة سطوته وَهَذِه كأسرة من سُورَة الْبَأْس وذاهبة بِقُوَّة المنعة لما ينشأ عَن ذَلِك من التكاسل فِي النَّفس المقهورة الثَّالِث الجائرة بالعقاب المؤلم وَهَذِه بِلَا شكّ مذهبَة للبأس جملَة لِأَن وُقُوعه بِهِ وَلم يدافع عَن نَفسه ويكسبه الذل الَّذِي لَا يرفع بِهِ رَأْسا الرَّابِع التعليمية الَّتِي أَخذ بهَا فِي عهد الصِّبَا تأديبا وتقويما وَهَذِه تُؤثر فِي ذَلِك بعض الشَّيْء لمرباه على المخالطة والانقياد برهَان وجود قَالَ ابْن خلدون وَلِهَذَا تَجِد المتوحشين من بَدو الْعَرَب أَشد بَأْسا مِمَّن تَأْخُذهُ الْأَحْكَام ونجد الَّذين يعانونها وملكتها من لدن مرباهم فِي التَّأْدِيب والتعليم فِي صناعَة أَو علم أَو ديانَة فينقص ذَلِك من بأسهم كثيرا

السابقة الثامنة

قَالَ وَهَذَا شَأْن طلبة الْعلم المنتحلين للْقِرَاءَة وَالْأَخْذ من الْمَشَايِخ وَالْأَئِمَّة الممارسين للتعليم والتأديب فِي مجَالِس الْوَقار والهيبة قَالَ وَلَا تستنكرن ذهَاب ذَلِك الْبَأْس والمنعة بِمَا وَقع فِي الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم من أَخذهم بِأَحْكَام الدّين وَلم ينقص ذَلِك من باسهم بل كَانُوا بِهِ أَشد النَّاس بَأْسا لِأَن وازعهم إِنَّمَا كَانَ من أنفسهم لَا بتعليم صناعَة وَلَا تَأْدِيب تعليمي إِنَّمَا هِيَ أَحْكَام الدّين وآدابه المتلقاة نقلا اهذوا بهَا أنفسهم لما رسخ فِيهَا من عقائد الْإِيمَان فَبَقيت سُورَة بأسهم على أَولهَا وَلم تخدش فِيهَا أظفار التَّأْدِيب وَالْحكم السَّابِقَة الثَّامِنَة إِن سُكْنى البد لَا يتم إِلَّا للقبائل ذَوي العصبية وذل لِأَن الظُّلم وَاقع من النُّفُوس البشرية بالطبع إِلَّا أَن يصد عَنهُ وازع وَعند ذَلِك فالوازع عَن الظُّلم فِي الْحَضَر إِنَّمَا هُوَ السُّلْطَان الْقَائِم بالدولة الْغَالِبَة وَفِي البدو أما فِي أحيائه فالمشايخ والكبراء لما وقر لَهُم فِي النُّفُوس من الْوَقار والتجلة وَأما فِي حلله فَإِنَّمَا يذود عَنْهَا من خَارج حامية الْحَيّ وشجعانه وَلَا يصدق ذَلِك إِلَّا إِذا كَانُوا ذَوي عصبية مشتبكة وَأهل تشيع وَحِينَئِذٍ تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم لما جبل فِي الْقُلُوب من الشَّفَقَة والنعرة على ذَوي الرَّحِم والقرابة وَمن ثمَّ قَالَ اخوة يُوسُف عَلَيْهِ

تمهيد قال ابن خلدون

السَّلَام لَئِن أكله الذِّئْب وَنحن عصبَة إِنَّا إِذا لخاسر ون والمفترون فِي النّسَب قل إِن يجد أحد مِنْهُم نعرة على صَاحِبَة يَوْم الكفاح على حد مَا هِيَ من ذَوي الْأَرْحَام فَلَا يقدرُونَ لذَلِك على سُكْنى الْفقر وَإِلَّا كَانُوا فريسة من سواهُم تمهيد قَالَ ابْن خلدون وَإِذا تبين ذَلِك فِي السُّكْنَى المفتقرة إِلَى المدافعة فبمثله تبين فِي كل أَمر يحمل النَّاس عَلَيْهِ من نبوءة أَو إِقَامَة ملك أَو دَعْوَة إِذْ لايتم بُلُوغ الْغَرَض من ذَلِك غلا بِالْقِتَالِ لما فِي طبائع الْبشر من الاستعصاء ولابد فِي الْقِتَال من العصبية كَمَا تقرر قَالَ فاتخذوه إِمَامًا تقتدي بِهِ السَّابِقَة التَّاسِعَة إِن العصبية لَا تحصل إِلَّا بالتحام نسب أَو مَا فِي مَعْنَاهُ أما بِالنّسَبِ فَلِأَن من صلَة الرَّحِم الطبيعية فِي الْبشر غَالِبا نفرة ذَوي الْقُرْبَى بَعضهم على بعض حَتَّى لَا ينالهم ضيم أَو هلكة فَإِذا قرب النّسَب وحصلت بِهِ صلَة الالتحام أستدعي بِمُجَرَّد هـ أقْصَى مَقْدُور عَلَيْهِ فِي التناصر وَمَتى بعد بعض الشَّيْء كفى فِي الْحمل عَلَيْهِ مَا هُوَ مَشْهُور مِنْهُ فرار من الغضاضة المتوهمة هضم من يُشَارك فِي النّسَب بِوَجْه وَأما بِالَّذِي فِي معاذه فكالولاء وَالْحلف لِأَن الأنفة اللاحقة للنَّفس من اهتمام جَار أَو قريب أَو نسيب

السابقة العاشرة

بِوَجْه مَا تحمل على النعرة على أهل الْوَلَاء وَالْحلف حتما فَائِدَة حكمِيَّة قَالَ ابْن خلدون وَمن هَذَا تفهم معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعلمُوا من أنسابكم مَا تصلونَ بِهِ أَرْحَامكُم فغن النّسَب فَائِدَة الالتحام والوصلة الَّتِي بهَا المناصرة والنعرة وَمَا فَوق ذَلِك مُسْتَغْنى عَنهُ إِذْ النّسَب أَمر وهمي لَا حَقِيقَة لَهُ ونفعه إِن ظَهرت فَائِدَة حمل على النعرة الطبيعية وَأَن أستفيد من الْخَبَر فَحسب ضعف الْوَهم وَذَهَبت فَائِدَته وَصَارَ الشّغل بِهِ مجَّانا وَمن أَعمال اللَّهْو الْمنْهِي عنة وَمن ثمَّ قيل أَن النّسَب علم لَا ينفع وجهالة لَا تضر أَي النّسَب إِذا خرج عَن الْمَوْضُوع وَصَارَ من قبيل الْعُلُوم ذهبت فَائِدَة الْوَهم فِيهِ واتفقت النعرة الَّتِي تحمل عَلَيْهَا العصبية فَلَا مَنْفَعَة فِيهِ حِينَئِذٍ وَالله اعْلَم انْتهى بِاخْتِصَار السَّابِقَة الْعَاشِرَة أَن الرياسة على أهل العصبية لَا تكون فِي غير نسبهم لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن الرياسة لابد فِيهَا من التغلب الْمَوْقُوف على العصبية وَذَلِكَ يُوجب أَن تغلب عصبيتها سَائِر العصائب وَحِينَئِذٍ تسلم لصَاحِبهَا الثَّانِي أَنَّهَا لَا تكون إِلَّا فِي منبت وَاحِد تعين لَهُ الغلب بالعصبية

الْقَاهِرَة وَعند ذَلِك فالساقط فِي غير نسبه لَا تحصل بِهِ رياسة على أهل العصبية لفقد العصبية أَولا وَعدم إرثها ثَانِيًا غَفلَة قَالَ ابْن خلدون وَقد يتشوف كثير من الرؤساء على الْقَبَائِل غلى انساب ينزعون إِلَيْهَا لفضلها ويتورط ون بِالدَّعْوَى فِي شعوبها وَلَا يعلمُونَ مَا يوقعون فِيهِ أنفسهم من الْقدح فِي رياستهم والطعن فِي شرفهم وَهُوَ كثير فِي النَّاس لهَذَا الْعَهْد كادعاء زناته جملَة انهم من الْعَرَب وادعاء بني زيان مُلُوك بني عبد الواد انهم من ولد الْقَاسِم بن إِدْرِيس قَالَ ومنالهم الْملك إِنَّمَا كَانَ بعصبيتهم لَا بادعاء علوِيَّة وَلَا عباسية وَإِنَّمَا يحمل على هَذَا المتقربون غلى الْمُلُوك بمنازعهم ويشتهر حَتَّى يبعد الرَّد قلت وَإِلَى الْآن مازال ذَلِك يَدعِي لَهُم أَنْصَاف قَالَ وَلَقَد بَلغنِي عَن سان بن زيان مؤثل سلطانهم أَنه لما قيل لَهُ ذَلِك أنكرهُ وَقَالَ بلغته الزناتية مَا مَعْنَاهُ

السابقة الحادية عشرة

أما الْملك فنلناه بسيوفنا لَا بِهَذَا النّسَب وَأما نَفعه فِي الْآخِرَة وَأما فمردود غلى الله وَأعْرض عَن المتقرب إِلَيْهِ بذلك السَّابِقَة الْحَادِيَة عشرَة أَن شرف الْبَيْت بالصالة والحقيقة إِنَّمَا هُوَ لأهل العصبية وَأما لغَيرهم فبالمجاز بَيَان الأول أَن الشّرف إِنَّمَا هُوَ بالخلال وَمعنى الْبَيْت عد أشرف الْآبَاء الْمُعظم بهم من لَهُم عَلَيْهِ ولادَة لشرفهم بالخلال وَحِينَئِذٍ فَهُوَ رَاجع غلى النّسَب وَقد تقدم أَن فَائِدَته إِنَّمَا هِيَ العصبية وَمَتى كَانَت مرهوبة مَعَ زكاء المنبت فَتلك الْفَائِدَة أوضح وتحديد أَشْرَاف الْآبَاء يزيدها رسوخا فَيكون الْحسب بِهِ أصيلا بَيَان ثَانِي غن فَاقِد هَذِه الثَّمَرَة من أهل الْأَمْصَار ظَاهِرَة فِيهِ أَنه لَا بَيت لَهُ إِلَّا بمجاز وَأَن توهمه فزخرف من الدَّعَاوَى لِأَن حَسبه إِنَّمَا هُوَ بِعَدَد مَاله من سلف فِي خلاف الْخَيْر مَعَ الركون إِلَى الغافية وَهُوَ مُغَاير لسر العصبية الَّتِي هِيَ ثَمَرَة النّسَب وتعديد الْآبَاء وَحِينَئِذٍ فَهُوَ حسب بالمجاز لعلاقة تعديد الْآبَاء المتعاقبين على طَريقَة وَاحِدَة من الْخَيْر وَلَيْسَ حسبا بِالْحَقِيقَةِ وعَلى الْإِطْلَاق

تنبيه

تَنْبِيه قَالَ وَقد يكون للبيت شرف أول بالعصبية والخلال ثمَّ ينسلخون مِنْهُ لذهابها بالحضارة ويختلطون بالغمار وَيبقى فِي نُفُوسهم وسواس ذَلِك الْحسب وَلَيْسوا من ذَلِك فِي شَيْء لذهاب العصبية جملَة وَكثير من أهل الْأَمْصَار الناشئين فِي بيُوت الْعَرَب والعجم لأوّل عَهدهم موسومون بذلك قَالَ وَأكْثر مَا رسخ الوسواس فِي ذَلِك لبني إِسْرَائِيل لما سبق لَهُم من شرف الْبَيْت بِتَعَدُّد الْأَنْبِيَاء وَالرسل ثمَّ العصبية وَالْملك الَّذِي وعدوا بِهِ وَبعد انسلاخهم عَن جَمِيع ذَلِك وَضرب الذلة وانفرادهم بالاستعباد آلافا من السنين مَا زَالَ هَذَا الوسواس مصاحبا لَهُم فَيَقُولُونَ هَذَا هاروني أَو من قبائل يُوشَع أَو من سبط كَذَا مَعَ ذهَاب مَا أوجب ذَلِك أَولا ورسوخ مَا عَفا بعد على أَثَره قَالَ وَكثير من أهل الْأَمْصَار وَغَيرهم المنقطعين فِي أنسابهم عَن العصبية يذهب غلى هَذَا الهذيان قَالَ وَقد غلظ ابْن رشد فِي هَذَا لما ذكر الْحسب فِي كتاب الخطابة من تَلْخِيص كتاب أر سطو فَقَالَ

السابقة الثانية عشرة

والحسب أَن يكون من قوم قديم نزلهم بِالْمَدِينَةِ وليت شعري مَا الَّذِي يَنْفَعهُ قدم نزلهم إِن لم يكن عِصَابَة يرهب بهَا جَانِبه وَيحمل غَيرهم على الْقبُول مِنْهُ فَكَأَنَّهُ أطلق الْحسب على تعديد الْآبَاء فَقَط مَعَ أَن الخطابة إِنَّمَا هِيَ استمالة من تُؤثر استمالته وَهن أهل الْحل وَالْعقد وَأما من لَا قدرَة لَهُ الْبَتَّةَ فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا يقدر على استمالة أحد قَالَ أَلا إِن رشد رَبِّي فِي جيل وبلد لم يمارسوا العصبية وَلَا أنسوا أحوالها فَبَقيَ فِي أَمر الْبَيْت والحسب على الْأَمر الْمَشْهُور من تعديد الْآبَاء على الْإِطْلَاق وَلم يُرَاجع فِيهِ حَقِيقَة العصبية وسرها فِي الْخَلِيفَة وَالله بِكُل شَيْء عليم انْتهى السَّابِقَة الثَّانِيَة عشرَة إِن الْبَيْت والشرف للموالي والمصطنعين إِنَّمَا هُوَ بمواليهم لَا بأنسابهم لما سبق أَن الشّرف بِالْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ لهل العصبية فَمَتَى اصطنعوا أَو استرقوا أَو حالفوا من لَيْسَ مِنْهُم والتحم بهم ضرب مَعَهم بِسَهْم فِي تِلْكَ العصبية وَلبس جلدتها كَأَنَّهَا عصبيته وَحصل لَهُ من الانتظام فِي سلكها مساهمة فِي نَسِيَهَا وَحِينَئِذٍ فنسب وِلَادَته غير نَافِع لَهُ فِيهَا لمباينتها لنسبه وفقدان عصبيتها لذهاب سرها عِنْد التحامه بِهَذَا النّسَب الآخر فَإِذا تعدد لَهُ الْآبَاء فِي هَذِه العصبية كَانَ لَهُ بَينهم شرف بَيت على نِسْبَة ولائه واصطناعه لَا يتَجَاوَز إِلَى شرفهم بل سُكُون أدون مِنْهُم على كل حَال

السابقة الثالثة عشرة

اعْتِبَار قَالَ خلدون وَهَذَا شان الموَالِي والخدمة إِنَّمَا يشرفون بالرسوخ فِي وَلَاء الدولة وَخدمتهَا وتعدد الْآبَاء فِي ولايتها كمالي الأتراك فِي دولة بني الْعَبَّاس وَبني برمك وَبني نوبخت أدركوا الْبَيْت والشرف وَبَنُو الْمجد والأصالة بالرسوخ فِي وَلَاء الدولة لَا ينْسب ولادتهم لَا اضمحلاله ولغو اعْتِبَاره وَحِينَئِذٍ فالاعتماد بِهِ وهم توسوس بِهِ النُّفُوس الجامحة وَلَا حَقِيقَة لَهُ قَالَ والوجود شَاهد لذَلِك وأكرمكم عِنْد الله أَتْقَاكُم السَّابِقَة الثَّالِثَة عشرَة أَن نِهَايَة الْحسب فِي الْعقب الْوَاحِد أَرْبَعَة آبَاء وَبَيَانه كَأَن العيان شَاهد بِأَن الْعَالم العنصري بِمَا فِيهِ من ذَوَات وأحوال كَائِن فَاسد من الْعَوَارِض الإنسانية فَهُوَ كَائِن فَاسد بِلَا شكّ وَلَا يُوجد لحد من الْخَلِيفَة شرف مُتَّصِل فِي آبَائِهِ من لدن آدم إِلَيْهِ إِلَّا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَرَامَة لَهُ وحياطة على شرفه وَأول كل شرف خارجي خبْرَة آي عَدمه سَابق عَلَيْهِ وَكَذَا يلْحقهُ بعد الْوُجُود شَأْن كل مُحدث وَعند ذَلِك فَتلك النِّهَايَة فِيهِ لِأَن يَأْتِي الْمجد عَالم بِمَا عاناه فِي شَأْنه ومحافظ على الْخلال الَّتِي هِيَ سَبَب فِي إِدْرَاكه وَابْنه من بعده مبَاشر لَهُ وآخذ عَنهُ إِلَّا أَنه مقصر فِي ذَلِك تَقْصِير من لم يعان مَا علم فَإِذا جَاءَ الثَّالِث كَانَ حَظه التَّقْلِيد فَقَط فقصر عَن الثَّانِي تَقْصِير الْمُقَلّد عَن الْمُجْتَهد فَإِذا جَاءَ الرَّابِع قصر عَن طريقتهم جملَة وأضاع الْخلال الحافظة لبِنَاء مجدهم وتوهم أَن ذَلِك الْبناء لم يكن بمعاناة وَلَا تكلّف وَإِنَّمَا وَجب لَهُم مُنْذُ أول النشأة بِمُجَرَّد النّسَب خَاصَّة فيربأ بِنَفسِهِ عَن أهل عصبيته وَيرى الْفضل عَلَيْهِم وثوقا بِمَا ربى فِيهِ من استتباعهم وجهلا بِمَا أوجب ذَلِك من الْخلال الَّتِي مِنْهَا التَّوَاضُع الْآخِذ بِمَجَامِع الْقُلُوب وَإِذ ذَاك ينتقضون عَنهُ

تنبيه

ويديلون مِنْهُ سواهُ من فروع منبته فِي غير ذَلِك الْعقب فينهدم بِنَاء بَيته لَا محَالة هَذَا فِي الْمُلُوك وَأما فِي بيُوت الْقَبَائِل وَذَوي العصبية ثمَّ فِي بيُوت أهل الْأَمْصَار فَكَذَلِك إِذا انحطت بيُوت نشأت بيُوت أخر من ذَلِك النّسَب أَن يَشَأْ يذهبكم وَبَات بِخلق جَدِيد وَمَا ذَاك على الله بعزيز تَنْبِيه قَالَ وَاشْترط الربعة فِي الْأَنْسَاب إِنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِب وَإِلَّا فقد يدثر الْبَيْت من دون ذَلِك ويتلاشى وَقد يتَّصل إِلَى الْخَامِس وَالسَّادِس إِلَّا أَنه فِي انحطاط وَذَهَاب قَالَ وَاعْتِبَار الْأَرْبَعَة من قبل أَنهم بَان ومباشر ومباشر لَهُ ومقلد وهادم وَهُوَ أقل مَا يُمكن استظهار أستدل على هَذَا الِاعْتِبَار بظهوره فِي مَوَاضِع أَحدهَا الْمَدْح وَالثنَاء بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْكَرِيم بن الْكَرِيم بن الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم إِشَارَة لبلوغ الْغَايَة من الْمجد الثَّانِي الْعقُوبَة والمواخذة فَفِي التَّوْرَاة مَا مَعْنَاهُ أَن الله ربكُم طائق غيور مطَالب بذنوب الْآبَاء للبنين على الثوالث وعَلى الروابع وَقَالَ وَهَذَا يدل على أَن الربعة غَايَة فِي الْحسب

السابقة الرابعة عشرة

الثَّالِث تَسْلِيم الشّرف بِهِ قَدِيما وحديثا فَمن كتاب الأغاني فِي أَخْبَار عريف الغواني أَن كسْرَى قَالَ للنعمان هَل فِي الْعَرَب قَبيلَة تشرف على قَبيلَة قَالَ نعم قَالَ بِأَيّ شَيْء قَالَ من كَانَ لَهُ ثَلَاثَة آبَاء مُتَوَالِيَة رؤوسا ثمَّ اتَّصل ذَلِك بِكَمَال الرَّابِع فالبيت من قَبيلَة وَتَمام الْخَبَر مَذْكُور حَيْثُ أُشير إِلَيْهِ السَّابِقَة الرَّابِعَة عشرَة إِن المم الوحشية أقدر على التغلب لِأَن الشجَاعَة لما تمكنت فيهم لسَبَب البداوة وكما تقدم فهم لذَلِك أقدر على التغلب وَأقوى على انتزاع مَا بأيدي سواهُم وَحِينَئِذٍ فَمن كَانَ مِنْهُم اعرق فِي البداوة وأرسخ فِي خلق التوحش فَهُوَ غلى ذَلِك أقرب ومرامه علية أيسر زمن نزل مِنْهُم الرياف وَألف عوائد خصبها نقص من شجاعته بِقدر مَا بعد عَن توحشه اعْتِبَار بالخليفة قَالَ ابْن خلدون وأعتبر ذَلِك فِي الْحَيَوَانَات الْعَجم بدواجن الظباء وحمر الْوَحْش وبقرة إِذا زَالَ توحشها بمخالطة الْآدَمِيّ واخصب عيشها اخْتلف حَالهَا فِي الانتهاض االشدة فِي مشيها وَحسن أديمها وَكَذَا الْآدَمِيّ المتوحش إِذا انس وَألف برهَان وجود قَالَ وَانْظُر فِي ذَلِك شَأْن مُضر مَعَ من قبلهم من حمير وكهلان السَّابِقين للْملك وَالنَّعِيم وَمَعَ ربيعَة المستوطنين أرياف الْعرَاق ونعيمه لما بقيت مُضر فِي بداوتهم وتقديمهم الْآخرُونَ إِلَى خصب الْعَيْش ونضارة النَّعيم كَيفَ أرهفت

السابقة الخامسة عشرة

البداوة حَدهمْ فِي التغلب فغلبوهم على مَا فِي أَيْديهم وانتزعوه مِنْهُم قَالَ وَكَذَا كل حَيّ من الْعَرَب يَلِي نعيما وعشيا خصيبا دون الْحَيّ الآخر فالمصاحب لبداوته أغلب لَهُ وأقدر عَلَيْهِ إِذا تكافأ فِي الْقُدْرَة وَالْعدَد سنة الله فِي خلقه السَّابِقَة الْخَامِسَة عشرَة إِن الْعَرَب لَا يتغلبون إِلَّا على البسائط لِأَن من طبيعة توحشهم نهب من قدرُوا عَلَيْهِ من غير مغالبة وَلَا ركُوب خطر ثمَّ فرارهم بِهِ إِلَى منتجعهم بالقفر وَلَا قصد لَهُم بالمحاربة إِلَّا عِنْد الدفاع بهَا عَن أنفسهم وَعند ذَلِك فَكل مَا صَعب عَلَيْهِم من المعاقل والهضاب فهم تاركوه إِلَى مَا سهل من البسائط والبطاح فَلَا يزالون يرددون عَلَيْهَا الْغَارة خُصُوصا عِنْد فقد حاميتها حَتَّى يصير أَهلهَا كالمستعبدين لَهُم إِلَى أَن ينقرض عمرانهم بِسوء الملكة وَفَسَاد النظام السَّابِقَة السَّادِسَة عشرَة إِنَّهُم إِذا تغلبُوا على الأوطان أسْرع إِلَيْهَا الخراب وَذَلِكَ طبيعة توحشهم منافرة للعمران من وُجُوه أَحدهمَا أَن استحكام عوائدها صَار لَهُم خلقا مُوَافقا لأهوائهم لما فِيهِ من الْخُرُوج عَن ربقة الحكم وَعدم المراعاة للسياسة ومنافاة ذَلِك للعمران وَاضِحَة الثَّانِي أَن غَايَة الْأَحْوَال العادية عِنْدهم إِنَّمَا هُوَ الرحلة والتقلب فالحجر لذَلِك والخشب حَاجتهم إِلَيْهَا نصب الأثافي واتخاذ الأعمدة والأوتاد للخيام والبيوت فَلَا جرم يخربون عَلَيْهَا المباني والسقف لذَلِك وكل

ذَلِك منَاف للعمران الَّذِي لَا يكون إِلَّا بِالسُّكُونِ والمباني الثَّالِث إِن من طبيعتهم نهب مَا بأيدي النَّاس كَمَا تقدم وَلَا حد لَهُم فِي ذَلِك يقفون عِنْده بل كَانَ مَا تمتد إِلَيْهِ أَعينهم فهم منتهبوه وَذَلِكَ مُبْطل لحفظ المَال ومؤذن بخراب الْعمرَان الرَّابِع إِنَّهُم يكلفون أهل الصَّنَائِع والحرف أعمالا لَا يرَوْنَ لَهَا قيمَة وَلَا اسْتِحْقَاق عوض وفسادها بذلك يقبض الْيَد عَنْهَا ويضعف الأمل فِي المكاسب فَيفْسد الْعمرَان لَا محَالة الْخَامِس أَنهم لَا عناية لَهُم بِالْأَحْكَامِ الْوَاجِبَة شرعا وسياسة بل إِذا توصلوا إِلَى أَخذ المَال نهبا أَو مغرما أَو عوضا عَن عُقُوبَة جريمة كفاهم ذَلِك عَن النّظر فِيمَا يصلح الْخلق جلبا ودفعا ومصير الْعمرَان إِلَى الخراب لَا يخفى إِن تنافسهم فِي الرياسة حَتَّى بَين الْأَب وَالِابْن يُؤَدِّي إِلَى تعدد الْحُكَّام وَاخْتِلَاف أَيدي الْأُمَرَاء على الرّعية جباية وَحكما وَذَلِكَ مُوجب لفساد الْعمرَان يحْكى أَن أَعْرَابِيًا وَفد إِلَى عبد الْملك فَسَأَلَهُ عَن الْحجَّاج فَقَالَ مخبرا عَنهُ تركته يظلم وَحده قلت وَقد اعتذر بذلك من تِلْكَ الْجِهَة عضد الدولة فيروى أَن رَسُول

عاطفة اعتبار

ملك غزنة لما انْصَرف عَنهُ قَالَ لَهُ مَاذَا أَقُول لأخيك قَالَ قل لَهُ جِئْت من عِنْد سُلْطَان يظلم وَحده عاطفة اعْتِبَار قَالَ ابْن خلدون وَانْظُر إِلَى مَا تغلبُوا عَلَيْهِ من أول الخليقة كَيفَ خرب عمرانه وبدلت مِنْهُ الأَرْض غير الأَرْض فاليمن قرارهم خراب إِلَّا قَلِيلا وعراق الْعَرَب كَذَلِك وَالشَّام لهَذَا الْعَهْد كَذَلِك وأفريقيا وَالْمغْرب لما جَازَ إِلَيْهِمَا بَنو هِلَال وَبَنُو سليم مُنْذُ عهد الْمِائَة الْخَامِسَة قد لَحقا بذلك وعادت بسائطها خرابا بعد أَن كَانَ مَا بَين السودَان وَالْبَحْر الرُّومِي عمرانا وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَخير الْوَارِثين السَّابِقَة السَّابِعَة عشرَة إِن الْبَوَادِي من الْقَبَائِل والعصائب مغلوبون لأهل الْأَمْصَار مَا لم يحصل لَهُم علنها غلب وَلَا ملك وَذَلِكَ لاحتياجهم بالطبع للحضر فِي أَمريْن أَحدهمَا ضَرُورِيّ مَا لابد مِنْهُ فِي المعاش مِمَّا هُوَ مَعْدُوم عِنْدهم أَو غير واف بِالْمَقْصُودِ وأهمه الصَّنَائِع الَّتِي هِيَ مَادَّة الفلح الْمَوْجُود لديهم كالتجارة والحدادة وَشبه ذَلِك القاني ثمن مَا لديهم مثمونة من غلَّة زرع أَو عين حَيَوَان أَو فضلته مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ أهل الْأَمْصَار وَهُوَ الدِّينَار وَالدِّرْهَم المفقودان فِي البدو وَلَكِن حاجاتهم غلى الْأَمْصَار ضَرُورِيّ وحاجة أَهلهَا إِلَيْهِم فِي حاجي أَو تكميلي مزِيد ثَمَرَة لإخفاء أَن هَذَا الِاجْتِمَاع نَاشِئ عَن بعض الْعمرَان البدوي عَن الحضري والكامل رَئِيس النَّاقِص فَمن ثمَّ تَجِد الْبَادِيَة متصرفين فِي مصَالح الْحَضَر وطاعاتهم مَتى دعوا إِلَى ذَلِك وطولبوا بِهِ

السابقة الثامنة عشرة

قَالَ ابْن خلدون فان كَانَ فِي الْمصر ملك كَانَت طاعتهم لغَلَبَة الْملك وَإِلَّا فَلَا بُد فِيهِ من رياسة وَإِلَّا انْتقصَ عمرانه وَذَلِكَ الرئيس يحملهم على طَاعَته طَوْعًا ببذل المَال لَهُم وعَلى أَن يُبِيح لَهُم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مصره فيستقيم عمرانهم أَو كرهاإن تمت قدرته على ذَلِك وَلَو بالتضريب بَينهم حَتَّى يحصل لَهُ جَانب مِنْهُم يغالب بِهِ البَاقِينَ فيضطر الْآخرُونَ إِلَى طَاعَته بِمَا يتوقعون لذَلِك من فَسَاد عمرانهم وَرُبمَا لَا يسعهم التَّحَوُّل عَن تِلْكَ النواحي لعمران كل الْجِهَات بِمن غلب عَلَيْهَا ومنعها من غَيره وَحِينَئِذٍ فَلَا ملْجأ لَهُم إِلَّا طَاعَة الْمصر فهم بِالضَّرُورَةِ مغلوبون لأهل الْأَمْصَار وَالله القاهر فَوق عباده السَّابِقَة الثَّامِنَة عشرَة أَن الصَّرِيح من النّسَب إِنَّمَا يُوجد للمتوحشين فِي القفر من الْعَرَب وَمن فِي معناهم لِأَن مقامهم بالقفر الَّذِي دعاهم إِلَى التوحش فِيهِ قيامهم على الْإِبِل مَانع لمن سواهُم من النُّزُوع إِلَيْهِم مُنْضَمًّا لما فِيهِ من نكد الْعَيْش وشظف الْحَال فَيُؤمن عَلَيْهِم بذلك من اخْتِلَاط النّسَب وفساده فَلَا يزَال فيهم صَرِيحًا مَحْفُوظًا اعْتِبَار قَالَ ابْن خلدون وَاعْتبر ذَلِك فِي مُضر من قُرَيْش وكنانة وَثَقِيف وَبني أَسد وهذيل وَمن جاورهم من خُزَاعَة لما كَانُوا أهل شظف وموطن غير ذَات زرع وَلَا ضرع كَانَت أنسابهم صَرِيحَة لم يدخلهَا اخْتِلَاط وَلَا عرف فِيهَا شوب وَالْعرب الَّذين كَانُوا بالتلول فِي معادن الخصب من حسير وكهلان كلخم وجذام وغسان وطي وقضاعة وإياد اخْتلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم فَفِي كل وَاحِد من بُيُوتهم من الْخلاف مَا قد علمت وَإِنَّمَا جَاءَهُم ذَلِك من قبل

السابقة التاسعة عشرة

مُخَالطَة الْعَجم لإهمالهم الْمُحَافظَة على النّسَب قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ تعلمُوا النّسَب وَلَا تَكُونُوا كنبط السوَاد إِذا سُئِلَ أحد عَن أَصله قَالَ من قَرْيَة كَذَا تَعْرِيف قَالَ وَقد كَانَ وَقع فِي صدر الْإِسْلَام الانتماء إِلَى المواطن فَيُقَال جند دمشق وانتقل ذَلِك إِلَى الأندلس وَلم يكمد لأطرح أَمر النّسَب بل لاختصاصهم بالمواطن بعد الْفَتْح حَتَّى عرقوا بهَا وَصَارَت لَهُم عَلامَة زَائِدَة على النّسَب يتميزون بهَا عِنْد الْأُمَرَاء ثمَّ وَقع الِاخْتِلَاط فِي الحواضر مَعَ الْعَجم وَغَيرهم وفقدت الْأَنْسَاب بِالْجُمْلَةِ وفقدت ثَمَرَتهَا من العصبية فاطرحت ثمَّ تلاشت الْقَبَائِل ودثرت فدثرت العصبية بدثورها وَبَقِي ذَلِك فِي البدو كَمَا كَانَ وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا السَّابِقَة التَّاسِعَة عشرَة إِن اخْتِلَاف الْأَنْسَاب يَقع بِسُقُوط بعض من أَهلهَا إِلَى نسب آخر لنزوع إِلَيْهِم أَو حلف أَو وَلَاء أَو لفرار من قومه لجناية أَصَابَهَا فيدعي نسبهم ويعد مِنْهُم فِي ثَمَرَته من النُّصْرَة أَو الْقود وَحمل الدِّيات وغبر ذَلِك وَمَتى وجدت ثَمَرَة النّسَب فَكَأَنَّهُ وجد لاسيما وَالنّسب الأول قد

السابقة العشرون

يتناسى بطول الزَّمَان وَذَهَاب أهل الْعلم بِهِ فيخفي على الكثيرين شَهَادَة وَاقع قَالَ وَمَا زَالَت الْأَنْسَاب تسْقط من شعب إِلَى شعب ويلتحم قوم بِآخَرين فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَالْعرب والعجم قَالَ وَمِنْه شَأْن بجيلة فِي عرْفجَة بن هثمة لما ولاه عمر رَضِي الله عَنهُ عَلَيْهِم فَسَأَلُوهُ الإعفاء مِنْهُ وَقَالُوا هُوَ فِينَا نزيف أَي دخيل ولصيق وطلبوا أَن يُولى عَلَيْهِم جَرِيرًا فَسَأَلَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ عَن ذَلِك فَقَالَ عرْفجَة صدقُوا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا رجل من الأزاد أصبت دَمًا فِي قومِي وَلَحِقت بهم قَالَ وَانْظُر مِنْهُ كَيفَ اخْتَلَط عرْفجَة ببجيلة وَلبس جلدتهم حَتَّى ترشح للرياسة عَلَيْهِم لَوْلَا علم بَعضهم بوشائجه وَلَو غفلوا عَن ذَلِك وامتد الزَّمَان لتنوسى بِالْجُمْلَةِ وعد مِنْهُم بِكُل وَجه فَافْهَم وَاعْتبر سر الله فِي خلقه وَمثل هَذَا كثير لهَذَا الْعَهْد وَلما قبله السَّابِقَة الْعشْرُونَ إِن جيل الْعَرَب فِي الخليقة طبيعي وَبَيَانه أَن المعاش الطبيعي الَّذِي اقْتصر أهل البدو على الضَّرُورِيّ مِنْهُ أَصْنَاف ثَلَاثَة أَحدهمَا الزِّرَاعَة وَالْمقَام لأَجلهَا وَلَو فِي الغيران والكهوف أولى من الظعن فضلا عَن سُكْنى المداشر والقرى كَمَا عَلَيْهِ عَامَّة البربر والأعاجم الثَّانِي سَائِمَة الْغنم وَالْبَقر والظعن لارتياد مسارحها ومواردها أولى من الْمقَام وأربابها يسمون شاوية أَي قائمون على الشاه وَالْبَقر وَلَا يبعدون فِي القفار إِذْ لَا مسارح فِيهِ طيبَة وهم كالترك والصقالبة الثَّالِث الْإِبِل والظعن لأَجلهَا أبعد فِي القفر مجالا لعدم استغنائها

المقدمة الثانية

قوام حَيَاتهَا من مرعى شَجَرَة وموارد مياهه وَطلب مفاحص إنتاجها فِي زَمَانه فأهلها لذَلِك لما قد يَدعُوهُم إِلَيْهِ منع الحامية من التلول ويضطرون إِلَى التوغل فِي القفار إبعادا فِي النجعة ونفرة عَن النصفة فيشتد توحشهم وينزلون من الحواضر منزلَة الْحَيَوَان المفترس والوحش غير الْمَقْدُور عَلَيْهِ تعْيين قَالَ وَهَؤُلَاء هم الْعَرَب وَفِي معناهم ظواعن البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتركمان بالمشرق قَالَ أَلا إِن الْعَرَب أبعد نجمة وَأَشد بداوة لاختصاصهم بالقيم على الْإِبِل فَقَط وَهَؤُلَاء يقومُونَ عَلَيْهَا وعَلى الشَّاء وَالْبَقر وَبِه يتَبَيَّن أَن طبيعي لابد مِنْهُ الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي تمهيد أصُول من الْكَلَام فِي الْملك شرعا وَفِيه عشرُون فَاتِحَة الْفَاتِحَة الأولى إِن الضَّرُورَة فِي الِاجْتِمَاع الطبيعي لنَوْع الْإِنْسَان كَمَا تقدم تَدْعُو إِلَى الْمُعَامَلَات واقتضاء ضرورات المعاش وحاجياته وَمن لَوَازِم ذَلِك تولد المنازعات فِي اخْتِصَاص كل بلد بِمَا تمد إِلَيْهِ لما فِي الطبيعة الحيوانية من الظُّلم والعدوان بِمُقْتَضى الْغَضَب وأنفة القوى البشرية وَذَلِكَ مفض إِلَى الْمُقَاتلَة المؤدية إِلَى سفك الدِّمَاء وَإِتْلَاف النُّفُوس وكل ذَلِك مُؤذن بِانْقِطَاع النَّوْع وانخرام شَمل اجتماعه وَقد اقْتَضَت حِكْمَة الْعِنَايَة بِهِ أَن

الفاتحة الثانية

يحفظ من مَحْظُور ذَلِك بوازغ لِاسْتِحَالَة الْبَقَاء بعد وضع الشَّرَائِع والسياسات المصطلح عَلَيْهَا إِلَّا بنصبه وَهُوَ السُّلْطَان الْمَانِع بقهر يَده الْغَالِبَة مِمَّا يُؤَدِّي لوُقُوع ذَلِك الْمَحْذُور وواضح من هُنَاكَ أَن الْملك من الْخَواص الطبيعية للْإنْسَان ووجوده لغيره كالنحل وَالْجَرَاد على مَا يظْهر فِي أتباعها لرئيس من شخصها إِنَّمَا هُوَ بِمُقْتَضى الْفطْرَة وَالْهِدَايَة لَا الفكرة والروية كَمَا فِي الْإِنْسَان أعْطى خلقه كل شَيْء ثمَّ هدى الْفَاتِحَة الثَّانِيَة إِن مصلحَة نصب السُّلْطَان الْوَازِع لَا تعارضها الْمَفَاسِد اللَّازِمَة عَن قهره وَغَلَبَة لِأَنَّهَا لما رجحت تِلْكَ الْمَفَاسِد كَانَت هِيَ الْمُعْتَبرَة قَالُوا لِأَن ترك الْخَبَر الْكثير لجل الشَّرّ الْيَسِير شَرّ كثير وَمَا خص ضَرَره وَعم نَفعه فنعمة عَامَّة وَعَكسه بلَاء عَظِيم (لَا ترج شَيْئا خَالِصا نَفعه ... فالغيث لَا ينجو من العيث) قلت وَلَا يفهم من هَذَا الْكَلَام مُرَاد الْحُكَمَاء بِهِ وَهُوَ أَن الشَّرّ اللَّازِم عَن الْخَيْر الرَّاجِح غير مَقْصُود بِالذَّاتِ لِأَن ذَلِك من حَيْثُ الْقَصْد الخلقي التكويني وَمُرَاد الْأَئِمَّة بِهِ حَيْثُ الْقَصْد التشريعي وَبَينهمَا فرق مُقَرر فِي موَاضعه من الْأُصُول العلمية الْفَاتِحَة الثَّالِثَة إِن توهم الِاسْتِغْنَاء عَم السُّلْطَان بَاطِل أما فِي الدّين فلامتناع حمل النَّاس على مَا عرفُوا مِنْهُ طَوْعًا أَو كرها دون نَصبه إِن الله ليزع بالسلطان مَالا يَزع بِالْقُرْآنِ وَأما فِي الدُّنْيَا فلَان حَامِل الطَّبْع وَالدّين لَا يَكْفِي فِي إِقَامَة مصالحها على الْوَجْه الْأَفْضَل غَالِبا

الفاتحة الرابعة

قَالَ الأمدي وَلذَلِك نجد من لَا سُلْطَان لَهُم كالذئاب الشاردة وَالْأسود الضارية لَا يبْقى بَعضهم على بعض وَلَا يُحَافِظُونَ على سنة وَلَا فرض قَالَ وَلِهَذَا قيل السَّيْف والسنان يفْعَلَانِ مَالا يفعل الْبُرْهَان الْفَاتِحَة الرَّابِعَة إِن مدرك وجوب نَصبه عِنْد أهل الْحق شَرْعِي لَا عَقْلِي وَقَررهُ من وَجْهَيْن أَحدهمَا اعتباري وَهُوَ أَن حِكْمَة نَصبه كَمَا يَتَقَرَّر مِنْهَا بعد أَن شَاءَ الله يَقْتَضِي بِحَسب اعْتِبَارهَا شرعا وجوب التَّكْلِيف بِهِ مُطلقًا الثَّانِي إجماعي قَالَ ابْن التلمساني وَهُوَ الْمُعْتَمد الْقَاطِع لأهل

السّنة وَقَررهُ بِمَا نقل عَم السّلف وَالْخلف من امْتنَاع خلو الأَرْض من أَمَام قَائِم بِأَمْر الله قلت وَفِي مَرَاتِب الْإِجْمَاع لِابْنِ حزم اتَّفقُوا على أَن الْإِمَامَة فرض وَأَنه لابد من إِمَام حامي النجدات من الْخَوَارِج قَالَ وأراهم قد خرقوا الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ قد سبقهمْ انْتهى لَا يُقَال يحْتَمل أَن يكون هُنَاكَ نَكِير والموافقة لم تحصل إِلَّا من الْبَعْض وَلَو سلمت من الْجَمِيع لتوفرت الدَّوَاعِي على نقل مستندها لأَنا نقُول

الفاتحة الخامسة

لَو وجدنَا هَذَا النكير فِي مثل هَذَا الْمقَام لقضت الْعَادة بنقله ومستند الْإِجْمَاع لَا يلْزم نَقله اسْتغْنَاء عَنهُ بِوُجُوب اتِّبَاع الْإِجْمَاع مَتى تحقق وجوده الْفَاتِحَة الْخَامِسَة إِن حَقِيقَة هَذَا الْوُجُوب الشَّرْعِيّ رَاجِعَة إِلَى النِّيَابَة عَن الشَّارِع فِي حفظ الدّين وسياسة الدُّنْيَا بِهِ وَيُسمى بِاعْتِبَار هَذِه خلَافَة وإمامة وَذَلِكَ لِأَن الدّين هُوَ الْمَقْصُود فِي إِيجَاد الْخلق لَا الدُّنْيَا فَقَط فحملوا على حكمه دنيا وَأُخْرَى وَنصب لذَلِك الْخَلِيفَة نَائِبا عَن صَاحب الشَّرْع وَلَا كَذَلِك الْملك الطبيعي وَهُوَ حمل الكافة على مُقْتَضى الْغَرَض والشهوة لجوره فِي ذَلِك وعدوانه وإفضائه إِلَى الْهَلَاك العاجل سنة الله فِي الَّذين خلو من قبل وَلَا السياسي وَهُوَ حملهمْ على نهج النّظر الْعقلِيّ فِي جلب مصَالح الدُّنْيَا ودرء مفاسدها فَحسب لإهمال الْعِنَايَة بِالدّينِ واستضاءته فِيمَا اقْتصر عَلَيْهِ بِغَيْر نور الله {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} الْفَاتِحَة السَّادِسَة إِن انقلاب الْخلَافَة إِلَى الْملك كَمَا سيرد بَيَانه إِن شَاءَ الله أَن ذَلِك وَاقع بِحَسب كبيعة الْوُجُود لَا يخل بِمَا قصد بهما فِي الْجُمْلَة بل الْحَاجة إِلَى الْملك إِذْ ذَاك فِي أرفع مَرَاتِب الِاعْتِبَار بِهِ وَذَلِكَ لِأَن الْوَازِع فِي أَيَّام وجود الْخلَافَة إِنَّمَا كَانَ دينا مَحْضا يجده كل وَاحِد من نَفسه حَتَّى قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ من لم يؤدبه لَا أدبه الله وَبعد انقلابها ملكا وخصوصا إِلَى العضوض مِنْهُ ضعف ذَلِك الْوَازِع أَو كَاد يفقد غَالِبا فاحتيج إِلَى مزِيد رهبة وَهِي من مُنَازع ومراسم مَوْضُوعه

الفاتحة السابعة

قلت وَمَا اسْتدلَّ بِهِ الْقَرَافِيّ على إِقَامَة صوره بِتَسْلِيم عمر لمعاوية رَضِي الله عَنْهُمَا مُوجب أبهة الْملك باشام من دَلَائِل ذَلِك وشواهده وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله فِي ركن السياسة الْمُعْتَبرَة شرعا مَا يزِيدهُ وضوحا الْفَاتِحَة السَّابِعَة إِن الْكَافِي الْآن من شُرُوط الْإِمَامَة بعد الذكورية وَالْحريَّة وَالْبُلُوغ وَالْعقل أَرْبَعَة النجدة لِئَلَّا يضعف عَن إِقَامَة الْحُدُود واقتحام الحروب والكفاية لِئَلَّا يخفى عَلَيْهِ وُجُوه الرَّأْي والسياسة وسلامة الْأَعْضَاء والحواس عَمَّا يُؤثر فِي الرَّأْي وَالْعَمَل كالعمى والصمم والهرس وفقد الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ والأنثيين وَالْقُدْرَة على تَنْفِيذ أوَامِر هـ وَأَحْكَامه فَلَا يكون عَاجِزا عَن ذَلِك جملَة بِأَمْر وَشبهه

الفاتحة الثامنة

أما بِالْحجرِ عَلَيْهِ من غير عصيان وَلَا مشقة فغن حمدت سيرة الحاجز حَاز إِقْرَاره وَإِلَّا أعين عَلَيْهِ الإِمَام حَتَّى يسْتَقلّ بأَمْره ويستبد بسلطانه قلت وعَلى شَرط أَن لَا تُؤدِّي الْقُدْرَة على ذَلِك غلى مَا هُوَ أعظم فِي الْفساد فَإِن تعذر الْعلم وَهِي الْفَاتِحَة الثَّامِنَة سقط اعْتِبَاره اكْتِفَاء بمراجعة الْعلمَاء عِنْد وُقُوع النَّوَازِل وَلَيْسَ ذَلِك مَا يُخَالف مُقْتَضى الدَّلِيل ثمَّ مضى فِي تَقْرِيره إِلَى أَن قَالَ إِذا انْعَقَدت الْإِمَامَة لمنقك عَن رُتْبَة الِاجْتِهَاد وَقَامَت لَهُ الشَّوْكَة ومالت إِلَيْهِ الْقُلُوب وخلا الزَّمَان من قرشي مستجمع لشروط الْإِمَامَة وَجب استمراره على الْإِمَامَة المعقودة لَهُ

قَالَ وَهَذَا حكم زَمَاننَا قلت وَهِي فِيمَا بعد زَمَاننَا أولى أَحْرَى وَكَذَا إِذا تَعَذَّرَتْ الْعَدَالَة وَهِي الْفَاتِحَة التَّاسِعَة وَإِلَّا لزم تَعْطِيل الْإِمَامَة وَبطلَان تصرفها وضرر ذَلِك أعظم من فَوَات الْعَدَالَة وعَلى هَذَا اعْتمد الْغَزالِيّ وَالشَّيْخ عز الدّين وَغَيرهمَا من الْمُحَقِّقين قلت وَحَاصِله أَن عَدَالَة السُّلْطَان من مكملات أَوْصَافه واحتلال الْمُحَافظَة عَلَيْهَا بحكمة نَصبه يسْقط اعْتِبَارهَا كَمَا فِي الْعلم أَيْضا شَأْن كل تَكْمِلَة هِيَ كَذَلِك مَعَ مَا هِيَ مكملة لَهُ على مَا تقرر فِي الْأُصُول العلمية قلت وإجراء ذَلِك أَيْضا على قَاعِدَة قَول مُحَمَّد بن الْحسن مَا ضَاقَ شَيْء إِلَّا اتَّسع ظَاهر قَول الْمقري فِي قَوَاعِده يُرِيد التَّرَخُّص عِنْد عسر التَّحَرُّز ثمَّ ذكر

من ذَلِك فِي العاديات تَوْلِيَة الشّبَه عِنْد تعذر الْمُسْتَحق وَهَذَا أَيْضا إِن فقد شَرط النّسَب الْقرشِي وَهِي الْفَاتِحَة الْعَاشِرَة عِنْد القَاضِي أبي بكر وَجَمَاعَة من الْفرق حَتَّى غلا بَعضهم فَقَالَ لَو اسْتَوَى قرشي ونبطي فِي شُرُوط الْإِمَامَة لرجح النبطي لقُرْبه من عدم الْجور وَالظُّلم وَوجه ذَلِك ابْن خلدون وَإِن كَانَ خلاف قَول الْجُمْهُور بِمَا حَاصله أَن قصد الشَّارِع فِي اشْتِرَاطه لَيْسَ لمُجَرّد التَّبَرُّك بِهِ وَإِن كَانَ ذَلِك حَاصِلا بل لرفع التَّنَازُع بِهِ لما كَانَ لقريش من العصبية والغلب وَقصد ذَلِك لَا يخْتَص بجيل وَلَا عصر فَمَتَى وجدت العصبية فِي الْقَائِم بِأَمْر الْمُسلمين كَانَت هِيَ الْعلَّة الْمُشْتَملَة على الْمَقْصُود من القريشية لَا يسما وَقد تلاشت عصبتها شرقا وغربا وَلَا يلْزم عُمُوم ذَلِك فِي جَمِيع الْآفَاق كَمَا كَانَ فِي القريشية لقوتها حِينَئِذٍ على ذَلِك بل يخْتَص الْآن كل قطر بِمن لَهُ فِيهِ عصبية غالبة قَالَ وَإِذا نظرت سر الله فِي الخليقة لم تبعد هَذَا لِأَنَّهُ تَعَالَى جعل الْخَلِيفَة نَائِبا عَنهُ فِي الْقيام بِأُمُور عباده مُخَاطبا لَهُم بذلك وَلَا يُخَاطب بِأَمْر من لَا قدرَة لَهُ عَلَيْهِ

وقاعدة

قَالَ والوجود شَاهد بذلك فَإِنَّهُ لَا يقوم بِأَمْر أمة أَو جيل إِلَّا من غلب عَلَيْهِم وَقل أَن يكون المر الشَّرْعِيّ مُخَالفا لِلْأَمْرِ الوجودي بل لَا يكون كَذَلِك الْبَتَّةَ قلت وَهَذَا تَقْرِير فِي غَايَة الْحسن وَنِهَايَة البراعة وَالتَّحْقِيق وَقَوله وَقل إِن يكون الْأَمر الشَّرْعِيّ مُخَالفا لِلْأَمْرِ الوجودي بل لَا يكون كَذَلِك الْبَتَّةَ وَقَاعِدَة إِن كل أصل علمي يتَّخذ إِمَامًا فِي الْعَمَل فشرطه أَن يجْرِي الْعَمَل بِهِ على مجاري الْعَادَات فِي مثله وَإِلَّا فَهُوَ غير صَحِيح شَاهد عَلَيْهِ لذَلِك حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق الشاطبي رَحمَه الله وَله فِي بعض تقييداته حَسْبَمَا الفيته بِخَط شَيخنَا الْأُسْتَاذ الْعَلامَة أبي إِسْحَاق بن فتوح رَحمَه الله مَنْقُولًا من خطة تَنْزِيل الْعلم على مجاري الْعَادَات تَصْحِيح لذَلِك الْعلم وبرهان عَلَيْهِ إِذا جرى على استقامة فَإِذا لم يجر فَغير صَحِيح الْفَاتِحَة الْحَادِيَة عشرَة إِن شَرط وحدة الإِمَام بِحَيْثُ لَا يكون هُنَاكَ غَيره لَا يلْزم مَعَ تعذر الامكان

الفاتحة الثانية عشرة

كَانَ ابْن عَرَفَة فِيمَا حَكَاهُ الأبي عَنهُ فَلَو بعد مَوضِع الإِمَام حَتَّى لَا ينفذ حكمه فِي بعض الأقطار الْبَعِيدَة جَازَ نصب غَيره فِي ذَلِك الْقطر وللشيخ علم الدّين من عُلَمَاء الْعَصْر بالديار المصرية يجوز ذَلِك للضَّرُورَة قلت وَمَا تقدم من عجز العصبية الْآن عَن عُمُوم غلبتها وَإِن طلب وحدته لذَلِك لَا يظْهر فِي الْخَارِج ويقوى الْعذر لذَلِك على وضوحه من وجوده لَا تخفى على ذِي نظر سديد وَالله أعلم الْفَاتِحَة الثَّانِيَة عشرَة إِن الطَّاعَة لَهُ أصل عَظِيم من أصُول الْوَاجِبَات الدِّينِيَّة حَتَّى أدرجها الْأَئِمَّة فِي جملَة العقائد الإيمانية وَإِن كَانَت من فن الْفِقْه لنزاع بعض المبتدعة فِيمَا هِيَ من لوازمه وَهُوَ الْإِمَامَة وجعلوها لذَلِك من فُصُول رسم الْإِمَامَة حَيْثُ قَالُوا هِيَ خلَافَة شخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كَذَا على وَجه يجب اتِّبَاعه على الْجَمِيع على مَا يَأْتِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كَذَا على وَجه يجب اتِّبَاعه على الْجَمِيع على مَا يَأْتِي ن شَاءَ الله ن شَاءَ الله إشعارا بِأَن تخلفها لَا يتَحَقَّق مَعَه وجود الْإِمَامَة

الفاتحة الثالثة عشرة

الْفَاتِحَة الثَّالِثَة عشرَة إِن جوره لَا يسْقط وجوب الطَّاعَة لَهُ لأمرين أَحدهمَا شَهَادَة ظواهر النُّصُوص وَالْأَحَادِيث بذلك أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن عَرَفَة فِي مُخْتَصر هـ الكلامي قلت كَقَوْلِه تَعَالَى أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْهُم مِنْكُم وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله وَمن عَصَانِي فقد عصى الله وَمن يطع الْأَمِير فقد أَطَاعَنِي وَمن يَعْصِي الْأَمِير فقد عَصَانِي الثَّانِي دلَالَة وجوب دَرْء أعظم الْمَفَاسِد عَلَيْهِ إِذْ لإخفاء أَن مفْسدَة عصيانه تربى على مفْسدَة إعانته بِالطَّاعَةِ لَهُ كَمَا قَالُوا فِي الْجِهَاد مَعَه وَمن ثمَّ قيل عصيان الْأَئِمَّة هدم أَرْكَان الْملَّة الْفَاتِحَة الرَّابِعَة عشرَة إِن طَاعَة الْأُمَرَاء بِمَعْصِيَة الله تَعَالَى سَاقِطَة الِامْتِثَال لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَرْء الْمُسلم السّمع وَالطَّاعَة فِيمَا أحب أَو كره إِلَّا أَن يَأْمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة قيل وَكَانَ يَقُول أَطِيعُونِي مَا عدلت فِيكُم فَإِن خَالَفت فَلَا سمع وَلَا طَاعَة وَعَن أبي حَازِم أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك قَالَ لَهُ ألستم أمرْتُم بطاعتنا فِي قَوْله تَعَالَى وأولي الْأَمر مِنْكُم فَقَالَ لَهُ أَلَيْسَ يرغب عَنْكُم إِذا حالفتم لقَوْله تَعَالَى فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول

الفاتحة الخامسة عشرة

الْفَاتِحَة الْخَامِسَة عشرَة إِن الصَّبْر عَلَيْهِ إِذا جَار من عزائم الدّين ووصايا الْأَئِمَّة الناصحين لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رَأَيْتُمْ من ولاتكم شَيْئا تكرهونه فاكرهوا عمله وَلَا تنزعوا يدا من طَاعَته وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ من كره من أميره شَيْئا فليصبر عَلَيْهِ فَإِنَّهُ من خرج من السُّلْطَان شبْرًا مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة الْفَاتِحَة السَّادِسَة عشرَة إِن الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الرّعية مطردَة الْحُصُول فِي كل زمَان وَهُوَ معنى قَوْله كَمَا تَكُونُونَ يُولى عَلَيْكُم قَالَ الطرطوشي لم أزل أسمع النَّاس يَقُولُونَ أَعمالكُم عمالكم كَمَا تَكُونُونَ يولي عَلَيْكُم إِلَى أَن ظَفرت بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ نولي بعض الظَّالِمين بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}

قَالَ وَقَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا بَال أبي بكر وَعمر أطَاع النَّاس لَهما وَالدُّنْيَا عَلَيْهِمَا أضيق من شبر واتسعت عَلَيْهِمَا وَوليت أَنْت وَعُثْمَان

الفاتحة السابعة عشرة

يَكُونُوا لَكمَا فَصَارَت عَلَيْكُمَا أضيق من شبر فَقَالَ لِأَن رعية أبي بكر وَعمر كَانُوا مثلي وَمثل عُثْمَان ورعيتي الْيَوْم مثلك وشبهك الْفَاتِحَة السَّابِعَة عشرَة أَنه مَعَ رَعيته مغبون غير غابن وخاسر غير رابح وَقَررهُ الطرطوشي يعود الإجتهاد عَلَيْهِ فِيمَا يصلحها بِسَبَب الدُّنْيَا وتبعة الْآخِرَة وَهن مَعَ ذَلِك غير راضين عَنهُ وَلَا قانعين مِنْهُ قَالَ وَلَوْلَا أَن الله تَعَالَى يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه لم يرض عَاقل بهَا وَلم يعدها لَبِيب مرتبَة وَعَن ذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محكما لَهُ فِي كلمة وَاحِدَة مَا لكم ولأمرائي بكم صفوا أَمرهم وَعَلَيْهِم كدره استظهار مِمَّا يشْهد لحيلولة قدر الله تَعَالَى بَين الْمَرْء وَقَلبه فِي هَذَا الْمقَام قَول مَالك بن دِينَار قَرَأت فِي بعض الْكتب الْقَدِيمَة يَقُول الله عز وَجل من أَحمَق من السُّلْطَان وَمن أَجْهَل مِمَّن عَصَانِي وَمن أغر مِمَّن إغتر بِي يَا راعي السوء دفعت إِلَيْك غنما صحاحا سمانا فَأكلت اللَّحْم وشربت اللَّبن وائتمدت السّمن ولبست الصُّوف وتركتها عظاما تقَعْقع وَلم ترد الضَّالة وَلم تجبر الكسير الْيَوْم أنتقم لَهَا مِنْك

الفاتحة الثامنة عشرة

الْفَاتِحَة الثَّامِنَة عشرَة إِن للْإِمَامَة من عَظِيم الْخطر مَا يجب أَن يكون من الْخَائِف مِنْهُ على بَال وَلَا كالسؤال عَن عُمُوم الرِّعَايَة بهَا وخصوصها قَالَ الطرطوشي فِيمَا كتب بِهِ إِلَى السُّلْطَان أبي يَعْقُوب يُوسُف بن تاشفين من مُلُوك المرابطين وَلَقَد بلغ ذَلِك نفوس الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَالْأَئِمَّة المهتدين مبلغا ذهلت لَهُ عُقُولهمْ وطاشت لَهُ أحلامهم فيروى أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَأَيْت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يعدو على قتب فَقلت إِلَى أَيْن فَقَالَ بعير من إبل الصَّدَقَة فر وَأَنا أطلبه فَقلت لقد أذللت الْخُلَفَاء من بعْدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَا تلمني يَا أَبَا الْحسن فو الَّذِي بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنُّبُوَّةِ لَو أَن سخلة ذهبت بشاطئ الْفُرَات لأخذ بهَا عمر يَوْم الْقِيَامَة أَلا خُذ بهَا عمر يَوْم الْقِيَامَة أَلا نه لَا حُرْمَة لوالي ضيع الْمُسلمين ثمَّ قَالَ يَا أَبَا يَعْقُوب لقد ابْتليت بِأَمْر لَو حَملته السَّمَوَات لانفطرت وَلَو حَملته النُّجُوم لَا نكدت وَلَو حَملته الأَرْض وَالْجِبَال لتزلزلت وتدكدكت إِنَّك حملت الْأَمَانَة الَّتِي عرضت على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا تَنْزِيل قَالَ فِي هَذَا الْكتاب مُبينًا لبَعض مَا عَنهُ السُّؤَال وَفِيه أبلغ عظة وَاعْلَم

الفاتحة التاسعة عشرة

يَا أَبَا يَعْقُوب أَنه لَا يَزْنِي فرج فِي ولايتك ومدى سلطانك طول عمرك إِلَّا كنت المسؤول عَنهُ والمطالب بِهِ وَالْمُرْتَهن بجريرته وَلَا يشرب فِيهَا نقطة مُسكر إِلَّا وَأَنت المسؤول عَنْهَا وَلَا ينتهك فِيهَا عرض مُسلم إِلَّا وَأَنت المطالب بِهِ وَلَا يتعامل فِيهَا بالربى إِلَّا وَأَنت الْمَأْخُوذ بِهِ وَكَذَا سَائِر الْمَظَالِم وكل حُرْمَة انتهكت من حرمات الله تَعَالَى فعهدتها عَلَيْك لِأَنَّك قَادر على تغييرها فَأَما مَا خَفِي عَلَيْك من ذَلِك فَأَنت المبرأ مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْفَاتِحَة التَّاسِعَة عشرَة أَن لَهَا مَعَ ذَلِك من شرف الْمنزلَة وجزيل الْأجر لذَلِك أَن يغتبط بهَا من فازت بهَا قداحة وَلَقَد قَالَ الطرطوشي لَيْسَ فَوق السُّلْطَان الْعَادِل منزلَة

إِلَّا لنَبِيّ مُرْسل وَملك مقرب وَلأبي مَنْصُور أشرف منَازِل الْآدَمِيّين النُّبُوَّة ثمَّ الْخلَافَة وَيَكْفِي مِمَّا يشْهد لذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا أَنه بِإِجْمَاع أعظم ثَوابًا من سَائِر من عمل لله بِطَاعَة قَالَ الشَّيْخ عز الدّين أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الولايات من أفضل الطَّاعَات وَأَن الْوُلَاة المقسطين أعظم أجرا وَأجل قدرا من غَيرهم لِكَثْرَة مَا يجْرِي على أَيْديهم من إِقَامَة الْحُدُود ودرء الْبَاطِل قَالَ أحدهم يَقُول الْكَلِمَة الْوَاحِدَة فَيدْفَع بهَا ألف مظْلمَة فَمَا دونهَا قَالَ فيا لَهُ من كَلَام يسير وَأجر كَبِير أَنه يوضع فِي مِيزَانه جَمِيع أَعمال رَعيته نَقله الشَّيْخ أَبُو طَالب الْمَكِّيّ قلت وَقَاعِدَة أَن فَاعل السَّبَب بِمَنْزِلَة فَاعل الْمُسَبّب قَاطِعَة بذلك وإليها يُشِير قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من دَعَا إِلَى الْهدى كَانَ لَهُ من الْأجر أجر من تبعه لَا ينقص من أُجُورهم شَيْئا وَمَا دَعَا إِلَى ضَلَالَة كَانَ عَلَيْهِ من

الفاتحة العشرون

الْإِثْم مثل أَنَام من تبعه لَا ينقص ذَلِك من أَثَرهم شَيْئا مَا رَوَاهُ مُسلم أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ الْفَاتِحَة الْعشْرُونَ إِن صَلَاح السُّلْطَان وفساده صَلَاح الرّعية وفسادها فَفِي الحَدِيث صنفان من أمتِي إِذا صلحا صلح النَّاس الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور إِنِّي لأعْلم رجلا إِن صلح صلحت الْأمة وَإِن فسد فَسدتْ الْأمة قَالَ وَمن هُوَ قَالَ أَنْت

قلت وبظهر ذَلِك باعتبارين أَحدهمَا فِي الدّين فقد قَالُوا النَّاس على دين الْملك فَإِن صلح مِنْهُ بِالْعَدْلِ تعدى الرّعية فلزموا قوانينه انفرادا وَمُخَالفَة وَإِن فَسدتْ مِنْهُ بالجور فشي فيهم ضَرَره كَذَلِك الثَّانِي فِي الدُّنْيَا فَإِن بصلاحه تفتح فِيهَا بَرَكَات الأَرْض وَالسَّمَاء وبفساده يظْهر نقيض ذَلِك برا وبحرا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر بِمَا كسبت أَيدي النَّاس}

الكتاب الأول

الْكتاب الأول فِي حَقِيقَة الْملك والخلافة وَسَائِر أنولع الرياسات وَسبب وجود ذَلِك وَشَرطه

في حقيقة الملك والخلافة وسائر أنواع الرياسات

الْبَاب الأول فِي حَقِيقَة الْملك والخلافة وَسَائِر أَنْوَاع الرياسات وَفِيه ثَلَاثَة أنظار أَحدهمَا فِي حَقِيقَة الْملك الثَّانِي فِي حَقِيقَة الْخلَافَة الثَّالِث فِي سَائِر أَنْوَاع الرياسات النّظر الأول فِي حَقِيقَة الْملك وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى تقدم أَن الِاجْتِمَاع الإنساني لابد فِيهِ من وازع عَن الْعدوان الْوَاقِع فِيهِ بِمُقْتَضى الطبيعة البشرية بِمَا يكون لَهُ من سطوة السُّلْطَان وقهره وَتلك الخصوصية الْحَاصِلَة لَهُ بِمَا هُوَ منصب طبيعي للْإنْسَان كَمَا سبقت الْإِشَارَة غليه هِيَ الْملك فِي مَشْهُور المُرَاد بِهِ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة لَا تتمّ حَقِيقَة هَذَا المنصب إِلَّا لمن بمكن بقهر يَده الَّتِي لَا فَوْقهَا يَد من ظُهُور أثر ذَلِك باستبعاد الرّعية وجباية الموال وَبعث الْبعُوث وحماية الثغور والقاصر عَن ذَلِك نَاقص الْملك بِقدر الْفَائِت مِنْهُ وَله الْوَاقِع صُورَتَانِ الصُّورَة الأولى فَوَات بعض مَا ذكر وَالْملك بِهِ خداج غير تَامّ

النظر الأول

قَالَ ابْن خلدون كَمَا وَقع لكثير من مُلُوك البربر فِي دولة الأغالبة بالقيروان وملوك الْعَجم صدر الدولة العباسية الصُّورَة الثَّانِيَة فَوت الضَّرْب على سَائِر الْأَيْدِي لقُصُور العصبية عَن استعلاءها على سَائِر العصبيات وَوُجُود من يَده فَوق يَده وَالْملك بذلك ظَاهر نَقصه عَن تَمام حَقِيقَته قَالَ كأمراء النواحي ورؤساء الْجِهَات الَّذين تجمعهم دولة وَاحِدَة تَعْرِيف قَالَ وَكَثِيرًا مَا يُوجد هَذَا فِي الدول المتسعة النطاق فيوجد مُلُوك فِي النواحي القاصية يدينون بِطَاعَة الدولة الجامعة لَهُم كصنهاجة مَعَ العبيديين وزناتة مَعَ الأمويين تَارَة وَمَعَ العبيديين أُخْرَى وكملوك الْعَجم فِي دولة بني الْعَبَّاس وأمراء البرابر وملوكهم مَعَ الإفرنجة قبل الْإِسْلَام وكملوك الطوائف من الْفرس مَعَ الْإِسْكَنْدَر وَقَومه اليونانيين وَكثير من هَؤُلَاءِ قَالَ فَاعْتبر تَجدهُ وَالله القاهر فَوق عباده النّظر الأول فِي حَقِيقَة الْخلَافَة وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى تقدم مَا يدل على أَن المُرَاد بهَا وبالإمامة رَاجع عَن الشَّارِع فِي حفظ الدّين وسياسة الدُّنْيَا ولأئمة الْأُصُول فِي تَحْرِير ذَلِك عِبَارَات أَصَحهَا عِنْد الأمدي وَفرض كَلَامهم فِي لف الْإِمَامَة أَنَّهَا خلَافَة

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة يُسمى الْقَائِم بِهَذَا المنصب خَليفَة لحلفه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أمته قَالَه الْمَاوَرْدِيّ أَو الْمَاضِي قبله أَي الْخَلِيفَة الَّذِي كَانَ قبله الْبَغَوِيّ قَالَ الْبَيْضَاوِيّ وإماما تَشْبِيها لَهُ بِإِمَام الصَّلَاة فِي وجوب أَتْبَاعه شخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِقَامَة الشَّرْع وَحفظ الْملَّة على وَجه يُوجب إتباعه جَمِيع النَّاس قَالَ ابْن عَرَفَة أنظر هَل يخر ج عَنْهَا إِمَام ذِي فسق وَظَاهر نصوصهم وَالْأَحَادِيث أَنَّهَا فِيهِ إِمَامَة لَا تنقص قلت تَمام تَقْرِيره عِنْد بَيَان أَن جوره لَا يسْقط وجوب الطَّاعَة لَهُ قَالَ ولأقرب أَنَّهَا صفة حكمِيَّة توجب امْتِثَال أَمر موصوفها فِي غير مُنكر عُمُوما فَيخرج الْقَضَاء لخصوصه بِإِخْرَاج أَحْكَام الحروب والقضايا وَنَحْوهَا

قَالَ ابْن خلدون وَلِهَذَا يُقَال الْإِمَامَة الْكُبْرَى قلت وتنشأ هُنَا فروع أَحدهَا قَالَ الْمَاوَرْدِيّ يجوز أَن يُقَال الْخَلِيفَة على الْإِطْلَاق وَخَلِيفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّانِي قَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي أَن لَا يُقَال خَليفَة الله بل يُقَال الْخَلِيفَة وَخَلِيفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأمير الْمُؤمنِينَ قلت حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ عَن الْجُمْهُور قَالَ وَقد قيل لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ يَا خَليفَة الله قَالَ لست بخليفة الله وَلَكِنِّي خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّالِث قَالَ الْبَغَوِيّ لَا باس أَن يُسمى الْقَائِم بِأَمْر الْمُسلمين أَمِير الْمُؤمنِينَ والخليفة وَأَن كَانَ مُخَالفا لسيرة أَئِمَّة الْعدْل لقِيَامه بِأَمْر الْمُؤمنِينَ وَتسمع الْمُؤمنِينَ لَهُ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة لبيعة الْخُلَفَاء والملوك مدلولان أَحدهمَا بِحَسب الْعرف اللّغَوِيّ والمعهود الشَّرْعِيّ وَهُوَ الْعَهْد على الطَّاعَة وذل لأَنهم كَانُوا إِذا عقدوا عهدا لأمير جعلُوا أَيْديهم فِي يَده توكيدا للْعهد لذَلِك فَأشبه فعل البَائِع وَالْمُشْتَرِي فَسُمي بيعَة وَصَارَت مصافحة بِالْأَيْدِي وَمِنْه بيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة وَعند الشَّجَرَة وَالثَّانِي بِاعْتِبَار الْمَشْهُور لهَذَا الْعَهْد قَالَ ابْن خلدون وَهِي تَحِيَّة الْمُلُوك الكسروية من تَقْبِيل الأَرْض أَو الْيَد أَو الرجل أَو الذيل أطلق عَلَيْهَا إسم الْبيعَة الَّتِي هِيَ الْعَهْد على الطَّاعَة مجَازًا

لما كَانَ هَذَا الخضوع من لوازمها وَغلب فِيهِ حَتَّى صَار حَقِيقَة عرفية وَاسْتغْنى بهَا عَن مصافحة أَيدي النَّاس لما فِيهَا لكل أحد من الابتذال الْمنَافِي للرياسة فَوق المنصب الملوكي إِلَّا فِي الْأَقَل لقصد تواضع من يَأْخُذ بِهِ نقسه من الْمُلُوك مَعَ خواصه ومشاهير أهل الدّين من الرّعية تَنْبِيه قَالَ فَافْهَم معنى الْبيعَة فِي الْعرف فَإِنَّهُ أكيد على الْإِنْسَان مَعْرفَته لما يلْزمه من حق سُلْطَانه وإمامه وَلَا تكون أَفعاله عَبَثا ومجانا وَاعْتبر ذَلِك من أفعالك مَعَ الْمُلُوك وَالله الْقوي الْعَزِيز قلت وَمِمَّا يتَأَكَّد مَعْرفَته مَعَ ذَلِك أَن جَوَاز بعض أَنْوَاع هَذَا الخضوع فِي التَّحِيَّة إِنَّمَا هُوَ لما عرض مِمَّا أوجب عِنْد الِاقْتِصَار على الْبيعَة السّنيَّة تبذلا وَقد قَالَ الْغَزالِيّ إِن الانحناء فِي الْخدمَة مَعْصِيّة إِلَّا عِنْد خوف الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من تَوَابِع نظر الْخلَافَة فِي مصَالح الدّين وَالدُّنْيَا ولوازم الطَّاعَة لَهُ فِي ذَلِك تَوْلِيَة الْعَهْد لمن يُوفي لَهُ بعد مماته مُبَالغَة فِي النّظر لِلْخلقِ وخروجا عَن عُهْدَة مَا يخْشَى من التَّقْصِير فِي ذَلِك وَقد عهد أَبُو بكر غلى عمر بِمحضر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وعهد عمر فِي الشورى غلى السِّتَّة المعروفين رَضِي الله عَنْهُم جَمِيعهم وَعمد مَا أوجبوا على أنفسهم طَاعَة الْعَهْد بذلك دلّ على أَنهم أَجمعُوا على جَوَاز النّظر بِهِ أَولا وعَلى انْعِقَاده بعد الْوُقُوع ثَانِيًا تَنْبِيه إِذا خص الابْن بِولَايَة الْعَهْد وَاقْتضى الْحَال ذَلِك فَلَا تُهْمَة فِيهِ على الإِمَام خلافًا لقوم قَالَ ابْن خلدون وَأما أَن يكون الْقَصْد بالعهد حفظ التراث على الْآبَاء فَلَيْسَ من الْمَقَاصِد الدِّينِيَّة إِذْ هُوَ أَمر من الله يخْتَص بِهِ من يَشَاء

فَيَنْبَغِي أَن تحسن النِّيَّة فِيهِ مَا أمكن خوفًا من الْعَبَث بالمناصب الدِّينِيَّة وَالْملك لله يوتيه من يَشَاء سُبْحَانَهُ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة تقدم أَن إنقلاب الْخلَافَة إِلَى الْملك لَا بُد مِنْهُ بِحَسب طبيعة الْوُجُود وَبَيَانه الْآن من حَيْثُ سَببه مُتَوَقف على مُقَدمَات إِن الْملك غَايَة طبيعية للعصبية على مَا يَأْتِي تَقْرِيره إِن شَاءَ الله وَإِذا ذَاك فحصوله عَنْهَا ضَرُورِيّ بِحَسب تَرْتِيب الْوُجُود الِاخْتِيَارِيّ الثَّانِيَة أَن الشَّرَائِع والديانات وكل أَمر يحمل عَلَيْهِ الْجُمْهُور وَلَا بُد فِيهِ من العصبية كَمَا يَتَّضِح بعد إِن شَاءَ الله وَعَلِيهِ فَهِيَ ضَرُورِيَّة فِي الْملَّة وَإِلَّا لما تمّ أَمر الله بهَا الثَّالِثَة أَن ذمّ الْملك وَالنَّهْي عَن أَهله فِي الِاسْتِمْتَاع بِالْخِلَافِ والتنكيب عَن صِرَاط الله مصرف لقصد التغلب بِالْبَاطِلِ وتصريف الْخلق طوع الْأَغْرَاض والشهوات وَأما النِّيَّة فِيهِ حمل النَّاس بِهِ على عبَادَة الله وَجِهَاد عدوه لَازم فِيهِ بِوَجْه وَقد سبقت الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك الرَّابِعَة إِن ذمّ العصبية والأعلام بِعَدَمِ فائدتها كَقَوْلِه تَعَالَى {لن تنفعكم أَرْحَامكُم وَلَا أَوْلَادكُم} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أذهب عَنْكُم عبِّيَّة الْجَاهِلِيَّة وَفَخْرهَا بِالْآبَاءِ أَنْتُم بَنو آدم وآدَم من تُرَاب المُرَاد بِهِ حَيْثُ تكون على بَاطِل كَمَا كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة وَمَتى أستعين بهَا على إِقَامَة حق فَلَا ذمّ فِيهَا وَإِلَّا لما تمّ ظُهُور ذَلِك

إِذا تقرر هَذَا فالخلافة وَالْملك فِي الدولة الإسلامية مقامات ثَلَاثَة الْمقَام الأول عِنْد وجود الْخلَافَة بِدُونِ الْملك وَذَلِكَ حِين الْبَرَاءَة مِنْهُ والتنكب على طَرِيقه فِي أول الْأَمر اسْتغْنَاء عَنهُ بوازع الدّين لما كَانُوا عَلَيْهِ من إِيثَار الْحق أَولا وغضاضة البداوة الْمعينَة عَلَيْهِ ثَانِيًا الْمقَام الثَّانِي بعد اختلاطها وامتزاج الدولة بهما وَذَلِكَ عِنْد تدرج البداوة إِلَى نهايتها تَجِيء طبيعة الْملك لمقْتَضى العصبية وَحُصُول التغلب ثمَّ انْفِرَاده بالمجد مَعَ تحري مَذَاهِب الدّين والجري على نهج الْحق إِذا التَّغْيِير لم يظْهر إِلَّا الْوَازِع الديني فَقَط تعْيين تَغْيِير قَالَ ابْن خلدون كَمَا كَانَ الْأَمر لعهد مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ ومروان وَابْنه عبد الْملك والصدر الأول من خلفاء بني الْعَبَّاس إِلَى الرشيد وَبَعض وَلَده قلت يشْهد لَهُ حَدِيث الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ ثمَّ يكون ملكا قَالَ عِيَاض فَكَانَت كَذَلِك مُدَّة الْحسن رَضِي الله عَنهُ

الْمقَام الثَّالِث وَهُوَ الانقلاب الْكُلِّي إِلَى الْملك البحت وَذَلِكَ عِنْد ذهَاب مَعَاني الْخلَافَة مَا عدا اسْمهَا وجريان طبيعة التغلب إِلَى غايتها فِي اسْتِعْمَال أغراضها من الْقَهْر والتحكم فِي الشَّهَوَات والملاذ قلت يدل عَلَيْهِ حَدِيث أَن هَذَا المر بَدَأَ نبوة وَرَحْمَة وَخِلَافَة ثمَّ يكون ملكا عَضُوضًا ثمَّ يكون عتوا وَجَبْرِيَّة وَفَسَادًا فِي الْأمة تَعْرِيف قَالَ كَمَا كَانَ المر بخلف بني عبد الْملك وَلم جَاءَ بعد المعتصم والمتوكل من بني الْعَبَّاس قَالَ وَاسم الْخلَافَة كَانَ بَاقِيا لبَقَاء عصبية الْعَرَب ثمَّ ذهب رسمها وأثرها بذهاب عصبية الْعَرَب وفناء جيلهم وَبَقِي الْأَمر ملكا كَمَا فِي مُلُوك الْعَجم فِي الْمشرق يدينون بِطَاعَة الْخَلِيفَة تبركا وَالْملك بِجَمِيعِ مناحيه لَهُم لاشيء مِنْهُ للخليفة وكما فِي مُلُوك زناتة بالمغرب كصنهاجة مَعَ العبيديين ومغراوة وَبني يفرن مَعَ بني أُميَّة بالأندلس النّظر الثَّالِث فِي سَائِر أَنْوَاع الرياسات وَقبل بَيَان ذَلِك فَهُنَا مقدمتان

الرياسة الأولى

الْمُقدمَة الأولى أَن الْعمرَان البشري لابد لَهُ من سياسة يَنْتَظِم بهَا أمره لما تقدم أَن الْوَازِع فِيهِ ضَرُورِيّ سَوَاء كَانَ يَزع الْخلق بِمُقْتَضى السياسة الشَّرْعِيَّة أَو الْعَقْلِيَّة وَحِينَئِذٍ فرياسته بذلك إِن لم تَنْتَهِ إِلَى الْملك الْحَقِيقِيّ لفقد شَرطه فَلَا أقل من تمكنه وتمشية مَا يسوس بِهِ من تَحت رياسته وَحِينَئِذٍ يُسمى رَئِيسا الْمُقدمَة الثَّانِيَة إِن الْملَّة لابد فِيهَا من الْقَائِم بهَا عِنْد غيبَة نبيها يكون فِيهَا كالخليفة عَنهُ فِي حملهمْ على مَا جَاءَ بِهِ من الْأَحْكَام والشرائع وَالْحَاجة مَعَ ذَلِك إِلَى الْوَازِع الْمُسَمّى بِالْملكِ إِنَّمَا هُوَ أما تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ وَالْملَّة الإسلامية لما شرع فِيهَا الْجِهَاد لحمل الكافة على إِجَابَة دعوتها الْعَامَّة طَوْعًا أَو كرها فَلَا جرم اتَّخذت فِيهَا الْخلَافَة وَالْملك وَلَا كَذَلِك عيرها من الْملَل فَلذَلِك لَا يَنْبَغِي للقائم فِيهَا بِأَمْر الدّين شَيْء من سياسة الْملك ووجوده فِيهَا مَا هُوَ بِالْعرضِ وَالْأَمر غير ديني إِذا لم يخاطبوا بالتغلب على الْأُمَم كَمَا فِي الْملَّة الإسلامية زَادهَا الله ظهورا إِذا عرفت هَذَا فَتلك الرياسة الْقَائِمَة سياستين نَوْعَانِ بحسبهما النَّوْع الأول الرياسة الشَّرْعِيَّة وَمن مَشْهُور الْوَاقِع من ذَلِك مُلَخصا من كَلَام ابْن خلدون رياستان هما للْيَهُود وَهِي رياسة الكوهن وَالْأُخْرَى لِلنَّصَارَى وَهِي رياسة البابا الرياسة الأولى رياسة كوهن وَلَهُم فِيهَا بِاعْتِبَار الِاقْتِصَار عَلَيْهَا والتدرج مَعهَا إِلَى الرياسات الطبيعية ثمَّ الرُّجُوع إِلَيْهَا إِلَى الْآن سِتّ حالات الْحَالة الأولى أَقَامُوا فِيهَا من بعد مُوسَى ويوشع علنهما السَّلَام نَحْو

أَرْبَعمِائَة سنة لَا يعتنون فِيهَا بِشَيْء من أَمر الْملك اقتصارا على إِقَامَة رَئِيس ذُرِّيَّة هَارُون علنه السَّلَام كَأَنَّهُ خَليفَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي إِقَامَة الدّين خَاصَّة كَالصَّلَاةِ والقربان ويسمونه الكوهن ثمَّ اخْتَارُوا سبعين شَيخا لإِقَامَة السياسة الطبيعية للبشر فَكَانُوا يتولون تَنْفِيذ أَحْكَامهَا الْعَامَّة والكوهن فَوْقهم بالرتبة الدِّينِيَّة واتصل ذَلِك بهم إِلَى أَن استحكمت طبيعة العصبية وتهيأت الشَّوْكَة للْملك وَهِي الْحَالة الثَّانِيَة فغلبوا الكنعانيين على الأَرْض الَّتِي أورثهم الله بِبَيْت الْمُقَدّس وَمَا جاوروها كَمَا وعدوا على لِسَان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ورياستهم رَاجِعَة إِلَى شيوخهم مُدَّة من نَحْو أَرْبَعمِائَة سنة وَلما لم بكم لَهُم صولة ملك ضجروا من مغالبة الْأُمَم فطلبوا على لِسَان شمويل عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَأْذَن الله تَعَالَى لَهُم فِي تمْلِيك رجل عَلَيْهِم فَكَانَ طالوت وَغلب الْأُمَم وفتل جالوت ثمَّ ملك بعده دَاوُد ثمَّ سُلَيْمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام واستعجل ملكه وَهِي الْحَالة الثَّالِثَة فامتد غلى الْحجاز ثمَّ غلى أَطْرَاف الْيمن ثمَّ إِلَى أَطْرَاف بِلَاد الرّوم ثمَّ افترق الأسباط بعد سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى دولتين أَحدهمَا بالجزيرة والموصل للأسباط الْعشْرَة وَالْأُخْرَى بالقدس والسام لبني يهود وَبَين يَامِين ثمَّ غلبهم بخت نثر ملك بابل على مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم بعد اتِّصَال ملكهم نَحْو ألف سنة وَخرب مَسْجِدهمْ وأحرق توراتهم ونقلهم إِلَى أَصْبَهَان وَالْعراق إِلَى أَن ردهم بعض ملك الْفرس إِلَى بَيت الْمُقَدّس بعد سبعين سنة من خُرُوجهمْ فبنوا الْمَسْجِد وَأَقَامُوا دينهم على الرَّسْم الأول للكهنة فَقَط وَهِي الْحلَّة الرَّابِعَة وَالْملك حِينَئِذٍ إِنَّمَا هُوَ للْفرس ثمَّ غلب الْإِسْكَنْدَر واليونانيون على الْفرس وَصَارَ الْيَهُود فِي ملكهم ثمَّ فشل أَمر اليونانيين فاعتز الْيَهُود عَلَيْهِم بالعصبية وقائم مملكتهم الكهنة الَّذين كَانُوا فيهم إِذْ ذَاك وقاتلوا يونان حَتَّى انقرضوا وَهِي الْحَالة الْخَامِسَة ثمَّ غلبهم الرّوم وَرَجَعُوا إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَبهَا بَقِيَّة دولتهم فحاصروهم مُدَّة ثمَّ افتتحوها عنْوَة وأفحشوا فِي الْقَتْل وَالْهدم وَالتَّحْرِيق وخربوا بَيت الْمُقَدّس وأجلوهم عَنْهَا غلى رومة وَمَا وَرَاءَهَا وَهُوَ

الرياسة الثانية

الخراب الثَّانِي لِلْمَسْجِدِ ويسميه الْيَهُود بالجلوة الْكُبْرَى فَلم يقم لَهُم بعد ذَلِك ملك لفقدان العصبية وبقوا بعد ذَلِك فِي ملكة الرّوم وَمن بعدهمْ والمقيم لدينهم رئيسهم الْمُسَمّى بالكوهن إِلَى الْآن وَهِي الْحَالة السَّادِسَة لَا أبدلهم الله مِنْهَا وَزَادَهُمْ ذلا وصغارا إِلَى يَوْم الدّين وَقد فعل الرياسة الثَّانِيَة رياسة البابا وَضبط هَذِه اللَّفْظَة بباءين موحدتين من أَسْفَل والنطق بهما مفخما وَالثَّانيَِة مُشَدّدَة وَمَعْنَاهُ أَبُو الْآبَاء وإيجاز التَّوْقِيف على مصيرهم غلى اعْتِمَاد هَذِه الرياسة بتلخيص مَا وَقع لَهُم من الإضراب من لدن رفع عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى هَذَا الْعَهْد الإضراب الأول عِنْد افْتِرَاق الحواريين وَدخُول أَكْثَرهم إِلَى بِلَاد الرّوم داعين غلى دين النَّصْرَانِيَّة واستقرار كَبِيرهمْ بنظره برومية دَار ملك القياصرة وكتبهم الأناجيل الْأَرْبَعَة الْمُخْتَلفَة الرِّوَايَة من وَحي وَغَيره واجتماعهم برومة لوضع قوانين الْملَّة النَّصْرَانِيَّة الملتقطة من الْكتب المتضمنة لشرع الْيَهُود وَتلك الأناجيل المتلقاة عَن الْكَاتِبين لَهَا رَئِيس ملتهم لذَلِك الْعَهْد وَخَلِيفَة الْمَسِيح فيهم الْمُسَمّى بالبطرك وثانية المنعوت لمن بعد مِنْهُ يُسمى بالأسقف وَالْإِمَام الْمُقِيم للصَّلَاة بهم والمفتي لَهُم فبالدين يُسمى بالقسيس والمنقطع لِلْعِبَادَةِ فِي الْخلْوَة وأكثرها فِي الصوامع يُسمى بِالرَّاهِبِ

الِاضْطِرَاب الثَّانِي حِين اخْتِلَاف القياصرة فِي الْأَخْذ بِهَذِهِ الشَّرِيعَة وتعظيم أَهلهَا تَارَة ثمَّ بِتَرْكِهَا والتسلط على أَهلهَا بِالْقَتْلِ فِي وَالنَّفْي أُخْرَى إِلَى أَن جَاءَ قسطنطين الْملك وَأخذ بهَا واستمروا عَلَيْهَا وَرَئِيسهمْ فِي هَذِه الْحَالة صَاحب دينهم كَمَا مر الِاضْطِرَاب الثَّالِث لما اخْتلف البطارقة والقديسون بعد ذَلِك فِي قَوَاعِد دينهم وعقائده واجتمعوا فِي أَيَّام قسطنطين لتحرير الْحق فِي الدّين وَاتفقَ ثَلَاثمِائَة وَثَمَانِية عشرَة مِنْهُم على رَأْي وَاحِد فكتبوه وسموه الْأَمَانَة وجعلوه أصلا يرجعُونَ إِلَيْهِ فبقى المر كَذَلِك إِلَى أَن اخْتلفُوا بعد ذَلِك فِي قَوَاعِد الدّين اخْتِلَافا آخر وَهُوَ الِاضْطِرَاب الرَّابِع وَكَانَت لَهُم مجتمعات فِي تَقْرِيره واتصل فيهم بنيابة الأساقفة عَن البطارقة وَكَانَ الأساقفة يدعونَ البطرك بِالْأَبِ تَعْظِيمًا لَهُ والأسقف يَدعِي حَيْثُ يَنُوب عَن البطرك بِالْأَبِ أَيْضا تَعْظِيمًا لَهُ فأرادوا أَن يميزوا البطرك عَن الأسقف فِي التَّعْظِيم لحُصُول الإشتباه بَينهمَا مُنْذُ أعصار متطاولة فَدَعوهُ البابا وَمَعْنَاهُ أَبُو الْآبَاء فَلم تزل سمته عَلَيْهِ بعد اخْتِصَاصه بكرسي رومة إِلَى الْآن الِاضْطِرَاب الْخَامِس وَهُوَ اخْتلَافهمْ فِي الْأَعْظَم بعد ذَلِك فِي الدّين وَمَا يعتقدونه فِي الْمَسِيح وصاروا طوائف وفرقا واستظهروا بملوك النَّصْرَانِيَّة كل على صَاحبه غلى أَن اسْتَقَرَّتْ ثَلَاث طوائف هِيَ فرقهم الَّتِي لَا معول لَهُم على غَيرهَا وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية ثمَّ اخْتصّت كل فرقة مِنْهُم ببطرك فبطرك رومة الْمُسَمّى بالبابا على رَأْي الملكانية وملكهم قديم بِتِلْكَ النَّاحِيَة وبطرك المعاهدين بِمصْر على رَأْي اليعقوبية وَهُوَ سَاكن بَينهم والحبشية يدينون بدينهم ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عَنهُ فِي إِقَامَة دينهم هُنَاكَ وإسم البابا مَخْصُوص ببطرك رومة وَلَا يُسمى بِهِ اليعقوبية بطركم أَعْلَام قَالَ ابْن خلدون وَمن مَذَاهِب البابا عِنْد نَصْرَانِيَّة رومة تحضيضهم على الإنقياد لملك وَاحِد يرجعُونَ إِلَيْهِ اخْتِلَافا واجتماعا تحرجا من افْتِرَاق الْكَلِمَة ويتحرى فِيهِ العصبية الَّتِي لَا فَوْقهَا ليَكُون يَده عالية

عاطفة تكميل

على جمعهم ويباشره بِوَضْع التَّاج على رَأسه للتبرك فيسمى المتوج وَالله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء عاطفة تَكْمِيل تقدم أَن أَوَائِل النَّصَارَى التقطوا من كتب الْيَهُود مَا كتبوه من الأناجيل وجعلوه اصل دينهم المشرف على شفا جرف هاو وَالشَّيْخ شمس الدّين ابْن الْأَكْفَانِيِّ لخص تِلْكَ الْكتب فَرَأَيْنَا نَقله تكميلا لقصد الإطلاع على مَا وَقع فِي الْوُجُود والأعمال بِالنِّيَّاتِ قَالَ بعد تَقْرِير أَن الْمَشْهُور من فرقهم ثَلَاث الربانيون والقراؤون والسامريون غير أَن السامرية مِنْهُم نقلوا عَن أَنْبِيَائهمْ تِسْعَة عشر كتابا يضيفونها إِلَى خَمْسَة أسفار من التَّوْرَاة على مَا فِيهَا من التبديل وَالِاخْتِلَاف ويعبرون عَن جُمْلَتهَا بالنبوات قَالَ وَهِي مَرَاتِب الْمرتبَة الأولى التَّوْرَاة وَهِي خمس أسفار أَحدهَا يذكر فِيهَا بَدْء الْخَلِيفَة والتاريخ من آدم إِلَى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام الثَّانِي يذكر فِيهِ اسْتِخْدَام المصريين لبني إِسْرَائِيل وَظُهُور مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وهلاك فِرْعَوْن ويصف قبَّة الزَّمَان وأحوال التيه وَإِقَامَة هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام ونزول الْعشْر كَلِمَات وَسَمَاع الْقَوْم كَلَام الله تَعَالَى الثَّالِث يذكر فِيهِ تَعْلِيم القوانين بالإجمال

الرَّابِع يذكر فِيهَا عدد الْقَوْم وَيقسم الأَرْض عَلَيْهِم وأحوال الرُّسُل الَّتِي بعثها مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الشَّام وأخبار الْمَنّ والسلوى والغمام الْخَامِس إِعَادَة أَحْكَام التَّوْرَاة وتفصيل الْمُجْمل وَذكر وَفَاة هَارُون ثمَّ مُوسَى وَخِلَافَة يُوشَع عَلَيْهِم الْمرتبَة الثَّانِيَة أَرْبَعَة أسفار أَحدهمَا يدعى ليوشع عَلَيْهِ السَّلَام يذكر فِيهِ ارْتِفَاع الْمَنّ وأكلهم المَال بعد تَقْدِيم القربان ومحاربة يُوشَع عَلَيْهِ السَّلَام الكنعانيين وفتحه الْبِلَاد وتقسيمها بِالْقُرْعَةِ الثَّانِي يعرف بسفر الْحُكَّام فِيهِ أَخْبَار قُضَاة بني إِسْرَائِيل فِي الْبَيْت الأول الثَّالِث لشمويل عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ نبوته وَملك طالوت وَقتل دَاوُود جالوت الرَّابِع يعرف بسفر الْمُلُوك فِيهِ أَخْبَار ملك دَاوُود وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام وَغَيرهمَا وانقسام ذَلِك الْملك بَين الأسباط والملاحم والجلاء الأول ومجيء بخْتنصر وحراب بَيت الْمُقَدّس الْمرتبَة الثَّالِثَة أَرْبَعَة أسفار تَدعِي الْأَخِيرَة أَحدهمَا لشعياء عَلَيْهِ السَّلَام يذكر فِيهِ توبيخ الله تَعَالَى لبني إِسْرَائِيل وإنذارهم بِمَا يَقع وبشرى للصابرين وَأَشَارَ إِلَى خراب الْبَيْت الثَّانِي والخلاص على يَد كورش الْملك الثَّانِي لأرميا عَلَيْهِ السَّلَام خراب الْبَيْت بالتصريح والهبوط إِلَى مصر الثَّالِث لحزقيال عَلَيْهِ السَّلَام يذكر فِيهَا حكما طبيعة وفلكية مرمموزة وشكل بَيت الْمُقَدّس وأخبار يَأْجُوج وَمَأْجُوج

الرَّابِع اثْنَا سعرا فِيهَا إنذارات بزلزال وجراد وَإِشَارَة إِلَى المنتظر والمحشر ونبوة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام وغرقه وابتلاع الْحُوت لَهُ وتوبة قومه ونبوة زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام وَإِشَارَة إِلَى الْيَوْم الْعَظِيم وَبشَارَة بورود الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام الْمرتبَة الرَّابِعَة تدعى الْكتب وَهِي أحد عشر سفرا أَحدهمَا التَّارِيخ من آدم إِلَى الْبَيْت الثَّانِي وَنسب الأسباط وقبائل الْعَالم الثَّانِي مَزَامِير دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام وعدتها مائَة وَخَمْسُونَ مزمار مَا بَين طلبات وأدعية عَن مُوسَى عيه السَّلَام وَغَيره الثَّالِث قصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام وَفِيه مبَاحث كَلَامه الرَّابِع أَمْثَال حكمِيَّة عَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام الْخَامِس أَخْبَار الْحُكَّام قبل الْمُلُوك السَّادِس نشائد عبرانية لِسُلَيْمَان عَليّ السَّلَام مخاطبات بَين النَّفس وَالْعقل السَّابِع يَدعِي جَامع الْحِكْمَة لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ الْحَث على طلب اللَّذَّات الْعَقْلِيَّة الْبَاقِيَة وتحقير الجسمية الفانية وتعظيم الله تَعَالَى والتخويف مِنْهُ قلت لَا يفهم من هَذَا أَن اللَّذَّات الحسية لَا وجود لَهَا فِي الْآخِرَة فَإِن الْملَّة المحمدية على الْآتِي بهَا أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وأزكى التَّحِيَّة قد تكفلت بِصدق الْوَعْد بهَا على وَجه لَا ريب فِيهِ الثَّامِن يَدعِي النواح لأرمياء عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ خمس مقالات على حُرُوف المعجم ندب على الْبَيْت

النوع الثاني

التَّاسِع فِي ملك ازدشير وَعبد النُّور الْعَاشِر لدانيال عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ تَعْبِير منامات بحتنصر وَولده مرموز على مَا يَقع فِي الممالك وحلل الْبَعْث والنشور الْحَادِي عشر لعزيز عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ صفة عود الْقَوْم من أَرض بابل إِلَى الْبَيْت الثَّانِي وبناءه قَالَ وينفرد الربانيون بشروح لعوائم التَّوْرَاة وتفريعات عَلَيْهَا ينقلونها عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام النَّوْع الثَّانِي الرياسة غير الشَّرْعِيَّة إِمَّا لعدم التدين بهَا من أصل أَو الْقيام بهَا من حَيْثُ الْحَاجة إِلَيْهَا طبعا من غير الْتِفَات إِلَى مُوَافقَة قصد الشَّارِع بهَا أَو مُخَالفَته وَإِن صدق بالشريعة وَلَا خَفَاء أَن فرض هَذِه الرياسة إِنَّمَا هُوَ فِيمَا دون الْملك كَمَا تقدم وَلها فِي الْوَاقِع على هَذَا الْفَرْض صور عديدة يَكْفِي مِنْهَا اثْنَتَانِ الصُّورَة الأولى انْفِرَاد وَاحِد بِنَوْع من التغلب بسياسة من غلب عَلَيْهِ لينتظم عمرانها برعايتها جلبا ودفعا وَلَا يخفي موقعه فِي الْوُجُود قَدِيما وحديثا الصُّورَة الثَّانِيَة إِقَامَة جمَاعَة من مشيخة المرؤوس عَلَيْهِم لينهضوا بتدبير أَمرهم وَإِقَامَة مصالحهم وَقد تقدم مثله لبني إِسْرَائِيل قبل وجود العصبية الحاملة على التغلب الَّذِي غَايَته الْملك الَّذِي بلغوه بعد وأمثالهم فِي ذَلِك من سَائِر الْأُمَم وَللَّه الْعَلِيم الْحَكِيم

الْبَاب الثَّانِي فِي سَبَب وجود الْملك وَشَرطه وَالنَّظَر فِي طرف سَبَب وجوده وَشَرطه وَمَا يقْضِي إِلَيْهِ ذَلِك وَهُوَ الْحَرْب والقتال الطّرف الأول فِي سَبَب وجود ذَلِك قد سبق تَقْرِير أَن الِاجْتِمَاع الطبيعي للبشر لَا بُد فِيهِ من وازع وَهُوَ السُّلْطَان الْقَائِم بقهر ملكه عَن مَحْذُور مَا يعرض فِيهِ من الشرور الطبيعية لوُجُوده وَظَاهر من توقع هَذَا الْمَحْذُور أَنه سَبَب كَاف فِي وجود الْملك من تِلْكَ الْجِهَة وَالْغَرَض الْآن تنزل الْبَيَان لبَعض الحكم الْمُشْتَمل عَلَيْهَا بِحَسب الْحَاجة إِلَيْهِ على الْإِطْلَاق مُنْضَمًّا لما سبق من ذَلِك تمهيدا وتأصيلا وَالْمَذْكُور مِنْهَا عشر حكم الْحِكْمَة الأولى ذَلِك السَّبَب الَّذِي تقدم ولظهور الْعِنَايَة بِهِ أُشير إِلَيْهِ عَن طَرِيق التَّعْرِيف بهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} على بعض محتملاته وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ أَن الله تَعَالَى يدْفع بِوَضْع الشَّرَائِع وَنصب الْمُلُوك أَنْوَاع الشرور والمفاسد قَالَ الإِمَام فَخر الدّين وَيشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى وَلَوْلَا دفع الله النَّاس

بَعضهم بِبَعْض لهدمت صوامع وَبيع وصلوات ومساجد يذكر فِيهَا اسْم الله كثيرا) الْحِكْمَة الثَّانِيَة أَن السُّلْطَان المستقل بِهِ من حجج الله تَعَالَى وعَلى وجوده وبينات الدّلَالَة على توحيده لِأَن عدم استقامة الْعَالم بِغَيْر مُدبر شَاهد بِأَن اختراعه على أفضل وُجُوه الْعِنَايَة بِهِ لَا يَصح إِسْنَاده لغير شَيْء بل لابد من الْإِقْرَار بفاطره الْحَكِيم واستحالة صَلَاح الْبَلَد الْوَاحِد بِنصب سلطانين دَلِيل على أَن الْعَالم لَا يصلح بِوُجُود الِاثْنَيْنِ {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} قَالَ الطرطوشي والعالم بأسره فِي سُلْطَان الله عز وَجل كالبلد الْوَاحِد فِي سُلْطَان الأَرْض قَالَ وَلِهَذَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَمْرَانِ جليلان لَا يصلح أَحدهمَا إِلَّا بالتفرد وَلَا يصلح الآخر إِلَّا بالمشاركة وهما الْملك والرأي فَكَمَا لَا يَسْتَقِيم الْملك بِالشّركَةِ لَا يَسْتَقِيم الرَّأْي بالتفرد الْحِكْمَة الثَّالِثَة إِنَّه يتنزل من الدّين منزلَة الْأَخ الْمعِين والعماد الرافع لفسطاطه فقديما قيل الدّين وَالسُّلْطَان توأمان وَعَن أزدشير أَنه قَالَ لِابْنِهِ

يَا بني إِن الْملك وَالدّين أَخَوان لَا غنى لأَحَدهمَا عَن الآخر فالدين أس وَالْملك حارس وَمَا لم يكن لَهُ أسس فمهدوم وَمَا لم يكن لَهُ حارس فضائع وَعَن كَعْب مثل الْإِسْلَام وَالسُّلْطَان وَالنَّاس مثل الْفسْطَاط والعمود والأوتاد والأطناب فالفسطاط الْإِسْلَام والعمود السُّلْطَان والأطناب والأوتاد وَالنَّاس لَا يصلح بَعضهم إِلَّا بِبَعْض قَالَ قَالَ الشَّاعِر (لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إِذا جهالهم سادوا) (وَالْبَيْت لَا يبتني إِلَّا على عمد ... وَلَا عماد إِذا لم ترس أوتاد) (فَأن تجمع أوتاد وأعمدة ... يَوْمًا فقد بلغُوا الْأَمر الَّذِي كَادُوا) الْحِكْمَة الرَّابِعَة إِنَّه يدْفع بتخويفه وتهديده مَالا يدْفع بِالْقُرْآنِ بتكرار وعظه وترديده فِي الحَدِيث إِن الله ليزع بالسلطان مَالا يَزع بِالْقُرْآنِ وَقَالَ الطرطوشي مَعْنَاهُ ليدفع

قلت وَذَلِكَ لما فِي الطباع البشرية من الْعدوان والاستعصاء عَن الطَّاعَة وَمن ثمَّ قَالَ ابْن الْمُبَارك (إِن الْجَمَاعَة حَبل الله فَاعْتَصمُوا ... بعروته الوثقى لمن دانا) (كم يدْفع الله بالسلطان مظْلمَة ... فِي ديننَا رَحْمَة مِنْهُ ودنيانا) (لَوْلَا الْخَلِيفَة لم تأمن لنا سبل ... وَكَانَ أضعفنا نهبا لأقوانا) الْحِكْمَة الْخَامِسَة أَنه ينْدَفع بِهِ ضَرَر مَا يفوت بِتَقْدِير فَقده من حَاجَة الْخلق لتنفيذ الْأَحْكَام وَإِقَامَة الصَّلَوَات وجباية الْخراج وَنصب الْقُضَاة وحماية الْبَيْضَة وسد الثغور وتجهيز الجيوش وَقسم الْغَنَائِم وَبعث السعاة والولاة وإنصاف الْمَظْلُوم وَالظَّاهِر إِن دفع الضَّرَر عَن النَّفس وَاجِب بِإِجْمَاع الْأَنْبِيَاء وَالرسل وبصريح الْعقل عِنْد الْقَائِلين بتحسينه وتقبيحه وَحِينَئِذٍ فنصبه وَاجِب تحصيلا لهَذِهِ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَهِي طَريقَة غير وَاحِد فِي تَقْرِير هَذَا الْوُجُوب اعْتِبَارا كَالْإِمَامِ فَخر الدّين والأمدي والبيضاوي فِي آخَرين

لَكِن قررناها على مُقْتَضى تَقْرِير ابْن التلمساني فِيهَا الْحِكْمَة السَّادِسَة إِنَّه لَا يتم قصد الشَّارِع فِي وَضعه الشَّرِيعَة لصلاح الْعباد عَاجلا وآجلا حَسْبَمَا خلص برهانه فِي علم الْكَلَام إِلَّا بنصبه وَقَررهُ الأمدي بِأَن عدم انقياد النَّاس لما جبلوا عَلَيْهِ من اخْتِلَاف الْأَهْوَاء يفوت عَلَيْهِم مُوَافقَة ذَلِك الْقَصْد مَعَ وُقُوع الْفِتَن باخْتلَاف الْكَلِمَة عِنْد موت الْأَئِمَّة إِلَى نصب إِمَام آخر بِحَيْثُ لَو تَأَخَّرت إِقَامَته وَبَطل المعاش وَصَارَ كل مَشْغُول بِنَفسِهِ تَحت قَائِم يتبعهُ وَذَلِكَ مفض إِلَى الْهَلَاك لَا محَال قَالَ فَإِذا نصب الإِمَام من أهم مصَالح الْمُسلمين وَأعظم مقامات الدّين وَهُوَ حِكْمَة الْإِيجَاب السمعي انْتهى مُلَخصا الْحِكْمَة السَّابِعَة إِنَّه يحرس الدّين من مَحْذُور تبديله وتغييره فقد تقدم عَن أزدشير أَن الدّين أس وَالسُّلْطَان حارس وَقَررهُ الْمَاوَرْدِيّ بِمَا هُوَ حَاصله أَنه مَا من دين زَالَ سُلْطَانه إِلَّا بدلت أَحْكَامه وغيرت سنته كَمَا أَن السُّلْطَان إِذا عرى عَن الدّين كَانَ السُّلْطَان قهر ومفسد دهر قَالَ وَمن هذَيْن الْوَجْهَيْنِ وَجَبت إِقَامَته ليحرس الدّين وَيجْرِي على سنته قلت وعَلى مَا سبق عَن ابْن خلدون إِن الدّين الَّذِي لم تتَّخذ فِيهِ الْخلَافَة وَالْملك مَا عدى دين الْإِسْلَام لَا يجْرِي فِي هَذَا التَّقْرِير على حسب المُرَاد بِهِ نعم يتمشى فِيهِ من حَيْثُ الأولى لَا الْوُجُوب نقلا أَو عقلا الْحِكْمَة الثَّامِنَة أَنه الْعدة الْعُظْمَى لرفع مَا يتَوَقَّع من الْفِتَن المبيرة والافتراق المفضي لفساد النظام بِتَقْدِير أَن يكون غَيره هُوَ المتصدي

لضم نشر الْأمة وَجمع كلمتها بعد وُقُوع ذَلِك وللقرافي فِيهِ تَقْرِير بَالغ حَاصِلَة أَن النظام لَا يسْتَمر إِلَّا بِمَا ترصد بِعَين الكلاءة لمبادئ الْفِتَن ليتبادر إِلَى إطفاء نارها قبل تصدي الطغام لذَلِك فتختلف الْأَهْوَاء وَيبقى النَّاس فوضى مهملين وَذَلِكَ مفض إِلَى اسْتِيلَاء الأراذل على الأفاضل وامتداد الْأَيْدِي العادية إِلَى الْفروج وَالْأَمْوَال وَلَا يخفى مَا فِي ذَلِك من حل عصم الدّين وَالدُّنْيَا قَالَ فيتبين من هَذَا المنظر الْبَصِير أَن الإِمَام ضَرُورِيّ لِلْخلقِ وَأَنَّهُمْ لَا غنية لَهُم عَنهُ فِي دفع الْبَاطِل وَتَقْرِير الْحق انْتهى مُلَخصا الْحِكْمَة التَّاسِعَة إِنَّه فِي الأَرْض الظل الظليل والدواء الذب تحفظ بِهِ الصِّحَّة ويشفى بِهِ العليل وَهُوَ معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السُّلْطَان ظلّ الله فِي الأَرْض يأوي إِلَيْهِ كل مظلوم ثمَّ من كَمَال هَذِه الْحِكْمَة من حَيْثُ هِيَ نعْمَة تعم الظَّالِم والمظلوم فالظالم تكفه عَن الظُّلم والمظلوم بأمنه وكف الظَّالِم عَنهُ وَلَو فقد هَذَا لَكَانَ مثلهم كَمَا قَالَ الطرطوشي كَمثل الْحُوت فِي المَاء يبتلع الْكَبِير وَالصَّغِير قَالَ وَلِهَذَا قَالَ بعض القدماء لَو رفع السُّلْطَان من الأَرْض مَا كَانَ لَهُ تَعَالَى فِي أهل الأَرْض من حَاجَة الْحِكْمَة الْعَاشِرَة إِنَّه الْكَفِيل بتنجيز مَا ورد بِهِ الْوَعْد الصَّادِق من ظُهُور دين الْحق على الدّين كُله وبلوغ ملك الْأمة بِهِ مازوي للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا إِذْ لإخفاء أَن مَا وَقع من ذَلِك أَو يَقع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة يَسْتَدْعِي نصب لإِقَامَة مَا تتمّ بِهِ مُطَالبَة ذَلِك وَمن ثمَّ لما أَمر بَنو إِسْرَائِيل بِقِتَال من غلبهم على الدّين طلبُوا ملكا يَتَيَسَّر بِهِ بُلُوغ ذَلِك المرام قَالَ تَعَالَى ألم ترى إِلَى الْمَلأ من بني إِسْرَائِيل من بعد مُوسَى إِذْ قَالُوا

الطرف الثاني

لنبيهم ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله) ثمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا بإجابة مَا سَأَلُوا من ذَلِك {وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} تَعْرِيف ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله ثمَّ قَالَ تَعَالَى أَخْبَارًا بإجابة مَا سَأَلُوا من ذَلِك وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكا تَعْرِيف ذكر المؤرخون أَن أول ملك وضع فِي الأَرْض كيومرث ابْن آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَسَارُوا إِلَيْهِ وعرفوه حَاجتهم إِلَى ملك قيم وَقَالُوا لَهُ أَنْت أكبرنا وأشرفنا وَبَقِيَّة أَبينَا وَلَيْسَ فِي الْعَصْر من يوازيك فاضم أمرنَا إِلَيْك وَكن الْقَائِم فِينَا فإننا سَمعك وطاعتك والقائلون بِمَا ترَاهُ فأجابهم إِلَى مَا دَعوه إِلَيْهِ واستوثق مِنْهُم توكيد العهود والمواثق على السّمع لوالطاعة وَترك الْخلاف عَلَيْهِ فَلَمَّا وضع التَّاج على رَأسه قَالَ ان النِّعْمَة اتدوم إِلَى بالشكر وَأَنا احْمَد الله على أياديه ونشكره على نعْمَته ونرغب الله فِي مزيده ونسأله المعونة على مَا دفعنَا إِلَيْهِ وَحسن الْهِدَايَة إِلَى الْعقل الَّذِي يجمع الْعقل الَّذِي يجمع الشمل ويصفي الْعَيْش فثقوا بِالْعَدْلِ منا وأنصفونا من أَنفسكُم نوردكم أفضل مَا هممكم وَالسَّلَام الطّرف الثَّانِي فِي شَرط وجوب الْملك وَهِي العصبية أَو مَا يقوم مقَامهَا وَفِيه لبَيَان ذَلِك وَمَا يلْحق بِهِ مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى إِن الْملك والدولة الْعَامَّة إِنَّمَا تحصل بالعصبية والشوكة وَقد يعبر عَنْهَا بالجند حَيْثُ يقوم مقَامهَا وَذَلِكَ لِأَن حُصُول الْملك أَولا

مُتَوَقف على التغلب عَلَيْهِ بقهر من ينافس فِيهِ لشرف منصبه واشتماله على الملاذ الْبَدَنِيَّة والنفسانية كَمَا قَالَ وَالْملك بعد أبي ليلى لمن غلبا والتغلب من حَيْثُ هُوَ كَذَلِك مُتَوَقف على العصبية لما فِيهَا من النعرة الحاملة على التعاضد والتناحر لَا محَالة لِأَن شَأْن كل أَمر لايتم حمل النَّاس عَلَيْهِ إِلَّا بِالسَّيْفِ والسنان لما فِي طباعهم من استعصاء وصعوبة الانقياد كَمَا سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ تَنْبِيه قَالَ ابْن خلدون وَهَذَا الْأَمر بعيد عَن إفهام الْجُمْهُور لنسيانهم عهد تمهيد الدول أَولا فَلَا يعْرفُونَ مَا فعل الله أول الدولة وَمَا لَقِي أَوَّلهمْ من المتاعب قَالَ وخصوصا أهل الأندلس فِي نِسْيَان هَذِه العصبية لطول الأمد واستغنائهم فِي الْغَالِب عَن قوتها لتلاشي وطنهم وخلوه عَن العصائب وَالله قَادر على مَا يَشَاء قلت وَذكر فِي مَوضِع آخر إِن أول قَائِم بِأَمْر الْمُسلمين من هَؤُلَاءِ الْمُلُوك النصريين أَيّدهُم الله ونصرهم وَهُوَ السُّلْطَان الْغَالِب بِاللَّه مُحَمَّد بن يُوسُف بن نصر قدس الله روحه لم يحْتَج لكثر من عِصَابَة قَليلَة من قرَابَة المسمين بالرؤساء لقلَّة العصائب بالأندلس وَإِنَّهَا سُلْطَان ورعية فَلَا يظنّ بِهِ خلاف ذَلِك وَالله غَنِي عَن الْعَالمين انْتهى المُرَاد مِنْهُ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن الْغَايَة الَّتِي تجْرِي إِلَيْهَا العصبية هِيَ الْملك لِأَن صَاحبهَا إِذا بلغ رُتْبَة الرياسة الَّتِي يصير بهَا متبوعا لَا غير وَأمكنهُ الترقي إِلَى مَا وَرَاء ذَلِك من الْقَهْر والتغلب فَإِنَّهُ يترامى إِلَيْهِ بأقصى جهده تكميلا لمطلوب النَّفس مِنْهُ وتحصيلا لغاية مَا تجْرِي إِلَيْهِ العصبية الْقَاهِرَة وَهُوَ الْملك الَّذِي بِهِ كَمَال الْقَهْر والتغلب

قلت من لَهُ همة علية يطْلب بعده مَا وَرَاء ذَلِك من الْملك الْكَبِير فِي الدَّار الْآخِرَة قَالَ عمر ابْن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ كَانَت لي نفس تواقة تاقت إِلَى الْإِمَارَة فَلَمَّا بلغتهَا تاقت إِلَى الْخلَافَة فَلَمَّا بلغتهَا تاقت إِلَى الْجنَّة الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة إِن الدولة إِذا تمهدت قد تَسْتَغْنِي عَن العصبية وسر ذَلِك أَن الدول الْعَامَّة فِي ابتدائها يصعب الانقياد لَهَا لغرابتها إِلَّا بتغلب قوى فَإِذا اسْتَقَرَّتْ رياستها فِي أهل النّصاب الْمَخْصُوص بِالْملكِ واستحكمت لَهُم صبغتها فَلَا يحْتَاج إِذْ ذَاك إِلَى كَبِير عِصَابَة وَيَكْفِي الِاسْتِظْهَار عَلَيْهَا أما بِالْمَوَالِي والمصطنعين أَو بالعصائب الخارجين عَن نَسَبهَا الداخلين فِي وليتها تَمْثِيل من مَشْهُور الدول الْوَاقِع فِيهَا ذَلِك مَا يذكر الدولة الأولى دولة بني الْعَبَّاس لما فَسدتْ عصبيتها فِي أَيَّام المعتصم وَابْنه الواثق واستظهروا بعد ذَلِك بِالْمَوَالِي من الْعَجم وَالتّرْك والديلم والسلجوقية وَغَيرهم إِلَى أَن تغلب الْعَجم على النواحي وتقلص ظلّ الدولة فَلم تعد أَعمال بَغْدَاد حَتَّى زحف إِلَيْهَا الديلم وملكوها وَصَارَ الخلائف فِي ملكهم إِلَى أَن ملك السلجوقية من بعدهمْ والخلائف كَذَلِك فِي حكمهم إِلَى أَن جَاءَ التتر فمحوا رسوم الدولة ونسخوها

الدولة الثَّانِيَة دولة صنهاجة بالمغرب فَسدتْ عصبيتهم مُنْذُ الْمِائَة الْخَامِسَة أَو مَا قبلهَا واستمرت لَهُم الدولة متقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وَسَائِر ثغور إفريقية إِلَى أَن جَاءَ الموحدون أولو العصبية القوية فِي المصامدة فمحوا آثَارهم الدولة الثَّالِثَة دولة الأموية بالأندلس لما فَسدتْ عصبيتها استولى عَلَيْهَا مُلُوك الطوائف واقتسموا خطتها أنتزى كل على مَا كَانَ بِيَدِهِ وشمخ بأنفة وبلغهم شَأْن الْعَجم فِي الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الْملك ولبسوا شارته وأمنوا من تَغْيِير ذَلِك عَلَيْهِم لفقد الْقَائِم بِهِ فِي الأندلس إِذْ لَيْسَ بدار عصائب وَلَا قبائل فاستظهروا بِالْمَوَالِي والمصطنعين والطراء عَلَيْهِم من قبائل العدوة إقتداء بالدولة فِي آخر أمرهَا بالاستظهار بهم لما ضعفت عصبية الْعَرَب واستبد ابْن أبي عَامر على الدولة فَكَانَ لَهُم دوَل عَظِيمَة وحظ كَبِير من الْملك على نِسْبَة الدولة الْقَدِيمَة المقسمة إِلَى أَن دخل إِلَيْهِم المرابطون ذَوُو العصبية القوية فِي لمتونة فاستزلوهم ومحوا آثَارهم وَلم يقدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم تَنْبِيه على وهم قَالَ ابْن خلدون وَقد ظن الطرطوشي إِن حامية الدول بإطلاقهم الْجند المرتزقون وَلَا يتناولون كَلَامه تأسيس الدول أَولا بل مَا تمهد مِنْهَا أخيرا باستقرار الْملك فِي نصابه واستحكام الصبغة لأَهله قَالَ ابْن خلدون فالرجل إِنَّمَا أدْرك الدولة عِنْدهَا هرمها ومصيرها إِلَى

المسألة الرابعة

الِاسْتِعَانَة بالإجراء المرتزقة والاستظهار بِالْمَوَالِي والصنائع لفساد العصبية من الْعَرَب وهلاكهم مُنْذُ ثَلَاثمِائَة سنة لعهد الَّذِي كَانَ فِي ايالته وَهُوَ المستعين بن هود وَابْنه المظفر فَلم ير إِلَّا سُلْطَانا مستبدا بِالْملكِ عَن عشائره لَا يُنَازع فِيهِ لاستحكام صبغة الاستبداد واستعانته بالمرتزقة فَأطلق القَوْل وَلم يتفطن لكيفية الْأَمر فِي أول الدولة وَأَنه لَا يتم إِلَّا بالعصبية فتظن أَنْت لَهُ وافهم سر الله فِيهِ وَالله يوتي ملكه من يَشَاء الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَن بعض أهل النّصاب الملكي قد تحدث لَهُم دولة بِغَيْر عصبية اسْتغْنَاء عَنْهَا لَكِن بِشَرْطَيْنِ أَن يكون لعصبيته غلب كثير على المم والأجيال وَأَن يكون فِي نفوس القائمين بأَمْره من أهل القاصية إذعان إِلَيْهِ وانقياد فَمَتَى نزع إِلَيْهِم هَذَا الْخَارِج مستبدا عَن مقرّ ملكه ومستتب عزه استملوا عَلَيْهِ وَقَامُوا بأَمْره رَجَاء استقراره فِي نصابه لما استحكم لَهُ ولقومه من صبغة الْملك الظَّاهِر فِي الأَرْض والمستقر لَهُم من عقيدة الْيَمَان بِوُجُوب الطَّاعَة لَهُم تَمْثِيل قَالَ كَمَا اتّفق للإدارسة بالمغرب الْأَقْصَى والعبيديون بإفريقية

المسألة الخامسة

ومصر فَقَامَ بأمرهم البرابرة واقتطعوا من ممالك آل الْعَبَّاس الْمغرب كُله إِلَى أَن ملك العبيديون مصر وَالشَّام والحجاز وقاسموهم فِي الممالك الإسلامية شقّ الابلحة تَسْلِيمًا لما حصل من الْملك لبني هَاشم وَلما استحكم من غلب قُرَيْش وَمُضر على سَائِر المم فَلم يزل الْملك فِي أَعْقَابهم إِلَى انْقِرَاض دولة الْعَرَب بأسرها وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة إِن الْأمة إِذا كَانَت وحشية كَانَ ملكهَا أوسع وَذَلِكَ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنهم أقدر على التغلب وانقياد من سواهُم على مَا تقدم كالعرب وزناته وَمن فِي معناهم من الأكراد والتركمان وَأهل السام من صنهاجة وَالثَّانِي انهم لتوحشهم لَا وَطن لَهُم يجنحون إِلَيْهِ فنسبة الأقطار إِلَيْهِم على سَوَاء وَعند ذَلِك لَا يقتصرون على ملك قطرهم وَلَا بُد يقفون عِنْد حُدُود أفقهم بل يطيرون إِلَى الأقاليم الْبَعِيدَة ويتغلبون على الْأُمَم القاصية برهَان وجود بماثلين أَحدهمَا مَا يحْكى من ذَلِك عَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما بُويِعَ وَقَامَ يحرض النَّاس على الْعرَاق فَقَالَ أَن الْحجاز لَيْسَ لكم بدار إِلَّا على النجعة وَلَا يقوى عَلَيْهِ أَهله إِلَّا بذلك أَيْن الطراء الْمُهَاجِرُونَ عَن موعد الله سِيرُوا فِي الأَرْض الَّتِي وَعدكُم فِي الْكتاب أَن يورثكموها فَقَالَ لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ الثَّانِي مَا اتّفق مِنْهُ للملثمين بالمغرب لما نزعوا إِلَى الْملك ملكوا من

المسألة السادسة

الأقاليم الأول ومجالهم مِنْهُ فِي جوَار السودَان إِلَى الرَّابِع وَالْخَامِس فِي ممالك الأندلس من غير وَاسِطَة وَهُوَ شَأْن الْأُمَم الوحشية فَلذَلِك تكون دولهم أوسع نطاقا وَأبْعد من مراكزها نِهَايَة وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار الْمَسْأَلَة السَّادِسَة إِن الدولة الْبَعِيدَة الِاسْتِيلَاء الْعَظِيمَة الْملك أَصْلهَا الدّين ودعوة الْحق لن اتِّفَاق الْأَهْوَاء على الْمُطَالبَة إِنَّمَا يكون بمعونة من الله تَعَالَى فِي إِقَامَة دينه لذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم} قَالَ ابْن خلدون وسره أَن الْقُلُوب إِذا مَالَتْ إِلَى الدُّنْيَا وَقع التنافس وَفَشَا الْخلاف وَإِذا رفضت الدُّنْيَا وَأَقْبَلت على الله اتحدث وجهتها فَذهب التنافس وَقل الْخلاف وَحسن التعاون والتعاضد واتسع نطاق الْكَلِمَة لذَلِك فعظمت الدولة الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن الدعْوَة الدِّينِيَّة تزيد الدولة على قوتها عصبيتها فِي الأَصْل وَذَلِكَ لأمرين أَحدهمَا أَن الصبغة الدِّينِيَّة كَمَا سلف تذْهب بتحاسد ذَوي العصبية وَتفرد الوجهة غلى الْحق وَمن استنصر بذلك فيأمره لم يقف لَهُ شَيْء قلت قيل لبَعض مُلُوك فَارس أَي مقَاتل الْمَوْت أنون عَلَيْهِ قَالَ المستبصر فِي الدّين والغيران على النِّسَاء والغضبان الَّذِي يمتص لنَفسِهِ من الذلة

تصديق بواقعين

الثَّانِي إِن المطلوبين لَهُم وَأَن فرضوا اضعافهم فأغراضهم متباينة وتخاذلهم من خوف الْمَوْت حَاصِل فَلَا يقاومونهم ألبته وغن كاثروهم قُوَّة وعددا تَصْدِيق بواقعين أَحدهمَا مَا وَقع للْعَرَب صدر الْإِسْلَام كَانَت جيوش الْمُسلمين بالقادسية واليرموك بضعا وَثَلَاثِينَ ألفا فِي كل معسكر وجموع فَارس مائَة وَعشْرين ألفا بالقادسية وجموع هِرقل أَرْبَعمِائَة ألف فِيمَا ذكر الْوَاقِدِيّ فَلم يقف لَهُم أحد من الْجَانِبَيْنِ بل هزموهم وغلبوهم على مَا بِأَيْدِيهِم الثَّانِي مَا اتّفق مِنْهُ للملثمين بالمغرب لما نزعوا غلى الْملك ملكوا من عصبيتهم فَمَا وقف لَهُم أحد قَالَ وَاعْتبر ذَلِك إِذا حَالَتْ صبغة الدّين وفسدت كَيفَ ينْتَقض الْأَمر وَيصير الغلب على نِسْبَة العصبية فَقَط دون زِيَادَة الدّين فالموحدون يشف عَلَيْهِم عددا وعصبية إِلَّا أَن الِاجْتِمَاع الديني ضاعف قُوَّة لما قدمُوا بدعوة دينية غلبوا على زناتة وَأَن كَانُوا اشد مِنْهُم قُوَّة وبداوة فَلَمَّا حادوا عَن تِلْكَ الصبغة الدِّينِيَّة انْقَضتْ عَلَيْهِم زناتة من كل جَانب وانتزعوا مِنْهُم مَا ملكوه وَالله غَالب على أمره الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَن الْعَرَب لَا يحصل لَهُم الْملك أَلا بصبغة دينية وَذَلِكَ

لآنفة نُفُوسهم المتوحشة أبعد المم فِيمَا بَينهم وقلما تَجْتَمِع أهوائهم فَإِذا وجدوا الدّين بنبوة أَو ولَايَة سهل انقيادهم وَأمكن اجْتِمَاعهم لذهاب مَا يصد عَن ذَلِك فَيحصل لَهُم الْملك والتغلب وَلَا بعد فِي ذَلِك إِذْ هم أسْرع النَّاس قبولا للحق وَالْهدى لِسَلَامَةِ طبائعهم من ذميم الْأَخْلَاق كَمَا تقدم إِلَّا مَا كَانَ من خلق التوحش الْغَرِيب المعاناة بِبَقَائِهِ على الْفطْرَة الأولى وَبعدهَا عَن كل مَا يتطبع فِي النَّفس من قَبِيح العوائد وَسُوء الملكات كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة إِن الدعْوَة الدِّينِيَّة لَا تتمّ إِلَّا بالعصبية لما سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ أَن كل أَمر يحمل النَّاس عَلَيْهِ لَا يتم إِلَّا بِالْقِتَالِ الْمَوْقُوف على العصبية وَفِي الصَّحِيح مَا بعث الله نَبيا إِلَّا فِي مَنْعَة من قومه وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْأَنْبِيَاء فَمَا الظَّن بغيرهم وَمَعَ وضوحه فقد وَقع الْغَلَط بالذهول عَنهُ لصنفين من النَّاس الصِّنْف الأول طلاب الْملك لمُجَرّد الدّين كَمَا اتّفق لِابْنِ قسي صَاحب خلع النَّعْلَيْنِ فِي التصوف ثار بغرب

الأندلس دَاعيا بدعمه إِلَى الْحق وَسمي أَصْحَابه بالمرابطين فاستتب لَهُ الْأَمر قَلِيلا لشغل لمتونة بِمَا دهمهم من أَمر الْمُوَحِّدين لأوّل اسْتِيلَاء الْمُوَحِّدين على الْمغرب ثمَّ بَادر بِالدُّخُولِ إِلَى دعوتهم وَكَانَ أول دَاعِيَة لَهُم بالأندلس لفقد العصبية الحامية عَن المطالب قلت وَمن هَذَا الصِّنْف الرجل الْمَعْرُوف بِيُوسُف المدجن الْقَائِم بدعوته أهل ربض البيازين صدر هَذِه الْمِائَة التَّاسِعَة توهما مِنْهُم أَنه يُقيم دَعْوَة حق ويحي رسم الدّين فَقتل لأمد قريب من ظُهُور فتْنَة وَمضى لسبيله وأمثالهم من الغافلين عَن اعْتِبَار العصبية فِي مثل مَا طمع فِيهِ كثير قَالَ وَمَا إِن كَانَ ملبسا فأحرى أَن لَا يتم لَهُ أَمر وَأَن يبوء بإثمه وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين الصِّنْف الثَّانِي القائمون بتغيير الْمُنكر على أُمَرَاء الْجور من الْفُقَهَاء والمتعبدين اغْتِرَارًا بِمن تَبِعَهُمْ من الغوغاء والدهماء فيهلكون فِي سَبِيل ذَلِك مأزورين غير مَأْجُورِينَ لِأَن الْأَمر بِهِ مَشْرُوط بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْملك الراسخ الْبناء لَا يهدمه إِلَّا الْمُطَالبَة بالعصبية الْغَالِبَة كَمَا سلف قَالَ فَاعْتبر حَال الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي الدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى

بالعصائب والعشائر وَلَو شَاءَ الله تَعَالَى ليدهم بالكون كُله لَكِن أجْرى الْأُمُور على مُسْتَقر الْعَادة وَالله عَلَيْهِم حَكِيم هَذَا وَأَن صدقُوا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من ذَلِك فَإِن لبسوا بِهِ فِي طلب الرياسة فأجدر أَن تَنْقَطِع بهم المهالك لِأَنَّهُ أَمر الله لَا يتم إِلَّا بِرِضَاهُ وإعانته وَالْإِخْلَاص لَهُ فِي النَّصِيحَة للْمُسلمين قَالَ وَأول من ابْتَدَأَ هَذِه النزعة بِبَغْدَاد حِين وَقعت فتْنَة طَاهِر وَقتل الْأمين وَأَبْطَأ الْمَأْمُون بخراسان عَن مقدم الْعرَاق ثمَّ عهد لعَلي بن مُوسَى الرضى من آل الْحُسَيْن فكشف بَنو الْعَبَّاس وَجه النكير

عَلَيْهِ وتداعوا للْقِيَام وخلع طَاعَة الْمَأْمُون وبويع إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَوَقع الْهَرج بِبَغْدَاد وَانْطَلَقت أَيدي الزعرة بهَا على أهل الْعَافِيَة والصون وَقَطعُوا السبل وامتلأت أَيْديهم من نهب النَّاس وباعوها عَلَانيَة فِي الْأَسْوَاق واستعدى أَهلهَا الْحُكَّام فَلم يعدوهم فتوافر أهل الدّين وَالصَّلَاح على منع الْفُسَّاق وكف عاديتهم وَقَامَ بِبَغْدَاد رجل يعرف بِخَالِد الدريدس ودعا النَّاس إِلَى الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فَأَجَابَهُ خلق وَقَاتل أهل الدعارة وغلبهم وَأطلق يَده فيهم بِالضَّرْبِ والتنكيل ثمَّ قَامَ من بعده رجل آخر من سَواد أهل بَغْدَاد يعرف بسهل بن سَلامَة الْأنْصَارِيّ ويكنى أَبَا حَاتِم وعلق مُصحفا فِي عُنُقه ودعا إِلَى الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْعَمَل بِكِتَاب الله وَسنة نبيه فاتبعته كَافَّة النَّاس من بَين شرِيف ووضيع من بني هَاشم فَمن دونهم وَنزل قصر طَاهِر وَاتخذ الدِّيوَان وَطَاف بِبَغْدَاد وَمنع كل من أَخَاف الْمَارَّة وَمنع الخفارة لأولئك الشطار وَقَالَ لَهُ خَالِد الدريدس أَنا لَا أعيب على السُّلْطَان وَقَالَ لَهُ سهل لكني أقَاتل كل من خَالف الْكتاب وَالسّنة كَائِنا من كَانَ وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ وجهز إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي إِلَيْهِ العساكر فغلبه وأسره وانحل أمره سَرِيعا وَنَجَا بِذَات نَفسه

اعتبار

تحكيم سياسة قَالَ الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي أَمر هَؤُلَاءِ أما المداواة إِن كَانُوا من أهل الْجُنُون أَو التنكيل بِالْقَتْلِ أَو الضَّرْب أَن أَحْدَثُوا هرجا وإذاعة السخرية بهم وعدهم فِي جملَة الصفاعين قلت ولابد من رِعَايَة مَا يُوجِبهُ الشَّرْع من ذَلِك الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة إِن الْملك إِذا ذهب عَن بعض الشعوب من أمة فلابد من عودة إِلَى شعب آخر مِنْهَا مَا دَامَت لَهُم العصبية وَذَلِكَ لِأَن الْملك إِنَّمَا حصل لَهُم بعد التغلب على سَائِر الْأُمَم وَعند انغماس مَا تعين مِنْهُم لوراثته فِي نعيم الترف الكاسر من سُورَة العصبية وإشرافهم بذلك على الْهَرم الطبيعي للدول على مَا بأتي بَيَان ذَلِك كُله إِن شَاءَ الله فَيكون حِينَئِذٍ عصبية المكبوحين مِنْهُم عَن الْمُشَاركَة فِي ذَلِك موفورة وَسورَة غلبهم من الكاسر مَحْفُوظَة فتسموا آمالهم إِلَى الْملك الَّذِي كَانُوا ممنوعين مِنْهُ بِالْقُوَّةِ الْبَالِغَة من جنس عصبيتهم المكبوحين مِنْهُم عَن الْمُشَاركَة فِي ذَلِك موفورة وَسورَة غلبهم من الكاسر مَحْفُوظَة فتسموا آمالهم إِلَى الْملك الَّذِي كَانُوا ممنوعين مِنْهُ بِالْقُوَّةِ الْغَالِبَة من جنس عصبيتهم وترفع الْمُنَازعَة لما عرف من غلبهم فيستولون على الْأَمر وَتصير إِلَيْهِم الْإِنْزَال كَذَلِك مترددة فيهم إِلَى تلاشي عصبيتهم بِفنَاء سَائِر عَشَائِرهمْ سنة الله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة عِنْد رَبك لِلْمُتقين اعْتِبَار قَالَ وَاعْتبر بِمَا وَقع فِي الْأُمَم لما انقرض ملك عَاد قَامَ بِهِ من بعدهمْ إخْوَانهمْ من ثَمُود وَمن بعدهمْ إخْوَانهمْ العمالقة وَمن بعدهمْ إخْوَانهمْ من حمير وَمن بعدهمْ إخْوَانهمْ التبابعة ثمَّ بعدهمْ الأذواء ثمَّ جَاءَت الدولة لمضر وَكَذَا الْفرس انقرض أَمر الكنية فَملك بعدهمْ الساسانية حَتَّى أذن الله بانقراضهم أجمع بِالْإِسْلَامِ وَكَذَا اليونانيون انقرض أَمرهم

وانتقل إِلَى إخْوَانهمْ من الرّوم وَكَذَا البربر لما انقرض أَمر مغراوة وكتانة مِنْهُم رَجَعَ إِلَى صنهاجة مِنْهُم ثمَّ إِلَى الملثمين ثمَّ إِلَى المصامدة ثمَّ من بَقِي من شعوب زنانة مزِيد تَحْصِيل قَالَ وأصل هَذَا كُله إِنَّمَا يكون بالعصبية وهب مُتَفَاوِتَة فِي الأجيال فَإِذا انقرضت دولة فغنما تنْتَقل إِلَى من لَهُ عصبية مُشَاركَة لعصبيتهم آلتي أونس مِنْهَا الغلب لجَمِيع العصبيات وَلَا يُوجد ذَلِك إِلَّا فِي النّسَب الْقَرِيب مِنْهُم حَتَّى إِذا وَقع فِي الْعَالم تَبْدِيل كَبِير من تَحْويل مِلَّة أَو ذهَاب عمرَان فَحِينَئِذٍ يخرج عَن ذَلِك الجيل إِلَى الجيل الَّذِي كَانَ يَأْذَن الله بقيامه بذلك التبديل كَمَا وَقع لمضر حِين غلبوا على الْأُمَم وَأخذُوا المر من أَيدي أهل الْعَالم هَذَا بعد أَن كَانُوا مكبوحين عَنهُ أحقابا المسالة الْحَادِيَة عشرَة أَن الرياسة قد تحصل لأهل الْأَمْصَار بِوُجُود العصبية الْغَالِبَة وَذَلِكَ لِأَن التحامهم بالصهر يحصل بِهِ بعض مَا يحصل بِالنّسَبِ فَإِذا نزل الْهَرم بالدولة وتقلص الْملك عَن القاصية احْتَاجَ أهل أمصارها إِلَى الْقيام على أَمرهم وَرَجَعُوا إِلَى الشورى وتمييز الْعلية عَن السفلة فتطمع المشيخة لخلو الجو من السُّلْطَان القاهر إِلَى الاستبداد وينازع كل صَاحبه ويتوصلون بالإتباع من الموَالِي والشيع ويتركون للأوغاد والأوشاب فيعصو صب كل بِصَاحِبِهِ وَيتَعَيَّن الغلب لبَعْضهِم فيعطف على أكفائه بِالْقَتْلِ والتغريب حَتَّى يستبد بمصره وَيرى أَنه قد استحدث ملكا يورثه عقبه فَيحدث فِي ذَلِك الْملك الْأَصْغَر مَا يحدث فِي الْملك الْأَعْظَم ذِي الْقَبَائِل والعصبيات والزحف والممالك فينتحلون من الْجُلُوس على

المسألة الثانية

السرير واتخاذ الْآلَة والتحية وَالْخطاب بالتهويل مَا يسخر مِنْهُ من يُشَاهد أَحْوَالهم وَقد يجْرِي على هَذَا حب السذاجة فِرَارًا من التَّعْرِيض بِنَفسِهِ للسخرية بِهِ تعْيين وَاقع قَالَ وَقد وَقع هَذَا بإفريقية لهَذَا الْعَهْد فِي آخر الدولة الحفصية لأهل بِلَاد الجريد من طرابلس وَقَابِس وتوزر ونفطة بسكرة والزاب وَمَا يَلِي بذلك فتغلبوا على أمصارهم واستبدوا بأمرها على الدولة فِي الْأَحْكَام والجباية عِنْد تقلص ظلها عَنْهُم وأورثوا ذَلِك أَعْقَابهم وَحدث فِي خلقهمْ من الغلظة والتجبر مَا يحدث لأعقاب الْمُلُوك ونظموا أنفسهم فِي عداد السلاطين على قرب عَهدهم بالسوقة قَالَ وَكَذَا وَقع بسبتة لاخر دولة بني عبد الْمُؤمن قَالَ وَهَذَا التغلب يكون غَالِبا فِي السروات والبيوتات المرشحين للمشيخة فِي الْمصر وَقد تحدث لبَعض السفلة من الدهماء إِذا حصلت لَهُ العصبية والالتحام بالأوغاد لأسباب يجريها لَهُ الْمِقْدَار فيغلب على المشيخة والعلية إِذا فقدوا العصبية وَالله غَالب على أمره الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن من عَلامَة الْملك التنافس فِي الْخلال الحميدة وَبِالْعَكْسِ وَذَلِكَ لِأَن الْملك خَليفَة الله على الْعباد فِي تَنْفِيذ أَحْكَامه الَّتِي هِيَ خير صَلَاح وأبطال أَحْكَام الشَّيْطَان الَّتِي هِيَ شَرّ وَفَسَاد وَأَن كَانَ كل ذَلِك بِقَضَائِهِ وَقدره فَمن لَهُ عصبية غالبة وأنست مِنْهُ الْخلال الْمُنَاسبَة لتنفيذ أَحْكَام الله فقد تهَيَّأ للْملك وكفالة الْخلق بِهِ وَإِذا تنافس أَهلهَا فِي خلال الْخَيْر من

بيان العكس

كرم وعفو وَاحْتِمَال من غير قَادر وقرى ضيف وَحمل كل وَكسب معدم وصبر على مَكْرُوه ووفاء بِعَهْد وبذل مَال فِي صون عرض وتعظيم شَرِيعَة وإجلال لمشايخ وأكابر وحياء مِنْهُم وانقياد لحق وإنصاف مستضعف من أنفسهم وتبذل فِي أَحْوَالهم وتواضع مَعَ مِسْكين وَسَمَاع شكوى وَتَدين بشرائع وَعبادَة وَقيام عَلَيْهَا وتجاف عَن غدر ومكر وخديعة وَنقض عهد وأمثال ذَلِك علم أَن الله تَعَالَى يَأْذَن لَهُم بِالْملكِ لوُجُود خلق السياسة فيهم ودلالتها عَلَيْهِم على أَنَّهَا لم تجْعَل فيهم سدى وَلَا عبثاء بَيَان الْعَكْس إِذا إِذن الله بانقراض الْملك حملهمْ على ارْتِكَاب المذمومات وانتحال الرذائل فتفقد الْفَضَائِل السياسية مِنْهُم جملَة وَلَا تزَال فِي نقص إِلَى أَن تخرج مِنْهُم لسواهم ليَكُون نعيما عَلَيْهِم فِي سلبه وذهابه وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة امرنا متر فِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق علنها القَوْل فدمرناها تدميرا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة إِن حُدُوث الدول وتجددها مُنْذُ هرم الدولة المستقرة يَقع على نَوْعَيْنِ

المسألة الرابعة عشرة

أَحدهمَا استبداد الْوُلَاة بقاحية الدولة عِنْد تقلص ظلها فيستجد كل وَاحِد مِنْهُم ملكا يورثه عَنهُ أبناؤه أَو موَالِيه ويستعجل أَمرهم بالتدريج وَمن لَهُ فضل غلب على مَا بيد صَاحبه تَمْثِيل قَالَ كَمَا وَقع فِي دولة بني الْعَبَّاس حِين تقلص ظلها عَن القاصية بأخذها فِي الْهَرم فاستبد بَنو سامان بِمَا وَرَاء النَّهر وَبَنُو حمدَان بالموصل وَالشَّام وَبَنُو طولون بِمصْر وكما وَقع فِي الدولة الأموية بالأندلس حِين افترق ملكهَا فِي ولايتها وانقسمت دولا وممالك أورثوها قرابتهم ومواليهم تَعْرِيف قَالَ وَهَذَا النَّوْع لاحرب فِيهِ لاقتصارهم على تملك مَا بِأَيْدِيهِم وَإِنَّمَا الدولة أدْركهَا الْهَرم فعجزت عَن الْوُصُول إِلَيْهِم الثَّانِي خُرُوج خَارج على الدولة أما بدعوة تحمل النَّاس عَلَيْهَا أَو شَوْكَة يسمونها للتغلب على الدولة العاجزة عَن الدفاع لهرمها فَلَا يزَال يطالبها بالمحاربة إِلَى أَن يظفر بهَا الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة إِن الدولة المستجدة إِنَّمَا تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لَا بالمناجزة غَالِبا وَذَلِكَ حَيْثُ الْمُطَالبَة كَمَا فِي النَّوْع الثَّانِي الْمُتَقَدّم فِي الْمَسْأَلَة قبل وَسَببه أُمُور أَحدهَا أَن قُوَّة كل من الْجَانِبَيْنِ واف بِقُوَّة الْجَانِب الآخر

ليَكُون الْحَرْب سجلا ومتكررا إِلَى أَن يَقع الِاسْتِيلَاء بالمطاولة وَلَا يحصل بالمناجزة غَالِبا الثَّانِي إِن طَاعَة الدولة المستقرة ضَرُورِيَّة فِي النُّفُوس وَذَلِكَ عائق لمطالبها وكاسر من همم أَكثر اتباعها إِلَى الصَّبْر والمطالبة إِلَى أَن يظفر بمقصوده الثَّالِث أَن الدولة المستقرة لما استحكم فِيهَا من ترف ملكهَا ووفور عصائبها تستظهر بِمَا ترهب بِهِ عدوها والمستجدة بمعزل فتحجم عَن الْقِتَال وتضطر إِلَى المطاولة وَرُبمَا يستحكم خلل المستقرة فِي العصبية والجباية وَإِذ ذَاك تنتهز فرْصَة الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا شَوَاهِد وُقُوع من مَشْهُور مَا يعْتد لهَذَا الِاعْتِبَار وقائع مَذْكُورَة أَحدهَا تغلب بني الْعَبَّاس على الدولة الأموية بعد عشر سِنِين من ظُهُور دعوتهم بخراسان الثَّانِيَة اسْتِيلَاء بني عبيد على الْمغرب كُله بعد إِقَامَة داعيهم أبي عبد الله الشيعي عشر سِنِين بأقصاه وَسموا إِلَى ملك مصر فأقاموا نَحْو ثَلَاثِينَ سنة فِي طلبَهَا وَبعد ذَلِك استولوا عَلَيْهَا

الثَّالِثَة تملك السلجوقية من مُلُوك التّرْك بخراسان بعد نَحْو ثَلَاثِينَ سنة من مطالبها ثمَّ بَغْدَاد واستولوا عَلَيْهَا وعَلى الْخَلِيفَة بهَا بعد أَيَّام من الدَّهْر الرَّابِعَة خُرُوج التتر من الْمَفَازَة أَعْوَام سَبْعَة عشر وسِتمِائَة فَلم يتم لَهُم الِاسْتِيلَاء إِلَّا بعد أَرْبَعِينَ سنة الْخَامِسَة ظُهُور المرابطين على مُلُوك الْمغرب بعد سِنِين من خُرُوجهمْ من صحرائهم السَّادِسَة استظهار الْمُوَحِّدين عَلَيْهِم بالدعوة المهدية ثمَّ لم يتمم أمرهَا إِلَّا بعد ثَلَاثِينَ سنة وَإِذ ذَلِك استولوا على مراكش كرْسِي ملكهم السَّابِعَة قيام بني مرين على الْمُوَحِّدين بعد نَحْو ثَلَاثِينَ سنة مُنْذُ ملكوا فاس واقتطعوها وأعمالها من ملكهم ثمَّ بعد ثَلَاثِينَ أُخْرَى استولوا على مراكش كرْسِي سلطانهم وَهَكَذَا حَال الدول المستجدة مَعَ المستقرة فِي الْمُطَالبَة والمطاولة سنة الله فِي عباده وَلنْ تَجِد فِي سنة الله تبديلا تَنْبِيه لايعترض هُنَا باستيلاء الدولة الإسلامية على فَارس وَالروم لثلاث أَو أَربع من وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ من معجزاته الخارقة للْعَادَة وسره استماتة الْمُسلمين استبصار بِالْإِيمَان وبوقوع الرعب

المسألة الخامسة عشرة

فِي قُلُوب عدوهم والمعجزة لايقاس عَلَيْهَا الْأُمُور العادية وَلَا يعْتَرض بهَا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة إِن كل دولة لَهَا حِصَّة من الممالك والأوطان لَا تزيد عَلَيْهَا وَسَببه أَن عصائبها القائمين بهَا لَا بُد من توزيعهم على مَا تصير إِلَيْهِم من الممالك والثغور لحمايتها وإمضاء حكم الدولة فِيهَا وَذَلِكَ يُوجب نفاد عَددهمْ وبلوغ الممالك حِينَئِذٍ إِلَى حد يكون ثغر الدولة ونطاقا لمركزها فَإِن تكلفت بعد ذَلِك زِيَادَة عَلَيْهِ بَقِي دون حامية وَعَاد وبال ذَلِك على الدولة وَمَا لم يبعد عدد الْعِصَابَة بَقِي فبالدولة قُوَّة على تنَاول مَا وَرَاء العادية وَحَتَّى يَتَّسِع نطاقها إِلَى نهايته شَهَادَة وجود قَالَ وجود قَالَ كَمَا وَقع للْعَرَب صدر الْإِسْلَام لما توفرت عصائبهم غلبوا على الشَّام وَالْعراق ومصر لأسرع وَقت ثمَّ تجاوزوا غلى السَّنَد والحبشة وإفريقية وَالْمغْرب ثمَّ إِلَى الأندلس فَلَمَّا تفَرقُوا على الممالك والثغور وَنقد عَددهمْ قصروا عَن الفتوحات وانْتهى أَمر الْإِسْلَام وَلم يتَجَاوَز تِلْكَ الْحُدُود فَائِدَة حكمِيَّة قَالَ وَالْعلَّة الطبيعية فِي ذَلِك أَن قُوَّة العصبية من سَائِر القوى الطبيعية وكل قُوَّة يصدر مِنْهَا فعلهَا فنشأنها ذَلِك والدولة فِي مركزها اشد مِمَّا يكون فِي الطّرف والنطاق وَإِذا انْتَهَت إِلَى غَايَته عجزت عَمَّا وَرَاءه مزِيد اعْتِبَار قَالَ ثمَّ إِذا أدْركهَا الْهَرم نقصت من أطرافها وَبَقِي المركز مَحْفُوظًا إِلَى أَن يَأْذَن الله بانقراض المر جملَة فَحِينَئِذٍ يكون انقراضه قَالَ وَإِذا غلب عَلَيْهِ فَلَا ينفع بَقَاء الْأَطْرَاف لِأَنَّهُ كالقلب الَّذِي ينبعث مِنْهُ الرّوح فالدولة الفارسية كَانَ مركزها الْمَدَائِن فَلَمَّا غلب الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ انقرض أَمر فَارس أجمع وَلم ينفع يزدجر مَا بَقِي بِيَدِهِ من ممالك أَطْرَافه وَبِالْعَكْسِ من ذَلِك الدولة الرومية كَانَ مركزها الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَلَمَّا غلب الْمُسلمُونَ على الشَّام تحيزوا إِلَى مركزهم وَلم يضرهم انتزاع الشَّام من أَيْديهم وَبَقِي ملكهم بِهِ إِلَى أَن يَأْذَن الله بانقراضه قلت وَقد أذن تَعَالَى فِي ذَلِك على يَد ملك بني عُثْمَان من التّرْك فِي أواسط هَذِه الْمِائَة التَّاسِعَة فَللَّه الْحَمد عَلَيْهِ كثيرا الْمَسْأَلَة السادية عشرَة أَن عظم الدولة فِي اتساع نطاقها وَطول أمدها على نِسْبَة القائمين بهَا فِي الْقلَّة وَالْكَثْرَة بَيَان الأول أَن الْملك لما كَانَ بالعصبية وَأَهْلهَا هم الحامية النازلون بممالك الدولة وأقطارها كَانَ مَا هُوَ من الدول الْعَامَّة أَكثر فِي أهل العصبية أعداد اوأوسع فِي الممالك أوطانا وأقطارا وَاعْتِبَار مَا يشْهد لذَلِك فِي الْوَاقِع بِحَسب الدول الإسلامية ظَاهر من وُجُوه أَحدهمَا أَن الْعَرَب لما ألف الله بَين قُلُوبهم على كلمة الْإِسْلَام وَبلغ من أسلم مِنْهُم فِي غَزْوَة تَبُوك آخر غزوات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة ألف وَعشرَة الآف من مُضر وقحطان مَا بَين فَارس وراجل إِلَى أَن من أسلم مِنْهُم بعد ذَلِك وتوجهوا لطلب مَا بأيدي المم من الْملك لم يكن دونه

بيان الثاني من وجهين

حمى ول وزر واستأجروا أهل فَارس وَالروم أهل الدولتين العظيمتين فِي الْعَالم لعهدهم ثمَّ التّرْك بالمشرق والإفرنجة والبربر بالمغرب والقوط بالأندلس وَخَرجُوا من الْحجاز إِلَى السوس الْأَقْصَى وَمن الْيمن إِلَى التّرْك بأقصى الشمَال واستولوا على الأقاليم السَّبْعَة الثَّانِي أَن قبيل كتامة القائمين بدولة العبيديين لما كَانُوا اكثر من صنهاجة وَمن المصامدة كَانَت دولتهم أعظم فملكوا إفريقية وَالْمغْرب وَالشَّام ومصر والحجاز الثَّالِث إِن زنانة لما كَانَ عَددهمْ أقل من المصامدة فصر ملكهم ملك الْمُوَحِّدين لقُصُور عَددهمْ عَن عدد المصامدة فِي مبدأ أَمرهم الرَّابِع أَن بني مرين لما كَانَ عَددهمْ لأوّل ملكهم أَكثر من بني عبد الواد كَانَت دولتهم أقوى وأوسع نطاقا وَكَانَ لَهُم عَلَيْهِم الغلب مرّة بعد أُخْرَى يُقَال أَن عدد بني مرين لأوّل أَمرهم ثَلَاثَة الآف وَعدد بني عبد الواد ألف إِلَّا أَن الدولة بالرفه وَكَثْرَة التَّابِع كثرت من أعدادهم قَالَ وعَلى هَذِه النِّسْبَة فِي أعداد المتغلبين لأوّل الْملك يكون اتساع الدولة وُقُوعهَا بَيَان الثَّانِي من وَجْهَيْن أَحدهمَا هَذَا السَّبَب بِعَيْنِه قَالَ لن عمر الْحَادِث مزاجه ومزاج الدول إِنَّمَا هُوَ بالعصبية فَإِذا قويت بِكَثْرَة الْعدَد تبعها المزاج فبالقوة وَكَانَ أمد الْعُمر طَويلا الثَّانِي قَالَ وَهُوَ السَّبَب الصَّحِيح أَن النَّقْص إِنَّمَا يبْدَأ الدولة من الْأَطْرَاف فَإِذا كَانَت ممالكها كَثِيرَة فأطرافها بعيدَة عَن مركزها ومتعددة وكل نقص يَقع فَلَا بُد لَهُ من وزمان فتكبر أزمان النَّقْص لِكَثْرَة الممالك واختصاص كل وَاحِد مِنْهَا بِنَقص زَمَانه فَيكون أمدها طَويلا

اعْتِبَار قَالَ وَانْظُر ذَلِك فِي دولة الْعَرَب الإسلامية كَيفَ كَانَ أمدها أطول آماد الدول فَلم ينتقص أمد بني الْعَبَّاس من أهل المركز وَبني أُميَّة المستبدين بالأندلس إِلَّا بعد الأربعمائة من الْهِجْرَة ودولة العبيديين كَانَ أمدها قَرِيبا من مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة ودولة صنهاجة دونهم من لدن تَقْلِيد معد الْمعز أَمر إفريقية بلكين بن زيري سنة ثَمَان وَخمسين وثلاثمائة إِلَى حِين اسْتِيلَاء الْمُوَحِّدين على القلعة وبجاية سنة سبع وَخَمْسمِائة ودولة الْمُوَحِّدين لهَذَا الْعَهْد تناهز مِائَتَيْنِ وَسبعين سنة قَالَ وَهَكَذَا نسب الدول فِي اعْتِبَارهَا على نسب القائمين بهَا سنة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده قلت يرد عَلَيْهِ مَا يُشَاهد من طول أمد الدولة الضعيفة العصبية فِي الأَصْل ويحاب بِأَن استحكام الصبغة لصحابها وَمَعَ فقدان الطَّالِب لما يُوجب

المسألة السابعة عشرة

ذَلِك تنقص فِي مُدَّة بَقَائِهَا على مَا يكون بهَا من الْهَرم إِلَى أَن يَأْذَن الله بأَمْره فَلِكُل اجل كتاب الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة إِن الأوطان الْكَثِيرَة الْقَبَائِل لَا تستحكم فِيهَا دولة غَالِبا وَسَببه اخْتِلَاف الآراء والأهواء فيكثر لذَلِك الْخُرُوج على الدولة وَإِن كَانَت ذَات عصبية لِأَن من تَحت يَدهَا من العصائب لَهُ قُوَّة تنهضه غلى ذَلِك وَمن شواهده فِي الْوُجُود واقعان أَحدهمَا مَا وَقع بإفريقية وَالْمغْرب مُنْذُ أول الْإِسْلَام وَإِلَى الْآن لِكَثْرَة قبائلها الَّتِي لَا تحصى بعد وَبعد أَن غلبهم ابْن أبي سرح أَولا عَادوا إِلَى الثورة وَالرِّدَّة مرّة بعد أُخْرَى وَلما اسْتَقر الدّين عِنْدهم عَادوا إِلَى الثورة وَالْخُرُوج على رَأْي الْخَوَارِج مَرَّات عديدة قَالَ الشَّيْخ ابْن أبي زيد ارْتَدَّت البرابر اثْنَتَا عشرَة مرّة وَلم تَسْتَقِر كلمة الْإِسْلَام فيهم إِلَّا بعد مُوسَى بن نصير فَمن هَذِه قَالَ ابْن خلدون

المسألة الثامنة عشرة

وَهُوَ معنى مَا يَقُول أَن إفريقية مفرقة لقلوب أَهلهَا إِشَارَة إِلَى مَا فِيهَا من كَثْرَة العصائب الحاملة على عدم الإذعان والانقياد الثَّانِي مَا وَقع بِالشَّام لعهد بني إِسْرَائِيل لِكَثْرَة من كَانَ بِهِ إِذْ ذَاك من قبائل المم فَلم تتمهد لبني إِسْرَائِيل فِيهِ دولة سَائِر أيامهم إِلَى أَن غلبهم الْفرس ثمَّ اليونان ثمَّ الرّوم أخيرا عِنْد الْجلاء الْأَكْبَر وَالله غَالب على أمره اعْتِبَار بعكس قَالَ وَهُوَ أَن الأوطان الخالية من العصائب يسهل فِيهَا تمهيد الدولة وَيكون لسلطانها وازعا لقلَّة الانتقاض عَلَيْهِ وَعدم احْتِيَاجه إِلَى كَثِيرَة عصائبه كالشام ومصر والأندلس لهَذَا الْعَهْد إِنَّمَا هِيَ سُلْطَان ورعية وَالله غَنِي عَن الْعَالمين الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة أَن الْعَرَب أبعد الْأُمَم عَن سياسة الْملك وَذَلِكَ لأمرين أَحدهمَا أَن خلق توحشهم مُوجب لصعوبة انقياد بَعضهم إِلَى الْبَعْض وَرَئِيسهمْ لمَكَان ذَلِك يضْطَر لمجاملتهم بِإِحْسَان الملكة وَترك المراغمة وَإِلَّا أختل عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم شَأْن العصبية الَّتِي بهَا الطّلب والدفاع وسياسة الْملك لابد فِيهَا من قهر الْوَازِع بهَا وَإِلَّا لم تجر على إستقامة الْملك فِيهَا الثَّانِي أَن من طبيعتهم كَمَا سلف اقتصارهم على مَا بأيدي النَّاس من غير الْتِفَات لما وَرَاء ذَلِك من وُجُوه الرّعية لَهُم وَذَلِكَ منَاف للسياسة وعائد بخراب الْعمرَان وَحِينَئِذٍ فَظَاهر أَنهم بالطبع أبعد الْخلق عَن سياسة الْملك وَإِنَّمَا يَمرونَ إِلَيْهَا بعد انقلاب طاعتهم بصبغة دينية يكون بهَا الْوَازِع من النَّفس اعْتِبَار قَالَ وَاعْتبر ذَلِك بدولتهم فِي الْملك لما رعيت فِيهَا السياسة الكفيلة بصلاح الْعمرَان وَمضى عَلَيْهَا الْخُلَفَاء عظم حِينَئِذٍ ملكهم وقوى

المسألة التاسعة عشرة

سلطانهم كَانَ رستم إِذا رأى الْمُسلمين يَجْتَمعُونَ للصَّلَاة يَقُول أكل عمر كَبِدِي وَيعلم الْكلاب الْأَدَب مُرَاجعَة طبع قَالَ ثمَّ أَنهم بعد ذَلِك انْقَطَعت مِنْهُم عَن الدولة أجيال نبذوا الدّين فنسوا السياسة وَرَجَعُوا على قفرهم فتوحشوا كَمَا كَانُوا وَلم يبْق لَهُم من إسم الْملك إِلَّا أَنه للخلفاء وهم من جيلهم قَالَ وَلما ذهب أَمر الْخلَافَة انْقَطع الْأَمر جملَة من أَيْديهم لغَلَبَة الْعَجم عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِي بادية قفارهم لَا يعْرفُونَ الْملك وَلَا السياسة وَرَجَعُوا إِلَى أصل بداوتهم قَالَ وَقد يحصل لَهُم فِي بعض الْحَيَّانِ غلب على الدول المستضعفة كَمَا فِي الْمغرب لهَذَا الْعَهْد فَلَا يكون مآله إِلَّا تخريب مَا يستولون عَلَيْهِ من الْعمرَان وَالله خير الْوَارِثين الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة إِن من لواحق الْكَلَام فِي شَرط الْملك وَهُوَ العصبية النّظر فِي أَمر الفاطمي وَمَا يذهب غليه النَّاس فِي شَأْنه قلت وَحَاصِل مَا لِابْنِ خلدون فِي تَقْرِير ذَلِك مقامات خَمْسَة الْمقَام الأول حِكَايَة مَا عِنْد النَّاس فِيهِ وَهُوَ مذهبان أَحدهمَا اعْتِمَاد الكافة مِنْهُم على مر الاعصار انه لابد فِي آخر الزَّمَان من ظُهُور رجل م أهل الْبَيْت يستولي على الممالك الإسلامية ويملها قسطا وعدلا وَأَن على آثاره خُرُوج الدَّجَّال ونزول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مؤتما فِي صلَاته معينا لَهُ على قتل الدَّجَّال الثَّانِي إِنْكَار ذَلِك طَعنا فِي مُسْتَند القَوْل بِهِ ومعارضة ذَلِك الْمقَام الثَّانِي تَلْخِيص مُسْتَند الْفَرِيق الأول فِي طريقتين

الطَّرِيقَة الأولى لمن اسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا ورد فِيهِ من الْأَحَادِيث الَّتِي خرجها غير وَاحِد من الْأَئِمَّة كالترمذي وَابْن دَاوُد وَالْبَزَّار وَابْن ماجة وَالْحَاكِم الطَّبَرَانِيّ وَأبي يعلى الْموصِلِي

يسْندهُ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة كعلي وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَطَلْحَة وَابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك أبي سعيد الْخُدْرِيّ

وَأم سَلمَة وثوبان وقرة ابْن ياس وعَلى الْهِلَالِي وَعبد الله بن الْحَارِث بن جد

الْحَاتِمِي فِي كتاب عنقاء مغرب وَابْن سبعين ابْن قسي الطَّرِيقَة الثَّانِيَة للصوفية الْمُتَأَخِّرين وهم الَّذين أَحْدَثُوا الْكَلَام فِي الْكَشْف وَفِيمَا وَرَاء الْحجاب الْحسي وطهر مِنْهُم القَوْل بالحلول والوحدة مُشَاركَة للأمامية من الرافضة فِي القَوْل بالأئمة وحلول الاله فيهم وَالْقَوْل بالقطب والإبدال محاكاة لمَذْهَب الرافضة فِي الإِمَام والنقباء فانخرطوا بذلك فِي الشِّيعَة وتوغلوا فِي الدّيانَة بمذاهبهم فامتلأت كتب الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُم بالْكلَام فِي الفاطمي المنتظر كَانَ بَعضهم يميله على بعض ويلتقفه مِنْهُ وَرُبمَا يسْتَند بَعضهم فِي ذَلِك إِلَى كَلَام المنجمين فِي القرانات وَهُوَ نوع من الْكَلَام فِي الْمَلَاحِم تَعْرِيف أَكثر من تكلم من هَؤُلَاءِ المتصرفة فِي شَأْن الفاطمي ابْن الْعَرَبِيّ

فِي كتاب خلع النَّعْلَيْنِ وَابْن أبي وَاصل فِي شَرحه إِيَّاه وَأكْثر كلماتهم فِي شانه ألغاز وأمثال وَرُبمَا صَرَّحُوا فِي الْأَقَل بذلك تَحْصِيل حَاصِل حِكَايَة مَذْهَبهم انه رَاجع لتقرير أُمُور أَحدهَا حِكْمَة ظُهُوره قَالُوا النُّبُوَّة وَمَا بعْدهَا فِي الْوُجُود ثَلَاث مَرَاتِب النُّبُوَّة ثمَّ الْخلَافَة ثمَّ الْملك وعَلى تِلْكَ النِّسْبَة لرجوع الْأُمُور إِلَى مَا كَانَت علية كَمَا هُوَ الْمَعْهُود من سنة الله زَعَمُوا أَن يكون الشَّأْن فِي الفاطمي أَحيَاء النبوءة بِهِ ثمَّ خلَافَة أمره بعده ثمَّ الدجل وَهُوَ الْبَاطِل المكني عَنهُ بالدجال زَعَمُوا ثمَّ يعود الْكفْر كَمَا كَانَ قبل النبوءة الثَّانِي تعْيين نسبه قَالُوا لما كَانَت الْخلَافَة لقريش بالحكم الشَّرْعِيّ وَجب أَن تكون الْإِمَامَة فِيمَن هُوَ أخص من قُرَيْش بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم آله الأقربون الثَّالِث دَرَجَته فِي مقَام الْولَايَة قَالُوا وَهُوَ خَاتم الْأَوْلِيَاء المكنى عَنهُ بلبنة الْفضة كَمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبنة الذَّهَب إِشَارَة إِلَى أَن كَمَال الْولَايَة لَهُ ككمال النبوءة بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أَشَارَ إِلَى ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثلي

فِيمَن قبلي من الْأَنْبِيَاء كَمثل رجل ابتنى بَيْتا وأكمله حَتَّى إِذا لم يبْق مِنْهُ إِلَّا مَوضِع لبنة فانا تِلْكَ اللبنه خرجه البُخَارِيّ فِي بَاب خَاتم النَّبِيين وَحِينَئِذٍ فَهُوَ خَاتم الْأَوْلِيَاء كَمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاتم الْأَنْبِيَاء الرَّابِع وَقت ظُهُوره قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ مِنْهُم من قَالَ فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَقَالَ ابْن أبي وَاصل لم تزل الْبُشْرَى تتَابع بِهِ من أول الْيَوْم المحمدي وَهُوَ عِنْدهم ألف سنة من يَوْم وَفَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قبيل الْخَمْسمِائَةِ نصف الْيَوْم وتضاعفت تباشير الْمَشَايِخ بِقرب وقته وازدلاف زَمَانه مُنْذُ انْقَضتْ إِلَى الْآن غلى غير هَذَا من الْأَوْقَات الَّتِي تَنْقَضِي وَلَا اثر لشَيْء من ذَلِك وَإِذ ذَاك يرجعُونَ إِلَى تَجْدِيد رَأْي آخر منتحل من أُمُور لَا تقوم على سَاق بِهَذَا انْقَضتْ أَعمار الآخر مِنْهُم وَالْأول الْخَامِس تعْيين مَا يفتح من الأَرْض قَالَ يفتح جَزِيرَة الأندلس ويصل إِلَى رومة فيفتحها وَيفتح قسطنطينية ويسير إِلَى الشرق فيفتحه وَيصير لَهُ ملك الأَرْض فيتقوى الْمُسلمُونَ ويعلوا الْإِسْلَام وَيظْهر دين الحنيفة السَّادِس مُدَّة بَقَائِهِ قَالُوا أَرْبَعُونَ سنة وَسَبْعُونَ لَهُ ولخلفائه من بعده وَمِائَة وَتِسْعَة وَخَمْسُونَ أَرْبَعُونَ سنة وَسَبْعُونَ خلَافَة وَعدل وَالْبَاقِي ملك وسلطان تَعْرِيف قَالَ ابْن خلدون وَأما المتصوفة الَّذين عاصرناهم فأكثرهم يُشِير إِلَى ظُهُور رجل مُجَدد لأحكام الْملَّة ومراسم الْحق ويتحينون ظُهُوره مِمَّا قرب من عصرنا فبعضهم يَقُول من ذُرِّيَّة فَاطِمَة وَبَعْضهمْ يُطلق القَوْل فِيهِ سمعناه من جمَاعَة أكبرهم أَبُو يَعْقُوب البادسي كَبِير الْأَوْلِيَاء بالمغرب كَانَ فِي أول هَذِه الْمِائَة الثَّامِنَة

قَالَ اخبرني بذلك عَنهُ حفيده أَبُو زَكَرِيَّا يحيى عَن أَبِيه أبي مُحَمَّد عبد الله عَن أَبِيه الْوَلِيّ أبي يَعْقُوب الْمَذْكُور قلت وَهَذِه سنة اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ من الْمِائَة التَّاسِعَة وَلم يظْهر من ذَلِك خبر وَلَا أثر وَالله بِكُل شَيْء عليم الْمقَام الثَّالِث جَوَاب مَا تمسك بِهِ الْفَرِيقَانِ فَأَما متمسك أُولَئِكَ الصُّوفِيَّة فعينه فراره قلت وَقد كَانَ لمغتر بهم أَن يَقُول الْقَوْم إِنَّمَا ذكرُوا ذَلِك من حَيْثُ الْكَشْف وَلَا برهَان عَلَيْهِ لغير أَهله إِلَّا أَن عدم وُقُوع مَا عينوا من وَقت ظُهُوره يُنَادي عَلَيْهِ بالخزي والفضيحة وَهُوَ من أوضح دَلِيل على أَن مَا خَاضُوا فِيهِ من ذَلِك مَبْنِيّ على مُجَرّد الدَّعْوَى المسلوك بهَا فِي هَذَا الْمقَام مَسْلَك الإمامية من الشِّيعَة وان سلم لَهُم كشف فعلى غير السلوك المتين كَمَا قَرَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَأما متمسك الْقَائِلين بِهِ بِمَا خرج الْأَئِمَّة فِي شانه فَقَالَ ابْن خلدون أَن الْمُنكر ين تعرضوا لَهَا بالطعن فِي رجال أسانيدها قَالَ الْمَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث أَن الْجرْح مقدم على التَّعْدِيل وَقد تنزل لكل وَاحِد من تِلْكَ الْأَحَادِيث الَّتِي نقلهَا مِمَّا لائمة الحَدِيث فِيهَا من الْكَلَام قَائِلا بعد ذَلِك هَذِه جملَة الْأَحَادِيث الَّتِي خرجها الْأَئِمَّة فِي شَأْن الْمهْدي

وَخُرُوجه آخر الزَّمَان وَهِي كَمَا رَأَيْت وَهِي كَمَا رَأَيْت وَلم يخلص مِنْهَا على النَّقْض إِلَّا الْقَلِيل أَو الْأَقَل مِنْهُ قلت الَّذِي جزم بِهِ الذَّهَبِيّ صِحَة مَا دلّت عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحَادِيث لبلوغها عَن التَّوَاتُر الَّذِي لاشك فِيهِ وَالله أعلم الْمقَام الرَّابِع كشف الغطي على الْمُعْتَمد فِي ذَلِك قَالَ فِي تَقْرِيره وَالْحق الَّذِي يَنْبَغِي أَن يَتَقَرَّر لديك أَنه لَا تتمّ دَعْوَة دين أَو ملك إِلَّا بعصبية تظهره وتدافع عَنهُ حَتَّى يتم أَمر الله فِيهِ لما قَررنَا من الْبَرَاهِين القطعية وعصبية الفاطمين والطالبيين وقريش أجمع قد تلاشت من جَمِيع الْآفَاق وَوجدت عصبية أُخْرَى واستقلت عصبيهم أَلا مَا بَقِي بالحجاز فِي مَكَّة والينبوع وَالْمَدينَة من الطالبيين من بني حسن وحسين وَبني جَعْفَر فَلهم فِي تِلْكَ الْبِلَاد ظُهُور وَغلب على أَهلهَا وهم عصائب بدوية مفترقون فِي المواطن والإمارة وَالرَّاء يبلغون الآلاف كَثْرَة فان صَحَّ ظُهُور هَذَا الْمهْدي فَلَا وَجه لذَلِك إِلَّا بِأَن يكون مِنْهُم ويؤلف الله بَين قُلُوبهم فِي اتِّبَاعه حَتَّى تتمّ لَهُ شَوْكَة وعصبية وافية بِإِظْهَار كلمنه وَيحمل النَّاس عَلَيْهَا وَأما آفَاق الأَرْض من غير هَذَا الْوَجْه كَأَن يَدْعُو النَّاس فاطمي مِنْهُم إِلَى مثل ذَلِك الْأَمر فِي أفق من آفَاق الأَرْض من غير عصبية وَلَا شَوْكَة إِلَّا بِمُجَرَّد نِسْبَة فِي أهل الْبَيْت فَلَا يتم ذَلِك وَلَا يُمكن بِمَا تقرر من الْبَرَاهِين الصَّحِيحَة انْتهى مُلَخصا قلت ولابد فِي هَذِه العصبية كَيْفَمَا تصورت لَهُ أَن صَحَّ أمره كَمَا ذكر من

مزِيد قوتها بالتأكيد الإلهي كَمَا سلف ذكره لَا سِيمَا وَالدَّعْوَى بهَا الْعَظِيمَة وزمان وجودهَا مبدأ ظُهُور الخوارق الَّتِي هِيَ مشوبة بِظُهُور السَّاعَة وَالله أعلم بحقائق الْأُمُور الْمقَام الْخَامِس تحذير المنقلب فِي الْأُمُور عَن الإصغاء للمبتدعة والعامة والأغمار من الدهماء مِمَّن لَا برجع فِي ذَلِك إِلَى عقل يهديه ملا علم يبصره فَإِنَّهُم يتحينون ذَلِك على غير نِسْبَة وَفِي غير مَكَان تقليدا لما اشْتهر من ظُهُور رجل فاطمي وَلَا يعلمُونَ حَقِيقَة الْأَمر فِيهِ قَالَ وَأكْثر مَا يتحينونه فِي قاصية الممالك وأطراف الْعمرَان لبعدها من الدول ومنال أَحْكَامهَا كالزاب من إفريقيا والسوس من الْمغرب وتجد الْكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رِبَاطًا لماسة من أَرض السوس يرصدون هُنَاكَ لِقَائِه زعما مِنْهُم أَنه يظْهر بذلك الرِّبَاط ويبايع فِيهِ قَالَ وَلَقَد يقْصد ذَلِك الْموقع كثير من ضعفاء الْعُقُول للتلبيس بدعوة تمنية النَّفس تَمامهَا وسواسا وحمقا وَقتل كثير مِنْهُم قلت وَذكر من ذَلِك بِاعْتِبَار من نجا مِنْهُم بِنَفسِهِ حكايتين الْحِكَايَة الأولى قَالَ أَخْبرنِي شَيخنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الابلى يَعْنِي الإِمَام الْعَلامَة رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ خرج برباط ماسة لأوّل الْمِائَة الثَّامِنَة عمر السُّلْطَان يُوسُف بن يَعْقُوب رجل من منتحلي التصوف يعرف التويزيري

نِسْبَة إِلَى تويزر مصغرة وَادّعى أَنه الفاطمي المنتظر وَتَبعهُ كثير من أهل السوس وَعظم أمره وَكَانَ يستفحل وخافه المصامدة على أَمرهم فَدس عَلَيْهِ السكسوي من قَتله بياتا وانحل أمره الْحِكَايَة الثَّانِيَة قَالَ وَأخْبرنَا شَيخنَا الْمَذْكُور بغريبة فِي مثل هَذَا وَهُوَ أَنه صحب فِي حجه من رِبَاط الْعباد مدفن الشَّيْخ أبي مَدين فِي جبل تلمسان المطل عَلَيْهَا رجلا من أهل الْبَيْت من سكان كربلاء كَانَ متبوعا مُعظما كثير التلميذ وَالْخَادِم قَالَ وَكَانَ الرجل من موطنه يتلقونه بالنفقات فِي أَكثر الْبلدَانِ قَالَ وتأكدت الصُّحْبَة بَيْننَا فِي تِلْكَ الطَّرِيق وتكشفت لي حَقِيقَة أَمرهم وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا من موطنهم لطلب هَذَا الْأَمر وانتحال دَعْوَة الفاطمي بالمغرب فَلَمَّا عاين دولة بني مرين ويوسف بن يَعْقُوب يَوْمئِذٍ نَازل بتلمسان قَالَ لأَصْحَابه ارْجعُوا فقد أزرى بِنَا الْغَلَط وَلَيْسَ هَذَا الْوَقْت وقتنا دلَالَة قَالَ ابْن خلدون وَيدل هَذَا القَوْل من هَذَا الرجل على أَنه مستبصر فِي أَن الْأَمر لَا يتم إِلَّا بالعصبية المكافئة لأهل الْوَقْت فَلَمَّا أَنه غَرِيب فِي ذَلِك الوطن وَلَا شَوْكَة لَهُ وَأَن عصبية بني مرين لذَلِك الْعَهْد لَا يقاومها أحد من أهل الْمغرب استكان وأقصر عَن مطامعه قَالَ وَبَقِي عَلَيْهِ أَن يستيقن أَن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت

المسألة العشرون

لاسيما فِي الْمغرب إِلَّا أَن التعصب لشأنه لم يتْركهُ لهَذَا القَوْل وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ إِن من متمات النّظر فِي هَذَا الْكتاب الْبَحْث عَن حدثان الدول وَعَن مُسَمّى الجفر والملاحم قلت وتلخيص مَا لِابْنِ خلدون فِي ذَلِك مجموعا من كَلَام يظْهر بِفَرْض مبَاحث الْبَحْث الأول فِي تَوْطِئَة مَا هُوَ كمقدمة الْمَقْصُود من ذَلِك وَهُوَ أُمُور أَحدهمَا أَن من خَواص النُّفُوس البشرية التشوف إِلَى مَا سيحدث لَهُم فِي عواقب أُمُورهم من حَيَاة أَو موت أَو خير أَو شَرّ لاسيما الْحَوَادِث الْعَامَّة كمعرفة الدول وَمَا بَقِي من الدُّنْيَا وَلذَلِك يُوجد فِي المدن صنف من النَّاس ينتحلون المعاش من ذَلِك وَهُوَ من الْمُنْكَرَات الفاشية فِي الْأَمْصَار لما علم من ذمَّة شرعا وَأَنه لَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله أَو من اطلع عَلَيْهِ بنبوة أَو ولَايَة الثَّانِي إِن أَكثر من يعتني بذلك يتطلع إِلَيْهِ الْمُلُوك والأمراء استكشافا لآماد الدول لمن يصير أمرهَا وَلذَلِك انصرفت إِلَيْهَا عناية المشتغلين بِهِ من الْعلمَاء الثَّالِث إِن كل أمة يُوجد لَهُم الْكَلَام فِي ذَلِك مُطلقًا كعلم الكوائن الْمُسْتَقْبلَة خُصُوصا مَا يعم الجيل مِنْهَا كانقلاب الْملك وَوُقُوع الحروب والملاحم مَعَ الْأُمَم وَذَلِكَ من نَاحيَة مَا يُوجد من كَاهِن وعراف ومنجم وَغير ذَلِك كشق وسطيح فِي الْعَرَب ومُوسَى بن صَالح من بني

مرين يفرح وَيُقَال من بني عمْرَة فِي البربر الْبَحْث الثَّانِي فِي مُسْتَند الركون إِلَى ذَلِك فِي الدولة الإسلامية وَهُوَ فِي الْأَكْثَر أَمْرَانِ أَحدهمَا وَهُوَ خَاص بصدرها مَا يتناقل فِي ذَلِك من آثَار عَن الصَّحَابَة وخصوصا من عاصرهم من مسلمة بني إِسْرَائِيل ككعب الْأَحْبَار ووهب بن مُنَبّه وَوَقع لجَعْفَر الصَّادِق وَأَمْثَاله من أهل الْبَيْت كثير من ذَلِك ومستندهم فِيهِ وَالله أعلم الْكَشْف لما كَانُوا عَلَيْهِ من الْولَايَة الثَّانِي وَهُوَ حَادث بعد ذهَاب صدرها وَحين عكف النَّاس الْعُلُوم التَّرْجَمَة من كَلَام الْحُكَمَاء مَا نقل عَن ذَلِك عَن المنجمين فِي الْأَكْثَر ككلامهم فِي

الْملك والدول وَسَائِر الْعُلُوم الْعَامَّة والخاصة الْبَحْث الثَّالِث فِي مُسَمّى الجفر فِي ذَلِك الْمُسْتَند والجفر لُغَة الْجلد الصَّغِير وأصل تَسْمِيَة الْحدثَان بِهِ أَن هَارُون بن سعد الْعجلِيّ رَأس الزبيدية كَانَ لَهُ كتاب يرويهِ عَن جَعْفَر الصَّادِق فِيهِ علم مَا سيقع لأهل الْبَيْت عُمُوما ولبعض مِنْهُم خُصُوصا كَانَ مَكْتُوبًا عِنْده فِي جلد ثَوْر صَغِير مِمَّا يَقع لَهُ ولنظرائه من رجالاتهم كشفا وكرامة فَكَتبهُ هَارُون وَسَماهُ الجفر باسم الْجلد الَّذِي كتب مِنْهُ فَصَارَ علما عَلَيْهِ وَكَانَ فِيهِ من تَفْسِير بَاطِن الْقُرْآن غرائب وَهُوَ كتاب لم تتصل رِوَايَته وَلَا عرف عَيْنَيْهِ وَإِنَّمَا يظْهر مِنْهُ شواذ من الْكَلِمَات لَا يصحبها دَلِيل وَلَو صَحَّ سَنَده إِلَى جَعْفَر لَكَانَ فِيهِ نعم الْمُسْتَند مِنْهُ أَو من رجال قومه رَضِي الله عَنْهُم تَعْرِيف وَقع بالمغرب جُزْء يُسمى بالجفر الصَّغِير وَالظَّاهِر وَضعه لبني عبد الْمُؤمن لذكر أَوَائِل مُلُوكهمْ على التَّفْصِيل ومطالبة مَا تقدم من ذَلِك لحدثانه وَكذب مَا بعده وهم مَنْسُوب إِلَى كتاب وَضعه الْكِنْدِيّ المنجم فِي القرانات الكائنة فِي الْملَّة سَمَّاهُ بالجفر اتبَاعا للشيعة فِي ذَلِك قَالَ ابْن خلدون وَلم نقف على شَيْء من خبر هَذَا الْكتاب وَلَا رَأينَا من

وقف عَلَيْهِ وَلَعَلَّه غرق فِي كتبهمْ الَّتِي طرحها ملك التتر فِي دجلة عِنْد استيلاءهم على بَغْدَاد وَقتل المستعصم آخر الْخُلَفَاء الْبَحْث الرَّابِع فِي معنى الْمَلَاحِم من جملَة ذَلِك وَهُوَ مَا كتب مِنْهُ بعد الْمُسَمّى بالجفر فِي حدثان الدول نظما ونثرا عُمُوما فِيهَا وخصوصا وَمَعَ نسبتها إِلَى مشاهير من الْخَلِيفَة فَلَيْسَ مِنْهَا مَا تصح فِيهِ الرِّوَايَة عَن وَاضعه قلت يُرِيد فِي الْأَكْثَر قَالَ وبأيدي النَّاس مِنْهَا كثير كقصيدة ابْن مرانة وملعبة الْيَهُودِيّ الْمَقْتُول بفاس كَمَا أخبر فِيمَا زَعَمُوا أَو ملعبة الهوشني وَذكر غير ذَلِك مِمَّا حكم على أَكْثَره بِالْوَضْعِ وَالْكذب قلت وَرُبمَا صدق بَعْضهَا استنادا لمدرك صَحِيح وَإِن تردد فِي تَعْيِينه كَمَا حكى الْمَازرِيّ فِي تَعْلِيقه على أَحَادِيث الجوزقي عَن عبد

الْكَافِي بن سُلَيْمَان قَالَ كُنَّا عِنْد ابْن مُحرز حِين وصل الْخَبَر بِكَسْر الْمعز وَأخذ أمه وأخيه فَقَامَ عَنَّا فِي الْحَال وَأخرج ملحمة فِيهَا جَمِيع مَا جرى هَذِه الْقَضِيَّة فعجبنا من ذَلِك ثمَّ ذكر انه سَأَلَ عَن ذَلِك الشَّيْخ أَبَا عمرَان فَأجَاب بِمَا يُقَال فِي ذَلِك وَمِنْه التنجيم قَالَ الْمَازرِيّ وَهُوَ أقرب قلت وَفِيه نظر لما يرد إنْشَاء الله الْبَحْث الْخَامِس فِيمَا يجب اعْتِقَاده فِي هَذَا الْبَاب قَالَ فِي مَوضِع آخر وَالتَّحْقِيق الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون نصب فكرك أَن الغيوب لَا تدْرك بصناعة الْبَتَّةَ وَلَا سَبِيل إِلَى تعرفها إِلَّا للخواص من الْبشر المفطورين على النُّزُوع عَن عَالم الْحس إِلَى عَالم الرّوح وَقَررهُ بِمَا يُشَاهد من وجود أشخاص يخبرون بالكائنات قبل وُقُوعهَا بِمُقْتَضى الْفطْرَة الَّتِي فطروا عَلَيْهَا العارفين والناظرين فِي الْأَجْسَام الشفافة كالمرايا وطاس المَاء وَأهل الطّرق بالحصى والحبوب والمجانين والنائم وَالْمَيِّت لأوّل نَومه أَو مَوته وَأهل الرياضة من الصُّوفِيَّة على طَرِيق الْكَرَامَة قلت وتلخيص مَا برهن بِهِ على ذَلِك يخرج عَن الْمَقْصُود تَنْبِيه مَا يدل على أَن أَكثر الْحدثَان مَمْنُوعَة مَا حكى فِي أَخْبَار

بَغْدَاد أَنه كَانَ بهَا أَيَّام المقتدر وراق ذكي يدعى بالدانيالي يبل الأوراق وَيكْتب فِيهَا بِخَط عَتيق ويرمز فِيهِ بحروف من أَسمَاء أهل الدولة وَيُشِير بهَا إِلَى مَا يعرف ميلهم إِلَيْهِ من أَحْوَال الرّفْعَة والجاه كَأَنَّهَا ملاحم وَيحصل بذلك على مُرَاده مِنْهُم وَأَنه وضع فِي بعض دفاتيره صُورَة مِيم مكررة ثَلَاث مَرَّات وَجَاء بِهِ إِلَى مُفْلِح مولى المقتدر وَكَانَ عَظِيما فِي الدولة فَقَالَ لَهُ هَذَا كِنَايَة عَنْك وَهُوَ مُفْلِح مولى المقتدر مِيم من كل وَاحِدَة وَذكر عِنْدهَا مَا يعلم فِيهِ رِضَاهُ مِمَّا يَنَالهُ من الْملك وَالسُّلْطَان وَنصب لَهُ عَلَامَات لذَلِك من أَحْوَاله المتعارفة موه بهَا عَلَيْهِ فبذل لَهُ مَا أغناه بِهِ وانْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ قلت وَلَا أدل على ذَلِك من ظُهُور كذب كثير مِمَّا يحتوي عَلَيْهِ عيَانًا {وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} تَقْرِير وَاجِب على الْمُوفق فِي هَذَا الْمقَام ثَلَاث وظائف قررها الْأُسْتَاذ أَبُو سعيد فِي بعض تقاييده حَسْبَمَا وجدت بِخَط الشَّيْخ أبي اسحق الشاطبي رحمهمَا الله فلنذكرها ملخصاي من كَلَامه الْوَظِيفَة الأولى أَن لَا يتعاطى شَيْئا من علم الْغَيْب وَلَا يصف بِهِ نَفسه فقد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يصف بِهِ نَفسه وَيَردهُ على من وَصفه بِهِ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن سَمعه يَقُول إِنَّه يعلم مَا غَد لَا يعلم مَا فِي

غَد إِلَّا الله تَعَالَى مَعَ اطِّلَاعه على كثير مِمَّا علمه الله من ذَلِك قَالَ وَقد سد الشَّرْع هَذَا الْبَاب فِي وُجُوه الْخلق غير من ارتضى مِنْهُم للرسالة حَتَّى أَن الْعلمَاء نهوا عَن النّظر فِيمَا لَيْسَ من بَاب علم الْغَيْب لظن الْجَاهِل أَنه مِنْهُ كالإخبار بالكسوف الْمدْرك بطرِيق الْحساب كَمَا نَص عَلَيْهِ مَالك فِي الْعُتْبِيَّة قَائِلا إِنَّه من حبائل الشَّيْطَان الْوَظِيفَة الثَّانِيَة أَن لَا يتَعَرَّض لطلب ذَلِك بِشَيْء من الْأَسْبَاب المقتحمة لبابه كالخط وَالْحب والسبك والقرعة والعيافة والطيرة والسانح والبارح والاستصحاب والاستكهان والاستنجام لِأَنَّهَا من معنى الاستقسام بالأزلام قَالَه الطرطوشي فِي مُخْتَصر التعليقة قَالَ الْأُسْتَاذ وَاسْتثنى بعض الْعلمَاء الْخط بِنَاء على أَنه المُرَاد فِي قَوْله تَعَالَى {أَو أثارة من علم} وَفِي الحَدِيث كَانَ نَبِي من الْأَنْبِيَاء يخط فَمن وَافق خطه فَذَاك قيل جَاءَ للْإِبَاحَة الضَّرْب بِهِ وَقيل للنَّهْي عَنهُ إِذْ لَا سَبِيل إِلَى معرفَة طَرِيق النَّبِي الْمُتَقَدّم بِهِ قَالَ وَهُوَ الصَّحِيح الْمعول عَلَيْهِ عِنْد الْأَئِمَّة وَأهل الْحق

قلت وَفِي نَوَازِل الْبر زلي أدْركْت بعض الْفُقَهَاء أدْركْت بعض الْفُقَهَاء يستخفه ويستعمله وعَلى ظَنِّي أَنِّي سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام يَعْنِي ابْن عَرَفَة يَقُول فعله لَيْسَ بجرحه وَكَأَنَّهُ يستخفه قَالَ وَالصَّوَاب تَركه الْوَظِيفَة الثَّالِثَة أَلا يصدق من يخبر بذلك غير مُسْتَند لخَبر نبوي لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَتَى كَاهِنًا فَصدقهُ فِيمَا يَقُول فقد بَرِيء مِمَّا انْزِلْ على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ أَبُو دَاوُود قَالَ ابْن رشد وَأَنِّي يجمع فِي قلب مُسلم تَصْدِيقه مَعَ قَوْله تَعَالَى {قل لَا يعلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله} فَائِدَة قَالَ الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي فِي بعض تقاييده مفاتح الْغَيْب تِسْعَة مفاتح علم بِلَا اكْتِسَاب وَلَا أَعْلَام وَهُوَ علم الله تَعَالَى ومفاتح اطلَاع وَهُوَ اطلَاع الله من يَشَاء من خلقه على من شَاءَ من غيبه مفاتح أَخْبَار وَهُوَ مَا علم الله مِنْهُم بأخبار الله وأخبار رَسُوله مفاتح الْهَام وَهُوَ أَن يلهم اله من شَاءَ من خلقه مَا شَاءَ من غيبه دون اسْتِدْلَال كَقَوْلِه فاحمده بِمَحَامِد يلهمنيها فِي حَدِيث الشَّفَاعَة مفاتح نفث فِي الْقلب كَقَوْلِه إِن روح الْقُدس نفث فِي روعي الحَدِيث وَهُوَ الْهَام بِوَاسِطَة الْملك مفاتح توسم وَهِي الفراسة وَانْظُر فِي التَّعْرِيف تعمر بن عبد الْعَزِيز لِابْنِ حبيب مفاتح دلَالَة وَتَقْدِيم وَهِي أَن يسْتَدلّ بحاضر على مغيب كَقَوْلِه إِذا أنشأت بحريّة

الطرف الثالث

الحَدِيث وإنذارات الْأَطِبَّاء وَنَحْوه مفاتح رجم وتنجيم وَهُوَ اسْتِدْلَال على غيب بعير مَا وضع لَهُ كالخط والطرق والسبك وَالْحب والزجر والسانح والبارح والطيرة والعيافة وَالْكهَانَة والعرافة والتنجيم انْتهى الطّرف الثَّالِث فِي الحروب الَّتِي تُفْضِي إِلَيْهَا العصبية فِي طلب الْملك والدفاع عَنهُ أَو غير ذَلِك وَفِيه ذكر مَذَاهِب المم فِي ترتيبها وَمَا يلْزم فِي تدييرها من الْآدَاب والمكائد ويتلخص الْغَرَض من ذَلِك فِي ثَلَاث مُقَدمَات وَسِتَّة فُصُول وتتميمتين الْمُقدمَة الأولى أَنَّهَا وَسَائِر أَنْوَاع الْمُقَاتلَة من الْأُمُور الطبيعية للبشر فَذَلِك لَا يخلوا عَنْهَا أمة وَلَا جيل وَلم تزل وَاقعَة فِي الخليقة مُنْذُ برأها الله تَعَالَى وابتلى بَعضهم بِبَعْض الْمُقدمَة الثَّانِيَة أَن أصل وُقُوعهَا إِرَادَة انتقام بعض الْبشر من بعض لأسباب توجب ذَلِك وَتحصل عَلَيْهِ فَإِذا تواقفت الطائفتان بِمَا لكل مِنْهُمَا من العصبية أَحدهمَا تطلب الانتقام وَالْأُخْرَى تدافعه كَانَت الْحَرْب وَاقعَة الْمُقدمَة الثَّالِثَة أَن أَسبَاب هَذَا الانتقام فِي الْأَكْثَر أُمُور أَرْبَعَة أَحدهمَا الْغيرَة والمنافسة وَأكْثر مَا تجْرِي بَين الْقَبَائِل المتجاورة والعشائر المتناظرة الثَّانِي الْبَغي الْعدوان وَأكْثر مَا يكون من المم الوحشية كالعرب وَالتّرْك والأكراد وأشباههم لأَنهم جعلُوا أَرْزَاقهم فِي رماحهم ومعاشهم فِيمَا بأيدي غَيرهم وَمن دافعهم عَن مَتَاعه آذنوه بِالْحَرْبِ وَلَا بغية لَهُم فِيمَا وَرَاء ذَلِك من رُتْبَة وَلَا ملك الثَّالِث الْغَضَب لله تَعَالَى ولدينه القويم وَهُوَ الْمُسَمّى فِي الشَّرِيعَة الْجِهَاد

قلت وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله مَا يَخُصُّهُ من الْآدَاب الْكُلية الرَّابِع الْغَضَب فِي الْملك وَالسَّعْي فِي تمهيده والحروب الدولية مَعَ الخارجين عَلَيْهَا والمانعين لطاعتها قَالَ ابْن خلدون والأولان مِنْهَا حروب بغي وفتنة والآخران جِهَاد وَعدل قلت الْجِهَاد فِي الْخَيْر مُقَيّد بعدالة السُّلْطَان وَفِيه نظر يَأْتِي إِن شَاءَ الله هَذَا إِن كَانَ الْقَصْد تمهيد الْملك الْحَاصِل كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَأما طلب مَا وَرَاءه لغير مَا يشيره إِلَيْهِ الشَّرْع أَو السياسة الْمُعْتَبرَة كقصد لَذَّة الْغَلَبَة والانتقام لشفاء غيظ فَقَط أَو ليجري على من غلب عَلَيْهِ حكم الْغَرَض والهوى فقد قَالَ الفارابي من الْحُكَمَاء أَن الْحَرْب وَلأَجل ذَلِك جور وَهُوَ ظَاهر

الفصل الأول

الْفَصْل الأول فِي صفة الحروب وَهِي وَاقعَة بَين الْخَلِيفَة من أول وجودهم على نَوْعَيْنِ أَحدهمَا بالزحف صُفُوفا وَهُوَ قتال الْعَجم كلهم على تعاقب اجيالهم 3 قَالَ ابْن خلدون وَهُوَ أوثق وَأَشد لترتيب الصُّفُوف فيهم كَالصَّلَاةِ وَالْمَشْي فِيهَا غلى الْعَدو قدما وَذَلِكَ أصبت عمد المصارعة وأرهب لِلْعَدو لِأَنَّهُ كالحائط الممهد لَا مطمع فِي إِزَالَته وَفِي التَّنْزِيل أَن الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص أَي يشد بَعضهم بَعْضًا بالثبات الثَّانِي بالكر والفر وَهُوَ قتال الْعَرَب والبربر من أهل الْمغرب قَالَ وَلَيْسَ فِيهِ من الشدَّة والمن من الْهَزِيمَة والهرب مَا فِي قتال الزَّحْف غلا أَنهم قد يتحينون وَرَاءَهُمْ صفا ثَانِيًا يلجأون إِلَيْهِ فَيقوم مقَام الزَّحْف تعري قَالَ كَانَ الْحَرْب أول الْإِسْلَام بالزحف لأمرين أَحدهمَا أَن عدوهم كَانَ يُقَاتل زحفا فاضطروا إِلَى مُقَاتلَتهمْ كَذَلِك الثَّانِي أَنهم كَانُوا مستميتين فِي جهادهم لرسوخ إِيمَانهم والزحف غلى الاستماتة أقرب قَالَ أول من أبطل الصَّفّ فِي الْحَرْب وَصَارَ إِلَى التعبئة كراديس مَرْوَان بن الحكم فِي قتال الضَّحَّاك الْخَارِجِي وَمن بعده فِيمَا ذكر

الفصل الثاني

الطَّبَرِيّ فتنوسي الزَّحْف بأبطال الصَّفّ الْفَصْل الثَّانِي فِي تعبئة العساكر وَفِيه نظران أَحدهمَا فِي مُوجبهَا وَهُوَ مَا يخْشَى عِنْد اخْتِلَاط الجيوش الْكَثِيرَة فِي الْحَرْب من التدافع فِيمَا بَينهم لجهل بَعضهم بِبَعْض فَإِذا قسموا جموعا وَضم المتعارفون إِلَى بعض أَمن ذَلِك الْمَحْذُور الثَّانِي فِي صورتهَا وَهُوَ أَن يَجْعَل بَين يَدي الْملك عَسْكَر مُنْفَرد بصفوفه متميز بَقَائِهِ ورايته يُسمى الْمُقدمَة ثمَّ آخر عَن يَمِينه يُسمى الميمنة ثمَّ اخر عَن شِمَاله يُسمى الميسرة ثمَّ اخر من وَرَائه يُسمى السَّاقَة وَيقف الْملك وَأَصْحَابه وسط هَذِه الْأَرْبَعَة ترتيبها من التَّرْتِيب الطبيعي فِي الْجِهَات الْأَرْبَع وَيُسمى الْقلب تدريج قَالَ ابْن خلدون فَإِذا تمّ التَّرْتِيب الْمُحكم أما فِي مدى وَاحِد الْبَصَر أَو على مَسَافَة وَاحِدَة أَكْثَرهَا الْيَوْم واليومان بَين كل عسكرين مِنْهَا أَو كَيفَ أعطَاهُ حَال الْعَسْكَر فِي الْقلَّة وَالْكَثْرَة فَحِينَئِذٍ يكون الزَّحْف قَالَ وَانْظُر ذَلِك فِي أَخْبَار الفتوحات وأخبار الدولتين تَنْبِيه

تكميل

كَانَت هَذِه التعبئة أَيَّام الدول الْقَدِيمَة لِكَثْرَة جنودهم وحشودهم من قاصية النواحي وَذَلِكَ مُوجب لجهل بَعضهم لبَعض كَمَا تقدم قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ فِي الدولة الأموية بالأندلس كثير مِنْهُ وَهُوَ مَجْهُول فِيمَا لدينا لأَنا إِنَّمَا أدركنا دولا قَليلَة العساكر لَا تَنْتَهِي فِي مجَال الْحَرْب إِلَى التناكر بل أَكثر الجيوش من الطَّائِفَتَيْنِ يجمعهُمْ لدينا حلَّة أَو مَدِينَة وَيعرف كل وَاحِد مِنْهُم قرنه ويناديه بإسمه ولقبه فاستغنى عَن تِلْكَ التعبئة تَكْمِيل مِمَّا ذكرُوا من صفة هَذِه التعبئة صُورَتَانِ الصُّورَة الأولى قَالَ الطرطوشي أحسن تَرْتِيب رَأَيْنَاهُ فِي بِلَادنَا فِي صفة اللِّقَاء وَهُوَ أَرْجَى تدير فِي ذَلِك أَن يتَقَدَّم الرجالة بالدرق الْكَامِلَة والرماح الطوَال والمزارق النافذة فيصفوا صفوفهم ويركزوا مراكز رماحهم خلف ظُهُورهمْ فِي الأَرْض وصدورها شارعة إِلَى الْعَدو جاثين على ركبهمْ الْيُسْرَى وترسهم قَائِمَة بَين أَيْديهم وخلفهم الرُّمَاة الخارقة سِهَامهمْ للدروع وَالْخَيْل خَلفهم فَإِذا جَاءَ الْعَدو لم يتزحزح الرجالة عَن هيئتها وَلَا قَامَ وَاحِد مِنْهُم على قدم وَإِذ قرب رشفتهم الرُّمَاة بِالسِّهَامِ والرجالة بالمزارق وصدور الرماح تلقاهم فَيَأْخُذُونَ يمنة ويسرة فَتخرج خيل الْمُسلمين فتنال مِنْهُم مَا شَاءَ الله الصُّورَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن خلدون بلغنَا عَن التّرْك لهَذَا الْعَهْد وقتالهم مناضلة بِالسِّهَامِ أَن تعبئة حربهم بالمصاف يقسمون العساكر ثَلَاثَة صُفُوف صفا وَرَاء صف يترجلون عَن خيولهم ويفرغون سِهَامهمْ بَين أَيْديهم ثمَّ يتناضلون جُلُوسًا وكل صف رِدَاء للَّذي أَمَامه مَخَافَة أَن يكسبهم الْعَدو إِلَى أَن يتهيء النَّصْر لإحدى الطَّائِفَتَيْنِ على الْأُخْرَى قَالَ وَهِي تعبية محكمَة غَرِيبَة

الفصل الثالث

الْفَصْل الثَّالِث فِي ضرب المصاف وَرَاء العساكر وَفِيه نظر من وُجُوه أَحدهمَا أَن مَا يضْرب مِنْهُ المصاف جمادات أَو حيوانات عجم كَمَا يَأْتِي بعض مَا وَقع مِنْهُ مفصلا إِن شَاءَ الله الثَّانِي أَن أهل الْكر والفر هم الَّذين كَانُوا يتخذونه فِي حَال الحروب دَائِما وَأهل الزَّحْف رُبمَا اعتمدوه فِي مواقعهم الثَّالِث أَن حكمته فِي مَذَاهِب الْأَوَّلين اتِّخَاذه ملْجأ للخيالة فِي كرهم وفرهم وليكون أدوم للحرب وَأقرب للغلب وَفِي مَذْهَب الآخرين ليزيدهم ثباتا وَشدَّة الرَّابِع غن الْفرس من أهل الزَّحْف كَانُوا يتخذون فِيهِ الفيلة مَحْمُولا عَلَيْهَا أَفْوَاج من الْخشب أَمْثَال الصروح مشحونة بالمقاتلة وَالسِّلَاح والرايات ويصفوها وَرَاءَهُمْ كَأَنَّهُمْ الْحُصُون فتقوى نُفُوسهم ويزداد وثوقهم كَمَا وَقع من ذَلِك فِي الْقَادِسِيَّة وَفِي الْيَوْم الثَّالِث اشتدوا على الْمُسلمين فخالطها رجالات من الْعَرَب وضربوها بِالسُّيُوفِ على خراطمها وَنَكَصت على أعقابها إِلَى مرابضها بِالْمَدَائِنِ فخف معسكر فَارس لذَلِك وانهزموا فِي الْيَوْم الرَّابِع وَكَانَ أَكْثَرهم الْعَجم كالروم وملوك القوط بالأندلس يتخذون الأسرة ينصبون للْملك سَرِيره ويحتف بِهِ من حَاشِيَة وجنود من هُوَ زعيم بالاستماتة

الفصل الرابع

دونه وترفع الرَّايَات فِي أَرْكَان السرير ويحدق بِهِ سياج آخر من الرُّمَاة بالرجالة فيعظم هيكله وَيصير فِئَة للمقاتلة وملجأ للفر وَالْكر وَفعل ذَلِك الْفرس أَنَام الْقَادِسِيَّة وَكَانَ رستم جَالِسا فِيهِ على سَرِير نَصبه لجلوسه حَتَّى اختلت صُفُوف فَارس وخالطه الْعَرَب فِيهِ فَعدل عَنهُ إِلَى الْفُرَات وَقتل وَكَانَ اكثر أهل الْكر والفر من الْعَرَب وَأكْثر المم البدوية الرجالة يصفونَ ابلهم وَالظّهْر الْحَامِل لطعامهم فَيكون فِئَة لَهُم ويسمونه المجهود تَعْرِيف قَالَ ابْن خلدون وَلَيْسَ أمة من المم إِلَّا وَهِي تفعل ذَلِك فِي حروبها وتراه أوثق من الجولة وَهُوَ أَمر مشَاهد قَالَ وَقد أغفلته الدول لعهدنا بِالْجُمْلَةِ واعتاضوا عَنهُ بِالظّهْرِ الْحَامِل للأثقال والفساطيط يجعلونه ساقة من خَلفهم وَلَا تغني عَنْهَا الفيلة وَالْإِبِل فَصَارَت العساكر بذلك عرضة للهزائم مستندة للفرار فِي المواقف الْفَصْل الرَّابِع فِي مَكَائِد مَا قبل الْقِتَال وآدابه وَقبل تعديد المهم من ذَلِك فَلَا بُد من استحضار المكايدة والحيل من انفع مَا يعْتَمد عَلَيْهِ فِي الحروب وَالْوَصِيَّة بذلك مكررة والنفع بِهِ مشَاهد وَقَالُوا إِذا طالبت عَدوك بِالْقُوَّةِ فَلَا تقدمن عَلَيْهِ حَتَّى تعلم ضعفه عَنْك وَإِذا طالبته بالمكيدة فَلَا يعظمن أمره عنْدك وَإِن كَانَ عَظِيما وَفِي التَّمْثِيل والمحاضرة الكيد ابلغ من الأيد

وَفِي الصَّحِيح الْحَرْب خدعة أَي يَنْقَضِي أمره بخدعة وَاحِدَة قَالَ الزَّرْكَشِيّ الْمَعْنى أَن المماكرة فِي الْحَرْب أَنْفَع من المكابرة إِذا تقرر هَذَا فقد نذْكر من ذَلِك جملَة المكيدة الأولى وَهِي أهم مَا يبْدَأ بِهِ قبل الْقِتَال بَث الجواسيس الثقاة فِي عَسْكَر الْعَدو وبلاده لتعرف أخبارهم مَعَ السَّاعَات وَمَا عِنْدهم من الْعدة وَالْعدَد وَمَا لَهُم من المكائد والحيل وَكم عدد رُؤَسَائِهِمْ وشجعانهم وَمَا مَنْزِلَتهمْ عِنْد صَاحبهمْ ويدس إِلَيْهِم مَا يخدعون يه من صلَة أَو ولَايَة حَتَّى يغدروا صَاحبهمْ أَو يهربوا عَنهُ ويخذلوه عِنْد لِقَائِه قَالَ الطرطوشي ووجوه الْحِيَل لَا تحصى والحاضر فِيهَا أبْصر من الْغَائِب المكيدة الثَّانِيَة أَن يلقى على السّنة كبراء الْعَدو أَنهم يكاتبون بِالْخدمَةِ ووعد الْوَفَاء بإظهارها ويشاع مَا يزور من ذَلِك لتقوى بِهِ الْقُلُوب ويتحدث النَّاس بمضمونه وَإِذا بلغ الْعَدو ذَلِك لَا بُد أَن يتأثر لَهُ وَإِن علم كذبه وَكَذَا فِيمَا يُرْسل إِلَيْهِم كَأَنَّهُ جَوَاب مَا يُرْسل مِنْهُم المكيدة الثَّالِثَة أَن يعمى الْأَخْبَار عَن الْعَدو ويسد دونه أَبْوَاب الْعلم بهَا حَتَّى يطلع مَا يحملهُ على اغتنام فرْصَة أَو يحاول بِهِ إبِْطَال مكيدة عَلَيْهِ وَذَلِكَ بإذكاء الْعُيُون على الجواسيس المترددة إِلَيْهِ فِي مراصد العثور عَلَيْهِم وأماكن الشُّعُور بهم وَانْظُر إِلَى دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين توجه إِلَى فتح مَكَّة اللَّهُمَّ أَعم عَن قُرَيْش الْأَخْبَار

المكيدة الرَّابِعَة مُوالَاة طَائِفَة من الْعَدو ومصالحتهم مَتى قدر على ذَلِك وأمكنت الخديعة بِهِ فقد قيل ليكن السُّلْطَان لفريق من أعدائه مصاحبا ومداهنا ليعرف بِهِ أَخْبَار بغيتهم ويهدم بِهِ اتِّفَاق جَمِيعهم ويتسبب بِهِ إِلَى خلافهم وتشتيت رَأْيهمْ وَقيل الصُّلْح أحد الحروب الَّتِي يدْفع بهَا الْأَعْدَاء عَن الْمضرَّة فَإِذا كثر أعداؤك فَصَالح بَعضهم وأطمع بَعضهم بصلحك واستقبل بَعضهم بحربك المكيدة الْخَامِسَة تَوْلِيَة بعض رُؤَسَاء الْعَدو المتمردين على السُّلْطَان وتضرب بَعضهم بِبَعْض فقد قيل إِذا ابتلى السُّلْطَان بِقوم ذَوي نفاق وَشدَّة وَقلة انقياد إِلَى الطَّاعَة فَليقمْ مِنْهُم رُؤَسَاء ويلق بَينهم الْخلاف حَتَّى يكفيهم بَعضهم مؤونة بعض وَيبقى هُوَ فِي أَمن وراحة فَإِنَّهُ إِن صلح مَا بَينهم رجعُوا كلهم عَلَيْهِ فليدبرهم بِهَذَا التَّدْبِير قبل تدبيرهم رجعُوا كلهم عَلَيْهِ فليدبرهم بِهَذَا التَّدْبِير قبل تدبيرهم الْحَرْب تَمْثِيل فِي العهود اليونانية شبهت الْخَوَارِج بالماس الَّذِي يقطع أَصْلَب الْأَحْجَار ويبطله أَضْعَف الْأَجْسَام فمراوغة الناجم والتدريب من مكافحته انْتهى

الفصل الخامس

الْفَصْل الْخَامِس فِيمَا يخدع بِهِ الْعَدو عِنْد الْقِتَال وَهِي أَيْضا جملَة الخدعة الأولى إِعْمَال الْجهد فِي أَن تكون الشَّمْس فِي أعين الْعَدو وَالرِّيح فِي وَجهه قَالَ بَعضهم فَإِن سبق الْعَدو إِلَى ذَلِك وَلم تمكن إِزَالَته عَنهُ فليزحف بالعساكر عرضا ليَكُون الْأَمر لَهُ وَعَلِيهِ الخدعة الثَّانِيَة جعله آخر النَّهَار قَالَت الْعَجم أخر الْحَرْب مَا اسْتَطَعْت فَإِن لم تَجِد فَاجْعَلْ ذَلِك آخر النَّهَار قلت كَانَ أحب أَوْقَات اللِّقَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا زَالَت الشَّمْس وحلت الصَّلَاة وهبت الرِّيَاح ودعا الْمُسلمُونَ الخدعة الثَّالِثَة وَهِي من أهم مَا يعتني بِهِ الكمين وَإِن كَانَ عددا يَسِيرا قَالَ بَعضهم أَنه إِذا ظهر أثر فِي الْقُلُوب رعْبًا وَفِي الْأَعْضَاء ضعفا وَفِي الْعقل جمودا وَفِي الْإِقْدَام وَقْفَة قَالَ وَلَا يَدُوم إقبال مقَاتل على خَصمه إِلَّا إِذا آمن من وَرَائه وَلَو من رجل وَاحِد وَلَا تحصى كَثْرَة العساكر المهزومة بالكمين فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام الخدعة الرَّابِعَة إخفاء مَكَان صَاحب الْجَيْش من الْعَدو وتحويله لخواصه وَقت الْقِتَال من موقف لآخر كَيْلا يقْصد الْعَدو غرته كَمَا وَقع لطارق حِين اجتاز إِلَى الأندلس فِي ألف وَسَبْعمائة رجل وتحصين بجبل

الْفَتْح وَوصل إِلَيْهِ الْملك لذريق فِي تسعين ألف عنان فَلَقِيَهُمْ طَارق واقتتلوا ثَلَاثَة أَيَّام أَشد قتال فَرَأى مَا بِالنَّاسِ من الشدَّة فحثهم على الصَّبْر ورعتهم فِي الشَّهَادَة وَبسط آمالهم فَقَالَ أَيْن المفر الْبَحْر من وَرَائِكُمْ والعدو أمامكم فَلَيْسَ إِلَّا الصَّبْر مِنْكُم والنصر من ربكُم وَأَنا فَاعل شَيْئا فافعلوا كفعلي وَالله لاقصدن طاغيتهم فَأَما أم أَقتلهُ أَو أقتل دونه فاستوثق بِمَعْرِِفَة حِيلَة لذريق وعلامته وخيمه ثمَّ حمل مَعَ أَصْحَابه إِلَيْهِ حَملَة رجل وَاحِد فَقتل الله لذريق بعد قتل ذريع فِي الْعَدو وَحمى الله الْمُسلمين فَلم يقتل مِنْهُم كثير عدد وانهزمت الرّوم وَقتلُوا ثَلَاثَة أَيَّام وَأخذ طَارق رَأس لذريق فَبعث بِهِ إِلَى مُوسَى بن نصير وَهُوَ بإفريقيه فَبعث بِهِ إِلَى الْوَلِيد بن عبد الْملك الخدعة الْخَامِسَة إِظْهَار صَاحب الْعَسْكَر إخلاء نَاحيَة مِنْهُ من الحماة

الفصل السادس

المعتد بهم ليقصدها الْعَدو فيعطف عَلَيْهِ بِسَائِر الجموع رَجَاء الظفر بِهِ كَمَا ترك الْقلب دون حامية عمدا حَتَّى إِذا توَسط الْعَدو ليشغل بنهبه أطبق عَلَيْهِ الجناحين وأدار عَلَيْهِ الْجنُود من كل نَاحيَة قَالَ الطرطوشي وَقد فعله رجال من أهل الْحَرْب الْفَصْل السَّادِس فِي مَكَائِد حِصَار المدن والحصون قَالُوا أول مَا يجب أَن يبْدَأ بِهِ أهل الْحصن استمالتهم قبل المناهضة مَا داموا خَائِفين فَإِن الْحَرْب إِذا نشبت كَانُوا بعْدهَا أسكن روعا وآنس بهَا قَالُوا وَفِي استمالتهم خصلتان معرفَة أسرارهم وتمكين إخافتهم وَيَنْبَغِي أَن يدس فيهم من يصغر شَأْنهمْ ويؤيسهم من الْمَدّ وَيُعلمهُم أَن أسرارهم مكشوفة فِي مكيدتهم وَأَن يدار حول الْحصن ويشار إِلَيْهِ بِالْأَيْدِي كَأَن مِنْهَا مَوَاضِع حَصِينَة وَأُخْرَى ذليلة ومواضيع تنصب المنجانيق عَلَيْهَا وَأُخْرَى تهَيَّأ العرادات لَهَا ومواضع تنقب نقبا وَأخر تُوضَع السلاليم علنها ومواضع يتسور مِنْهَا وَأُخْرَى تضرم النَّار فِيهَا ليملهم بذلك رعْبًا وخوفا وَيكْتب على نشابة إيَّاكُمْ معشر أهل الْحصن والافترار وإقفال الحراسة عَلَيْكُم بِحِفْظ الْأَبْوَاب فَإِن الزَّمَان خَبِيث وَأَهله أهل غدر وَقد خدع أَكثر أهل الْحصن فاستميلوا برمى بِتِلْكَ النشابة فِي الْحصن ثمَّ يدس لمخاطبتهم المنطيق المهيب الداهية الْمُحْتَال غير المهذار وتؤخر الْحَرْب مَا أمكن فَإِن فِي ذَلِك جرْأَة مِنْهُم على من حارتهم ودليلا على الْحِيلَة والمكيدة فَإِن كَانَ لابد مِنْهَا فبأخف الْعدة وأيسر الْآلَة

التميمة الأولى الْوَصَايَا الْمُشْتَملَة على جزئيات آدَاب الحروب وَمَا ينفع فِيهَا من أَنْوَاع الْحِيَل والمكائد كَثِيرَة وَالْكَافِي مِنْهَا اثْنَتَانِ الْوَصِيَّة الأولى فِي محَاسِن البلاغة جمع الله تَعَالَى آدَاب الحروب فِي قَوْله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم فِئَة فاثبتوا واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين} قَالَ صَاحب مشارع الأشواق من متأخري المشارقة وَلَقَد صدق هَذَا الْقَائِل فَإِن الله تَعَالَى أَمر المقاتلين فِيهَا بِخَمْسَة أُمُور مَا اجْتمعت بفئة إِلَّا نصرت وَإِن قلت وَكثر عدوها وَهِي الثَّبَات وَكَثْرَة ذكر الله وَطَاعَة الله وَرَسُوله وَعدم التَّنَازُع الْمُوجب للفشل والوهن فَإِنَّهُم إِذا اجْتَمعُوا كَانُوا كالحزمة من السِّهَام لَا يُسْتَطَاع كسرهَا جملَة فَإِذا تَفَرَّقت سهل كسرهَا سَهْما سَهْما الْخَامِسَة الصَّبْر وَهُوَ ملاذ الْأَمر والنصر وَسَببه وَمَتى فقد شَيْء من ذَلِك نقص من النَّصْر بِحَسبِهِ

الْوَصِيَّة الثَّانِيَة قَالَ بَعضهم إِذا ابْتليت بِالْحَرْبِ فأذك الْعُيُون بِالنَّهَارِ وَبَالغ فِي الحرس بِاللَّيْلِ وَخَنْدَق إِن كنت مُقيما وحصن مضاربك وَليكن جندك عَلَيْك حصنا ولأنفسهم حرسا وَاجعَل الشَّمْس أَن تكون مَعَك عِنْد اللِّقَاء وَالرِّيح أَن تكون مَعَك فِي وَقت الهجوم وَالْمَاء والمرعى أَن يكون مَعَك فِي مَكَان النُّزُول أخف آثارك من عَدوك واعمل فِي حِين لقاءه على إراحة الظّهْر والكراع وثقف جِهَات الْعَدو بِمن تثق من رجالك احذر من الأفواج أَن يسْتَمر هزيمَة وَمن الكمين أَن يَأْتِيك غَفلَة وَمن رجالك أَن يُخَالف إِلَيْهِ وَأَن اسْتَطَعْت أَن تخَالف عَدوك إِلَى رجله فافعل وَإِذا هزمت قوما فقف ثبتا فِي محلتك وَإِذا غلبت فَعم آثارك وَاعْلَم أَن الْهَزِيمَة مَحل الْعَزِيمَة وَأَن الهارب لَا يعرج على صَاحب وَأَن الْفِرَار فِي وقته ظفر وَأَن الْقِتَال فِي غير مَكَانَهُ عناء قلت قَوْله وَخَنْدَق إِن كنت مُقيما قَالَ ابْن خلدون كَانَ من مَذَاهِب الأول فِي حروبهم حفر الْخَنَادِق على معسكرهم حذرا من معرة البيات والهجوم عَلَيْهِم لَيْلًا وَكَانَت للدول فِي أَمْثَال هَذِه قُوَّة وَعَلِيهِ اقتدار لجمع الْأَيْدِي عَلَيْهِ فِي كل منزل لَهَا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ من وفور الْعمرَان وضخامة الْملك فَلَمَّا خرب الْعمرَان وَتَبعهُ ضعف الدول وَقلت الْجنُود وَعدم الفعلة نسى هَذَا الشَّأْن جملَة كَأَنَّهُ لم يكن وَالله تَعَالَى خير القادرين التَّتِمَّة الثَّانِيَة قَالَ ابْن خلدون لاوثوق فِي الحروب بالغلب وَإِن حصلت أَسبَابه من الْعدة والعديد لنه فِيهَا من قبيل البخت والاتفاق قلت وَقَررهُ بِمَا حَاصله أَن أَسبَابه فِي الْأَكْثَر مجتمعة من أُمُور ظَاهِرَة وَهِي وفور الْجَيْش وَكَمَال السِّلَاح وَكَثْرَة الشجعان وترتيب المصاف وَصدق الْقِتَال وَنَحْو ذَلِك من أُمُور خُفْيَة من حيل الْبشر وخدعهم كالتخذيل بالإرهاب والتشانيع والتقدم إِلَى الْأَمَاكِن المرتفعة فيتوهم المنخفض ويتخاذل وَمَا فِي معنى ذَلِك أَو من أُمُور سَمَاوِيَّة لَا قدرَة للبشر علنها تلقى

فِي الْقُلُوب فيستولي الرعب علنها من أجلهَا فتتحل المراكز وَتَقَع الْهَزِيمَة قَالَ وَأكْثر مَا يَقع عَن هَذِه السباب الْخفية وَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَرْب خدعة وَمن أَمْثَال الْعَرَب رب حِيلَة أَنْفَع من قَبيلَة وَإِذا كَانَت وَاقعَة عَن أَسبَاب خُفْيَة فَهِيَ من قبيل مَا بالبخت والإتفاق كَمَا تقرر فِي مَوْضِعه فهم حَقِيقَة قَالَ وتفهم من وُقُوع الغلب عَن الْأُمُور السماوية معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصرت بِالرُّعْبِ مسيرَة شهر وَمَا وَقع من غَلَبَة للْمُشْرِكين فِي حَيَاته بِالْعدَدِ الْقَلِيل وَبعده كَذَلِك فِي الفتوحات معْجزَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقائه فِي الْقُلُوب سَببا للهزائم فِي الفتوحات الإسلامية كلهَا وَإِن خَفِي عَن الْعُيُون قلت قَالَ الشَّيْخ شهَاب الدّين ابْن حجر وَهَذِه الخصوصية حَاصِلَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْإِطْلَاق حَتَّى لَو كَانَ وَحده بِغَيْر عَسْكَر قَالَ وَهل هِيَ حَاصِلَة لأمته من بعده فِيهِ احْتِمَال تَنْبِيه على وهم قَالَ وَقد ذكر الطرطوشي أَن من أَسبَابه أَن يفضل عدَّة الفرسان الشجعان فِي أحد الْجَانِبَيْنِ على عدتهمْ فِي الْجَانِب الآخر وَلَو بِوَاحِد يكون لَهُ الغلب قَالَ وَهُوَ رَاجع إِلَى الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة وَلَيْسَ بِصَحِيح وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر

فِي الْقلب حَال العصبية أَن تمون فِي أحد الْجَانِبَيْنِ عصبية وَاحِدَة جَامِعَة لكلهم وَفِي عصائب مُتعَدِّدَة والجانبان متقاربان فِي الْعدة فَإِن الَّذِي عصبيته وَاحِدَة أقوى من الَّذِي عصائبه مُتعَدِّدَة لوُقُوع التخاذل بَينهم كَمَا فِي الوجدان المفترقين الفاقدين للعصبية لتنزل كل عِصَابَة مِنْهُم منزلَة الْوَاحِد فَيكون الْجَانِب الَّذِي عصابته مُتعَدِّدَة لَا يُقَام الَّذِي عصبيته وَاحِدَة لجل ذَلِك قلت فِي حَدِيث وَفد بني عبد الْحَرْث بن كَعْب أَن رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم بِمَ كُنْتُم تغلبون من قاتلكم فِي الْجَاهِلِيَّة قَالُوا لم نَكُنْ نغلب أحدا قَالَ بلَى قد كُنْتُم تغلبون من قاتلكم قَالُوا نغلب من قاتلنا يَا رَسُول الله أَنا كُنَّا نَجْتَمِع وَلَا نتفرق وَلَا نَأْخُذ أحد بظُلْم قَالَ صَدقْتُمْ مغلطة قَالَ وَلم يحملهُ على ذَلِك إِلَّا نِسْيَان شَأْن العصبية فِي جيله وبلده وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ الدفاع والمطالبة إِلَى الوجدان وَالْجَمَاعَة الناشئة عَنْهُم لَا يفترقون فِي ذَلِك عصبية وَلَا نسبا مَعَ أَن هَذَا على تَقْرِير صِحَّته إِنَّمَا هُوَ من الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة كاتفاق الجنسين فِي الْعدة وَصدق الْقِتَال وَشبه ذَلِك فَكيف يَجعله سَببا كَفِيلا بالغلب وَشَيْء من ذَلِك لَا يُعَارض الْأَسْبَاب الْخفية من الْحَبل والخدع وَلَا الْأُمُور السماوية من الرعب والخذلان الإلهي فاعلمه وتفهم أَحْوَال الْكَوْن فَالله يقدر اللَّيْل وَالنَّهَار انْتهى استطراد قَالَ وَيلْحق بِمَعْنى الغلب فِي أَن أَسبَابه خُفْيَة وَغير خُفْيَة طبيعية حَال الشُّهْرَة والصيت فَقل أَن يُصَادف موضعهَا قي أحد من

النَّاس من الْمُلُوك وَالْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ أَو المنتحلين للفضائل على الْعُمُوم فكثير مِمَّن اشْتهر وَبعد صيته وَلَيْسَ هُنَاكَ وَكثير مِمَّن اشْتهر بِالشَّرِّ وَهُوَ بِخِلَافِهِ وَكثير مِمَّن تجاوزت عَنهُ الشُّهْرَة وَهُوَ أَحَق بهَا وَقد تصادف موضعهَا وَتَكون طبقًا على صَاحبهَا كشف حَقِيقَة قَالَ وَسبب ذَلِك أَن الشُّهْرَة إِنَّمَا هِيَ بالأخبار وَالْأَخْبَار يدخلهَا الذهول عَن الْمَقَاصِد عِنْد التناقل ويدخلها التعصب والتشيع والأوهام وَالْجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس والتصنع أَو بِجَهْل النَّاقِل ويدخلها التَّقَرُّب لأَصْحَاب الجاه والمراتب الدُّنْيَوِيَّة بالثناء والمديح وتحسين الْأَحْوَال وإشاعة الذّكر بذلك والنفوس مولعة بحب الثَّنَاء وَالنَّاس متطاولون إِلَى الدُّنْيَا وأسبابها من جاه أَو ثروة وَلَيْسوا فِي الْأَكْثَر براغبين فِي الْفَضَائِل وَلَا متنافسين فِي أَهلهَا وَأَيْنَ مُطَابقَة الْحق مَعَ هَذَا كلهَا فَتحصل الشُّهْرَة عَن أَسبَاب خُفْيَة من هَذِه وَتَكون غير مُطَابقَة وكل مَا يحصل بِسَبَب خَفِي فَهُوَ الْمعبر عَنهُ بالبخت وَالله أعلم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى انْتهى

الْكتاب الثَّانِي فِي أَرْكَان الْملك وقواعد مبناه ضَرُورَة وكمالا وَهِي رَاجِعَة إِلَى أَفعَال تَقْسِيم وجوده وصفات تصدر بهَا تِلْكَ الْأَفْعَال على أفضل نظام فَهُنَا بَابَانِ أَحدهمَا فِي الْأَفْعَال الَّتِي تُقَام بهَا صُورَة الْملك ووجوده وَالْآخر فِي الصِّفَات الَّتِي تصدر بهَا تِلْكَ الْأَفْعَال على أفضل نظام

في الأفعال التي تقام بها صورة الملك ووجوده

الْبَاب الأول فِي الْأَفْعَال الَّتِي تُقَام بهَا صُورَة الْملك ووجوده وَالْمَذْكُور مِنْهَا عشرُون ركنا ضَرُورِيَّة وكمالية الرُّكْن الأول نصب الْوَزير وَفِيه مقدمتان وَثَلَاثَة مطَالب الْمُقدمَة الأولى وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى أَن السُّلْطَان لما كَانَت قواه البشرية لَا تستقل قواه البشرية بِحمْل مَا قلد فَلَا جرم اضْطر لمشاركة معِين يتم بِهِ استقلاله وَهُوَ الْوَزير وَفِي التَّنْزِيل وَاجعَل وزيرا من أَهلِي هَارُون أخي أشدد بِهِ أزري وأشركه فِي أَمْرِي وَفِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن لي فِي السَّمَاء

وزيرين وَفِي الأَرْض وزيرين فاللذان فِي السَّمَاء جِبْرِيل وَمِيكَائِيل واللذان فِي الأَرْض أَبُو بكر وَعمر ذكره التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن من لَوَازِم هَذَا الِاضْطِرَار اسْتِحَالَة تصور الِاسْتِغْنَاء عَن مُطلق الْمُشَاركَة المنوطة بِهِ فِي الْمَرَاتِب السُّلْطَانِيَّة لِامْتِنَاع تخلف مَا هُوَ طبيعي وَمن ثمَّ قيل لَا تعتقد أَن رياسة تقوم بِغَيْر وَزِير قَالَ (هَيْهَات لم تصدقك فكرتك الَّتِي ... قد أوهمتك غنى عَن الوزراء) (لم تغن عَن أحد سَمَاء لم تَجِد ... أَرضًا وَلَا أَرض بِغَيْر سَمَاء) نعم تمكن الْكِفَايَة بِمن تحصل بِهِ الْمُشَاركَة كَمَا فِي صد الْإِسْلَام لفقد رتب الْملك بسذاجته أما الِاسْتِغْنَاء عَن مُطلق الْمُشَاركَة فَلَا تتَصَوَّر الْبَتَّةَ الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن لشرف هَذِه الرُّتْبَة يجب لَهَا أَمْرَانِ أدهما اعْتِقَاد تعظيمها فقد قَالَ الطرطوشي أشرف منَازِل الْآدَمِيّين ثمَّ الْخلَافَة ثمَّ الوزارة

قلت وَفِي الْيَهُود اليونانية كَانَ فِي السّنة الْجَارِيَة فِي اليونان تَعْظِيم الوزارة وتفضيلها عَن سَائِر الشؤون الثَّانِي انتخاب من يصلح لَهَا واختياره فَفِي العهود يحْتَاج من نصب لَهَا إِلَى كَمَال فِي الْفضل ورجاحة فِي الْمعرفَة يعدل بهَا مَا عسر على الْملك حَتَّى يخرج فِي أحسن صُورَة الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَن اخْتِيَاره على أكمل الصِّفَات من أسبق مَا يشْهد للسُّلْطَان بإحراز الْفَضِيلَة المستولية على أبعد غَايَة قَالَ أول مَا يظْهر من قبل السُّلْطَان وَقُوَّة تَمْيِيزه وجودة عقله فِي إستنخاب الوزارة واتقاء الجلساء ومحادثة الْعُقَلَاء قَالَ الطرطوشي وبهذه الخلان يحمد فِي الْخلق ذكره وَيجْعَل فِي الْعين قدره وترسخ فبالنفوس عَظمته قلت ويستدل على إقباله وسعادة زَمَانه قَالَه فِي الافلاطونيات وَكَذَا بَقَاء ملكه وأمنه عَلَيْهِ من الْفساد الناشيء عَن فَاقِد الضَّرُورِيّ مِنْهَا وَهِي الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من كَلَام الْحُكَمَاء لَا يطعن ذُو الْكبر فِي الثَّنَاء وَلَا الخب فِي كَثْرَة الصّديق وَلَا السيىء الدب فبالشرق وَلَا الشحيح فِي الْبر والحريص فِي قلَّة الذُّنُوب وَلَا الْملك المتهاون الضَّعِيف والوزراء فِي بَقَاء الْملك

الْمَسْأَلَة أَن سَعَادَة السُّلْطَان متوقفة على وزارة الْوَزير الصَّالح عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا أَرَادَ الله بالأمير خيرا جعل لَهُ وَزِير صدق ذكره بِهِ وَأَن ذكر أَعَانَهُ وَإِذا أَرَادَ الله بِهِ غير ذَلِك جعل لَهُ وَزِير سوء إِن نسي لم يذكرهُ وَإِن ذكر لم يعنه رَوَاهُ أَبُو دَاوُود وَالنَّسَائِيّ وَلَفظه من ولي مِنْكُم عملا فَأَرَادَ الله بِهِ خيرا جعل لَهُ وزيرا صَالحا إِن نسي ذكره وَإِن ذكر أَعَانَهُ الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أصلاح السُّلْطَان وفساده لَازم عَن صَلَاح الْوَزير وفساده قَالُوا موقع الْوَزير من الْملك موقع الْملك من الْعَامَّة وكما أَن السُّلْطَان إِذا صلح صلحت الرّعية وَإِذا فَسدتْ فَسدتْ الرّعية فَكَذَلِك الْوَزير إِذا صلح صلح الْملك وَإِذا فسد فسد الْملك وَإِذا كَانَ صَلَاح الرّعية بصلاح السُّلْطَان وَصَلَاح السُّلْطَان

بصلاح الْوَزير فصلاح الرّعية بصلاح الْوَزير ضَرُورَة وَكَذَا فِي الْعَسْكَر وَمن ثمَّ قَالَ أفلاطون طَاعَة الرّعية بسداد وَزِير الوزراء الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَن من صَلَاح الْوَزير صَلَاح بطانته وأعوانه ضَرُورَة أَن كل ذِي بطانة صَلَاحه مُتَوَقف على صَلَاحهَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من وَال إِلَّا وَله بطانتان بطانة تَأمره بِالْمَعْرُوفِ وتنهاه عَن الْمُنكر وبطانة لَا تألوه خبالا فَمن وقِي شَرها ف وقِي وَهُوَ غلى من يغلب عَلَيْهِ مِنْهَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ الطرطوشي شَرّ الْأُمَرَاء من كَانَ لَهُ الشرار وزراء وبطانة وأخلاء الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَن خلوص النَّصِيحَة الَّتِي هِيَ فِي الْجُمْلَة فعل مَا فِيهِ الصّلاح من أهم مَا يجب على الْوَزير أَن يبْذل فِيهِ غَايَة وَسعه ومقدوره أما أَولا فلموقعها من الدّين كَمَا يدل عَلَيْهِ حَدِيث أَن الدّين النَّصِيحَة وَأما ثَانِيًا فلوجهين أَحدهمَا أَن الصّلاح الْعَام مُتَوَقف الْحُصُول عَلَيْهَا فَفِي دمنة وكليلة يصلح السُّلْطَان إِلَّا الوزراء والأعوان وَلَا الوزراء والأعوان إِلَّا بالمودة والنصيحة وَلَا الْمَوَدَّة والنصيحة إِلَّا بِالرَّأْيِ والعفاف الثَّانِي أَن الوساطة بنقيضها بَين والرعية يفْسد التَّدْبِير وَيجْعَل هَلَاك من قصدت مضرته فقد قيل مثل السُّلْطَان كالطبيب وَمثل الرّعية كالمرضي وَمثل الْوَزير كالسفير بَين المرضى والأطباء فَإِن كذب السفير فقد بَطل التَّدْبِير وكما أَن السفير إِذا أَرَادَ أَن يقتل أحدا من المرضى وصف للطبيب نقيض دائه فَإِذا سقَاهُ الطَّبِيب على صفة السفير هلك العليل كَذَلِك الْوَزير ينْقل للْملك مَا لَيْسَ فِي الرجل فيقتله الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أَن التَّعَلُّق بالوزير مِعْرَاج الْوُصُول إِلَى السُّلْطَان

المقدمة الثانية

ومرقاة الْفَوْز بتمكين الخطوة لبه قَالَ الطرطوشي وَلما كَانَت أزمة الْمُلُوك بأكف الوزراء سبق فيهم الْمثل ل تغتر بمودة الْأَمِير إِذا غشك الْوَزير وَإِذا أحبك الْوَزير فَلَا تخشى الْأَمِير قَالَ وَيُقَال الْخرق مماراة الْأُمَرَاء ومعاداة الوزراء وَأمر كرهه الْأَمِير يتمه الْوَزير كم من أَمر أَرَادَهُ الْأَمِير فثناه عَنهُ الْوَزير وَإِنَّمَا السُّلْطَان كَالدَّارِ والوزير بَابهَا فَمن أَتَى الدَّار من بَابهَا ولج وَمن أَتَاهَا من غير بَابهَا أزعج الْمُقدمَة الثَّانِيَة قد تقدم بَيَان اسْتِحَالَة الِاسْتِغْنَاء عَن الْإِعَانَة المنوطة بِهِ فِي الْمَرَاتِب السُّلْطَانِيَّة وَلذَلِك تدرجت الْعِنَايَة بهَا فِي الدول الإسلامية عِنْد انقلاب الْخلَافَة ملكا وَذَلِكَ فِي موضِعين الْموضع الأول الْمشرق وَذَلِكَ فِي دولتين الدولة الأولى الدولة الأموية فِي مبدأ استعجال ملكهَا ظهر اسْم الْوَزير وَأطلق على من خص لسمو مقَامه فِي الْمرتبَة السُّلْطَانِيَّة يَوْمئِذٍ بِعُمُوم النّظر ونطلق التَّفْوِيض بِحَسب رُتْبَة إِذْ ذَاك

قَالَ ابْن خلدون وَقَلبه مَا كَانُوا يعْرفُونَ مَا الْوَزير على مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي مُطلق الْملك لذهاب رُتْبَة بسذاجته الإسلامية الدولة الثَّانِيَة دولة بني الْعَبَّاس وَلها فِي الْوُجُود أَحْوَال إِحْدَاهَا حَال استبدادها بشماخة الْملك وَالسُّلْطَان فَفِيهَا ازْدَادَ سمو الْوَزير بمصير النِّيَابَة إِلَيْهِ فِي الْحل وَالْعقد وَجعل النّظر لَهُ فِي ديوَان الحسبان ثمَّ فِي الْقَلَم والترسيل فَصَارَ اسْمه جَامعا لخطتي السَّيْف والقلم وَسَائِر مَعَاني المعاونة فعنت لَهُ الْوُجُوه وخضعت لَهُ الرّقاب قَالَ ابْن خلدون حَتَّى لقد دعى جَعْفَر بن يحي أَيَّام الرشيد بالسلطان إِشَارَة لعُمُوم نظره وَلم يخرج مِنْهُ إِلَّا الحجابة استنكافا عَن مثلهَا الثَّانِيَة حَال الاستبداد على سلطانها تَارَة واستقلاله بالآمر أُخْرَى وفيهَا انقسمت الوزارة إِلَى وزارة تَنْفِيذ وَهِي حَال قيام السُّلْطَان على نَفسه وَإِلَى وزارة تَفْوِيض وَهِي حَال استبداد الْوَزير عَلَيْهِ الثَّالِثَة حَال تَعْطِيل رسم خلافتها عِنْد مصير الْأَمر لملوك الْعَجم وَتعذر انتحالهم ألقاب الْخلَافَة واستنكفوا من مُشَاركَة الوزراء فِي اللقب فتسموا بالأمارة وَالسُّلْطَان إِلَى مَا يحيلهم بِهِ الْخَلِيفَة من ألقابه وَفَسَد اللِّسَان خلال ذَلِك وَصَارَ صناعَة ينتحلها بعض النَّاس فَترفع وزراؤه عَنْهَا لامتهانها بذلك مَعَ عجمة لسانهم فتخيروا لَهَا من الطَّبَقَات وَصَارَت خادمة للوزير

الموضع الثاني في المغرب وذلك في دول

واختص الْأَمِير بِصَاحِب الْحَرْب والجند وَيَده مَعَ ذَلِك عالية على أهل الرتب وَأمره نَافِذ فِي الْكل نِيَابَة واستقلالا الرَّابِعَة حَال حجر سلطانها بمجيء دولة التّرْك آخر بِمصْر وعندما رَأَوْا تَبْدِيل الوزارة بترفع من سبقهمْ عَنْهَا وَدفعهَا لمن يقوم بهَا للخليفة الْمَحْجُور مَعَ تعقب نظره لنظر الْأَمِير استنكفوا عَنْهَا وَصَارَ صَاحب الْأَحْكَام وَالنَّظَر فِي الْجند يُسمى بالنائب واختص اسْم الْوَزير عِنْدهم بِالنّظرِ فِي الجباية الْموضع الثَّانِي فِي الْمغرب وَذَلِكَ فِي دوَل الدولة الأولى الدولة الأموية بالأندلس أَبقوا فِيهَا إسم الْوَزير فِي مَدْلُوله أول الدولة ثمَّ قسموا خطته اقتساما كوزارة حسبان المَال وَالْكِتَابَة وَالنَّظَر فِي الْمَظَالِم وأحوال الثغور وَجعل بَيت يَجْلِسُونَ فِيهِ على فرش منضدة لتنفيذ أَمر السُّلْطَان هُنَاكَ كل فِيمَا جعل لَهُ وأفرد للتدبير بَينهم وَبَين الْخَلِيفَة وَاحِد مِنْهُم ارْتَفع بذلك عَنْهُم حَتَّى فِي الْمجْلس وخصوه باسم الْحَاجِب إِلَى آخر دولتهم وَعند مصير الْأَمر لملوك الطوائف انتحلوا ذَلِك اللقب مَعَ مَا أختص بِهِ من الْجَلالَة الدولة الثَّانِيَة دولة الشِّيعَة بإفريقية والقيروان أغفلوا أَولا هَذِه الخطة لرسوخهم فِي البداوة وعندما أدْركْت دولتهم الحضارة تبعوا من سبفهم فِي وضع أسمائها بِحَسب تفَاوت رتبتها

المطلب الأول

الدولة الثَّالِثَة دولة الْمُوَحِّدين من بعد ذَلِك أهملوها أَولا للبداوة ثمَّ صَارُوا إِلَى انتحال السَّمَاء والألقاب وَكَانَ إسم الْوَزير فِي مَدْلُوله ثمَّ اتبعُوا الأموية وقلدوها فِي مَذَاهِب السُّلْطَان واختاروا اسْم الْوَزير لمن يحجب السُّلْطَان فِي مَجْلِسه وَيقف بالوفود الداخلين عَلَيْهِ عِنْد الْحُدُود فبالتحية وَالْخطاب والآداب اللَّازِمَة بَين يَدَيْهِ وَرفعُوا خطة الْحجاب مَا شاؤا وَالله ولي الْأُمُور الْمطلب الأول فِي شُرُوطه الضرورية والمكملة وَهِي لفضائل نفسية وكمالات بدنية وسعادات خارجية فَهِيَ ثَلَاثَة أَنْوَاع النَّوْع الأول الْفَضَائِل النفسية وَهِي جملَة إِحْدَاهَا الْعلم وأكده الْعلم بأيام النَّاس وسير الْمُلُوك وسياسة الرياسة وأدب الْخدمَة وَمَعْرِفَة الْخط وَالْكِتَابَة والحساب الثَّانِيَة جودة الْفَهم ليتصور الْأُمُور على حقائقها وَيحكم عَلَيْهَا بِمَا يجب لَهَا نفيا وإثباتأ الثَّالِثَة الذكاء والفطنة لِئَلَّا يتدلس عَلَيْهِ الْأُمُور فتشتبه وَلَا تموه فتلبس قيل وَلَا يَصح مَعَ إشتباهها غرم وَلَا يتم مَعَ التباسها حزم الرَّابِعَة قُوَّة الْحِفْظ ليتذكر مَا يلقى إِلَى السُّلْطَان أَو ينْقل عَنهُ لِأَنَّهُ شَاهد لَهُ وَعَلِيهِ وَشرط الشَّهَادَة الْعلم بمتعلقها أَدَاء وتحملا الْخَامِسَة الْمعرفَة بضروب الجبايات بِحَيْثُ لَا تخفى عَلَيْهِ وُجُوه

الْمصلحَة فِيهَا وَلَا تَشْتَكِي الرّعية إِلَيْهِ إِلَّا علم مُوجب شكايتها مداواتها وَفِي السياسة المنسوبة لارسطو إِذا علم الْخدمَة أَن الْوَزير عَالم بهم لم يقدموا على إِدْخَال دَاخِلَة السَّادِسَة الحنكة والتجربة ليحمل على صَحِيح الرَّأْي وصواب التَّدْبِير لما فِي التمرن بذلك خُصُوصا مَعَ طول الْمُبَاشرَة من الْخِبْرَة بمواقع الْأُمُور ومقابلة الْحَوَادِث السَّابِعَة الصَّبْر على تحمل مَا يقوم بِهِ عَن سُلْطَانه لاسيما مُبَاشرَة الْعَامَّة فَفِي محَاسِن البلاغة لَا يحْتَاج سائس النَّاس إِلَى سَعَة الصَّدْر واستشعار الصَّبْر فِي احْتِمَال نَوَادِر الْعَامَّة وإفهام الْجَاهِل وإرضاء الْمَحْكُوم عَلَيْهِ والممنوع مِمَّا سَأَلَ وتعريفه من أَيْن حكم عَلَيْهِ وَمنع مَا سَأَلَهُ الثَّامِنَة قُوَّة الْعَزِيمَة على فَقل مَا يَنْبَغِي بِحَيْثُ لَا يثنيه عَنهُ ضعف نفس وَلَا خور طبع جسارة عَلَيْهِ وإقداما لتاسعة حب الْعدْل وَأَهله وبغض الْجور وَذَوِيهِ ليعطي النصفة لأَهْلهَا ويرثي للمظلوم وينصره وان سخط الظَّالِم وَعز عَلَيْهِ ارضاء للحق وارغاما للباطل الْعَاشِرَة رَحْمَة الْخلق ليداوي بهَا مَا يجرحه السُّلْطَان بغلطته قلت كَمَا كتب مُعَاوِيَة رضى الله عَنهُ إِلَى زِيَادَة أَنه لَا يَنْبَغِي لنا أَن

نسوس النَّاس سياسة وَاحِدَة لَا نلين جَمِيعًا فَنَجْعَل النَّاس فِي الْمعْصِيَة وَلَا نشتد جَمِيعًا فنحمل النَّاس على المهالك وَلَكِن لتكن أَنْت للشدة والغلظة وأكون أَنا للرأفة وَالرَّحْمَة الْحَادِيَة عشرَة النزاهة قَالَ ابْن رضوَان وَهِي من آكِد شُرُوطه الثَّانِيَة عشرَة طَهَارَة الْقلب من خبث السريرة ليَكُون نقي الجيب نَاصح الْغَيْب قَالَ بعض الْمُلُوك لوزيره لتكن إِلَى مَا يسرني مِنْك أسْرع مبادرة مِنْك إِلَى إنذاري فِيمَا تخَاف عَليّ مِنْهُ وَقَالَ آخر أعْط من أَتَاك بِمَا تكره كَمَا تُعْطِي من أَتَاك بِمَا تحب فَإِن من انذرك كمن بشرك الثَّالِثَة عشرَة حسن الْمُعَامَلَة بسماحة الْخلق ولين الْجَانِب وسهولة اللِّقَاء وَاسْتِعْمَال التَّوَاضُع تحمد عاقبته فَفِي العهود اليونانية أَن المتواضع المتقلل من الوزراء فِي أَكثر الْأُمُور طَوِيل الْعُمر مظفر بأعدائه قريب من الْأَحْوَال المرضية عِنْد ربه الرَّابِعَة عشرَة كبر النَّفس وعلو الهمة لَيُحِب الْكَرَامَة ويأنف من الفضيحة فتعز بِهِ الدولة ويحنى جَانبهَا من طوارق الذل والمهانة

الْخَامِسَة عشرَة اعْتِدَال الْخلق والسيرة قَالَ الطرطوشي من شُرُوطه أَن يكون معتدلا كليل تهَامَة لَا حر وَلَا قر قلت وَإِن انحرفت سيرة السُّلْطَان تلطف هُوَ فِي ردهَا إِلَى اعْتِدَال كَمَا يدل عَلَيْهِ مَا سبق فِي كتاب مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ إِلَى زِيَاد وَمثله قَالَ أفلاطون إِن أخلاقه تَأمل مُعَاملَة الْملك فَإِن كَانَت شَدِيدَة عَامل النَّاس بِدُونِهَا وَإِن كَانَت لينَة عاملهم بأقوى مِنْهَا ليقرب من الْعدْل فِي سَعْيه النَّوْع الثَّانِي الكمالات الْبَدَنِيَّة وَهِي جملَة أَحدهمَا تَمام الْأَعْضَاء لتتأتي لَهُ الْأُمُور الَّتِي من شَأْنهَا أَن يكون بهَا وَمِنْهَا قلت وَلِأَن النَّقْص مِنْهَا شين يتنزه عَنهُ جمال الْملك بِهِ وزينته الثَّانِي جمال الْوَجْه وبهاؤه خُصُوصا مَعَ الْبشر وَالْحيَاء لدلَالَة ذَلِك على شرف النَّفس عكس القباحة المنفرة لَا سِيمَا مَعَ الصلف والوقاحة الثَّالِث صدق اللِّسَان لما فِي الْكَذِب من الْمَفَاسِد الْخلَّة بمصالح الدّين وَالدُّنْيَا وَقد من ذَلِك فِي تمثيله بالسفير بَين الطَّبِيب وَالْمَرِيض الرَّابِع حسن الْعبارَة المؤدية لما فِي النَّفس بأوجز لفظ وأوضع بَيَان

الْخَامِسَة صمت اللِّسَان عَن هذر القَوْل وَكَثْرَة المزاح والتعريض بِالنَّاسِ وَالِاسْتِخْفَاف بهم غيبَة وحضورا السَّادِس الفروسية ليحسن بهَا مَعَ الشجَاعَة الَّتِي هِيَ أم الْفَضَائِل مُبَاشرَة الحروب ومدافعة الْعَدو فِي مَوَاطِن اللِّقَاء السَّابِع ظُهُور أثر الْعِفَّة عَلَيْهِ فِي التقاء شَره الْأكل وَالنِّكَاح فَفِي الافلاطونيات اقبح مَا يشنع على الزير تَشَاغُله بلذة أَو شرب أَو خُرُوجه إِلَى غضب فَإِن وَاحِدَة من هَذِه تفْسد ناموسة الَّذِي قَامَ بِهِ النَّوْع الثَّانِي السَّعَادَة الخارجية وَهِي جملَة إِحْدَاهَا شرف الْبَيْت وكرم المنشأ لَا سِيمَا أَكَانَ أَبوهُ وزيرا لنه إِذْ ذَاك وَارِث حَالَة نَشأ علنها ودرب على ممارستها الثَّانِيَة أَمَانَة بطانته وبصيرتها بِمَا يرام مِنْهُم فِي مصلحَة الِاخْتِصَاص بِهِ وَقدم تقدم أَن صَلَاحه مَشْرُوط بصلاحهم الثَّالِثَة حسن الملبس وجمال الزي عملا على مشاكلة الرُّتْبَة وأبهة الْمقَام ليجمل فِي الْعُيُون ويعظم فِي الصُّدُور الرَّابِعَة إِبَاحَة مَجْلِسه لِذَوي الْمَقَاصِد والحاجات ليصغى إِلَيْهِم وَيُؤْنس من وحشيتهم ويصبر على تحاملهم الْخَامِسَة اسْتِوَاء ليله ونهاره فِي حسن النّظر وسداد التَّدْبِير قيَاما بِمَا نصب لَهُ ووفاء بِمَا شَرط عَلَيْهِ

تَكْمِلَة فِي تَنْبِيه حذروا فِي هَذَا الْمقَام من وزارة رجلَيْنِ أَحدهمَا فِي طَرِيق الضعة وَهُوَ اللَّئِيم قَالَ الطرطوشي يحذر الْملك أَن يولي الوزارة لئيما إِن اللَّئِيم إِذا ارْتَفع جَفا أَقَاربه وَأنكر معارفه واستخف بالأشراف وتكبر على ذَوي الْفضل والإنصاف الثَّانِي فِي طرق الرّفْعَة وَهُوَ المنتمي لقرابة السُّلْطَان وَعلله فِي السياسة المنسوبة لارسطو بِمَا بَين الْقَرَابَة من الْحَسَد الَّذِي لَا يَقع فِيمَا بَينهم إِلَّا بِالروحِ قَائِلا وَهُوَ لَازم فِي الطبيعة مُنْذُ بَدْء الخليقة كَمَا وَقع بَين ابْني آدم قابيل وهابيل الْمطلب الثَّانِي أُمَّهَات من فَوَائِد زَائِدا على مَا تقدم مها وَهِي جملَة الْفَائِدَة الأولى تنزله من السُّلْطَان منزلَة أَعْضَاء الْبدن وَآخر مَا بِهِ تركب وجوده قَالُوا الْوَزير مَعَ الْملك بِمَنْزِلَة سَمعه وبصره وَلسَانه وَقَلبه الْفَائِدَة الثَّانِيَة وُقُوعه مَعَ الْملك موقع مَا يبْدَأ بِهِ الْكَمَال وَالنُّقْصَان قَالُوا موقع الْوَزير من المملكة كموقع الْمرْآة من الْبَصَر كَمَا أَن من لم ينظر فِي الْمرْآة لَا يرى محَاسِن وَجهه وعيوبه كَذَلِك السُّلْطَان إِذا لم يكن لَهُ وَزِير لَا يعلم محَاسِن دولته وَلَا عيوبها قَالَ الطرطوشي وكما أَن الْمرْآة لَا تريك وَجهك إِلَّا بصفاء جوهرها ونقائها من الصدأ كَذَلِك الْوَزير لَا يكمل أمره إِلَّا بجودة عقله ونقاء قلبه

الْفَائِدَة الثَّالِثَة النَّفْع بِهِ فِي تَحْصِيل مَا ينشرح الصَّدْر بقبوله وتتضح بِهِ حقائق الْأُمُور وَيَا لَهَا من طَلِيعَة تعلم بِمَا وَرَاءَهَا من الْفَوَائِد الجمة وَالْمَنَافِع الَّتِي لَا تَنْحَصِر بزمام قَالُوا أول مَا يستفيده الْملك من الوزراء أَمْرَانِ علم مَا كَانَ يجهله وَزَوَال الشَّك فِيمَا يُقَوي علمه الْفَائِدَة الرَّابِعَة صون اللِّسَان بِهِ عَن الامتهان وترفعه بِهِ عَن التبذل لكفايته مَا لَا يَلِيق بِهِ أَن يَلِيهِ نَفسه وَينزل بمباشرته على عَليّ مقَامه وشريف رتبته لاسيما عِنْد عرُوض مَا شرع لأَجله إِقَامَة صورته وَحفظ جَلَاله وجماله قَالَ ابْن سَلام الْوَزير يصون الْملك عَن الامتهان وَيَرْفَعهُ عَن التبذل فِي كل مَكَان الْفَائِدَة الْخَامِسَة وفاؤه بِكُل مَا يُرَاد لَهُ ويعد للْقِيَام بِهِ على الْإِطْلَاق والعموم وَقد عبر عَن ذَلِك التدميري فِي محَاسِن البلاغة بقوله الْوَزير عون على الْأُمُور وَشريك فِي التَّدْبِير وظهير على السياسة ومفزع عِنْد النَّازِلَة

الْفَائِدَة التَّاسِعَة قِيَامه بوظائف الْملك عِنْد استراحة السُّلْطَان من كد التَّعَب بهَا دَائِما فَفِي الأفلاطونيات وَزِير الْملك هُوَ الَّذِي يَخْدمه بالفضائل إِذا انْصَرف إِلَى نقيضها لاحتياج المملكة أَلا يغيب عَنْهَا الصَّوَاب وَحسن الرَّأْي فِي وَقت من الْأَوْقَات وَالْملك لَا يُطيق ذَلِك ولابد لَهُ من انْصِرَافه من جد إِلَى هزل وَمن تَعب إِلَى رَاحَة فاضطر إِلَى مؤازرته على المملكة بجد فِيهَا إِذا هزل ويفكر فِيهَا إِذا لهى لِئَلَّا يغيب عَنهُ نور الْعقل الْفَائِدَة السَّابِعَة إِشَارَته بِمُقْتَضى الرَّأْي وَافق غَرَض السُّلْطَان أَو خَالفه فَفِي الأفلاطونيات لَيْسَ يستخدم للْملك رَأْيه أجمع فِي مصلحَة المملكة غير وزيره فَإِنَّهُ يرِيه عواقب أُمُوره ويمانعه عَمَّا خَالف الصَّوَاب فِيهِ الْفَائِدَة الثَّامِنَة غناء الثِّقَة بِرَأْيهِ وراحة الْإِفْضَاء إِلَيْهِ بأسرار الْملك فيحكى أَن امْرَأَة أوصت ابْنهَا وَكَانَ ملكا فَقَالَت يَا بني يَنْبَغِي للْملك أَن يكون لَهُ سِتَّة أَشْيَاء جليلة وَزِير يَثِق بِرَأْيهِ ويفضي إِلَيْهِ بأسراره وحصن يلجأ إِلَيْهِ إِذا فزع وَسيف إِذا نَازل الأقران لم يخفي عَلَيْهِ أَن يخونه وذخيرة خَفِيفَة الْحمل إِذا نابته نائبة كَانَت مَعَه وَامْرَأَة إِذا دخلت عَلَيْهِ أذهبت همه وطباخ إِذا لم يشته طَعَاما صنع لَهُ طَعَاما يشتهيه الْفَائِدَة التَّاسِعَة ازدياد السُّلْطَان بِهِ عقلا وإدراكا فَفِي سياسة أرسطو يزْدَاد الْملك الحازم بِرَأْي وزرائه كَمَا يزْدَاد الْبَحْر بمواده من الْأَنْهَار وينال بالحزم والرأي مَالا ينَال بِالْقُوَّةِ والجند

المطلب الثالث

الْفَائِدَة الْعَاشِرَة جمال المملكة بِهِ زَائِدا على ضَرُورِيّ الْحَاجة عَلَيْهِ فقد كَانَ يُقَال حِيلَة الْمُلُوك وزينتهم وزرائهم وَفِي وَصِيَّة أرسطو للإسكندر أرع وزيرك أَكثر من مراعاتك لنَفسك وشاوره قليلك وكثيرك أدنه من مجلسك فَإِنَّهُ زينك فِي الملا وأنسك فِي الخلا وساترك فِي البأساء وَالضَّرَّاء الْمطلب الثَّالِث فِيمَا يجب لَهُ مُرَتبا على ذَلِك وَحَاصِله أَمْرَانِ أَحدهمَا مشورته فِي كثير من الْأَمر وقليله فقد تقدم آنِفا قَول أرسطو أرع وزيرك أَكثر من مراعاتك لنَفسك وشاوره فِي قليلك وكثيرك الثَّانِي مُوَافَقَته على إِمْضَاء مَا ظهر صَوَاب رَأْيه فِيهِ إِذْ الْمُخَالفَة وَالْحَالة هَذِه تَفْوِيت لمصْلحَة الرَّأْي وَنقض للغرض الْمَقْصُود بالوزارة وَلَا يخفي مَا فِي ذَلِك من الْفساد الْكَبِير الْتِفَات مشورة السُّلْطَان لوزيره لَا تَنْحَصِر فِي ضَرُورَة الِاحْتِيَاج لإشارته وَذَلِكَ لِأَن مُوجب الطّلب فِيهِ ثَلَاثَة أَحدهمَا تألف الْقُلُوب بهَا كَمَا فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قيل لَهُ {وشاورهم فِي الْأَمر} الثَّانِي امتحان عقل المستشار فِيمَا يُشِير بِهِ هَل يُوفي بِإِصَابَة الصَّوَاب أَو يقصر عَنهُ الثَّالِث عجز الْوُقُوف على الرَّأْي الْمُعْتَمد عَلَيْهِ فيستعان بالمشورة على الْوُصُول إِلَيْهِ وَكلهَا متصورة فِي السُّلْطَان مَعَ الْوَزير وَغَيره على مَا قَرَّرَهُ الْبَلْخِي وَغَيره وَهُوَ ظَاهر

الركن الثاني

الرُّكْن الثَّانِي إِقَامَة الشَّرِيعَة وَذَلِكَ لِأَن الْمَقْصُود بِالْحلقِ لَيْسَ الدُّنْيَا فَقَط لِأَنَّهَا من حَيْثُ فنائها عَبث وباطل وَهُوَ تَعَالَى يَقُول {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} وَقَالَ تَعَالَى وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا بل الدّين المفضي بهم إِلَى السَّعَادَة الآخروية وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} والشرائع هِيَ الْحمالَة لَهُم عَلَيْهِ حَتَّى فِي الْملك الطبيعي لِاجْتِمَاع الْإِنْسَان فَلَا جرم أجرته على نهجه ليمون الْعقل محوطا بنظرها وَأَيْضًا فقد تقدم أَن الْملك الديني مندرج فِي الْخلَافَة الَّتِي هِيَ نِيَابَة عَن الشَّارِع فِي حراسة الدّين وسياسة الدُّنْيَا بِهِ إِذا تقرر هَذَا فَهُنَا لتشييد هَذَا الرُّكْن الْعَظِيم ثَلَاثَة أصُول الأَصْل الأول فِيمَا يحمل عَن ذَلِك ويرغب فِيهِ وَيَكْفِي من ذَلِك ترغيبان التَّرْغِيب الأول أَنه دَلِيل أَنه دَلِيل على اسْتِحْقَاق الرياسة بِحَق فقد تقدم أَن من عَلامَة ملكهَا التنافس فِي خلال الْخَيْر وَلَا خير إِلَّا فِي إتباع الشَّرِيعَة كَمَا من هُنَاكَ من أَمْثِلَة وَفِي سياسة أرسطو أَي ملك أخدم ملكة دينية فَهُوَ مُسْتَحقّ فِي الرياسة وَأي ملك جعل دينه خَادِمًا لملكه فَهُوَ مستخف بناموسه وَمن استخف بالناموس قتلة الناموس وَفِي الأفلاطونيات فضل الْمُلُوك على مِقْدَار خدمتهم لشريعتهم ونقصهم على قدر إغفالهم لَهَا

التَّرْغِيب الثَّانِي أَنه الْكَفِيل بإرضاء الْخلق وإنزال الساخط مِنْهُم منزلَة الراضي قَالَ ابْن المقفع الْمُلُوك ثَلَاثَة ملك دين ملك حزم وَملك هوى فَأَما ملك الدّين فَإِنَّهُ إِذا أَقَامَ للرعية دينهم فَكَانَ دينهم هُوَ الَّذِي يعطيهم الَّذِي لَهُم وَيلْحق بهم الَّذِي عَلَيْهِم أرضاهم ذَلِك وَأنزل الساخط مِنْهُم منزلَة الراضي فِي الْإِقْرَار وَالتَّسْلِيم وَأما ملك الحزم فَإِنَّهُ تقوم بِهِ الْأُمُور وَلَا يسلم من الطعْن والسخط وَلنْ يضر طعن الذيل مَعَ حزم القوى وَأما ملك الْهَوَاء فلعب سَاعَة ودمار دهر تَمْثِيل قَالَ الْحُكَمَاء الْملك بَيت أسه الْإِيمَان وسقفه التَّقْوَى وأركانه الشَّرَائِع وفرشه الْعدْل وأستاره السّير المحمودة فَإِذا قعد فِيهِ الْملك ابتهجت بِهِ الدُّنْيَا وتألفت بِهِ النُّفُوس وعمرت بِهِ الْبِلَاد وَشَمل الصّلاح الْعباد الأَصْل الثَّانِي فِيمَا يكف عَن الْإِخْلَال بِهِ وَيَكْفِي من ذَلِك أَيْضا ترهيبان التَّرْهِيب الأول خشيَة سريان الْفساد بِهِ إِلَى سَائِر الطَّبَقَات قَالَ ابْن المقفع ليعلم الْملك أَن النَّاس على دينه إِلَّا أَنه من لَا يُبَالِي بِهِ

فَلْيَكُن للدّين والمرؤة عِنْده نفاق فسيكيد بذلك الْفُجُور والدناءة فِي آفَاق الأَرْض التَّرْهِيب الثَّانِي توقع زَوَال الْملك الأموية طبعا وَشرعا فَمن كَلَام أفلاطون إِذا تخلى الْملك عَن الدّين حاربته الشَّرِيعَة بأشخاصها وَلم تمهله إِلَّا بِمِقْدَار مَا يعد ملكا طبيعيا موعظة يرْوى أَن آخر الْمُلُوك الأموية بالمشرق لما هرب غلى النّوبَة سمع بِهِ ملكهَا فَجَاءَهُ وَقعد على الأَرْض فَقَالَ لَهُ إِلَّا تقعد على فراشنا فَقَالَ لَهُ النوبي لَا قَالَ وَلم قَالَ لِأَنِّي ملك وَحقّ على كل ملك أَن يتواضع لمر الله سُبْحَانَهُ إِذْ رَفعه ثمَّ قَالَ لَهُ وَلم تشربون الْخمر وَهِي مُحرمَة عَلَيْكُم وَلم تطأون الزَّرْع بدوابكم وَالْفساد محرم عَلَيْكُم وَلم تستعملون الذَّهَب وَالْفِضَّة وتلبسون الديباج وَهُوَ محرم عَلَيْكُم فَقَالَ لَهُ انتصرنا بِقوم من الْأَعَاجِم حِين قل أنصارنا وَلنَا عبيد وَاتِّبَاع فعلوا ذَلِك على كره منا فَأَطْرَقَ النوبي مَلِيًّا ثمَّ قَالَ لَيْسَ كَمَا ذكرت وَلَكِن أتتم قوم استحللتم مَا حرم الله عَلَيْكُم وظلمتم فِيمَا ملكتم فسلتكم الله الْعِزّ بذنوبكم وَالله فِيكُم نقمة لم تبلغ غايتها وأخاف أَن يُصِيبكُم الْعَذَاب وَأَنْتُم ببلدي فيصيبني مَعكُمْ وَإِنَّمَا الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام فتزودوا مَا احتجتم وَانْصَرفُوا عَن بلدي الأَصْل الثَّالِث فِي كليات مَا تحفظ بِهِ الشَّرِيعَة تشيدا لركن الْملك بِهِ وَهِي الضروريات الْخمس الْمُتَّفق على رعايتها فِي جَمِيع الشَّرَائِع الدّين وَالنَّفس وَالْعقل والنسل وَالْمَال لِأَن مصَالح الدّين وَالدُّنْيَا مَبْنِيَّة على الْمُحَافظَة عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَو انخرمت لم يبْق للدنيا وجود من حَيْثُ الْإِنْسَان الْمُكَلف وَلَا

تركيب

للآخرة من حَيْثُ مَا وعد بهَا فَلَو عدم الدّين عدم ترَتّب الْجَزَاء المرتجى وَلَو عدم الْإِنْسَان لعدم من يتدين وَلَو عدم الْعقل لارتفع التَّدْبِير وَلَو عدم النَّسْل لم يُمكن الْبَقَاء عَادَة وَلَو عدم المَال لم يبْق عَيْش تركيب إِذا عرفت هَذَا فَهُنَا بِحَسب القَوْل الْكُلِّي وظيفتان الْوَظِيفَة الأولى حفظهَا من جَانب الْوُجُود وأركانها ورعاية مكملاتها فالدين بِإِظْهَار شعائره وَبث الدعْوَة إِلَيْهِ بالترغيب والترهيب وَالنَّفس بِحِفْظ بقاءها بالمآكل والمشارب من دَاخل والملابس والمساكن من خَارج وَالْعقل يتَنَاوَل مَالا يعود عَلَيْهِ بسكر أَو فَسَاد والنسل بِإِقَامَة أَصله الْمَشْرُوع وَاجْتنَاب وَضعه فِي الْحَرَام وَالْمَال برعاية دُخُوله فِي الْملك أَولا وتثميره بعد ثَانِيًا الْوَظِيفَة الثَّانِيَة حفظهَا من جَانب الْعَدَم وَذَلِكَ يدْرك الْخلَل الْوَاقِع والمتوقع فِيهَا فالدين بجهاد الْكَافِر وَقتل الْمُرْتَد والزنديق وقمع الضال المبتدع وَالنَّفس بِالْقصاصِ وَالدية وَالْعقل بِالْحَدِّ فِي الْمَكْر وَالْأَدب فِي الْمُفْسد والنسل بِالْحَدِّ وتضمين قيم الْأَوْلَاد فِي الزِّنَا وَالْمَال بِالْقطعِ والتضمين تَنْبِيه من الْأُصُولِيِّينَ من الْحق بِهَذِهِ الْخَمْسَة سادسا وَهُوَ الْعرض وَعَلِيهِ بحفظه من جَانب الْوُجُود باعتقاد سَلَامَته عَن المطاعن والقوادح وَمن جَانب الْقدح بِالْحَدِّ فِي الْقَذْف وَاللّعان

الركن الثالث

الرُّكْن الثَّالِث إعداد الْجند وَقبل بَيَان مَا يَتَّضِح بِهِ تلخيصه فَهُنَا مقدمتان الْمُقدمَة الأولى قد سبقت إِشَارَة إِلَى أَن الْجند قد يعز بِهِ عَن العصبية المشترطة فِي حُصُول الْملك وَمَا توقف الْملك عَلَيْهِ فَلَا يخفى موقعه مِنْهُ وَمن ثمَّ قيل قد اتّفق حكماء الْعَرَب والعجم على هَذِه الْكَلِمَة الْملك بِنَاء والجند أساسه فَإِذا قوى الأساس تمّ الْبناء وَإِذا ضعف الأساس انهار الْبناء فَلَا سُلْطَان إِلَّا بجند وَفِي الشكل الدوري الَّذِي وَضعه أرسطو للإسكندر وَالْملك رَاع يعضده الْجَيْش وَسَيَأْتِي نَقله بتمامة فِي مَوضِع آخر إِن شَاءَ الله الْمُقدمَة الثَّانِيَة إِذا كَانَ من الْملك بِهَذِهِ الْمنزلَة فالعناية بِهِ لاشك متأكده لاسيما حَيْثُ الْجِهَاد والرباط كَمَا فِي وطننا الأندلس أيده الله بسيوف أجناده فَفِي العهود اليونانية اصرف أَكثر اهتمامك إِلَى تَقْوِيم الْمُقَاتلَة وَاسْتَوْفِ عَلَيْهِم شَرَائِط الْخدمَة ووفهم مَالهم من الْأُجْرَة الَّتِي فَرضهَا لَهُم الِاسْتِحْقَاق وَمن عهد عقدَة بعض الْمُلُوك لِابْنِهِ من إنْشَاء الْكتاب أبي الْحسن بن جودي الخول الخول والجند الْجند فَإِن الله تَعَالَى قد حمى بِهِ الْحَوْزَة وَجعله نكالا للباغي وبلاء لِلْعَدو وظهيرا وعماد للعز إِذا عرفت هَذَا فلتشييد الْملك بِهِ عنايات

الْعِنَايَة الأولى فِيمَا يتكفل بحفظه الْعَائِد نَفعه على الدولة وَذَلِكَ أُمُور أَحدهَا إنصافهم من مرتباتهم فقد قيل من أهم الْأُمُور الأنصاف لأرباب المرتبات من غير مطل إِذْ لابد من إعطائها فتعجيلها لحين وُجُوبهَا أحسن لِأَن تَأْخِيرهَا يحوجهم إِلَى المدينات فيضعفهم وتقل فَائِدَة الْعَطاء عِنْد التَّأْخِير الثَّانِي ملك قُلُوبهم بعد ذَلِك بِالْإِحْسَانِ الزَّائِد فَفِي العهود اليونانية وَأعلم أَنهم لَا يبذلون مهجهم إِلَّا لمن ملك قُلُوبهم بِالْإِحْسَانِ وحركاتهم بالتقويم وَلمن تثق بإشفاقه على من تخلفه بعْدهَا وترضى طَاعَته لمعادها فاستشعر هَذِه الْخِصَال فَإِنَّهَا تسبقك إِلَى المخاوف وَتَكون رِدَاء لَك من المكاره فَإِن لم تبلغ الْقَصْد من ذَلِك فَبسط الْوَجْه وَطيب الْكَلَام يقوم مقَامه قلت وَهُوَ المر الثَّالِث أَنكُمْ لن تسمعوا النَّاس بأموالكم فسعوهم ببسط الْوُجُوه وَحسن الْبشرَة وَقيل من أبلغ السياسة معرفَة أَمِير الْجَيْش منَازِل طَاعَة أَصْحَابه الثَّالِث استدعائه مجتمعهم بلين الْكَلِمَة وخفض الْجنَاح من طيب الْكَلَام ورد السَّلَام وَإِعْطَاء الْحق وَاسْتِعْمَال الصدْق فِي الْوَعْد والوعيد

الرَّابِع تفقدهم بِالنّظرِ فيهم إِثْبَاتًا وإسقاطا قَالَ الطرطوشي يَنْبَغِي للْملك أَن يتفقد جُنُوده كتفقد صَاحب الْبُسْتَان بستانه فِي قلع مَالا ينفع من العشب وَمَعَ ذَلِك يضر بالنبات النافع الْخَامِس تَمْكِين الرهبة فِي قُلُوبهم ليتم مَا يُرَاد مِنْهُم فَفِي سياسة ارسطو يجب أبن يكون عَلَيْهِم مِنْك رَقَبَة تبعثهم على مهابتك والتعظيم لَك السَّادِس اتخاذهم من أَجنَاس مُخْتَلفَة قَالُوا يسْتَحبّ للسُّلْطَان أَن يكون جنده أجناسا مُتَفَرِّقَة وقبائل شَتَّى بِحَيْثُ لَا يتهيأ لَهُم الِاتِّفَاق على رَأْي وَاحِد فِي الْخلاف والعداوة فان المرين جَمِيعًا يعودان عَلَيْهِ بالمضرة قلت هَذَا بعد اسْتِقْرَار الدولة واستغنائها بِمثل ذَلِك عَن العصبية الملتحمة كَمَا مر السَّابِع أَخذهم بِصَرْف مَا يفضل عَن عطائهم فِي زيهم وسلاحهم فَفِي العهود اليونانية لتسمح لأحد مِنْهُم بإغفال شَيْء من عدته وَليكن مَا فضل من نفقاتهم مصروفا إِلَى زيهم وسلاحهم والتزين فِي مراكبهم وغلمانهم الثَّامِن معرفَة مَالهم من حُقُوق الْخدمَة فقد قيل يجب على السُّلْطَان أَن يعرف لكل وَاحِد مِنْهُم حق نجدته ول ينسى لَهُ مَحْمُود أَفعاله وليعلمهم بالغرض الَّذِي يجرونَ إِلَيْهِ فِي خدمته وَالْقدر الَّذِي يسْتَحقُّونَ عَلَيْهِ من كرامته وَأَن لم يعلمهُمْ ذَلِك بِلِسَانِهِ أعلمهم إِيَّاه بعادته التَّاسِع حفظهم عَن مضرَّة من يرى نَفسه فَوق غنائه فينذر مِنْهُ مَا يعظم

بِهِ موقع ضَرَره فَفِي العهود اليونانية وَأحذر مِنْهُم من كَانَ عِنْده اكثر من موقعه فِي الدفاع عَنْك وَلم يستح من التزايد فِي ملابسه وَاقْتضى أَضْعَاف مَا أبلى وشكى البخس فِي يسير مَا يتَعَذَّر عَلَيْهِ وقايس بَين سيرة صَاحبه وسيرة أعدائه وَأظْهر الْكَرَاهَة لما هُوَ فِيهِ وَكَانَ التطوف والثقل غَالِبين عَلَيْهِ فانه من مواد الْفِتَن وَعقد الضلال الْعَاشِر إطعامهم فِي الأعياد والفصول فَفِي سياسة أرسطو وأطعمهم فِي الْفُصُول والأعياد فَإِن هَذَا عِنْدهم من أكْرم مَا تكرمهم بِهِ وتتحبب إِلَيْهِم من أَجله قلت وَشرط ذَلِك أَن سيلم من الْوُقُوع فِي الْبِدْعَة وَالْمُنكر المنهى عَنهُ وَلَا يخفى من أَيْن يدْخل ذَلِك على ذِي بَصِيرَة بالسنن الشرعيات الْعِنَايَة الثَّانِيَة فِيمَا يعرف بمداخل الْخلَل عَلَيْهِ ليتقى مِنْهَا وَهِي أَيْضا أُمُور أَحدهَا حبس مرتباتهم اتكالا على قَول الْمَنْصُور يَوْمًا لقواده صدق الْأَعرَابِي حَيْثُ يَقُول اجْمَعْ كلبك يتبعك فَإِن بَعضهم قَالَ لَهُ أَلا تخشى أَن يلوح لَهُ غَيْرك برغيف فيتبعه ويدعك قلت بل الْمَحْذُور فَوق ذَلِك كَمَا يرْوى إِن بعض الْأُمَرَاء كَانَ ظَالِما لرعيته فَأخذ أَمْوَالهم فعوتب فِي ذَلِك كَمَا فَقَالَ أجعَل كلبك يتبعك فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ فَمر بِهِ بعض الْحُكَمَاء فَقَالَ رُبمَا أكل الْكَلْب صَاحبه إِذا لم يجد شُعْبَة الثَّانِي توفير واجبهم أَو تقتيره قَالَ ابرويز لِابْنِهِ لَا توسع على جنودك فيستغنوا عَنْك وَلَا تضيق عَلَيْهِم فيضحوا بك أعطهم عَطاء

قصدا وامنعهم منعا جميلا ووسع عَلَيْهِم فِي الرخَاء وَلَا تسرف لَهُم فِي الْعَطاء الثَّالِث إِيثَار بَعضهم بِمَا لَا يَلِيق بِهِ وَلَا يسْتَحقّهُ بِعَمَلِهِ قَالُوا لِأَن ذَلِك مُفسد للمفضل والمفضل عَلَيْهِ فَالْأول لِثِقَتِهِ أَن ذَلِك بالهوى فيخاف انْتِقَاله عَنهُ وَالثَّانِي لَا عَلامَة أَن غَيره آثر مِنْهُ بِغَيْر اسْتِحْقَاق فيتكل على المصادفة وَترك الْجد الَّذِي ينَال بهَا الْمنزلَة وَقد قيل منع الْجَمِيع أرْضى للْجَمِيع الرَّابِع إذلالهم بِمَا يخْشَى بِهِ عاديتهم وفسادهم فَفِي السياسة لَا تمكنهم من الْقرب مِنْك عِنْد السَّلَام عَلَيْك وَلَا تجْعَل لَهُم سَبِيلا إِلَى مكالمتك جَهرا فَكيف سرا فَإِن هَذَا سَبَب إِلَى الانبساط عَلَيْك وَالِاسْتِخْفَاف بك وَرُبمَا كَانَ فِي ذَلِك الهلكة فِي الْغدر على مَا جرى لناسطوس الْملك وَغَيره قلت وانقلاب الخلفة ملكا مُوجب لاعتباره شرعا الْخَامِس تسليطهم على الرّعية بالعنف والتحامل فقد قيل لَا يُمكن أهل الْغناء مِنْهُم من التدلل عَلَيْهِ وَلَا من الإفتيات على رَعيته وليرضيهم رياضة تُؤدِّي بِكُل وَاحِد مِنْهُم إِلَى الْوُقُوف عِنْد حكمه والمبادرة إِلَى امْتِثَال أمره السَّادِس تقويتهم بإضعاف الرّعية قَالُوا إِذا قوي السُّلْطَان جنده بإضعاف رَعيته فَهُوَ مضيع لجنده متْلف لملكه وَكَذَا بِالْعَكْسِ فَلْيَكُن غَرَضه الْعدْل فِي سيرته وجبايته بَين جنده ورعيته السَّابِع إهمالهم عَن التدريب بالحركة فَفِي العهود قَومهمْ على الْمسير فِي بعوثك والتنقل فِي حروبك وَلَا توطن منسرا مِنْهُم بَلَدا من

بلدانك فيركن إِلَى الدعة ويستوطئ مهاد المعجزة ويختزله الإيثار للراحة وَكره إِلَيْهِم خدمَة الْعَاقِبَة فِي الْجدّة الثَّامِن اشتغالهم بِالتِّجَارَة وَكسب المستغلات فَفِيهَا وانعهم من المتجر والمستغلات وَمَا يتكسب بِهِ من لَا سلَاح لَهُ وَلَا قُوَّة مَعَه وَليكن اكتسابهم من الْجِهَاد عَن المملكة والإغارة على أعدائها فَإِنَّهُم كالجوارح الَّتِي يضر بهَا ويفسدها أَن تطعم مَا لم تصده قلت وَلَا بُد من رِعَايَة السياسة الشَّرْعِيَّة فِي ذَلِك وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله مَا فِي تِجَارَة السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ التَّاسِع تضييعهم فِي السّلم إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَيْهِم وَحِينَئِذٍ ينظر فيهم قَالُوا من أضاع الْجند فِي السّلم لم يجدهم فِي الْحَرْب وَلَا ينفع الْعَطاء عِنْد الْحَاجة فَإِنَّهُم يعلمُونَ أَن المَال إِلَى الإقلال عاطفة تَكْمِيل بِذكر حكايتين أَحدهمَا لبَيَان أَن الْجند هُوَ عُمْدَة الْملك وَأَن الْمَخْصُوص بسعادته يكيف لَهُ من حمل جنده مَا لم يخْطر لَهُ على بَال والأحرى لظُهُور خطأ من رجح توفير المَال على أعداد الْجند الْحِكَايَة الأولى ذكر أَن عماد الدولة أَبَا الْحسن عَليّ بن بويه اتّفقت لَهُ أَشْيَاء عَجِيبَة كَانَت سَببا لثبات ملكه مِنْهَا أَنه لما ملك شيراز فِي أول ملكه

اجْتمع أَصْحَابه وطالبوه بالأموال وَلم يكن عِنْده مَا يرضيهم بِهِ وأشرف أمره على الانحلال واغتم لذَلِك فَبَيْنَمَا هُوَ مفكر قد اسْتلْقى على ظَهره فِي مجْلِس قد خلى فِي للفكرة وَالتَّدْبِير إِذْ رأى حَيَّة قد خرجت من مَوضِع من سقف ذَلِك الْمجْلس وَدخلت موضعا آخر مِنْهُ فخاف أَن تسْقط عَلَيْهِ فَدَعَا الفراشين وَأمرهمْ بإحضار سلم وَأَن تخرج الْحَيَّة فَلَمَّا صعدوا وَبَحَثُوا عَن الْحَيَّة وجدوا ذَلِك السّقف يُفْضِي إِلَى غرفَة بَين سقفين فعرفوه ذَلِك فَأَمرهمْ بِفَتْحِهَا ففتحت فَوجدَ فِيهَا عدَّة صناديق من المَال والمصاغات قدر خَمْسمِائَة ألف دِينَار فَجعل المَال بَين يَدَيْهِ فسر بِهِ وأنفقه فِي رِجَاله وَثَبت أمره بعد أَن كَانَ قد أشفى على الانحلال وَمِنْهَا أَنه قطع ثيابًا وَسَأَلَ عَن خياط حاذق فوصف لَهُ الْخياط كَانَ لصَاحب الْبَلَد قبله فَأمر بإحضاره وَكَانَ أطرش فَوَقع بِبَالِهِ أَنه قد سعي بِهِ إِلَيْهِ فِي وَدِيعَة كَانَت عِنْده لصَاحبه وَأَنه طلبه لهَذَا السَّبَب فَلَمَّا خاطبه حلف أَنه لَيْسَ عِنْده إِلَّا اثْنَا عشر صندوقا لَا يدْرِي مَا فِيهَا فَعجب عماد الدولة من جَوَابه وَوجه مَعَه من حملهَا فَوجدَ فِيهَا أَمْوَالًا وثيابا فَكَانَت هَذِه الْأَشْيَاء من أقوى دَلَائِل سعادته الْحِكَايَة الثَّانِيَة فِي أَخْبَار بعض الْمُلُوك أَن وزيره أَشَارَ عَلَيْهِ بِجمع الْأَمْوَال واقتناء الْكُنُوز وَقَالَ إِن الرِّجَال وَإِن نفروا عَنْك الْيَوْم فَمَتَى احتجتهم وَعرضت عَلَيْهِم الْأَمْوَال تساقطوا عَلَيْك قَالَ لَهُ الْملك هَل لهَذَا من شَاهد قَالَ نعم هَل يحضر السَّاعَة ذُبَاب قَالَ لَا قَالَ فَأمر باحضار جَفْنَة فِيهَا عسل فَحَضَرت فتساقط عَلَيْهَا الذُّبَاب لوَقْتهَا فَاسْتَشَارَ السُّلْطَان بعض أَصْحَابه فَنَهَاهُ عَن ذَلِك وَقَالَ لَا تغير قُلُوب الرِّجَال فَلَيْسَ فِي

العناية الثالثة

كل وَقت أردتهم حَضَرُوا قَالَ هَل لذَلِك من دَلِيل قَالَ نعم إِذا أمسينا سأخبرك فَلَمَّا أظلم اللَّيْل قَالَ للْملك هَات الْجَفْنَة فَحَضَرت فَلم تظهر ذُبَابَة وَاحِدَة قلت وَإِذ هِيَ من ذَلِك أَن المَال الْمُرَجح على الرِّجَال لَا يبْقى هُوَ وَلَا مرجحه قيل كَانَ بعض الْمُلُوك يجمع الْأَمْوَال وَلَا يحفل بِالرِّجَالِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه أَن ضدك يتوعدك وكأنك بِهِ قدم عَلَيْك فاستعد الرِّجَال وانفق المَال عَلَيْهِم فَأومى إِلَى الصناديق الْمَوْضُوعَة عَهده وَقَالَ الرِّجَال فِي الصناديق فغزاة ضِدّه وَقَتله وَلم تسلم الصناديق وَلَا الْملك قَالَ الطرطوشي وَكَانَ رَأْيه فَاسِدا لِأَن يقيمهم لوقته ويجمعهم عِنْد حَاجته إِنَّمَا يكونُونَ أخيافا لَيْسَ فيهم غناء وَلَا عِنْدهم دفاع الْعِنَايَة الثَّالِثَة فِي اخْتِيَار قَائِم الْجند ورئيسه وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الطرطوشي الشَّأْن كل الشَّأْن فِي استجادة القواد وانتخاب المراء وَأَصْحَاب الْأَوْلَوِيَّة وَفِي العهود اليونانية وَرَأس عَلَيْهِم خيارهم وَذَوي النباهة فيهم الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أهم مَا يشْتَرط فِيهِ أَوْصَاف أَرْبَعَة

أَحدهَا الشجَاعَة قَالُوا أَسد يَقُود ألف ثَعْلَب خير من ثَعْلَب يَقُود ألف أَسد الثَّانِي الحزم قَالُوا الْقَائِد الحازم كالتاجر الحاذق أَن رأى ريحًا تجر وَإِلَّا تحفظ بِرَأْس مَاله وَلَا يطْلب الْغَنِيمَة حَتَّى يحرز السَّلامَة الثَّالِث حسن التَّدْبِير قَالُوا رَئِيس الْعَسْكَر أَن لم يكن شجاعا مديرا كَانَ على من مَعَه آفَة وَلمن لَيْسَ مَعَه عونا الرَّابِع السخاء فَفِي محَاسِن البلاغة لَا يصلح لقيادة الجيوش إِلَّا من اشْتهر بِحسن الْمُوَاسَاة للإتباع وسخاء النَّفس ببذل المَال الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة استحبوا فِيهِ بعد ذَلِك أَن يكون شريفا متواضعا ناصحا خَبِيرا بِالْحَرْبِ ممارسا لَهَا عَارِفًا بمواضع الفرص من غير تغرير لين الأكناف للجند مُقَومًا لَهُم على صَالح الْأَدَب مَانِعا لَهُم من العداء على الرّعية شاغلا لَهُم بِمَا يُرَاد بهم اعْتِبَار فِي الخليقة قَالُوا وَيَنْبَغِي للقائد الْعَظِيم القيادة أَن يكون فِيهِ عشرَة أَخْلَاق من أَخْلَاق الْبَهَائِم سخاوة الديك وتحنن الدَّجَاجَة وشجاعة الْأسد وَحَملَة الْخِنْزِير وروغان الثَّعْلَب وصبر الْكلاب على الْجرْح وحراسة الكركي وغارة الذِّئْب وَسمن تعرو وَهِي دويبة بخراسان تسمن على التَّعَب والشقاء الْعِنَايَة الرَّابِعَة فِي انتخاب كَاتبه قَالَ فِي السياسة ولابد لأجنادك

الركن الرابع

من كتاب حَازِم عَالم ثِقَة مأمول بَصِير بِالصِّفَاتِ نَافِذ فِي الفراسة عَالم بالفروسية لِئَلَّا يدْخل على الْجند دَاخِلَة فِي أعطياتهم فتفسد لذَلِك ضمائرهم وَمَتى اطَّلَعت على شَيْء من ذَلِك فَاطْرَحْهُ عَنْهُم واجمعهم لذَلِك فخيرا لَهُم أَنَّك إِنَّمَا اطَّلَعت على دَاخِلَة لَهُم تَضُرهُمْ لم تَرضهَا لَهُم فيهم وَيجب أَن يكون سمح الْخلق لين الْجَانِب سهل اللِّقَاء لَا يغيب وَلَا يشْتَغل بِغَيْر خدمَة أَحْوَالهم وتعهد أُمُورهم وحسم عللهم الرُّكْن الرَّابِع حفظ المَال وَهُوَ من أعظم مباني الْملك وقواعد أُصُوله فقد قَالَ المَال حصن السُّلْطَان ومادة الْملك وتكرار معنى قَوْلهم لَا مَال إِلَّا بجند وَلَا جند إِلَّا بِالْمَالِ إِذا عرفت هَذَا فَالْكَلَام فِيهِ يَدُور على قطبين القطب الأول مَا هُوَ النّظر فِيهِ من حَيْثُ طبيعة الْملك وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى فِي سَبَب كَثْرَة المَال وحاصلة أُمُور أَحدهَا وَهُوَ أَصْلهَا الْعَام كَثْرَة الْعمرَان الْمَحْفُوظ برعاية الْعدْل فقد قَالُوا المَال بالخراج وَالْخَرَاج بالعمارة والعمارة بِالْعَدْلِ وَسَيَأْتِي وَجهه إِن شَاءَ الله الثَّانِي وَهُوَ خَاص بِأول الدولة أَن جبايتها حِينَئِذٍ قَليلَة الوزائع كَثِيرَة الْجُمْلَة وَآخِرهَا بِالْعَكْسِ على مَا يذكر بعد إِن شَاءَ الله فالدينية

لضيقها عَن اتساع الوزائع والمتغلبة لبداوة أَولهَا تَتَجَافَى عَن الْأَمْوَال فتقل وزائعها كَذَلِك وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فتنبسط الْأَمْوَال فَبِي الْأَعْمَال الَّتِي بهَا كَثْرَة الْعمرَان الْمُفِيد لوفور مَال الجباية الثَّالِث وَهُوَ أَيْضا خَاص بالدولة القوية الأَصْل لِأَنَّهَا لتِلْك الْقُوَّة يجْتَمع لَهَا من المَال مَا هُوَ بنسبتها وَشَاهد ذَلِك أَثَره فِي الْعَطاء والاستعداد لَهُ وَهَؤُلَاء البرامكة كَانُوا إِذا أكسبوا معدما إِنَّمَا هُوَ الْملك وَالْولَايَة وَالنعْمَة آخر الدَّهْر لإعطاء الَّذِي يَسْتَفِيد يَوْم أَو بعض يَوْم وَهَذَا جَوْهَر الْكَاتِب قَائِد جيوش بني عبيد لما ارتحل إِلَى فتح مصر استعد من القيروان بِأَلف حمل من المَال قَالَ ابْن خلدون وَلَا تَنْتَهِي الْيَوْم دولة لمثل هَذَا الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي سَبَب نَقصه بعد الْكَثْرَة وحاصلة الْعُدُول عَن الْعدْل الَّذِي بِهِ كَثْرَة المَال ونماؤه وتلخيص بَسطه بِذكر آفَات مِنْهُ طبيعية تَكْفِي الْوَاحِدَة مِنْهَا فِي ذَلِك وَأولى إِذا اجْتمعت الآفة الأولى تَكْثِير الْوَظَائِف عِنْد ذهَاب بداوة الدولة لتعاقب مددها فِي ترف الْملك والعضوض واستحالة خلقهَا الساذج إِلَى الحضارة الحاملة على التَّوَسُّع فِي مَا وَرَاء الضروريات وَلَا تزَال مزيدا فِيهَا مِقْدَارًا بعد آخر لتدرج الدولة فِي عوائد الترف وَكَثْرَة الْإِنْفَاق بِسَبَبِهِ حَتَّى تثقل على الرّعية وتفرط فِي الْخُرُوج عَن الِاحْتِمَال فتذهب غبطتها فِي الاعتمار لعدم فَائِدَته إِذا قوبل مَا بَين نفعة ومغارمه وَبَين ثَمَرَته وَفَائِدَته وتنقبض أَيدي الْكثير عَنهُ فتنقص الجباية لَا محَالة

سوء تَدْبِير قَالَ ابْن خلدون وَرُبمَا يزِيدُونَ فِي مِقْدَار الْوَظَائِف إِذْ رَأَوْا ذَلِك النَّقْص ظنا مِنْهُم أَنه جبر لَهُم حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى غَايَة لَا نفع وَرَاءَهَا لِكَثْرَة الْإِنْفَاق حِينَئِذٍ فِي الاعتمار وَكَثْرَة المغارم وَعدم وَفَاء الْفَائِدَة الْمَوْجُودَة بِهِ فَلَا تزَال الجباية فِي نقص وَمِقْدَار الْوَظَائِف فِي زِيَادَة إِلَى أَن ينتقص الْعمرَان بذهاب الْأَمْوَال فِي الاعتمار وَيعود وبال ذَلِك على الدولة لِأَن فَائِدَته إِلَيْهَا ترجع الآفة الثَّانِيَة ضرب المكوس أَوَاخِر الدول وموجبه فِي الْأَكْثَر بعد تَضْعِيف الْوَظَائِف لما تقدم سَببه أُمُور أَرْبَعَة أَحدهمَا كَثْرَة نَفَقَة السُّلْطَان فِي خاصته لانغماسه فِي نعيم الترف وعوائد الحضارة الثَّانِي كَثْرَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي عَطاء الْجند أَو إِقَامَة أَرْبَاب الْوَاجِبَات وَسَائِر من ينزل بِهِ من عوارض الْملك وعوائد الدولة الثَّالِث كَثْرَة نَفَقَة أَرْبَاب الدولة لأخذهم بِمَا أَخذ السُّلْطَان فِي ذَلِك وسلوكهم على نهج مَا تقدمهم من المترفين الرّبع ضعف الحامية عَن جباية الْأَمْوَال من الْأَعْمَال القاصية لما أدْرك الدولة من الْهَرم فتقل الجباية بِمَجْمُوع ذَلِك وعَلى أَعْيَان السّلع فِي أَبْوَاب الْمَدِينَة تَعْرِيف قَالَ ابْن خلدون وَرُبمَا يزِيد ذَلِك فِي أَوَاخِر الدول زِيَادَة بَالِغَة فتكسد الْأَسْوَاق بِفساد الْأَمْوَال وتؤذن باختلال الْعمرَان وَلَا تزَال تتزايد إِلَى أَن تضمحل الدولة قَالَ وَقد كَانَ وَقع مِنْهُ بأمصار الْمشرق فِي أخريات الدولة العباسية

والعبيدية كثير وفرضت المغارم حَتَّى على الْحَاج فِي الْمَوْسِم وَأسْقط صَلَاح الدّين بن أَيُّوب ذَلِك كُله وأعضه بآثار الْخَيْر وَوَقع بالأندلس لعهد الطوائف حَتَّى محا رسمه يُوسُف بن تاشفين وبأمصار الجريد بإفريقية لهَذَا الْعَهْد حِين استبد بهَا رؤساؤها وَالله لطيف بعباده الآفة الثَّالِثَة تِجَارَة السُّلْطَان وَهِي من أعظم الْآفَات الْمضرَّة بالرعية الْمفْسدَة للجباية وَالْحَامِل عَلَيْهَا مَا تقدم من مُوجب نقص الجباية عَن الْوَفَاء بخارجها فَيقدم على استحداثها باكتساب الْحَيَوَان والنبات لاستغلاله وَشِرَاء البضائع المترصدة بهَا حِوَالَة الْأَسْوَاق ظنا مِنْهُم أَن بذلك يجْبر نقص الجباية وتستجلب الْفَوَائِد الْكَثِيرَة قَالَ ابْن خلدون وَهنا غلظ عَظِيم وَإِدْخَال الضَّرَر على الرعايا من وُجُوه مُتعَدِّدَة قلت وَمُلَخَّص مَا ذكر من ذَلِك أُمُور أَحدهَا مضايقة الفلاحين والتجار فِي شِرَاء الْحَيَوَان والبضائع إِذْ لَا يكَاد وَاجِد مِنْهُم يحصل على غَرَض من ذَلِك مَعَ مرافقة السُّلْطَان لَهُ إِذْ مَاله أعظم بِكَثِير وَيدخل عَلَيْهِ من الْغم مَا يضعف بِهِ أمله فِي الِاكْتِسَاب

الثَّانِي إِن السُّلْطَان قد ينْزع الْكثير من ذَلِك إِذا مَا تعرض لَهُ غصبا أَو بأيسر ثمن لفقد من ينافسه فيخس ثمنه على بَائِعه الثَّالِث أَن مَا يحصل لَهُ من مستغلات الفلاحة وبضائع التِّجَارَة لَا ينْتَظر بِهِ حِوَالَة الْأَسْوَاق لما تَدعُوهُ إِلَيْهِ تكاليف الدولة فيكلف التِّجَارَة والفلاحين شِرَاءَهُ بأرفع قيمَة ويستخلص بِهِ مَا عِنْدهم من الناض فَيبقى بِأَيْدِيهِم عرُوضا خامدة وسلعا بائرة الرَّابِع أَنهم وَالْحَالة هَذِه رُبمَا تدعوهم الضَّرُورَة فيبيعون تِلْكَ السّلع بأبخس ثمن لكساد سوقها وَرُبمَا يتَكَرَّر ذَلِك على التَّاجِر أَو الْفَلاح مِنْهُم حَتَّى يذهب رَأس مَاله ووبال المضايقة بِهِ عَائِد على الجباية بِالنَّقْصِ وَالْفساد فَإِن معظمها إِنَّمَا هُوَ من التاجرين والفلاحين لَا سِيمَا بعد وضع المكوس ونموها بالعوائد فَإِذا انقبض الْفَلاح عَن الفلاحة وَقعد التَّاجِر عَن التِّجَارَة دخلت الجباية جملَة أَو دَخلهَا النَّقْص المتفاحش مقاسة قَالَ ابْن خلدون فَإِذا قايس السُّلْطَان بَين مَا يحصل لَهُ من الجباية وَبَين هَذِه الأرباح القليلة وجدهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أقل من الْقَلِيل قلت وَالْعجب بعد ذَلِك من الْغَفْلَة عَن مُوجب الْعَمَل بِهِ الْخَامِسَة أَنه على تَقْدِير حُصُول الْفَائِدَة بِالتِّجَارَة فَيذْهب بهَا حَظّ عَظِيم من الجباية من جِهَة مَا يفوت من عِنْد المغرم عِنْدَمَا يكون غير السُّلْطَان هُوَ الَّذِي يعاني البيع وَالشِّرَاء تَحْصِيل لَا خَفَاء عِنْد ثبات هَذِه الْأُمُور أَن تِجَارَة السُّلْطَان تُؤدِّي إِلَى ضَرَر الرّعية وَفَسَاد الجباية وَأَنَّهَا تؤول بآخرة إِلَى خراب الْعمرَان ونفاذ الدولة

وَمن ثمَّ ورد النَّهْي عَنْهَا مُصَرحًا فِيهِ بإفضائها إِلَى هَذَا الْمَحْذُور فَمن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ أَنه كتب لبَعض عماله أَن تِجَارَة الْوُلَاة لَهُم مفْسدَة وللرعية مهلكة فامنع نَفسك وَمن قبلك عَن ذَلِك وَمن الْمُبَالغَة فِي ذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا اسْتِحْقَاق اللَّعْنَة وَهُوَ أعظم مَا يكون من الْوَعيد الثَّانِي الْإِنْذَار بِوُقُوع الْفساد بَين يَدي السَّاعَة وَهُوَ دَلِيل على عظم الْمُخَالفَة من حَيْثُ هُوَ وَاقع فِي أشر زمَان فَعَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ من أَشْرَاط السَّاعَة تِجَارَة السُّلْطَان مضاعفة فَسَاد قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد انْتهى الْحَال بالمنتحلين للتِّجَارَة والفلاحة من الْأُمَرَاء والمتغلبين أَنهم يعرضون لشراء الغلات والسلع من الواردين بهَا ويبيعونها فِي الْوَقْت لمن تَحت أَيْديهم من الرّعية بِمَا يفرضونه من الثّمن وَهَذِه أَشد من الأولى وَأقرب إِلَى الْفساد تحذير قَالَ وَرُبمَا يحمل السُّلْطَان على ذَلِك من يداخله من التُّجَّار والفلاحين ليضْرب مَعَه بِسَهْم لنَفسِهِ فَيحصل على غَرَضه من جمع المَال سَرِيعا إِذْ التِّجَارَة بِلَا مغرم تسرع بنمو المَال وتثمره وَلَا يلْتَفت مَعَ ذَلِك إِلَى مَا يدْخل على السُّلْطَان من تَقْصِير الجباية قَالَ فَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن يحذر من هَؤُلَاءِ ويعرض عَن سعايتهم الْمضرَّة لجبايته وسلطانه قلت لَا سِيمَا أَن ترفع عَن ذَلِك أَنَفَة من مُشَاركَة الرّعية فِي مهنة معالجة مَالا خطر لَهُ

حِكَايَة فِي ذَلِك ذكر الرشاطي أَن بعض وكلاء بن حَاتِم أَتَاهُ يَوْمًا فَقَالَ أعز الله الْأَمِير أَعْطَيْت بالْقَوْل الَّذِي زرعناه بفحص القيروان من المَال كَذَا وَكَذَا وَذكر مَالا كثيرا فَسكت عَنهُ ثمَّ أَمر ثمَّ أَمر قهرمانة وطباخه أَن يخرجَا إِلَى ذَلِك الْموضع وَأمر فراشيه أَن يضْربُوا الأخبية ويفرشوها ونادى فِي أَصْحَابه وَخرج وَنزل فِيهِ وَجلسَ كل قوم على مَرَاتِبهمْ وَجلسَ مَعَه خاصته ثمَّ دَعَا ذَلِك بالوكيل فَأمر بأدبه وَقَالَ يَا ابْن اللخنا أردْت أَن أعير بِالْبَصْرَةِ وَيُقَال يزِيد بن حَاتِم باقلاني أمثلي يَبِيع الفول لَا أم لَك ثمَّ نَادَى فِي أهل القيروان أَن بِالْخرُوجِ إِلَيْهِ بعده وأباحه لَهُم فَخرج النَّاس إِلَيْهِ من كل أَوب بَين آكل وشارب وناظر حَتَّى أَتَوا على جمعية مُوَافقَة حق قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد كَانَ الْفرس لَا يملكُونَ عَلَيْهِم إِلَّا من أهل بَيت

المملكة ثمَّ يختارونه من أهل الدّين وَالْفضل وَالْأَدب والشجاعة وَالْكَرم ثمَّ يشترطون عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك الْعدْل وَألا يتَّخذ ضَيْعَة فبضر بجيرانه وَلَا يتجر فيحب غلاء الأسعار فِي البضائع وَلَا يستخدم العبيد فأنهم لَا يَسِيرُونَ بِخَير وَلَا مصلحَة قلت وَبِذَلِك عمل خلفاء الْملَّة الإسلامية فقد روى عَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يكْتب إِلَى عماله بِمَنْعه وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَت لَهُ سفينة يحمل فِيهَا الطَّعَام وَهُوَ أَمِير الْمَدِينَة فيبيعه فِيهَا فنهان مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيّمَا وَال تجر فِي رَعيته فقد هَلَكت رَعيته قَالَ فَأمر بذلك الطَّعَام فَتصدق بِهِ وفككها وَتصدق بخشبها الآفة الرَّابِعَة نقص عَطاء السُّلْطَان وَوجه إخلاله بِمَال الجباية أَمر أَن أَحدهمَا أَن الدولة هِيَ السُّوق الْعظم للْعَالم والمادة الْمُتَّصِلَة لعمرانه فَإِذا احتجن السُّلْطَان المَال أَو فَقده قل مَا بيد الحامية وَانْقطع مأمنهم لإتباعهم فَقلت نفقاتهم الَّتِي هِيَ أكبر مَادَّة الْأَسْوَاق إذهم مُعظم السوَاد وَذَلِكَ مُوجب للكساد وَضعف أرباح المتاجر فتقل الجبايه لضعف مادتها وَيرجع وبال ذَلِك على الدولة من حَيْثُ قصد حسن النّظر لَهَا الثَّانِي أَن المَال مُتَرَدّد بَين الرّعية وَالسُّلْطَان وَهُوَ حِكْمَة إيجاده مِنْهُم إِلَيْهِ وَمِنْه إِلَيْهِم فَإِذا حَسبه السُّلْطَان فقدته الرّعية سنة الله فِي عباده الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي الْوَقْت الَّذِي تعظم فِيهِ ثروة السُّلْطَان وحاشية وَذَلِكَ فِي وسط الدولة لَا فِي مبدأ ظُهُورهَا وَلَا عِنْدَمَا يُدْرِكهَا الْهَرم فهما إِذا حالتان

الْحَالة الأولى حُصُول الثروة فِي وسط الدولة وَسَببه أَن صَاحبهَا حِينَئِذٍ تستفحل طبيعة ملكه ويستبد على قومه فَيقبض أَيْديهم عَن الجبايات إِلَّا مَا يصير لَهُم فِي جملَة النَّاس لقلَّة عنائهم إِذْ ذَلِك واستوائهم فبالدولة مَعَ الموَالِي والصنائع فينفرد بالجباية أَو معظمها ويحتجبها للمهمات فتكثر ثروته ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سَائِر قومه فيعظم حَال حَاشِيَته من وزراء وحجاب وَكتاب وموالي ويتسع حَالهم ويقتنون الْأَمْوَال ويتأثلونها الْحَالة الثَّانِيَة فَقده فِي مبدأ الدولة وعندما يُدْرِكهَا الْهَرم أما فِي الأولى فلوجهين أَحدهمَا أَن الجباية حِينَئِذٍ توزع على الْقَبَائِل وَذَوي العصبية بِمِقْدَار غنائهم وعصبيتهم الثَّانِي إِن رئيسهم لأجل الْحَاجة إِلَيْهِم فِي تمهيد الدولة يتجافى لَهُم عَمَّن يسمون إِلَيْهِ من الجباية فَلَا يصير لَهُ مِنْهَا إِلَّا الْأَقَل من حَاجته فحاشيته لذَلِك من وَزِير وَكَاتب وَمولى ومملقون غَالِبا وجاههم استمداده من جَاءَ مخدومهم المضائق بِمن يزاحمه فِيهِ ضَعِيف وَأما فِي الثَّانِي فلوجهين أَيْضا أَحدهمَا احْتِيَاج صَاحب الْأَمر إِذْ ذَاك إِلَى الأعوان وَالْأَنْصَار لِكَثْرَة الخارجين عَلَيْهِ من ثَائِر ومنازع فَيصْرف مُعظم الجباية عَلَيْهِم على قلتهَا فِي ذَلِك الْوَقْت كَمَا تقدم فيتقلص ظلّ النِّعْمَة عَن الْخَواص وَمن يليهم ويقل جاههم لضيق نطاقه عَن صَاحب الدولة الثَّانِي انْتِزَاعه عِنْد شدَّة احْتِيَاجه إِلَى المَال مَا يبد أَبنَاء البطانة والحاشية إِذْ يرى أَنه أولى بِهِ فيقتضيه مِنْهُم لنَفسِهِ شَيْئا فَشَيْئًا وواحدا بعد الْوَاحِد فيتلاشى مَا ورثوه من ذَلِك وتختل مباني الدولة بِفنَاء حاشيتها وَذَوي الثروة من بطانتها

اعْتِبَار قَالَ ابْن خلدون وَانْظُر مَا وَقع من ذَلِك لوزراء الدولة العباسية فِي بني قَحْطَبَةَ وَبني برمك وَبني سهل وَبني طَاهِر وأمثالهم فِي الدولة الأموية بالأندلس فِي بني شَهِيد وَبني أبي عُبَيْدَة وَبني حدير وَبني برد وأمثالهم قَالَ كَذَا فِي أول الدول الَّتِي أدركناها لعهدنا سِتَّة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا القطب الثَّانِي مَا هُوَ نظر من وجهة التَّصَرُّف فِيهِ على النهج الْمُعْتَبر شرعا وسياسة وَقبل ذَلِك فَمِنْهَا مقدمتان الْمُقدمَة الأولى فِي مداخلة الشَّرْعِيَّة ونعني بهَا مَالا يتَعَيَّن مصرفه فِي جِهَة وَهِي أَصْنَاف أَولهَا أَمْوَال التركات حَيْثُ لَا يَسْتَحِقهَا وَارِث معِين ثَانِيهَا الْجِزْيَة المعنوية والصلحية ثَالِثهَا خراج الأَرْض كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ بسواد الْعرَاق رَابِعهَا أَخْمَاس الْغَنَائِم دون زَائِد عَلَيْهَا خَامِسهَا عشر مَا يقدم بِهِ تجار المعاهدين وَأهل الذِّمَّة على شَرطه سادسها الموال الضائعة وَهِي الَّتِي لَا مَالك لَهَا سابعها خمس الرِّكَاز الْمُسلم لواجده أَرْبَعَة أَخْمَاس ثامنها مَا انجلى عَنهُ الْكفَّار دون قتال تاسعها أَمْوَال المستغرقي الذِّمَّة من الْوُلَاة وَغَيرهم الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي مدَاخِل السياسة وَالْمُعْتَبر مهنها شرعا على مَا قَرَّرَهُ الْغَزالِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ مَا وظف على الْأَمْوَال للضَّرُورَة الداعية إِلَيْهِ عِنْد خلو

بَيت المَال من الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي إِقَامَة الْمصَالح الَّتِي فِي اختلالها خراب النظام قَالَ الْغَزالِيّ وَإِنَّمَا لم ينْقل ذَلِك عَن الْأَوَّلين لاتساع بَيت المَال فِي زمانهم قَالَ وَهُوَ مِمَّا يعلم من مَقْصُود الشَّرْع قبل النّظر فِي الشواهد قَالَ الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو إِسْحَاق الشاطبي وَشرط ذَلِك عِنْدهم عَدَالَة الإِمَام وإيقاع التَّصَرُّف فِي أَخذ المَال وإعطائه على الْوَجْه الْمَشْرُوع قلت قد تمّ أَن تعذر عَدَالَة الإِمَام فِي أصل ولايتها يسْقط اعْتِبَارهَا وَكَذَا فِي هَذَا الْموضع وَإِلَّا لزم مَالا يخفى من مضاعفة الْمَحْذُور وَالْغَزالِيّ ممهد فِيمَن يشْهد بِاعْتِبَار ذَلِك كَمَا سبق النَّقْل عَنهُ

تركيب إِذا تقرر هَذَا فَمِنْهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى فِي وُجُوه مصارفه الْكُلية وَهِي جملَة أَحدهمَا المرتزقة من الْجند لما سبق أَنه لَا جند إِلَّا بِمَال فحقهم فِيهِ لابد مِنْهُ إِذْ هُوَ قوامهم الثَّانِي الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ لأَنهم حراس الدّين بِالدَّلِيلِ والبرهان كَمَا أَن الْجَيْش حراسه بِالسَّيْفِ والسنان قَالَ فِي الْأَحْيَاء وَيدخل مَعَهم المؤدبون وَطلب الْعلم الْمُتَعَلّق بمصالح الدّين لأَنهم إِن لم يكفوا لم يتمكنوا من الطّلب الثَّالِث محاويج الْخلق الَّذين قصرت بهم الضَّرُورَة عَن اكْتِسَاب قدر الْكِفَايَة الرَّابِع سَائِر الْمصَالح الْعَامَّة كأرزاق الْوُلَاة والقضاة والعمال والحساب وسد الثغور وَبِنَاء القناطر والمساجد والمدارس وَسَائِر الْمصَالح وَمَا فِي معنى ذَلِك فَائِدَة فِي تَنْبِيه المصاريف الْمعينَة الْجِهَة شرعا قد يدْخل بَعْضهَا على بعض على وَجه اسْتِيفَاء حق من فحش فِي جِهَة على مَا قَرَّرَهُ الشَّيْخ عز الدّين فِي أَخذ الْفُضَلَاء من الْجِزْيَة من غير تورع برعاية خلاف من عينهَا الْجند قَائِلا فِي تَوْجِيهه أَن الْجند قد أكلُوا من أَمْوَال الْمصَالح الْمُسْتَحقَّة للْعُلَمَاء وَغَيرهم مِمَّن يجب تَقْدِيم أَكْثَرهَا فَيُؤْخَذ من الْجِزْيَة مَا يكون قصاصا بِبَعْض مَا أَخَذُوهُ وأكلوه فَيصير كَمَسْأَلَة الظفر انْتهى الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي تعديد مَا يعْطى مِنْهُ أما أَرْبَاب الْوَاجِبَات فبقدر الْكِفَايَة الَّتِي يسْتَغْنى بهَا عَن التمَاس مَا يَنْقَطِع بِهِ عَن الْمصلحَة الَّتِي يقوم بهَا فَيعْتَبر من الْجند

قَالَ الْمَاوَرْدِيّ من ثَلَاثَة أوجه عدد مَا يعوله من ذُرِّيَّة ومملوك وَمَا يرتبطه من الْخَيل وَالظّهْر والموضع الَّذِي يجلبه فِي الغلاء والرخص قلت وَفِي غَيره بِنِسْبَة حَاله وَأَن من لَا مُرَتّب لَهُ فبقدر مَا يسد خلته أَو بِمَا فَوق ذَلِك بِحَسب الوسع وَالْحَال وَحَيْثُ يكون هُنَاكَ فضل وَقد قَالَ الْمَاوَرْدِيّ ينظر فِي إصْلَاح القناطر وتسهيل الطّرق وَقطع ثغراتها المخوفة وبنيان مَا تأمن بِهِ الْمَارَّة بهَا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي التبذير فِيهِ والتقتير وَكِلَاهُمَا مذمومان فالتبذير لإتلافه قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تبذر تبذيرا إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين} والتقتير لتَقْصِيره عَن الْوَاجِب وَصِحَّة الْإِنْصَاف بمصدره الَّذِي هُوَ الْبُخْل قَالَ أرسطو الْبُخْل بالجبلة اسْم لَا يَلِيق بالملوك وَلَا يقْتَرن بالمملكة وَحسن التَّدْبِير فِي ذَلِك وسط بَينهمَا وَإِن كَانَ الْعدْل ضيقا لما يرْوى رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ رجلا عَن عَطاء زِيَاد قَالَ يُعْطي حَتَّى يُقَال جواد وَيمْنَع حَتَّى يُقَال بخيل فَقَالَ إِن الْعدْل لضيق المسالة الرَّابِعَة فِي اعْتِبَار خرجه بدخله قَالَ فِي العهود اليونانية وَاعْلَم أَن حَاصِل المملكة إِذا كَانَ بازاء مؤونتها كَانَت السَّفِينَة فِي وسط الْبَحْر الَّتِي قد أحكم أمرهَا على هدوئه وَلم يُؤمن عَلَيْهَا الْغَرق فِي اهتياجه وَإِذا كَانَ حاصلها دون مَا يلْزم لَهَا حملت قَومهَا على قبح المماطلة وقسوة المحاجزة وَعدلت بهم عَن تَدْبِير أمرهَا إِلَى الْمُطَالبَة بالعاجل مِنْهَا وأخطرت بدمائهم وَأَمْوَالهمْ فِيهَا وَكَانَ مَا يجْرِي فِيهَا من سَعْيهمْ مُفْسِدا لأمرها فِي مُسْتَقْبل الْأَزْمِنَة وَهُوَ أقبح مَا يعرض فِي المهالك وَإِذا كَانَ حاصلها أَكثر فَمَا يلْزم لَهَا فَهُوَ أوضح صلاحا من أَن يحْتَاج إِلَى تَمْثِيل أَو تعديد لواحق

تَمْثِيل قَالَ وَقد كَانَ شبه مَا كَانَ حَاصله أَكثر مِمَّا يلْزم لَهُ بأجساد الْأَحْدَاث الَّتِي تُوجد بالنمو زَائِدَة على مَا كَانَت عَلَيْهِ وَمَا كَانَ حَاصله مكافئا لما يلْزم لَهُ بأجساد الكهول الَّتِي ارْتَفع مِنْهَا النمو وقارب صُورَة الانحلال فِيهَا وَمَا كَانَ حَاصله مقصرا عَمَّا يلْزمه بأجساد من هرم من الْمَشَايِخ فَإِن الانحلال مستول عَلَيْهَا والتماسك بعيد مِنْهَا قلت هم معنى قَول أفلاطون الدولة تشب وتكتهل وتخرف فَإِن كَانَ عائدها أَكثر مِمَّا يسْتَحقّهُ الْملك وَأَتْبَاعه فَهِيَ شَابة تنذر بطول الْبَقَاء وَإِذا كَانَ عائدها بِمِقْدَار مَا تحْتَاج إِلَيْهِ كَانَت مكتهلة وَإِذا كَانَ عائدها أقل مِمَّا تحْتَاج إِلَيْهِ فَهِيَ خرفة مولية الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي رِعَايَة الْمصلحَة فِيمَا يصرف إِلَيْهِ وتمثيل ذَلِك فِيهَا أَيْضا وَاعْلَم أَن إِنْفَاق الْأَمْوَال يحي موَات مَا انصرفت إِلَيْهِ ويعظم صغيره فَإِن كَانَ فِي عَائِد المملكة كَانَ كَالْمَاءِ المنصب إِلَى الْأَشْجَار المثمرة والمزارع الزاكية الَّتِي يخصب بمصلحتها الزَّمَان وتمرع الْبِلَاد وَإِن كَانَ فِي غير عائدها انبتت مَا يضر نَبَاته وَلَا ينفع ريعه وبسوقه فَكُن فِيهِ كالطيب الحاذق الَّذِي يضع الدَّوَاء حَيْثُ يكون الدَّاء يحسن فِيهِ أثرك ويطل بِهِ استمتاعك انْتهى

الركن الخامس

الرُّكْن الْخَامِس تَكْثِير الْعِمَارَة وَفِيه مقدمتان وَثَلَاثَة مَقَاصِد الْمُقدمَة الأولى اتّفق الْأَولونَ وَالْآخرُونَ من المتشرعين وعيرهم على اعْتِبَاره فِي مناني الْملك وشروط الِاجْتِمَاع الإنساني قَالَ ابْن حزم يَأْخُذ السُّلْطَان النَّاس بالعمارة وَكَثْرَة الْغِرَاس ويقطعهم الإقطاعات فِي الأَرْض الْموَات وَيجْعَل لكل أحد ملك مَا عمره ويعنيه على ذَلِك فِيهِ لترخص الأسعار بعيش النَّاس وَالْحَيَوَان ويعظم الْأجر وَيكثر الْأَغْنِيَاء وَمَا تجب فِيهِ الزَّكَاة قلت وتكرر عَن الْحُكَمَاء الْملك بالجند والجند - بِالْمَالِ وَالْمَال بالعمارة الْمُقدمَة الثَّانِيَة مُوجب هَذَا الِاعْتِبَار على مَا قرر ابْن خلدون أَن الدولة الْملك للعمران بِمَنْزِلَة الصُّورَة للمادة وَهُوَ الشكل الْحَافِظ لنوعه بِوُجُود وإنفكاك أَحدهمَا عَن الْأُخَر عير مُمكن على مَا تقرر فِي المحكمة فالدولة دون الْعمرَان لَا تتَصَوَّر والعمران دونهَا مُتَعَذر كَمَا تقدم وَحِينَئِذٍ فاحتلال أَحدهمَا مُسْتَلْزم لاختلال الآخر كَمَا أَن عَدمه مُؤثر فِي عَدمه تَعْرِيف قَالَ والخلل الْعَظِيم إِنَّمَا يكون من هلل الدولة الْكُلية كدولة الْفرس أَو الرّوم أَو الْعَرَب عُمُوما أَو بني أُميَّة أَو بَين الْعَبَّاس كَذَلِك وَأما الشخصية كدولة أنو شرْوَان وهرقل وَعبد الْملك بن مَرْوَان والرشيد فأشخاصها متعاقبة على الْعمرَان حافظة لوُجُود قريبَة الشّبَه بَعْضهَا من

بعض فر تُؤثر كثير اختلال وَالله قَادر على مَا يَشَاء إِ يَشَأْ يذهبكم وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد الْقَصْد الأول فِي بَيَان وفور المَال على الْجُمْلَة بِكَثْرَة الْعِمَارَة وَبِالْعَكْسِ وَذَلِكَ فِي موضِعين الْموضع الأول القطار لِأَن تعدد الْأَعْمَال بهَا الَّتِي هِيَ سَبَب الْكسْب مُقْتَض لحُصُول الثروة بِمَا يفضل عَنْهَا بعد الضروريات من الفضلة الزَّائِدَة وينشأ عَن ذَلِك شماخة الْملك بنمو الجباية وَصرف مَا يفضل مِنْهَا إِلَى اتِّخَاذ المعاقل والحصون واختطاط المدن والأقطار برهَان وجود قَالَ ابْن خلدون وَاعْتبر ذَلِك بأقطار الْمشرق كمصر وَالشَّام وعراق الْعَجم والهند والصين وناحية الشمَال كلهَا وَرَاء الْبَحْر الرُّومِي لما كثر عمرانها كثر مَالهَا وعظمت دولتها وتعددت مدنها وحواضرها قَالَ فَالَّذِي نشاهد من تجار الْأُمَم النَّصْرَانِيَّة الواردين على الْمُسلمين بالمغرب فِي الرفه واتساع الْأَحْوَال أَكثر من أَن يُحِيط بِهِ الْوَصْف وَكَذَا تجار أهل الْمشرق فِيمَا يبلغ عَنْهُم قَالَ وأبغ من ذَلِك أهل الْمشرق الْأَقْصَى من عراق الْعَجم والصين فَإِنَّهُ يبلغنَا عَنْهُم فِي بَاب الْغنى والرفه غرائب يسير بهَا الركْبَان وَرُبمَا تتلقى بالإنكار فِي غال لأمر انْتهى المُرَاد مِنْهُ الْموضع الثَّانِي الْأَمْصَار لذَلِك السَّبَب بِعَيْنِه وَعنهُ ترسخ فِيهَا عوائد الترف فِي التأنق فِي المساكن والملابس وإستجادة الْآنِية والماعون واتخاذ الخدم ولمراكب وكل ذَلِك مستدع لنفاق الْأَعْمَال والصنائع لموجب كسبها لمزيد كَثْرَة المَال ونمو الجباية بِسَبَبِهِ وبحسب تفَاوت

الْأَمْصَار فِي الْعمرَان يظهربون مَا بَين أَهلهَا فِي ذَلِك القَاضِي مَعَ القَاضِي والتاجر مَعَ التَّاجِر والصانع مَعَ الصَّانِع والسوقي مَعَ السوقي والأمير مَعَ الْأَمِير والشرطي مَعَ الشرطي تَصْدِيق وَاقع قَالَ ابْن خلدون وَاعْتبر ذَلِك فِي الْمغرب هُنَا بِحَال فاس ون غَيرهَا من أَمْصَار هـ فتجد بَينهمَا بونا كثيرا على الْجُمْلَة وَالْخُصُوص فحال القَاضِي بفاس أوسع من حَال القَاضِي بتلمسان وَكَذَا وَكَذَا كل صنف مَعَ صنفه وَاعْتبر ذَلِك حَتَّى فِي الْفُقَرَاء وَالسُّؤَال فَلَقَد شاهدتهم بفاس يسْأَلُون أَيَّام الْأَضَاحِي أَثمَان ضحاياهم وَكَثِيرًا من أَحْوَال الترف واقتراح المآكل وعلاج طبخها وَلَو سَأَلَ سَائل مثل هَذَا فِي غَيرهَا لعنف وزجر قَالَ وبلغنا لهَذَا الْعَهْد عَن أَحْوَالهم بِمصْر مَا يقْضِي مِنْهُ الْعجب حَتَّى أَن كثيرا من فُقَرَاء الْمغرب ينزعون إِلَى النقلَة إِلَيْهَا لما يبلغهم من ذَلِك شَاهد الْعَكْس حَيْثُ بقل الْعِمَارَة فَفِي الْموضع الأول فطر إفريقية وبرقة مثلا قَالَ لما تناقص عمرانها تلاشت أَحْوَال أَهلهَا وانتهوا إِلَى الْفقر والخصاصة وضعفت جبايتها وَقلت أَحْوَال دولها بعد أَن كَانَت دوَل الشِّيعَة وصنهاجة بهَا على مَا بلغك من الرفه وَكَثْرَة الجباية واتساع الْحَال فِي النَّفَقَة وَالعطَاء قَالَ وقطر الْمغرب وَإِن كَانَ فِي الْقَدِيم دون إفريقية فَلم يكن بِالْقَلِيلِ فِي ذَلِك لَا سِيمَا فِي دوَل الْمُوَحِّدين وَهُوَ لهَذَا الْعَهْد قد أقصر عَن ذَلِك التَّنَاقُض عمرانيا بعد أَن كَانَ مُتَّصِلا من الْبَحْر الرُّومِي إِلَى بِلَاد السودَان فِي طول مَا بَين السوس الْأَقْصَى وبرقة وَهِي الْيَوْم كلهَا أَو أَكثر قفار أَو صحارى إِلَّا مَا هُوَ بِسيف الْبَحْر أَو مَا يُقَارِبه من التلول وَالله وَارِث

الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين وَفِي الْموضع الثَّانِي الْأَمْصَار الصَّغِيرَة الَّتِي لَا تفي أَعمالهَا بضرورتها قَالَ فتجد لذَلِك أَهلهَا ضعفاء الْأَحْوَال متقاربين فِي الْفقر والخاصة إِلَّا فِي النَّادِر إِذْ لَا فضل لَهُم يتأثلون بِهِ كسبا الْمَقْصد الثَّانِي فِيمَا تحفظ بِهِ الْعِمَارَة وَذَلِكَ الْعدْل الَّذِي قَامَت بِهِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأُمَّهَات الْوَصِيَّة بِهِ أَمْرَانِ أَحدهمَا مُطلق الْعِمَارَة قَالُوا لَا جباية إِلَّا بعمارة وَلَا عمَارَة إِلَّا بِعدْل وَفِي السياسة بِالْعَدْلِ عمرت الأَرْض وَقَامَت الممالك الثَّانِي المزارعون يُقَال أَحْسنُوا إِلَى المزارعين فأنكم لم تزالوا سمانا مَا سمنوا تَنْبِيه قَالَ ابْن خلدون أقوى الْأَسْبَاب فِي الاعتمار تقليل مِقْدَار الْوَظَائِف على المعتمرين مَا أمكن فبذلك تنشط النُّفُوس إِلَيْهِ ليقينها بادراك الْمَنْفَعَة فِيهِ وَالله مَالك الْأُمُور تَمْثِيل فِي العهود اليونانية مَا حَاصِلَة أَنه منا لَا يحسن من مَالك دَار أَن يكون كَسبه من بيع أنقاضها كَذَلِك لَا يحسن من الْملك أَن يكون اكتسابه من تخريب بلدانه وَأخذ مَا ل رعينه ونصله قَول أبي مَنْصُور الثعالبي أَن الْملك إِذا كثرت أَمْوَاله بِمَا يَأْخُذ من رَعيته كَانَ كمن يعمر سطح بَيته بِمَا يقتلع من قَوَاعِد بُنْيَانه الْمَقْصد الثَّالِث فِيمَا يخل بِحِفْظ الْعِمَارَة وَهُوَ الظُّلم الْمُؤَذّن بخرابها وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى فِي حِكَايَة الموبذان فِي ذَلِك واعظا بهَا من خرج عَن

سنَن الْعدْل من مُلُوك الْفرس إِذْ كَانَ صَاحب الدّين عِنْدهم يضْرب بِهِ الْمثل فيذلك على لِسَان البوم حِين سمع الْملك أصواتها وَسَأَلَهُ عَن فهم كَلَامهَا فَقَالَ أَن بوما ذكرا يروم نِكَاح بوم أُنْثَى وَأَنَّهَا شرطت عَلَيْهِ عشْرين قَرْيَة من الخراب فِي أَيَّامه لتنوح فِيهَا فَقبل شَرطهَا وَقَالَ لَهَا إِن دَامَت أَيَّام الْملك أقطعتك ألف فِرْيَة وَهَذَا أسهل مرام فتنبيه الْملك من فقلته وهلا بالموذبان وَسَأَلَهُ عَن مُرَاده فَقَالَ لَهُ أَيهَا الْملك إِن الْملك لَا يتم عزه إِلَّا بالشريعة وَالْقِيَام لله بِطَاعَتِهِ وَالتَّصَرُّف تَحت أمره وَنَهْيه وَلَا قوام للشريعة إِلَّا بِالْملكِ وَلَا عز للْملك إِلَّا بِالرِّجَالِ وَلَا قوام للرِّجَال إِلَّا بِالْمَالِ وَلَا سَبِيل إِلَى المَال إِلَّا بالعمارة وَلَا سَبِيل للعمارة إِلَّا بِالْعَدْلِ وَالْعدْل الْمِيزَان الْمَنْصُوب بَين الخليقة نَصبه الرب وَجعل لَهُ قيمًا وَهُوَ الْملك وَأَنَّك أَيهَا الْملك عَمَدت إِلَى الضّيَاع فانتزعتها من أَرْبَابهَا وعمارها وهم أَرْبَاب الْخراج وَمن تُؤْخَذ مِنْهُم الْأَمْوَال وأقطعتها الْحَاشِيَة والخدم وأرباب البطالة فتركوا الْعِمَارَة وَالنَّظَر فِي العواقب وَمَا يصلح الضّيَاع وسومحوا فِي الْخراج لقربهم من الْملك وَوَقع الحبف على من بَقِي من أَرْبَاب الْخراج وعمار الضّيَاع فانجلوا عَن ضياعهم وخلوا دِيَارهمْ وآووا إِلَى مَا بعد أَو تعذر من الضّيَاع فسكنوها فَقلت الْعِمَارَة وهربت الضّيَاع وَقلت الْأَمْوَال وَهَلَكت الْجنُود والرعية وطمع فِي ملك فَارس الضّيَاع وَقلت الْأَمْوَال وَهَلَكت الْجنُود والرعية وطمع فِي ملك فَارس من جاورهم من الْمُلُوك لعلمهم بِانْقِطَاع الْموَاد الَّتِي لَا يَسْتَقِيم دعائم الْملك إِلَّا بهَا فَلَمَّا سمع الْملك ذَلِك أقبل على النّظر فِي ملكه وانتزعت الضّيَاع من أَيدي الْخَاصَّة وَردت إِلَى أَرْبَابهَا وَحملهَا على رسومهم السالفة وَأخذُوا بالعمارة وقوى من ضعف مِنْهُم فعمرت الأَرْض وأخصبت الْبِلَاد وَكَثُرت الموال عِنْد جباة الْخراج وقويت الْجنُود وَقطعت مواد الْأَعْدَاء

وأشحنت الثغور وَأَقْبل على مُبَاشرَة أمره بِنَفسِهِ فحسنت أَيَّامه وانتظم ملكه الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي وَجه افضاء الظُّلم لخراب الْعمرَان وَبَيَانه أَن وفوره إِنَّمَا هُوَ بالعمال العائدة بِفضل المكاسب النافقة الْأَسْوَاق والعدوان على النَّاس فِي أَمْوَالهم ذَاهِب بِأَمْوَالِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَعْمَال لمصير كستها بأيدي المنتهبين لَهُ وَعند ذَلِك يَقْعُدُونَ عَن المعاش وتنقبض أَيْديهم عَن المكاسب فتكسد أسواق الْعمرَان ويخف سَاكن قطره فِرَارًا عَنهُ لتَحْصِيل الوزق فِي غير أيالته فتخرب أمصاره وتقفر دياره وتختل بإخلاله الدولة وَالسُّلْطَان لما تقدم أه صورته فَيفْسد لفساد مادتها ضَرُورَة الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي أَن ذَلِك هُوَ الْحِكْمَة الْمَقْصُودَة للشارع فِي تَحْرِيم الظُّلم لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ من انْقِطَاع النَّوْع البشري وَهُوَ الْحِكْمَة الْعَامَّة والمراعاة لَهُ فِي جَمِيع مقاصده الضرورية على مَا سبق من همستها الْمُتَّفق على حفظهَا فِي الشَّرَائِع وَهِي الدّين النَّفس وَالْعقل والنسل وَالْمَال وَالْعرض على رَأْي وَلذَلِك كَانَ تَحْرِيمه أَي الظُّلم مهما وأدلته فِي الْكتاب والسنه لَا تخْتَص بِزَمَان قَالَ ابْن خلدون وَلَو قدر عَلَيْهِ كل أحد لوضع بازائه من الْعقُوبَة الزاجرة مَا وضع بازاء غَيره من المفسدات للنوع الْقَادِر علنها كل أحد كَالزِّنَا وَالْقَتْل وَالسكر لَكِن لما لم يقدر عَلَيْهِ إِلَّا من لَا يقدر على غَيره من ذَوي قدرَة أَو سُلْطَان بولغ فِي ذمَّة بتكرير الْوَعيد عَسى أَن يكون الْوَازِع فِيهِ للقادر عَلَيْهِ من نَفسه

{وَمَا رَبك بظلام للعبيد} لَا يُقَال قد وضعت الْعقُوبَة بازاء الْحِرَابَة وَهِي من ظلم الْقَادِر إِذْ الْمُحَارب فِي زَمَاننَا قَادر لأَنا نقُول الْعقُوبَة الْمَوْضُوعَة هِيَ بأزاء مَا يقترفه من جِنَايَته فِي نفس أَو مَال على مَا ذهب إِلَيْهِ كثير وَلم تكن إِلَّا بعد الْقُدْرَة عَلَيْهِ والمطالبة بِجِنَايَتِهِ وَنَفس الْحِرَابَة خلو من الْعقُوبَة وَأَيْضًا لَا نسلم وصف الْمُحَارب بِالْقُدْرَةِ لن الْمَعْنى بقدرة الظَّالِم الْيَد المبسوطة الَّتِي لَا نعارض وَهِي المؤذنة بالخراب وقدرة الْمُحَارب غايتها إخافة يتوسل بهَا إِلَى أَخذ المَال والمدافعة عَنْهَا بيد الْكل مَوْجُود شرعا وسياسة فَلَيْسَتْ من الْقُدْرَة المؤذنة بالخراب الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة فِي أَن نقص الْعمرَان لَا لظلم إِنَّمَا يَقع بالتدريج وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد يُوجد بالأمصار الْعَظِيمَة من أهل دولها وَلَا يَقع فِيهَا خراب وَسَببه من قبل الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين حَال الْمصر لعظمه واستبحار عمرانه لَا يظْهر فِيهِ من شُؤْم الظُّلم كَبِير أثر وَإِنَّمَا يظْهر بالتدريج بعد حِين وَقد تذْهب تِلْكَ الدولة الظالمة قبل خرابه وَيَجِيء غَيرهَا يجْبر مَا خفى من النَّقْص فَلَا يكَاد يشْعر بِهِ إِلَّا أَن ذَلِك نَادِر لِأَن حُصُوله فِي الْعمرَان عَن الاعتداء لابد مِنْهُ لما تقدم ووباله عَائِد على الدولة الله غَالب على أمره الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي المُرَاد بالظلم الْمُؤَذّن بالخراب وَذَلِكَ أَنه لَا يَعْنِي بِهِ أَخذ المَال أَو الْملك من غير عوض وَلَا سَبَب فَقَط على مَا هُوَ الْمَشْهُور لِأَنَّهُ أعلم من ذَلِك فَكل من أَخذ ملك أحد أَو غصبه فِي عمله أَو طَالبه بِغَيْر حَتَّى أَو فرض عَلَيْهِ مَا لم يفرضه الشَّارِع فقد ظلمه قَالَ ابْن خلدون فجباة الْأَمْوَال بِغَيْر حَقّهَا ظلمَة والممعتدون علنها

ظلمه والمنتهبون لَهَا ظلمَة والمانعون لحقوق النَّاس ظلمَة وغصاب الْملاك على الْعُمُوم ظلمَة ووبال ذَلِك عَائِد الدولة بخراب الْعمرَان الَّذِي هُوَ مادتها لذهاب الْأَمْوَال من أَهله الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي تَقْسِيم هَذَا الظُّلم وَهُوَ أَولا على ضبين الضَّرْب الأول مَا يَقع عِنْد خراب دفْعَة وانتقاض الدولة سَرِيعا وَهُوَ أَخذ أَمْوَال النَّاس مجَّانا والعدوان عَلَيْهِم فِي الْحرم والدماء والإبشار والإعراض لما ينشأ عَن ذَلِك من الْهَرج المفضي لذَلِك قلت فِي سياسة أرسطو لم يكن سَبَب خراب ملك هُنَا نيج إِلَّا أَن همتهم شفت على جباياهم فامتدوا إِلَى أَمْوَال النَّاس فَقَامَتْ الْجَمَاعَة عَلَيْهِم فَكَانَ فِي ذَلِك فَسَاد ملكهم قَالَ هَذَا أَمر لَازم لِأَن المَال عِلّة الْبَقَاء للنَّفس الحيوانية فَهُوَ جُزْء مِنْهَا وَلَا بَقَاء للنَّفس بِفساد الْجُزْء انْتهى الضَّرْب الثَّانِي مَا يَقع الخراب بالتدريج كَمَا سلف وَمن مراتبه الْوَاقِعَة ثَلَاث أَحدهَا ذرائعه المتوسل بهَا إِلَى أَخذ المَال كالوظائف الْبَاطِلَة والمكوس الْمُحرمَة وَهِي أدنى ظلما وعدوانا الثَّانِيَة وَهِي من أَشد أَنْوَاعه العائدة بِفساد الْعمرَان تَكْلِيف الْعمَّال وتسخير الرعايا بهَا لِأَنَّهَا من قبيل التمولات الَّتِي بهَا المعاش فَإِذا كلفوا عملا فيغير شَأْنهمْ وَاتَّخذُوا سخريا فبغير معاشهم أبطل كسبهم واغتصبوا

قيمَة عَمَلهم وَذهب معاشهم بِالْجُمْلَةِ وَأَن تكَرر عَلَيْهِم أفسد آمالهم فِي الْعِمَارَة وقعدوا عَن السَّعْي فِيهَا جملَة فتأدى إِلَى خرابها لامحالة الثَّالِثَة وَهِي أعظم من ذَلِك فِيمَا ذكر التسلط على النَّاس فِي شِرَاء مَا بِأَيْدِيهِم بأبخس ثمن ثمَّ فَرْضه عَلَيْهِم بأرفع قيمَة وَرُبمَا كَانَ الْفَرْض على التَّرَاخِي فيتعللون فبالخسارة بِمَا يطْمع فِيهِ من جبرها بحوالة السواق فيطالبون بِالْقيمَةِ مُعجلَة فيضطرون إِلَى البيع بأبخس الثّمن وَيعود خسارة مَا بَين الصفتين على رُؤُوس أَمْوَالهم تَعْمِيم فَسَاد قَالَ ابْن خلدون وَقد يعم ذَلِك تجار الْمَدِينَة وَمن يرد علنها من لآفاق وَسَائِر السوقة وَأهل الصَّنَائِع فتشمل الخسارة جَمِيع الطَّبَقَات وتجحف برؤوس أمولهم فيقعدون عَن السواق ويتناقل ذَلِك الواردون فَيقطع ترددهم وَعند ذَلِك يَقع الكساد وَيبْطل المعاش وتنقص الجباية وتفسد ويؤول إِلَى تلاشي الدولة وَفَسَاد عمرَان الْمَدِينَة الْمَسْأَلَة السَّابِعَة فِي أَن نِيَّة الظُّلم كَافِيَة فِي نقص بَرَكَات الْعِمَارَة فَعَن وهب بن مُنَبّه إِذا هم الْوَلِيّ بِالْعَدْلِ أَدخل الله البركات فِي أهل مَمْلَكَته حَتَّى فِي الْأَسْوَاق والأرزاق وَإِذا هم بالجور أَدخل الله النَّقْص فِي مَمْلَكَته حَتَّى فِي الْأَسْوَاق والأرزاق حكايات فِي تَصْدِيق ذَلِك وقوعا الْحِكَايَة الأولى قَالَ الطرطوشي من الْمَشْهُور فِي الْمغرب أَن السُّلْطَان بلغَة أَن امْرَأَة لَهَا حديقة فِيهَا الْقصب الحلو وَأَن قَصَبَة مِنْهَا تعصر قدحا فعزم على أَخذهَا مِنْهَا ثمَّ أَتَاهَا وسألها عَن ذَلِك فَقَالَت نعم ثمَّ أَنَّهَا عصرت قَصَبَة فَلم يبلغ نصف الْقدح فَقَالَ لَهَا أَيْن الَّذِي كَانَ يُقَال فَقَالَت هُوَ الَّذِي بلغك إِلَّا أَن يكون السُّلْطَان عزم على أَخذهَا مني فارتفعت

بركتها فَتَابَ السُّلْطَان وأخلص لله نِيَّته أَن لَا يَأْخُذهَا أبدا فعصرت قَصَبَة فَجَاءَت ملْء قدح قلت قَالَ ابْن رضوَان وَقد حكى مُحَمَّد بن عبد الْملك الْهَمدَانِي أَن واعظا دخل على أبي الْفَتْح ملك شاه بن البارسلان فوعظه بِمثل هَذِه الْحِكَايَة مَنْسُوبا إِلَى أحد الأكاسرة وَالله اعْلَم بِحَقِيقَة ذَلِك

الركن السادس

الْحِكَايَة الثَّانِيَة روى عَن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن ملكا خرج يسير فِي مَمْلَكَته مستخفيا بمكانه فَنزل على رجل لَهُ بقرة فراحت الْبَقَرَة فحلبت قدر قُلَّتَيْنِ فَعجب الْملك لذَلِك وَحدث نَفسه بأخذها فَلَمَّا راحت من الْغَد خلبت على النّصْف فَقَالَ الْملك مَا بَال حلابها قد نقص أرعت فِي غير مرعاها بالْأَمْس قَالَ لَا وَلَكِن أَظن أَن ملكناهم بأخذها فنقص لَبنهَا فَإِن الْملك إِذا ظلم أَو هم بالظلم ذهبت الْبركَة فعاهد الله فِي نَفسه فراحت من الْغَد فحلبت حلاب قُلَّتَيْنِ فَتَابَ الْملك وَعَاهد ربه لأعدلن مَا بقيت انْتهى قَالَ الطرطوشي وَهَكَذَا تتعدى سَائِر الْمُلُوك وعزائمهم ومكنون ضمائرهم إِلَى الرَّغْبَة أَن خيرا فَخير وَأَن شرا فشر الرُّكْن السَّادِس إِقَامَة الْعدْل وَهُوَ أساس مَا تقدم من الْأَركان وَقَاعِدَة مبناها وَقد سبق أَنه لَا عمَارَة إِلَّا بِالْعَدْلِ قَالُوا فَصَارَ الْعدْل أساس الْجَمِيع والشكل الدوري الَّذِي وَضعه ارسطو وَأعظم القَوْل فِيهِ شَاهد بذلك وَهُوَ قَوْله الْعَالم ستان سياجه الدولة الدولة سُلْطَان تحيا بِهِ النُّفُوس السّنة سياسة يسوسها الْملك الْملك نظام يعضده الْجند الْجند أعوان يكلفهم المَال المَال رزق تجمعه الرّعية الرّعية عبيد يكتنفهم الْعدْل الْعدْل مألوف وَبِه قوام الْعَالم الْعَالم بُسْتَان سياجه الدولة وَهُوَ هَكَذَا مُتَّصِل بعضه بِبَعْض ومرتبط بِهِ تركيب إِذا تقرر هَذَا فلتلخيص فِي الرُّكْن مسلكان

المسلك الأول فِي الْعدْل وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي فَوَائده الدِّينِيَّة وَهِي جملَة الْفَائِدَة الأولى الْمُسَابقَة بِهِ إِلَى الْمحبَّة من الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة فَفِي التِّرْمِذِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب النَّاس إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة وأدناهم مِنْهُ مَجْلِسا إِمَام عَادل وَأبْغض النَّاس إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة وأبعدهم مِنْهُ مَجْلِسا إِمَام جَائِر الْفَائِدَة الثَّانِيَة اسْتِحْقَاق التَّقَدُّم على من يظلهم الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَبْعَة يظلهم الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله إِمَام عَادل وشاب نَشأ فِي عبَادَة الله وَرجل مُعَلّق قلبه بالمساجد ورجلان تحابا فِي الله اجْتمعَا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ وَرجل دَعَتْهُ امْرَأَة ذَات منصب وجمال فَقَالَ لَا إِنِّي أَخَاف الله وَرجل ذكر الله خَالِيا فَفَاضَتْ عَيناهُ قَالَ الشَّيْخ عز الدّين بدأبه لعلو مرتبته الْفَائِدَة الثَّالِثَة اسْتِحْقَاق الْعُلُوّ بِهِ على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين فَفِي الصَّحِيح عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن المقسطين عِنْد الله تَعَالَى على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن وكلتا يَدَيْهِ يَمِين الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهلهم وَمَا ولدُوا الْفَائِدَة الرَّابِعَة إِجَابَة الدُّعَاء فَفِي التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة لَا ترد دعوتهم الصَّائِم حَتَّى يفْطر وَالْإِمَام الْعَادِل ودعوة الْمَظْلُوم يرفعها الله فَوق الْغَمَام وتفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء وَيَقُول الرب وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لأنصرنك وَلَو بعد حِين

الْفَائِدَة الْخَامِسَة ضَمَان الْجنَّة بِهِ فَفِي الصَّحِيح عَن حَمَّاد رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول أهل الْجنَّة ثَلَاثَة ذوسلطان مقسط وَرجل رَحِيم رَقِيق الْقلب لكل ذِي قربى مُسلم وعفيف متعفف ذُو عِيَال الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي مَصَالِحه الدُّنْيَوِيَّة وَهِي جملَة الْمصلحَة الأولى ظُهُور رُجْحَان الْعقل بِهِ قيل لبَعْضهِم من أرجح الْمُلُوك عقلا وأكملهم أدبا وفضلا قَالَ من صحب أَيَّامه بِالْعَدْلِ وتحرز جهده من الْجور وَلَقي النَّاس بالمجاملة وعاملهم بِالْمَسْأَلَة وَلم يُفَارق السياسة مَعَ لين فِي الحكم وصلابة فِي الْحق فَلَا يَأْمَن مَا الجريء بطشه وَلَا يُخَالف البريء سطوته الْمصلحَة الثَّانِيَة كَمَال النِّعْمَة الطائلة بِهِ قَالُوا إِذا رَأَيْت الْحُكَّام يتنافسون فِي الْعَدَالَة ويجتنبون الفسوق والجهالة فَتلك نعْمَة طائلة وَإِذا رَأَيْت الْجور فاشيا وَالْعدْل مطرحا مُنْكرا فَتلك نعْمَة زائلة قلت وَقد تقدم أَن التنافس فِي خلال الْخَيْر من عَلَامَات الترشح للْملك وَبِالْعَكْسِ الْمصلحَة الثَّالِثَة دوَام الْملك بِهِ فَفِي بعض الحكم أَحَق النَّاس بدوام الْملك وباتصال الْولَايَة أقسطهم بِالْعَدْلِ فِي الرّعية وأخفهم عَنْهَا كلا ومؤونة وَمن أمثالهم من جعل الْعدْل عدَّة طَالَتْ بِهِ الْمدَّة

طَلْحَة على عبد الْملك بن مَرْوَان وَكَانَ الْحجَّاج لما ولي الْحَرَمَيْنِ بعد قتل ابْن الزبير استحضر إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة فقربه وَأعظم مَنْزِلَته فَلم تزل تِلْكَ حَالَة حَتَّى خرج بِهِ إِلَى عبد الْملك فَخرج بِهِ مَعَه معادلا لَهُ لَا يقصر لَهُ فِي بر وَلَا إكرام حَتَّى حضر بَاب عبد الْملك فَلَمَّا دخل عيه لم يبْدَأ بِشَيْء بعد السَّلَام أَن قَالَ لَهُ قدمت عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بِرَجُل الْحجاز لم أدع لَهُ بهَا نظيرا فِي الْفضل وَالْأَدب والمروءة وَحسن الْمَذْهَب مَعَ قرَابَة الرَّحِم وَوُجُوب الْحق وَعظم قدر الْأُخوة وَمَا بلوت مِنْهُ فِي الطَّاعَة والنصيحة وَحسن المؤازرة وَهُوَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة وَقد أحضرته ببابك ليسهل عَلَيْهِ إذنك وتعرف لَهُ مَا عرفتك قَالَ أذكرتنا رحما قريبَة وَحقا وَاجِبا يَا غُلَام أيأذن لَهُ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ أدناه حَتَّى أجلسه على فرَاشه ثمَّ قَالَ لَهُ يَا ابْن طَلْحَة إِن أَبَا مُحَمَّد أذكرنا مَا لم نزل نعرفك بِهِ من الْفضل وَالْأَدب وَحسن الْمَذْهَب مَعَ قرَابَة الرَّحِم وَوُجُوب الْحق وَعظم قدر الْأُخوة وبلاده مِنْك بِالطَّاعَةِ وَحسن المؤازرة فَلَا تدعن حَاجَة فِي خاصتك وعامتك إِلَّا ذكرتها فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أولى الْحَوَائِج وأحق مَا قدم بَين يَدي الإِمَام مَا كَانَ لله رضى ولخق نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَدَاء وَلَك فِيهِ ولجماعة الْمُسلمين نصيحة وَعِنْدِي نصيحة لَا أجد بدا من ذكرهَا وَلَا أقدر على ذَلِك وَلَا أَنا خَال فأخلني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ترد عَلَيْك نصيحتي قَالَ دون أبي مُحَمَّد قَالَ دون أبي مُحَمَّد فَقَالَ عبد الْملك للحجاج قُم فَلَمَّا تخطرف السّتْر أقبل عَليّ فَقَالَ يَا ابْن طَلْحَة قل نصيحتك قلت تالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك عَمَدت إِلَى الْحجَّاج فِي تغطرسه وتعجرفه وعده من الْحق وقربه من الْبَاطِل فوليته الْحَرَمَيْنِ وهما هما وَبِهِمَا من بهما من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار والموالي البررة الأخيار يطأهم بالعسف ويسومهم

الْمصلحَة الرَّابِعَة ملك سرائر الرّعية بِهِ فَعَن أفلاطون من قَامَ من الْمُلُوك بِالْعَدْلِ وَالْحق ملك سرائر رعاياه وَمن قَامَ فيهم بالجور والقهر لم يملك إِلَّا الأجساد وَلم يرى إِلَّا المتصنع والقلوب عيه مُخْتَلفَة فَإِن السرائر تطلب من يملكهَا بِالْإِحْسَانِ الْمصلحَة الْخَامِسَة قِيَامه فِي الأَرْض مقَام الْمَطَر الوابل بل هُوَ أَنْفَع فَمن كَلَامهم سُلْطَان عَادل خير من مطر وابل وَقَالُوا عدل السُّلْطَان خير من خصب الزَّمَان وَفِي بعض الحكم مَا أَمْحَلت أَرض سَالَ عدل السُّلْطَان فِيهَا وَلَا محيت بقْعَة فَاء ظله عَلَيْهَا المسلك الثَّانِي نقيضه وَهُوَ الْجور وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي وعيده الديني والوارد مِنْهُ جملَة الْوَعيد الأول شدَّة الْعَذَاب عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة فَفِي رِوَايَة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة إِمَام جَائِر قلت وَعَن هَذَا قَالَ طَاوُوس لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك هَل تَدْرِي من أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة من أشركه الله فِي ملكه فجار فِي حكمه فاستلقى سُلَيْمَان على سَرِيره فَمَا زَالَ باكيا حَتَّى قَامَ جُلَسَاؤُهُ

الْوَعيد الثَّانِي رَجْفَة الصِّرَاط بِأَصْحَابِهِ فَعَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ مَا أَنا مثن على وَال خيرا جائرهم وعادلهم فَقيل لَهُ لم فَقَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يُؤْتى بالولاة يَوْم الْقِيَامَة جائرهم وعادلهم فيوقفون على الصِّرَاط فَيُوحِي الله تَعَالَى إِلَى الصِّرَاط فيرجف بهم رَجْفَة لَا يبْقى مِنْهُم جَائِر فِي حكمه وَلَا مرتش فِي قَضَائِهِ وَلَا مُمكن سَمعه لأحد الْخَصْمَيْنِ مَا لم يكن للْآخر إِلَّا مَا زلت قدماه سبعين عَاما فِي جَهَنَّم الْوَعيد الثَّالِث مَجِيء مقترف الْإِثْم بِهِ وَيَده مغلولة إِلَى عُنُقه فَعَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ مَا من رجل يَلِي أَمر عشرَة فَمَا فَوق ذَلِك إِلَّا أَتَى الله يَوْم الْقِيَامَة يَده إِلَى عُنُقه فكه بره أَو أوثقه إثمه أَولهَا ملامة وأوسطها ندامة وَآخِرهَا خزي يَوْم الْقِيَامَة الْوَعيد الرَّابِع التَّعَرُّض بِهِ للعنة الله وسد بَاب الْقبُول دونه فَعَن أبن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْأَئِمَّة من قُرَيْش مَا قَامُوا فِيكُم بِثَلَاث مَا إِن استرحموا رحموا ومت أَن حكمُوا عدلوا وَمن أَن قَالُوا أَوْفوا وَمن لم يفعل ذَلِك فعيه لعنة الله وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا يقبل الله مِنْهُ صرفا وَلَا عدلا الْوَعيد الْخَامِس حرمَان شَفَاعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشؤمه

فَعَن معقل بن يسَار رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلَانِ من أمتِي لَا تنالهم شَفَاعَتِي إِمَام ظلوم غشوم وغال فِي الدّين مارق مِنْهُ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي مفاسده الدُّنْيَوِيَّة وَهِي جملَة الْمفْسدَة الأولى فَوَات الطَّاعَة والمحبة فَعَن أزدشير إِذا رغب الْملك عَن الْعدْل رغبت الرّعية عَن الطَّاعَة فَفِي العهود اليونانية وَاعْلَم أَن الطَّاعَة تنقاد المقهر وان الْمحبَّة لَا تنقاد إِلَّا للعدل فغلب الْعدْل على رعيتك تظفر مِنْهُم بالمحبة الْبَاقِيَة بعدلك الْمفْسدَة الثَّانِيَة فنَاء الْكَرَامَة بِسَبَبِهِ ودثورها فَفِي العهود اليونانية وَاعْلَم أَن كَرَامَة الْخَوْف دَائِرَة وكرامة الْعدْل بَاقِيَة فاختر لنَفسك فَضِيلَة الْعدْل وَبَقَاء الْكَرَامَة الْمفْسدَة الثَّالِثَة تَقْصِير مُدَّة الْملك وَالسُّلْطَان فَفِي الأفلاطونيات زمَان الجائر من الْمُلُوك أقصر من زمَان الْعَادِل لِأَن الجائر مُفسد والعادل مصلح وإفساد الشَّيْء أسْرع من إِصْلَاحه وَمن كَلَامهم سِتَّة أَشْيَاء لَا ثبات لَهَا ظلّ الْغَمَام وخلة الأشرار وعشق النِّسَاء وَالثنَاء الْكَاذِب وَالسُّلْطَان الجائر وَالْمَال الْكثير الْمفْسدَة الرَّابِعَة شدَّة الْخَوْف بِسَبَبِهِ وَبِالْعَكْسِ بِالْعَدْلِ كَمَا يرْوى عَن يزدجر آخر مُلُوك الْفرس أَنه بعث رَسُولا إِلَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَأمره أَن ينظر فِي شمائله فَلَمَّا دخل الْمَدِينَة قَالَ أَيْن ملككم قَالُوا

لَيْسَ لنا ملك وَإِنَّمَا لنا أَمِير خرج فَخرج الرجل فِي إثره فَوَجَدَهُ نَائِما فِي الشَّمْس ودرته تَحت رَأسه قد عرق جَبينه حَتَّى ابتلت مِنْهُ الأَرْض فَلَمَّا رَآهُ على حَالَته قَالَ عدلت فأمنت فَنمت وصاحبنا جَار فخاف فسهر أشهد أَن الدّين دينكُمْ وَلَوْلَا أَنِّي رَسُول لأسلمت وسأعود إِن شَاءَ الله الْمفْسدَة الْخَامِسَة ذهَاب الرزق بشؤمه برا وبحر حكى الطرطوشي أَنه كَانَ بصعيد مصر نَخْلَة تحمل عشرَة أرادب وَلم يكن فِي الزَّمَان نَخْلَة تحمل نصف ذَلِك فغصبها السُّلْطَان فَلم تحمل ثَمَرَة وَاحِدَة فِي ذَلِك الْعَام قَالَ وَشهِدت أَنا بالإسكندرية وَالصَّيْد فِي الخليج مُطلق للرعية والسمك فِيهِ يغلي المَاء بِكَثْرَة ويصيده الْأَطْفَال بالخرق ثمَّ حجره السُّلْطَان وَمنع النَّاس من صَيْده فَذهب السّمك مِنْهُ حَتَّى لَا يكَاد يُوجد فِيهِ إِلَّا وَاحِدَة بعد وَاحِدَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا قلت وَقد سبق أَن الْبركَة ترْتَفع بِمُجَرَّد نِيَّة الظُّلم فَكيف بِهِ الْفِعْل تَنْبِيه يجب على الرّعية مُلَاحظَة أَن جور السُّلْطَان وعماله نتيجة أَعمالهَا الْحَائِل عَن نهج الصِّرَاط السوي لما سبق من تَقْرِير مَدْلُول قَوْلهم كَمَا تَكُونُوا يُولى عَلَيْكُم وَبِذَلِك أجَاب ابْن الجزار السَّرقسْطِي عَن المستعين بن هود وَقد تشكى إِلَيْهِ بعض رعاياه من بعض عماله (نسبتم الْجور لعمالكم ... ونمتم عَن سوء أعالكم) (لَا تنسبوا الْجور إِلَيْهِم فَمَا ... عمالكم إِلَّا بأعمالكم) (تا لله لَو ملكتم سَاعَة ... لم يخْطر الْعدْل على بالكم)

الركن السابع

تَكْمِلَة من جمع بَين الْعدْل والجور فِي ولَايَة هَل يقوم عدله بجوره أم لَا قَالَ الشَّيْخ عز الدّين مَا فَوت من المَال مَضْمُون عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَإِن أَدَّاهُ بَرِئت ذمَّته مِنْهُ وَبَقِي عُهْدَة إِثْم الْحَيْلُولَة وَإِن لم يؤده أَخذ فِي الْآخِرَة من حَسَنَاته فَإِن فنيت طرح عَلَيْهِ من سيئات من ظلم ثمَّ طرح فِي النَّار قَالَ وَكَذَا فِي الدِّمَاء والأبضاع والأعراض وَفِيمَا أخر من الْحُقُوق الْوَاجِب تَقْدِيمهَا أَو قدم مِمَّا يجب تَأْخِيره من ذَلِك لقد قَالَ رب الْعَالمين {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل أَتَيْنَا بهَا وَكفى بِنَا حاسبين} الرُّكْن السَّابِع تَوْلِيَة الخطط الدِّينِيَّة قد تقدم أَن حَقِيقَة الْخلَافَة نِيَابَة عَن الشَّارِع فِي حفظ الدّين وسياسة الدُّنْيَا بِهِ وَأَن الْملك مندرج فِيهَا وتابع للقصد بهَا وَعمد ذَلِك فتمام الْقيام بِهِ إتباعا لقاصد الْخلَافَة مَا أمكن مُتَوَقف على تَوْلِيَة خططها من يقوم بهَا على التَّعْيِين لتعذر وَفَاء السُّلْطَان بهَا مُبَاشرَة وَأُمَّهَات مَا يذكر مِنْهَا جملَة الخطة الأولى إِمَامَة الصَّلَاة وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن خلدون هِيَ أرفع الخطط كلهَا وَأَرْفَع من الْملك بِخُصُوصِهِ المندرج مَعهَا تَحت الْخلَافَة

قَالَ وَيشْهد لذَلِك اسْتِدْلَال الصَّحَابَة باستخلاف أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّلَاة على استخلافه فِي السياسة فِي قَوْلهم ارْتَضَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لديننا أَفلا نرضاه لدنيانا فلولا أَن الصَّلَاة أرفع من السياسة لما صَحَّ الْقيَاس قلت قَالَ الْقَرَافِيّ لَا يلْزم من التَّقْدِيم فِي الصَّلَاة من حَيْثُ هُوَ تَقْدِيم فِيهَا التَّقْدِيم فِي الْأَمَانَة الْعُظْمَى لاشتمالها على سياسة الْأمة وَمَعْرِفَة معاقد الشَّرِيعَة وَضبط الجيوش وَذكر من هَذَا مَا هُوَ من وظائفها ثمَّ أجَاب عَن اسْتِدْلَال الصَّحَابَة بِوُجُوه مِنْهَا أَن الْقَصْد بذلك تسكين الثائرة وردع الْأَهْوَاء بِحجَّة ظَاهِرَة يسكن لَهَا أَكثر النَّاس ليندفع الْفساد الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وَهِي من أثر اعْتِقَاد رفعتها أَن الْجُمْلَة من الْأَوَّلين إِلَى انْقِرَاض الدولة الأموية كَانُوا لَا يستخلفون فِيهَا غَيرهم بل يباشرونها بِأَنْفسِهِم استيثارا بهَا واستعظاما لرتبتها فيحكى عَن عبد الْملك أَنه قَالَ لحاجبه وَقد جعلت حجاية بِأبي بِيَدِك إِلَّا عَن ثَلَاثَة صَاحب الطَّعَام فَإِنَّهُ يفْسد بِالتَّأْخِيرِ وَالْإِذْن للصَّلَاة فَإِنَّهُ دَاع إِلَى الله والبريد فان فِي تَأْخِيره فَسَاد القاصية تَعْرِيف قَالَ ابْن خلدون فَلَمَّا جَاءَت طبيعة الْملك وعوارضه من الغلظة والترفع عَن مُسَاوَاة النَّاس فِي دينهم ودنياهم استنابوا فِي الصَّلَاة فَكَانُوا يستأثرون بهَا فِي الأحيان وَفِي الصَّلَوَات الْعَامَّة كالعيدين وَالْجُمُعَة اشادة وتنويها فعل ذَلِك كثير من خلفاء بني الْعَبَّاس والعبيديين صدر دولتهم قلت قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ هِيَ أصل فِي نَفسهَا وَفرع للإمارة وَلَكِن لما فسد الْوُلَاة وَلم يكن فيهم من ترْضى حَالَته للْإِمَامَة بقيت الْولَايَة

فِي يَده بِحكم الْغَلَبَة وَقدم للصَّلَاة من ترْضى حَالَته سياسته مِنْهُم للنَّاس وإبقاء عَلَيْهِم فقد كَانَ بَنو أُميَّة حِين كَانُوا يصلونَ بِالنَّاسِ فَيخرج أهل الْفضل من الصَّلَاة خَلفهم وَيخرجُونَ على الْأَبْوَاب فتأخذهم سياط الحرس فيصبرون لَهَا حَتَّى يَفروا بِأَنْفسِهِم عَم الْمَسْجِد قَالَ وَهَذَا لَا يلْزم بل يصلى مَعَهم وَفِي الْإِعَادَة خلاف قلت وَمَعَ هَذَا فالترفع عَن الْمُسَاوَاة بهَا لَا يُنكر كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أبن خلدون الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة الْمَسْجِد أعظم بِكَثْرَة غاشيته وإعداده للصلوت الْمَشْهُورَة فإمامته رَاجِعَة إِلَى الْخَلِيفَة أَو الْخَلِيفَة أَو من يُفَوض إِلَيْهِ من سُلْطَان أَو وَزِير أَو قَاض فِي الْخَمِيس وَالْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ والخسوفين وَالِاسْتِسْقَاء لِئَلَّا يفتات عَلَيْهِ شَيْء من النّظر فِي الْمصَالح الْعَامَّة وَأَن اخبص بِقوم أَو محلّة فَأمرهَا رَاجع إِلَى الْجِيرَان قلت وَيبقى بعد ذَلِك تفقدهم فِي إلزامهم إِقَامَته واختبار صلاحيته لذَلِك الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ ابْن حزم يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يُولى الصَّلَاة رجلا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ حَافِظًا لَهُ عَالما بِأَحْكَام الصَّلَاة وَالطَّهَارَة فَاضلا فِي دينه خَطِيبًا فصيحا مُعَرفا فَقِيها فِي جَمِيع ذَلِك قلت وَبَقِيَّة الشُّرُوط مقررة فِي موَاضعهَا فِي الفقهيات الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من تَوَابِع هَذِه الخطة اتِّخَاذ مُؤذن للصَّلَاة قَالَ ابْن حزم يَأْخُذهُمْ الإِمَام بِإِقَامَة مُؤذن راتب لكل مَسْجِد فَإِن لم يكن فيهم من يقوم بذلك وَلَا الصَّلَاة يكفل لَهُم بِإِمَام ومؤذن يجْرِي علنهما مِمَّا يكفيهما إِن كَانَا فقيرين

قلت وَالنَّظَر الْآن فِي ذَلِك مَصْرُوف إِلَى الْقُضَاة أَو الْأَئِمَّة تَتِمَّة من مؤكدات مَا على صَاحب هَذِه الخطة أَن يُرَاعِي أمورا نبه عَلَيْهَا ابْن الْحَاج فِي مدخله أَحدهَا أَن ينوى عِنْد ولايتها مَعَ إخلاص النِّيَّة مَعَ الله تَعَالَى أَنه يقوم بِمَا وَجب على الْمُسلمين أَن يوفوا بِهِ قَالَ لِأَن الْإِمَامَة من أكبر مهمات الدّين وَفرض على الْكِفَايَة الثَّانِي أَن يتحفظ على منصبها من الْأُمُور الَّتِي تزرى بصاحبها كالمزاح وَكَثْرَة الضحك لاسيما مَعَ الْجَانِب وَالْمَشْي فِي السواق لغير عذر شَرْعِي وَنَحْو ذَلِك الثَّالِث أَن يكون أعظم الْجَمَاعَة خوفًا وقلقا وَأَكْثَرهم علما وخشية قَالَ فقد ورد أَن الصَّلَاة ترفع على أتقى قلب رجل من الْجَمَاعَة فَيَنْبَغِي أَن يكون متصفا بذلك ليحصل جَمِيع من خَلفه فِي صَحِيفَته وَفِي خفارته

الخطة الثانية

الرَّابِع أَن يرى لنَفسِهِ فضلا على من تقدمه بل يرى الْفضل عَلَيْهِ ويتخوف على ذمَّته قَالَ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإِمَام ضَامِن والمؤذن مؤتمن الْخَامِس أَن يكون أكبر اهتمامه التحفظ من الْبدع المحدثة لنه علم للعامة فِي الإقتداء بِهِ خُصُوصا مَا يَقع من ذَلِك فِي الْمَسْجِد الَّذِي هُوَ من رَعيته الخطة الثَّانِيَة الْفتيا وفيهَا بِحَسب الْوَضع مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى شرف هَذِه الْمنزلَة فِي الْمَرَاتِب الدِّينِيَّة لَا يحفى على متأمل وَيَكْفِي من ذَلِك أَن صَاحبهَا قَائِم فِي الْأمة مقَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمرين أَحدهمَا صَرِيح النَّص بذلك فَفِي الحَدِيث الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَأَن الْأَنْبِيَاء لم يورثوا دِينَار وَلَا درهما وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم وَمن ثمَّ قيل الْمُفْتِي موقع عَن الله الثَّانِي نيابته عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَبْلِيغ الْأَحْكَام لقَوْله أَلا ليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب وَقَالَ بلغُوا عني وَلَو آيَة وَهُوَ معنى كَونه يقوم مقَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّبْلِيغ والتعليم اعْتِرَاف بِفضل روى سهل بن عبد الله أَنه قَالَ من أَرَادَ أَن ينظر إِلَى مجَالِس

الْأَنْبِيَاء عيهم السَّلَام فَلْينْظر إِلَى مجَالِس الْعلمَاء يَجِيء الرجل فَيَقُول مَا تَقول فِي رجل حلف على امْرَأَته بِكَذَا فَيَقُول طلقت امْرَأَته وَهَذَا مقَام الْأَنْبِيَاء فاعرفوا لَهُم ذَلِك الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة ابْن خلدون للخليفة تصفح أهل الْعلم والتدريس ورد الْفتيا إِلَى من هُوَ أهل لَهَا وإعانته على ذَلِك وَمنع من لَيْسَ بِأَهْل لَهَا وزجرها لِأَنَّهَا من مصَالح الْمُسلمين فِي أديانهم فَيجب عيه مراعاتها لِئَلَّا يتَعَرَّض لذَلِك من لَيْسَ بِأَهْل فيضل النَّاس انْتهى قلت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله لَا يقبض الْعلم الحَدِيث الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة إِذا كَانَ الإِمَام لَا يسْتَقلّ بِهَذَا التصفح لفَوَات الْعلم بِهِ فَيَكْفِي استطلاع مَا عِنْد عُلَمَاء الْوَقْت فِي أَهْلِيَّة الْمصدر للْفَتْوَى مَعَ علمه هُوَ ذَلِك من نَفسه وَهُوَ معنى قَوْلهم لَا يُفْتى حَتَّى يرَاهُ النَّاس أَهلا لذَلِك وَيرى هُوَ نَفسه أَهلا لذَلِك فَإِن فقدوا أَو كَانَت معرفتهم لَا توفى بذلك وَرَأى هَذَا الْمُقدم أَنه أهل فولايته صَحِيحَة لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن تعْيين الْأُمَرَاء من يقوم بِوَاجِب التَّنْفِيذ حَتَّى يثبت أَنه لَيْسَ بِأَهْل وَإِلَّا انخرم نظام الدُّنْيَا الثَّانِي أَن اعْتِقَاد هَذَا المبدأ أَهْلِيَّته لذَلِك كَافِيَة فِي انتصابه حَيْثُ لَا يكون هُنَاكَ غَيره وَلَو لم يقدم أحد فَكيف بِهَذَا قَالَه الشَّيْخ الإِمَام أَبُو اسحق الشاطبي فِي بعض تقييداته الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ ابْن الصّلاح يشْتَرط فِيهِ أَن يكون مُكَلّفا

مُسلما ثِقَة مَأْمُونا منزها عَن أَسبَاب الفسوق ومسقطات الْمُرُوءَة لِأَن من لم يكن كَذَلِك فَقَوله غير صَالح للاعتماد وَإِن كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد وَيكون فَقير النَّفس سليم الذِّهْن رصين الْفِكر صَحِيح التَّصَرُّف والاستنباط متيقظا قلت ودرجاته بعد ذَلِك مقررة فِي موَاضعهَا من كتب الْأُصُول وَغَيرهَا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة قَالَ الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي الْمُفْتِي البالع ذرْوَة الدرجَة هُوَ الَّذِي يحمل النَّاس على الْمَعْهُود الْوسط فِيمَا يَلِيق بالجمهور فَلَا يذهب يهم الشدَّة وَلَا يمِيل بهم إِلَى طرف الإنحلال قلت مِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على صِحَة ذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن من قصد الشَّارِع حمل الْمُكَلف على التَّوَسُّط من إفراط وَلَا تَفْرِيط وَهُوَ الطَّرِيق الْمُسْتَقيم الَّذِي جَاءَ بِهِ وَحِينَئِذٍ فالخروج عَن ذَلِك فِي المستفتي انحراف عَن ذَلِك الْمَقْصد قَالَ لذَلِك كَانَ مَا خرج عَن الْمَذْهَب الْوسط مذموما عِنْد الْعلمَاء الراسخين الثَّانِي أَن الْخُرُوج إِلَى الْأَطْرَاف حائد عَن الْعدْل وناكب عَن صراطه وَحِينَئِذٍ فَلَا مصلحَة فِيهِ الْبَتَّةَ أما فِي طرف التَّشْدِيد فَلَمَّا فِيهِ من الْحَرج الْمُؤَدِّي لِبُغْض الدّين والانقطاع عَن التزود بِهِ إِلَى الْمعَاد وَأما فِي طرف الانحلال فَلَمَّا فِيهِ من اتِّبَاع الْهوى والشهوة

قلت وَعند ذَلِك فَمن عرف بالتساهل فِي فتياه من هَذِه الْجِهَة منع استفتاؤه وَهِي الْمَسْأَلَة السَّادِسَة كَمَا صرح بِهِ ابْن الصّلاح قَائِلا أَن من فعل ذَلِك بِأَن تحمله الْأَغْرَاض الْفَاسِدَة على تتبع الْحِيَل الممنوعة والتمسك بالشبه طلبا للترخيص على من يُرِيد نَفعه أَو التَّغْلِيظ على من يقْصد ضره فقد هان عَلَيْهِ دينه ونسأل الله الْعَفو والعافية الْتِفَات قَالَ وَإِذا صَحَّ قَصده فِي تطلب حِيلَة لَا شُبْهَة فِيهَا وَلَا تجر إِلَى مفْسدَة ليتخلص بهَا المستفتي من ورطة يَمِين أَو نَحْوهَا فَذَلِك حسن جميل فقد قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ إِنَّمَا الْعلم عندنَا الرُّخْصَة من ثِقَة فَأَما التَّشْدِيد فيحسنه كل أحد الْمَسْأَلَة السَّابِعَة إِذا كَانَ التساهل فِي الْفتيا مَانِعا من استفتاء من عرف بِهِ فَمن الْوَاجِب على السُّلْطَان أَن يكون أول مُمْتَنع من ذَلِك فِي نَفسه وَأولى أَن لَا يكلفه التمَاس رخصَة على غير شَرطهَا يطبق بهَا غَرَضه بِتَقْدِير أَنه مَا كَانَ يساعده لَوْلَا هَذَا التَّكْلِيف أما أَولا فَلَمَّا يخْشَى من وزر ذَلِك فِي الْجُمْلَة وَفِي حكم الْهِنْد وَهُوَ ظَاهر من التمس من الإخوان الرُّخْصَة عِنْد المشورة وَمن الْأَطِبَّاء عِنْد الْمَرَض وَمن الْفُقَهَاء عِنْد الشُّبْهَة أَخطَأ الرَّأْي وأزداد مَرضا أَو تحمل الْوزر أما ثَانِيًا فَلَمَّا ينشأ عَنهُ من إِدْخَال الْفساد بِهِ على الدّين من وُجُوه لَا تخفى مَعَ التَّأَمُّل وَهُوَ لَا محَالة مُوجب لتضعيف وزره أضعافا مضاعفة وَفِي مثل ذَلِك قَالَ ابْن الْمُبَارك (وَهل افسد الدّين إِلَّا الْمُلُوك ... وأخبار سوء ورهبانها) (وَبَاعُوا النُّفُوس وَلم يربحوا ... وَلم تغل فِي البيع أثمانه) ا (لقد رتع الْقَوْم فِي جيفة ... يبين لذِي الْعقل أنتانها)

تَعْرِيف من مَشْهُور مَا وَقع من تساهل طلب الرُّخْصَة فِي الْفتيا على غير شَرطهَا إرضاء للسُّلْطَان بِمَا يُتَابع هَوَاهُ مَا حَكَاهُ عِيَاض وَغَيره عَن مُحَمَّد بن يحي بن لبَابَة أخي الشَّيْخ ابْن لبَابَة الشهير وَذَلِكَ أَنه عزل عَن قَضَاء البيرة لرفع أَهلهَا عَلَيْهِ ثمَّ عَن الشورى لأمور نقمت عَلَيْهِ وسجل بسخطه القَاضِي حبيب ابْن زِيَاد وَأمر بِإِسْقَاط عَدَالَته وإلزامه بَيته وَأَن لَا يُفْتِي أحدا فَأَقَامَ على ذَلِك وقتا ثمَّ إِن النَّاصِر احْتَاجَ إِلَى شِرَاء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة

النَّهر فتشكي إِلَى القَاضِي ابْن بَقِي ضَرُورَته إِلَيْهِ لقابلته منزهة وتأذيه برؤيتهم أَو أَن تطلعه من علالية فَقَالَ لَهُ ابْن بقى لَا حِيلَة عِنْدِي فِيهِ وَهُوَ أولى أَن يحاط لحُرْمَة الْحَبْس فَقَالَ لَهُ تكلم مَعَ الْفُقَهَاء فِيهِ وعرفهم رغبتي وَمَا أجزله لَهُ من أَضْعَاف الْقيمَة فِيهِ فلعلهم أَن يَجدوا فِي ذَلِك رخصَة فَتكلم ابْن بَقِي مَعَهم فَلم يَجدوا إِلَيْهِ سَبِيلا فَغَضب النَّاصِر عَلَيْهِم وَأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إِلَى الْقصر وتوبيخهم فجرت فجرت بَينهم وَبَين الوزراء مكالمة وَلم يصل النَّاصِر مَعَهم إِلَى مَقْصُوده وَبلغ ابْن لبَابَة هَذَا الْخَبَر فَرفع إِلَى النَّاصِر من أَصْحَابه الْفُقَهَاء وَيَقُول إِنَّهُم حجروا عَلَيْهِ وَاسِعًا وَلَو كَانَ حَاضرا لأفتاه بِجَوَاز الْمُعَاوضَة وتقلدها وناظر أَصْحَابه فِيهَا فَوَقع الْأَمر بِنَفس النَّاصِر وَأمر بِإِعَادَة مُحَمَّد بن لبَابَة إِلَى الشورى إِلَى حَالَته الأولى ثمَّ أَمر القَاضِي بِإِعَادَة الشورى فِي الْمَسْأَلَة فَاجْتمع القَاضِي وَالْفُقَهَاء وَجَاء ابْن لبَابَة آخِرهم وعرفهم القَاضِي ابْن بَقِي بِالْمَسْأَلَة الَّتِي جمعهم من أجلهَا وغبطة الْمُعَاوضَة فِيهَا فَقَالَ جَمِيعهم بقَوْلهمْ الأول من الْمَنْع بتغيير الْحَبْس عَن وَجهه وَابْن لبَابَة سَاكِت فَقَالَ لَهُ القَاضِي مَا تَقول أَنْت يَا أَبَا عبد الله قَالَ أما قَول إمامنا مَالك بن أنس فَالَّذِي قَالَه أَصْحَابنَا الْفُقَهَاء وَأما أهل الْعرَاق فَإِنَّهُم لَا يجيزون الْحَبْس أصلا وهم عُلَمَاء أَعْلَام يَهْتَدِي بهم أَكثر الْأمة وَإِذ بأمير الْمُؤمنِينَ من الْحَاجة إِلَى هَذَا المجشر مَا بِهِ فَمَا يَنْبَغِي أَن يرد عَنهُ وَله فِي السّنة فسحة وَأَنا أَقُول بقول أهل الْعرَاق وأتقلد ذَلِك رَأيا فَقَالَ لَهُ الْفُقَهَاء سُبْحَانَ الله تتْرك قَول مَالك الَّذِي أفتى بِهِ أسلافنا ومضوا عَلَيْهِ واعتقدناه بعدهمْ وأفتينا بِهِ لَا نحيد عَنهُ بِوَجْه وَهُوَ رأى أَمِير

الْمُؤمنِينَ ورأي الْأَئِمَّة آبَائِهِ فَقَالَ لَهُم مُحَمَّد بن يحي ناشدتكم الله الْعَظِيم ألم تزل بِأحد مِنْكُم ملمة بلغت بكم أَن أَخَذْتُم فِيهَا بقول بِغَيْر قَول مَالك فِي خَاصَّة أَنفسكُم وأرخصتم لأنفسكم فِي ذَلِك قَالُوا بلَى قَالَ فَأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ أولى بذلك فَخُذُوا بِهِ مأخذكم وتعلقوا بقول من يُوَافقهُ من الْعلمَاء فكلهم قدوة فَسَكَتُوا فَقَالَ للْقَاضِي أَنه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فتياي فَكتب القَاضِي إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ بِصُورَة الْمجْلس وَبَقِي مَعَ أَصْحَابه بمكانهم إِلَى أَن أَتَى الْجَواب بِأَن يُؤْخَذ لَهُ بِفُتْيَا مُحَمَّد بن يحيى بن لبَابَة وَينفذ ذَلِك ويعوض للمرضى من هَذَا المجشر بأملاك ثمينة عَجِيبَة وَكَانَت عَظِيمَة الْقدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ثمَّ جِيءَ من عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ بِكِتَاب مِنْهُ إِلَى أَيْن لبَابَة بولايته خطة الوثائق ليَكُون هُوَ الْمُتَوَلِي لعقد هَذِه الْمُعَاوضَة فهنيء بِالْولَايَةِ وأمضى القَاضِي الحكم بفتواه وَأشْهد عَلَيْهِ وَانْصَرفُوا فَلم يزل ابْن لبَابَة يتقلد خطة الوثائق الشورى إِلَى أَن مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة قَالَ عِيَاض ذاكرت بعض مَشَايِخنَا بِهَذَا الْخَبَر فَقَالَ يَنْبَغِي أَن يُضَاف هَذَا إِلَى الْخَبَر الَّذِي حل مَحل السخطة إِلَى سجل السخطة فَهُوَ أولى ولأشد فِي السخطة مِمَّا تضمنه أَو كَمَا قَالَ توضيح قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق الشاطبي وشأن مثل هَذَا لَا يحل لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه لم يحِق الْمَذْهَب الَّذِي حكم بِهِ لن الْعِرَاقِيّين لَا يبطلون الإحباس مُطلقًا بل مَذْهَبهم قريب من مَذْهَب مَالك كَمَا فِي كتب الحنيفة الثَّانِي على تَسْلِيم صِحَّته بترجيح أحد الْقَوْلَيْنِ إِنَّمَا هُوَ بالوجوه الْمُعْتَبرَة شرعا اتِّفَاقًا لَا بالصحبة أَو الْإِمَارَة أَو قَضَاء الْحَاجة قَالَ فَكل من اعْتمد على تَقْلِيد قَول غير مُحَقّق أَو رجح بِغَيْر معنى مُعْتَبر فقد خلع الربقة واستبد إِلَى غير شرع عَافَانَا الله من ذَلِك بفضله

الخطة الثالثة

الخطة الثَّالِثَة التدريس وفيهَا على ذَلِك الْقَصْد مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى فَضِيلَة هَذَا المنصب من حَيْثُ شرف الْعلم أوضح فِي الظُّهُور من شمس الظهيرة وَيَكْفِي من ذَلِك مَا يدل علية قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا بعثت معلما فَهُوَ نِيَابَة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَعْنى الَّذِي بعث من أَجله ومجلسه قَالَ ابْن الْحَاج هُوَ الْمَشْهُور خَيره الْمَعْرُوف بركته المستفيض بره واحترامه المسالة الثَّانِيَة الْمَسَاجِد الَّتِي يجلس فِيهَا الْمدرس إِن عظمت بِحَيْثُ ينظر السُّلْطَان فِي الْولَايَة عَلَيْهَا منا تقدم فبالإمامة فَلَا بُد فِي اسْتِئْذَانه فِي ذَلِك وَأَن كَانَت فِي مَسَاجِد الْعَامَّة فَلَا يتَوَقَّف على إِذن قَالَ ابْن خلدون على أَنه يَنْبَغِي لكل أحد من الْمُفْتِينَ والمدرسين أَن يكون زاجرا من نَفسه يمنعهُ من التصدي لما لَيْسَ لَهُ بِأَهْل فيضل بِهِ المستهدي ويزل بِهِ المسترشد فالسلطان فيهم لذَلِك من النّظر مَا توجبه الْمصلحَة من إجَازَة أَو ورد الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة على الإِمَام أَن يبلغ فِي تصفح من يقدمهُ لذَلِك صونا لإجتهاد الْأَئِمَّة عَن التَّقْصِير فقديما تشكى الْعلمَاء من ذَلِك وَمن إهمال النّظر فِي هَذَا المر بِالْجُمْلَةِ هَذَا ربيعَة يَقُول وَقد سُئِلَ عَن بكائه أبكاني

استفاء من لَا علم لَهُ وَيَقُول بعض من يُفْتِي هَا هُنَا أَحَق بالسجن من السراق قَالَ ابْن سهل وَجِنَايَة هَذَا على الْأُمَرَاء فِي إيثارهم لذَلِك من لَا فقه لَهُ وَلَا سبقت لَهُ عناية بِهِ على حسب مَا تحملهم اهواؤهم اعتداء بالجهال وإزراء بِأَهْل الْعلم قَالَ وَالله حسيب من يفعل هَذَا وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل قلت وللشيخ أثير الدّين ابْن حَيَّان من قصيدة طَوِيلَة (بلينا بِقوم صدرُوا فِي الْمجَالِس ... لإقراء علم ضل عَنْهُم مراشده) (لقد أخر التدريس عَن مُسْتَحقّه ... وَقدم غمر خامد الذِّهْن جامده) (وسوف يلاقي من سعى فِي جلوسهم ... من الله عُقبى مَا أَكنت عقائده) (علا عقلة فيهم هَوَاهُ أما درى ... بِأَن هوى الْإِنْسَان للنار قائده) الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة إِذا صَدره الإِمَام دون تعرف مَا عِنْد غَيره فِيهِ قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو اسحق الشاطبي هُوَ فَقِيه نَفسه والناظر لَهَا فَإِن رأى نَفسه أَهلا لذَلِك عمل عَلَيْهِ إِذا كَانَ من أهل الإجتهاد وَهُوَ مدرك مَالا

الخطة الرابعة

يُدْرِكهُ غَيره مِمَّن انتصب فِي زَمَانه وَلم ينْتَصب وَإِن كَانَ عِنْد نَفسه أَو دونهم فَلَا يَسعهُ ذَلِك وَمن صَدره فَنظر غَيره مِمَّن لَيْسَ من أهل الإجتهاد وَلكنه متصف بأوصاف الْعلمَاء فِي التَّقْوَى والورع فتصدر صَحِيح لِأَن سَببه شَهَادَة أهل الزَّمَان وَشَرطه مُطَابقَة الْأُمَرَاء انْتهى مُلَخصا الخطة الرَّابِعَة الْقَضَاء وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن عَرَفَة الرِّوَايَات وأقوال الشُّيُوخ وَاضِحَة الدّلَالَة على جلالة الْقَضَاء وندور السَّلامَة فِيهِ قَالَ عَن ابْن سهل خطة الْقَضَاء من أعظم الخطط قدرا واجلها خطرا لاسيما إِذا جمعت إِلَيْهَا الصَّلَاة قَالَ ابْن عَرَفَة يُرِيد أَمَامه الصَّلَاة وَمُقْتَضَاهُ حسن اجْتِمَاعهمَا قلت وَعَن بَعضهم مَعْنَاهُ الدُّخُول بَين الْخَالِق والمخلوق ليؤدي فيهم أوامره وَأَحْكَامه بِوَاسِطَة الْكتاب وَالسّنة حَكَاهُ ابْن فَرِحُونَ وَفِي قَوَاعِد المقرى الفيتا أَخْبَار عَن حكم الله فَهُوَ كالمترجم وَالْحكم إنْشَاء لَهُ فَهُوَ كالنائب قلت وَلَا خَفَاء أَن رُتْبَة النَّائِب أشرف وَمن ثمَّ قَالَ الشَّيْخ عز الدّين

أجره أعظم لِأَنَّهُ يُفْتِي وَيلْزم فتياه فَلهُ أجر فتياه وَأجر إِلْزَامه قَالَ وتصدى الْحَاكِم للْحكم من تصدي الْمُفْتِي للفتيا وَأجر الإِمَام الْأَعْظَم أعظم من أجرهما قلت وَحَاصِل التَّفْضِيل يرجع إِلَى عُمُوم الْمصلحَة وخصوصها وَعَلِيهِ فيتصور أَن يكون الْمُفْتِي أعظم أجرا من الْحَاكِم حَيْثُ تكون مصلحَة فتياه أعظم من مصلحَة حكم الْحَاكِم وَقد صرح بِهِ بعد كَلَام لَهُ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن رَاشد حِكْمَة مَشْرُوعِيَّة حفظ النظام وَدفع الضَّرَر الْعَام قلت وبسطة غَيره فَقَالَ رفع التهارج ورد التوائب وقمع الظَّالِم وَنصر الْمَظْلُوم وَقطع الْخُصُومَات وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ ابْن عَرَفَة حكمه بِالنِّسْبَةِ إِلَى إنشائه وَاجِب قَالَ عَن اللَّخْمِيّ إِقَامَة حكم للنَّاس وَاجِب لما فِيهِ من رفع التهارج وَالظُّلم فعلى الْوَالِي على بلد النّظر فِي أحكامهم إِن كَانَ أَهلا لذَلِك فَإِن لم يكن أَهلا أَو اشْتغل عَن ذَلِك وَجب عَلَيْهِ أَن يقدم من هُوَ أهل لذَلِك وَإِن لم يكن بالموضع وَال كَانَ ذَلِك لِذَوي الرَّأْي

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ المتيطي صَحِيح إِذا ذهب من ولاه الله تَعَالَى أُمُور الْمُسلمين إِلَى تَقْدِيم قَاض فليجتهد وليتخير أهل الدّين وَالْفضل والوزع وَالْعلم كَمَا فعل أَبُو بكر فِي استخلافه عمر رَضِي الله عَنهُ قلت وعزيز أَن نجد من اشْتَمَل على أشتات الْفَضَائِل المفضلة فِيهِ هَذَا مَالك رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول فِي زَمَانه لَا أرى الْيَوْم خِصَال الْقَضَاء تَجْتَمِع فِي أحد فَإِن اجْتمع مِنْهَا خصلتان ولي الْقَضَاء وَهِي الْعلم والورع قلت وعَلى أَن الْمُسَامحَة فِيهِ مضرَّة بِالدّينِ وَالْملك وَالِاجْتِهَاد إِنَّمَا هُوَ بِحَسب الْإِمْكَان عَسى أَن يكون مخلصا فَفِي الأفلاطونيات إِذا تسومح فِي دولة فِي التَّجَوُّز فِي الْقُضَاة والأطباء فقد أَدْبَرت وَقرب انحلالها وفيهَا عِنْد ادبار الدولة يغْفل أَمر بيُوت الْعِبَادَة وَتجوز فِي الْقُضَاة ويتحامل الأقوياء على الضُّعَفَاء والأغنياء على الْفُقَرَاء الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة قَالَ ابْن خلدون كَانَ القَاضِي فِي عصر الْخُلَفَاء إِنَّمَا لَهُ الْفَصْل بَين الْخُصُوم فَقَط ثمَّ دفع لَهُ بعد أُمُور آخر على التدريج بِحَسب انشغال الْخُلَفَاء والملوك بالسياسة الْكُبْرَى وَاسْتقر منصبه آخر الْأَمر على أَن جمع لَهُ على ذَلِك اسْتِبْقَاء بعض الْحُقُوق الْعَامَّة قلت لذَلِك عرف ابْن عَرَفَة الْقَضَاء بقوله هوة صفة حكمِيَّة توجب لموصوفها نُفُوذ حكمه الشَّرْعِيّ وَلَو بتعديل أَو بترجيح لَا فِي عُمُوم مصَالح الْمُسلمين فَيخرج التَّحْكِيم وَولَايَة الشرطة وَأَخَوَاتهَا والإمامة قلت يَعْنِي الْمَظَالِم وَالرَّدّ وَالْمَدينَة والحسبة قَالَ الْبُرْزُليّ وَقَيَّدنَا عَنهُ حِين قَرَأنَا عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب الفرعي

إِنَّه ولَايَة تَنْفِيذ حكم شَرْعِي مُسْتَند لولاية سلطانية وَعند قراءتنا التَّهْذِيب عَلَيْهِ قَالَ مرّة هُوَ حكم شَرْعِي مُسْتَند لولاية سلطانية أَو صفة توجب قبُول حكم موصوفها قبولا كليا بِولَايَة إِمَام أَو جمَاعَة لفقده تَحْقِيق قَالَ ابْن فَرِحُونَ الَّذِي يَنْبَغِي أَن يعول عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْعرف وَقد قَالَ الإِمَام شمس الدّين ابْن قيم الجوزية الْحَنْبَلِيّ أعلم أَن عُمُوم الولايات وخصوصها وَمَا يستفيده الْمُتَوَلِي بِالْولَايَةِ يتلَقَّى من الْأَلْفَاظ وَالْأَحْوَال وَالْعرْف وَلَيْسَ لذَلِك حد فِي الشَّرْع فَلَا يدْخل فِي ولَايَة الْقَضَاء فِي بعض الْأَمْكِنَة وَفِي بعض الْأَزْمِنَة مَا يدْخل ولَايَة الْحَرْب وَقد سُكُون فِي بعض الْأَمْكِنَة والأزمنة قَاصِرَة على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَقَط فيستفاد من ولَايَة الْقَضَاء فِي كل قطر مَا جرت بِهِ الْعَادة واقتضاء الْعرف وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي الْمَسْأَلَة

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ ابْن عَرَفَة يجب تفقد الإِمَام حَال قُضَاته فيعزل من فِي بَقَائِهِ مفْسدَة وجوبا فَوْرًا وَمن تخشى مفسدته استجابا وَمن غَيره أولى عَزله رَاجِح قَالَ عَن الشَّيْخ ابْن حبيب عَن أَشهب ومطرف يَنْبَغِي للْإِمَام أَن لَا يفعل عَن تفقد قُضَاته كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يقدم كل عَام أمراءه وَمَعَهُمْ من عَمَلهم رجال فَإِن رأى بدل عَامل عَزله وَأمر غَيره قَالَ عَن أصبغ يعْزل من يخْشَى ضعفه ووهنه وبطانة السوء وَأَن أَمن جوره فِي نَفسه تَنْبِيه نقل الْقَرَافِيّ عَن الْعلمَاء أَن الإِمَام إِذا وجد من هُوَ أصلح للْقَضَاء مِمَّن هُوَ متول الْآن عزل الأول وَولى الثَّانِي وجوبا لِئَلَّا يفوت على الْمُسلمين مصلحَة الْأَفْضَل مِنْهُمَا وَيحرم عَلَيْهِ عزل الْأَعْلَى بالأدنى لِئَلَّا يفوت على الْمُسلمين مصلحَة الْأَعْلَى قَالَ ابْن الشَّاط يَنْبَغِي أَن يحمل على أَن المتولى مقصر عَن

الْأَهْلِيَّة لَا على أَنه أهل وَلَكِن غَيره أحسن مِنْهُ بالأهلية بِدَلِيل أَن الْمصلحَة الْمَقْصُودَة بِالْقضَاءِ تحصل من الْمَفْضُول المتصف بالأهلية كَمَا تحصل من الْفَاضِل المتصف بهَا فَلَا وَجه لقَوْله قلت يُرِيد وجوبا وَأما من طَرِيق الأولى فَعَزله مَطْلُوب كَقَوْل ابْن عَرَفَة وَمن غَيره أولى عَزله رَاجِح وَهُوَ التَّحْقِيق فِي الْمَسْأَلَة الْمَسْأَلَة السَّابِعَة إِذا تظاهرت الشكوى بِالْقَاضِي فَلَا يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يعزله إِ كَانَ مَشْهُورا بِالْعَدَالَةِ لما فِي ذَلِك من الْفساد على الْقُضَاة وَقَالَ أصبغ يعزله إِذا وجد مثله فقد عزل عمر سَعْدا بالشكية وَهُوَ أنفذ حجَّة وَأظْهر بَرَاءَة مِمَّن بعده إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَإِن لم يكن مَشْهُورا بِالْعَدَالَةِ فليعزله إِذا وجد بَدَلا مِنْهُ وَإِلَّا سَأَلَ عَن حلّه بسؤال من يَثِق بِهِ من أهل بَلَده سرا فَإِن صدقُوا مَا رفع عَنهُ عَزله وَنظر فِي أقضيته وَإِن قَالُوا مَا نعلم إِلَّا خيرا بَقَاءَهُ وَنظر فِي أقضيته فَمَا وجد مِنْهَا بَاطِلا رده وَحمله على الْخَطَأ لَا تعمد الْجور الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة قَالَ أصبغ وَيَنْبَغِي للأمام أَن يُوسع على القَاضِي فِي رزقه من بَيت مَال الْمُسلمين لِأَنَّهُ أجِير لَهُم قَالَ المتيطي وأجرى عمر بن عبد الْعَزِيز للْقَاضِي أَرْبَعمِائَة دِينَار فِي السّنة وَكَانَ يَقُول ذَلِك قَلِيل لَهُم إِذا أَقَامُوا كتاب الله وَعدلُوا قَالَ ويجرى لَهُ ذَلِك من الْخمس أَو الْجِزْيَة أَو عشر أهل الذِّمَّة إِذا جَاءَ ذَلِك بِغَيْر ظلم

الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة قَالَ الْعلمَاء حكم أَحْكَام هَذِه الخطة دَائِرَة على الْكتاب الْمَشْهُور الَّذِي كتب بِهِ عمر إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنْهُمَا لما ولاه قَضَاء الْكُوفَة وَنَصه من عبد الله عمر أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى عبد الله بن قيس سَلام عَلَيْك أما بعد فَإِن الْقَضَاء فَرِيضَة محكمَة وَسنة متبعة فَإِنَّهُم إِذا أدلى إِلَيْك وأنفذ إِذا تبين لَك فَإِنَّهُ لَا ينفع تكلم بِحَق لَا نفاد لَهُ وسو بَين النَّاس بِوَجْهِك وعدلك ومجلسك حَتَّى لَا يطْمع شرِيف فِي حيفك وَلَا ييأس ضَعِيف فِي عدلك الْبَيِّنَة على من ادّعى وَالْيَمِين على من أنكر وَالصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا وَلَا يمنعك قَضَاء قَضيته بالْأَمْس فتراجعت فِيهِ الْيَوْم عقلك وهديت فِيهِ لرشدك أَن ترجع إِلَى الْحق فَإِن الْحق قويم ومراجعة الْحق خير من التَّمَادِي على الْبَاطِل الْفَهم الفخم فِيمَا تلجلج فِي صدرك مِمَّا لَيْسَ فِي كتاب وَلَا سنة ثمَّ أعرف الْأَشْبَاه والأمثال فقس الْأُمُور عِنْد بنظائرها واعمد إِلَى أقربها إِلَى الله عز وَجل وأشبهها بِالْحَقِّ وَاجعَل لمن ادّعى حَقًا غَائِبا أَو بَيِّنَة أمدا يَنْتَهِي إِلَيْهِ فَإِن احضر بَينه أخذت لَهُ بِحَق وَإِلَّا سجلت الْقَضِيَّة عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أنفى للشَّكّ وَأجلى للعمى

الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم على بعض إِلَّا مجلودا فِي حد أَو مجريا عَلَيْهِ شَهَادَة زور أَو وظنينا فِي وَلَاء أَو نسب فَإِن الله عز وَجل تولى مِنْكُم السرائر وَدَرَأَ بِالْبَيِّنَاتِ والأيمان وَإِيَّاك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عِنْد الْخُصُومَات فَإِن اسْتِقْرَار الْحق فِي مَوَاطِن الْحق يعظم الله بِهِ الْأجر وَيحسن عَلَيْهِ الذخر فَمن صحت نِيَّته وَأَقْبل على نَفسه كَفاهُ الله جلّ ذكره مَا بَينه وَبَين النَّاس وَمن تخلق النَّاس بِمَا يعلم الله أَنه لَيْسَ من نَفْيه شانه الله فَمَا ظَنك بِثَوَاب الله فِي عَاجل رزقه وخزائن رَحمته وَالسَّلَام الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة قَالَ ابْن عَرَفَة وَعلم الْقَضَاء أخص من الْعلم بفقهه لِأَن مُتَعَلق فقهه كلي من حَيْثُ هُوَ كلي ومتعلق علنه كلي من حَيْثُ صدق كُلية على جزئيات وَكَذَا فقه الْفَقِيه من حَيْثُ كَونه فَقِيها مفتيا هُوَ أَعم من فقه الْفَقِيه من حَيْثُ كَونه مفتيا قَالَ وَقد اُخْبُرْنَا بعض شُيُوخنَا فِي تدريسه عَن الشَّيْخ الْفَقِيه المحصل أبي عبد الله بن شُعَيْب أَنه كَانَ ولي قَضَاء القيروان وَمحل تَحْصِيله فِي الْفِقْه وأصوله شهير ببلدنا فَلَمَّا جلس الْخُصُوم إِلَيْهِ وَفصل بَينهم دخل منزله مَقْبُوضا فَقَالَت لَهُ زَوجته مَا شَأْنك فَقَالَ لَهَا عسر عَليّ الْقَضَاء فَقَالَت لَهُ قد شاهدت سهول أَمر الْفَتْوَى عَلَيْك فَاجْعَلْ الْخَصْمَيْنِ كمستفتيين سألاك قَالَ فاعتبرت ذَلِك فسهل عَليّ مزِيد اعْتِبَار قَالَ وَإِذا تَأَمَّلت ذَلِك علمت أَن حَال الْفَقِيه من حَيْثُ هُوَ فَقِيه كَحال عَالم

بكبرى قِيَاس الشكل الأول فَقَط وَحَال القَاضِي والمفتي كَحال عَالم بهَا مَعَ صغراه ولإخفاء أَن الْعلم بهَا أشق وأخص من الْعلم بالكبرى فَقَط قلت لما فِي تَحْقِيق المناط من التنزل قَالَ وَأَيْضًا فَقِيها الْقَضَاء والفتيا يبنيان على إِعْمَال النّظر فِي الصُّور الْجُزْئِيَّة وَإِدْرَاك مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْأَوْصَاف الكائنة فيلغى طرديها وَيعْمل معتبرها حِكَايَة قَالَ وَلذَا ذكر ابْن الدَّقِيق أَن أَمِير إفريقية استفتى أَسد ابْن الْفُرَات فِي دُخُوله فِي جواريه الْحمام دون سَاتِر لَهُ ولهن فَأَجَابَهُ بِجَوَازِهِ لِأَنَّهُنَّ ملكه وأجابه ابْن مُحرز بِمَنْع ذَلِك قَائِلا لَهُ إِن جَازَ لَك نظرهن كَذَلِك ونظرهن إِلَيْك كَذَلِك لم يجز نظر بَعضهنَّ إِلَى بَعضهنَّ كَذَلِك فأغفل أَسد إِعْمَال النّظر فِي هَذِه الصُّورَة الْجُزْئِيَّة فَلم يدْرك حالهن فِيمَا بَينهُنَّ واعتبره ابْن مُحرز فَأصَاب تَكْمِلَة التَّعْرِيف الْعَصْر الَّذِي كَانَ فِيهِ خلَافَة كَانَت هَذِه الخطة لمَكَان أَنَّهَا من الدّين بِالْمحل الَّذِي لَا يخفى لَا يُولى فِيهَا إِلَّا من هُوَ من أهل عصبيتهم بِنسَب أَو ولَايَة حلف أَوْرَق أَو اصطناع مِمَّن يوثق بِهِ كِفَايَة وغناء

الخطة الخامسة

قَالَ ابْن خلدون وَلما انقرضت الْخلَافَة وانقلبت ملكا بَعدت الخطط الدِّينِيَّة عَنهُ بعض الشَّيْء لخروجها من ألقابه وَمن اسْمه ثمَّ لما خرج الْأَمر جملَة عَن الْعَرَب وَصَارَ لسواهم من التّرْك والبربر ازدادت بعدا عَنْهُم لِأَن تَعْظِيم الْعَرَب لَهَا مِمَّا يُقَوي الْبَاعِث الديني عَلَيْهِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم وَأَن شريعتهم نحلتهم بَين الْأُمَم وَغَيرهم بمعزل عَن ذَلِك إِنَّمَا يولونها جانبا مِنْهُ لما دانوا بِهِ من فِي الْملَّة خَاصَّة فَلَا جرم قلدوها من غير عصبيتهم إِذا كَانَ أَهلا فَقَط وَعند ذَلِك صَار أَهلهَا مستضعفين فِي أهل الْأَمْصَار ولحقهم من الاحتقار مَا يلْحق من بعد عَن الْمُشَاركَة فِي عصبية الدولة وَصَارَ اعتبارهم فِيمَا من آجل قِيَامهَا بالملة لأَنهم الحاملون لأحكامها وَلم يكن إيثارهم إِذْ ذَاك إِكْرَاما لدولتهم بل لما يتلمح من التجمل بمكانهم فِي مجَالِس الْملك فَحسب إِذْ لَا حل لَهُم فِيهَا وَلَا عقد وَإِن حَضَرُوهُ بِحُضُور رسمي لَا حَقِيقَة وَرَاءه انْتهى المُرَاد مِنْهُ الخطة الْخَامِسَة الْعَدَالَة وفيهَا مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن خلدون وَهِي وَظِيفَة دينية تَابِعَة للْقَضَاء حَقِيقَتهَا قيام عَن إِذن القَاضِي بِالشَّهَادَةِ بَين النَّاس فِيمَا لَهُم وَعَلَيْهِم تحملا عِنْد الْأَدَاء وَأَدَاء عِنْد التَّنَازُع وكتابا فِي السجلات لحفظ الْحُقُوق والمعاملات قلت وَهُوَ حِكْمَة مشروعيتها قَالَه ابْن رَاشد

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن رَاشد هِيَ صناعَة جليلة شريفة وبضاعة عالية منيفة تحتوي على ضبط أُمُور النَّاس على القوانين الشَّرْعِيَّة وَحفظ دِمَاء الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم ومجالسة الْمُلُوك والاطلاع على عِيَالهمْ وأمورهم وَبِغير هَذِه الصِّنَاعَة لَا ينَال أحد ذَلِك وَلَا يسْلك هَذِه المسالك الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ ابْن خلدون وَشرط هَذِه الْوَظِيفَة الاتصاف بِالْعَدَالَةِ الشَّرْعِيَّة ثمَّ الْقيام بكتب السجلات والعقود من حَيْثُ عباراتها وَأَحْكَام شُرُوطهَا الشَّرْعِيَّة قلت وَهُوَ معنى قَول ابْن لبَابَة لابد لَهُ من فقه فِي الْوَثِيقَة ليضع فِيهِ كل شَيْء فِي مَوْضِعه وترسيل يحسن بِهِ مساقها وَنَحْو يجْتَنب بِهِ اللّحن قَالَ وَلأَجل هَذِه الشُّرُوط وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من المران عَلَيْهِ وممارسة لَهُ اخْتصَّ دلك بِبَعْض الْعُدُول وصاروا كَأَنَّهُمْ المختصون بِالْعَدَالَةِ وَلَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا الْعَدَالَة من شُرُوط اختصاصهم بالوظيفة المسالة الربعة قَالَ ابْن المناصف إِذا رأى السُّلْطَان فِي النّظر للْمُسلمين قصر الوثائق على موثوق بِهِ فِي الدّين والمعرفة لقُصُور غَيره عَن ذَلِك فَهُوَ سَائِغ حسن بذلك الشَّرْط لَا لقصد منفعَته بذلك فَقَط وَأَن ذَلِك لهَذَا الْقَصْد فَهُوَ فِيهِ حُرْمَة

قلت هَذَا جَوَاب ابْن عتاب قَائِلا لَا أَكثر الله من أَمْثَال هَذَا الْفَقِيه إِذْ طلب مَالا يحل لَهُ وَإِذ قد طلب ذَلِك فَلَا تجوز إِمَامَته وَلَا شَهَادَته قَالَ ابْن سهل وَهُوَ مُسْتَند ابْن المناصف وَلَو كَانَ السُّلْطَان قصر الناي على هَذَا الْإِنْسَان لبصره فِي الْعُقُود وثقته لتقصير غَيره عَن إِدْرَاكه فِيهَا وَلم يطْلب هُوَ ذَلِك وَلَا رغب فِيهِ لَكَانَ حسنا انْتهى المُرَاد مِنْهُ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة قَالَ ابْن خلدون وَيجب على القَاضِي تصفح أَحْوَالهم والكشف عَن يسيرهم رِعَايَة لشرط الْعَدَالَة وَلما يتَعَيَّن عَلَيْهِ من حفظ الْحُقُوق فالعهدة فِي ذَلِك عَلَيْهِ وَهُوَ ضَامِن دركه قلت فِي تَنْبِيه ابْن المناصف وَقد ذكر أمورا تعقبها على بعض أهل هَذِه الطَّبَقَة قَالَ وَأكْثر مَا ذكر مِنْهَا أَو لم يذكر لَا يُسْتَطَاع الِانْفِصَال عَنهُ إِلَّا باعتناء القَاضِي بِهِ وموالاة الْبَحْث عَنهُ والتعنيف لمن يُوَافقهُ فِيهِ لِأَن مَا يعتاده الْجُمْهُور لَا يصرف عَنهُ توقى الْوَاحِد والاثنين لَهُ وَلَا تَعْلِيم المعلمين وَلَا وعظ الواعظين مَا لم يكن فِيهِ إرهاب من السُّلْطَان فيحق على القَاضِي الاعتناء بِمثلِهِ والتنقيب عَنهُ ورد مسَائِل الشَّرْع إِلَى أُصُولهَا انْتهى مُلَخصا

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ ابْن خلدون إِذا تعين هَؤُلَاءِ لهَذِهِ الْوَظِيفَة عَمت الْفَائِدَة بهم على تَعْدِيل من تخفى عَدَالَته على الْقُضَاة لاتساع الْأَمْصَار واشتباه الْأَحْوَال فيعول عَلَيْهِم غَالِبا فِي الوثوق بِالْبَيِّنَاتِ الْمُضْطَر إِلَيْهَا فِي فصل الْقَضَاء بَين المتنازعين قَالَ وَلَهُم فِي سَائِر الْأَمْصَار دكاكين ومصاطب يختصون بِالْجُلُوسِ فِيهَا للشَّهَادَة بَين المتعاملين وتقييدها بِالْكتاب قَالَ وَصَارَ مَدْلُول هَذِه الفظة مُشْتَركا بَين هَذِه الْوَظِيفَة الَّتِي تبين مدلولها وَبَين الْعَدَالَة الشَّرْعِيَّة الَّتِي هِيَ أُخْت الْجرْح وَقد يتواردان ويفترقان يعرفونه عينا واسما إِن شهدُوا على غَائِب وَإِن لم يكن ذَلِك مَنْصُوصا فِي العقد فَمَتَى لم يكن ذَلِك مَنْصُوصا بَطل العقد فِي مَسْأَلَتي الْمَيِّت وَالْغَائِب بِحَيْثُ ذكر فَأَما على الْحَاضِر وَمَا فِي مَعْنَاهُ من الْقَرِيب الْغَيْبَة فَإِنَّهُ إِن تضمن العقد ذَلِك وَأنكر الْمُقَوّم عَلَيْهِ جَمِيع مضمنه أعذر إِلَيْهِ فِي الثَّبَات وَإِن لم يضمن العقد ذَلِك وَلَا يعرفونه وَلَا وصلوا أدائهم الشَّهَادَة بِأَنَّهُم يعرفونه وَلَا يعينونه وَقَالُوا هَذَا هُوَ الَّذِي أشهدنا بِهِ العقد وَحضر مجْلِس الحكم وَقَالُوا لَا نَعْرِف أَهَذا أشهدنا أم غَيره بطلت تِلْكَ الشَّهَادَة فَإِن كَانَ الْمَشْهُود عَلَيْهِ يعرف الْغَائِب وَأَنه قريب الْغَيْبَة أَو يعرف ذَلِك وَلم يتَضَمَّن العقد معرفَة شهدائه بِهِ وَلَا يعرفونه سَأَلَ القَاضِي الشُّهُود عَن ذَلِك فَإِن قَالُوا نعرفه وَإِن حضر عَيناهُ خَاطب بِالْعُقُودِ وَذكر ذَلِك بِالْخِطَابِ فَإِذا وصل القَاضِي الْمُخَاطب بِهِ أثْبته وَإِن أنكر الْمُقَوّم عَلَيْهِ أعذر إِلَيْهِ وتوثق بالمضامن أَو الرَّهْن مِنْهُ ريثما يدْفع فِي شَهَادَتهم أَو يَأْتِي بِشَهَادَتِهِم هُوَ أَنه لَيْسَ هُوَ الَّذِي أشهدهم وَإِن قَالَ الشُّهُود أَولا للْقَاضِي لَا نعرفه وَلَا نعوته تحفظ لم يثبت العقد وَلَا خَاطب بِهِ وَالْأَصْل يُرَاعِي فِيهِ أَن يكون نَصه يَقْتَضِي حكما وَيعْتَبر فِيهِ تَارِيخ التَّحَمُّل للشَّهَادَة لَا تَارِيخ أَدَائِهَا فِي حكم مُقْتَضى العقد أبدا وَلَا اعْتِبَار بتاريخ الْأَدَاء إِلَّا فِي مَسْأَلَة طلب حل الأَصْل بِإِثْبَات الْعَدَاوَة من الشُّهُود وَمن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ كَمَا تقدم الذّكر لَهُ

الخطة السادسة

والاسترعاء يعْتَبر فِيهِ أَن يكون شهدائه بِإِثْبَات أَمر أَو إِضَافَة شي غلى شَيْء أَو صفة أَو نِسْبَة إِلَى مَوْصُوف وَأَن يكون إِيرَاد ذَلِك وسياقه على الْبَتّ وَمَتى شهدُوا فِي نفي على الْبَتّ بَطل الاسترعاء فِي القَوْل الَّذِي عَلَيْهِ الْأَحْكَام لِأَنَّهَا شَهَادَة غموس وزور وَمَتى شهدُوا فِي مَكَان الْبَتّ وَهُوَ الْإِثْبَات على الْعلم دون الْبَتّ كَانَ وَهنا فِي العقد ووصما فِي تَضْمِينه وَلَا يبطل وَلَكِن يستفسر الشُّهُود فَإِن فَاتَ استفسار الشُّهُود بموتهم أَو غيبتهم قضي بِهِ إِن كَانُوا من أهل الْعلم بطرِيق الشَّهَادَة وَالْفِقْه فِي ذَلِك وَبَطلَت إِن كَانُوا من أهل الْجَهْل والمشهد على نَفسه بِمَا يَقْتَضِي لغيره حَقًا من طَرِيق الْمُعَاوَضَات يشْتَرط فِي الشَّهَادَة صِحَّته وَجَوَاز فعله خوف الْمَرَض لحق الوراثة فِي الزَّائِد على الثُّلُث وَخَوف التحجير لحق الْمُقدم أَو الْوَصِيّ وَخَوف السَّفه لحق نفس السَّفِيه الَّذِي يجب على الْحَاكِم النّظر لَهُ والمشهد بِحُقُوق الْغَيْر بِغَيْر الْمُعَارضَة لَا يشْتَرط فِيهِ إِلَّا الصِّحَّة فيمت زَاد على الثُّلُث لحق الْوَارِث ولابد فِيهَا من اشْتِرَاط الْعقل والشهد بِالتَّوْكِيلِ عَن مُوكله يشْتَرط فِيهِ معرفَة ثُبُوته بإشهاد الْمُثبت معرفَة عين الْوَكِيل وَنَصّ التَّوْكِيل إِقَامَته فِيمَا شهد فِيهِ مقَام الْمُوكل بالتنصيص على ذَلِك الْفَصْل والمشهد بالحكم لَا يشْتَرط فِي إِلَّا فِي كَونه فِي تَارِيخ الْإِشْهَاد حَامِلا فِي ذَلِك وَكَون إشهاده فِي مَكَان يجوز لَهُ فِيهِ والمشهد على شَهَادَته يشْتَرط فِيهِ كَونه عدلا وَكَونه فِي عقله انْتهى الخطة السَّادِسَة الْحِسْبَة وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن خلدون وَهِي وَظِيفَة دينية فِي بَاب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الَّذِي هُوَ فرض على الْقَائِم بِأُمُور الْمُسلمين يعين

لذَلِك من يرَاهُ أَهلا فَيتَعَيَّن فَرْضه عَلَيْهِ ويتخذ الأعوان على ذَلِك ويبحث عَن النكرات ويعزز ويؤدب على قدرهَا قلت قَالَ الْمَاوَرْدِيّ هِيَ وَاسِطَة بَين الْمَظَالِم وَالْقَضَاء قَالُوا وموضوعها الرهبة وموضوع الْقَضَاء النصفة الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن رضوَان مُلَخصا لما شرطُوا فِي متقلدها من شُرُوطه الْعَدَالَة والنزاهة وَمَعْرِفَة فقه الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَمَعْرِفَة طرف من الْحساب لاختبار قيم المبيعات وَنسب الأسعار وَنَحْو ذَلِك والتيقظ لإِقَامَة الموازين بِالْقِسْطِ والشعور بغش المنتحلين والصرامة فِي الحكم وَعدم الِالْتِفَات إِلَى الشفاعات لِأَن نظره مَنُوط بِحُقُوق عَامَّة الْمُسلمين وَإِسْقَاط حق جمَاعَة لإرضاء وَاحِد لَيْسَ بصواب الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة لَا حكم لصَاحب هَذِه الحطة فِي الدعاوي مُطلقًا بل فِيمَا يتَعَلَّق بالغش والتدليس فِي المعايش وَغَيرهَا وَفِي المكائيل والموازين وَشبه ذَلِك وَلَا يتَوَقَّف حكمه على تنَازع أَو استعداد بل مَا وصل إِلَيْهِ من ذَلِك ينظر فِيهِ تَوْجِيه قَالَ ابْن خلدون وَكَأَنَّهَا أَحْكَام ينزه عَنْهَا الْقَضَاء لعمومها وسهولة أغراضها فَترفع إِلَى صَاحب هَذِه الْوَظِيفَة ليقوم بهَا فَهِيَ خادمة لمنصب الْقَضَاء

الخطة السابعة

قَالَ وَقد كنت فِي كثير من الدول كالعبيديين بِمصْر وَالْمغْرب والأموية بالأندلس دَاخِلَة فِي ولَايَة القَاضِي يولي فِيهَا باختباره وَلما انْفَرَدت وَظِيفَة السُّلْطَان عَن الْخلَافَة وَصَارَ نظره عَاما فِي السياسة اندرجت فِي وظائف الْملك وأفردت بِالْولَايَةِ الخطة السَّابِعَة السِّكَّة وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن خلدون هِيَ نظر فِي حفظ النُّقُود المتعامل بهَا عَن الْغِشّ أَو النَّقْص إِن كَانَ التَّعَامُل بهَا عددا وَفِي وضع عَلامَة السُّلْطَان دَلِيلا على الْجَوْدَة المصطلح على تَسْمِيَتهَا إِمَامًا وعيارا بِحَيْثُ كل مَا نقص عَن ذَلِك زيفا قَالَ وَهِي دينية بِهَذَا الِاعْتِبَار ومندرجة تَحت الْخلَافَة وضرورية فِي الْملك إِذْ بهَا يتَمَيَّز الْخَالِص من الْبيُوع فِي النُّقُود الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ لفظ السِّكَّة كَانَ اسْما للطابع وَهِي الحديدة المتخذة للختم على الدِّينَار وَالدِّرْهَم بِمَا ينقش عَلَيْهِمَا من صور أَو كَلِمَات ثمَّ نقل إِلَى أَثَرهَا وَهُوَ النقوش المائلة على الدِّينَار وَالدِّرْهَم ثمَّ إِلَى الْقيام على ذَلِك وَالنَّظَر فِي شُرُوطه ومكملاته وَهِي الْوَظِيفَة فَصَارَ علما عَلَيْهَا فِي عرف الدول الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ كَانَ مُلُوك الْعَجم ينقشون عَلَيْهَا تماثيل يخْتَص بهَا كتمثال

السُّلْطَان لعهدها أَو تِمْثَال حصن أَو حَيَوَان أَو غير ذَلِك وَلما جَاءَ الْإِسْلَام أغفل ذَلِك لسذاجة الدّين وبداوة الْعَرَب واقتصروا غلى التَّعَامُل بسكة الْفرس إِلَى أَن تفاحش غشها لغفلة الدولة عَن ذَلِك فَأمر عبد الْملك الْحجَّاج بِضَرْب الدَّرَاهِم سنة أَربع وَسبعين ثمَّ أَمر بضربها فِي سَائِر النواحي سنة سِتّ وَسبعين وَكتب عَلَيْهَا الله أحد الله الصَّمد ثمَّ ولى ابْن هُبَيْرَة الْعرَاق فِي أَيَّام يزِيد بن عبد الْملك فجود السِّكَّة ثمَّ بَالغ خَالِد الْقَسرِي فِي تجويدها ثمَّ يُوسُف بن عمر بعده وَقيل أول من ضرب الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم مُصعب بن الزبير بالعراق

سنة سبعين بِأَمْر أَخِيه لما ولي بالحجاز وَكتب عَلَيْهَا فِي أحد الْوَجْهَيْنِ بركَة وَفِي الآخر من الله ثمَّ غَيرهَا الْحجَّاج بعد ذَلِك بِسنة وَكتب علها بِسم الله الْحجَّاج الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ وقدروا وَزنهَا على مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَيَّام عمر رَضِي الله عَنهُ ونقشوا فِيهَا كَلِمَات لَا صورا لِأَن الْعَرَب أقرب المناحي إِلَيْهِم الْكَلَام والبلاغة مَعَ نهي الشَّرْع عَن الصُّور وَجعلُوا شكل الدِّينَار وَالدِّرْهَم مدورا وَالْكِتَابَة عَلَيْهِ فِي دوائر موازية أحد الْوَجْهَيْنِ يكْتب فِيهِ أَسمَاء الله تهليلا وتحميدا وَصَلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّانِي يرسم فِيهِ التَّارِيخ وَاسم الْخَلِيفَة وَهَكَذَا أَيَّام العباسيين والعبيديين والأمويين وَأما صنهاجة فَلم يتخذوا سكَّة إِلَّا آخر المر اتخذها الْمَنْصُور صَاحب بجاية وَلما جَاءَ الموحدون كَانَ مِمَّا سنّ لَهُم الْمهْدي

توسيع شكل الدَّرَاهِم وَأَن يرسم فِي دَائِرَة الدِّينَار شكل مربع فِي ويطه ويملأ بَين أحد الْجَانِبَيْنِ تهليلا وتحميدا وَمن الآخر يكْتب اسْمه وَاسم الْخُلَفَاء من بعده فَفَعَلُوا ذَلِك إِلَى هَذَا الْعَهْد وَقد كَانَ الْمهْدي ينعَت قبل ظُهُوره بِصَاحِب الدِّرْهَم المربع وَأما أهل الْمشرق لهَذَا الْعَهْد فسكتهم غير مقدرَة وتعاملهم بهَا إِنَّمَا هُوَ بِالْوَزْنِ بالصنجات وينقشون عَلَيْهَا تهليلا وَصَلَاة وَاسم السُّلْطَان كَمَا يَفْعَله أهل الْمغرب ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم إنتتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة مَا تقدم من أَن مَوضِع هَذِه الخطة حفظ النُّقُود مِمَّا يخل بهَا غشا ونقصا يَقْتَضِي بأكيد الْعِنَايَة بِهَذَا الْحِفْظ وَهُوَ كَذَلِك بِلَا شكّ عِنْد الْأَوَائِل والأواخر فَفِي العهود اليونانية وَأما مَا يتعامل بِهِ النَّاس فَإِن كَانَ ذَهَبا أَو فضَّة كَانَ على أَجود عيار وَإِن كَانَ سلْعَة أُخْرَى كَانَت من فضل أجناسها لِأَن مَا وَردت إِلَيْهِ الْقيمَة فِي الْبيُوع حقيق أَن يكون على أفضل مَنَازِله قلت فِي الافلاطونيات مَا ردَّتْ إِلَيْهِ قيمَة الْأَشْيَاء وتعامل بِهِ النَّاس فِي الْبلدَانِ فَهُوَ شَبيه بالملوك يصلح الْملك بصلاحه وإستجادته وَيفْسد بفساده واستعماله التَّجَوُّز فِيهِ موعظة قَالَ فِي العهود وَمن الْمَأْثُور أَنه مَا اعْتمد أحد الْمُلُوك إِفْسَاد مَا يتعامل النَّاس بِهِ فِي مَمْلَكَته وَتجوز فِي أمره إِلَّا سَقَطت مَنْزِلَته وانقرض نَسْله ثمَّ ذكر مَا تقدم من أفلاطون خَاتِمَة لهَذَا الرُّكْن قَالَ انحصار هَذِه الخطط فِيمَا ذكر بِحَسب مَا بَقِي مِنْهَا

الركن الثامن

الهذا الْعَهْد وَإِلَّا فَمِنْهَا مَا ذهب بذهاب مَا ينظر فِيهِ كالجهاد فِي الأقطار الَّتِي عدوها غير كَافِر وَمَا صَار سلطانيا كالإمارة والوزارة وَالْحَرب وَالْخَرَاج والشرطة قَالَ ابْن خلدون وَبِالْجُمْلَةِ فقد اندرجت رسوم الْخلَافَة ووظائفها فِي رسوم الْملك والسياسة فِي سَائِر الدول لهَذَا الْعَهْد وَالله مصرف الْأُمُور بِحِكْمَتِهِ الرُّكْن الثَّامِن تَرْتِيب الْمَرَاتِب السُّلْطَانِيَّة الْمُقدمَة الأولى أَن السُّلْطَان كَمَا سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ لابد لَهُ من الِاسْتِعَانَة بِغَيْرِهِ فِيمَا يحمل من الْأَمر الثقيل فِي سياسة من استرعاه الله تَعَالَى من خلقه وعباده لاسيما مَا فَوق الْغَايَة فِي ذَلِك من معاناة الْقُلُوب كَمَا قيل لمعاناة نقل الْجبَال من أماكنها أَهْون من معاناة قُلُوب الرِّجَال الْمُقدمَة الثَّانِيَة إِن الْوَظَائِف الَّتِي بهَا استعانة السُّلْطَان فِي الْملَّة الإسلامية مندرجة فِي الْخلَافَة الْمُشْتَملَة على حفظ الدّين وَالدُّنْيَا كَمَا تقدم وَحِينَئِذٍ فَلَا بُد من نظر الْفَقِيه فِيهَا وَفِي شُرُوط تقليدها وَصِحَّة السياسة بهَا شَأْن نظره فِي سَائِر أَفعَال الْمُكَلّفين وَعَلِيهِ فَلَا فرق بَينهمَا وَبَين الْوَظَائِف الخلافية فِي تِلْكَ الْجِهَة وَمن حَيْثُ الْكَلَام عَلَيْهَا بِمَا يَقْتَضِيهِ طبيعة الْعمرَان فالرفق بَينهمَا زَاهِر

المرتبة الأولى

الْمُقدمَة الثَّالِثَة أَن هَذِه الِاسْتِعَانَة إِمَّا بِصَاحِب رَأْي أَو سيف أَو قلم أَو حجابة وَإِلَى رتبها الْأَرْبَع يرجع جَمِيع رتب الْملك وَالسُّلْطَان قَالَ ابْن خلدون أَلا إِن الأرفع مِنْهَا مَا كَانَت الْإِعَانَة فِيهِ عَامر وَالْخَاص مِنْهَا دون ذَلِك كقيادة ثغر أَو ولَايَة جباية خَاصَّة قَالَ وَمَا زَالَ الْأَمر على ذَلِك حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام فَذَهَبت تِلْكَ الخطط بذهاب رسم الْملك إِلَّا مَا هُوَ طبيعي من المعاونة بِالرَّأْيِ والمفاوضة فِيهِ وَعند انقلاب الْخلَافَة ملكا رَجَعَ المر إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قلت وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَعَ ذَلِك مُتَعَلقَة بهَا كَمَا تقدم إِذا تقرر هَذَا فأمهات الْمَرَاتِب السُّلْطَانِيَّة على التَّفْصِيل خُصُوصا بِهَذِهِ القطار المغربية خمس مَرَاتِب الحجابة وَالْكِتَابَة وديوان الْعَمَل والجباية والشرطة قلت وأولها هِيَ الوزارة ألحقناها بالأركان المستقلة وَقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهَا أَولا وَحقّ لَهَا ذَلِك الْمرتبَة الأولى الحجابة وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى لَا يُوجد لهَذِهِ الخطة فبأيام الْخلَافَة الدِّينِيَّة لما فِي الشَّرِيعَة من منع مدافعة ذَوي الْحَاجَات عَن بَاب الْخَلِيفَة وَعند انقلاب الْخلَافَة ملكا كَانَ أول شَيْء بِهِ شَأْن الْبَاب وسده عَن الجهور لما يخْشَى من اغتيال

المسألة الثانية

الْخَوَارِج وَغَيرهم كَمَا وَقع بعمر وَعلي وَمُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُم وبغيرهم من بعدهمْ مُنْضَمًّا إِلَى مَا فِي فَتحه من تزاحم النَّاس على بَاب السُّلْطَان وشغله بهم عَن الْمُهِمَّات وَاتَّخذُوا من يقوم بذلك وسموه بالحاجب قلت وَعند وجود الْمُقْتَضِي لاتخاذه يكون مَشْرُوعا مَعَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُوكل غُلَاما بِبَابِهِ لَا ليدفع ذَوي الْحَاجَات عَنهُ إهمالا لَهُم وإطراحا بل لما هُوَ مَأْذُون فِيهِ مِمَّا لَا تخفى صِحَة الْقَصْد إِلَيْهِ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة لهَذِهِ الْمرتبَة فِي الدول الشهيرة تفَاوت كثير فِي الْعِنَايَة بهَا أما فِي دولة بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس بالمشرق فاقتصروا بهَا على من يحجب السُّلْطَان عَن الْعَامَّة ويغلق بَابه دونهم أَو يَفْتَحهُ لَهُم على قدره وَفِي وقته فَكَانَت بذلك مرؤوسة للخطط النبيهة خُصُوصا للوزارة لتصرفها فِيهَا بِمَا يرَاهُ قَالَ ابْن خلدون وَإِلَى هَذَا الْعَهْد فَهِيَ بِمصْر مرؤوسة لصَاحب هَذِه الخطة الْعليا الْمُسَمّى بالناشب وَأما فِي الدولة الأموية بالأندلس فَكَانَت لمن يَحْجُبهُ عَن الْخَاصَّة والعامة وَيكون وَاسِطَة بَينه وَبَين الوزراء فَمن دونهم فَلَا جرم كَانَت عِنْدهم أرفع الْمَرَاتِب وأبعدها غَايَة وَعند ظُهُور الاستبداد على الدولة اخْتصَّ المستبد باسم الحجابة لشرفها كالمنصور بن أبي عَامر وابنيه من بعده ثمَّ بعد انْتِهَاء الْأَمر إِلَى مُلُوك الطوائف وانتحالهم ألقاب

المسألة الثالثة

الْملك وأسمائه مَا تركُوا لقبها بل عدوه أشرف مَا تحلوا بِهِ مَعَ ذَلِك وَأما فِي دوَل الْمغرب وإفريقية فَلم يكن فِيهَا ذكر لهَذَا الإسم لبداوتهم وَرُبمَا يُوجد قَلِيلا فِي دولة العبيديين بِمصْر عِنْد استعظامها وحضارتها وَكَذَا لَا عهد بِهِ فِي الدول الْحَادِثَة بعد كدولة الْمُوَحِّدين وَبني أبي حَفْص بإفريقية ودول زناتة كبني مرين وَبني عبد الواد الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة تقدم أَنَّهَا حَادِثَة الْوُجُود فِي الدول الإسلامية عِنْد إنقلاب الْخلَافَة ملكا لقِيَام مُقْتَضى مَشْرُوعِيَّة اعْتِبَارهَا وَأَن التَّفَاوُت فِي الْعِنَايَة بهَا بعد ذَلِك بِحَسب بداوة الدولة وحضارتها وقديما قبل الْإِسْلَام كَانَ لَهَا من الْملك موقع عَظِيم فَفِي العهود اليونانية وَأعلم أَن حجابك صفحة مملكتك الَّتِي تسْتَقْبل بهَا الصَّادِر والوارد والبادي والحاضر فَأحْسن اخْتِيَاره الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة ذكرُوا لصَاحب هَذِه الْمرتبَة شُرُوطًا ضَرُورِيَّة وكمالية أَحدهَا الْمعرفَة بأوقات محجوبة وانبساطه ومنازل النَّاس مِنْهُ حَتَّى يكون وَجهه عنوانا عَن وجهة من غضب ورضا وإبعاد وإدناء الثَّانِي صِحَة الرَّأْي ليضع الْأُمُور موَاضعهَا وَيعْتَذر إِلَى من مَنعه بِمَا يَقْضِيه وَلَا ينقص من جَانب محجوبه الثَّالِث الرأفة لتحجزه عَن ابتذال الْأَحْرَار وامتهانهم بطول انْتِظَار الْإِذْن الرَّابِع النزاهة لتمنعه من فَسَاد تَرْتِيب القاصدين وَتَقْدِيم أدانيهم لما يتعجله مِنْهُم

المسألة الخامسة

الْخَامِس حسن الْإِبَانَة عَن توصيل مَا يلقى إِلَيْهِ وتبليغ التوقيع عَلَيْهِ السَّادِس بسط الْوَجْه مَعَ هَيْبَة الْجَانِب لمُؤْمِن ته مَحْذُور النفار والإدلال السَّابِع سَلامَة الْجَوَارِح من الافات القادحة فِي إختياره لتِلْك الْمنزلَة الثَّامِن الصدْق فِيمَا ينفل للسُّلْطَان أَو يبلغ عَنهُ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من جَوَامِع مَا يُؤْخَذ بِهِ أُمَرَاء ونهيا قَول أبرويز لحاجية لَا تقدس مستغنيا وَلَا تضعن شريفا لصعوبة حجاب وَلَا ترفعن ذَا ضعة لسهولته ضع الرِّجَال على مَوَاضِع أخطارهم عَمَّن كَانَ مُتَقَدما لَهُ شرف ثمَّ ازدرعه وَلم يهدمه من بعد آبَائِهِ فقدمه على شرفه الأول وَحسن رَأْيه الْأُخَر وَمن كَانَ لَهُ شرف مُتَقَدم فَلم يصن ذَلِك إبلاغا بِهِ وَلم يزدرعه تثميرا لَهُ لألحق بآبائه مهلة لسبقهم فِي خواصهم وَالْحق بِهِ فِي خاصته مَا الْحق بِنَفسِهِ وَلَا تَأذن لَهُ إِلَّا دبرا وَإِذا ورد عَلَيْك كتاب عَامل من عمالي فَلَا تحبسه عني طرفَة عين إِلَّا أَن أكون على حَالَة لَا تَسْتَطِيع الْوُصُول إِلَيّ وَأَن أَتَاك مُدع لنصيحة فليكتبها سرا ثمَّ ادخله من بعد أَن تستأذن لَهُ حَتَّى إِذا كَانَ مني بِحَيْثُ أرَاهُ فأدفع إِلَى كِتَابه فَإِن حمدت قبلت وَإِن كرهت رفضت وَلَا ترفعن إِلَيّ طلبة أحد إِن منعته بخلني وَإِن أَعْطيته إزدراني إِلَّا بمؤامرة مني بِغَيْر أَن تعلمه أَنَّك فد أعلمتني وَإِن أَتَاك علم يسْتَأْذن عَليّ بِالْعلمِ فَاسْأَلْهُ مَا علمه ذَلِك ثمَّ اسْتَأْذن لَهُ فَإِن الْعلم كاسمه وَلَا تحجبن سخطَة وَلَا تأذنن رضَا اخصص بذلك الْملك وَلَا تخصص بِهِ نَفسك اخْتِلَاف سيرة اشد من هَذَا فِي التحجير عَلَيْهِ قَول مَرْوَان لِابْنِهِ

نوادر

عبد الْعَزِيز حِين ولاه مصر يَا بني مر حاجبك يُخْبِرك من قصد بابك كل يَوْم فَتكون أَنْت تَأذن وتحجب وَأقرب مِنْهُ إِلَى التَّوَسُّط قَول زِيَاد لحاجبه وليتك مَا وَرَاء بَابي وعزلتك عَن أَرْبَعَة طَارق ليل مَا جَاءَ بِهِ وَخبر رَسُول صَاحب الثغر فَإِنَّهُ إِن تَأَخّر سَاعَة أبطل عمل سنة وَهَذَا الْمُنَادِي للصَّلَاة وَصَاحب الطَّعَام فَإِن الطَّعَام إِذا اعمد عَلَيْهِ التسخين فسد نَوَادِر أَسْتَأْذن أَبُو سُفْيَان على عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فحجبه لبَعض مَا نابه من أُمُور الْمُسلمين فَقيل لَهُ حجبك أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَا عدمت من قومِي من إِذا شَاءَ حجبني

الثَّانِيَة قَالَ عبد الله بن مُصعب الزبيرِي كُنَّا بِبَاب الْفضل وهم يأذنون لِذَوي الشارات والهيآت وأعرابي يدنو فَكلما دنا صرخَ بِهِ فَقَامَ نَاحيَة ثمَّ قَالَ أَبْيَات (رَأَيْت آذننا يعتام بزتنا ... وَلَيْسَ للحسب الزاكي بمعتام) (مَتى رَأَيْت الصقور الجدل يقدمهَا ... خلطان من رخم قرع وَمن رَاجِح نَام) (وَلَو دعينا على الأحساب قد مني ... مجد تليد وَفضل رَاجِح نَام) الثَّالِثَة قَالَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ لحضين بن الْمُنْذر وَكَانَ يدْخل فِي أخريات النَّاس يَا أَبَا ساسان كَأَنَّهُ لَا يحسن إذنك فَأَنْشَأَ يَقُول (وكل خَفِيف الرَّأْي يمشي مشمرا ... إِذا فتح البواب بابك أصعبا) (وَنحن الْجُلُوس الماكثون رزانة ... وحلما إِلَى أَن يفْتَتح الْبَاب أجمعا)

المرتبة الثانية

الْمرتبَة الثَّانِيَة الْكِتَابَة وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن خلدون هَذِه الْوَظِيفَة غير ضَرُورِيَّة فِي الْملك لاستغناء كثير من الدول عَنْهَا كالدول رَأْسا فِي البدو والبعد عَن تَهْذِيب الحضارة واستحكام الصَّنَائِع وَإِنَّمَا أكد الْحَاجة إِلَيْهَا فِي الدولة الإسلامية شَأْن اللِّسَان الْعَرَبِيّ وبلاغة الْعبارَة عَن الْمَقَاصِد فَكَانَ الْكَاتِب يُؤَدِّي كنه الْحَاجة بأبلغ من الْعبارَة اللسانية فِي الْأَكْثَر وَكَانَ يخْتَار إِذْ ذَاك من أهل نسب الْأَمِير وَمن عُظَمَاء قَبيلَة لصدق أمانتهم وخلوص أسرارهم وَلما فسد اللِّسَان وَصَارَ صناعَة اخْتصَّ بِمن يُحسنهُ قَالَ وَكَانَت عِنْد بني الْعَبَّاس رفيعة قلت وَكَذَا عِنْد الْأَوَائِل كَمَا يدل عَلَيْهِ وَصِيَّة حكمائهم هَذَا أرسطو يَقُول فِي فضل الْعِنَايَة بهَا وَمَا تفاخرت الْمُلُوك عَن قديم الْأَيَّام إِلَّا بكتابها وَلَا رفعت إِلَى عَظِيم الْمنَازل إِلَّا بهم الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ وَمن خطط الْكِتَابَة التوقيع وَهُوَ أَن يجلس الْكَاتِب بَين يَدي السُّلْطَان فِي مجَالِس حِكْمَة ويوفق الْقَصَص المرفوعة إِلَيْهِ أَحْكَامهَا متلقات من السُّلْطَان بأوجز لفظ وأبلغه فيصدر كَذَلِك أَو يحذو الْكَاتِب على مثالها فِي سجل سُكُون بيد صَاحب الْقِصَّة وَيحْتَاج إِلَى عارضة من البلاغة يَسْتَقِيم بهَا توقيعه

المسألة الثالثة

قَالَ وَقد كَانَ جَعْفَر بن يحيى يُوقع فِي الْقَصَص بَين يَدي الرشيد وَيَرْمِي بالقصة إِلَى صَاحبهَا فَكَانَ البلغاء يتنافسون فِي تَحْصِيل الْوُقُوف على توقيعاته الْمُشْتَملَة على أساليب البلاغة وفتونها حَتَّى قيل إِ كل قصَّة مِنْهَا كَانَت تبَاع بِدِينَار الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ وَلَا بُد أَن يتَخَيَّر من أرفع طَبَقَات النَّاس وَأهل الْمُرُوءَة والحشة مِنْهُم وَزِيَادَة الْعلم وعارضة البلاغة فَإِنَّهُ معرض للنَّظَر فِي أصُول الْعلم لما يعرض فِي مجَالِس الْمُلُوك ومقاعد أحكامهم من أَمْثَال ذَلِك مَعَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ عشرتهم من الْآدَاب والتخلق بالفضائل الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من أثر الْعِنَايَة بِهَذِهِ الرُّتْبَة رِعَايَة مَا يجب للقائم بهَا من حُقُوق الْحَاجة إِلَيْهِ فَفِي سياسة ارسطو كَمَا أَنه يترجم عَن إرادتك ويطلع على أسرارك وَيُقِيم فِي المحافل عِنْد نظرائك جاهك فَكَذَلِك يجب أَن ترعى من أُمُوره بِقدر مَا يَخْدمه من إرادتك ويحتمله من أعباء رياستك وَأَن تنزله منزلَة الْجُزْء مِنْك الَّذِي صَلَاحه بصلاحك وَعَن بعض الْمُلُوك لِلْكَاتِبِ الناصح ثَلَاث خلال رفع الْحجاب عَنهُ واتهام الوشاة عَلَيْهِ وَدفع غائلة الْغدر عَنهُ حِكَايَة نقل ابْن رضوَان أَنه لما توفّي كَاتب السِّرّ لعبد الْمُؤمن بن عَليّ

اهتم لذَلِك حَتَّى ظهر علبه التَّأْثِير لَهُ قَالَ مَسْعُود بن سُلْطَان الريَاحي فَسَأَلت مَا الَّذِي أهمه فَقَالَ لي إِن كَاتب سرنا قد مَاتَ واحتجنا إِلَى من نقيمه مقَامه وَمَا وَجَدْنَاهُ لِأَنَّهُ يحْتَاج فِي كَاتب السِّرّ أَن يكون على صفة كَذَا وَمن نعت كَذَا قَالَ فَقلت لَهُ بِشِرَاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الرجل ببجاية أَبُو الْفضل ابْن مُحَمَّد بن عَليّ بن طَاهِر وَوصف لَهُ من صِفَاته مَا وَقع موقع الْقبُول وَكتب لَهُ الْأَمِير عبد الْمُؤمن من حِينه وَأمر وَالِي بجاية أَن يتحفي بِهِ ويحمله خير محمل فَلم يُمكنهُ بعد وُصُول الْأَمر إِلَّا طَاعَته وَلم يَسعهُ التَّخَلُّف وَلما وصل إِلَى حَضْرَة مراكش وَمثل بَين يَدي الْأَمِير عبد الْمُؤمن فَرَأى من حسن سمته ووقاره مَا أغناه عَن اخْتِيَاره فَأكْرم نزله وَرفع مَنْزِلَته وَمحله وَلما وَقع الِاطِّلَاع على مَا عِنْده من فنون الْعلم علم أَن الْكتاب الَّتِي وَقع استدعائه بِسَبَبِهَا إِنَّمَا هِيَ بعض صِفَاته وَإِحْدَى آلاته وأدواته وَكَانَ من عَادَته أَنه إِذا وَجه إِلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ ليَأْتِي إِلَى مَحَله يتأنى ويتربص وَيَأْتِي على التؤدة وَالْوَقار وَإِصْلَاح الْهَيْئَة وَلم يزل ذَلِك دأبه إِلَى أَن وشى بِهِ عِنْد الْملك من غص مِنْهُ فَقَالَ إِنَّه لَا يَأْتِي إِلَّا عَن قعُود من الْخَلِيفَة وَقَالَ مَا شَاءَ الله أَن يَقُول فَوَقع فِي نفس الْملك من ذَلِك شَيْء فاستدعاه يَوْمًا وأعجله فتأنى وَجرى على عَادَته وَلما حضر بَين يَدَيْهِ عاتبه وَقَالَ لَهُ يَا فَقِيه كثيرا مَا تبطىء إِلَيْنَا إِذا استدعيناك فَمَا هَذَا مِنْك فَقَالَ

يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنْت إِمَام الْمُسلمين وَمَا أَحسب مَحل الْإِمَامَة إِلَّا كمحل الصَّلَاة فَكَمَا آتِي الصَّلَاة آتِي هَذَا الْمحل وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أتيتم الصَّلَاة فَلَا تأتوها وَأَنْتُم تسعون وأتوها وَعَلَيْكُم السكينَة وَالْوَقار فَمَا أدركتم فصلوا وَمَا فاتكم فَأتمُّوا فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَزَاد فِي تقريبه وَتَركه على حَاله وحاجة الْخَلِيفَة كَانَت إِلَيْهِ أَكثر من حَاجته هُوَ إِلَيْهِ تتميمة بَيَان قَالَ ابْن خلدون وَأما الشُّرُوط الَّتِي يلاحظها السُّلْطَان فِي اخْتِيَار صَاحب هَذِه الرُّتْبَة وانتقائه من أَصْنَاف النَّاس فَهِيَ كَثِيرَة وَأحسن من استوعبها عبد الحميد الْكَاتِب فِي رسَالَته إِلَى الْكتاب وَهِي هَذِه أما بعد حفظكم الله يَا أهل الصِّنَاعَة والبدعة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم فَإِن الله تَعَالَى جعل النَّاس بعد الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَمن بعد الْمُلُوك الْمُكرمين أصنافا وأركانا وَإِن كَانُوا فِي الْحَقِيقَة سَوَاء وصرفهم فِي صنوف الصناعات وضروب المحاولات إِلَى أَسبَاب معائشهم وأبواب أَرْزَاقهم فجعلكم معشر الْكتاب فِي أشرف الْجِهَات من أهل الْأَدَب والمروءة وَالْعلم وَالرِّوَايَة فبكم تنتظم الْخلَافَة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصائحكم يصلح الله لِلْخلقِ سلطانهم وتعمر بلدانهم لَا يَسْتَغْنِي الْملك عَنْهُم وَلَا يجد كَاف إِلَّا مِنْكُم فموقعكم من الْمُلُوك موقع أسماعهم الَّتِي يسمعُونَ بهَا وأبصارهم الَّتِي يبصرون بهَا وألسنتهم الَّتِي بهَا ينطقون

وأيديهم الَّتِي بهَا يبطشون فأمتعكم الله بِنَا خصكم من فضل صناعتكم وَلَا نزع عَنْكُم مَا أفضاه من النِّعْمَة عَلَيْكُم وَلَيْسَ أحد من أهل الصناعات كلهَا أحْوج إِلَى اجْتِمَاع خلال الْخَيْر المحمودة وخصال الْفضل الْمَذْكُورَة المعدودة مِنْكُم أَيهَا الْكتاب إِذا كُنْتُم على مَا] أُتِي من هَذَا الْكتاب من صفتكم فَإِن الْكَاتِب يحْتَاج من نَفسه وَيحْتَاج مِنْهُ صَاحبه الَّذِي يَثِق بِهِ فِي مهمات أُمُوره أَن يكون حَلِيمًا فِي مَوضِع الْحلم فهما فِي مَوضِع الحكم ومقداما فِي مَوضِع الْإِقْدَام ومحجاما فِي مَوضِع الإحجام مؤثرا للعفاف وَالْعدْل والإنصاف كتوما للأسرار وفيا عِنْد الشدائد عَالما بِمَا يَأْتِي عِنْد النَّوَازِل يضع الْأُمُور موَاضعهَا والطوارق أماكنها قد نظر فِي كل فن من فنون الْعلم فأحكمه وَإِن لم يحكمه أَخذ مِنْهُ بِمِقْدَار مَا يَكْتَفِي بِهِ يعرف بغريزة عقله وَحسن أدبه وَفضل تجربته مَا يرد عَلَيْهِ قبل وُرُوده وعاقبة مَا يصدر عَنهُ قبل صدوره فيعد لكل مَا أَمر عدته وعتاده ويهيء لكل وَجه أهبته وعتاده فتنافسوا يَا معشر الْكتاب فِي صنوف الْأَدَب وتفقهوا فِي الدّين وابدأوا بِعلم كتاب الله عز وَجل والفرائض ثمَّ الْعَرَبيَّة فَإِنَّهَا ثقاف أَلْسِنَتكُم ثمَّ أجيدوا الْخط فَإِنَّهُ حلية كتبكم وارووا الْأَشْعَار واعرفوا غريبها ومعانيها وَأَيَّام الْعَرَب والعجم وأحاديثها فَإِن ذَلِك معِين لكم على مَا تسموا إِلَيْهِ همتكم وَلَا تضيعوا النّظر فِي الْحساب فَإِنَّهُ قوام كتاب الْخراج وارغبوا بِأَنْفُسِكُمْ عَن المطامع سنيها ودينها وسفساف الْأُمُور ومحاقرها فَإِنَّهَا مذلة للرقاب مفْسدَة للْكتاب ونزهوا صناعتكم عَن الدناءة واربأوا بِأَنْفُسِكُمْ عَن السّعَايَة والنميمة وَمَا فِيهِ أهل الجهالات وَإِيَّاكُم وَالْكبر والسخف وَالْعَظَمَة فَإِنَّهَا عَدَاوَة مجتلبة من غير أحنة وتحابوا فِي الله عز وَجل وَفِي صناعتكم وَتَوَاصَوْا عَلَيْهَا بِالَّذِي هُوَ أليق بِأَهْل الْفضل وَالْعدْل والنبل من سلفكم وَإِن نبا الزَّمَان بِرَجُل مِنْكُم فاعطفوا فليه وواسوه حَتَّى يرجع إِلَيْهِ حَاله ويؤوب إِلَيْهِ أمره وَإِن أقعد أحدكُم الْكبر عَن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بِفضل تجربته وقديم مَعْرفَته وَليكن الرجل مِنْكُم على من اصطنعه وَاسْتظْهر بِهِ

ليَوْم حَاجته إِلَيْهِ أحوط مِنْهُ على وَلَده وأخيه فَإِن عرضت فِي الشّغل فَلَا يضيعها إِلَّا على صَاحبه وَإِن عرضت مذمة فليحتملها هُوَ من دونه وليحذر السقطة والزلة والهلك عِنْد تغير الْحَال فَإِن الْعَيْب إِلَيْكُم معشر الْكتاب أسْرع مِنْهُ فِي الْقُرَّاء وَهُوَ لكم أفسد مِنْهُ لَهَا فقد علمْتُم أَن الرجل مِنْكُم إِذا صَحبه من يبْذل لَهُ نَفسه مَا يجب لَهُ عَلَيْهِ من حَقه فَوَاجِب عَلَيْهِ أَن يعْتَقد لَهُ من وفائه وشكره واحتماله وَصَبره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره مَا هُوَ جَزَاء لحقه وَيصدق ذَلِك بفعاله عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ والاضطرار إِلَى مَا لَدَيْهِ فاستشعروا ذَلِك وفقكم الله فِي حَالَة الرخَاء والشدة والحرمان والمواساة وَالْإِحْسَان والسراء وَالضَّرَّاء فنعمة السمت هَذِه لمن بهَا من أهل هَذِه الصِّنَاعَة الشَّرِيفَة وَإِذا ولى الرجل مِنْكُم أَو صير إِلَيْهِ من أَمر خلق الله وَعِيَاله أمره فليراقب ربه عز وَجل وليؤثر طَاعَته وَليكن على الضَّعِيف رَفِيقًا وللمظلوم منصفا فَإِن الْخلق عِيَال الله وأحبهم إِلَيْهِ أرفقهم بعياله ثمَّ ليكن بِالْعَدْلِ حَاكما وللأشراف مكرما وللغنى موفرا وللبلاد عَامِرًا وللرعية متألقا وَعَن أذاهم مُتَخَلِّفًا وَليكن فِي مَجْلِسه متواضعا حَلِيمًا وَفِي سجلات خراجه واستقصاء حُقُوقه رَفِيقًا وَذَا صحب أحدكُم رجلا فليختبر خلائقه فَإِذا عرف حسنها وقبيحها أَعَانَهُ على مَا يُوَافقهُ من الْحسن واحتال بصرفه عَمَّا يهواه من الْقبْح بألطف حِيلَة وأجمل وَسِيلَة وَقد علمْتُم أَن سائس الْبَهِيمَة إِذا كَانَ عَالما بَصيرًا بسياستها التمس معرفَة أخلاقها فَإِن كَانَت رحوما لم يهجها إِذا ركبهَا وَإِن كَانَت شبوبا اتقاها من قبل يَدهَا وَإِن كَانَت شرودا توقاها من نَاحيَة رَأسهَا وَإِن كَانَت حرونا قمع بِرِفْق

مصاحب هَواهَا فِي طرقها فَإِن استمرت عطفها يَسِيرا فيسلس لَهُ قيادها وَفِي هَذَا الْوَصْف من السياسة دَلَائِل لمن سَاس النَّاس وعاملهم وخارجهم وداخلهم وَالْكَاتِب بِفضل أديه وشريف صَنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من النَّاس ويناظره وَيفهم عَنهُ أَو يخَاف سطوته أولى بالرفق لصَاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس الْبَهِيمَة الَّتِي لَا تحير جَوَابا وَلَا تعرف صَوَابا وَلَا تفهم حطابا إِلَّا بِقدر مَا يصيرها إِلَيْهِ صَاحبهَا الرَّاكِب عَلَيْهَا أَلا فارفقوا رحمكم الله فِي النّظر وَاعْمَلُوا فِيهِ مَا أمكنكم من الروية والفكر تأمنوا بِإِذن الله مِمَّن صحبتموه النُّبُوَّة والاستثقال والجفوة وَيصير مِنْكُم إِلَى الْمُوَافقَة وتصيرون مِنْهُ إِلَى المواخاة والشفقة إِن شَاءَ الله وَلَا يجاوزون الرجل مِنْكُم فِي هَيْئَة مَجْلِسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وثيابه وخدمه وَغير ذَلِك من فنون أمره قدر حَقه فَإِنَّكُم مَعَ مَا فضلْتُمْ بِهِ من شرف صناعتكم خدمَة لَا تحملون فِي خدمتكم على التَّقْصِير وَحفظه لَا تحْتَمل مِنْكُم أَفعَال التصنيع والتبذير وَاسْتَعِينُوا على عفافكم بِالْقَصْدِ فِي كل مَا ذكرته لكم وقصصته عَلَيْكُم واحذروا متالف السَّرف وَسُوء عَاقِبَة الترف فَإِنَّهُمَا يعقبان الْفقر ويذلان الرّقاب ويفضحان أهلهما وَلَا سِيمَا الْكتاب وأرباب الْآدَاب وللأمور أشباه بَعْضهَا دَلِيل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أَعمالكُم بِمَا سبقت إِلَيْهِ تجربتكم ثمَّ اسلكوا من مسالك التَّدْبِير أوضحها محجة واحمدها عَاقِبَة واعلوا أَن للتدبير آفَة متلفة وَهُوَ

الْوَصْف الشاغل لصَاحبه عَن إِنْفَاذ علمه ورويته فليقصد الرجل مِنْكُم فِي مَجْلِسه قصد الْكَافِي من منْطقَة وليوجز فِي ابْتِدَائه وُجُوبه وليأخذ بِمَجَامِع حججه فَإِن ذَلِك مصلحَة لفعله ومدفعة للتشاغل عَن إكثاره وليضرع إِلَى الله فِي صلَة توفيقه وإمدامه بتسديده مَخَافَة وُقُوعه فِي الْغَلَط المضر بِبدنِهِ وعقله وأدبه فَإِنَّهُ إِن ظن مِنْكُم ظان أَو قَالَ قَائِل أَن الَّذِي برز من جميل صَنعته وَقُوَّة حركته إِنَّمَا هُوَ بِفضل حيلته وَحسن تَدْبيره فقد تعرض بظنه أَو مقَالَته إِلَى أَن يكله الله عز وَجل إِلَى نَفسه فَيصير مِنْهَا إِلَى غير كَاف وَذَلِكَ على من تَأمله غير خَافَ وَلَا يقل أحد مِنْكُم أَنه أبْصر بالأمور وأحمل لعبء التَّدْبِير من مرافقه فِي صناعته ومصاحبه فِي خدمته فَإِن أَعقل الرجلَيْن عِنْد ذَوي الْأَلْبَاب من رمى بالعجب وَرَاء ظَهره وَرَأى أَن صَاحبه أَعقل مِنْهُ وَأحمد فِي طَرِيقَته وعَلى كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ أَن يعرف فضل نعم الله جلّ ثَنَاؤُهُ من غير اغترار بِرَأْيهِ وَلَا تزكيه لنَفسِهِ وَلَا يكابر على أَخِيه أَو نَظِيره وَصَاحبه وعشيرته وَحمد الله وَأوجب على الْجَمِيع ذَلِك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته وَأَنا أَقُول فِي كتابي هَذَا مَا سبق بِهِ الْمثل من تلْزمهُ النَّصِيحَة يلْزمه الْعَمَل وَهُوَ جَوْهَر الْكتاب وغرة كَلَامه بعد الَّذِي فِيهِ من ذكر الله عز وَجل فَلذَلِك جعلته آخِره وختمته بِهِ تولانا الله وَإِيَّاكُم يَا معشر الطّلبَة والكتبة بِمَا يتَوَلَّى بِهِ من سبق علمه فِي إسعاده وإرشاده فَإِن ذَلِك إِلَيْهِ وَبِيَدِهِ وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله

المرتبة الثالثة

الْمرتبَة الثَّالِثَة ديوَان الْعَمَل والجباية وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن خلدون وَهِي وَظِيفَة ضَرُورِيَّة للْملك وجزء عَظِيم مِنْهُ بل هِيَ ثَلَاثَة أَرْكَانه لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ من الْجند وَالْمَال والمخاطبة لمن غَابَ عَنهُ فَيحْتَاج صَاحبه إِلَى أَوَان فِي أَمر السَّيْف والقلم وَالْمَال فينفرد صَاحبهَا بِجُزْء من رياسة الْملك فِي الْقيام على أَعمال الجباية وَحفظ حُقُوق الدولة فِي الدُّخُول وَالْخُرُوج وإحصاء العساكر وَتَقْدِير أَرْزَاقهم وَصرف أَعطيتهم فِي وَقتهَا وَالرُّجُوع فِي ذَلِك إِلَى القوانين الَّتِي لَا يقوم بهَا إِلَّا المهرة من أَرْبَاب يلك الْعمَّال وَيُسمى كتابها بالديوان وَكَذَا مَكَان جُلُوس الْعمَّال والمباشرين لَهما الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي أصل هَذِه التَّسْمِيَة وَجْهَان أَحدهمَا أَن كسْرَى نظر يَوْمًا إِلَى كتاب ديوانه وَهُوَ يحسبون مَعَ أنفسهم كَأَنَّهُمْ يحادثون فَقَالَ ديوانه أَي مجانين بلغَة الْفرس فَسمى موضعهم بذلك وحذفت الْهَاء لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال فَقيل ديوَان ثمَّ نقل هَذَا الِاسْم كتاب الْأَعْمَال الثَّانِي أَنه اسْم للشَّيْطَان بِالْفَارِسِيَّةِ فَسمى الْكتاب بِهِ لسرعة نفوذهم فِي فهم الْأُمُور ووقوفهم على الجلى مِنْهَا والخفى وجمعهم مَا شَذَّ مِنْهَا وتفرق ثمَّ نقل إِلَى مَوضِع جلوسهم

قَالَ ابْن خلدون فعلى هَذَا يتَنَاوَل اسْم الدِّيوَان كتاب الرسائل وَمَكَان جلوسهم بِبَاب السُّلْطَان الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ فقد تفرد هَذِه الْوَظِيفَة بناظر وَاحِد ينظر فِي سَائِر الْأَعْمَال وَقد ينْفَرد كل صنف مِنْهَا بناظر كَمَا يفرد فِي بعض الدول فِي أعطيات العساكر أَو غير ذَلِك على حسب مصَالح الدولة وَمَا قره أسلافنا قلت قَالَ ابْن حزم إِن رَأْي الإِمَام أَن يفرق الْأَعْمَال فَحسن كَمَا ولي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعمال الْيمن جمَاعَة وَإِن رأى أَن يجمعها أَو بَعْضهَا لوَاحِد فِي بلد وَاحِد فَحسن كَمَا جمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمان كلهَا لعَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَن أول من وضع ديوَان الْجَيْش فِي الدولة الإسلامية عمر رَضِي الله عَنهُ وَذكر فِي سَببه وَجْهَان أَحدهمَا أَن أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَتَاهُ بِمَال من الْبَحْرين فاستكثروه وتعبوا فِي قسمه فتشوفوا إِلَى إحصاء المَال وَضبط عطائه فَأَشَارَ خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله عَنهُ بالديوان قَائِلا رَأَيْت مُلُوك الشَّام يدونون فَقبل مِنْهُ عمر رَضِي الله عَنهُ الثَّانِي الهرمزان الَّذِي أَشَارَ بذلك لما رأى بعث الْبعُوث بِغَيْر

ديوَان قَالَ وَمن يعلم بغيبة من يغيب مِنْهُم وَإِنَّمَا يضْبط ذَلِك الْكتاب فَأثْبت الدِّيوَان وَسَأَلَ عمر رَضِي الله عَنهُ عَن اسْمه ففسر لَهُ وَلما أجمع عَلَيْهِ أَمر عقيل بن أبي طَالب ومخرمة بن نَوْفَل وَجبير بن مطعم فَكَتَبُوا ديوَان العساكر على تَرْتِيب الْأَنْسَاب مُبْتَدأ من قرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا بعْدهَا الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب وَكَانَ ذَلِك فِي الْمحرم سنة عشْرين الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة قَالَ ابْن خلدون وَأما ديوَان الْخراج والجبايات فبقى بعد الْإِسْلَام على مَا كَانَ عَلَيْهِ ديوَان الْعرَاق بِالْفَارِسِيَّةِ وديوان الشَّام بالرومية وَكتاب الدَّوَاوِين من الْفَرِيقَيْنِ فَلَمَّا اسْتَحَالَ الْأَمر ملكا وَأَنْتَقِلَ من غَضَاضَة البداوة إِلَى رونق

الحضارة وَمن سذاجة الأمية إِلَى حذق الْكِتَابَة والحسبان أَمر عبد الْملك بن مَرْوَان سُلَيْمَان بن سعد وَالِي الْأُرْدُن أَن ينْقل ديوَان الشَّام إِلَى الْعَرَبيَّة فأكمله لسنة يَوْم من ابْتِدَائه ووقف عَلَيْهِ سرجون كَاتب عبد الْملك فَقَالَ لكتاب الرّوم اطْلُبُوا الْعَيْش فِي غير هَذِه الصِّنَاعَة فقد قطعهَا الله عَنْكُم قَالَ وَأما ديوَان الْعرَاق فَأمر الْحجَّاج كَاتبه صَالح بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ يكْتب بِالْعَرَبِيَّةِ والفارسية أَن يَنْقُلهُ من الفارسية إِلَى الْعَرَبيَّة فَفعل وَرَغمَ لذَلِك كتاب الْفرس وَكَانَ عبد الحميد بن يحي يَقُول لله در صَالح مَا أعظم مننه على الْكتاب قَالَ ثمَّ جعلت هَذِه الْوَظِيفَة فِي دولة بني الْعَبَّاس مُضَافَة إِلَى من كَانَ

لَهُ النّظر فِيهَا كبني برمك وَبني سهل وَغَيرهم من وزراء تِلْكَ الدولة الْمَسْأَلَة السَّادِسَة إِذا كَانَ الْقَصْد بِهَذِهِ الْوَظِيفَة حفظ المَال فَمن الْحق فِيهِ بعد ذَلِك قَالَ الطرطوشي أَن يُؤْخَذ من حق وَيُوضَع فِي حق وَيمْنَع من سرف وَلَا يُؤْخَذ من الرّعية إِلَّا مَا فصل من معاشها ومصالحها ثمَّ ينْفق فِي الْوُجُوه الَّتِي يعود عَلَيْهَا نَفعهَا قلت وَفِي العهود اليونانية وَاعْلَم أَن الَّذِي يجب من الْخراج لَك هُوَ مَا وظفته الشَّرِيعَة عَلَيْهِم فِيمَا بِأَيْدِيهِم فَإِن اجتيح بِآفَة قصرت بِتِلْكَ الْوَظِيفَة كَانَ لَك من فضل من مؤونتها وكل مَا قصر عَن ذَلِك فَإِنَّهُ دَاعِيَة اختلال وتعطيل عمارتهم الْمَسْأَلَة السَّابِعَة الرِّفْق فِي استجباء مَال الجباية وَالْخَرَاج وَاجِب ونفعه فِي ذَلِك مشهود بِهِ قَالَ الطرطوشي مر جباة الْأَمْوَال بالرفق ومجانبة الْخرق فَإِن الْعلقَة تنَال من الدَّم بِغَيْر أَذَى وَلَا سَماع مَا لَا تناله الْبَعُوضَة بلسعتها وصوتها قَالَ وَفِي منثور الحكم من جَاوز فِي الْحَلب حلب الدَّم وَفِي الْمثل إِذا استقصى الْعجل مص أمه وقصته قلت وَفِي العهود اليونانية وَأعلم أَن استجباء الْخراج بالعنف ممحقة

على من طُولِبَ بِهِ ويستهلك مَنَافِعه وبركته وَاسْتِعْمَال الهوينا فِيهِ يطْمع فِي عشيرة وَيمْنَع من دروره وتوفيره حِكَايَة لما عزل عُثْمَان عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُمَا عَن مصر وَاسْتعْمل عَلَيْهَا ابْن أبي السَّرْح فَحمل من المَال أَكثر مِمَّا كَانَ يحملهُ عَمْرو فَقَالَ عُثْمَان يَا عمر أشعرت أَن اللقَاح درت فَقَالَ عَمْرو وَذَلِكَ لأنكم أجحفتم أَوْلَادهَا قلت المظنون بعثمان غير هَذَا وَلَكِن عمروا أعلمهُ بعاقبة الِاسْتِقْصَاء دفعا للتُّهمَةِ عَن نَفسه وهم برَاء مِنْهَا رَضِي الله عَنْهُم الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة يجب أَن يكون الِاعْتِدَاد بِمَا يبْقى بأيدي الرّعية فَوق يستخلص مِنْهَا لبيت المَال بِهَذَا الْحِفْظ لِأَنَّهَا مَادَّة وفوره ونمائه قَالَ الطرطوشي كن بِمَا يبْقى فِي أَيدي رعيتك أفرح مِنْك بِمَا يَأْخُذ مِنْهَا فَلَا يقل مَعَ الصّلاح شَيْء وَلَا يبْقى مَعَ الْفساد شَيْء وصيانة الْقَلِيل تربية للجيل فَلَا مَال لَا خرق وَلَا عيلة لمصلح الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة التَّعَدِّي فِي جباية الْأَمْوَال بِمَا يخل بِحِفْظ الْعِمَارَة قَاض بخراب الدول فَأَجره على مَا تقدم برهانه فَيجب هُنَا استحضاره وَقد قَالَ جَعْفَر بن يحي الْخراج عَمُود الْملك وَمَا استغزر بِمثل الْعدْل وَمَا استنزر بِمثل الْعدْل وَمَا استنزر بِمثل الظُّلم وأسرع الْأُمُور فِي خراب الْبِلَاد وتعطيل الْأَرْضين وانكسار الْخراج الْجور والتحامل

المرتبة الرابعة

تَمْثِيل قيل مثل السُّلْطَان إِذا حمل على أهل الْخراج حَتَّى ضعفوا عَن عمَارَة الْأَرْضين كَمثل من يقطع لَحْمه ويأكله من الْجُوع فَهُوَ وَإِن قوى من نَاحيَة ضعف من نَاحيَة وَمَا أَدخل على نَفسه من الضعْف أعظم مِمَّا دفع عَنْهَا من ألم الْجُوع الْمرتبَة الرَّابِعَة الشرطة وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن خلدون يُسمى صَاحبهَا لهَذَا الْعَهْد بإفريقية الْحَاكِم وبالأندلس صَاحب الْمَدِينَة وَفِي التّرْك الْوَالِي قَالَ وَهِي مرؤوسة لصَاحب السَّيْف فِي الدولة العباسية وَحكمهَا نَافِذ فِي صَاحبهَا بعض الأحيان الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ وَكَانَ أصل وَضعهَا فِي الدولة العباسية لمن يُقيم أَحْكَام الجرائم إستبراء وحدا لَان تهمها لَا نظر للشَّرْع الا فِي اسْتِيفَاء حُدُودهَا وللسياسة نظر فِي اسْتِبْرَاء موجباتها بِإِقْرَار يكره عَلَيْهِ عِنْد قيام الْقَرَائِن لما توجبه الْمصلحَة الْعَامَّة فِي ذَلِك قلت تِلْكَ الْمصلحَة الْعَامَّة فِي الْجُمْلَة لَا يخْتَلف فِيهَا نظر الشَّرْع والسياسة فِي إستبرائهم الجرائم حَسْبَمَا يَأْتِي تَقْرِيره إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ وَعند تنزه القَاضِي عَن ذَلِك أقيم لَهُ صَاحب هَذِه الْوَظِيفَة وَرُبمَا جعل لَهُ النّظر فِي الدِّمَاء والجدود بِإِطْلَاق دون القَاضِي قَالَ ونوهوا بِهَذِهِ الرُّتْبَة وقلدوها كبار القواد وَعُظَمَاء الْخَاصَّة من الموَالِي

قَالَ وَلم تكن عَامَّة التَّنْفِيذ فِي طَبَقَات النَّاس إِنَّمَا كَانَ حكمه على الدهماء وَأهل الرتب وَالضَّرْب على أَيدي الدعار والفجرة الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ ثمَّ عظمت نباهتها فِي دولة بني أُميَّة بالأندلس ونوعت إِلَى شرطة كبرى وصغرى وَجعل حكم لصغرى على الْعَامَّة فَقَط وَجعل حكم الْكُبْرَى على الْخَاصَّة والدهماء وَذَوي الْمَرَاتِب السُّلْطَانِيَّة وَالضَّرْب على أَيْديهم فِي الظلامات وعَلى أَيدي أقاربهم وَمن إِلَيْهِم ذَوي الجاه وَنصب لَهُ كرْسِي بِبَاب السُّلْطَان وَرِجَال يتبوأون المقاعد بَين يَدَيْهِ لَا يبرحون عَنْهَا إِلَّا فِي تصريفه وَكَانَت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة حَتَّى كَانَت ترشيحا للوزارة والحجابة قَالَ وَأما فِي دولة الْمُوَحِّدين بالمغرب فَكَانَ لَهَا حَظّ من التنويه وَإِن لم تكن عَامَّة وَكَانَ لَا يَليهَا إِلَّا رجالات الْمُوَحِّدين وكبراؤهم وَلم يكن لَهُ تحكم على ذَوي الْمَرَاتِب السُّلْطَانِيَّة ثمَّ فسد الْيَوْم منصبها وَصَارَت لمن قَامَ بهَا من المصطنعين قَالَ وَأما فِي الدولة بني مرين لهَذَا الْعَهْد فولايتها فِي بيُوت مواليهم وَأهل اصطناعهم وَفِي دولة التّرْك فِي رجالاتها وأعقاب أهل الدولة قبلهم من الكرد لما يظْهر فيهم من الصلابة والمضاء فِي الْحُكَّام لقطع مواد الْفساد وتخريب مَوَاطِن الفسوق وتفريق مجامعه مَعَ الْإِقَامَة الْحُدُود الشَّرْعِيَّة والسياسة كَمَا يَقْتَضِيهِ رِعَايَة الْمصَالح الْعَامَّة فِي الْمَدِينَة وَالله مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار

الركن السابع

قَالُوا يجب على الإِمَام أَن يولي ذَلِك ثِقَة دينا صَارِمًا فِي الْحُقُوق وَالْحُدُود متيقظا غير مُغفل قَالَ ابْن حزم وَيلْزمهُ الإِمَام أَن لَا يبْحَث عَن شَيْء من الْحُدُود إِلَّا أَن يُجَاهر بهَا صَاحبهَا أَو يشتكي إِلَيْهِ بهَا وَحِينَئِذٍ يلْزمه السُّؤَال عَن ذَلِك الرُّكْن السَّابِع رِعَايَة السياسة وللنظر فِيهَا منهجان أَحدهمَا بِسَبَب الْمُعْتَمد مِنْهُ عقلا وَلآخر من جِهَة الْمُعْتَبر مِنْهَا شرعا وَقبل ذَلِك فَهُنَا مقدمتان الْمُقدمَة الأولى أَن أَحْكَام الْملك القاهر بِمُقْتَضى الْغَضَب لما كَانَت مائلة عَن الْحق غَالِبا تحمل صَاحبهَا على مَا فَوق الطَّاقَة من أغراضه وشهواته وَإِذ ذَاك فتعسر الطَّاعَة وتخشى الْمعْصِيَة المؤذنة بِفساد الِاجْتِمَاع الإنساني وَجب الْمرجع فِي ذَلِك إِلَى قوانين سياسية الْوَضع يسلكها الكافة وينقاد لحكمها الْمَفْرُوض الْمُقدمَة الثَّانِيَة أَن هَذِه القوانين الْمَفْرُوضَة إِن كَانَت من الْعُقَلَاء وَذَوي البصيرة بتدبير الدولة كَانَت سياسة عقلية نافعة فِي الدُّنْيَا فَقَط وَإِن كَانَت عَن الله تَعَالَى بِوَاسِطَة شَارِع يشرعها كَانَت سياسة دينية نافعة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لما سبق من تَقْرِير حمل الْخلق على حمل الدّين الَّذِي خلقُوا لَهُ عَاجلا أم آجلا

الْمنْهَج الأول وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى الْجَارِي على الْحِكْمَة من السياسة الْعَقْلِيَّة مَا روعيت فِيهِ الْمصَالح عُمُوما ومصالح السُّلْطَان فِي استقامة ملكه خُصُوصا كالمنقول ذَلِك عَن الْفرس وَقد أغْنى الله عَنْهُم بِأَحْكَام الْملَّة الإسلامية لاشتمالها على الْمصَالح الْعَامَّة والخاصة واندراج أَحْكَام الْملك فِيهَا تعم أَن أهمل الْعَمَل بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من ذَلِك فالسياسة الْعَقْلِيَّة أَنْفَع مِنْهَا فِي الدُّنْيَا وَهِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ الطرطوشي وَلِهَذَا يُقَال أَن السُّلْطَان الْكَافِر الْحَافِظ لشروط السياسة الإصلاحية أبقى وَأقوى من السُّلْطَان الْمُؤمن الْعدْل المهمل إِذْ لَا أصلح للسُّلْطَان من تَرْتِيب الْأُمُور وَلَا أفسد لَهُ من الحكم وَلَا يقوم سُلْطَان إِيمَان أَو كفر إِلَّا بِعدْل نبوي أَو تَرْتِيب اصطلاحي الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة السياسة الَّتِي لسَائِر مُلُوك الْعَالم من مُسلم وَكَافِر من هَذَا النَّوْع الْعقلِيّ مِنْهَا مَا يُرَاعِي فِيهِ مصلحَة السُّلْطَان فِي استقامة ملكه قهرا واستطالة الْمصَالح الْعَامَّة بِحكم التبع لذَلِك إِلَّا إِن مُلُوك الْإِسْلَام يسلكون فِيهَا على مُقْتَضى الشَّرِيعَة الإسلامية بِحَسب جهدهمْ تَحْصِيل قَالَ ابْن خلدون فقوانينها إِذا مجتمعة من أَحْكَام شَرْعِيَّة وآداب خلقية وقوانين فِي الِاجْتِمَاع طبيعية وَأَشْيَاء من مُرَاعَاة الشَّوْكَة والعصبية ضَرُورِيَّة ولاقتداء فِيهَا بِالشَّرْعِ أَولا ثمَّ بالحكماء فِي آدابهم والملوك فِي سيرهم الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة الْمُوجب لانقياد الكافة لأحكام الساسة الْعَقْلِيَّة مَا يتوقعون من ثَوَاب الْحَاكِم بهَا بعد مَعْرفَته بمصالحهم

قلت وَمَا يتخوفون من عِقَابه بِتَقْدِير عدم الانقياد ويتحصل من ذَلِك أَن ملاك الطَّاعَة الرَّغْبَة والرهبة فَائِدَة فِي تَنْبِيه قَالَ ابْن خلدون وَمَا تسمعه من السياسة المدنية لَيْسَ من هَذَا الْبَاب وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْد الْحُكَمَاء مَا يجب أَن يكون عَلَيْهِ كل وَاحِد فِي نَفسه وخلقه حَتَّى يستغنوا عَن الْحُكَّام ويسمون الْمُجْتَمع الْحَاصِل فِيهِ ذَلِك بِالْمَدِينَةِ الفاضلة والقوانين المراعاة فِي ذَلِك بالسياسة المدنية وَغير السياسة الَّتِي يحمل عَلَيْهَا الْجُمْهُور بِالْأَحْكَامِ قَالَ وَهَذِه الْمَدِينَة الفاضلة عِنْدهم نادرة أَو بعيدَة الْوُقُوع وَالْكَلَام عَلَيْهَا على جِهَة الْفَرْض وَالتَّقْدِير الْمنْهَج الثَّانِي وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن فَرِحُونَ السياسة نَوْعَانِ ظالمة تحرمها الشَّرِيعَة وعادلة توجب الْمصير إِلَيْهَا والاعتماد فِي إِظْهَار الْحق عَلَيْهَا وَهِي بَاب وَاسع فضل فِيهِ الإفهام وتزل فِيهِ الْإِقْدَام وإهمالها يضيع الْحُقُوق ويعطل الْحُدُود ويجرءي أهل الْفساد والتوسع فِيهِ يفتح أَبْوَاب الْمَظَالِم وَيُوجب سفك الدِّمَاء وَأخذ الْأَمْوَال بِغَيْر حق الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن اعْتِبَارهَا على التَّوَسُّط اتقاء لمحذوري الإهمال والتوسع هُوَ الْحق فَلَا جَانب الِالْتِفَات إِلَيْهَا ظنا لِأَنَّهَا مُنَافِيَة للقواعد الشَّرْعِيَّة فينكر مَا شهد لَهُ الشَّرْع مِنْهَا بِالِاعْتِبَارِ قَالَ فَرِحُونَ وَهُوَ رد لنصوص الشَّرِيعَة وتغليظ للخلفاء الراشين وَلَا يفرط فِي التعويل عَلَيْهَا توهمه أَن الشَّرِيعَة وتغليظ مِنْهَا قَاصِرَة عَن رِعَايَة الْخلق فيجنى على الشَّرِيعَة ويرميها بِالنَّقْصِ وَهُوَ تَعَالَى يَقُول

الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَفِي الحَدِيث تركت فِيكُم مَاء أَن تمسكتم بِهِ لن تضلوا كتاب الله وسنتي قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَهُوَ جهل وَغلظ فَاحش الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من الدَّلِيل على مَشْرُوعِيَّة هَذِه السياسة اشْتِمَال أَحْكَامهَا على حكم يشْعر مَا أدْرك مِنْهَا بعناية الشَّارِع برعاية مصَالح الْعباد عَاجلا وآجلا لَا وجوبا وَهِي أَنْوَاع أَحدهَا مَا شرع لكسر النَّفس ومرورها تَحت حكم الانقياد كالعبادات الَّتِي لَا يلوح فِيهَا تَعْلِيل جزءي تَنْزِيلا عَن ذَلِك الثَّانِي مَا قصد بِهِ بَقَاء نوع الْإِنْسَان كالآذان فِي الْمُبَاحَات الحافظة لوُجُود كالطعام وَالشرَاب وَنَحْو ذَلِك الثَّالِث مَا وضع لدفع الضرورات كَالْبيع وَالْإِجَارَة والقراض والمساقات لاحتياج الْإِنْسَان إِلَى مَا لَيْسَ عِنْده واضطراره إِلَى اسْتِخْدَام غَيره تحصيلا لمصلحته الرَّابِع مَا نبه بِهِ على مَكَارِم الْأَخْلَاق كالمواساة والهبات وَالْعِتْق وَالْحَبْس وَالصَّدَََقَة وَنَحْو ذَلِك الْخَامِس مَا شرع للزجر الْمَانِع من الْإِخْلَال بِهَذِهِ الْمَقَاصِد قلت وَقد تقدم مَا يشْعر بذلك فِي كليات مَا تتحفظ بِهِ الشَّرِيعَة من جَانِبي الْوُجُود والعدم وَبَقِي من ذَلِك مَا هُوَ خَاص بِهَذَا الْموضع وَهُوَ الزّجر التعزيري بِحَسب الْجِنَايَة كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ليذوق وبال أمره} أَي جَزَاء فعله

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة إِن التَّوسعَة بهَا على الْحُكَّام لَا تخْتَلف دَلِيل مشروعيتها بل هُوَ شَاهد لَهَا بِالِاعْتِبَارِ على أوضح دلَالَة وَبَينهَا الْقَرَافِيّ من وُجُوه يَكْفِي مِنْهَا اثْنَان أَحدهمَا أَن الْفساد الْمُنْتَشِر بعد الْعَصْر الأول مُوجب لاخْتِلَاف الحكم لَكِن بِحَيْثُ لَا يخرج عَن الشَّرْع بِالْكُلِّيَّةِ دفعا للضَّرَر وَالْفساد قلت وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ تحدث للنَّاس أقضية بِقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور زَاد الشَّيْخ عز الدّين وَأَحْكَام بِقدر مَا يحدثُونَ من السَّيِّئَات والمعاملات والاحتياطات قَالَ وَهِي على القوانين الأول غير أَن الْأَسْبَاب تَجَدَّدَتْ وَلم تكن فِيمَا سلف قَالَ الْمقري فَإِذا وجدت وَجب اعْتِبَارهَا الثَّانِي أَن قَاعِدَة الْمصَالح الْمُرْسلَة وَهُوَ مَا لم يشْهد لَهُ الشَّرْع لَا بِاعْتِبَار وَلَا بإلغاء وَهُوَ ملائم لتصرفاته شَاهد لذَلِك بِالصِّحَّةِ كجمع الْمُصحف وَتَدْوِين الدَّوَاوِين وَضرب السِّكَّة واتخاذ السجْن وتضمين الصناع قلت وَدَعوى جمَاعَة تَخْصِيص إِمَام الْأَئِمَّة مَالك رَحمَه الله تَعَالَى الاسترسال فِي اعْتِبَار هَذِه الْقَاعِدَة لَيْسَ كَذَلِك بل الشَّافِعِيَّة وهم مُعظم المنكرين عَلَيْهِ أوسع فِيهَا مجالا حَتَّى قَالَ السُّبْكِيّ فِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ كَاد يُوَافقهُ مَعَ مناداته عَلَيْهِ بالنكير

تَكْمِيل السياسة الْبَاطِلَة شرعا لَا تَنْحَصِر أمثلتها وَيَكْفِي فِي التَّنْبِيه عَلَيْهَا مَا يذكر الْمِثَال الأول الْقَتْل بالرهبة قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ هُوَ لضبط الدولة والسياسة من عادات الْجَبَابِرَة وَمَا حدث إِلَّا بعد الْعَصْر الأول قلت وَأَشد من هَذَا الِاعْتِقَاد تَحْلِيله كَمَا ورد الْإِنْذَار بِهِ فِي حَدِيث ورد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا يَأْتِي على النَّاس زمَان يسْتَحل فِيهِ خَمْسَة أَشْيَاء يسْتَحلُّونَ الْخمر بأسماء يسمونها بهَا والسحت بالهدية وَالْقَتْل بالرهبة وَالزِّنَا بِالنِّكَاحِ والربا بِالْبيعِ قَالَ ابْن تَيْمِية وَهَذَا الْخَبَر صدق ثمَّ فسر استحلال الْقَتْل باسم الإرهاب لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَمِّيه وُلَاة الظُّلم سياسة وأبهة للْملك

الْمِثَال الثَّانِي الْعقُوبَة بِالْمَالِ قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ لَا عهد بهَا فِي الْإِسْلَام وَلَا تلائم تَصَرُّفَات الشَّرْع مَعَ أَنَّهَا لم تتَعَيَّن لشرعية الْعُقُوبَات الْبَدَنِيَّة بالسجن وَالضَّرْب وَغَيرهمَا قلت وَمَا ورد من ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام فقد اجْتَمعُوا على نُسْخَة قَالَه الطَّحَاوِيّ وَابْن رشد وَفِي سَماع أَشهب من كتاب السُّلْطَان أَن مَالِكًا رَحمَه الله سُئِلَ هَل يجوز انتهاب مَتَاع أهل السُّوق إِذا خالفوا مَا أمروا بِهِ فَقَالَ لَا يحل ذَنْب من الذُّنُوب مَال إِنْسَان وَإِن قتل نفسا وَأرى أَن يضْرب من نهب أَو انتهب يَعْنِي الْآمِر بِهِ والطائع لَهُ كشف تَدْبِير الْحَاكِم على الحكم بِهَذِهِ الْعقُوبَة مُنْضَمًّا لانتفاع الْحَاكِم بهَا توهم أَن غرم المَال أزْجر للنفوس من الْعقُوبَة بِغَيْرِهِ لعزة المَال عَلَيْهَا وَهُوَ غير مخلص لِأَن مُخَالفَة الْهوى أَشد من عَلَيْهَا وأصعب بِدَلِيل أَن شَهْوَة الْقَتْل أَو الزِّنَا إِذا استحكمت يسهل فِي تَحْصِيلهَا بذل المَال فَكيف ينْهض عَن غرمه زاجر عَمَّا هُوَ أَشد مِنْهُ قرر هَذَا الْمَعْنى أَبُو الْعَبَّاس بن الشماع التّونسِيّ قَائِلا وَلذَلِك يجْرِي على أَلْسِنَة الْعَامَّة الْأَمْوَال تحْتَاج للأمراض أَو للأغراض فَائِدَة عَن تَنْبِيه قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو اسحق الشاطبي الْعقُوبَة فِي المَال عِنْد مَالك ضَرْبَان

أَحدهمَا عُقُوبَة على الْجِنَايَة وَلَا مرية انه غير صَحِيح وَإِتْلَاف مَا فِيهِ الْجِنَايَة أَو فِي عوضه عُقُوبَة للجاني وَهِي ثَابِتَة عِنْده لقَوْله الزَّعْفَرَان الْمَغْشُوش إِذا وجد بيد الَّذِي غشه تصدق بِهِ على الْمَسَاكِين قل أَو كثر وَعَن ابْن الْقَاسِم ومطرف وَابْن الْمَاجشون يتَصَدَّق بِمَا قل مِنْهُ دون مَا كثر وَذَلِكَ محكى عَن عمر رَضِي الله عَنهُ فِي إِرَاقَة اللَّبن الْمَغْشُوش بِالْمَاءِ الْمِثَال الثَّالِث الزِّيَادَة على الْحُدُود الْمقدرَة نقل الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس ابْن الشماع عَن أبي الْعَرَبِيّ فِي كِتَابه الِاسْتِيفَاء فِي الْقيَاس مَا حَاصله أَن الْقَائِل بقصورها عَن الْوَفَاء بكف الْجِنَايَات حَتَّى يتَجَاوَز فِيهَا إِلَى قطع من لم تثبت سَرقته وَقتل من لم يَصح قَتله خَارج عَن دين الْإِسْلَام وَإِن كَونهَا لَا تفي فِي الردع لِأَنَّهَا لَا تستوفي بل تبَاع وتشترى

قَالَ وَحِكْمَة حكمه فِيمَن ظهر عَلَيْهِ الْحَد انفاذه فِيهِ وَمن خشيت معرته وقويت ظنته حبس حَتَّى لَا يَمُوت قَالَ والمحبوسين يجب أَن يَكُونُوا أَضْعَاف المقتولين لِأَن التُّهْمَة أَضْعَف الْبَينَات قلت وحكاية ابْن الصَّيْرَفِي عَنهُ أَنه أَتَى بزان فِي أَيَّام قَضَائِهِ فثقب شدقه حَتَّى أفسد هواءه حملهَا ابْن الشماع بعد تَسْلِيم نِسْبَة القَوْل بذلك إِلَيْهِ من حِكَايَة تَارِيخ على أَنه لم يصادم فِي ذَلِك نصبا بتحديد عُقُوبَة المشتهر بِالْغنَاءِ وَذكر غير ذَلِك

الْمِثَال الرَّابِع وضع المكوس فِي الْمُعَامَلَات ظلما وجورا قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو اسحق الشاطبي لَا يَخْلُو وَضعهَا الْمحرم أَن يقْصد بِهِ حجر التَّصَرُّفَات وقتا مَا أَو حَالَة مَا لنيل حطام الدُّنْيَا أَو يقْصد بِهِ جعله كَالدّين الْمَفْرُوض دَائِما أَو فِي أَوْقَات محدودة وعَلى كيفيات مَضْرُوبَة بِحَيْثُ تضاهي التشريع الَّذِي تحمل عَليّ الكافة وتتوجه على الْمُمْتَنع مِنْهُ الْعقُوبَة فَالْأول مُجَرّد مَعْصِيّة وَالثَّانِي بِدعَة بِلَا شكّ قلت قسمهَا هَذَا التَّقْسِيم لِأَن الْقَرَافِيّ عدهَا من الْبدع الْمُحرمَة وَلَا يصبح فِيهَا ذَلِك إِلَّا على المأخذ الثَّانِي وأيا مَا كَانَت فتحريمها ثَابت تحذير قَالَ النواوي مِمَّا يتَأَكَّد النَّهْي عَنهُ والتحذير مِنْهُ قَول الْعَوام وشبههم فِي المكوس الْمَأْخُوذَة مِمَّن يَبِيع أَو يَشْتَرِي وَنَحْو ذَلِك هُوَ حق السُّلْطَان وَنَحْوه مِمَّا يشْتَمل على تَسْمِيَته حَقًا ولازما وَهُوَ من أَشد الْمُنْكَرَات وأشنع المستحدثات حَتَّى قَالَ بعض الْعلمَاء فَمن سمى هَذَا حَقًا فَهُوَ كَافِر وَالصَّحِيح أَنه لَا يكفر إِلَّا إِذا اعتقده حَقًا مَعَ علمه بِأَنَّهُ ظلم قَالَ فَالصَّوَاب أَن يُقَال فِيهِ المكس أَو ضريبة السُّلْطَان أَو نَحْو ذَلِك من الْعبارَات الْمِثَال الْخَامِس تَوْلِيَة المناصب الشَّرْعِيَّة من لَا يصلح لَهَا بطرِيق التوريث استنادا لقَوْل المناصب الشَّرْعِيَّة من لَا يصلح لَهَا بطرِيق التوريث استنادا لكَون المنصب كَانَ لِأَبِيهِ وَهُوَ فَاقِد الْأَهْلِيَّة فِي نَفسه ذكر ذَلِك الْقَرَافِيّ فِي أَمْثِلَة الْبدع الْمُحرمَة وَلَا خَفَاء أَن الْقَصْد بِهِ حفظ الرتب

بقصرها على الْمُسْتَحق وَأَنه من هَذِه الْجِهَة وَالْحَالة هَذِه أولى بهَا من الْمُسْتَحق بِنَفسِهِ وَهُوَ قصد حائد عَن السياسة الْمُعْتَبرَة أما شرعا فَظَاهر وَأما عقلا فقد قَالَ أفلاطون فِي اعْتِبَاره مُطلقًا أخرجت كثيرا من الْمُلُوك الْغيرَة على الْمَرَاتِب إِلَى أَن حبسوا الْمنَازل على أَهلهَا منعُوا كل إِنْسَان عَن الْخُرُوج عَن مَنْزِلَته وَهَذَا خطأ مِنْهُم يعود ضَرَره فِي هَذَا الْموضع على الْعَالم بأسره وَذَلِكَ أَن الْقَوْم إِذا تَنَاسَلُوا فِي مرتبَة أَو صناعَة تلاشت فِيهِ فضائلهم وتشبهوا بِأَرْض ألح عَلَيْهَا صَاحبهَا بزرع شَيْء وَاحِد من أَنْوَاع النَّبَات فَإِنَّهُ إِذا تَمَادى بهَا الزَّمَان فسد فِيهَا ذَلِك النَّوْع وَإِنَّمَا تتربى الصناعات والرياسة فِي استدارة الْأَحْوَال وتنقل الْمنَازل انْتهى وَعَن بعض الْحُكَمَاء أَن السُّلْطَان لَا يقرب الْأَبْنَاء لقرب آبَائِهِم وَلَا يبعدهم لبعدهم وَلَكِن ينظر إِلَى مَا عِنْد طل وَاحِد مِنْهُم فَيقرب الْبعيد لنفعه وَيبعد الْقَرِيب لضرره وَقَالَ وشبهوا ذَلِك بالجرذ الَّذِي هُوَ فِي بَيت مجاور فَمن أجل ضَرَره نفي والبازي وَهُوَ وَحشِي من أجل نفعة اجتنى تَنْبِيه انتظام هَذَا الْقَصْد فِي سلك الْبدع الْمُحرمَة إِنَّمَا هُوَ مَعَ تحري الْعَمَل بِهِ دَائِما وعده كالشرع الَّذِي لَا يُخَالف أما تصدير هَذَا المتخلف عَن مَرَاتِب آبَائِهِ لَا من هَذِه الْجِهَة فَهُوَ فَسَاد فِي السياسة لَا ابتداع فَيُبَاح ذَلِك فِيهِ عَلَيْهِ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق الشاطبي

الركن العاشر

الرُّكْن الْعَاشِر وَفِيه مُقَدمَات ومقامات الْمُقدمَة الأولى قَالَ الطرطوشي هِيَ مِمَّا تعده الْحُكَمَاء من أساس المملكة وقواعد السلطنة ويفتقر إِلَيْهَا الرئيس والمرؤوس قلت هُوَ كَذَلِك فِي الشَّرِيعَة حرفا بِحرف قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ الْمُشَاورَة أصل الدّين وَسِتَّة الله فِي الْعَالمين وَهُوَ حق على عَامَّة الْخَلِيفَة من رَسُول إِلَى أقل خلق بعده فِي درجاتهم وَهِي اجْتِمَاع على أَمر يُشِير كل وَاحِد بِرَأْيهِ مَأْخُوذ من الْإِشَارَة قَالَ وَحَقِيقَته عِنْدِي اختبار مَا عِنْد كل وَاحِد مِنْهُم واستخراج مَا عِنْده من قَوْلهم شرت الدَّابَّة إِذا رضتها لتستخرج إخلافها

الْمُقدمَة الثَّانِيَة مِمَّا يدل على مشروعيتها أَمْرَانِ أَحدهَا مدح من عمل بهَا فِي جَمِيع أُمُوره قَالَ الله تَعَالَى {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ أَي لَا يستبدون بِأَمْر ويتهمون رَأْيهمْ حَتَّى يستعينوا بغيرهم مِمَّن يظنّ بِهِ أَن عِنْده مدْركا لغرضه قَالَ وَهَذِه سيرة أولية وَسنة نبوية وخصلة عِنْد جَمِيع الْأُمَم مرضية الثَّانِي صَرِيح الْأَمر بهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر} قَالَ النَّوَوِيّ ويغنى ذَلِك عَن كل شَيْء فَإِنَّهُ إِذا أَمر الله بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نسا جليا مَعَ أَنه أكمل الْخلق فَمَا الظَّن بِغَيْرِهِ قلت وَذَلِكَ فِي غير الْأَحْكَام لاختصاصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشرعيتها الْمُقدمَة الثَّالِثَة من حِكْمَة مشروعيتها أُمُور أَحدهَا الْأَمْن من نَدم الاستبداد بِالرَّأْيِ الظَّاهِر خطأه فَفِي الشهَاب مَا خَابَ من استخار وَلَا نَدم من اسْتَشَارَ

الثَّانِي احراز الصَّوَاب غَالِبا فقد كَانَ يُقَال من أعْطى أَرْبعا لن يمْنَع أَرْبعا من أعْطى الشُّكْر لم يمْنَع الْمَزِيد وَمن أعْطى التَّوْبَة لم يمْنَع الْقبُول وَمن أعْطى الاستخارة لم يمْنَع الْخيرَة وَمن أعْطى المشورة لم يمْنَع الصَّوَاب الثَّالِث ازدياد الْعقل بهَا واستحكامه قَالَ الطرطوشي المستشير وَإِن كَانَ أفضل رَأيا من المستشار فَإِنَّهُ يزْدَاد بِرَأْيهِ رَأيا كَمَا تزداد النَّار بالسليط ضوءا قلت وَقد قيل الْمُشَاورَة لقاح الْعقل ورائد الصَّوَاب وَمن شاور عَاقِلا أَخذ نصف عقله الرَّابِع الْفَوْز بالمدح عِنْد الصَّوَاب وَقبُول الْعذر عِنْد الْخَطَأ قَالَ بطليموس من آثر المشورة لم يعْدم عِنْد الصَّوَاب قادحا وَعند الْخَطَأ عاذرا الْخَامِس استعانة التَّدْبِير بهَا عِنْد التَّقْصِير عَنهُ وَلَا خَفَاء بتأكيد الْحَاجة إِلَيْهَا فِي خُذْهُ الْحَالة لِأَن الْقُدْرَة عَلَيْهِ إِذا كَانَت لَا تنفك عَن غرر الْخَطَأ مَا لم تتأيد بهَا فَمَا أَحْرَى أَن تتحق عِنْد الاستبداد لما لَا تنتهض الْبَتَّةَ قَالَ بعض الْحُكَمَاء حق على الْعَاقِل الحازم أَن يضيف إِلَى رَأْيه آراء الْعُقَلَاء فَإِذا فعل أَمن من عثاره وَوصل غلى اخْتِيَاره السَّادِس التجرد بهَا عَن الْهوى الساترة حجبه لوُجُود الصَّوَاب وَإِن كَانَ هُنَاكَ عقل ورشاد قَالَ بعض الْحُكَمَاء إِنَّمَا يحْتَاج اللبيب ذُو التجربة إِلَى الْمُشَاورَة

ليتجرد لَهُ رَأْيه من هَوَاهُ وَقيل لهرمز لم كَانَ رَأْي المستشار أفضل من رَأْي المستشير فَقَالَ لِأَن رَأْي المستشار معرى من الْهوى السَّابِع بِنَاء التَّدْبِير بهَا على أرسخ أساس وَالْعَكْس بِالْعَكْسِ وَمن ثمَّ قيل إنقاذ الْملك للأمور من غير روية كالعبادة بِغَيْر نِيَّة الثَّامِن إستمناح الرَّحْمَة وَالْبركَة قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ المشورة والمناظر بَابا رَحْمَة ومفتاحا بركَة لَا يضل مَعَهُمَا رَأْي وَلَا يفقد مَعَهُمَا حزم التَّاسِع دلَالَة الْعَمَل بهَا على الْهِدَايَة والسداد قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ الاستشارة عين الْهِدَايَة وَقد خاطر من اسْتغنى بِرَأْيهِ وَعَن بعض الْحُكَمَاء المشورة مَعَ السداد والسخافة مَعَ الاستبداد الْعَاشِر وجد أَن الصَّوَاب بهَا عِنْد أشكاله قيل إِذا أشكل الرَّأْي على الحازم كَانَ بِمَنْزِلَة من أضلّ لؤلؤة فَجمع مَا حول مسقطها فالتمسها فَوَجَدَهَا كَذَلِك الحازم يجمع وُجُوه الرَّأْي فِي الْأَمر الْمُشكل ثمَّ يضْرب بَعْضهَا بِبَعْض حَتَّى يخلص لَهُ الصَّوَاب الْمُقدمَة الرَّابِعَة قَالَ الْخطابِيّ لَا بجب الْإِشَارَة على الْأَعْيَان بل

المقام الأول

على الْكِفَايَة إِذا قَامَ بهَا بعض النَّاس سقط الباقيين وَقد يرخص تَركهَا لآفة تعرض فِيهَا أَو عائق يمْنَع مِنْهَا حِكَايَة قَالَ أَخْبرنِي الياس بن إِسْحَاق قَالَ شهِدت أَحْمد بن الْيَمَانِيّ واستشاره رجل فِي بعض الْأُمُور فأمتنع من الْإِشَارَة وَهَذَا أَمر لَا يلْزَمنِي قلت وَكَيف وَقد سَمِعت الله يَقُول {وشاورهم فِي الْأَمر} فَقَالَ إِن للْإِشَارَة آفَات وَأَنا أحذرها وَذَلِكَ أَنِّي إِذا أَشرت على رجل بِشَيْء لم يخل من قبُوله لَهُ أورد فَإِن قبله لم يخل من أحد أَمريْن أما أَن يَقع صَوَابا فينتفع بِهِ أَو خطأ فيتضرر بِهِ فَإِن وَقع صَوَابا وانتفع بِهِ لم آمن أَن يداخلني فِي ذَلِك عجب وَأَن توهمني نَفسِي أَنِّي قد سقت إِلَيْهِ خيرا وَأَن وَقع خطأ وتصرر بِهِ لم أعدم مِنْهُ لائمة وذما فَإِن لم يقبله لم يخل أَيْضا من أحد أَمريْن أما أينجح أَو يخْفق فَإِن أنجح أزري بِي واتهمني فِي مشورتي وَإِن أخفق أَو ناله ضَرَر لم آمن من نَفسِي الشماتة وَإِن أَثم فِي أمره وَمَا أعتورته هَذِه الْآفَات فَتَركه أسلم قَالَ الْخطابِيّ وَلَعَلَّه كَانَ يعرف من صحابه إعجابا بِرَأْيهِ وتركا لقبُول نصحه فحذر الْفِتْنَة واغتنم السَّلامَة الْمقَام الأول المستشير وَهُوَ كل قَاصد لغَرَض يهمه لما تقدم من عُمُوم الطّلب بهَا فِي سَائِر الطَّبَقَات لَكِن يتَفَاوَت ذَلِك فيهم بِحَسب الرئيس والمرؤوس ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ يسْتَحبّ لم هم بِأَمْر أَن يشاور فِيهِ ثمَّ قَالَ ويتأكد الْأَمر بهَا فِي حق وُلَاة الْأُمُور الْعَامَّة كالسلطان وَالْقَاضِي وَنَحْوهمَا ثمَّ عَلَيْهِ عِنْد الاستشارة وظائف وَهِي ضَرْبَان

الضَّرْب الأول مَا يعم سَائِر الطَّبَقَات وَهِي جملَة الْوَظِيفَة الأولى أَن تَصْدِيق فِي التَّعْرِيف بِقَصْدِهِ من المر المستشار فِيهِ بِحَيْثُ لَا يتْرك شَيْئا مِمَّا يعلم فِيهِ من مصلحَة أَو مفْسدَة أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيّ قلت وَفِي الأفلاطونيات إِذا شاورت من يضطلع بالمشورة عَلَيْك فأصدقك عَنْك فِيهَا وَفِي كثير مِمَّا يَتَحَرَّك إِلَيْهِ طباعك ليقف من صدقك على مَا يُوجِبهُ الْحق فِيهَا وَاعْلَم أَن مغادرة المشير عَلَيْك فِي الرَّأْي بِمِقْدَار مَا خلقته عَنْك من الصدْق الْوَظِيفَة الثَّانِيَة أَن لَا يلْتَمس الرُّخْصَة عِنْد المستشار مَخَافَة الزلل مُخَالطَة الْهوى فِي ذَلِك وَقد تقدم أَن حكم الْهِنْد أَن من التمس من الإخوان الرُّخْصَة عِنْد المشورة وَمن الْأَطِبَّاء عِنْد الْمَرَض وَمن الْفُقَهَاء عِنْد الشُّبْهَة أَخطَأ الرَّأْي وازداد مَرضا وَحمل الْوزر الْوَظِيفَة الثَّالِثَة أَن يستنكر من المشاورين مَا أمكنه استظهار على الوثوق بِالرَّأْيِ الْمشَار بِهِ عَلَيْهِ قَالَ النَّوَوِيّ وَيسْتَحب أَن يشاور جمَاعَة بِالصّفةِ الْمَذْكُورَة يَعْنِي فِي شُرُوط المشاور قَالَ ويستكثر مِنْهُم الْوَظِيفَة الرَّابِعَة أَن يتواضع للمستشار مَعَه وَلَا يترفع عَن التنزل لَهُ فِي استهداء مَا يُشِير مِمَّا يظْهر لَهُ صَوَابه وَإِن كَانَ السُّلْطَان الْأَعْظَم قَالَ ابْن رضوَان لَا يَنْبَغِي للْملك عِنْد الْمُشَاورَة أَن يترفع إِلَى أَن يسْلك سَبِيل الهيبة فَإِن ذَلِك يقصر لِسَان الناصح والمشير موعظة قَالَ وَقد كَانَ الْملك الْعَادِل عَظِيم الهيبة وَمرض بعلة

الخوانيق فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاء بالفصد فَامْتنعَ وَلم يُرَاجع وَمرض فَكَانَ ذَلِك سَببه مَوته وَصِيَّة قَالَ بعض مُلُوك الْفرس لِابْنِهِ عَلَيْك بالمشاورة فَإنَّك وَاحِد من الرِّجَال وشاور من يفصح عَن المستكن ويوضح الْمُشكل وَلَا يدع لَك فِي عَدوك فرْصَة إِلَّا انتهزها وَلَا لعدوك فِيك فرْصَة إِلَّا أحصنها وَلَا يمنعك حسن رَأْيك فِي ظَنك وَلَا علو مَكَانك فِي نَفسك أَن تجمع إِلَى رَأْيك رَأْي غَيْرك فَإِن وَافق رَأْيك رَأْي غَيْرك ازْدَادَ رَأْيك عنْدك شدَّة وَإِن خَالف رَأْيك عرضته على نظرك وفهمك فَإِن كَانَ غَالِبا على مَا رَأَيْت قبلت وَإِن كَانَ متضاعفا اسْتَغْنَيْت الضَّرْب الثَّانِي مَا يخص السُّلْطَان مِمَّن يَلِيهِ وحاصلها اخْتِيَار من يخْتَص بِمَعْرِِفَة مَا يستشار فِيهِ وعَلى حسب مَا يذكر إِن شَاءَ الله من شُرُوطه قَالَ ابْن حزم وَإِذا نزلت بالسلطان معضلة لَيْسَ عِنْده فِيهَا يَقِين شاور من أَصْحَابه وولاة جُنُوده من يَرْجُو عِنْده فرجا من ذَلِك ويشاور فِي الْحَرْب وسياستها وَيسْأل عَن كل علم أربابه وَلَا يتكل على رَأْي أحد وَلَا يطلعهم على مَا يخْتَار من رَأْيهمْ فَإِذا انْقَضى مَا عِنْدهم أنفذ مِمَّا سمع مِنْهُم تبصرة يَنْعَدِم هَذَا الِاخْتِيَار عِنْد المشورة إعداد الْمُسْتَحق لَهُ فِي سَائِر عمالة السُّلْطَانِيَّة وتعيينه لذَلِك قَالَ ابْن المقفع اعرف أهل الدّين والمروءة فِي كل نَاحيَة وكورة وقبيلة فليكونوا إخوانك وأعوانك وثقاتك وبطانتك

المقام الثاني

تَنْبِيه من لَازم هَذَا الإختيار منع غير الْمَخْصُوص بِهِ من التبريح بالقاء رَأْيه وَنَظره وَقد اعتنى الْحُكَمَاء بالتنبيه على ذَلِك فَقَالَ أفلاطون يَنْبَغِي للْملك السائس أَن يُطلق الرَّأْي إِلَّا لمن نَصبه لذَلِك لِئَلَّا يحدث فِي مَمْلَكَته الآراء الردية الْمقَام الثَّانِي المستشار وَفِيه مسَائِل الْمسَائِل الأولى فِي شُرُوطه وَهِي جملَة أَحدهَا الْعقل الْكَامِل بطول التجربة مَعَ الفطنة والذكاء قيل لَان الْحمق الْجَاهِل إِذا اشْتَرَيْته زَاد فِي لبسك وَأدْخل عَلَيْك التَّخْلِيط فِي رَأْيك وَلم يقم بحقيق نصحك وَكَانَ يُقَال إحذر مُشَاورَة رجلَيْنِ شَاب معجب بِنَفسِهِ قَلِيل التجارب فِي غره أَو كَبِير وَقد اخذ الدَّهْر من عقله كَمَا أَخذ من جِسْمه الثَّانِي الدّين وَالتَّقوى قَالَ ابْن الْحَاج لِأَن ذَلِك عماد كل صَلَاح وَبَاب كل نجاح وَمن غلب عَلَيْهِ الدّين فَهُوَ مَأْمُون السريرة موفق الْعَزِيمَة قَالَ وروى عِكْرِمَة عَم ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَرَادَ أَمر فَشَاور فِيهِ أمراءا مُسلما وَفقه الله لارشد أُمُوره قلت وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ شاور فِي أَمرك من يخَاف الله عز وَجل الثَّالِث الْحبَّة الحاملة على خلوص النَّصِيحَة قيل لِأَنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك أمنت من غشه وأجتهد لَك فِي نصحه وَنظر فِي أَمرك بِجَمِيعِ أَجزَاء قلبه

قلت وَفِي الْإِشَارَة بذلك قَول بشار (إِذا بلغ الرَّأْي النَّصِيحَة فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْي نصيح أَو حزامة حَازِم) (وَلَا تتحسب الشورى عَلَيْك غَضَاضَة ... مَكَان الخوافي نَافِع للقوادم) (وخل الهوينا للضعيف وَلَا تكن ... نؤوما فَإِن الحزم لَيْسَ بنائم) مزِيد حِكْمَة قَالَ الْأَصْمَعِي قلت لبشار يَا أَبَا معَاذ إِن النَّاس يتعجبون من أبياتك فِي المشورة يَعْنِي هَذِه البيات فَقَالَ يَا أَبَا سعد إِ المشاور بَين صَوَاب يفوز بثمرته أَو خطأ يُشَارك فِي مَكْرُوه فَقلت لَهُ أَنْت فِي قَوْلك هَذَا أشعر مِنْك فِي شعرك تَنْبِيه قيل وَلَا يستشار الْعَدو إِلَّا فِي مَوضِع وَاحِد وَهُوَ أَن يكون صَلَاح الرَّأْي بصلاحه وفساده بفساده كعدوين فِي سفينة يستشير أَحدهمَا الآخر فِي صَلَاحهَا ونجاتها قَالَ احْتَرز أَن يكون فِي عُقبى إرشاده شَيْء يخصك بفساده الرَّابِع سَلامَة الْفِكر من مكدرات صَفوه وَذكروا مِمَّن عرض لَهُ ذَلِك

أصنافا فالجائع حَتَّى يشْبع والعطشان حَتَّى يقنع وَالسير حَتَّى يُطلق والضال حَتَّى يجد والراغب حَنى يمنح وَصَاحب الْخُف الضّيق وحاقن الْبَوْل وَصَاحب الْمَرْأَة السليطة ومعلم الصّبيان وراعي الْغنم وَالْكثير الْقعُود مَعَ النِّسَاء وَمن لَا دَقِيق عِنْده كِفَايَة عَارض كَانَ الْمُلُوك الأول إِذا هموا بمشاورة رجل بعثوا إِلَيْهِ بقوته وقوت عِيَاله لسنة ليتفرغ لَهُ عقله قَالَ الْمبرد كَانَ بعض عقلاء الْمُلُوك الْفرس إِذا شاور من قد رتبهم لمشورته فقصروا فِي الرَّأْي دَعَا المرتبين بأرزاقهم فعاقبهم فَيَقُولُونَ يُخطئ أهل مشورتك وتعاقبنا نَحن فَيَقُول لَهُم لم يخطئوا إِلَّا لتعليق قُلُوبهم بأرزاقهم فَإِذا اهتموا لحاجتهم أخطئوا الْخَامِس الْبَرَاءَة مِمَّا لَهُ فِي المر المستشار فِيهِ من هوى يساعده وغرض يَقْصِدهُ قَالَ الْحَاج لِأَن الْأَغْرَاض جاذبة والهوى مَا دَار والرأي إِذا عَارضه الْهوى وجاذبته الْأَغْرَاض فسد وَفِيه قيل (وَقد تحكم الْأَيَّام من كَانَ جَاهِلا ... ويردى الْهوى ذَا الرَّأْي وَهُوَ لَبِيب) (ويحمد فِي المر الْفَتى وَهُوَ مُخطئ ... ويعذل فِي الْإِحْسَان وَهُوَ مُصِيب) السَّادِس الْجمع بَين الْعلم بالمستشار فِيهِ وَالْعَمَل بِهِ فَفِي

الأفلاطونيات شاور فِي أَمرك من جمع بَين الْعلم وَالْعَمَل وَلَا تشَاور من انْفَرد بِالْعلمِ فَقَط فيدلك مِنْهُ على مَا يتصوره الْفَهم وَلَا يخرج إِلَى الْفِعْل السَّابِع تساويه مَعَ المستشير فِي الطَّبَقَة فَفِيهَا يَنْبَغِي أَن تسْتَعْمل مشورة ذَوي الرَّأْي من أل طبقتك وَلَا يعول عَنهُ إِلَى رَأْي ذِي طبقَة أُخْرَى فيعدل بك عَمَّا تحْتَاج إِلَيْهِ الثَّامِن كتمان اسر الَّذِي يطلع عَلَيْهِ عِنْد استشارته قيل لِأَنَّهُ إِذا أطلع على رَأْيك بعض أصدقائه أَو غَيرهم من جُلَسَائِهِ أخبر كل صديق صديقه وفاه كل جليس إِلَى جليسه حَتَّى يصل أَمرك إِلَى عَدوك ويتصل رَأْيك بِأَهْل بغضك فيبتغون الغوائل ويفسدون الرَّأْي قبل أَحْكَامه التَّاسِع سَلَامَته من غائلة الْحَسَد قبل لِأَن الْحَسَد يعث أهل الْمحبَّة على البغضة وَذَوي الْولَايَة على الْبعد والفرقة وَحِينَئِذٍ يتَعَمَّد ضرك بِجَمِيعِ الْوُجُوه الَّتِي تتقيها على نَفسك وَتَكون دَاعِيَة إِلَى فَسَاد رَأْيك قلت وَمن وصاياهم لَا تشَاور إِلَّا الحازم فير الحسود واللبيب غير الحقود الْعَاشِر عدم استلزام نصحك ضره أَو ضرّ أحد من الأعزة عَلَيْهِ قبل لِأَنَّهُ إِذا أدّى نصحك إِلَى ضره أَو بعض شَيْء من أمره لم يفضلك على نَفسه وَلم يخصك بنصحه وَكَذَا إِن أضرّ ذَلِك بإخوانه الْحَادِي عشر أخباره عَن مُوجب تَقْصِيره عَن مَطْلُوب المستشير لَهُ كالبخل والجبن والحرص فقد كَانَ يُقَال لَا تدخل فِي رَأْيك بَخِيلًا فيقصه فعلك وَلَا جَبَانًا فيخوفك مَالا تخَاف وَلَا حَرِيصًا فيعدك مَالا يُرْجَى

الثَّانِي عشر توسطه بَين السَّعَادَة وَسُوء البخت فَفِي الأفلاطونيات إِذا شاورت السُّعَدَاء حسنوا لَك التضرر بِنَفْسِك وسعيك لما يعمهم من سَلامَة وَإِذا شاورت المجدودين خذلوك عَن الْأَمر الَّذِي يحمد فِي الْأَكْثَر ركُوبه وَالصَّوَاب فِيمَا بَين الْفَرِيقَيْنِ واستخدام الرَّأْي الصَّحِيح فِي الْقيَاس على مَا عِنْدهمَا تَنْبِيه لَا يمْنَع من المشورة وصفان أَحدهمَا خمول المستشار وحقارته قَالَ الْحِكْمَة ضَالَّة الْمُؤمن حَيْثُمَا وجدهَا عقلهَا قَالَ الطرطوشي وَلم يزل الْعُقَلَاء على اخْتِلَاف مذاهبهم يطْلبُونَ صَوَاب الرَّأْي من كل أحد حَتَّى الْأمة الوكعاء وَهَذَا عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول رحم الله أُمَرَاء أهْدى إِلَيّ عيوبي الثَّانِي صغر سنه لِأَنَّهُ رُبمَا فاق فِي إِدْرَاك الصَّوَاب الكهول والمشايخ وَقد كَانَ يُقَال علمكُم بآراء الْأَحْدَاث ومشاورة الشَّبَاب فَإِن لَهُم أذهانا تقل الفواصل وتتحطم الذوابل شَاهد إقتداء قَالَ الزُّهْرِيّ كَانَ مجْلِس عمر رَضِي الله عَنهُ غاصا بالعلماء والقراء كهولا كَانُوا أَو أشبانا وَرُبمَا استشارهم فَكَانَ يَقُول لَا يمْنَع أحدكُم حَدَاثَة سنة أَن يُشِير بِرَأْيهِ فَإِن الرَّأْي لَيْسَ على حَدَاثَة السن وَلَا على قدمه وَلَكِن أَمر بضعه الله حَيْثُ يَشَاء

أَعْلَام من الْحُكَمَاء من أوقف الِاعْتِبَار بِرَأْي الْأَحْدَاث على تعقب الْمَشَايِخ فَفِي الأفلاطونيات إِذا احتجت إِلَى المشورة فِي طَارِئ عَلَيْك فاستشر ببدايته الصغار ورد إِلَى الْمَشَايِخ لعقبه وَحسن الِاخْتِيَار فِيهِ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِيمَا عَلَيْهِ عِنْد إِشَارَته أما على الْجُمْلَة وَيفهم مِمَّا تقدم فبذل الوسع فِي النَّصِيحَة وأعمال الْفِكر فِي اسْتِخْرَاج زبدتها أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيّ محتجبا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدّين النَّصِيحَة قَالُوا لمن يَا رَسُول الله قَالَ لله ولكتابه وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسلمين وأمتهم رَوَاهُ مُسلم عَن تَمِيم الدَّارِيّ رَضِي الله عَنهُ المستشار مؤتمن رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغير وَاحِد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ وَأما بِاعْتِبَار السُّلْطَان فَعَلَيهِ فِي ذَلِك جملَة وظائف الْوَظِيفَة الأولى أَن يُبَالغ فِي إرشاده بِجَمِيعِ مَا لَهُ وَعَلِيهِ قَضَاء لواجب النصح وَالْأَمَانَة فَفِي الأفلاطونيات على مشاور الْملك أَن يرشده ويسدده نَحْو الْحق الَّذِي لَهُ وَإِن صَعب عَلَيْهِ عنانه أطلقهُ نَحْو شهواته الْخَاصَّة بِهِ وألجمه عَم الْعَامَّة لِأَن الْعَامَّة تولد عَلَيْهِ سوء الْمنطق وتسير الْعَامَّة والخاصة بِهِ إِنَّمَا هِيَ بَهِيمَة لَازِمَة لنَفسِهِ الْوَظِيفَة الثَّانِيَة أَن يعْمل غَايَة اجْتِهَاده مَخَافَة الْخَطَأ الَّذِي لَا أسْرع مِنْهُ ضَرَرا فَفِيهَا أسْرع الْأَشْيَاء ضَرَرا الْخَطَأ فِي السَّفِينَة وَفِي مجَالِس الْمُلُوك وَفِي مناجزة الحروب

قلت وَالْخَطَأ من الْملك وَحده كَذَلِك إِذْ الْمَعْنى وَاحِد فَفِيهَا أَيْضا لَيْسَ الْخَطَأ بِأحد اقبح مِنْهُ بِالْملكِ وَلَا أضرّ مِنْهُ جملَة النَّاس لِأَنَّهُ يُحَرك الْكل إِلَى نظام رَدِيء وتفسد نفوس من فِيهِ الْوَظِيفَة الثَّالِثَة أَن لَا ينحط فِي هَوَاهُ ويماشيه فِي أغراضه وَقد كَانَ عمر بن هُبَيْرَة يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من صُحْبَة من غَايَته خَاصَّة نَفسه دون غَيره والانحطاط فِي هوى مستشيره وَمن لَا يلْتَمس خَالص مودتي إِلَّا بالتأني لموافقة شهوتي وَمن يساعدني على سرُور سَاعَتِي وَلَا يفكر فِي عواقب عدلي الْوَظِيفَة الرَّابِعَة إِن تُشِير باستصلاح مَا شور فِيهِ لَا بأعمال وَاجِب المواخذة عَلَيْهِ فَفِي الأفلاطونيات إِذا شاور الْملك فِي قوم فحركه على استصلاحهم ول تتعمد هفواتهم فَإِن خطأك فِي الحض على الْإِحْسَان اسْلَمْ من خطأك فِي التحريك على الْإِسَاءَة الْوَظِيفَة الْخَامِسَة أَن يلقى مَا يسير بِهِ عِنْد ظُهُور حَاجَة السُّلْطَان إِلَيْهِ كالراغب لَهُ فِي الْقبُول كَأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاج غلى سَماع كَلَامه لَا السُّلْطَان إِلَى غَرَضه عَلَيْهِ فَفِيهَا إِذا شاوروك من الرؤساء من قد وقفت على فاقته إِلَى رَأْيك فَلَا تكَلمه بِكَلَام أَمر وَلَا مشاور وَأخرج كلامك فِي معرض متفهم مِنْهُ مَا سنح لَك وليرى فِيك الْحَاجة فِي عرض كلامك عَلَيْهِ فَإِن خطأك فِي حماده أَكثر من خطاه فِي قبُول مَا احْتَاجَ إِلَيْك فِيهِ تَعْرِيف من حَرَكَة المشاورين من طلب إِلْقَاء مَا يظْهر لَهُ فِي خلْوَة من أَصْحَابه خشيَة مَا يتقى فِي كشف السِّرّ الْعَظِيم الْخطر بَينهم فَفِي سير

المقام الثالث

الْفرس أَن بعض مُلُوكهمْ اسْتَشَارَ وزراءه فِي سر عَظِيم كابت عَلَيْهِ عُمْدَة الْملك قَائِمَة فَقَالَ أحدهم لَا يَنْبَغِي للْملك أَن يستشير منا أحدا فِي مُهِمّ من أُمُوره وعظيم من شؤونه إِلَّا خَالِيا بِهِ فَإِنَّهُ أَمُوت للسر وأحزم للرأي وأجدر للسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض فَإِن إفشاء السِّرّ إِلَى وَاحِد وَاجِد أخْلص لَهُ وأكمل الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِيمَا عَلَيْهِ بعْدهَا وَعَلِيهِ إِذْ ذَاك فِي حَال الْإِصَابَة للرأي السديد وظيفتان الْوَظِيفَة الأولى أَن يعْتَرف بِشُهُود الْمِنَّة من الله تَعَالَى فِي التَّوْفِيق لذَلِك وَالْهِدَايَة إِلَيْهِ وَأَن يَقُول بِلِسَان حَاله ومقاله الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله فبذلك يسلم من غائلة الْعجب ويتعود من لله تَعَالَى دوَام الرشد وورود المدد مِنْهُ الْوَظِيفَة الثَّانِيَة أَن لَا يستطيل بِهِ على من قصد الصَّوَاب فأخطأه قيل يَنْبَغِي للمشير إِذا كَانَ النجاح عقب إِشَارَته أَن لَا يكثر من الافتخار بِرَأْيهِ والاحتجاج على فَسَاد رَأْي غَيره فَإِن ذَلِك من سوء الدب وتقريع الصحاب ومذموم الْإِعْجَاب الْمقَام الثَّالِث المستشار فِيهِ وَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا مَا هُوَ من أُمُور الدُّنْيَا وخفي وَجه الصَّوَاب فِيهِ فيطلب العثور عَلَيْهِ بالمشورة الثَّانِي مَا هُوَ من مَقَاصِد الدّين وَلم يتَعَيَّن فِي الْحَال وأشكل فِيهِ

المقام الرابع

التَّلَبُّس بِالْعَمَلِ بِهِ بِاعْتِبَار أَمر خَارج عَن ذَاته فليلتمس بالمشورة وَجه التَّعَبُّد على ذَلِك كَمَا قَالُوا فِي الاستخارة عِنْد إِرَادَة الْحَج ببعد المشورة أَنَّهَا لَا تعود إِلَى نفس الْحَج بل لما هُوَ لَازم لَهُ نَحْو هَل يَشْتَرِي أَو يكتري أَو يسير فِي الْبر أَو الْبَحْر أَو فِي هَذِه السّنة أَو فِي غَيرهَا على القَوْل بالتراخي وَنَحْو ذَلِك وتبصره إِذا أشكل وَجه الصَّوَاب فِي الْأَمر الْمَطْلُوب وَلم يهتد النّظر فِيهِ إِلَى مَا يعول عَلَيْهِ فَالْوَاجِب رده إِلَى الله تَعَالَى وتسليمه لعلمه الْمُحِيط بِكُل معلون قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ الْأُمُور ثَلَاثَة أَمر استبان رشده فَاتبعهُ وَأمر استبان ضِدّه فاجتنبه وَأمر أشكل فَرده إِلَى الله وَفِي السلوانات إِذا اشتبهت المصادر ففوض الْأَمر إِلَى الْقَادِر فَإِن من الدّلَالَة على أَن الْإِنْسَان مَصْرُوف مغلوب ومدبر أَن يتبلد رَأْيه فِي بعض الخطوب ويغمى عَلَيْهِ الصَّوَاب الْمَطْلُوب قيل وَكَانَ الْحجَّاج إِذا تَعَارَضَت آراؤه فِي خطب من الخطوب ينشد دعها سَمَاوِيَّة تجْرِي على قدر لَا تفسدنها بِرَأْي مِنْك منكوس الْمقَام الرَّابِع فِيمَا يُطَالب بِهِ المستشير بعد المشورة وَذَلِكَ جملَة وظائف

الْوَظِيفَة الأولى الْقبُول قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ فَائِدَة الْمُشَاورَة إِذا كَانَ المستشار بِالصّفةِ الْمَشْرُوطَة فِيهِ وَلم تظهر الْمفْسدَة فِيمَا أَشَارَ بِهِ قلت وَلَا عَلَيْهِ من ظُهُورهَا بعد ذَلِك إِذْ بعد جهدك لَا تلازم وقديما كَانَ يُقَال من أجتهد رَأْيه وشاور صديقه فقد قضى مَا عَلَيْهِ الْوَظِيفَة الثَّانِيَة الْإِعْرَاض عَن ملام المستشار عِنْد ظُهُور خطاه قَالُوا إِذا أَشَارَ عَلَيْك أحد بِرَأْي أفْضى فِيهِ إِلَى الْغَلَط وَزَل بِهِ عَن الصَّوَاب فَلَا تأخذن فِي تأنيبه وتوبيخه فَإِن الآراء رُبمَا خفيت وجوهها وَغَابَتْ أَسبَابهَا وَلَيْسَ كل الرَّأْي مَقْطُوعًا بِهِ وَإِذا لمته على غلطة مَعَ صِحَة لصده آذيته وَقطعت غَيره من النصحاء عَن نصحك الْوَظِيفَة الثَّالِثَة التأني بِالْفِعْلِ ريثما تحصل الثِّقَة بِالرَّأْيِ وتصمم الْعَزِيمَة عَلَيْهِ قَالَ أرسطو إِذا صَحَّ الرَّأْي مَعَ المستشار فَلَا تعجل إِنْفَاذه وَلَا تَركه وأتركه يختمر يَوْمًا لَيْلَة إِلَّا فِيمَا يخَاف فَوَاته فاستخر الله وعجله وَكَانَ يُقَال كل رَأْي لم تتمخض فِيهِ الفكرة لَيْلَة كَامِلَة فَهُوَ مَوْلُود لغير تَمام وَفِي محَاسِن البلاغة فِي الروية تبيان الرَّأْي تصح الاعتزام تَمْثِيل قيل وَلما كَانَ أمضى السيوف مَا بولغ فِي إرهاف حَده وأجيد صقله كَانَ أرجح الآراء مَا كثر امتحانه وأطيل تَأمله الْوَظِيفَة الرَّابِعَة تَقْدِيم الاستخارة قبل الْعَزْم على إِمْضَاء مَا تمحضت عَنهُ المشورة قَالَ ابْن الْحَاج الْجمع بَين الاستخارة والاستشارة من كَمَال

الِامْتِثَال للسّنة إِذْ بركتهما ظَاهِرَة فَيَنْبَغِي أَلا يقْتَصر على أَحدهمَا فَإِن كَانَ لابد من الِاقْتِصَار فعلى الاستخارة قلت وَفِي الحَدِيث من سَعَادَة ابْن آدم استخارته الله تَعَالَى وَمن شقوة ابْن آدم بركه استخارة الله تَعَالَى وَمن كَلَام الْحُكَمَاء أَرْبَعَة لَا تَسْتَغْنِي عَن أَرْبَعَة الرّعية عَن السياسة والجيش عَن القادة والرأي عَن الاستشارة والعزم عَن الاستخارة استطراد لَا بُد هُنَا لكَمَال الْعِنَايَة بِهَذِهِ الْوَظِيفَة من التَّنْبِيه على مهمات أَحدهَا صفتهَا مادل عَلَيْهِ حَدِيث جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ حَسْبَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلمنَا الاستخارة فِي الْأُمُور ملها كالسورة من الْقُرْآن يَقُول إِذا هم أحدكُم بِالْأَمر فليركع رَكْعَتَيْنِ من غير الْفَرِيضَة ثمَّ ليقل اللَّهُمَّ أَنِّي استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك وَأَسْأَلك من فضلك الْعَظِيم فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر وَتعلم وَلَا أعلم وَأَنت علام الغيوب اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر وَيُسمى حَاجته خير لي فِي ديني ومعاشي وعاقبة أَمْرِي أَو قَالَ عَاجل أَمْرِي وآجله فأقدره لي ويسره لي بَارك لي فِيهِ وَإِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر شرا لي فِي ديني ومعاشي وعاقبة أَمْرِي أَو قَالَ عَاجل أَمْرِي وآجله فاصرفه عني واصرفني عَنهُ وأقدر لي الْخَيْر حَيْثُ كَانَ ثمَّ رضني بِهِ قَالَ ويسمي الْحَاجة الثَّانِيَة قَالَ النَّوَوِيّ قَالَ الْعلمَاء تسْتَحب الاستخارة وَالصَّلَاة وَالدُّعَاء الْمَذْكُور

قلت والاستحباب متأكد الطّلب فِي جَمِيع الْأُمُور الدِّينِيَّة والدنيوية بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى يعلمنَا الاستخارة كالصورة من الْقُرْآن التماسا لفوائدها الَّتِي لَا يسع الْمُؤمن إهمالها الثَّالِثَة الصَّلَاة الْمُقدمَة فِيهَا على الدُّعَاء هِيَ من جنس النَّوَافِل أَي غير الْفَرَائِض وَمن قَالَ النَّوَوِيّ وَالظَّاهِر أَنَّهَا تحصل بِرَكْعَتَيْنِ من السّنَن والرواتب وتحية الْمَسْجِد وَغَيرهَا من النَّوَافِل الرَّابِعَة قَالَ النَّوَوِيّ يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى بعد الْفَاتِحَة قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّانِيَة قل هُوَ الله أحد قلت وَإِن قَرَأَ بِغَيْرِهِمَا فواسع قَالَه ابْن الْحَاج الْخَامِسَة قَالَ النَّوَوِيّ يسْتَحبّ إفتتاح الدُّعَاء الْمَذْكُور وختمه بِالْحَمْد لله وَالصَّلَاة وَالتَّسْلِيم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت كَمَا فِي مُطلق الدُّعَاء وَقد نقل الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فِي مَوضِع آخر وحكمته فِي الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا مَقْبُولَة وَإِذا قبلت فِي طرقي الدُّعَاء رجى قبُول مَا توسطها السَّادِسَة قَالَ وَلَو تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاة استخار بِالدُّعَاءِ قلت لِأَن تقدم الصَّلَاة عَلَيْهِ وَسِيلَة لرجاء قبُولهَا فَإِذا تَعَذَّرَتْ بَقِي الميسور من التَّوَجُّه إِلَى الْمولى الْكَرِيم فِي إستمناح الْهِدَايَة من لَدنه فَيَأْتِي بِهِ لِئَلَّا يحرم بركته السَّابِعَة إِذا استخار مضى بعْدهَا لما ينشرح لَهُ صَدره قَالَ ابْن الْحَاج وَبَعْضهمْ يتَوَقَّف حَتَّى يرى مناما يفهم مِنْهُ الْفِعْل أَو التّرْك أَو يرَاهُ غَيره لَهُ قَالَ وَلَيْسَ بِشَيْء لَان صَاحب الْعِصْمَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالاستخارة والاستشارة لَا بِمَا يرى فِي الْمَنَام

الثَّامِنَة أنكر ابْن الْحَاج الدُّعَاء فِي الاستخارة بِغَيْر هَذَا الْوَارِد فِيهَا قَائِلا بعد استبعاد أَن يجمع غَيره من أدب الْفَوَائِد مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من ذَلِك أَلْفَاظه الْكَرِيمَة وَلَو لم يكن فِيهِ من الْخَيْر وَالْبركَة إِلَّا أَن من فعلهَا كَانَ ممتثلا المسنة المطهرة لبركات النُّطْق بِتِلْكَ الْأَلْفَاظ الَّتِي تربو على كل خير يَطْلُبهُ الْإِنْسَان لنَفسِهِ التَّاسِعَة الِاقْتِصَار فِي الاستخارة على مرّة وَاحِدَة كَاف فِي رجائه النصح بهَا على مُقْتَضى مَا صَحَّ مِنْهَا وَفِي كتاب ابْن السّني عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أنس إِذا هَمَمْت بِأَمْر فاستخر رَبك فِيهِ سبع مَرَّات ثمَّ أنظر إِلَى الَّذِي سبق قَلْبك فَإِن الْخَيْر فِيهِ قَالَ النَّوَوِيّ إِسْنَاد غَرِيب فِيهِ من لَا اعرفهم الْعَاشِرَة سبق أَن طلب التَّوَجُّه بهَا متأكد وَكَذَا الحض على المشورة وَعند ذَلِك فَتَركهَا خيبة وحرمان قَالَ ابْن الْحَاج من ترك الاستخارة والاستشارة يخَاف عَلَيْهِ من التَّعَب فِيمَا أَخذ سَبيله لدُخُوله فِي الْأَشْيَاء بِنَفسِهِ دون الإمتثال للسّنة المطهرة لِأَنَّهَا لَا تسْتَعْمل فِي شَيْء إِلَّا عمته البركات وَلَا تتْرك من شَيْء إِلَّا حصل فِيهِ ضد ذَلِك الْوَظِيفَة الْخَامِسَة ترك الِالْتِفَات بعد المشورة والاستخارة إِلَى مَا يتخرص بِهِ على علم الْغَيْب وَله أَمْثِلَة يَكْفِي مِنْهَا اثْنَان الْمِثَال الأول التنجيم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اقتبس علما من النُّجُوم اقتبس شُعْبَة من السحر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

قَالَ سَحْنُون من صدق عرافا أَو كَاهِنًا أَو منجما فِيمَا يَقُوله فقد كفر بِمَا أنزل الله على قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَكَيف يحل لمُسلم يُؤمن بِاللَّه الْيَوْم الآخر أَن يُصدقهُمْ مَعَ قَوْله تَعَالَى قل لَا يعلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله هِدَايَة قَالَ بَعضهم كنت مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَوق سطح وَهُوَ يُرِيد الرّكُوب فَنَظَرت فَإِذا الْقَمَر بالدبران فَقلت أنظر إِلَى الْقَمَر مَا أحسن استواءه فَنظر فَرَأى مَنْزِلَته ثمَّ ضحك وَقَالَ إِنَّمَا أردْت أَن أنظر إِلَى مَنْزِلَته وَأَنا لَا نُقِيم لشمس وَلَا قمر وَلَكنَّا نسير بِاللَّه الْوَاحِد القهار قَالَ الشَّاعِر (يدبر بالنجوم وَلَيْسَ يدْرِي ... وَرب النَّجْم يفعل مَا يُرِيد) وَقَالَ غَيره (لَيْسَ للنجم من ضرّ وَلَا نفع سَبِيل ... إِنَّمَا النَّجْم على الْأَوْقَات والست دَلِيل) الْمِثَال الثَّانِي التطير لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ منا من تطير أَو تطير لَهُ أتكهن أَو تكهن لَهُ أَو سحر أَو سحر لَهُ وَمن أَتَى كَاهِنًا فَصدقهُ فِيمَا يَقُول فقد كفر بِمَا أنزل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ الْبَزَّاز تَوْجِيه قَالَ بعض الْعلمَاء منع من ذَلِك لنه سَبَب لكسر النِّيَّة وَنقض الْعَزِيمَة وتشويش الخاطر مَعَ مَا فِيهِ من تَعْطِيل الإحالة على الأقدار السَّابِقَة وإساءة الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وشغل الْقلب بِمَا لَعَلَّه لَا يحدث أبدا

الركن الحادي عشر

خلوص يَقِين كَانَ مَالك رَحْمَة الله تَعَالَى لَا يكره سفرا وَلَا نِكَاحا وَلَا حجامة وَلَا شَيْئا فِي يَوْم من الْأَيَّام بل يتحَرَّى فعل ذَلِك كُله فِي يومي الْأَرْبَعَاء والسبت قَالَ ابْن رشد إِنَّمَا كَانَ يعْتَمد ذَلِك لصِحَّة أيمانه بِالْقدرِ ومعرفته بِأَن الْيَوْم لَا يضر وَلَا ينفع قَالَ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لكل مُؤمن أَن يفعل لِأَن من تطير فق أَثم تَنْبِيه فِي الْمُوَطَّأ لَا طيرة وَخَيرهَا الفال قيل يَا رَسُول الله وَمَا الفال قَالَ الْكَلِمَة الصَّالِحَة قَالَ ابْن الْحَاج الفال الْحسن مَا عرض من غير قصد كَقَوْلِه قَائِل يَا مُفْلِح وَنَحْوه والمكتسب مِنْهُ حرَام كَمَا قَالَه الطرطوشي قلت يَنْبَغِي تمثيله بِأخذ الفال فِي الْمُصحف وبضرب الرمل قَائِلا هُوَ من بَاب الإستقسام بالأزلام الرُّكْن الْحَادِي عشر بذل النَّصِيحَة وَفِيه بِحَسب تَلْخِيص النّظر فِيهِ مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الطرطوشي النصح للْمُسلمين وَالْخَلَائِق أَجْمَعِينَ من سنَن الْمُرْسلين صلوَات الله عَلَيْهِم قَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا ينفعكم نصحي إِن أردْت أَن أنصح لكم إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم قَالَ عَن شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون

قلت وَمن الْوَارِد فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمْرَانِ أَحدهمَا جعله شرطا فِي الدّين فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على إقَام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة والنصح لكل مُسلم الثَّانِي مُفَارقَته للْمُسلمين بِتَرْكِهِ فَعَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لَا يهتم بِأَمْر الْمُسلمين فَلَيْسَ مِنْهُم وَمن لم يصبح ويمس ناصحا لله وَرَسُوله ولكتابه ولإمامه ولعامة الْمُسلمين فَلَيْسَ مِنْهُم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة النصح فِي الْجُمْلَة فعل مَا فِيهِ صَلَاح وملائمة وَيحْتَاج مَعَ ذَلِك معرفَة الْفرق بَينه وَبَين أُمُور أَحدهَا التأنيب وَالْفرق بَينهمَا على مَا قَرَّرَهُ ابْن قيم الجوزية أَن النَّصِيحَة إِحْسَان صادر عَن رَحْمَة وشفقة مُرَاد بِهِ وَجه الله تَعَالَى فِي احْتِمَال أَذَى المنصوح ولأئمته بعد التلطف لَهُ فِي إِلْقَاء النَّصِيحَة إِلَيْهِ والتأنيب الْقَصْد بِهِ التَّعْبِير والذم المفروغ فِي قالب النَّصِيحَة قَالَ وَمن الْفرق بَينهمَا أَن الناصح لَا يعادي إِذا لم تقبل نصيحته لاقتناعه بِوُقُوع أجره على الله تَعَالَى مَعَ الْكَفّ عَن عُيُوب المنصوح وَالدُّعَاء لَهُ بِظهْر الْغَيْب والمؤنب بضد ذَلِك الثَّانِي الْغَيْبَة حَيْثُ تستلزمها النَّصِيحَة فِي الصُّورَة وَالْفرق بَينهمَا إِذْ ذَاك أَن قصد النَّصِيحَة بِذكر مَا هُوَ غيبَة تحذر الْمُؤمنِينَ عُمُوما أَو خُصُوصا والغيبة الْمَحْضَة قَصدهَا التفكه بتمزيق الْعرض بهَا فَقَط وَهِي على الْقَصْد الأول طَاعَة وعَلى الثَّانِي مَعْصِيّة الثَّالِث السّعَايَة حَيْثُ يُوهم بِالنَّصِيحَةِ ويلبس تغليطها غلى غير الْقطن فَفِي الأفلاطونيات قد يتَوَهَّم الْجَاهِل أَن السّعَايَة هِيَ النَّصِيحَة وَلَيْسَ الْأَمر

كَذَلِك لِأَن النَّصِيحَة هِيَ صدقك الْإِنْسَان عَمَّا فوضه إِلَيْك وألزمك الْحق تعريفك إِيَّاه والسعاية صدقك الْإِنْسَان عَمَّا اقترفه بعض اتِّبَاعه وَأَنت تُرِيدُ الْإِضْرَار بالتابع وَالِانْتِفَاع بالمتبوع لَا تَقْدِيم النَّصِيحَة لذَلِك الْإِنْسَان الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة تقدم فِي حَدِيث تَمِيم الدَّارِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ ولكتابه ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم فالتي لله بتوحيده والاعتقاد والمجادلة عَنهُ لِذَوي الْإِلْحَاد وإخلاص الْعَمَل لَهُ فِي الِاجْتِهَاد وَالَّتِي لكتابه بِالْإِيمَان بِهِ وبعلمه وَالْعَمَل بِمَا فِيهِ وَالْوُقُوف عِنْد متشابهة وَالنَّظَر فِي محكمَة والذب عَنهُ وَترك الْمَرْء فِيهِ وترتيل تِلَاوَته وَالَّتِي لرَسُوله تَصْدِيقه وتعظيمه وطاعته والرضى بِحكمِهِ وَالَّتِي لائمته مَا يجب للأمام من الْحُرْمَة وَالطَّاعَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ لَكِن مَا يجب للأئمة أعظم وَيزِيدُونَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يجب لَهُ لَا لحُرْمَة زَائِدَة بل لعِلَّة حَادِثَة بِالصبرِ على أذاهم إِذا لم يعدلُوا وينبههم إِذا غفلوا وَترك الثَّنَاء عَلَيْهِم بِمَا لَيْسَ فيهم وَالدُّعَاء على لَهُم بصلاحهم عِنْد فسادهم وَالَّتِي لعامة الْمُسلمين أما الداخلون مِنْهُم فِي جملَة الْحُكَّام وهم الْعلمَاء بتصديقهم وتقليدهم وَالدُّعَاء لَهُم وتعظيمهم وَأما من عداهم فغايتها تعليمهم إِذا جهلوا وتقويمهم إِذا اعوجوا وتقويتهم إِذا احتاجوا انْتهى مُلَخصا من كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ مزِيد حق قَالَ الطرطوشي والنصح لجَمِيع الْملَل بمحبة إسْلَامهمْ ودعائهم إِلَى الْإِيمَان بالْقَوْل وتحذيرهم عَاقِبَة الْكفْر وَالسيف إِن كَانَ ذَا سُلْطَان الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة الْوَظَائِف الَّتِي على الناصح نَوْعَانِ النَّوْع الأول بِحَسب النَّصِيحَة فِي الْجُمْلَة وَمن أهمها وظيفتان

الْوَظِيفَة الأولى القاؤها فِي السِّرّ لِأَنَّهَا فِي الْعَلَانِيَة توبيخية وفضيحة خُصُوصا حَيْثُ بِكَوْن بالتوقيف على معرفَة الْعُيُوب قيل لبَعْضهِم تحب من يُخْبِرك بعيوبك فَقَالَ إِن نصحتني فِيمَا بيني وَبَيْنك فَيعم وَإِن قرعتني فِي الْمَلأ فَلَا الْوَظِيفَة الثَّانِيَة تلطف فِي التَّعْرِيف بِالْعَيْبِ الَّذِي يُعلمهُ المنصوح نَفسه وَهُوَ يضمره وَذَلِكَ بالتعريض مرّة وَالتَّصْرِيح أُخْرَى إِلَى حد لَا يُؤَدِّي إِلَى الإيحاش قَالَ الْغَزالِيّ فَإِن علمت أَن النصح غير مُؤثر فِيهِ وَأَنه مُضْطَر من طبعه إِلَى الْإِصْرَار عَلَيْهِ فالسكوت عَنهُ أولى النَّوْع الثَّانِي بِاعْتِبَار نصيحة الْأُمَرَاء وَمن أكدها وظيفتان الْوَظِيفَة الأولى اتقاء ضَرَر النَّاس بنصحه لَا سِيمَا قبل إِحْرَاز مَا يتَمَكَّن بِهِ من منزلَة السُّلْطَان من قُلُوبهم فَفِي الأفلاطونيات أحذر فِي نصيحتك للملوك الدُّخُول إِلَى الأضرار بِالنَّاسِ قبل أَن توفر عَلَيْهِ حظوظه وَلَكِن إشتر لَهُ الْأَحْرَار وَالشُّكْر والمحبة بِنَصِيب من مَاله فَإنَّك تحسن بذلك أَيَّامه وَلَا ينقصهُ مَا أَحْسَنت بِهِ إِلَى النَّاس مِنْهُ الْوَظِيفَة الثَّانِيَة اسْتِعْمَال حسن المداراة مَعَ بذل الوسع فِيهَا فَفِيهَا أَيْضا اسْتعْمل مَعَ فرط النَّصِيحَة مَا يَسْتَعْمِلهُ الحزمة من حسن المداراة والتذلل للرؤساء وَلَا يدْخلك الْعجب من فضلك على أكفائك فَيفْسد عَلَيْك ثَمَرَة مَا فضلت بِهِ عاطفة تقدم أَن التلطف فِي القاء النَّصِيحَة مَطْلُوب فِي الْجمل فَمن

حِكَايَة مَعَ الْمُلُوك مَا يرْوى أَن عمر بن عتبَة قَالَ للوليد بن يزِيد حِين تغير النَّاس عَلَيْهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه ينطقني إِلَّا من بك وتسكتني الهيبة لَك وأراك بأمن أَشْيَاء أخافها عَلَيْك فأسكت مُطيعًا أم أَقُول لَك مشفقا فَقَالَ قل كل مَقْبُول مِنْك وَللَّه فِينَا علم غيب نَحن صائرون إِلَيْهِ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة مِمَّا على المنصوح وخصوصا الْأُمَرَاء وظيفتان الْوَظِيفَة الأولى استكفاء من يرتضيه لنصيحته ويختاره لما مَعَ تصفح مَا يطالع بِهِ من ذَلِك فَفِي الأفلاطونيات لَا تقبل فِي النَّصِيحَة إِلَّا قَول من استكفيته مَا نصحك فِيهِ وَارْتَفَعت عَنهُ المراقبة وَاسْتغْنى عَن التصنع بِحسن مَحَله واتهم من سوى ذَلِك وَلَا تخل من تتبع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهَا واستخلاصه الْوَظِيفَة الثَّانِيَة قبُول مَا ينْتَفع بِهِ من النَّصِيحَة المشوبة بمضرة النَّاس مَعَ الحذر من صَاحبهَا وفيهَا النّظر إِلَى المنتصح والمتقرب إِلَيْك فَإِنَّهُ إِن دخل إِلَيْك من مضار النَّاس فاقبل مِنْهُ مَا انتفعت بِهِ وتحرز مِنْهُ وَإِن دخل إِلَيْك من أَشْيَاء من جنس الْعدْل وَالصَّلَاح فاقبلها واستشعره الْمَسْأَلَة السَّادِسَة لقبُول النَّصِيحَة وَهُوَ فائدتها جرعة مرّة المذاق لَا يتكفلها إِلَّا من وفْق لَا تصادفه بِعلم مَا لَهَا من ثَمَرَات عَائِدَة عَلَيْهِ بالنفع الْعَظِيم وَقد قَالَ ابْن المقفع عود نَفسك السبر على من خالفك من ذَوي

النَّصِيحَة والتجرع لمرارة قَوْلهم وعدلهم وَلَا تسألن ذَلِك إِلَّا لهل الْعقل وَالسّن والمروءة قلت ويستعان على ذَلِك بأمرين أَحدهمَا أَن استثقال النصح وَكَرَاهَة الْمُقَابل بِهِ استبشاعا لمرارة الْقبُول من أَوْصَاف الْكَافرين قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن لَا تحبون الناصحين} كَمَا أَن استسهال المواجهة استحلاء بثمرتها عَلَيْهِ من أَخْلَاق الْمُؤمنِينَ وَهُوَ المر الثَّانِي فَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول رحم الله أُمَرَاء أهْدى إِلَيّ عيوبي وَعَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ لي عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ قل لي فِي وَجْهي مَا أكره فَإِن الرجل لَا ينصح أَخَاهُ حَتَّى يَقُول لَهُ فِي وَجهه مَا يكره الْمَسْأَلَة السَّابِعَة ينشأ من مرَارَة هَذِه الجرعة غائلتان يجب على الناصح أَن يحذر مِنْهُمَا جهده إِحْدَاهمَا عَدَاوَة المنصوح وبغضه فقد قَالُوا الْحق مبغضة وَبَعض النَّصِيحَة للعداوة مكسبة قَالَ (وَكم سقت فِي آثَاركُم من نصيحة ... وَقد يَسْتَفِيد البغضة المتنصح) الثَّانِيَة أَدَاء النَّصِيحَة إِلَى فَسَاد قبل صَلَاح الْمَنْصُوص بهَا وَقد قَالَ

الْخطابِيّ واصفا أهل زَمَانه وَهُوَ فِيمَن بعدهمْ أَحْرَى وَقد كَانُوا وَالنَّاس نَاس وَالزَّمَان يستبشعون الْحق ويتمررون طعم النصح ويتنكرون لمن يهدي إِلَيْهِم عيوبهم ويعوقهم عَن أنفسهم فَمَا ظَنك بهم الْآن مَعَ فَسَاد الزَّمَان اللولبي المتقلب أَترَاهُم يذعنون الْحق ويصيخون إِلَى النصح كلا إِنَّك إِلَى أَن تفْسد بهم أقرب مِنْهُم إِلَى أَن يصلحوا بك فقد قيل من قَابل الْكثير من الْفساد باليسير من الصّلاح فقد غرر نَفسه تَمْثِيل قَالُوا مِثَاله أَن يمِيل جِدَار فيأتيه رجل فيدعمه بيدَيْهِ ليقيمه فَإِنَّهُ يُوشك أَن يسْقط عَلَيْهِ فَيكون فِيهِ تلفه بل إِذا وجد أعوانا وَآلَة فدعمه بأعمدة ورفده بقوائم من خشب وَنَحْوهَا كَانَ جَدِيرًا أَن يسْتَقلّ وَيثبت بِيَدِهِ ليقيمه فَإِنَّهُ يُوشك أَن يسْقط عَلَيْهِ فَيكون فِيهِ تلفه بل إِذا وجد أعوانا وَآلَة فدعمه وَكَانَ الرجل حَقِيقا أَن يسلم وينجى تَكْمِلَة من الْمَنْقُول فِي هَذَا الْبَاب حكايتان الْحِكَايَة الأولى مُتَوَقف على مستحسن الأنصاف فِي قبُول النَّصِيحَة وَالرُّجُوع إِلَيْهَا وَهِي مَا يرْوى أَن سَابُور أَتَى على بِلَاد الْبَحْرين وفيهَا بَنو تَمِيم فأمعن فِي قَتلهمْ وهربوا وشيخهم إِذْ ذَاك عَمْرو بن تَمِيم بن مر وَله حِينَئِذٍ ثَلَاثمِائَة سنة وَكَانَ يعلق فِي عَمُود الْبَيْت فِي قفة قد اتَّخذت لَهُ فأرادوا حَملَة فَأبى عَلَيْهِم إِلَّا أَن يَتْرُكُوهُ فِي دِيَارهمْ وَقَالَ أَنا هَالك الْيَوْم أَو غَدا وماذا بَقِي لي من فسحة الْعُمر لَعَلَّ الله ينجيكم من هَذَا الْملك الْمُسَلط على الْعَرَب فَخلوا عَنهُ وتركوه على مَا كَانَ عَلَيْهِ فصحبت خيل سَابُور الديار فنظروا إِلَى أَهلهَا وَقد ارتحلوا ونظروا إِلَى قفة معلقَة فِي شَجَرَة فَسمع عَمْرو صَهِيل الْخَيل ووقعها وهمهمة الرِّجَال فَأقبل يَصِيح بِصَوْت ضَعِيف فَأَخَذُوهُ وجاؤا

بِهِ إِلَى سَابُور فَلَمَّا حضر بَين يَدَيْهِ نظر إِلَى دَلَائِل الْهَرم ومرور الْأَيَّام عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ سَابُور من أَنْت أَيهَا الفاني قَالَ أَنا عَمْرو بن تَمِيم بن مر وَقد بلغت من الْعُمر مَا ترى وَقد هرب النَّاس مِنْك لإسرافك فِي الْقَتْل وعقوبتك إيَّاهُم وآثرت على يَديك الفناء ليبقى من مضى من قومِي وَلَعَلَّ الله ملك تِلْكَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض يجْرِي على يَديك فرجهم مِمَّا أَنْت بسبيله من قَتلهمْ وَأَنا سَائِلك على أَمر أَن أَنْت أَذِنت لي فِيهِ فَقَالَ لَهُ سَابُور قل أَيهَا الشَّيْخ فَقَالَ لَهُ عَمْرو مَا الَّذِي يحملك على قتل رعيتك رجال الْعَرَب فَقَالَ سَابُور أقتلهم لما ارتكبوا فِي بلادي وَأهل مملكتي فَقَالَ عَمْرو فعلوا ذَلِك وَلست عَلَيْهِم بقيم فَلَمَّا بلغت وقفُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ من الْفساد هَيْبَة لَك قَالَ سَابُور أقتلهم لانا مُلُوك الفرص نجد فِي مخزون علمنَا وَمَا سلف من أَخْبَار أوائلنا أَن الْعَرَب ستدال علينا وَتَكون لَهُم الْغَلَبَة على ملكنا فَقَالَ عَمْرو وتتحققه أم تظنه قَالَ بل أتحققه ولابد أَن يكون قَالَ لَهُ عَمْرو إِن كنت تعلم أَن ذَلِك يكون فَلم تسيء إِلَى الْعَرَب وَالله لن تبقى على الْعَرَب جَمِيعًا وتتحسن إِلَيْهَا فيكافئون عِنْد ادالة الدولة لَهُم قَوْمك بإحسانك فَإِن أَنْت طَالَتْ بك الْمدَّة كافأوك عِنْد مصير الدولة إِلَيْهِم فيبقون عَلَيْك وعَلى قَوْمك وَإِن كَانَ حَقًا كَمَا تَقول فَهُوَ ألزم فِي الرَّأْي وانفع فِي الْعَاقِبَة وَأَن كَانَ الْأَمر بَاطِلا فَلم تسْتَعْمل الْإِثْم وتسفك الدِّمَاء من رعيتك فَقَالَ سَابُور الْأَمر صَحِيح وَهُوَ كَائِن لكم والرأي مَا قلت وَلَقَد صدقت فِي القَوْل وَنَصَحْت فِي الْخطاب فَنَادَى مُنَادِي سَابُور بِأَمَان الْعَرَب والكف عَن قَتلهمْ وَرفع السَّيْف عَنْهُم 3 الْحِكَايَة الثَّانِيَة تعلم بصنيع الله تَعَالَى لمن صدق مَعَه فِي نصيحة السُّلْطَان وَأَن تعرض بهَا لما يسخطه فيروى أَن الْحجَّاج وَفد بإبراهيم بن

بالخسف وَيحكم فيهم بِغَيْر السّنة بعد الَّذِي كَانَ من سفك دِمَائِهِمْ وَمَا انتهك من حرمهم ثمَّ ظَنَنْت أَن ذَلِك فِيمَا بَيْنك وَبَين الله زاهق وَفِيمَا بَيْنك وَبَين نبيك غَدا إِذْ جاثاك للخصومة بَين يَدي الله عز وَجل فِي أمته أما وَالله لَا تنجو هُنَاكَ إِلَّا بِحجَّة فارع على نَفسك أودع فَقَالَ لَهُ عبد الْملك كذبت ومنت وَظن بك الْحجَّاج مَا لم يجده فِيك وَقد يظنّ الْخَيْر بِغَيْر أَهله قُم فَأَنت الْكَاذِب المائن قَالَ فَقُمْت مَا أعرف طَرِيقا فَلَمَّا خطرفت السّتْر لَحِقَنِي لَاحق وَقَالَ احْبِسُوا هَذَا وَقيل للحجاج أَدخل فَمَكثت مَلِيًّا من النَّهَار لَا أَشك أَنَّهُمَا فِي أَمْرِي ثمَّ خرج الْآذِن فَقَالَ أَدخل يَا ابْن طَلْحَة فَلَمَّا كشف السّتْر لَقِيَنِي الْحجَّاج وَهُوَ خَارج وَأَنا دَاخل فاعتقني وَقبل مَا بَين عَيْني وَقَالَ أما إِذا جزى الله المتواخين بِفضل تواصلهم فجزاك الله عني أفضل الْجَزَاء فو الله لَئِن سلمت لَك لأرفعن ناظرك ولأعلين كعبك وَلَا تبعن الرِّجَال غيرَة قَدَمَيْك فَقَالَ فَقلت يهزأ بِي وَرب الْكَعْبَة فَلَمَّا وصلت إِلَى عبد الْملك أدناني حَتَّى أجلسني مجلسي الأول ثمَّ قَالَ يَا ابْن طَلْحَة لَعَلَّ أحد شَارك فِي نصيحتك هَذِه قلت وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا علم أحد بهَا وَلَا لأحد عِنْدِي يَد وَلَا أعظم مَعْرُوفا من الْحجَّاج وَلَو كنت محابيا أحد لغَرَض دنيا لحابيته وَلَكِنِّي آثرت الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فَقَالَ عبد الْملك قد عزلته عَن الْحَرَمَيْنِ لما كرهت من ولَايَته عَلَيْهِمَا وأعلمته أَنَّك استنزلتني لَهُ عَنْهُمَا اسْتِقْلَالا لَهما ووليته العراقين وَمَا هُنَالك من الْأُمُور الَّتِي لَا يدحضها إِلَّا مثله وأعلمته أَنَّك استدعيتني إِلَى تَوليته عَلَيْهَا استزادة لَهُ لإلزامه بذلك من حَقك مَا يُؤَدِّي إِلَيْك عني أجر نصيحتك فَأخْرج مَعَه فَإنَّك غير ذام لصحبته انْتهى

الركن الثاني عشر

الرُّكْن الثَّانِي عشر إحكام التَّدْبِير وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى لَا خَفَاء أَن التَّدْبِير قوام الْملك وحافظ وجوده كَمَا أَنه من مَالك الْمُلُوك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْفِعْل الممتدح بِهِ فِي حفظ نظام الْعَالم بأسره كَقَوْلِه تَعَالَى {يدبر الْأَمر يفصل الْآيَات} وَقَوله تَعَالَى {يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض} وَقد عبر بعض الْحُكَمَاء عَن ثبات الرياسة بِهِ وَبِالْجُمْلَةِ كل مَا هُوَ من الْخيرَات المؤثرة يقويه التَّدْبِير يُوجب بَقَاء النِّعْمَة ترغيبا فِيهِ وتحضيضا على اجتناء ثَمَرَته الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة إِذا كَانَ من الْملك بِهَذِهِ الْمنزلَة فَتوهم الِاسْتِغْنَاء عَنهُ عِنْد استقامة الْأُمُور بَاطِل فَفِي الأفلاطونيات الغر من الْمُلُوك من ظن أَنه غَنِي عَن التَّدْبِير مَعَ استقامة الْأُمُور لِأَنَّهُ لَا يرى فِيهِ خللا وَفِي مثل هَذَا الْوَقْت يُمكنهُ توفير خراجه وانتخاب رِجَاله وخدمة الْعدْل وَالسّنَن المحمودة فِي بلدانه وَتَنَاول كل مَا يشْغلهُ الْحَرْب عَنهُ ويمنعه مِنْهُ الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة إِنَّمَا يعْتد بِالتَّدْبِيرِ إِذا صدر من ذَوي التجارب العارفين بِمَا تحسن بِهِ الْعَاقِبَة وترضى بِهِ الاسْتقَامَة الَّتِي لَا انحراف فِيهَا عَن نهج الصَّوَاب فَلذَلِك لَا عِبْرَة بِهِ من الْأَحْدَاث وَأَن اوهم صلاحا فَفِيهَا لَا تعتمد تَدْبِير الْأَحْدَاث فَلَيْسَ يَلِيق التَّدْبِير بهم وَأَن حسن مِنْهُم فِي بعض الْأَوْقَات فَإِنَّهُ قَبِيح الْعَاقِبَة وَهُوَ كوجود الشَّيْء بالْحسنِ يرى حسنا وَالْعقل يبين بعد قبحه الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ بَعضهم صَلَاح التَّدْبِير فِي الِاحْتِرَاز من ثَلَاثَة أَحدهمَا كَثْرَة الشُّرَكَاء فِيهِ لانتشاره باختلافهم

الركن الثالث عشر

قلت وبرهان بُطْلَانه مَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} وَهُوَ مُوجب اتِّخَاذ الرئيس كَمَا تقدم الثَّانِي تحاسد الشُّرَكَاء فِيهِ وتنافسهم لفسادهم بِدُخُول الْهوى فِيهِ قلت وَهَذَا حَيْثُ لَا يكون الْأَمر رَاجعا إِلَى لُزُوم الْإِنْفَاق إِلَى رَأْي وَاحِد جبرا أَو تواضعا وَأما بِتَقْدِير استبداد كل وَاحِد فالفساد لَازم وَلم يكن هُنَاكَ تحاسد بِالْفَرْضِ الثَّالِث ملك التَّدْبِير من غَابَ عَن الْأَمر دون من حَضَره وباشره كَمَا كتب الْمُهلب إِلَى الْحجَّاج حِين كتب إِلَيْهِ بِسَبَب يستعجله فِي حَرْب الْأزَارِقَة أَن من البلية أَن يكون التَّدْبِير لمن يملكهُ دون من يباشره قيل وَإِذا كَانَ ذَلِك دَاخله حقد الْمُبَاشر وفوت الفرص الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من مُحكم التَّدْبِير مَا يجب أَن يستشعر مَعَه شدَّة الْمُبَالغَة فِي التحفظ والاحتراز فَفِي الأفلاطونيات ليكن خوفك من تدبيرك على عَدوك أَكثر من تَدْبِير عَدوك عَلَيْك الرُّكْن الثَّالِث عشر تَقْدِيم الْوُلَاة والعمال وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الطرطوشي منزلَة الْعمَّال من الْوَالِي بِمَنْزِلَة

السِّلَاح من الْمقَاتل والآلات للصناع لَا يسد بَعْضهَا مسد بعض فَمنهمْ للرأي والمشورة ومباشرة الْحَرْب وَجمع المَال والحجابة وَالدُّعَاء وَالْعلم والفتيا لَا يقوم للْملك ملك مَا لم تَجْتَمِع هَذِه الطَّبَقَات الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن حزم يلْزم الإِمَام أَن يتَخَيَّر ولاته وعماله لتعذر مُبَاشَرَته لجَمِيع الْأُمُور وَلِئَلَّا يشْتَغل عَن التَّدْبِير بأعظم من ذَلِك قلت من الْأَوْصَاف الْمُعْتَبرَة فِي صِحَة هَذَا التخير وكماله أُمُور أَحدهمَا الدّين الْوَازِع عَن الْجور والخيانة الْعَائِد وبالهما على الدولة والرعايا قَالَ الْمَأْمُون مَا فتق على فتق قطّ إِلَّا وجدته جور الْوُلَاة وَفِي العهود اليونانية الْخِيَانَة تفْسد الرَّاعِي والرعية الثَّانِي الْكِفَايَة الْمَأْمُون بهَا مَحْذُور التضييع والتفرد والتفريط فَفِي العهود تجنب اسْتِعْمَال من كَانَ حَظه من السَّلامَة والصيانة أَكثر من حَظه من الْكِفَايَة والشهامة فَإِن تضييعه عَلَيْك أَكثر من استدراكه لَك وتعزيره يزِيد على إحسانه إِلَيْك الثَّالِث الْجمع بَين وصفي الشدَّة واللين قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَنْبَغِي أَن يكون فِي الْوَالِي من الشدَّة مَا يكون ضرب الرّقاب عِنْده بِالْحَقِّ كَقَتل عُصْفُور وَيكون فِيهِ من الرقة والحنو وَالرَّحْمَة والرأفة مَا يجزع من قتل عُصْفُور الرَّابِع التَّوَاضُع عَن رفْعَة السِّيَادَة الذاتية قَالَ بعض الْخُلَفَاء دلوني عَن رجل وَاسْتَعْملهُ على أَمر قد أهمني قَالَ وَكَيف تريده إِذا كَانَ فِي الْقَوْم

وَلَيْسَ أَمِيرهمْ كَانَ كأميرهم وَإِن كَانَ أَمِيرهمْ كَانَ كَرجل مِنْهُم قَالُوا مَا نعمله إِلَّا الرّبيع بن زِيَاد الْحَارِثِيّ قَالَ صَدقْتُمْ وَهُوَ لَهَا الْخَامِس التجربة الْحَاصِلَة بتقدم الْولَايَة الحميدة السِّيرَة فقد قيل يَنْبَغِي للْملك أَن يتَخَيَّر لولاية الْأَعْمَال من تقدّمت لَهُ فِيهِ تجربة وسيرة حميدة وَلَا يعدل عَنهُ مَا وجده فقد كَانَ صدر الْإِسْلَام من ولي لخمسة من ذَوي الْأَمر كَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وروح بن حَاتِم وَقلت وَقد ذكر عَن القَاضِي أبي اسحق بن عبد الرفيع التّونسِيّ أَنه ولي الْقَضَاء بِحَضْرَة تونس فِي خمس دوَل لملوك الحفصيين بهَا لطول عمره وَحسن سيرته الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة الْوَارِد من العهود الْمَأْخُوذ على الْوُلَاة والعمال نَوْعَانِ أَحدهمَا مَا هُوَ ديني محضى عريق فِي السذاجة والبعد عَن مُنَازع الْملك وعوائد ترفه كَمَا يروي عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا بعث عَاملا اشْترط عَلَيْهِ أَرْبعا لَا يركب البراذين وَلَا يلبس الرَّقِيق وَلَا يَأْكُل النقي

وَلَا يتَّخذ حاجبا وَلَا يغلق بَابا على حوائج النَّاس وَمَا يصلحهم وَيَقُول لَهُ إِنِّي لَا استعملك على أبشارهم وَلَا على أعراضهم وَلَا على أَعْمَالهم وَإِنَّمَا استعملك لتصلي يهم وتقضي بَينهم بِالْعَدْلِ الثَّانِي مَا هُوَ سياسي وَالْمُعْتَبر مِنْهُ مَا تشهد لَهُ الشَّرِيعَة بِالْقبُولِ كَمَا يُقَال أَن أنو شرْوَان كَانَ يكْتب فِي عهد الْعمَّال سس خِيَار النَّاس بالمحبة وامزج للعامة الرَّغْبَة بالرهبة وسس سفلَة النَّاس بالمخافة وَفِي العهود اليونانية قرر فِي نُفُوسهم أَن أعظم مَا تقربُوا بِهِ إِلَيْك إِقَامَة حق أَو دحض بَاطِل وَأَن أَخذ حكام مَا جرى على أَيْديهم وَأخذ الْقسْط من الصَّوَاب لديهم آثر عنْدك من توفير عائده ودرور حلبة الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من جَوَامِع مَا يحذر مِنْهُم أَمْرَانِ أَحدهمَا إتصافهم بِمَا يحمل على سوء السِّيرَة الْمضرَّة بهم أَولا وبنظام الْخلق بعد ثَانِيًا فَفِي العهود اليونانية تجنب مِنْهُم من غلب عَلَيْهِ سوء المنشأ والتخرق فِي الْإِنْفَاق والتناوش فِي الإكتساب وَسَهل عَلَيْهِ التبكيت وَمنع رَعيته الإيصاف وساسهم بهَا بالإخافة وَكَانَت ذريعته فِيهَا بتقليده المصانعة دون التَّقَصِّي والكفاية فَإِنَّهُ يفْسد نظام المدن وَيشْهد أَهلهَا كتمان النِّعْمَة وَإِظْهَار الْفَاقَة

الثَّانِي تلبيسهم على مواليهم فِي التَّقَرُّب إِلَيْهِ بِمَا يعْتَقد صَلَاحه وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة أعظم فَسَاد يجر إِلَيْهِ فَفِيهَا أَيْضا وَأحذر أَن يفتك من قلدته سخفه فِي اجتلاب الْحَظ لَك وإتباعه رضاك بسخط رعيتك والتماسه التوفير عَلَيْك بالإجحاف بهَا والتحرز فِي عمَارَة بلادها فَإِن هَذَا قد عاداك من حَيْثُ يتَوَهَّم أَنه أولاك الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من مستحسن السِّيرَة مَعَهم تفقدهم بِأحد أَمريْن الْأَمر الأول بَث الْعُيُون عَلَيْهِم ليطلع بذلك على حَقِيقَة حَالهم فَفِي العهود اليونانية وَابعث على عمالك بحضرتك وقاصيتك عيُونا ينهون إِلَيْك مَا وقفُوا عَلَيْهِ من زللهم وفجورهم وَمَا شجر بَين رعيتك وَبينهمْ وَخبر من وكلته بذلك أَلا يُنْهِي إِلَيْك مِنْهُ إِلَّا مَا يقوم بنصيحة وَلَا يلْزم أحدا بمؤونة فِيهِ وتوعده عَلَيْهِ بغاية الْعقُوبَة وَأعْرض مَا أنهِي إِلَيْك عَنْهُم على خيرتك فَمن رفع إِلَيْك عَنهُ وظنك فِيهِ وَمَا صَححهُ الرافع عَلَيْهِ فأمض أمره بِمَا يُوجِبهُ الْعدْل لَهُ وَعَلِيهِ وَإِن عثرت على عين مِنْهُم بِظَنّ جَائِر بقول كذب فعاقبه على ذَلِك عُقُوبَة تودع من سواهُ عَن سلوك نهجه وتجنب اسْتِعْمَاله مَا بقيت الْأَمر الثَّانِي استقدام من يعْتد بِهِ من أهل عمالتهم ليتعرف من ناحيتهم مثل مَا تنْهى إِلَيْهِ الْعُيُون المبثوثة من لَدنه مُنْضَمًّا لما فِي هَذَا الْأَمر الآخر من وضوح الشَّهَادَة

قَالَ ابْن حزم يلْزم الإِمَام أهل كل جِهَة من جِهَات بَلَده أَن يفد عَلَيْهِ من خيارهم وعلمائهم ليستخبرهم عَن حَال الْأَمِير وَالنَّاس ويكسوهم ويصلحهم كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يفعل فَإِذا وفدوا عَلَيْهِ انْفَرد بهم وَاحِدًا بعد وَاحِد حَتَّى يقف على الْحق من الْبَاطِل فِي أَمر النَّاس وَأمر ولاته وَجَمِيع أَحْوَال عماله مُبَالغَة اعتذار من حزمة المراء من أفْصح لعماله بِاشْتِرَاط تفقدهم وَتَعْيِين جزائهم ثَوابًا وعقابا فيحكى عَن زِيَاد أَنه كَانَ إِذا أولى أحدا قَالَ خُذ عَهْدك وسر إِلَى عَمَلك وَأعلم أَنَّك مَصْرُوف رَأس سنتك وَأَنَّك تصير إِلَى أَربع خلال فاختر لنَفسك إِنَّا إِن وجدناك أَمينا ضَعِيفا استبدلنا بك لضعفك وسلمتك من مضرتنا أمانتك وَإِن وجدناك خائنا قَوِيا استبدلنا بك وأحسنا على خِيَانَتك أدبك فأوجعنا ظهرك أتثقلنا غرمك وَإِن جمعت بَين الجرمين جَمعنَا عَلَيْك العقوبتين وَإِن وجدناك أَمينا قَوِيا زدناك فِي عَمَلك ورفعنا ذكرك وكثرنا مَالك وأوطأنا عقبك الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ ابْن الحزم يلْزم الإِمَام أَن يرْزق أُمَرَاء النواحي رزقا وَاسِعًا يقوم بهم وبمئونتهم حَتَّى لَا يشرهوا إِلَى مَال وَاحِد من أهل عَمَلهم وترزق من لَهُم من الأعوان والفرسان وَالرِّجَال ليستظهر بهم على مَا هم بسبيله على قدر مَا يَلِي كل وَاحِد مِنْهُم من كبر النَّاحِيَة وصغرها من قمع ظَالِم أَو معاند وَشبه ذَلِك قلت وَفِي العهود اليونانية كفهم بِمَا تسبغ عَلَيْهِم من الرزق وَعَن التصدي بِزِيَادَة الرِّفْق الْمَسْأَلَة السَّابِعَة من الْوَصَايَا الْوَارِدَة فِي هَذَا الْمقَام وصيتان الْوَصِيَّة الأولى يذكر عَن أبرويز أَنه كتب إِلَى إبنه يوصيه بالرعية ليكن

من تختاره لولايتك أُمَرَاء كَانَ فِي ضعة فَرَفَعته أَو كَانَ ذَا شرف فعلا فاصطنعه وَلَا تَجْعَلهُ أمرءا أصبته بعقوبة فاتضح لَهَا وَلَا أحد اممن يَقع بقلبك أَن إِزَالَة سلطانك أحب إِلَيْهِ من ثُبُوته وَإِيَّاك أَن تستعمله غمرا إعجابه بِنَفسِهِ قَلِيلا تجربته فِي غَيره وَلَا كَبِيرا مُدبرا قد أَخذ الدَّهْر من عقله كَمَا أخذت السنون من جِسْمه الْوَصِيَّة الثَّانِيَة يحْكى عَن سَابُور أَنه قَالَ لَا تستعملن على الأَرْض الْكَثِيرَة الْخراج شريفا عَظِيم الشَّأْن وَلَا قَائِد جند وَمن لَا يعْتَمد عَلَيْهِ فِي الخطوب فَرُبمَا خانوا أَو ضيعوا الْعَمَل فَإِن سوغتهم هلك المَال اقْتدى بهم غَيرهم وَإِن عاقبهم أذهب بهاءهم وهيبتهم وأضغنت صُدُورهمْ وضعفت نياتهم فِي المناصحة فَكنت قد فللت سِلَاحك وهدمت حصنك الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة من المواعظ فِي الْغَفْلَة عَن تفقد الْوُلَاة مَا يرْوى أَن عَمْرو بن عبيد دخل على الْمَنْصُور فَقَرَأَ {وَالْفَجْر وليال عشر} حَتَّى بلغ {إِن رَبك لبالمرصاد} لمن فعل مثل فعالهم فَاتق الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن ببابك نيران تتأجج لَا تعْمل فِيهَا بِكِتَاب الله وَلَا بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَأَنت المسؤول عَمَّا اجترحوا وَلَيْسوا مسؤولين عَمَّا اجترحت فَلَا يصلح دنياهم بِفساد آخرتك أما وَالله لَو علم عمالك أَنه لَا يرضيك مِنْهُم إِلَّا الْعدْل لتقرب بِهِ إِلَيْك من لَا يُريدهُ فَقَالَ سُلَيْمَان بن خَالِد أما كَفاك أَن تعرض نصيحتك عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ حَتَّى أردْت أَن تحول بَينه وَبَين من ينصحه فَقَالَ عمر أتق الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِن هَؤُلَاءِ قد اتخذوك سلما إِلَى شهواتهم فَأَنت كالماسك بالقرون وَغَيْرك يحلب وَإِن هَؤُلَاءِ لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا تتميم مَا يكسبه الْوُلَاة والعمال ينظر فِيهِ فِي مَوَاضِع والمقرر مِنْهَا بِحَسب الْفَرْض ثَلَاثَة مَوَاضِع الْموضع الأول الْحَاصِل مِنْهُ هَدِيَّة وَقد دلّ الحَدِيث على عدم الِاعْتِبَار بِظَاهِر تِلْكَ الْحَال رعيا لباطن الْقَصْد وَهُوَ الْعَطاء لأجل الْولَايَة وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ قَالَ اسْتعْمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا من الأزد يُقَال لَهُ ابْن اللتبية على الصَّدَقَة فَلَمَّا قدم قَالَ هَذَا لكم وَهَذَا أهْدى إِلَيّ

فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَطِيبًا على الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أما بعد فَإِنِّي أسْتَعْمل الرجل مِنْكُم على الْعَمَل مِمَّا ولاني الله فَيَأْتِي فَيَقُول هَذَا مالكم وَهَذَا هِدَايَة أهدي إِلَيّ أَفلا جلس فِي بَيت أَبِيه وَأمه حَتَّى تَأتي هديته إِن كَانَ صَادِقا وَالله لَا يَأْخُذ أحدكُم شَيْئا بِغَيْر حَقه إِلَّا لَقِي الله يحملهُ يَوْم الْقِيَامَة فَلَا أَعرفن أحدا مِنْكُم لَقِي الله يحمل بَعِيرًا لَهُ رُغَاء أَو بقرة لَهَا خوار أوشاة تبعر ثمَّ رفع يَدَيْهِ حَتَّى رؤى بَيَاض إبطَيْهِ يَقُول اللَّهُمَّ قد بلغت الْموضع الثَّانِي المكتسب مِنْهُ رشوة وَفِيه وعيدان الْوَعيد الأول آجل وَهُوَ اللَّعْنَة كَمَا فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ لعن الله الراشي والمرتشي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَفِي حَدِيث ثَوْبَان رضى الله عَنهُ لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

الراشي والمرتشي والرائش الَّذِي يمشي بَينهمَا الْوَعيد الثَّانِي عَاجل وَهُوَ الْأَخْذ بِالرُّعْبِ فَعَن حَدِيث عَمْرو بِهِ الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول مَا من قوم يظْهر فيهم الرِّبَا إِلَّا أخذُوا بِالسنةِ وَمَا من قوم يظْهر فيهم الرشا إِلَّا أخذو بِالرُّعْبِ رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد الْموضع الثَّالِث مَا حكم المَال فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَبِالْجُمْلَةِ مَا هُوَ من وَجه غير حَلَال وَلَا خَفَاء بِوُجُوب رده إِلَى أربابه إِن عرف بِعَيْنِه وَعلم صَاحبه وَإِلَّا فلبيت مَال الْمُسلمين وَقد قَالَ الدَّاودِيّ إِن وَصَايَا المتسلطين المستغرقي الذِّمَّة لَا تنفذ وعتقهم مَرْدُود وَلَا تورث أَمْوَالهم ويسلك بهَا سَبِيل الْفَيْء انْتهى فَإِن قلت أَفلا يشاطرهم الإِمَام كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ حَتَّى أَخذ لخَالِد بن الْوَلِيد فَرد نَعْلَيْه وَشطر عمَامَته قلت لَا تَكْفِي المشاطرة فِيمَا هُوَ حرَام مَحْض وَإِنَّمَا وَجههَا فِي حق

الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَمر آخر قَالَ الطرطوشي كَأَنَّهُ رأى مَا أصَاب الْعَامِل فِي غير رشوة وَأَن كَانَ حَلَالا لَا يسْتَحقّهُ لقُوته بِالْولَايَةِ على نيل حَلَال لَا يَنَالهُ غَيره فَجعله كالمضارب للْمُسلمين قلت وَوَجهه الْغَزالِيّ بِاحْتِمَال أَن يكون من مَالهم فَرَأى شطره من فَوَائِد الْولَايَة فاسترجعه إِلَى مُسْتَقر مثله وَهُوَ بَيت المَال فَائِدَة فِي تَنْبِيه قَالَ ابْن قيم الجوزية الْفرق بَين الْهَدِيَّة والرشوة وَإِن إشتبها فِي الصُّورَة أَن الراشي قَصده التَّوَصُّل إِلَى إبِْطَال حق أَو تَحْقِيق بَاطِل فَهَذَا الراسي الملعون على لِسَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمهْدي قَصده استجلاب الْمَوَدَّة والمعرفة فَإِن قصد الْمُكَافَأَة فمعارض أَو الرِّبْح فمستكثر تبصرة لتوفر مَا بأيدي الْوُلَاة والعمال من مُسْتَفَاد الْولَايَة عَلَامَات مِنْهَا التَّوَسُّع فِي المصانع والمباني فقد كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول لي على كل خائن أمنيان المَاء والطين وَمر يَوْمًا بِبِنَاء يبْنى بحجارة وجص فَقَالَ لمن هَذَا فَذكرُوا أَنه لعامل لَهُ على الْبَحْرين فَقَالَ أَبَت الدَّرَاهِم إِلَّا أَن تخرج أعناقها فَوَائِد مكملة الْفَائِدَة الأولى قَالَ الْبُرْزُليّ من بَاب الرِّشْوَة هَدِيَّة المنقطعين إِلَى الْعلمَاء والمتعلقين بالسلطان ليدفعوا عَنْهُم الظُّلم قَالَ لِأَن دفْعَة وَاجِب على الْقَادِر عَلَيْهِ من مُسلم أَو ذمِّي أَو غَيرهمَا قلت إِذا تعين فَوَاضِح لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شفع لِأَخِيهِ الْمُسلم شَفَاعَة فأهدى إِلَيْهِ هَدِيَّة فقبلها فقد أَتَى بَابا عَظِيما من أَبْوَاب

الْكَبَائِر رَوَاهُ أَبُو دَاوُود عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ وَحَيْثُ يكون كفائيا فَفِي إِطْلَاق ذَلِك نظر وَأَظنهُ مشارا إِلَيْهِ بعض الْعلمَاء الْفَائِدَة الثَّانِيَة فِي الطرز عَن أبن عبد الغفور مَا أهْدى إِلَى الْفَقِيه من غير حَاجَة جَائِزَة لَهُ قبُوله ولرجاء العون على خُصُومَة أَو قَضَاء حَاجَة عِنْده على خلاف الْمَعْمُول بِهِ لَا يحل لَهُ الْقبُول إِذْ هِيَ رشوة قَالَ وَكَذَا لَو تنَازع خصمان فأهديا إِلَيْهِ أَو أَحدهمَا رَجَاء العون لَهما عِنْد حَاكم يسمع مِنْهُ لَا يحل لَهُ الْأَخْذ مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا ثمَّ حكى عَن بعض الْمُتَأَخِّرين أَنه سُئِلَ عَن الْهِدَايَة على الْفَتْوَى فَقَالَ إِن كَانَ ينشط فِي الْفَتْوَى أهدي إِلَيْهِ أم لَا فَلَا بَأْس بهَا وَإِن كَانَ لَا ينشط إِلَّا بهَا فَلَا يَأْخُذهَا وَهَذَا مالم لم تكن خُصُومَة قَالَ وَإِلَّا حسن أَن لَا تقبل هَدِيَّة صَاحب فَتْوَى وَهُوَ قَول ابْن عيشون وَلَا عِبْرَة يَجْعَل ذَلِك رشوة قَالَ الْبُرْزُليّ وَمَا نَقله

عَن ابْن عيشون أعرف لَهُ أَنه لَا يجوز كالقول الثَّانِي من التَّحْرِيم وينشده فِيهِ (إِذا أَتَت الْهَدِيَّة دَار قوم ... تطايرت الْأَمَانَة من كواها) الْفَائِدَة الثَّالِثَة نَص ابْن عيشون على أَن القَاضِي إِذا امْتنع من تَنْفِيذ مَا تبين لَهُ الْحق إِلَّا بعد أَن تُعْطِي شَيْئا أَن حِكْمَة مَرْدُود غير جَائِز قَالَ الْبُرْزُليّ وتتخرج على أَحْكَام القَاضِي الْفَاسِق إِذا صَادف الْحق هَل يمْضِي أم لَا قلت فِي شرح عقيدة النَّسَفِيّ المتفتازاني وَفِي فَتَاوَى قاصي خَان أجمعا على أَنه إِذا ارتشى يَعْنِي القَاضِي لَا ينفذ قَضَاؤُهُ فِيمَا ارتشى وَأَنه إِذا أَخذ القَاضِي الْقَضَاء بالرشوة لَا يصير قَاضِيا وَلَا ينفذ قَضَاؤُهُ

الْفَائِدَة الرَّابِعَة قَالَ ابْن عيشون أجَاز إِعْطَاء الرِّشْوَة إِذا خَافَ الظُّلم على نَفسه وَكَانَ محقا قلت قيل وتختص اللَّعْنَة بِمن قبلهَا على ذَلِك وَهُوَ المرتشي قَالَه ابْن قيم الجوزية الْفَائِدَة الْخَامِسَة قيل أول من رشي فِي الْإِسْلَام الْمُغيرَة بن شُعْبَة كَانَ يُعْطي يرفا حَاجِب عمر رَضِي الله عنخ ليستأذن لَهُ عَلَيْهِ ويرفا هَذَا أول من قبلهَا فِي الْإِسْلَام قلت لَعَلَّ فعل الْمُغيرَة رَضِي الله عَنهُ من بَاب التَّوَصُّل بِهِ إِلَى حق منع مِنْهُ على مَا تقدم قيل وَأول من رد الْهَدِيَّة عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ مزِيد موعظة قيل الْهَدِيَّة تُطْفِئ نور الْحِكْمَة وَقيل الْهَدِيَّة تعمي وتصم حَتَّى قَالَ (وَأكْرم من يدق الْبَاب شخص ... ثقيل الْحمل مَشْغُول الْيَدَيْنِ) (ينوء حَتَّى قَالَ (وَأكْرم من يدق الْبَاب شخص ... ثقيل الْحمل مَشْغُول الْيَدَيْنِ) (ينوء إِذا مَشى نفسا ونفخا ... وينطح بَابه بالركبتين) (وَأكْرم شَافِع يمشي عَلَيْهَا ... أَبُو المنقوش فِي الصفحتين) قلت وَلَا أَسْوَأ فِي عمي البصيرة وصمم آذان الْقُلُوب من الرِّضَا بفقد الْأَمَانَة وكرامة من تسبب فِي ذَلِك وَالْبَيْت الْأَخير ينظر إِلَى قَوْله (ودع عَنْك كل رَسُول سوى ... رَسُول يُقَال لَهُ الدِّرْهَم)

الركن الرابع عشر

الرُّكْن الرَّابِع عشر إتخاذ البطانة وَأهل الْبسَاط وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى من طبيعة الْملك اتِّخَاذ البطانة المنقسمة إِلَى آمرة بِخَير ومعينة عَلَيْهِ وَإِلَى مشيرة بشر وداعية إِلَيْهِ ومصداقه من الْوَحْي مَا فِي الصَّحِيح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا بعث الله من نَبِي وَلَا اسْتخْلف من خَليفَة إِلَّا كَانَت لَهُ بطانة تَأمره بِالْمَعْرُوفِ وتحضه عَلَيْهِ وبطانة تَأمره بِالشَّرِّ وتحضه عَلَيْهِ والمعصوم من عصم الله وَفِيه عَن أبي أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول مَا بعث الله من نَبِي وَلَا اسْتخْلف بعده من خَليفَة إِلَّا لَهُ بطانتان بطانة تَأمره بِالْمَعْرُوفِ وتنهاه عَن الْمُنكر وبطانة لَا تألوه خبالا فَمن وقِي شَرها فقد وقِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فَمَا لابد لَهُ من أَوْصَاف بطانة الْخَيْر الملازمين للبساط أَمْرَانِ أَحدهمَا الْعقل الْكَامِل التجربة قَالَ الطرطوشي يَنْبَغِي للْملك أَن يُجَالس أهل الْعقل وَذَوي الرَّأْي والحسب والتجربة وَالْعير فمجاله الْعُقَلَاء لقاح الْعقل ومادته قَالَ وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مجالسة الْعُقَلَاء تزيد فِي الشّرف

الثَّانِي الدّين وَهُوَ مُوجب أَمرهم بِالْخَيرِ ومعونتهم عَلَيْهِ كالفسق الْحَامِل على الْإِشَارَة بِالشَّرِّ وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ} وَقَالَ فَأَعْرض عَمَّن تولى عَن ذكرنَا وَلم يرد إِلَى الْحَيَاة الدُّنْيَا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من فَوَائِد بطانة الْخَيْر وَجْهَان أَحدهمَا دلَالَة صحبتهم على من صحبهم فَفِي الْأَمْثَال يظنّ بِالْمَرْءِ مَا يظنّ بخليله وَقَالَ الطرطوشي وَأعلم أَنه لَيْسَ الدُّخان على النَّار بأدل من الصاحب للصاحب انْتهى وَفِيه قيل (إِذا كنت فِي قوم فَصَاحب خيارهم ... وَلَا تصْحَب الأردى فتردى مَعَ الردى) (عَن المرأ لَا تسْأَل وسل عَن قرينه ... فَكل قرين بالمقارن يَقْتَدِي) الثَّانِي صَلَاح سَائِر البطانات بهم إِلَى أَن يعم الصّلاح جَمِيع الرّعية قَالَ أزدشير لكل ملك بطانة وَلكُل وَاحِد وَاحِد بطانته من البطانة بطانة حَتَّى يجمع ذَلِك جَمِيع المملكة فَإِذا أَقَامَ الْملك بطانة على حَال الصَّوَاب أَقَامَ كل مِنْهُم بطانته على مثل ذَلِك حَتَّى يجْتَمع على الصّلاح عَامَّة الرّعية الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من مفاسد الشَّرّ أَيْضا وَجْهَان

أَحدهمَا مسارقة طباعهم على تدريج خَفِي وانتقال غير مشعور بِهِ فقد كَانَ يُقَال إحذروا ذَوي الطبائع المرذولة كي لَا تسرق طباعكم مِنْهَا وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ وَعَن سعيد بن الْمسيب لَا تصْحَب الْفَاجِر فَتَتَعَلَّمُ من فجوره وَلَا تطلعه على سرك وَاسْتَشِرْ فِي أَمرك الَّذين يَخْشونَ الله قلت وَإِلَيْهِ يرجع قَوْله (لَا تصْحَب الكسلان فِي حاجاته ... كم صَالح بِفساد آخر يفْسد) (عدوى البليد إِلَى الْجَلِيل سريعة ... والجمر يوضع فِي الرماد فيخمد) وَقَوله (إِن الجهول تضرني أخلاقه ... ضَرَر السعال لمن بِهِ استسقاء) الثَّانِي استحكام فَسَاد طبعه بتحوله جملَة إِلَى طباعهم الْغَالِبَة عَلَيْهِ قَالَ أزدشير مَا شَيْء أضرّ على نفس الْملك من معاشرة سخيف ومخاطبة وضيع كَمَا أَن النَّفس تصلح على مُخَاطبَة الشريف الأديب كَذَلِك تفْسد بمعاشرة السخيف الخسيس حَتَّى يقدم ذَلِك فِيهَا ويزيلها عَن فضيلتها

قلت ومصداقة مَا تقدم فِي حَدِيث النَّسَائِيّ وَهُوَ إِلَى مَا يغلبه عَلَيْهِ من أَي البطانتين الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة اتِّخَاذ بطانة الْخَيْر لما يُرَاد بهم وَاجِب فِي حفظ الْملك أصلا وفرعا قَالَ ابْن حزم ويتخذ من وُجُوه الْكتاب وَالْعُلَمَاء والقضاة والأمراء قوما ذَوي آراء سديدة وكتمان للسر فيجعلهم وزراءه الَّذين يحْضرُون مَجْلِسه يلازمونه فِي التَّدْبِير لجَمِيع مَا قَلّدهُ الله تَعَالَى من أُمُور عباده قلت ولظهور حِكْمَة وُجُوبه عظم موقعه من كملاء الْمُلُوك الجلة حَتَّى عدوا بعض فَوَائده وَهِي محادثة الرِّجَال آثر اللَّذَّات لديهم وَهِي الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فَقَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان قد قضيت الوطر من كل شَيْء إِلَّا من محادثة الإخوان فِي اللَّيَالِي الزهر على التلال العفر وَقَالَ أَيْضا هِشَام قد قضيت الوطر من كل شَيْء فَأكلت الحلو والحامض حَتَّى لَا أجد لوَاحِد مِنْهُمَا طعما وشممت الطّيب حَتَّى لَا أجد لَهُ رَائِحَة وأتيت النِّسَاء حَتَّى مَا أُبَالِي امْرَأَة أتيت أم جِدَار حَائِط فَمَا وجدت شَيْئا ألذ من جليس تسْقط بيني وَبَينه مؤونة التحفظ وَقَالَ الْمَأْمُون لِلْحسنِ بن سهل نظرت فِي اللَّذَّات فَوَجَدتهَا كلهَا ملولة خلا سبعا قَالَ وَمَا هِيَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ لحم الضَّأْن وخبز الْحِنْطَة وَالْمَاء الْبَارِد وَالثَّوْب الناعم والرائحة الطّيبَة والفراش الوطيء وَالنَّظَر إِلَى الْحسن من كل شَيْء قَالَ فَأَيْنَ أَنْت يَا أَمِير من محادثة الرِّجَال فَقَالَ صدقت وَهِي أولى مِنْهُنَّ

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة فِي العهود اليونانية وَفِيه بَيَان لما يكفل بِهِ أَوْصَاف المستخلصين للبساط السلطاني عُلَمَائهمْ وسواهم واستخلاص طَائِفَة من أَبنَاء النعم والستر لحضور مجالسك وَليكن مِنْهُم للمجالس الْعَامَّة من عظم قدره وَبعد صيته وَظهر يسَاره وَكَانَ منتصبا للفتيا وموضعا للمشورة وللمجالس الْخَاصَّة من رق طبعه وقويت مَعْرفَته لما تحتمله تِلْكَ الْمجَالِس من سير الْمُلُوك ومآثر الكرماء وذخائر الْحُكَمَاء ومحاسن البلغاء من الْأَشْعَار النادرة وَالْأَخْبَار المؤنسة والأمثال السائرة وَكَانَ مَعَه من كل مَا يسْتَتر الْمُلُوك بِهِ من الْعَوام نصيب وافر وحظ مؤنس وأغنهم عَن غَيْرك تصف لَك ألبابهم وتعزز لديك فوا ئدهم انْتهى الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة فِي سياسة أر سطو أَن مَا يجب على الْملك أَن يلْزم من بِحَضْرَتِهِ الْوَقار وَإِظْهَار الحشمة وَمَتى ظهر من أحد استخفاف عُوقِبَ عَلَيْهِ وَإِن كَانَ مِمَّا يلطف مَحَله كَانَت عُقُوبَته إقصاء عَن الْمجْلس زَمَانا حَتَّى يَنْتَهِي عَن استخفافه وَإِن صَحَّ عَن أحد أَنه فعل ذَلِك قصدا أَنه فعل ذَلِك قصدا للاستخفاف والمحطة أبعد إبعادا طَويلا بعد الْعقُوبَة فَوَائِد مكملة أَحدهمَا تتأكد على السُّلْطَان إِذا كَانَ حَدثا أَن يتباعد عَن ذَوي الرِّيبَة من بطانته وَإِن كَانَ أحظاهم منزلَة لَدَيْهِ كَمَا يحْكى أَن زيادا فِي مُدَّة ولَايَته

العراقين كَانَ كثير الرِّعَايَة لحارثة بن بدر وللأحنف بن قيس وَكَانَ حَارِثَة مكبا على الشَّرَاب فَوَقع أهل الْبَصْرَة فِيهِ عِنْد زِيَاد ولاموه فِي تقريبه ومباشرته فَقَالَ لَهُم زِيَاد يَا قوم كَيفَ لي بإطراح رجل هُوَ يسايرني مُنْذُ دخلت الْعرَاق وَلم يصكك ركابي ركابه قطّ وَلَا تقدمني فَنَظَرت إِلَى قَفاهُ وَلَا تَأَخّر عني فلويت إِلَيْهِ عنقِي وَلَا أَخذ على الرّوح فِي صيف وَلَا الشَّمْس فِي شتاء قطّ وَلَا سَأَلته عَن شَيْء من الْعلم إِلَّا وظننته لَا يحسن سواهُ وَأما الْأَحْنَف فَلم يكن فِيهِ مَا يُقَال فَلَمَّا مَاتَ زِيَاد وَتَوَلَّى وَلَده عبيد الله قَالَ لحارثة إِمَّا أَن تتْرك الشَّرَاب وَإِمَّا أَن تبتعد عني فَقَالَ لَهُ قد علمت حَالي عِنْد والدك فَقَالَ عبيد الله إِن وَالِدي قد نزع نزوعا لَا يلْحقهُ مَعَه عيب وَأَنا حدث وَإِنَّمَا أنسب إِلَيّ من يغلب عَليّ وَأَنت رجل نديم الشَّرَاب فَمَتَى قربتك وَظَهَرت مِنْك رَائِحَة الشَّرَاب لم آمن أَن يظنّ بِي فدع النَّبِيذ وَكن أول دَاخل عَليّ وَآخر خَارج عني فَقَالَ لَهُ أَنا لَا أَدَعهُ لمن يملك ضري ونفعي أفأدعه للْحَال عنْدك قَالَ فاختر من عَمَلي مَا شِئْت قَالَ فولني سرق فقد وصف لي شرابها وتضم إِلَيّ رام هُرْمُز فولاه إيَّاهُمَا الْفَائِدَة الثَّانِيَة من استولت عَلَيْهِ رذيلة الْخلق صَعب علاجه ليحصل

الركن الخامس عشر

صحبته فقد قيل لَا يطْمع فِي استصلاح الرذل والحصول على معافاته فَإِن طباعه أصدق لَهُ مِنْك وَلنْ يتْرك طباعه لَك وَقد كَانَ يُقَال أصعب مَا يعانيه الْإِنْسَان ممارسته صَاحب لَا تتحصل مِنْهُ حَقِيقَته الْفَائِدَة الثَّالِثَة من كَلَام الْحُكَمَاء إِذا رَأَيْت من جليسك أمرا تكرههُ وخلالا تحبها وصدرت مِنْك كلمة عوراء وهفوة غبراء فَلَا تقطع حبله وَلَا تصرم مودته وَلَكِن داو كَلمته واستر عَوْرَته فَإِن رَجَعَ وَإِلَّا فاتقه قَالَ تَعَالَى فَإِن عصوك فَقل إِنِّي بَرِيء مِمَّا تعلمُونَ فَلم يَأْمر بقطعهم وَإِنَّمَا أمره بِالْبَرَاءَةِ من عَمَلهم السوء الرُّكْن الْخَامِس عشر تنظيم الْمجْلس وعوائده وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى لابد للسُّلْطَان من الِاجْتِمَاع بخواص مقربيه أَولا وبمن يصل إِلَيْهِ من سواهُم بِحَسب الْحَاجة ثَانِيًا وَالْمحل الْمعد لذَلِك هُوَ الْمجْلس فِي الْجُمْلَة وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله فِي شارات الْملك الطبيعية إِلْحَاق لَهُ أَن من اتِّخَاذ السرير فِي هَذَا الْمجْلس لما تَدْعُو إِلَيْهِ مُنَازع الْملك من الترفع عَن الْمُسَاوَاة فِي الْجُلُوس فِيهِ بَين السُّلْطَان وَمن عداهُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزم لضَرُورَة عقد الْمجْلس أَولا كَمَا يشْهد بِاعْتِبَارِهِ فعل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جُلُوسه مَعَ أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وَعند ذَلِك فآدابه الشَّرْعِيَّة والسياسية لابد من الْمُحَافظَة عَلَيْهَا الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مَا يُطَالب بِهِ السُّلْطَان فِي مَجْلِسه ضَرْبَان أَحدهمَا مَا يحسن بِهِ فعله كالتجميل والصمت وَالْوَقار والانقباض

بِمحضر الْعَامَّة وَالْجُلُوس تربعا والضحك تبسما ونظم الحَدِيث والاصغاء إِلَى الْكَلَام الْحسن من غبر إِظْهَار تعجب مفرط الثَّانِي مَا يجمل بِهِ تَركه كتشبيك الْأَصَابِع وإدخالها فِي الْأنف وَوضع الْيَد على اللِّحْيَة والضحك والالتفات وَمد الرجل وَالْقِيَام وَالْقعُود والتحول عَن الْحَالة الَّتِي جلس عَلَيْهَا واللعب بالخاتم وتخيل الْأَسْنَان وَالْإِشَارَة بِالْيَدِ وَكَثْرَة البصاق والتمطي والتثاؤب والانبساط الدَّال على الْفَرح والانقباض الدَّال على الْحزن لِئَلَّا يسْتَدلّ بذلك على مَا فِي نَفسه فَائِدَة فِي تَنْبِيه صور الْقَرَافِيّ انقسام التجمل السلطاني وَغَيره إِلَى وَاجِب إِذا توقف عَلَيْهِ تنفيذه لِأَن الْهَيْئَة الدنية والرثة لَا يحصل مَعهَا مصَالح الْعَامَّة من الْوُلَاة وَإِلَى مَنْدُوب فِي الصَّلَوَات وَالْجَمَاعَات والحروب لرهبة الْعَدو وَالْمَرْأَة لزَوجهَا وَفِي الْعلمَاء لتعظيم الْعلم فِي النُّفُوس فقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أحب إِلَيّ أَن أرى الْقَارئ أَبيض الثِّيَاب وَإِلَى حرَام كالتزين للنِّسَاء الأجنبيات وَإِلَى مُبَاح إِذا عرى عَن هَذِه الْأَسْبَاب الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من الْوَاقِع فِي الْمجْلس السلطاني عوائد مَعْرُوفَة الْعَادة الأولى السَّلَام عَلَيْهِ عِنْد الْوُصُول إِلَيْهِ والسني مِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُوم من تَحِيَّة الْإِسْلَام وَمَا وَرَاء ذَلِك فَلَا يخفى مَا فِيهِ وَلذَلِك يحْكى أَنه لما حضر أَبُو مَنْصُور ابْن الجواليقي للصَّلَاة بِالْإِمَامِ المقتفى بِاللَّه

وَدخل عَلَيْهِ لأوّل دُخُوله مَا زَاد على أَن قَالَ السَّلَام على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله تَعَالَى فَقَالَ لَهُ ابْن التلميذ النَّصْرَانِي وَكَانَ قَائِما بَين يَدَيْهِ وَله إدلال الْخدمَة مَا هَكَذَا يسلم على أَمِير الْمُؤمنِينَ يَا شيخ فَلم يلْتَفت ابْن الجو اليقي إِلَيْهِ وَقَالَ للمقتفى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سلامي هُوَ مِمَّا جَاءَت بِهِ السّنة النَّبَوِيَّة وروى لَهُ خَبرا فِي صُورَة السَّلَام ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو حلف حَالف أَن نَصْرَانِيّا أَو يَهُودِيّا لم يصل إِلَى قلبه نوع من أَنْوَاع الْعلم على الْوَجْه لما لَزِمته كَفَّارَة الْحِنْث لِأَن الله تَعَالَى ختم على قُلُوبهم وَلنْ يفك خَاتم الله إِلَّا الْإِيمَان فَقَالَ لَهُ صدقت وأحسنت فِيمَا فعلت وكأنما ألقم ابْن التلميذ حجرا الْعَادة الثَّانِيَة جُلُوس الدَّاخِل حَيْثُ تَقْتَضِيه مرتبته لَكِن رُبمَا لَا تسلم لمدعيها إِلَّا بعد الْوَفَاء لما يستوجبها بِهِ كَمَا يحْكى عَن أبي نصر الفارابي لما ورد على سيف الدولة وَكَانَ مَجْلِسه يجمع الْفُضَلَاء فِي جَمِيع المعارف فَأدْخل عَلَيْهِ وَهُوَ فِي زِيّ الأتراك وَكَانَ ذَلِك زيه دَائِما فَوقف فَقَالَ لَهُ سيف الدولة أقعد فَقَالَ حَيْثُ أَنَام أم حَيْثُ أَنْت قَالَ حَيْثُ أَنْت فتخطى رِقَاب النَّاس حَتَّى انْتهى إِلَى مُسْند سيف الدولة وزاحمه حَتَّى

أخرجه عَنهُ وَكَانَ على رَأس سيف الدولة مماليك وَله مَعَهم لِسَان خَاص يسارهم بِهِ قل أَن يعرفهُ أحد فَقَالَ لَهُم بذلك اللِّسَان هَذَا الشَّيْخ قد أَسَاءَ الْأَدَب وَإِنِّي سائله عَن أَشْيَاء إِن لم يُوفي بهَا فأخرجوا بِهِ فَأَجَابَهُ أَبُو نصر بذلك اللِّسَان أَيهَا الْأَمِير اصبر فَإِن الْأُمُور بخواتيمها فَعجب سيف الدولة مِنْهُ وَقَالَ لَهُ أتحسن الْكَلَام بِهَذَا اللِّسَان فَقَالَ نعم أحسن بِأَكْثَرَ من سبعين لِسَانا فَعظم عِنْده الْعَادة الثَّالِثَة تَقْبِيل يَده على رَأْي بعض الْعلمَاء ونصوص الْمَذْهَب الْمَالِكِي على خِلَافه فَفِي الرسَالَة وَكره مَالك تَقْبِيل الْيَد وَأنكر مَا روى فِيهِ قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب لِأَنَّهُ من فعل الْأَعَاجِم وأخلاقهم فَلم ينْقل عَن أحد من السّلف فَوَجَبَ كراهيته وَقَالَ فِي تلقينه والمعانقة مَكْرُوهَة وتقبيل الْيَد مشدد فِي مَنعه لِأَن فِيهِ معنى التجبر مُوَافقَة دخل رجل على هِشَام بن عبد الْملك فَقبل يَده فَقَالَ إِن الْعَرَب مَا قبلت الْيَد إِلَّا هلوعا وَلَا فعلته الْعَجم إِلَّا خضوعا وَاسْتَأْذَنَ رجل الْمَأْمُون فِي تَقْبِيل يَده فَقَالَ أَن قبْلَة الْيَد من الْمُسلمين ذلة وَمن الذِّمِّيّ خديعة وَلَا حَاجَة بك أَن تذل وَلَا بِنَا أَن نخدع

تَفْرِقَة من الْعلمَاء من أجَاز ذَلِك فِي حق ذَوي الْعلم وَالدّين قَالَ النَّوَوِيّ من أَرَادَ تَقْبِيل يَد غَيره فَإِن كَانَ لزهده أَو لعلمه أَو أَمر ديني لم يكره بل يسْتَحبّ وَإِن كَانَ لغناه أَو وجاهته فِي الدُّنْيَا فمكروه شَدِيد الْكَرَاهِيَة وَقَالَ الْمُتَوَلِي من أَصْحَابنَا لَا يجوز فَأَشَارَ إِلَى أَنه حرَام قلت وبهذه التَّفْرِقَة قَالَ الْأَبْهَرِيّ فِي شَرحه لمختصر ابْن عبد الحكم قَالَ الْبُرْزُليّ وفعلته مَعَ أشياخي وقصدي بِهِ التَّبَرُّك والتعظيم وَلما تقرر عِنْدِي من الْأَحَادِيث وَعدم إِنْكَار ذَلِك عَن مُعظم من يَقْتَدِي بِهِ قلت وَفِيه بحث لَا يسع الْآن بَسطه الْعَادة الرَّابِعَة عدم الدنو مِنْهُ فِي الْجُمْلَة

قَالَ الجاحظ وَمن حق الْملك أَن لَا يدنو مِنْهُ أحد صَغِير وَلَا كَبِير إِلَّا وَهُوَ مَعْرُوف الْأَبَوَيْنِ غير خامل وَلَا مَجْهُول فَإِن احْتَاجَ إِلَى مشافهة خامل أَو وضيع لنصيحة يسرها إِلَيْهِ أَو لأمر يسْأَله عَنهُ فَمن حق الْملك أَن لَا يخلي والدنو مِنْهُ حَتَّى يفتش أَولا ثمَّ يَأْخُذ بضعَة إِنْسَان فَإِذا أبدى مَا عِنْده وَقبل مَا جَاءَ بِهِ فَمن حَقه على الْملك الْإِحْسَان إِلَيْهِ وَالنَّظَر فِي حَاجته إِن كَانَت لَهُ ليرغب ذُو النصائح فِي رَفعهَا إِلَى مُلُوكهمْ والتقرب بهَا إِلَيْهِم قلت قيام الْمُقْتَضِي لهَذِهِ الْعَادة مستدع لاعتبارها شرعا الْعَادة الْخَامِسَة مدحه بِمَا يذكرهُ بعظيم النِّعْمَة عَلَيْهِ ويستوجب بِهِ المادح منزلَة الزلفى لَدَيْهِ وَمن مستحسن مَا ورد من ذَلِك مَا يرْوى أَن أَعْرَابِيًا دخل على بعض الْمُلُوك فَقَالَ رَأَيْتنِي فِيمَا أتعاطى من مدحك كالمخبر عَن ضوء النَّهَار وَالْقَمَر الزَّاهِر الَّذِي لَا يخفى على النَّاظر وأيقنت أَنِّي إِلَى حَيْثُ انْتهى بِي القَوْل مَنْسُوب إِلَى الْعَجز مقصر عَن الْغَايَة فِيمَا تصرفت من الثَّنَاء عَلَيْك إِلَى الدُّعَاء لَك ووكلت الْأَخْبَار عَنْك إِلَى علم النَّاس بهَا تَنْبِيهَانِ من الْمُلُوك من كره المواجهة لَهُ بمدحه عِنْد الدُّخُول عَلَيْهِ فيحكى أَن أَعْرَابِيًا دخل على عبد الْملك بن مَرْوَان فَقَالَ لَهُ تكلم بحاجتك فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بهر الدرجَة وهيبة الْخلَافَة يمنعان من ذَلِك قَالَ فعلى رسلك فَأَنا لَا نحب مدح المشافهة وَلَا تَزْكِيَة اللِّقَاء قَالَ

يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لست أمدحك وَلَكِنِّي أَحْمد الله على النِّعْمَة بك قَالَ حَسبك قد بلغت وَقضى حَوَائِجه قلت وَإِن كَانَ مُوجب هَذِه الْكَرَاهَة خوف الْغرُور بالمدح فَهُوَ من الْوَاجِب استحضاره وَكَذَا إِن علم من نَفسه تَقْصِيره عَمَّا مدح بِهِ فَفِي الأفلاطونيات يَنْبَغِي للْملك أَن لَا يقبل من الْمَدْح إِلَّا مَا كَانَ مستشعرا لَهُ وَلَا يُطلق بِهِ إِلَّا أَلْسِنَة الثِّقَات عِنْده ويستحي عَن تَقْصِيره عَمَّا يلقى بِهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ من الْقَبِيح أَن تسبق أَقْوَال عامته من حسن القَوْل إِلَى مَا لم يبلغهُ فعله من الْجَمِيل التَّنْبِيه الثَّانِي على السُّلْطَان عِنْد سَماع مدحه أَو بُلُوغه إِلَيْهِ أَن يلْتَفت إِلَى عَكسه بِتَقْدِير زَوَال مَا بِيَدِهِ وَعند ذَلِك فليعمل على مَا يخلد لَهُ الثَّنَاء الْحسن دون مصانعة قَالَ فِي العهود اليونانية وَأعلم أَن الْأَلْسِنَة محبوسة عَن ذكر معائبك مَا كنت فِي ظلّ أَمرك ونهيك فَإِذا زَالا رَجَعَ كل مَحْبُوس إِلَى حَقِيقَته فاجتنب الركون إِلَى مَا تَزْيِين مَا قبح مِنْهُ واستدرك فِي حِين سلطانك مَا يُنكر عَلَيْك فَإِن الرَّاجِع إِلَى الْحق أحد المصيبين الْعَادة السَّادِسَة التهنئة بالمحبوب وَمن بارع مَا روى مِنْهَا لَكِن مَعَ اقتران مَحْبُوب السُّلْطَان بمكروه غَيره أَن عبد الله بن الْأَهْتَم دخل على أُميَّة بن خَالِد بن أسيد لما

هزم وَلم يدْرِي النَّاس مَا يَقُولُونَ لَهُ فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي نظر لنا أَيهَا الْأَمِير عَلَيْك وَلم ينظر لَك علينا فقد تعرضت للشَّهَادَة بجهدك إِلَّا أَن الله تَعَالَى علم حَاجَة أهل الْإِسْلَام إِلَيْك فأبقاك لَهُم وَلم يخذلان من كَانَ مَعَك فصدر النَّاس عَن كَلَامه الْعَادة السَّابِعَة التَّعْزِيَة على الْمَكْرُوه وَمن بليغ مَا روى مِنْهَا أَن رجلا دخل على مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ وَقد سَقَطت أَسْنَانه فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الْأَعْضَاء يَرث بَعْضهَا بَعْضًا وَالْحَمْد لله الَّذِي جعلك وارثها وَلم يَجْعَلهَا وارثك قيل وَهَذَا من معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متعنَا اللَّهُمَّ بأسماعنا وأبصارنا وَقُوَّتِنَا مَا أبقيتنا وأجعله الْوَارِث منا الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة إِذا كَانَ الْمجْلس السلطاني معقودا للْحكم بَين النَّاس فعلى السُّلْطَان أَن يستشعر فِيهِ مَا قرر فِي العهود اليونانية فَفِيهَا فَاعْلَم أَنَّك فِي مجلسك وملابستك لأمور أهل مملكتك فِي طَائِفَة من الله عز وَجل وَتَعَالَى فاحذر أَن يعدل بك غضبك عَن عدل أَو يهجم بك رضاك عَن إِضَاعَة حق ولتكن قدرتك وَقفا على النصفة فَلَا تتَنَاوَل بهَا مَحْظُورًا عَلَيْك وَلَا تكرهن مُبَاحا لَك واجنح بتدبيرك إِلَى حسن الروية فخف أَن تقعد بك أَنَاة عَن حزم أَو عجلة عَن تبين وَلَا يمنعك الْإِنْصَاف فِي الْمُعَامَلَة عَن الْأَخْذ بِالْفَضْلِ وَلَا الْعدْل فِي الْعقُوبَة عَن الْعود بِالْعَفو وأطع الْحجَّة مَا تَوَجَّهت عَلَيْك وَلَا تعجل بهَا إِن كَانَت لَك فَإِن انقيادك لَهَا أحسن من ظفرك بهَا وَلَا يغلبنك مَا حلى بالنفوس على مَا عطف عَلَيْهِ الْكَرم وَلَا مَا أوجب الحقد على مَا بني عَلَيْهِ الْإِبْقَاء وَلَا تردن نصيحة على أَهلهَا فتمنعها عِنْد شدَّة الْحَاجة إِلَيْهَا وَلَا تُطِع فِيهَا غير أَهلهَا فتشغل عَن إِمْضَاء الْأُمُور بِمَا لَا عايد فِيهِ عَلَيْك فِي معادك واحرص أَن لَا ينقضى عَلَيْك شَيْء من هَذِه الْمجَالِس إِلَّا وَقد سبقت عودتك عَلَيْك انْتهى

الركن السادس عشر

لَا خَفَاء بموقع هَذِه الْوَصَايَا شرعا وسياسة المسالة الْخَامِسَة من الندوب إِلَيْهِ عِنْد الْقيام من الْمجْلس الإقتداء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبالذكر الَّذِي كَانَ يَقُوله عِنْد قِيَامه من مَجْلِسه فَفِي التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جلس فِي مجْلِس فَكثر فِيهِ لغطه فَقَالَ قبل أَن يقوم من مَجْلِسه ذَلِك سُبْحَانَهُ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا اله إِلَّا أَنْت أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك إِلَّا غفر الله لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسه ذَلِك وَفِي الْحِلْية عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ من أحب أَن يكتال بالمكيال أَلا وفى فَلْيقل آخر مَجْلِسه أَو حسن يقوم سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ الرُّكْن السَّادِس عشر تَقْرِير الظُّهُور والاحتجاب وَفِيه نظران النّظر الأول فِي الظُّهُور وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى الظُّهُور الْوَاجِب على السُّلْطَان للنَّظَر فِي سياسة ملكه ورعيته نَوْعَانِ النَّوْع الأول للعامة وَقد جعله ابْن حزم يَوْمًا فِي الْجُمُعَة قَالَ وَلَا يمْنَع مِنْهُ مشتك كَائِنا من كَانَ

قلت حَاصله اسْتِحْسَان التقليل من مباشرتهم وَهُوَ ظَاهر لأمرين حرج التكثير مِنْهَا وعودا بِضَرَر الْإِنْسَان بِالْمُشَاهَدَةِ فقد قَالَ حكماء الْهِنْد ظُهُور الْملك للعامة يجرئهم عَلَيْهِ ويهون أمره لديهم وَفِي الافلاطونيات يحْتَاج الْملك إِلَى أَن يكون من عامته فِي ستر فَإِنَّهُ إِذا أُنْسُهَا هان عَلَيْهَا قَالَ وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَن طباعها إِن تهين بَعْضهَا بَعْضًا وَلَا توقره فَكل من انبسطت إِلَيْهِ جرى مجْرى بَعْضهَا بعض النَّوْع الثَّانِي للخاصة الْمُسْتَعَان بهم فِي التَّدْبِير وَقد جعله ابْن حزم أَيْضا سَائِر الْأَيَّام قَالَ وَلَا يسرف على نَفسه لَكِن طرفِي النَّهَار من صَلَاة الصُّبْح إِلَى نَحْو ثَلَاث سَاعَات من النَّهَار وَمن صَلَاة الْعَصْر إِلَى إصفرار الشَّمْس وَيجْعَل وسط نَهَاره لراحة جِسْمه وَالنَّظَر فِي مَاله وَأَهله انْتهى قلت وأوسع مِنْهُ قَول الجاحظ على الْملك أَن يقسم يَوْمه أقساما أَوله لذكر الله تَعَالَى وتعظيمه وصدره لرعاياه وَإِصْلَاح أمرهَا ووسطه لأكله ومنامه وطرفه لشغله الْخَاص بِهِ ولراحته قلت وَمن أَخذ فِي الحزم بَالغ فِي ذَلِك جهده الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة الْيَوْم الَّذِي يظْهر فِيهِ السُّلْطَان للعامة وَمن النَّاس اسْتحْسنَ فِيهِ عدم تعينه محتجبا بِأُمُور أَحدهَا أَنه قد يعوقه عَن ذَلِك الْيَوْم عَارض شغل أَو كسل أَو لَذَّة مغتنمة فَيخرج على كره الثَّانِي أَنه إِذا تخلف فِيهِ لموجب فَيُقَال مرض أَو أحدث عَلَيْهِ حَادث ذَلِك يكْسب الْعَدو جرْأَة وسرورا والوالي حزنا وخوفا الثَّالِث أَنه يواعد الْعَدو الماكر اللِّقَاء فِيهِ فَرُبمَا احتال فِيهِ على مَا ينَال فِيهِ غنيمَة الفرصة

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من صون ظُهُور السُّلْطَان للعامة أَن يكون رَاكِبًا والسياسة فِيهَا فِيمَا ذكرُوا أَن لَا يتَقَدَّم النَّاس فيلقي من يرد عَلَيْهِ دون حَاجِب وَلَا يتَأَخَّر عَنْهُم فيؤذوه بغبارهم وَليكن على حد من التَّوَسُّط يكون فِيهِ من خَلفه أَكثر أَمَامه وَليكن بإزائه من رِجَاله أفهمهم ويليهم أَشَّدهم فِي أنفسهم الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ بَعضهم الْهَيْئَة الَّتِي يظْهر عَلَيْهَا للنَّاس وقار فِي غير قطوب وَبسط وَجه فِي غير ضحك قلت تقدم مَا يُشِير إِلَى طلبه بِفعل الْوَقار امتثالا بترك الضحك اجتنابا فالوقار قَالُوا وَهُوَ من الله تَعَالَى وَمن رزقه إِيَّاه فقد وسمه بسيماء الْخَيْر وَكَثْرَة الضحك قَالَ أرسطو تذْهب الهيبة وتعجل الْهَرم قلت وَفِي وَصَايَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي ذَر رَضِي الله عَنهُ إياك وَكَثْرَة الضحك فَإِنَّهُ يُمِيت الْقلب وَيذْهب بِنور الْوَجْه رَوَاهُ غير وَاحِد فِي حَدِيث طَوِيل الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة تقدم عَن ابْن حزم أَن السُّلْطَان يعود إِلَى الظُّهُور

لخواصه مَا بَين صَلَاة الْعَصْر واصفرار الشَّمْس وَقد عين بعد ذَلِك مَالا يعمر بِهِ ذَلِك الْوَقْت يَجْعَل الإِمَام عشي نَهَاره إِلَى الإصفرار للجلساء ويختارهم من أهل الْعلم وَالْفضل وَالْعقل وَحسن التَّدْبِير يَخُوض مَعَهم فِي الْفِقْه وَفِي سَائِر الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَفِي مذاكرة السياسة وَالْأَخْبَار وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجلس مَعَ أَصْحَابه ويذاكرهم ويشاورهم وَيُعلمهُم وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاء بعده قلت وَكَذَا بعد انقلاب الْخلَافَة ملكا فِي كثير من الدول لَكِن مِنْهُم من يخص هَذَا النَّوْع الْمشَار إِلَيْهِ بِبَعْض فُصُول السّنة كَمَا عَلَيْهِ سيرة مُلُوك بني زيان بتلمسان حَتَّى الْآن الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من السِّيرَة السياسية الْبَعِيدَة المدى فِي تَرْتِيب الظُّهُور لمباشرة النّظر فِي رِعَايَة الْملك والرعايا مَا ذكرُوا أَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ كَانَ يظْهر فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة خمس مَرَّات فَكَانَ إِذا صلى الصُّبْح جلس للقاص حَتَّى يفرغ من قصصه ثمَّ يدْخل فَيُؤتى بمصحفه فَيقْرَأ جزءه ثمَّ يدْخل إِلَى منزله فيأمر وَينْهى ثمَّ يُصَلِّي أَربع رَكْعَات ثمَّ يخرج إِلَى مَجْلِسه فَيَأْذَن لخاصته ويحدثهم ويحدثونه وَيدخل عَلَيْهِ وزرائه فيكلمونه فِيمَا يريدونه من يومهم ثمَّ يُؤْتى بالغداء الْأَصْفَر وَهُوَ فضل عشَاء اللَّيْل من منزله جدي بَارِد أَو فروج أَو مَا يُشبههُ ثمَّ يتحدث طَويلا ثمَّ يدْخل إِلَى منزله لما أَرَادَ ثمَّ يخرج فَيَقُول يَا غُلَام أخرج الْكُرْسِيّ وَيخرج إِلَى الْمَسْجِد ويسند ظَهره إِلَى الْمَقْصُورَة وَيقوم الأحراس فَيقدم إِلَيْهِ الضَّعِيف والأعرابي وَالصَّبِيّ وَالْمَرْأَة فَيَقُول ظلمت فَيَقُول أعدوه وَيَقُول عدى عليي فَيَقُول ابْعَثُوا مَعَه وَيَقُول صنع بِي

فَيَقُول أنظروا لَهُ حَتَّى إِذا لم يبْقى أحد دخل فَجَلَسَ على السرير ثمَّ يَقُول ائذنوا للنَّاس على قدر مَنَازِلهمْ وَلَا يشغلني أحد عَن رد السَّلَام فَيُقَال كَيفَ أصبح أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله بَقَاءَهُ فَيَقُول بِنِعْمَة من الله فَإِذا اسْتَووا جَلَسُوا قَالَ يَا هَؤُلَاءِ إِنَّمَا سميتم أشرافا لأنكم شرفتم من دونكم بِهَذَا الْمجْلس ارْفَعُوا إِلَيْنَا حَاجَة من لَا يصل إِلَيْنَا فَيقوم الرجل فَيَقُول اسْتشْهد فلَان فَيَقُول أفرضوا لوَلَده وَيُقَال غَابَ فلَان عَن أَهله فَيَقُول اسْتشْهد فلَان فَيَقُول واقضوا حجائجهم وَيُؤْتى بالغداء ويحضر الْكَاتِب فَيقوم عِنْد رَأسه ويتقدم الرجل فَيَقُول لَهُ إجلس على الْمَائِدَة فيجلس ويمد يَده وَيَأْكُل لقمتين أَو ثَلَاثًا وَالْكَاتِب يقْرَأ كِتَابه فيأمر فِيهِ بأَمْره فَيَقُول يَا عبد الله أعقب فَيقوم ويتقدم آخر حَتَّى يَأْتِي على أَصْحَاب الْحَوَائِج كلهم وَرُبمَا قدم عَلَيْهِ من أَصْحَاب الْحَوَائِج أَرْبَعُونَ أَو نحوهم على قدر الْغَدَاء ثمَّ يرفع الْغَدَاء وَيُقَال للنَّاس أجيزوا وينصرف النَّاس وَيدخل منزله فَلَا يطْمع فِيهِ طامع حَتَّى يُنَادي بِالظّهْرِ فَيخرج فَيصَلي ثمَّ يدْخل فَيصَلي أَربع رَكْعَات ثمَّ يجلس فَيَأْذَن لخاصة الْخَاصَّة فَإِن كَانَ الْوَقْت شتاء أَتَاهُم بزاد الْحَاج من الأخبصة الْيَابِسَة والخشكنانج والقراص المعجونة بالسكر وَاللَّبن من دَقِيق السميد والكعك المسمن والفواكه الْيَابِسَة وَإِن كَانَ الصَّيف أَتَاهُم بالفواكه الرّطبَة وَيدخل إِلَيْهِ وزراؤه فيؤمرونه فِيمَا احتاجوا إِلَيْهِ بَقِيَّة يومهم وَيجْلس إِلَى الْعَصْر ثمَّ يخرج فَيصَلي الْعَصْر ثمَّ يدْخل منزله فَلَا يطْمع فِي طامع حَتَّى إِذا كَانَ فِي أخر وَقت الْعَصْر خرج فَجَلَسَ على سَرِيره وَيُؤذن للنَّاس على قدر مَنَازِلهمْ فؤتي بالعشاء فيفرغ مِنْهَا على مِقْدَار مَا يُنَادي بالمغرب فَيخرج وَيُصلي ثمَّ يُصَلِّي بعْدهَا أَربع رَكْعَات فَيقْرَأ فِي كل رَكْعَة خمسين آيَة يجْهر تَارَة ويخافت أُخْرَى ثمَّ يدْخل منزله فَلَا يطْمع فِيهِ طامع حَتَّى يُنَادي بالعشاء الْآخِرَة فَيخرج

وهو نوعان

وَيُصلي ثمَّ يُؤذن للخاصة وخاصة الْخَاصَّة والوزراء والحاشية فيؤامره الوزراء فِيمَا أرادوه صَدرا من ليلتهم وَيسْتَمر ثلث اللَّيْل فِي أَيَّام الْعَرَب أَخْبَارهَا والعجم وملوكها وسياستها وسيرتها وحروبها ومكائدها وَغير ذَلِك من أَخْبَار الْأُمَم السالفة ثمَّ تَأتيه الظّرْف الغريبة من عِنْد نِسَائِهِ من الْحَلْوَى أَو غَيرهَا من المآكل اللطيفة ثمَّ يدْخل فينام ثلث اللَّيْل ثمَّ يقوم فيحضر لَهُ الدفاتر فِيهَا سير الْمُلُوك وأخبارها والحروب والمكائد فَيقْرَأ ذَلِك عَلَيْهِ غلْمَان لَهُ مرتبون قد وكلوا بحفظها وقراءتها فيمر بسمعه كل لَيْلَة جمل من الْأَخْبَار وَالسير والْآثَار وأنواع السياسات فَيخرج ثمَّ يُصَلِّي الصُّبْح ثمَّ يعود فيفعل مَا وصف كل يَوْم وَلَيْلَة وَقد تبعه فِي ذَلِك عبد الْملك بن مَرْوَان وَغَيره فَلم يدركوا حلمه وَلَا اتفاقه للسياسة والتأني للأمور والمداراة للنَّاس على مَنَازِلهمْ ورفقه بهم على طبقاتهم وَهُوَ نَوْعَانِ النَّوْع الأول الْمَأْذُون فِيهِ وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى تقدم مَا يفهم مِنْهُ أَنه ضَرْبَان أَحدهمَا على الْعَامَّة غير الْيَوْم الَّذِي يجلس لَهُم فِيهِ وَقد سبق بَيَان وَجهه

الثَّانِي عَن الْخَاصَّة فِي الْأَوْقَات الَّتِي تحضه لإِقَامَة ضرورياته ومكملاته من غير إفراط وخصوصا أَوْقَات اللَّيْل وَقد قَالَ ابْن الحزم يَنْبَغِي للْملك أَن يفرغ نَفسه فِي لَيْلَة لِعِيَالِهِ ونسائه وَولده ويعدل فِي الْقسم بَين نِسَائِهِ قلت وَلَا يُعَارض هَذَا مَا ذكر عَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ فِي جعل أَكثر لَيْلَة لغير أَهله لِأَن الْقدر الَّذِي كَانَ يبقيه لَهُم من اللَّيْل كَانَ يرَاهُ كَافِيا لما أَخذ بِهِ نَفسه من شدَّة الحزم نعم من قصر عَن غَايَته فِي ذَلِك فَلهُ فِيمَا قَالَه ابْن الحزم متمسك وَاضح الظُّهُور الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة كَمَا لَهُ أَن يحتجب عَن الْخَاصَّة والعامة فِي الْوَقْت الَّذِي رسم لَهُ فَكَذَا فِي حق من لَا مَنْفَعَة فِي دُخُوله عَلَيْهِ قَالَ ابْن حزم وَيمْنَع أهل الفضول من الْوُصُول إِلَيْهِ وملازمة دَاره ومجلسه لِئَلَّا يشْتَغل بمجالسه من لَا يجدي نفعا فِي دينه ودنياه وليغلق الْبَاب دون ذَلِك جملَة فَلَا يطْمع أحد فِي الْوُصُول إِلَيْهِ لغير معنى الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة يجب على السُّلْطَان أَن يعْتَقد أَن احتجابه عَن الْعَامَّة يتَعَذَّر مَعَه غَالِبا إطلاعهم على أَعماله المستورة عَنْهُم فَفِي العهود اليونانية وَأعلم أَنَّك مَعَ كَثْرَة حجابك وببعد الْوُصُول إِلَيْك بِمَنْزِلَة الطَّاهِر لعين النَّاس وَإنَّهُ لَا يسْتَتر عَنْهُم مِمَّا عَلمته شَيْء لشدَّة بحثهم عَن أمورك وَكَثْرَة من يهدي إِلَى خاصتك وعامتك مَا جرى فِي مجالسك فاعمل فِي سرايرك مَالا يستقبح أَن يكون ظَاهرا لَهُم منكشفا من فعلك لديهم قلت وكما فِي الحَدِيث النَّبَوِيّ من أسر سريرة ألبسهُ الله ردائها وَفِيه قَالَ زُهَيْر

(وَمهما تكن عِنْد امْرِئ من خَلِيقَة ... وَلَو خالها تخفى على النَّاس تعلم) الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة الْأَوْقَات الَّذِي يحتجب فِيهَا على النَّاس لَا يخليها من أَعمال الفكرة فيهم واستدعاء الْمعرفَة بأحوالهم الغائبة عَن عيانه لِأَن ذَلِك هُوَ فَرْضه الازم ووظيفته المستغرقة لزمانه بِحَسب الْأَمَاكِن قَالَ أرسطو للإسكندر إِن التبذل يذهب ببهاء السُّلْطَان والاحتجاب الشَّديد يذهب الْملك ويهلكه قَالَ فَكيف الرَّأْي قَالَ يكون غَائِبا كشاهد لرعيتك بالاستخبار لأمورها والتفقد لأحوالها المسالة الْخَامِسَة من كبراء الْمُلُوك من ترخص فِي تَطْوِيل مُدَّة هَذَا النَّوْع من الاحتجاب اعْتِمَادًا على الْوَفَاء بِإِقَامَة مَا يتكفل بالمراد من الظُّهُور واللقاء كَمَا يحْكى أَن أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور توقف اياما عَن الْخُرُوج إِلَى النَّاس فَقَالُوا هُوَ عليل فكثروا القَوْل فَدخل عَلَيْهِ وزيره الرّبيع فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله لَك فِي الْبَقَاء أَن النَّاس يَقُولُونَ قَالَ وَمَا يَقُولُونَ قَالَ يَقُولُونَ أَن أَمِير

النوع الثاني

الْمُؤمنِينَ عليل فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثمَّ قَالَ يَا ربيع مالنا وللعامة إِنَّمَا تحْتَاج الْعَامَّة إِلَى ثَلَاث خلال فَإِذا جعلت لَهُم فَمَا حَاجتهم إِذا أقيم لَهُم من ينظر فِي أحكامهم وينصف بَعضهم من بعض وَإِذا أقيم لَهُم من ينظر فِي أحكامهم وينصف بَعضهم من بعض وَإِذا أمنت سبيلهم حَتَّى لَا يلحقهم خوف فِي ليل وَلَا فِي نَهَار وَإِذا سدت ثغورهم من أَطْرَافهم حَتَّى لَا يلحقهم خوف فِي ليل وَلَا نَهَار وَإِذا سدت ثغورهم من أَطْرَافهم حَتَّى لَا يصل إِلَيْهِم عدوهم وَنحن قد فعلنَا ذَلِك كُله لَهُم فَمَا حَاجتهم إِلَيْنَا النَّوْع الثَّانِي الْمَمْنُوع مِنْهُ وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى من التَّرْهِيب الْوَارِد فِيهِ لزيادته على الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ وعيدان الْوَعيد الأول أَن الله تَعَالَى يحتجب عَن صَاحبه يَوْم الْقِيَامَة ليَكُون لَهُ جَزَاء وفَاقا فَعَن أبي مَرْيَم الْجُهَنِيّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لمعاوية رَضِي الله عَنهُ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من ولاه الله شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين فأحتجب دون حَاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حَاجتهم وحلتهم وفقرهم يَوْم الْقِيَامَة فَجعل مُعَاوِيَة رجلا على حوائج الْمُسلمين رَوَاهُ أَبُو دَاوُود الْوَعيد الثَّانِي أَن الله تَعَالَى يغلق أَبْوَاب الرَّحْمَة مُقَابلَة لَهُ بذلك الْجَزَاء فَعَن أبي الشماخ الْأَزْدِيّ عَن ابْن عَم لَهُ من أَصْحَاب الرَّسُول

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه أَتَى مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ فَدخل عَلَيْهِ فَقَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من ولي أَمر النَّاس ثمَّ أغلق بَابه دون الْمِسْكِين والمظلوم وَذَوي الْحَاجة أغلق الله تبَارك وَتَعَالَى أَبْوَاب الرَّحْمَة دون حَاجته وَفَقره وأفقر مَا يكون إِلَيْهَا رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من مَحْذُور هَذَا النَّوْع من الإحتجاب زَائِدا على وعيده وَلأَجل قَضَائِهِ بتعجيل الْمضرَّة بِهِ سَرِيعا فقد قَالَ الطرطوشي هُوَ أَرْجَى الْخلال فِي هدم السُّلْطَان وَسُرْعَة خراب الدول قلت وَحَاصِل مَا بَين بِهِ ذَلِك كُله أُمُور أَحدهَا أَنه موت حكمى فَيكون السُّلْطَان بِهِ فِي عداد الْمَوْتَى وَحِينَئِذٍ فَلَا يخفى مَا ينشأ عَن ذَلِك من المفساد وَمن أعظمها أَمن الظَّالِم من وُصُول الْمَظْلُوم إِلَيْهِ الثَّانِي أَن مُبَاشرَة الْأُمُور كَمَا يجب فِي رِعَايَة قَوَاعِد السلطنة تفوت مَعَه لَا محَالة وَفِي ذَلِك فَسَاد كَبِير قَالَ الطرطوشي ومعظم مَا رَأَيْنَاهُ فِي أعمارنا وَسَمعنَا مِمَّن سبق فِي دُخُول الْفساد على الْمُلُوك فَمن عدم مُبَاشرَة الْأُمُور

الثَّالِث أَن ظُهُور السُّلْطَان للنَّظَر فِي شؤونه هُوَ حِكْمَة انْفِرَاد برعاية الْخلق وَلَا كَذَلِك عِنْد احتجابه دَائِما قَالَ الطرطوشي لَا تزَال الرّعية ذَات سُلْطَان وَاحِد مَا وصلوا إِلَى السُّلْطَان فَإِذا احتجب فهناك سلاطين كَثِيرَة قلت ينْدَفع هَذَا الْمَحْذُور إِذا كَانَ هُنَاكَ مفوض من قبله يحمل عَنهُ من غير خلاف عَلَيْهِ مَا كَانَ هُوَ يقوم بِهِ لَو بَاشر أَكثر الْأُمُور بِنَفسِهِ تَكْمِلَة فِي تَنْبِيه من المضرات بِهِ العائدة على المحتجب عَنهُ مَا نبه عَلَيْهِ كَلَام يحيى بن خَالِد حَيْثُ يَقُول وَقد كَانَ لَا يجلس النَّاس فِي دَاره إِلَّا بَين يَدَيْهِ فَإِن جلس أَدخل النَّاس وَإِلَّا صرفُوا من الْبَاب وعَلى النَّاس أَدَاء فروض وَقَضَاء حُقُوق والانتظار ويمحق زمانهم وَيكثر تعبهم الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من الْمَنْقُول فِي التَّذْكِير لما يحمل على ترك هَذَا النَّوْع من الاحتجاب موعظتان الموعظة الأولى قَول الطرطوشي أثر مَا لخصناه عَنهُ يَا أَيهَا الْمَغْرُور احْتَجَبت عَن الرّعية بالأبواب وَجعلت دونهم جبالا مشيدة وحظائر بِالْحِجَارَةِ وَالْمَاء والطين مُبَالغَة وَبَاب الله تَعَالَى مَفْتُوح للسائلين لَيْسَ هُنَاكَ حَاجِب وَلَا بواب قَالَ تَعَالَى لمن شَاءَ أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا قلت وَله فِي الْكتاب الَّذِي كتب بِهِ مَعَ أبن الْعَرَبِيّ للسُّلْطَان أبي يَعْقُوب

بن تاشفين وَلَقَد بَلغنِي يَا أَبَا يَعْقُوب أَنَّك احْتَجَبت عَن الْمُسلمين بِالْحِجَارَةِ والطين واتخذت دونهم حِجَابا وَأَن ذَا الْحَاجة ليظل يَوْمه ببابك فَمَا يلقاك كَأَنَّك لم تسمع قَول الله تَعَالَى {وَقَالُوا مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام وَيَمْشي فِي الْأَسْوَاق} قَالَ الْحسن لَا وَالله مَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغلق دونه الْحجب وَلَا يغدى عَلَيْهِ بالجفان وَلَا يراح عَلَيْهِ بهَا وَلكنه كَانَ بارزا من أَرَادَ أَن يلقاه لقِيه وَكَانَ يجلس بِالْأَرْضِ وَيُوضَع طَعَامه بِالْأَرْضِ ويلبس الغليظ ويركب الْحمار ويردف عَبده ويلعق أَصَابِعه وَكَانَ يَقُول من رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني فَمَا أَكثر الراغبين عَن سنته التاركين لَهَا قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَأْخُذ درته وَيَمْشي فِي الْأَسْوَاق يتفقد أُمُور رَعيته وَكَانَ يمشي لَيْلًا فِي سِكَك الْمَدِينَة مَعَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَغَيره من الصَّحَابَة ويحفظون عورات الْمُسلمين وروى عَنهُ أَنه اسْتعْمل سعد بن أبي وَقاص على الْكُوفَة فَبَلغهُ أَنه اتخذ قصرا وَجعل عَلَيْهِ بَابا وَقَالَ انْقَطع عني الصويت فَأرْسل إِلَيْهِ مُحَمَّد بن مسلمة وَقَالَ لَهُ أيت سَعْدا فَأحرق عَلَيْهِ بَابه فَأتى الْكُوفَة فَأخْرج زنده واستوقد نَارا ثمَّ أحرق الْبَاب فَجعل سعد يتَعَذَّر وَيحلف بِاللَّه مَا قَالَ فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن مسلمة نَفْعل مَا أمرنَا بِهِ ويروى عَنْك القَوْل انْتهى

الموعظة الثَّانِيَة مَا فِي حِكَايَة الرجل الَّذِي سَمعه الْمَنْصُور وَهُوَ يطوف بِالْبَيْتِ آخر اللَّيْل يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك ظُهُور الْبَغي وَالْفساد فِي الأَرْض وَمَا يُحَال بَين الْحق وَأَهله من الظُّلم والطمع فَسَأَلَهُ عَن مُرَاده بذلك فَقَالَ لَهُ ذَلِك الرجل الَّذِي دخله الطمع حَتَّى حَال بَينه وَبَين الْحق وَإِصْلَاح مَا ظهر من الْبَغي وَالْفساد أَنْت قَالَ لَهُ وَيحك وَكَيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء على يَدي والحلو والحامض فِي قبضتي قَالَ وَهل دخل أحدا من الطمع مَا دَخلك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله استرعاك أُمُور الْمُسلمين وأولهم فأغفلت أُمُورهم واهتممت بحمع أَمْوَالهم وَجعلت بَيْنك وَبينهمْ حِجَابا من الجير وَالْأَجْر وأبوابا من الْحَدِيد وحجبه مَعَهم السِّلَاح ثمَّ سجنت نَفسك فِيهَا عَنْهُم وَبعثت عمالك فِي جمع الْأَمْوَال وجبايتها واتخذت وزراء وأعوانا ظلمَة إِن نسيت لم يذكروك وَإِن ذكرت لم يعينوك وقويتهم على ظلم النَّاس بالأموال وَالسِّلَاح وَأمرت أَن لَا يدْخل عَلَيْك من النَّاس إِلَّا فلَان وَفُلَان نفر سميتهم وَلم تَأمر بإيصال الْمَظْلُوم وَلَا الملهوف وَلَا الجائع وَلَا العاري وَلَا الضَّعِيف الْفَقِير وَلَا أحد إِلَّا وَله فِي هَذَا المَال حق فَلَمَّا رآك هَؤُلَاءِ النَّفر الَّذين استخلصتهم لنَفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرتهم أَلا يحجبوا عَنْك تَجِيء الْأَمْوَال وَلَا تقسمها قَالُوا هَذَا قد خَان الله فَمَا لنا لَا نخونه وَقد سخر لنا فأتمروا على أَن لَا يصل إِلَيْك من علم أَخْبَار النَّاس إِلَّا مَا أَرَادوا وَلَا يخرج لَك عَامل فيحالف لَهُم أمرا إِلَّا أقصوه حَتَّى تسْقط مَنْزِلَته ويصغر قدره فَلَمَّا انْتَشَر ذَلِك عَنْك وعنهم عظمهم النَّاس وهابوهم وَكَانَ أول من صانعهم عمالك بالهدايا وَالْأَمْوَال ليتقربوا بهَا على ظلم رعيتك ثمَّ فعل ذَلِك أهل الثروة وَالْقُدْرَة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرّعية فامتلت بِلَاد الله تَعَالَى بالظلم بغيا وَفَسَاد اوصار هَؤُلَاءِ الْقَوْم شركاءك فِي سلطانك وَأَنت غافل فَإِن جَاءَ متظلم حيل بَينه وَبَين الدُّخُول وَإِن أَرَادَ رفع قصَّة إِلَيْك عِنْد ظهورك وَجدك قد نهيت عَن ذَلِك وَوضعت للنَّاس رجلا ينظر فِي مظالمهم فَإِن جَاءَ ذَلِك

الرجل وَبلغ بطانتك سَأَلُوا صَاحب الْمَظَالِم أَن لَا يرفع مظلمته وَإِن كَانَت للمتظلم بِهِ حُرْمَة وَإجَابَة لم يُمكنهُ مَا يُرِيد خوفًا مِنْهُم فَلَا يزَال الْمَظْلُوم يخْتَلف إِلَيْهِ ويلوذ بِهِ ويشكو ويستغيث وَهُوَ يَدْفَعهُ ويحتل عَلَيْهِ فَإِذا جهدوا وَظَهَرت صرخَ بَين يَديك فَيضْرب ضربا مبرحا ليَكُون نكالا لغيره وَأَنت تنظر فَلَا تنكر وَلَا تغير فَمَا بَقَاء الْإِسْلَام وَأَهله على هَذَا وَقد كَانَت بَنو أُميَّة وَالْعرب لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِم مظلوم إِلَّا رفعت ظلامته إِلَيْهِ فينتصف وَلَقَد كَانَ الرجل يَأْتِي من أقْصَى الْبِلَاد حَتَّى يبلغ بَاب سلطانهم فينصف أَلا وَقد كنت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أسافر إِلَى أَرض الصين وَبهَا ملك فقدمتها مرّة وَقد ذهب سمع ملكهم فَجعل يبكي فَقَالَ لَهُ وزراؤه مَا لَك تبْكي لَا بَكت عَيْنَاك فَقَالَ أما أَنِّي لست أبْكِي على الْمُصِيبَة الَّتِي نزلت بِي وَلَكِن أبْكِي والمظلوم يصْرخ بِالْبَابِ فَمن نسْمع صَوته ثمَّ قَالَ أما إِن كَانَ ذهب سَمْعِي فَإِن بَصرِي لم يذهب نادوا فِي النَّاس لَا يلبس ثوبا أَحْمَر إِلَّا الْمَظْلُوم فَكَانَ يركب الْفِيل فِي طرفِي النَّهَار هَل يرى مَظْلُوما مَا فينصفه هَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مُشْرك بِاللَّه قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نَفسه فِي ملكه وَأَنت مُؤمن بِاللَّه وَابْن عَم رَسُول الله لَا تغلب رأفتك بِالْمُسْلِمين على شح نَفسك ثمَّ مضى فِي موعظته حَتَّى بَكَى الْمَنْصُور بكاء شَدِيدا وارتفع صَوته ثمَّ قَالَ يَا لَيْتَني لم أخلق وَلم أكن شَيْئا ثمَّ قَالَ كَيفَ احتيالي فِيمَا خولت فِيهِ وَلم أرى من النَّاس إِلَّا خائنا قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْك بالأئمة الْأَعْلَام المرشدين قَالَ وَمن هم قَالَ الْعلمَاء قَالَ قد فروا مني قَالَ هربوا مِنْك مَخَافَة أَن تحملهم على مَا ظهر من طريقك من قبل عمالك قَالَ وَلَكِن أفتح الْأَبْوَاب وَسَهل الْحجاب واقتص للمظلوم من الظَّالِم وامنع الْمَظَالِم وَخذ الشَّيْء مِمَّا حل وطاب واقسمه بِالْحَقِّ وَالْعدْل وَأَنا ضَامِن لَك أَن

الركن السابع عشر

من هرب مِنْك أَن يَأْتِيك فيعاونك على صَلَاح أَمرك ورعيتك فَقَالَ الْمَنْصُور اللَّهُمَّ وفقني أَن أعمل بِمَا قَالَ هَذَا الرجل انْتهى المُرَاد مِنْهَا وَهِي بِتَمَامِهَا مَذْكُورَة فِي الْأَحْيَاء فَرَاجعهَا من هُنَاكَ فَفِيهَا فَوَائِد {وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} الرُّكْن السَّابِع عشر رِعَايَة الْخَاصَّة والبطانة وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى الْعِنَايَة برعاية هَذَا الرُّكْن أكيدة لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه قوام الدولة وحافظ وجودهَا قَالَ الجاحظ من أَخْلَاق الْملك السعيد أَن يحرص على إحْيَاء بطانته حرصه على إحْيَاء نَفسه إِذْ كَانَ بهم نظام ملكه وَبَقَاء عزه الثَّانِي أَنه لمَكَان مَنْزِلَته من الْملك يحْتَاج إِلَى سياسات تخصه فتهم الْعِنَايَة بِهِ لَا محَالة فَفِي الأفلاطونيات يحْتَاج الْملك إِلَى ثَلَاث سياسات وَذكر سياسة نَفسه وسياسة خاصته وسياسة رَعيته الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من مُؤَكد النّظر فيهم تفقدهم بِمَا يُوفى بكفاية حملهمْ دون احْتِيَاج مِنْهُم إِلَى التَّذْكِير بِهِ تَصْرِيحًا أَو تَلْوِيحًا قَالَ الجاحظ يَنْبَغِي للْملك تفقد بطانته وخاصته بجوائزهم

وصلاتهم إِن كَانَت مشاهرة فمشاهرة أَو مسانهة فمسانهة وَأَن يُوكل بتذكير صلَاتهم وَلَا يحوجهم إِلَى رفع رقْعَة بأذكار أَو تعرض فَإِن هَذَا لَيْسَ من أَخْلَاق المتيقظين من الْمُلُوك منقبة قيل إِ أَو شرْوَان رفع إِلَيْهِ رجال من بطانته بشكوى سوء حَالهم فَقَالَ مَا أنصفكم إِلَى الشكية من أحوجكم ثمَّ فرق فيهم مَا وسعهم أغناهم الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ الجاحظ إِذا كَانُوا من الْكِفَايَة فِي أقْصَى حُدُودهَا وَمن ذَوَات الْيَد وإدرار العطايا على أتم صفاتها ثمَّ فتتح أحد فَاه يطْلب مَا فَوق هَذِه الدرجَة فَالَّذِي جرأه على ذَلِك الشره والمنافسة وَمن ظَهرت مِنْهُ هَاتَانِ الخلتان كَانَ جَدِيرًا أَن تنْزع كِفَايَته من يَدَيْهِ وَتصير بيد غَيره قلت قد يتَّفق فِي تلطف الطّلب لما وَرَاء هَذِه الدرجَة مَا يقْضِي ببلوغ المُرَاد من ذَلِك مَعَ مزِيد الحظوة وتجديد الْعِنَايَة كَمَا يحْكى أَنه تقدم للمنصور بن أبي عَامر وانذمار بن أبي بكر البرزالي أحد جند المغاربة وَقد جلس للعرض والتمييز والميدان غاص بِالنَّاسِ فَقَالَ لَهُ بِكَلَام يضْحك الثكلان يَا مولَايَ مَالِي وَلَك أسكني فَإِنِّي فِي الفحص فَقَالَ وَمَا ذَاك يَا ونذمار وَأَيْنَ دَارك الواسعة الأقطار فَقَالَ أخرجتني وَالله عَنْهَا نِعْمَتك أَعْطَيْتنِي من الضّيَاع مَا انصب عَليّ مِنْهَا من الْأَطْعِمَة مَا مَلأ بيوتي وأخرجني عَنْهَا وَأَنا بربري مجوع حَدِيث الْعَهْد بالبؤس أَتَرَى لي أَن أبعد الْقَمْح عني لَيْسَ ذَلِك من رَأْيِي فَتطلق الْمَنْصُور وَقَالَ لله دَرك من عيي لعيك فِي شكر النِّعْمَة أبلغ عندنَا وآخذ بقلوبنا من كَلَام أشدق

متزين وبليغ مفتر وَأَقْبل على من حوله من أهل الأندلس فَقَالَ يَا أَصْحَابنَا كَذَا تشكروا الأيادي واستديموا النعم لَا مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من الْجحْد اللَّازِم الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الْمرَادِي مُلَخصا لوُجُوده من مستحسن السِّيرَة مَعَهم اجْعَل جلوسك للخاصة أبسط مِنْهُ للعامة وألقهم بالتحية وَأظْهر لَهُم الْمَوَدَّة وعاشرهم بلين الْكَلِمَة وترفيع الْمنزلَة وَتحفظ مَعَهم من السقط واقسم بشرك بَينهم على أقدار مَنَازِلهمْ وَلَا سِيمَا فِي محافلهم ومجامعهم وَلَا تنقص الْكَرِيم من قدره فَإِن ذَلِك مُوجب لحقده ومشعر لَهُ أَنَّك جَاهِل لحقه وَلَا ترفع اللَّئِيم فَوق مَنْزِلَته فَإِن ذَلِك مُوجب لتمرده الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من مستحسن الموفي بِوَاجِب الرِّعَايَة لحق السُّلْطَان وَحسن الْأَدَب مَعَه أَن يفرغ عَلَيْهِ من سوابغ الْإِحْسَان مَا يكون كفاء لما ظهر مِنْهُ وجزاءه فقد قيل من حق الْملك الإبلاغ فِي مُكَافَأَة من ظهر مِنْهُ تَعْظِيم لحقه وَتحقّق خلوصه ونصحه ووفى لَهُ بِوَاجِب أدبه من خواصه قلت ذكرُوا فِي ذَلِك حكايات يَكْفِي مِنْهَا اثْنَان الْحِكَايَة الأولى عَن يزِيد بن شَجَرَة الرهاوي أَنه ساير مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ يحدثه عَن يَوْم خُزَاعَة وَبني خزامة وَكَانَ يَوْمًا أشرف فِيهِ الْفَرِيقَانِ على الهلكة

الْهِجْرَة وَكَانَ يَوْمًا أشرف فِيهِ الْفَرِيقَانِ على الهلكة حَتَّى جَاءَهُم أَبُو سُفْيَان فارتفع ببعيره على ربوة ثمَّ أَوْمَأ بكميه إِلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا فانصرفوا قَالَ فَبَيْنَمَا مُعَاوِيَة يحدث يزِيد بِهَذَا الحَدِيث إِذْ صك وَجه يزِيد حجر عَابِر فأدماه وَجعلت الدِّمَاء تسيل من وَجهه على ثَوْبه فَمَا مسح ثَوْبه وَلَا وَجهه فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة لله أَنْت أما ترى مَا نزل بك فَقَالَ وَمَا ذَاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ هَذَا دم وَجهك يسيل على ثَوْبك قَالَ عَلَيْهِ عتق مَا يملك إِن لم يكن حَدِيث أَمِير الْمُؤمنِينَ ألهاني حَتَّى غمر فكري وغطى على قلبِي فَمَا شَعرت بِشَيْء مِنْهُ حَتَّى نبهني أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة لقد ظلمك من جعلك فِي ألف من الغطاء وأخرجك من عَطاء أَبنَاء الْمُهَاجِرين وحماة أهل صفّين فَأمر لَهُ بِخَمْسِمِائَة ألف دِرْهَم وَزَاد فِي عطائه ألف دِرْهَم وَجعله بَين جلده ولحمه الْحِكَايَة الثَّانِيَة حكى التجاني أَن ابْن الجلا البجاني كَاتب السُّلْطَان أبي زَكَرِيَّا من مُلُوك الحفصين استدعاه يوميا ليكتب بَين يَدَيْهِ شَيْئا وَكَانَت على ابْن الجلا حلَّة بَيْضَاء رفيعة فتبدد الحبر عَلَيْهَا فحاول إخفاء ذَلِك وَلم يتَعَرَّض لإظهاره وَلم يخف على السُّلْطَان أبي زَكَرِيَّا

قَصده فَوجه إِلَيْهِ بصلَة سنيه وَقَالَ إِنَّمَا أمرنَا لَهُ بهَا لإيثاره الْأَدَب وَعدم تطايره لما جرى لَهُ تَنْبِيه الْمُبَالغَة فِي هَذَا النَّوْع من المكافآت لَا تَنْتَهِي إِلَى الْغَايَة لَا مزِيد عَلَيْهَا بل يَنْبَغِي أَن يتْرك من إحسانها مَا مجازي بِهِ تجدّد اسْتِحْقَاقه فَفِي الأفلاطونيات إِذا أحسن أحد من أَصْحَابك فَلَا تخرج إِلَيْهِ بغاية برك وَلَكِن أترك مِنْهُ شَيْئا تزيده إِيَّاه عِنْد تبنيك مِنْهُ الزِّيَادَة فِي نصيحتك الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي العهود اليونانية مَا حَاصله وَفِيه تَقْيِيد الْمفضل على الْخَاصَّة يَنْبَغِي للرئيس أَن يتَأَمَّل أَصْحَابه فَإِن وثق بهم اعْتمد عَلَيْهِم أَكثر من اعْتِمَاده على مَاله وأوسع لَهُم مِنْهُ مِمَّا وَرَاء الْعدْل فيهم وَإِن لم يَثِق بهم لما يُوجب ذَلِك عِنْده اعْتمد على مَاله فَوق اعْتِمَاده عَلَيْهِم وَأطلق للهم مِنْهُ مَا يمسك رمقهم وعللهم بلطيف الْحِيلَة ومصنوع الِاعْتِذَار بِنَاء مِنْهُ على أَن مثلهم لَا يسْتَحق إِيثَار الْفضل الْمَسْأَلَة السَّابِعَة من تخلص تحقق خلوص الثِّقَة بِهِ من الْخَاصَّة ثمَّ ندرت مِنْهُ زلَّة حَقه أَن لَا يُؤَاخذ فِيهَا بعقاب ذَوي التُّهْمَة قَالَ ابْن المقفع لَا يَلُومن من السُّلْطَان على الزلة من لَيْسَ بمهمتهم فِي الْحِرْص على رِضَاهُ إِلَّا لوم أدب وتقويم رَأْي وَلَا يعدلن بالمجتهد فِي رِضَاهُ والبصير بِمَا يَأْتِي أحدا فَإِنَّهُمَا إِذا اجْتمعَا فِي الْوَزير والصاحب نَام الْملك واستراح وحليت لَهُ حَاجته وَإِن حدث عَنْهَا وَعمل لَهُ فِيمَا يهمه وَإِن غفل عَنهُ لم يغْفل لَهُ

مزِيد غبطه قَالَ الصابي بِمن غلط من أَصْحَابه فاتعظ أَشد انتفاعا بِمن لم يغلط وَلم يتعظ لِأَن الأول كالقارح الَّذِي أدبته الْقُوَّة وأصلحته الندامة وَالثَّانِي كالجذع الَّذِي هُوَ رَاكب الْقُوَّة راكن إِلَى السَّلامَة وَالْعرب تزْعم أَن الْكسر إِذا جبر كَانَ صَاحبه أَشد بطشا وَأقوى يدا قلت ويؤكد لَدَيْهِ الْأَخْذ فالسمح مَعَ رَجَاء هَذِه الْغِبْطَة علمه بِمَا تقرر من هَذَا الْأَمر يحسن الظَّن مَعَ التمَاس الْعذر فِي هَذَا الْبَاب وَهِي الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة قَالَ بعض الْعلمَاء من كَمَال الْفَضِيلَة حسن الظَّن بالصاحب وَتَأَول الْخَيْر فِيمَا يظْهر من التَّقْصِير والتماس الْعذر لذِي الهفوة فقد يغلب الْمَرْء طباعه ويخرجه الِاضْطِرَار عَن حد اعتداله لَا سِيمَا لمن حمدت سيرته فَمثله لَا تعْتَبر هفوته إِلَّا توحش نبوته وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول فاغف عَنْهُم وَاصْفَحْ إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ وَالْعَفو والصفح إِنَّمَا يكونَانِ مَعَ الذَّنب وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا نهى الْمُؤمن أَن يظْهر بِالْمُؤمنِ شرا الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة مِمَّا يستجلب بِهِ التأنيس بَسطه مَعَهم بِاسْتِعْمَال رخصتين اعْتِبَارا بعزيمة الهيبة وَالْوَقار عَلَيْهِ الرُّخْصَة الأولى المزاح الْمَأْذُون فِيهِ فقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمزح وَلَا يَقُول إِلَّا حَقًا وَقد ترجموا على مزاح الْأَشْرَاف ونقلوا من ذَلِك مَا هُوَ مسطر فِي كتب الْأَخْبَار وَمِنْه عَن الْمُهَاجِرين مِمَّا حَكَاهُ ابْن رضوَان عَن التجاني قَالَ كَانَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْحسن قد

كلفه الْأَمِير أَبُو عبد الله الْمُسْتَنْصر فِي إِحْدَى السفرات بِالْمَشْيِ صُحْبَة الْحَرِيم فَتقدم مَعَهُنَّ على الْعَادة وأسرع الْخَلِيفَة فِي سيره فلحق بِهِ فَلَمَّا حاذاه انْفَرد عَن الْعَسْكَر وَتقدم إِلَيْهِ وهز الرمْح عَلَيْهِ وَأنْشد لَهُ (لمن المطايا السائرات مَعَ الضُّحَى ... محمية بالمشرفية والظبا) فَأَجَابَهُ ابْن أبي الْحسن من حِينه (لفتى لَهُ فِي كل منبت شَعْرَة ... أَسد يمد إِلَى الفريسة مخلبا) قَالَ التجاني وَفِي الْبَيْت تغير عَن أصل نظمه حرفه لما احْتَاجَ إِلَيْهِ من التَّمْثِيل يه وَصِحَّة إنشاده (فِي كل منبت شَعْرَة من جِسْمه ... أَسد يمد إِلَى الفريسة مخلبا) قَالَ وَيرد عَلَيْهِ فِيمَا غَيره مَا ورد على ليلى الأخيلية عِنْد إنشادها مدح الْحجَّاج فِي قَوْله لَهَا لَا تقولي غُلَام وَلَكِن قولي همام الرُّخْصَة الثَّانِيَة اللّعب بِمَا لَا حرج فِيهِ أَو هُوَ مَحْمُود كالرمي وَمَا فِي مَعْنَاهُ قَالَ الجاحظ وَلَا يمْنَع الملاعبة من النصفة بل لَهُ المشاحة والمساواة والممانعة وَترك الاغتصاب وَالْأَخْذ بِالْحَقِّ بأقصى حُدُوده غير أَن ذَلِك لَا يكون مَعَه بذاء وَلَا رفث وَلَا مُعَارضَة تزيل حق الْملك وصياح يَعْلُو كَلَامه وَلَا سبّ وَلَا نزاع مِمَّا هُوَ خَارج عَن ميزَان الْعدْل قلت وَلَا عَن أدب الشَّرِيعَة ومواقف حُدُودهَا

تحذير من الْمَنْقُول فِي شُرُوط مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الْبسط فِي هَذَا الْمقَام حكايتان يتقى بالعظمة بهما ويحدر الْحِكَايَة الأولى روى أَن سَابُور لاعب تربا لَهُ بالشطرنج على إمرة مطاعة فغلبة تربه فَقَالَ لَهُ سَابُور مَا إمرتك قَالَ لَهُ أركبك حَتَّى أخرج بك إِلَى الْبَاب الْعَامَّة فَقَالَ لَهُ سَابُور بئس مَوضِع الدَّالَّة وضعتك فاطلب غير هَذَا قَالَ فَبِهَذَا جرى لَفْظِي فأسف لذَلِك سَابُور وَقَامَ فَدَعَا ببرقع فتبرقع بِهِ ثمَّ جثا ليركبه فَامْتنعَ أَن يَعْلُو ظَهره إجلالا وإعظاما فَنَادَى سَابُور بعد ذَلِك فِي الرّعية لَا يلعبن أحد على حكم غَائِب الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل أَن الْملك الْأَشْرَف طرب لَيْلَة فِي مجْلِس أنسه على بعض الملاهي فَقَالَ لصَاحبه تمن عَليّ فَقَالَ تمنيت مَدِينَة خلاط فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا وَكَانَ النَّائِب بهَا الْأَمِير حسام الدّين الْمَعْرُوف بالحاجب فَتوجه ذَلِك الشَّخْص إِلَيْهِ ليتسلمها مِنْهُ فَعوضهُ الْحَاجِب عَنْهُمَا جملَة كَثِيرَة من المَال وَصَالَحَهُ عَنْهَا الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من أعظم مَا يلحظ بِهِ علية الْخَاصَّة إدامة تشريفهم بزيارته لَهُم فِي مَنَازِلهمْ تفضلا مِنْهُ وإنعاما وَقد قسمهَا الجاحظ إِلَى أَربع للمواكلة تأنسا بالمزور وللعيادة من الْمَرَض وللتعزية فِي الْمُصِيبَة وللتعظيم فَقَط وَهِي أرفعها قَالَ لِأَن مَا عدا أَكثر مَا يتَّفق بسؤال المزور وتلطفه فِي

التنويه من قدره بذلك وَلَو بِأَن يتمارض وَلَا يُمكن أَن يسْأَل وزيرا وَغَيره مَا هُوَ صَرِيح فِي التَّعْظِيم لَهُ انْتهى مُلَخصا اسْتِدْرَاك قَالَ ابْن رضوَان وَبَقِي قسم خَامِس وَهُوَ أفضلهَا وَأَكْرمهَا أثر فِي الدَّاريْنِ وَهِي الزِّيَارَة لاحتساب الْأجر وجبر قلب المزور قَالَ ويشترك فِي ذَلِك الْخَواص وَغَيرهم قَالَ وَقد كَانَ مُلُوك الْإِسْلَام الَّذين فعلوا ذَلِك وشفعوه بِحُضُور الْجَنَائِز حَسبه لله تَعَالَى هِشَام بن عبد الرَّحْمَن من مُلُوك بني أُميَّة بالأندلس حِين أخبرهُ الضَّبِّيّ المنجم بِأَن مدَّته فِي الْملك ثَمَانِيَة أَعْوَام وَنَحْوهَا فَأَطْرَقَ سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه إِلَيْهِ وَقَالَ يَا ضبي مَا أخوفني أَن سَجْدَة الله لقلب طَاعَة لَهُ وَوقر قَوْله فِي نَفسه فزهد فِي الدُّنْيَا وهانت عِنْده وَمَال إِلَى الْآخِرَة وَتَوَلَّى النّظر فِي الرّعية بِخَير مَا نظر نَاظر من الدّين وَالْعدْل والتواضع وَلبس الصُّوف وَاقْتصر فِي مأكله ومركبه وَالْتزم عِيَادَة المرضى وَشهد الْجَنَائِز إِلَى أَن مضى لسبيله وَصدقه الضَّبِّيّ فِي أخباره حَكَاهُ ابْن الْقُوطِيَّة

انعطاف ذكرُوا فِيمَا يحض زِيَارَة الْخَاصَّة لبَعض الْمَقَاصِد الْمُتَقَدّمَة حكايات يَكْفِي مِنْهَا اثْنَتَانِ الْحِكَايَة الأولى قيل مرض شرف الدّين بن عنين فَكتب إِلَى مخدومه الْملك الْمُعظم شرف الدّين ابْن الْملك الْعَادِل سيف الدّين بن أَيُّوب صَاحب دمشق (أنظر إِلَيّ بِعَين مولى لم يزل ... يولي الندا وتلاف قبل تلاف) (أَنا كَالَّذي أحتاج مَا يَحْتَاجهُ ... فأغنم ثنائي وَالدُّعَاء الوافي) فجَاء إِلَيْهِ يعودهُ بِنَفسِهِ وَمَعَهُ صرة فِيهَا ثَلَاثمِائَة دِينَار فَقَالَ هَذِه الصِّلَة وَأَنا الْعَائِد حِكَايَة الثَّانِيَة قيل اشْتَكَى الْأَمِير بخت الملقب بشرف الدّين الخرساني بِحَضْرَة ملك الْهِنْد فَأَتَاهُ الْملك عَائِدًا وَلما دخل عَلَيْهِ أَرَادَ الْقيام فَحلف عَلَيْهِ الْملك أَن لَا ينزل عَن سَرِيره وَوضع للسُّلْطَان متكأة

الركن الثامن عشر

يسمونها المورة فَقعدَ عيها ثمَّ دَعَا بِالذَّهَب وَالْمِيزَان وَأمر الْمَرِيض أَن يقْعد فِي إِحْدَى كفتي الْمِيزَان فَقَالَ لَو علمت أَنَّك تفعل هَذَا للبست عَليّ ثيابًا كَثِيرَة فَقَالَ لله إلبس الْآن مَا عنْدك من الثِّيَاب فَلبس ثِيَابه الْمعدة للبرد المحشوة بالقطن وَقعد فِي كَفه الْمِيزَان وَوضع الذَّهَب فِي الكفة الْأُخْرَى حَتَّى رجح الذَّهَب وَقَالَ لَهُ خُذْهَا هَذَا وَتصدق بِهِ عَن رَأسك الرُّكْن الثَّامِن عشر ظُهُور الْعِنَايَة بِمن لَهُ حق أَو فِيهِ مَنْفَعَة هم أَصْنَاف الصِّنْف الأول آل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخصوصا الشرفاء بِحَسب الْعرف الْمُتَأَخر الإستعمال وهم من لفاطمة رَضِي الله عَنْهَا عَلَيْهِ ولادَة كَرِيمَة وتتضح حمل الْعِنَايَة بهم بِعرْض مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى مِمَّا يدل على وُجُوبهَا على جَمِيع الْأمة أَمْرَانِ أَحدهمَا تَأْكِيد وَصِيَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهم وتشيد الْأَمر بهَا خُصُوصا وعموما فَعَن زيد بن أَرقم رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْشدكُمْ الله فِي أهل بَيْتِي ثَلَاثًا قُلْنَا لزيد من أهل بَيته قَالَ آل عَليّ وَال جَعْفَر وَآل عقيل ال أمهاتهن وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي تَارِك فِيكُم مَا أَن أَخَذْتُم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بَيْتِي فانظروا كَيفَ تخلفون فيهمَا الثَّانِي ضَمَان حبهم وولايتهم للنجاة من النَّار قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معرفَة آل مُحَمَّد بَرَاءَة من النَّار وَحب آل مُحَمَّد جَوَاز على الصِّرَاط وَالْولَايَة لآل مُحَمَّد أَمَان من الْعَذَاب قَالَ عِيَاض عَن بعض الْعلمَاء معرفتهم هِيَ معرفَة مكانهم من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا عرفهم بذلك عرف وجوب حَقهم ومعرفتهم بِسَبَبِهِ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من وَاجِب حَقهم بعد الْمعرفَة لعَظيم شرفهم تَنْفِيذ مَا فرض لَهُم من الْحُقُوق الكائنة لَهُم فِي بَيت مَال الْمُسلمين قبل وُصُول كل ذِي حق إِلَى حَقه كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ حِين دون الْعَطاء قدمهم وَمن يليهم فِي الْقُرْبَى من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى على نَفسه وَقَومه قَائِلا وَهُوَ الْحق الَّذِي أنطقه الله على قلبه وَلسَانه إبدأوا بقرابته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب مِنْهُ حَتَّى تضعوا عمر حَيْثُ وَضعه الله وابدأوا من الْأَنْصَار من سعد بن معَاذ وَالْأَقْرَب بالأقرب مِنْهُ فَقَالَ الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وصلتك رحم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الْفضل لَوْلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومكانه الَّذِي وَصفه الله بِهِ لَكنا كغيرنا من الْعَرَب إِنَّمَا تقدمنا بمكاننا مِنْهُ فَإِن لم نَعْرِف لأهل الْقَرَابَة مِنْهُ قرابتهم لم تعرف لنا مِنْهُ قرابتنا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من مأثور الْقيام بحقهم صلَة وتعظيما حكايتان

الْحِكَايَة الأولى أَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ حج فَلَمَّا قضى حجه وَانْصَرف قَالَ الْحسن رَضِي الله عَنهُ أَن عَليّ دينا وَلَا بُد من لِقَاء هَذَا الرجل وإعلامه فَركب فِي أَثَره وَتَبعهُ فَلحقه فَسلم عَلَيْهِ وَأخْبرهُ بِشَأْنِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يُخبرهُ إِذْ مر عَلَيْهِ بعير من بعض رواحله عَلَيْهِ ثَمَانُون ألف دِينَار وَقد أعيى وتخلف عَن الْإِبِل فَقَالَ لأتباعه مَا هَذَا فأخبروه بِخَبَرِهِ فَقَالَ اصرفوه بِمَا عَلَيْهِ لأبي مُحَمَّد قَالَ ابْن رضوَان عَن أبي سَالم وَفِي تَأْخِير هَذَا الْبَعِير كَرَامَة لِلْحسنِ رَضِي الله عَنهُ الْحِكَايَة الثَّانِيَة أَن عبد الله بن حسن بن حسن قَالَ أتيت عمر بن عبد الْعَزِيز فِي حَاجَة فَقَالَ لي إِذا كَانَت لَك حَاجَة فَأرْسل إِلَيّ أَو أكتب فَإِنِّي استحي من الله تَعَالَى أَن يراك على بَابي الصِّنْف الثَّانِي الْعلمَاء وَمن بَيَان الْعِنَايَة بهم مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى يتَأَكَّد على السُّلْطَان أَن تقع مِنْهُ هَذِه الْعِنَايَة بالمنزلة الَّتِي تُوصَف لفوائد الْفَائِدَة الأولى أَن تعظيمهم من التَّعْظِيم الْوَاجِب لله جلّ جَلَاله فَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن من إجلال الله تَعَالَى إكرام ذِي الشبيه الْمُسلم وحامل الْقُرْآن غير المغالي فِيهِ والجافي فِيهِ وإكرام ذِي السُّلْطَان رَوَاهُ أَبُو دَاوُود

قلت وَيشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى ذَلِك {وَمن يعظم شَعَائِر الله فَإِنَّهَا من تقوى الْقُلُوب} إِذْ هُوَ من جملَة الشعائر المضافة إِلَى الله تَعَالَى الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَن إذايتهم الناشئة عَن الْإِخْلَال بِمَا يجب لَهُم من التَّعْظِيم إِعْلَام بمحاربة الله تَعَالَى وأنى لأحد أَن يُطيق ذَلِك فَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله عز وَجل يَقُول من آذَى لي وليا فقد آذنني بِالْحَرْبِ رَوَاهُ البُخَارِيّ قَالَ الإمامان أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله إِن لم يكن الْعلمَاء أَوْلِيَاء الله فَلَيْسَ لَهُ ولي حَكَاهُ عَنْهُمَا النَّوَوِيّ قَالَ عَن ابْن عَسَاكِر إعلم يَا أخي وفقك الله تَعَالَى وإيانا لمرضاته وَجَعَلنَا مِمَّن

يتقيه ويخشاه حق تُقَاته أَن لُحُوم الْعلمَاء مسومة وَعَادَة الله فِي هتك أَسْتَار متنقصيهم مَعْلُومَة وَأَن من أطلق لِسَانه فِي الْعلمَاء بالثلب ابتلاه الله قبل مَوته يَمُوت الْقلب فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يثيبهم عَذَاب أَلِيم قلت وَمن هَذَا الْمَعْنى قَول الشَّافِعِي الْعلمَاء وَاسِطَة بَين الله تَعَالَى وعباده فَمن أبْغضهُم فقد قطع الْوَاسِطَة بَينه وَبَين الله تَعَالَى إِلَيْهِم وَإِذ ذَاك فَكيف يَصح الِاسْتِغْنَاء عَنْهُم مِمَّن تمسك بشريعة وَمن ثمَّ اخْتَار ابْن الْعَرَبِيّ أَن أولى الْأَمر الْمَأْمُور بطاعتهم الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء قَائِلا لِأَن الْأُمَرَاء أهل الْأَمر مِنْهُم وَالْحكم إِلَيْهِم وَالْعُلَمَاء يجب الْعَمَل بفتواهم مَعَ تسميتهم حكاما فِي قَوْله تَعَالَى يحكم بهَا النبئون الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا والربانيون والأحبار فَرجع الْأَمر كُله للْعُلَمَاء وَزَالَ عَن الْأُمَرَاء لجهلهم واعتدائهم والعادل مِنْهُم مفتقر إِلَى الْعَالم كافتقار الْجَاهِل انْتهى مُلَخصا

الْفَائِدَة الرَّابِعَة أَن الْعِنَايَة بِإِظْهَار الِاعْتِدَاد على مَا لديهم عَسى أَن يكون ناجحة السَّعْي فِي جبر الْخلَل الْوَاقِع مُنْذُ افترق الْأُمَرَاء عَنْهُم ومالوا إِلَى من سواهُم فقد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ كَانَ الْأُمَرَاء قبل هَذَا الْيَوْم وَفِي صدر الْإِسْلَام هم الْعلمَاء والرعية هم الْجند فاطرد النظام وَكَانَ الْعَوام القواد فريقا والأمراء آخر ثمَّ فصل الله الْأَمر بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَة وقضائه السَّابِق فَصَارَ الْعلمَاء فريقا والأمراء آخر وَصَارَت الرّعية صنفا وَصَارَ الْجند آخر فتعارضت الْأُمُور وَلم يَنْتَظِم حَال الْجُمْهُور وَطرح النَّاس عَن الطَّرِيق ثمَّ أَرَادوا الاسْتقَامَة بزعمهم فَلم يجدوها وَلنْ يَجدوا أبدا فَإِنَّهُ من الْمحَال أَن يبلغ الْقَصْد من حاد عَنهُ تذكير تقدم أَن مثل خلال الْخَيْر الدَّال تنافس ذَوي العصبية فِيهَا على اسْتِحْقَاق الْملك والرياسة إجلال الْعَالم وَالْوُقُوف عِنْدَمَا يحده من فعل أَو ترك وَحسن الظَّن بِهِ ظَاهرا وَبَاطنا فَلْيَكُن ذَاك مِنْهَا على بَال من النَّاطِق السَّائِل فَفِيهِ مَا يشْهد لنا هَذِه الْعِنَايَة الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من أثر الْعِنَايَة بهم توفيه مَا لَهُم من الْحق فِي مَال الله وإيصالهم لما وَجب لَهُم مِنْهُ وَأَن تطابق الشَّرْع والسياسة على تَأْكِيد

الْوَصِيَّة بهم وَلَا وضح دَلِيل على نهج من سلك من جادة الْعَمَل بهما على وَاضِحَة السَّبِيل وَفِي العهود اليونانية وَأعلم أَن مواقع الْعلمَاء فِي مملكتك مواقع المصابيح من دَارك فَإِن إضاءتها على حسب تعاهدك إِيَّاهَا فَلَا تشغلها بالكدح فِي معائشها وأعنها بِمَا يقر عينا لتحسن مَا يحسن إياك وبفضل دولتك وأذكر مَا فِي الصَّحِيفَة الصَّفْرَاء أَشد الْأَزْمِنَة زمَان شغل فِيهِ الْعَالم عَن عمله وتفرغ فِيهِ الهازل بهزله وأجدت فِيهِ الرذائل وأكدت فِيهِ الْفَضَائِل فَإِن بِمثلِهِ تختم الدول وتدال الدهور الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من كَافِي الْمَنْقُول فِي الْعَمَل بِهَذِهِ الْعِنَايَة مَعَ الْإِعْرَاض عَن مُوجب الضّر لظُهُور عودهَا بخالص النصح حكايتان الْحِكَايَة الأولى روى الْمقري فِي التحف والطرف أَن القَاضِي أَبَا عبد الله بن أبي الصَّبْر أَمر الْوَالِي بفاس أَن يَبْنِي فندق الشماعين بهَا وَكَانَ قد خرب فتوقف حَتَّى يَأْذَن السُّلْطَان فَقَالَ أَسْلفنِي مَا أنبيه بِهِ فَإِن أجَاز ذَلِك السُّلْطَان وَإِلَّا رَددته عَلَيْك فَفعل فَلَمَّا طُولِبَ ذكر مَا قَالَ لَهُ القَاضِي فَغَضب السُّلْطَان وَبعث فِيهِ فَجعل المبعوثون يأتونه وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ متمهل فِي وضوئِهِ وَإِصْلَاح زيه ومركوبه ثمَّ جعل يمشي الهوينا فَلَقِيَهُ ابْنه فَقَالَ لَهُ أسْرع لقد أَكثر السُّلْطَان من التَّوْجِيه إِلَيْك وَهُوَ وَاجِد عَلَيْك فَقَالَ مِسْكين أَبُو يحيى خلف وَثَبت على حَاله إِلَى أَن لَقِي بعض الصَّالِحين فتعرض إِلَيْهِ فَقَالَ قل بخفى لطفك بلطيف صنعك بجميل سترك دخلت فِي كنفك تشفعت بنبيك فحفظه ثمَّ طلبه فَلم يجده فَجعل يَقُول ذَلِك فَلَمَّا رَآهُ السُّلْطَان سكن مَا بِهِ ثمَّ سَأَلَهُ عَن ذَلِك بِرِفْق فَقَالَ كرهت

الخراب بِقرب الْقرَوِيين وبالشماعين الَّذِي هُوَ عين فاس فَسَأَلت الْوَالِي ذَلِك على أَنِّي أعزم أَن لم تجز وَقلت لَهُ المرجو من السُّلْطَان أَن يَجعله حبسا فَقَالَ فعلت ثمَّ بعث إِلَى الشُّهُود وحبسه على الْجَامِع وشكر القاصي صَنِيعه وَصَرفه مغبوطا تَعْرِيف قَالَ الْمقري توفّي هَذَا السُّلْطَان وَهُوَ أَمِير الْمُسلمين أَبُو يَعْقُوب ابْن أبي يُوسُف بن عبد الْحق محاصرا لتلمسان فِي ذِي الْقعدَة عَام سِتَّة وسِتمِائَة وَكَانَ ابْتِدَاء حصاره إِيَّاهَا فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَكَانَ حصاره لَهَا مُدَّة مائَة شهر انْتهى الْحِكَايَة الثَّانِيَة كَانَ ملك الْعرَاق السُّلْطَان مُحَمَّد خدانبده قد صَحبه فِي حَال كفره فَقِيه من الرافضة الأمامية يُسمى جمال الدّين بن مطهر فَلَمَّا أسلم السُّلْطَان وَأسلم بِإِسْلَامِهِ التتر زَاد فِي تَعْظِيم هَذَا

الْفَقِيه فزين لَهُ هَذَا الْفَقِيه مَذْهَب الرافضة وفضله على غَيره مَعَ حدثان عهد السُّلْطَان بالْكفْر وَعدم مَعْرفَته بقواعد الدّين فَأمر السُّلْطَان بِحمْل النَّاس على الْمَذْهَب الْمَذْكُور وَكتب بذلك إِلَى العراقين وَفَارِس وأذربيجان وأصبهان فَأَما أهل بَغْدَاد فأمتنع أهل بَاب الكرخ مِنْهُم وهم أهل السّنة وَأَكْثَرهم على مَذْهَب الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى وَقَالُوا لَا سمع وَلَا طَاعَة وَأتوا الْمَسْجِد الْجَامِع يَوْم الْجُمُعَة فِي السِّلَاح وَبِه رَسُول السُّلْطَان فَلَمَّا صعد الْمِنْبَر قَامُوا إِلَيْهِ وهم نَحْو إثني عشر ألفا فِي سِلَاحهمْ وهم حماة بَغْدَاد والمشار إِلَيْهِم فِيهَا فَحَلَفُوا أَنه إِن غير الْخطْبَة الْمُعْتَادَة أَو زَاد فِيهَا أَو نقص مِنْهَا فأنهم قَاتلُوهُ وقاتلوا رَسُول الْملك ويستسلمون بعد ذَلِك لما شاءه الله تَعَالَى وَكَانَ السُّلْطَان أَمر بِأَن يسْقط أَسمَاء الْخُلَفَاء وَسَائِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم من الْخطْبَة وَلَا يذكر إِلَّا إسم عَليّ وَمن تبعه كعمار بن يَاسر فخاف الْخَطِيب من الْقَتْل وخطب الْخطْبَة الْمُعْتَادَة وَفعل أهل شيراز وأصبهان كَفعل أهل بَغْدَاد فَرَجَعت الرُّسُل إِلَى الْملك

فأخبروه مَا جرى فِي ذَلِك فَأمر أَن يُؤْتى بقضاة المدن الثَّلَاث فَكَانَ أول من أَتَى مِنْهُم القَاضِي مجد الدّين قَاضِي شيراز وَالسُّلْطَان إِذْ ذَاك فِي مَوضِع يعرف بكراباج وَهُوَ مَوضِع مصيفه فَلَمَّا وصل القَاضِي أَمر أَن يرْمى بِهِ إِلَى الْكلاب الَّتِي كَانَت عِنْده وَهِي كلاب ضخام فِي أعناقها السلَاسِل معدة لأكل بني آدم فَلَمَّا أرْسلت الْكلاب على القَاضِي مجد الدّين ووصلت إِلَيْهِ بصبصت لَهُ وحركت أذنابها بَين يَدَيْهِ وَلم تؤذه بِشَيْء فَبلغ السُّلْطَان ذَلِك فَخرج من دَاره حافي الْقَدَمَيْنِ فأكب على رجْلي القَاضِي وقبلهما وَأخذ بيدَيْهِ وقبلهما وخلع عَلَيْهِ جَمِيع مَا كَانَ عَلَيْهِ من الثِّيَاب وَهِي أعظم كرامات السُّلْطَان عَنْهُم وَإِذا خلع ثِيَابه على أحد كَانَت تشرفا لَهُ ولبنيه وَلَا عِقَابه يتوارثونه مَا دَامَت تِلْكَ الثِّيَاب أَو شَيْء مِنْهَا وَرجع السُّلْطَان عَن مَذْهَب الرَّفْض وَكتب

الصنف الثالث

إِلَى بِلَاده أَن يقر النَّاس على مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وأجزل العطايا للْقَاضِي وَصَرفه إِلَى بَلَده مكرما مُعظما وَأَعْطَاهُ فِي جملَة مَا أعطَاهُ مائَة قَرْيَة من قرى جهكان وَهُوَ خَنْدَق جبلين طوله أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ فرسخا يشقه نهر عَظِيم وَذَلِكَ بشيراز الصِّنْف الثَّالِث الصالحون وَمِنْه تَقْرِير الْعِنَايَة أَيْضا بهم مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى وجوب الْعِنَايَة بِهَذَا الصِّنْف الْكَرِيم من صنف الفائدتين السابقتين من الْفَوَائِد الْمُتَقَدّمَة فِي مُوجب الْعِنَايَة بصنف الْعلمَاء لَا يخفى ظُهُوره وَمن الزَّائِد على ذَلِك فائدتين الْفَائِدَة الأولى أَن برؤيتهم عِنْد قصد الْمُبَالغَة فِي التَّعْظِيم لَهُم تحي الْقُلُوب الْميتَة وتنشرح الصُّدُور الضيقة وتهون الْأُمُور الصعبة قَالَ ابْن الْحَاج لأَنهم وقُوف على بَاب الْمولى الْكَرِيم فَلَا يرد قاصدهم وَلَا يخيب مجَالِسهمْ وَمن كَانَ كَذَلِك فَيَنْبَغِي الْمُبَادرَة إِلَى رُؤْيَته واغتنام بركته الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَن مبرتهم قد سبق فِي الْكتاب الأول أَنَّهَا من عَلامَة الترشيح لنيل الْملك كَمَا أَن الْإِخْلَال بهَا من مخايل الإدبار والتخلف عَن اسْتِحْقَاق الرِّئَاسَة وخليق بِمَا هُوَ بِهَذِهِ الْمنزلَة أَن يكون من الْأُمَرَاء على مَا هُوَ عَلَيْهِ فهم أَحَق بذلك من سَائِر النَّاس الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من أَنْفَع مصداق الْعِنَايَة بهم ثمرتان أَحدهمَا سَماع مَا ينفعون بِهِ من وعظ ونصيحة فقد جعل الْغَزالِيّ

من وظائف الْوُلَاة تعطشهم إِلَى نصيحة من يعْتَبر فِي الدّين ونصيحة مواعظ من سلف من الْمَشَايِخ وَأولى عِنْد سماعهَا مِنْهُم شفاها الثَّانِيَة قبُول شفاعتهم إِذْ لَا يشفع ذُو دين إِلَّا فِي مَحل قبُول الشَّفَاعَة فيتأكد لاكرام الشَّفِيع عَن الِاعْتِذَار مَا لَا يُقيم حجَّة فضلا عَن المواجهة بالمرد من غير إبداء عذر وَسَيَأْتِي فِي قبُول الشَّفَاعَة إِن شَاءَ الله الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من الْمَنْقُول فِي قبُول النصح والشفاعة مِنْهُم حكايتان الْحِكَايَة الأولى قيل دخل عَطاء بن أبي رَبَاح على عبد الْملك بن مَرْوَان وَهُوَ جَالس على سَرِيره وَحَوله الْأَشْرَاف من كل بطن وَذَلِكَ بِمَكَّة فِي وَقت حجه فِي خِلَافَته فَلَمَّا بصر بِهِ قَامَ إِلَيْهِ وَأَجْلسهُ على سَرِير وَقعد بَين يَدَيْهِ قَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد مَا حَاجَتك قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اتَّقِ الله فِي حرم الله وَحرم رَسُوله فتعاهد بالعمارة وَاتَّقِ الله فِي أَوْلَاد الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فَإنَّك بهم جَلَست هَذَا الْمجْلس وَاتَّقِ الله أهل الثغور فَإِنَّهُم حصن الْمُسلمين وتفقد أُمُور الْمُسلمين فَإنَّك وَحدك مسؤول عَنْهُم وَاتَّقِ الله فِيمَن على بابك فَلَا تغفل عَنْهُم وَلَا تغلق بابك دونهم فَقَالَ لَهُ أفعل ثمَّ أنهض فَقَامَ فَقبض عَلَيْهِ عبد الْملك قَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد إِنَّمَا سألتنا حَاجَة لغيرك وَقد قضيناها فَمَا حَاجَتك قَالَ مَالِي حَاجَة مَخْلُوق ثمَّ خرج فَقَالَ عبد الْملك هَذَا وَأَبِيك الشّرف هَذَا وَأَبِيك الشّرف هَذَا أَبِيك الشّرف الْحِكَايَة الثَّانِيَة روى ابْن الْحَاج عَن الشَّيْخ أبي الْحسن بن الزيات

رَحمَه الله أَنه خرج إِلَى بستانه ليعْمَل فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ من عَادَته أَن يخرج إِلَى حَائِطه ليعرق بِيَدِهِ وَإِذا بِبَعْض الظلمَة أَخَذُوهُ مَعَ غَيره فِي السخرية لبستان السُّلْطَان فَمضى مَعَهم وَقعد يعْمل مَعَهم إِلَى أَن جَاءَ الْوَزير وَدخل الْبُسْتَان لينْظر مَا عمل فِيهِ فَإِذا بِهِ وَقعت عينه على الشَّيْخ وَهُوَ يعْمل فطأطأ على قَدَمَيْهِ يقبلهما فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي مَا جَاءَ بك هَاهُنَا فَقَالَ أعوانكم الظلمَة فَقَالَ يَا سَيِّدي عَسى أَنَّك تقيلنا وَتخرج فَأبى فَقَالَ لَهُ وَلم قَالَ هَؤُلَاءِ إخْوَانِي من الْمُسلمين كَيفَ أخرج وهم فِي ظلمكم لَا أفعل ذَلِك فَسَأَلَهُ أَن يخرج بهم فَأبى فَقَالَ وَلم فَقَالَ غَدا يأخذونهم إِن كَانَت لكم بهم حَاجَة فَلم يخرج من هُنَاكَ حَتَّى تَابُوا إِلَى الله تَعَالَى أَن لَا يستعملوا أحدا من الْمُسلمين ظلما الصِّنْف الرَّابِع أَصْحَاب الْوَفَاء مَعَ ذِي الْيَد السَّابِقَة وَفِي وَجه الْعِنَايَة بهم مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الجاحظ من أَخْلَاق الْملك إكرام أهل الْوَفَاء وبرهم والثقة بهم والتقدمة لَهُم على الْخَاص وَالْعَام والحاضر والبادي قَالَ وَكَانَت مُلُوك الْأَعَاجِم لَا يمْنَع أحدا شكر من أنعم عَلَيْهِ وَذكر نعْمَته وإحسانه وَإِن كَانَت الشَّرِيعَة قد قبلته وَالْملك قد سخط عَلَيْهِ بل كَانُوا يعْرفُونَ فَضِيلَة من ظهر ذَلِك مِنْهُ ويأمرون بصلته وتعاهده

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من وُجُوه الصَّوَاب فِيمَا فعلوا من ذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا دلَالَة الْوَفَاء مَعَ الْمُدبر على حُصُوله مَعَ الْمقبل من بَاب أولى قَالَ الْمَنْصُور لاسحاق بن ميلم أفرطت فِي وفائك لبني أُميَّة قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه من قد وفى لمن لَا يُرْجَى كَانَ لمن رجى أوفى الثَّانِي شَهَادَة الْمُقَابلَة لَهُ بالكرامة على حسن عَاقِبَة التخلق بِهِ وَحمل مَا يصير إِلَيْهِ صَاحبه فَفِيهَا تحضيض عَلَيْهِ وإعلام فَإِن إستحقاق الآثرة بهَا على مِقْدَار الْحَظ مِنْهُ والنصيب الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة كَمَا أكْرمُوا أهل الْوَفَاء ووثقوا بهم فبعكس ذَلِك قابلوا أضدادهم وَمن الْوَجْه فِي ذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن عدم الْوَفَاء مَعَ ذِي الْيَد السَّابِقَة دَلِيل عَدمه مَعَ من سواهُ مَا تقدم فِي التَّمْثِيل إِذا رَأَيْت كَلْبا تبعك وَترك صَاحبه فأرجمه فَإِنَّهُ باركك كَمَا تَركه وَعَن أبي عَمْرو بن الْعلَا إِذا أردْت أَن تعرف مَالك عِنْد صديقك فاعرف مَا كَانَ لصديقه قبلك عِنْده الثَّانِي أَن فِي إهانتهم المصاعد بِهِ بالعفاف زجرا لأمثالهم عَن سوء الْعَهْد وكفران النِّعْمَة وَإِن عَاد نفع ذَلِك على من عاقبهم عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من المروى فِي الْعَمَل بِمُقْتَضى مَا ذكر كَرَامَة وإهانة حكايتان الْحِكَايَة الأولى أَن أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور وَجه إِلَى رجل من أهل الشَّام من شَيبَان وَكَانَ من بظانة هِشَام فَسَأَلَهُ عَن التَّدْبِير هِشَام فِي بعض حَرْب

الْخَوَارِج فوصف لَهُ الشَّيْخ مَا دبر فَقَالَ يعْمل رَحمَه الله كَذَا رَحمَه الله كَذَا فَقَالَ الْمَنْصُور قُم عَلَيْك لعنة الله تطَأ بساطي وتترحم على عدوي فَقَامَ الرجل وَهُوَ يَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن نعْمَة عَدوك لقلادة فِي عنقِي لَا يتنزعها إِلَّا غاسلي فَقَالَ الْمَنْصُور ارْجع يَا شيخ فَرجع فَقَالَ أشهد أَنَّك نهيض حرَّة وغراس كريم عد إِلَى حَدِيثك فَعَاد الرجل حَدِيثه حَتَّى إِذا فرغ دَعَا لَهُ بِمَال فَأَخذه وَقَالَ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَالِي إِلَيْهِ حَاجَة وَلَقَد مَاتَ عني الَّذِي كنت ذاكره آنِفا فَمَا أحوجني إِلَى الْوُقُوف على بَاب أحد بعده وَلَوْلَا جلالة عز أَمِير الْمُؤمنِينَ وإيثار طَاعَته مَا لَيست لأحد بعده نعْمَة فَقَالَ الْمَنْصُور مت إِذا شِئْت يَا شيخ فتحمد الله أَنْت فَلَو لم يكن لقَوْمك غَيْرك كنت قد أبقيت لَهُم مجدا مخلدا الْحِكَايَة الثَّانِيَة أَن ازدشير أَقَامَ على حِصَار السُّلْطَان الساطرون أَربع سِنِين وَهُوَ لَا يقدر عَلَيْهِ وَكَانَ للساطرون ابْنة يُقَال لَهَا نضيرة وَكَانَت فِي غَايَة الْجمال فَأَشْرَفت ذَات يَوْم فَأَبْصَرت أزدشير وَكَانَ من أجمل الرِّجَال فهوته فَأرْسلت إِلَيْهِ أَن يَتَزَوَّجهَا وتفتح لَهُ الْحصن واشترطت عَلَيْهِ وَالْتزم لَهَا مَا شرطت ثمَّ دلته على مَا فتح بِهِ الْحصن وَخَرَّبَهُ وأباد أَهله وَسَار بنضيرة وَتَزَوجهَا فَبَيْنَمَا هِيَ نَائِمَة على فراشها لَيْلًا إِذْ جعلت تتقلب وتتململ لَا تنام فَدَعَا لَهَا بالشمع ففتشوا فراشها فَوجدَ عَلَيْهِ ورقة آس فَقَالَ لَهَا أزدشير هَذَا الَّذِي أسهرك قَالَت نعم قَالَ فَمَا كَانَ أَبوك يصنع بك قَالَت كَانَ يفرش لي الديباج ويلبسني الْحَرِير ويطعمني المخ والزبد وَشهد أبكار النَّحْل ويسقيني الْخمر الصافي قَالَ أَفَكَانَ

جَزَاء أَبِيك مَا صنعت بِهِ أَنْت إِلَيّ بذلك أسْرع ثمَّ أَمر بهَا فَربطت قُرُون رَأسهَا بذيل فرس ثمَّ ركض الْفرس حَتَّى قَتلهَا وجهاء النَّاس وكبراء الْقَبَائِل ولمكان الْعِنَايَة بهم مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى للسُّلْطَان من هَذَا الصِّنْف حاجتان أَحدهمَا أَن يفْتَقر إِلَيْهِم فِي ظُهُور ملكه أَو مقَامه ولاخفاء أَن الْعِنَايَة بهم إِذْ ذَاك لابد عَنْهَا ضَرُورَة وَقد تقدم برهَان ذَلِك فِيمَا سبق أَن يسْتَغْنى عَنْهُم اكْتِفَاء بِمَا رسم لَهُ من الْملك وَتمّ لَهُ من أمره والعناية بهم اعْتِبَارهَا من جِهَة مَا هُوَ مكمل لمقاصد الْملك كوقوع الصنيعة فِي محلهَا وجمال الدولة بهَا واستتباع قُلُوب الرّعية بكرامة سادتها إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يخفى على متأمل الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة حَاصِل الْعِنَايَة بهم بعد الْوَفَاء بفوائد الْعَطاء فرضا وإحسانا إِن استوجبوه أَمْرَانِ أَحدهمَا تَوْلِيَة الْمُسْتَحق مِنْهُم بِحَسب مَا تَقْتَضِيه رتبته وتوجيه السياسة الوقتية وَلَا يخفى صَلَاح ذَلِك خُصُوصا وعموما الثَّانِي تقريب مَا فَاتَهُ ذَلِك فِي ذَاته عَن صَلَاحِية الْولَايَة أَو لموجب غير ذَلِك يتَرَجَّح اعْتِبَاره وَرُبمَا كَانَ فِي بعض الطَّبَقَات أحظى من الْولَايَة وأشرف مِنْهَا خُصُوصِيَّة وَالنَّظَر السديد كَفِيل بِمَا هُوَ الْمصلحَة من ذَلِك كُله الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من الْإِقْرَار بِحسن السياسة فِي تقريب هَذِه الطَّبَقَة مَا تضمنه تَعْرِيف الْحجَّاج بالسيرة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي زَعمه يرْوى أَن الْوَلِيد كتب إِلَيْهِ أَن يكْتب إِلَيْهِ بسيرته فَكتب إِلَيْهِ إِنِّي أيقظت رَأْيِي وأنمت هواي وأدنيت

السَّيِّد المطاع فِي قومه وَوليت الْحَرْب الحازم فِي أمره وقلدت الْخراج للموفي لأمانته وَقسمت لكل خصم من نَفسِي قسما أعْطِيه حَقًا من نَظَرِي ولطيف عنايتي وصرفت السَّيْف إِلَى العصب الْمُسِيء فخاف المذنب صولة الْعقَاب وَتمسك المحسن بحظه من الثَّوَاب الصِّنْف السَّادِس الْأَغْنِيَاء من الرعايا ولبيان مَا يخصهم مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى وجوب الاعتناء بِهَذَا الصِّنْف ظَاهر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن المَال الَّذِي هُوَ عُمْدَة الْملك إِنَّمَا وفوره بِتَعَدُّد مداخله وَمن أعودها بالنفع الجباية وَالْخَرَاج وعَلى مِقْدَار يسَار الْمَأْخُوذ مِنْهُ ذَلِك فيتوفر المَال لَا محَالة فيقوى الْملك وترسخ قَوَاعِده الثَّانِي أَن من وَرَاء هَذَا الأَصْل الضَّرُورِيّ لاعْتِبَار مكملاته الْمَقْصُودَة مَا هُوَ حقيق بالرغبة وبذل الْجهد فِي تَحْصِيله فَفِي العهود اليونانية وَاعْلَم أَن يسَار رعيتك وَعظم أخطارها يزِيد فِي مملكتك شرفا وذكرك حمدا وَأَن فاقتهم وذلهم نقص مِنْك وتقصير بك فغلب أليق الْحَالين بمحلك وأحسنهما أثرا فِي جاهك وصيتك الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة رِعَايَة التُّجَّار من هَؤُلَاءِ وخصوصا للمسافرين مِنْهُم كَمَا وَردت الْوَصِيَّة بِهِ مُبين فِيهِ التَّوْجِيه أوضح بَيَان قَالَ ابْن رضوَان مُلَخصا لما قيل فِي ذَلِك مِمَّا يتَأَكَّد كثيرا الاعتناء بالتجار الضاربين فِي الأَرْض لطلب المكاسب يصونهم من الظُّلم وَلما

فِي ذَلِك من استمالة الْقُلُوب النازحة واستجلاب الذَّخَائِر الخطيرة والأحجار النفيسة والطرف المستحسنة وَالْأَخْبَار الغريبة وَيَأْمُر الْعمَّال بمحايطتهم وَأَن يعرف لكل فضل مِنْهُم فَضله الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من مستحسن المحكى من المبرة بالتجار الغرباء سفرا وَإِقَامَة سيرتان السِّيرَة الأولى قَالَ ابْن رضوَان أخبر الثقاة أَن بِلَاد الصين من آمن الْبِلَاد وأحسنها حَالا للمسافرين فَإِن الْإِنْسَان يُسَافر بهَا مُنْفَردا وَتَكون مَعَه الْأَمْوَال الطائلة فَلَا يخَاف عَلَيْهَا وترتيب ذَلِك أَن لَهُم فِي كل منزل ببلادهم فندقا عَلَيْهِ حَاكم يسكن فِيهِ فِي جمَاعَة من الفرسان وَالرِّجَال فَإِذا كَانَ بعد الْمغرب أَو الْعشَاء الْآخِرَة جَاءَ الْحَاكِم إِلَى الفندق وَمَعَهُ كَاتب فَيكْتب أَسمَاء جَمِيع من يبيت بِهِ من الْمُسَافِرين وَيخْتم عَلَيْهِ ويغلق بَاب الفندق عَلَيْهِم فَإِذا كَانَ بعد الصُّبْح جَاءَ وَمَعَهُ كَاتبه فَدَعَا كل إِنْسَان باسمه وَكتب بذلك تَفْسِير وَبعث مَعَهم من يوصلهم إِلَى الْمنزل التَّالِي لَهُ ويأتيه بَرَاءَة من حاكمه أَن الْجَمِيع قد وصلوا إِلَيْهِ وَإِن لم يفعل طُولِبَ بهم وَهَكَذَا الْعَمَل فِي كل منزل من بِلَاد الصين وَفِي هَذِه الفنادق جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ المسافرون من الأزواد وخصوصا الدَّجَاج والإوز وَأما الْغنم فَهِيَ قَليلَة عِنْدهم السِّيرَة الثَّانِيَة قَالَ وَمن عَادَتهم منع التُّجَّار عَن الْفساد وَإِذا قدم التَّاجِر الْمُسلم على بلد من بِلَاد الصين خير فِي النُّزُول عِنْد تَاجر من الْمُسلمين المستوطنين مَعَهم أَو فِي الفندق فَإِن أحب النُّزُول عِنْد التَّاجِر

الْمُسلم أحصى مَاله وَضَمنَهُ التَّاجِر المستوطن وَأنْفق عَلَيْهِ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا أَرَادَ السّفر بحث عَن مَاله فَإِن وجد شَيْئا مِنْهُ قد ضَاعَ غرمه التَّاجِر المستوطن الَّذِي ضمنه وَإِن أَرَادَ النُّزُول بالفندق سلم مَاله لصَاحب الفندق وَهُوَ يَشْتَرِي لَهُ مَا أحب ويحاسبه فَإِن أَرَادَ التَّسَرِّي اشْترى لَهُ جَارِيَة وَأَسْكَنَهُ بدار يكون بهَا فِي الفندق وَأنْفق عَلَيْهِمَا والجواري رخيصات الْأَثْمَان لِأَن أهل الصين أَجْمَعِينَ يبيعون أَوْلَادهم وبناتهم وَلَيْسَ ذَلِك عَيْبا عِنْدهم غير أَنهم لَا يجبرون على السّفر مَعَ مشتريهم وَلَا يمْنَعُونَ أَيْضا مِنْهُ من اخْتَارَهُ وَكَذَلِكَ إِن أَرَادَ التَّزْوِيج تزوج وَأما إِنْفَاق مَالهم فِي الْفساد فشيء لَا سَبِيل لَهُم إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَا يسمع أَنهم يخسرون أَمْوَالهم فِي بِلَادنَا وَهِي أَرض فَسَاد وجمال فائق مُبَالغَة الْكِرَام قَالَ كَانَ من عَادَة ملك الْهِنْد السُّلْطَان أبي الْمُجَاهِد مُحَمَّد شاه إكرام الغرباء ومحبتهم وتخصيصهم بالولايات والمراتب

الركن السابع

الرفيعة ومعظم خواصه من صحابته ووزرائه وقضاته غرباء وَلِهَذَا أَمر أَن يُسمى الغرباء فِي بِلَاده بالأعزة فَصَارَ ذَلِك لَهُم علما الْخَامِس استعانة التَّدْبِير بهَا عِنْد التَّقْصِير عَنهُ ولاخفاء بتأكيد الْحَاجة إِلَيْهَا فِي هَذِه الْحَالة لِأَن الْقُدْرَة عَلَيْهِ إِذا كَانَت لَا تنفك عَن غرر الْخُصُومَة لن تتأيد بهَا فَمَا أَحْرَى أَن تتَحَقَّق عِنْد الاستبداد لِئَلَّا تنهض الْبَتَّةَ انْتهى الرُّكْن السَّابِع مُكَافَأَة ذَوي السوابق وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن المقفع ليعلم الْملك أَن النَّاس يصفونَ الْمُلُوك بِسوء الْعَهْد فليتدبر بعض قَوْلهم وليكذب عَن نَفسه وعنهم صِفَات السوء الَّتِي يصفونَ بهَا قلت فليراعي الْعَهْد بِحسن الْمُكَافَأَة عَلَيْهِ مستعينا فِي انتهاضه إِلَيْهِ ملاحظا مَا يحمل عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وَذَلِكَ أُمُور أَحدهمَا أَنه مِمَّا لَا لَهُ فِي هَذَا الْملك الْمَطْلُوب أَولا وَمَا هُوَ كَذَلِك فجدير أَن يستدام بِهِ مَا أنال من قصد وَبلغ من مُرَاد قيل للإسكندر بِمَ نلْت مَا نلْت قَالَ باستمالة الْأَعْدَاء وَالْإِحْسَان إِلَى الأصدقاء

الثَّانِي أَنه لَا يَلِيق بالسلطان الشريف النَّفس أَن ينْفَرد بنعيم الْملك وذوو السوابق لَدَيْهِ لم يفض عَلَيْهِم مِمَّا رزق مِنْهُ قَالَ السفاح بِنَا أَن تكون الدُّنْيَا لنا وأولياؤنا ضالون عَن حصن ودادنا الثَّالِث أَنه عِنْد كملاء الْمُلُوك من اعظم اللَّذَّات الَّتِي يفيدها الْملك ويحظى بهَا من فازت قداحه قيل للإسكندر أَي شَيْء نلته فِي ملكك كنت بِهِ اشد سُرُورًا من غَيره قَالَ الْقُوَّة على مكفأة من أحسن إِلَيّ الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من الْوَارِد فِي الْحسن الْمُكَافَأَة على السَّابِقَة الَّتِي لَا خطر لَهَا حكايتان الْحِكَايَة الأولى أَن عبيد الله بن الْعَبَّاس أَتَاهُ رجل فَقَامَ بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا ابْن عَبَّاس إِن لي عنْدك يدا وَقد احتجت إِلَيْهَا فَنظر إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ مَا يدك قَالَ رَايَتك وَاقِفًا بزمزم وغلامك يمتح من مَائِهَا وَالشَّمْس قد أضربت بك فظللتك بكسائي حَتَّى شربت فَقَالَ أجل إِنِّي لأذكر ذَلِك وَأَنه ليتردد فِي خاطري وَقَالَ لغلامه مَا عنْدك قَالَ مائَة دِينَار وَعشرَة آلَاف دِرْهَم قَالَ ادفعها إِلَيْهِ مَا أَرَاهَا تفي بِحَق يَده فَقَالَ لَهُم الرجل وَالله لَو لم يكن لإسماعيل ولد غَيْرك لَكَانَ فِيك مَا كَفاهُ فَكيف وَقد ولد سيد الْمُرْسلين الْأَوَّلين والآخرين مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ شفع بك وبأبيك قيل وَهَذَا عبيد الله أول من وضع الْمرَافِق على الطَّرِيق

الْحِكَايَة الثَّانِيَة عَن الْفضل بن الرّبيع قَالَ خرج الْمهْدي متنزها وَمَعَهُ ابْن بزيغ فَانْقَطع عَن الْعَسْكَر وَالنَّاس فِي الصَّيْد وَأصَاب الْمهْدي جوع شَدِيد فَقَالَ عمر وَيحك أُرِيد إنْسَانا أجد عِنْده مَا نَأْكُل فَمَا زَالَ عمر يطوف إِلَى أَن وجد صَاحب مبقلة إِلَى جَانِبه فَصَعدَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عمر هَل عنْدك شَيْء يُؤْكَل قَالَ نعم رقاق من الْخبز شعير وزبيب وَهَذَا البصل والكراث فَقَالَ لَهُ الْمهْدي إِن كَانَ عنْدك زبيب فقد أكملت قَالَ نعم عِنْدِي فضلَة مِنْهُ فَقدم إِلَيْهِمَا ذَلِك فأكلا كثيرا وَجعل الْمهْدي يَسْتَطِيب آكله ويمعن فِيهِ حَتَّى لم يبْق فِيهِ فضل ووافى الْعَسْكَر وَلَحِقتهُ الخزائن والخدم فَأمر لصَاحب المبقلة بِثَلَاث آلَاف دِرْهَم

الركن العشرون

الرُّكْن الْعشْرُونَ تخليد مفاخر الْملك ومآثره وَهُنَاكَ مقدمتان الْمُقدمَة الأولى أَن من سَعَادَة السُّلْطَان سَعْيه فِي تشييد مفاخر الْملك وتخليد مآثره الشاهدة بِكَمَال النِّيَابَة بِهِ فِي الظُّهُور كَمَا قَالَ أفلاطون السعيد من تمت بِهِ رياسة آبَائِهِ والشقي من انْقَطَعت عِنْده وَفِي مَعْنَاهُ قَول بعض الْحُكَمَاء إِن أبر الْمُلُوك من تمّ بِهِ سعي سلفه وأعقهم من أنقطع سَعْيهمْ عِنْده الْمُقدمَة الثَّانِيَة أَن تَحْصِيل هَذِه السَّعَادَة حقيق أَن يرغب فِيهِ لأمرين أَحدهمَا ثَوَاب الْآخِرَة وَنَعِيمهَا المخلد الْملك الْكَبِير لقَوْله تَعَالَى {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سنّ سنة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا من بعده من غير أَن ينقص من أجرهم شَيْئا لَهُ الحَدِيث الثَّانِي عز الدّين بتخليد جميل الذّكر وَالثنَاء الْحسن كَمَا قَالَ (وَهل شَيْء يَدُوم سوى حَدِيث ... جميل الذّكر فالدنيا حَدِيث) حَدِيث موعظة قَالَ الطرطوشي أثر تَقْرِيره لهَذَا الْمَعْنى فانتهز فرْصَة الْعُمر ومساعدة الدُّنْيَا وَقدم لنَفسك كَمَا قدمُوا تذكر بالصالحات كَمَا ذكرُوا وَأعلم أَن الْمَأْكُول للبدن والموهوب للمعاد والمتروك للعدى فاختر أَي الثَّلَاثَة شِئْت وَالسَّلَام مرجع إِذا تقرر هَذَا مِمَّا بِهِ نيل السَّعَادَة وَهُوَ مَا يشيد بِهِ مفاخر الْملك يخلد بِهِ مآثره يظْهر من حِكَايَة مَا نقل مِنْهُ عَن جلة الْمُلُوك وأعيان الوزراء فَهُنَا مقامان

الْمقَام الأول مَا نقل مِنْهُ عَن الْمُلُوك وَالْكَافِي مِنْهُ خبران الْخَبَر الأول قَالَ ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان أبي سعيد الْمَدْعُو بِالْملكِ الْمُعظم مظفر الدّين صَاحب أربل كَانَ لَهُ فِي فعل الْخيرَات غرائب وَلم يكن فِي الدُّنْيَا شَيْء أحب إِلَيْهِ من الصَّدَقَة كَانَ لَهُ فِي كل يَوْم قناطير مقطرة من الْخبز يفرقها على المحاويج فِي عدَّة مَوَاضِع من الْبَلَد يجْتَمع فِي كل يَوْم فِي الْموضع خلق كثير فَيُفَرق عَلَيْهِم فِي أول النَّهَار وَإِذا نزل من الرّكُوب يكون قد اجْتمع جمع كثير عِنْد الدَّار فيدخلهم إِلَيْهِ وَيدْفَع لكل وَاحِد مِنْهُم كسْوَة على قدر الْفَصْل من الشتَاء والصيف وَغَيرهمَا وَمَعَ الْكسْوَة شَيْء من الذَّهَب من الدِّينَار إِلَى الْإِثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة وَأَقل وَأكْثر وَكَانَ قد بنى أَرْبَعَة مَوَاضِع للمرضى والعميان وملأها من هذَيْن الصِّنْفَيْنِ وَقدر لَهُم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ كل وَاحِد وَكَانَ يَأْتِيهم فِي كل عصر إثنين وخميس وَيدخل إِلَى كل وَاحِد فِي بَيته ويسأله عَن حَاله ويتفقده بِشَيْء من النَّفَقَة وينتقل إِلَى الآخر وَهَكَذَا حَتَّى يَأْتِي على جَمِيعهم وَهُوَ يباسطهم ويمزح وَيجْبر قُلُوبهم قَالَ وَكَانَ رَحمَه الله قد بنى دَارا للنِّسَاء الأرامل ودارا للصغار الْأَيْتَام ودارا للملاقيط رتب بهَا جمَاعَة من المراضع وكل مَوْلُود ملتقط يحمل إِلَيْهَا فيرضع وَيجْرِي على أهل كل دَار مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي كل يَوْم وَكَانَ يدْخل إِلَيْهَا فيرضع وَيجْرِي على أهل كل دَار مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي كل يَوْم وَكَانَ يدْخل للمارستان وَيقف على كل مَرِيض يسْأَله عَن مَرضه وَكَيْفِيَّة حَاله وَمَا يشتهيه وَكَانَ لَهُ دَار مضيف يدْخل إِلَيْهَا كل قادم على الْبَلَد من فَقير أَو صَغِير أَو غَيرهمَا وعَلى الْجُمْلَة فَمَا كَانَ يمْنَع مِنْهَا كل من قصد الدُّخُول أليها وَلَهُم فِي الدَّار الْغَدَاء وَالْعشَاء وَإِذا عزم الْإِنْسَان على السّفر أَعْطوهُ نَفَقَة على مَا يَلِيق بِمثلِهِ

وَبنى مدرسة رتب فِيهَا الْفَرِيقَيْنِ من الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وَكَانَ كل وَقت يَأْتِيهَا بِنَفسِهِ وَيعْمل السماط بهَا ويتطيب وَيعْمل السماع فَإِذا طلب خلع شَيْئا من ثِيَابه وييسر للْجَمَاعَة شَيْئا من الْأَنْعَام وَلم يكن لَهُ لَذَّة سوى السماع فَإِنَّهُ كَانَ لَا يتعاطى الْمُسكر وَلَا يُمكن من ادخله غلى الْبَلدة وَبنى للصوفية زاويتين فيهمَا خلق كثير من المقيمين والواردين ويجتمع فِي أَيَّام المواسم فِيهَا خلق كثير وَلَهُمَا أوقاف وافرة تقوم بِجمع مَا يحناج إِلَيْهِ ذَلِك الْجمع وَلَا بُد عِنْد سفر وَاحِد من نَفَقَة يَأْخُذهَا وَكَانَ يسير فِي كل سنة دفعتين مَعَ جمَاعَة من اصفائه إِلَى بلد السَّاحِل وَمَعَهُمْ جملَة وافرة من أَمْوَال يفْدي بهَا بهَا أُسَارَى الْمُسلمين من أَيدي الْكَافرين فَإِذا وصلوا إِلَيْهِ أعْطى كل وَاحِد مَالا وَإِن لم يصل لَهُ الْأُسَارَى فالأمناء يعطونههم بِوَصِيَّة مِنْهُ فِي ذَلِك وَكَانَ يُقيم فِي كل سنة سبلا للْحَاج ويسير مَعَه جَمِيع مَا تَدْعُو حَاجَة الْمُسَافِر إِلَيْهِ فِي الطَّرِيق ويسير صحبته أُمَنَاء مَعَهم خَمْسَة آلَاف دِينَار أَو سِتَّة آلَاف دِينَار ينفقها فِي الْحَرَمَيْنِ على المحاويج وأرباب الرَّوَاتِب وَله بِمَكَّة حرسها الله تَعَالَى آثَار جميلَة وَبَعضهَا بَاقٍ إِلَى الْآن وَهُوَ أول من أجْرى المَاء إِلَى جبل عَرَفَات فِي لَيْلَة الْوُقُوف وَغرم عَلَيْهِ جملَة كَثِيرَة من المَال وَعمر بِالْجَبَلِ مصانع للْمَاء فَإِن الْحجَّاج كَانُوا يتضررون من عدم المَاء هُنَاكَ وَكَانَ رَحمَه الله مَتى أكل شَيْئا واستطابه لَا يخْتَص بِهِ بل يَقُول احملوا هَذَا إِلَى الشَّيْخ فلَان أَو فُلَانَة مِمَّن هم عِنْدهم مَشْهُور بِالسِّلَاحِ قلت قَالَ ابْن رضوَان وَكَأَنَّهُ نظر إِلَى مَا حكى أَنه كَانَ مَكْتُوبًا على جَوَانِب مائدة أنو شرْوَان خير الْمُلُوك مَا كَانَ طَعَامه من حلّه وَعَاد على ذَوي الْحَاجَات من فَضله انْتهى

الْخَبَر الثَّانِي قَالَ كَانَ أَبُو الْفَتْح ملك شاه بن البارسلان السلجوقي مغرما بالعمائر فحفر كثيرا من الْأَنْهَار وَعمل على كثير من الْبلدَانِ الأسوار وابتنى فِي المفاوز رباطات وقناطير وَهُوَ الَّذِي عمر جَامع السُّلْطَان بِبَغْدَاد فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَزَاد فِي ذكر السلطنة بهَا وصنع بطرِيق مَكَّة مصانع وأتفق عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة خَارِجَة عَن الْحصْر وأبطل المكوس والخفارات فِي جَمِيع بِلَاده وَكَانَ لهجا بالصيد حَتَّى أَنه ضبط مَا اصطاده بِيَدِهِ فَكَانَ عشرَة آلَاف فَتصدق بِعشْرَة آلَاف دِينَار بعد أَن نسي كثيرا مِنْهُ وَقَالَ إِنِّي خَائِف من الله تَعَالَى من إزهاق الْأَرْوَاح لغير مآكله وَصَارَ بعد ذَلِك كلما قتل صيدا تَصْدِيق بِدِينَار وَخرج مرّة لتوديع الْحَاج فجاوز العذيب وشيعهم بِالْقربِ من الواقصة وصاد فِي طَرِيقه وحشا كثيرا فَبنى هُنَاكَ مناورة من حوافز الْحمر الوحشية وقرون الظباء الَّتِي صادها فِي تِلْكَ الطَّرِيق وَكَانَت السبل فِي أَيَّامه سَاكِنة من المخاوف آمِنَة تسير القوافل مِمَّا وَرَاء النَّهر إِلَى أقْصَى الشَّام وَلَيْسَ مَعهَا خفير ويسافر الْوَاحِد والإثنان من غير خوف وَلَا رهب الْمقَام مَا نقل مِنْهُ عَن الوزراء وَالْكَافِي أَيْضا مِنْهُ خبران الْخَبَر الأول قَالَ ابْن رضوَان وَأَصله للطرطوشي وَمثله لِابْنِ الْعَرَبِيّ كَانَ الْوَزير نظام الْملك قد بنى دور الْعلم للفقهاء وَأَنْشَأَ الْمدَارِس للْعُلَمَاء وَأسسَ الرباطات للعباد والزهاء وَأهل الصّلاح والفقراء ثمَّ أجْرى

لَهُم الجرايات مشاهرة والكساوى والنفقات وأجرى الحبر وَالْوَرق لمن كَانَ من أهل الطّلب للْعلم مُضَافا إِلَى أَرْزَاقهم وَعم بذلك جَمِيع أقطار المملكة سُلْطَانه أَبُو الْفَتْح بن البارسلان فَلم يكن فِي أَوَائِل الشَّام وَهِي بِبَيْت الْمُقَدّس إِلَى الشَّام الْأَعْلَى وديار يكر والعراقين وخراسان بأقطارها إِلَى سَمَرْقَنْد ووراء نهر جيحون زهاء مائَة يَوْم حَاصِل علم أَو طَالبه أَو متعبد أَو زاهد فِي زاويته إِلَّا وكرامة شَامِلَة لَهُ وسابغة عَلَيْهِ وَكَانَ الَّذِي يخرج من بيُوت أَمْوَاله فِي هَذِه الْأَبْوَاب سِتّمائَة ألف دِينَار فِي كل سنة فوشى بِهِ الوشاة إِلَى أبي الْفَتْح الْملك وأوغروا صَدره عَلَيْهِ وَقَالُوا إِن هَذَا الْخَارِج من بيُوت الْأَمْوَال تقيم بِهِ جَيْشًا تركز بِهِ راية فِي سور قسطنطينية فخامر ذَلِك قلب أبي الْفَتْح فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ لَهُ يَا أَبَت بَلغنِي أَنَّك تخرج من بيُوت الْأَمْوَال كل سنة سِتّمائَة ألف دِينَار إِلَى مَالا ينفعنا وَلَا يغنى عَنَّا شَيْئا فَبكى نظام الْملك وَقَالَ يَا بني أَنا شيخ أعجمي وَلَو نُودي على فِيمَن يزِيد لم أحفظ خَمْسَة دَنَانِير وَأَنت غُلَام تركي لَو نُودي عَلَيْك عساك تحفظ ثَلَاثِينَ دِينَارا وَأَنت مشتغل بلذاتك ومنهمك فِي شهواتك وَأكْثر مَا يصعد إِلَى الله تَعَالَى مَعَاصِيك دون طَاعَتك وجيوشك الَّذين تعدهم للنوائب إِذا احتشدوا كافحوا عَنْك بسيوف طولهَا ذِرَاع وقوس لَا يَنْتَهِي مدى مرماها ثَلَاثمِائَة ذِرَاع وهم مَعَ ذَلِك مستغرقون فِي الْمعاصِي وَالْخُمُور والملاهي والمزامر والطنبور وَإِنِّي أَقمت لَك جَيْشًا يُسمى جَيش اللَّيْل فَإِذا

جن اللَّيْل قَامَت جيوش اللَّيْل على أَقْدَامهم صُفُوفا بَين يَدي رَبهم فأرسلوا دموعهم وأطلقوا بِالدُّعَاءِ ألسنتهم ومدوا إِلَى الله الْعَظِيم أكفهم بِالدُّعَاءِ لَك ولجيوشك فَأَنت وجيوشك فِي خفارتهم تعيشون وبدعائهم تبيتون وببركاتهم تمطرون وترزقون وتخرق سِهَامهمْ إِلَى السَّمَاء السَّمَاء السَّابِعَة بِالدُّعَاءِ والتضرع فَبكى أَبُو الْفَتْح بكاء شَدِيدا ثمَّ قَالَ شاباش يَا أَبَت شاباش أَي يَا أَبَت أَكثر لي من هَذَا الْجَيْش قَالَ وَهَذَا الرجل هُوَ الَّذِي بنى الْمدرسَة النظامية بِبَغْدَاد وَإِلَيْهِ تنْسب رَحمَه الله قلت قَالَ ابْن خلكان هُوَ أول من ابتنى الْمدَارِس فاقتدى بِهِ النَّاس وَشرع فِي عمَارَة مدرسته بَغْدَاد سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَفِي سنة تسع وَخمسين جمع النَّاس على طبقاتهم ليدرس بهَا الشيح أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فَلم يحضر فدرسها أَبُو نصر بن الصّباغ صَاحب الشَّامِل عشْرين يَوْمًا ثمَّ جلس الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ بِبَغْدَاد وَكَانَ إِذا حضر وَقت الصَّلَاة خرج مِنْهَا وَيُصلي فِي بعض الْمَسَاجِد وَكَانَ يَقُول إِن أَكثر الْآلَات بهَا غصب

قلت وَذكر الطرطوشي مَا اتّفق لَهُ مَعَ أبي سعيد الْخُدْرِيّ الَّذِي كَانَ بناؤها لَهُ على يَده فَرَاجعه من هُنَاكَ قَالَ ابْن خلكان وَسُئِلَ عَن محبته للصوفية قَالَ أَتَانِي صوفي وَأَنا أخدم بعض الْأُمَرَاء فَقَالَ لي أخدم من تنفعك خدمته وَلَا تشتغل لخدمة من تَأْكُله الْكلاب غَدا فَلم أفهم مَا قَالَ فَسَكِرَ ذَلِك الْأَمِير من الْغَد وَكَانَت لَهُ كلاب كالسباع تفترس الغرباء بِاللَّيْلِ فغلبه السكر فَخرج وَحده فَلم تعرفه الْكلاب فمزقته فَعلمت أَن الرجل كوشف بذلك فَأَنا أخدم الصُّوفِيَّة لعَلي أظفر بِمثل ذَلِك الرجل قلت قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ كَانَ قبل أَن يوزر صوفيا فَقِيرا يمشي على قَدَمَيْهِ من مَسْجِد الاقدام بِمصْر إِلَى تركستان وَمَا وَرَاء جيحون فِي صُحْبَة الزهاد وانتقل من رِبَاط إِلَى رِبَاط أَرْبَعِينَ عَاما ثمَّ وزر أَرْبَعِينَ عَاما قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ إِذا قدم عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي صَاحب الرسَالَة بَالغ فِي إكرامها وأجلسها فِي مَوْضِعه قَالَ وَتوجه صُحْبَة صَاحب ملك شاه أصيهان فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة السبت عَاشر رَمَضَان سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة فَلَمَّا كَانَ قرب نَهَارهَا قَالَ هَذَا مَوضِع قتل فِيهِ خلق كثير من الصَّحَابَة فِي زمن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ فطوبى لمن كَانَ فيهم فاعترضه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة صبي ديلمي لابس على هَيْئَة الصُّوفِيَّة مَعَه قَصَبَة عالية فَدَعَا لَهُ وَسَأَلَهُ تنَاولهَا فَتَنَاولهَا من يَده ليأخذها فَضَربهُ الصَّبِي بسكين بفؤاده فَحمل إِلَى يَده ليأخذها فَضَربهُ الصَّبِي بسكين فِي فُؤَاده فَحمل إِلَى مضربه فَمَاتَ وَقتل قَاتله فِي الْحِين بعد أَن هرب فعثر فِي طُنب خيمته فَوَقع فَقتل وَحمل نظام الْملك إِلَى أَصْبَهَان فَدفن فِيهَا

قَالَ وَقيل أَن السُّلْطَان دس عَلَيْهِ الْقَاتِل لَهُ فَإِنَّهُ سم طول حَيَاته واستكثر مَا بِيَدِهِ من الإقطاعات وَلم يَعش السُّلْطَان بعده إِلَّا خَمْسَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَانَ رَحمَه الله من حَسَنَات الدَّهْر قلت قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قَالَ النَّاس فِيهِ لم يوزر بعد مَوته مثله قَالَ ابْن خلكان ورثاه شبْل الدولة أَبُو الهيجا مقَاتل بن عَطِيَّة الْبكْرِيّ بقوله (كَانَ الْوَزير نظام الْملك لؤلؤة ... نفيسة قد صاغها الرَّحْمَن من شرف) (عزت فَلم تعرف الْأَيَّام قيمتهَا ... فَردهَا غيرَة مِنْهُ إِلَى الصدف) الْخَبَر الثَّانِي قَالَ ابْن رضوَان وَمِمَّنْ لَهُ فِي المآثر المخلدة الْيَد الْعليا والفوز بِأَكْثَرَ مساعي الْبر المتكفلة لَهُ بِالْحُسْنَى الْوَزير جمال الدّين بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي مَنْصُور المعزو بالجواد الْأَصْفَهَانِي وَلَا يدعى إِلَّا جمال الدّين الْجواد وَزِير صَاحب الْموصل فقد ثَبت لَهُ من الْآثَار الْكَرِيمَة والصنائع الحميدة والمصانع المبنية فِي ذَات الله تَعَالَى المشيدة مَا لم يسْبقهُ إِلَيْهِ أحد من أكَابِر الْخُلَفَاء وفضلاء الوزراء تَمَادى على هَذِه الْمَقَاصِد السّنيَّة المجتمعة على الْمَنَافِع الْعَامَّة لجَمِيع الْمُسلمين فِي حرم الله وَحرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من خَمْسَة عشر عَاما لم يزل فِيهَا باذلا أَمْوَالًا لَا تحصى فِي بِنَاء رباع جَامع مَكَّة مسبلة فِي طرق الْخَيْر مؤيدة محبسة وَفِي اختطاط صهاريج المَاء وَوضع جباب فِي الطّرق يسْتَقرّ بِهِ الْمَطَر إِلَى تجديده آثَار من الْبناء فِي الْحَرَمَيْنِ الكريمين وَكَانَ من أشرف أَعماله أَن جلب المَاء إِلَى عَرَفَات وقاطع عَلَيْهِ

الْعَرَب من بني شيبَة سكان تِلْكَ النواحي المجلوب إِلَيْهَا بوظيفة من المَال كَثِيرَة على أَن لَا يقطعوا المَاء عَن الْحَاج فَلَمَّا توفى عَادوا إِلَى عَادَتهم من قِطْعَة وَمن مآثره أَنه جعل مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت سَرِير من عيقر وَأنْفق فِيهَا أَمْوَالًا لَا تحصى كَثْرَة وَمن أعجب مَا وَفقه الله إِلَيْهِ أَنه جدد أَبْوَاب الْحرم كلهَا وجدد بَاب الْكَعْبَة وعشاه فضَّة مذْهبه وجدد العتبة الْمُبَارَكَة بلوح ذهب ابريز وَأخذ الْبَاب الْقَدِيم وَأمر أَن يصنع لَهُ مِنْهُ تَابُوت يدْفن فِيهِ فَلَمَّا حانت وَفَاته أَمر أَن يوضع فِي ذَلِك التابوت الْمُبَارك ويحج بِهِ مستا ويدفن بالموصل دون السّنة وَبعد ذَلِك أَن يسَار إِلَى عَرَفَات وَيُوقف بِهِ على الْجَبَل ويكشف عَن التابوت فَلَمَّا أَفَاضَ النَّاس بِهِ وكتبت لَهُ الْمَنَاسِك كلهَا وطيف بِهِ طواف الْإِفَاضَة وَكَانَ رَحمَه الله لم يحجّ فِي حَيَاته ثمَّ حمل إِلَى مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَله فِيهَا الْآثَار الْكَرِيمَة وبنيت لَهُ رَوْضَة بازاء رَوْضَة الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفتح بهَا مَوضِع يُلَاحظ الرَّوْضَة المقدسة وأقيم لَهُ ذَلِك لسابق أَفعاله الْكَرِيمَة وَإِلَيْهِ ينْسب أحد الحمامين الَّذين بسكة الْمَشْهُور بحمام جمال الدّين قَالَ وَلِهَذَا الرجل من الْآثَار الجميلة والمفاخر الجليلة الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا الأكابر الأجواد والسادات الأمجاد فِيمَا سلف من الْأَزْمَان مَا لَا يُحْصى ويستقر بِهِ الثَّنَاء ويستصحب طول الْأَزْمَان من الْأَلْسِنَة بِالدُّعَاءِ وحسبك أَنه اتَّسع اعتناؤه بإصلاح جادة الطَّرِيق للْمُسلمين فِي الْمشرق من الْعرَاق إِلَى الشَّام إِلَى الْحجاز فاستنبط الْمِيَاه وابتنى الْجبَاب واختط الْمنَازل فِي المغازات وَأمر بعماراتها مأوى لأبناء السَّبِيل وكافة الْمُسَافِرين وابتنى بالمدن الْمُتَّصِلَة من الْعرَاق إِلَى الشَّام فنادق وعينها لنزول الْفُقَرَاء وَأَبْنَاء السَّبِيل الَّذين تضعفت أَحْوَالهم عَن تأدية الأكرية وأجرى على قومه تِلْكَ الفنادق والنازل مَا يقوم بعيشهم وَعين لَهُم ذَلِك فِي وُجُوه متأبدة لَهُم فَبَقيت لَهُم تِلْكَ الرسوم على حَالهَا إِلَى الْآن فسارت تلهج بِذكر هَذَا الرفاق وملئت ثَنَاء عَلَيْهِ الْآفَاق وَكَانَ مُدَّة حَيَاته بالموصل قد اتخذ دَار كَرَامَة وَاسِعَة الفناء فسيحة الأرجاء يَدْعُو إِلَيْهَا كل يَوْم الجفلى من الغرباء شبعا وريا وَرُبمَا وجد الْوَارِد والصادر فِي ظله

عَيْشًا هَنِيئًا وَلم يزل على ذَلِك أَيَّام حَيَاته رَحمَه الله تَعَالَى فَبَقيت آثاره مخلدة وأخباره بألسنة الذّكر مجددة وَقضى حميدا سعيدا وَالذكر الْجَمِيل للسعداء حَيَاة ثَانِيَة وَمُدَّة من الْعُمر بَاقِيَة وَالله كَفِيل بجزاء الْمُحْسِنِينَ من عباده فَهُوَ أكْرم الكرماء انْتهى وَهُوَ مَنْقُول عَن ابْن خلكان

الباب الثاني

الْبَاب الثَّانِي فِي الصِّفَات الَّتِي تصدر بهَا تِلْكَ الْأَفْعَال على أفضل نظام والمقرر مِنْهَا عشرُون قَاعِدَة وَقبلهَا سِتّ مُقَدمَات الْمُقدمَة الأولى إِن الْإِنْسَان مركب من خلق مَحْمُود يشبه بهَا الْملك قَالَ الله تَعَالَى {إِن هَذَا إِلَّا ملك كريم} وَخلق مذمومة يشبه بهَا الْبَهِيمَة أَو الشَّيْطَان قَالَ الله تَعَالَى {أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ} قلت وَمن ثمَّ إِن المسخ فِي الْبَاطِن وَاقع فِي هَذِه الْأمة وَقد قَالَ ابْن الْحَاج أَن الظلمَة لَا فرق بَينهم وَبَين السبَاع إِلَّا فِي الصُّورَة الظَّاهِرَة والمعاني جَامِعَة بَين النَّوْعَيْنِ الْمُقدمَة الثَّانِيَة قَالَ الْحُكَمَاء الْخلق ملكة تصدر بهَا عَن النَّفس الْأَفْعَال بسهولة دون تقدم روية كالكاتب دون تقدم روية والقادر على إِحْضَار علومه دون إِحْضَار روية قَالَ الإِمَام فَخر الدّين وَالْفرق بَينهمَا وَبَين الْقُدْرَة نسبتها إِلَى الضدين على السوَاء والخلق لَيْسَ كَذَلِك الْمُقدمَة الثَّالِثَة قَالَ أصُول الْفَضَائِل ثَلَاثَة الْحِكْمَة والشجاعة الْخلق الَّذِي يصدر بِهِ الْفِعْل الْمُتَوَسّط بَين فعلى الحدة والغباوة والشجاعة الْخلق الَّذِي يصدر بِهِ الْفِعْل الْمُتَوَسّط بَين

فعلى التهور والجبن والعفة الْخلق الَّذِي يصدر بِهِ الْفِعْل الْمُتَوَسّط بَين فعلي الْفُجُور والخمود الْمُقدمَة الرَّابِعَة أَن الْأَخْلَاق قَابِلَة للتغيير بطرِيق الرياضة على معنى ردهَا إِلَى الِاعْتِدَال وَهُوَ مُمكن رَفعهَا بالحركة إِذْ هُوَ مُمْتَنع فَلَا يرد قيل الْأَخْلَاق صُورَة الْبَاطِن كَمَا أَن الْخلق صُورَة الظَّاهِر والخلقة الظَّاهِرَة لَا قدرَة على تغييرها فَكَذَا الْبَاطِنَة وَغَايَة مَا يُقَال أَنه عسير الْإِمْكَان فَحسب قَالَ الْبَلْخِي وَلَيْسَ الْمُمكن العسير فِي زَوَال الْمُمْتَنع لِأَن الأول فِيهَا يَنْتَهِي خُرُوجه إِلَى الْوُجُود وَالثَّانِي لَا سَبِيل إِلَى الْوُجُود الْبَتَّةَ الْمُقدمَة الْخَامِسَة إِن النَّاس فِي هَذَا الْمقَام على مَا قسم الْغَزالِيّ أَرْبَعَة أَحدهمَا الْبَاقِي على أصل الْفطْرَة فِي الْخُلُو من الاعتقادات وفقدان التميز بَين الْحق وَالْبَاطِل وَلم يُبَالغ شَهْوَته فِي انقباض اللَّذَّات فَهَذَا سريع الْقبُول لتغيير خلقه فِي أقرب زمَان الثَّانِي الْعَارِف بقبح الْقَبِيح مَعَ الْإِصْرَار عَلَيْهِ انقيادا للشهوة وإعراضا عَن الصَّالِحَات الَّتِي لم يتعودها فَأمره أصعب لعسر مبلغ مَا رسخ فِي نَفسه من صبغة تعود الْفساد وصعوبة قبُوله لتعود الصّلاح لكنه للرياضة أَن أَخذ فِيهَا بصادق عزم الثَّالِث المعتقد فِي الْقَبِيح أَنه الْوَاجِب المستحسن لرسوخه بذلك مُنْذُ

القاعدة الأولى

أول النشأة فَعِنْدَ ذَلِك صَلَاحه لَا يُرْجَى إِلَّا على الندور لتضاعف أَسبَاب ضلاله وخذلانه الرَّابِع المستكثر من الشرور النَّاشِئ عَلَيْهَا اعتقادا أَن التظاهر بذلك هُوَ الْفَضِيلَة الرفيعة على قدر المشتهر بهَا وَفِي مثله قيل من التَّهْذِيب تَهْذِيب الرتب فَالْأول فَقَط وَالثَّانِي جَاهِل وَالثَّالِث جَاهِل وضال فَالْأول جَاهِل فَقَط وَالثَّانِي جَاهِل وضال فَقَط وَالثَّالِث جَاهِل وضال وفاسق وَالرَّابِع جَاهِل وضال وفاسق وشرير الْمُقدمَة السَّادِسَة أَن السَّبَب الَّذِي بِهِ ينَال تَغْيِير الْخلق المذموم أَمر أَن فِي الْجُمْلَة أَحدهمَا فطري لَا كسبي إِنَّمَا هُوَ بمحض الْجُود الآلهي لمن يُوجد كَامِل الْعقل حسن الْخلق معتدل الشَّهْوَة وَالْغَضَب عَالما من غير معلم متأدبا من غير مؤدب كالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام الثَّانِي كسبي وَهُوَ الرياضة المُرَاد بهَا حمل النَّفس على عمل مُقْتَضى الْخلق الْمَطْلُوب كتكلف طَالب الْجُود يتعاطى فعل الْجواد حَتَّى يصير لَهُ طبعا لَا تكلّف فِيهِ وَكَذَا فِي سَائِر الْخلق الحميدة الْقَاعِدَة الأولى الْعقل وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى سبق فِي مُقَدمَات الْكتاب أَنه من شُرُوط ولَايَة السُّلْطَان وَالْمرَاد الْآن مَا يزِيد على ذَلِك الْقدر الغريزي وَهُوَ المكتسب مِنْهُ بِكَثْرَة

التجربة وَطول الْمُبَاشرَة بتقلب الْأَيَّام وَتصرف الْحَوَادِث فقد قيل كفى بالتجارب مؤدبا وبانقلاب الدَّهْر عظة وَقيل التجربة مرْآة الْعقل والغرة ثَمَرَة الْجَهْل قَالَ الشَّاعِر (ألم تَرَ أَن الْعقل زين لأَهله ... وَلَكِن تَمام الْعقل طول التجارب) وَقَالَ (إِذا طَال عمر الْمَرْء فِي غير آفَة ... أفادت لَهُ الْأَيَّام فِي كرها عقلا) الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة يتَأَكَّد الإتصال بِهَذَا النَّوْع من الْعقل على السُّلْطَان مَالا يتَأَكَّد على غَيره وَمِمَّا يدل على ذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن انتصابه لرعاية الْخلق بِمَا يتكفل لَهُم بمصالح الدَّاريْنِ يتَوَقَّف على وفور حَظه من هَذَا الإتصاف وَلَا يخفى ذَلِك على ذِي بَصِيرَة يتَوَقَّف على وفور حَظه من هَذَا الإتصاف وَلَا يخفى ذَلِك على ذِي بَصِيرَة الثَّانِي إِن أنفس مطَالب الرياسة الذّكر وَلَا يحصل إِلَّا بِكَمَالِهِ فَفِي سياسة أرسطو الرياسة لَا ترَاد لنَفسهَا إِنَّمَا ترَاد للذّكر وَأول مُنَازع الْعقل الذّكر والرياسة نتيجته الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة الْقَصْد بِهَذَا الْعقل معرفَة خير الخيرين وَشر الشرين قَالَ الْغَزالِيّ وَذَلِكَ فِي الْأُمُور العاجلة قريب وَإِنَّمَا المتلبس عواقب الْأُمُور فِي الْأَسْبَاب المحظورة وَلَا يشغل بهَا إِلَّا مُسَدّد بالتوفيق من الله تَعَالَى قلت هُوَ من معنى قَول أَكْثَم بن صَيْفِي الْأُمُور تتشابه وَهِي مقبلة وَلَا يعرفهَا إِلَّا ذَوُو الرَّأْي فَإِذا أَدْبَرت يعرفهَا الْجَاهِل كَمَا يعرفهَا الْعَاقِل

وَمِنْه قَوْله (تشابه أَعْيَان الْأُمُور بواديا ... وَتظهر فِي أعقابها حِين تدبر) قَالَ والوصول إِلَى ذَلِك بعد حُصُوله غريرة الْعقل مَبْنِيّ على أَشْيَاء قَالَ أَحدهَا الفكرة وَالتَّدْبِير بِشَرْط الفطنة والذكاء الثَّانِي النَّقْد لخواطر ذَوي البصائر واستطلاع رَأْي أولى التجارب على طَرِيق الْمُشَاورَة وَهُوَ الرُّكْن الْأَعْظَم فِي التَّدْبِير فَإِن الاستبداد وَإِن كَانَ من ذِي بَصِيرَة مَذْمُوم الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة يستعان على حُصُوله كَمَا يُرَاد بأمرين أَحدهمَا كسبي بِكَثْرَة التجربة كَمَا مر وَالْآخر عزيزي وَهُوَ خلقه من الله تَعَالَى يخص بهَا من يَشَاء من خلقه فيخلقه ذكيا فطنا حِكَايَة فِي ذَلِك قَالَ الْأَصْمَعِي قلت لغلام حدث من أَوْلَاد الْعَرَب كَانَ يحدثني فَأَعْجَبَنِي فَصَاحَته وملاحته فَقلت لَهُ أَيَسُرُّك أَن يكون لَك مائَة ألف وَأَن تكون أحمقا قَالَ لَا وَالله قلت وَلم قَالَ أَخَاف أَن يجني الْحمق على جِنَايَة تذْهب على مَالِي وَيبقى على حمقي قَالَ الطرطوشي فاستخرج هَذَا الصَّبِي بفرط ذكاءه قَضِيَّة مَقْبُولَة فعلا على من هُوَ أكبر سنا مِنْهُ قيل وَقد قَالَت الْحُكَمَاء الْعقل سرعَة الْفَهم وغايته إِصَابَة الْوَهم وَلَيْسَ للذكاء غَايَة وَلَا لجودة الْمعرفَة نِهَايَة الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من الفطن فِي الْعقل معرفَة كَمَاله الشَّرْعِيّ وَهُوَ مُتَوَقف على تصَوره فِي نَفسه فعلى أَنه عُلُوم ضَرُورِيَّة بِجَوَاز الجائزات واستحالة المستحيلات وَوُجُوب الْوَاجِبَات فَهِيَ عُلُوم شَرْعِيَّة يظْهر على

وفقها آثَار فعلية وقولية وعَلى أَنه بَصِيرَة فِي الْقلب تدْرك بهَا الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَيظْهر على وفقها آثَار فعلية وقولية الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من لَازم هذَيْن التعريفين انتقاؤه حَيْثُ لَا تظهر تِلْكَ الْآثَار وَبِه يفهم نَفْيه عَن الْكفَّار فِي نَحْو قَوْله تَعَالَى صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ فهم عِنْد ذَلِك على الْجُمْلَة لتخلف كَمَال ثَمَرَته وَهُوَ الإمتناع بِهِ عَن العصبية الَّتِي لَا يعود وبالها إِلَّا عَلَيْهِم كَمَا دلّ تَفْسِير أولي الْأَلْبَاب أَي أهل الْعُقُول وَفِي قَوْله تَعَالَى الَّذين يُوفونَ بِعَهْد الله وَلَا ينقصُونَ الْمِيثَاق إِلَى آخر الْآيَة بعد تقدم قَوْله إِنَّمَا يتَذَكَّر أولو الْأَلْبَاب فيفهم من ذَلِك أَن من لم يَتَّصِف بِالْوَفَاءِ بالعهد وَمَا ذكر مَعَه فَلَيْسَ بِذِي عقل الْمَسْأَلَة السَّابِعَة الإتصاف بِهَذَا الْعقل الْكَامِل فِي جَمِيع الْأَحْوَال والأوقات الْمُخَالفَة لِأَن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ للأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام ولقليل مِمَّن عداهم وَمن ثمَّ قَالَ مطرف بن عبد الله مَا من النَّاس أحد إِلَّا وَهُوَ أَحمَق فِيمَا بَينه وَبَين ربه وَلَكِن الْحمق بعضه أَهْون من بعض قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سعيد بن لب رَحمَه الله بِهَذِهِ إِشَارَة إِلَى عزة وجود الْعقل الْكَامِل وَإِلَى أَنه لَا يصل أحد أَن يقوم بِحَق الله تَعَالَى كل الْقيام وَأَن يعبده حق الْعِبَادَة الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة من لَهُ عناية بِطَلَب هَذَا الْأَمر من الْعقل بِحَسب جهده فليعتبر بِمثل مَا يعمر بِهِ الْأَوْقَات قَالَ وهب بن مُنَبّه حق على الْعَاقِل أَلا يغْفل عَن أَربع سَاعَات سَاعَة يُنَاجِي فِيهَا ربه وَسَاعَة يقْضِي فِيهَا إِلَى إخوانه الَّذين يخبرونه بشؤونه ويصدقونه عَن نَفسه وَسَاعَة يخلي بَين نَفسه وَبَين لذاته فِيمَا يحل

وَيحمل فَإِن هَذِه السَّاعَة عون على تِلْكَ السَّاعَات وأجمام للقلوب وَحقّ على الْعَاقِل أَن لَا يطعن فِي إِحْدَى ثَلَاث زَاد لمعاده وَمَرَمَّة لمعاشه وَلَذَّة فِي غير محرم الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف الْعقل رَأس التَّدْبِير وَصَلَاح النَّفس ومرآة الْعُيُوب وَبِه بذل المكرمات وَبعد المحبوبات وَهُوَ رَأس الْمُحرمَات وأصل الفاجرات وَالْعقل يُرِيك ذَات الشَّيْء وجوهره والحس يُرِيك ظَاهره ولباسه وَالْعقل يُشِير على النَّفس بترك الْقَبِيح فَإِن لم تقبل مِنْهُ لم يَتْرُكهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ غضب لكنه يريها أصلح وَقت يَنْبَغِي أَن يفعل ذَلِك الشَّيْء فِيهِ وَأحمد جِهَة يوجدها لِأَنَّهُ يُعْطي الْخَيْر دَائِما لمن وكل لَهُ فضل الْعقل على الْهوى وَأَن الْعقل يملكهُ الزَّمَان والهوى يستعبدك لَهُ حَيْثُ ترى الطبيعة معهودة فالعقل هُنَاكَ نَاقص وَحَيْثُ ترى الْعقل كَامِلا فالطبيعة هُنَاكَ ضَعِيفَة الْعَاقِل يرغب فِي الْأَدَب وَالْجَاهِل يطْلب مِنْهُ الْهَرَب الْعَاقِل إِذا فَاتَهُ الْأَدَب لزم الصمت من لم يكمل عقله لم يخالط نَفسه من غلب هَوَاهُ عقله افتضح وَمن اظهر محاسنه وأخفى مساويه كمل عقله

القاعدة الثانية

الْقَاعِدَة الثَّانِيَة الْعلم وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى الْعلم أشرف فَضَائِل الْإِنْسَان لوجوه أَحدهمَا أَن أمهاتها الخلقية كَمَا تقدم أرفعها الْحِكْمَة وَيرد بهَا كَمَال الْعلم وَهِي فَضِيلَة النَّفس الناطقة والشجاعة وَهِي فَضِيلَة النَّفس الغضبية والعفة وَهِي فَضِيلَة النَّفس الشهوانية وَالْعدْل وَهِي فَضِيلَة النَّفس البسيطة وَهُوَ عَام فِيهَا وَالنَّفس الناطقة أشرفها فضيلتها أشرف الثَّانِي أَن تِلْكَ الْفَضَائِل لَا يتم كمالها إِلَّا بِهِ وَهُوَ يُوجد كَامِلا بِدُونِهَا فَهُوَ مستغن عَنْهَا وَهِي مفتقرة إِلَيْهِ فَيكون أشرف الثَّالِث أَن مَا عداهُ من تِلْكَ الْفَضَائِل يُشَارك الْإِنْسَان فِيهَا بعض الْحَيَوَان وفضيلة الْعلم لَا يُشَارِكهُ فِيهَا إِلَّا الْمَلَائِكَة وَمَا اخْتصَّ بِهِ الْإِنْسَان وَالْملك اشرف لَا محَالة الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة السُّلْطَان أحْوج الْخلق إِلَى الْعلم لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن افتقاره إِلَيْهِ فِي الْأَحْكَام تحوجه إِلَى الْمعرفَة بهَا ليَكُون على بَصِيرَة فِي تَنْفِيذ الْفَصْل فِيهَا وإلزام الْوُقُوف عِنْد حُدُودهَا الثَّانِي أَن تحليته بِالْعلمِ من أعظم مَا يتحبب بِهِ إِلَى الرّعية لما رسخ فِي النَّفس على الْجُمْلَة من فَضِيلَة الْعلم ومحبة من انتسب إِلَيْهِ وَإِذا عرى مِنْهُ أَو فرط فِي الْعَمَل بِمُقْتَضى السُّؤَال عَنهُ أخل بالسريرة الفاضلة فينفرون ويستوحشون مِنْهُ الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة مِمَّا يدل على رسوخها محبَّة الْعلم وتعظيمه فِي النُّفُوس أَمْرَانِ

أَحدهمَا أَن من المتقرر فِي الْعُقُول السليمة أَن الْعلم صفة كَمَال وَأَن الْجَهْل صفة نُقْصَان وَلذَلِك إِذا قيل للرجل الْعَالم يَا جَاهِل تأذى بذلك القَوْل وَإِن كن يعلم من نَفسه أَنه لَيْسَ كَذَلِك الثَّانِي أَن من السَّعَادَة بِهِ مَا يكسبه فِي الدُّنْيَا من الْخيرَات الَّتِي لَا توازنها خُصُوصِيَّة كَمَا قَالَ ابْن حزم مُشِيرا لبَعض ذَلِك لَو لم يكن من فَضَائِل الْعلم إِلَّا أَن الْجُهَّال يعابونك ويجلونك وَأَن الْعلمَاء يحبونك ويكرمونك لَكَانَ ذَلِك سَببا لطلبه وَوُجُوب الْإِنْصَاف بِهِ فَكيف وَمَعْلُوم فضائله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قد سبق فِي مُقَدمَات الْكتاب أَن تعذر وجود هَذَا الْوَصْف فِي السُّلْطَان سقط اعْتِبَار اشْتِرَاطه اكْتِفَاء بمراجعة الْعلمَاء عِنْد وُقُوع النَّوَازِل وَتقدم مَا للغزالي فِي ذَلِك فَإِذا فَاتَهُ ذَلِك بِالْجُمْلَةِ أَو شغله الْملك عَن استقصاء الْكَمَال فِيهِ بِحَسب الوسع فلتكن عنايته مصروفة إِلَى تَعْظِيم حَملته وتكرير مراجعتهم فِي الوقائع الْمَوْقُوفَة حكمهَا على معرفَة مَا لديهم من حكم الله كَمَا سبقت إِلَيْهِ الْإِشَارَة فَهُوَ فرض فِي هَذِه الْحَالة الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف لَو لم يكن لَهُ فَضِيلَة إِلَّا كَونه شرطا فِي الألوهية فَمن لَيْسَ بِعلم فَلَيْسَ باله أطلب الْعلم تعظمك الْخَاصَّة واطلب الْكَمَال تعظمك الْعَامَّة واطلب الزّهْد يعظمك الْجَمِيع من فَضِيلَة الْعلم أَنَّك لَا يخدمك فِيهِ أحد كَمَا يخدمك فِي سَائِر الْأَشْيَاء وَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يسلبك إِيَّاه كَمَا يسلبك غَيره إِذا أكرمك النَّاس لمَال أَو سُلْطَان فَلَا يُعْجِبك ذَلِك فَإِن زَوَال الْكَرَامَة بزوالهما وَلَكِن يُعْجِبك إِن أكرموك لعلم أَو أدب أَو دين عَطِيَّة الْعلم موهبة من الله تَعَالَى لِأَنَّهَا لَا تنفذ عِنْد الْجُود بهَا وَلكنهَا تكون بكمالها عِنْد معيدها

القاعدة الثالثة

الْقَاعِدَة الثَّالِثَة الشجَاعَة وفيهَا نظران أَحدهمَا بَيَان هَذَا الْوَصْف وَالْآخر فِي تَقْرِير نقيضه وَهُوَ الْجُبْن النّظر الأول وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى تقدم أَنَّهَا من أُمَّهَات الْفَضَائِل الخلقية قَالَ فِيهَا الطرطوشي هِيَ أم الْخِصَال وينبوع فَضَائِل الْكَمَال قلت وَقَوْلهمْ أَصْلهَا ثِيَاب الْقلب يرجع إِلَى قَول الْحُكَمَاء منشأها الْقُوَّة الغضبية للنَّفس لِأَن الثَّبَات أثر كَمَال تِلْكَ الْقُوَّة الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة سبق أَيْضا أَن حَقِيقَتهَا هِيَ الْخلق الَّذِي يصدر بِهِ الْفِعْل الْمُتَوَسّط بَين فعلي التهور والجبن فَمَتَى اعتدل بهَا التَّوَسُّط فَهُوَ الشجَاعَة المحمودة وَإِن مَال إِلَى طرف الإفراط فَهُوَ التهور أَو إِلَى طرف التَّفْرِيط فَهُوَ الْجُبْن وَكِلَاهُمَا مَذْمُوم وَقد قيل (جرى مثل دلّ السماع مَعَ الحجى ... عَلَيْهِ على مر الزَّمَان قديم) (توَسط إِذا مَا شِئْت أمرا ... فأنما كلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم) الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة مصدر هَذَا الْخلق عَن ثبات الْقلب عِنْد الغلب قَالَ ابْن قيم الجوزية وَهُوَ يتَوَلَّد من الصَّبْر وَحسن الظَّن فَمَتَى ظن الظفر وساعده الصَّبْر ثَبت

قَالَ والجراءة إقدام سَببه قلَّة المبالاة وَعدم النّظر فِي العواقب أما عَلَيْهِ أَو لَهُ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الْعلمَاء من كَمَال ثبات الْقلب أَن بِهِ يتَحَقَّق جَمِيع مطَالب الدّين وَالدُّنْيَا كامتثال الْأَوَامِر وَاجْتنَاب النواهي واكتساب الْفَضَائِل واتقاء الرذائل وَمُخَالفَة الْهوى وَالصَّبْر على إذاء الجليس وجفاء الصاحب وكتمان الْأَسْرَار واقتحام الْأُمُور الصعاب وإمضاء العزائم وَاحْتِمَال المكاره والضحك فِي وُجُوه من تظهر عدواتهم وَلَا كالصدقة كَمَا ورد لَا يخرج الرجل شَيْئا من الصَّدَقَة حَتَّى يفك لحي سبعين شَيْطَانا إِلَى غير ذَلِك من سَائِر مَا يفعل وَيتْرك الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة تقدم أَن الْأَخْلَاق قَابِلَة للتغير بطرِيق الرياضة فالغالب عَلَيْهِ خلق الْجُبْن سَبيله فِي التَّحَوُّل عَنهُ إِلَى خلق الشجَاعَة أَن يكثر من ارْتِكَاب مخوف الْفِعْل تَارَة بعد أُخْرَى حَتَّى يصير لَهُ ذَلِك عَادَة وطبعا وَلَا استبعاد فِي ذَلِك لما يُشَاهد من إِيقَاع اللفة بَين المعتادين من الْحَيَوَان الْعَجم طبعا كالهر والفأر قَالَ صَاحب مشارع الأشواق قَالَ شاهدت مرَارًا الفأر يركب على الهر وَينزل وَيعود مرَارًا لَا يعدو الهر على الفأر وَلَا ينفر الفأر من الهر وَذَلِكَ بالتعليم والتدريج فِي الْإِقْدَام حَتَّى ينعكس الطَّبْع إِلَى ضِدّه

قَالَ وَالْإِنْسَان أولى بِقبُول التَّعْلِيم وَسُرْعَة التَّحَوُّل فِي الْأَخْلَاق الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ الْعلمَاء الرِّجَال فِي الشجَاعَة عِنْد اللِّقَاء ثَلَاثَة أَصْنَاف أَحدهمَا إِذا التقى الْجَمْعَانِ وتقابلت الأحداق بالأحداق وبرز إِلَى المعترك يحمل ويكر وينادي هَل من مبارز الثَّانِي إِذا اختلطوا بِحَيْثُ لَا يدْرِي أحد من أَيْن يَأْتِيهِ الْمَوْت يكون رابط الجأش سَاكن الْقلب لَا يخامره الدهش وَلَا تخالطه الْحيرَة الثَّالِث إِذا أنهزم أَصْحَابه رَجَعَ ضَارِبًا فِي وُجُوه الْعَدو مقويا لقلوب المنهزمين بالْكلَام الْجَمِيل يحمل من وقف ويكشف عَمَّن سقط عَن فرسه وَهُوَ أحمدهم شجاعة قَالَ الطرطوشي وَلِهَذَا قَالُوا الْمقَاتل وَرَاء الفارين كالمستغفر وَرَاء الغافلين الْمَسْأَلَة السَّابِعَة قَالَ صَاحب مشارع الأشواق الشجيع من وهبه الله ملكة يقدر بهَا على قهر أعدى عَدو لَهُ وَهُوَ نَفسه فَمن كَانَ ملكهَا وصرفها حَيْثُ أوجب الشَّرْع إقداما وإحجاما فَذَلِك هُوَ الشجيع إِلَّا من يتصبر فَهُوَ مصر على محَالة مرتكب لهواه وضلالة فِيمَا يُرَاد مِنْهُ ويرام صبور على الشدائد والآلام قلت كَمَا فِي الْأَخْلَاق فَإِن هَذَا من صِفَات الْحمير والخنازير

قلت هُوَ معنى كَلَام الطرطوشي وَغَيره ولوضوحه سمى جِهَاد النَّفس الْجِهَاد الْأَكْبَر ورد فِي الْأَثر وَهُوَ أصل ظَاهر كَمَا تقرر فِي مَوْضِعه الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قيل كَانَ أَشْجَع النَّاس على الْإِطْلَاق وأقومهم قلبا سيدنَا وَنَبِينَا ومولانا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد حضر المواقف الصعبة وفر الْأَبْطَال عَنهُ غير مرّة وَهُوَ ثَابت لَا يبرم مقبل لَا يدبر وَلَا يتزحزح وَمَا شُجَاع إِلَّا وَقد أحصيت لَهُ مرّة غرَّة أَو فَتْرَة سواهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ لم يفر قطّ حاشاه من ذَلِك ثمَّ حاشاه قَالَ تَعَالَى وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحسن النَّاس وَكَانَ أَشْجَع النَّاس الحَدِيث الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف الشجاع يخْتَار حسن الذّكر على الْبَقَاء والجبان يخْتَار الْبَقَاء على حسن الذّكر الشجاع يحمي عَمَّن لَا يُنَاسب ويقي مَال الْجَار والرفيق بمهجته والجبان معِين على نَفسه يفر عَن أَبِيه وَأمه وصاحبته وبنيه قَالَ الشَّاعِر (يفر جبان الْقَوْم عَن أَمر نَفسه ... ويحمي شُجَاع الْقَوْم من لَا يُنَاسب)

رب حَيَاة سَببهَا التَّعَرُّض للوفاة سَببهَا طلب الْحَيَاة ثَمَرَة الشجَاعَة إِلَّا من الْعَدو وَتَأْخِير الْأَجَل حصن الْمُحَارب من كرم الْكَرِيم الذب عَن الْحَرِيم الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة الحكايات عَن شجعان الْمُلُوك وَغَيرهم وَيَكْفِي من ذَلِك حكايتان الْحِكَايَة الأولى يرْوى عَن الْهَادِي أَنه خرج يَوْمًا إِلَى الْبُسْتَان لَهُ مَعَ خواصه للفرجة وَهُوَ رَاكب على الْحمار وَكلهمْ بِغَيْر سلَاح فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ أَدخل الْحَاجِب فَقَالَ أمسك فلَان الْخَارِجِي وَهَا هُوَ بِالْبَابِ فَأمر بِدُخُولِهِ وَهُوَ مَحْبُوس بَين حرسين فَلَمَّا دنا من الْهَادِي قعد وَرَاءه وأقلب يَده وَأخذ سيف أحد الحرسين وَضرب أَحدهمَا فَسقط وَقصد الْهَادِي ففر عَنهُ جَمِيع أَصْحَابه وَلم يبْق غَيره وَلَا سلَاح مَعَه وَلَا مَكَان يحميه وَلَا فرس ينجيه فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ رفع يَده ليضربه بِالسَّيْفِ فصاح الْهَادِي وَقَالَ اضْرِب عُنُقه فَالْتَفت الْخَارِجِي لينْظر من وَرَاءه فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْهَادِي وأسقطه فِي الأَرْض وَجلسَ على صَدره وَأخذ السَّيْف من يَده وذبحه ثمَّ قَامَ إِلَى دَابَّته فركبها وَعَاد إِلَيْهِ أَصْحَابه خَائِفين وجلين مِنْهُ فَقَالَ لَا بَأْس عَلَيْكُم وَلَا يركب حمارا أبدا وَلَا فَارقه سلَاح وَلَو فِي بَيت الْخَلَاء الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل كَانَ الْأمين يَوْمًا فِي قصره وَإِذا بأسد قد تفلت من سلسلته وَدخل عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْده فحيين قَصده أَخذ

وسَادَة فوضعها فِي وَجه الْأسد وَدَار عَلَيْهِ يجره بِذَنبِهِ فَانْقَطع ظهر الْأسد وزاغت أَصَابِع الْأمين عَن أماكنها فردوها إِلَيْهِ قَالَ صَاحب مشارع الأشواق وأعجب من هَذَا مَا اتّفق لكسرى أنو شرْوَان فَإِنَّهُ اغتنم فيل من فيلاته وَعجز الرياض عَن إِمْسَاكه فهجم على كسْرَى وَهُوَ على سَرِيره ملكه فَلم يبْق أحد الأولى هَارِبا وبقى كسْرَى جَالِسا وَحده وَغُلَامه على رَأسه فهم الْغُلَام أَن يهرب فصاح بِهِ فَثَبت فَلَمَّا أَتَاهُ الْفِيل ودنا من السرير وَمد زلومته لَهما أَمر الْغُلَام أَن يضْربهُ فَضَربهُ فَقطع زلومته فولى الدبر وَلم يتزحزح كسْرَى عَن مَكَانَهُ انْتهى النّظر الثَّانِي وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى الْجُبْن وَهُوَ ضد الشجَاعَة من حَيْثُ ميله إِلَى طرف التَّفْرِيط فِي خلقهَا الْمُتَوَسّط بَينه وَبَين التهور كَمَا تقدم وذمه ظَاهر من تِلْكَ الْجِهَة ونزيد وضوحا بأمرين أَحدهمَا أَنه شَرّ خِصَال الرِّجَال فَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرّ مَا فِي الرِّجَال شح هَالِع وَجبن خَالع وَمعنى هَالِع مخزون خَالع أَي لَا ثبات لَهُ الثَّانِي استعاذة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن انس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت أخدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكنت أسمعهُ يكثر أَن يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْهم والحزن وَالْعجز والكسل وَالْبخل والجبن وضلع الدّين وَغَلَبَة الرِّجَال ضلع الدّين شدته وَثقل حمله الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة الْجُبْن يتَوَلَّد من سوء الظَّن وَعدم الصَّبْر فَلَا يظنّ الظفر وَلَا يساعده الصَّبْر ومنشأه من الرئة يزاحمها الْقلب فِي مَكَانَهُ وضيقت عَلَيْهِ حَتَّى أزعجته عَن مستقره وأصابه التزلزل لإزعاج الرئة لَهُ

قَالَ وَلِهَذَا سمي فِي الحَدِيث خالعا لِخَلْعِهِ الْقلب عَن مَكَانَهُ لانتفاخ السحر وَهُوَ الرئة كَمَا قَالَ أَبُو جهل لشيبة بن ربيعَة انتفخ سحرك فَإِذا زلزل الْقلب عَن مَكَانَهُ ضَاعَ تَدْبِير الْعقل وَظهر الْفساد على الْجَوَارِح فَوضعت الْأُمُور على غير موَاضعهَا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة تقدم أَن من شُرُوط الْإِمَامَة النجدة لِئَلَّا يضعف عَن إِقَامَة الْحُدُود واقتحام الحروب فَمَتَى كَانَ الإِمَام جَبَانًا تحقر لضَعْفه وَنَشَأ عَنهُ مفاسد جملَة كاجتراء عدوه عَلَيْهِ وضياع قدره إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يخفى لوضوحه وَإِذ ذَاك فلابد من ترفع مقَامه عَن الاتصاف بِهَذَا الْخلق الذميم وتحليه بضده اللَّائِق بشريف منصبه ومكين رتبته الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْخلق الْجُبْن مقتلة والشجاعة وقاية لَا يقدم الْإِقْدَام أَََجَلًا وَلَا يبلغ الْجُبْن أملا الفار من الْمَوْت طريدة الْمَوْت واستقبال الْمَوْت خير من استدباره لكل أحد يَوْمَانِ أَحدهمَا لَا يعجل عَلَيْهِ وَالْآخر لَا يقصر عَنهُ لَا للجبان والفرار

القاعدة الرابعة

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من حكايات الْجُبَنَاء مَا يرْوى أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ عَمْرو بن معدي كرب فَقَالَ يَا عمر أَخْبرنِي عَن أجبن مَا لقِيت وأجهل من لقِيت وَأَشْجَع من لقِيت فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كنت أشن الغارات فَرَأَيْت فَارِسًا لابسا لَامة حربه وَهُوَ رَاكب على فرسه فَقلت يَا بني خُذ حذرك فَأَنا قَاتلك لَا محَالة فَقَالَ لي وَمن تكون فَقلت عَمْرو بن معدي كرب فَسكت ودنوت مِنْهُ فَوَجَدته قد مَاتَ فَهَذَا أجبن من لَقيته ثمَّ ذكر أَجْهَل وَأَشْجَع من لَقِي ذكر ذَلِك الغرناطي وَغَيره الْقَاعِدَة الرَّابِعَة الْعِفَّة وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى تقدم أَنَّهَا من جملَة أصُول الْأَخْلَاق وَأَنَّهَا فَضِيلَة النَّفس الشهوانية الَّتِي قَصدهَا بَقَاء صور الْإِنْسَان بشخصه أَو نَوعه وَمن هُنَاكَ يَتَّضِح أَن وجودهَا فِيهِ لَيْسَ بِمُجَرَّد الْكَثْرَة فَقَط من حَيْثُ هِيَ لَذَّة عاجلة بل لذَلِك الْقَصْد الَّذِي هُوَ أصل مَشْرُوعِيَّة النِّكَاح ولقياس لَذَّة الْآخِرَة على هَذِه اللَّذَّة الَّتِي هِيَ آثر لذات الْجَسَد فِي دَار الدُّنْيَا المسالة الثَّانِيَة حَقِيقَتهَا كَمَا سبق الْخلق الَّذِي يصدر بِهِ الْفِعْل الْمُتَوَسّط بَين فعلي الْفُجُور والخمود فَمَتَى اعتدلت النَّفس الشهوانية بِهَذَا التَّوَسُّط ثَبت

لَهَا هَذِه الْفَضِيلَة وَإِن انحرفت إِلَى طرف الإفراط فَهُوَ الْفُجُور أَو إِلَى طرف التَّفْرِيط فَهُوَ الخمود والفتور وَكِلَاهُمَا مَذْمُوم كَمَا سلف الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة المُرَاد بِالْفُجُورِ هُنَا مَا يجر إِلَيْهِ قهرا إفراط الشَّهْوَة لوازع الدّين فَإِن قهر الْعقل فَقَط فَهُوَ الْإِسْرَاف وَذمَّة دون ذمّ الْفُجُور لتَفَاوت مَا بَين مفاسدها فَإِن قلت أما مفاسد الْفُجُور وَالْعجز فَمَا مفاسد الْإِسْرَاف فِي غير حرَام قلت يَكْفِي مِنْهَا فِي هَذَا الْموضع مَا أُشير إِلَيْهِ فِي سياسة أرسطو لَا تمل إِلَى النِّكَاح فَإِنَّهُ من طباع الْخَنَازِير الدَّوَابّ أَكثر فِيهِ مِنْك وَهُوَ يهْلك الْجِسْم ويقي الْبدن وَينْقص الْعُمر ويسلط النِّسَاء عَلَيْك الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة السَّعْي فِي إخماد الشَّهْوَة بِتَحْرِيم مَا يحفظ قوتها مَمْنُوع لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} إِلَى قَوْله {أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي إِذا أصبت الحم انتشرت إِلَى النِّسَاء وأخذتني شهوتي فَحرمت عَليّ اللَّحْم فَنزلت الْآيَة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَفِي الصَّحِيح رد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التبتل فِي قصَّة عُثْمَان ابْن مَظْعُون وَلَو أذن لَهُ لاختصينا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من الْوَارِد على ارْتِكَاب الْفُجُور وعيدان الْوَعيد الأول رفع اسْتِصْحَاب الْإِيمَان حَالَة الْوُقُوع فِيهِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

قَالَ لايزني الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن زَاد النَّسَائِيّ فَإِذا فعل ذَلِك خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه فَإِن تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ الْوَعيد الثَّانِي إِنْزَال الْمصر عَلَيْهِ منزلَة عَبدة الْأَصْنَام والطواغيت فَفِي الحَدِيث عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمُقِيم على الزِّنَا كعابد وثن وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ وَقد صَحَّ أَن مدمن الْخمر إِذا مَاتَ لَقِي الله كعابد وثن وَلَا شكّ أَن الزِّنَا أَشد وَأعظم عِنْد الله من شرب الْخمر وَالله أعلم الْمَسْأَلَة السَّادِسَة مَا يدل على فضل الْعِفَّة عَنهُ حَتَّى فِي النّظر الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ وَجْهَان أَحدهمَا دُخُول الْجنَّة جَزَاء عَلَيْهَا وثوابا فَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا شُبَّان قُرَيْش احْفَظُوا فروجكم لَا تَزْنُوا أَلا من حفظ فرجه دخل الْجنَّة رَوَاهُ الْحَاكِم وَفِي رِوَايَة أُخْرَى يَا فتيَان قُرَيْش لَا تَزْنُوا فَإِنَّهُ من سلم لَهُ شبابه دخل الْجنَّة الثَّانِي تَعْرِيض تَارِك النّظر للوازع الشَّرْعِيّ بِالْإِيمَان يجد لَهُ حلاوة

فِي قلبه فَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ربه عز وَجل النظرة سهم مَسْمُوم من سِهَام إِبْلِيس من تَركهَا مخافتي أبدلته إِيمَانًا يزِيد حلاوته فِي قلبه رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ شَهَادَة فتح قَالَ الْغَزالِيّ وَهَذَا شَيْء مجرب علمه وتحققه لمن عمل بِهِ إِذا امْتنع عَن النّظر إِلَى الْمحرم يجد لَذَّة الْعِبَادَة وحلاوة وللقلب صفوة لم يجدهَا قبل ذَلِك وَقد أحسن الْقَائِل (وَأَنت إِذا أرْسلت طرفك رائدا ... لقلبك يَوْمًا أتعبتك المناظر) (رَأَيْت الَّذِي لَا كُله أَنْت قَادر ... عله وَلَا عَن بعضه أَنْت صابر) الْمَسْأَلَة السَّابِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف وَفِي ذمّ الشَّهْوَة الْعِفَّة زِينَة الْفَقِير الْفَاحِشَة عَار الْأَبَد وعقوبة غَد أقبح الشره الشره على الطَّعَام وَالْجِمَاع النَّفس الَّتِي غلبت عَلَيْهَا الشَّهْوَة والالتذاذ لَا تُؤثر حسن الذّكر لِأَنَّهَا لَا ترى الْفضل إِلَّا فِيمَا التذت بِهِ لَذَّة خسيسة من أرْضى الْجَوَارِح بالشهوة فقد غرس فِي قلبه شَجَرَة الندامة من أَرَادَ شهوات الدُّنْيَا فليتهيأ للذل من اشتاق إِلَى الْجنَّة سلا عَن الشَّهَوَات من أطَاع الشَّهْوَة خذلته عَن الرُّجُوع إِلَى ربه فِي دفع المكاره وَجَعَلته خَادِمًا لمن كَانَ يجب أَن يستخدمه ومقدما لمن كَانَ يجب أَن يقدمهُ

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة الحكايات عَن المعصومين بالعفة كَثِيرَة وَحكى من ذَلِك خبران الْخَبَر الأول عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدث حَدِيثا لم أسمعهُ إِلَّا مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو مَرَّات وَلَكِن سمعته أَكثر من ذَلِك سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول كَانَ الكفل من بني إِسْرَائِيل وَكَانَ لَا يتورع من ذَنْب عمله فَأَتَتْهُ امْرَأَة فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارا على أَن يَطَأهَا فَلَمَّا قرب مِنْهَا ارتعدت وبكت فَقَالَ لَهَا مَا يبكيك قَالَت هَذَا عمل مَا عملته قطّ وَلَا حَملَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجة بِالدَّرَاهِمِ وأخاف عُقُوبَة الله فَقَالَ لَهَا تفعلين هَذَا من مَخَافَة الله وَأَنت لم تفعليه قطّ فَأَنا أَحَق بالخوف اذهبي فلك مَا أَعطيتك وَالله لَا أعصيه بعد هَذَا أبدا فَمَاتَ من ليلته فَأصْبح مَكْتُوبًا على بَابه إِن الله قد غفر للكفل فَعجب النَّاس من ذَلِك رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ الْخَبَر الثَّانِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول انْطلق ثَلَاث نفر مِمَّن كَانَ قبلكُمْ حَتَّى آواهم الْمبيت إِلَى غَار فدخلوه فانحدرت صَخْرَة من الْجَبَل فَسدتْ عَلَيْهِم الْغَار فَقَالُوا إِنَّه لَا ينجيكم من هَذِه الصَّخْرَة إِلَّا أَن تدعوا الله بِصَالح أَعمالكُم فَمَا انفرجت الصَّخْرَة حَتَّى قَالَ أحدهم كَانَ لي ابْنة عَم كَانَت أحب النَّاس إِلَيّ فراودتها عَن نَفسهَا فامتنعت مني حَتَّى أَتَت بهَا سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها مائَة دِينَار على أَن تخلي بيني وَبَين نَفسهَا فَفعلت حَتَّى إِذا قعدت بَين رِجْلَيْهَا قَالَت لَا يحِق لَك أَن تفض الْخَاتم إِلَّا بِحقِّهِ فَقُمْت عَنْهَا بِغَيْر وقاع عَلَيْهَا فَانْصَرَفت عَنْهَا وَهِي أحب النَّاس إِلَيّ وَتركت الذَّهَب الَّذِي أعطيتهَا اللَّهُمَّ إِنِّي كنت فعلت هَذَا ابْتِغَاء وَجهك فَفرج عَنَّا مَا نَحن فِيهِ فانفرجت الصَّخْرَة

القاعدة الخامسة

الْقَاعِدَة الْخَامِسَة السخاء والجود وفيهَا منهجان الأول فِي بَيَان هَذَا الْوَصْف وَالْآخر فِي تَقْرِير نقيضه وَهُوَ الْبُخْل الْمنْهَج الأول وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الطرطوشي هَذِه الْخصْلَة هِيَ الْجَلِيل قدرهَا الْعَظِيم خطرها هِيَ إِحْدَى قَوَاعِد المملكة وأساسها وتاجها وجمالها تعنوا بهَا الْوُجُوه وتذل لَهَا الرّقاب وتخضع لَهَا الْجَبَابِرَة وتسترق بهَا الْأَحْرَار وتستمال بهَا الْأَعْدَاء ويستكثر بهَا الثَّنَاء وَيملك بهَا الْقُرَبَاء والبعداء وَهِي بالعزائم الْوَاجِبَات أشبه مِنْهَا بالجمال والمحبوبات الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مِمَّا يدل على فَضله وَجْهَان أَحدهمَا قرب المتخلق بِهِ من سَعَادَة الدّين وَالدُّنْيَا فَعَن أَبى هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ السخي قريب من الله قريب من الْجنَّة بعيد من النَّار والبخيل بعيد من الله بعيد من الْجنَّة قريب من النَّار وجاهل سخي أحب إِلَى الله من عَالم بخيل رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ الثَّانِي دلَالَة كَثْرَة المتصفين بِهِ على إِرَادَة الْخَيْر بالعباد فَعَن الْحسن رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ الله بِقوم خيرا ولى أَمرهم الْحُكَمَاء وَجعل المَال عِنْد الأسخياء وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم

شرا أولى أَمرهم السُّفَهَاء وَجعل المَال عِنْد البخلاء رَوَاهُ أَبُو دَاوُود فِي مراسليه الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة إِذا كَانَ من قَوَاعِد الْملك وعزائم واجباته مَعَ شَهَادَة الشَّرْع لَهُ بالفضيلة فالسلطان بالتخلق بِهِ أولى وبشرف الانتساب إِلَيْهِ أَحْرَى قَالَ الطرطوشي أحْوج خلق الله إِلَيْهِ من أحتاج إِلَى عطف الْقُلُوب عَلَيْهِ وَصرف الْوُجُوه إِلَيْهِ وَهُوَ الْملك قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ أحسن الْكَرم مَا يكون من قبل الْوُلَاة فَإِنَّهُم خزان أَمْوَال الْمُسلمين وَمَا مِنْهُم إِلَّا لَهُ عِنْدهم حق أَعْطوهُ أَو منعُوهُ فَإِذا جادوا بِهِ لأربابه كرمت ذواتهم وَطَابَتْ صفاتهم وصفت حالاتهم وعطت درجاتهم وتضاعفت بركاتهم قلت وأمنوا كل مَخَافَة وَكفوا دفاع الروع والمخافة كَمَا يحْكى أَن النُّعْمَان بن الْمُنْذر لما توج وَاطْمَأَنَّ بِهِ سَرِيره دخل عَلَيْهِ النَّاس وَفِيهِمْ أَعْرَابِي فَأَنْشَأَ يَقُول (إِذا سست قوما فَاجْعَلْ الْجُود بَينهم ... وَبَيْنك تأمن كل مَا تتخوف) (فَإِن كشفت عِنْد الملمات عَورَة ... كَفاك لِبَاس الْجُود مَا يتكشف) فَقَالَ النُّعْمَان مَقْبُول نصحك فَمن أَنْت قَالَ رجل من حزم فَأمر لَهُ بِمِائَة نَاقَة وَهِي أول جَائِزَة أجازها الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ الْإِمْسَاك حَيْثُ يجب الْبَذْل بخل

والبذل حَيْثُ يجب الْإِمْسَاك تبذير وَبَينهمَا وسط هُوَ الْمَحْمُود الْمعبر عَنهُ بالسخاء والجود قلت هُوَ معنى قَول أرسطو السخاء هُوَ بذل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَقت الْحَاجة وتوصيله إِلَى مستحقيه بِقدر الطَّاقَة قَالَ وَقد قيل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُؤمر إِلَّا بالسخاء فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك وَلَا تبسطها كل الْبسط} وَقَالَ {وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا وَلم يقترُوا وَكَانَ بَين ذَلِك قواما} الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة الْوَاجِب الَّذِي لَا يَسعهُ السخاء قِسْمَانِ وَاجِب بِالشَّرْعِ كَالزَّكَاةِ وَالنَّفقَة وواجب بالمروءة كَتَرْكِ المصانعة وَالِاسْتِقْصَاء فِي المحقرات وَيخْتَلف استقباح ذَلِك بِحَسب الْأَحْوَال والأشخاص وَمَا نعه دون الأول الْبُخْل قَالَ الْغَزالِيّ فَمن أدّى الْوَاجِب فقد تَبرأ من الْبُخْل نعم لَا يَتَّصِف بالجود والسخاء مَا لم يبْذل زِيَادَة على ذَلِك اطلب الْفَضِيلَة تنَلْ الدَّرَجَات الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ الْمَرَاتِب هُنَا ثَلَاثَة السخاء وَهُوَ إِعْطَاء بعض وإمساك بعض ثمَّ الْجُود وَهُوَ إِعْطَاء الْأَكْثَر ثمَّ الإيثار وَهُوَ بذل الْجَمِيع قَالَ الْغَزالِيّ وَلَيْسَ بعده دَرَجَة وَبِه أثنى الله على الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بقوله تَعَالَى {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة}

قلت وَبِه يبلغ إِلَى دَرَجَة الصدْق مَعَ الله تَعَالَى ذكره ابْن الْعَرَبِيّ مستشهدا عَلَيْهِ يَقُول سُفْيَان الثَّوْريّ إِذا أكمل صديق الصَّادِق لم يخلف مَا فِي يَدَيْهِ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة السخاء ضَرْبَان سخاء فِي الدُّنْيَا وَقد تقدّمت حَقِيقَته وَفِي الدّين وَفِيه لعلماء الْآخِرَة عِبَارَات وَمِنْهَا قَول المحاسبي رَحْمَة الله تَعَالَى أَن تسخو بِنَفْسِك لله تَعَالَى فِي إِرَاقَة دمك من غير كَرَاهَة لَا لارادة ثَوَاب عَاجل أَو آجل وان كنت لَا تَسْتَغْنِي عَن ذَلِك بل تحسن كَمَال السخاء بترك الِاخْتِيَار على الله تَعَالَى حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يفعل بك مَالا تختاره لنَفسك انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة قَالَ الْحُكَمَاء الْمُلُوك أَرْبَعَة سخي على نَفسه سخي على رَعيته وَصَوَّبَهُ الْفرس وشحيح على نَفسه شحيح على رَعيته وَصَوَّبَهُ الهنود وسخي على نَفسه وشحيح على رَعيته وَأَجْمعُوا على ذمَّة لفساد ملكه بذلك وشحيح على سخي على رَعيته قَالَت للروم لَا عيب عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْبَاب لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يشْكر نعْمَة الله بجميل الْأَنْعَام بهَا على خلق الله يَا ابْن آدم أَمرك الله أَن تكون كَرِيمًا وَتدْخل الْجنَّة ونهاك أَن تكون شحيحا وَتدْخل النَّار عجبت لمن يَشْتَرِي المماليك بِمَالِه وَلَا يَشْتَرِي الْأَحْرَار بمعروفه

الْجواد هُوَ الَّذِي يُعْطي من غير مَسْأَلَة صِيَانة للأحرار عَن الْمَسْأَلَة الْملك الْحق هُوَ الَّذِي يملك الْأَحْرَار لَا الْأَرْضين وَالْأَمْوَال الَّذِي يستفيده السخي من حسن الْقبُول وَرفع الْمنزلَة ومكابرة الرؤوساء هُوَ أَكثر مِمَّا هُوَ لَهُ الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من أغرب أَخْبَار الأسخياء فِي الإيثار بِالنَّفسِ حكايتان الْحِكَايَة الأولى يرْوى أَن الْحَارِث بن هِشَام وَعِكْرِمَة بن أبي جهل وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة رَضِي الله عَنْهُم خَرجُوا يَوْم اليرموك فَدَعَا الْحَارِث بن هِشَام بِمَاء يشربه فَنظر إِلَيْهِ عِكْرِمَة فَقَالَ ادفعوه إِلَى عِكْرِمَة فَلَمَّا أَخذه عِكْرِمَة نظر إِلَى عَيَّاش فَقَالَ ادفعوه إِلَى عَيَّاش فَمَا وصل إِلَى عَيَّاش حَتَّى مَاتَ وَلَا وصل إِلَى وَاحِد مِنْهُم حَتَّى مَاتُوا رَضِي الله عَنْهُم قَالَ صَاحب مَشَارِق الأشواق وَانْظُر إِلَى إيثارهم فِي هَذِه الْحَال وسماحة أنفسهم بِمَا هُوَ عديل حياتهم لَا جرم استحقوا رضوَان الله وَحسن المناب

الْحِكَايَة الثَّانِيَة قَالُوا لما سعى غُلَام خَلِيل بالصوفية إِلَى الْخَلِيفَة وَرفع إِلَيْهِ أَنهم زنادقة أَمر بِضَرْب أَعْنَاقهم فَأَما الْجُنَيْد فاستعاذ بالفقه وَكَانَ على مَذْهَب أبي ثَوْر وَأما الشحام والرقام وَأَبُو الْحُسَيْن الثَّوْريّ وَغَيرهم فَقبض عَلَيْهِم وَبسط النطع لضرب أَعْنَاقهم فَتقدم الثَّوْريّ فَقَالَ لَهُ السياف أَتَدْرِي لما تتقدم قَالَ نعم قَالَ وَمَا يعجلك قَالَ أوثر أَصْحَابِي بحياة سَاعَة فَتنحّى السياف وأنهى الْخَبَر إِلَى الْخَلِيفَة فردهم إِلَى القَاضِي لبعرف حَالهم فَألْقى القَاضِي على أبي الْحُسَيْن مسَائِل فقهية فَأجَاب عَن الْكل ثمَّ أَخذ يَقُول وَبعد فَإِن لله عبادا إِذا قَامُوا قَامُوا بِاللَّه وَإِذا تكلمُوا تكلمُوا بِاللَّه وَإِذا فعلوا فعلوا بِاللَّه

المنهاج الثاني

وسرد كلَاما بليغا حَتَّى أبكى القَاضِي قَالَ وَإِن كَانَ هَؤُلَاءِ زنادقة فَمَا على وَجه الأَرْض مُسلم وَأرْسل إِلَى الْخَلِيفَة وَأمر بالتخلي عَنْهُم الْمِنْهَاج الثَّانِي وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى مِمَّا يدل على ذمّ الْبُخْل وَجْهَان أَحدهمَا استعادة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْبُخْل والكسل وأرذل الْعُمر وَعَذَاب الْقَبْر وفتنة الْمحيا وَالْمَمَات الثَّانِي طرده عَن مجاورة رب الْعِزَّة فَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلق الله جنَّة عدن بيدَيْهِ ودلى فِيهَا ثمارها وشق فِيهَا أنهارها ثمَّ نظر إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا تكلمي فَقَالَت قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ فَقَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يجاورني فِيك بخيل رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مِمَّا يدل على ذمّ الشُّح وَجْهَان أَحدهمَا حمله على الْفَوَاحِش الْمُوجبَة للهلاك فَفِي الصَّحِيح عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اتَّقوا الظُّلم فَإِن الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة وَاتَّقوا الشُّح فَإِن الشُّح أهلك من كَانَ قبلكُمْ حملهمْ على أَن سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمهمْ عدم اجتماعه مَعَ الْإِيمَان فِي قلب إِنْسَان فَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجْتَمع غُبَار فِي سَبِيل الله ودخان جَهَنَّم فِي جَوف عبد مُؤمن أبدا وَلَا يجْتَمع شح وإيمان فِي قلب عبد أبدا رَوَاهُ النَّسَائِيّ

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قيل هما بِمَعْنى وَاحِد وَقيل الْبُخْل بِمَا فِي الْيَد وَالشح بِمَا بيد الْغَيْر قَالَه طَاوُوس وَقَالَ رجل لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ إِنِّي أَخَاف أَن أكون قد هَلَكت سَمِعت الله يَقُول {وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} وَأَنا رجل لَا يكَاد يخرج من يَدي شَيْء فَقَالَ لَيْسَ بالشح الَّذِي ذكر الله وَلَكِن الشُّح أَن تَأْكُل مَال أَخِيك ظلما وَلَكِن ذَلِك الْبُخْل وَلَيْسَ الشُّح هُوَ الْبُخْل قَالَ الطرطوشي فَفرق بَينهمَا الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ ابْن قيم الجوزية الْفرق بَين الشُّح والاقتصاد أَن الاقتصاد خلق مَحْمُود يتَوَلَّد بَين عدل الْمَنْع والبذل من حسن الظَّن وَحكمه وضع كل مِنْهُمَا مَوْضِعه وَالشح خلق مَذْمُوم يتَوَلَّد من سوء الظَّن وَضعف النَّفس ويمده وعد الشَّيْطَان حَتَّى يصير هالعا شَدِيد الْحِرْص شَرها فيتولد عَنهُ الْمَنْع لبذله والجزع لفقده قَالَ الله تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا} الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة تقدم إِن حِدة الْإِمْسَاك حَيْثُ يجب الْبَذْل وَأَن أشده منع مَا وَجب شرعا ودونه منع مَا وَجب مُرُوءَة وَإِن استقباحه يخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال قلت وشناعة قبحه بِحَسب رُتْبَة السُّلْطَان بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ فِي الرذيلة العائدة بشر الْفساد وَيَكْفِي من ذَلِك أُمُور

أَحدهمَا فَوت النَّصِيحَة لأَجله قَالَ الطرطوشي إِذا كَانَ السُّلْطَان بَخِيلًا لم بناصحه أحد وَلَا تصلح الْولَايَة إِلَّا بالمناصحة الثَّانِي شياع توقع الْمَكْرُوه بِهِ قَالَ أفلاطون إِذا كثر الْمُلُوك الإرجاف بهم الثَّالِث استلزامه للجور غَالِبا فَفِي الأفلاطونيات قل من يكون من الْمُلُوك بَخِيلًا فَيكون عادلا لِأَن الْعدْل يعطل الضرائب وَإِذا كَانَ بَخِيلًا لم يسمح بإسقاطها الرَّابِع اتصافه مِنْهُ بشر الْخِصَال فقد قيل شَرّ خِصَال الْمُلُوك الْجُبْن على الْأَعْدَاء وَالْقَسْوَة على الْأَوْلِيَاء وَالْبخل عِنْد الْإِعْطَاء الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ الْغَزالِيّ علاج الْبُخْل بِعلم وَهُوَ يرجع إِلَى معرفَة آفَة الْبُخْل وَفَائِدَة الْجُود وبعمل وَهُوَ يرجع إِلَى الْبَذْل على سَبِيل التَّكَلُّف وَلَكِن قد يُقَوي الْبُخْل بِحَيْثُ يعمى ويصم فَيمْنَع تحقق الْمعرفَة بآفاته وَإِذا لم تتَحَقَّق لم تتحرك الرَّغْبَة فَلم يَتَيَسَّر الْعَمَل فِيهِ فَتَصِير عِلّة مزمنة قَالَ وَمن الْأَدْوِيَة النافعة كَثْرَة التَّأَمُّل فِي أَحْوَال البخلاء ونفور الطَّبْع عَنْهُم فَإِنَّهُ مَا من بخيل إِلَّا ويستقبح الْبُخْل من غَيره ويستثقل كل بخيل فَيعلم أَنه كَذَلِك الْمَسْأَلَة السَّابِعَة قَالَ أفلاطون لَا يحسن الْبُخْل إِلَّا فِي أَربع الدّين وَالْحرم وَأَيَّام الْحَيَاة والمقاتلة قلت لِأَن الشُّح فِي الدّين هُوَ الْخَيْر الَّذِي لَا خير مثله والسخاء الَّذِي لَا خير مثله والسخاء بِالْحرم خسة لَا حضيض بعْدهَا وبأيام الْحَيَاة تضيع مَالا عوض عَنهُ وبالمقاتلة قبل وَقتهَا تغرير لَا تلجأ إِلَيْهِ ضَرُورَة

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا شح الْغَنِيّ فضيحة من طلب مَا عِنْد الْبَخِيل مَاتَ جوعا إِذا قصدت الْبَخِيل فِي حَاجَة أبدى لَك الحرمان والعداوة فَهُوَ شَرّ مِنْهُ وَمن لم يواس الإخوان فِي دولته خذلوه فِي نكبته من نقص الْبَخِيل أَنه يصون مَا فِي ذَات يَده من الْخَارِج عَنهُ ويبذل نَفسه وَقواهُ اللَّتَيْنِ هما ذاتيتان لَهُ فيفضل الْبعيد على الْغَرِيب والوضيع على الرفيع الْبَخِيل يسخو من عرضه بِمِقْدَار مَا يسخو بِهِ من مَاله والسخي يبخل من عرضه بِمِقْدَار مَا يسخو بِهِ من مَاله البخلاء يكون عفوهم عَن الذَّنب أسهل عَلَيْهِم من الْمُكَافَأَة على صَغِير الْإِحْسَان الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من حكايات البخلاء مَا يُقَال أَن مُحَمَّد بن يحي بن خَالِد بن برمك كَانَ بَخِيلًا قَبِيح وَالْبخل فَسئلَ نسيب لَهُ كَانَ يألفه عَنهُ وَقيل لَهُ صف مائدته قَالَ هِيَ فتر فِي فتر وصحائفه منقورة من حب الخشخاش قيل فَمن يحضرها قَالَ الْكِرَام الكاتبون قيل أفيأكل مَعَه أحد قَالَ بل الذُّبَاب قيل واسواة لَهُ فَأَنت خَاص بِهِ وقميصك مخرق قَالَ أَي وَالله مَا أقدر على إبرة أخيطه بهَا وَلَو ملك مُحَمَّد بَيْتا من بَغْدَاد إِلَى النّوبَة مملوءا إبرا ثمَّ جَاءَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام ومعهما يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام يضمنُون عَلَيْهِ إبرة ويسألونه إعارتهم إِيَّاهَا ليخيط بهَا قَمِيص يُوسُف الَّذِي قد من دبر مَا فعل

القاعدة السادسة

الْقَاعِدَة السَّادِسَة الْحلم وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى لَا مرية فِي فَضِيلَة هَذَا الْوَصْف بِمَا يتجمل بِهِ من الْفَوَائِد وَهِي جملَة الْفَائِدَة الأولى محبَّة الله وَرَسُوله فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للأشبح إِن فِيك خَصْلَتَيْنِ يحبهما الله وَرَسُوله الْحلم والأناة الْفَائِدَة الثَّانِيَة شَهَادَته بعلو الهمة فَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه سَأَلَ بعض كبراء فَارس عَن أَحْمد سير مُلُوكهمْ فَقَالَ لازدشير فضل السَّبق غير أَن أحمدهم سيرة أنو شرْوَان وَله خلق غَيرهَا فَقَالَ وَأي أخلاقه كَانَ أغلب عَلَيْهِ قَالَ الْحلم والإناءة فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ هَذَا توأمان ينتجها علو الهمة الْفَائِدَة الثَّالِثَة اسْتِحْقَاق السِّيَادَة بِهِ قَالَ أَكْثَم بن صَيْفِي من حلم سَاد وَمن تفهم ازْدَادَ وَكفر النعم لؤم ومحبة الْجَاهِل شُؤْم ولقاء الإخوان غنم وَمن الْفساد أضاعه الزَّاد الْفَائِدَة الرَّابِعَة كفاءة الحماية بِهِ عَن مضرَّة الْغَيْر قَالَ الْأَحْنَف وجدت الْحلم أنْصر لي من الرِّجَال قَالَ الطرطوشي وَصدق فقد روى أَن رجلا أسْرع فِي ذمّ بعض الْآدَمِيّين وَهُوَ سَاكِت فحمى لَهُ بعض المارين

وَقَالَ لَهُ يَرْحَمك الله أَلا ننتصر لَك قَالَ لَا قَالَ وَلم قَالَ لِأَنِّي وجدت الْحلم أنْصر لي وَهل حميتني إِلَّا بحملي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَحَق النَّاس بِهَذِهِ الْفَضِيلَة وأحوجهم إِلَى الإتصاف بهَا السُّلْطَان وَيدل على ذَلِك مُنْضَمًّا لما تقدم أَمْرَانِ أَحدهمَا انتصابه لإِقَامَة آود الْخلق ومعاناة الصَّبْر على مَا يصدر مِنْهُم فِي الإرتفاع إِلَيْهِ وصدورهم بالتشاجر حرجة وأخلاقهم بمضايقة الْخُصُوم منحرفة قَالَ الطرطوشي فَإِن لم يكن مَعَه حلم يرد بِهِ بوادرهم وَإِلَّا وَقع تَحت حمل ثقيل الثَّانِي إِدْرَاكه بِهِ كَمَال الْعِزّ وإسداء الْمِنَّة لَا كَمَا يتَوَهَّم أَنه من عجز الْمقدرَة وَضعف الْمِنَّة كَمَا قيل (لن يدْرك الْمجد أَقوام وَإِن شرفوا ... حَتَّى يداولوا وَأَن عزوا لأقوام) (ويصفحوا عَن كثير من إساءتهم ... لأصفح ذل وَلَكِن صفح أَحْلَام) الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من تَمام الْحلم قبُول المعاذير الصادقة أَو الكاذبة لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا وُرُود الْأَمر بذلك مَقْرُونا بالوعيد على التّرْك فَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عفوا عَن نسَاء النَّاس

تعف نِسَاؤُكُمْ وبروا آبَاءَكُم يبر بكم أبناؤكم وَمن أَتَاهُ أخوة مُتَّصِلا أَي معتذرا فليقبل ذَلِك محقا كَانَ أَو مُبْطلًا فَإِن لم يفعل لم يرد على الْحَوْض رَوَاهُ الْحَاكِم الثَّانِي تردده بَين النَّدَم وَالْحيَاء وَالْأول تَوْبَة تصير المعتذر عَنهُ كَأَنَّهُ لم يكن وَلذَلِك قيل الإعتراف يهدم الاقتراف وَالثَّانِي أَيْمَان وَكفى بِهِ شَفِيعًا وَمن ثمَّ قيل نعم الشَّفِيع الإعتذار عِنْد أهل الْحلم والاقتدار قلت لَا سِيمَا لوحظ فِيهِ دلَالَة قبُوله على حريَّة النَّفس وكرم الطبيعة كَمَا قَالَ (إِذا اعتذر الْمُسِيء إِلَيْك يَوْمًا ... من التَّقْصِير عذر فَتى مقرّ) (فصنه عَن عقابك واعف عَنهُ ... فَإِن الصفح شِيمَة كل حر) الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة إِذا أدّى هَذَا الْقبُول إِلَى الصفح فِيمَا لَا يسمع الأغضاء عَنهُ سقط اعْتِبَاره قَالَ الْحُكَمَاء اقبل الْعذر وَإِن كَانَ مصنوعا إِلَّا أَن يكون مِمَّا أوجبت الْمُرُوءَة قِطْعَة أَو يكون فِي قبُوله تشجيعه على الْمَكْرُوه أَو عونه على الشَّرّ فَإِن قبُول الْعذر فِيهِ إشراف فِي الْمُنكر قلت وَكَذَا حَيْثُ لَا يكون هُنَاكَ عذر وَالْجِنَايَة مُسْتَحقَّة الْجَزَاء الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة الإتصاف بالحلم الممدوح لَا يتَوَقَّف على قمع الْغَضَب بِالْكُلِّيَّةِ لِأَن ذَلِك غير مَطْلُوب وَإِنَّمَا يتَوَقَّف كَمَاله على انقياد الْغَضَب لِلْعَقْلِ

حَيْثُ يُشِير رده إِلَى الإعتدال الَّذِي هُوَ وسط بَين طرفِي الإفراط والتفريط كَمَا تقدم وَإِذ ذَاك فتحقق الإتصاف بِهِ على الْوَجْه الْمَحْمُود وَمن هُنَاكَ قيل من لَا يغْضب فَلَيْسَ بحليم لِأَن الْحلم لَا يعرف إِلَّا عِنْد الْغَضَب قَالَ الطرطوشي وَقد أنْشد النَّابِغَة الْجَعْدِي بِمحضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَا خير فِي حلم إِذا لم تكن لَهُ ... بَوَادِر تَحْمِي صَفوه أَن يكدرا) (وَلَا خير فِي جهل إِذا لم يكن لَهُ ... حَلِيم إِذا مَا أورد الْأَمر أصْدرَا) فَلم يُنكر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله قَالَ وَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ إِذا سَافر استتبع سَفِيها وَيَقُول سندفع بِهِ شَرّ السُّفَهَاء الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف لَيْسَ الْخَيْر أَن يكثر مَالك وولدك وَلَكِن الْخَيْر أَن يعظم حلمك وَيكثر علمك لَيْسَ الْحَلِيم من ظلم فحلم حَتَّى إِذا قدر اقْتصّ إِنَّمَا الْحَلِيم من إِذا قدر عَفا الْحلم ترك المكافآت قولا وفعلا الْحلم حجاب الْآفَات وَأَن حلم سَاعَة ليرد سبعين آفَة الْحلم يزِيل تعدِي الْحر وَيَردهُ إِلَى أحسن مُرَاجعَة وَلَا يزِيل الْوَعْد إِلَّا الإخافة الْحلم لَا ينْسب إِلَّا لمن قدر على السطوة الْحلم همته عَفوه ووقاره الْمُلُوك تعاقب قدرَة وَتَعْفُو حلما

يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم) وَقَوله تَعَالَى {فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف بِمَا كَانُوا يصنعون} وَمن ثمَّ قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين من لم يشْكر النعم فقد تعرض لزوالها وَمن شكرها فقد قيدها بعقالها قَالَ ابْن عَبَّاس اجْتمعت حكماء الْعَرَب والعجم على قَوْلهم الشُّكْر قيد الْمَوْجُود وصيد الْمَفْقُود الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَن حُصُولهَا الْمَزِيد مُعَلّق على الْوَفَاء بِهِ لقَوْله تَعَالَى {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} وَقَوله تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا} قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وَالسَّيِّد الْكَرِيم إِذا رأى العَبْد قد قَامَ بِحَق نعْمَته بِمن عَلَيْهِ بِأُخْرَى وَيَرَاهُ أهلالها وَإِلَّا فَيقطع عَنهُ ذَلِك قلت وَحَيْثُ لَا يحصل الْمَزِيد فالشكر غير حَاصِل وَهُوَ عِنْد ابْن الْعَرَبِيّ أقوى مَا قيل فِي ذَلِك على احْتِمَال تَقْيِيده بِالْمَشِيئَةِ أَو بِعَدَمِ الْمعْصِيَة وَلَا يتَّفق لمن حظى بِهِ أَو تَخْصِيصه بِقوم دون قوم آخَرين قَالَ وَبَعضه أقوى من بعض الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ حَقِيقَة الشُّكْر تصريف النِّعْمَة فِي الطَّاعَة فَإِذا أنعم على عَبده بِنِعْمَة فصرفها فِي طَاعَته فقد شكرها وَإِن صرفهَا فِي مَعْصِيّة فقد كفرها

من غرس الْحلم شَجرا أَو سقَاهُ الإناءة دررا أجتنى الْعِزّ مِنْهُ ثمرا وَأثبت فِي المكارم أثرا أحلم النَّاس من قدر على الْكَلَام وَهُوَ كثير صمته وَقدر على الْعقُوبَة وَهُوَ كثير عَفوه وَقدر على الْحَرَكَة وَهُوَ كثير وقاره الْمَسْأَلَة السَّابِعَة الحكايات عَن الْحُكَمَاء مُتعَدِّدَة وَيَكْفِي مِمَّا استدعاه بليغ الإعتذار وَحسن الإعتطاف حكايتان الْحِكَايَة الأولى يرْوى أَن الْمَأْمُون عتب يَوْمًا على عَمه إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ولى الثأر مُحكم فِي الْقصاص وَالْعَفو أقرب للتقوى وَمن تنَاوله الاغبرار مَعَ مأموله من أَسبَاب الرَّجَاء أَمن من عَادِية الدَّهْر وَقد جعلك الله فَوق كل ذِي لب كَمَا جعل كل ذِي لب دُونك فَأن تَأْخُذ فبحقك وَإِن تعف فبفضلك وَأَنْشَأَ يَقُول (ذَنبي إِلَيْك عَظِيم ... وَأَنت أعظم مِنْهُ) (فَخذ بحقك أَو لَا ... وأصفح بِفَضْلِك عَنهُ) (إِن لم أكن بفاعلي ... من الْكِرَام فكنه) وَأطَال مَجْلِسه بِكُل إعتذار حسن وَكَلَام بليغ فَقَالَ الْمَأْمُون الْقُدْرَة بِذَهَب الحفيظة والندم تَوْبَة يَا إِبْرَاهِيم لقد حببت إِلَى الْعَفو حَتَّى خفت أَن لَا أوجر عَلَيْهِ لَا تَثْرِيب عَلَيْك يغْفر الله لَك وجدد إحسانه إِلَيْهِ الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل بعث زِيَاد إِلَى مُعَاوِيَة رجلا من بني تَمِيم فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ أَنْت الْقَائِم علينا المكثر لعدونا قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا كَانَت فتْنَة عَم عماها واظلم دجاها نزا فِيهَا الوضيع وخف الْحَلِيم والرفيع فاحتدت وأكلت وشربت

القاعدة السابعة

حَتَّى إِذا انحسرت ظلماؤها وانكشفت غطاؤها وَآل الْأَمر إِلَى مآله وَصرح عَن محضه ارْتَفع العبوس وثابت النُّفُوس فتركنا فتنتنا ولزمنا عصمتنا وعرفنا خليفتنا وَمن يجد متابا لم يرد الله بِهِ عقَابا وَمن يسْتَغْفر الله يجد الله غَفُورًا رحِيما فَعجب مُعَاوِيَة من فَصَاحَته واستغرب حسن اعتذاره وَعَفا عَنهُ وَأحسن إِلَيْهِ الْقَاعِدَة السَّابِعَة كظم الغيظ وَالْغَضَب وفيهَا طرفان الطّرف الأول فِي كظم الغيظ وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى من فَضِيلَة التحلي بِهِ زَائِدا على مدحه بقوله تَعَالَى {والكاظمين الغيظ} فَوَائِد عاجلة وآجله الْفَائِدَة الأولى مَا فِي معلقات البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن} قَالَ الصَّبْر عِنْد الْغَضَب وَالْعَفو عِنْد الْإِسَاءَة فَإِذا فعلوا عظمهم عدوهم وخضع لَهُم الْفَائِدَة الثَّانِيَة دلَالَة قهر الْغَضَب بِهِ على الشدَّة النافعة فَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ الشَّديد بالصرعة إِنَّمَا الشَّديد الَّذِي يمسك نَفسه عِنْد الْغَضَب الْفَائِدَة الثَّالِثَة عظم الْأجر بِهِ وتوفيره فَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من جرعة أعظم جَزَاء عِنْد الله من جرعة غيظ كظمها عِنْد ابْتِغَاء وَجه الله رَوَاهُ ابْن ماجة

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مِمَّا يدل على ذمّ التشفي بِمَعْصِيَة الله أَمْرَانِ أَحدهمَا اخْتِصَاص صَاحبه بِدُخُول جَهَنَّم من بَاب لَا يدْخل مِنْهُ غَيره فَفِي الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَرْفُوعا أَن لِجَهَنَّم بَابا لَا يدْخلهُ إِلَّا من شفى غيظه بِمَعْصِيَة الله الثَّانِي إِدْخَال السقم بِهِ على الدّين فَمن كَلَام بَعضهم لَا يحملنك الْغَضَب على اقتراف إِثْم فتشفي غيظك وتسقم دينك الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة الْأَسْبَاب الْمعينَة على كظم الغيظ نَوْعَانِ أَحدهمَا علمي وَالْآخر عَمَلي النَّوْع الأول العلمي وَهُوَ أَمْرَانِ أَحدهمَا الفكرة فِيمَا يحملهُ على الرَّغْبَة فِي ثَوَابه والرهبة من عِقَاب التجاوز عَنهُ إِلَى التشفي والانتقام فَفِي بعض الْكتب السَّابِقَة يَقُول الله تَعَالَى يَا ابْن آدم أذكرني حِين تغْضب أذكرك حِين أغضب فَلَا أمحقك فِيمَن أمحق الثَّانِي تذكير النَّفس بِمَا فِي الانتقام من نفرة الْقُلُوب عَن المتشفي بِهِ وَمن نسبته إِلَى الخفة والطيش وَأَشد من ذَلِك على الرؤساء إِعْمَال الْحِيلَة عَلَيْهِم فِي طلب الْخَلَاص مِنْهُم مَتى عرفُوا بِسُرْعَة الْبَطْش ومعالجة الانتقام موعظة يحْكى أَن الْأَمِير شمس الْمَعَالِي كَانَ من محَاسِن

الدُّنْيَا وبهجتها غير أَنه كَانَ شَدِيد السطوة وَمَا زَالَ على هَذَا الْخلق حَتَّى استوحشت النُّفُوس مِنْهُ وانقلبت الْقُلُوب عَنهُ فأجمع أَعْيَان عسكره على خلعه وَنزع الْأَيْدِي عَن طَاعَته فَوَافَقَ هَذَا التَّدْبِير مِنْهُم غيبته عَن جرمان بَلَده فَلم يشْعر بذلك وَلم يخبر حَتَّى قصدوه وَأَرَادُوا الْقَبْض عَلَيْهِ فحامى عَنهُ بعض من كَانَ فِي صحبته من خواصه فنهبوا فيله وأمواله وَرَجَعُوا إِلَى جرجان فملكوها وبعثوا إِلَى وَلَده أبي مَنْصُور وقهروه على الْوُصُول إِلَيْهِم لعقد الْبيعَة لَهُ فأسرع فِي الْحُضُور فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم أَجمعُوا على طَاعَته وخلع أَبِيه فَلم يَسعهُ فِي تِلْكَ الْحَال إِلَّا المداراة والإجابة خوفًا على خُرُوج الْملك عَن بَيتهمْ وَلما رأى الْأَمِير شمس الْمَعَالِي تِلْكَ الْحَال توجه إِلَى نَاحيَة بسطَام بِمن مَعَه من الْخَواص لينْظر مَا يسْتَقرّ عَلَيْهِ الْأَمر فَلَمَّا سمع الخارجون عَلَيْهِ انحيازه إِلَى تِلْكَ الْجِهَة حملُوا وَلَده متوجهين قَصده وإزعاجه عَن مَكَانَهُ فَسَار مَعَهم مُضْطَرّا فَلَمَّا وصل إِلَى أَبِيه اجْتمع بِهِ وتباكيا وتشاكيا وغرض الْوَلَد أَن يكون حِجَابا بَينه وَبَين أعدائه وَلَو ذهبت نَفسه فِيهِ وَرَأى الْوَالِد أذلك لَا يجدي وَأَنه أَحَق بِالْملكِ من بعده فَسلم المملكة إِلَيْهِ واستوصاه خيرا بِنَفسِهِ مَا دَامَ على قيد الْحَيَاة واتفقا على أَن يكون فِي بعض القلاع إِلَى أَن يَأْتِيهِ أَجله فَأرْسل إِلَى تِلْكَ القلعة وَشرع الْوَلَد فِي الْإِحْسَان إِلَى الْجَيْش وهم لَا يَخْشونَ خشيَة هجم الْوَالِد وَلَو لم يزَالُوا بِهِ حَتَّى قتل النَّوْع الثَّانِي العملي وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَقْوَال وَالْآخر أَفعَال

الأول مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سلمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ كنت جَالِسا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجلان يستبان وَأَحَدهمَا قد احمر وَجهه وَانْتَفَخَتْ أوداجه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لأعْلم قولة لَو قَالَهَا لذهب عَنهُ مَا يجد لَو قَالَ أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ذهب عَنهُ مَا يجد فَقَالُوا لَهُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم فَقَالَ وَهل بِي من جُنُون الثَّانِي أَفعَال وَهِي جُلُوس الغاضب من قِيَامه واضطجاعه من جُلُوسه إِن لم يذهب عَنهُ غيظه وَكَذَا وضوءه فَعَن أبي ذَر الْغِفَارِيّ عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا غضب أحدكُم وَهُوَ قَائِم فليجلس فَإِن ذهب عَنهُ الغيظ فليضطجع رَوَاهُ أَبُو دَاوُود وَعَن عَطِيَّة بن عُرْوَة السَّعْدِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

إِن الْغَضَب من الشَّيْطَان وَإِن الشَّيْطَان خلق من نَار وَإِنَّمَا تُطْفِئ النَّار بِالْمَاءِ فَإِذا غضب أَحَدكُمَا فَليَتَوَضَّأ فَائِدَة حكمِيَّة الِاضْطِجَاع قرب الْغَضَب من الأَرْض الْمَخْلُوق مِنْهَا ليعرف بذلك ذل نَفسه وَالْمَقْصُود مِنْهَا أَن الْجُلُوس طلب للسكون المضاد للحركة الَّتِي هِيَ حرارة الْغَضَب أَشَارَ إِلَيْهِ الْغَزالِيّ وَقد ذكرُوا أَن بعض الْمُلُوك كَانَ إِذا غضب ألْقى بَين يَدَيْهِ مَفَاتِيح تربة الْمُلُوك الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف كظم الغيظ حلم والحلم صَبر لَا توقدن بَين جنبيك جَمْرَة الْغَضَب وأردد إساءته بالحلم فَإِن شَجَرَة الثأر إِذا هبت عَلَيْهِ الرِّيَاح تحانت أَغْصَانهَا فتشتعل نَارا وتحترق من أُصُولهَا ثَلَاثَة من اجْتَمعْنَ فِيهِ فقد سعد من إِذا غضب لم يُخرجهُ غَضَبه عَن الْحق وَإِذا رَضِي لم يدْخلهُ رِضَاهُ فِي الْبَاطِل وَإِذا قدر عَفا من اتَّقى الله لم يشف غيظه وَمن خَافَ الله لم يفعل مَا يُريدهُ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من الْمَنْقُول فِي كظم الغيظ لتذكر الثَّوَاب وَالْعِقَاب حكايتان الْحِكَايَة الأولى يرْوى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ أَمر بِضَرْب رجل ثمَّ قَرَأَ {والكاظمين الغيظ} فأقاله الْحِكَايَة الثَّانِيَة يُقَال أَن عبد الله بن مُسلم قَالَ للرشيد يَا أَمِير

الطرف الثاني

الْمُؤمنِينَ أَسأَلك بِالَّذِي أَنْت بَين يَدَيْهِ غَدا أذلّ مني بَين يَديك الْيَوْم وَبِالَّذِي هُوَ أقدر على عقابك مِنْك عَليّ إِلَّا مَا عَفَوْت عني فَعَفَا وأمنه من عِقَاب الطّرف الثَّانِي فِي الْغَضَب وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى مِمَّا يدل على ذمه وَجْهَان أَحدهمَا تَكْرِير الْوَصِيَّة باجتنابه فَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ أَن رجلا قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوصني فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تغْضب فردد عَلَيْهِ مرَارًا لَا تغْضب الثَّانِي دلَالَة التباعد بِتَرْكِهِ عَن غضب الله تَعَالَى على الْقرب من ذَلِك الْغَضَب بارتكابه فَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَمْنعنِي من غضب الله تَعَالَى قَالَ لَا تغْضب الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة حَقِيقَة غليان دم الْقلب موجدة على من دونه فيحمر ظَاهره بانتشار دَمه وعَلى من فَوْقه فيصفر وَينْقص دَمه جَريا وعَلى مثله فيحمر ويصفر لتردده فِيهِ قَالَ الْغَزالِيّ وَمَتى اشتدت ناره أعمت صَاحبهَا وأصمته فَإِذا وعظ لم يسمع وَإِن استضاء بِنور عقله لم يقدر أَن يُطْفِئ بِهِ نَار غَضَبه مَسْأَلَة الثَّالِثَة دَرَجَات النَّاس فِيهِ أول الْفطْرَة ثَلَاث

أَحدهمَا طرف التَّفْرِيط بفقده أَو ضعفه وَهِي نقص عَن الْكَمَال وَلذَلِك قَالَ الْمَاوَرْدِيّ من أستغضب وَلم يغْضب فَهُوَ حمَار الثَّانِيَة طرف الإفراط وَسبب غلبته أُمُور غريزية أَو اعتيادية فَرب إِنْسَان هُوَ بالفطرة مستعد لسرعة الْغَضَب أَو اعتيادي لمخالطة من يمتدح بالتشفي والانتقام وَهُوَ أَيْضا نقص مَذْمُوم الثَّالِثَة وسط مَا بَين الطَّرفَيْنِ وَهُوَ الإعتدال الْمَحْمُود لعمله بِإِشَارَة الْعقل وَالتَّدْبِير انبعاثا وألطافا قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ فَمن مَال غَضَبه إِلَى الفتور عالجه بِمَا يقويه وَمن مَال غَضَبه إِلَى الإفراط عالجه بِمَا يكسر من سورته ليقفه على الْوسط بَين الطَّرفَيْنِ فَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم قلت شبهه أفلاطون بالملح فِي الطَّعَام إِن كَانَ بِقدر مُوَافق أصلحه وَإِن كَانَ بزائد أفْسدهُ قَالَ وَكَذَا سَائِر القوى الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة الْأَسْبَاب المهيجة للغضب الْكبر والزهو وَالْعجب والمزاح والهزل والتعيير والمارات والمضادات والغدو وَشدَّة الْحِرْص على فضول المَال والجاه وَتَسْمِيَة الْغَضَب بِالْأَلْقَابِ المحمودة كالشجاعة والرجلة وَعزة النَّفس وَكبر الهمة جهلا

قَالَ الْغَزالِيّ وَهِي بأجمعها أَخْلَاق مذمومة شرعا لَا بُد إِزَالَتهَا بأضدادها إِذْ لَا خلاص من الْغَضَب مَعَ بَقَائِهَا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من أعظم مضراته الْبَاطِنَة آفتان الآفة الأولى مَا يكْسب الْقلب من صِفَات الذَّم وَالظُّلم والإستخفاف وتحقير الْخلق وَإِرَادَة الشَّرّ وَمَا فِي معنى ذَلِك والآفة الثَّانِيَة اسْتِيلَاء الشَّيْطَان بِهِ وتلاعبه بِصَاحِبِهِ كَمَا يلْعَب الصَّبِي بالكرة فقد روى أَن إِبْلِيس ظهر لراهب فَقَالَ لَهُ أَي الْأَخْلَاق بني آدم أعز عنْدك قَالَ الحدة لِأَن العَبْد إِذا كَانَ حديدا قلبناه كَمَا يقلب الصّبيان الكرة الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ ابْن رضوَان قَرَأت فِي الطِّبّ الروحاني أَن الْغَضَب إِنَّمَا جعل فِي الْحَيَوَان ليَكُون لَهُ بِهِ انتقام من المؤذي لَهُ وَهَذَا الْعَارِض إِذْ أفرط وَجَاوَزَ حَده حَتَّى يفقد مَعَه الْعقل فَرُبمَا كَانَت مضرته فِي الغاضب أَكثر مِنْهَا فِي المغضوب عَلَيْهِ وَلذَلِك يَنْبَغِي للعاقل أَن يكثر من ذكر من أداته أَحْوَال غَضَبه إِلَى عواقب مَكْرُوهَة ليتصورها فِي حَال غَضَبه فَإِن كثيرا مِمَّن يغْضب رُبمَا لكز وَلَطم ونطح فجلب

بذلك من الْأَلَم على نَفسه أَكثر مِمَّا نَالَ بِهِ المغضوب عَلَيْهِ فقد رَأَيْت من لكز رجلا على فكه فَكسر أَصَابِعه حَتَّى عالجها أشهرا وَلم ينل الملكوز كثير أَذَى وَرَأَيْت من استشاط وَصَاح فنفث الدَّم مَكَانَهُ وَأدّى بِهِ ذَلِك إِلَى السل وَكَانَ سَبَب مَوته وبلغنا أَخْبَار أنَاس أَنهم قتلوا أَهَالِيهمْ وأولاهم وَمن يعز عَلَيْهِم فِي وَقت غيظهم وَبعد ذَلِك طَالَتْ ندامتهم عَلَيْهِ وَرُبمَا لم يستدركوه طول أعمارهم وَقد ذكر جالينوس أَن والدته كَانَت تضيع فمها على القفل لتعضه إِذا عسر عَلَيْهَا فتتحه ولعمري أَنه لَيْسَ بَين من فقد الْفِكر والروية فِي حَال غَضَبه وَبَين الْمَجْنُون كَبِير فرق قَالَ فَإِن الْإِنْسَان إِذا أَكثر من هَذِه الْأَمْثَال فِي حَال سَلَامَته كَانَ أَحْرَى أَن يتصورها فِي حَال غَضَبه وَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن الَّذِي كَانَ مِنْهُم مثل هَذِه الْأَفْعَال القبيحة فِي وَقت غضبهم إِنَّمَا أُوتُوا من فقد عُقُولهمْ إِذْ ذَاك فَيَأْخُذ نَفسه بِأَن لَا يكون مِنْهُ فعل إِلَّا بعد الْفِكر والروية الْمَسْأَلَة السَّابِعَة كَمَا أَن لإفراط الْغَضَب مثل هَذِه الْآثَار القبيحة فلتفريطه آثَار تشارك تِلْكَ فِي الْقبْح وَسُوء الْعَاقِبَة كسقوط وَاحْتِمَال الذل وخور الْقلب وَالسُّكُوت عِنْد مُشَاهدَة الْمُنكر والإنقباض عَن تنَاول الْحق الْوَاجِب وَالْعجز عَن رياضة النَّفس قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ إِذْ لَا تتمّ إِلَّا بتسليط الْغَضَب على الشَّهْوَة حَتَّى يغْضب على نَفسه عِنْد الْميل إِلَى الشَّهَوَات الخسيسة

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة مِمَّا يُؤَكد على السُّلْطَان اجْتِنَاب الْغَضَب زَائِدا على مَا تقدم مِمَّا ينفر عَنهُ علمه بِأَنَّهُ غير مُضْطَر إِلَيْهِ بِمَا خصّه الطَّاعَة لَهُ طَوْعًا أَو كرها فَفِي الهروى عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن يغْضب إِنَّمَا يَأْمر فيطاع وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يعجل فَلَا يفوتهُ شَيْء وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يظلم فَإِنَّمَا يدْفع الظُّلم بِهِ الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْخلق الْغَضَب يصدي الْقلب حَتَّى لَا يرى صَاحبه حسنا فيفعله وَلَا قبيحا فيجتنبه أسْرع النَّاس جَوَابا من لَا يغْضب الْغَضَب عَدو وَالْعقل صديق إِذا جَاءَ الْغَضَب تسلط العطب من أطَاع الْغَضَب حرم السَّلامَة أول الْغَضَب جُنُون وَآخره نَدم إياك وَالْغَضَب فَإِن الْغَضَب على من لَا يملك عجز وعَلى من يملك نَدم الْغَضَب يفْسد الْإِيمَان كَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل الْغَضَب مِفْتَاح كل شَرّ رَأس الْحمق وقائده الْغَضَب من رَضِي بِالْجَهْلِ اسْتغنى عَن الْحلم من أطَاع غَضَبه فِي شَهْوَة قَادَهُ إِلَى النَّار الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من المتعظ بِهِ فِي هَذَا الْمقَام حكايتان

الْحِكَايَة الأولى يرْوى أَن جَعْفَر بن مُحَمَّد دخل على الرشيد وَقد استخفه الْغَضَب فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك إِنَّمَا تغْضب لله تَعَالَى فَلَا تغْضب لَهُ بِأَكْثَرَ من غَضَبه لنَفسِهِ قَالَ الطرطوشي هَذِه الْكَلِمَة لَا قيمَة لَهَا وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته فَمَا أجمل قدرهَا وَأعظم خطرها لِأَنَّك أَيهَا السُّلْطَان إِنَّمَا رسَالَته فَمَا أجل قدرهَا وَأعظم خطرها لِأَنَّك أَيهَا السُّلْطَان إِنَّمَا تتصرف فِي ملك الله تَعَالَى بأَمْره وَقد حد حدودا وَشرع شرائع ثمَّ لِأَن الله قدر فِي كل خصْلَة عِنْد محالفته حدا محدودا فَلَا تقتل من اسْتحق الْحَبْس وَالْأَدب وَالْحَد وَلَا تحبس غير من اسْتوْجبَ الْحَبْس انْتهى المُرَاد مِنْهُ مُلَخصا الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل كَانَ سَبَب موت مَرْوَان بن عبد الْملك أَنه وَقع بَينه وَبَين أَخِيه سُلَيْمَان كَلَام فَحمل عَلَيْهِ سُلَيْمَان فَفتح مَرْوَان فَاه ليجيبه وَإِذا بجانبه عمر بن عبد الْعَزِيز فَأمْسك عَليّ فِيهِ ورد كَلمته وَقَالَ يَا أَبَا عبد الله أَخُوك وإمامك فَقَالَ يَا أَبَا حَفْص قتلتني قَالَ وَمَا صنعت بك قَالَ رَددته فِي جوفي أحر من الْجَمْر ثمَّ مَال لجنبه فَمَاتَ قلت إِنَّمَا كَانَ سَببا للْمَوْت لِأَن قوى ناره تَنْفِي الرُّطُوبَة الَّتِي بهَا حَيَاة الْقلب فَيَجِيء الْمَوْت قَالَ الْغَزالِيّ كَمَا يقوى النَّار فِي الْكَهْف فَتَنْشَق وتنهد أعاليه على أسافله لَا بطال النَّار مَا فِي جوانبه من الْقُوَّة الجامعة لأجزائه

القاعدة الثامنة

الْقَاعِدَة الثَّامِنَة الْعَفو وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى عد الطرطوشي هَذَا الْوَصْف لموقعه من خِصَال الْكَمَال قَاعِدَة جمال السُّلْطَان وعمدة رتبته وَجعله الْغَزالِيّ من الْوَظَائِف الَّتِي بالمحافظة عَلَيْهَا يَدُوم اسْتِحْقَاق الْملك والإمامة وَمثل ذَلِك مشهود بِهِ الْغَيْر وَاحِد لظُهُوره فِي تَأَكد الْعِنَايَة فقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء حسن الظفر يقبح الإنتقام وَخير مَنَاقِب الْمُلُوك الْعَفو وَقَالَ لَا شَيْء أقوى للْملك من الْعَفو فَإِن الْملك وثقت مِنْهُ رَعيته بِحسن الْعَفو لم يرجفها الذَّنب وَإِن أعظم وَإِذا خشيت مِنْهُ الْعقُوبَة أرجفها الذَّنب وَإِن صغر ذَلِك إِلَى الْمعْصِيَة الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة حَقِيقَته إِسْقَاط حق ثَابت مَعَ الْقُدْرَة على الإنتقام قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فَكل من ترك مَا وَجب لَهُ فَهُوَ عاف وَإِذا كثر ذَلِك مِنْهُ فَهُوَ عَفْو على قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ غير الْحلم وكظم الغيظ قلت لِأَنَّهُ ثَمَرَتهَا والأثمار غير المثمر لَا محَالة الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من فضيلته الجامعة بَين خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَوَائِد الْفَائِدَة الأولى تحقق الْمَدْح لَهُ من الله مَقْرُونا بالأعلام بمحبة من اتّصف بِهِ لأجل الْإِحْسَان الَّذِي أثنى بِهِ

قلت وعَلى ذَلِك السَّبِيل فالعفو أفضل مِنْهُ وَهِي الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة كَمَا صرح بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين}

قَالَ الطرطوشي وَهُوَ نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل قلت وَيظْهر ذَلِك مُنْضَمًّا بِاعْتِبَار الْمقَام الأول بِحَسب مَا يعم السُّلْطَان وَغَيره وَذَلِكَ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْعَافِي أجره على الله تَعَالَى والمنتصر قد استوفى حَقه قَالَ الله تَعَالَى {فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله} قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قَوْله فَأَجره على الله كلمة لَا يوازيها شَيْء لِأَن الَّذِي للْعَبد عهد الله وَمن الله وَبِاللَّهِ خير لَهُ مِمَّا يَأْخُذهُ بِنَفسِهِ ويفعله بِاخْتِيَارِهِ الثَّانِي أَن المتخلق بِالْعَفو مقتد بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسلك على نهج الإنباع لَهُ وَكفى بِهِ أُسْوَة قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَا رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منتصرا من مظْلمَة ظلمها قطّ غير أَنه إِذا أنتهك شَيْء من محارم الله تَعَالَى فَلَا يقوم لغضبه شَيْء صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمقَام الثَّانِي من جِهَة مَا يخص السُّلْطَان من حَيْثُ الْفَائِدَة المحتملة وَذَلِكَ أَيْضا من وَجْهَيْن أَحدهمَا استخلاص قُلُوب ذَوي الْجِنَايَة لَهُ وإيناس نُفُوسهم من وَحْشَة الْعِصْيَان وَلَا يخفى مَا فِي ذَلِك من السياسة العائدة على الدولة بالنفع الْعَظِيم قَالَ الْمَأْمُون لَيْسَ على فِي الْحلم مُؤنَة ولوددت أَن أهل الجرائم علمُوا مذهبي فِي الْعَفو فَيذْهب الْخَوْف عَنْهُم فتخلص لي قُلُوبهم الثَّانِي رفع الهمة بِهِ عَن تعاظم الذُّنُوب وَفِي ذَلِك من تبجيل الْملك وإجلاله مَالا يسع عدم الإنبعاث إِلَيْهِ

قَالَ رَضِي الله عَنهُ أَنِّي لَا رفع نَفسِي أَن يكون ذَنْب أعظم من عفوي وَجَهل أَكثر من حلمي وعورة لَا يواريها ميزري الْمَسْأَلَة السَّادِسَة يصير الإنتقام مَطْلُوبا فِي موضِعين الْموضع الأول حَيْثُ يكون عَجزا ومهانة نفس وَذَلِكَ هُوَ الذل الَّذِي تأنف مِنْهُ ذَوُو الهمم الْعلية وَقد قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} كَانُوا يكْرهُونَ أَن يذلوا فَإِذا قدرُوا عفوا فمدحوا على الْعَفو بعد قدرَة لَا على عَفْو بعد ذل ومهانة قَالَ ابْن قيم الجوزية وَهَذَا هُوَ الْكَمَال الَّذِي مدح الله بِهِ نَفسه فِي قَوْله تَعَالَى وَكَانَ الله عفوا قَدِيرًا وَالله غَفُور رَحِيم الْموضع الثَّانِي حَيْثُ يَتَرَتَّب على الْعَفو مفْسدَة تربي على مصلحَة شرعا أَو سياسة معتبره وَمن أمثلته عِقَاب من استخف بالسلطان كَمَا يرْوى أَن رجلا جَاءَ إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ احملني وَالله لانا أَفرس مِنْك وَمن أَبِيك وَعِنْده الْمُغيرَة بن شعة فحسر عَن ذراعه وصك بِهِ أنف الرجل فَسَالَ الدَّم فجَاء قومه إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ ولاموه فَقَالُوا أقدنا من الْمُغيرَة فَقَالَ أَنا أقيدكم من وزعة الله أَنا لَا أقيدكم مِنْهُ قَالَ ابْن قيم الجوزية فَرَأى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَن ذَلِك انتصار من الْمُغيرَة لله وَلِرَسُولِهِ وللعز الَّذِي وعد الله الْمُؤمنِينَ الْمَسْأَلَة السَّابِعَة من النَّاس من يعْتَمد فِي الإنتقام على نصْرَة الله تَعَالَى لَهُ

وَيظْهر ذَلِك بِمَا قَرَّرَهُ الشَّيْخ تَاج الدّين رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ فِي لطائف المنن من عرف الله تَعَالَى يَأْبَى الإنتصار لنَفسِهِ إِذْ الْعَارِف لَا يشْهد فعلا لغير معروفه وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} وَقَالَ {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} قَالَ وَكَانَ ذَلِك لَهُم لأَنهم جَعَلُوهُ تَعَالَى مَكَان همومهم فَدفع عَنْهُم الأغيار وَقَامَ لَهُم بِوُجُوب الإنتصار انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة من الحكم فِي هَذَا الْبَاب مَا قرن شَيْء إِلَى شَيْء أفضل من حلم إِلَى علم وَمن عَفْو إِلَى مقدرَة أحب الْأَشْيَاء إِلَى الله تَعَالَى أَرْبَعَة الْقَصْد عِنْد الْجدّة وَالْعَفو عِنْد الْمقدرَة والحلم عِنْد الْغَضَب والرفق بعباد الله لَا سؤدد مَعَ انتقام وَلَا رياسة مَعَ عزازة نفس لَيْسَ الإفراط فِي شَيْء أَجود مِنْهُ فِي الْعَفو وَلَا هُوَ فِي شَيْء أقبح مِنْهُ فِي الْعقُوبَة الْعَفو يفْسد من الخسيس بِقدر مَا يصلح من الرفيع إِذا عَفا الْملك الْبعيد الهمة أنف من الإعتذار الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من الْمَنْقُول فِي أَخْبَار ذَوي الْعَفو وخصوصا عِنْد استعطافهم بِمَا يرغبهم فِيهِ حكايتان

الْحِكَايَة الأولى قَالَ الْمُبَارك بن فضَالة وفدت على أبي جَعْفَر الْمَنْصُور فَلبث عِنْده إِذْ أَتَى بِرَجُل فَأمر بقتْله فَقلت يقتل رجل من الْمُسلمين وَأَنا حَاضر فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَلا أحَدثك بِحَدِيث سمعته من الْحسن قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ سمعته يَقُول إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة جمع الله النَّاس فِي صَعِيد وَاحِد حَيْثُ يسمعهم الدَّاعِي وَينْفذهُمْ الْبَصَر فَيقوم مُنَاد وَيَقُول من لَهُ عِنْد الله تبَارك وَتَعَالَى يَد فَليقمْ فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا فَقَالَ وَالله لسمعته من الْحسن فَقلت لَهُ وَالله لسمعته مِنْهُ فَقَالَ خلوا عَنهُ الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل أَتَى عبد الْملك بن مَرْوَان بِأسَارَى ابْن الْأَشْعَث الْقَائِم عَلَيْهِ وَقَالَ لرجاء بن حَيْوَة مَا ترى قَالَ أَن الله تَعَالَى قد أَعْطَاك مَا تحب من الظفر بعدوك فأعظ الله مَا يحب من الْعَفو فَعَفَا عَنْهُم

القاعدة التاسعة

الْقَاعِدَة التَّاسِعَة الرِّفْق وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَحَقِيقَته محاولة الْأُمُور بِأَقَلّ مِمَّا تحصل بِهِ وَفِي أَكثر من الْمدَّة تكون فِيهِ وَهُوَ التأني قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ ثَمَرَة لَا يثمرها إِلَّا حسن الْخلق وَلذَلِك أثنى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَالغ فِيهِ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من الْوَارِد فِي هَذِه الْمُبَالغَة أَمْرَانِ أَحدهمَا محبَّة الله تَعَالَى فِيهِ مَعَ جمال الْأَمر بِهِ وردا وصدرا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله رَفِيق يجب الرِّفْق وَعَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ مَا كَانَ الرِّفْق فِي شَيْء إِلَّا زانه وَلَا كَانَ الْخرق فِي شَيْء إِلَّا شانه وَإِن الله رَفِيق يحب الرِّفْق رَوَاهُ الْبَزَّاز الثَّانِي إِعْطَاء الله تَعَالَى بِهِ فِي مَقَاصِد الْأَعْمَال مَالا يُعْطي على غَيره فَعَن جَابر بن عبد الله رَضِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله عز وَجل ي يُعْطي على الرِّفْق مَالا يُعْطي على الْخرق وَإِذا أحب الله عبدا أعطَاهُ الرِّفْق وَمَا من أهل بَيت يحرمُونَ الرِّفْق إِلَّا حرمُوا الرزق

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَأوجب مَا هُوَ على الْوُلَاة فَإِنَّهُ وَاجِب عَلَيْهِم أَن ينفذوه من غَيرهم قلت وَيَكْفِي فِي ذَلِك دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أَحْسنُوا بِهِ الملكة وَعَلَيْهِم إِن سَارُوا فِي الرّعية بخلافة فَفِي الصَّحِيح عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول اللَّهُمَّ من ولي من أَمر أمتِي شَيْئا فشق عَلَيْهِم فأشفق عَلَيْهِ وَمن ولي من أَمر أمتِي شَيْئا فرفق بهم فأرفق بِهِ قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَرَوَاهُ ابْن عوَانَة فِي صَحِيحه وَقَالَ فِيهِ وَمن ولي مِنْهُم شَيْئا فشق عَلَيْهِم فَعَلَيهِ مهلة الله قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا مهلة الله قَالَ لعنة الله الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة لَا يفهم من مدح الرِّفْق الْأَخْذ بِهِ فِي كل مَوضِع بل حَيْثُ

قَالَ زِيَاد لأَصْحَابه أَتَدْرُونَ مَا الرِّفْق قَالُوا قل يَا أَبَا مُحَمَّد قَالَ أَن تضع الْأُمُور موَاضعهَا الشدَّة فِي موضعهَا واللين فِي مَوْضِعه وَالسيف فِي مَوْضِعه وَالسَّوْط فِي مَوْضِعه قَالَ الْغَزالِيّ وَهَذَا إِشَارَة إِلَى أَنه لَا بُد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق كَمَا قيل (وَوضع الندى فِي مَوضِع السَّيْف بالعلى ... مُضر كوضع السَّيْف فِي مَوضِع الندى) الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة الْمعرفَة بِوَضْع الْأُمُور موَاضعهَا يحْتَاج إِلَى فضل تَمْيِيز وَمن ثمَّ قَالَ الْغَزالِيّ الْكَامِل من يُمَيّز مواقع الرِّفْق عَن مواقع العنف فَإِن كَانَ قَاصِر البصيرة أَو أشكل عَلَيْهِ حكم وَاقعَة فَلْيَكُن ميله إِلَى الرِّفْق فَإِن النجع مَعَه فِي الْأَكْثَر قلت وَقد قَالُوا التَّقْصِير مَذْمُوم فِي الْعَفو مَحْمُود فِي الْعقُوبَة فِي قَضِيَّة وَاحِدَة الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف أدْرك وَبلغ مَا أحسن الْإِيمَان يُوفيه الْعلم وَمَا أحسن الْعلم يُوفيه الْعَمَل وَأحسن الْعَمَل يُوفيه الرِّفْق

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة من الْمَنْقُول فِي أَخْبَار الْأَخْذ فِي الرِّفْق حكايتان الْحِكَايَة الأولى رُوِيَ أَن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ يعاتبه فِي التأني فَكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة أما بعد فَإِن التأني فِي الْخَبَر زِيَادَة رشد وَإِن الرشيد من رشد عَن العجلة وَإِن الخائب من خَابَ عَن الأناة وَإِن المتأني مُصِيب أَو كَاد أَن يكون مصيبا وَإِن الْعجل مخطيء أَو كَاد أَن يكون مخطئا وَأَن من لَا يَنْفَعهُ الرِّفْق يضرّهُ الْخرق وَمن لَا تَنْفَعهُ التجارب لَا يدْرك الْمَعَالِي الْحِكَايَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن رضوَان من الإفراط فِي الرِّفْق وإعانة الضَّعِيف الْحِكَايَة الْمَشْهُورَة عَن المعتصم وَهِي أَنه عبر من سر من رأى إِلَى الْجَانِب الغربي فِي يَوْم مطير قد تبع لَيْلَة مطيرة وَانْفَرَدَ من أَصْحَابه وَإِذا حمَار قد زلق وَرمى مَا عَلَيْهِ من الشوك الَّذِي يُوقد بِهِ التنانير فِي الْعرَاق وَصَاحبه شيخ كَبِير ضَعِيف وَاقِف ينظر إنْسَانا يمر بِهِ فيعينه على حَملَة فَوقف عَلَيْهِ وَقَالَ مَالك يَا شيخ قَالَ فديتك وَقع حماري وَعَلِيهِ هَذَا الْحمل وَبقيت أنْتَظر إنْسَانا فيعينني على حمله فَنزل وَذهب ليخرج الْحمار من الطين فَقَالَ الشَّيْخ جعلت فدَاك تفْسد ثِيَابك هَذِه وطيبك هَذَا الَّذِي أشمه عَلَيْك من أجل حماري قَالَ لَا عَلَيْك فَنزل المعتصم وجذب الْحمار بيد وَاحِدَة فَأخْرجهُ عَن الطين وَرفع عَلَيْهِ حمله وَحده فبهت الشَّيْخ وَجعل ينظر إِلَيْهِ ويعجب مِنْهُ وَقد ترك الإشتغال بحماره ثمَّ شدّ المعتصم بعنان فرسه فَقَالَ الشَّيْخ رَضِي الله عَنْك وَقَالَ بالنبطية مَا مَعْنَاهُ فديتك يَا شَاب وَأَقْبَلت الْخُيُول فَقَالَ لبَعض وزرائه أعْط هَذَا الشَّيْخ أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم وَكن مَعَه حَتَّى يبلغ قريته

القاعدة العاشرة

الْقَاعِدَة الْعَاشِرَة اللين وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى هُوَ فِي معنى الرِّفْق وَمن ثَمَرَات حسن الْخلق وَمن الْوَارِد فِيهِ أَمْرَانِ أَحدهمَا تَحْرِيم المتخلق بِهِ عَن النَّار فَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أخْبركُم بِمن يحرم على النَّار أَو بِمن تحرم عَلَيْهِ النَّار تحرم على كل هَين لين سهل رَوَاهُ الترميذي الثَّانِي تنزله من الْمُؤمن منزلَة الْأَخ الْمعِين فِي الْخَيْر فَفِي الْخَبَر الْعلم خَلِيل الْمُؤمن والحلم وزيره وَالْعقل دَلِيله والرفق وَالِده واللين أَخُوهُ وَالصَّبْر جنده الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة جعل الطرطوشي هَذَا الْوَصْف من الْخِصَال الَّتِي بهَا نظام الْملك والدول وَمِمَّا يشْهد بذلك أَمْرَانِ أَحدهمَا دلَالَته على الصلاحية بِهِ لإستحقاق الْملك فقد كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول أَن هَذَا الْأَمر لَا يصلح لَهُ الإ اللين فِي غير ضعف والقوى من غير عنف الثَّانِي مَا يُشِير إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فبمَا رَحْمَة من الله لنت لَهُم وَلَو كنت فظا غليظ الْقلب لانفضوا من حولك} أَي من الفظاظة بَين الْأَصْحَاب والجلساء قَالَ الطرطوشي وَالْملك إِنَّمَا هُوَ بجلسائه وَأَصْحَابه لاغير

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة دوَام الْأَخْذ بِهِ مَتْرُوك لرجحان مصلحَة الْآخِذ بِمُقَابلَة وَهُوَ الفظاظة والشدة فقد قَالَ تَعَالَى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ صَاحب الْخلق الْعَظِيم يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَأَغْلظ عَلَيْهِم ومستحق للغلظة دونهم فِي الدُّنْيَا جَار مجراهم وَمن ثمَّ قَالَ السفاح لأعملن اللين حَتَّى لَا ينفع إِلَّا الشدَّة ولأكرمن الْخَاصَّة مَا أمنتهم على الْعَامَّة ولأغمدن سَيفي حَتَّى يَسلهُ الْحق ولأعطين حَتَّى لَا أرى للعطية موضعا وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى من فَوَائِد الْمُطَالبَة بِهِ على الْإِطْلَاق أَمْرَانِ أَحدهمَا محبَّة الله تَعَالَى للمتخلق بالتثبت وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ التأني فَقدم تقدم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأشبح أَن فِيك خَصْلَتَيْنِ يحبهما الله وَرَسُوله الْحلم والأناة الثَّانِي إِضَافَة التأني إِلَى الله تَعَالَى وَمُقَابِله وَهُوَ العجلة إِلَى الشَّيْطَان فَعَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ التأني من الله والعجلة من الشَّيْطَان الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن المقفع كل النَّاس يَحْتَاجُونَ إِلَى التثبت وأحوجهم إِلَيْهِ مُلُوكهمْ الَّذين لَيْسَ لقَولهم وفعلهم دَافع وَلَيْسَ عَلَيْهِم مستحث من النَّاس وَفِي وَصِيَّة بعض الْحُكَمَاء للإسكندر وَقد أَرَادَ سفرأ وَاجعَل وزيرك التثبت وسميرك التيقظ الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة يتَأَكَّد هَذَا التثبت فِي مَوَاضِع أَحدهمَا عِنْد نقل مَا يُوجب الْمُؤَاخَذَة بِتَقْدِير صِحَّته مُخَالفَة النَّدَم على التَّعْجِيل بهَا إِذا تبين بُطْلَانه كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} الثَّانِي وَالثَّالِث عِنْد الْعَطاء وَالْمَنْع

قَالَ ابْن المقفع لَا يدعن السُّلْطَان التثبت عِنْدَمَا يُعْطي وَيمْنَع فَإِن الرُّجُوع عَن الصمت أحسن من الرُّجُوع بعد الْكَلَام وَإِن الْعَطِيَّة بعد الْمَنْع أفضل من الْمَنْع بعد الْعَطِيَّة وَأَن الْإِقْدَام على الْعَمَل بعد التأني فِيهِ أحسن من الْإِمْسَاك عَنهُ بعد الْإِقْدَام عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف رَأس الْعقل التثبت وقائده الْحلم بالأناة تنَال الفرصة من لَازم الأناة أحرز النجَاة أَنَاة عواقبها دَرك خير من عجلة فِي عواقبها فَوت بالفكر الثاقب يدْرك الرَّأْي فِي العواقب وبالتالي تسهل المطالب الثَّانِي فِي الْأُمُور أول الحزم الأناة حصن السَّلامَة والعجلة مِفْتَاح الندامة الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من الحكايات فِي عدم التثبت عِنْد نقل الْبَاطِل مَا ذكر ابْن الْجَوْزِيّ أَن غلامين كَانَا لبَعض الْمُلُوك فَمضى أَحدهمَا إِلَى الْوَزير يطْلب مِنْهُ شَيْئا فَلم يُعْطه فَقَالَ لِأَخِيهِ لأزيلن الْوَزير عَن غرَّة فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ وَمن أَيْن لَك يَا أخي أَن تقدر على هَذَا قَالَ

القاعدة الثانية عشرة

سترى فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْل جلسا عِنْد الْملك فَلَمَّا قرب النّوم قَالَ لَهُ يَا أخي علمت أَنِّي قد رَأَيْت البارحة الْوَزير خَارِجا من عِنْد الْملك دَاخِلا إِلَى دَار النِّسَاء فلحقته فَقلت لله إِلَى أَيْن قَالَ غَلطت فَلم أدر أَيْن أَخذ فَعلمت أَنه لم يسْلك تِلْكَ الطَّرِيق إِلَّا وَقد اعْتَادَ ذَلِك فَلَمَّا أصبح الْملك قبض على وزيره فاستأصله فَمر بِهِ الوصيف يَوْمًا فَقَالَ لَهُ يَا فلَان إِنَّمَا كَانَ خيرا أَن تُعْطِينِي مَا طلبت أَو هَذِه الْحَالة قَالَ وَإنَّك لصاحبي قَالَ نعم قَالَ الله حسيبك قَالَ فَمَا تَقول تُعْطِينِي مَا طلبت أعيدك إِلَى مَنْزِلك قَالَ نعم ثمَّ انْصَرف إِلَى أَخِيه الْمَمْلُوك فحدثه فَقَالَ كَيفَ لَك أَن تصلح مَا أفسدت قَالَ دَعْنِي وَالْأَمر فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل وقارب الْملك النّوم قَالَ الوصيف لِأَخِيهِ وددت أَنِّي لَو كُنَّا لرجل من السوقة قَالَ وَلم قَالَ أَن السوقة إِذا غضب عَلَيْهَا وجدت من ينصفها ويشفع إِلَيْهِم وَالْملك إِذا سخط لَيْسَ إِلَّا الْغَضَب قَالَ وَمَا ذَاك قَالَ الْوَزير قد علمت نصحه للسُّلْطَان ومصلحته وَمَا آل إِلَيْهِ أمره وَلم أعرف لحاله سَببا فَاسْتَوَى الْملك جَالِسا وَقَالَ وَيحك أَلَسْت أَنْت سَببه قَالَ وَكَيف قَالَ أَلَسْت حدثت أَنه دخل إِلَى دَار النِّسَاء قَالَ أَيهَا الْملك وَإِنَّمَا هَذَا لذاك قَالَ نعم إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي الْمَنَام فندم الْملك على مَا صنع فَلَمَّا أصبح أَعَادَهُ إِلَى مَكَانَهُ الْقَاعِدَة الثَّانِيَة عشرَة الْوَفَاء بالوعد وَفِيه طرفان الطّرف الأول فِي الْوَفَاء بالوعد وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى الْآيَات المتضمنة لِلْأَمْرِ بهَا كَثِيرَة قَالَ النَّوَوِيّ وَمن أَشدّهَا قَوْله تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ كبر مقتا عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ قَالَ وَفِي

الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ آيَة المناطق ثَلَاث إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا أؤتمن خَان ذاد فِي رِوَايَة مُسلم وَإِن صلى وَصَامَ زعم أَنه مُسلم الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مِمَّا يدل على فَضله أَمْرَانِ أَحدهمَا ثَنَاء الله تَعَالَى بِهِ على نبيه اسماعيل عَلَيْهِ السَّلَام بقوله أَنه كَانَ صَادِق الْوَعْد وَكَانَ رَسُولا نَبيا قيل أَنه واعده إِنْسَان فِي مَوضِع فَلم يرجع إِلَيْهِ فبقى إثنين وَعشْرين يَوْمًا فِي انْتِظَاره الثَّانِي ضَمَان الْجنَّة بِهِ فِي جملَة خِصَال سِتّ فَعَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اضمنوا لي سِتا أضمن لكم الْجنَّة اصدقوا إِذا حدثتم وأوفوا إِذا وعدتم وأدوا إِذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وَكفوا أَيْدِيكُم رَوَاهُ الْحَاكِم الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ النوري أجمع الْعلمَاء أَن من وعد بِمَا لَا يُنْهِي عَنهُ فَيَنْبَغِي أَن يُوفي بوعده وجوبا عِنْد عمر بن عبد الْعَزِيز وَجَمَاعَة واستحبابا عِنْد الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة وَالْجُمْهُور قَالَ من تَركه فَاتَهُ الْفضل وارتكب كَرَاهَة شَدِيدَة وَلكنه لَا يَأْثَم قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَعند الملكية إِن ارْتبط بِسَبَب كَقَوْلِه تزوج وَلَك كَذَا وَجب وَإِلَّا فَلَا الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة تَنْزِيه مقَام السُّلْطَان عَن إخلاف الْوَعْد من أوجب مَا يُطَالب بِهِ فَفِي سياسة أرسطو لَا تقل فِيمَا قلت فِيهِ لَا نعم وَلَا نعم فِيمَا قلت فِيهِ لَا إِلَّا أَن يُؤَدِّي إِلَى خلل سياسة ضَرُورِيَّة

قلت وَمِمَّا يُؤَكد ذَلِك زَائِدا على مَا تقدم أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن إخلاف الْوَعْد فِيهِ محذوران إخفاق الْوَعْد وَتَكْذيب الْولَايَة على الْمَوْعُود بِهِ وَهُوَ معنى قَوْلهم الْوَعْد سَحَاب الإنجاز مطره الثَّانِي أَن الْوَعْد بداية بِإِحْسَان وكماله الْوَفَاء كَمَا قيل حقيق على من أَوْرَق بوعد أَن يُثمر بإنجاز الْوَعْد كَمَا قيل (إِذا قلت فِي شَيْء نعم فأتمه ... فَإِن نعم دين على الْحر وَاجِب) الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة مِمَّا تقل عَن السّلف الْكَرِيم فِي إنجاز الْوَعْد خبران الْخَبَر الأول يرْوى أَنه لما ولي أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ جَاءَهُ المَال من الْعمَّال فصحبه فِي الْمَسْجِد ثمَّ أَمر مناديا يُنَادي من كَانَ لَهُ عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ وَسلم دين أَو عدَّة فليحضر قَالَ أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ يَا خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لي لَو جَاءَنِي مَال أَعطيتك هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بكفيه فَسكت فَانْصَرَفت ثمَّ عاودت فَقلت إِمَّا أَن تُعْطِينِي وَإِمَّا أَن تبخل عني فَقَالَ مَا أبخل عَنْك اذْهَبْ فَخذ فَذَهَبت فَأخذت حفْنَة فَقَالَ عدهَا فعددتها فَوجدت فِيهَا خَمْسمِائَة دِينَار قَالَ عد مثلهَا فَانْصَرَفت بِأَلف وَخَمْسمِائة دِينَار قَالَ الطرطوشي وَأَبُو أَيُّوب من أَغْنِيَاء الصَّحَابَة وَهُوَ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَبَر الثَّانِي يرْوى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لجرير بن عبد الله

البَجلِيّ رَضِي الله عَنهُ وَالنَّاس يحاصرون الْعرَاق من قبل الْأَعَاجِم سر إِلَى قَوْمك فَمَا غلبت عَلَيْهِ فلك ربعه فَلَمَّا جمعت غَنَائِم جَلُولَاء ادّعى جرير أَن لَهُ ربع ذَلِك كُله فَكتب سعد إِلَى عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَكتب عمر صدق جرير قد قلت ذَلِك لَهُ فَإِن شَاءَ أَن يَقُول قَاتل هُوَ وَقَومه على جعل فَأَعْطوهُ جعله وَإِن يكن إِنَّمَا قَاتل لله وَدينه وحسبه فَهُوَ رجل من الْمُسلمين لَهُ مَا لَهُم وَعَلِيهِ مَا عَلَيْهِم فَلَمَّا قدم الْكتاب على سعد أخبر بذلك جَرِيرًا فَقَالَ صدق أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا حَاجَة لي بِهِ بل أَنا رجل من الْمُسلمين الطّرف الثَّانِي فِي الْوَفَاء بالعهد وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ مَا حَاصله هُوَ إِكْمَال مَا هُوَ مَطْلُوب قَالَ تَعَالَى وأفوا بعهدي أوف بعهدكم وَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} والعهد الْإِعْلَام بالشَّيْء وَالْعقد ربطه وتوثقه وَالله تَعَالَى قد أعلم الْخلق بِمَا شرع وربطهم إِلَى أَمر بِهِ وجوابا أَو ندبا أَو نهي عَنهُ تَحْرِيمًا أَو كَرَاهَة الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ وَيلْزم الْوَفَاء بِعَهْد الْآدَمِيّ لما فِي الْوَفَاء بِهِ من الْوَفَاء بِعَهْد الله من جِهَة أمره بحفظه وَالْوَفَاء لَهُ حَتَّى لَو كَانَ لكَافِر لقَوْله تَعَالَى فَأتمُّوا لَهُم عَهدهم إِلَى مدتهم إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ والعهد بِالْفِعْلِ كالقول كالتفات الْمُحدث هُوَ عهد بِالْكِتْمَانِ قلت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا حدث رجل رجلا بِحَدِيث ثمَّ الْتفت فَهُوَ أَمَانَة رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ وَقد يكون مَا عَلَيْهِ فَمَا يضرّهُ إِظْهَاره فعهده عَلَيْهِ أَن يستره وَفِيه ورد لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يَأْمَن جَاره بوائقه قَالَ إِلَّا أَن بتوجه فِي ذَلِك عَلَيْهِ فتلزم الشَّهَادَة بِهِ قلت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمجَالِس بالأمانات إِلَّا ثَلَاثَة سفك دم حرَام أَو فرج حرَام أَو اقتطاع مَال بِغَيْر حق رَوَاهُ أَبُو دَاوُود عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة السُّلْطَان أَحَق النَّاس برعاية هَذَا الْوَفَاء وترفع منصبه عَن رذيلة مَا يخل بِهِ خُصُوصا حَيْثُ يقْتَرن الْعَهْد بِالْإِيمَان فَفِي سياسة أرسطو تحفظ من نقض أيمانك فَإِنَّهَا شُعْبَة قَوِيَّة من ديانتك مَا دعَاك إِلَى الْحلف لَا تستعمله إِلَّا لَو حجزت بالمواسى لم تنكثه أبدا فوَاللَّه مَا خربَتْ مملكة ايتاخ وَذكر غَيره إِلَّا أَنهم استعملوا أَيْمَانهم فِي دنياهم وَدينهمْ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة المتضمنة لهَذَا الْوَصْف إِذا أَنْت قُمْت بعهود الله تشرعا وإيمانا ورعيت عهود النَّاس مبرة وإحسانا فقد أحرزت من النَّاس حمدا وَمن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غفرانا عَلامَة الْإِيمَان حسن الْخَلَائق وإنتاج الْحَقَائِق وبذل الْمرَافِق وَحفظ العهود والمواثق وَالتَّسْلِيم للقدر السَّابِق وعلامة النِّفَاق نقض العهود وَخلف الوعود وَمنع الرفد وَالْكذب فِي الْهزْل وَالْجد

من لَقِي الله بِلِسَان صَادِق وعامل النَّاس بِحسن الْخَلَائق وألزم نَفسه رعي العهود والمواثق فقد أرْضى الْمَخْلُوق والخالق وَأدْركَ بِهِ الْفضل كل سَابق الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من غَرِيب الْمَنْقُول فِي حفظ الْعَهْد حكايتان الْحِكَايَة الأولى يرْوى عَن بعض الْمُلُوك أَنه كَانَ لَهُ يَوْم بؤس إِذا خرج فِيهِ وَلَقي أحدا على صفة يكرهها حَبسه أَيَّامًا ثمَّ يَأْمر بِضَرْب عُنُقه فَخرج يَوْمًا فلقي رجلا لم يكن لَهُ علم بِشَأْنِهِ على الصّفة الَّتِي كَانَ ينكرها فَأمر بحبسه وَأعلم الرجل بِالْأَمر فَحَمدَ الله وَسلم لَهُ قدره فَلَمَّا قرب الْأَمر كتب الْملك يرغب فِي تخلية سَبيله ليودع أَهله ويوصي فِي مَاله فَأحْضرهُ وَقَالَ لَهُ هَذَا أَمر لَا يكون إِلَّا بضامن من آخذه بِمَا أطلبك بِهِ فَنظر الرجل بالحاضرين يَمِينا وَشمَالًا يَده إِلَى رجل فِي الْمجْلس وَقَالَ هَذَا يضمنني فَقَالَ لَهُ الْملك أتضمنه وَقد عرفت مَا يُرَاد بِهِ فَقَالَ نعم فَقَامَ بحبسه مَكَانَهُ ونهض الْمَضْمُون إِلَى بَلَده فأوصى فِي مَاله وودع أَهله وَانْصَرف وَقد وَافق يَوْم تَمام الْمدَّة فَلَمَّا اسْتَأْذن على الْملك أَمر بإحضارهما مَعًا وَقَالَ للضامن مَا حملك على ضَمَانه والمخاطرة على نَفسك فِي شَأْنه وَلَو تَأَخّر سَاعَة لقتلتك مَكَانَهُ قَالَ لَهُ أَيهَا الْملك مَا رَأَيْت وَقد وثق بِي أَن أخلف ظَنّه فِي فراجع الْمَضْمُون وَقَالَ لَهُ مَا حملك على الرُّجُوع وَأَنت قَادر على تخلصك وَقد علمت مَا يُرَاد بك قَالَ لم يكن يجمل فِي أَن أرَاهُ مَكَان الثِّقَة فيراني مَكَان الْغدر فَعجب الْملك من وفائهما جَمِيعًا وَعَفا عَنْهُمَا وَرفع ذَلِك الْيَوْم وَلم يَقْصِدهُ بعد الْحِكَايَة الثَّانِيَة ذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي سلوة الأحزان أَنه لما أفضت الْخلَافَة إِلَى أبي الْعَبَّاس السفاح اختفى من بني أُميَّة إِبْرَاهِيم ابْن سُلَيْمَان ابْن عبد الْملك حَتَّى أَخذ لَهُ على بن دَاوُود أَمَانًا من أبي الْعَبَّاس السفاح فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس يَوْمًا أَخْبرنِي عَمَّا مر بك فِي اختفائك فَقَالَ كنت

يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مختفيا فِي الْحيرَة فِي منزل شَارِع فِي الصَّحرَاء فَبَيْنَمَا أَنا ذَات يَوْم على ظهر بَيْتِي إِذْ نظرت إِلَى أَعْلَام سود خرجت من الْكُوفَة يردن الْحيرَة فَوَقع فِي قلبِي أَنَّهَا تريدني فَخرجت من الدَّار متنكرا حَتَّى دخلت الْكُوفَة وَلَا أعرف بهَا أحدا أختفي عِنْده فَدخلت مرتادا فَإِذا أَنا بِبَاب كَبِير ورحبة وَاسِعَة فَدخلت الرحبة فَجَلَست فِيهَا فَإِذا أَنا بِرَجُل وسيم حسن الْهَيْئَة على فرس فَدخل الرحبة وَمَعَهُ جمَاعَة من أَصْحَابه وَأَتْبَاعه فَقَالَ لي من أَنْت وَمَا حَاجَتك فَقلت رجل خَائِف على دَمه مستجير بمنزلك قَالَ فَأَدْخلنِي منزله ثمَّ صيرني فِي حجرَة تلِي حرمه فَمَكثت عِنْده حولا فِي كل مَا أُرِيد وَأحب من مطعم ومشرب وملبس لَا يسألني شَيْئا من حَالي ويركب كل يَوْم وَلَيْلَة فَقلت لَهُ يَوْمًا أَرَاك تدمن الرّكُوب فَفِيمَ ذَلِك فَقَالَ إِن إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان قتل أبي صبرا وَقد بَلغنِي أَنه مختف فَأَنا أطلبه لأدرك ثَأْرِي فَكثر تعجبي إِذْ ساقني الْقدر إِلَى الاختفاء فِي منزل من يطْلب دمي فَكرِهت الْحَيَاة فَسَأَلت الرجل عَن اسْمه وَاسم أَبِيه فَأَخْبرنِي بهما فَعلمت أَنِّي قتلت أَبَاهُ فَقلت يَا هَذَا قد وَجب حَقك عَليّ وَمن حَقك أَن أقرب عَلَيْك الخطوة وَقَالَ مَا ذَلِك قلت أَنا إِبْرَاهِيم بن سُلَيْمَان قَاتل أَبِيك فَخذ بثأرك فَقَالَ لَعَلَّك رجل مضاه الاختفاء فَأحب الْمَوْت قلت بل الْحق مَا قلت لَك أَنا قتلت أَبَاك فِي يَوْم كَذَا بِسَبَب كَذَا فَلَمَّا عرف أَنِّي صَادِق إلابد وَجهه واحمرت عَيناهُ وأطرق مَلِيًّا ثمَّ قَالَ أما أَنْت فستلقى أبي فَيَأْخُذ بِحقِّهِ مِنْك وَأما أَنا فَغير مخفر ذِمَّتِي فَاخْرُج عني فلست آمن نَفسِي عَلَيْك وَأَعْطَانِي ألف دِينَار فَلم أقبلها وَخرجت من عِنْده فَهُوَ أكْرم رجل رَأَيْت

القاعدة الثالثة عشرة

الْقَاعِدَة الثَّالِثَة عشرَة الصدْق وضده وَهُوَ الْكَذِب وَذَلِكَ فِيهِ مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ النَّوَوِيّ هُوَ من قبائح الذُّنُوب وفواحش الْعُيُوب وَإِجْمَاع الْأمة مُنْعَقد على تَحْرِيمه مَعَ النُّصُوص الْوَارِدَة فِيهِ كتابا وَسنة قلت والوارد من ذَلِك وعيدان الْوَعيد الأول شقّ شدقيه من لدن مماته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَفِي الصَّحِيح عَن سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت اللَّيْلَة رجلَيْنِ أتياني قَالَا لي الَّذِي رَأَيْته يشق شدقيه فكذاب يكذب الكذبة فَتحمل عَنهُ حَتَّى تبلغ الْآفَاق فيصنع بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الْوَعيد الثَّانِي ترديد الويل عَلَيْهِ دلَالَة على قبح جِنَايَته فَعَن أبن عبد الْحَكِيم عَن أَبِيه عَن جده قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ويل للَّذي يحدث الحَدِيث ليضحك بِهِ الْقَوْم فيكذب ويل لَهُ ويل لَهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وَفِيه يحْسب السُّلْطَان وعيدان الْوَعيد الأول إِعْرَاض الله تَعَالَى عَنهُ مَعَ مَاله من أَلِيم الْعَذَاب فَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا ينظر طالبهم وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم شيخ زَان وَملك كَذَّاب وعائل مستكبر

الْوَعيد الثَّانِي مَنعه من دُخُوله الْجنَّة فَعَن سلمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة لَا يدْخلُونَ الْجنَّة الشَّيْخ الزَّانِي وَإِمَام الْكَاذِب والعائل المزهو رَوَاهُ الْبَزَّاز والعائل الْفَقِير هُوَ الْفَقِير المزهو المتكبر بِنَفسِهِ تَوْجِيه قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ الإِمَام الْكذَّاب شَرّ الْخلق عِنْد الله تَعَالَى لِأَن الْكذَّاب إِنَّمَا يكذب حِيلَة لما يعجز عَنهُ وَلَيْسَ فَوق الإِمَام يَد وَلَا دونه شَيْء مِمَّا يعْتَاد دركه فَإِذا صادره بِالْكَذِبِ نزل عَن الْكَرَامَة إِلَى الخسة وَعَن الطَّاقَة إِلَى الْمعْصِيَة الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة كَمَا غلظ وَعِيد كذب السُّلْطَان فَكَذَا تَصْدِيقه فَعَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لكعب بن عجْرَة أَعَاذَك الله من إِمَارَة السُّفَهَاء فَقَالُوا مَا إِمَارَة السُّفَهَاء قَالَ أُمَرَاء يكونُونَ من بعدِي لَا يَهْتَدُونَ بهديي وَلَا يستنون بِسنتي فَمن صدقهم فِي كذبهمْ وَأَعَانَهُمْ على ظلمهم فألئك لَيْسُوا مني وَلست مِنْهُم وَلَا يردون على حَوْضِي وَمن لم يُصدقهُمْ وَلم يُعِنْهُمْ على ظلمهم فألئك مني وَأَنا مِنْهُم وَسَيَرِدُ عَليّ حَوْضِي الحَدِيث رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد اللَّفْظ لَهُ ولغير وَاحِد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَهُوَ صَحِيح الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من شؤمه على الْجُمْلَة آفتان الآفة الأولى هدايته إِلَى الْفُجُور الْمُؤَدِّي إِلَى النَّار فَفِي الصَّحِيح عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بِالصّدقِ فَإِن الصدْق يهدي إِلَى الْبر وَالْبر يهدي إِلَى الْجنَّة وَلَا يزَال الرجل يصدق ويتحرى الصدْق حَتَّى يكْتب عِنْد الله صديقا وَإِيَّاكُم وَالْكذب فَإِن الْكَذِب يهدي إِلَى الْفُجُور وَأَن الْفُجُور يهدي إِلَى النَّار وَمَا يزَال العَبْد يكذب ويتحرى الْكَذِب حَتَّى يكْتب عِنْد الله كذابا

الآفة الثَّانِيَة اسوداد الْقلب فَفِي الْمُوَطَّأ أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يزَال العَبْد يكذب ويتحرى الْكَذِب فينكت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء حَتَّى يسود قلبه فَيكْتب عِنْد الله من الْكَاذِبين الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من مفاسده بِاعْتِبَار السُّلْطَان محذورا أَن الْمَحْذُور الأول إفضاؤه بِعَدَمِ الوثوق بوعد السُّلْطَان ووعيده وَقد قَالَ الْحُكَمَاء خراب الْبِلَاد وَفَسَاد الْعباد مقرون بأبطال الْوَعْد والوعيد من الْمُلُوك الْمَحْذُور الثَّانِي إنذاره بِمَا يعود بخراب الدولة فَفِي الأفلاطونيات كذب الْملك وغدره من أكبر الْأَدِلَّة على حَادث فِي مَمْلَكَته يحدث وشباب فِي نظمها لِأَنَّهَا مثل تَخْلِيط العليل فِي الْعلَّة الَّتِي لَا يكون إِلَّا عَن قُوَّة من الْمَرَض وَشدَّة قهر للبدن الْمَسْأَلَة السَّادِسَة ثَبت فِي الصَّحِيح جَوَاز الْكَذِب للْمصْلحَة فِي ثَلَاث الْحَرْب والإصلاح بَين النَّاس وَحَدِيث الرجل امْرَأَته وَالْمَرْأَة زَوجهَا قَالَ الْغَزالِيّ وَفِي مَعْنَاهَا مَا ارْتبط بِهِ غَرَض صَحِيح لَهُ أَو لغيره قَالَ النَّوَوِيّ ضابطا لذَلِك الْكَلَام وَسِيلَة إِلَى الْمَقَاصِد والمحمود مِنْهَا أَن أمكن التَّوَصُّل إِلَيْهِ بِالصّدقِ وَالْكذب مَعًا حرم فِيهِ الْكَذِب وَإِن لم يكن إِلَّا بِالْكَذِبِ فَهُوَ فِي حكم الْمَقْصُود جَوَازًا ووجوبا نعم يَنْبَغِي الِاحْتِرَاز مِنْهُ مَا أمكن خشيَة التجاوز بِهِ عَن حد الضَّرُورَة انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة السَّابِعَة مِمَّا هُوَ فِي معنى الْمَوَاضِع الْجَائِز فِي حق السُّلْطَان فِيهَا الْكَذِب لما يعرض مِنْهُ للسُّلْطَان فِي استمالة العصاة إِلَى أَن قَالَ مَا نَصه أَن احْتَاجَ الْملك إِلَى الذب فِي مداهنة بعض

المفسدين لم يلْحقهُ الْوَعيد لِأَنَّهُ أحد الْمَوَاضِع الَّتِي اسْتثْنى فِيهَا جَوَاز الْكَذِب قلت فِي الأفلاطونيات لَا يَنْبَغِي أَن يُطلق الْملك الْكَذِب فِي المملكة إِلَّا للخيار المعروفين بالإصلاح بَين النَّاس المستعملين لَهُ عِنْد تقريب مَا بَين المتباعدين فَإِن الْكَذِب يشبه العقاقير القاتلة الَّتِي تحْتَاج فِي الْأَدْوِيَة إِلَى اسْتِعْمَال الْيَسِير مِنْهَا فَلَيْسَ يجب أَن يُطلق ذَلِك العقاقير إِلَّا للصالحين من الصيادلة الَّذين لَا يبيعونها لمن يقتل بهَا أحدا من النَّاس الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة قَالَ النَّوَوِيّ التورية والتعريض مَعْنَاهَا إِطْلَاق لفظ ظَاهر فِي معنى المُرَاد بِهِ معنى آخر يتَنَاوَلهُ ذَلِك اللَّفْظ على خلاف الظَّاهِر وَهُوَ وخداع فَإِن اقتضته مصلحَة شَرْعِيَّة راجحة على خداع الْمُخَاطب أَو حَاجَة لَا مندوحة عَنْهَا إِلَّا بِالْكَذِبِ فَلَا بَأْس بالتعريض وَإِلَّا فَهُوَ مَكْرُوه إِلَّا أَن يتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَخذ بَاطِل أَو دفع حق فَيحرم قَالَ مِثَال التَّعْرِيض الْمُبَاح قَول النَّخعِيّ إِذا بلغ الرجل عَنْك شَيْئا قلته فَقيل الله يعلم مَا قلت من ذَلِك شَيْئا فيتوهم السَّامع النَّفْي ومقصودك الله يعلم الَّذِي قلته قَالَ مَا حَاصله فعلى مثله ينزل قَول السّلف فِي المعاريض مندوحة عَن الْكَذِب وَقَوْلهمْ الْكَلَام أوسع من أَن يكذب ظريف الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة يحب التثبت فِيمَا يحْكى لما ورد من النَّهْي عَن التحديث

القاعدة الرابعة عشرة

بِكُل مَا يسمع قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا} وَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كفى بِالْمَرْءِ كذبا أَن يحدث بِكُل مَا سمع وَعَن ابْن مَسْعُود أَو حُذَيْفَة رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْخلق الْكَذِب عَدو الصدْق والجور مُفسد للْملك فَإِذا استصحب الْكَذِب استخف بِهِ وَإِذا أظهر الْجور فسد سُلْطَانه آفَة الشدَّة التهيب وَآفَة الْمنطق الْحيَاء وَآفَة كل شَيْء الْكَذِب لَا يطمعن فِي الكذوب والمطبوع على الشَّرّ أَن يعظمها الْإِحْسَان فَإِنَّهُمَا كالقرد كلما سمن بإطعام الْحَلَاوَة وَالدَّسم ازْدَادَ وَجهه قبحا من صَبر على مَوَدَّة الْكَذِب فَهُوَ مثله لَا شَيْء أضرّ من ضَرَر الْكَذِب أَن ينسى صَاحبه الضَّرُورَة المحسوسة الْحَقِيقِيَّة ويتشبث عِنْد الضَّرُورَة الكاذبة فيبنى عَلَيْهَا أمره فَيكون غشه قد بدا بِنَفسِهِ الْقَاعِدَة الرَّابِعَة عشرَة كتم السِّرّ وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الطرطوشي هُوَ من الْخِصَال المحمودة فِي جَمِيع الْخلق وَمن اللوازم فِي حق بِهِ الْمُلُوك والفرائض الْوَاجِبَة على الوزراء والجلساء والإتباع قلت وَمن كَلَام أزدشير فِي الْعِنَايَة بِالْوَصِيَّةِ

وَلَا تكن على أَحْكَام شَيْء أحرص مِنْك على أَحْكَام الْأَخْبَار حَتَّى تصح فَإِنَّمَا تجرى أُمُور المملكة كلهَا عَلَيْهَا وأقلل الشُّرَكَاء فِي أسرارك ينكتم أَمرك الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة كَمَا أَنه وَاجِب فِي حق الْمُلُوك وَمن يليهم فَكَذَا هُوَ فِي حق كل وَاحِد وَاحِد من سَائِر الطَّبَقَات إِذا ائتمنوا عَلَيْهِ وَكَانَ فِي إفشائه إِضْرَار بِصَاحِبِهِ وَقد تمّ فِي الْوَفَاء بالعهد مَا يُشِير لتقرير دَلِيله من حَيْثُ هُوَ أَمَانَة وَبِه اسْتدلَّ الطرطوشي قَائِلا وَإِذا كَانَ أَمَانَة حرمت فِيهِ الْخِيَانَة كالأمانات فِي الْأَمْوَال ثمَّ أردفه بقول أبي بكر بن حزم إِنَّمَا يتجالس المتجالسون بالأمانة فَلَا يحل لأحد أَن يفشي على صَاحبه مَا يكره الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ الْغَزالِيّ لمستودع السِّرّ أَن يُنكره وَإِن كَانَ كَاذِبًا وَلَيْسَ الصدْق وَاجِبا فِي كل مقَام وكما يجب للرجل أَن يخفي عُيُوب نَفسه وأسراره فَكَذَلِك يجب أَن يخفي عُيُوب أَخِيه الْمُسلم وأسراره قَالَ وَإِن احْتَاجَ إِلَى الْكَذِب فَلهُ أَن يفعل ذَلِك فِي حق أَخِيه فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ وهما كشخص وَاحِد لَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا بِالْبدنِ قلت كَمَا روى أَنه قيل لبَعْضهِم كَيفَ تخفي السِّرّ قَالَ أجحد الْمخبر وأحلف للمستخبر فَزَاد الْحلف للضَّرُورَة الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة لكَتم السِّرّ فَوَائِد شاهدة بفضله الْفَائِدَة الأولى دلَالَته على فضل صَاحبه وكرم أخلاقه قَالَ الطرطوشي وَاعْلَم أَن كتمان الْأَسْرَار يدل على جَوْهَر الرِّجَال وكما أَنه لَا خير فِي آنِية لَا تمسك مَا فِيهَا كَذَلِك لَا خير فِي الْإِنْسَان إِذا لم يملك سره قلت هُوَ من معنى قَوْلهم صُدُور الْأَحْرَار قُبُور الْأَسْرَار حَتَّى لَو كَانَت لعدو كَمَا قيل

(سر الْعَدو وسر الْخلّ مَا كتما ... عِنْد اطلَاع إِلَى خلق من الْبشر) (كِلَاهُمَا ظن بِي خيرا فأودعني ... سرا فلست بمفشيه مدى عمري) الْفَائِدَة الثَّانِيَة الإستعانة بِهِ على حُصُول الْمَقَاصِد فَفِي الحَدِيث اسْتَعِينُوا على حَوَائِجكُمْ بِالْكِتْمَانِ فَإِن كل ذِي نعْمَة مَحْسُود قَالَ أنو شرْوَان من حصن سره فَلهُ بتحصينه خصلتان الظفر بحاجته والسلامة من السطوات الْفَائِدَة الثَّالِثَة حفظ السِّرّ بِهِ من مَحْذُور انقلابه مَالِكًا لصَاحبه فَعَن عَليّ ين أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ سرك أسيرك فَإِذا تَكَلَّمت بِهِ صرت أسيره قلت وَمن عَجِيب النَّوَادِر فِي الْإِبَانَة عَن هَذَا الْمَعْنى أَن أَرْبَعَة من أعظم الْمُلُوك صدرت عَنْهُم أَربع كَلِمَات كَأَنَّمَا أرْسلت عَن قَوس وَاحِد قَالَ كسْرَى لم أندم على مَا لم أقل وَقد نَدِمت على مَا قلت مرَارًا وَقَالَ قَيْصر أَنا على رد مَا لم أقل أقدر مني على رد مَا قلت وَقَالَ ملك الصين إِذا تَكَلَّمت بِالْكَلِمَةِ ملكتني وَإِذا لم أَتكَلّم بهَا ملكتها وَقَالَ ملك الصين إِذا تَكَلَّمت بِالْكَلِمَةِ ملكتني وَإِذا لم أَتكَلّم بهَا ترفع لم تَنْفَعهُ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من مسَائِل إفشاء السِّرّ الَّتِي قد تُؤدِّي إِلَى العطب آفَات

الآفة الأولى تَعْرِيض السِّرّ بِهِ للإذاعة والشياع فَمن كَلَام الْحُكَمَاء حفظك لسرك أولى من حفظ غَيْرك لَهُ قَالَ الطرطوشي وَبِالْجُمْلَةِ إِذا زَالَ من عذبة لسَانك فالإذاعة مستولية وَإِن أودعته قلب من حفظ غَيْرك لَهُ قَالَ (ألم تَرَ أَن وشَاة الرِّجَال ... لَا يتركون أديما صَحِيحا) (فَلَا تفش سرك إِلَّا إِلَيْك ... فَإِن لكل نصيح نصيحا) الآفة الثَّانِيَة عودة بمضرة المكيدة على من زل بِهِ لِسَانه قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام يَا بني لَا تقصص رُؤْيَاك على إخْوَتك فيكيدوا لَك كيدا قَالَ الطرطوشي لما أفشى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام سره فِي رُؤْيَاهُ بمشهد إمرأة أَبِيه أخْبرت أخوته فَحل بِهِ مَا حل الآفة الثَّالِثَة وَهِي أدهى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ فَوَات الْحَيَاة بتعجيل الْحمام قَالَ الطرطوشي كم من إِظْهَار سر أراق دم صَاحبه وَصَرفه عَن بُلُوغ أمله وَلَو كتمته أَمن سطوته قَالَ بعض الْحُكَمَاء سرك من دمك فَلَا تجريه فِي غير أوداجه وَإِذا تَكَلَّمت بِهِ أرقته

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من عجائب أَمر السِّرّ أَمْرَانِ أَحدهمَا شدَّة الْمُؤْنَة حفظه حَتَّى على صَاحبه قيل لبَعض الْحُكَمَاء أَي شَيْء أصعب على الْإِنْسَان قَالَ أَن يعرف نَفسه ويكتم سره وَكَانَ يُقَال أَصْبِر النَّاس من صَبر على كتم سره فَلم يُبْدِهِ لصديقه فَأوشك أَن يصير عدوا قَالَ الطرطوشي أَن الرجل يتَحَمَّل الْحمل الثقيل فَيَمْشِي بِهِ وَيحمل السِّرّ الْيَسِير فيلحقه من القلق وَالْكرب مَالا يلْحقهُ بِحمْل الأثقال فَإِذا أذاعه استراح قلبه وكأنما ألْقى عَن نَفسه حملا الثَّانِي ضيَاع أَمَانَته بِكَثْرَة الْأُمَنَاء عَلَيْهِ قَالَ الطرطوشي وَمن عَجِيب الْأَمر أَن إغلاق الدُّنْيَا كلما كثر خزانها كَانَ أوثق لَهَا إِلَّا السِّرّ فَإِنَّهُ كلما كثر خزانه كَانَ أضيع لَهُ قلت بقدم فِي وَصِيَّة أردشير أقلل الشُّرَكَاء فِي أسرارك تنكتم الْمَسْأَلَة السَّابِعَة تقدم أَن من فَوَائِد كتم السِّرّ دلَالَته على الْفَضِيلَة وَفَوق ذَلِك كتمان سر نَفسه فقد قيل أدنى أَخْلَاق الشريف كتمان السِّرّ وأعلاها كتمان مَا أسر بِهِ إِلَيْهِ قلت كَمَا يُقَال أَن رجلا أودع سره عِنْد أحد إخوانه فَقَالَ لَهُ أفهمت فَقَالَ بل جهلت قَالَ حفظت قَالَ بل نسيت وَفِي مَعْنَاهُ قيل (يَا ذَا الَّذِي أوعدتني سره ... لَا ترج أَن تسمعه مني) (لم أجره قطّ على خاطري ... كَأَن لم يجر فِي أُذُنِي)

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة إِذا دعت الضَّرُورَة المفشو إِلَيْهِ لإفشاء السِّرّ فعلى شَرط صداقة المفشو لَهُ أَو نصيحته إِذا اتّصف بِمَا تتحفظ بِهِ الْأَمَانَة فَمن كَلَام الْحُكَمَاء مَا كتمته عَن عَدوك فَلَا تطلعن عَلَيْهِ صديقك فَإِن لم يكن لَك بُد من إذاعته لقرينه تَقْتَضِيه من صديق مساهم أَو استشارة نَاصح مسالم فَمن صِفَات أَمِين السِّرّ أَن يكون ذَا عقل وَدين ونصح ومودة فَإِن هَذِه الْأُمُور تمنع من الإذاعة وتوجب حفظ الْأَمَانَة تَنْبِيه على صَاحب السِّرّ أَن يحْتَرز من مستدعيه مِنْهُ لدلَالَة استدعائه على الْخِيَانَة فقد قيل لَا تودع سرك عِنْد من يستدعيه فَإِن طَالب الْوَدِيعَة خائن قلت وخصوصا إِذا ألح على ذَلِك فَمن الْأَمْثَال السائرة الْحِرْص على الْأَمَانَة دَلِيل على الْخِيَانَة الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة تقدم أَن أكتم السِّرّ من الْوَاجِبَات على حَاشِيَة السُّلْطَان وَذَلِكَ حَتَّى عَن أقرب الْأَقَارِب قَالَ الجاحظ من أَخْلَاق الْملك أَن يكتم أسراره عَن الْأَب وَالْأَخ وَالزَّوْجَة وَالصديق فَإِن الْملك يتَجَاوَز عَن كل مَنْقُوص ومأنوف وَلَا يتَجَاوَز عَن ثَلَاثَة طاعنا فِي ملكه ومذيعا لأسراره وخائنا فِي حرمه قَالَ وَقد كَانَ أبرويز يَقُول يجب على السُّلْطَان السعيد أَن يَجْعَل همه كُله فِي إمتحان أهل هَذِه الصِّفَات إِذْ هِيَ أَرْكَان ملكه ودعائمه

قلت من الإمتحان بِحَسب السُّلْطَان فَمن دونه قَول بَعضهم أردْت أَن تواخي رجلا فأغضبه ثمَّ دس عَلَيْهِ من يسْأَله عَنْك وَعَن أسرارك فَإِن خيرا تكلم وكتم أسرارك فأصحبه الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من الْمَنْقُول فِي الْوَصِيَّة بِحِفْظ سر السُّلْطَان وعقوبة من إفشاء حكايتان الْحِكَايَة الأولى قَالَ الْعُتْبِي أسر مُعَاوِيَة إِلَى عُثْمَان بن عَتبه حَدِيثا قَالَ عُثْمَان فَقلت لأبي أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أسر إِلَيّ حَدِيثا افأحدثك بِهِ قَالَ لَا قلت وَلم قَالَ لِأَنَّهُ من كتم حَدِيثا كَانَ الْخِيَار لَهُ وَمن أظهره كَانَ الْخِيَار عَلَيْهِ فَلَا تجْعَل نَفسك مَمْلُوكا بعد أَن كنت مَالِكًا قلت أَيَدْخُلُ هَذَا بَين الرجل وَبَين أَبِيه قَالَ نعم وَلَكِن أكره أَن تذلل لسَانك بإفشاء السِّرّ قَالَ فَحدثت بِهِ مُعَاوِيَة فَقَالَ أعتقك أخي من رق الْخَطَأ الْحِكَايَة الثَّانِيَة كَانَ لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ كَاتب يُقَال لَهُ حمدَان فاشتكى عُثْمَان فَقَالَ أكتب الْعَهْد من بعدِي لعبد الرَّحْمَن

القاعدة الخامسة عشرة

ابْن عَوْف فَانْطَلق حمدَان وَقَالَ لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف البشري فَقَالَ عبد الرَّحْمَن وَلَك الْبُشْرَى مَاذَا فَأخْبرهُ حمدَان الْخَبَر فَانْطَلق عبد الرَّحْمَن وَأخْبر عُثْمَان بذلك فَقَالَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ عَسى الله أَن شفاني لَا يكاتبني حمدَان أبدا ونفاه إِلَى الْبَصْرَة فَلم يزل بهَا حَتَّى قتل الْقَاعِدَة الْخَامِسَة عشرَة الحزم وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن قيم الجوزية لَفْظَة الحزم تدل على الْقُوَّة والاجتماع وَمِنْه حزمة الْحَطب فالحازم هُوَ الَّذِي اجْتمعت لَهُ سور أمره وَعرف خير الخيرين وَشر الشريرين فأحجم فِي مَوضِع الإحجام رَأيا وعقلا لَا جبنا وضعفا قلت وَإِلَى ذَلِك يرجع قَول الْمرَادِي الحزم هُوَ النّظر فِي الْأُمُور قبل نُزُولهَا وتوقي المهالك قبل الْوُقُوع فِيهَا وتدبير الْأُمُور على أحسن مَا تكون من وجوهها الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ بعض الْعلمَاء يجب على الحازم استفراغ الوسع وإعمال الإجتهاد فِي أَسبَاب الْفَائِدَة والخلاص فَإِن غلبت الأقدار كَانَ بذلك مَعْذُورًا وَكَانَ قلبه مستريحا وَغير عَجِيب أَن يغلب الله سُبْحَانَهُ مخلوقاته وَأَن يتَصَرَّف كَمَا يجب فِي مصنوعاته وَلَيْسَ نُفُوذ الأقدار مِمَّا يَقُود الْعَاقِل إِلَى تَضْييع الحزم وَذَلِكَ من خلائق الْجُهَّال الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من الْفَوَائِد المرغبة للعقلاء فِي الْأَخْذ بِهِ وخصوصا الْمُلُوك أُمُور

أَحدهمَا ملك الرّعية بِهِ قبل أَن تملك راعيها إِذا فرط فِيهِ قد قَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان لِابْنِهِ الْوَلِيد وَكَانَ ولي عَهده يَا بني اعْلَم أَن لَيْسَ بَين السُّلْطَان وَبَين أَن يملك الرّعية أَو تملكه الرّعية إِلَّا حزم أَو توان الثَّانِي انتهاز الفرصة لأوّل أَحْكَامهَا فَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ انتهزوا هَذِه الفرص فَإِنَّهَا تمر مر السَّحَاب وَلَا تَطْلُبُوا أثرا بعد عين وَعَن بعض الْحُكَمَاء بَادر الفرصة قبل أَن تصير غُصَّة الثَّالِث التحفظ بِهِ من الخديعة قَالَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة مَا رَأَيْت أحدا أحزم من عمر كَانَ لَهُ وَالله فضل يمنعهُ أَن يخدع وعقل بِمَنْعه أَن يخدع قلت وَكَذَا قَالَ رَضِي الله عَنهُ لست بخب وَلَا الخب يخدعني الرَّابِع حُصُول الظفر بِهِ مَتى ساعد الْقدر قيل للمهلب بِمَا ظَفرت قَالَ بِطَاعَة الحزم ومعصية الْهوى الْخَامِس سَلامَة من النَّدَم عِنْد الْوُقُوع بعده فِيمَا يكره قَالَ مسلمة بن عبد الْملك مَا مدحت أَو شكرت نَفسِي على ظفر ابتدأته بعجز وَلَا ذممتها على مَكْرُوه ابتدأته بحزم الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الْحُكَمَاء الْمُلُوك ثَلَاثَة حازمان وعاجز

أَولهمَا وهم أحد الحازمين الَّذِي ينظر فِي الْأُمُور قبل نُزُولهَا فيجتلب خَيرهَا ويتجنب شَرها كالماهر فِي الشطرنج يرى الْحَرَكَة الردية قبل وصولها إِلَيْهِ فيلجأ ملاعبه إِلَى اللّعب بهَا ثَانِيهَا وَهُوَ الحازم الثَّانِي الَّذِي لَا يُدِير الْأُمُور حَتَّى تحل بِهِ وَإِذ ذَاك يتعرف وَجه التَّخَلُّص مِنْهَا وَهُوَ دون الأول وَأدنى مِنْهُ إِلَى التَّغْرِير فِيمَا يَقع فِيهَا لِغَفْلَتِه وتوانه عَن أَمر يتَعَذَّر فِيهِ الْخَلَاص مِنْهُ على ذَوي الْحِيلَة والإجتهاد ثَالِثهَا وَهُوَ الْعَاجِز المتواني الَّذِي لَا يزَال فِي لبس من أمره وَعجز عَن إِصْلَاحه حَتَّى يَقُود ذَلِك إِلَى الخسران تَمْثِيل قَالُوا وَمِثَال الثَّلَاثَة أَن صيادين أَتَيَا أجمة فِيهَا سمكات ثَلَاث فَقَالَ لصَاحبه عد بِنَا إِلَى هَذِه الأجمة بعد فراغنا من الصَّيْد لنصيد مَا فِيهِ فَأَما أحزم السمكات فَخرجت من منفذ المَاء إِلَى الْبَحْر فأمنت وَأما الَّتِي تَلِيهَا فِي الحزم فَمَكثت حَتَّى جَاءَ الصياد فسد المنفذ فأيقنت بِالْهَلَاكِ فاحتاجت إِلَى الْحِيلَة فتماوتت وطفت فَوق المَاء فَأَخذهَا الصياد فطرحها غير بعيدَة من الْبَحْر تَجِيء وَتذهب حَتَّى صيدت الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من مهمات الحزم أُمُور أَحدهمَا إساءة الظَّن حَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى مفْسدَة راجحة على مصلحَة فقد ورد الحزم سوء الظَّن وَفِي الحَدِيث احترسوا من النَّاس بِسوء الظَّن فَإِن رجحت مصلحَة كَانَت هِيَ مفْسدَة فِي النَّهْي عَن هَذِه الْإِسَاءَة قَالَ تَعَالَى {اجتنبوا كثيرا من الظَّن إِن بعض الظَّن إِثْم}

وَفِي الصَّحِيح إيَّاكُمْ وَالظَّن فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث الثَّانِي الاحتراس من المكايد الْمَقْصُود مِنْهَا إغراء السُّلْطَان بِغَلَبَة خواصه قيل فكثيرا مَا بلغ ضررها الأبرياء وَعدم بهَا الْمُلُوك أهل الْجد فِي خدمتهم وفارقوا أحب خواصهم الثَّالِث الْمُبَادرَة بِإِقَامَة الْأَعْمَال الْحَاضِرَة والوظائف الوقتية فقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا تُؤخر عمل يَوْمك لغدك وَفِي محَاسِن البلاغة يَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن يُعْطي لكل يَوْم وَأَن تصدر فِيهِ أردته فَإِن لكل يَوْم مَا فِيهِ وَلَعَلَّ يحدث حَادث الرَّابِع معرفَة غَايَة الْأُمُور قبل الدُّخُول فِيهَا قَالُوا من ألزم أَن لَا يدْخل فِي أَمر حَتَّى يعرف مُنْتَهى أَحْوَاله فَإِن توقفك فِيهِ قبل فعله هُوَ الحذر الْمَحْمُود ورجوعك عَنهُ بعد التَّلَبُّس بِهِ لاضطرابك فِيهِ هُوَ الحذر المذموم الْخَامِس توقي استحقار مَا توهم صَغِيرا قَالُوا لَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يستصغر شَيْئا من الْخَطَأ فَإِنَّهُ مَتى استحقر الصَّغِير يُوشك أَن يَقع فِي الْكَبِير فقد رَأينَا الْملك يُؤْتِي من الْعَدو المحتقر ورأينا الصِّحَّة تؤتي من الدَّاء الْيَسِير ورأينا الْأَنْهَار تنفتق من الجداول الصغار قلت وَأولى إِذا كَانَ الصَّغِير قَابلا للزِّيَادَة وَهُوَ السَّادِس فِي العهود اليونانية وَلَا تحقرن صَغِيرا من الْفساد إِذا كَانَ مُحْتملا للزِّيَادَة وعاجلة قبل وشوجه وبسوقه ثمَّ ذكر من ذَلِك حبس أَلْسِنَة الْجنُود عَن الْوُقُوع فِي السُّلْطَان بالتوعد عَلَيْهِ قَالَ فَإِن سوء الطَّاعَة تظهر أملا فِي الْأَعْين ثمَّ فِي الْأَلْسِنَة ثمَّ فِي تَحْرِيك الْأَيْدِي بالمجاهرة السَّابِع منع التعادي فِي أهل المملكة فَفِيهَا وَاعْلَم أَن أضرّ مَا بليت بِهِ فِي بلد من الْبلدَانِ وُقُوع الْعَدَاوَة وافتراق أَهله

وتحازب بَعضهم على بعض فَإِن هَذَا يقوم مقَام مَا يظْهر من الْعِلَل فِي عُضْو من الْأَعْضَاء فيتراقى إِلَى ذَلِك الْعُضْو وَرُبمَا تعدى إِلَى غير ذَلِك الْعُضْو وَرُبمَا تعدى إِلَى سَائِر الْجَسَد فتتبع مَا ظهر من هَذَا فِي الْبلدَانِ واسأل عَن السَّبَب فِيهِ كَمَا يسْأَل المتطبب الحاذق عَن أَسبَاب الْعلَّة وَلَا تدع فِيهِ بَقِيَّة مِنْهُ فَإنَّك تجمع بِهَذَا بعد زَوَال مَا كرهته وَخَوف النَّاس من إيقاعك وَشدَّة بأسك معاودة مثله الثَّامِن فِي إهمال مَا يغتنم فِيهِ من فَوَائِد الدّين وَالدُّنْيَا وَمن أَحْمد الْأُمُور أَن تقدم الِاحْتِيَاط فِي إِنْفَاق سَاعَات زَمَانك أَكثر من تقديمك الِاحْتِيَاط فِي إِنْفَاق مَالك لِأَن الَّذِي يُحْصى من المَال قد يسْتَخْلف وَمَا يمض من الزَّمَان لَا يرجع الْمَسْأَلَة السَّادِسَة الحزم يُنَافِي الِاعْتِمَاد على البخت لما فِيهِ من الْمَفَاسِد الْعِظَام وَهِي جملَة الْمفْسدَة الأولى وَاعْتِبَار مَا لَا يعرف سَببه فَفِي إِلَى البخت إِلَّا إِن صَاحبه يضيع ثمار الرَّأْي مَالا يرى غرسه وَلم يعرف طَرِيقه الْمفْسدَة الثَّانِيَة وَمِمَّا كَانَ يتدارسه الْأَوَائِل قَالُوا مَا أعْطى البخت شَيْئا إِلَّا وسلبه من حسن الاستعداد أَكثر مِنْهُ قَالَ فِي العهود فأحكم الْأَعْمَال بِحسن الروية واستدع التَّوْفِيق بجميل النِّيَّة الْمفْسدَة الثَّالِثَة عدم رضَا الْمَغْرُور بِهِ إِلَّا بِمن هُوَ مثله فِي ذَلِك حَتَّى

يتضاعف الشَّرّ ويتفاقم الْمَحْذُور قَالَ أفلاطون شَرّ مَا يَقع لمن اصطنعه البخت من الْوُلَاة أَلا يرضى من أَصْحَابه إِلَّا بذوي البخوت وَلِهَذَا تفْسد الصناعات وتستهان مَعَه نواميسها وتنسى صُورَة الْعدْل من الْأَشْيَاء ويظن الْوَالِي أَن هَذَا يَدُوم حَتَّى يهجم بِهِ على نِهَايَة الْمَكْرُوه الْمفْسدَة الرَّابِعَة إفضاؤه فِي جملَة مَا هُوَ مثله فِي التَّفْرِيط إِلَى خراب الدول بآخرة قَالَ أَيْضا الإفراطات فِي الدول مبادئ الْفساد فَإِذا انضاف إِلَيْهَا إِيثَار الرَّاحَة والاستهانة بمشورة ذَوي التجارب والاتكال على البخت لم تلبث الْمفْسدَة الْخَامِسَة مَجِيء المكاره بِهِ من حَيْثُ لَا يشْعر بهَا حَتَّى يتعجب من ذَلِك كَمَا يتعجب من المساعدة بِهِ أَيَّام اطراده قَالَ أَيْضا كَمَا أَن مساعدة البخت تحير الْعُقُول فِي أحسن مواتاة الْأُمُور للمبخوت ومجيئها من حَيْثُ لَا يظنّ فَكَذَلِك انْصِرَافه يحيرها فِي بخت المكاره لَهُ ومجيئها من حَيْثُ لم يحْتَسب قلت وَهُوَ من شَوَاهِد ضعف الْإِنْسَان وقهره لمجارى الْقدر عَلَيْهِ من حَيْثُ لَا يشْعر محبوبا ومكروها وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَوضِع آخر فَائِدَة فِي تَنْبِيه مُوجب الِاعْتِمَاد على البخت ضعف النَّفس عَن الْوَفَاء بمؤونة الحزم قَالَ أَيْضا إِذا قويت نفس الْإِنْسَان انْقَطع إِلَى الرَّأْي وَإِذا ضعفت انْتقل إِلَى البخت قلت ولابد فِي الِانْقِطَاع إِلَى الرَّأْي وَعند كَمَال قُوَّة النَّفس من مُلَاحظَة أَن الْمُقدر من البخت هُوَ الْكَائِن فَمن كَلَامه أَيْضا إِذا ضعفت النَّفس أطاعت الِاتِّفَاق وَإِذا قويت انْقَطَعت إِلَى الإعتماد قَالَ والمعمول فِي هَذَا أَن يكون الِاعْتِمَاد للْعَمَل والاتفاق فِي الْعلم الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف

الحزم أنفس الحظوظ رب رَأْي أَنْفَع من مَال من لم يقدمهُ الحزم أَخّرهُ الْعَجز رو تحزم فَإِذا استوضحت فاعزم من نظر فِي أَحْوَاله وحزم فِي أَفعاله وأقسط فِي أَحْكَامه واقتصد فِي وفوره وإعدامه فقد أعْطى الْخَيْر بِتَمَامِهِ الحزم يُوجب السرُور والتغرير يُوجب لندامة وإصابة التَّدْبِير يُوجب بَقَاء النِّعْمَة من لم يتَأَمَّل بِعَين عقله لم يَقع سيف جَهله إِلَّا على مَقْتَله كثير من الحذر قد يكون عونا على صَاحبه مشعرأ بِمَا يخفيه فِي قلبه فَيجب على الْعَاقِل أَن لَا يَأْتِي من ذَلِك إِلَّا مَا ينكتم لَهُ وَلَا يتفطن لَهُ أحد الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة من الْمَنْقُول فِي تَضْييع الحزم حكايتان يعْتَبر بهما الْحِكَايَة الأولى فِي تضييعه باستحقار الْأُمُور يرْوى أَنه لما أحيط بِمَرْوَان الجمدي آخر مُلُوك بني أُميَّة قَالَ يَا لهفاه على دولة مَا نصرت وكف مَا ظَفرت ونعمة مَا شكرت فَقَالَ لَهُ أحد خُدَّامه من أغفل الصَّغِير حَتَّى يكبر والقليل حَتَّى يكثر والخفي حَتَّى يظْهر أَصَابَهُ مثل هَذَا الْحِكَايَة الثَّانِيَة فِي تضييعه بِالدُّخُولِ فِيمَا لم يعرف غَايَة أمره مَا ذكر عَن الرشيد أَنه بعث بعد الْقَبْض على البرامكة إِلَى يحي بن خَالِد وَهُوَ

القاعدة السادسة عشرة

فِي اعتقاله يشاوره فِي هدم الإيوان فَبعث إِلَيْهِ لَا تفعل فَقَالَ الرشيد لمن حَضَره فِي نَفسه الْمَجُوسِيَّة والحنو عَلَيْهَا وَالْمَنْع من إِزَالَة آثارها فشرع فِي هَدمه فَلَزِمته أَمْوَال لَا تحصى فَأمْسك وَكتب إِلَى يحي يُعلمهُ بذلك فَأجَاب أَن ينْفق فِي هَدمه مَا بلغ من الْأَمْوَال ويحرص على فعله فَعجب الرشيد من تنَافِي كَلَامه فِي أَوله وَآخره فَبعث إِلَيْهِ يسْأَله عَن ذَلِك فَقَالَ نعم أما مَا أَشرت إِلَيْهِ فِي الأول فَإِنِّي أردْت بِهِ بَقَاء الذّكر لأمة الْإِسْلَام وَبعد الصيت وَأَن يكون مَا يرد فِي الإعصار ويطر أَمن الْأُمَم فِي الْأَزْمَان يرى مثل هَذَا الْبُنيان الْعَظِيم فَيَقُول أَن أمة قهرت أمة هَذَا بنيانها فأزالت رسومها واحتوت على ملكهَا لأمة عَظِيمَة شَدِيدَة منيفة وَأما جوابي الثَّانِي فَإِنَّهُ أَخْبرنِي أَنه شرع فِي بعض هَدمه ثمَّ عجز عَنهُ فَأَرَدْت نفي الْعَجز عَن أمة الْإِسْلَام وَأَن لَا يَقُول من يَأْتِي فِي الإعصار أَن هَذِه الْأمة عجزت عَن هدم مَا بنته فَارس فَلَمَّا بلغ الرشيد ذَلِك من كَلَامه قَالَ قَاتله الله فَمَا سمعته قَالَ شَيْئا قطّ إِلَّا صدق وَأعْرض عَن هدم الإيوان الْقَاعِدَة السَّادِسَة عشرَة الدهاء والتغافل وَفِيه نظران النّظر الأول فِي الدهاء وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الْمرَادِي هُوَ اسْم لوضع الْأُمُور فِي موَاضعهَا والكف عَمَّا لَا تقع فِيهِ انتظارا لما فِيهِ النَّفْع قَالَ وَقد يُوقع على من كثرت حيلته وقويت فطنته وَكَانَ وُصُوله إِلَى أغراضه بألطف الْوُجُوه الَّتِي يُمكن التَّوَصُّل بهَا إِلَيْهَا فتراه أبدا كَأَنَّهُ

أبله وَهُوَ متباله يُحْصى دقائق الْأُمُور وَيُدبر لطيفات الْحِيَل فَلَا ينْطق حَتَّى يجد جَوَابا مسكنا أَو خطابا معجزا وَلَا يفعل حَتَّى يرى فرْصَة حَاضِرَة ومضرة غَائِبَة فعدوه مغتر بعدواته ومقدر عَلَيْهِ الْغَفْلَة والبله بغوايته وَهُوَ مثل النَّار الكامنة فِي الرماد والصوارم المكنونة فِي الأغماد الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة لَا شكّ فِي فَضِيلَة الدهاء بِهَذَا التَّفْسِير لدلالته على فضل الْعقل وذكاء فطنته وَقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لن يُقيم أَمر النَّاس إِلَّا امْرُؤ حصيف الْعقْدَة بعيد الْغَوْر لَا يطلع النَّاس مِنْهُ على عَورَة وَلَا يخَاف فِي الله لومة لاءم وَأَن فسر بالجزيرة وَهِي الخديعة الَّتِي هِيَ طرف الإفراط فِيهِ كَمَا تقدم فَلَا خَفَاء بذمه لما يخَاف من غوائله وَسُوء عواقبه قَالَ ابْن خلدون الْكيس والذكاء عيب فِي صَاحب السياسة لِأَنَّهُ إفراط فِي الْفِكر كإفراط البلادة فِي الجمود والطرفان مذمومان والمحمود هُوَ التَّوَسُّط كَمَا فِي سَائِر الصِّفَات الإنسانية قَالَ وَلِهَذَا يُوصف الشَّديد الْكيس بِصِفَات الشَّيْطَان فَيُقَال شَيْطَان ومتشيطن ثمَّ استظهر على ذَلِك بقضية عزل عمر رَضِي الله عَنهُ زيادا عَن الْعرَاق وفيهَا أَن زيادا قَالَ لم عزلتي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ألعجز أم لخيانة فَقَالَ عمر لم أعزلك لوَاحِدَة مِنْهُمَا وَلَكِن كرهت أَن أحمل النَّاس فضل عقلك الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي الْقدر الْمَحْمُود من هَذَا الْوَصْف الْعَاقِل يغْفل غَفلَة الآمن ويتحفظ تحفظ الْخَائِف الدهاء تجرع الغصة وتوقع الفرصة الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من الْمَنْقُول فِي أَخْبَار ذَوي الفطنة من الْمُلُوك حكايتان

الْحِكَايَة الأولى قيل دخل عبد الله بن حسن على أبي الْعَبَّاس السفاح فِي مَجْلِسه وَهُوَ أحشد مَا كَانَ من بني هَاشم ووجوه النَّاس وَمَعَهُ مصحف فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أعطنا حَقنا الَّذِي جعله الله لنا فِي هَذَا الْمُصحف فأشفق النَّاس أَن يعجل السفاح بِشَيْء إِلَيْهِ فَلَا يُرِيدُونَ ذَلِك فِي شيخ بني هَاشم فَقَالَ إِن جدك عليا وَكَانَ خيرا مني وَأَعْدل ولي هَذَا الْأَمر أفأعطى جدك الْحسن وَالْحُسَيْن وَكَانَا خيرا مِنْك شَيْئا وَكَانَ الْوَاجِب أَن أُعْطِيك مثله فَإِن كنت فعلت فقد أنصفتك وَإِن كنت زدتك فَمَا هَذَا جزائي مِنْك فَمَا رد عَلَيْهِ عبد الله وَانْصَرفُوا يتعجبون من جَوَابه لَهُ الْحِكَايَة الثَّانِيَة رُوِيَ أَن الْمَأْمُون كَانَ يَوْمًا فِي مجْلِس مذاكرته إِذْ دخل عيه عَليّ بن صَالح الْحَاجِب فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رجل وقف بِالْبَابِ وَعَلِيهِ ثِيَاب غِلَاظ مشمرة يطْلب الدُّخُول فَعلمت أَنه بعض الصُّوفِيَّة فَقَالَ أيذن لَهُ يدْخل فَدخل رجل عَلَيْهِ بِثِيَاب قد شمرها وَنَعله فِي يَده فَوقف على طرف الْبسَاط ثمَّ قَالَ السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَقَالَ الْمَأْمُون وَعَلَيْك السَّلَام فَقَالَ أتأذن فِي الدنو إِلَيْك فَقَالَ أذن فَدَنَا ثمَّ قَالَ اجْلِسْ فَجَلَسَ ثمَّ قَالَ أتأذن لي فِي كلامك فَقَالَ الْمَأْمُون تكلم بِمَا تعلم إِن كَانَ لله فِيهِ رضَا فَقَالَ أَخْبرنِي عَن هَذَا الْمجْلس الَّذِي أَنْت فِيهِ جلسته أباجتماع الْمُسلمين عَلَيْك ورضى بك أم بالمغالبة لَهُم وَالْقُوَّة عَلَيْهِم بسلطانك فَقَالَ لم أجلسه باجتماع مِنْهُم وَلَا مغالبة لَهُم بل كَانَ يتَوَلَّى أَمر الْمُسلمين سُلْطَان قبلي احتمله الْمُسلمُونَ إِمَّا على رضَا وَإِمَّا على كره فعقد لي ولأخي معي ولَايَة هَذَا الْأَمر بعده فِي أَعْنَاق من حضر من الْمُسلمين وَأخذ على من حضر بِبَيْت الله الْحَرَام من الْحَاج الْبيعَة لي وَلآخر معي

فَأَعْطوهُ ذَلِك إِمَّا طائعين وَإِمَّا كارهين فَمضى الَّذِي عقد لَهُ معي على السَّبِيل الَّتِي مضى عَلَيْهَا فَلَمَّا صَار الْأَمر إِلَيّ علمت أَنِّي أحتاج إِلَى اجْتِمَاع كلمة الْمُسلمين علمت أَنِّي أحتاج إِلَى اجْتِمَاع كلمة الْمُسلمين فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا على الرضى بِي ثمَّ نظرت فَرَأَيْت أَنِّي مَتى خليت عَن الْمُسلمين أُمُورهم اضْطربَ حَبل الْإِسْلَام وحرج عَلَيْهِم وانتفضت أَطْرَافهم وَغلب على النَّاس الْهَرج والفتنة وَوَقع التَّنَازُع فبطلت أَحْكَام الله وَلم يحجّ أحد ببيته الْحَرَام وَلم يُجَاهد النَّاس فِي سَبيله وَلم يكن لَهُم سُلْطَان يسوسهم ويجمعهم وانقطعت السبل وَلم يُؤْخَذ لمظلوم من ظَالِم فَقُمْت بِهَذَا الْأَمر حياطة للْمُسلمين ومجاهدا لعدوهم وضابطا لسبلهم وآخذا على أَيْديهم قصد أَن يجْتَمع الْمُسلمُونَ على رجل تتفق كلمتهم على الرِّضَا بِهِ فَأسلم الْأَمر إِلَيْهِ وأكون كَرجل من الْمُسلمين فَمَتَى اجْتَمعُوا على رجل من الْمُسلمين رَضوا بِهِ خرجت إِلَيْهِ عَن هَذَا الْأَمر فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَقَامَ فَأمر الْمَأْمُون عَليّ بن صَالح الْحَاجِب أَن يُوَجه من يتبعهُ حَتَّى يعلم أَيْن يقْصد فَعمل على ذَلِك ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وجهت من اتبع الرجل فَمضى إِلَى مَسْجِد فِيهِ خَمْسَة عشر رجلا فِي مثل هَيئته وزيه فَقَالُوا لقِيت الرجل قَالَ نعم قَالُوا فَمَا قَالَه قَالَ مَا قَالَ إِلَّا خيرا ذكر أَنه ضبط أَمر الْمُسلمين حَتَّى يُؤمن سبلهم وَيقوم الْحَج ويجاهد فِي سَبِيل الله وَيَأْخُذ للمظلوم من الظَّالِم وَلَا تعطل الْأَحْكَام فَإِذا رَضِي الْمُسلمُونَ بِإِمَام واجتمعوا عَلَيْهِ سلم إِلَيْهِ الْأَمر وَخرج إِلَيْهِ مِنْهُ فَقَالَ لسنا نرى فِي هَذَا الْأَمر بَأْسا قَالَ يحي بن أَكْثَم فَأقبل عَليّ الْمَأْمُون فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد كفينا مؤونة هَؤُلَاءِ بأيسر خطب فَقلت الْحَمد لله على مَا ألهمك من السداد وَالصَّوَاب فِي القَوْل وَالْفِعْل

النظر الثاني

النّظر الثَّانِي فِي التغافل وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الجاحظ من أَخْلَاق الْملك أَن التغافل عَمَّا لَا يقْدَح فِي ملك وَلَا يضع من عز وَيزِيد ذَلِك فِي أبهته وَعَلِيهِ كَانَت سيرة آل ساسان وَغَيرهم وَقَالَت الْعَرَب الشّرف التغافل قَالَ (لَيْسَ الغبي بِسَيِّد فِي قومه ... لَكِن سيد قومه المتغابي) قلت وَأَنت لَا تَجِد أحدا يتغافل عَن مَاله إِذا خرج وَعَن مبايعته إِذا غبن وَعَن التقاضي إِذا بخس إِلَّا وجدت فِي قَلْبك لَهُ فَضِيلَة وجلالة لَا تقدر على دَفعهَا وَفِي نَحوه قَالَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ إِنِّي لأجر ذيلي على الخداع انْتهى الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة يجب على ذِي الفطنة الزَّائِدَة الْأَخْذ بِهَذَا الْخلق لما تقدم بالدهاء المفرط حَتَّى يحصل بِهِ الرِّفْق الْمَأْمُور بِهِ قَالَ ابْن خلدون قل مَا تكون ملكة الرِّفْق فِي المتيقظ الشَّديد الْكيس وَأكْثر مَا تُوجد فِي الغفل والمتغفل وَأَقل مَا فِي اليقظ أَنه يُكَلف الرّعية فَوق طاقتهم لنفوذ نظره فِيمَا وَرَاء مداركهم واطلاعه على عواقب الْأُمُور فِي مباديها فيهلكون لذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِيرُوا بسير ضعفائكم

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف عظموا أقداركم بالتغافل مَا استقصى كريم قطّ حَقه ألم تسمع قَوْله تَعَالَى {عرف بعضه وَأعْرض عَن بعض} قَالَ (تغافل فِي الْأُمُور وَلَا تكْثر ... تقصيها فالاستقصاء فرقة) (وسامح فِي حقوقك بعض شَيْء ... فَمَا استوفى كريم قطّ حَقه) إِن من السخاء وَالْكَرم ترك التجني وَترك الْبَحْث عَن بَاطِن الغيوب والإمساك عَن ذكر الْعُيُوب كَمَا أَن من تَمام الْفَضَائِل الصفح عَن التوبيخ وإكرام الْكَرِيم والبشر فِي اللِّقَاء ورد التَّحِيَّة والتغافل عَن خطأ الْجَاهِل من شدد نفر وَمن ترَاخى تألف وأنشدوا فِي التغافل (وَمن لايغمض عَيْنَيْهِ عَن صديقه ... وَعَن بعض مَا فِيهِ يمت وَهُوَ عَاتب) (أغمض عَيْني عَن صديقي تغافلا ... كَأَنِّي بِمَا يَأْتِي من الْأَمر جَاهِل) الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من الْمَنْقُول فِي تغافل الْمُلُوك على كثرته حكايتان الْحِكَايَة الأولى قيل لما ظفر أَبُو الْفَتْح ملك شاه السلجوقي بِعَمِّهِ الْخَارِج عَلَيْهِ وَأَخذه بعث إِلَيْهِ بخريطة مَمْلُوءَة من كتب أمرائه مضمنها أَنهم حملوه على الْخُرُوج عَن طَاعَته وحسنوا لَهُ ذَلِك فدعى الْملك وزيره

نظام الْملك وَأَعْطَاهُ خريطة ليفتحها وَيقْرَأ مَا فِيهَا فَلم يفتحها وَكَانَ هُنَاكَ كانون نَار فَرمى الخريطة فِيهِ فاحترقت الْكتب فسكنت قُلُوب العساكر وأمنوا ووطنوا أنفسهم على الْخدمَة بعد أَن كَانُوا قد خَافُوا من الخريطة لِأَن أَكْثَرهم كَانَ قد كَاتبه وَكَانَ ذَلِك سَبَب ثبات دولة ملك شاه فِي السلطنة وَكَانَت هَذِه مَعْدُومَة من جميل آراء نظام الْملك الْحِكَايَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن رضوَان من حسن التغافل مَا أخبرنَا بِهِ شَيخنَا القَاضِي أَبُو البركات بن الْحَاج قَالَ حكى لنا بعض الشُّيُوخ بفاس أَن عبد الْمُؤمن بن عَليّ وجد عَليّ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد صَالح رَضِي الله عَنهُ لما بلغه أَنه تكلم فِي الْمهْدي فَقَالَ لَهُ مَاذَا تَقول فِي الْمهْدي فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد أَفِي الله شكّ فَقَالَ لَهُ عبد الْمُؤمن هُوَ المظنون بك أَيهَا الشَّيْخ جَزَاك الله خيرا انْصَرف يَرْحَمك الله فَلَمَّا خلا عبد الْمُؤمن بخاصته قَالَ أتظنون أَن الشَّيْخ احتال عَليّ فِي كَلَامه وروى عني بل عرفت وَالله وَجه كَلَامه غير أَنِّي إِن كشفت القناع مَعَه صَعب الْأَمر من جِهَة الْمهْدي وَرجل من أَوْلِيَاء الله فغطيت الْقَضِيَّة وَلم أَزْد على صرفه

القاعدة السابعة عشرة

قَالَ ابْن رضوَان وَيُشبه ذَلِك مَا حكى أَن القَاضِي أَبَا الْعَبَّاس بن عِيسَى الغماري سَأَلَهُ الْمُسْتَنْصر عَن وَالِي بَلْدَة بجاية وَقَالَ لَهُ سمعنَا أَن وَالِي بجاية لَو أَرَادَ أَن يبنيها لبنة فضَّة ولبنة ذهب لفعل فَقَالَ لَهُ مبادرا يَا مولَايَ يكون ذَلِك بالتفاتكم إِلَيْهَا وتعطفكم عَلَيْهَا فتغافل عَن سُؤَاله عَن الْقَصْد الأول وَعلم أَنه حاد عَن جَوَابه الْقَاعِدَة السَّابِعَة عشرَة التَّوَاضُع وللنظر فِيهِ ثَلَاث مطَالب أَحدهمَا فِي التَّوَاضُع وَالثَّانِي فِي نقيضه وَهُوَ الْكبر وَالثَّالِث فِيمَا يتَوَلَّد عَنهُ هَذَا النقيض وَهُوَ الْعجب الْمطلب الأول فِي التَّوَاضُع وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ هُوَ صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِه اسْتحق سيادة ولد آدم إِذْ خَيره الله تَعَالَى بِي أَن يكون نَبيا ملكا أَو نَبيا عبدا فَاخْتَارَ أَن يكون نَبيا عبدا وخيره آخرا بَين الْخلد فِي الدُّنْيَا ولقائه فَاخْتَارَ لقاءه قلت وَكَيف لَا يتواضع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أمره تَعَالَى بذلك

فَفِي الصَّحِيح عَن عِيَاض بن حمَار رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أوصى إِلَيّ أَن تواضعوا حَتَّى لَا يفخر أجد على أحد وَلَا يَبْغِي أحد على أحد الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مِمَّا يدل على فَضله أَمْرَانِ أَحدهمَا الرّفْعَة بِهِ من الله تَعَالَى فَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من تواضع لله دَرَجَة رَفعه الله دَرَجَة حَتَّى يَجعله فِي أَعلَى عليين وَمن تكبر على الله تَعَالَى دَرَجَة نَقصه الله تَعَالَى دَرَجَة حَتَّى يَجعله فِي أَسْفَل سافلين وَلَو أَن أحدكُم يعْمل فِي صَخْرَة صماء لَيْسَ لَهَا بَاب وَلَا كوَّة لخرج مَا غيبه للنَّاس كَائِنا مَا كَانَ الثَّانِي الْوَعْد عَلَيْهِ بِالْجنَّةِ فَفِي الحَدِيث طُوبَى لمن تواضع فِي غير مَعْصِيّة وذل لنَفسِهِ فِي غير مَسْأَلَة وَأنْفق مَالا جمعه فِي غير مَعْصِيّة ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الْفِقْه وَالْحكمَة طُوبَى لمن طَابَ مكسبه وصلحت سَرِيرَته وكرمت عَلَانِيَته وعزل عَن النَّاس شَره طُوبَى لمن عمل بِعِلْمِهِ وَأنْفق الْفضل من مَاله وَأمْسك الْفضل من قَوْله رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَحسنه أَبُو عمر النمري وَغَيره

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من فَوَائده العاجلة منقبتان المنقبة الأولى دلَالَته على كَمَال الْفضل ومزيد الخصوصية بِهِ قيل لعبد الْملك بن مَرْوَان أَي الرِّجَال أفضل قَالَ من تواضع عَن قدره وزهد عَن كَثْرَة وَترك النُّصْرَة عَن قُوَّة المنقبة الثَّالِثَة مزِيد الشّرف بِهِ على شرف صَاحبه دخل ابْن السماك على الرشيد فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن تواضعك فِي شرفك أشرف لَك من شرفك فَقَالَ مَا أحسن مَا قلت فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن امْرَءًا أَتَاهُ الله جمالا فِي خلقته وموضعا فِي حَسبه وَبسط لَهُ فِي ذَات يَده فعف فِي جماله وواسى فِي مَاله وتواضع فِي حَسبه كتب لَهُ فِي ديوَان الله من خَالص عباده الله فَدَعَا الرشيد بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس وَكتبه بِيَدِهِ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الْغَزالِيّ هُوَ كَسَائِر الْأَخْلَاق لَهُ طرفان وواسطة فطرف إفراطه تكبر وطرف تفريطه خسة ومهانة وَالْوسط الْمَحْمُود هُوَ التَّوَاضُع قَالَ والميل إِلَى التكبر أفحش من الْميل إِلَى التذلل كَمَا أَن الْميل إِلَى الْبُخْل أفحش من الْميل إِلَى التبذير والمحمود الْمَطْلُوب هُوَ الْعدْل وَوضع الْأُمُور موَاضعهَا حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْع وَالْعَادَة الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف التَّوَاضُع أحد مصائد الشّرف وكل نعْمَة مَحْسُود عَلَيْهَا صَاحبهَا إِلَّا التَّوَاضُع

لَا عز لمن تذلل لله عز وَجل وَلَا رفْعَة إِلَّا لمن تواضع لله عز وَجل وَلَا أَمن إِلَّا لمن خَافَ الله اسمان مُخْتَلِفَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِد التَّوَاضُع والشرف بخفض الْجَانِب تأنس النُّفُوس الاستهانة توجب التباعد الانبساط يُوجب الموانسة الانقباض يُوجب الوحشة الْكبر يُوجب المقت والتواضع يُوجب السمت من رأى لنَفسِهِ قيمَة لَيْسَ لَهُ من التَّوَاضُع نصيب لَا يتواضع العَبْد حَتَّى يعرف نَفسه الْمَسْأَلَة السَّادِسَة من الْمَنْقُول فِي هَذَا الْبَاب عَن الْمُلُوك وَذَوي الرياسة حكايتان الْحِكَايَة الأولى ذكر الرشاطي عَن عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين من مُلُوك المرابطين أَنه ركب يَوْمًا إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع لشهود صَلَاة الْجُمُعَة فَلَمَّا وصل إِلَى أول رحاب الْمَسْجِد انحط عَن مركبه وَمَشى رَاجِلا فَمر بطريقه على إِنْسَان قد بسط مِئْزَره وَجلسَ عَلَيْهِ ينْتَظر الصَّلَاة فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ خلع نَعْلَيْه لِئَلَّا يطَأ المئزر بهما فَلَمَّا جَاوز لبسهما وَلم يَأْمر الرجل بِرَفْع مِئْزَره وَلَا مَشى عَلَيْهِ الْحِكَايَة الثَّانِيَة ذكر أَيْضا عَن إبنه ولي عَهده أَنه ركب يَوْمًا

المطلب الثاني

فَمر فِي زقاق منحصر وَإِذا بصبي على هجين قد تعرض بِهِ فِي ذَلِك الزقاق وَهُوَ لَا يقدر على رده إِلَى الطَّرِيق وإزالته عَن ذَلِك الْمضيق فَوقف ولي الْعَهْد مُدَّة حَتَّى تهَيَّأ للصَّبِيّ الزَّوَال دون أَن يُقَال فِي ذَلِك شَيْء وَحِينَئِذٍ مَشى إِلَى مقْصده قَالَ الحاكي فعجبت من ذَلِك وَقلت لَهُ يَا مولَايَ تكون ولي عهد الْمُسلمين وتقف هَذَا الْموقف لصبي صَغِير على زامل هجين لَا يزحزح عَن طريقك قَالَ فَقَالَ لي وَمَا يدْرك لَعَلَّ مِقْدَاره أرفع من مقدارنا قَالَ فازددت تَعَجبا ثمَّ إِنِّي حدثت بذلك أَمِير الْمُسلمين وَالِده فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَى قَوْله لَعَلَّ مِقْدَاره فِي الْآخِرَة أرفع من مقدارنا قَالَ لي أَمِير الْمُسلمين نعم وَفِي الدُّنْيَا وَمن يعلم مجاري الأقدار وتصاريف اللَّيْل وَالنَّهَار قَالَ فازددت تَعَجبا من ذَلِك الْمطلب الثَّانِي فِي الْكبر وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى من التَّغْلِيظ الْوَارِد فِيهِ وعيدان الْوَعيد الأول تَعْذِيب مُنَازع رب الْعِزَّة فِيهِ بالنَّار فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الله عز وَجل الْعِزّ إزَارِي والكبرياء رِدَائي فَمن يُنَازعنِي شَيْئا مِنْهُمَا عَذبته الْوَعيد الثَّانِي منع أدنى الْقَلِيل مِنْهُ من دُخُول الْجنَّة فَفِي الصَّحِيح عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر فَقَالَ رجل أَن الرجل يجب أَن

يكون ثَوْبه حسنا فَقَالَ إِن الله جميل يحب الْجمال الْكبر بطر الْحق وغمط النَّاس بطر الْحق رده وغمط النَّاس احتقارهم الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من شُؤْم التخلق بِهِ تَعْجِيل عقوبتين أَحدهمَا مَنعه من فهم الْحق وقبوله قَالَ تَعَالَى سأصرف عَن آبَائِي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق الثَّانِي خسف الأَرْض بِصَاحِبِهِ فَفِي الصَّحِيح عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَمَا رجل مِمَّن قبلكُمْ يجر إزَاره من الْخُيَلَاء خسف بِهِ فَهُوَ مجلجل فِي الأَرْض إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أَي يغوص وَينزل فِيهَا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة شَوَاهِد خسته وَإِن أعتقد الترفع بِهِ أَمْرَانِ أَحدهمَا دلَالَته إِلَى حمق صَاحبه قَالَ أزدشير مَا الْكبر إِلَّا فضل حمق لم يدر صَاحبه أَيْن يذهب بِهِ فصرفها إِلَى الْكبر قلت وَمن لَازم ذَلِك نقص الْعقل لَا محَالة وَلذَلِك قَالَ بعض أهل الْبَيْت مَا دخل قلب امْرِئ شَيْء من الْكبر قطّ إِلَّا نقص من عقله بِقدر مَا دخل من ذَلِك قل أَو كثر الثَّانِي صدوره عَن وجود الذلة فِي النَّفس قَالَ الْأَحْنَف مَا تكبر أحد إِلَّا من ذلة يجدهَا فِي نَفسه الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة للكبر بَاطِن وَهُوَ رُؤْيَة النَّفس خيرا من غَيرهَا وَظَاهر وَهُوَ ثَمَرَته الصادرة عَن الْجَوَارِح وَالْأول أصل وَحَقِيقَته وَالثَّانِي فرع ومجاز

قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وَبِه ينْفَصل عَن الْعجب فَإِن الْعجب لَا يَسْتَدْعِي غير المعجب بِحَيْثُ لَو خلق وَحده لتصور وجوده وَلَا يكون متكبرا إِلَّا مَعَ من يعْتَقد فَضله عَلَيْهِ قَالَ وَهَذِه العقيدة تنفخ فِيهِ فَيحصل فِي قلبه اعتزاز وركون إِلَى مَا اعتقده وَعز بِهِ فِي نَفسه وَذَلِكَ ورد أعوذ بِاللَّه من نفخة الْكبر انْتهى مُلَخصا أَحدهمَا على الله تَعَالَى كإدعاء الشّركَة مَعَه فِي قَول فِرْعَوْن أَنا ربكُم الْأَعْلَى والترفع عَن عِبَادَته كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبادتي سيدخلون جَهَنَّم داخرين} قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ أفحش أَنْوَاعه قَالَ وَلَا مثار إِلَّا الْجَهْل والطغيان الثَّانِي على الرُّسُل كَقَوْلِه قُرَيْش لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ يَعْنِي وَلم يوضع فِي أقلهم مرتبَة

قَالَ وَلم يعملوا الْمَرَاتِب بجهلهم وقبلوها حِين ثَبت لَهُم قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ قريب من الْكبر على الله وَإِن كَانَ دونه الثَّالِث على الْعباد كالترفع عَلَيْهِم والأنفة من مساواتهم استحقارا لَهُم واستصغارا قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ وَإِن كَانَ دون الأول وَالثَّانِي فَهُوَ عَظِيم لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا لِأَنَّهُ لَا يَلِيق إِلَّا بِالْملكِ الْقَادِر وَالْعَبْد الْمَمْلُوك الْعَاجِز أَنى لَهُ بذلك وَأَنه يَدْعُو إِلَى مُخَالفَة الْأَمر والاستكشاف من قبُول الْحق تَنْبِيه فِي تحذير قَالَ الشَّيْخ عز الدّين قد يحمل التكبر على الْمَخْلُوق على التكبر على الْخَالِق كحمل تكبر إِبْلِيس على آدم على التكبر عَن السُّجُود لَهُ قَالَ فَمن رأى أَنه خير من أَخِيه احتقارا لَهُ وازدراء بِهِ أَو رد الْحق وَهُوَ يعرفهُ فقد تكبر على الله تَعَالَى الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَسبَاب الْكبر نَوْعَانِ أَحدهمَا ديني وَهُوَ الْعلم إِذا أعجب بِهِ صَاحبه فيستكبر بِهِ على من دونه فِي الْعلم وعَلى الْعَامَّة وَالْعَمَل إِذا أعجب بِهِ صَاحبه أَيْضا فيتكبر بِهِ على من لَا يعْمل مثله قَالُوا وَمَا أسْرع الْكبر إِلَى الْعلمَاء كَمَا أَنه لَا يَخْلُو الْعباد مِنْهُ الثَّانِي دُنْيَوِيّ وَهُوَ الْحسب الْمُوجب لاحتقار النَّاس وَالْجمال أَكثر مَا يجْرِي بَين النِّسَاء وَالْمَال المفتخر بكثرته وَالْقُوَّة المتطاول بهَا على ذَوي الضعْف وَكَثْرَة الأتباع وَالْأَنْصَار قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وَيجْرِي ذَلِك بَين الْمُلُوك فِي المكاثرة بالجنود

وَبَين الْعلمَاء فِي المكاثرة بالمستفيدين قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَكل مَا هُوَ نعْمَة وَأمكن أَن يعْتَقد كَمَا لَا وَإِن لم يكن تصورا تصور أَن يتكبر بِهِ حَتَّى أَن المخنث يتكبر على أقرانه بمزيد مَعْرفَته بصنعة التخنيث لاعْتِقَاده أَن ذَلِك كَمَال الْمَسْأَلَة السَّابِعَة قَالَ البلالي مُخْتَصر لكَلَام الْغَزالِيّ يدْفع الْكبر إدامة فكرة فِي أَصله من تُرَاب وطين منتن ونطفة بمَكَان قذر فأوجده يسمع وبصر وعقل ليعرف بِهِ أَوْصَافه وَأخرجه تَعَالَى ضَعِيفا عَاجِزا فرباه وَقواهُ وَعلمه يعلم فيجهل يَصح فيسقم يقدر فيعجز لَا يملك ضرا وَلَا نفعا وَلَا شَيْئا وَمَعَ ذَلِك لَا يشْكر نعْمَة وَلَا يذكر عرض قبائحه وتفرده بِقَبْر موحش عَن أَصْحَابه وأحبابه فَيصير جيفة والأحداق سَالَتْ والألوان حَالَتْ والفصاحة زَالَت والرؤوس تَغَيَّرت ومالت مَعَ فتان يَأْتِيهِ فيقعده ويسأله عَمَّا كَانَ يَعْتَقِدهُ ثمَّ يكْشف لَهُ من الْجنَّة وَالنَّار مقعدة إِلَى مبعثه فَيرى أَرضًا مبدلة وقبورا مبعثرة وسماء مشققة وشمسا مكورة ونجوما منكدرة وملائكة منزلَة وأهوالا مذعرة وصحفا منشرة وَنَارًا مزفرة وجنة مزخرفة فَمَا لمن هَذِه حَاله وَالْكبر وَنَحْوه مَعَ أَنه يحْشر على صُورَة الذَّر تطأه النَّاس كَمَا صَحَّ فالكبرياء وَالْعَظَمَة للعزيز الْقَادِر لَا للْعَبد الْعَاجِز قَالَ فالمتكبر وَنَحْوه مبتلى لَا يرحم الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة علاجه على التنزل بمدارات أَسبَابه فالعلم وَكبره أبعد عَن قبُول العلاج إِلَّا بِمَشَقَّة عَظِيمَة بِمَعْرِِفَة أَن الْحجَّة على الْعَالم أبلغ وَأَن الْكبر لَا يَلِيق إِلَّا بِاللَّه وَالْعَمَل فتنته عَظِيمَة بِلُزُوم التَّوَاضُع لسَائِر الْعباد من عَالم فَوْقه ومستور لاحْتِمَال أَن يكون أقل مِنْهُ دينا ومكشوف لِإِمْكَان نجاته والحسب بمعرفته الله أَن التعزز بِكَمَال الْغَيْر جَهَالَة فَإِن النّسَب

الْحَقِيقِيّ مَا تقدّمت لإشارة إِلَيْهِ من خلق أَصله وَالْجمال بِالنّظرِ إِلَى قبائح الْبَاطِل من بَوْل وغائط ومخاط وبصاق وَرشح دم مُنْضَمًّا إِلَى قذارة مبدئه وَالْقُوَّة بِعلم مَا سلط عَلَيْهِ من الْأَمْرَاض والآفات وَأَنَّهَا دون قُوَّة الْبَهَائِم وَكَثْرَة المَال والإتباع فَإِن الْكبر بذلك إِنَّمَا هُوَ بِخَارِج قَالَ الإِمَام الغوالي وَهُوَ أقبح أَنْوَاع الْكبر لِأَن مَا لَيْسَ بذاتي لَا يَدُوم فالتفاخر بِهِ غَايَة الْجَهْل الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة قَالَ ابْن قيم الجوزية الْفرق بَين الْكبر وَبَين المهابة أَن المهابة أثر امتلاء الْقلب بعظمة الرب ومحبته وَإِذا امتلاء بذلك حل فِيهِ النُّور وألبس رِدَاء الهيبة فاكتسى وَجهه الْحَلَاوَة والمهابة فحنت إِلَيْهِ الأفئدة وقرت بِهِ الْعُيُوب وَالْكبر أثر الْعجب فِي قلب مَمْلُوء جهلا وظلما نزل عَلَيْهِ المقت فنظره شزر ومشيته تبختر لَا يبْدَأ بِسَلام وَلَا يرى لأحد حَقًا وَيرى حَقه على غَيره فَلَا يزْدَاد من الله إِلَّا بعدا وَلَا من النَّاس إِلَّا صغَارًا وبعضا انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة قَالَ وَالْفرق بَينه وَبَين الصيانة أَن الصائن لنَفسِهِ كلا بس ثوب جَدِيد نقي الْبيَاض يدْخل بِهِ على الْمَمْلُوك فَمن دونهم فَهُوَ يصونه عَن الْوَسخ وأنواع الْآثَار وَمَتى أَصَابَهُ شَيْء من ذَلِك بَادر إِلَى إِزَالَته ومحو آثاره وَكَذَا الصائن لِقَلْبِهِ وَدينه فَلذَلِك لَا يتَقرَّب من النَّاس ويحترس من غوائل مخالطتهم بِمَا ظَاهره التعزز مَخَافَة أَن يتَأَذَّى قلبه بِمَا هُوَ أعظم فِي الْأَثر من الطبوع الْفَاحِشَة فِي الثَّوْب النقي والمتكبر وَأَن شابهه فِي الْعِزَّة والتخنث فقصده أَن يَعْلُو رقابهم ويجعلهم تَحت قدمه فَقَالَ هَذَا لون وَذَاكَ لون وانْتهى مُلَخصا

المطلب الثاني

الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة يبغض الْفُسَّاق فِي الله تَعَالَى وَلَا يتكبر عَلَيْهِم فالكافر لَا مَكَان أَن يخْتم لَهُ بِخَير والمتكبر عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ والمبتدع كَذَلِك فالكافر لامكان أَن يخْتم لَهُ بِخَير والمتكبر عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ والمبتدع كَذَلِك وَإِن منع شوم الْبِدْعَة من التَّوْبَة عَنْهَا غَالِبا والعاصي من بَاب أولى قَالَ الشَّيْخ عز الدّين وَترك الْكبر عَلَيْهِ بِمَعْرِِفَة نعْمَة الله عَلَيْك فِي الْعِصْمَة من مثل علمه ومجانبته لله تَعَالَى مَعَ خوفك على نَفسك بِحَيْثُ لَا تظن أَنَّك نَاجٍ وَهُوَ هَالك فكم من عَاص ختم لَهُ بِخَير وَكم من مُطِيع ختم لَهُ بشر لَا يسخر قوم من قوم عَسى أَن يَكُونُوا خيرا مِنْهُم تَنْبِيه قَالَ الشَّيْخ عز الدّين لَيْسَ من الْكبر أَن يعرف الْإِنْسَان مَا فَضله الله تَعَالَى بِهِ على غَيره وَإِنَّمَا الْكبر أَن يحتقره ويعتقد أَنه عِنْد الله فِي الْآخِرَة خير مِنْهُ مَعَ جَهله بِمَا يؤول إِلَيْهِ أَمرهمَا الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْخلق الانبساط يُوجب المؤانسة والانقباض يُوجب الوحشية وَالْكبر يُوجب المقت والتواضع يُوجب الْمِنَّة والاستهانة يُوجب التباعد من مقته رِجَاله لم يستقم حَاله وَمن أبغضته بطانته كَانَ كمن غص بِالْمَاءِ وَمن كرهه الحماة تطاول عَلَيْهِ الْأَعْدَاء (تكبر الْحر على من فَوْقه ... وتكبر النذل على من دونه) الْمطلب الثَّانِي فِي الْعجب وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى جعل الطرطوشي هَذَا الْوَصْف مَعَ فَرعه وَهُوَ الْكبر من الْأَوْصَاف الَّتِي لَا تدوم مَعهَا مملكة قَائِلا وَمن أعجب الْعَجَائِب دوَام الْملك مَعَ الْكبر والإعجاب

وَنقل عَن الْأَوْزَاعِيّ يهْلك السُّلْطَان بالإعجاب والاحتجاب قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ مَذْمُوم فِي كتاب الله وَسن رَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قلت وَيَكْفِي من ذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا إِنْكَاره تَعَالَى على من تعرض بِهِ للخذلان قَالَ الله تَعَالَى {وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم فَلم تغن عَنْكُم شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ وليتم مُدبرين} الثَّانِي انتظامه فِي سلك الصِّفَات الْمهْلكَة فَفِي الحَدِيث ثَلَاث مهلكات شح مُطَاع وَهوى مُتبع وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ بعض الْحُكَمَاء الَّذِي يحد ث للملوك التيه فِي أنفسهم والإعجاب بآرائهم كَثْرَة مَا يسمونه من ثَنَاء النَّاس عَلَيْهِم وَلَو أَنهم أنصفوهم أَو صدقوهم عَن أنفسهم لَا بصروا الْحق وَلم يخف عَلَيْهِم شَيْء من أنفسهم وروى الْخطابِيّ بِسَنَدِهِ أَن يحيى بن الحكم قيل لَهُ عمر بن عبد الْعَزِيز مولده مولده ومنشأه منشأه جَاءَ كَمَا رَأَيْت يَعْنِي فِي الْكَمَال قَالَ أَن أَبَاهُ أرْسلهُ للحجاز شَابًّا سوقة يغْضب النَّاس ويغضبونه ويمخض النَّاس ويمخضونه وَالله لقد ولى الْحجَّاج وَمَا عَرَبِيّ أحسن أدبا مِنْهُ فطالت مُدَّة ولَايَته فَكَانَ لَا يسمع إِلَّا مَا يحب فَمَاتَ وَأَنه لأحمق سيء الْخلق وَالْأَدب

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة للتخلق بِهِ آفَات الآفة الأولى الْكبر وَهُوَ غَالب أَسبَابه قَالَ الشَّيْخ عز الدّين وَلذَلِك يُطلق الْكبر على الْعجب لِأَنَّهُ مسبب عَنهُ الآفة الثَّانِيَة حجبه عَن التَّوْفِيق والتأييد من الله تَعَالَى لإِصْلَاح صَاحبه لما وثق بِهِ من نَفسه قَالَ الْغَزالِيّ وَإِذا انْقَطع عَن العَبْد التَّوْفِيق والتأييد فَمَا أسْرع مَا يهْلك الآفة الثَّالِثَة إفساده للْعَمَل الصَّالح قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَا معشر الحواريين كم من سراج أطفأته الرّيح وَكم من عَابِد أفْسدهُ الْعجب قلت وَمن ثمَّ قيل هُوَ آفَة المتعبدين من الْأَوَّلين والآخرين الآفة الرَّابِعَة مَنعه من الاستفادة والاستشارة إِذا كَانَ بِالرَّأْيِ وَالْعقل قَالَ الْغَزالِيّ وَرُبمَا يعجب بِالرَّأْيِ الْخَطَأ فيفرح بِهِ لكَونه من خواطره فيصر عَلَيْهِ وَلَا يسمع نصح نَاصح وَلَا وعظ واعظ الآفة الْخَامِسَة فتور المقرب بِهِ عَن طلب النجَاة لظَنّه أَنه قد فَازَ قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وَهُوَ الْهَلَاك الصَّرِيح الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الشَّيْخ عز الدّين الْعجب فرحة فِي النَّفس بِإِضَافَة الْعَمَل إِلَيْهَا وحمدها عَلَيْهِ مَعَ نِسْيَان أَن الله تَعَالَى هُوَ الْمُنعم بِهِ والمتفضل بالتوفيق إِلَيْهِ قَالَ وَمن فَرح بذلك لكَونه منَّة من الله تَعَالَى واستعظمه لما يَرْجُو عَلَيْهِ من ثَوَابه وَلم يضفه إِلَى نَفسه وَلم يحمدها عَلَيْهِ فَلَيْسَ بمعجب الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة الْعجب أَنْوَاع

أَحدهمَا الْجمال ذهولا عَن شُهُود الْمِنَّة بِهِ من الله تَعَالَى وينفيه النّظر فِي بَدْء خلقه إِلَى مَا يصير إِلَيْهِ الثَّانِي الْقُوَّة استعظاما لَهَا مَعَ نِسْيَان شكرها وَترك الِاعْتِمَاد على خَالِقهَا كَقَوْل عَاد من أَشد منا قُوَّة وينفيه اعترافه بمطالبة الشُّكْر عَلَيْهَا وَأَنَّهَا معروضة للسلب فَيُصْبِح أَضْعَف الْعباد الثَّالِث الْعقل والكياسة لَهُ واستبدادا بِهِ وينفيه ترديد الشُّكْر عَلَيْهِ وتجويز أَن يسلب مِنْهُ كَمَا فعل بِغَيْرِهِ وَأَنه وَإِن اتَّسع الْعلم بِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ إِلَى قَلِيلا الرَّابِع النّسَب الشريف افتخارا بِهِ واعتقاد الْفضل بِهِ على كثير من الْعباد وينفيه علمه بِأَنَّهُ لَا يجلب ثَوابًا وَلَا يدْفع عقَابا وَإِن أكْرم النَّاس عِنْد الله أَتْقَاهُم وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لابنته فَاطِمَة وَعَمَّته صَفِيَّة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَا أُغني عنكما من الله شَيْئا الْخَامِس الانتماء إِلَى ظلمَة الْمُلُوك وفسقة أعوانهم تَشْرِيفًا بهم فِيمَا يتَوَهَّم قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وَهُوَ غَايَة الْجَهْل وينفيه الفكرة فِي مخازيهم

القاعدة الثامنة عشرة

ومقتهم عِنْد الله تَعَالَى وَحقّ المنتسب إِلَيْهِم مَتى عصم من ظلهم شكر الله على ذَلِك واستغفاره لَهُم أَن كَانُوا مُسلمين السَّادِس كَثْرَة الْأَوْلَاد والأقارب والأتباع اعْتِمَاد عَلَيْهِم ونسيانا للتوكل على رب الأرباب وينفيه بتحققه أَن النَّصْر من عِنْد الله وَأَن الْكَثْرَة مِنْهُم لَا تغنى عِنْد حُضُور الْمَوْت شَيْئا السَّابِع اعتدادا بِهِ وتعويلا عَلَيْهِ ونفيه علمه أَن المَال فتْنَة وَأَن لَهُ آفَات مُتعَدِّدَة وَأَن الْأَكْثَرين هم الأقلون يَوْم الْقِيَامَة الثَّامِن الرَّأْي الْخَطَأ توهما أَنه نعْمَة وَهُوَ فِي نفس الْأَمر نقمة قَالَ تَعَالَى {أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا} قَالَ {وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} وينفيه على جهد جهيد للْجَهْل بِهِ اتهام رَأْيه من حَيْثُ هُوَ من جملَة الْبشر الْوَاقِع مِنْهُم الْخَطَأ كثيرا الْقَاعِدَة الثَّامِنَة عشرَة سَلامَة الصَّدْر من الحقد والحسد وَفِيه طرفان الطّرف الأول فِي الحقد وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى حَقِيقَة إِضْمَار الشَّرّ المتوقع دَائِما لمن عجز عَن التشفي مِنْهُ بغضة لَهُ واستثقالا وَالْفرق بَينه وَبَين الموجدة من وَجْهَيْن

الْوَجْه الأول أَن الموجدة إحساس بالمولم وتحرك من النَّفس فِي دفْعَة فَهُوَ كَمَال بِخِلَاف الحقد الْمُفَسّر بِمَا ذكر الْوَجْه الثَّانِي الموجدة لما ينالك مِنْهُ والحقد لما يَنَالهُ مِنْك قَالَ ابْن قيم الجوزية فالموجدة سريعة الزَّوَال مَعَ صلابة الْقلب وَقُوَّة نوره والحقد لَا يزَال أَثَره فِي الْقلب مَعَ ضَيفه واستيلاء ظلمَة النَّفس عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من ثَمَرَات الحقد الْحَسَد ومزيد الشماتة بالمحسود وهجر الْمُسلم ومصارمته والإعراض عَنهُ وَالْكَلَام فِيهِ بِمَا لَا يحل من غيبَة وَكذب وإفشاء سر وهتك ستر واستهزاء وسخرية وَضرب وإيلام وَمنع حُقُوق قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وكل ذَلِك حرَام الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة للحقود عِنْد الْقُدْرَة أَحْوَال أَن يسْتَوْفى حَقه من غير زِيَادَة وَلَا نقص وَهُوَ الْعدْل وَأَن يحسن إِلَيْهِ بِالْعَفو والصلة وَهُوَ الْفضل وَأَن يَظْلمه بِمَا لَا يسْتَحقّهُ وَهُوَ الْجور قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وَالْأولَى دَرَجَة الصَّالِحين وَالثَّانِي اخْتِيَار الصديقين وَالثَّالِث اخْتِيَار الأرذال الطّرف الثَّانِي فِي الْحَسَد وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى عد الْحُكَمَاء هَذَا الْوَصْف من الْخِصَال الَّتِي لَا تغتفر من السُّلْطَان قَالَ الطرطوشي لِأَنَّهُ إِذا كَانَ حسودا لم يشرف أحدا وَإِذا ضَاعَت الْأَشْرَاف هَلَكت الإتباع

قلت ولوجوه آخر وَهُوَ قَول أفلاطون حسد الْملك يخفى بهجة الْملك الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مِمَّا يدل على ذمَّة فِي الْجُمْلَة أَمْرَانِ أَحدهمَا عده فِي الْجُمْلَة الصِّفَات الْمنْهِي عَنْهَا فَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ وَالظَّن فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث وَلَا تجسسوا وَلَا تنافروا وَلَا تنافسوا وَلَا تباغضوا وَلَا تدابروا وَكُونُوا عباد الله إخْوَانًا الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يَظْلمه وَلَا يَخْذُلهُ وَلَا يتحقره التَّقْوَى هَا هُنَا التَّقْوَى هَاهُنَا التَّقْوَى هَاهُنَا يُشِير إِلَى صَدره بِحَسب أمريء من الشَّرّ أَن يحقره أَخَاهُ الْمُسلم على الْمُسلم حرَام دَمه وَعرضه وَمَاله الثَّانِي أكله للحسسنات فَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إيَّاكُمْ والحسد فَإِن الْحَسَد يَأْكُل الْحَسَنَات كَمَا بِأَكْل النَّار الْحَطب الرَّقِيق أَو قَالَ العشب رَوَاهُ أَبُو دَاوُود قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَرَوَاهُ ابْن ماجة من حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الْحَسَد يَأْكُل الْحَسَنَات كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطب الرَّقِيق وَالصَّدَََقَة تُطْفِئ الْخَطِيئَة كَمَا يُطْفِئ المَاء النَّار وَالصَّلَاة نور الْمُؤمن وَالصِّيَام جنَّة من النَّار الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من أعظم آفاته العاجلة أَمْرَانِ أَحدهمَا حمله على ارْتِكَاب الشرور المتناهية الذَّم كتملقه فِي الْحُضُور واغتيابه فِي المغيب وشماتته فِي الْمُصِيبَة قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وحسبك أَن الله تَعَالَى أَمر بالاستعاذة من شَرّ الْحَاسِد إِذا حسد

فَقَالَ {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد} حَتَّى لَا مستعان عَلَيْهِ إِلَّا بِاللَّه رب الْعَالمين الثَّانِي مَنعه من الظفر بالمراد وخذلانه عِنْد الِانْتِصَار على الْأَعْدَاء فقد قيل الْحَاسِد غير مَنْصُور قَالَ الْغَزالِيّ كَيفَ يظْهر بمراده وَمرَاده زَوَال نعم الله على عباده الْمُسلمين أَو ينصر على أعدائه وهم عباد الله الْمُؤمنِينَ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة حَقِيقَته كَرَاهَة النِّعْمَة وَحب زَوَالهَا عَن الْمُنعم عَلَيْهِ فَتخرج المنافسة إِذْ لَا كَرَاهَة فِيهَا للنعمة وَلَا حب لزوالها بل غايتها تمني النَّفس مثلهَا فَحسب وَلذَلِك أَمر فِيمَا هُوَ دين كَقَوْلِه تَعَالَى {وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ} وَحرم الْحَسَد بِكُل حَال قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ إِلَّا نعْمَة كَافِر أَو فَاجر يَسْتَعِين بهَا على فَسَاد فَلَا يضر كراهتها ومحبة زَوَالهَا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة للحسد مَرَاتِب أَن يحب زَوَال النِّعْمَة وَإِن كَانَت لَا تنْتَقل إِلَيْهِ يجب انتقالها من حَيْثُ هِيَ مَطْلُوبَة لَا مُجَرّد زَوَالهَا نولا يُرِيد عينهَا بل مثلهَا فَإِن عجز عَن ذَلِك أحب زَوَالهَا لِئَلَّا يفوتهُ بهَا أَو يُرِيد مثلهَا فَإِن عجز لم يحب زَوَالهَا وَهَذِه الْأَخِيرَة قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ مَعْفُو عَنْهَا فِي الدُّنْيَا ومندوب إِلَيْهَا فِي الدّين وَالثَّالِثَة فِيهَا مَذْمُوم وَالثَّانيَِة أخف من الثَّالِثَة وَالْأولَى غَايَة الْخبث الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَسبَاب الْحَسَد أَنْوَاع أَحدهمَا الْعَدَاوَة وَهُوَ أقواها وَتُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُع وضياع الْعُمر فِي إِعْمَال الْحِيلَة فِي زَوَال النِّعْمَة

الثَّانِي خَوفه من ترفع غَيره عَلَيْهِ بِنِعْمَة فيريد سلبها ليحصل التَّسَاوِي فَيَأْمَن مَكْرُوه الْكبر عَلَيْهِ الثَّالِث خشيَة أَن لَا يحْتَمل ذُو النِّعْمَة المستجدة مَعْهُود الترفع عَلَيْهِ فيتمنى زَوَالهَا لِئَلَّا يفوتهُ ذَلِك أَو يُسَاوِيه بهَا فَيَعُود متكبرا بعد أَن كَانَ متكبرا عَلَيْهِ الرَّابِع تعجبه من رُتْبَة خص بهَا غيرَة كَقَوْل بعض الْكَفَرَة مَا أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا تَعَجبا من تَخْصِيص بشر مثلهم بمزية الرسَالَة الْخَامِس خوف فَوت الْمَقَاصِد وتختص بمتزاحمين على مَقْصُود وَاحِد كالغزاة والتلاميذ وخواص الْمُلُوك وَنَحْوهم قَالَ البلالي وَأما الْغِبْطَة ومحبة نِهَايَة لَا تدْرك فَحسن السَّادِس حب الِانْفِرَاد بالرياسة بِحَيْثُ إِذا تخْتَص بِصفة كَمَال وَسمع فِي أقْصَى الْعَالم بنظير أحب مَوته أَو زَوَال النِّعْمَة الَّتِي بهَا الْمُشَاركَة السَّابِع خبث النَّفس وردائتها فَيشق عَلَيْهِ إِذا وصف أحد بفضيلة ويرتاح لذكر رذائل النَّاس وَمَا هم عَلَيْهِ من النقائض قَالَ الْغَزالِيّ فَهُوَ أبدا يحب الأدبار لغيره وَيبْخَل بِنِعْمَة الله على عباده تبصرة قَالَ البلالي مُخْتَصرا لكَلَامه ومنشأ هَذِه الْأَسْبَاب حب الدُّنْيَا لضيقها فَارْحَمْ نَفسك بنعيم لَا زحام فِيهِ وَهُوَ معرفَة الله تَعَالَى وعجائب ملكوته وَبهَا تُدْرِكهُ فِي الْآخِرَة وَمن قلت فِيهَا رغبته فَلَيْسَ بِرَجُل إِذْ شوقه

بعد ذوقه وَمن يذقْ لم يشتق وَمن لم يشق لم يطْلب وَمن لم يطْلب لم يدْرك وَمن لم يدْرك بَقِي من المحرومين الْمَسْأَلَة السَّابِعَة يَكْفِي مِمَّا يَنْفِي الْحَسَد أَمْرَانِ أَحدهمَا عمله بِعُود ضَرَره عَلَيْهِ وَدُنْيا فَفِي الدّين بمفارقة الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ ومشاركة أَعدَاء الله تَعَالَى بتسخط قَضَائِهِ وَكَرَاهَة قسمته لِعِبَادِهِ وَحب زَوَالهَا عَن الْمُؤمن ونزول الْبلَاء بِهِ مَعَ الْوُقُوع فِيهِ غَالِبا بالغيبة وَنَحْوهَا وَفِي الدُّنْيَا بتألمه بتوالي الغموم عَلَيْهِ مِمَّا يرى من نعْمَة على محسودة تمنى محبته بزوالها عَنهُ فتعجل لَهُ المحنة الدائمة بغمة وكربه وكمده الثَّانِي مَعْرفَته بنفع الْمَحْسُود بِهِ دنيا ودينا فَفِي الدّين بِنَقْل حَسَنَاته إِلَيْهِ إِذْ هُوَ مظلوم لَهُ مِمَّا وصل مِنْهُ إِلَيْهِ وَفِي الدُّنْيَا بمحبته العائدة عَلَيْهِ وَلذَلِك لَا يتَمَنَّى مَوته بل طول حَيَاته لَكِن فِي غم الْحَسَد وأليم عَذَابه قَالَ الشَّاعِر (لامات أعداؤك بل خلدوا ... حَتَّى يرَوا مِنْك الَّذِي يكمد) (لَا زلت محسودا على نعْمَة ... فَإِنَّمَا الْكَامِل من يحْسد) الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة قَالَ الْغَزالِيّ لَك فِي أعدائك ثَلَاثَة أَحْوَال أَحدهمَا أَن تحب مساءتهم بطبعك وَتكره حبك لذَلِك وتود زَوَاله من قَلْبك وَهَذَا مَعْفُو عَنهُ إِذْ لَا يدْخل تَحت الِاخْتِيَار أَكثر مِنْهُ

الثَّانِي وَأَن تحب ذَلِك مظْهرا للفرح بِهِ وَهُوَ الْحَسَد الْمَحْظُور وَأَن تحسد بقلبك من غير إِنْكَار على نَفسك وَلَكِن تحفظ جوارحك عَن طَاعَة الْحَسَد من مقتضاها الثَّالِث وَهُوَ مَحل الْخلاف وَالظَّاهِر أَنه لَا يَخْلُو عَن إِثْم بِقدر شدَّة ذَلِك الْحبّ وَضَعفه قلت وَبِه جزم الشَّيْخ عز الدّين قَائِلا لِأَن الْحَسَد من أَفعَال الْقُلُوب وَقد يتجوز بِهِ إِلَى آثاره وَإِنَّمَا نهى عَنهُ لِأَن تَمْكِينه فِي الْقلب يحمل على الْمُعَامَلَة بآثاره فَيكون تَحْرِيمه من بَاب تَحْرِيم الْوَسَائِل الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة قَالَ الشَّيْخ عز الدّين الْحَسَد بِالْقَلْبِ ذَنْب بَين الْحَاسِد وَبَين الرب تَعَالَى لَا تقف صِحَة التَّوْبَة عَنهُ على تَحْلِيل الْمَحْسُود بِخِلَاف آثاره فَإِنَّهَا اذاية للمحسود فَلَا تصح التَّوْبَة عَنْهَا إِلَّا بِالْخرُوجِ عَن عهدتها لِأَن الضَّرَر لَيْسَ بِمُجَرَّد الْحَسَد وَإِنَّمَا هُوَ بتعاطي آثاره الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْخلق الْحَسَد جرح لَا يبرأ ويحسب الْحَاسِد مَا يلقى الْحَاسِد لَا ينَال من الْمجَالِس إِلَّا مذمة وذلا وَلَا من الْمَلَائِكَة إِلَّا لعنة وبغضة وَلَا من الْخلق إِلَّا خزيا وغما وَلَا عِنْد النزع إِلَّا شدَّة وَهولا وَلَا فِي الْموقف إِلَّا فضيحة ونكالا لَا يرْتَفع الْحَسَد عَن أحد إِلَّا لحقته رَحْمَة النَّاس والحاسد إِذا رأى أَدَاء النِّعْمَة قد فعل جميلا لم يرضه إِلَّا أَن يكون أفضل أَنْوَاع الْجَمِيل وَلَيْسَ على فَاعل الْجَمِيل أَن يبلغ أقْصَى مَنَازِله وكل مَا أَتَاهُ مِنْهُ فَهُوَ مَحْمُود عَلَيْهِ الحسود ظَالِم ظلوم ضَعِيفَة يَده عَن انتزاع مَا حسدك عَلَيْهِ فَلَمَّا قصرت عَنهُ بعث إِلَيْك بأسفه والغر من المتنعمين يتَأَذَّى بِهِ كَمَا يتَأَذَّى برائحة الثوم الَّذِي لَا يَنْفَعهُ مِنْهُ

الْأَطْعِمَة المستطابة والحازم يفرح بِهِ وَيَوَد زِيَادَته من أَرَادَ أَن يشجى حاسده من غير حجَّة تلْحقهُ فليزدد فِي الْفَضِيلَة الَّتِي حسده عَلَيْهَا الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة من المتعظ بِهِ فِي عود مضرَّة الْحَسَد على صَاحبه مَا يحْكى أَن رجلا كَانَ يغشى بعض الْمُلُوك فَيقوم بحذاء الْملك وَيَقُول أحسن إِلَى المحسن بإحسانه والمسيء ستكفيه مساويه فحسده رجل على ذَلِك الْمقَام وَالْكَلَام فسعى بِهِ إِلَى الْملك فَقَالَ إِن هَذَا الَّذِي يقوم بحذائك وَيَقُول مَا يَقُول بزعم أَن الْملك أبخر فَقَالَ لَهُ الْملك وَكَيف يَصح ذَلِك عِنْدِي قَالَ تَدْعُو بِهِ إِلَيْك فَإِذا دنا مِنْك وَوضع يَده على أَنفه لِئَلَّا يشم ريح البخر فَقَالَ لَهُ انْصَرف حَتَّى أنظر فَخرج من عِنْد الْملك فَدَعَا الرجل إِلَى منزله فأطعمه طَعَاما فِيهِ ثوم فَخرج الرجل من عِنْده وَقَامَ بحذاء الْملك فَقَالَ أحسن إِلَى المحسن بإحسانه والمسيء ستكفيه مساويه فَقَالَ لَهُ الْملك أدن مني فَدَنَا مِنْهُ فَوضع يَده على فِيهِ مَخَافَة أَن يشم الْملك مِنْهُ رَائِحَة الثوم فَقَالَ الْملك فِي نَفسه مَا أرى فلَان إِلَّا وَقد صدق قَالَ وَكَانَ الْملك لَا يكْتب بِخَطِّهِ إِلَّا جَائِزَة أَو صلَة فَكتب لَهُ كتابا بِخَطِّهِ إِلَى عَامل من عماله إِذا أَتَاك حَامِل كتابي هَذَا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبنا وَابعث بِهِ إِلَيّ فَأخذ الْكتاب وَخرج فَلَقِيَهُ الرجل الَّذِي سعى بِهِ فَقَالَ مَا هَذَا الْكتاب قَالَ خطّ الْملك لي بصلَة فَقَالَ هبة لي فَقَالَ هُوَ لَك فَأَخذه وَمضى إِلَى الْعَامِل فَقَالَ الْعَامِل فِي كِتَابه أَن أذبحك وأسلخك قَالَ إِن الْكتاب لَيْسَ هُوَ لي الله الله فِي أَمْرِي حَتَّى أرجع إِلَى الْملك فَقَالَ لَيْسَ لكتاب الْملك مُرَاجعَة فذبحه وسلخه وحشا جلده تبنا وَبعث بِهِ ثمَّ عَاد الرجل إِلَى الْملك كعادته وَقَالَ مثل قَوْله فَعجب الْملك وَقَالَ مَا فعل الْكتاب فَقَالَ لَقِيَنِي فلَان فاستو هبني إِيَّاه فَوَهَبته فَقَالَ الْملك أَنه ذكر لي أَنَّك تزْعم أَنِّي أبخر قَالَ مَا قلته قطّ قَالَ فَلم وضعت يدك على فِيك لم أدنيتك وقربتك قَالَ كَانَ أَطْعمنِي طَعَاما فِيهِ

القاعدة التاسعة عشرة

ثوم فَكرِهت أَن تشمه قَالَ صدقت ارْجع إِلَى مَكَانك فقد كَفاك الْمُسِيء مساويه الْقَاعِدَة التَّاسِعَة عشرَة الصَّبْر وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الطرطوشي الصَّبْر زِمَام سَائِر الْخِصَال وزعيم الْغنم الظفر وملاك كل فَضِيلَة وَبِه ينَال كل خير ومكرمة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ هُوَ وصف كريم وحظ لمن وهب لَهُ عَظِيم وَقد كثر ذكره فِي الشَّرِيعَة قُرْآنًا وَسنة قلت قَالَ البلالي ذكره تَعَالَى فِي خمس وَتِسْعين موضعا من الْقُرْآن وَلكُل مَوضِع بهجة

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مَا يدل على فَضله وُجُوه هِيَ فَوَائده أَحدهمَا الثَّنَاء من الله تَعَالَى قَالَ عز وَجل {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب} قيل كَانَ حبيب ابْن أبي حبيب إِذا قَرَأَ هَذِه الْآيَة بَكَى ثمَّ يَقُول واعجباه أعْطى وَأثْنى الثَّانِي الْبشَارَة وَالصَّلَاة وَالرَّحْمَة قَالَ الله تَعَالَى {وَبشر الصابرين} إِلَى قَوْله (وَأُولَئِكَ هم المهتدون) الثَّالِث الدَّرَجَات العلى فِي الْجنَّة قَالَ الله تَعَالَى {أُولَئِكَ يجزون الغرفة بِمَا صَبَرُوا} الرَّابِع الْكَرَامَة الْعَظِيمَة قَالَ الله تَعَالَى سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنعم عَقبي الدَّار الْخَامِس تَوْفِيَة الثَّوَاب عَلَيْهِ بِغَيْر حِسَاب قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فَجعل أجره موازيا لأجر جَمِيع الْأَعْمَال لقَوْله تَعَالَى من عمل عملا صَالحا من ذكر وَأُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة يرْزقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب

السَّادِس استقصاء البصيرة بِهِ فَفِي الصَّحِيح عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطّهُور شطر الْإِيمَان وَالْحَمْد لله تملأ الْمِيزَان وسبحانه الله تمل كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَالصَّلَاة نور وَالصَّدَََقَة برهَان وَالصَّبْر ضِيَاء وَالْقُرْآن حجَّة لَك أَو عَلَيْك كل النَّاس يَغْدُو فبائع مَعَ نَفسه فمعتقها أَو موبقها السَّابِع أَنه خير الْعَطاء من الله تَعَالَى وأوسعه فَفِي الصَّحِيح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حَدِيث وَمن يتصبر يصبره الله وَمَا أعْطى أحد عَطاء خيرا وأوسع من الصَّبْر الثَّامِن اشتماله على نصف الْإِيمَان فَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ الصَّبْر نصف الْإِيمَان وَالْيَقِين الْإِيمَان كُله رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ مَوْقُوفا قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَقد رَفعه بَعضهم التَّاسِع اخْتِصَاص الْمُؤمن بخيره فَفِي الصَّحِيح عَن صُهَيْب رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عجبا لأمر الْمُؤمن إِن أمره

كُله لَهُ خير وَلَيْسَ ذَلِك لأحد إِلَّا الْمُؤمن إِن أَصَابَته سراء شكر فَكَانَ خيرا لَهُ وَإِن أَصَابَته ضراء صَبر فَكَانَ خيرا لَهُ الْعَاشِر التقوية عَلَيْهِ لهَذِهِ الْأمة بواردات الْإِمْدَاد من الله تَعَالَى فَعَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت أَبَا الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله أنزل فِي زبر عِيسَى إِنِّي باعث من بعْدك أمة إِن أَصَابَهُم مَا يحبونَ حمدوا الله وَإِن أَصَابَهُم مَا يكْرهُونَ احتسبوا وصبروا وَلَا علم وَلَا حلم فَقَالَ يَا رب يكون هَذَا فَقَالَ أعطيهم من حلمي وَعلمِي رَوَاهُ الْحَاكِم الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من كَمَال فَضله مَاله من فَوَائِد مُعجلَة الْفَائِدَة الأولى الْفَوْز بالنجاة قَالَ الله تَعَالَى {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ مَعْنَاهُ من يتق الله بِالصبرِ يَجْعَل لَهُ مخرجا من الشدائد الْفَائِدَة الثَّانِيَة التأييد على الْأَعْدَاء قَالَ تَعَالَى {فاصبر إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين} قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ يَعْنِي الَّذين اشتغلوا بِاللَّه وصبروا على بلَاء الله وَرَضوا بِقَضَاء الله وَلم يُؤثر فيهم الْخُرُوج عَن الوطن وَلَا تعذر الزَّمن

الْفَائِدَة الثَّالِثَة الظفر بالمراد قَالَ الله تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا} قيل كتب يُوسُف فِي جَوَاب يَعْقُوب عَلَيْهِمَا السَّلَام أَن آباءك صَبَرُوا فظفروا فاصبر كَمَا صَبَرُوا تظفر كَمَا ظفروا وَقيل فِي معنى ذَلِك (لَا تيأسن وَإِن طَالَتْ مطالبه ... إِذا استعنت بصبر أَن ترى فرجا) (أخلق بِذِي الصَّبْر أَن يحظى بحاجته ... وَمد من القرع للأبواب أَن يلجا) الْفَائِدَة الرَّابِعَة إِمَامَة النَّاس والتقديم عَلَيْهِم قَالَ الله تَعَالَى {وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لما أخذُوا بِرَأْس الْأَمر جعلهم الله رُؤَسَاء الْفَائِدَة الْخَامِسَة ضَمَان النُّصْرَة بِهِ فَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كنت خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا غُلَام إِنِّي أعلمك كَلِمَات احفظ الله يحفظك احفظ الله تَجدهُ أمامك إِذا سَأَلت فاسأل الله وَإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه واعم أَن الْأمة لَو اجْتمعت على أَن ينفعوك بِشَيْء لم ينفعوك إِلَّا بِشَيْء قد كتبه الله لَك وَإِن اجْتَمعُوا على أَن يضروك بِشَيْء لم يضروك إِلَّا بِشَيْء قد كتبه الله عَلَيْك رفعت الأقلام وجفت الصُّحُف رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ النَّوَوِيّ وَفِي رِوَايَة غَيره احفظ الله تَجدهُ أمامك تعرف إِلَيْهِ فِي الرخَاء يعرفك فِي الشدَّة وَاعْلَم أَن مَا أخطأك لم يكن ليصيبك وَمَا أَصَابَك لم يكن ليخطئك وَفِي آخِره وَاعْلَم أَن النَّصْر مَعَ الصَّبْر وَأَن الْفرج مَعَ الكرب وَأَن مَعَ الْعسر يسرا

قَالَ وَهَذَا حَدِيث عَظِيم الْموقع الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة يتَأَكَّد على السُّلْطَان التخلق بِهَذَا الْوَصْف الْعَظِيم لمصَالح الْمصلحَة الأولى حُصُول ثَمَرَات القوى الْمعبر عَنْهَا بِهِ قَالَ ابْن المظفر هُوَ عبارَة عَن ثَلَاث قوى قُوَّة الْحلم وثمرتها الْعَفو وقوى الكلاءة وَالْحِفْظ وثمرتها عمَارَة المملكة وقوى الشجَاعَة وثمرتها فِي الْمُلُوك الثَّبَات وَفِي حماتهم الْإِقْدَام فِي المعارك الْمصلحَة الثَّانِيَة إبقاؤه بِهِ على نَفسه عِنْد فَوَات مقصدها فيرغم أعداءه قَالَ أرسطو يَا اسكندر لَا تجزع على مَا فاتك فَإِن ذَلِك من خَواص النِّسَاء والضعفاء وَأظْهر الْأَدَب والمروءة فَإِنَّهُ ينمي مَالك ويذل أعداءك الْمصلحَة الثَّالِثَة احْتِمَال تَعب التَّدْبِير بِهِ قَالُوا لَيْسَ فِي الأَرْض عمل آكِد من سياسة عَامَّة وَعنهُ قَالُوا سيد الْقَوْم أشقاهم وَطلب الْمُلُوك الرَّاحَة فحصلوا على التَّعَب وَفِي محَاسِن البلاغة ثَلَاثَة لَا غناء للْملك عَنْهَا رحب الذِّرَاع وَحسن التثبت وَالصَّبْر على معاناة الْأُمُور الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة الصَّبْر نَوْعَانِ بدني وَهُوَ تحمل المشاق

قَالَ البلالي وَرُبمَا ذمّ لتتحمل قَادِح فِي الدّين من وجع تعلق زَوَاله بالإختيار ونفساني وَهُوَ الصَّبْر عَن مشتهى الطَّبْع واقتضاء الْهوى فَإِن كَانَ عَن شَهْوَة الْبَطن والفرج فعفة أَو الْقِتَال فشجاعة أَو كظم غيظ فحلم أَو فِي إحتمال نَائِبه فسعة صدر أَو فِي إخفاء أخر فكتمان سر أَو فضول عَيْش فزهد أَو قدر يسير فقناعة أَو عَن مَعْصِيّة فَصَبر قَالَ البلالي لَا مدْخل فِيهِ للمحاسن الْمَسْأَلَة السَّادِسَة يَنْقَسِم بِاعْتِبَار آخر إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام صَبر على إمتثال مَا أَمر بِهِ وَاجْتنَاب مَا نهى عَنهُ وصبر على مَا فَاتَ إِدْرَاكه من مَسَرَّة أَو انْقَضتْ أوقاته وَاجْتنَاب مَا نهى عَنهُ مُصِيبَة فِيمَا ينْتَظر من مرجو مَرْغُوب فِيهِ أَو يتَوَقَّع من مَحْذُور مهروب عَنهُ وصبر على مَا هُوَ وَاقع فِي الْحَال لما وَهُوَ مَكْرُوه قَالَ الطرطوشي وَجَمِيع ذَلِك مَحْمُود فِي مِلَّة وَعند كل أمة مُؤمنَة أَو فاجرة الْمَسْأَلَة السَّابِعَة وَهُوَ من جِهَة أُخْرَى أَيْضا أَرْبَعَة صَبر على الطَّاعَة ليحصل ثَوَابهَا الْمُرَتّب على سلامتها من القوادح وَعَن الْمعْصِيَة ليسلم من شؤمها عَاجلا وآجلا وصبر عَن فضول الدُّنْيَا ليتخلص من الشّغل بهَا فِي الْحَال والسمعة فِي المَال وصبر على المحن والمصائب ليبقى ثَوَابهَا موفورا قَالَ الْغَزالِيّ فَيحصل بِالصبرِ الطَّاعَة وَالتَّقوى والزهد وَالثَّوَاب وتفصيل ذَلِك أَمر لَا يُعلمهُ أحد إِلَّا الله تَعَالَى

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة قَالَ ابْن قيم الجوزية الْفرق بَين الصَّبْر وَالْقَسْوَة أَن الصَّبْر خلق كسبي وَهُوَ حبس النَّفس عَن التسخط وَاللِّسَان عَن التشكي والجوارح عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَالْقَسْوَة غلظة فِي الْقلب تَمنعهُ من التَّأْثِير بالنوازل الغلطة وقساوته لَا لِصَبْرِهِ واحتماله الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من الْكَلِمَات الْحكمِيَّة فِي هَذَا الْوَصْف الصَّبْر مَطِيَّة لَا تكبو والقناعة سيف لَا ينبو الصَّبْر كَفِيل بالنجاح الصَّبْر حصن منيع الْمَكَان مشيد الْبُنيان الصَّبْر جنَّة واقية وَعزة بَاقِيَة الصَّبْر بَاب الْعِزّ والجزع بَاب الذل السعيد من قمع بِالصبرِ شَهْوَته ودبر بالحزم أمره بمفتاح عَزِيمَة الصَّبْر يعالج مغاليق الْأُمُور أفضل الْعدة الصَّبْر عِنْد الشدَّة من صَبر نَالَ المنى وَمن شكر حصن النعماء وَقد قيل (الصَّبْر مِفْتَاح كل خير ... وكل صَعب بِهِ يهون) (فاصبر وَإِن طَالَتْ اللَّيَالِي ... فَرُبمَا ساعد الحزون) (وَرُبمَا نيل باصطبار ... مَا قيل هَيْهَات لَا يكون)

القاعدة العشرون

الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من أَخْبَار الآخذين بِالصبرِ عِنْد نزُول الشدائد مَا يحْكى أَن أنو شرْوَان غضب على وزيره بزرجمهر فحبسه فِي بَيت كالقبر وصفده بالحديد وَألبسهُ الخشن من الصُّوف وَأمر أَلا يزْدَاد فِي كل يَوْم على قرصين من الْخبز وكف من ملح جرش وَشَيْء من مَاء وَأَن تنقل إِلَيْهِ أَلْفَاظه فَأَقَامَ شهرا لَا تسمع لَهُ لَفْظَة فَقَالَ أنو شرْوَان أدخلُوا إِلَيْهِ أَصْحَابه ومروهم أَن يسألوه ويفاتحوه الْكَلَام وعرفوني بِهِ فَدخل إِلَيْهِ جمَاعَة من المختصين بِهِ فَقَالُوا لَهُ أَيهَا الْحَكِيم نرَاك فِي هَذَا الضّيق وَالْحَدِيد والشدة الَّتِي رفعت إِلَيْهَا وَمَعَ هَذَا فَإِن سحنة وَجهك وَصِحَّة جسمك على حَالهمَا لم تَتَغَيَّر فَمَا السَّبَب فِي ذَلِك فَقَالَ أَنِّي عملت جوارشات من سِتَّة أخلاط يَأْخُذ مِنْهُ كل يَوْم شَيْئا فَهُوَ الَّذِي أبقى على مَا ترَوْنَ فَقَالُوا صفه لنا فَعَسَى أَن نبتلى بِمثل بلواك أَو أحد من إِخْوَاننَا فنستعمله أَو نصفه لَهُ فَقَالَ الْخَلْط الأول الثِّقَة بِاللَّه عز وَجل الثَّانِي علمي بِأَن كل مَقْدُور كَائِن الثَّالِث الصَّبْر خير مَا اسْتَعْملهُ الممتحن المتعن الرَّابِع أَن لم نصبر أَي شَيْء نعمل وَمَا أغْنى عَن نَفسِي بالجزع الْخَامِس قد يُمكن أَن يكون فِي بشر شَرّ مِمَّا أَنا فِيهِ السَّادِس من سَاعَة إِلَى سَاعَة فرج الْقَاعِدَة الْعشْرُونَ الشُّكْر وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى يتَأَكَّد الْأَمر بِهَذَا الْوَصْف الْعَظِيم لفائدتين الْفَائِدَة الأولى أَن دوَام النِّعْمَة إِنَّمَا هُوَ بالترديد لَهُ وَمَا لم تقيد بعقاله فَهِيَ للزوال لقَوْله الله تَعَالَى أَن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى

قلت وَلَا يدْفع ذَلِك إِلَّا من تَحْصِيل أَمريْن أَحدهمَا أَن تصريف النِّعْمَة فِي الطَّاعَة متوقفة على معرفَة مَا هِيَ الطَّاعَة وَمَتى فَاتَ ذَلِك لم يُمكن الْقيام بِحَق الشُّكْر الثَّانِي أَن الكفران بتصريف النِّعْمَة فِي الْمعْصِيَة إِمَّا بترك الإستعمال جملَة أَو تعلقهَا بهَا مُخَالفَة فالنقدان مثلا إِن نفقا فِي طَاعَة وَاجِبَة أَو مَنْدُوبَة فشكران وَإِن كنزا تعطيلا لحكمة الإنتفاع بهما فكفران والمعاملة بهما بالربا وانفاقهما فِي سرف أَو مَحْظُور أَو صوغهما آنِية أَسْوَأ فِي الكفران من مُجَرّد اكتنازها فَقَط الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة مُتَعَلق الشُّكْر من النعم ضَرْبَان أَحدهمَا مَا هُوَ نعْمَة بِنَفسِهِ حَسْبَمَا يرد تقسيمه إِن شَاءَ الله وَالشُّكْر عَلَيْهِمَا لَا أشكال فِيهِ الثَّانِي مَا يتَضَمَّن النِّعْمَة كالشدائد والمصائب فقد قَالَ عمر بن الْخطاب مَا ابْتليت ببلية إِلَّا كَانَ الله على فِيهَا أَربع نعم إِذْ لم تكن فِي ديني وَإِذ لم تكن أعظم وَإِذ لم أحرم الرضى بهَا وَإِذ رَجَوْت الثَّوَاب عَلَيْهَا قَالَ الْغَزالِيّ وَمِنْهَا أَنَّهَا زائلة وَأَنَّهَا من الله تَعَالَى وَأَن كَانَت بِسَبَب مَخْلُوق فَإِنَّهُ لَك عَلَيْهِ لَا لَهُ عَلَيْك قلت وَإِنَّهَا تخفف الذُّنُوب أَو تحطمها قَالُوا فالشكر إِنَّمَا هُوَ على النعم المقترنة بالشدة لَا على مجردها من حَيْثُ هِيَ وَالصَّبْر هُوَ الْوَاجِب فِيهَا من تِلْكَ الْجِهَة الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الْغَزالِيّ النعم قِسْمَانِ دنيوية ودينية فَالْأولى ضَرْبَان نعْمَة نفع ونعمة دفع فنعمة النَّفْع الْخلقَة السوية والملاذ الشهية ونعمة الدّفع سَلامَة النَّفس من آفاتها الذاتية ووقايتها من المؤذيات الخارجية وَالثَّانيَِة ضَرْبَان نعْمَة توفيق ونعمة عصمَة فنعمة التَّوْفِيق لِلْإِسْلَامِ

أَولا ثمَّ للسّنة ثمَّ للطاعة ونعمة العصوية عَن الْكفْر أَولا ثمَّ عَن الْبِدْعَة ثمَّ عَن سَائِر الْمعاصِي قَالَ وتفصيل ذَلِك لَا يحيه إِلَّا النعم بِهِ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ {وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها} الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة مَرَاتِب الشُّكْر بِحَسب مُتَعَلقَة من الْإِنْسَان ثَلَاثَة الْقلب وَاللِّسَان وَسَائِر الْجَوَارِح قَالَ (أفادتكم النعماء فِي ثَلَاثَة ... يَدي ولساني وَالضَّمِير المحجبا) فَالْأولى باعتقاد أَن لَا نعْمَة إِلَّا وبدايتها من الله تَعَالَى لقَوْله عز وَجل {وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله} أَي أيقنوا أَنَّهَا من الله وَمحل ذَلِك إِنَّمَا هُوَ الْقلب وَالثَّانيَِة بترديد الثَّنَاء على الله تَعَالَى والإكثار من حَمده ويندرج فِيهِ التحدث بِنِعْمَة لقَوْله تَعَالَى {وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث} وَالثنَاء على الوسائط لحَدِيث من لم يشْكر الْقَلِيل لم يشْكر الْكثير وَمن لم يشْكر النَّاس لم يشْكر الله قلت وَمن الْمُبَالغَة فِي ذَلِك ترديده على مُجَرّد الْهم بِالْمَعْرُوفِ وَأَن حَال الْقدر السَّابِق دونه قَالَ (لأشكرنك مَعْرُوفا هَمَمْت بِهِ ... إِن اهتمامك بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوف) (وَلَا ألومك أَن لم يمضه قدر ... فَالْأَمْر بِالْقدرِ المحتوم مَصْرُوف)

وَالثَّالِثَة بِعَمَل الصَّالِحَات كلهَا بِحَسب الْأَمَاكِن لقَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا} وَفِي الحَدِيث قَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تقطرت قدماه فَقيل لَهُ فِي ذَلِك قَالَ أَفلا أكون عبدا شكُورًا تَفْصِيل قيل لأبي حَازِم مَا شكر الْعَينَيْنِ قَالَ إِذا رَأَيْت بهما خيرا أعلنته وَإِذا رَأَيْت بِهِ شرا سترته قيل فَمَا شكر الْأُذُنَيْنِ قَالَ إِذا سَمِعت بهما خيرا وعيته وَإِذا سَمِعت بهما شرا دَفَنته قيل فَمَا شكر الْيَدَيْنِ قَالَ لَا تَأْخُذ بهما مَا لَيْسَ لَك وَلَا تمنع حَقًا هُوَ لله قيل فَمَا شكر الْبَطن قَالَ أَن يكون أَسْفَله صبرا وَأَعلاهُ علما قيل فَمَا شكر الْفرج قَالَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين} قيل فَمَا شكر الرجلَيْن قَالَ إِن رَأَيْت شَيْئا غبطته استعملتهما عمله وَإِن رَأَيْت شرا كففتهما عَن عمله تَمْثِيل قيل وَأما من شكر بِلِسَانِهِ وَلم يشْكر بِجَمِيعِ جوارحه فَمثله كَمثل من لَهُ كسَاء فَأخذ بطرفه وَلم يلْبسهُ فَلم يَنْفَعهُ ذَلِك من الْحر وَالْبرد والثلج والمطر قَالَ ابْن عباد وَأجْمع الْعبارَات للشكر أَنه معرفَة بالجنان وَذكر بِاللِّسَانِ وَعمل بالأركان الْمَسْأَلَة السَّادِسَة إِذا كَانَ الْعَمَل بِالطَّاعَةِ شكرا فقصد مَا هُوَ من جنس النِّعْمَة أَدخل فِي شكرها وأنيب لمقابلتها كمواساة الْغَنِيّ بمعروفه وشفاعة الْوَجِيه عِنْد السُّلْطَان وَرفع الْغدر لِذَوي الخمول من غير مَعْصِيّة قلت

ينظر إِلَى هَذَا الْمَعْنى مَا يُقَال أَن وظائف التائب إِبْدَال سالف السَّيئَة بِمَا يقابلها من الطَّاعَات كنفق مَا فِي مَعْصِيّة يُنْفِقهُ عِنْد التَّوْبَة فِي طَاعَة وَأكل حرَام بجوع نَفسه بِكَثْرَة الصّيام وناظر إِلَى مَالا يحل يكثر من النّظر فِي الْمُصحف وماش إِلَى مَالا يجوز يردد الْمَشْي إِلَى الْمَسَاجِد وَقَاتل النَّفس يديم الْجِهَاد ليقْتل نفسا كَافِرَة أَو يستشهد وحاضر مجتمعات اللَّهْو والسفاهة يحضر ليقْتل مجَالِس الذّكر لِأَنَّهَا مَوَاطِن الرَّحْمَة قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سعيد وَمن خطه نقلت وَذَلِكَ ليدْخل فِي قَوْله تَعَالَى إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فألئك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات فقد فسر بِهَذَا الْمَعْنى الْمَسْأَلَة السَّابِعَة قَالَ ابْن قيم الجوزية الْفرق بَين التحدث بنعم الله وَالْفَخْر بهَا أَن المتحدث بِالنعْمَةِ مخبر عَن صِفَات موهبها ومحض جوده وإحسانه ثَنَاء عَلَيْهِ وشكرا وَدُعَاء إِلَيْهِ بنشر نعْمَة حَتَّى لَا يُرْجَى سواهُ وَالْفَخْر بهَا استطالة على النَّاس واستعباد لقُلُوبِهِمْ بالتعظيم لأَجلهَا إنتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة من الْكَلِمَات فِي هَذَا الْوَصْف الشُّكْر قيد ومفتاح الْمَزِيد وَثمن الْجنَّة من شكر قَلِيلا اسْتحق جزيلا موقع الشُّكْر من النِّعْمَة مَوضِع القوى من الضَّعِيف إِن وجده لم يرم وَإِن فَقده لم يقم

النوع الأول

الشُّكْر غرس إِذا أودع سمع الْكَرِيم أثمر الزِّيَارَة وَحفظ الْعَادة من لم يشْكر النعام فأعدده من الْأَنْعَام النِّعْمَة عروس مهرهَا الشُّكْر وثوب صوانه النشر شكر لألاء بِحسن الثَّنَاء وشكر الْوَفَاء بِصدق الْوَلَاء وشكر النظير بِحسن الْجَزَاء وشكر من دُونك بِسَبَب الْعَطاء تَكْمِلَة هَذِه الْأَوْصَاف الْعشْرُونَ مَعَ مَا ضم إِلَيْهَا من مُقَابل بَعْضهَا هم من جملَة مَا أَمر بِهِ أَو نهي عَنهُ تخليا عَن مذمومه وَبَقِي من ذَلِك كثير نشِير إِلَيْهِ مَعَ مَا تقدم مُرَتبا على أَنْوَاع مُتَعَلق الْخطاب بِهِ من الْقُلُوب والجوارح والحواس ثمَّ بِحَسب سرده من غير نظر إِلَى ذَلِك التَّرْتِيب لتعم الْفَائِدَة بِهِ عُمُوما وخصوصا والضروري مِنْهُ فِي الْموضع قد تقدم بَيَانه النَّوْع الأول الْقلب وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي الْمَطْلُوب بِهِ من ذَلِك تحليا من ذَلِك وامتثالا وَهُوَ جملَة الْعقل الْعلم الشجَاعَة الْعِفَّة الْحلم كظم الغيظ الْعَفو الرِّفْق الْوَفَاء بالوعد والعهد السخاء والجود الحزم والدهاء التغافل المداراة التَّوَاضُع الصَّبْر الشُّكْر التَّقْوَى التَّوْبَة التَّوَكُّل الْخَوْف الرَّجَاء الْمحبَّة الْحِكْمَة الخشية المراقبة المحاسبة التفكر الزّهْد الْحُرِّيَّة الإتباع التثبت فِي الْأُمُور الْفقر إِلَى الله الْغيرَة التبتل الْخُشُوع الرضى التَّفْوِيض الخضوع الْحيَاء الْإِنَابَة التورع الإستقامة حسن الْخلق القناعة الإعتصام بِاللَّه الإتعاظ المسارعة إِلَى

الْخيرَات الرِّعَايَة الْكيس الْإِحْسَان محاربة الشَّيْطَان الْيَقِين صلَة الرَّحِم بر الْوَالِدين الْهِدَايَة بِالسنةِ الْحَسَنَة قصر الأمل النَّصِيحَة حسن الظَّن بِاللَّه الْحزن على مَا فَاتَ من الطَّاعَة الْفَرح بِفضل الله وبرحمته محبَّة الطَّاعَة وَالْإِيمَان كَرَاهَة الْكفْر والفسوق والعصيان الْحبّ فِي الله البغض فِي الله التيقظ الشوق إِلَى لِقَاء الله تَعَالَى الْحبّ للْمُؤْمِنين مثل مَا يحب لنَفسِهِ وَأَن يكره لَهُم مَا يكره لنَفسِهِ مجاهدة النَّفس ذكر الْمَوْت وَمَا بعده السرُور بِطَاعَة الله الاغتنام بِمَعْصِيَة الله تَفْرِيغ الْقلب عَن كل مَا سوى الله الصدْق الْإِخْلَاص النِّيَّة الصَّالِحَة الرأفة الرَّحْمَة الشَّفَقَة الْإِيمَان الْمعرفَة بِمَا أَمر بِهِ أَو نهى عَنهُ الْعدْل الْأَخْذ بِالْعَفو من الْأَخْلَاق الْإِعْرَاض عَن الْجَاهِل الدّفع بِالَّتِي هِيَ أحسن الإنقطاع إِلَى الله الإستجابة لله الصفح خفض الْجنَاح للْمُؤْمِنين الْإِعْرَاض عَن اللَّغْو ابْتِغَاء الْآخِرَة التَّزْكِيَة اتِّبَاع الْأَحْسَن الإشفاق هجر الْجَاهِلين تَعْظِيم الله تَعَالَى الرهبة الرَّغْبَة الرُّجُوع إِلَى الله وَرَسُوله عِنْد التَّنَازُع الأخبات التَّسْلِيم لأمر الله تَعَالَى الإيثار الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي الْمَطْلُوب بِهِ من ذَلِك تخليا واجتنابا وَهُوَ جملَة الْبُخْل التبذير الْجُبْن الْكبر الْعجب الْغَضَب الحقد الْحَسَد اتِّبَاع الْهوى حب الدُّنْيَا حب الشَّهَوَات حب الجاه المضر حب المَال الْحِرْص حب الْمَدْح كَرَاهَة الذَّم كَرَاهَة النَّصِيحَة الْكفْر الشّرك بِهِ حب المَال الطمع الْغرُور الْغَفْلَة كفر النِّعْمَة اتِّبَاع الظنون اتِّبَاع خطوَات الشَّيْطَان النِّفَاق الرِّيَاء الحمية لغير الله مُفَارقَة الْجَمَاعَة الْفَرح بالدنيا الركون إِلَيْهَا الْهَلَع الْجزع حب الظُّلم قبُول السّعَايَة الْإِعْرَاض عَن الذّكر طَاعَة من اتبع هَوَاهُ التَّكَلُّف اللَّغْو التقطع الْإِصْرَار على الْمعْصِيَة الْأَمْن من مكر الله الْيَأْس من روح الله الْقنُوط من رَحْمَة الله الذّبْح لغير الله التَّكْذِيب بِالْقدرِ الإبتداع إتباع الْمُتَشَابه الغلظة الفظاظة نِسْيَان الذَّنب إتخاذ الْكَافِر وليا سوء الْخلق قطع الرَّحِم عقوق الْوَالِدين الصد عَن سَبِيل الله احتقار الْمُسلم الْقَسْوَة اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ الْحِيَل فِي الدّين الْبِدَايَة بِالسنةِ السَّيئَة خوف الْفقر الْجفَاء الشماتة

النوع الثاني

بِالْمُسلمِ حب الْقيام إِلَيْهِ السخط الطيش إرضاء النَّاس بسخط الله الْإِصْرَار على المحقرات الْغَفْلَة عَن الْعَيْب تَفْضِيل الْغنى الإهتمام بالدنيا حب الْعُلُوّ التطير حب الأشرار التنافس الْإِنْس بِغَيْر الله طول الأمل الْعِبَادَة على حرف المداهنة الْجور إتباع السَّبِيل الضَّالة السَّرف الإقتار الْإِثْم الرِّضَا بالدنيا من الْآخِرَة التَّفَرُّق فِي الْأَهْوَاء شيعًا الْبَغي اتِّبَاع الْهوى من غير نظر الطغيان الْغدر نقض الْعَهْد الاشراك فِي الْعِبَادَة اتِّبَاع الشَّهَوَات الإجرام الْعدوان اللَّهْو الإستهزاء بآيَات الله العجلة تَزْكِيَة النَّفس الشُّح السَّهْو عَن الصَّلَاة منع الْمرَافِق اشْتِرَاء الثّمن الْقَلِيل بآيَات الله لبس الْحق بِالْبَاطِلِ الْإِلْقَاء بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَة الْحَمد بِمَا لم يفعل الترفع عَن الحكم الله الرضى بِحكم الطاغوت الوهن للأعداء مشاقة الله وَرَسُوله التعاون على الْإِثْم والعدوان إِضْمَار غش الرّعية الْمَكْر قلَّة الرَّحْمَة لله الجبرية على الْخلق الْخُرُوج عَن الطَّاعَة صُحْبَة الْجَاهِل إِعَانَة الْمُبْطل عدم قبُول الْغدر كَرَاهَة الْمَوْت ترك الْعدْل بَين الزَّوْجَيْنِ الإتكال على غير الله التسويف بِالتَّوْبَةِ النَّوْع الثَّانِي اللِّسَان وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى فِي الْمَطْلُوب بِهِ ذَلِك تحليا وامتثالا وَهُوَ جملَة الصدْق الصمت الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وانهي عَن الْمُنكر طيب الْكَلَام زجر المضلين الإغلاظ فِي الله الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه عِنْد نَزغ الشَّيْطَان الْقيام بِكَلِمَة الله الْقيام بِالشَّهَادَةِ الْإِصْلَاح بَين النَّاس تَعْلِيم الْجَاهِل التَّذْكِير إرشاد الضال التحدث بِالنعَم الذّكر تِلَاوَة الْقُرْآن الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّعَاء قَول الْمَعْرُوف الإستغفار الدُّعَاء للْأَخ بِظهْر الْغَيْب الدُّعَاء إِلَى سَبِيل رب الْعَالمين الآذان وَالْإِقَامَة القنوات التَّسْمِيَة عِنْد الطَّعَام إفشاء السَّلَام رد السَّلَام الدُّعَاء للْمَرِيض الدُّعَاء للْمُؤْمِنين إِجَابَة الْمُؤَذّن والمقيم الشَّفَاعَة بأديب الْأَوْلَاد سُؤال الْعَافِيَة التَّلَفُّظ

بكلمتي الشَّهَادَة الحكم بِالْقِسْطِ تَصْدِيق من يجب تَصْدِيقه أَمر الْأَئِمَّة بِمَا يأمرون بِهِ الْأمة تَعْلِيم الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة حمد الله أَقْوَال الصَّلَاة أَقْوَال الْحَج التبشير التهنئة المشورة تبين الْكَلَام للخاطب قَول من دعى إِلَى الْحَاكِم أَو الْمُفْتِي سمعا وَطَاعَة وَنَحْو ذَلِك الدّلَالَة على الْخَيْر الإقتصاد فِي الموعظة وَالْعلم اعتذار من أهديت إِلَيْهِ هَدِيَّة فَردهَا لموجب شَرْعِي الدُّعَاء لصَاحب الْمَعْرُوف التبري من أهل الْبدع والمعاصي مُخَاطبَة ذَوي الْفَصْل بكناهم الأستيذان فِي قِرَاءَة كتب الرسائل الإذكار الْمَشْرُوعَة فِي الْعِبَادَات والعادات الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي الْمَطْلُوب بِهِ من ذَلِك تخليا واجتنابا وَهُوَ جملَة الْكَذِب الغيبية النميمة الْيَمين الْغمُوس الْقَذْف الحكم بِغَيْر مَا أنزل الله شَهَادَة الزُّور الْبُهْتَان سبّ الْوَالِدين الْكَذِب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبّ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم الإنتساب إِلَى غير الْأَب تولى العَبْد غير موَالِيه الحيف فِي الْوَصِيَّة النِّيَاحَة التأله على الله فضيحة الْمُسلم الزِّيَادَة فِي كتاب الله التحدث بِمَا يظنّ أَنه كذب الهجو إفشاء السِّرّ الْوَعْد الْكَاذِب كَلَام ذِي الْوَجْهَيْنِ الدُّعَاء إِلَى الْبِدْعَة الْمَنّ تَنْفِيقِ السّلْعَة بِالْيَمِينِ الكاذبة جحد الْحق الْغناء الْمَحْظُور انتهار الْفَقِير اللَّعْن الْهَمْز اللمز الْفجْر الطعْن الْفُحْش السّعَايَة قَول هلك النَّاس قَول مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا فَهُوَ يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ أَن يُقَال لمُسلم يَا كَافِر قَول اللَّهُمَّ أسلبه الْإِيمَان قَول العَبْد رَبِّي سبّ الْحمى سبّ الدَّهْر سبّ الْمُسلم دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة الْحلف بِغَيْر أَسمَاء الله الْأَخْبَار بالمعصية إِفْسَاد الْمَرْأَة على زَوجهَا أَن يُقَال فِي المكوس حق السُّلْطَان الشَّفَاعَة فِي بَاطِل الْمَرْأَة الْجِدَال التقعير فِي الْكَلَام الْكَلَام فِيمَا لَا يَعْنِي الْإِكْثَار من الشّعْر انتهار الْوَالِدين الْخُصُومَة المزاح الْمَحْظُور السخرية لبس الْحق بِالْبَاطِلِ رمى البريء بالذنب سُؤال الْمَرْأَة الطَّلَاق من غير عذر كَثْرَة الْكَلَام البخس الْجَهْر بالسوء من القَوْل الْأَمر بالمنكر النَّهْي عَن الْمَعْرُوف التشدق بتكليف السجع قَول مَا شَاءَ الله وَمَا شِئْت

النوع الثالث

وَليقل مَا شَاءَ الله ثمَّ مَا شِئْت إِضَافَة الشَّرّ إِلَى الله تَعَالَى قَول عَبدِي وَأمتِي إِطْلَاق الْكَرم على الْعِنَب قَول شاه شاه أَي ملك الْمُلُوك سُؤال الْمَغْفِرَة للْكَافِرِ أَن يُقَال للْمُسلمِ يَا كلب وَنَحْوه تناجي اثْنَيْنِ مَعَهُمَا ثَالِث وَحده بِغَيْر إِذْنه وصف الْمَرْأَة حسن أُخْرَى لنَحْو زَوجهَا دون حَاجَة شَرْعِيَّة سُؤال الرجل فيمَ ضرب امْرَأَته تذكير من غضب بِاللَّه وَرَسُوله السُّؤَال بِوَجْه الله غير الْجنَّة التحدث بِكُل مَا سمع سُؤال الْعَاميّ عَن الْعُلُوم الغامضة التحدث مَعَ النَّاس بِمَا لَا يفهمون نقل الحَدِيث إِلَى وُلَاة الْأُمُور سبّ الرب سبّ الدّين كَثْرَة الْحلف فِي البيع وَنَحْوه وَإِن كَانَ صَادِقا الحَدِيث بعد الصَّلَاة الْعشَاء الْآخِرَة إِلَّا لمسوغ شَرْعِي تَسْمِيَة الْعشَاء الْآخِرَة الْعَتَمَة وَالْمغْرب الْعشَاء الْقِرَاءَة بالألحان التنبز بِالْأَلْقَابِ الْخَوْض فِيمَا شجر بَين السّلف الصَّالح استطالة الرجل فِي عرض أَخِيه تَحْرِيف الْكَلم عَن موَاضعه جحد الْوَدِيعَة كتم الْعلم الْكَلَام على الخلا الدُّعَاء على النَّفس وَالْولد كتم الْأَمر مَسْأَلَة النَّاس إفشاء السِّرّ بَين الزَّوْجَيْنِ النَّوْع الثَّالِث الأذنان وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي الْمَطْلُوب بِهِ من ذَلِك مِمَّا عَلَيْهِ استماعه وَهُوَ جملَة أُمُور قِرَاءَة الْقُرْآن الْخطب الموعظة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الآذان الشَّفَاعَة الشُّكْر النَّصِيحَة الْوَصِيَّة التَّعْلِيم الدَّعَاوَى الْبَينَات الأقارير الشَّهَادَات إنْشَاء التَّصَرُّفَات الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي المنهى عَنهُ من ذَلِك فَمَا عَلَيْهِ ترك استماعه وَهُوَ أَيْضا جملَة أَشْيَاء كلمة الْكفْر الهجاء الْقَذْف حَدِيث قوم وَهُوَ لَهُ كَارِهُون الملاهي الممنوعة الْغناء الْمَحْظُور كَلَام الْمَرْأَة المتلذذ بهَا وَكَذَلِكَ

النوع الرابع

الْأَمر الَّذِي يخْشَى فِيهِ ذَلِك الْكَذِب الْغَيْبَة النميمة السّعَايَة الْأَمر بالمنكر النَّهْي عَن الْمَعْرُوف اللَّغْو الْبِدْعَة الْقَصَص المذموم الْبَاطِل من القَوْل الْكَلَام فِي الْفِتْنَة حِكَايَة مَا شجر بَين السّلف النَّوْع الرَّابِع الْبَصَر وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي الْمَطْلُوب بِهِ من ذَلِك مِمَّا عَلَيْهِ النّظر إِلَيْهِ وَهُوَ جملَة مَا يعْتَبر بِهِ من ملكوت الأَرْض وَالسَّمَاء الحراسة فِي سَبِيل الله تَعَالَى حراسة الْأَجِير الْكَعْبَة الْمُصحف كتب الْعلم الْخطب مَا يجب النّظر إِلَيْهِ لإِثْبَات حق أَو إِسْقَاطه حكما أَو شَهَادَة النّظر لكتب الرسائل وَنَحْوه الْهلَال دَلَائِل الْقبْلَة عَلَامَات أَوْقَات الْعِبَادَات الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي الْمنْهِي عَنهُ من ذَلِك مِمَّا عَلَيْهِ ترك النّظر إِلَيْهِ وَهُوَ جملَة الْأَجْنَبِيَّة فِي الشَّهْوَة وَكَذَا الْأَمْرَد الْعَوْرَة زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا مَا يبصر مِنْهُ عِنْد الْجُلُوس على الطَّرِيق مَا يرى مِنْهُ عِنْد التطلع على مستتر النَّوْع الْخَامِس اليدان وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي مطلوبهما من ذَلِك فعلا وَهُوَ جملَة إِقَامَة الْحُدُود جِهَاد الْعَدو تَغْيِير الْمُنكر بهما إِذا أمكن إنقاذ الهلكى كتب مَا يجب كتبه قتل الوزغ الرّفْع فِي التَّكْبِير وَوَضعهمَا على الركب فِي الرُّكُوع مُبَاشرَة الأَرْض بهما فِي السُّجُود استلام الْحجر الْأسود التَّعْزِير بسطهما لكل مَا

النوع السادس

فِي مصلحَة الْبِدَايَة يغسل يمناهما فِي الطهارتين المصافحة الرّفْع فِي الدُّعَاء الْإِشَارَة بسبابة يمناهما فِي التَّشَهُّد الرَّمْي فِي سَبِيل الله تَقْدِيم يمناهما فِي مُبَاشرَة مَا هُوَ شرِيف المسالة الثَّانِيَة فِي مطلوبهما من ذَلِك تركا وَهُوَ جملَة الْقَتْل الْغلُول السّرقَة الْغَصْب غصب الأَرْض الْهَدِيَّة لِلْأُمَرَاءِ قَاتل نَفسه قتل وَلَده منع الزَّكَاة اسْتِعْمَال أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة الضَّرْب بالسياط ظلما التَّصْوِير منع وهات وأد الْبَنَات منع الْمرَافِق لطم الْوُجُوه شقّ الْجُيُوب الوشم وصل الشّعْر التنحص التفلج قطع الْأَعْضَاء الْحِرَابَة تَعْذِيب النَّاس ترويع الْمُسلم بِالسِّلَاحِ تَغْيِير منَازِل الأَرْض تعدِي ضرب الْمَمْلُوك النَّرْد الشطرنج الْقمَار الميسر النهبة نتف الشيب وسم الدَّوَابّ الْمثلَة بِالْحَيَوَانِ منع فضل المَاء بالغلاة لمس الأجنبيات كتب مَالا بجوز كتبه نقص الْمِكْيَال وَالْمِيزَان الصَّيْد فِي الْحرم الْإِشَارَة بهما إِلَى السَّلَام مدهما إِلَى كل بَاطِل الْمثلَة بِالْعَبدِ النَّوْع السَّادِس الرّجلَانِ وَفِيه مسائلتان الْمَسْأَلَة الأولى فِي مطلوبهما من ذَلِك فعلا وَهُوَ جملَة الْقيام فِي الصَّلَاة السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة الْخُرُوج إِلَى الصَّيْد الذّهاب لصَلَاة الْجَمَاعَة الْمَشْي إِلَى الْحَج وَالْعمْرَة زِيَارَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخُرُوج إِلَى الْجِهَاد والرباط الْهِجْرَة عِيَادَة الْمَرِيض تشيع الْجَنَائِز زِيَارَة الإخوان زِيَارَة الْقُبُور إِجَابَة الدعْوَة الرحلة فِي طلب علم تَقْدِيم بَينهمَا فِي السَّعْي لما هُوَ شرِيف الْمَشْي بهما إِلَى كل مَا هُوَ مَطْلُوب شرعا الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي مطلوبهما من ذَلِك تركا وَهُوَ جملَة الْفِرَار من الزَّحْف الأباق إسبال الزار كبرا ترك الْهِجْرَة ترك الْخُرُوج إِلَى الْجِهَاد الْوَاجِب رُجُوع المُهَاجر على عَقِبَيْهِ الْفِرَار من الطَّاعُون الدُّخُول على الظَّالِم

النوع السابع

الْمَشْي المبتدع تلقى الركْبَان الْمَشْي فِي الأَرْض مرحا التخطي يَوْم الْجُمُعَة إتْيَان الْكُهَّان السّفر الْمَمْنُوع ركُوب الْبَحْر عِنْد ارتجاجه التَّبَخْتُر فِي الْمَشْي خُرُوج الْمَرْأَة متعطرة كاسية الْخُرُوج من الْمَسْجِد بعد الآذان بِغَيْر عذر الْمَشْي إِلَى الجليس السوء إتْيَان الْمَسْجِد وَقد أكل ثوما دُخُول الْمَوَاضِع المحجورة بِغَيْر إِذن الْقيام للداخل فِي الْجُمُعَة تَأَخّر الرجل عَن الصَّفّ الأول الْجُلُوس على الْقَبْر دُخُول الْحمام بِغَيْر مئزر النَّوْع السَّابِع الْفرج وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي مَطْلُوبه من ذَلِك فعلا وَهُوَ جملَة الْعِفَّة السّتْر لَهُ الإستبراء الْخِتَان تعاهد الزَّوْجَة والسرية بالوطيء لنفعهما الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي مَطْلُوبه من ذَلِك تركا وَهُوَ جملَة الزِّنَا مزاناة حَلِيلَة الْجَار نِكَاح الْقَرَابَة الْقَرِيبَة كالأمهات وَالْأَخَوَات اللواط ترك التَّنَزُّه عَن الْبَوْل تكشفه الواطىء فِي الْحيض وَطْء الْبَهِيمَة الإستمناء الْمُسَاحَقَة وَطْء الرَّجْعِيَّة قبل شُرُوطه الْبَوْل فِي المغتسل الْبَوْل فِي الْمَسْجِد التخلي فِي الْموضع الْمنْهِي عَنهُ النَّوْع الثَّامِن الْبَطن وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي مَطْلُوبه من ذَلِك فعلا وَهُوَ جملَة أكل الْحَلَال أكل مَا يُقيم البنية أكل مَا يسْتَحبّ أكله شرب مَا يسْتَحبّ شربه الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي مَطْلُوبه من ذَلِك تركا وَهُوَ جملَة أكل الْحَرَام أكل الرِّبَا أكل مَال الْيَتِيم أكل المَال بِالْبَاطِلِ هَدَايَا الْأُمَرَاء شرب الْخمر شرب الدَّم شرب السم شرب كل مُسكر أكل الرِّشْوَة على الْعلم الْأكل

بِالْمُسلمِ والاكتساب بِهِ أكل الرِّشْوَة على الحكم بِالْبَاطِلِ أكل الحشيشة أكل الْخِنْزِير أكل مَا أهل بِهِ لغير الله أكل مَا يضر أكل مَا حرم شرعا أكل الْمُتَشَابه جَامع تَحْصِيل لما يطلع على كثير من الْأَوَامِر والنواهي لَا بِاعْتِبَار هَذَا التَّرْتِيب وَأَن رَجَعَ فِي الْمَعْنى أليه وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي الْأَوَامِر وَهِي جملَة الطَّهَارَة الصَّلَاة الصّيام الْحَج الزَّكَاة إطْعَام الطَّعَام سقِِي المَاء طلب الْحَلَال طلب الْعلم الصُّحْبَة فِي الله الْعُزْلَة عمل الصَّالِحَات السماحة فِي البيع النِّكَاح الْعدْل بَين الزَّوْجَات الضِّيَافَة طلاقة الْوَجْه حفظ الْأَمَانَة شكر الْمَعْرُوف مواساة ذَوي الْقُرْبَى وإقالة النادم الْوَرع الاقتصاد فِي الْإِنْفَاق قيام اللَّيْل الْإِقْرَاض إرضاء صَاحب الدّين قَضَاء الْحَوَائِج إِدْخَال السرُور على الْمُؤمنِينَ الْبكاء بِنَاء الْمَسَاجِد الاقتصاد فِي طلب الرزق الْعتْق الْكِتَابَة الصَّدَقَة الْهِبَة الْإِعَارَة كَفَالَة الْيَتِيم السِّوَاك الاستمداد نتف الْإِبِط النَّظَافَة الاقتصاد فِي اللبَاس الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي النواهي وَهِي جملَة ترك الصَّلَاة بِلَا عذر إخْرَاجهَا عَن وَقتهَا اخْتِيَارا ترك الْحَج مَعَ الْقُدْرَة الدياثة على الْأَهْل القيادة على الْأَجْنَبِيَّة الْفطر فِي رَمَضَان بِلَا عذر السحر الكهانة التنجيم ترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لقادر كَثْرَة الضحك بِلَا سَبَب الضحك لخُرُوج الرّيح الهجر فَوق ثَلَاث بِلَا عذر إِمَامَة منكره لعيب الْعَبَث فِي الصَّلَاة التغوط بالفضاء مُسْتَقْبل الْقبْلَة ومستدبرها تنجيس مُحْتَرم بِلَا عذر قبْلَة الصَّائِم للشهوة وصال الصَّائِم الْخلْوَة بالأجنبية تمنع الْمَرْأَة عَن زَوجهَا بِلَا سَبَب البيع على بيع أَخِيه والسوم وَالْخطْبَة مَا لم يَأْذَن فِيهِ بيع حاصر لباد الاحتكار كشف الْعَوْرَة بخلوة بِلَا حَاجَة الْغِشّ الخديعة الخلابة

بيع الْمُسلم الْمُصحف أَو كتاب علم شَرْعِي لكَافِر سوء الْعشْرَة مَعَ الزَّوْجَة والصاحب إذاية الْجَار إِمَام الضَّلَالَة اتِّبَاع الصَّدَقَة بالمن والأذى والخيانة والتجسس تتبع عورات الْمُسلمين قلَّة إكرام الْحر تشبه الرجل بِالْمَرْأَةِ وَبِالْعَكْسِ الْإِلْحَاد فِي الْحرم الشّعْر وَنَحْوه فِي الْمَسْجِد ترك قِرَاءَة الْقُرْآن نسيانه بِلَا عذر الضرار سفر الْمَرْأَة بِلَا زواج أَو أَن يقوم مقَامه التطاول فِي الْبُنيان تَأْخِير الْغسْل بِلَا عذر الِالْتِفَات فِي الصَّلَاة التدابر التباغض فَسَاد ذَات الْبَين اقتناء الْكَلْب بِلَا مسوغ اقتناء أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة ترك الأسباغ فِي الْوضُوء الصَّلَاة على النعاس وَبِكُل مشغل اسْتِصْحَاب الْكَلْب والحرس إخافة بِأَهْل الْمَدِينَة المشرفة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وأزكى التَّسْلِيم ترك الْعدْل بَين الزَّوْجَات البصاق فِي الْمَسْجِد وَنَحْوه إِضَاعَة الْأَهْل إِضَاعَة المَال النّوم على الْوَجْه من غير عذر لِبَاس الرِّجَال الْحَرِير مرافقة المجذوب تَتِمَّة فِي تَنْبِيه الطّلب الْوَارِد فِي هَذِه الْخِصَال أمرا ونهيا عدا مَا هُوَ مِنْهَا فِي أَعلَى دَرَجَات الْوُجُوب أَو تَحْرِيم لَيْسَ على وزان وَاحِد فِي كل فَرد مِنْهَا فِي أَعلَى دَرَجَات الْوُجُوب أَو التَّحْرِيم لَيْسَ على وزن وَاحِد فِي كل فَرد مِنْهُمَا لوروده مُطلقًا من غير تَحْدِيد وَلذَلِك يُوجد فِي الْمَأْمُون بِهِ الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَفِي الْمنْهِي عَنهُ الْمحرم وَالْمَكْرُوه وَحِكْمَة مَجِيء الطّلب بهَا كَذَلِك ليزن الْمُؤمن أَوْصَافه المحمودة والمذمومة فيخاف ويرجو فَإِذا وجد نَفسه إِذا وَزنهَا فِي ميزَان الْعدْل مثلا مُعْتَقدًا أَن أقصاه الْإِقْرَار بِالنعَم لصَاحِبهَا وردهَا إِلَيْهِ مَعَ الشُّكْر عَلَيْهَا وَهُوَ الْوَفَاء بِالْإِيمَان وخصلة الْبَرَاءَة من الْكفْر وتوابعه متصفا بذلك قوى رَجَاءَهُ مَعَ الْخَوْف التَّقْصِير عَن تِلْكَ الْغَايَة لعَجزه عَن توفيه حق الربوبية فِي الْجُمْلَة وَأولى فِي التَّفْضِيل كالعدل بَين الْخلق إِن كَانَ حَاكما وَفِي نَفسه وَأَهله وَولده حَتَّى فِي البدء بالميامن فِي لِبَاس النَّعْل وَنَحْوه وَكَذَا فِي ضِدّه وَهُوَ الظُّلم فَاعِلا الشّرك بِاللَّه وَأَدْنَاهُ فِي التَّفْصِيل البدء بالمياسر وَكَذَا سَائِر الْأَوْصَاف وأضدها فَلَا بُد يزَال الْمُؤمن فِي نظر واجتهاد فِي هَذِه الْأُمُور حَتَّى يلقى الله تَعَالَى وَهُوَ على ذَلِك نبه على هَذَا الأَصْل الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي رَحمَه الله تَعَالَى ورضى عَنهُ

ثَانِيًا قَالَ تَعَالَى {والكاظمين الغيظ وَالْعَافِينَ عَن النَّاس وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} قَالَ الطرطوشي فَأوجب تَعَالَى محبَّة للعافين وَأثْنى عَلَيْهِم بِالْإِحْسَانِ الْفَائِدَة الثَّانِيَة استعطاف الْخلق لطلب التخلق بِهِ إِلَى مثل مَا يحبونَ من خالقهم مَعَهم قَالَ الله تَعَالَى {وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم} وَفِي مُسْند الإِمَام أَحْمد عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ارحموا ترحموا اعْفُوا يعف عَنْكُم الْفَائِدَة الثَّالِثَة عز الله تَعَالَى وَذَلِكَ من أعظم مطَالب الْملك فَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أنقصت صَدَقَة من مَال وَمَا زَاد الله عبدا بِعَفْو إِلَّا عزا وَمَا تواضع أحد لله إِلَّا رَفعه الله عز وَجل الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة مَعَ ظُهُور هَذِه الْفَضِيلَة الْعَفو والإنتقام بعد جَائِز كَمَا صرح بِهِ فِي قَوْله تعال ى وَلمن انتصر بعد ظلمَة فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل ابْن الْعَرَبِيّ لما علم الله تَعَالَى من عباده أَن مِنْهُ من لَا يملك نَفسه وَلَا يبلغ حزمه هَذِه الْخصْلَة فَإِذن لَهُ فِي النقمَة وَرخّص لَهُ فِي الْمُكَافَأَة على سَبِيل الْعدْل والقسط

الجزء 2

الْكتاب الثَّالِث فِيمَا يُطَالب بِهِ السُّلْطَان تشييدا لأركان الْملك وتأسيسا لقواعده وَفِيه مُقَدّمَة وبابان فالمقدمة فِي التحذير من مَحْظُورَات تخل بذلك الْمَطْلُوب شرعا وسياسة وَالْبَاب الأول فِي جَوَامِع مَا بِهِ السياسة الْمَطْلُوبَة من السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ الْبَاب الثَّانِي فِي وَاجِبَات يلْزم السُّلْطَان سياسة الْقيام بهَا وَفَاء بعهدة مَا تحمله الْمُقدمَة فِي التحذير من تِلْكَ الْمَحْظُورَات وَهِي جملَة الْمَحْظُور الأول اتِّبَاع الْهوى وَيظْهر ذَلِك باعتبارين الِاعْتِبَار الأول مَا يدل على ذمه فِي الْجُمْلَة وَيَكْفِي من ذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا مضادته للحق من حَيْثُ هُوَ قسيم لَهُ قَالَ تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى}

قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشاطبي فقد حصر الْأَمر فِي شَيْئَيْنِ الْوَحْي وَهُوَ الشَّرِيعَة والهوى وَلَا ثَالِث لَهما وَإِذ ذَاك فهما متضادان الثَّانِي وَهُوَ من لَوَازِم ذَلِك كَونه أصل كل شَيْء وَقع فِي الْوُجُود قَالَ الْغَزالِيّ إِذا نظرت وجدت أصل كل فتْنَة وفضيحة وذنب وَآفَة وَقعت فِي خلق الله تَعَالَى من أول الْخلق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من قبيل هوى النَّفس مُسْتَقلَّة أَو مُعينَة الِاعْتِبَار الثَّانِي مَا يشْهد بذلك بِحَسب السُّلْطَان وَيَكْفِي من ذَلِك أَيْضا أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن الْقَصْد بالسلطان كَمَا تقدم حفظ مصَالح الِاجْتِمَاع الْمدنِي لنَوْع الْإِنْسَان وَقد علم بالتجربة أَنه لَا يحصل مَعَ الاسترسال فِي اتِّبَاع الْهوى لما ينشأ عَنهُ من التضاد الْعَائِد على الْوُجُود بِفساد النظام قَالَ تَعَالَى {وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ} الثَّانِي أَن الْعقُوبَة عَلَيْهِ متوعد بهَا عَاجلا أَو آجلا قَالَ تَعَالَى {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب} فالإضلال عَن سَبِيل الله عُقُوبَة عاجلة وَالْعَذَاب الشَّديد عُقُوبَة آجلة

اعْتِرَاف حكى الرشاطي أَن أسعد تبع بن كلكوت ولى رجلا من أَقَاربه بعض نواحي الْيمن فَأَتَاهُ عَنهُ مَا يكره من الشكايات فَأذن للنَّاس كَافَّة فَأخذُوا مَرَاتِبهمْ فِي مجْلِس فَشَا خَبره فَقَالَ أما أَنا لم أَوله إِلَّا عَن يَد كَانَت لَهُ عِنْدِي وَهوى كَانَ لي فِيهِ وقرابة كَانَت بيني وَبَينه وَهُوَ مَعَ ذَلِك حدث وَمَعَ الحداثة مترف لم تغنه التجارب وَلم تهنه المصائب فأف للهوى ثمَّ أُفٍّ لَهُ مَا أقبح إمارته وانطر أخباره وَأظْهر ضعف صَاحبه وَأشهر سخف رَاكِبه واغبط طَاعَته وَأحلى مُتَابَعَته وَأمر عاقبته لقد أضلني عَن سَوَاء السَّبِيل وكلفني حمل أَمر ثقيل وأوقعني بينقال وَقيل وألبسني ثوب غم طَوِيل ثمَّ قَالَ أَيْن هَذَا الْكَاتِب فَقَالَ هَا أَنا ذَا أَبيت اللَّعْن قَالَ أكتب بِاسْمِك اللَّهُمَّ من الْملك الْمَغْرُور بِملكه الموقن بهلكه الْمَأْخُوذ بِذَنبِهِ الْمُرْتَهن بِكَسْبِهِ العَاصِي لرَبه الَّذِي يحْسب أَنه قد أهمل وَأَنه لذَلِك اسْتعْمل جَهَالَة مِنْهُ بِقَدرِهِ واغترارا مِنْهُ بِعُذْرِهِ أما بعد فَإِن الله لم يولنا أَمر عبادنَا إِنَّمَا ولانا أَمر عباده وَلم

فَكتب إِلَيْهِ تبع لقد أنبأتني عَنهُ بأَشْيَاء مَا يحسن مِنْهَا شَيْء وَلَا ينشر مِنْهَا طي وَلَا يُوصف مِنْهَا غي وَلَا يكْشف مِنْهَا عي إِلَّا والتجبر شَرّ مِنْهُ لِأَن صَاحبه يُرِيد الْعِزَّة وَلَيْسَت الْعِزَّة إِلَّا لله وَلَيْسَت لغير الله إِلَّا عزة بذلة أَلا ترى أَنه بِكُل حَبل يخنق وَبِكُل سهم يرشق ويبغضه من لم يعرفهُ ويؤذيه من لَا يسوءه ويلعنه من لم يسمع بِهِ وحسبه بِهَذَا حقرة وَكفى بهَا عَلَيْهِ سَيِّئَة فَإِنَّمَا استكبر ابْتِغَاء الْعِزَّة فَلم يزده الْكبر إِلَّا ذلة وَلم تزِدْه الذلة إِلَّا قلَّة لَو عقل لما استكبر وَلَو وفْق لما تجبر وَقد رأى نَفسه من ضيق فَهُوَ يرى كل الضّيق وَمَا يشوبه من الأقذار وَمَا يدوسه من الأشرار وَكتب إِلَى الْعَامِل كتاب موعظة وتأنيب وعزله وَكَانَ فِي بعض كِتَابه إِلَيْهِ إِن لم أكن أثبت فِي عهدي إِلَيْك وكتبت فِي عقدي عَلَيْك أَنَّك عَامل مَا علمت بِالْحَقِّ فَإِذا لم تعْمل بِهِ فَأَنا بَرِيء مِمَّا تعْمل وَأَنت من ولايتي بَرِيء مَا خَالَفت الْحق وَإِنِّي لَا أقرّ أمرا إِلَّا مَا أقرته الرّعية وَلَا أسْتَعْمل إِلَّا من استعملته فَإِن أحسن فَأَنا أسعد بِهِ وَإِن أَسَاءَ فهم استعملوه وهم أَشْقَى بِهِ وَقد عزلناك بِمَا أعملتك وبالنظر مني إِلَيْك والإبقاء مني عَلَيْك خلعتك لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الْبغضَاء خير وَلَا مَعَ الشحناء صَبر وَلَا مَعَ الشكوى سَلام وَالسَّلَام انْتهى

ينزلنا بعض بِلَادنَا وَإِنَّمَا أنزلنَا بعض بِلَاده وَلم يَأْمُرنَا أَن نسيء بِعَبْدِهِ فَكيف يحسن للْعَبد أَن يسيء إِلَى عبد مثله وَمَا أرى النِّعْمَة عِنْد أحد أوفر مِنْهَا عندنَا أهل الْبَيْت وَلَا الشُّكْر على أحد أوجب مِنْهُ علينا وَلست أَرْجُو الله بقبيح الْمعْصِيَة إِنَّمَا أرجوه بِحسن الطَّاعَة وَقد أريتني بعض مَا تصنع وسأريك بعض مَا أصنع وأتاني عَنْك بعض مَا أكره وَلنْ ترى إِلَّا مثله وَقد بعثت إِلَيْك الْغَوْث بن غياث وأمرته بإيقافك للنَّاس ومجازاتك مَا أفرطت حَذْو النَّعْل بالنعل والقذة بالقذة وَمَا أُرِيد إِلَّا الْحق فَإِن جاوزته فَأَنا أَحَق بالعقوبة مِنْك وَلِأَن ألْقى الله وَأَنت ساخط بِمَا أصنع وَهُوَ رَاض بِهِ أحب إِلَيّ من أَن أَلْقَاهُ وَقد أسخطته وَأَنت عني رَاض فَلَمَّا انْتهى الْغَوْث إِلَى الْعَامِل أَقَامَهُ النَّاس فَإِذا الَّذِي قيل عَنهُ بَاطِل وَإِذا الْعَامِل عَنهُ غافل وَذَلِكَ أَنه كَانَ صَحِيحا فِي أمره لَا يَأْخُذ فِيهِ إِلَّا بالشدة وَلَا يعرف إِلَّا بِالصِّحَّةِ وَكَانَ الْغَوْث ذَا دهاء وَنظر فَقَالَ وَالله لأنظر من أَيْن هَذِه الشكوى الَّتِي لَيْسَ لَهَا أصل يُوصف وَلَا فرع يعرف فَسَأَلَ عَن الْعَامِل فِي السِّرّ من يخبر أمره فأخبروه بِأَنَّهُ مَمْلُوء كبرا وَأَنه لَا ينْطق إِلَّا نزرا وَلَا ينظر إِلَّا شزرا كَأَن لَهُ عَلَيْهِم منَّة أَو بَينه وَبينهمْ احنة فَقَالَ الْغَوْث من هَا هُنَا أَتَى وَكتب إِلَى تبع يُعلمهُ بذلك وأعلمه أَنه أطلق عَلَيْهِ الألسن وأشخص إِلَيْهِ الْأَعْين وألب عَلَيْهِ النَّاس فَأتوهُ من كل أَوب يقذفونه بِكُل عيب فَلم يثبت عَلَيْهِ من ذَلِك كثير يعذب عَلَيْهِ وَلَا قَلِيل يعْزل فِيهِ سوى تكبر قد مقت لَهُ وتجبر قد عيب بِهِ وفظاظة قد أحنقت بهم عَلَيْهِ فَأَجْمعُوا لَهُ على البغض فسبوه سرا ومقتوه جَهرا ونسبوه فِي كل أَمر إِلَى غَايَة الْفَحْشَاء

وَقد تَضَمَّنت الْحِكَايَة اسْتِدْرَاك مَا أوقع فِيهِ الْهوى بعد الِاعْتِرَاف بِتَعَدُّد جناياته مَعَ الموعظة البليغة والتنبيه على سوء عَاقِبَة الْكبر والتجبر

المحظور الثاني

الْمَحْظُور الثَّانِي الترفع عَن المداراة وَذَلِكَ لموجبين الْمُوجب الأول أَنه سنة بدليلين أَحدهمَا مَا فِي الصَّحِيح عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت اسْتَأْذن رجل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ايذنوا لَهُ بئس أَخُو الْعَشِيرَة فَلَمَّا دخل ألان لَهُ القَوْل فَقَالَت يَا رَسُول الله قلت الَّذِي قلت ثمَّ ألنت لَهُ الْكَلَام قَالَ يَا عَائِشَة إِن شَرّ النَّاس من ودعه النَّاس اتقاء فحشه الثَّانِي مَا روى عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ عَنهُ أَنه قَالَ إِنَّا نكشر فِي وُجُوه أَقوام وقلوبنا تلعنهم قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ هَذَا على زهده وصرامته فِي الْحق قلت وَمن هَذَا الْمَعْنى قَوْله (وَكم من يَد قبلتها عَن ضَرُورَة ... وَكَانَ اخْتِيَاري قطعهَا لَو أمكن)

(وَلَكِن على حُلْو الزَّمَان ومره ... أداري عدوي بِالَّتِي هِيَ أحسن) وَقَالَ آخر (إِن سَوَّلت نَفسِي إِلَيّ دنية ... وأطعتها مَا عَن رضاي أطعتها) (كم من يَد قبلتها وَلَو أنني ... مكنت مِنْهَا سَاعَة لقطعتها) وَقَالَ آخر (إِذا مَا عَدوك يَوْمًا مَا سمى ... إِلَى حَالَة لم ترد نقضهَا) (فَقبل وَلَا تأنفن كَفه ... إِذا أَنْت لم تستطع عضها) الْمُوجب الثَّانِي أَن تخلق السُّلْطَان بِمَا يعود عَلَيْهِ بفوائد لَا يَسعهُ إهمال الْعبْرَة بهَا مِنْهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ أفلاطون بقوله اسْتعْمل المداراة فِي قُوَّة سلطانك فَإِنَّهَا تؤنسك فِي زمَان خوفك وتملكك قُلُوب المنحرفين عَنْك قلت وَيظْهر مِنْهُ أَن اسْتِعْمَالهَا عِنْد ضعف الْملك أولى وَأوجب فَائِدَة

المحظور الثالث

قَالَ الْعلمَاء المداراة سنة والمداهنة مَعْصِيّة قَالَ ابْن قيم الجوزية وَالْفرق بَينهمَا أَن المدارى يتلطف بِصَاحِبِهِ حَتَّى يسْتَخْرج مِنْهُ الْحق أَو يردهُ إِلَيْهِ أَو عَن الْبَاطِل والمداهن يتلطف بِهِ ليقره على الْبَاطِل ويتركه على هَوَاهُ قَالَ فالمداراة لأهل الْإِيمَان والمداهنة لأهل النِّفَاق تَمْثِيل وَقد ضرب لذَلِك مثلا مطابقا وَهُوَ رجل بِهِ قرحَة عرف حالتها الطَّبِيب المداري الرفيق فلينها حَتَّى نَضِجَتْ ثمَّ بطها بِرِفْق ثمَّ وضع عَلَيْهَا المرهم حَتَّى منع فَسَاد موضعهَا وَنبت فِيهِ اللَّحْم ثمَّ رد على مَا نبت مِنْهُ مَا نشفت الرُّطُوبَة عَنهُ إِلَى أَن تمّ برؤها والمداهن يَقُول لصَاحِبهَا لَا بَأْس عَلَيْك هِيَ لَا شَيْء فأله عَنْهَا فَلم تزل مَا دتها تقوى وتستحكم حَتَّى عظم فَسَادهَا انْتهى الْمَحْظُور الثَّالِث قبُول السّعَايَة والنميمة ويتضح ذَلِك من جِهَات الْجِهَة الأولى حَقِيقَة النميمة قَالَ الْغَزالِيّ كشف مَا يكره كشفه سَوَاء كرهه الْمَنْقُول عَنهُ أَو الْمَنْقُول إِلَيْهِ أَو كرهه ثَالِث أَو سَوَاء كَانَ الْكَشْف بالْقَوْل

أَو الْكِنَايَة أَو بالرمز أَو بِالْإِيمَاءِ أَو نَحْو ذَلِك وَسَوَاء كَانَ الْمَنْقُول قولا أَو عملا عينيا أَو غَيره قَالَ فحقيقتها إفشاء السِّرّ وهتك السّتْر مِمَّا يكره كشفه قلت وَاخْتَصَرَهُ البلالي بقوله نقل مَكْرُوه ليفسد قَالَ وضابطها كشف مَا يكره من شَيْء بِكُل مَا يفهم الْجِهَة الثَّانِيَة حكمهَا وَهُوَ التَّحْرِيم قَالَ النَّوَوِيّ وَقد تظاهرت بذلك الدَّلَائِل الصَّرِيحَة من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع قلت ويغنى عَن ذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا النَّهْي عَن طَاعَة صَاحبهَا فِي الْمَنْقُول مَعَ الْمُبَالغَة فِي ذمه قَالَ الله تَعَالَى وَلَا تُطِع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم منا للخير مُعْتَد أثيم عتل بعد ذَلِك زنيم قَالَ الطرطوشي ذكر الله تَعَالَى أَصْنَاف أهل الْكفْر والإلحاد والتثليث وَالْفِسْق وَالظُّلم وشبههمفلم يسب تَعَالَى وَاحِدًا مِنْهُم إِلَّا النمام بِهَذِهِ الْآيَة قَالَ وحسبك بهَا خسة ورذيلة وسقوطا وضعة قلت وَلقَائِل أَن يَقُول السَّبَب بِهَذِهِ المثالب لَيْسَ لمُجَرّد النميمة فَقَط بل لِأَن من نزلت فِيهِ الْآيَة كَانَ متصفا بهَا فَمن ثمَّ سَبَب الْجَمِيع تنفيرا عَن مُتَابعَة

الثَّانِي مَنعه من دُخُول الْجنَّة مَعَ التعذيب عَلَيْهَا فِي الْقَبْر فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يدْخل الْجنَّة نمام وَفِيهِمَا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بقبرين فَقَالَ إنَّهُمَا ليعذبان وَمَا يعذبان فِي كَبِير قَالَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ بلَى إِنَّه كَبِير أما أَحدهمَا فَكَانَ يمشي بالنميمة وَأما الآخر فَكَانَ لَا يستبري من الْبَوْل قَالَ النَّوَوِيّ من الْعلمَاء معنى وَمَا يعذبان فِي كَبِير أَي كَبِير فِي زعمهما وكبير تَركه عَلَيْهِمَا الْجِهَة الثَّالِثَة فضيحتها لصَاحِبهَا بدلالتها على خبث أَصله ورداءة عنصره قَالَ ابْن حزم مَا فِي جَمِيع النَّاس شَرّ من النمام وَإِن النميمة لطبع يدل على نَتن الأَصْل ورداءة الْفَرْع وَفَسَاد الطَّبْع وخبث النشأة قلت حكى الطرطوشي عَن القدماء لَا يكون نمام إِلَّا وَفِي نسبه شَيْء قَالَ وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ لَا ينم على النَّاس إِلَّا ولد بغي

قَالَ وَلما سعى رجل بآخر إِلَى بِلَال بن أبي بردة وَكَانَ أَمِير الْبَصْرَة قَالَ لَهُ انْصَرف حَتَّى اكشف عَنْك فكشف عَنهُ فَإِذا هُوَ لغير رشدة يَعْنِي ولد زنى قلت وَإِن صَحَّ أَن الزنيم فِي قَوْله تَعَالَى {بعد ذَلِك زنيم} هُوَ الدعي الَّذِي لَا يعرف أَبوهُ كَمَا قيل فِيمَن سبّ بذلك فِي الْآيَة الْكَرِيمَة فَهُوَ من شَوَاهِد ذَلِك وأوضح بيناته الْجِهَة الرَّابِعَة مفاسدها فِي الْجُمْلَة كَثِيرَة يَكْفِي مِنْهَا اثْنَتَانِ أَحدهمَا إِفْسَاد الْمحبَّة بهَا بَين النَّاس فَفِي الحَدِيث خِيَار عباد الله الَّذين إِذا رؤوا ذكرُوا الله وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بَين الْأَحِبَّة الباغون الْبَراء بِالْعَيْبِ الثَّانِيَة حُصُول الْمضرَّة بهَا فِي أقرب زمَان قَالَ أَكْثَم بن صَيْفِي لِبَنِيهِ إيَّاكُمْ والنميمة فَإِنَّهَا نَار محرقة وَإِن النمام ليعْمَل فِي سَاعَة مَا لَا يعْمل السَّاحر فِي شهر

قيل فِي مَعْنَاهُ (إِن النميمة نَار ويك محرقة ... فعد عَنْهَا وجانب من تعاطاها) الْجِهَة الْخَامِسَة مضارها بِاعْتِبَار السُّلْطَان وَيَكْفِي من متعمد ذَلِك مضرتان الْمضرَّة الأولى إذاية من سعر بِهِ إِلَيْهِ فِي النَّفس فَمَا دونهَا وَمن ثمَّ جعلهَا الطرطوشي مهلكة قَالَ لِأَنَّهَا تجمع إِلَى مذمة الْغَيْبَة ولؤم النميمة والتغرير بالنفوس وَالْأَمْوَال والقدح فِي الْمنَازل وَالْأَحْوَال وتسلب الْعَزِيز عزه وتحط الْحَكِيم عَن مَكَانَهُ وَالسَّيِّد عَن مرتبته الْمضرَّة الثَّانِيَة وَهِي أدهى من ذَلِك وَأمر لعودها بخراب ملكه وانتقاض الْأَمر عَلَيْهِ مَتى كَانَت فِيمَا هُوَ من طَرِيق ذَلِك قَالَ ابْن حزم مَا هَلَكت الدول وَلَا انتقضت الممالك وَلَا سفكت الدِّمَاء ظلما وَلَا هتكت الأستار بِغَيْر النمائم وَالْكذب وَلَا أكدت الْبغضَاء إِلَّا بهما ثمَّ لَا يحظى لَا بالمقت والخزي والذل الْجِهَة السَّادِسَة مُشَاركَة سامعها فِي مَعْصِيّة السَّعْي بهَا إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {سماعون للكذب أكالون للسحت}

قَالَ الطرطوشي فشرك سُبْحَانَهُ بَين السَّامع وَالْقَائِل فِي الذَّم بِسَبَبِهَا على أَن سامع النميمة نمام فِي الحكم قلت بل يزِيد عَلَيْهِ بِاعْتِبَار آخر كَمَا يرْوى عَن الْفضل بن سهل أَنه وَقع على ظهر كتاب بسعاية نَحن نرى قبُول السّعَايَة أَشد من السّعَايَة لِأَن السّعَايَة دلَالَة وَالْقَبُول إجَازَة وَلَيْسَ من دلّ على شَيْء كمن قبل وَأَجَازَ لِأَن من فعل شَرّ مِمَّن قَالَ الْجِهَة السَّابِعَة مَا على سامعها من الْوَظَائِف العاصمة لَهُ من الْمُشَاركَة فِي الْمعْصِيَة مَا قَالَ البلالي على سامعها أَن جهل كَونهَا نميمة أَو نصحا أَن يتَوَقَّف حتما فَإِن تبين أَنَّهَا نميمة فَعَلَيهِ أَن لَا يصدقهُ لفسقه بهَا ثمَّ ينهاه عَنْهَا وينصحه ثمَّ يبغضه فِي الله تَعَالَى مَا لم يتب وَلَا يظنّ بأَخيه الْغَائِب سوءا أَو يحرم بَحثه عَنهُ وحكاية مَا نقل إِلَيْهِ قلت فَالْأول لقَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة}

وَالثَّانِي لوُجُوب النَّصِيحَة وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالثَّالِث لوُجُوب البغض فِي الله وَالرَّابِع لقَوْله تَعَالَى {اجتنبوا كثيرا من الظَّن إِن بعض الظَّن إِثْم} الْآيَة وَالْخَامِس لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تجسسوا} وَالسَّادِس لِئَلَّا يَقع فِي النميمة كالناقل فَائِدَة فِي تَنْبِيه الْمَنْع من النميمة نقلا وقبولا إِنَّمَا هُوَ مَا لم تكن فِيهِ مصلحَة شَرْعِيَّة قَالَ النَّوَوِيّ فَإِن دعت حَاجَة إِلَيْهَا فَلَا منع مِنْهَا كَمَا إِذا أخبر أَن إنْسَانا يُرِيد الفتك بِهِ وبأهله أَو بِمَالِه وَأخْبر الإِمَام أَو من لَهُ ولَايَة بِأَن إنْسَانا يفعل أَو يسْعَى بِمَا فِيهِ مفْسدَة قَالَ وَيجب على صَاحب الْولَايَة الْكَشْف عَن ذَلِك وإزالته فَمثل هَذَا لَا يحرم قَالَ وَقد يكون وَاجِبا ومستحبا على حسب المواطن انْتهى هِدَايَة من المحكي فِي أَعْرَاض الْأُمَرَاء عَن قبُول السّعَايَة مَعَ توبيخ السَّاعِي كثير وَيَكْفِي من ذَلِك حكايتان

الْحِكَايَة الأولى روى أَن رجلا ذكر لعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ رجلا بِشَيْء فَقَالَ لَهُ عمر رَضِي الله عَنهُ إِن شِئْت نَظرنَا فِي أَمرك فَإِن كنت كَاذِبًا فَأَنت من أهل هَذِه الْآيَة {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ} وَإِن كنت صَادِقا فَأَنت من أهل هَذِه الْآيَة {هماز مشاء بنميم} وَإِن شِئْت عَفَوْنَا عَنْك قَالَ الْعَفو يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا أَعُود أبدا الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل رفع إِنْسَان رقْعَة إِلَى الصاحب بن عباد يحثه فِيهَا على أَخذ مَا يَتِيم وَكَانَ مَالا كثيرا فَكتب على ظهرهَا النميمة قبيحة وَإِن كَانَت صَحِيحَة وَالْمَيِّت رَحمَه الله واليتيم جبره الله وَالْمَال ثَمَرَة الله والساعي لعنة الله قلت وَهُوَ حقيق باللعنة فَفِي حَدِيث ذكر فِيهِ لعن طَائِفَة مَلْعُون كل نمام

المحظور الرابع

الْمَحْظُور الرَّابِع اتِّخَاذ الْكَافِر وليا ويتقرر ذَلِك بِاعْتِبَار طبقتين الطَّبَقَة الأولى عُمُوم الْخلق حَتَّى الْأُمَرَاء والولاة من تِلْكَ الْجِهَة كَمَا صرح بِهِ التَّنْزِيل فِي غير مَوضِع {لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ} وَقَوله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} قَالَ ابْن عَطِيَّة نهي الله الْمُؤمنِينَ بِهَذِهِ الْآيَة عَن اتِّخَاذ الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء فِي الْخلطَة والنصرة المؤدية إِلَى الامتزاج والمعاضدة وَحكم الْآيَة بَاقٍ قَالَ وكل من اكثر مُخَالطَة هذَيْن الصِّنْفَيْنِ فه حَظّ من هَذَا المقت الَّذِي تضمنه قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُ مِنْهُم} فَائِدَتَانِ فِي تَنْبِيه إِحْدَاهمَا قَالَ ابْن عَطِيَّة النَّهْي عَن هَذَا الاتخاذ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يظهره الْمَرْء وَأما أَن يتَّخذ بِقَلْبِه وبنيته فَلَا يفعل ذَلِك مُؤمن قَالَ وَلَفظ الْآيَة عَام فِي جَمِيع الْأَعْمَار الثَّانِيَة قَالَ وَأما مُعَاملَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى من غير مُخَالطَة وملابسة فَلَا يدْخل فِي النَّهْي وَقد عَامل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَهُودِيّا وَرَهنه درعه الطَّبَقَة الثَّانِيَة خُصُوص الْأُمَرَاء والولاة من حَيْثُ الِاسْتِعَانَة بِهِ وَمن موارد النَّهْي فِيهَا موضعان أَحدهمَا الْجِهَاد على الْمَشْهُور قَالَ فِي الْمُدَوَّنَة وَلَا يستعان بالمشركين فِي الْقِتَال أَلا يَكُونُوا نواتية أَو خدما

وَحكى عَن عِيَاض جَوَاز ذَلِك فِي بعض الْأَئِمَّة قَائِلا وَحمل النَّهْي على وَقت خَاص يَعْنِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أَنا لَا نستعين بمشرك قلت وَفِي الْمَوَاضِع غير هَذَا مُطلقًا ومقيدا أَلا نطول بحكاية قَالَ ابْن نَاجِي سَمِعت بعض من لَقيته يَحْكِي غير مرّة أَن الشَّيْخ الصَّالح أَبَا عَليّ الْقَرَوِي وَكَانَ قد قَرَأَ مَعَ أبي يحيى اللحياني سُلْطَان أفريقية فَجَاز يَوْمًا عَلَيْهِ عِنْد بَاب السويقة وَالنَّصَارَى محدقون بِهِ فَجعل الشَّيْخ يُنَادي يَا فَقِيه أَبَا يحيى وَالنَّاس لَا يعْرفُونَ مُرَاده من هُوَ فَلَمَّا سَمعه السُّلْطَان وقف وَقَالَ نعم يَا سَيِّدي مَا تُرِيدُ قَالَ أمرنَا أَلا نستعين بمشرك فَقَالَ نعم يَا سَيِّدي صدقت وَانْصَرف بِرِفْق

الثَّانِي فِي الْولَايَة والاصطناع قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ لَا يَنْبَغِي لأحد من الْمُسلمين ولي ولَايَة أَن يتَّخذ من أهل الذِّمَّة وليا فِيهَا لنهي الله عَن ذَلِك لأَنهم لَا يخلصون النَّصِيحَة وَلَا يؤدون الْأَمَانَة قلت ورد الْعَمَل بذلك عَن السّلف قولا وفعلا وَيَكْفِي من ذَلِك رِوَايَتَانِ الرِّوَايَة الأولى قَالَ الطرطوشي لما استقدم عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ من الْبَصْرَة وَكَانَ عَاملا لِلْحسابِ دخل على عمر وَهُوَ فِي الْمَسْجِد وَاسْتَأْذَنَ لكَاتبه وَكَانَ نَصْرَانِيّا فَقَالَ لَهُ عمر قَاتلك الله وَضرب فَخذه وليت ذِمِّيا على الْمُسلمين أما سَمِعت الله تَعَالَى يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم} أَلا اتَّخذت حَنِيفا مُسلما فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لي كِتَابَته وَله دينه فَقَالَ لَا أكْرمهم إِذْ أَهَانَهُمْ الله وَلَا أعزهم إِذْ أذلّهم الله وَلَا أدينهم إِذْ أَقْصَاهُم الله الرِّوَايَة الثَّانِيَة قَالَ وَكتب عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ إِلَى بعض عماله أما بعد فَإِنَّهُ بَلغنِي أَن فِي عَمَلك رجلا يُقَال لَهُ فلَان وَسَماهُ على غير دين الْإِسْلَام وَالله تَعَالَى يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين} فَإِذا أَتَاك كتابي هَذَا فَادع فلَانا إِلَى الْإِسْلَام فَإِن أسلم فَهُوَ منا وَنحن مِنْهُ وَإِن أَبى فَلَا تستعن بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ من غير أهل

الْإِسْلَام على شَيْء من أَعمال الْمُسلمين فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكتاب فَأسلم وَعلمه الطَّهَارَة وَالصَّلَاة تَعْرِيف من مستحسن التحريض على تَحْرِيك الهمة للترفع عَن وصمة هَذَا الاتخاذ مَا حكى الْقَرَافِيّ أَن الطرطوشي لما دخل على الْخَلِيفَة بِمصْر ووزير لَهُ كَافِر بإزائه أنْشدهُ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ (يَا أَيهَا الْملك الَّذِي جوده ... يَطْلُبهُ القاصد والراغب) (إِن الَّذِي شرفت من أَجله ... يزْعم هَذَا أَنه كَاذِب) فَاشْتَدَّ غضب الْخَلِيفَة عِنْد سَماع ذَلِك وَأمر بذلك الْكَافِر فسحب وَضرب وَقتل وَأَقْبل على الشَّيْخ الطرطوشي فَأكْرمه وعظمه بعد عزمه على إذايته انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ قلت وَيذكر أَن يحيى بن أَكْثَم كتب إِلَى الرشيد وَقد قرب يَهُودِيّا (يَا ملكا طَاعَته عصمَة ... وَحقه مفترض وَاجِب) (إِن الَّذِي شرفت من أَجله ... يزْعم هَذَا انه كَاذِب)

قَالَ بَعضهم قيل لعيسى ابْن عباهل الْبَيَانِي لَو كلفت أَن تدخل بَين أدفونش ووزيره الْيَهُودِيّ مَا كنت تَقول فَأَنْشد يَقُول (يَا ناصرا دين الْمَسِيح بِسَيْفِهِ ... وبذا حماه جدوده وَأَبوهُ) (إِن الَّذِي نصرت جدودك دينه ... زعم الْيَهُود بِأَنَّهُم صلبوه) قلت وَمن هَذَا الْبسَاط مَا كتب بِهِ ابْن الجزار السَّرقسْطِي لبَعض إخوانه وَقد رَآهُ صانع يَهُودِيّا وَصفا إِلَيْهِ (الضِّدّ للضد ذُو منافرة ... من غره غير شكله هلكا) (وكل من لست من شَرِيعَته ... يظْهر غير الَّذِي يُرِيد لكا) (وَالْعقل يَبْنِي لَهُ مذْهبه ... فِيك ومسعاه آيَة سلكا) (أنظر فَإِن كَانَ مَا تُرِيدُ لَهُ ... خيرا فَذَاك الَّذِي يُرِيد لكا)

المحظور الخامس

الْمَحْظُور الْخَامِس الْغَفْلَة عَن مُبَاشرَة الْأُمُور وَأولى عَن الترفع عَلَيْهَا فقد جعلُوا ذَلِك شرطا فِي الانتهاض بالسياسة بعد استنابة الْأُمَنَاء وتقليد النصحاء قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يعول على التَّعْرِيض تشاغلا بلذة أَو عبَادَة فقد يخون الْأمين ويغش الناصح وَقد قَالَ تَعَالَى {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله} قَالَ فَلم يقْتَصر تَعَالَى على التَّعْرِيض دون الْمُبَاشرَة وَلَا عذر فِي التشاغل اكْتِفَاء بالاستنابة حَتَّى قرنه بالضلالة تَفْصِيل قَالَ ابْن رضوَان يَنْبَغِي للْملك أَن يتفرغ للنَّظَر فِي أَحْوَال الْوُلَاة واعوانهم وخدامهم حَيْثُمَا كَانُوا وَالنَّظَر فِي أَحْوَال أقاصي الْبِلَاد وأدانيها وَمَعْرِفَة مَاله من الجبايات ويتفرغ لسَمَاع الشكوى مِمَّن يشكي بِأحد ولاته وَاخْتِيَار من يولي مَكَان من مَاتَ مِنْهُم أَو عزل ويتفرغ لتجهيز الجيوش والكتائب وَقِرَاءَة كتب الْأَخْبَار الْوَارِدَة عَلَيْهِ من كل بلد مِمَّا لَا ينظر فِيهِ غَيره من فتق ثغر أَو موت وَال وَمَا يُوجب عَزله وَفِي معاناة

خلة أهل بلد تحل بهم جَائِحَة من جوع أَو مرض أَو سَبِيل أَو عَدو أَو غير ذَلِك انْتهى موعظة فِي عَاقِبَة الْغَفْلَة من ذَلِك سُئِلَ بعض الْمُلُوك من الَّذين سلب عزهم وَهدم ملكهم فَقَالُوا شَغَلَتْنَا لذاتنا عَن التفرع لمهماتنا وفتنا بكفاتنا فآثروا مرافقهم علينا وظلم عمالنا رعيتنا ففسدت نياتهم لنا وتمنوا الرَّاحَة منا وَحمل على أهل خراجنا فَقل دَخَلنَا وَبَطل عَطاء جندنا فَزَالَتْ الطَّاعَة مِنْهُم لنا وقصدنا عدونا فَقل ناصرنا وَكَانَ أعظم مَا زَالَ بِهِ ملكنا استتار الْأَخْبَار عَنَّا

في جوامع ما به السياسة المطلوبة من السلطان ومن يليه

الْبَاب الأول فِي جَوَامِع مَا بِهِ السياسة الْمَطْلُوبَة من السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ وَهِي بِاعْتِبَار السُّلْطَان والوزير وَسَائِر البطانة والخواص فَهُنَا ثَلَاثَة فُصُول الْفَصْل الأول فِي سياسة السُّلْطَان وَقد سبق بِحَسب الْفَصْل الأول مَا يُؤْخَذ مِنْهُ سياسة نَفسه ومملكته وَبَقِيَّة سياسة الرّعية والمور الْعَارِضَة بِاعْتِبَار ذَلِك الْقَصْد السياسة الأولى سياسة الرّعية وَهِي تَنْحَصِر فِي جملتين تأسيس مَا يقوم عَلَيْهِ بناؤها واقتضاء مَا يام بِهِ مقصودها وَهُوَ أَخذ الرّعية بالحقوق الْوَاجِبَة عَلَيْهَا للسُّلْطَان الْجُمْلَة الأولى تأسيس مَا يقوم عَلَيْهِ بناؤها وتعديد مَا يذكر مِنْهُ فِي مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى أَن السُّلْطَان أفرط على الرّعية أهلكها وَإِن فرط فِيهَا لم تستقم وَإِن اعتدل بَين ذَلِك اعتدلت كالنار إِذا قويت أحرقت معوج الْخشب وَإِذا لانت بَقِي على اعوجاجه وَإِذا اعتدلت تقوم بهَا واعتدل قلت وَقد تقدم فِي قَاعِدَة اللين عناية العملاء بتحري ذَلِك وَمِنْه أَن زيادا كتب على زَوَايَا مَجْلِسه بِالْكُوفَةِ بقلم جليل الْوَالِي شَدِيد فِي غير عنف لين فِي غير ضعف الْعَطِيَّة لأبانها والأرزاق لأوقاتها والمبعوث لَا يجمر

المسألة الثاني

المحسن يَجْزِي بإحسانه والمسيء يُؤْخَذ على يَدَيْهِ فَكَانَ كلما رفع رَأسه قَرَأَهُ الْمَسْأَلَة الثَّانِي أَن إصْلَاح السُّلْطَان نَفسه بتنزيهه عَن سفساف الْأَخْلَاق وترفعه عَن صُحْبَة ذَوي البطالة والمجون هُوَ الْكَفِيل بإصلاح الرّعية لتمكين أَثَره فِي التَّمَسُّك بِالدّينِ والمحافظة على الْمُرُوءَة كَمَا وفْق إِلَيْهِ الْمَأْمُون حِين كَانَ أَخُوهُ الْأمين خِلَافه وَبِذَلِك تمكن من خلعه على مَا هُوَ مَعْرُوف وقديما قيل أصلح نَفسك يصلح لَك النَّاس وَقيل (إِذا غَدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بِالْوَيْلِ وَالْحَرب) (أما ترى الشَّمْس فِي الْمِيزَان هابطة ... لما غَدا وَهُوَ بَين اللَّهْو والطرب) الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن التودد إِلَى الرّعية بِحسن الملكة وخصوصا بِالْإِحْسَانِ مُوجب للظفر بمحبتها الرَّاجِح ملك الْقُلُوب بهَا على ملك الْأَبدَان دونهَا فَعَن بعض

المسألة الرابعة

الْحُكَمَاء التودد من الضَّعِيف تملق وَمن الْقوي تواضع وكبير همة فتودد إِلَى الْعَامَّة لتخلص لَك محبتهم وتنال الْكَرَامَة مِنْهُم وَفِي سياسة أرسطو املك رعيتك بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا تظفر بالمحبة مِنْهَا وَاعْلَم أَنَّك لَا تملك الْأَبدَان فتحهَا إِلَى الْقُلُوب إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ قلت وأشرف من الظفر بِهَذِهِ الْمحبَّة فوزه مَعهَا بمحبة الله تَعَالَى فَفِي الأفلاطونيات يَنْبَغِي للْملك أَن يصادق ربه فِي خلقه وتقتضي محبَّة بِإِعْطَاء كافتهم محبته فيهم الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَن الْعُدُول بالرعية إِلَى اتخذاها بالكف عَن مَالهَا مَعَ حسن التودد إِلَيْهَا أنْصر جند وَأقرب معِين مِمَّا وَردت بِهِ الْوَصِيَّة وتأكدت بِهِ الْعِنَايَة فَعَن بعض الْحُكَمَاء يَنْبَغِي للسُّلْطَان إِلَّا يتَّخذ الرّعية مَالا وقنية فَيَكُونُوا عَلَيْهِ بلَاء وفتنة وَلَكِن يتخذهم أَهلا وإخوانا يَكُونُوا لَهُ جندا وأعوانا قَالَ الطرطوشي وَقد سبق الْمثل إصْلَاح الرّعية خير من كَثْرَة الْجنُود الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن الْخِصَال الَّتِي تذم الرّعية بهَا السُّلْطَان وَاجِب عَلَيْهِ التحفظ مِنْهَا جهده فَعَن حَكِيم الْفرس معينا مِنْهَا مَا تهم الْعِنَايَة بإيفائه ذمّ الرّعية للْملك من ثَلَاثَة أوجه إِمَّا كريم قصر بِهِ عَن قدره فأورثه ذَلِك ضعفا وَإِمَّا لئيم بلغ بِهِ فَوق قدره فأورثه ذَلِك بطرا وَإِمَّا رجل منع حَظه من الْإِنْصَاف

المسألة السادسة

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن ذمّ الرّعية للسُّلْطَان مَعَ وفائه بِمَا يصلحها وينفس عَنهُ من كرب مَا يجد من ذَلِك علمه أَنه لَيْسَ بالإله وَإِذ ذَاك فَلَا يطْمع أَن يصفو لَهُ من الْمَخْلُوق مَا لَا يصفو لخالقهم الْمُنعم عَلَيْهِم إيجادا وإمدادا إِذْ بعد ذَلِك مَا قدروه حق قدره وَلَا وصفوه بِمَا يجب لَهُ وَلَقَد قَالَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آلهي أَسأَلك أَن لَا يُقَال فِي مَا لَيْسَ فِي فَأوحى الله إِلَيْهِ ذَلِك شَيْء مَا فعلته لنَفْسي فَكيف افعله بك 3 قَالَ الطرطوشي وَفِي هَذَا عِبْرَة لمن اعْتبر ورضى النَّاس غَايَة لَا تدْرك فِي الله تَعَالَى أُسْوَة انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن من الْوَاجِب على السُّلْطَان شرعا وسياسة اكتفاءه بِظَاهِر الطَّاعَة من غير تنفير عَن حَقِيقَة بَاطِنهَا فَفِي الحَدِيث هلا شققت عَن قلبه إنكارا على من لم يكتف بِظَاهِر طَاعَته وَفِي العهود من حق الرّعية على السُّلْطَان حسن الْقبُول الظَّاهِر طاعتها وإضرابه صفحا عَن مكاشفتها كَمَا قَالَ زِيَاد لما قدم الْعرَاق يَا أَيهَا النَّاس إِنَّه قد كَانَت بيني وَبَين قوم أحن فَجعلت ذَلِك دبر أُذُنِي وَتَحْت قدمي فَمن كَانَ محسنا فليزدد فِي إحسانه وَمن كَانَ مسيئا فلينزع عَن إسائته إِنِّي لَو علمت أَن أحدكُم قَتله السل من بغضي لم أكشف لَهُ قناعا وَلم أهتك لَهُ سترا حَتَّى تبدو لي صفحته

المسألة الثامنة

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة إِن الْمعرفَة بأقسام النَّاس وَمَا يُقَابل بِهِ طبقاتهم فِيمَا يتَأَكَّد على السُّلْطَان المعتني بِهَذِهِ السياسة وَقد قسموا ثَلَاثَة اقسام أَحدهَا الْكَرِيم الْفَاضِل وسياسته بترفيعه وإنصافه إِذْ هُوَ مَأْمُون إِذا شبع وَقدر ومخوف إِذا جَاع وقهر وَلَا يزِيد مَعَ الرّفْعَة إِلَّا تواضعا الثَّانِي اللَّئِيم السافل وَضَبطه بِوَضْعِهِ وحرمانه إِذْ هُوَ على عكس الأول قلت وَفِي الأفلاطونيات اتَّقوا صولة الْكَرِيم إِذا جَاع وبطش الخسيس إِذْ شبع (إِذا أَنْت أكرمت الْكَرِيم ملكته ... وَإِن أَنْت أكرمت اللَّئِيم تمردا) الثَّالِث الْمُتَوَسّط ورعايته بمزج الرَّغْبَة بالرهبة ومقابلة الْإِكْرَام بالإهانة إِذْ هُوَ مُطِيع خوفًا وَطَمَعًا وَالْحَاصِل أَن إهانة الْكَرِيم فتح لباب ضرّ وإكرام اللَّئِيم اقْتِضَاء لمزيد شَرّ ومعاملة الْمُتَوَسّط بِأحد الطَّرفَيْنِ يخل بالطرف الآخر الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَن الَّذِي تسهل بِهِ صُحْبَة الْخلق إِنْزَال غير المعتدل مِنْهُم منزلَة الْحَيَوَان الْمُشبه لَهُ فِي الْخلق ليلحق بِهِ فِي الْمُعَامَلَة كالطاغي

المسألة العاشرة

بالنمور والهجوم على الْأَعْرَاض بالكلاب والخبيث الْمَكْر بالثعاليب والمرائي لاقتناص الدُّنْيَا بِالدّينِ بالذئاب قَالَ الشَّاعِر (ذِئْب ترَاهُ مُصَليا ... فَإِذا مَرَرْت بِهِ ركع) (يَدْعُو وَجل دُعَائِهِ ... مَا للفريسة لَا تقع) (عجل بهَا يَا ذَا العلى ... إِن الْفُؤَاد قد انصدع) قَالَ الطرطوشي ولعمر الله مَا استقامت لي صُحْبَة النَّاس واسترحت من مكابدة أَخْلَاقهم إِلَّا مُنْذُ سرت مَعَهم بِهَذِهِ السِّيرَة قلت وشهود النَّفْع بهَا جَعلتهَا السِّيرَة الَّتِي يصلح عَلَيْهَا الْأَمِير والمأمور ويستريح بهَا الرئيس والمرؤوس وتسهل بهَا صُحْبَة الْخَلَائق أَجْمَعِينَ قلت سبقه الْخطابِيّ بِهَذَا الْمَعْنى بعد أَن نقل أَصله عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة إِن الْعِنَايَة باستدعاء الْمعرفَة بأحوال من يسوسه السُّلْطَان من خَاص وعام من الْوَظَائِف اللَّازِمَة ظهورا واحتجابا كَمَا سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَعند ذَلِك فلتكن فِي هَذَا الْمقَام على بَال مِنْهُ وتذكر لتجديد مَا يُؤَكد وجوب الْوَفَاء بهما عَلَيْهِ لما سبقت الْإِشَارَة غليه فَقَط

شهادة عيان

قَالَ الجاحظ من أَخْلَاق الْملك الْبَحْث عَن سَائِر خاصته وعامته وإذكاء الْعُيُون عَلَيْهِم خَاصَّة وعَلى الرّعية عَامَّة وَلَا يكون شَيْء أهم وَلَا أكبر فِي سياسة وانتظام ملكه من الفحص عَن ذَلِك وَمَتى غفل عَنهُ فَلَيْسَ لَهُ من التَّسْمِيَة بِالْملكِ الَّذِي مَعْنَاهُ مُبَالغَة فِي الرِّعَايَة بذلك إِلَّا مُجَرّد الذّكر فَقَط انْتهى ملخص حَاصله ثمَّ استظهر على قَوْله بأمرين أَحدهمَا أَن الرّعية لَا تسكن قلوبها بجلالة ملكهَا وَلَو عبدته الْجِنّ والأنس ودانت لَهُ مُلُوك الْأُمَم حَتَّى يكون أعلم النَّاس بأفاعيلها وَأكْثر بحثا عَن أسرارها من الْمَزِيد عَن حركاته وسكونه الثَّانِي انه يُقَال أَن الْملك لتطول مدَّته إِذا كَانَت فِيهِ أَربع خِصَال أَلا يرضى للرعية إِلَّا مَا يرضاه لنَفسِهِ وَأَن لَا يسوف عملا يخَاف عاقبته وَأَن يَجْعَل ولي عَهده من ترضاه رعاياه لَا لأمر تهواه نَفسه وان يفحص عَن الرّعية فحص الْمُرضعَة عَن مَنَام رضيعها شَهَادَة عيان وَقد تَجِد مصداق هَذَا وَيشْهد لَهُ أَنا لم نر مُدَّة طَالَتْ لملك عَرَبِيّ وعجمي وَلَا عجمي إِلَّا لمن فحص فِيهَا عَن الْأَسْرَار وَبحث عَن خَفِي الْأَخْبَار حَتَّى يكون من أُمُور رَعيته على مثل وضح النَّهَار قلت وَقد تقدم قَول من سُئِلَ عَن سَبَب ذهَاب ملكه أَن أعظمها استتار الْأَخْبَار عَنْهُم

الجملة الثانية

الْجُمْلَة الثَّانِيَة اقْتِضَاء الْحق الْوَاجِب للسُّلْطَان على الرّعية وَهُوَ نَوْعَانِ امْتِثَال مَا وَجب فعله وَاجْتنَاب مَا وَجب تَركه النَّوْع الأول وَهُوَ جملَة حُقُوق الْحق الأول الطَّاعَة وَقد سبق أَنَّهَا من أعظم الْوَاجِبَات الدِّينِيَّة وَالْغَرَض الْآن التَّنْبِيه على فَوَائِد الْفَائِدَة الأولى أَنَّهَا الْخصْلَة الَّتِي يعز بهَا السُّلْطَان وَتظهر بهَا صُورَة ملكه قَالَ ملك فَارس لبَعض الْحُكَمَاء مَا شَيْء وَاحِد يعز بِهِ السُّلْطَان قَالَ الطَّاعَة قَالَ فَمَا ملاك الطَّاعَة قَالَ التودد إِلَى الْخَاصَّة وَالْعدْل على الْعَامَّة قَالَ صدقت الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَنَّهَا على أوجه على الرَّغْبَة والمحبة والرهبة والديانة قَالَ وَطَاعَة الْمحبَّة أفضل من طَاعَة الرَّغْبَة والرهبة قلت وَطَاعَة الديانَات أفضل من الْجَمِيع وَمن مُوجبه مَا سبق أَن الدعْوَة الدِّينِيَّة تزيد الدولة قُوَّة واقتدارا الْفَائِدَة الثَّالِثَة أَن النَّاس بهَا أهل الدّين وذوو النعم قَالَ الطرطوشي لِأَن بهَا يُقَام الدّين وَتحفظ النعم قلت كَمَا يحْكى عَن الإِمَام أبي حنيفَة رَحمَه الله انه لما مَنعه الْوَالِي من الْفتيا كَانَ يَوْمًا فِي بَيته وَمَعَهُ زَوجته وَابْنه فَقَالَت لَهُ ابْنَته إِنِّي صَائِمَة وَقد خرج من بَين أسناني الدَّم وبصقته حَتَّى عَاد الرِّيق أَبيض لَا يظْهر عَلَيْهِ

الحق الثاني

أثر الدَّم فَهَل أفطر إِذا ابتلعت الْآن الرِّيق فَقَالَ لَهَا سَلِي أَخَاك حمادا فَإِن الْأَمِير مَنَعَنِي من الْفتيا الْحق الثَّانِي النَّصِيحَة لَهُ فَفِي العقد نصح الإِمَام وَلُزُوم طَاعَته فرض وَاجِب وَأمر لَازم لَا يتم الْإِيمَان إِلَّا بِهِ وَلَا يثبت الْإِسْلَام إِلَّا عَلَيْهِ قلت وَقد سبق فِي الْكَلَام عَلَيْهَا إِنَّهَا فِي حق الْأَئِمَّة بِالصبرِ على أذاهم إِذا لم يعدلُوا والتنبيه لَهُم إِذا غفلوا وَترك الثَّنَاء عَلَيْهِم بِمَا لَيْسَ فيهم وَالدُّعَاء لَهُم بالصلاح عِنْد فسادهم تحذير من الْخَوْف مِنْهُ فِي إِظْهَار نقيضها وَهُوَ الْغِشّ ظُهُوره بالعلامة الدَّالَّة عَلَيْهِ كَمَا يحْكى أَن الْمَنْصُور خطب فَقَالَ معاشر النَّاس لَا تضمروا غش الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ من أضمر ذَلِك أظهره الله على سقطات لِسَانه وفلتات أَحْوَاله وسحنة وَجهه قَالَ ابْن رضوَان وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلهم الْعين ترجمان الْقلب وَقَوْلهمْ

الحق الثالث

شَاهد البغض اللحظ وَقَوْلهمْ رب طرف أنم من لِسَان الْحق الثَّالِث تَمْكِينه من التَّصَرُّف فِي الْحُقُوق الْمَالِيَّة إِذا عدل فِيهَا كَمَا نَص عَلَيْهِ مَالك رَحمَه الله فِي دفع الزَّكَاة إِلَيْهِ وَإِن لم يعدل قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَالشَّيْخ عز الدّين لَا يُمكنهُ مِنْهَا من قدر على صرفهَا لمستحقيها استخراجا لَهَا من يَده الغاضبة قَالَ الشَّيْخ عز الدّين وَقد خير بعض الْفُقَهَاء فِيهِ بَين الصّرْف لَهَا فِي مصارفها وحفظها إِلَى أَن يَلِي من هُوَ أهل قَالَ وَيَنْبَغِي تقيده بِمَا إِذا توقع ظُهُور إِمَام عَادل وَأما مَعَ الْيَأْس مِنْهُ فَيتَعَيَّن صرفهَا فِي مصارفها على الْفَوْر لما فِي إيقافها من الضَّرَر بهَا وحرمانها لمستحقها لَا سِيمَا إِن مست الْحَاجة إِلَيْهَا انْتهى مُلَخصا إنصاف من الْوَفَاء بتمكين الْحُقُوق الْمَالِيَّة للسُّلْطَان عِنْد ارتضاء تصرفه مَا يحْكى أَن كسْرَى اجتاز على بُسْتَان فَقَالَ للناطور ناولني عنقودا من حصرم فَقَالَ لَهُ مَا يمكنني ذَلِك فَإِن السُّلْطَان لم يَأْخُذ حَقه وَلَا يجوز لي خيانته الْحق الرَّابِع معونته بِمَا يُقَابل بِهِ الضرار الفادحة عِنْد نَفاذ بَيت المَال أما على الدَّوَام فقد تقدم جَوَاز ذَلِك عِنْد الْغَزالِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ وَأما بِمِقْدَار الضَّرُورَة الوقتية فَأولى بِالْجَوَازِ

الحق الخامس

قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ مَا ملخصه عِنْد قَوْله تَعَالَى {فَهَل نجْعَل لَك خرجا} فرض على الْملك قِيَامه بحماية الْخلق فِي حفظ بيضتهم وسد ثغورهم من بَيت مَالهم وَإِذا نفذ جبر ذَلِك من أَمْوَالهم بِشُرُوط أَن لَا يستأثر عَلَيْهِم بِشَيْء وَأَن يبْدَأ بذوي الْحَاجَات وَأَن يسوى بَينهم فِي الْعَطاء على حسب مَنَازِلهمْ وَإِذا عرض بعد ذَلِك مَا لَا يَفِي بِهِ الْمَأْخُوذ مِنْهُم بذلوا أنفسهم وَأَمْوَالهمْ فَإِن لم يغن ذَلِك أخذت مِنْهُم أَمْوَالهم بِمِقْدَار الْحَاجة قَالَ وَالضَّابِط أَنه لَا يحل أَخذ مَال أحد إِلَّا لضَرُورَة فَيُؤْخَذ جَهرا وَقد تقدم لاسرا وَينْفق بِالْعَدْلِ لَا بالاستئثار وبرأي الْجَمَاعَة لَا بالاستبداد انْتهى الْحق الْخَامِس الدُّعَاء لَهُ وَقد تقدم مَا يدل على تأكده عِنْد الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الْخطْبَة وَالْقَصْد ألان الْإِشَارَة لأمور الْإِشَارَة الأولى أَن لمَكَان الْعِنَايَة بِهِ تردد التحضيض عَلَيْهِ سلفا وخلفا قَالَ الطرطوشي من المروى عَن السّلف لَو كَانَت لنا دَعْوَة صَالِحَة

الإشارة الثانية

مستجابة مَا جعلناها إِلَّا فِي السُّلْطَان وَعَن الفضيل بن عِيَاض لَو ظَفرت بِبَيْت المَال لأخذت من حَلَاله وصنعت أطيب الطَّعَام ثمَّ دَعَوْت الصَّالِحين وَأهل الْفضل فَإِذا فرغوا قلت لَهُم تَعَالَوْا نَدع الله أَن يوفق أميرنا وَسَائِر من يَلِي علينا وَجعل إِلَيْهِ أمرنَا وروى عَنهُ أَن رجلا أنْشدهُ (حَتَّى مَتى لَا أرى عدلا أسر بِهِ ... وَلَا أرى لدعاء الْخَيْر أعوانا) فَبكى وَقَالَ اللَّهُمَّ أصلح الرَّاعِي والرعية الْإِشَارَة الثَّانِيَة الْإِشَارَة الثَّانِيَة أَن الْأَوْقَات الَّتِي هِيَ مَظَنَّة الْإِجَابَة يتَأَكَّد فِيهَا الدُّعَاء لَهُ وَقد قَالَ النَّوَوِيّ فِي لَيْلَة الْقدر يسْتَحبّ أَن يكثر فِيهَا من الدُّعَاء لمهمات الْمُسلمين فَهُوَ شعار الصَّالِحين وَعباد الله العارفين انْتهى وَلَا خَفَاء أَن الدُّعَاء لَهُ بالصلاح من أهم الْمُهِمَّات على الْمُسلمين لصلاحهم بصلاحه الْإِشَارَة الثَّالِثَة الْإِشَارَة الثَّالِثَة أَن من أعظم الْوَسَائِل فِي قَول الدُّعَاء لَهُ عمله على شاكلة مَا طلب مِنْهُ امتثالا واجتنابا كَمَا يحْكى عَن السُّلْطَان أبي يحيى من الْمُلُوك

الحفصيين أَنه دخل على زَاوِيَة الشَّيْخ الزبيدِيّ ليتبرك بِهِ فَلم يجده وَوجد ابْن أَخِيه الْفَقِيه الإِمَام بهَا فَقيل لَهُ قد غَابَ عمك فباشر أَنْت السُّلْطَان فَلَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان أدع الله لي فَقَالَ وَمَا عَسى دعائي لَك قد سبقت لَك دَعْوَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر حَدِيث اللَّهُمَّ من ولي أَمر أمتِي شَيْئا فرفق بهم فأرفق بِهِ وَمن ولي أَمر أمتِي شَيْئا فشق عَلَيْهِم فاشقق عَلَيْهِ وكما يحْكى عَن بعض الْمُلُوك أَنه طلب من بعض الصَّالِحين أَن يَدْعُو لَهُ فَقَالَ وَمَا ينفع دعائي لَك وببابك أعداد من المظلومين يدعونَ الله عَلَيْك فَأَي الدُّعَاء أولى بالإجابة النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ جملَة مخالفات الْمُخَالفَة الأولى الْخُرُوج عَلَيْهِ لما سبق أَن الصَّبْر عَلَيْهِ إِذا جَار من فروض الدّين وَأُمَّهَات واجباته وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رأى من أميره شَيْئا يكرههُ فليصبر عَلَيْهِ قَالَ الأبي هُوَ نَص فِي عدم الْقيام على الْأُمَرَاء قلت وَلَا يخفى مَا يشْهد لَهُ مَعَ وضوح الْمَعْنى فِيهِ فرع قَالَ فَانْظُر أَشْيَاخ الْبِلَاد المنحازين لأَنْفُسِهِمْ كَانَ الشَّيْخ يَقُول يَعْنِي ابْن عَرَفَة غايتهم عصاة لأَنهم لم يشقوا عَصَاهُ

قَالَ وَإِذا دَعَا الإِمَام إِلَى قِتَالهمْ فَإِن كَانَ لإِقَامَة حق وَجب طَاعَته وَألا لم تجب الْمُخَالفَة الثَّانِيَة الطعْن عَلَيْهِ وَذَلِكَ لأمرين أَحدهَا أَنه خلاف مَا يجب لَهُ من التجلة والتعظيم فقد قيل من إجلال الله إجلال السُّلْطَان عادلا كَانَ أَو جائرا وَمن كَلَام الصاحب بن عباد تهيب السُّلْطَان فرض أكيد وحتم على من ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد الثَّانِي أَن الِاشْتِغَال بِهِ سَبَب تسليط السُّلْطَان بِهِ جَزَاء على الْمُخَالفَة بذلك فَفِي بعض الْكتب السوالف ذكره الطرطوشي والزمخشري أَن الله تَعَالَى يَقُول إِنَّنِي أَنا الله ملك الْمُلُوك قُلُوب الْمُلُوك بيَدي فَمن أَطَاعَنِي جعلتهم عَلَيْهِ نعْمَة وَمن عَصَانِي جعلتهم عَلَيْهِ نقمة فَلَا تشتغلوا بِسَبَب الْمُلُوك وَلَكِن تُوبُوا غلي أعطفهم عَلَيْكُم الْمُخَالفَة الثَّالِثَة الافتيات عَلَيْهِ فِي التَّعْرِيض لكل مَا هُوَ مَنُوط بِهِ وَمن أعظمه فَسَادًا تَغْيِير الْمُنكر بِالْقدرِ الَّذِي لَا يَلِيق إِلَّا بالسلطان لما فِي السَّمْح بِهِ والتجاوز بِهِ إِلَى التَّغْيِير عَلَيْهِ وَقد سبق أَن من السياسة تَعْجِيل الْأَخْذ على يَد من يتشوق لذَلِك وَتظهر مِنْهُ مبادئ الِاسْتِظْهَار بِهِ وَإِن كَانَ لَا ينجح لَهُ سعي وَلَا يتم لَهُ غَرَض لما تقدم أَن الْملك الراسخ الْبناء لَا تهدمه إِلَّا الْمُطَالبَة لَهُ بالعصية الْغَالِبَة وَمن ثمَّ قَالَ الْخَوَارِزْمِيّ قَلِيل السُّلْطَان كثير

ومداراته حزم وتدبير ومكاشفته غرور وتغرير قلت وَرُبمَا يعرض لغرر هَذِه المكاشفة من تظن فِيهِ النِّيَّة الصَّالِحَة من ذَوي الديانَات الْمُعْتَبرَة فأخفق فِيهَا السَّعْي لفَوَات الْقُدْرَة المقاومة وَمن الْمَشْهُور فِي ذَلِك قصتان الْقِصَّة الأولى خُرُوج أهل الْعرَاق على عبد الْملك بن مَرْوَان مَعَ ابْن الْأَشْعَث وَفِي جُمْلَتهمْ أعداد من التَّابِعين كسعيد بن جُبَير وَأَمْثَاله فَكَانَ من هزيمَة الْحجَّاج لَهُم بدير الجماجم واستيلائه عَلَيْهِم مَا هُوَ مَعْرُوف الْقِصَّة الثَّالِثَة قيام أهل القيروان على الشِّيعَة من بني عبيد مَعَ أبي يزِيد مَخَافَة بدعته بِاعْتِبَار ضلالهم وَكَانُوا اثْنَي عشر ألفا فيهم اثْنَا عشر فَقِيها من جلة خيارهم وصلحائهم فَكَانَ أَيْضا من خِيَانَة أبي يزِيد لَهُم وتخلفهم هِنْد بعد قتل كثير مِنْهُم مَا هُوَ مَعْلُوم

الْمُخَالفَة الرَّابِعَة كتم مَا يجب أَن يعلم بِهِ مِمَّا فِيهِ مصلحَة فقد تقدم عَن النَّوَوِيّ أَن التَّعْرِيف بذلك للْإِمَام لَا منع فِيهِ وَأَنه قد يكون وَاجِبا أَو مُسْتَحبا حَتَّى عَن إِنْسَان معِين أَنه يرتكب كَذَا وَكَذَا من الْمُنْكَرَات ليستعان بذلك على التَّغْيِير عَلَيْهِ قلت وَمن شَوَاهِد الْعَمَل بذلك مَعَ وضوح دَلِيله أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قيل لَهُ أَن أَبَا جندل قد تتَابع فِي شرب الْخمر فِي الشَّام فَكتب إِلَيْهِ يعظه وَلم يعد ذَلِك غيبَة مُحرمَة وَلَا نميمة مذمومة فَائِدَتَانِ إِحْدَاهمَا قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سعيد وَمن خطّ صَاحبه الإِمَام أبي إِسْحَاق الشاطبي رَحمَه الله نقلت لهَذَا الْوَجْه يَعْنِي الِاسْتِعَانَة على تَغْيِير الْمُنكر

بالتعريف بِهِ شُرُوط خَمْسَة أَن يكون الْقَصْد صَحِيحا يَعْنِي بالاستعانة على التَّغْيِير وان يعلم الرافع بذلك أَو يغلب على ظَنّه أَن نصحه وَحده وَنَهْيه لَا ينفع وان يعلم أَو يغلب على ظَنّه الِانْتِفَاع بنصح الْمَرْفُوع إِلَيْهِ أَو تَغْيِيره لقدرته عَلَيْهِ وان يكون الْمَرْفُوع إِلَيْهِ لَا يُغير ذَلِك الْمُنكر بمنكر آخر يرتكبه وان يكون الذاكر لذَلِك قد علمه من الْمَذْكُور يَقِينا لَا بِظَنّ أَو بتهمة الْفَائِدَة الثَّانِيَة لِلْمَرْفُوعِ عَنهُ حالتان الْحَالة الأولى التستر والاختفاء وَحكم الْمَرْفُوع إِلَيْهِ مَعَه ستره ووعظه كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ الْحَالة الثَّانِيَة المجاهرة والإعلان وَحكمه الْكَشْف عَنهُ أَن رَآهُ أردع لَهُ ولأمثاله ذكره ابْن حبيب عَن مطرف وَزَاد فِيهِ أَن لَهُ أَن يُخرجهُ عَن بَيته وَيكسر عَلَيْهِ إِن كَانَ لَهُ الْمُخَالفَة الْخَامِسَة الدُّعَاء عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مضرَّة للْمُسلمين فَإِن كَانَ مَعَ ذَلِك بِمَا يزِيد حكما لأَجله توجه بِهِ الدَّاعِي فَهُوَ لَا محَالة عكس الْمَقْصُود كَمَا إِذا قَالَ مظلومه اللَّهُمَّ لَا توفقه فقد دَعَا على نَفسه وَغَيره قَالَ الطرطوشي لِأَنَّهُ من قلَّة توفيقه ظلمك فَإِن استجيبت لَك فِيهِ زَاد ظلمه لَك

السياسة الثانية

السياسة الثَّانِيَة سياسة الْأُمُور الْعَارِضَة وَالْمَذْكُور مِنْهَا الْجِهَاد وَالسّفر والشدائد النَّازِلَة والرسالة والوفود الْعَارِض الأول الْجِهَاد وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ ابْن الْحَاج الْجِهَاد فِيهِ فضل كثير جَاءَ بِهِ الْكتاب الْعَزِيز والْحَدِيث الصَّحِيح وَلَكِن يَنْبَغِي للمجاهد أَن لَا يدْخل فِيهِ حَتَّى يسْأَل أهل الْعلم عَمَّا يلْزم فِيهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طلب الْعلم فَرِيضَة على كل مُسلم أَي مَا وَجب عمله وَجب الْعلم بِهِ قَالَه الْمُحَقِّقُونَ وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل لامرئ مُسلم أَن يقدم على أَمر حَتَّى يعلم حكم الله فِيهِ قلت وَقد نقل الْإِجْمَاع على أَن الْمُكَلف لَا يدْخل فِي عمل إِلَّا بعد أَن يعلم حكم الله فِيهِ وَالْجهَاد من جملَة ذَلِك

المسألة الثانية

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن النَّصْر فِيهِ إِنَّمَا يحصل بِإِقَامَة الدّين الَّذِي شرع لإعلاء كلمة التَّوْحِيد قَالَ تَعَالَى {إِن تنصرُوا الله ينصركم وَيثبت أقدامكم} قَالُوا نصر العَبْد لرَبه بامتثال أمره وَاجْتنَاب نَهْيه فَإِذا فعل ذَلِك كَانَ سَببا لنصر الله لَهُ قَالَ ابْن المناصف من جَاهد عَن الدّين أَحَق النَّاس بِالْقيامِ بأحكامه والفصل بَين حَلَاله وَحَرَامه وَقد كَانَ أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ يَقُول يَا أَيهَا النَّاس اعْمَلُوا صَالحا قبل الْغَزْو فَإِنَّمَا تقاتلون بأعمالكم قَالَ وَهَذَا مَعْلُوم من دين الْإِسْلَام وَسنة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن الْمُحَافظَة فِيهِ على الصَّلَاة من أهم مَا يتَقَدَّم من عمل صَالح ويستصحب فِيهِ لوجوه أَحدهَا النَّهْي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر والفرار من الزَّحْف من أفحش الْفَحْشَاء وَأنكر الْمُنكر فتنهى عَنهُ لَا محَالة أَن من خواصها تَقْوِيَة الْقُلُوب وتنشيط الْجَوَارِح واستدعاء ريح النَّصْر بِدلَالَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتحَرَّى اللِّقَاء بعد صَلَاة الظّهْر حِين تتحرك الْأَرْوَاح الثَّالِث أَنَّهَا مَحل الْمُنَاجَاة المستلزمة للقرب اقْربْ مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد وَمن قرب من مَوْلَاهُ هان عَلَيْهِ مَا سواهُ كَانَ الشَّافِعِي يَقُول الصَّلَاة انْفِصَال واتصال فَمن انْفَصل بهَا عَمَّا سوى الله اتَّصل بهَا بِاللَّه

المسألة الرابعة

الرَّابِع أَنَّهَا عماد الدّين وشعار للْمُسلمين فعلَيْهَا يحامي وعنها يدافع وَعند ذَلِك فَإِن أخل بهَا تركا أَو جهلا بهَا شرطا أَو أَدَاء فَلَا يَخْلُو أَن يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْجِهَاد أَولا وَهِي الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة فَإِن لم يتَعَيَّن قَالَ ابْن الْحَاج فَتَركه أولى بِهِ بل أوجب وَإِن تعين عَصا وعد مُجَاهدًا قَالَ وَهَذِه مَسْأَلَة قد عَمت بهَا الْبلوى فترى من يخرج إِلَى الْجِهَاد وغالبهم لَا يعْرفُونَ فقه الصَّلَاة وَيَحْسبُونَ أَنهم فِي طَاعَة الله وَقد وَقَعُوا فِي مخالفات جملَة كَمَا يُشَاهد من تَقْصِير كثير من الْحجَّاج فِي معرفَة مَا يَلِيق بهم مَعَ إِخْرَاج الصَّلَاة عَن وَقتهَا وَلَا قَائِل فِي الْمُسلمين بِجَوَاز ذَلِك إِلَّا لعذر شَرْعِي انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن جور الْوُلَاة لَا يسْقط الطّلب بِالْجِهَادِ فَفِي الرسَالَة وَيُقَاتل الْعَدو مَعَ كل بر وَفَاجِر من الْوُلَاة والقواد والنقول عَن السّلف شاهدة بذلك وَإِلَيْهِ رَجَعَ مَالك رَحمَه الله قَائِلا لَو ترك كَانَ ضَرَرا على الْإِسْلَام يَعْنِي وَهُوَ أعظم من ضَرَر إعانتهم على الْجور بِالْجِهَادِ مَعَهم وَإِذا اجْتمع ضرران نفي أصغرهما قَالَ ابْن حبيب وَقَالَهُ الصَّحَابَة حِين أدركوا من الظُّلم مَا أدركوا فكلهم قَالَ أغز على حظك من الْآخِرَة وَلَا تفعل مَا يَفْعَلُونَ من فَسَاد وخيانة وَغُلُول قلت وَنقل عَن الإِمَام أَحْمد أَنه احْتج لذَلِك بِحَدِيث إِن الله ليؤيد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر

المسألة السادسة

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ ابْن عَرَفَة عَن عَاصِم بن عبد الْبر فرض على الإِمَام اغزاء طَائِفَة الْعَدو وَيخرج بهاهو أَو منيثق بِهِ وَفرض على النَّاس فِي أَمْوَالهم وأنفسهم الْخُرُوج الْمَذْكُور لَا خُرُوجهمْ كَافَّة والنافلة مِنْهُ إِخْرَاج طَائِفَة بعد أُخْرَى وَبعث السَّرَايَا وَقت الْغرَّة والفرصة زَاد ابْن شَاس عَنهُ وعَلى الإِمَام رعي النصفة فِي المناوبة بَين النَّاس قَالَ وعزي القرا فِي ذَلِك لعبد الْملك الْمَسْأَلَة السَّابِعَة قَالَ ابْن المناصف يجب امْتِثَال أَمر الإِمَام أَو أَمِير الْعَسْكَر أَو قَائِد الْجَمَاعَة وان لَا يُخَالف فِي شَيْء مِمَّا وَافق سنة فِي عمل أَو تَدْبِير أَو حِيلَة أَو مكيدة أَو بعث طَلِيعَة أَو سَرِيَّة أَو رائد أَو حراسة لجَانب أَو كمين أَو غَارة تَجْرِيد جَرِيدَة لشغل بِجِهَة أَو طلب قوت أَو غنيمَة وَشبه ذَلِك قلت وَسَوَاء علم وَجه مَا أَمر بِهِ أَو نهى قَالَه سَحْنُون قَالَ ابْن عَرَفَة يُرِيد إِذا كَانَ عدلا

المسألة الثامنة

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة قَالَ سَحْنُون وَاللَّفْظ لِابْنِ عَرَفَة الْإِمَارَة فِي الْحَرْب غير الْإِمَارَة فِي غَيره إِنَّمَا يقدم فِيهِ الإِمَام الْعَالم بهَا مَعَ الْفضل وَلَا ينظر فِي نسبه هَل هُوَ عَرَبِيّ أَو مولى وَقد يقدم فِيهَا الْأَدْنَى فضلا عَن الْأَفْضَل لفضل عمله قلت فِي قَوَاعِد عز الدّين الضَّابِط فِي الولايات كلهَا تَقْدِيم الْأَقْوَى لجلب مصالحها ودرء مفاسدها فَيقدم الْأَقْوَى بأركانها وشرائطها على الْأَقْوَى بسننها وآدابها الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة لَا يحْتَاج فِي الْجِهَاد إِلَى اسْتِئْذَان السُّلْطَان إِلَّا فِي خُرُوج جَيش أَو جمع وافر وَقد سهل مَالك لمن قرب من الْعَدو وَبعد عَن الإِمَام أَن يغتنموا مَا يَجدونَ من فرْصَة فِيهِ فَأَما سَرِيَّة الْخُرُوج من عَسْكَر فَلَا قَالَ عبد الْملك وهم عاصون خَرجُوا ببدعة وَرَغبُوا عَن سنة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأَئِمَّة بعده وَلَا أرى أَن ينفلوا ويؤدبون على قدر أَحْوَالهم بِمَا يرَاهُ الإِمَام الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة جِهَاد من عدا الْكفَّار من بَاغ ومرتد ومحارب ولص جِهَاد مُعْتَبر فَفِي الْمُدَوَّنَة جِهَاد الْمُحَاربين جِهَاد وروى أَشهب من أفضل الْجِهَاد وأعظمه أجرا قَالَ ابْن عبد السَّلَام وَلَا شكّ فِي أَنه جِهَاد وَإِنَّمَا الْخلاف هَل لَهُ مزية على جِهَاد الْكفَّار أم لَا فَظَاهر قَول أهل الْمَذْهَب لَا مزية لَهُ قلت وَصرح ابْن نَاجِي أَنه الْمَشْهُور قَالَ ابْن عبد السَّلَام قَالَ

المسألة الحادية عشرة

ابْن شعْبَان جِهَاد الْمُحَاربين أفضل من جِهَاد الْكفَّار قَالَ وَهُوَ الظَّاهِر أَنه رفع فَسَاد وَاقع بَين الْمُسلمين الْمُؤَدِّي إِلَى ضعفهم وتغيير كثير من أحكامهم والبداية بإزالته أولى من الِاشْتِغَال بِرَفْع أَذَى مُنْفَصِل عَنْهُم قلت وَفِي نَوَازِل الْبُرْزُليّ أَن الْإِعْرَاب لما نزلُوا بتونس وهموا بإفساد كرومها ندب ابْن عَرَفَة النَّاس لقتالهم وَذكر لَهُم قَول مَالك وَمَا ورد فِي قتال الْمُحَاربين من الْفضل الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة الْجِهَاد البحري جِهَاد عَظِيم وَعَن الْحَنَابِلَة أفضل من جِهَاد الْبر لتردده بَين خطر الْجِهَاد وخطر الْبَحْر مَعَ عدم تمكنه من الْفِرَار إِلَّا مَعَ اصحابه قَالَ صَاحب مشارع الأشواق وَيَنْبَغِي أَن لَا يكون فِي هَذَا خلاف لما لَهُ من الْفَضَائِل الَّتِي لَيست للغزو فِي الْبر قلت وَقد اعتذر ابْن المناصف عَن منع عمر رَضِي الله عَنهُ ركُوبه فَإِن الْعَرَب إِذْ ذَاك لم تكن لَهَا علم بأحواله بعد استدلاله على فَضَائِل

المسألة الثانية عشرة

الْغَزْو فِيهِ بَان اسْم الرّكُوب يَشْمَلهُ ويعمه وَمعنى الفروسية يحويه ويضمه الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة قَالَ ابْن المناصف الْغلُول حرَام عدل الإِمَام أَو جَار فَإِن عدل أَخذ كل ذِي سهم سَهْمه طيبا وَإِن جَار وَحرم كَانَ للغازي أجر غَزوه وَأجر مَا حرم من سَهْمه إِن احتسب ذَلِك على الله وَطلب مِنْهُ الْعِوَض قلت فِي نَوَازِل الْبُرْزُليّ وَقعت الْفتيا فِيمَن لَا يتَوَصَّل بِحقِّهِ من الْغَنِيمَة أَنه يتحَرَّى عدد الْجَيْش وَيخرج الْخمس وَيقدر حَظه وَيَأْخُذهُ وكل مَا شكّ فِيهِ طَرحه وَذكر ذَلِك فِي مَوَاضِع فَرَاجعه من هُنَاكَ الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة خفر الْعَهْد مُوجب لتسليط الْعَدو كَمَا أَن ظُهُور الْغلُول فِي الْغُزَاة سَبَب فِي إِلْقَاء الرعب فِي قُلُوبهم لحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَا ظهر الْغلُول فِي قوم إِلَّا ألْقى الله الرعب فِي قُلُوبهم وَلَا فَشَا الزِّنَى فِي قوم قطّ إِلَّا كثر فيهم الْمَوْت وَلَا نقص قوم الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِلَّا قطع الله الرزق عَنْهُم وَلَا حكم قوم بِغَيْر حق إِلَّا فَشَا فيهم الدَّم وَلَا خفر قوم الْعَهْد إِلَّا سلط الله عَلَيْهِم الْعَدو وَقَالَ الْأَزْهَرِي الخفر أقبح الْغدر

المسألة الرابعة عشرة

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة إِذا ظهر الْغلُول علئ أَخذه فَلهُ ثَلَاثَة أَحْوَال أَحدهَا قبل أَن يَتُوب وأدبه لَا بُد مِنْهُ بِحَسب الِاجْتِهَاد وَعند ابْن حبيب يُعَاقب عُقُوبَة شَدِيدَة وَمَا غل إِن افترق الْجَيْش يتَصَدَّق بِهِ وَإِن لم يفْتَرق رد فِي الْمغنم وَهل يحرق رَحْله أنكرهُ مَالك وَقَالَ بِهِ جمَاعَة قَالَ سَحْنُون وَلَا بَأْس أَن يصلى عَلَيْهِ وَعَن أصبغ لَا يحرم سَهْمه الثَّانِيَة بعد التَّوْبَة ورد مَا غل قَالَ ابْن الْقَاسِم لَا يُؤَدب وَسمع مَالِكًا قَالَ مَا سَمِعت فِيهِ شَيْئا وَلَو عُوقِبَ كَانَ أَهلا الثَّالِثَة بعد الْقسم وافتراق الْجَيْش وأدبه لَا غنى عَنهُ عِنْد الْجَمِيع زجرا عَن الْمعْصِيَة وردعا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة قَالَ صَاحب مشارع الأشواق الْفِرَار من الزَّحْف حَيْثُ لَا يجوز من أعظم كَبَائِر الذُّنُوب بِإِجْمَاع وفاعله مُسْتَحقّ لغضب الله ومقته وأليم عَذَابه لما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اجتنبوا السَّبع الموبقات قيل يَا رَسُول الله وَمَا هِيَ قَالَ الشّرك بِاللَّه وَالسحر وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَأكل مَال الْيَتِيم وَأكل الرِّبَا والتهرب يَوْم الزَّحْف وَقذف الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ حكم الله فِي الْغَنِيمَة بِحكمِهِ وأنفذ فِيهَا سَابق علمه فَجعل خمسها للخمسة الْأَسْمَاء وَأبقى سائرها لمن غنمها من غير خلاف بَين الْأمة إِلَّا أَن يرى الإِمَام أَن يمن على الأسرى بِالْإِطْلَاقِ أَو بقتل

جَمِيعهم فَيبْطل حُقُوق الْغَانِمين نظرا للْمُسلمين أَو مصلحَة وَفسّر الْخَمْسَة الْأَسْمَاء بِمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَإِن لله خمسه الْآيَة قَالَ وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة ترى للرئيس من الْغَنِيمَة مَا قَالَ الشَّاعِر (لَك المرباع مِنْهَا والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفصول) فأحكم لله الدّين وَأبقى فيهم الصفى لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأسْقط حكم الْجَاهِلِيَّة وَمن أحسن من الله حكما وأوسع مِنْهُ علما انْتهى مُلَخصا من مَوَاضِع فِي كَلَامه

المسألة السابعة عشرة

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة عقد الصُّلْح والمهادنة مَعَ الْعَدو لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الإِمَام لمصْلحَة على غير شَرط فَاسد وَمَعَ فَوَاتهَا لَا يجوز وَإِن كَانَ على مَال فَفِي الْمُدَوَّنَة كره عُلَمَاؤُنَا المهادنة على أَن يُعْطِينَا أهل الْحَرْب مَالا كل عَام وَلَقَد طلب الطاغية ذَلِك إِلَى عبد الله هَارُون يَعْنِي الرشيد على أَن يعطوه مائَة ألف دِينَار كل عَام فَشَاور الْفُقَهَاء فَقَالُوا لَهُ الثغور الْيَوْم عامرة فِيهَا أهل البصائر أَكْثَرهم نازعون من الْبلدَانِ إِن انْقَطع عَنْهُم الْجِهَاد تفَرقُوا وخلت الثغور لِلْعَدو وَالَّذِي يُصِيب أهل الثغور مِنْهُم أَكثر من مائَة ألف فصوب ذَلِك وَرجع إِلَيْهِ الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة قَالَ الْمَازرِيّ وَاللَّفْظ لِابْنِ عَرَفَة لَا يهادن إِلَّا الْعد بإعطائه مَالا لِأَنَّهُ عكس مصلحَة شرع أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُم إِلَّا لضَرُورَة التَّخَلُّص مِنْهُم خوف استيلائهم على الْمُسلمين وَقد شاور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أحاطت الْقَبَائِل بِالْمَدِينَةِ

المسألة التاسعة عشرة

السيدين فِي أَن يبْذل للْمُشْرِكين ثلث الثِّمَار لما خَافَ أَن يكون الْأَنْصَار ملت الْقِتَال فَقَالَا إِن كَانَ هَذَا من الله سمعنَا وأطعنا وَإِن كَانَ رَأيا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا أكلُوا مِنْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة ثَمَرَة إِلَّا بشرَاء أَو قرى فَكيف وَقد أعزنا الله بِالْإِسْلَامِ فَلَمَّا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عزمهم على الْقِتَال ترك ذَلِك فَلَو لم يكن الْإِعْطَاء عِنْد الضَّرُورَة جَائِزا مَا شاور فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت ونقلوا عَن الْأَوْزَاعِيّ أَن عبد الْملك بن مَرْوَان يُؤَدِّي إِلَى الطاغية كل يَوْم ألف دِينَار وغلى قوم آخَرين كل يَوْم جُمُعَة ألف دِينَار وَذَلِكَ زمَان ابْن الزبير وَفعله مُعَاوِيَة أَيَّام صفّين الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة الْوَفَاء بالأمان وَاجِب ودلائله لَا تَنْحَصِر ثمَّ هُوَ ضَرْبَان عَام لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا السُّلْطَان كناحية مفتقرة أَو عدد لَا ينْحَصر وخاص كشخص بِعَيْنِه أَو عدد مَحْصُور فيعقده كل مُؤمن مُمَيّز حَتَّى العَبْد وَالْمَرْأَة وَالصَّبِيّ الْعَاقِل على خلاف لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُسلمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم وهم يَد على من سواهُم الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا لكم لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال} الْآيَة قَالَ عُلَمَاؤُنَا أوجب الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة

الْقِتَال لاستنقاذ الأسرى من يَد الْعَدو مَعَ مَا فِيهِ من تلف النَّفس فَكَانَ بذل المَال فِي فدائهم أوجب وَقد قَالَ مَالك رَضِي الله عَنهُ على النَّاس أَن يفدوا الْأُسَارَى بِجَمِيعِ أَمْوَالهم قلت قيد ذَلِك ابْن عَرَفَة بِمَا إِذا لم يخْش اسْتِيلَاء الْعَدو بذلك وَقرر فِي مَوضِع آخر وجوب استنقاذهم بِالْقِتَالِ وَالْفِدَاء قَائِلا بعد ذَلِك فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون على مَا حل بالخلق فِي تَركهم إخْوَانهمْ فِي أسر الْعَدو وبأيديهم خَزَائِن الْأَمْوَال وأصول الْأَحْوَال وَالْقُدْرَة وَالْعدَد وَالْقُوَّة وَالْجَلد حكايتان فِي ذَلِك فِي مثل الْعَمَل بمضمنها فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ الْحِكَايَة الأولى رُوِيَ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى الأسرى بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أما بعد فَإِنَّكُم تَعدونَ أَنفسكُم الْأُسَارَى ومعاذ الله بل أَنْتُم الحبساء فِي سَبِيل الله اعلموا أَنِّي لست أقسم بَين رعيتي إِلَّا خصصت أهلكم بِأَكْثَرَ من ذَلِك وأطيبه وَإِنِّي قد بعثت إِلَيْكُم فلَان بن فلَان بِخَمْسَة دَنَانِير وَلَوْلَا أَنِّي خشيت أَن يحبسها عَنْكُم طاغية الرّوم لزدتكم وَقد بعثت إِلَيْكُم فلَان بن فلَان يفادي صغيركم وكبيركم وذكركم وأنثاكم وحركم ومملوككم بِمَا يسْأَل مِنْهُ فأبشروا ثمَّ أَبْشِرُوا وَالسَّلَام الْحِكَايَة الثَّانِيَة ذكر أَن الْمَنْصُور بن أبي عَامر فصل فِي بعض غَزَوَاته فِي مَكَان ضيق بَين جبلين لَا يجوزه إِلَّا فَارس بعد فَارس وَاجْتمعت الرّوم فِي أُمَم لَا تحصى ومسكوا لَهُ مَوضِع الْخُرُوج فَلَمَّا علم بذلك أَمر بِرَفْع الأخبية وان تبنى الدّور واختط لنَفسِهِ قصرا وَأمر سَائِر خواصه بذلك

وَكتب إِلَى نوابه إِنِّي لما رَأَيْت هَذِه الْبِلَاد استقصرت رَأْي من سلف من الْمُلُوك وَالْخُلَفَاء كَيفَ تركوها لعظم أمرهَا وجلالة قدرهَا وَقد استخرت الله تَعَالَى فِي الْإِقَامَة بهَا وان أَتَّخِذ مَدِينَة وأسكن بهَا وَأمر بإرسال البنائين الفعلة فَلَمَّا تحققت الرّوم بذلك سَأَلُوهُ فِي الصُّلْح فَأبى فألحوا عَلَيْهِ فَأبى فَقَالَ لَا أفعل إِلَّا أَن تعطوني ابْنة ملككم فَقَالُوا هَذَا عَار مَا سمع بِمثلِهِ فَاجْتمعُوا فِي عدد عَظِيم وَكَانَ هُوَ فِي عشْرين ألف فَارس فَلَمَّا الْتَقَوْا انْكَسَرَ الْمُسلمُونَ وَثَبت هُوَ وَولده وكاتبه وَنَفر يسير وَأمر أَن يضْرب خباؤه على نشز من أَرض فتراجع غليه الْمُسلمُونَ وقاتلوهم وَكَانَت الدائرة على الْكفَّار وَالْعَاقبَة للْمُسلمين فَقتل وَأسر فَسَأَلُوهُ فِي الصَّالح فَأبى إِلَّا أَن يعطوه ابْنة ملكهم وأموالا اقترحها فَأَعْطوهُ ذَلِك مَعَ تحف كَثِيرَة وَكَانَت الْبِنْت فِي نِهَايَة الْجمال فَلَمَّا شيعها أَشْرَاف قَومهَا سألوها أَن تحسن الوساطة لقومها عِنْده فَقَالَت أَن الجاه لَا يطْلب بأفخاذ النِّسَاء إِنَّمَا يطْلب برماح الرِّجَال وَلما وصل الْمَنْصُور إِلَى مَدِينَة قرطبة تَلَقَّتْهُ امْرَأَة فَقَالَت لَهُ أَنْت وَالنَّاس تفرحون وَأَنا باكية حزينة قَالَ لَهُم قَالَت وَلَدي أَسِير فِي بلد من بِلَاد الرّوم فسير العساكر لوقته رَاجِعَة إِلَى الْبِلَاد حَتَّى أحضروا وَلَدهَا قَالَ صَاحب مشارع الأشواق فرحم الله تِلْكَ الْأُمَم الخالية بركَة وختام بِذكر رِسَالَة عمر رَضِي الله عَنهُ إِلَى سعد بن أبي وَقاص وَمن مَعَه من الأجناد رَضِي الله عَنْهُم

قَالَ ابْن المناصف فِيهَا كثير من أَحْكَام الْجِهَاد ولوازم الاستعداد وَنَصهَا أما بعد فَإِنِّي آمُرك وَمن مَعَك بتقوى الله على كل حَال فَإِن تقوى الله أفضل الْعدة على الْعَدو وَأقوى المكيدة فِي الْحَرْب وآمرك وَمن مَعَك أَن تَكُونُوا أَشد احتراسا من الْمعاصِي من احتراسكم من عَدوكُمْ فَإِن ذنُوب الْجَيْش أخوف عَلَيْهِم من عدوهم وَإِنَّمَا ينصر الْمُسلمُونَ على عدوهم بِمَعْصِيَة عدوهم الله وَلَوْلَا ذَاك لم يكن لنا بهم قُوَّة لِأَن عددنا لَيْسَ كعددهم وَلَا عدتنا كعدتهم فَإِن استوينا فِي الْمعْصِيَة كَانَ لَهُم الْفضل علينا وَالْقُوَّة وَإِن لم ننصر عَلَيْهِم بفضلنا ل نغلبهم بقوتنا وَاعْلَمُوا أَن عَلَيْكُم فِي سيركم حفظَة من الله تَعَالَى يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ فاستحيوا مِنْهُم وَلَا تعملوا بمعاصي الله وَأَنْتُم فِي سَبِيل الله وَلَا تَقولُوا أَن عدونا شَرّ منا فَلَنْ يسلطوا علينا وَإِن أسأنا فَرب قوم سلط عَلَيْهِم شَرّ مِنْهُم كَمَا سلط على بني إِسْرَائِيل لما علمُوا بمعاصي الله كفرة الْمَجُوس {فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا} فاسألوا الله العون على أَنفسكُم كَمَا تسألونه على عَدوكُمْ أسأَل الله ذَلِك لنا وَلكم وترفق بِالْمُسْلِمين فِي مَسِيرهمْ وَلَا تسير بهم سيرا يتعبهم وَلَا تقصر بهم عَن منزل الرِّفْق بهم حَتَّى يبلغُوا عدوهم وَالسّفر لم ينقص قوتهم فَإِنَّهُم سائرون إِلَى عَدو مُقيم حاقد الْأَنْفس والكراع وأقم بِمن مَعَك فِي كل جُمُعَة يَوْمًا وَلَيْلَة يكون ذَلِك لَهُم رَاحَة يحْمُونَ بهَا أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح مَنَازِلهمْ عَن قرى

أهل الصُّلْح فَلَا يدخلهَا من أَصْحَابك إِلَّا من تثق بِهِ وبدينه وَلَا يرزؤا أحدا من أَهلهَا شَيْئا فَإِن لَهُم حُرْمَة وَذمَّة ابتليتم بِالْوَفَاءِ بهَا كَمَا ابتلوا بِالصبرِ عَلَيْهَا فَكَمَا صَبَرُوا لكم فوفوا لَهُم وَلَا تستنصروا على أهل الْحَرْب بظُلْم أهل الصُّلْح وَإِذا وطِئت أدنى أَرض الْعَدو فآذك الْعُيُون بَيْنك وَبينهمْ وَلَا يخفى عَلَيْك أَمرهم وَليكن عنْدك من الْعَرَب أَو من أهل الأَرْض من تثق بِهِ وتطمئن إِلَى نصحه وَصدقه فَإِن الكذوب لَا ينفعك خَبره وَإِن صدق فِي بعضه والغاش عَلَيْك لَيْسَ عينا لَك وَليكن مِنْك عِنْد دنوك من أَرض الْعَدو أَن تكْثر من الطَّلَائِع وتبث السَّرَايَا بَيْنك وَبينهمْ فتقطع السَّرَايَا أمدادهم ومرافقهم وتتبع الطَّلَائِع عَوْرَاتهمْ وانتق للطلائع أهل الرَّأْي والبأس من أَصْحَابك وتخير لَهُم سوابق الْخَيل فَإِن لقوا عَدوك كَانَ أول من يلقاهم أهل الْقُوَّة وَاجعَل أَمر السَّرَايَا إِلَى أهل الِاجْتِهَاد وَالصَّبْر وَالْجَلد وَلَا تخص بهَا أحدا من خاصتك فيضيع من رَأْي مؤامرتك أَكثر مِمَّا حابيت بِهِ أهل خاصتك وَلَا تبْعَث طَلِيعَة وَلَا سَرِيَّة فِي وَجه يتخوف فِيهِ عَلَيْهَا ضَيْعَة ونكاية فَإِذا عانيت الْعَدو فاضمم إِلَيْك أقاصيك وطلائعك وسراياك واجمع إِلَيْك مكيدتك ثمَّ تعاجلهم المناجزة مَا لم

العارض الثاني

يستكرهك قتال حَتَّى تبصر عَورَة عَدوك ومقاتله وتعرف الأَرْض كلهَا كمعرفتك أَهلهَا فتصنع بعدوك كصنعه بك ثمَّ اذك أَحْرَار أحراسك على عسكرك وَتحفظ من البيات جهدك وكل أَسِير أتيت بِهِ لَيْسَ لَهُ عهد فَاضْرب عُنُقه لترهب بِهِ عَدو الله وعدوك وَالله ولي أَمرك وَمن مَعَك وَولي النَّصْر لكم على عَدوكُمْ وَالله الْمُسْتَعَان الْعَارِض الثَّانِي السّفر ويتقدمه قبل الشُّرُوع فِيهِ الْعلم بِأُمُور تهم الْمعرفَة بهَا حكما وَشَرِيعَة بِحَسب تَكْمِيل النّظر فِي طبيعة الْوُجُود المنتظم السلك برعاية الْملك وَالسُّلْطَان ولنعرضها فِي مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى أَن الْحَرَكَة والسكون لَا بُد من تعاقبهما على الْأَجْسَام الطبيعية ضَرُورَة اسْتِحَالَة الْخُلُو عَنْهُمَا ضَرُورَة من حَيْثُ أَنَّهُمَا ضدان لَا متوسط بَينهمَا وَمَا يُوجد من أجسام الخليقة لَازِما لَهُ الْحَرَكَة كالأجرام العلوية أَو السّكُون كالهياكل الأرضية بمقابل مَا اخْتصَّ من ذَلِك جَائِز عَلَيْهِ كَمَا تقرر فِي الْحِكْمَة وَالْكَلَام الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن للْإنْسَان من أَنْوَاع الحركات نوعا اخْتصَّ بِهِ دون سَائِر الْحَيَوَان وَهُوَ انْتِقَاله من مَوضِع إِلَى مَوضِع آخر بعيد مِنْهُ فِي مُدَّة طَوِيلَة وَمَا

المسألة الثالثة

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن مصدر هَذَا النَّوْع من الِانْتِقَال عَن قوى ثَلَاثَة للْإنْسَان أَحدهَا الْقُوَّة الشهوانية كسفر التُّجَّار إِلَى الْبِلَاد النازحة والأقطار المتباعدة طلبا للربح الخطير الثَّانِيَة الْقُوَّة الغضبية كسفر الْمُلُوك لتدويخ الأقاليم وتخويف الممالك قصدا للقهر وَالْغَلَبَة وَمَا يتبع ذَلِك من الِاسْتِيلَاء على الْأَمْلَاك والذخائر فبالقصد الثَّانِي الثَّالِثَة الْقُوَّة التمييزية كرحلة طالبي الْعُلُوم إِلَى الْأَمْصَار النائية والأصقاع الشاحطة حرصا على تَحْصِيل الْمَزِيد مِنْهَا بمبلغ الْجهد الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَن طلب السّكُون أخص بطبيعة المتحرك حَرَكَة قريبَة أَو بعيدَة بِدلَالَة مَا يُشَاهد من تَعب دوامها وَوُجُود الرَّاحَة بعد ذَلِك بِالسُّكُونِ وَمن هُنَاكَ وَردت الْمِنَّة بأوقات المتمكن مِنْهُ طبيعة وَهُوَ اللَّيْل فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا} وَقَوله تَعَالَى {وَجَعَلنَا اللَّيْل لباسا وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا} الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن لمَكَان الِاخْتِصَاص بذلك يَنْبَغِي طلب الْفِرَار عَن الْحَرَكَة الْبَعِيدَة بِحَسب يُشَاهد من قواطع الطير والسمك فَغير بَالغ فِي ذَلِك مبلغ الْإِنْسَان لِأَن مَا بالطبع لَيْسَ كَمَا بالفكر والروية الْإِمْكَان وَسَوَاء فِي ذَلِك الْمُلُوك وَغَيرهم نعم وَعَن الْحَرَكَة الْقَرِيبَة مَتى عريت عَن الْفَائِدَة الْمُعْتَبرَة دينا وَدُنْيا كالتردد فِي أسواق والطرق من غير حَاجَة

المسألة السادسة

سوى التفرج بِالنّظرِ للمارة والمشاهدة لما فِيهَا من الْأُمُور الملهية لِذَوي البطالة الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن الْمَانِع من تَغْلِيب السّكُون على الْحَرَكَة فِي السِّيرَة الفاضلة يتَصَوَّر فِي السُّلْطَان وَغَيره فَفِي السُّلْطَان كَمَا إِذا كَانَ لُزُوم مَرْكَز الدولة إيثارا للدعة والسكون يُوجب تَضْييع ثغور المملكة ويطمع فِيهَا طَالب التغلب عَلَيْهَا وَفِي غَيره كَمَا إِذا كَانَ الْمقَام فِي بَلَده إخلادا للراحة مَعَ الْحبّ فِيهِ كَمَا يَدْعُو غليه خلق الضعْف والكسل فيسجل عَلَيْهِ باستصحاب نكد عيشه وَاحْتِمَال ذله ذهولا عَن قَوْله تَعَالَى {وَمن يُهَاجر فِي سَبِيل الله يجد فِي الأَرْض مراغما كثيرا وسعة} وكما حض عَلَيْهِ قَول الشَّاعِر (وَإِذا نبا بك منزل فتحول ... ) الْمَسْأَلَة السَّابِعَة إِن مُخَالفَة الطبيعة بتغليب الْحَرَكَة على السّكُون التغليب المفرط مَذْمُوم فِي الْمُلُوك كحركة من تخطى مِنْهُم حُدُود مَمْلَكَته إِلَى مَا وَرَاءَهَا كَمَا تقدم من الْقَصْد الْأَصْلِيّ وَالتَّابِع وَفِي غَيرهم كتوغل السفارة من التُّجَّار فِي استقصاء طلب المَال الْمَحْمُود فِي جِهَة الْمَعْمُور برا وبحرا لما سبق أَن ذَلِك من مُقْتَضى الشَّهْوَة فَقَط وكإفراط ذَوي الرحلة فِي طلب الْعُلُوم مَتى اقْتضى الْحَال تَرْجِيح الِاقْتِصَار على الْحَاصِل مِنْهَا وَلَا يخفى ذَلِك على ذِي بَصِيرَة بالحقائق شرعا وَحكمه الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَن المراعاة مَا تقدم فالمحمود فِي التَّدْبِير الْفَاضِل اخْتِيَار مَا هُوَ وسط بَين الطَّرفَيْنِ المتقابلين فِي ذَلِك شَأْن سَائِر الخلاق وَالْأَفْعَال نعم تَتَفَاوَت الْأَخْلَاق والطبقات فِي اخْتِيَار الْوسط من ذَلِك تَفَاوتا عَظِيما بِحَسب اعتبارات

المسألة التاسعة

لَا تَنْحَصِر وَالضَّابِط الْكُلِّي فِيهِ اتِّبَاع هِدَايَة الطبيعة إِلَيْهِ برعاية مَا يتكفل بصلاح الدّين وَالدُّنْيَا بِحَسب شخص من سَائِر الطَّبَقَات قل كل يعْمل على شاكلته والطبيعة بِإِذن الله تَعَالَى لَا تفعل بَاطِلا وَخلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة قَالَ الْغَزالِيّ السّفر وَسِيلَة إِلَى الْخَلَاص من مهروب عَنهُ والوصول إِلَى مَرْغُوب فِيهِ وَالْأول ديني كالجاه وَالْمَال المضرين ودنيوي عَام كالفتنة والغلاء وخاص كمن يقْصد بآذاية على انْفِرَاده وَالثَّانِي ديني كَالْعلمِ وَالْعَمَل ودنيوي كَالْمَالِ والجاه انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة قَالَ النَّوَوِيّ يجب على الْمُسَافِر تعلم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي سَفَره كاحتياج اللَّازِم من أَحْكَام الْجِهَاد للغازي وَمن الْمَنَاسِك للْحَاج وَمن فقه الْبيُوع للتاجر وَمن الضَّرُورِيّ فِي الدّين للسائح المتعبد وَمن شُرُوط الصَّيْد للصائد وَمن النَّصِيحَة فِي حفظ الْأَمَانَة مَعَ مَا يحْتَاج غليه المنعزل لِلرَّاعِي انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ مُلَخصا الْعَارِض الثَّالِث الشدائد النَّازِلَة وَمن النافع فِيهَا تذكيرات يَقْتَضِيهِ غَرَض التمحيص بهَا خُصُوصا وعموما التَّذْكِير الأول أَن من ضَرُورَة وضع الدُّنْيَا عَن قصد الِابْتِلَاء بهَا شرا وَخيرا ونبلوكم

التذكير الثاني

بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة) وجود الشدائد المكدرة لصفو الرَّاحَة فِيهَا عَمَّا قريب تعريفا بِمَا وضعت عَلَيْهِ وإعلاما وَمن ثمَّ قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين لَا تستغرب وُقُوع الأكدار مَا دمت فِي هَذِه الدَّار فَإِنَّهَا مَا أبرزت إِلَّا مَا هُوَ مُسْتَحقّ وصفهَا وواجب نعتها قَالَ الشَّاعِر (طبعت على كدر وَأَنت تريدها ... صفوا من الأقذار والأكدار) وَقَالَ الآخر (إِن اللَّيَالِي لم تحسن إِلَى أحد ... إِلَّا أساءت إِلَيْهِ بعد إِحْسَان) التَّذْكِير الثَّانِي أَن من لَازم نصب الْحُدُود الشَّرْعِيَّة لتجري بهَا مصَالح الدَّاريْنِ عَن أنهج طَرِيق بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل أحد فِي نَفسه {من عمل صَالحا فلنفسه وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا} أَن تكون الْمعْصِيَة بمجاوزة تِلْكَ الْحُدُود سَببا فِي الشدَّة الْمُصَاب بهَا من نزلت بِهِ {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم} تعجيلا للعقوبة قبل يَوْم الْجَزَاء التَّذْكِير الثَّالِث أَن شياع الْمعْصِيَة وخصوصا من السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ هُوَ سَبَب وجود الشدائد الْعَامَّة الِابْتِلَاء بمصائبها كَمَا روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا إِذا فشي فِي هَذِه الْأمة خمس حل بهم خمس إِذا أكلُوا الرِّبَا

التذكير الرابع

كَانَت الزلزلة والخسف وَإِذا جَار السُّلْطَان قحط الْمَطَر وَإِذا تعدى على الذِّمَّة كَانَت الدولة لغيره وَإِذا ضيعت الزَّكَاة مَاتَت الْبَهَائِم وَإِذا كثر الزِّنَا كَانَ الْمَوْت التَّذْكِير الرَّابِع أَن الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ مِمَّا أوجب وُقُوع الشدَّة الْخَاصَّة والعامة هُوَ الْكَفِيل بتعجيل الْفرج مِنْهَا وتبديل الْعسر بهَا يسرا كَمَا وَقع لقوم يُونُس صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تَابُوا من الْكفْر قَالَ تَعَالَى فَلَو كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين وَفِي الحَدِيث من لَازم الاسْتِغْفَار جعل الله لَهُ من كل ضيق فرجا وَمن كل هم مخرجا ورزقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب) التَّذْكِير الْخَامِس أَن الْخَاص بالسلطان من ذَلِك بالْقَوْل الْكُلِّي الْخصْلَة الَّتِي ترْجم عَلَيْهَا الطرطوشي أَنَّهَا ملْجأ الْمُلُوك عِنْد الشدائد وَمَعْقِل السُّلْطَان عِنْد اضْطِرَاب الْأُمُور وتغيير الْأَحْوَال وَهِي أَن يتْرك للنَّاس دينهم ودنياهم بِمَعْنى أَن لَا يحول بَينهم وَبَين صَلَاح ذَلِك وَاسْتظْهر على ثَمَرَة الْعَمَل بِهَذِهِ الْخصْلَة بحكايتين الْحِكَايَة الأولى قَول الْمَأْمُون فِي آخر مواقعه مَعَ أَخِيه الْأمين وَقد نفذت لَهُ بيُوت الْأَمْوَال وألح الْجند فِي طلب الأرزاق بقيت لأخي خصْلَة لَو فعلهَا ملك مَوضِع قدمي هَاتين فَقيل لَهُ وَمَا هِيَ قَالَ وَالله إِنِّي لأضن بهَا على نَفسِي فضلا على غَيْرِي فَلَمَّا خلص لَهُ الْأَمر سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ لَو أَنه نَادَى بحط الْخراج والوظائف السُّلْطَانِيَّة عشر سِنِين لملك الْأُمُور عَليّ لَكِن الله غَالب على أمره

الحكاية الثانية

الْحِكَايَة الثَّانِيَة قَول الْفضل بن سهل لما استشاره الْمَأْمُون وَقد خشِي انْتِقَاض أهل خُرَاسَان ف فتْنَة مَعَ الْأمين قد قَرَأت الْقُرْآن والْحَدِيث والرأي عِنْدِي أَن تجمع الْفُقَهَاء وَتَدْعُوهُمْ إِلَى الْعَمَل بِالْحَقِّ وإحياء السّنة وتواصل النّظر فِي الْمَظَالِم وتقرب الرؤساء والقواد وتعدهم بالمواعد الْكَرِيمَة والولايات السّنيَّة فَفعل ذَلِك وَحط على أهل خُرَاسَان رفع الْخراج فمالت وُجُوه الْخَلَائق إِلَيْهِ وانقاد غليه رَافع بن الْمُهلب وَكَانَ اعظم الْمُلُوك بخراسان تَكْمِيل من الشدائد مَا تهم الْعِنَايَة بتنزيل التَّعْرِيف بِمَا يعود بإخلاص التَّوَجُّه بِهِ تَعْجِيل الْفرج مِنْهَا على أجمل عوائد الصنع الْغَرِيب وَالْمَذْكُور مِنْهَا ثَلَاثَة الشدَّة الأولى تكالب الْعَدو وَهُوَ صنفان كَافِر بِالْإِسْلَامِ وباغ على الدولة وَالسُّلْطَان الصِّنْف الأول الْعَدو الْكَافِر وَصدق اللجا إِلَى الله تَعَالَى بعد بذل الوسع فِي مدافعته أعظم مَا يُرْجَى بِهِ الْخَلَاص مِنْهُ حكى الشَّيْخ ابْن الْخَطِيب فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان الْمُقَدّس أبي الْحجَّاج بن إِسْمَاعِيل بن فرج من هَؤُلَاءِ الْمُلُوك النصريين السُّلْطَان الَّذِي كَانَ على عَهده من مُلُوك النَّصَارَى بقشتالة أبادهم الله تَعَالَى كَانَ طاغية مهابا وملكا مجدودا وهبت لَهُ الرِّيَاح وعظمت بِهِ للْمُسلمين نكاية وتملك الخضراء بعد أَن أوقع بِالْمُسْلِمين الوقيعة الْعُظْمَى بطريف ثمَّ نَازل جبل الْفَتْح وَكَاد يستولي مِنْهُ على هَذِه

الجزيرة لَوْلَا أَن الله تداركها بجميل صنعه وخفى لطفه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَهَلَك بمحلته من ظَاهره حتف أَنفه لَيْلَة عَاشُورَاء من عَام إِحْدَى وَخمْس وَسَبْعمائة فتنفس المختنق وانجلت الْغُمَّة وانسدل السّتْر ثمَّ قَالَ كنت مُنْفَردا بالسلطان رَحمَه الله تَعَالَى وَقد غلب الْيَأْس وتوقعت الفضيحة أوانسه بعجائب الْفرج بعد الشدَّة وَأقوى بصيرته فِي التمَاس لطف الله وَهُوَ يرى الْفرج بَعيدا ويتوقع من الْأَمر عَظِيما وَورد الْخَبَر بمهلكه فاستحالت الْحَال إِلَى ضدها من السرُور والاستبشار وَالْحَمْد لله على نعمه الصِّنْف الثَّانِي الْعَدو الْبَاغِي ومدافعته عَن تِلْكَ الْجِهَة متعودة النجح ببلوغ الأمل فِيهِ على أجمل صنع غَرِيب وَمِمَّا وَقع من ذَلِك للقائم بِأَمْر الله تَعَالَى من خلفاء بني الْعَبَّاس فِي بغي البساسيري عَلَيْهِ أبلغ عِبْرَة حكى بعض الشُّيُوخ أَنه لما اشتدت بِهِ محنته كتب إِلَى مَكَّة شاكيا فِيهِ مَا ناله مِنْهُ بِمَا نَصه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِلَى الله الْعَظِيم من عَبده الْمِسْكِين اللَّهُمَّ إِنَّك عَالم بالسرائر ومطلع على مكنونات الضمائر اللَّهُمَّ إِنَّك غَنِي بعلمك

واطلاعك على أُمُور خلقك عَن إعلامي لَك وَهَذَا عبد من عبيدك قد كفر نِعْمَتك وَمَا شكرها وَألقى العواقب وَمَا ذكرهَا أطغاه حلمك وتجبر بأمانك حَتَّى تعدى علينا بغيا وأساء إِلَيْنَا عتوا وعدوا اللم قل النَّاصِر واعتز الظَّالِم وَأَنت المطلع الْعَالم وَالْمنصف الْحَاكِم بك نستعين عَلَيْهِ وَإِلَيْك نهرب من يَدَيْهِ فقد تعزز بالمخلوقين وَنحن نستعين بِاللَّه رب الْعَالمين اللَّهُمَّ إِنَّا حاكمناه إِلَيْك وتوكلنا فِي إنصافنا مِنْهُ عَلَيْك ورفعنا ظلامتنا إِلَى حلمك ووثقنا فِي كشفها بكرمك فاحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الْحَاكِمين وَأظْهر قدرتك فِيهِ وأرنا مَا نرتجيه فقد أَخَذته الْعِزَّة بالإثم اللَّهُمَّ فاسلبه عزه وملكنا بقدرتك ناصيته يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ يَا رب الْعَالمين وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين قَالَ فَلَمَّا وصل الْكتاب إِلَى مَكَّة وعلق على بَاب الْكَعْبَة ودعى بِمَا فِيهِ ذبح البساسيري فِي ذَلِك الْيَوْم وَهزمَ جَيْشه على يَد الْملك المظفر طغرلبك بن ميكال الْغَزِّي صَاحب خُرَاسَان وَأعَاد الْخَلِيفَة إِلَى مَا كَانَ من حَاله وَرجع إِلَى دَاره انْتهى قلت فِي مُعْجم الصَّدَفِي للْقَاضِي عِيَاض كَانَت فتْنَة البساسيري وَهُوَ أرسلان التركي وقيامه بِبَغْدَاد على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَائِم بِأَمْر الله وحشده الْعَرَب مَعَ قُرَيْش بن بدران الْعقيلِيّ إِلَى بَغْدَاد ودخولهم إِيَّاهَا وانتهابهم دَار الْخلَافَة وأسره لأمير الْمُؤمنِينَ الْقَائِم بِأَمْر الله ودعاؤه بمنابر بَغْدَاد لصَاحب مصر وَإِخْرَاج أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى الجوفية آخر سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة إِلَى أَن خلصه الله من يَده وأظفره بِهِ ورده إِلَى خِلَافَته على يَد الْملك المظفر طغرلبك أبي طَالب مُحَمَّد بن ميكال الْغَزِّي صَاحب خُرَاسَان آخر سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة

الشدة الثانية

الشدَّة الثَّانِيَة المجاعة والغلاء والتوجه إِلَى الله تَعَالَى برحمة الْمُحْتَاج إِلَى الصَّدَقَة من أعظم مَا تنفتح بِهِ أَبْوَاب الْفرج مِنْهَا لقَوْله تَعَالَى {إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} وَفِي الحَدِيث من كَانَ فِي حَاجَة أَخِيه كَانَ الله فِي حَاجته وَكَانَ الله فِي عون العَبْد مَا كَانَ العَبْد فِي عون أَخِيه قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو سعيد وَمن خطة نقلت فَإِذا كَانَ فِي حَاجَة الْمَسَاكِين كَانَ الله فِي حَاجته وعونه فكشف عَنهُ كربه قَالَ وَمن هُنَا سميت الصَّدَقَة فراجة الكرب قلت وأبلغ من هَذَا فِي الرَّحْمَة لَهُم حَال هَذِه الشدَّة مساهمتهم فِي مس الْبلوى بهَا ليتذكر إِلَيْهِم ويستدعي بِهِ رَحْمَة الْمولى الرَّحِيم كَمَا يرْوى أَن يُوسُف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما ملك خَزَائِن الأَرْض كَانَ يجوع وَيَأْكُل خبز الشّعير وَكَانَ قبل ذَلِك لَا يَأْكُلهُ فاستنكره بَطْنه فَضَربهُ بِيَدِهِ وَقَالَ هُوَ الله مَا ترى حَتَّى يُوسع الله على الْمُسلمين فَائِدَة فِي تَنْبِيه لَا خَفَاء أَن الْقَحْط من أَسبَاب هَذِه الشدَّة وَعند ذَلِك فَمن أنجح مَا تستمطر بِهِ سحب الْغَمَام خضوع السُّلْطَان لله تَعَالَى وتذلله بَين يَدَيْهِ كَمَا يحْكى أَنه قحط النَّاس بقرطبة فِي آخر مُدَّة النَّاصِر من خلفاء بني أُميَّة فَأمر القَاضِي منذرا بالبروز إِلَى الاسْتِسْقَاء فتأهب أَيَّامًا إنابة وَرَهْبَة وَاجْتمعَ النَّاس فِي مصلى الربض بارزين إِلَى الله تَعَالَى فِي جمع عَظِيم وَصعد الْخَلِيفَة فِي أَعلَى مصانع الْقصر المشرفة

الشدة الثالثة

ليشارف النَّاس وشاركهم فِي الدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَقبل بروزه غدْوَة ذَلِك الْيَوْم جَاءَهُ رَسُول الْخَلِيفَة لِلْخُرُوجِ وَالنَّاس متسابقون إِلَى الْمصلى فَقَالَ للرسول وَكَانَ من خَواص الْخَلِيفَة هَا أَنا سَائِر فيا لَيْت شعري مَا الَّذِي يصنع الْخَلِيفَة قَالَ مَا رَأَيْنَاهُ أخشع مِنْهُ فِي يَوْمنَا هَذَا إِنَّه لمنفرد بِنَفسِهِ لابس أخشن الثِّيَاب مفترش التُّرَاب قد رمد بِهِ على رَأسه وعَلى لحيته قد علا بكاؤه واعترف بذنوبه يَقُول يَا رب هَذِه ناصيتي بِيَدِك أتراك تعذب الرّعية بِي وَأَنت أحكم الْحَاكِمين لن يفوت شَيْء مني قَالَ فتهلل وَجه مُنْذر عِنْدَمَا سمع من قَوْله وَقَالَ يَا غُلَام احْمِلْ الْمَطَر مَعَك فقد أذن الله بالسقيا إِذا خضع جَبَّار الأَرْض فقد رَضِي جَبَّار السَّمَاء فَكَانَ كَمَا قَالَ وَلم ينْصَرف النَّاس إِلَّا بالسقيا الشدَّة الثَّالِثَة الوباء والطاعون ذكر الْمُتَأَخّرُونَ فِيمَا يتوسل بِهِ إِلَى الله تَعَالَى فِي كشف الكرب الْعَظِيم بهَا وَسَائِل ثَلَاث الْوَسِيلَة الأولى الدُّعَاء على مَا رَجحه غير وَاحِد من شُيُوخ الْمَذْهَب خلافًا لبَعض الْحَنَابِلَة فِي كراهيته وَمن الْمعِين فِيمَا حَكَاهُ الشَّيْخ شهَاب الدّين بن حجر عَن الزَّرْكَشِيّ أَن بعض السّلف كَانَ يَدْعُو عقب صلَاته وَيَقُول اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذ بك من عَظِيم الْبلَاء فِي النَّفس والأهل وَالْمَال وَالْولد الله اكبر الله أكبر الله أكبر مِمَّا نَخَاف ونحذر الله أكبر الله أكبر عدد ذنوبنا حَتَّى تغْفر اللَّهُمَّ كَمَا شفعت فِينَا نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمهلنا وَعمر بِنَا مَنَازلنَا وَلَا تُؤَاخِذنَا بِسوء أفعالنا وَلَا تُهْلِكنَا بخطايانا يَا رب الْعَالمين

فائدة في تنبيه

فَائِدَة فِي تَنْبِيه قَالَ الشَّيْخ شهَاب الدّين ابْن حجر وَأما الِاجْتِمَاع لَهُ كَمَا فِي الاسْتِسْقَاء فبدعة حدثت فِي الطَّاعُون الْكَبِير سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة بِدِمَشْق ثمَّ حكى إِنْكَار الشُّيُوخ على من جمع النَّاس فِي مَوضِع فصاروا يدعونَ ويصرخون صراخا عَالِيا وَخرج النَّاس إِلَى الصَّحرَاء ومعظم أكَابِر الْبَلَد فدعوا واستغاثوا فَعظم الطَّاعُون عِنْد ذَلِك وَكثر وَكَانَ قبل دُعَائِهِمْ أخف قَالَ وَوَقع هَذَا فِي زَمَاننَا حِين وَقع الطَّاعُون بِالْقَاهِرَةِ فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر ربيع الْأَخير سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة وَكَانَ من يَمُوت بهَا دون الْأَرْبَعين فَخَرجُوا إِلَى الصَّحرَاء ودعوا وَأَقَامُوا سَاعَة ثمَّ رجعُوا فَمَا نسلخ الشَّهْر حَتَّى صَار عدد من يَمُوت بِالْقَاهِرَةِ فَوق الْألف ثمَّ تزايد وَوَقع استفتاء عَن ذَلِك فَأفْتى بعض النَّاس بمشروعية ذَلِك واستند فِيهِ إِلَى العموميات الْوَارِدَة فِي الدُّعَاء وَاشْتَدَّ آخر إِلَى أَن وَقع فِي زمَان الْملك الْمُؤَيد وأجرى ذَلِك وحضره جمَاعَة من الْعلمَاء فَمَا أنكروه وَأفْتى جمَاعَة مِنْهُم بِأَن ترك ذَلِك أولى لما يخْشَى من الْفِتْنَة لِأَنَّهُ إِن أجدى لم يَأْمَن خطر الطَّاعُون وَإِن لم يجد لم يَأْمَن من سوء الظَّن بالعلماء وَالصَّالِحِينَ وَالدُّعَاء ونحوت هَذَا المنحى فِي جوابي وأضفت إِلَى ذَلِك أَنه لَو كَانَ مَشْرُوعا مَا خفى على السّلف ثمَّ على الْفُقَهَاء الْأَمْصَار وأتباعهم فَلم يبلغنَا فِي ذَلِك خبر وَلَا أثر وَلَا فرع مسطور عَن أحد من الْفُقَهَاء وألفاظ الدُّعَاء وَصفَة الدَّاعِي لَهَا أثر وأسرار يخْتَص كل حَادث بِمَا يَلِيق بِهِ

3 - وَالْمُعْتَمد فِي ذَلِك يغاير الِاتِّبَاع لَا مدْخل للْقِيَاس فِي ذَلِك وَمَا ورد فِي التخويف بالكسوف بَين لَهُ سنة تغاير مَا ورد فِي التخويف بالجدب وَمَا ورد فِي النَّازِلَة كالقحط والوباء على رَأْي الْقُنُوت فِي ذَلِك يغاير مَا ورد فِي الْكُسُوف وَالِاسْتِسْقَاء فَالَّذِي يَأْتِي بِهَذَا لهَذَا وَبِهَذَا لهَذَا يلْحق بِمن أحدث فِي الدّين مَا لَيْسَ مِنْهُ فَيرد عَلَيْهِ وَقد نَص الشَّافِعِي على أَنه لَا قنوت فِي الاسْتِسْقَاء وَهُوَ يُؤَيّد مَا ذكرته وَالله أعلم انْتهى الْمَقْصُود الْوَسِيلَة الثَّانِيَة كَثْرَة الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر لَك الشَّيْخ شهَاب الدّين ابْن أبي حجلة عَن بعض الصَّالِحين فاستدل لَهُ وَإِن لم يرد بِهِ نَص صَرِيح بِحَدِيث أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ أَن رجلا قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجعَل لَك نصف صَلَاتي الحَدِيث وَفِي آخِره أجعَل لَك صَلَاتي كلهَا قَالَ إِذا تكفى همك وَيغْفر ذَنْبك وَذكر أَنه لما أَن أشاع مَا بلغه من ذَلِك وَأخْبر بِهِ أَصْحَابه قَالَ لَهُ بَعضهم الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تدفع كل بلَاء الطَّاعُون وَغَيره

العارض الرابع

قَالَ فقابليته بالتعظيم وَوَقع كَلَامه مني بموقع عَظِيم ثمَّ اجْتمعت بالشيخ شمس الدّين بن خطيب مرود وأخبرته بذلك فَقَالَ لقد أحسن فِي الْكَلَام الْمشَار إِلَيْهِ وَلَو رَأَيْته لقبلت يَده انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ الْوَسِيلَة الثَّالِثَة الصَّلَاة إِمَّا فِي السّنَن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أحزنه أَمر فزع إِلَى الصَّلَاة قَالَ ابْن أبي حجلة وَذَلِكَ أَن الصَّلَاة يستشفى بهَا من عَامَّة الوجاع قبل استحكانها فَمن أحس ببدء الْأَلَم من الطَّاعُون أَو غَيره فبادر إِلَى الْوضُوء وَالصَّلَاة وَفرغ قلبه لله تَعَالَى وَجمع همته على الله فِي صلَاته انْدفع عَنهُ ذَلِك الْأَلَم بِإِذن الله أَو خف فَلم يحصل لَهُ من ثقله مَا حصل لمن أعرض عَن الله وَعَن الصَّلَاة قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فلهَا أثر عَجِيب فِي حفظ صِحَة الْبدن وَالْقلب وقواهما وَدفع الْموَاد الردية عَنْهَا وَمَا ابتلى رجلَانِ بعاهة أَو أَذَى أَو محنة أَو بلية إِلَّا وَكَانَ حَظّ الْمُصَلِّي مِنْهُمَا أقل وعاقبته أسلم قَالَ للصَّلَاة تَأْثِير عَجِيب فِي دفع شرور الدُّنْيَا لَا سِيمَا إِذا أَعْطَيْت حَقّهَا من تَكْمِيل الطَّهَارَة ظَاهرا وَبَاطنا فَمَا استدفعت شرور الدَّاريْنِ وَلَا استجلبت مصالحها بِمثل الصَّلَاة وسر ذَلِك إِنَّهَا صلَة الله تَعَالَى فعلى قدر صلَة العَبْد لله يفتح عَلَيْهِ من الْخيرَات أَبْوَابهَا وَيدْفَع عَنهُ من الشرور أَسبَابهَا انْتهى مُلَخصا الْعَارِض الرَّابِع الرسَالَة ولموقعها من الْملك عِنْد مَسِيس الْحَاجة غليها تخصها رعايات من السياسة سَابِقَة ولاحقة

الرعاية الأولى تحقق أن موقع الرسول من السلطان موقع الدليل من المدلول والبعض من الكل ففي سياسة أرسطو اعلم أن الرسول يدل على عقل من أرسله إذ هو عينه فيما لا يرى وأذنه فيما لا يسمع ولسانه عندما غاب عنه وقالوا الرسول قطعة من المرسل

الرِّعَايَة الأولى تحقق أَن موقع الرَّسُول من السُّلْطَان موقع الدَّلِيل من الْمَدْلُول وَالْبَعْض من الْكل فَفِي سياسة أرسطو اعْلَم أَن الرَّسُول يدل على عقل من أرْسلهُ إِذْ هُوَ عينه فِيمَا لَا يرى وَأذنه فِيمَا لَا يسمع وَلسَانه عِنْدَمَا غَابَ عَنهُ وَقَالُوا الرَّسُول قِطْعَة من الْمُرْسل قلت وَمن الْمَشْهُور قَوْلهم ثَلَاثَة دَالَّة على صَاحبهَا الرَّسُول على الْمُرْسل والهدية على الْمهْدي وَالْكِتَابَة على الْكَاتِب الرِّعَايَة الثَّانِيَة اخْتِيَار من يرضى بهَا لأجل هَذَا الْموقع فَفِي بَقِيَّة كَلَام أرسطو الْمُتَقَدّم مقررا لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَيجب أَن تخْتَار أرفع من فِي حضرتك عقلا وبصيرة وَهبة وَأَمَانَة وتجنبا لجَمِيع الريب (إِذا مَا كنت متخذا رَسُولا ... فَلَا ترسل سوى رجل نبيل) (فَإِن النجح فِي الْحَاجَات يَأْتِي ... لطالبها على قدر الرَّسُول) الرِّعَايَة الثَّالِثَة تَقْسِيم الارسال بِحَسب اتصافهم بِمَا يطْلب فيهم إِلَى ثَلَاثَة كَمَا يظْهر من كَلَام أرسطو أَحدهَا الْكَامِل الاتصاف بِمَا شَرط فِيهِ وَهُوَ الْمُفَوض إِلَيْهِ بعد الْمعرفَة بغرض مرسله وَلذَلِك لَا يُوصي لاحْتِمَال أَن يرى عِنْد الْمُشَاهدَة أَن الصَّوَاب فِي غير مَا وَصِيّ بِهِ قَالَ

الرعاية الرابعة

(إِذا كنت فِي حَاجَة مُرْسلا ... فَأرْسل حكيما وَلَا توصه) (وَإِن بَاب أَمر عَلَيْك التوى ... فَشَاور لبيبا وَلَا تعصه) الثَّانِي الْمُتَوَسّط الانصاف اقتصارا على الثِّقَة وَالْأَمَانَة والتيقظ وَهُوَ المقتصر على مَا ألْقى إِلَيْهِ من غير زِيَادَة وَلَا نقص ليؤدي الْجَواب عَلَيْهِ كَمَا سَمعه الثَّالِث المقتصر على الْأَمَانَة فَقَط وَهُوَ الموجه بِكِتَاب ليَأْتِي بجوابه قلت وَالْعرْف الْآن أَنه لَا يعد من الارسال وَإِنَّمَا يُسمى رقاصا ورتبته متخلفة عَنْهُم بِكَثِير الرِّعَايَة الرَّابِعَة اجْتِنَاب تَخْصِيص الْوَزير بهَا وَإِن كَانَ المتصف بأكمل الصِّفَات وأجمعها فَفِي سياسة أرسطو إياك أَن ترسل وزيرك وَلَا تخرجه عَن حضرتك فَإِن فِي ذَلِك فَسَاد ملكك قلت لِأَن منزلَة الْوَزير من السُّلْطَان منزلَة السُّلْطَان من الرّعية فَكَمَا لَا تَسْتَغْنِي الرّعية عَن السُّلْطَان لَا يَسْتَغْنِي هُوَ عَن الْوَزير الرِّعَايَة الْخَامِسَة اعْتِمَاد التلطف فِي الْوُصُول إِلَى الْمَقْصُود بهَا والتيقظ لوجوه التهدي غليه تحصيلا واستجلابا كَمَا حكى ابْن رضوَان أَن الْوَزير الشهير أَبَا عبد الله بن الْحَكِيم لما وَفد رَسُولا عَن سُلْطَانه ملك الأندلس

الرعاية السادسة

على السُّلْطَان أبي يَعْقُوب ملك الْمغرب قَالَ لَهُ مَا مطلب سلطانك بعد أَن فعلنَا لَهُ كَذَا وأسعفناه بِكَذَا وَعدد مَا قدمه إِلَيْهِ من الصَّنَائِع الْحَسَنَة فَقَالَ لَهُ نعم يَا مَوْلَانَا رَضِي الله عَنْكُم كل ذَلِك كَانَ وَلم يُنكره مولَايَ وَلَا جَهله لَكِن لِسَان حَاله ينشد (أيا ملبسي النعما الَّتِي جلّ قدرهَا ... لقد خلقت تِلْكَ الثِّيَاب فجدد) قَالَ فأكمل مطالبه ووفى بِحسن تلطفه مآربه الرِّعَايَة السَّادِسَة اتقاء التساهل فِي اخْتِيَار الرَّسُول لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ من عَظِيم الضَّرَر مَعَ الموَالِي والمعادي فَعَن بعض الْحُكَمَاء اختر رَسُولك فِي الْحَرْب والمسالمة فَإِن الرَّسُول يلين الْقُلُوب ويخشنها وَيبعد الْأُمُور ويقربها وَيصْلح الود ويفسده وَكَانَ أزدشير يَقُول كم من دم سفكه الرَّسُول بِغَيْر حق وَكم من جيوش قد قتلت وعساكر قد انتهكت وَمَال قد نهب وعهد قد نقص بخيانة الرَّسُول وَكذبه الرِّعَايَة السَّابِعَة امتحان الرَّسُول قبل ترشيحه للرسالة قَالَ الجاحظ من الْحق على الْملك أَن يمْتَحن رَسُوله محنة طَوِيلَة قبل أَن يَجعله رَسُولا إِلَى بعض خاصته ثمَّ حكى عَن مُلُوك الْأَعَاجِم إِنَّهَا كَانَت تمتحن من تختاره للرسالة بجعله رَسُولا إِلَى بعض خاصته مَعَ جعل عين عَلَيْهِ فَإِذا طابق مَا أَحْصَاهُ

الرعاية الثامنة

الْعين عَلَيْهِ وَعلم صدق لهجته جعله رَسُولا إِلَى عدوه مَعَ بعث الْعين عَلَيْهِ فَإِن اتفقنا فِيمَا رجعا بِهِ وَعلم أَن قد صدقه وسيره رَسُولا إِلَى مُلُوك الْأُمَم ووثق بِهِ وَأقَام بعد ذَلِك خَبره مقَام الْحجَّة انْتهى مُلَخصا الرِّعَايَة الثَّامِنَة إرداف الرَّسُول بثان أَو بثالث ورابع إِن كَانَا اثْنَيْنِ وَذَلِكَ مِمَّا اخذ بِهِ بعض حكماء الْمُلُوك مُبَالغَة فِي التحفظ من خِيَانَة الرَّسُول أَو تَقْصِيره فَعَن أزدشير أَنه كَانَ يَقُول يجب على الْملك إِذْ وَجه رَسُولا إِلَى ملك آخر أَن يردفه بآخر وَإِن وَجه رسولين أَن يتبعهما اثْنَيْنِ فَإِن أمكنه أَن لَا يجمع رسولين فِي طَرِيق وَلَا ملاقاة وَلَا يترافقا فيتوافقا فعل قلت وَهَذَا مُبَالغَة يعسر الْعَمَل بهَا والميسور مِنْهَا لَا يتْرك الرِّعَايَة التَّاسِعَة تربص الْعَمَل بِمُقْتَضى مَا ورد بِهِ الرَّسُول حَتَّى يُوقف على حَقِيقَته من جِهَة أُخْرَى ذكر ذَلِك الجاحظ قَائِلا على السُّلْطَان إِذا عَاد إِلَيْهِ رَسُول بِكِتَاب أَو رِسَالَة من ملك فِي خير أَو شَرّ أَن لَا يحدث فِي ذَلِك أمرا حَتَّى يكْتب إِلَيْهِ مَعَ رَسُول آخر بحكاية الأول حرفا حرفا فَإِن الرَّسُول رُبمَا حرر بعض مَا أمل فافتعل الْكتاب وحرض الْمُرْسل الْمُرْسل إِلَيْهِ وأغرى بِهِ كذبا عَلَيْهِ ثمَّ حكى مَا اتّفق لرَسُول عَن الأسكندر لما أَمر بخلع لِسَانه من قَفاهُ حِين وقف على زِيَادَة مِنْهُ تعرفها بِإِعَادَة ارسول إِلَى من كذب عَلَيْهِ ذَلِك الرَّسُول

الرعاية العاشرة

قلت الْوُقُوع فِي ذَلِك نَادِر والتحفظ مِنْهُ بِهَذِهِ الْمُبَالغَة رُبمَا يتَعَذَّر فَلَا توقف لما ذكر وَالصَّوَاب مَا تَقْتَضِيه الْحَال وَالله تَعَالَى المرشد غليه والمعين لمن شَاءَ عَلَيْهِ الرِّعَايَة الْعَاشِرَة تعلم الرَّسُول مَا يجب عَلَيْهِ شرعا وسياسة فقد قَالَ النَّوَوِيّ فِي فصل معرفَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُسَافِر حَسْبَمَا تقدم عَنهُ وَإِن كَانَ رَسُولا عَن سُلْطَان إِلَى سُلْطَان أَو نَحوه اهتم بتَعَلُّم مَا يحْتَاج غليه من أدب المخاطبات وأجوبة المحاورات وَمَا يحل من الضيفات والهدايا وَمَا يجب عَلَيْهِ من رعايات النَّصِيحَة وَتُوفِّي الْغِشّ وَالْخداع والنفاق والحذر من التثبت فِي مُقَدمَات الْعذر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يتَعَيَّن عَلَيْهِ انْتهى مُلَخصا تتميم من مستحسن مَا وفت بِهِ الارسال من حُقُوق مرسلها فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ بِحسن السِّيرَة على أبلغ بَيَان مَا حدث بِهِ الجاحظ عَن الْفضل بن سهل قَالَ كَانَت الْمُلُوك إِذا جَاءَت بالهدايا لِلْمَأْمُونِ تجْعَل اخْتلَافهمْ إِلَيّ فَكنت أسأَل رجلا مِنْهُم عَن سير مُلُوكهمْ وأخبار عظمائهم فَسَأَلت رَسُول ملك الرّوم عَن سير ملكهم فَقَالَ بذل عرفه وجرد سَيْفه فاجتمعت عَلَيْهِ الْقُلُوب رَغْبَة وَرَهْبَة لَا يبطر جنده وَلَا يحوج رَعيته سهل النوال حزن النكال الرَّجَاء وَالْخَوْف معقودان فِي يَده فَقلت كَيفَ حكمه قَالَ يرد الظُّلم ويردع الظَّالِم وَيُعْطِي كل ذِي حق حَقه فالرعية اثْنَان رَاض ومغتبط قلت وَكَيف هيبتهم لَهُ قَالَ يتَصَوَّر فِي الْقُلُوب فتغضى لَهُ الْعُيُون قَالَ فَنظر رَسُول ملك الْحَبَشَة إِلَى إصغائي لَهُ إقبالي عَلَيْهِ فَسَأَلَ ترجمانه مَا الَّذِي يَقُول الرُّومِي قَالَ لَهُ يذكر ملكهم ويصف سيرته فَتكلم مَعَ الترجمان بِشَيْء فَقَالَ لَهُ الترجمان إِنَّه يَقُول أَن ملكهم ذُو أَنَاة

العارض الخامس

عِنْد الْقُدْرَة وَذُو حلم عِنْد الْغَضَب وَذُو سطوة عِنْد المغالبة وَذُو عُقُوبَة عِنْد الإجرام وَقد كسى رَعيته جميل نعْمَته وخوفهم عنيف عُقُوبَته فهم بتراؤه ترائي الْهلَال خيالا ويخافونه مَخَافَة الْمَوْت نكالا أوسعهم عدله ورد عَنْهُم سطوته فَلَا تمتهنه مزحة وَلَا توهنه غَفلَة إِذا أعْطى أوسع وَإِذا عاقب أوجع فَالنَّاس اثْنَان راج وخائف فَلَا الراجي خائب الأمل وَلَا الْخَائِف بعيد الْأَجَل قلت فَكيف هيبتهم لَهُ قَالَ لَا ترفع غليه الْعُيُون أجفانها وَلَا تتبعه الْأَبْصَار إنسانها كَأَن رَعيته قطا رفرفت عَلَيْهِم صقور صوائد فَحدثت الْمَأْمُون بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين فَقَالَ كم قيمتهَا عنْدك قلت ألفا دِرْهَم قَالَ يَا فضل إِن قيمتهَا عِنْدِي لأكْثر من الْخلَافَة أما علمت قَول عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قيمَة كل أمرء هِيَ مَا يحسن أفتعرف أحدا من الخطباء البلغاء يحسن أَن يصف أحدا من خلفاء الله الرَّاشِدين المهديين بِمثل هَذِه الصّفة فقد أمرت لَهما بِعشْرين ألف دِينَار وَأَجْعَل الْعذر مَادَّة بيني وَبَينهمَا فِي الْجَائِزَة فلولا حُقُوق الْإِسْلَام وَأَهله لرأيت إعطاءهما مَا فِي بَيت مَال الْعَامَّة والخاصة دون مَا يستحقانه الْعَارِض الْخَامِس الْوُفُود وللسياسة الفاضلة بهم عنايات الْعِنَايَة الأولى احتفال السُّلْطَان للقائهم بِإِظْهَار زِينَة الْملك وجماله فقد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتجمل بهَا للوفود والعظماء قَالَ الْقَرَافِيّ وَذَلِكَ أهيب وأوقع فِي النُّفُوس وأجدر لحُصُول التَّعْظِيم فِي الصُّدُور

قَالَ ابْن رضوَان فَهُوَ أَمر عادي وشرعي الْعِنَايَة الثَّانِيَة إكرام من يرد فيهم من ذَوي النباهات فِي قومه وَفِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما وَفد عَلَيْهِ زيد الْخَيل بسط لَهُ رِدَاءَهُ وَأَجْلسهُ عَلَيْهِ وَقَالَ إِذا أَتَاكُم كريم قوم فأكرموه الْعِنَايَة الثَّالِثَة حسن الإقبال عَلَيْهِم بالتلطف لَهُم فِي الْخطاب تأنيسا لَهُم وإدلالا فَفِي الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ رَفِيقًا بالوفد قلت كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوفد عبد الْقَيْس مرْحَبًا بالوفد غير خزايا وَلَا ندامى الْعِنَايَة الرَّابِعَة الْأذن فِي الْكَلَام لمن هُوَ أهل لَهُ فِي الْمقَام السلطاني لِئَلَّا يتجاسر عَلَيْهِ من لَا يسْتَحقّهُ هُنَاكَ فَفِي وفادة قُرَيْش على سيف بن ذِي يزن قَوْله لعبد الْمطلب جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَ لَا يعرفهُ وَأَرَادَ أَن يتَكَلَّم إِن كنت مِمَّن يتَكَلَّم بَين يَدي الْمُلُوك فقد أذنا لَك وَفِي وفادة الْحِجَازِيِّينَ على عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ قَوْله للغلام الَّذِي تصدر

للْكَلَام ليَتَكَلَّم من هُوَ أسن مِنْك الْعِنَايَة الْخَامِسَة إفَاضَة الْإِحْسَان على وَفد التهنئة مُبَالغَة فِي الترحيب بهم وَإِدْخَال السرُور عَلَيْهِم قَالَ ابْن رضوَان وَهِي من سنَن الْمُلُوك الْحَسَنَة وَكَأَنَّهَا فِي معرض شكر الله تَعَالَى بِإِدْخَال المسرة على خلقه على النِّعْمَة المهناء بهَا انْتهى شرح إِشَارَة تقدّمت بحكايتين فيهمَا جمل من آدَاب هَذَا الْمقَام الْحِكَايَة الأولى قَضِيَّة وَفد قُرَيْش على سيف بن ذِي يزن يرْوى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لما ظفر سيف بن ذِي يزن بِالْحَبَشَةِ وَذَلِكَ قبل بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهُ وُفُود الْعَرَب وأشرافهم وشعراؤهم لتهنئته وتمدحه وَأَتَاهُ وَفد قُرَيْش وَفِيه عبد الْمطلب بن هَاشم وَأُميَّة بن عبد شمس وخويلد بن أَسد فِي عدَّة من وُجُوه قُرَيْش وَأهل مَكَّة وأتوه بِصَنْعَاء وَهُوَ فِي قصره الَّذِي يُقَال لَهُ غمدان فَاسْتَأْذنُوا عَلَيْهِ فَأذن لَهُم ودخلوا عَلَيْهِ وَهُوَ متضمخ بالعنبر وبيض الْمسك من مفارقه وَعَن يَمِينه ويساره الْمُلُوك وَأَبْنَاء الْمُلُوك فَاسْتَأْذن عبد الْمطلب فِي الْكَلَام وَكَانَ أجل الْقَوْم قدرا وأعظمهم فخرا وَأَعْلَاهُمْ نسبا وَأكْرمهمْ حسبا وَلم يكن سيف يعرفهُ فَقَالَ لَهُ إِن كنت مِمَّن يتَكَلَّم بَين يَدي الْمُلُوك فقد أذنا لَك فَقَالَ عبد الْمطلب أَيهَا الْملك إِن الله عز وَجل قد أحلك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتك نباتا طابت أرومته وعزت جرثومته وَثَبت أَصله وبسق فَرعه فِي أكْرم مَعْدن وَأطيب موطن وَأَنت رَأس الْعَرَب

وربيعها الَّذِي بِهِ تخصب وعمودها الَّذِي عَلَيْهِ الْعِمَاد ومعقلها الَّذِي إِلَيْهِ يلجأ الْعباد سلفك خير سلف وَأَنت مِنْهُم خير خلف وَلنْ يخمد ذكر من أَنْت خَلفه أَيهَا الْملك نَحن أهل حرم الله وسدنة بَيته أشخصنا عَلَيْك الَّذِي أبهجنا بك فَنحْن وَفد التهنئة لَا وَفد المرزية قَالَ فَأَيهمْ أَنْت أَيهَا الْمُتَكَلّم قَالَ أَنا عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف قَالَ ابْن أُخْتنَا قَالَ نعم قَالَ ادن فأدناه ثمَّ أقبل عَلَيْهِ وعَلى الْقَوْم قَالَ مرْحَبًا وَأهلا وناقة ورحلا وَأمنا ومستناخا سهلا وملكا مجلا يُعْطي عَطاء جزلا قد سمع الْملك مَقَالَتَكُمْ وَعرف قرابتكم وَقبل وسيلتكم لكم الْكَرَامَة رحبا مَا أقمتم والحباء إِذا أظعنتم فَأخْبرهُ ببعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قومه وَأمر لكل رجل مِنْهُم بِمِائَة من الْإِبِل وَعشرَة أعبد وَعشر إِمَاء وَعشرَة أَرْطَال ذَهَبا وَعشرَة أَرْطَال فضَّة وكرش عنبر وَأمر لعبد الْمطلب بِعشْرَة أَمْثَال مَا أَمر لَهُم الْحِكَايَة الثَّانِيَة خبر وَفد الْحِجَازِيِّينَ على عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ فيروى أَنه لما ولي الْخلَافَة وَفد عَلَيْهِ الْوُفُود من كل بِلَاد فوفد عَلَيْهِ الحجازيون فَتقدم غُلَام مِنْهُم للْكَلَام وَكَانَ حَدِيث السن فَقَالَ لَهُ عمر ليَتَكَلَّم من هُوَ أسن مِنْك فَقَالَ أصلح الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا الْمَرْء بأصغريه قلبه وَلسَانه فَإِذا منح الله عبدا لِسَانا لافظا وَقَلْبًا حَافِظًا فقد اسْتحق الْكَلَام وَعرف فَضله من سمع خطابه من الْأَنَام وَلَو أَن الْأَمر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بِالسِّنِّ لَكَانَ فِي مجلسك هَذَا من الْأمة من هُوَ أَحَق بِهِ مِنْك فَقَالَ نعم صدقت قل مَا بدا لَك فَقَالَ

الْغُلَام أصلح الله أَمِير الْمُؤمنِينَ نَحن وَفد تهنئة لَا وَفد تَعْزِيَة وَقد أَتَيْنَاك لحق الله الَّذِي من علينا بك لم يقدمنا عَلَيْك رَغْبَة وَلَا رهبة أما الرَّغْبَة فقد أتتنا مِنْك وَأما الرهبة فقد أمنا جورك بعدلك فَقَالَ لَهُ عمر عظني يَا غُلَام فَقَالَ اصلح الله أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن نَاسا من النَّاس غرهم حلم الله تَعَالَى عَنْهُم وَطول آمالهم وَكَثْرَة ثَنَاء النَّاس عَلَيْهِم فزلت بهم أَقْدَامهم فهووا فِي النَّار فَلَا يغرنك حلم الله تَعَالَى وَطول أملك وَكَثْرَة ثَنَاء النَّاس عَلَيْك فتزل بك قدمك فتلحق بالقوم فَلَا جعلك الله مِنْهُم وألحقك بِصَالح هَذِه الْأمة ثمَّ سكت فَسَأَلَ عمر عَن سنّ الْغُلَام فَإِذا هُوَ ابْن ثَمَان عشرَة سنة ثمَّ سَأَلَ عَن نسبه فَإِذا هُوَ من ولد الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وتمثل بقوله (تعلم فَلَيْسَ الْمَرْء يُولد عَالما ... وَلَيْسَ أَخُو علم كمن هُوَ جَاهِل) (وَإِن كَبِير الْقَوْم لَا علم عِنْده ... صَغِير إِذا الْتفت عَلَيْهِ المحافل) (وَإِن صَغِير الْقَوْم وَالْعلم عِنْده ... كَبِير إِذا ردَّتْ غليه الْمسَائِل)

الفصل الثاني

الْفَصْل الثَّانِي فِي سياسة الْوَزير وَالْمَذْكُور مِنْهَا بِاعْتِبَار مَا يَخُصُّهُ ثَلَاث سياسات لنَفسِهِ وسلطانه وأرباب دولته السياسة الأولى سياسة لنَفسِهِ لينتهض بِمَا تحمل مَا وَرَاءَهَا كَمَا قيل لَا يضْبط الْكثير من النَّاس من لَا يضْبط نَفسه الْوَاحِدَة وجوا مَعهَا الْكُلية أَخذ نَفسه بمعتقدات علمية وعزائم عملية فَهِيَ ضَرْبَان الضَّرْب الأول المعتقدات العلمية وَهِي جملَة المعتقد الأول إِن بِالتَّصَرُّفِ بِمُقْتَضى الْعدْل والنصفة يملك سَائِر الْقُلُوب ويظفر مِنْهَا بالمحبة الصادقة وبموجب الْجور والقهر لَا يملك مِنْهَا إِلَّا التصنع فِي الظَّاهِر وَهِي طالبة فِي السِّرّ لمن يملكهَا وَيَأْمُر عَلَيْهَا بِمَا تنقاد إِلَيْهِ ظَاهرا وَبَاطنا

المعتقد الثاني

قلت وَهَذَا وَإِن سيق مثله فِي السُّلْطَان فَهُوَ يجْرِي فِي الْوَزير إِذْ هُوَ فَرعه وَشعْبَة مِنْهُ المعتقد الثَّانِي إِن بَقَاء النِّعْمَة عَلَيْهِ بِبَقَاء النِّعْمَة مِنْهُ واستقامة الْأُمُور على حسب استقامتها بِهِ قلت لِأَن النِّعْمَة من العَبْد شكران على النِّعْمَة عَلَيْهِ فَإِذا كفر بهَا بِتَرْكِهِ فقد عرضهَا للزوال كَمَا تقدم تَقْرِيره فِي الشُّكْر فليستحضر مَعْنَاهُ فِي هَذَا الْمقَام المعتقد الثَّالِث إِن صَلَاح الْأَمر بِهِ أفضل مَا يعْتَمد بِهِ من فَوَائِد الْولَايَة وعوائد الخصوصية بهَا كشمول الْأَمْن وَعُمُوم الرِّضَا ووفاء الذِّمَّة وإفاضة الْإِحْسَان فبذلك تحسن الْأَيَّام ويطيب الذّكر وتملك الْقُلُوب وَلَا كَذَلِك إِذا أعرض عَن هَذَا الْقَصْد ونأى عَنهُ بجانبه المعتقد الرَّابِع إِن إِيثَار الرَّاحَة وَقت الْحَاجة إِلَى الْحَرَكَة يعقب تعبا لَا بُد مِنْهُ عِنْد فَوَات البدار إِلَيْهَا تحصيلا لمصلحتها وَإِذ ذَاك فَتحمل تعبها أولى من النهوض لتعب لَا فَائِدَة فِيهِ الْبَتَّةَ المعتقد الْخَامِس إِن الْإِبْقَاء على من يهم بِزَوَال نعْمَته رِعَايَة لموجب الْإِقَالَة لَهُ من عناية سَابِقَة وَاسْتِحْقَاق لدوام استصحابها كَفِيل بِحسن الحراسة من الله تَعَالَى بإحراز السَّلامَة من التبعة وادخار المثوبة عَلَيْهِ يَوْم الْجَزَاء

الضرب الثاني

الضَّرْب الثَّانِي العزائم العلمية وَهِي جملَة الْعَزِيمَة الأولى تَقْدِيم تقوى الله واستشعار مراقبته فِيمَا أوجب عَلَيْهِ من طَاعَة السُّلْطَان ومقابلة ثقته بِهِ بِمَا يُوفي بحقوقه اللَّازِمَة وَحمل الكافة على مُقْتَضى الشَّرْع الَّذِي هُوَ نِهَايَة المعدلة بَينهم وبذل الوسع فِيمَا تقلد من ذَلِك وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي الْوَفَاء بِهِ الْعَزِيمَة الثَّانِيَة مسارعته للْقِيَام بِالْأَعْمَالِ الوقتية والوظائف الْحَاضِرَة حذرا من آفَات التَّأْخِير ومحذور عوائقه وَأَيْضًا فالوقت الَّذِي تُؤخر إِلَيْهِ لَهُ عمل آخر يَخُصُّهُ قَالُوا وَأَقل مَا يلْحق من ازدحام الْأَعْمَال دُخُول الْخلَل فِيهَا الْعَزِيمَة الثَّالِثَة احترازه من إغفال شَيْء تقلده اتكالا على ثَنَاء النَّاس عَلَيْهِ بمحاسن الْقيام بالوظيف لما يظنّ بِهِ من الْخُرُوج عَن الْمَحْمُود مِنْهُ بِمِقْدَار مَا خرج إِلَيْهِ من ذَلِك وَلِأَن الثِّقَة بمدح النَّاس ذهولا عَن المساوئ الْبَاطِنَة عدُول عَن اعْتِبَار مَا هُوَ أوفى فِي الْمعرفَة وأصدق فِي الدّلَالَة الْعَزِيمَة الرَّابِعَة اعْتِمَاده عِنْد توزيع وظائف الْخدمَة على وسيلتين الْكِفَايَة وَالْأَمَانَة وَإِن كَانَ المتصف يهما بَعيدا عَن الْعِنَايَة بِهِ لَوْلَا هما وَذَلِكَ لما يعود بِهِ قبُول

العزيمة الخامسة

مَا سواهُمَا من التضييع المتصف بهما والخيانة مَعَ الرَّمْي بنقيضه الإيثار بهوى أَو هواده أَو تَقْصِير الْعَزِيمَة الْخَامِسَة ترفعه عَن التبذل لِكَثْرَة مُبَاشرَة الْعَامَّة لما فِي طباعها من إهانة من خالطها وتنقيصه بإفراط الدَّالَّة عَلَيْهِ لَكِن بِحَيْثُ لَا يفرط فِي غلطة الْحجاب لما تقدم من تَقْرِير مضرته وَعظم الْوَعيد عَلَيْهِ فقد جعل الله لكل شَيْء قدرا السياسة الثَّانِيَة سياسة السُّلْطَان وَذَلِكَ بآداب يعظم يعظم بهَا مقامة ومتقيات يحذر مِنْهَا فِي خدمَة ملكه وتدبيره فَهِيَ نَوْعَانِ النَّوْع الأول وَهُوَ جملَة آدَاب الْأَدَب الأول إخلاص النِّيَّة الصَّالِحَة فِي كل مَا يلفظ بِهِ بَين يَدَيْهِ فقد قَالَ أفلاطون إِذا طابق الْكَلَام نِيَّة الْمُتَكَلّم حرك نِيَّة السَّامع وَإِن خالفها لم يحسن موقعه مِمَّن أُرِيد بِهِ وَذكر قَضيته مَعَ الْملك الَّذِي سجنه قلت وَقَول الشَّيْخ تَاج الدّين كل كَلَام يبرز عَلَيْهِ كسْوَة الْقلب الَّذِي برز مِنْهُ يَشْمَل هَذَا الْمقَام وَغَيره ويعمه

الأدب الرابع

الْأَدَب الثَّانِي عدوله بالسلطان عَن الْمضرَّة بِالنَّاسِ مَتى سلك طريقها بأعمال التلطف لَهُ فِي جذبه بالرفق بطرِيق الْمَنْفَعَة مظْهرا بِالنَّاسِ مَتى سلك طريقها بأعمال التلطف لَهُ فِي جذبه بالرفق بطرِيق الْمَنْفَعَة مظْهرا لَهُ أَن صورته عِنْده محبَّة الْإِحْسَان وَكَرَاهَة الأضرار قلت وبالوثوق بِهِ يلجئه للسلوك على النهج الَّذِي أرشده إِلَيْهِ ذَلِك بنج الْهِدَايَة عَلَيْهِ الْأَدَب الثَّالِث تنزله فِي إِلْقَاء الْفَائِدَة للسُّلْطَان بِحَيْثُ لَا يشْعر بِأَنَّهُ الْمُفِيد لَهُ بهَا فَفِي الأفلاطونيات يَنْبَغِي للوزير أَن يخرج إفادته للْملك فِي صُورَة الاستفادة مِنْهُ وَلَا ينسى مَحَله عِنْد رفع السُّلْطَان لَهُ وَفِي العهود اليونانية إِذا شاورك الْملك فَلَا تكَلمه كَلَام المرشد لمن استهداه فِيمَا أشكل عَلَيْهِ ولير فِيك من الْحَاجة إِلَى عرض مَا تُشِير بِهِ عَلَيْهِ أَكثر من حَظه فِي فَائِدَة مَا بدا مِنْك الْأَدَب الرَّابِع تَنْبِيه سُلْطَانه على إِمْضَاء التَّغْيِير لما يخل بِحِفْظ الشَّرِيعَة بإحياء سننها وقمع الْبدع فِيهَا مَعَ إِحَالَة ذَلِك عَلَيْهِ بعد مبادرته هُوَ لواجب التَّغْيِير بِنَفسِهِ ليظْهر للنَّاس أَن عناية السُّلْطَان بذلك فَوق مَا أهمه هُوَ من الْعِنَايَة بِهِ قَالَ فِي العهود فَإنَّك تهدي إِلَيْهِ فِيهِ مَا يزِيد فِي مكانتك وَيحسن أثارك ويطيب أخبارك الْأَدَب الْخَامِس أَعمال جهده فِي التمَاس عذر السُّلْطَان فِي مَا أقرّ لَهُ فِيهِ بالْخَطَأ مَعَ الحذر من التَّصْرِيح بالموافقة عَلَيْهِ فَفِي الأفلاطونيات إِذا ذكر لَك رَئِيس خطأ كَانَ مِنْهُ واعترف بِهِ فأجل فكرك فِي الِاعْتِذَار لَهُ مِنْهُ وَاحْذَرْ أَن تعنفه وَلَا تجمع مَعَه على ذمه

الأدب السادس

قلت ينظر إِلَى هَذَا قَوْله فِي مَوضِع آخر إِذا أردْت تسكين غضب الْملك على أحد فَادْخُلْ مَعَه فِي غيظة وَصغر أمره وأعلمه أَن مَنْزِلَته دون الَّتِي خرج إِلَيْهَا الْملك ليستريح إِلَيْك ويسكن ثمَّ يَتَأَتَّى لَهُ بعد ذَلِك كَمَا يعْمل الزّجاج بِآلَة الزّجاج ينقلها بعد الْخُرُوج من النَّار إِلَى مَوضِع حَار لِئَلَّا يضر بهَا برد الْهَوَاء الْأَدَب السَّادِس تَخْصِيص من أحسن إِلَيْهِ على تَخْصِيص الشُّكْر بالسلطان وَالِاعْتِرَاف لَهُ بالمنة لما فِيهِ تَعْظِيم مقَامه وتوفيقه على إِيثَار لَهُ بنتائج المساعي الحميدة فَفِي العهود حرض من أَحْسَنت إِلَيْهِ شكر الْملك دُونك ليقف على أَن سعيك لَهُ أَكثر من سعيك لنَفسك الْأَدَب السَّابِع اقْتِصَاره فِي التصريف بِمُقْتَضى الْفَضَائِل الملوكية على فضيلتي الصَّبْر وَالْعدْل وَمَا وَرَاء ذَلِك فَإلَى السُّلْطَان لَا لَهُ فَفِي الأفلاطونيات يحْتَاج الْوَزير إِلَى أَن لَا يُنَازع الْملك فَضِيلَة إِلَّا فَضِيلَة الصَّبْر على مزاولة الْأُمُور وَالْعدْل فِيهَا وَإِعْطَاء كل طبقَة مَا تستحقه فَإِن هَذَا لَهُ خَاصَّة وَالْملك الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان بِمِقْدَار ميله ومحبته والتسمح الَّذِي لَا يسع الْوَزير فِي شَيْء مِنْهُ الْأَدَب الثَّامِن مُرَاعَاة أَحْوَال سُلْطَانه فِي السِّرّ والجهر والغيبة عَنهُ والحضور مَعَه بِحَيْثُ لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أُمُوره وَلَا يغيب عَنهُ قَلِيل مِنْهُ وَلَا كثير

الأدب التاسع

قَالَ الطرطوشي لَا يعرف مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ حَتَّى يُرَاعِي من صَاحبه الواثق بِهِ مَا يراعيه العاشق الغيور من المعشوقة المتهمة قلت وَلَا يخفى على ذِي فهم فَإِذا بِهِ يتَوَصَّل إِلَى ذَلِك الْأَدَب التَّاسِع معرفَة خلق سُلْطَانه ليسلك فِي التَّدْبِير على حسبها وَهِي السخاء وَالْبخل وَالْقُوَّة على التَّدْبِير والضعف والاسترسال وَسُوء الظَّن وَحسن الْبشر والانقباض والسخي يُؤثر الشُّكْر على التوفير والبخيل يُؤثر التوفير على الشُّكْر وَالْقَوِي على التَّدْبِير يَسْتَدْعِي الْمُشَاركَة على السَّعْي ويحرز بذلك الْحجَّة للمشاركة والضعيف على التَّدْبِير يركن إِلَى التَّفْوِيض وَالْحِيلَة لما لَا يحمد عاقبته وَالْحسن الظَّن يتَمَكَّن مَعَه من إحكام أُمُوره وَيتبع فِيهَا أقْصَى مبالغ الْمصلحَة والسيئ الظَّن يشْتَغل بِطَلَب الْخَلَاص مِنْهُ على التفرغ لتدبيره وَالْحسن الْبشر يزِيد فِي نشاط صَاحبه وَيملك قُلُوب الْأَحْرَار بإقباله والشديد الانقباض يكل عَن السَّعْي فِي أُمُوره وَيمْنَع انْشِرَاح الصَّدْر لموالاته قَالَ فِي العهود اليونانية وَيحدث عَن هَذِه الْأَخْلَاق إِذا ازدوجت سِتَّة عشر نوعا قَالَ وَقد ظن أَن بَين كل خلق مِنْهَا وضده خلقا معتدلا وَهَذَا مَوْجُود فِي الْعقل وَلَا ظُهُور لَهُ فِي الْحس وَالْمرَاد مَا يغلب من ذَلِك حسا قَالَ فأعط صُورَة من تخدمه من الْمُلُوك مَا يُنَاسب تأليفها من التَّدْبِير يحسن أثرك وينقاد لَك سلطانك فَائِدَة لمعْرِفَة أَخْلَاق السُّلْطَان طَرِيقَانِ طَرِيق الْمُبَاشرَة لَهُ وَطَرِيق اعْتِبَارهَا بأخلاق من يغلب عَلَيْهِ فَفِي الأفلاطونيات اعرف أَخْلَاق الْملك من أَخْلَاق من يغلب عَلَيْهِ من معاشريه وَأدْخل إِلَيْهِ من خلق أقربهم إِلَيْهِ أَن وثقت من نَفسك بنفاذ فِي ذَلِك

الأدب العاشر

الْأَدَب الْعَاشِر وَهُوَ رَأس الْأُمُور كلهَا وملاك هَذِه الْآدَاب تقوى الله تَعَالَى وَذَلِكَ فِي تَقْدِيم طَاعَته وَذَلِكَ لأمرين أَحدهمَا أَن السُّلْطَان لَا طَاعَة لَهُ فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى لما تقرر ذَلِك شرعا وَأنْظر فِي موعظة الْحسن لِابْنِ هُبَيْرَة وَقد سَأَلَهُ عَن الْكتاب يرد عَلَيْهِ من سُلْطَانه بِمَا فِيهِ مُخَالفَة هَل لَهُ سَعَة فِي تَقْدِيم الطَّاعَة لَهُ فَقَالَ الله أَحَق أَن تُطِيعهُ وَلَا طَاعَة لَهُ فِي مَعْصِيّة الله فَأَعْرض كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ على كتاب الله فَإِن وجدته مُوَافقا لَهُ فَخذ بِهِ وَإِن وجدته مُخَالفا فَأَبْعَده يَا ابْن هُبَيْرَة اتَّقِ الله فَإِنَّهُ يُوشك أَن يَأْتِيك رَسُول من رب الْعَالمين يزيلك عَن سريرك ويخرجك من سَعَة قصرك إِلَى ضيق قبرك فتدع سلطانك ودنياك خلف ظهرك وَتقدم على رَبك وتنزل على عَمَلك يَا ابْن هُبَيْرَة وَإِن الله ليمنعك من يزِيد وَإِن يزِيد لَا يمنعك من الله وَإِنِّي لأحذرك بَأْس الله الَّذِي لَا يردهُ الْقَوْم الْمُجْرمين انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ وأحصل فِي يَدَيْهِ إِذا خرجت عَن يَديك وَإِنَّمَا لَك عَليّ الطَّاعَة فِي طَاعَته وَلَيْسَ لَك عَليّ الطَّاعَة فِي مَعْصِيَته فَبكى الْملك واستدناه وَزَاد فِي إكرامه

الثَّانِي إِن بِتَقْدِير إيثاره بِالطَّاعَةِ فَهُوَ الَّذِي بتسليطه تعجل الْعقُوبَة فقد قَالَ المقتدر بِاللَّه لوزيره عَليّ بن عِيسَى اتَّقِ الله يعطفني عَلَيْك وَلَا تعصه فيسلطني عَلَيْك قَالَ الْمَأْمُون لبَعض وزرائه إياك أَن تَعْصِي الله فِيمَا تتقرب بِهِ إِلَيّ فيسلطني عَلَيْك قلت وَأولى إِذا كَانَت الْمعْصِيَة بِالطَّاعَةِ لَهُ فِي مَحْظُور كَمَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث من أعَان ظَالِما عَلَيْهِ كِفَايَة مَحْذُور قد دلّ الْوُجُود وَشهد العيان أَن الصدْق مَعَ الله تَعَالَى فِي تَقْدِيم طَاعَته ضَامِن للنجاة وتيسير الْخَلَاص الْجَمِيل كَمَا حكى عَن الْوَزير الَّذِي أمره ملكه بقتْله فَقَالَ لَهُ إِن رأى الْملك أَن يعرفنِي بِمُوجب ذَلِك فعل قَالَ لَهُ إِنَّك حملت نَفسك على مخالفتي على حَال لَا يستجيزها رشيد فَقَالَ لَهُ الْوَزير لَو كنت أَيهَا الْملك مالكي وَحدك لأنفذت مَا تَأْمُرنِي بِهِ من

غير مَسْأَلَة وَلَا استرابة وَلَكِنَّك تملك ظاهري ولي من سري وعلانيتي واحصل فِي يَدَيْهِ إِذا خرجت عَن يَديك وَإِنَّمَا لَك عَليّ الطَّاعَة فِي طَاعَته وَلَيْسَ لَك عَليّ الطَّاعَة فِي مَعْصِيَته فَبكى الْملك واستدناه وَزَاد فِي إكرامه

النوع الثاني

النَّوْع الثَّانِي المتقي وَهُوَ جملَة متقيات المتقي الأول إِمْضَاء مَا فوض إِلَيْهِ من غير مطالعة (45) لَهُ بمهماته. فَفِي الافلاطونيات: إِذا استوزرك الْملك فَلَا تقبلن مِنْهُ تفويضه فَإِن ذَلِك مخطر بالوزير قلت زَاد فِي العهود والتفويض مَظَنَّة للتكثير قَالَ فَإِن أكرمك بذلك لموجب فأشرك مَعَك حَاكم الشَّرِيعَة وخلد كل مَا أمضيته فِي ديوَان مُفْرد لَهُ وطالع الْملك بجملة ذَلِك تسلم المتقي الثَّانِي ترك التحفظ فِي كَلَامه عِنْد مُخَاطبَة السُّلْطَان كمجاوزة مِقْدَار الْحَاجة فِيهِ والاحتجاج لغيره فَفِي العهود تحفظ فِي كلامك عِنْد مخاطبته وَاحْذَرْ أَن يتَعَدَّى قَوْلك مَا دعت إِلَيْهِ الْحَاجة وَسلم النَّاس عَلَيْك فِيهِ وجنب كلامك الِاحْتِجَاج بغيرك والتمثيل بسواك فَرُبمَا أضرّ هَذَا بك وبمن تذكره المتقي الثَّالِث تقدم السُّلْطَان عَلَيْهِ فِيمَا يعود بصلاح الْملك جدا وتشميرا فَفِي العهود وَاعْلَم أَن عارا ونقيصة بك أَن يتقدمك الْملك فِي الصَّبْر على الملاذ وهجر الدعة وَشدَّة الْيَقَظَة وَقُوَّة التفكير فِي مصلحَة

المملكة فَإِنَّهُ إِن سامحك بذلك وسره فِي نَفسه تقدمه عَلَيْك فِيهِ فَهُوَ يحطك لَدَيْهِ وَيرى أَنه لَا مؤازر لَهُ فِيمَا عداهُ وَتَابعه فاجتهد أَن يراك مُتَقَدما لَهُ فِيهَا وَلَا يحس مِنْك بتقصير عَنْهَا المتقي الرَّابِع إِظْهَار مَا لَهُ من فَضَائِل تجَاوز فَضَائِل أهل طبقتك فَفِي الأفلاطونيات إِذا خدمت ملكا فَلَا تظهر مِنْك لَهُ فَضِيلَة تجَاوز فَضَائِل أهل طبقتك فَإِنَّهُ لَا يحسن موقعها لَك وَيرى بهَا أَن قعودك أَكثر من كفايتك قلت ينظر إِلَى هَذَا قَوْله فِي مَوضِع آخر يَنْبَغِي لمن طَال لِسَانه وَحسن بَيَانه أَلا يحدث النَّاس بِغَرَائِب مَا يسمع فَإِن الْحَسَد لحسن مَا يظْهر مِنْهُ يحملهم على تَكْذِيبه وَترك الْخَوْض فِي الشَّرِيعَة وَإِلَّا حملتهم المنافسة على تكفيره المتقي الْخَامِس إجَابَته لمشاركة السُّلْطَان فِيمَا يذهل بِهِ عَن التَّدْبِير والسياسة وَلَو فِي لَحْظَة من الزَّمَان فَفِيهَا إِذا اسْتعْملت على أَمر ملك والسياسة وَلَو فِي لَحْظَة من الزَّمَان فَفِيهَا إِذا اسْتعْملت على أَمر ملك فَلَا تأنس بلذة وَلَا بنعماء فِي الْوَقْت الَّذِي يَخْلُو بِهِ لذَلِك وَاسْتعْمل الْجد وَالتَّدْبِير فِي الْوَقْت الَّذِي يهزل فِيهِ وَإِن دعَاك إِلَى مشاركته أعلمته أَنه لَا يجب أَن يجتمعا على اللَّهْو لِئَلَّا يغيب نور الْعقل عَن المملكة المتقي السَّادِس ذمّ رذيلة ظَهرت فِيهِ وَنَهْيه عَنْهَا فَفِيهَا لَا تذمن رذيلة ظَهرت فِي أحد من الْمُلُوك عِنْده وَلَا تنه عَنْهَا فَإِن الْأَمر وَالنَّهْي للْملك دُونك وَلَكِن أذكر لَهُ الْفَضِيلَة الَّتِي خرجت تِلْكَ الرذيلة عَنْهَا وحسنها عِنْده فَإِنَّهُ يلْزمهَا وَيضْرب عَمَّا ظهر مِنْهُ من تِلْكَ الرذيلة كَأَن يبخل

فتحسن لَهُ تَوْفِيَة الْأَشْيَاء وإعطاءها حُقُوقهَا وتقبح عِنْده الْخرق والسرف فَإنَّك إِذا عَرفته بذلك رأى قبح الْبَخِيل فيجتنبه المتقي السَّابِع إقدامه على مجاوبة معادية فِي الْمجْلس السلطاني إِلَّا بِإِذن فَفِيهَا إِذا نابزك أحد بَين يَدي الْملك فَلَا تكَلمه إِلَّا بِإِذْنِهِ وَاذْكُر لَهُ أَنَّك لَا تطلق لسَانك فِي مَجْلِسه لجلالته عنْدك بِجَمِيعِ مَا يحضرك فِيهِ وَأظْهر التهاون بذلة والتبسم مِنْهُ فَإِنَّهُ يتشيظ وَتَقَع بِهِ التُّهْمَة وَأَنت وادع المتقي الثَّامِن تَغْطِيَة بِحَضْرَة السُّلْطَان فَفِيهَا لَا تتغيظ بَين يَدي الْملك فَإِن الغيظ يُحَرك الِانْتِصَار وَلَا يكون فِي مَجْلِسه إِلَّا بِهِ وَلَكِن حرك غضب الْملك بِوُجُوب الْحجَّة وخل بَينه وَبَين الْأَمر المتقي التَّاسِع تشفي الغيظ بِهِ من عَدو مكافح إيهاما أَن ذَلِك من مصَالح ملكه فَفِيهَا أَشد الْأَشْيَاء على الرئيس أَن قد تتشفى بِهِ من عَدوك وتوهمه أَن ذَلِك من مصلحَة أمره فَإنَّك تُقِيمهُ مقَام الْكَلْب الَّذِي تحركه على مَا ينفعك دونه فاحذر هَذَا وَلَا

تظهر لَهُ بغضا لأحد أَو محبَّة وَاجعَل غضبك ورضاك تِلْقَاء استخفاف النَّاس من مَمْلَكَته المتقي الْعَاشِر تكلفه للسُّلْطَان مَا لَا يُوفي بِهِ مِقْدَاره فَفِي العهود لَا تنزل من الْملك منزلَة تحْتَاج فِيهَا إِلَى تكلّف مَا لَيْسَ فِي طبعك والاستعانة عَلَيْهِ فِي شَيْء مِنْهَا وإيقاع حِيلَة فِي مساورتها فَلَيْسَ عَائِد مَا عَلَيْك بِمِقْدَار أخطارها بك المتقي الْحَادِي عشر قبُول رَضِي السُّلْطَان بعد العتب عَلَيْهِ إِلَّا بعد ظُهُور صحبته فَفِي العهود إِذا عتب عَلَيْك فِي شُبْهَة لاحت فِي أَمرك فَلَا تقبل رِضَاهُ عَنْك إِلَّا بعد أَن تقدم حجتك وأره انك لَا تُؤثر الْحَيَاة إِلَّا بِبَرَاءَة الساحة من سوء الظنة فَإِن ذَلِك زَائِد فِي محلك ومنبه على خطرك المتقي الثَّانِي عشر كَثْرَة تردد حرم السُّلْطَان إِلَيْهِ فِي طلب الْحَوَائِج فَفِي الأفلاطونيات ليحذر الْوَزير انصباب حرم الْملك إِلَيْهِ فِي حوائجهم ولتكن الْوَاسِطَة بَينه وَبينهمْ أما أم الْملك أَو من وقف الْملك على غيرته على الْوَزير من حرمه المتقي الثَّالِث عشر سروره على مَا يخْتَص بالسلطان من ملبوس ومركوب ومتزين بِهِ فَفِي العهود وَاحْذَرْ لِبَاس ثَوْبه وركوب مركبه واستخدام مَا يتزين بِهِ

المتقي الرَّابِع عشر إفراط الدَّالَّة على السُّلْطَان لسوء منقلبها فَفِي العهود وَاحْذَرْ مصَارِع الدَّالَّة فَإِنَّهُ أَكثر أعدائك فِي سمو حالك واستقامة أَمرك قلت فَفِي الأفلاطونيات شَرّ الإدلال الإدلال على الْمُلُوك وَمِنْه إمساكك عَن الِاعْتِذَار فِيمَا فرقت بِهِ عِنْد الْمُلُوك واستهانتك بخصمك حَتَّى يتأثر الْملك بقوله المتقي الْخَامِس عشر مساواته للسُّلْطَان فِي الزِّينَة قَالَ الطرطوشي إِذا كَانَ الْوَزير يُسَاوِي الْملك فِي الْهَيْئَة والطباعة فليصرعه الْملك فَإِن لم يفعل فَليعلم أَنه المصروع قلت لِأَنَّهَا مبدأ الاستبداد عَلَيْهِ كَمَا يرد إِن شَاءَ الله وقديما تخوف من ذَلِك على الوزراء وحذروا من سوء عاقبته يحْكى أَن وَالِد بعض الوزراء قَالَ لوَلَده وَقد رَآهُ تجَاوز الْحَد فِي حَاله يَا بني إِنَّه لقد غمني نظام أَمرك وَمَا رَأَيْت من فَسَاده فَقَالَ لَهُ ابْنه وَمَا أنْكرت مني فَقَالَ رَأَيْت هَيْئَة ابْن الْملك وعدده أقل من هيئتك وعددك وَرَأَيْت الْجند قد أعطوك من إعظامهم مَا لَيْسَ عِنْدهم فِيهِ

مستزاد للْملك ولاان يعمر مَنْزِلَته فَأنْزل مِمَّا رقيت إِلَيْهِ من قبل أَن يرميك الْملك عَنهُ المتقي السَّادِس عشر تعرضه بالتوسع فِي الْحَال لتغيير السُّلْطَان عَلَيْهِ فَفِي الأفلاطونيات أَكثر استثقال الْمُلُوك من خدمهم على كَثْرَة مَا يحتجنون من الْأَمْوَال ويملكون من الضّيَاع والآلات فَإِذا رأى مِنْك مَا يستكثره فَرده إِلَيْهِ وعرفه بأنك جمعته لَهُ بِاسْمِك وَالْتزم هَذَا لَهُ وَإِن أظهر كرهه لَهُ قلت وعَلى أَن توسعه قد يكون بِحَسب مَا يُطلق لَهُ عناية بِهِ لاسيما فِي الدول الْعَظِيمَة الوفر كَمَا يحْكى عَن الْوَزير أبي الْفرج يَعْقُوب أَن مخدومه الْعَزِيز صَاحب مصر أقطعه مائَة ألف دِينَار وخوله بعد مَوته من العبيد والممالك أَرْبَعَة آلَاف وخوله جوهرا بأربعمائة ألف دِينَار المتقي السَّابِع عشر إفراط سَعْيه فِي تَكْثِير الْبَنِينَ والأتباع فَفِي العهود تجنب الانهماك فِي طلب كَثْرَة الْوَلَد وَالزِّيَادَة فِي الحشم فَإِن الْحَاسِد يراهم وَمَا

يضْطَر إِلَيْهِ لَهَا من نعمه وَإِنَّمَا هم مُؤنَة مستهلكة لعائدك لَهُم وردهَا وَعَلَيْك صدرها والاقتصاد فِي أمورك أدوم لسلامتك وأغض لطرفك الساهر عَنْك وأروح لقلبك وجوارحك قَالَ وَليكن وكدك وَنِهَايَة خوضك فِي استقراء حَال المملكة وَتَأمل أقطارها وَمَا عَلَيْهِ كل جُزْء مِنْهَا من زِيَادَة أَو نُقْصَان أَو سداد ثغر أَو تَدْبِير مصلحَة تبقى لَك شرفها وَيحسن بك أَثَرهَا المتقي الثَّامِن عشر ظُهُور موجدته على استوائه فِي الْعَائِد مَعَ من دونه فَفِي العهود إِذا كنت للْملك أنصح من جَمِيع وزرائه وساوى عائدك عائدهم فَلَا كربك ذَلِك لِأَنَّك تَأْخُذ مِنْهُ مَا فَرْضه لَك الْعقل وهم يَأْخُذُونَ مَا أَعْطَاهُم إِيَّاه الْهوى الَّذِي لَا يثبت مَعَ التكشف المتقي التَّاسِع عشر إِقَامَة الْحجَّة عِنْد قصد السُّلْطَان لَهُ أَو لأحد من أَتْبَاعه بِتَغَيُّر حَال دون طلب الْعذر فَفِي الأفلاطونيات إِن قصدك الْملك فِي تَابع لَك أَو فِي شَيْء من أمورك فَلْيَكُن طلب الْعذر لَهُ فِي ذَلِك أرشد من طلب الْحجَّة الَّتِي تعصم مِنْهُ وَلَا يتأثر كَلَام الأتباع فِيهِ وَانْظُر على ولدك فضلا عَن غَيره بِعَين الْملك تسلم من انحرافه المتقي الْعشْرُونَ طلب الترفع عِنْد الْمَزِيد لَهُ فِي الْكَرَامَة فَفِي الأفلاطونيات زد فِي

السياسة الثالثة لخواص السلطان

تواضعك للْملك بِمِقْدَار زِيَادَته فِي رفعتك فَإِن استعفاك من ذَلِك فَأعلمهُ أَن ترك ذَلِك عنْدك إِثْم وَأَن فِي تخطيه حرجا عَلَيْك فَإِن عُقبى ذَلِك مَحْمُود لَك السياسة الثَّالِثَة لخواص السُّلْطَان وَسَائِر أَرْبَاب الدولة وهم طبقتان المسالمون لَهُ فِي الظَّاهِر والمتطلعون إِلَى مَنْزِلَته الطَّبَقَة الأولى المسالمون والنافع لَهُ فِي سياستهم مدارات خَمْسَة المدارة الأولى تنزيلهم حَيْثُ يضعهم الِاسْتِحْقَاق من خطْوَة المكانة الْوَاضِحَة عِنْد ذَوي الأقدار على موفور الجراية دونهَا مَعَ إرضاء السُّلْطَان فِي تَفْضِيل الْأُمَرَاء بِمَا لَا يتَجَاوَز من الْإِحْسَان إِلَى حُدُود الشّرف فبذلك يُؤمن مَحْذُور الْوُقُوع فِي خلل التَّدْبِير لسَائِر الطَّبَقَات وغرور مُخَالفَة قصد السُّلْطَان بِالْجُمْلَةِ المدارة الثَّانِيَة إرضاؤهم بعد ذَلِك بِحسن الِاعْتِذَار لَهُم بِمَا يصلح قُلُوبهم ويسكن فِي الرِّضَا بِمَا وصلت إِلَيْهِ نُفُوسهم مَعَ التلطف فِي تَحْسِين طَاعَة السُّلْطَان إِلَيْهِم ليهدي الله سُبْحَانَهُ نتيجة قصدك وشكر فَضِيلَة سعيك فتظفر مِنْهُ بصفاء النِّيَّة لَك وتأمينك على جَمِيع الْأُمُور

المدارة الثالثة

المدارة الثَّالِثَة إعلامهم بأنك لَا تتصرف إِلَّا بِإِذن السُّلْطَان ومشورته فِيمَا دق وَجل قَالَ العهود مكن فِي نُفُوسهم أَنَّك لَا تعْمل إِلَّا مَا رَآهُ وَلَا تُؤثر إِلَّا مَا رضيه وَإِن لَك مِنْهُ منزلَة من زادك عَنْهَا فقد أخطر بك وَأَن قبُولهَا يزري على اختيارك المدارة الرَّابِعَة كفايتهم كَثْرَة التَّرَدُّد عَلَيْهِ بإحالتهم على السُّلْطَان فِي اسْتِيفَاء مطالبهم تَعْظِيمًا لمقامه وليأخذ سَائِر الْأَوْلِيَاء مِنْهُ بحظ فَفِي العهود احذر انضباب هَذِه الْجَمَاعَة عَلَيْك وإخلالها بمرادها مؤد أَن للْملك اعْتِمَادًا على قيامك بأمرها ووضعها إياك من قلوبها بِحَيْثُ لَا يؤثره الْملك فَإِنَّهُ ينْبت للْملك فِي قلبه سوء الظَّن بك وَفَسَاد النِّيَّة المدارة الخانسة كتم الْأَسْرَار السُّلْطَانِيَّة عَنْهُم وَلَو تناهوا فِي الرّفْعَة وَالْجَلالَة فَفِي العهود لَا تفش لأحد وَإِن عظم قدره لديك سر الْملك وَاجعَل قَلْبك قبرا لَهُ وَإِن كثرت عَلَيْك أسراره أثبتها بخطك بترجمة اخترعتها لَا يعرفهَا سواك وتصفحها فِي كل أوقاتك الطَّبَقَة الثَّانِيَة المتطلعون إِلَى مَنْزِلَته وَله مَعَهم فِي التحفظات والسياسات مقابلات جمة الْمُقَابلَة الأولى استكثاره من الْعَمَل بِمُقْتَضى الْفَضَائِل المرغمة لأنف المنافس

المقابلة الثالثة

والمطالب الصَّوَاب أَن تجاهدهم بِالزِّيَادَةِ فِي فضائلك والتقدم بمناصحته والترفع عَن قَصدهَا فَإِن المنافسين لفضل مَا بَيْنك وَبينهمْ كثير والمتعالين عَنْك عَددهمْ جم غفير الْمُقَابلَة الثَّانِيَة اصطناعه لمن ضادهم وطهر عَلَيْهِم من يَحْرُسهُ مِنْهُم ويكفيه مُؤنَة الِانْتِصَار لَهُ مَعَ رميهم بأشكالهم وقرع بَعضهم بِبَعْض قلت وعَلى شَرط أَن يكون ذَلِك بِمَا لَا تبعة فِيهِ وفاءا بالتقوى الَّتِي هِيَ ملاك الشَّأْن كُله كَمَا تقدم الْمُقَابلَة الثَّالِثَة إغضاؤه عَنْهُم كرما وصفحا فَفِي العهود اليونانية تلق فرائطهم بِحسن الْإِقَالَة وَسُوء قَوْلهم بكرم الْعَفو وخلهم وَمَا خامر قُلُوبهم من الحسائف فَإِن تسلط الْجَاهِل على نَفسه فِيمَا قصر عَنهُ أضرّ من سوء ظفر أعدائه بِهِ قلت وَفِي مَعْنَاهُ قيل (لن يبلغ الْأَعْدَاء من جَاهِل ... مَا يبلغ الْجَاهِل من نَفسه) الْمُقَابلَة الرَّابِعَة أَخذ حَاشِيَته بإنصاف النَّاس وتخطي الْعدْل فيهم إِلَى الْفضل

المقابلة الخامسة

قلت وَهُوَ من أبلغ الْمَزِيد فِي الْفَضِيلَة لِأَن فَضِيلَة التَّابِع من حَيْثُ تبعيته فرع فَضِيلَة الْمَتْبُوع الْمُقَابلَة الْخَامِسَة اخْتِيَار من يصطفيه ويصطنعه فَفِي العهود اختر من تصطنعه فَإِن اخْتِيَار الصنيعة يرد عَنْك سوء الذّكر وقيح القَوْل قلت وَقد تقدم أَن صَلَاحه بصلاح حَاشِيَته وبطانته فِي سياسة سَائِر الْخَواص والبطانة فِي صُحْبَة السُّلْطَان وخدمته وَقبل بَيَان ذَلِك فَهُنَا مقدمتان الْمُقدمَة الأولى فِي التَّرْهِيب من مخالطته وَلَو بِمُجَرَّد الدُّخُول عَلَيْهِ إِذا جَار قَالَ الْغَزالِيّ هِيَ حَالَة مذمومة جدا وَمِنْهَا تغليظات وتشديدات تَوَاتَرَتْ بهَا الْأَخْبَار والْآثَار قلت وَيَكْفِي من الْوَارِد من ذَلِك أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن النجَاة والسلامة فِي اجْتِنَاب ذَلِك وَبِالْعَكْسِ فَفِي الحَدِيث وَقد وصف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأُمَرَاء الظلمَة وَقَالَ فَمن نابذهم نجا وَمن اعتزلهم سلم أَو كَاد أَن يسلم وَمن وَقع مَعَهم فِي دنياهم فَهُوَ مِنْهُم وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قله لمن طلب مِنْهُ الْوَصِيَّة إياك والأهواء إياك وَالسُّلْطَان

الثَّانِي مَا ينقص من الدّين بِهِ فَوق مَا يزِيد من الْحَط بِهِ قَالَ أَبُو ذَر رَضِي الله عَنهُ لسَلمَة يَا سَلمَة لَا تغش أَبْوَاب السلاطين فَإنَّك لَا تصيب من دنياهم شَيْئا إِلَّا أَصَابُوا من دينك أفضل مِنْهُ وَعَن الْحسن أَنه قَالَ لَا تجيبن أَمِيرا وَإِن دعَاك لتقرأ عِنْده سُورَة من الْقُرْآن فَإنَّك لَا تخرج من عِنْده إِلَّا شرا مِمَّا دخلت موعظة روى أَن الزُّهْرِيّ لما خالط السُّلْطَان كتب إِلَيْهِ أَخ لَهُ فِي الدّين عَافَانَا الله وَإِيَّاك أَبَا بكر من الْفِتَن فقد أَصبَحت بِحَال يَنْبَغِي لمن عرفك أَن يَدْعُو لَك الله ويرحمك أَصبَحت شَيخا كَبِيرا وَقد أثقلتك نعم الله بِمَا فهمك من كِتَابه وعلمك من سنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ كَذَلِك أَخذ الله الْمِيثَاق على الْعلمَاء قَالَ تَعَالَى {لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} وَاعْلَم أَن أيسر مَا ارتكبت وأخف مَا احتملك أَنَّك أَنْت آنست وَحْشَة الظَّالِم وسهلت سَبِيل الغي بذنوبك مِمَّن لم يرد حَقًا وَلم يتْرك بَاطِلا حِين دناك اتَّخذُوا قطبا تَدور عَلَيْك رحى ظلمهم وجسرا يعبرون عَلَيْك إِلَى بلائهم وسلما يصعدون فِيهِ إِلَى ضلالهم يدْخلُونَ بك الشَّك على الْعلمَاء ويقتادون بك قُلُوب الْجُهَّال فَمَا أيسر مَا عمروا لَك فِي جنب مَا أخربوا عَلَيْك وَمَا أَكثر مَا أخذُوا مِنْك مِمَّا أفسدوا عَلَيْك من دينك فَمَا يُؤمنك أَن تكون فِيمَن قَالَ الله تَعَالَى فيهم

{فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا} الْآيَة وانك تعامل من لَا يجهل ويحفظ عَلَيْك من لَا يغْفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر سفر بعيد وَمَا يخفى على الله من شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَالسَّلَام توضيح من معنى مَا لأَجله ورد هَذَا التَّغْلِيظ أَمْرَانِ أَحدهمَا مَعْصِيّة السُّكُوت عَن تَغْيِير مَا يرى من مُنكرَات مُتعَدِّدَة كلبس حَرِير وافتراشه وَاسْتِعْمَال أواني ذهب أَو فضَّة وَهُوَ أَن عذر بالخوف فقد كَانَ فِي غنى عَن تعرضه بِالْمُشَاهَدَةِ لتوجه الْخطاب عَلَيْهِ بالتغيح ثمَّ سُقُوطه عَنهُ بذلك الْعذر تَعْمِيم قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ وعَلى هَذَا القَوْل من علم فَسَادًا فِي مَوضِع لَا يقدر على إِزَالَته لَا يجوز لَهُ أَن يحضر ليجري ذَلِك بَين يَدَيْهِ وَهُوَ يُشَاهِدهُ ويسكت بل يَنْبَغِي أَن يحْتَرز عَن مشاهدته قلت إِلَّا إِن كَانَ حُضُوره فِي طَرِيق استجلاب مصلحَة وَلَا انفكاك لَهُ عَن تِلْكَ الْمُشَاهدَة وَله نَظَائِر الثَّانِي سنة القَوْل الْمَحْظُور شرعا كالدعاء وَالثنَاء على غير شَرط ذَلِك وكالتصديق فِي بَاطِل تَصْرِيحًا أَو تَلْوِيحًا وكإظهار مَا يَدعِيهِ من حبه والشوق إِلَى لِقَائِه إِذْ الْغَالِب أَنه لَا يقْتَصر على السَّلَام وَفِي كل من ذَلِك وَعِيد لحَدِيث من دَعَا لظَالِم بِالْبَقَاءِ فقد أحب أَن يعْصى الله فِي أرضه

وَفِي حَدِيث إِن الله ليغضب إِذا مدح الْفَاسِق قلت ولعسر التَّحَرُّز من هَذِه الْآفَات استبعد الْعلمَاء نجاة من يتَعَرَّض لَهَا مخاطرا بِنَفسِهِ وَدينه قَالَ الْخطابِيّ لَيْت شعري من الَّذِي يدْخل إِلَيْهِم الْيَوْم فَلَا يُصدقهُمْ على كذبهمْ وَمن الَّذِي يتَكَلَّم بِالْعَدْلِ إِذا شهد مجَالِسهمْ وَمن الَّذِي ينصح وَمن الَّذِي ينتصح مِنْهُم ثمَّ قَالَ إِن الَّذِي هُوَ أسلم يَا أخي فِي هَذَا الزَّمَان وأحوط لدينك أَن نقل من مخالطتهم وغشيان أَبْوَابهم وان تسْأَل الله الْغنى والتوفيق لَهُم 3 معذرة قَالَ الْغَزالِيّ اثر تَقْرِيره بِمَا لخصناه من كَلَامه أَولا فَلَا يجوز الدُّخُول عَلَيْهِم إِلَّا بعذرين أَحدهمَا أَن يكون من جهتهم أَمر إِلْزَام لَا أَمر إكرام وعَلى أَنه لَو امْتنع لأوذي أَو أفسد عَلَيْهِ طَاعَة الرّعية واضطرب أَمر السياسة فَتجب الْإِجَابَة طَاعَة لَهُم بل مُرَاعَاة لمصْلحَة الْخلق حَتَّى لَا تضطرب الْولَايَة الثَّانِي أَن يدْخل عَلَيْهِم فِي دفع ظلم عَن نَفسه أَو عَن مُسلم سواهُ إِمَّا بطرِيق الْحِسْبَة وَإِمَّا بطرِيق التظلم والتكلم بِشَرْط أَلا يكذب وَلَا يسيء وَلَا يدع نصيحة يتَوَقَّع لَهَا قبولا

المقدمة الثانية

قلت وَمثله قَول ابْن الْعَرَبِيّ صُحْبَة الظَّالِم على التقية مُسْتَثْنَاة من النَّهْي حَال الِاضْطِرَار الْمُقدمَة الثَّانِيَة التحذير من صحبته قَالَ الطرطوشي اتّفقت حكماء العربوالعجم ووصاياهم على النَّهْي من صُحْبَة السُّلْطَان قلت وَالْمَذْكُور هُنَا من الْغرَر قرروه بَيَانا لعِلَّة ذَلِك النَّهْي جملَة الْغرَر الأول ندور الْإِخْلَاص والسلامة فِيهَا فَفِي دمنة وكليلة ثَلَاثَة لَا يسلم مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل صُحْبَة السُّلْطَان وائتمان النِّسَاء على الْأَسْرَار وَشرب السم على التجربة وَكَانَ يُقَال قد خاطر بِنَفسِهِ من ركب الْبَحْر وَأعظم مِنْهُ خطرا صُحْبَة السُّلْطَان فَإِن من صحب السُّلْطَان فقد لبس شعار الْغرُور الْغرَر الثَّانِي فَوَات قيام خَيرهَا بشرها قَالَ الطرطوشي لَا يتكافأ خير السُّلْطَان وشره لِأَن خَيره لَا يعدو مزيدا لمَال وَشر السُّلْطَان قد

يزِيل المَال ويتلف النَّفس الَّتِي بهَا طلب الْمَزِيد وَلَا خير فِي الشَّيْء الَّذِي سَلَامَته مَال وجاه وَفِي نكبته الْجَائِحَة والتلف قَالَ وَلِهَذَا قيل للعتابي لم لَا تصْحَب السُّلْطَان على مَا فِيك من الْأَدَب قَالَ لِأَنِّي رَأَيْته يُعْطي عشرَة آلَاف فِي غير شَيْء ويردي من السُّور فِي غير شَيْء وَلَا أَدْرِي من أَي الرجلَيْن أكون الْغرَر الثَّالِث تعرض قَاصد الصّلاح بهَا لعودها عَلَيْهِ بِالْفَسَادِ قَالَ مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ لي عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ يَا مَيْمُون احفظ عني أَرْبعا لَا تصحبن سُلْطَانا وَإِن أَمرته بِالْمَعْرُوفِ ونهيته عَن الْمُنكر وَلَا تخلون بِامْرَأَة وَإِن أقرأتها الْقُرْآن وَلَا تصلن من قطع رَحمَه فَإِنَّهُ لَك قَاطع وَلَا تتكلمن بِكَلَام الْيَوْم تعتذر مِنْهُ غَدا قَالَ الطرطوشي وَكم قد رَأينَا وبلغنا عَمَّن صحب السُّلْطَان من أهل الْفضل وَالْعلم وَالْعقل وَالدّين لمصْلحَة ففسد هُوَ بِهِ الْغرَر الرَّابِع حرمَان سَعَادَة من ابتلى بهَا فِي دمنة وكليلة من ابتلى بِصُحْبَة السُّلْطَان فَلَا سَعَادَة لَهُ فَإِنَّهُم لَا عهد لَهُم وَلَا وَفَاء وَلَا حميم وَلَا قريب

وَلَا يكرم عَلَيْهِم أحدا إِلَّا أَن يطمعوا فِيهِ فيقربوه عِنْد ذَلِك فَإِذا قضوا حَاجتهم تَرَكُوهُ الْغرَر الْخَامِس تردد صَاحبهَا بَين فَوت اللَّذَّة إِن قصد اللَّذَّة إِن نصح أَو تحمل الْوزر إِن خَان قَالَ ابْن المقفع لِابْنِهِ إِن وجدت من السُّلْطَان وصحبته غنى فاغن نَفسك عَنهُ واعتزله جهدك فَإِنَّهُ من يَأْخُذهُ السُّلْطَان بِحقِّهِ يحل بَينه وَبَين لذات الدُّنْيَا وَمن لَا يَأْخُذهُ بِحقِّهِ يكسبه الفضيحة فِي الدُّنْيَا والوزر فِي الْآخِرَة قلت وَبِذَلِك اعْتَرَفُوا بوضوح الْأَمر فِيهِ فيحكى عَن زِيَاد أَنه قَالَ لجلسائه من أغبط النَّاس عَيْشًا قَالُوا لأمير وجلساؤه قَالَ مَا صَنَعْتُم شَيْئا إِن لأعواد الْمِنْبَر لهيبة وَإِن لقرع لجام الْبَرِيد لروعة وَلَكِن أغبط النَّاس عِنْدِي رجل لَهُ دَار لَا يجْرِي عَلَيْهِ كراؤها وَزَوْجَة صَالِحَة قد رضيته ورضيها فهما راضيان بعيشهما لَا يعرفونا وَلَا نعرفهم فَإِنَّهُ إِن عرفنَا وعرفناه أتعبنا ليله ونهاره وأذهبنا دينه ودنياه أَحدهمَا فِي حكم الْهِنْد إِنَّمَا مثل السُّلْطَان فِي قلَّة وفائه فِي أَصْحَابه وسخاء نَفسه عَمَّن فَقده مِنْهُم مثل الصَّبِي والمكتب كلما ذهب وَاحِد جَاءَ الآخر قلت السُّلْطَان إِذا انْقَطع عَنْهُم فَهِيَ الأولى فأرحامهم مَقْطُوعَة وحبالهم مصرومة إِلَّا من رَضوا عَنهُ فِي ساعتهم ووقتهم

الثَّانِي فِيهَا أَيْضا صُحْبَة السُّلْطَان على مَا فِيهَا من الْعِزّ والثروة عَظِيمَة الْخطر إِنَّمَا تشبه بالحبل الوعر فِيهِ الثِّمَار الطّيبَة وَالسِّبَاع العادية والثعابين الْمهْلكَة والارتقاء إِلَيْهِ شَدِيد وَالْمقَام فِيهِ أَشد خَاتِمَة من منظوم التحذير وغبطة التَّخَلُّف عَن صُحْبَة السُّلْطَان قيل (إِن الْمُلُوك بلَاء حَيْثُمَا حلوا ... فَلَا يكن لَك فِي أَكْنَافهم ظلّ) (مَاذَا يؤمل من قوم إِذا غضبوا ... جاروا عَلَيْك وَإِن أرضيتهم ملوا) (وَإِن نصحت لَهُم ظنوك تخدعهم ... واستثقلوك كَمَا يستثقل الْكل) (فاستغن بِاللَّه عَن أَبْوَابهم كرما ... إِن الْوُقُوف على أَبْوَابهم ذل) وَقَول آخر (أنست بوحدتي ولزمت بَيْتِي ... فطاب الْعَيْش لي وَصفا السرُور) (وأدبني الزَّمَان فَلَا أُبَالِي ... هجرت فَلَا أزار وَلَا أَزور)

(وَلست بسائل مَا دمت حَيا ... أسار الْجند أم ركب الْأَمِير) انعطاف إِذا تقرر مَحْذُور هَذَا الْأَمر عَاجلا وموعوده مَا هُوَ أدهى مِنْهُ آجلا فلصحبة السُّلْطَان على كَثْرَة غررها وتقصير نَفعهَا عَن ضرها آدَاب كَثِيرَة وشروط وَحُقُوق يبعد الْمَطْلُوب مِنْهَا والمشروط لَكِنَّهَا نَوْعَانِ فِي التَّحْصِيل وضربان فِي التَّقْسِيم الْخَاص للتفصيل مَا يتأدب بِفِعْلِهِ ترفعا لَدَيْهِ وترقيا وَمَا يتأدب بِتَرْكِهِ حذرا مِنْهُ وتوقيا وَرُبمَا جمع الغرضين وَشَمل المطلوبين المفترضين النَّوْع الأول وَهُوَ جملَة آدَاب الْأَدَب الأول أَن يتلطف لَهُ عِنْد الْخطاب لأمرين أَحدهمَا أَن الله تَعَالَى قد أَمر باللين فِي القَوْل فِي مُخَاطبَة العظماء وان كفرُوا وَذَلِكَ فِي حق الْمُؤمن أوجب قَالَ الله تَعَالَى {فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} الثَّانِي أَن حسن التلطف فِي الْخطاب يحظى بنجح السَّعْي وبلوغ الْقَصْد لَا سِيمَا فِي مقَامي السُّؤَال والاستعطاف حِكَايَة دخل معن بن زَائِدَة على الرشيد وَقد كَانَ وجد عَلَيْهِ

فَمشى يُقَارب الخطو فَقَالَ لَهُ كَبرت يَا معن قَالَ فِي طَاعَتك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ وَإنَّك لجلد قَالَ على أعدائك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَرضِي عَنهُ وولاه الْأَدَب الثَّانِي أَن يصغي لكَلَامه إِذا تكلم لأمرين أَحدهمَا أَن ذَلِك من الْحُقُوق الَّتِي لَا يتَقرَّب أَرْبَاب الخصوصية بِأَفْضَل مِنْهَا بِحَسب الظَّاهِر قَالَ الجاحظ من حق الْملك إِذا حدث بِحَدِيث أَن يصرف كل من حَضَره فكره وذهنه وَنَحْوه فَقَالَ وَكَانَ عبد عَوْف يَقُول لم يتَقرَّب الْعَامَّة إِلَى الْمُلُوك بِمثل الطَّاعَة وَلَا العبيد بِمثل الْخدمَة وَلَا البطانة بِمثل حسن الِاسْتِمَاع الثَّانِي أَن التأدب بِهِ بعيد بنيل الحظوة وترفيع الدرجَة

كَانَ روح بن زنباع يَقُول إِن أردْت أَن يمكنك الْملك من أُذُنه فَأمكن أُذُنك من الإصغاء إِلَيْهِ إِذا حدث وَكَانَ مُعَاوِيَة يَقُول يغلب على الْملك حَتَّى يركب بشيئين شرف الْحلم عِنْد سورته والإصغاء إِلَى حَدِيثه حِكَايَة قَالَ الجاحظ حكى عَن أبي بكر البرقي أَنه بَيْنَمَا هُوَ فِي مجْلِس أبي الْعَبَّاس إِذْ حدث أَبُو الْعَبَّاس بِحَدِيث من أَحَادِيث الْفرس فعصفت ريح فأوقعت طستاطينا من سطح إِلَى الْمجْلس فارتاع أَبُو الْعَبَّاس وَمن حَضَره وَلم يَتَحَرَّك أَبُو بكر لذَلِك وَلم تزل عينه مطالعة لأبي الْعَبَّاس فَقَالَ لَهُ مَا أعجب شَأْنك يَا هَذَا لم يرعك مَا رَاعنا قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله عز وَجل يَقُول {مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه} وَإِنَّمَا للرجل قلب وَاحِد فَلَمَّا عمره السرُور بأمير الْمُؤمنِينَ لم يكن فِيهِ لحادث بِحَال مجَال وَإِن الله تَعَالَى إِذا أفرد لكرامة أحدا وَأحب أَن يبْقى لَهُ ذكرهَا جعل تِلْكَ الْكَرَامَة على لِسَان نبيه وخليفته وَهَذِه كَرَامَة خصصت بهَا مَال إِلَيْهَا ذهني وشغل بهَا فكري فَلَو انقلبت الخضراء على الغبراء لما أحسست بهَا إِلَّا بِمَا يلْزَمنِي فِي نَفسِي لأمير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس لِأَن بقيت لَك لأرفعن مِنْك موضعا لَا تَطوف بِهِ السبَاع وَلَا تنحط عَلَيْهِ العقبان

الْأَدَب الثَّالِث أَن يستشعر الصَّبْر فِي خدمته على كل حَال فَفِي الأفلاطونيات اسْتعْمل الصَّبْر فِي خدمَة الْمُلُوك لَيْسَ عِنْد الْمَكْرُوه وَحده وَلَكِن فِي المحبوب مثل أَن تصبر على مَا وَعدك وَلَا تكره بإنجازه قلت وَذَلِكَ لأمرين أَحدهمَا أَنه لَا ملْجأ لَهُ إِلَى البدار بِالنّظرِ فِي خَاص أَو عَام إِلَّا بعد الْفَرَاغ إِلَيْهِ مِمَّا هُوَ أهم فِي نفس الْأَمر أَو عِنْده وَحِينَئِذٍ فالصبر هُوَ المرجوع إِلَيْهِ وَمن ثمَّ قَالَ أفلاطون أَيْضا اصبر على سلطانك فلست بأكبر شغله وَلَا بك قوام أمره الثَّانِي أَنه مَتى وَطن راجيه على مُلَازمَة الصَّبْر مَعَ إِسْقَاط الترفع عَن الخضوع لَهُ كَانَ أقرب لحُصُول مَقْصُوده فقد قيل من لزم بَاب السُّلْطَان بصبر جميل وكظم الغيظ وإطراح الأنفة وصل إِلَى حَاجته حِكَايَة قيل أَنه قَامَ رجل على بَاب كسْرَى سنة فَلم يُؤذن لَهُ فَقَالَ لَهُ الْحَاجِب أكتب كتابا وخففه أوصله لَك فَقَالَ لَا أَزِيد على أَرْبَعَة أسطر فَكتب فِي السطر الأول الأمل والضرورة أقدماني على الْملك وَفِي الثَّانِي لَيْسَ مَعَ الْعَدَم صَبر على الْمطلب وَفِي الثَّالِث الرُّجُوع بِلَا إِفَادَة شماتة الْأَعْدَاء وَفِي الرَّابِع إِمَّا نعم مثمرة وَألا آمال ميؤسة فَوضع كسْرَى تَحت كل سطر عَلامَة انْصَرف بهَا بِسِتَّة عشر ألف دِرْهَم الْأَدَب الرَّابِع أَن يَصْحَبهُ بالهيبة وَالْوَقار قَالُوا لِأَنَّهُ إِنَّمَا احتجب لأجل ذَلِك فَلَا يتْرك الهيبة مَعَه قلت وَإِلَّا وَقع فِي محذورين

أَحدهمَا حَمَاقَة الدَّالَّة العائدة بِهَلَاك المجترئ بهَا عَلَيْهِ قيل لعبد الله بن جَعْفَر مَا الْخرق قَالَ الدَّالَّة على السُّلْطَان والوثبة قبل لعبد الله بن جَعْفَر مَا الْخرق قَالَ الدَّالَّة على السُّلْطَان والوثبة قبل الْإِمْكَان وَقَالَ ابْن المقفع أولى النَّاس بالتهلكة الْفَاحِشَة الْمُقدم على السُّلْطَان الثَّانِي تَقْصِير الْأَنْفس بارتفاعها عَن تَعْظِيم الْمَزِيد من الْحُرْمَة والجديد من النِّعْمَة وَقد قيل إِذا زادك السُّلْطَان تأنيسا فزده إجلالا وَإِذا جعلك السُّلْطَان أَخا فاجعله أَبَا وَإِن زادك فزده حِكَايَة يُقَال أَن يزدجرد رأى بهْرَام ابْنه بِموضع لم يكن لَهُ أَن يقف بِهِ فَقَالَ لَهُ مَرَرْت بالحاجب فَقَالَ نعم قَالَ وَعلم بدخولك قَالَ نعم قَالَ أخرج إِلَيْهِ فَاضْرِبْهُ ثَلَاثِينَ سَوْطًا ونحه عَن السِّرّ ووكل بالحجابة أزدهرد فَفعل ذَلِك بهْرَام وَهُوَ إِذْ ذَاك ابْن ثَلَاث عشر سنة وَلم يعلم الْحَاجِب فِيمَا غضب عَلَيْهِ الْملك فَلَمَّا فَلَمَّا جَاءَ بهْرَام بعد ذَلِك ليدْخل دَفعه أزدهرد فِي صَدره دفْعَة أرقده مِنْهَا وَقَالَ إِن رَأَيْتُك بِهَذَا الْموضع ثَانِيَة ضربتك سِتِّينَ سَوْطًا ثَلَاثِينَ مِنْهَا لجنايتك على الْحَاجِب بالْأَمْس وَثَلَاثِينَ لِئَلَّا تطمع فِي الْجِنَايَة

عَليّ فَبلغ ذَلِك يزدجرد فَدَعَا أزدهرد فَخلع عَلَيْهِ وَأحسن إِلَيْهِ قَالَ الجاحظ وَذكر لنا أَن مُوسَى الْهَادِي دخل على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي فزجره وَقَالَ لَهُ إياك أَن تعود لمثلهَا إِلَّا أَن يفتح عَلَيْك بابك قَالَ وَلَيْسَ لِابْنِ الْملك من الْملك إِلَّا مَا لغيره من الاستكانة والخضوع والتذلل والخشوع وَلَا لَهُ أَن يظْهر دَالَّة الْأُبُوَّة ومنزلة الْبُنُوَّة الْأَدَب الْخَامِس أَن يرضى مِنْهُ بِمَا طَار لَهُ من السهْم من فرض الجراية ومتعود الإحسانفي أوقاته فَفِي الأفلاطونيات إِن اسْتَطَعْت أَن يرى الْملك غناك عَنهُ لَيْسَ بِأَن توهمه كَثْرَة الْجدّة وَلَكِن بِأَن تعلم أَن الْقَلِيل يُقيم أحوالك كَمَا يُقيم الْكثير أَحْوَاله فافعل فَإِنَّهُ أدوم لسلامتك عَلَيْهِ قلت وَذَلِكَ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن البطانة لَا ترفع فِي حوائجها إِلَّا لموجب وَرُبمَا لَا يسلم لَهَا وجوده وَإِذ ذَاك فَالْأولى بهَا القناعة بالحاصل إِلَى أَن تحظى بالمزيد مَعَ السَّلامَة كَانَ شيرويه يَقُول إِنَّمَا تعذر البطانة بِرَفْع حوائجها إِلَى الْملك عِنْد ضيقَة تكون أَو جفوة تنالهم من مُلُوكهمْ وَعند تتَابع أزمة أَو ظرف مُحدث الثَّانِي أَن الْكِفَايَة إِذا بلغت مِنْهَا أقْصَى الْحُدُود وَهِي ترَاهَا من الْقَلِيل الَّذِي لَا يُغني فِي الْحمل حَتَّى أفصحت بِطَلَب الزِّيَادَة فَالَّذِي جرأها على ذَلِك إِنَّمَا هُوَ الشره والمنافسة قَالَ الجاحظ وَمن ظَهرت مِنْهُ هَاتَانِ الخلتان كَانَ جَدِيرًا أَن تنْزع كِفَايَته من يَده وينقل إِلَى الطَّبَقَة الخسيسة وَيلْزم أَذْنَاب الْبَقر وحراسة الأَرْض

حِكَايَة ذكر عَن بعض الْأُمَرَاء أَن رجلا من نَاحيَة رفع إِلَيْهِ رقْعَة يسْأَله فِيهَا إِجْرَاء أرزاقه فَقَالَ لَهُ كم عِيَالك فَزَاد فِي الْعدَد فَقَالَ لَهُ كذبت فَأَقَامَ سنة لَا يجترئ على كَلَامه ثمَّ رفع إِلَيْهِ رقْعَة أُخْرَى فَقَالَ لَهُ كم عِيَالك فَقَالَ لَهُ أَرْبَعَة فَقَالَ صدقت وَوَقع فِي حَاشِيَة الرقعة يجْرِي على عِيَاله كَذَا وَكَذَا تَلْخِيص من جملَة هَذَا النَّوْع من الْآدَاب الدُّعَاء للسُّلْطَان عِنْد الدُّخُول عَلَيْهِ والإسراع بِالْقيامِ عَنهُ وَإِذا فهم أَنه يُرِيد ذَلِك التلطف فِي الشُّكْر لَهُ إِظْهَار الخفة فِي طَاعَته وَالْكِنَايَة عَن الِاسْم وَالصّفة إِذا وَافق ذَلِك اسْمه أَو صفته مجانية من سخط عَلَيْهِ خدمته على شَرط الطَّاعَة لَهُ فِي الْمَكْرُوه وَمِمَّا يُخَالف الْغَرَض التلطف فِي إِلْقَاء النَّصِيحَة غليه مسايرته عِنْد ركُوبه بِالْمحل الَّذِي لَا يضْطَر إِلَى التفاته نَحوه أَو الدُّخُول عَلَيْهِ بعد المهازلة دُخُول من لم يجر بَينهمَا شَيْء شدَّة الحذر بعد تقريبه وتمكينه حَتَّى يكون مِنْهُ على حد السنان خدمَة الْجَاهِل من الرؤساء بِاتِّبَاع رِضَاهُ والعاقل بِمَا فِيهِ إِحْرَاز الْحجَّة لَهُ وَعَلِيهِ إِظْهَار الاستهانة لَهُ بِمَا فضلت بِهِ عَلَيْهِ والتعجب بِمَا فضل بِهِ عَلَيْك إِخْرَاج القَوْل وَالْفِعْل بِحَسب مَا غلب عَلَيْهِ من خدمَة الطبيعة أَو الْعقل ادِّعَاء النَّقْص عَنهُ فِي قُوَّة غير الْقُوَّة الَّتِي ظهر لَك فِيهَا الْفضل عَلَيْهِ لتخف على قلبه مداراته بِحَسب الْإِمْكَان تعلمه وكأنك تتعلم مِنْهُ وتشير عَلَيْهِ وكأنك تستشيره النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ أَيْضا جملَة خِصَال يتأدب مَعَه بِتَرْكِهَا نذكرها ملخصة مَخَافَة التَّطْوِيل وَهِي إفراط الدُّعَاء لَهُ ومناداته باسمه وَرفع

الصَّوْت بِحَضْرَتِهِ ابْتِدَاء الحَدِيث بمجلسه إِذا كَانَ هُوَ الْمُتَكَلّم والضحك من حَدِيثه وَإِظْهَار التَّعَجُّب مِنْهُ وإعادة الحَدِيث عَلَيْهِ وَإِن طَال الْعَهْد بإلقائه عَلَيْهِ رفع الرَّأْس إِلَى حرمه رفع الْعين إِلَيْهِ إِذا دخل عَلَيْهِ وَقد كَانَ مازحه وإعلامه أَن لَهُ عَلَيْهِ حَقًا إِظْهَار أَن صَوَاب قَول أَو فعل إِنَّمَا كَانَ مِنْهُ حمله مَا يرى مِنْهُ جملَة على أَن يدْخل بَينه وَبَين أَهله وَولده أَن يرى لنَفسِهِ أَنه بِموضع سره ويعنه إِذا أصَاب مِنْهُ لطف منزلَة الانقباض عَنهُ التهالك عَلَيْهِ إِذا تغير لَهُ السُّؤَال عَن أَحْوَاله عِنْد السُّؤَال التهاون بِالْكَذِبِ بَين يَدَيْهِ على وَجه الْهزْل الْمُبَادرَة بِالْجَوَابِ إِذا سَأَلَ غَيره أَن يسَار بمجلسه أحدا أَو يُومِئ إِلَيْهِ بالغمز الإلحاح عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة استبطاؤه إِذا سَأَلَهُ إِضْمَار العتب عَلَيْهِ مَخَافَة أَن يَبْدُو على وَجهه مكابرته فِي التَّحَوُّل عَمَّا يحب أَو يكره التملق لَهُ فِي كل سَاعَة إِذا نزل مِنْهُ منزلَة أمره استيحاشه من إكرامه للأشرار لأجل الْحَاجة إِلَيْهِم الْإِكْثَار من غشيانه أَو الصعُود عِنْده إِظْهَار شرف نَفسه إِذا فضل عَلَيْهِ غَيره معاداة أحد من حرمه كَمَا قيل

خاتمة إفادة

(لَيْسَ الشَّفِيع الَّذِي يَأْتِيك مئتزرا ... مثل الشَّفِيع الَّذِي يَأْتِيك عُريَانا) خَاتِمَة إِفَادَة من مستحسن مَا ورد فِي هَذَا النَّوْع فِي معرض الْوَصِيَّة بِهِ لمصاحب الْأُمَرَاء معينا أَو مُفِيدا وصيتان الْوَصِيَّة الأولى مَا رَوَاهُ الشّعبِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ لي أبي أَنِّي أرى هَذَا الرجل يَعْنِي عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنِّي مُوصِيك بخلال أَربع لَا تفشين لَهُ سرا وَلَا يجزين عَلَيْك كذبا وَلَا تطو عَنهُ نصيحة وَلَا تغتابن عِنْده أحدا قَالَ الشّعبِيّ فَقلت لِابْنِ عَبَّاس كل وَاحِدَة خير من ألف قَالَ أَي وَالله خير من عشرَة آلَاف الْوَصِيَّة الثَّانِيَة قَالَ الْأَصْمَعِي قَالَ لي الرشيد أول يَوْم عزم فِيهِ على تأنيسي يَا عبد الْملك أَنْت أحفظنا وَنحن اعقل مِنْك لَا تعلمنا فِي

مَلأ وَلَا تسرع إِلَى تدبيرنا فِي خلا واتركنا حَتَّى نبتديك بالسؤال فَإِذا بلغت من الْجَواب قدر اسْتِحْقَاقه فَلَا تزد وَإِيَّاك والبدار إِلَى تصديقنا وَشدَّة الْعجب بِمَا يكون منا وَعلمنَا من الْعلم مَا نحتاج إِلَيْهِ على عتبات المنابر وَفِي فواصل المخاطبات وَدعنَا من رِوَايَة وَحشِي الْكَلَام وَمن غرائب الْأَشْعَار وَإِيَّاك وإطالة الحَدِيث إِلَى أَن نستدعي ذَلِك مِنْك وَمَتى رايتنا صادين عَن الْحق فأرجعنا غليه من غير تَعْزِير بالْخَطَأ وَلَا الإضجار بطول الترداد قَالَ الْأَصْمَعِي فَقلت لَهُ أَنا إِلَى حفظ هَذَا الْكَلَام أحْوج مني إِلَى كثير من الْبر

في واجبات ما يلزم السلطان سياسة القيام بها وفاء بعهدة ما تحمله وطولب منه والمذكور منها جملة

الْبَاب الثَّانِي فِي وَاجِبَات مَا يلْزم السُّلْطَان سياسة الْقيام بهَا وَفَاء بعهدة مَا تحمله وطولب مِنْهُ وَالْمَذْكُور مِنْهَا جملَة الْوَاجِب الأول حفظ أصُول الدّين وَقد تقدم مَا يَتَّضِح بِهِ أَن ذَلِك هُوَ الْمَقْصُود الْأَعْظَم من السُّلْطَان وَالْغَرَض الْآن تَفْصِيل بعض مَا يكون بِهِ هَذَا النَّوْع من الْحِفْظ مَتى ظهر مُبْتَدع أَو منجم زائغ وفرضه فِي مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى الْقيام على المبتدع فِي الدّين بِمَا يكفه عَن ضلال بدعته من نَاحيَة الْوُلَاة وَغَيرهم وعَلى حِسَاب موقع الْبِدْعَة فِي الْمُخَالفَة يظْهر بِأَحْكَام مُتَفَاوِتَة الطّلب بِاعْتِبَار ذَلِك الْموقع تجْرِي عَلَيْهِ إرشادا أَو نكالا أَحدهَا التَّعْلِيم وَإِقَامَة الْحجَّة كَمَا وَقع لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَعَ الْخَوَارِج حِين ذهب إِلَيْهِم مناظرا ومرشدا حَتَّى رَجَعَ مِنْهُم أَلفَانِ أَو ثَلَاثَة آلَاف ولعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ مَعَ غيلَان القدري

الثَّانِي الهجران بترك الْكَلَام وَالسَّلَام كَمَا وَردت الْوَصِيَّة بذلك عَن غير وَاحِد من السّلف كَقَوْلِهِم إِذا ألفيت صَاحب بِدعَة فِي طَرِيق فَخذ فِي طَرِيق آخر وَقَوْلهمْ من جلس إِلَى صَاحب بِدعَة نزعت مِنْهُ الْعِصْمَة الثَّالِث التَّغْرِيب كَفعل عمر رَضِي الله عَنهُ بصبيغ حِين سَأَلَ عَن المشكلات على غير طَرِيق الِاتِّبَاع لنهج الصِّرَاط السوي حَتَّى أدْركهُ شؤمه النكال بذلك فَبَقيَ بَين قومه خاملا حَتَّى هلك بعد أَن كَانَ سيدهم الرَّابِع الضجر قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَق الشاطبي كَمَا سجنوا الحلاج قبل قَتله بسنين عدَّة قلت وَبعد ذَلِك كَانَ قَتله بفتوى فُقَهَاء ذَلِك الْعَصْر الْخَامِس ذكره بِمَا هُوَ عَلَيْهِ تحذيرا مِنْهُ وتنفيرا بِشَرْط أَن لَا يتَعَدَّى فِيهِ الصدْق فَلَا يفترى عَلَيْهِ مَا لم يفعل وَأَن لَا يتَجَاوَز إِلَى ذكر معايبه الخلقية أَو شَرّ كَانَ فِي أَبِيه أَو أمه لِأَن مَا وَرَاء الْمُحْتَاج إِلَيْهِ بَاقٍ على التَّحْرِيم

السَّادِس الْقِتَال إِذا ناصبوا الْمُسلمين بِالْحَرْبِ وَخَرجُوا عَلَيْهِم بِالسَّيْفِ والسنان كَمَا فعله عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَغَيره من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وأحكامهم فِي ذَلِك مُخَالفَة فِي أُمُور لقِتَال الْكفَّار وَهِي مقررة فِي موَاضعهَا السَّابِع الْقَتْل إِذا عثر عَلَيْهِ وَلَا يَخْلُو إِذْ ذَاك أَن يظْهر بدعته أَو يسْتَتر بهَا فَإِن أظهرها وَلم يرجع عَنْهَا قتل بعد استتابته وَإِن استتر بهَا وَكَانَت كفرا أَو تؤول إِلَيْهِ قتل دون استتابته وَهُوَ الثَّامِن قَالُوا لِأَنَّهُ فِي حكم الزنديق الْمَقْتُول عِنْد العثور عَلَيْهِ دون اسْتِتَابَة وَعند جمَاعَة لَا بُد من استتابته قَالَ ابْن زرقون وَبِه أفتى ابْن لبَابَة التَّاسِع تَكْفِير من قَامَ الدَّلِيل على تكفيره إِمَّا لصراحة الْبِدْعَة بالْكفْر كالإباحة وَالْقَوْل بالحلول وَالِاخْتِيَار لتكفير مَا يؤول مِنْهَا إِلَى الْكفْر كَمَا ذهب إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو بكر فِي جملَة من الْفرق الْعَاشِر وَهُوَ مَبْنِيّ على ذَلِك أَن لَا يرثهم ورثتهم من الْمُسلمين وَلَا يرثوا أحدا مِنْهُم وَلَا يغسلون إِذا مَاتُوا وَلَا يدفنوا فِي مَقَابِر الْمُسلمين قَالَ

الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشاطبي وَلَا الْمُسْتَتر فَإِنَّهُ يحكم لَهُ بِحكم الْكَافرين وورثته أعرف بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِيرَاث الْحَادِي عشر الْأَمر بِأَن لَا يناكحوا تَأْكِيدًا للهجران وَعدم المواصلة قلت وَلما يَتَّقِي على وَلَده من سيران الْبِدْعَة إِلَيْهِ خُصُوصا بعد مَوته وتخلفه فِي حضَانَة نِسَائِهِم أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو حَفْص الْعَطَّار فِيمَا حَكَاهُ الْبُرْزُليّ الثَّانِي عشر تجريمهم على الْجُمْلَة قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَق الشاطبي فَلَا تقبل شَهَادَتهم وَلَا روايتهم وَلَا يكونُونَ وُلَاة قُضَاة وَلَا ينصبون فِي مناصب الْعَدَالَة من إِمَامَة وخطابة قَالَ إِلَّا أَنه قد ثَبت عَن جملَة من السّلف رِوَايَة عَن جمَاعَة مِنْهُم وَاخْتلفُوا فِي الصَّلَاة خَلفهم من بَاب الْأَدَب ليرجعوا عَمَّا هم عَلَيْهِ الثَّالِث عشر ترك عِيَادَة مرضاهم زجرا وعقوبة قلت لِأَن عيادته من بَاب التوقير لَهُم وَقد ورد من أَتَى صَاحب بِدعَة ليوقره أعَان على هدم الْإِسْلَام وروى مَرْفُوعا وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى الرَّابِع عشر ترك شُهُود جنائزهم إهانة لَهُم وإذلالا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَة وَلَا يسلم على أهل الْبدع وَلَا يناكحون وَلَا يُصَلِّي خَلفهم جُمُعَة وَلَا غَيرهَا وَلَا تشهد جنائزهم الْخَامِس عشر ضَربهمْ كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ بصيغ وَعَن مَالك فِي الْقَائِل بِخلق الْقُرْآن أَن يوجع ضربا ويسجن حَتَّى يَتُوب وَعَن الشَّافِعِي حكمي فِي أَصْحَاب الْكَلَام أَن يضْربُوا بِالْجَرِيدِ ويجملوا

على الْإِبِل وَيُطَاف بهم فِي العشائر والقبائل وَيُقَال هَذَا جُزْء من ترك الْكتاب وَالسّنة وَأخذ فِي الْكَلَام قَالَ الْأَئِمَّة وعني بذلك أهل الْبدع لأمر نصر السّنة بذلك الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة ركون المبتدع إِلَى الْوُلَاة من أعظم مَا يخل بِهَذَا الْحِفْظ لأمرين أَحدهمَا مَا فِيهِ من الإخافة لمن أَبى من الْإِجَابَة لَهُ سجنا وَضَربا وقتلا كَمَا وَقع لبشر المريسي بِعَهْد الْمَأْمُون وَلأَحْمَد بن أبي دَاوُد فِي أَيَّام الواثق وَفِي الْوَاقِع من ذَلِك نَظَائِر الثَّانِي مَا ينشأ عَن ذَلِك من كَثْرَة المجيبين للدعوة لِأَن سوق أَكثر النُّفُوس لما يُرَاد مِنْهَا بوازع السُّلْطَان أمكن مِمَّا هُوَ بِمُجَرَّد الْبَاعِث الديني وَعند ذَلِك فَيجب على وُلَاة الْأَمر إبعاد هَذَا الصِّنْف المشؤوم وإسلامهم لإجراء

أَحْكَام السّنة عَلَيْهِم مَخَافَة الْفِتْنَة بهم أَولا وَإِدْخَال الضَّرَر بهم على الدّين ثَانِيًا تَعْرِيف من عصمَة الْقيام بِهَذَا الْوَاجِب من وصمة الْإِخْلَال بِهِ مَا وَقع بِعَهْد أَمِير الْمُسلمين الْغَالِب بِاللَّه ابْن نصر أَيّدهُم الله فِي قَضِيَّة الْمَعْرُوف بالفزاري الظَّاهِر بمالقة أَيَّام المتغلب عَلَيْهَا إِذْ ذَاك من رُؤَسَاء بني إشقيلولة مُلَخصا من كَلَام الشَّيْخ ابْن الْخَطِيب أَن هَذَا الشقي لتناهي الْفِتْنَة بِهِ إِلَى أَن تخطى مُوجب ذَلِك إِلَى أَن ادّعى النُّبُوَّة كَانَ قد استهوى هَذَا الرئيس وتببعه لذَلِك ثاغية وراغية من الْعَوام الصم الْبكم مستبصرين فِيهِ جِنَايَة وَبعد زمَان من قَتله على يَد الْأُسْتَاذ أبي جَعْفَر بن الزبير بغرناطة وَذَلِكَ عِنْد إدالة الدولة بمالقة إِلَى أَمِير الْمُسلمين أبي عبد الله بن نصر وَتمكن الْأُسْتَاذ من الْمُطَالبَة لَهُ والاستظهار عَلَيْهِ بالشهادات

قلت ففاز هَذَا السُّلْطَان رَحمَه الله بمنقبة هَذَا الْوَاجِب فِي مثل هَذَا الدَّجَّال الْمفْتُون بِهِ من عميت عَلَيْهِ مراشده نادرة فَائِدَة قَالَ الشَّيْخ ابْن الْخَطِيب حَدثنِي شَيخنَا أَبُو الْحسن بن الجياب قَالَ لما أَمر بالتأهب يَوْم قَتله وَهُوَ فِي السجْن الَّذِي اخْرُج مِنْهُ إِلَى مصرعه جهر بِتِلَاوَة سُورَة يسن فَقَالَ لَهُ أحد الزعرة مِمَّن جمع السجْن بَينهمَا اقْرَأ قراءتك لأي شَيْء تتطفل على قراءتنا الْيَوْم وَمَا فِي معنى هَذَا فَتَركهَا مثلا للوذعيته الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة مَا يتَأَكَّد على السُّلْطَان أَن يمْنَع مِنْهُ مُنكرَات من الفضول المخلة برعاية هَذَا الْحِفْظ وَأَعْظَمهَا مُنْكرا الْمُنكر الأول الكهانة وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَقد تقدم وَعِيد التَّلَبُّس بهَا شرعا وعَلى فرض عدم الذكرى بِهِ كَمَا عِنْد غير المتشرعين فقد شهدُوا بِضَرَر إِبَاحَة السَّمْح فِيهَا لآحاد الرّعية فَفِي العهود اليونانية لَا تطلق لأحد أَن يتكهن فِي مملكتك وَلَا يَدعِي علم شَيْء مِمَّا هُوَ كَائِن فَإِن ذَلِك يبْعَث سوء القَوْل فِي أيامك وَيُطلق السّنة المرجفين بك الْمُنكر الثَّانِي الْجِدَال غير الْمَحْمُود لأمرين أَحدهمَا مصير من اشْتغل بِهِ إِلَى الضلال بعد الْهوى فَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ضل قوم بعد هدى إِلَّا أَتَوا الْجِدَال ثمَّ قَرَأَ مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح

الثَّانِي مآله للتفكير المفضي للتقاتل بِالسَّيْفِ والسنان فَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تتذاكر ينْزع هَذَا بِآيَة وَينْزع هَذَا بِآيَة فَخرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّمَا يفقأ فِي وَجهه حب الرُّمَّان فَقَالَ يَا هَؤُلَاءِ بِهَذَا بعثتم أم بِهَذَا أمرْتُم لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض مُطَابقَة فِي العهود اليونانية لَا تطلق الْجِدَال إِلَّا لمن اسْتحق الْفتيا فِيمَا جادل عَلَيْهِ من مَنْفَعَة فِي دين أَو عَالم بصناعة قد استقرى خواصها وناضل عَلَيْهَا بمعرفته بهَا فَإِن من قصد لمعارضة دين أَو إِفْسَاد مَعَاني علم من الْعُلُوم من غير خدمَة لَهُ وطالب بالأدلة مَا يعجز عَن نصرته ومرتبة التَّصْدِيق بِهِ فأذقه من بأسك مَا يردعه عَن سوء الْخَوْض فَإِنَّهُ يفْسد عَلَيْك النشأ ويحيل الْأَحْدَاث عَن خدمَة الْأَدْيَان والعلوم والمعايش وَيُرِيهمْ أَنه قد أعتقهم من رق الزلل وَإِنَّمَا تعبدهم للشكوك وحرمهم الارتياض بِمَا يسْتَمر عائده وَهُوَ من اضر مَا فِي مملكتك وأسوأهم أثرا فِي من أصغى إِلَيْهِ الْوَاجِب الثَّانِي تَنْفِيذ الْأَحْكَام بَين المتشاجرين وَقطع الْخِصَام بَين المتنازعين قَالَ الْمَاوَرْدِيّ حَتَّى تعم النصفة فَلَا يتَعَدَّى ظَالِم وَلَا يضعف مظلوم

قلت وَهنا للنَّظَر الْكُلِّي طرفان أَحدهمَا فِيمَا يسوغ لَهُ فِي هَذَا الْمقَام رعيا للسياسة الْمُعْتَبرَة الثَّانِي فِيمَا لَا يسوغ لَهُ مِمَّا لَا يعْتَبر من السياسة وَقبل ذَلِك فَهُنَا مقدمتان فِي تَنْبِيه الْمُقدمَة الأولى أَن الْمَاوَرْدِيّ وَتَبعهُ الْقَرَافِيّ فِي النَّقْل عَنهُ فرضا مَا يذكر فِي الطّرف الأول بِاعْتِبَار صَاحب الْمَظَالِم وَصَاحب الجرائم وقصدنا ذكر ذَلِك من حَيْثُ هِيَ أَحْكَام سلطانية من غير تنزل لتِلْك الخطط لذهاب رسمها إِلَّا مَا كَانَ من خطة الشرطة حَسْبَمَا تقدم الْمُقدمَة الثَّانِيَة انهما خصا ذَلِك بالسلطان دون القَاضِي كَأَنَّهُمَا يقصران النّظر السياسي وَإِن شهد لَهُم الشره بِالِاعْتِبَارِ على السُّلْطَان فَقَط وَإِن القَاضِي بمعزل عَن الْمُشَاركَة فِي ذَلِك وَابْن فَرِحُونَ قد نبه فِي كثير مِنْهَا على أَن القَاضِي لَهُ مُشَاركَة فِي ذَلِك لَا يخرج بهَا عَن مَوْضُوع خطته حَسْبَمَا يذكر عَنهُ إِن شَاءَ الله الطّرف الأول فِي مَا يسوغ للسُّلْطَان فِي هَذَا الْمقَام وَفِيه مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى مَا جلبه الْمَاوَرْدِيّ فِي ذَلِك وَتَبعهُ الْقَرَافِيّ مَخْصُوصًا بِصَاحِب الْمَظَالِم وَهُوَ أُمُور أَحدهمَا أَن لَهُ من الْقُوَّة والهيبة مَا لَيْسَ للقضاة قلت لَا سِيمَا عِنْد مصير الْخُرُوج عَن عصبية الدولة والبعد عَن ولايتها بالنصرة والحماية إِلَى الضعْف الَّذِي تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ عَن ابْن خلدون وَحَتَّى فِي وُلَاة خططها السُّلْطَانِيَّة فهم لذَلِك أقوى من الْقُضَاة وأهيب كَمَا فَرْضه الْمَاوَرْدِيّ وَمَعَ ذَلِك فَلَا يدْفع القَاضِي فِي الْجُمْلَة عَن تِلْكَ الخصوصية

فقد قَالَ سَحْنُون يَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يشْتَد حَتَّى يستنطق الْحق وَلَا يدع من حق الله شَيْئا وَلَا يلين فِي غير ضعف نَقله ابْن بطال فِي مقنعه قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَهَذَا نَص فِي اسْتِعْمَال الْقُوَّة والهيبة الثَّانِي أَنه أفسح مجالا وأوسع مقَاما قلت لوُجُود الْمُقْتَضى لذَلِك حسب مَا تقدم لتنبيه على مثله مرَارًا وللقاضي مِنْهُ حَظّ وافر كَمَا لَا يخفى الثَّالِث مَا لَهُ من اسْتِعْمَال الإرهاب وكشف الْأُمُور بالإمارات الدَّالَّة وشواهد الْحَال اللائحة مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى ظُهُور الْحق قَالَ ابْن فَرِحُونَ وللقاضي أَن يَأْخُذ بالإمارات والقرائن فِي وُجُوه كَثِيرَة قَالَ وَقد نقل ابْن قيم الجوزية أَن مَالِكًا رَحمَه الله تَعَالَى ذهب إِلَى التَّوَصُّل بِالْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ بِمَا يرَاهُ الْحَاكِم استنادا لقَوْله تَعَالَى {إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل} الْآيَة الرَّابِع أَنه يُقَابل من ظهر ظلمه بالتأديب قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَهُوَ الْمَذْهَب كتأديب أحد الْخَصْمَيْنِ إِذا آذَى صَاحبه أَو الشُّهُود

وَلابْن سهل أَن الْمُدَّعِي إِذا انْكَشَفَ للْحَاكِم انه مُبْطل فِي دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ يؤدبه واقل ذَلِك الْحَبْس ليندفع بذلك أهل الْبَاطِل واللدد عَن ذَلِك الْخَامِس أَنه يتأنى فِي تردد الْخُصُوم عِنْد اللّبْس ليمعن فِي الْكَشْف بِخِلَاف الْقُضَاة إِذا سَأَلَهُمْ أحد الْخَصْمَيْنِ فصل الحكم لَا يُؤَخر قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب كَمَا ذكره فِي آدَاب القَاضِي وَمِنْه إِذا طَال الْخِصَام فِي أَمر وَكثر التشغيب فِيهِ لَا بَأْس لَهُ أَن يخرق كتبهمْ إِذا رجا فِي ذَلِك تقَارب الْأَمر وَيفْسخ مَا بأيدهم من الْحجَج وَيَأْمُرهُمْ بإبداء الْخُصُومَة وَهُوَ فِي الْمُتَيْطِيَّة وَغَيرهَا السَّادِس أَن لَهُ رد الْخُصُوم إِذا أعضلوا إِلَى وَاسِطَة الْأُمَنَاء ليفصل بَينهم صلحا عَن ترَاض وَلَيْسَ ذَلِك للْقَاضِي إِلَّا برضى الْخَصْمَيْنِ قَالَ ابْن فَرِحُونَ وقواعد الْمَذْهَب ومسائله تَقْتَضِي ذَلِك فقد ذكر فِي آدَاب القَاضِي انه إِذا خشِي تفاقم الْأَمر بإنقاذ الحكم بَين الْخَصْمَيْنِ أَو كَانَا من أهل الْفضل أَو بَينهمَا رحم أَو وَلَاء بَينهمَا أقامهما وَأَمرهمَا بِالصُّلْحِ وَقد أَقَامَ سَحْنُون رجلَيْنِ من صالحي جِيرَانه من بَين يَدَيْهِ وَقَالَ استرا على أنفسكما وَلَا تطلعاني على سركما قَالَ وَلَا بُد فِي هَذَا كُله من الوسائط وَقد قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ رددوا الْقَضَاء بَين ذَوي الْأَرْحَام حَتَّى يصطلحوا فَإِن فعل الْقَضَاء يُورث الضغائن

السَّابِع أَن لَهُ أَن يقم فِي مُلَازمَة الْخَصْمَيْنِ إِذا وضحت إمارات التجاحد وبادر فِي إِلْزَام الْكفَالَة فِيمَا يشرع فِيهِ تكفل لينقاد الْخُصُوم إِلَى التناصف ويتركوا التجاحد بِخِلَاف الْقُضَاة قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَعِنْدنَا أَنه يؤدبهما على ذَلِك قلت وَهُوَ أعرف فِي السياسة وأجدى على نهج التَّقْوِيم بهَا الثَّامِن أَنه يستمع شَهَادَة المستورين بخلافهم قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَالْمذهب أَن القَاضِي يسمع أَيْضا فِي مَوَاضِع عديدة كَمَا فِي الْقَضَاء بِشَهَادَة التوسم وبشهادة غير الْعُدُول للضَّرُورَة التَّاسِع انه يحلف الشُّهُود أَن ارتاب فيهم بِخِلَاف الْقُضَاة قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَقد فعله ابْن بشير قَاضِي الْجَمَاعَة بقرطبة وروى عَن ابْن وضاح أَنه قَالَ أرى لفساد الزَّمَان أَن يحلف الْحَاكِم الشُّهُود قَالَ وَابْن وضاح مِمَّن أَخذ عَن سَحْنُون

الْعَاشِر أَن لَهُ أَن يبْدَأ باستدعاء الشُّهُود ويسألهم عَمَّا عِنْدهم فِي الْقَضِيَّة بِخِلَاف الْقُضَاة لَا يسمعُونَ الْبَيِّنَة حَتَّى يُرِيد الْمُدَّعِي إحضارها وَلَا يسمعونها إِلَّا بعد مَسْأَلَة الْمُدَّعِي لسماعها قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَعِنْدنَا أَن للْقَاضِي أَن يفعل ذَلِك فِي مَوَاطِن قَالَ فَتحصل من هَذَا أَن مَا ذكره الْقَرَافِيّ لَيْسَ هُوَ مَذْهَب مَالك رَحمَه الله تَعَالَى الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مَا جعله من ذَلِك مَنُوطًا بوالي الجرائم وَهُوَ أُمُور أَحدهَا سَماع قذف الْمُتَّهم من أعوان الْإِمَارَة فِي غير تَحْقِيق الدَّعْوَى الْمُعْتَبرَة وَيرجع إِلَى قَوْلهم هَل هُوَ من أهل هَذِه التُّهْمَة أم لَا فَإِن نزهوه أطلقهُ أَو قَذَفُوهُ بَالغ فِي الْكَشْف بِخِلَاف الْقُضَاة قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَقد استحبوا للْقَاضِي أَن يتَّخذ كاشفا قد ارْتَضَاهُ يكْشف عَن أَحْوَال الشُّهُود فِي السِّرّ وَيقبل مِنْهُ مَا نقل إِلَيْهِ وَقَالُوا يَنْبَغِي أَن يستبطن أهل الدّين وَالْأَمَانَة وَالْعَدَالَة ليستعين بهم على مَا هُوَ بسبيله ويقوى بهم على التَّوَصُّل إِلَى مَا ينوبه وأجازوا التجريح فِي السِّرّ بِالْوَاحِدِ الْعدْل وَهُوَ نَحْو مَا ذكره من أعوان الْإِمَارَة الثَّانِي أَنه يُرَاعِي شَوَاهِد الْحَال وأوصاف الْمُتَّهم فِي قُوَّة التُّهْمَة وضعفها بِأَن يكون الْمُتَّهم بِالنسَاء متصنعا لَهُنَّ فتقوى التُّهْمَة أَو مُتَّهمًا بِالسَّرقَةِ وَفِيه اثر ضرب مَعَ قُوَّة بدن وَهُوَ من أهل الدعارة فتقوى أَولا يكون شَيْء من ذَلِك فتخف وَلَيْسَ ذَلِك للقضاة

قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَعِنْدنَا يجوز للْقَاضِي مُرَاعَاة شَاهد الْحَال الثَّالِثَة تَعْجِيل حبس الْمُتَّهم للاستبراء والكشف ومدته شهر أَو حسب مَا يرَاهُ بِخِلَاف الْقُضَاة قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَذَلِكَ أَيْضا للْقَاضِي ثمَّ ذكر عَن ابْن سهل فِي قَضِيَّة الرَّامِي بِالدَّمِ من غير حُضُور بَيِّنَة أَن الْمُتَّهم بِهِ يحبس من خَمْسَة عشر يَوْمًا إِلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَغير الْمُتَّهم يحبس كاليومين وَالثَّلَاثَة وَنَحْوهَا ثمَّ إِن أَتَى طَالب الدَّم فِي دَاخل الْمدَّة بِسَبَب قوي وَجَبت الزِّيَادَة فِي حَبسه بِقدر مَا يرَاهُ الرَّابِع أَنه يجوز لَهُ مَعَ قُوَّة التُّهْمَة ضرب المتهوم ضرب تَقْرِير ليصدق فَإِن أقرّ وَهُوَ مَضْرُوب لِيُقِر لم يعْتَبر إِقْرَاره تَحت الضَّرْب وَإِن كَانَ ليصدق عَن حَاله قطع ضربه واستعاد إِقْرَاره فَإِن أقرّ بِخِلَاف الْإِقْرَار الأول أَخذه بِالثَّانِي وَيجوز الْعَمَل بِالْإِقْرَارِ الأول مَعَ كَرَاهَة وَلَيْسَ ذَلِك للقضاة قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَذَلِكَ عندنَا يجوز للْقَاضِي تعاطيه فِي الدعاوي على أهل التهم والعدوان لَكِن لَا يخرجهم ذَلِك عَن صفة الضَّرْب الْمَحْدُود وَلَا يعاقبهم بِغَيْر الْعُقُوبَات الشَّرْعِيَّة الْخَامِس أَن لَهُ فِيمَن تَكَرَّرت مِنْهُ الجرائم وَلم ينزجر بالحدود اسْتِدَامَة حَبسه إِذا أضرّ بِالنَّاسِ فِي جرائمه حَتَّى يَمُوت ويقوته ويكسوه من بَيت المَال بِخِلَاف الْقُضَاة

قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَذَلِكَ مِمَّا يَفْعَله القَاضِي وَذكر من ذَلِك عَن ابْن سهل أَن من شهد فِيهِ انه من أهل الْفساد والتعدي وَجب عَلَيْهِ الْأَدَب الموجع وَالْحَبْس الطَّوِيل قَالَ فَإِن الإغلاظ على أهل الشَّرّ وَالْأَخْذ على أَيْديهم مِمَّا يصلح الله بِهِ الْعباد والبلاد السَّادِس أَن لَهُ تَحْلِيف الْمُتَّهم للاختبار حَاله ويغلظ عَلَيْهِ الْكَشْف ويحلفه بِالطَّلَاق وَالْعتاق وَالصَّدَََقَة كَإِيمَانِ بيعَة السُّلْطَان وَلَا يحلف قَاض أحدا فِي غير حق وَلَا يحلف إِلَّا بِالْيَمِينِ بِاللَّه قَالَ ابْن فَرِحُونَ وللقاضي أَن يحلف الْمُتَّهم وَهُوَ مَشْهُور وَأما الْيَمين بِالطَّلَاق فَإِنَّمَا ذكروها فِي الْوَالِي يَأْخُذ الشَّارِب فيحلفه بِالطَّلَاق مكْرها على أَلا يشرب الْخمر وَلَا يفسق وان لَا يغش فِي عمله وَلَا يتلَقَّى الركْبَان وَفِي الْوَالِد أَن يحلف وَلَده مكْرها لَهُ على الْيَمين تأديبا لَهُ قَالَ وألزموا الْحَالِف الْيَمين وَإِن أكره عَلَيْهَا قَالَ وَكَانَ ابْن عَاصِم محتسبا بالأندلس وَكَانَ يحلف بِالطَّلَاق تَغْلِيظًا بِهِ قَالَ ابْن وضاح وَذكرت ذَلِك لسَحْنُون فَقَالَ من أَيْن أَخذ ذَلِك فَقلت لَهُ من الْأَثر الْمَرْوِيّ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ تحدث للنَّاس أقضية يقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور فَقَالَ سَحْنُون مثل ابْن عَاصِم يتَأَوَّل هَذَا تَعْظِيمًا لشأن ابْن عَاصِم لِأَنَّهُ مِمَّن أَخذ عَن ابْن الْقَاسِم قلت وَعَن الشَّيْخ ابْن مهْدي الوانوغي من أَصْحَاب

ابْن عَرَفَة أَنه كَلَام يحْتَمل الْمَدْح والذم ذكره فِي تَعْلِيقه على الْمُدَوَّنَة السَّابِع أَن لَهُ أَخذ المجرم بِالتَّوْبَةِ قهرا وَيظْهر لَهُ من الْوَعيد مَا يَقُودهُ إِلَيْهِ طَوْعًا ويتوعده بِالْقَتْلِ فِيمَا لَا يجب فِيهِ لِأَنَّهُ إرهاب لَا تَحْقِيق وَيجوز أَن يحققه بالدب فَقَط بِخِلَاف الْقُضَاة قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَلم أَقف عَلَيْهِ فِي حق القَاضِي الثَّامِن أَن لَهُ سَماع شَهَادَة أهل المهن إِذا كثر عَددهمْ وَلَا يسمعهم القَاضِي قَالَ ابْن فَرِحُونَ وللقاضي ذَلِك عِنْد الضَّرُورَة التَّاسِع أَن لَهُ النّظر فِي المواثبات وَإِن لم يُوجب غرما وَلَا حدا ثمَّ إِن لم يكن بِوَاحِد مِنْهُمَا أثر سمع قَول السَّابِق فِي الدَّعْوَى وَإِن كَانَ بِأَحَدِهِمَا اثر فَقيل يبْدَأ بِسَمَاع دَعْوَى ذِي الْأَثر وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ يبْدَأ بِسَمَاع السَّابِق والمبتدي بالمواثبة اعظم جرما وتأديبا وَيخْتَلف تأديبهما باختلافهما بالجرم وباختلافهما بالهيئة قَالَ ابْن فَرِحُونَ ومسائل الْمَذْهَب تَقْتَضِي أَن للْقَاضِي ذَلِك قَالَ وعَلى الْجُمْلَة فقد قَالَ أَبُو إِسْحَاق ابْن الْأمين للْقَاضِي النّظر فِي جَمِيع الْأَشْيَاء إِلَّا فِي قبض الْخراج وَاخْتلف هَل لَهُ قبض أَمْوَال الصَّدقَات وصرفها فِي مستحقها إِذا لم يحضر نَاظر أم لَا

قلت وَإِلَّا مَا أخرج عَن نظره بِحكم النَّص أَو الْعَادة كَمَا تقدم عَن ابْن قيم الجوزية الطّرف الثَّانِي فِيمَا لَا يسوغ لَهُ مِمَّا لَا يعْتَبر من السياسة وَمن ذَلِك الحكم بالفراسة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ الفراسة لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا حكم وَقد كَانَ قَاضِي الْقُضَاة الشَّامي الْمَالِكِي بِبَغْدَاد أَيَّام كَونه بِالشَّام يحكم بالفراسة جَريا على طَرِيق القَاضِي إِيَاس بن مُعَاوِيَة وَقد كَانَ إِيَاس قَاضِيا فِي أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز وَله أَحْكَام كَثِيرَة بطرِيق الفراسة قَالَ وَكَانَ شَيخنَا فَخر الْإِسْلَام أَبُو بكر الشَّاشِي صنف جُزْءا فِي الرَّد عَلَيْهِ كتبه لي بِخَطِّهِ وأعطانيه قَالَ وَذَلِكَ صَحِيح فَإِن مدارك الْأَحْكَام مَعْلُومَة شرعا مدركة قطعا وَلَيْسَت الفراسة مِنْهَا انْتهى قَالَ ابْن فَرِحُونَ فَالْحكم بهَا مثل الحكم بالحزر والتخمين وَذَلِكَ فسق وجور من الْحَاكِم وَالظَّن يُخطئ ويصيب وَإِنَّمَا أجيزت شَهَادَة الوسم فِي مَحل مَخْصُوص بِالضَّرُورَةِ

قلت فِي قَوَاعِد الْمقري يمْنَع فِي حكم الدّين اعْتِمَاد الحزر والتخمين وَمن ثمَّ منع الحكم بالنجوم والفأل وَإِن كَانَ يُعجبهُ الْحسن مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ الزّجر والرمل والفراسة وَإِن كَانَت الفراسة من صِفَات الْمُؤمن وَفِي التَّنْزِيل {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين} قَالَ وينقض الحكم بذلك وَإِن وَافق الْحق لفساد مبناه قَالَ وَكره الْمَالِكِيَّة أَن يكون القَاضِي داهية كَذَلِك وغن استحسنوا أَن يكون ذكيا فطنا بِحَيْثُ لَا يخدع انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ تَكْمِلَة فِي تَنْبِيه إِذا كَانَت الفراسة بالمقدار الَّذِي يتَوَصَّل بلطف الْحِيلَة بِهِ إِلَى اسْتِخْرَاج الْحق بعد ظُهُور الْإِمَارَة الْمُعْتَبرَة فِي استناد الحكم إِلَيْهَا فَهِيَ من مستحسن مَا يعد من ذكاء المتصف بهَا من الْمُلُوك وَسَائِر الْوُلَاة وَيَكْفِي من الْمَنْقُول من ذَلِك حكايتان الْحِكَايَة الأولى يرْوى عَن الْمَنْصُور أَنه جلس فِي إِحْدَى قباب مدينته فَرَأى رجلا ملهوفا يجول فِي الطرقات فَأرْسل إِلَيْهِ من أَتَاهُ بِهِ فَسَأَلَ عَن حَاله فَأخْبرهُ أَنه خرج فِي تِجَارَة فَأفَاد مَالا وَأَنه رَجَعَ بِالْمَالِ إِلَى منزله فَدفعهُ إِلَى أَهله فَذكرت امْرَأَته أَن المَال سرق من بَيتهَا وَلم ير نقبا بِالدَّار وَلَا أثرا فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور مُنْذُ كم تَزَوَّجتهَا قَالَ مُنْذُ سنة قَالَ أبكرا تَزَوَّجتهَا أم ثَيِّبًا قَالَ ثَيِّبًا قَالَ أفلها ولد من سواك قَالَ لَا قَالَ فشابة هِيَ أم مُسِنَّة قَالَ بل حَدثهُ فَدَعَا الْمَنْصُور بقارورة طيب كَانَ يتَّخذ لَهُ حاد الرَّائِحَة غَرِيب

النَّوْع فَدَفعهَا غليه وَقَالَ لَهُ تطيب من هَذَا الطّيب فَإِنَّهُ يذهب همك قَلما دخل الرجل من عِنْد الْمَنْصُور قَالَ الْمَنْصُور لأربعة من ثقاته ليقعد كل وَاحِد مِنْكُم على بَاب من أَبْوَاب الْمَدِينَة فَمن مر بِهِ أحد فشم مِنْهُ هَذَا الطّيب فليأتيني وَخرج الرجل بالطيب فَدفعهُ إِلَى امْرَأَته وَقَالَ لَهَا وهبه لي أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا شمته بعثت بِهِ إِلَى رجل كَانَت تحبه وَقد كَانَت دفعت المَال إِلَيْهِ وَقَالَت لَهُ تطيب من هَذَا الطّيب فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ وهبه لزوجي فتطيب مِنْهُ الرجل مر مجتازا بِبَعْض أَبْوَاب الْمَدِينَة فشم الْمُوكل بِالْبَابِ رَائِحَة الطّيب مِنْهُ فَأَخذه فَأتى بِهِ الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور من أَيْن اسْتَفَدْت هَذَا الطّيب فَإِن رَائِحَته غَرِيبَة معجبة فَقَالَ اشْتَرَيْته فَقَالَ أَخْبرنِي من أَيْن اشْتَرَيْته فتلجلج الرجل وَاخْتَلَطَ كَلَامه فدعى الْمَنْصُور صَاحب شرطته وَقَالَ لَهُ خُذ هَذَا الرجل إِلَيْك فَإِن أحضر كَذَا وَكَذَا من الدَّنَانِير فخله يذهب حَيْثُ يَشَاء وَإِن امْتنع فَاضْرِبْهُ ألف سَوط من غير مُؤَامَرَة فَلَمَّا خرج من عِنْده دَعَا صَاحب شرطته وَقَالَ لَهُ هول عَلَيْهِ وجرده وَلَا تقدمن بِضَرْب حَتَّى ترى أَمْرِي فَخرج بِهِ صَاحب الشرطة فَلَمَّا جرده وسجنه أذعن ورد الدَّنَانِير ودعا الرجل وَقَالَ أريتك إِن رددت عَلَيْك الدَّنَانِير بِأَعْيَانِهَا تحكمني فِي امْرَأَتك قَالَ نعم قَالَ فَهَذِهِ دنانيرك وَقد طلقت الْمَرْأَة عَلَيْك وَأخْبرهُ بخبرها

الْحِكَايَة الثَّانِيَة يرْوى أَن رجلا قدم بَغْدَاد يُرِيد الْحَج وَكَانَ مَعَه عقد يُسَاوِي ألف دِينَار فاجتهد فِي بَيْعه فَلم يتَّفق فجَاء إِلَى عطار مَوْصُوف بِالْخَيرِ فأودعه إِيَّاه ثمَّ حج وَعَاد فَأَتَاهُ بهدية فَقَالَ لَهُ الْعَطَّار من أَنْت وَمَا هَذَا فَقَالَ لَهُ الرجل أَنا صَاحب العقد الَّذِي أودعتك إِيَّاه فَأنكرهُ وَدفعه من دكانه وَقَالَ يَدعِي عَليّ مثل هَذِه الدَّعْوَى فَاجْتمع النَّاس وَقَالُوا للْحَاج وَيلك هَذَا رجل خير فَمَا وجدت من تَدعِي عَلَيْهِ إِلَّا هَذَا فتحير الْحَاج وَتردد إِلَيْهِ فَمَا زَاده إِلَّا شتما وَضَربا فَقيل لَهُ اذْهَبْ إِلَى عضد الدولة فَلهُ فِي هَذِه الْأَشْيَاء فراسة فَكتب قصَّته وَجعلهَا على قَصَبَة ورفعها إِلَى عضد الدولة فصاح بِهِ فجَاء فَسَأَلَهُ عَن حَاله فَأخْبرهُ بالقصة فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى الْعَطَّار غدْوَة واقعد على دكانه فَإِن مَنعك فَاقْعُدْ على دكان يُقَابله من بكرَة إِلَى الْمغرب وَافْعل هَذَا ثَلَاثَة أَيَّام فَإِنِّي أَمر عَلَيْك فِي الْيَوْم الرَّابِع وأقف وَأسلم عَلَيْك فَلَا تقم لي وَلَا تزدني على رد السَّلَام وَجَوَاب مَا أَسأَلك عَنهُ وَإِذا انصرفت عَنْك فأعد عَلَيْهِ ذكر العقد ثمَّ أعلمني بِمَا يَقُول لَك فَإِن أعطاكه فجيء بِهِ إِلَيّ فَقَالَ فجَاء إِلَى دكان الْعَطَّار ليجلس فَمَنعه فَجَلَسَ مُقَابِله ثَلَاثَة أَيَّام فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الرَّابِع جَاءَ عضد الدولة فِي موكبه الْعَظِيم فَلَمَّا رأى الْخُرَاسَانِي وقف فَقَالَ لَهُ سَلام عَلَيْك فَقَالَ الْخُرَاسَانِي وَلم يَتَحَرَّك وَعَلَيْكُم السَّلَام فَقَالَ يَا أخي تقدم فَلَا تأت إِلَيْنَا وَلَا تعرض عَن حوائجك علينا فَقَالَ كَذَا اتّفق وَلم يشبعه الْكَلَام وعضد الدولة يسْأَله ويحتففي بِهِ وَقد وقف الْعَسْكَر كُله والعطار قد أُغمي عَلَيْهِ من الْخَوْف فَلَمَّا انْصَرف الْتفت الْعَطَّار إِلَى الْحَاج فَقَالَ لَهُ وَيحك مَتى أودعتني هَذَا العقد وَفِي أَي شَيْء كَانَ ملفوفا فذكرني لعَلي أذكر فَقَالَ من صفته كَذَا وَكَذَا فَقَامَ يفتش ثمَّ نفض جرة عِنْده فَوَقع العقد فَقَالَ قد كنت نَسِيته وَلَو لم تذكرني فِي الْحَال مَا ذكرته ثمَّ أَخذ العقد وَقَالَ أَي فَائِدَة لي أَن أعلم عضد الدولة ثمَّ قَالَ لنَفسِهِ فَلَعَلَّهُ يُرِيد أَن يَشْتَرِيهِ فَذهب إِلَيْهِ وأعلمه فَبعث بِهِ مَعَ الْحَاجِب وعاقب الْعَطَّار

الواجب الثالث

الْوَاجِب الثَّالِث إِقَامَة الْحُدُود وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى من الْوَارِد فِي التَّرْهِيب من مواقعة الْحُدُود وانتهاك الْمَحَارِم أَمْرَانِ أَحدهمَا غيرَة الله تَعَالَى عَلَيْهَا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله يغار وغيرة الله أَن يَأْتِي العَبْد الْمُؤمن مَا حرم الله عَلَيْهِ الثَّانِي مصير الْعَمَل الصَّالح بذلك كالهباء المنثور فَعَن ثَوْبَان رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لأعلمن أَقْوَامًا من أمتِي يأْتونَ يَوْم الْقِيَامَة بأعمال أَمْثَال جبال تهَامَة بَيْضَاء فيجعلها الله هباء منثورا قَالَ ثَوْبَان رَضِي الله عَنهُ يَا رَسُول الله صفهم لنا لِئَلَّا نَكُون مِنْهُم وَنحن لَا نعلم قَالَ أما أَنهم من إخْوَانكُمْ وَمن جلدتكم وَيَأْخُذُونَ من اللَّيْل كَمَا تأخذون وَلَكنهُمْ أَقوام إِذا خلوا بمحارم الله انتهكوها رَوَاهُ ابْن ماجة قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَرُوَاته ثقاة تَمْثِيل روى التِّرْمِذِيّ عَن النواس بن سمْعَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله ضرب مثلا صراطا مُسْتَقِيمًا على كنفي الصِّرَاط أَي جانبيه داران لَهما أَبْوَاب مفتحة على الْأَبْوَاب سور وداع يَدْعُو على رَأس السراط وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم والأبواب الَّتِي على كنفي الصِّرَاط حُدُود

الله فَلَا يَقع أحد فِي حُدُود الله حَتَّى يكْشف السّتْر وَالَّذِي يَدْعُو من فوقم واعظ ربه عز وَجل الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من التَّرْغِيب الْمَرْوِيّ فِي إِقَامَة الْحُدُود أَمْرَانِ أَحدهمَا تَأْكِيد الْأَمر بهَا باستواء الْقَرِيب والبعيد فِيهَا فَعَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقِيمُوا حُدُود الله فِي الْقَرِيب والبعيد وَلَا تأخذكم فِي الله لومة لائم رَوَاهُ ابْن ماجة الثَّانِي تَعْجِيل ثَمَرَة السياسة بهَا خُصُوصا وعموما فَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحد يُقَام فِي الأَرْض خير لأهل الأَرْض من أَن يمطروا ثَلَاثِينَ صباحا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَلَفظه قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حد يعْمل بِهِ فِي الأَرْض خير لأهل الأَرْض من أَن يمطروا أَرْبَعِينَ صباحا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة المداهنة فِي إِقَامَة الْحُدُود عَائِدَة بنقيض مصلحتها من حُلُول النقمَة بهَا عَاجلا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن قُريْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْن المخزومية الَّتِي سرقت فَقَالُوا من يكلم فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالُوا وَمن يجترئ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَة حب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَلمهُ أُسَامَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أُسَامَة أَتَشفع فِي حد من حُدُود الله

تَعَالَى ثمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ إِنَّمَا هلك الَّذين منقبلكم أَنهم كَانُوا إِذا سرق فيهم الشريف تَرَكُوهُ وَإِذا سرق فيهم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد وأيم الله لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا تَمْثِيل روى البُخَارِيّ عَن النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مثل الْقَائِم فِي حُدُود الله وَالْوَاقِع فِيهَا كَمثل قوم استهموا على سفينة فَأصَاب بَعضهم أَعْلَاهَا وَبَعْضهمْ أَسْفَلهَا فَكَانَ الَّذين فِي أَسْفَلهَا إِذا استقوا من المَاء مروا على من فَوْقهم فَقَالُوا لَو أَن خرقنا فِي نصيبنا خرقا وَلم نؤذ من فَوْقنَا فَإِن تركوهم وَمَا أَرَادوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِن أخذُوا على أَيْديهم نَجوا جَمِيعًا الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة مِمَّا يدل على منع الشَّفَاعَة فِي الْحُدُود زَائِدا على مَا يفهم من الحَدِيث الأول فِي الْمَسْأَلَة قبل أَمْرَانِ أَحدهمَا تردده بهَا فِي غضب الله تَعَالَى حَتَّى ينْزع فَعَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَيّمَا رجل حَالَتْ شَفَاعَته دون حد من حُدُود الله تَعَالَى لم يزل فِي غضب الله تَعَالَى حَتَّى ينْزع وَأَيّمَا رجل شدّ غَضبا على مُسلم فِي خُصُومَة لَا علم لَهُ بهَا فقد عاند الله فِي حَقه وحرص على سخطه وَعَلِيهِ لعنة الله تتَابع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأَيّمَا رجل أشاع على مُسلم كلمة هُوَ مِنْهَا بَرِيء سبه بهَا فِي الدُّنْيَا كَانَ حَقًا لله أَن يدليه يَوْم الْقِيَامَة فِي النَّار حَتَّى يَأْتِي بنفاذ مَا قَالَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ الثَّانِي مضادة الله تَعَالَى بهَا وَأعظم بذلك هَلَاكًا فَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُول من حَالَتْ شَفَاعَته دون حد فِي حُدُود الله فقد ضاد الله عز وَجل وَمن خَاصم فِي بَاطِل وَهُوَ

يعلم لم يزل فِي سخط الله حَتَّى ينْزع وَمن قَالَ فِي مُؤمن مَا لَيْسَ فِيهِ أسقاه الله ردعه الخبال حَتَّى يخرج مِمَّا قَالَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُود تَفْسِير قَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي الردعة بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وتحريكهما أَيْضا وبالعين الْمُعْجَمَة هِيَ الوجل والخبال بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْهَاء الْمُوَحدَة هِيَ عصارة أهل النَّار وعرفهم كَمَا جَاءَ مُفَسرًا فِي مُسلم وَغَيره الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة قبُول الشَّفَاعَة فِي الْحُدُود وَهُوَ من بَاب إرضاء النَّاس بسخط الله تَعَالَى ووباله مَحْذُور من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فَاعل ذَلِك مُوكل إِلَى النَّاس وَلنْ يغنوا عَنهُ من الله شَيْئا فقد كتب مُعَاوِيَة إِلَى عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن اكتبي لي كتابا توصيني فِيهِ وَلَا تكثري عَليّ فَكتبت إِلَيْهِ سَلام عَلَيْك أما بعد فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من التمس رضى الله بسخط النَّاس كَفاهُ الله مُؤنَة النَّاس وَمن التمس رضى النَّاس بسخط الله وَكله الله إِلَيْهِم وَالسَّلَام الثَّانِي إِن ذَلِك يعود عَلَيْهِ بسخط الله وَسخط النَّاس فَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَسخط الله فِي رضى النَّاس سخط الله عَلَيْهِ وأسخط عَلَيْهِ من أرضاه فِي سخطه وَمن أرْضى الله فِي سخط النَّاس رَضِي الله عَنهُ وأرضى عَنهُ من أسخطه فِي رِضَاهُ حَتَّى يزينه ويزين عمله وَقَوله فِي عينه رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فَوَائِد فقهية تكمل مَقْصُود الْموضع فِي الْجُمْلَة

الْفَائِدَة الأولى إِقَامَة الْحُدُود ولَايَة مَخْصُوصَة بالسلطان وَالسَّيِّد فِي رَفِيقه على تَفْصِيل فِي مَوَاضِع مقررة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَهُوَ قِسْمَانِ تنَاول إِيجَابهَا وَذَلِكَ للقضاة قلت مَا دَامَت مستندة إِلَيْهِم كَمَا تقدم قَالَ وَتَنَاول استيفائها وَقد جعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقوم مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَمُحَمّد بن مسلمة وَهِي أشرف الولايات لِأَنَّهَا على أشرف الْأَشْيَاء وَفِي الْأَبدَان فلمعصية النَّاس ورخصهم بِالذنُوبِ ألزمهم الله الذلة بِأَن جعلهَا فِي أَيدي الأدنياء والأوضاع من الْخلق الْفَائِدَة الثَّانِيَة قَالَ ابْن الْحَاجِب وَالْحُدُود كلهَا بِسَوْط وَضرب معتدلين قَاعِدا غير مربوط مخلي الْيَدَيْنِ على الظّهْر والكتفين دون غَيرهمَا ويجرد الرجل وَيتْرك على الْمَرْأَة مَا لَا يَقِيهَا وَاسْتحْسن أَن تجْعَل الْمَرْأَة فِي قفة قلت زَاد الْبَاجِيّ عَن الموازنة فِي متولى الضَّرْب أَن يكون وسطا من الرِّجَال الأقوياء وَلَا ضَعِيفا وَزَاد ابْن الْعَرَبِيّ وَيفرق عَلَيْهِ الضَّرْب فِي ظَهره ويتجنب مقاتله قَالَ وَقَالَ أَبُو حنيفَة ضرب الزَّانِي أَشد من ضرب الْقَذْف وَضرب الْقَذْف أَشد من ضرب الشّرْب قَالَ وَكَأَنَّهُم رَأَوْا صُورَة الذِّئْب فَرَكبُوا عَلَيْهَا صُورَة الْعقُوبَة وَالشرب أخف من الْقَذْف وَالْقَذْف أخف من الزِّنَى فَحَمَلُوهُ عَلَيْهِ وقرنوه بِهِ الْفَائِدَة الثَّالِثَة قَالَ ابْن الْحَاجِب وَيُؤَخر حَيْثُ يخْشَى الْهَلَاك كَمَا تقم فِي الزَّانِي

قلت يَعْنِي قَوْله هُنَالك وينتظر للجلد اعْتِدَال الْهَوَاء وروى أَلا يُؤَخر للْحرّ وَهُوَ قَول أَن خيف على السَّارِق أَن يقطع فِي الْبرد أخر قَالَ ابْن الْقَاسِم وَالَّذِي يضْرب الْحَد فِي الْبرد مثله إِذا خيف عَلَيْهِ أخر وَالْحر بِمَنْزِلَة الْبرد قَالَ ابْن رَاشد وَمثله فِي الْكتاب وَيُؤَخر الْمَرِيض إِلَى برئه الْفَائِدَة الرَّابِعَة قَالَ فِي الْمُدَوَّنَة وَلَا يجلد السَّكْرَان حَتَّى يصحو قَالَ ابْن عَرَفَة زَاد فِي سَماع أبي زيد بن الْقَاسِم وَلَو خَافَ أَن يَأْتِيهِ شَفَاعَة فَيبْطل حَده اللَّخْمِيّ وَكَذَا فِي الزِّنَا والفرية فَإِن أَخطَأ الإِمَام فحده فِي حَال سكره وَهُوَ طافح لم يجزه وَإِن كَانَ سكرا خَفِيفا أَجزَأَهُ وَإِن كَانَ طافحا فَأذْهب ذَلِك الضَّرْب عَنهُ حسب ضرب وَقت ذهب عَنهُ إِلَّا أَن يكون ضربه فِي الْفِرْيَة بِرِضا المفتري عَلَيْهِ فَيجوز قَالَ ابْن عَرَفَة هَذَا على أَن الْحق فِيهِ كُله أَو على رعى الْخلاف قَالَ وَقَالَ عبد الْحق عَن بعض شُيُوخه الْقرَوِيين إِن جهل الإِمَام وَأقَام الْحَد على السَّكْرَان قبل صحوه مضى ذَلِك وَلَا يُعَاد قَالَ يُرِيد لِأَنَّهُ يجد ألم الضَّرْب بعد صحوه الْفَائِدَة الْخَامِسَة قَالَ ابْن عَرَفَة نَاقِلا عَن الشَّيْخ عَن ابْن حبيب

لَيْسَ عَلَيْهِ نفي الشَّارِب مَعَ الضَّرْب وسواه من حلاق وَلَا سجن وَلَا طواف إِلَّا المدمن الْمُعْتَاد الْمَشْهُور بِالْفِسْقِ فَلَا بَأْس أَن يُطَاف بِهِ ويشهر وَاسْتحبَّ مَالك أَن يلْزم السجْن الْفَائِدَة السَّادِسَة قَالَ فِي الْمُدَوَّنَة وَيُقِيم أَمِير الْجَيْش الْحُدُود بِبِلَاد الْحَرْب على أهل الْجَيْش فِي السّرقَة وَغَيرهَا وَذَلِكَ أقوى لَهُ على الْحق قلت وَلَو كَانَت من الْمغنم لقَوْله بعد ذَلِك وَمن سرق من بَيت المَال أَو من الْمغنم وَهُوَ من أهل ذَلِك الْمغنم قطع قيل أَو لَيْسَ لَهُ فِي الْمغنم حِصَّة قَالَ قَالَ مَالك وَكم تِلْكَ الْحصَّة الْفَائِدَة السَّابِعَة قَالَ ابْن حبيب يَنْبَغِي أَن تكون إِقَامَة الْحُدُود عَلَانيَة لينتهي النَّاس عَمَّا حرم الله عَلَيْهِم قلت لقَوْله تَعَالَى {وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَفقه ذَلِك أَن الْحَد يردع الْمَحْدُود وَمن شهده وحضره يتعظ بذلك ويزدجر ويشيع حَدِيثه فَيعْتَبر بِهِ بعده الْفَائِدَة الثَّامِنَة لَا رأفة فِي الْحُدُود لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} فَقيل فِي إِسْقَاط الْحَد وَقيل فِي تخفيفه قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُول عَلَيْهِمَا مَعًا فَلَا يسْقط الْحَد على الزَّانِي وَلَا يُخَفف عَنهُ الْفَائِدَة التَّاسِعَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ يزِيد الْحَد لزِيَادَة الذَّنب فقد أَتَى عمر رَضِي الله عَنهُ بسكران فِي رَمَضَان فَضَربهُ مائَة وَثَمَانِينَ حد الْخمر وَعشْرين لهتك حُرْمَة الشَّهْر وَكَذَا يجب أَن تتركب الْعُقُوبَات على تَغْلِيظ الْجِنَايَات وهتك الحرمات انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ

الْفَائِدَة الْعَاشِرَة قَالَ الْمقري فِي قَوَاعِده الشُّبْهَة إِمَّا قريبَة جدا كالشركة فِي الْقطع فَتعْتَبر أَو بعيدَة جدا كالأجير والصدق فِيهِ فَلَا تعْتَبر أَو متوسطة فَقَوْلَانِ هَذَا ضَابِط مَذْهَب مَالك قَالَ وَمن هَذَا تعرف وَجه الرَّد لما أفتى بِهِ الْفَقِيه أَبُو مُوسَى عِيسَى ابْن الإِمَام حَدثنِي رَحمَه الله أَن عبد الْحق بن أبي بكر حَاكم تونس أخبرهُ أَنه وجد رجلا وَامْرَأَة فَأَفلَت الرجل فأقرت الْمَرْأَة بِأَنَّهَا مكنته من نَفسهَا واعتلت بِمَا كَانَ النَّاس فِيهِ يَوْمئِذٍ من شدَّة المسغبة وَأَنَّهَا لحقها من الْجُوع مَا حملهَا على ذَلِك فرحمتها وسرحتها قَالَ فَقلت لَهُ أصبت فقد قَالُوا إِذا سرق لجوع لم يقطع فَقلت الْجُوع يُبِيح أَخذ مَال الْغَيْر باخْتلَاف فِي لُزُوم الثّمن فِيهِ فسرقته لَو لم تكن جَائِزَة فَهِيَ شُبْهَة قَوِيَّة وَلَا يُبَاح الزِّنَى بِوَجْه وَلَا على حَال وَلَا مُنَاسبَة بَينه وَبَين إِبَاحَته فَلَا تنهض شُبْهَة تدرء الْحَد فَيجب الْحَد وَلَا بُد انْتهى المُرَاد مِنْهُ عاطفة تتميم من صدق الحذر من مُوَافقَة الْحُدُود طلب الْقصاص والاستحلال مِمَّا عَسى أَن يكون فِيهِ خلاص وَلَا تؤمن فِيهِ تبعة وَيَكْفِي من ذَلِك أثران الْأَثر الأول قيل دخل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَوجدَ غُلَاما لَهُ يعلف نَاقَته فَرَأى فِي عَلفهَا شَيْئا فَأخذ بأذنه فعركها ثمَّ نَدم فَقَالَ لغلامه قُم فاقتص مني فَأبى الْغُلَام فَلم يزل بِهِ حَتَّى قَامَ فَأخذ بأذنه قَالَ أعرك وَهُوَ يَقُول شدّ حَتَّى عرف عُثْمَان أَنه قد بلغ مِنْهُ ثمَّ قَالَ واها لقصاص الدُّنْيَا من قصاص الْآخِرَة الْأَثر الثَّانِي قَالَ مَالك بَلغنِي أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لما ولى ضرب رجلا ثمَّ نَدم فَقَالَ مَالِي وَلِهَذَا إِلَّا رَددتهَا عَلَيْهِم فَسمِعت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بذلك فَأرْسلت إِلَيْهِ فجَاء إِلَيْهَا فَقَالَ

الواجب الرابع

إِنِّي ضربت رجلا وَقد كنت معافى من هَذَا أَن أضْرب أحدا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَذَلِك الإِمَام قَالَ فَمَا الْمخْرج قَالَت أَن تَأتي الرجل فتسأله أَن يجعلك فِي حل فاستحل مِنْهُ دلَالَة قَالَ الطرطوشي وَدلّ ذَلِك على أَن الْأَمِير والمأمور فِي الْقصاص سَوَاء إِذا جنى أَحدهمَا على الآخر وان الْأَمِير إِذا ظلم الْمَأْمُور زَالَ تَأمره عَلَيْهِ وَكَانَ الْأَمِير فِي ذَلِك الْمَعْنى كبعض المؤمر عَلَيْهِم حَتَّى يتحاكموا إِلَى السُّلْطَان الْأَعْظَم الْوَاجِب الرَّابِع عُقُوبَة الْمُسْتَحق وتعزيزه وَقبل تَلْخِيص الْكَلَام فَهُنَا مقدمتان التَّعْزِير قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَهُوَ تاديب استصلاح وزجر على ذنُوب لم يشرع فِيهَا حد وَلَا كَفَّارَة قلت تَأْدِيب الاستصلاح يعم الْمُكَلف وَغَيره كتأديب الصّبيان والبهائم والمجانين والزجر على الذُّنُوب الَّتِي لم يشرع فِيهَا حد وَلَا كَفَّارَة يخْتَص بالمكلف جَزَاء على الذُّنُوب الَّذِي لم يقدر فِيهِ حد وَمن ثمَّ قَالَ ابْن عَرَفَة وَمُوجب الْمعْصِيَة غير الْمُوجبَة حدا عُقُوبَة فاعلها إِن رفع للْإِمَام الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِيمَا يدل على مشروعيته وَيَكْفِي من ذَلِك الْإِجْمَاع قَالَ ابْن قيم الجوزية فِيمَا نقل عَنهُ ابْن فَرِحُونَ اتّفق الْعلمَاء فِي أَن التَّعْزِير مَشْرُوع فِي كل مَعْصِيّة لَيْسَ فِيهَا حد بِحَسب الْجِنَايَة فِي الْعظم والصغر وَحسب الْجَانِي فِي الشَّرّ وَعَدَمه

قلت وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله من مواضيع التَّأْدِيب بِهِ عَن السّنة الْكَرِيمَة حَظّ صَالح إِذا عرفت هَذَا فلكمال التَّلْخِيص لَهُ نظران أَحدهمَا من حَيْثُ هُوَ مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة وَالْآخر من جِهَة مَا يخص السُّلْطَان بِحَسب رِعَايَة السياسة فِيهِ النّظر الأول وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى التَّعْزِير فِي حق الله تَعَالَى وَاجِب عِنْد مَالك وَأبي حنيفَة وَقَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ بِوَاجِب وَللْإِمَام أَن يقيمه أَو يتْركهُ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُعَزّر الْقَائِل لَهُ فِي قصَّته مَعَ الزبير رَضِي الله عَنهُ إِن كَانَ ابْن عَمَّتك وَلِأَنَّهُ غير مُقَدّر فَلَا يجب كضرب الْأَب والمعلم وَالزَّوْج قَالَ الْقَرَافِيّ وَالْجَوَاب عَن الأول أَنه حق لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاز لَهُ تَركه بِخِلَاف حق الله تَعَالَى وَعَن الثَّانِي أَن غير الْمُقدر يجب كنفقات الزَّوْجَات والإقارب وَنصِيب الْإِنْسَان من بَيت المَال قَالَ لِأَن تِلْكَ الْكَلِمَات كَانَت تصدر من الْأَعْرَاب لجفائهم لَا لقصد السب الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ الْقَرَافِيّ وَاتَّفَقُوا على عدم تَحْدِيد أَقَله وَاخْتلفُوا فِي أَكْثَره فعندنا هُوَ بِحَسب الْجِنَايَة والمجني عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يتَجَاوَز بِهِ أول الْحُدُود وَهُوَ أَرْبَعُونَ حدا لعبد بل ينقص مِنْهُ سَوط وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ قَالَ مَا حَاصله لنا وَجْهَان أَحدهمَا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ زور عَلَيْهِ معن بن زُرَارَة كتابا وَنقش عَلَيْهِ مثل خَاتمه فجلده مائَة فتشفع فِيهِ قوم فَقَالَ ذَكرتني الطعْن وَكنت نَاسِيا فجلده بعد ذَلِك مائَة أُخْرَى ثمَّ جلده بعد ذَلِك مائَة أُخْرَى وَلم يُخَالِفهُ أحد وَكَانَ إِجْمَاعًا

قلت حكى عَن ابْن فَرِحُونَ عَن ابْن قيم الجوزية أَنَّهَا ثَلَاثمِائَة فِي ثَلَاثَة أَيَّام الثَّانِي أَن الأَصْل مُسَاوَاة الْعقُوبَة للجناية قلت سبق مثله لِابْنِ الْعَرَبِيّ فِي قَوَاعِد الْمقري الْعُقُوبَات تَتَفَاوَت بتفاوت أَنْوَاع الْجِنَايَات كَالْخمرِ وَالزِّنَا لَا بتفاوت أَفْرَاد النَّوْع الْوَاحِد كالقطرة من الْخمر والجرة وَربع دِينَار وقنطار فَيَنْبَغِي مُلَاحظَة هَذَا الْمَعْنى فِي التَّعْزِير عِنْدِي ردا لما وكل لاجتهادنا إِلَى مَا فَصله رَبنَا {وَمَا كَانَ رَبك نسيا} لَا يُقَال قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تجلدوا فَوق حد من حُدُود الله تَعَالَى حجَّة فِي منع الزِّيَادَة لأَنا نقُول لَا حجَّة فِيهِ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه مَقْصُور على زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْجَانِي إِذْ ذَاك لَا يَكْفِيهِ هَذَا الْمِقْدَار وَحَكَاهُ الْمَازرِيّ عَن الْأَصْحَاب الثَّانِي أَن لفظ الْحُدُود فِي عرف الشَّرْع لَا يقصر على حد الزِّنَى وَشبهه بل يتَنَاوَل كل مَأْمُور بِهِ ومنهى عَنهُ فالتعزير على هَذَا من جملَة الْحُدُود قَالَ ابْن الشَّاط وَهَذَا أصح وَأقوى قَالَ فَإِن قيل الحَدِيث يَقْتَضِي بمفهومه أَنه يجلد عشر جلدات فَمَا دونهَا غير الْحُدُود فَمَا المُرَاد بذلك فَالْجَوَاب أَن المُرَاد بِهِ جلد غير الْمُكَلّفين كالصبيان والمجانين والبهائم وَالله تَعَالَى أعلم انْتهى الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ ابْن فَرِحُونَ مَا حَاصله إِذا زيد فِيهِ على الْحَد فَهَل يبلغ بِهِ الْقَتْل أَولا فِيهِ خلاف عندنَا يجوز قتل الجاسوس الْمُسلم إِذا تجسس لِلْعَدو وَقَالَ بِهِ بعض الْحَنَابِلَة وَقتل الداعية للبدعة والمفرق للْجَمَاعَة بعد استتابتهم وَقَالَ بِهِ بعض الشَّافِعِيَّة وَصرح

الْحَنَفِيَّة بقتل من لَا يَزُول فَسَاده إِلَّا بِالْقَتْلِ كاللوطي المكثر من ذَلِك انْتهى الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة يُلَاحظ فِيهِ وَإِن لم يتَقَدَّر كالحد اجْتِنَاب أَمريْن أَحدهمَا إِسْقَاطه بِالْجُمْلَةِ بِحَسب الْغَرَض والهوى قَالَ الْقَرَافِيّ وَهُوَ فسوق خلاف الْإِجْمَاع الثَّانِي إفراط الزِّيَادَة فِيهِ على الْقدر الْكَافِي مِنْهُ قَالَ ابْن عبد السَّلَام يَنْبَغِي أَن يقْتَصر على الْقدر الَّذِي يظنّ انزجار الْجَانِي بِهِ وَلَا يزِيد عَلَيْهِ وَفِي الحَدِيث وَلِأَن يُخطئ الإِمَام فِي الْعَفو خير من أَن يُخطئ فِي الْعقُوبَة قَالَ وَإِن كَانَ هَذَا الْكَلَام جَاءَ فِي الْحُدُود فَهُوَ متناول لغَيْرهَا من الزواجر الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة إِذا أَتَى على النَّفس فَلَا اكتراث بذلك وَإِن زَاد على الْحَد فقد أَمر مَالك رَحمَه الله بِضَرْب إِنْسَان وجد مَعَه صبي فَوق سطح مَسْجِد وَقد جرده وضمه إِلَى صَدره أَرْبَعمِائَة سَوط فانتفخ من ذَلِك وَمَات وَلم يستعظم ذَلِك مَالك وَقَالَ ابْن حبيب وَقَالَ لي مطرف وَلَقَد أَتَى هِشَام بن عبد الْملك وَهُوَ قَاضِي الْمَدِينَة بِرَجُل خَبِيث مَعْرُوف بِاتِّبَاع الصّبيان قد لصق بِغُلَام فِي ازدحام النَّاس حَتَّى أمنى فَبعث بِهِ هِشَام إِلَى مَالك وَقَالَ أَتَرَى أَن أَقتلهُ فَقَالَ مَالك أما الْقَتْل فَلَا وَلَكِن أرى أَن تعاقبه عُقُوبَة موجعة فَأمر بِهِ هِشَام فَضرب أَرْبَعمِائَة سَوط وألقاه فِي السجْن فَمَا لبث أَن مَاتَ فَذكر ذَلِك لمَالِك فَمَا استنكره الْمَسْأَلَة السَّادِسَة إِذا كَانَ التَّعْزِير مصروفا إِلَى اجْتِهَاد الْحَاكِم بِقدر الْقَائِل مثلا وَالْمقول لَهُ وَالْقَوْل فَقَالَ ابْن الْحَاجِب فيخفف ويتجافى

عَن الرفيع وَذَوي الفلتة ويثقل على ذَوي الشَّرّ فَائِدَة فِي تَنْبِيه قَالَ ابْن فَرِحُونَ المُرَاد بالرفيع من كَانَ من أهل الْقُرْآن وَالْعلم والآداب الإسلامية لَا المَال والجاه وَالْمُعْتَبر فِي الدني الْجَهْل والجفاء والحماقة فَمن كَانَ من أهل الشَّرّ ثقل عَلَيْهِ بالأدب ليزدجر ويزدجر بِهِ غَيره الْمَسْأَلَة السَّابِعَة من لَازم صرفه إِلَى اجْتِهَاد الْحَاكِم عدم اخْتِصَاصه بزجر معِين وَمن ثمَّ تعدّدت أَنْوَاعه كالضرب واللوم وَالْحَبْس وَالْإِقَامَة فِي المحافل وَنزع الْعِمَامَة وَحل الْإِزَار والهجر وَالنَّفْي وَضرب الْقَفَا مُجَردا عَن ساتره بالأكف قَالَ ابْن عَرَفَة جرى بِهِ عمل الْقُضَاة قلت وَكَذَا بالأندلس حَتَّى فِي وُلَاة الْحِسْبَة الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة الْجِنَايَة الَّتِي عقوبتها التَّعْزِير أَنْوَاع ترك وَاجِب كمنع الزَّكَاة وَشبهه وَسنة كَتَرْكِ الْوتر وَفعل مَكْرُوه كحلق الشَّارِب ومحرم وَهُوَ ضروب مَا فِيهِ الْعقُوبَة وَالْكَفَّارَة وَالْغُرْم كَقَتل الْعمد إِذا عفى فِيهِ عَن الْقَتْل فَتجب الدِّيَة وتستحب الْكَفَّارَة وَيضْرب مائَة ويسجن سنة أَو الْقصاص وَالْأَدب كالجراح عمدا وَالْغُرْم كإتلاف المتمولات أَو التَّعْزِير فَقَط كالخلوة بالأجنبية وَشبه ذَلِك أَو الْكَفَّارَة وَالْغُرْم كَقَتل الْخَطَأ أَو الْكَفَّارَة وَالْأَدب مَعَ الْإِثْم كالجماع فِي رَمَضَان الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة يثبت التَّأْدِيب على الْجِنَايَة للسُّلْطَان وَمن يَلِيهِ من الْوُلَاة وَلَا خَفَاء بذلك وللأبوين فِي ولدهما وَمن ثمَّ يدْرَأ الْحَد عَنْهُمَا

عِنْد تولد الْقَتْل عَنهُ إِذا ادّعَيَا عدم الْقَصْد إِلَيْهِ ولمعلم الْكتاب أَو الصَّنْعَة وَلذَلِك قَالَ مَالك رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَجْمُوعَة إِن ضرب صَبيا مَا يعلم أَنه من الْأَدَب فَمَاتَ فَلَا يضمن وَإِن جَاوز بِهِ الْأَدَب ضمن مَا أَصَابَهُ وَللسَّيِّد فِي رَفِيقه استصلاحا لَهُ قَالَ ابْن عبد السَّلَام وَلَكِن بِرِفْق وبقدر الْحَاجة وَللزَّوْج فِيمَا يتَعَلَّق بِمَنْع حَقه قَالَ ابْن عَرَفَة وَلذَا قيل تدميتها عَلَيْهِ لَغْو الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من الرِّفْق بَين التَّعْزِير وَالْحَد زَائِدا على مَا يفهم فِيمَا سلف أُمُور أَحدهَا أَن التَّعْزِير يسْقط بِالتَّوْبَةِ قَالَ الْقَرَافِيّ وَلَا أعلم فِيهِ خلافًا قَالَ وَالْحُدُود لَا تسْقط بهَا على الصَّحِيح إِلَّا الْحِرَابَة لقَوْله تَعَالَى {من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم} الثَّانِي أَن التَّعْزِير يخْتَلف باخْتلَاف الإعصار والأمصار قَالَ الْقَرَافِيّ فَرب تَعْزِير فِي بلد يكون إِكْرَاما فِي بلد كقلع الطيلسان بِمصْر تَعْزِير وَفِي الشَّام إكرام وكشف الرَّأْس عِنْد الأندلسيين لَيْسَ هوانا وبالعراق ومصر هوان قلت كشف الرَّأْس بالأندلس هوان فِي حق ذَوي الْمُرُوءَة الثَّالِث أَن التَّعْزِير على وفْق الأَصْل لاختلافه بِحَسب الْجِنَايَة قَالَ الْقَرَافِيّ وَلَقَد خولفت الْقَاعِدَة فِي الْحُدُود فسرى الشَّرْع سَرقَة ربع دِينَار وسرقة ألف وشارب قَطْرَة من الْخمر وشارع جرة مَعَ اخْتِلَاف مفاسدهما جدا قلت وَقد حكى عَن المعري أَنه قَالَ مستشكلا (يَد بِخمْس مئين عسجد فديت ... مَا بالها قطعت فِي ربع دِينَار)

وَأجِيب بِأَن قيل (عز الْأَمَانَة أغلاها وأرخصها ... ذل الْخِيَانَة فَافْهَم حِكْمَة الْبَارِي) يشْهد لما قيل أَن حد السّرقَة شرع لحفظ الْأَعْرَاض لَيْلًا تلطخ برذيلة السّرقَة النّظر الثَّانِي وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى الْعقُوبَة السياسية يجب أَن تقدر بِحَسب الْجِنَايَة والجاني كَمَا سبق فِي التَّعْزِير الشَّرْعِيّ وَمن ثمَّ قَالَ بَعضهم لَيست الْجِنَايَة سَوَاء فستوي عقوباتها وَلَا النَّاس سَوَاء فتتماثل عقوباتهم بل مِنْهُم من يُعَاقب بالأبعاد وَمن يُزَاد مَعَ ذَلِك منع قرَابَته وَأَصْحَابه من كَلَامه وَمن يُعَاقب بإلزام دَاره أَو بَلَده تَعْرِيف من حسن مُنَاسبَة الْعقُوبَة للجناية حكايتان الْحِكَايَة الأولى فِي المقتطف من كَلَام النَّاصِر وَقد أعْطى عَامل كَبِير لقب بمهذب الدولة مَالا جَلِيلًا على أَن يلقب بمهذب الدولة بِكَسْر

الذَّال فَوَقع على الْقِصَّة يُؤْخَذ مَاله ويصفع قذاله وَتبقى على الْفَتْح ذاله الْحِكَايَة الثَّانِيَة روى أَن أَبَا المظفر الابيوردي الشَّاعِر وَكَانَ متكبرا وينسب إِلَى مُعَاوِيَة الْأَصْغَر كتب رقْعَة إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ المستظهر بِاللَّه وعَلى رَأسهَا الْخَادِم المعاوي فكره الْخَلِيفَة النِّسْبَة إِلَى مُعَاوِيَة فبشر الْمِيم ورد الرقعة إِلَيْهِ فَصَارَ الْخَادِم العاوي فحطه إِلَى أدون الرتب حِين رفع نَفسه إِلَى نسب لم يرضه الْملك وسلك مَعَه سَبِيل التنكيت الأدبي إِذْ كَانَ من أهل الْأَدَب بِأَن أبقى نسبه بِخَط نَفسه قَالَ ابْن رضوَان وَهِي من لطائف المستظهر بِاللَّه الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من السياسة فِي الْعقُوبَة السُّلْطَانِيَّة أَن تعجل تَارَة وتؤجل أُخْرَى لما فِي ذَلِك من الْفَائِدَة الْمَقْصُودَة الْحُصُول قَالَ بَعضهم ليكن عقابك معجلا ومؤجلا حَتَّى يظنّ السَّالِم مِنْهُ أَنه سياسة فَلَا ينبسط إِلَى العودة إِلَى مثل فعله لخوفه من عُقُوبَته قلت ووجوه الْفَائِدَة فِي ذَلِك مُتعَدِّدَة والناظر إِلَيْهَا بِعَين البصيرة يعْتَمد مِنْهَا مَا يَقْتَضِيهِ الْوَقْت وَالْحَال الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من الْوَصِيَّة بِهِ فِي هَذَا الْبَاب مُطَابقَة الْعقُوبَة للجناية سرا وَعَلَانِيَة قَالَ بَعضهم اجْعَل لذنب السِّرّ عُقُوبَة السِّرّ ولذنب

الْعَلَانِيَة عُقُوبَة الْعَلَانِيَة فَإنَّك إِذا عَاقَبت على ذَنْب السِّرّ عَلَانيَة رأى النَّاس الْعقُوبَة وغفلوا عَن الذَّنب فرموا رَأْيك بِالْفَسَادِ ونسبوك إِلَى الظُّلم وَإِذا عَاقَبت على ذَنْب الْعَلَانِيَة سرا انبسطت عَلَيْك الذُّنُوب واجترأ الظَّالِم وَالسَّفِيه قَالَ وَقد تندر من ذَلِك ندرات فِيهَا السُّلْطَان على ذَنْب الْعَلَانِيَة سرا إِذا أَرَادَ أَن يَتَّصِف بالحلم قلت وَقد تَقْتَضِي الْحَال شهرة الْعقُوبَة وَإِن خفيت جنايتها حَيْثُ يُؤمن ذَلِك الْمَحْذُور الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الجاحظ من أَخْلَاق الْملك السعيد أَن لَا يُعَاقب وَهُوَ غَضْبَان لِأَن حَاله هَذِه لَا يسلم مَعهَا من التجاوز لحد الْعقُوبَة فَإِذا سكن غيظه وَرجع إِلَى طبعه أَمر بعقوبته على الْحَد الَّذِي سنته الشَّرِيعَة ونقلته الْملَّة فَإِن لم يكن فِي الشَّرِيعَة ذكر عُقُوبَة ذَنبه فَمن الْعدْل أَن يَجْعَل عُقُوبَة ذَلِك الذَّنب وَاسِطَة بَين غليظ الذُّنُوب ولينها وان يَجْعَل الحكم عَلَيْهِ فِيهِ وَنَفسه طيبَة وَذكر الْقصاص مِنْهُ على بَال قلت ولتأكيد الاتصاف بِهَذَا الْخلق وَقعت الْعِنَايَة بالتنبيه عَلَيْهِ من غير وَاحِد فَفِي محَاسِن البلاغة على الْملك أم يعْمل بِثَلَاث خِصَال تَأْخِير الْعقُوبَة فِي سُلْطَان الْغَضَب وتعجيل مُكَافَأَة المحسن والتزام الأناة والتثبت الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة نقل ابْن رضوَان عَن صَاحب الطِّبّ الروحاني أَنه قَالَ يَنْبَغِي للْملك أَن يكون فِي وَقت المعاقبة بَرِيئًا من أَربع

خلال الْكبر وَالْقَسْوَة وضديهما لِأَن الْأَوَّلين يدعوان إِلَى أَن يكون الانتقام والمعاقبة مجاوزين لمقدار الْجِنَايَة والآخرين إِلَى أَن يَكُونَا مقصرين عَنهُ الْمَسْأَلَة السَّادِسَة التعفف عَن الدِّمَاء فِي الْعقُوبَة مَطْلُوب من وَجْهَيْن أَحدهمَا شَرْعِي وَهُوَ مَا يدل على تَحْرِيم الهجوم عَلَيْهَا إِلَّا بِحَقِّهَا كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ من رِوَايَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أول مَا يقْضِي بَين النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فِي الدِّمَاء الثَّانِي سياسي وَمن معتبره قَول أرسطو يَا اسكندر أكد مَا أوصيك بِهِ وطالما أوصيتك بِهِ بامتثاله يَصح أَمرك ويدوم ملكك التعفف عَن الدِّمَاء فَإِنَّهَا عُقُوبَة انْفَرد الْخَالِق الْعَالم بالسرائر وَأَنت فِي ذَلِك إِنَّمَا تقدم على سنة لست تعلم بَاطِنهَا فتحفظ من هَذَا جهدك تَنْبِيه مُجَرّد حُصُول الْقَتْل بِغَيْر حق هُوَ مُوجب للتشريك فِي وَعِيد الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَهُوَ سخط الله ولعنته وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يشْهد أحدكُم قَتِيلا لَعَلَّه أَن يكون مَظْلُوما فتصيبه السخطة مَعَهم رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَقِفن أحدكُم موقفا فِيهِ رجل قتل مَظْلُوما فَإِن اللَّعْنَة تنزل على من حَضَره حِين لم يدفعوا عَنهُ وَلَا يَقِفن أحدكُم موقفا يضْرب فِيهِ رجل ظلما فَإِن اللَّعْنَة تنزل على من حَضَره حِين لم يدفعوا عَنهُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة ذكرُوا لمَكَان هَذَا الْخطر فِي الْعقُوبَة بِالْقَتْلِ أَن من حق الْملك أَن يتربص بِهِ وَإِن وجد المسوغ لَهُ كَمَا حُكيَ عَن عبد الْملك بن مَرْوَان أَنه قَامَ تسع سِنِين يرى قتل عَمْرو بن سعيد الْأَشْدَق فَمرَّة يرجئه وَمرَّة يهم بِهِ وَمرَّة يحجم وَأُخْرَى يقدم حَتَّى قَتله قَالَ الجاحظ على أَخبث حالاته عِنْده قَالَ عَن سُلَيْمَان الْخَادِم أشهد بِاللَّه لَكُنْت من الرشيد وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة بِحَيْثُ يمس ثوبي ثَوْبه وبدني بدنه وَهُوَ يَقُول فِي مناجاته لرَبه اللَّهُمَّ إِنِّي أستخيرك فِي قتل جَعْفَر بن يحيى ثمَّ قَتله بعد ذَلِك بِخمْس سِنِين أَو سِتّ الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة من مَحْمُود السِّيرَة فِي هَذَا الْبَاب طلب عذر من تعرض بِظَاهِر فعله لما يُوجب عُقُوبَته كَمَا رفع إِلَى عبد الله ابْن طَاهِر قصَّة مضمونها أَن جمَاعَة خَرجُوا إِلَى ظَاهر الْبَلَد للتفرج وَمَعَهُمْ صبي فَكتب على رَأسهَا مَا السَّبِيل إِلَى فتية خَرجُوا لمتنزههم يقضون

أوطارهم على قدر أخطارهم وَلَعَلَّ الْغُلَام ابْن أحدهم أَو قرَابَة بَعضهم الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة قَالَ النَّوَوِيّ تسْتَحب الشَّفَاعَة إِلَى وُلَاة الْأَمر وَغَيرهم من أَصْحَاب الْحُقُوق مَا لم يكن فِي حد وَأمر لَا يجوز تَركه قَالَ ودلائله ظَاهِرَة فِي الْكتاب وَالسّنة وأقوال عُلَمَاء الْأمة لقَوْله تَعَالَى من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب مِنْهَا وَمن يشفع شَفَاعَة سَيِّئَة يكن لَهُ كفل مِنْهَا وَكَانَ الله على كل شَيْء مقيتا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَاهُ طَالب حَاجَة أقبل على جُلَسَائِهِ فَقَالَ اشفعوا تؤجروا وَيَقْضِي الله عز وَجل على لِسَان مَا شَاءَ انْتهى مُلَخصا قلت وَقد سبق مَا يدل على وَعِيد الشَّفَاعَة سعيا وقبولا فِي الْحُدُود الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة الحكايات فِي قبُول الشَّفَاعَة المستحبة مُتعَدِّدَة وَيَكْفِي مِنْهَا اثْنَتَانِ الْحِكَايَة الأولى روى أَن قتيلة بنت النَّضر بن الْحَارِث تعرضت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يطوف واستوقفته وحدثته حَتَّى انْكَشَفَ مَنْكِبه وَقد كَانَ قتل أَبَاهَا فَأَنْشَدته الأبيات الَّتِي تَقول فِي آخرهَا (مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا ... من الْفَتى وَهُوَ المغيظ المحنق) (وَالنضْر أقرب من قتلت وَسِيلَة ... وأحقهم إِن كَانَ عتق يعْتق) قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كنت سَمِعت شعرهَا مَا قتلته

الْحِكَايَة الثَّانِيَة لما قتل الْحَارِث بن أبي شمر الغساني الْمُنْذر بن السَّمَاء وَهُوَ الْمُنْذر الاكبر وَمَاء السَّمَاء اسر جمَاعَة من اصحابه وَكَانَ فهم شَاس بن عَبدة فِي تسعين رجلا من بني تَمِيم وَبلغ ذَلِك اخاه عَلْقَمَة بن عَبدة الشَّاعِر صَاحب امْرِئ الْقَيْس فقد الْحَارِث ممتدحا بقصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي يَقُول فِيهَا (طحابك قلب فِي الحسان طروف ... بعيد الشَّبَاب عصر حَان مشيب)

فانشده إِيَّاهَا حَتَّى بلغ إِلَى قَوْله فَلَا تحرمني نائلا عَن جِنَايَة ... فَانِي امْرُؤ وسط القباب غَرِيب) وَفِي كل حَيّ قد حظيت بِنِعْمَة ... فَحق لشاس من نداك ذنُوب) فَقَالَ الْحَارِث نعم واذنبت واطلق شاسا اخاه وَجَمَاعَة اسرى بني تَمِيم وَمن سَالَ فِيهِ أَو عرفه من غَيرهم قَالَ ابْن رضوَان وامثال هَذَا كثير والشفاعة وقبولها امران شرعيان وثوابهما عَظِيم وَلَا يرحم الله من عباده إِلَّا الرُّحَمَاء توفيه وَاجِب من ضروب الْكَلَام فِي الْعقُوبَة الزاجرة عَن الْجِنَايَة أَو التَّوَصُّل بهَا إِلَى اسْتِخْرَاج الْحُقُوق تَقْرِير النّظر فِي السجْن بِحَسب الشَّرْع والسياسة وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى أَن للعقوبة بِهِ ملحظين أَحدهَا من حَيْثُ مَا خف مِنْهُ وَهُوَ بذلك الِاعْتِبَار اخفها واسلمها وَعَلِيهِ ينزل قَول مَرْوَان ابْن الحكم أول من اتخذ السجْن كَانَ حَلِيمًا الثَّانِي من جِهَة مَا ثقل مِنْهُ وَهُوَ ذَا ذَاك اشدها وابلغها وَمن ثمَّ قرن بِالْعَذَابِ الاليم فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا أَن يسجن أَو عَذَاب أَلِيم} وعد يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام الْخُرُوج مِنْهُ احسانا اليه فِي قَوْله تَعَالَى

وَقد احسن بِي إِذا اخرجني من السجْن وَكتب على بَابه فِيمَا يُقَال هَذِه منَازِل الْبلوى وقبور الاحياء وتجربة الاصدقاء وشماته الاعداء ونسأل الله تَعَالَى الْعَافِيَة الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة نقل ابْن فَرِحُونَ عَن ابْن قيم الجوزيه أَن الْحَبْس الشَّرْعِيّ لَيْسَ هُوَ السجْن فِي مَكَانَهُ ضيق وانما هُوَ تضييق الشَّخْص وَمنعه من التَّصَرُّف نَفسه سَوَاء كَانَ فِي بَيت أَو مَسْجِد أَو مُلَازمَة الْغَرِيم لَهُ وَلِهَذَا سَمَّاهُ النَّبِي ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسيرا فَفِي سنَن أبي دَاوُود عَن الهرماس بن حبيب عَن جده قَالَ اتيت النَّبِي ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بغريم لي فَقَالَ لي الزمه ثمَّ قَالَ لي يَا اخا بني تَمِيم مَا تُرِيدُ أَن تفعل بأسيرك قَالَ وَهَذَا كَانَ السجْن فِي زَمَانه ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزمان أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا انتشرت الرّعية فِي زمن عمر رَضِي الله عَنهُ اتِّبَاع بِمَكَّة دَارا وَجعلهَا سجنا وَفِيه دَلِيل على جَوَاز اتِّخَاذه انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن وجود الْمُقْتَضِي لَا تخاذه لما انتهض بعد السّلف لتنوع ذَلِك الاتخاذ بِحَسب حَال المسجون فَلَا جرم لَا بُد من اعْتِبَار مَا اقْتَضَاهُ من ذَلِك وَمن ثمَّ قَالَ ابْن فَرِحُونَ لَا شكّ فِي قبُوله بعهده الْأَمَام إِلَى من قَلّدهُ ولَايَة أَن يكون لَهُم سجن ثَقِيف للدعار وَمن تخَاف غائلته وسجن اخر غير ذَلِك للمستورين المحبوسين فِي الدُّيُون والاداب واشباهها وسجن للنِّسَاء مُفْرد بواباته موثوق بِهن وَلَو جعل للمستورات المحبوسات فِي الدُّيُون والاداب سجن على حِدة عَن

سجن المحبوسات فِي التهم القبيحة لَكَانَ احسن انْتهى المُرَاد مِنْهُ مُلَخصا المسالة الرَّابِعَة للْمُدَّعى عَلَيْهِ بِجِنَايَة ثَلَاث حالات الْحَالة الأولى أَن لَا يهتم بهَا لبرائته وسلامة ناحيته وَهَذَا لَا يُعَاقب بسجن وَلَا بِغَيْرِهِ قَالَ ابْن فَرِحُونَ اتِّفَاقًا وَفِي عُقُوبَة الْمُتَّهم لَهُ قَولَانِ قَالَ وَالصَّحِيح الأول صِيَانة لتسلط أهل الشَّرّ على اعراض الْبَراء ثمَّ أَن كَانَ الْمُدعى بِهِ حَقًا لله تَعَالَى لم يحلف وَفِي حق الادمي قَولَانِ مبنيان على سَماع هَذِه الدَّعْوَى وَالصَّحِيح إِنَّهَا لَا تسمع وَلَا يحلف بمجردها لِئَلَّا يتَطَرَّق الاراذلة إِلَى اذاية الأفاضل انْتهى مُلَخصا الْحَالة الثَّانِيَة أَن يهتم بهَا لفجوره وفسوقه وَهَذَا لَا بُد من الْكَشْف عَنهُ بِقدر لصوق التُّهْمَة بجانبه ضربا وحبسا قَالَ ابْن قيم الجوزية فِيمَا نقل عَنهُ ابْن فَرِحُونَ مَا علمت أحدا من ائمة الْمُسلمين يَقُول أَن هَذَا الْمُدعى عَلَيْهِ يَعْنِي الْمُتَّهم يحلف وَيُرْسل بِلَا حسب وَلَا غَيره وَلَيْسَ ذَلِك مذهبا أحد من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَلَا غَيرهم وَلَو حلفناه واطلقناه مَعَ اشتهاره بِالْفَسَادِ وَقُلْنَا لَا نَأْخُذهُ إِلَّا بشاهدي عدل كَانَ ذَلِك مُخَالفا للسياسة الشَّرْعِيَّة وَمن ظن ذَلِك فقد غلط غَلطا فَاحِشا مُخَالفا لنصوص رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاجماع الْأمة وَمن ثمَّ تجرأ الْوُلَاة على مُخَالفَة الشَّرْع وتوهموا أَن السياسة الشَّرْعِيَّة قَاصِرَة عَن مصلحَة الْخلق فتعدوا حُدُود الله تَعَالَى إِلَى أَنْوَاع من الْمَظَالِم والبدع فِي السياسة وَسَببه الْجَهْل بالشريعة انْتهى مُلَخصا استظهار قَالَ فِي الْمُدَوَّنَة وَمن ادّعى على رجل انه سَرقه لم يحلفهُ إِلَّا أَن يكون مُتَّهمًا فانه يحلف ويهدد ويسجن وَألا لم يتَعَرَّض لَهُ فان

كَانَ من أهل الْفضل وَمِمَّنْ لَا يشار اليه بِهَذَا ادب الَّذِي ادّعى ذَلِك عَلَيْهِ فائدتي فِي تَنْبِيه قَالَ ابْن فَرِحُونَ مَا خلصه نَاقِلا عَن ابْن قيم الجوزية المتولى لضرب الْمُتَّهم قَالَ جمَاعَة من الْمَالِكِيَّة هُوَ الْوَالِي وَالْقَاضِي وَبِه قَالَ احْمَد وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة هُوَ الْوَالِي دون القَاضِي وَكَذَا الْحَبْس يخْتَص بِهِ الْوَالِي فَقَط وَبِه قَالَ جمَاعَة من الْحَنَابِلَة اسْتِدْلَالا بَان الضَّرْب الْمَشْرُوع هُوَ الْحَد والتعزيز بعد ثُبُوت السَّبَب يخْتَص بِهِ القَاضِي وموضوع ولَايَة الْوَالِي منع الْفساد وقمع ذَوي الْعدوان وَذَلِكَ لَا يتم إِلَّا بعقوبة الْمُتَّهم وموضوع ولَايَة الْحَاكِم ايصال الْحُقُوق واثباتها فَكل يفعل مَا فوض اليه فِيهِ قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَمَا نَقله عَن مَذْهَبنَا صَحِيح فان للْقَاضِي ضرب الْمُتَّهم وَفِي احكام ابْن سهل من ذَلِك مَا يُوضح صِحَة نَقله قلت وَقد تقدم مَا هُوَ التَّحْقِيق فِي عُمُوم الولايات وخصوصها بِحَسب الْعرف وَالْعَادَة فاليه الْمُرَجح فِي هَذَا الْموضع قَالَ ابْن فَرِحُونَ مفرعا عَلَيْهِ وَكَلَام ابْن سهل وَغَيره مبْنى على عرف الاندلس فِي ولَايَة الْقَضَاء فان كَانَت فِي قطر اخر يمْنَع من تعَاطِي هَذِه السياسات نصا أَو عرفا منع القَاضِي مِنْهُ وَألا فَلَا لانها دَعْوَى شَرْعِيَّة حكمهَا الِاخْتِيَار بِالْحَبْسِ لَهُ وَالضَّرْب فيسوغ لَهُ الحكم فِيهَا كَغَيْرِهَا من المحكومات

الْحَالة الثَّالِثَة أَن يجهل امْرَهْ فِي الْبَرَاءَة مِنْهَا أَو الاتصاف بِمِثْلِهَا فَهَذَا يحبس حَتَّى ينْكَشف حَاله قَالَ ابْن فَرِحُونَ وَهَذَا حكمه عِنْد عَامَّة عُلَمَاء الْإِسْلَام قَالَ وَالْمَنْصُوص عِنْد اكثر الْأَئِمَّة انه يحْبسهُ القَاضِي والوالي وَهُوَ مَنْصُوص لمَالِك واصحابه قَالَ ابْن حبيب سَالَتْ مطرفا عَن رجل سرق مَتَاعه فاتهم رجلا من جِيرَانه أَو رجلا غَرِيبا لَا يعرف حَاله اترى الْأَمَام أَن يحسبه حَتَّى يسال عَنهُ وَيبين حَاله قَالَ نعم ارى ذَلِك على الْأَمَام وارى أَن لَا يُطِيل حَبسه لَان النَّبِي ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حبس رجلا اتهمه الْمَسْرُوق مِنْهُ بِسَرِقَة وَقد صَحبه فِي السّفر قَالَ ابْن حبيب وَقَالَهُ ابْن الْمَاجشون واصبغ وَابْن عبد الحكم قَالَ فقد جعل ادعاؤه السّرقَة هَاهُنَا مثل لَو ادّعى انه جرحه أَو قتل لَهُ وليا فِي حَبسه ابْتِدَاء انْتهى مزِيد بَيَان قَالَ ابْن حبيب حبس مَجْهُول الْحَال دون حبس الْمُتَّهم لقَوْل مطرف وارى أَن لَا يُطِيل حَبسه قلت لَهُ يَعْنِي مطرفا فان كَانَ الْمُتَّهم منبورا بِالسَّرقَةِ مُتَّهمًا بهَا قَالَ فَذَلِك اطول لحبسه انْتهى المسالة الْخَامِسَة الْمدَّة الَّتِي يحبس فِيهَا الْمَحْبُوس ثَلَاثَة اجدها المصروفة إِلَى اجْتِهَاد الْحَاكِم إِمَّا مُطلقًا كحبس التَّعْزِير أَو منبها فِيهِ على مِقْدَار يلحظ فِيهِ الْكِفَايَة فِي الِاسْتِبْرَاء كحبس الْمُتَّهم بِالْقَتْلِ وَالضَّرْب الْمخوف مِنْهُ الْمَوْت قروره بِشَهْر أَو نَحوه وَمَتى قويت التُّهْمَة زيد فِيهِ بِقَدرِهَا

الثَّانِيَة الْمقدرَة بِالسنةِ كَمَا فِي حبس الْقَاتِل عمدا إِذا عفى عَنهُ الدِّيَة سنة وَحبس من قتل عبدا مُسلما عدما أَو أدّى قِيمَته بعد ضربه مائَة وَحبس الْقَاتِل خطأ فِيهِ قَولَانِ الثَّالِثَة المستغرقة لعمر الْمَحْبُوس إِلَى أَن تظهر تَوْبَته أَو يَأْتِي بِمَا يُرَاد مِنْهُ مِمَّا كَانَ فِي السجْن لاجله فقد قَالَ مَالك رَحمَه الله فِي رِوَايَة مطرف فِي المعروفين بِالْفَسَادِ والجرم أَن الضَّرْب قُلْنَا ينكلهم وَلَكِن ارى أَن يحبسهم السُّلْطَان فِي السجون ويثقل عَلَيْهِم بالحديد وَلَا يخرجهم مِنْهُ ابدا فَذَلِك خير لَهُم ولاهلهم وللمسلمين حَتَّى تظهر تَوْبَة أحدهم وَتثبت عِنْد السُّلْطَان فَإِذا صلح من ظَهرت تَوْبَته اطلقه ذكره فِي النَّوَادِر وَقَالَ سَحْنُون من اخذ أَمْوَال النَّاس وتعدى عَلَيْهَا وَادّعى الْعَدَم فَتبين كذبه فانه يحبس ابدا حَتَّى يُؤَدِّي أَو يَمُوت فِي الْحَبْس وَيكون عَلَيْهِ الضَّرْب بِالدرةِ الْمرة بعد الْمرة حَتَّى يُؤَدِّي تَنْبِيه على فهم قَالَ ابْن رضوَان ليعلم الْملك أَن الله تَعَالَى انطق لِسَان نبيه يُوسُف الصّديق صلوَات الله تَعَالَى على نَبينَا وَعَلِيهِ بِالدُّعَاءِ أهل السجون فَقَالَ اللَّهُمَّ اعطف عَلَيْهِم قُلُوب الاخيار وَلَا تغم عَنْهُم الْأَخْبَار فَمن خلق الْملك الصَّالح أَن يحرص على أَن يكون من الاخيار الَّذين عطف الله قُلُوبهم عَلَيْهِم فيامر بتعهدهم بِالطَّعَامِ وتنظيف الْمَكَان واللباس وتسهيا سبل الْعِبَادَات والصون من شدَّة الْبرد وَالْحر بإصلاح المبنى حَيْثُ استقرارهم وتفقد الامناء الْمُكَلّفين بهم حذرا من أَن يليهم من يضيق عَلَيْهِم فِي الْعَذَاب ليستفيدوا مِنْهُ بِمَا يكون لَهُم من مسكة بَاقِيَة أَو نَفَقَته ضَرُورِيَّة فقد حدث من ذَلِك فِي بعض المدن

مَا يهول سَمَاعه ويعظم على الدّين وُقُوعه نسْأَل الله العفية من بيع اخرة الْمُلُوك بدنيا الْمُلُوك بدينا انْتهى خَاتِمَة من لطيف مَا ذكر بِحَال السمجون وغريبه حكايتان الْحِكَايَة الأولى يوري أَن أَبَا جَعْفَر كَانَ فِي مجسله الْمَبْنِيّ على بَاب خُرَاسَان من مدينته الَّتِي بناها واضافها إِلَى اسْمه فسماها بِمَدِينَة الْمَنْصُور مشرفا على دجلة وَكَانَ قد بنى على كل بَاب من ابواب الْمَدِينَة فِي الاعلى من طَاقَة الْمَعْقُود مَجْلِسا يشرف مِنْهُ على مَا يَلِيهِ من الْبِلَاد من ذَلِك الْوَجْه وَكَانَت اربعة ابواب فَبَيْنَمَا الْمَنْصُور فِي هَذَا الْمجْلس جَالِسا إِذْ جَاءَ سهم عَابِر حَتَّى سقط بَين يَدَيْهِ فذعر الْمَنْصُور ذعرا شَدِيدا ثمَّ اخذه فَإِذا مَكْتُوب عَلَيْهِ بَين الريشتين (اتطمع فِي الْحَيَاة إِلَى التناد ... وتحسب أم مَالك من معاد) (ستسأل عَن ذنوبك والخطايا ... وتسئل بعد ذَاك عَن الْعباد) ثمَّ قَرَأَ على الريشة الْأُخْرَى (هِيَ الْمَقَادِير تجْرِي فِي اعنتها ... فاصبر فَلَيْسَ لَهَا صَبر على حَال) (يَوْمًا تريك خسيس الْقَوْم ترفعه ... إِلَى السَّمَاء وَيَوْما تخْفض العالي) ثمَّ قَرَأَ على الريشة الْأُخْرَى

(أَحْسَنت ظَنك بِالْأَيَّامِ إِذْ حسنت ... وَلم تخف سوء مَا يَأْتِي بِهِ الْقدر) (وساعدتك اللَّيَالِي فاغتررت بهَا ... وَعند صفو اللَّيَالِي يحدث الكدر) قَالَ وَإِذا على جَانب السهْم مَكْتُوب هَمدَان مِنْهَا رجل مظلوم فِي حَبسك فَبعث من فوره من خاصته ففتشوا السجْن فوجدوا شَيخنَا فِي بَيت من السجْن فِيهِ سراج يسرج وعَلى بَابه جَارِيَة وَإِذا شيخ موثق بالحديد مُتَوَجّه نَحْو الْقبْلَة يردد هَذِه الاية {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} فَسَأَلُوهُ عَن بِلَاده فَقَالَ هَمدَان فَحمل وَوضع بَين يَدي الْمَنْصُور فَسَأَلَهُ عَن حَاله فاخبره انه نم مَدِينَة هَمدَان من ارباب النعم بهَا وان واليك علينا دخل بِلَادنَا ولي ضيعته تَسَاوِي ألف ألف دِرْهَم أَرَادَ اخذها مني فامتنعت فكبلني بالحديد وحملني وَكتب أَنِّي عَاص فطرحت فِي هَذَا الْمَكَان فَقَالَ الْمَنْصُور مُنْذُ كم قَالَ مُنْذُ اربعة اعوام أَمر بفك الْحَدِيد عَنهُ والاحسان اليه وانزله احسن منزل وَقَالَ لَهُ يَا شيخ قد رددنا عَلَيْك ضيعتك بخراجها مَا عِشْت وَمَا عِشْنَا واما مَدِينَة هَمدَان فقد وليناك عَلَيْهَا واما الْوَالِي فقد حكمناك فِيهِ وَجَعَلنَا امْرَهْ اليك فجزاه الشَّيْخ خيرا ودعا لَهُ بِالْبَقَاءِ وَقَالَ يَا امير الْمُؤمنِينَ إِمَّا الضَّيْعَة فقد قبلتها واما الْولَايَة فَلَا اصلح لَهَا واما واليك فقد عَفَوْت عَنهُ أَمر لَهُ الْمَنْصُور بِمَال جزيل وَبرا وَاسع واستحله وَحمله إِلَى بَلَده مكرما بعد أَن صرف الْوَالِي وعاقبه على مَا جناه وسال الشَّيْخ مُكَاتبَته فِي مهماته واخبار بَلَده واعلامه بِمَا يكون من ولَايَته على الْحَرْب وَالْخَرَاج ثمَّ انشأ الْمَنْصُور يَقُول (من يصحب الدَّهْر لَا يَأْمَن تصرفه ... يَوْمًا وللدهر احلاء وامرار) (وكل شَيْء وان دَامَت سَلَامَته ... إِذا انْتهى فَلهُ لَا بُد اقْتِصَار)

الْحِكَايَة الثَّانِيَة ذكر أَن اسحقاق بن إِبْرَاهِيم بن مُصعب وَالِي بَغْدَاد رَأْي فِي مَنَامه كَأَن النَّبِي ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول اطلق الْقَاتِل فارتاع لذَلِك روعا عَظِيما وَنظر فِي الْكتب الْوَارِدَة لاصحاب السجون فَلم يجد فِيهَا ذكر قَاتل فَأمر باحضار السندي وَعَيَّاش فَسَأَلَهُمَا هَل رفع اليهما أحد ادعِي عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَقل لَهُ عَيَّاش نعم وَقد كتبنَا بِخَبَرِهِ فاعاد النّظر فَوجدَ الْكتاب فِي اضعاف الْقَرَاطِيس وَإِذا الرجل قد شهد عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فاقر بِهِ فَأمر اسحاق باحضاره فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وَرَأى مَا بِهِ من جرتياع قَالَ لَهُ أَن صدقتني اطلقتك فابتدأ يحدثه بِخَبَرِهِ وَذكر انه كَانَ هُوَ وعدة من أَصْحَابه يرتكبون كل عَظِيمَة ويستحلون كل محرم وَأَنه كَانَ اجْتِمَاعهم فِي منزل بِمَدِينَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور يعتكفون فِيهِ على كل بلية فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الايام جَاءَتْهُم عَجُوز كَانَت تخْتَلف اليهم للْفَسَاد وَمَعَهَا جَارِيَة بارعة الْجمال فَلَمَّا توسطت الْجَارِيَة الدَّار صرخت صرخة فبادرت اليها من بَين اصحابي فأدخلتها بَيْتا وسكنت من روعتها وسألتها عَن قضيتها فَقَالَت لَهُ الله الله فِي فان هَذِه الْعَجُوز خدعتني

واعلمتني أَن فِي جِيرَانهَا حَقًا لم يكن مثله فشوقتني إِلَى النّظر لما فِيهِ فَخرجت مَعهَا واثقة بقولِهَا فهجمت بِي عَلَيْكُم وجدي رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وامي فَاطِمَة وَأبي الْحُسَيْن بن عَليّ فاحفظوهم فِي قَالَ الرجل فضمنت لَهَا أَن اخلصها وَخرجت إِلَى اصحابي فعرفتهم بذلك فَكَأَنِّي اغريتهم بهَا وَقَالُوا لما قضيت حَاجَتك مِنْهَا اردت صرفنَا عَنْهَا وَبَادرُوا اليها فَقُمْت دونهَا امْنَعْ مِنْهَا فتفاقم الْأَمر بَيْننَا إِلَى أَن نالتني جراح وعمدت إِلَى اشدهم كَانَ فِي امرها واكلبهم على هتكها فَقتلته وَلم ازل امْنَعْ مِنْهَا إِلَى أَن تخلصت مِنْهُ سَالِمَة امنة مِمَّا خافته على نَفسهَا واخرجتها من الدَّار فسمعتها نقُول سترك الله كَمَا سترتني وَكَانَ لَك كَمَا كنت لي وَسمع الْجِيرَان الصَّيْحَة فَدَخَلُوا الينا والسكين فِي يَدي وَالرجل متشحط بدمه فَرفعت على هَذِه الْحَالة فَقَالَ اسحاق قد عرفت لَك مَا كَانَ من حفظك للْمَرْأَة ووهبتك لله وَرَسُوله قَالَ فوا حق من وهبتني لَهُ وَلَا عاودت مَعْصِيّة وَلَا دخلت فِي رِيبَة حَتَّى القى الله فاخبره اسحاق بالرؤيا الَّتِي راها وان الله لم يضيع لَهُ ذَلِك وَعرض عَلَيْهِ برا وَاسِعًا فابى قبُول شَيْء من ذَلِك تَعْرِيف اعْجَبْ من هَذَا الِاتِّفَاق الْغَرِيب فِي اطلارق المسجون مَعَ شدَّة الْحِرْص على هَلَاكه مَا حَكَاهُ الْحميدِي أَن الْوَزير أَبَا جَعْفَر احْمَد بن سعيد بن حزم

كَانَ جَالِسا بَين يَدي مخدومة الْمَنْصُور فِي بعض مجَالِس فَرفعت اليه رقْعَة استعطاف لَام رجل مسبحون كَانَ الْمَنْصُور اعتقله حنقا عَلَيْهِ لجرم استعظمه مِنْهُ فَلَمَّا قَرَأَهَا اشْتَدَّ غَضَبه وَقَالَ ذَكرتني بِهِ وَالله واخذ الْقَلَم أَرَادَ أَن يكْتب يصلب فَكتب يُطلق وَرمى الورقة الو وزيره الْمَذْكُور فاخذ الْوَزير الْقَلَم وَتَنَاول ورقة وَجعل يكْتب بِمُقْتَضى التوقيع إِلَى صَاحب الشرطة فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور وَمَا هَذَا الَّذِي تكْتب قَالَ باطلاق فلَان فحرد وَقَالَ من أَمر بِهَذَا فَنَاوَلَهُ التوقيع فَلَمَّا رَآهُ قَالَ وهمت وَالله ليصلبن ثمَّ خطّ على التوقيع أَرَادَ أَن يكْتب يصلب وَكتب يُطلق واخذ الْوَزير الورقة وَأَرَادَ أَن يكْتب إِلَى الْوَالِي بالاطلاق فَنظر اليه الْمَنْصُور وَغَضب اشد من الأول وَقَالَ من أَمر بِهَذَا فَنَاوَلَهُ التوقيع فراى خطه فَخط عَلَيْهِ أَرَادَ أَن يكْتب يصلب فَكتب يُطلق واخذ الْوَزير التوقيع وَشرع فِي الْكِتَابَة إِلَى الْوَالِي فران الْمَنْصُور فانكر اكثر من الْمَرَّتَيْنِ الاوليين فَأرَاهُ خطه بالاطلاق فَلَمَّا رَآهُ عجب من ذَلِك وَقَالَ نعم يُطلق على رغمي فَمن اراد الله سُبْحَانَهُ اطلاقه لَا اقدر انا على مَنعه قَالَ ابْن حَيَّان فَسُمي طليق الله واشتهر بذلك

الواجب الخامس

الْوَاجِب الْخَامِس رِعَايَة أهل الذِّمَّة وَفِيه مسَائِل يَتَّضِح بهَا من ضَرُورَة النّظر فِيهِ ومكمله المسالة الأولى من اوعب الشُّرُوط الماخوذة عَلَيْهِم مَا تضمنه كتاب عبد الرَّحْمَن بن غنم إِلَى عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَنَصه قَالَ كتبنَا لعمر بن الْخطاب حِين صَالح نَصَارَى الشَّام بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا كتاب لعبد الله عمر امير الْمُؤمنِينَ من نَصَارَى مَدِينَة كذ وَكَذَا لما قدمتم علينا سألناكم الامان لأنفسنا وذراينا واموالنا واهل ملتنا وشرطنا لكم على انفسنا أَن لَا نُحدث فِي مدائننا وَلَا فِيمَا حولهَا ديرا وَلَا كَنِيسَة وَلَا قلية وَلَا صومعة رَاهِب وَلَا نجدد مَا خرب مِنْهَا وَلَا نحني مَا كَانَ مِنْهَا فِي خطط الْمُسلمين وَلَا نمْنَع كنائسنا أَن ينزلها أحد من الْمُسلمين فِي ليل وَلَا فِي نَهَار وان نوسع ابوابها للمارة وَابْن السَّبِيل وان ننزل من مدائننا من مر بِنَا من الْمُسلمين ثَلَاث لَيَال نطعمهم وَلَا نُؤَدِّي فِي مَنَازلنَا وَلَا كنائسنا جاسوسا وَلَا نكتم غَشنَا للْمُسلمين وَلَا نعلم اولادنا الْقرَان وَلَا نظهر شركا وَلَا نَدْعُو اليه أحدا وَلَا نمْنَع أحدا من ذَوي قرابتنا الدُّخُول فِي الْإِسْلَام أَن أرادوه وان نوقر الْمُسلمين ونقوم لَهُم من مجالسنا إِذا أَرَادوا الْجُلُوس وَلَا تشبه بهم فِي شَيْء من لباسهم فِي قلنسوة وَلَا عِمَامَة وَلَا نَعْلَيْنِ وَفرق شعر وَلَا تَتَكَلَّم بكلامهم وَلَا تكنى بكناهم وَلَا نركب

السُّرُوج وَلَا نتقلد السيوف وَلَا تتَّخذ شَيْئا من السِّلَاح وَلَا نحمله مَعنا وَلَا ننقش على خواتمنا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا نبيع الْخُمُور واذ نجز مقاديم رؤوسنا وان نلزم زيا حَيْثُ مَا كُنَّا وان نَشد الزنانير على اوساطنا وان لَا نظهر الصلبان على كنائسنا وان لَا نظهر صلبينا وكتبنا فِي شَيْء من طرق الْمُسلمين واسواقهم وَلَا نضرب نواقيسنا فِي كنائسنا إِلَّا نقرا خَفِيفا وَلَا نرفع اصواتنا بِالْقِرَاءَةِ فِي كنائسنا فِي شَيْء من حَضْرَة الْمُسلمين وَلَا نخرج شعانينا وَلَا باعوثا وَلَا نرفع اصواتنا مَعَ مَوتَانا وَلَا نظهر النيرَان مَعَهم فِي شَيْء من طرق الْمُسلمين وَلَا اسواقهم وَلَا نتطلع عَلَيْهِم فِي مَنَازِلهمْ فَلَمَّا اتيت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بِالْكتاب زَاد فِيهِ وَلَا نضرب أحدا من الْمُسلمين شرطنا لكم ذَلِك على انفسنا واهل ملتنا وَقَبلنَا عَلَيْهِ الامان فان نَحن خَالَفنَا عَن شَيْء مِمَّا شرطناه لكم وضمناه على انفسنا فَلَا ذمَّة لنا وَقد حل لكم منا مَا يحل من أهل المعاندة والشقاق فَكتب اليه عمر رَضِي الله عَنهُ أَن امْضِي مَا سَأَلُوهُ وزد فِيهِ حرفين اشترطتهما عَلَيْهِم مَعَ مَا شرطوه على أنفسهم إِلَّا تشتروا شَيْئا من سَبَايَا الْمُسلمين وَمن ضرب مُسلما عمدا فقد خلع عَهده فَائِدَة فِي تَنْبِيه من هَذِه الشُّرُوط مَا يسْقط الطّلب بِهِ كأرزاق الْمُسلمين واضافة المجتاز بهم ثَلَاثَة قَالَ مَالك ارى أَن يوضع ذَلِك عَنْهُم لما احدث عَلَيْهِم

من الْجور قَالَ الْبَاجِيّ وَقَوله يدل على أَن ذَلِك مَعَ الْوَفَاء بِمَا عوهدوا عَلَيْهِ المسالة الثَّانِيَة هَذِه الشُّرُوط بِاعْتِبَار الاخلال بهَا ثَلَاثَة أَحدهَا مَا ينتقص بِهِ عقد الذِّمَّة اتِّفَاقًا قَالَ الْقَرَافِيّ كالخروج على السُّلْطَان ونبذ الْعَهْد وَالْقَتْل والقتال وحدهم أَو مَعَ الْعَدو قلت وكالتمرد على الْأَحْكَام والتطلع على عورات الْمُسلمين الثَّانِي مَا لَا ينْتَقض بِهِ ذَلِك اتِّفَاقًا قَالَ الْقَرَافِيّ كَتَرْكِ الزنار وركوبه الْخَيل وَترك ضِيَافَة الْمُسلمين وَنقش خواتمهم بِالْعَرَبِيَّةِ وَنَحْو ذَلِك مِمَّا تخف مفسدته قلت وَلَا بُد من ذَلِك من التَّعْزِير كَمَا نصوا عَلَيْهِ فِي ترك الزنار وَظُهُور السكر الْمُتَعَمد وَبسط اللِّسَان الثَّالِث مَا اخْتلفت فِي الحاقة بِالْأولِ وَالثَّانِي كَالزِّنَا بالمسلمة طَوْعًا الْحَقْهُ مَالك فِي بِالثَّانِي فَلَا ينْتَقض والحقه ربيعَة وَابْن وهب بِالْأولِ فينتقض قلت وَالْمَشْهُور قَول مَالك كَمَا صرح بِهِ خَلِيل المسالة الثَّالِثَة بر أهل الذِّمَّة ماذون فِيهِ لقَوْله تَعَالَى {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم إِن الله يحب المقسطين} والتودد اليهم مَنْهِيّ عَنهُ لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة} قَالَ القارفي والبابان ملتبسان فيحتاجان إِلَى الْفرق قلت اختصر الْمقري فِي قَوَاعِده مَا فرق بِهِ بقوله الْبر الْمَأْذُون لَهُم فِيهِ مَا يرجع إِلَى قربهم والاحسان اليهم مَعَ حفظ الْمرتبَة وعلو الْإِسْلَام وَهُوَ مُسْتَحبّ وَجَائِز والاقساط الْعدْل الْوَاجِب فيهم وَهُوَ مُسْتَحقّ

وَاجِب والتودد المنهى عَنهُ مَا يرجع إِلَى الاكرام وَاسْتِعْمَال الاداب الَّتِي يَسْتَحِقهَا الرؤساء والاكفاء من دونهم أَو هُوَ فِي درجتهم وَهُوَ حرَام قَالَ فَلَا تصح حجَّة اسماعيل القَاضِي بِالْآيَةِ فِي قِيَامه لِلنَّصْرَانِيِّ الَّذِي ورد عَلَيْهِ من قبل السُّلْطَان باكرامه لَهُ بل ذَلِك مِنْهُ وضع لمرتبتي الْفِقْه وَالْقَضَاء بتوهم عَارض دينوي وَهُوَ بَاطِل انتهي المسالة الرَّابِعَة الْفرق بَين جَوَاز اخذ الْجِزْيَة على الْكفْر وَمنع اخذ الْعِوَض عَن الْمعْصِيَة مُلَخصا بِالْمَعْنَى من كَلَام الْقَرَافِيّ أَن الْجِزْيَة مُشْتَمِلَة على الْعِوَض على الْتِزَام مفْسدَة قَليلَة لدفع مفْسدَة عَظِيمَة وتوقع مصلحَة عليا واخذ الْعِوَض عَن الْمعْصِيَة مُتَضَمّن لترجيح مصلحَة حقيرة على مفْسدَة عَظِيمَة وَذَلِكَ لَان الْكَافِر إِذا قتل فانه فَاتَهُ الْإِيمَان فشرعت الْجِزْيَة رَجَاء أَن يسلم فِي الْمُسْتَقْبل وَإِذ ذَاك فتتبعه ذُريَّته وتتصل سلسلة الْإِسْلَام من قبله وان مَاتَ على كفره فإسلام ذُريَّته متوقع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَسَاعَة من الْإِيمَان تعدل دهورا من الْكفْر وَمن ثمَّ كَانَ خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام على وفْق الْحِكْمَة واكثر ذُريَّته كفار وَعند ذَلِك فَلم تشرع الْجِزْيَة لمصْلحَة الْمَأْخُوذ فَقَط بل لما اشير اليه وَلَا كَذَلِك اخذ الْعِوَض عَن الْمعْصِيَة لرجحان مفسدته بِكُل اعْتِبَار المسالة الْخَامِسَة من وَعِيد الاخلال بِوَاجِب الْعدْل فيهم بِمَا لَهُم من ذمَّة الله وَرَسُوله امران أَحدهمَا التَّعَرُّض لمحاجة النَّبِي ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة فَفِي سنَن أبي دَاوُود أَن رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من ظلم معاهدا أَو انتقضه أَو كلفه فَوق طاقته أَو اخذ مِنْهُ شَيْئا بِغَيْر طيب نفس فَأَنا حجيجه يَوْم الْقِيَامَة الثَّانِي بَرَاءَة النَّبِي ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن تناهي بِهِ الظُّلم إِلَى قتل وَاحِد مِنْهُم بِغَيْر حق فَفِي صَحِيح ابْن حبَان أَن رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ايما رجل امن رجلا على ذمَّة ثمَّ قَتله فَأَنا من الْقَاتِل بَرِيء وان كَانَ يَوْم الْمَقْتُول كَافِرًا قَالَ الْمُنْذِرِيّ وَقَالَ ابْن مَاجَه فانه يحمل لِوَاء الْعذر يَوْم الْقِيَامَة

تَفْرِيغ قَالَ الْقَرَافِيّ فَمن اعْتدى عَلَيْهِم وَلَو بِكَلِمَة سوء أَو غيبَة فِي عرض أحدهم أَو نوع من أَو أَنْوَاع الاذاية أَو اعان على ذَلِك فقد ضيع ذمَّة الله تَعَالَى وَذمَّة رَسُوله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذمَّة الْإِسْلَام استظهار قَالَ وَقد حكى ابْن حزم فِي مَرَاتِب الْإِجْمَاع لَهُ أَن من كَانَ فِي الذِّمَّة وقصده الْعَدو فِي بِلَادنَا وَجب الْخُرُوج لقتالهم حَتَّى نموت دون ذَلِك صونا لمن هُوَ فِي ذمَّة الله تَعَالَى وَذمَّة رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَان تسلميه اهمال لعقد تِلْكَ الذِّمَّة انْتهى لعَظيم قَالَ فعقد يُؤَدِّي إِلَى اتلاف النُّفُوس وَالْأَمْوَال صونا لمقتضاه عَن الضّيَاع انه لعَظيم تكَلمه بَيَان لاخفاء أَن مَا سبق من عد السياسة فِي اركان الْملك أَولا وَمَا بَين هُنَا من جملها ثَانِيًا كَاف فِي هَذَا الْمقَام بِحَسب ذَلِك الْقَصْد وَلَكِن رَأَيْت أَن اكلمه بِذكر مَا كتب بِهِ طَاهِر بن الْحُسَيْن لِابْنِهِ عبد الله لما ولاه المامون الرقة ومصر وَمَا بَينهمَا فانه قَالَ ابْن خلدون من احسن مَا كتب فِي ذَلِك واوعبه وانه عهد اليه فِيهِ ووصاه بِجَمِيعِ مَا يحْتَاج اليه فِي دولته وسلطانه من الاداب الدِّينِيَّة والخلقية والسياسات الشَّرْعِيَّة والملوكية وحثه على مَكَارِم الاخلاق ومحاسن الشيم بِمَا لَا يسْتَغْنى عَنهُ ملك

وَلَا سوقه قَالَ وَنَصّ الْكتاب مَنْقُولًا من كتاب السّير بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِمَّا بعد فَعَلَيْك بتقوى الله وَحده لَا شريك لَهُ وخشيته ومراقبته عز وَجل ومزايلة سخطه وَحفظ رَعيته بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار والزم مَا البسك الله من الْعَافِيَة بِالذكر لمعادك وَمَا أَنْت صائر اليه وَمَوْقُوف عَلَيْهِ ومسؤول عَنهُ وَالْعَمَل فِي ذَلِك كُله بِمَا يَعْصِمك الله عز وَجل وينجيك يَوْم الْقِيَامَة من عِقَابه واليم عَذَابه فان الله سُبْحَانَهُ قد احسن اليك وَأوجب عَلَيْك الرأفة بِمن استرعاك أَمرهم من عباده والزمك الْعدْل فيهم والقيلم بِحقِّهِ وحدوده عَلَيْهِم والذب عَنْهُم وَالدَّفْع عَن حريهم وبيضتهم والحقن لدمائهم والامن لسلبهم وادخار الرَّاحَة عَلَيْهِم ومواخذك بِمَا فرض عَلَيْك وموفقك عَلَيْهِ عَنهُ ومسائلك ومثيبك عَلَيْهِ بِمَا قدمت واخرت ففرغ لذَلِك فهمك وعقلك وبصرك وَلَا يشغلك عَنهُ شاغل وانه رَأس امرك وملاك شَأْنك وَأول مَا يوفقك الله عز وَجل بِهِ لرشدك وَليكن أول مَا تلْزم بِهِ نَفسك وتنسب اليه فعلك الْمُوَاظبَة على مَا افترضه الله عز وَجل عَلَيْك من الصَّلَوَات الْخمس وَالْجَمَاعَة عَلَيْهَا بِالنَّاسِ قبلك وتوقعها على سنتها فِي اسباغ الْوضُوء لَهَا وافتتاح ذكر الله عز وَجل فِيهَا وترتل فِي قراءتك وَتمكن فِي ركوعك وسجودك وتشهدك ولتصدق فِيهَا لِرَبِّك نيتك وحض عَلَيْهَا جمَاعَة من

مَعَك وَتَحْت يدك واداب عَلَيْهَا لانها كَمَا قَالَ الله عز وَجل {إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} ثمَّ اتبع ذَلِك بالاخذ بسنن رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمثابرة على خلائقه واقتفاء اثار السّلف الصَّالح من بعده وَإِذا ورد عَلَيْك أَمر فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ باستخارة الله عز وَجل وتقواه وبلزوم مَا انْزِلْ الله عز وَجل فِي كِتَابه من امْرَهْ وَنَهْيه وَحَلَاله وَحَرَامه واتمام مَا جَاءَت الاثار عَن رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قُم فِيهِ بِمَا يحِق لله عز وَجل عَلَيْك وَلَا تميلن عَن الْعدْل فِيمَا احببت وكرهت لقريب من النَّاس أَو بعيد واثر الْفِقْه واهله وَالدّين وَحَمَلته وَكتاب الله عز وَجل والعاملين بِهِ فان افضل مَا يتزين بِهِ الْمَرْء الْفِقْه فِي دين الله والطلب لَهُ والحث عَلَيْهِ والمعرفة بِمَا يتَقرَّب بِهِ مِنْهُ إِلَى الله عز وَجل فَإِنَّهُ الدَّلِيل على الْخَيْر كُله والقائد إِلَيْهِ والآمر بِهِ والناهي عَن الْمعاصِي والموبقات كلهَا وَبِه مَعَ توفيق الله عز ووجل يزْدَاد العَبْد معرفَة بِهِ واجلالا لَهُ لامرك والهيبة لسلطانك والانس بك والثقة بعد لَك وَعَلَيْك بالاقتصاد فِي الْأُمُور كلهَا فَلَيْسَ شَيْء ابين

نفعا وَلَا احسن امنا وَلَا اجْمَعْ فضلا مِنْهُ وَالْقَصْد دَاعِيَة إِلَى الرشد والرشد دَلِيل على التَّوْفِيق قَائِد إِلَى السَّعَادَة وقوام الدّين وَالسّنَن الهادية بالاقتصاد فاثره فِي دنياك كلهَا وَلَا تقصر فِي طلب الاخرة والأعمال الصَّالِحَة وَالسّنَن الْمَعْرُوفَة ومعالم الرشد ولاغاية للاستكثار من الْبر وَالسَّعْي لَهُ إِذا كَانَ يطْلب بِهِ وَجه الله تَعَالَى ومرضاته ومرافقة اولياء الله فِي دَار كرامته وَاعْلَم أَن الْقَصْد فِي شَأْن الدُّنْيَا يُورث الْعِزّ ويحصن من الذُّنُوب وانك لن تحوط نَفسك ومرتبتك وَلَا تصلح امورك بِأَفْضَل مِنْهُ فأته واهتد بِهِ تتمّ امورك وتزيد مقدرتك وَتصْلح خاصتك وعامتك واحسن ظَنك بِاللَّه عز وَجل تستقم لَك رعيتك وَالْتمس الْوَسِيلَة اليه فالأمور كلهَا تستديم بِهِ النِّعْمَة عَلَيْك وَلَا تتهمن أحدا من النَّاس فِيمَا وليته من عَمَلك قبل أَن تكشف امْرَهْ فام ايقاع التهم بِالْبَرَاءَةِ والظنون السَّيئَة بهم مأثم فَاجْعَلْ من شَأْنك حسن الظَّن فِي بِأَصْحَابِك واطرد عَنْك سوء الظَّن بهم وارفضه فيهم بِعَيْنِك ذَلِك على اصطناعهم ورياضتهم وَلَا يجدن عَدو الله الشَّيْطَان فِي امرك مغمزا فانه إِنَّمَا يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ من وهنك فَيدْخل عَلَيْك من الْغم بِسوء الظَّن بهم مَا ينغمص لذاذة عيشك وَاعْلَم انك تَجِد بِحسن الظَّن قُوَّة وراحة

وتكفي بهَا مَا احببت كِفَايَته من امورك وَتَدْعُو بِهِ النَّاس إِلَى محبتك والاستقامة فِي الْأُمُور كلهَا وَلَا يمنعك حسن الظَّن بِأَصْحَابِك والرأفة برعيتك أَن تسْتَعْمل الْمَسْأَلَة والبحث عَن امورك والمباشرة لأمور الاولياء والحياطة للرعية وَالنَّظَر فِي مَا يقيمها ويصلحها بل لتَكون مُبَاشرَة لأمور الاولياء والحياطة للرعية بِالنّظرِ فِي حوائجهم وَحمل مسؤوناتهم اثر عنْدك مِمَّا سوى ذَلِك فانه اقوم للدّين واحيي للسّنة واخلص نيتك فِي جَمِيع هَذَا وَتفرد بتقويم نَفسك تفرد من يعلم انه مسؤول عَمَّا صنع ومجزئ بِمَا احسن ومأخوذ بِمَا اساء فان الله عز وَجل جعل الدّين حزرا وَعزا وَرفع من اتبعهُ وعززه فاسلك بِمن تسوسه وترعاه نهج الدّين وَطَرِيقَة الاهدى واقم حُدُود الله تعااى ل فِي أَصْحَاب الجرائم على قدر مَنَازِلهمْ وَمَا يستحقوه وَلَا تعطل ذَلِك وَا تتهاون فِيهِ وَلَا تُؤخر عُقُوبَة أهل الْعقُوبَة فان فِي تفريطك فِي ذَلِك مَا يفْسد عَلَيْك حسن ظَنك واعزم على امرك فِي ذَلِك بالسنن الْمَعْرُوفَة وجانب الْبدع والشبهات يسلم لَك دينك وَتقوم لَك مروئتك وَإِذا عَاهَدت عهدا فوف بِهِ وَإِذا وعدت الْخَيْر فانجزه وَاقْبَلْ الْحَسَنَة وادفع بهَا واغمض من عيب ذِي عيب من عريتك وَاشْدُدْ لسَانك عَن قَول الْكَذِب والزور وابغض أهل النميمة فان أول فَسَاد امورك فِي عاجلها واجلها تقريب الكذوب والجرأة على الْكَذِب

لَان الْكَذِب رَأس المثاثم والزور والنميمة خاتمتها لَان النميمة لَا يسلم صَاحبهَا وقائلها لَا يسلم لَهُ صَاحب وَلَا يَسْتَقِيم لطبعه أَمر واحببت أهل الصّلاح والصدق واعز الاشراف بِالْحَقِّ واعن الضُّعَفَاء وصل الرَّحِم وابتغ بذلك وَجه الله تَعَالَى واعزاز امْرَهْ وَالْتمس فِيهِ ثَوَابه وَالدَّار الاخرة واجتنب سوء الاهواء والجور واصرف عَنْهُمَا رَأْيك واظهر براءتك من ذَلِك لرعيتك واقم بِالْعَدْلِ سياستهم وقم بِالْحَقِّ فيهم وبالمعرفة الَّتِي تَنْتَهِي بك إِلَى سَبِيل الْهدى واملك نَفسك عِنْد الْغَضَب واثر الْوَقار والحلم واياك والحدة والطيش والغرور غيما أَنْت بسبيله واياك أَن تَقول انا مسلط افْعَل مَا اشاء فان ذَلِك سريع فِيك إِلَى نقص الرَّأْي وَقلة الْيَقِين بِاللَّه وَحده لَا شريك لَهُ واخلص لله النِّيَّة فِيهِ وَالْيَقِين بِهِ وَاعْلَم أَن الْملك لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يؤتيه من يَشَاء من عباده وينزعه مِمَّن يَشَاء وَلنْ تَجِد تَغْيِير النِّعْمَة وحلول النقمَة إِلَى أحد اسرع مِنْهُ إِلَى جهلة النِّعْمَة من أَصْحَاب السُّلْطَان والمبسوط لَهُم فِي الدولة إِذا كفرُوا نعم الله عز وَجل واحسانه واستطالوا بِمَا أَتَاهُم الله عز وَجل من فَضله ودع عَنْك شَره نَفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك الَّتِي تدخر وتكنز الْبر وَالتَّقوى وَالْعدْل واصلاح الرّعية وَعمارَة بِلَادهمْ والتفقد لأمورهم وَالْحِفْظ لدمائهم والاغاثة للمهوفهم

وَاعْلَم أَن الْأَمْوَال إِذا كنزت وادخرت فِي الخزائن لَا تنمو وان كَانَت فِي صَلَاح الرّعية واعطاء حُقُوقهم وكف الاذى عَنْهُم نمنت وزكت وصلحت بهَا الْعَامَّة وتزينت بهَا الْوُلَاة وطاب بهَا الزَّمَان واعتقد الْعِزّ والمنعة فَلْيَكُن كنز ذخائرك تَفْرِيق الْأَمْوَال فِي عمَارَة الْإِسْلَام واهله ووفر مِنْهُ على اولياء امير الْمُؤمنِينَ قبلك حُقُوقهم واوف رعيتك من ذَلِك حصصهم وتعهد مَا يصلح من امورهم ومعاشهم فانك إِذا فعلت ذَلِك قرت النِّعْمَة بملكك واستوجبت الْمَزِيد من الله عز وَجل وَكنت بذلك على جبابة خراجك وَجمع أَمْوَال رعيتك وخراجك اقدر وَكَانَ الْجَمِيع لما شملهم من عدلك واحسانك اسكن لطاعتك واطيب نفسا بِكُل مَا اردت فاجهد نَفسك فِيمَا حددت لَك فِي هَذَا الْبَاب ولتعظم خشيتك فِيهِ فَإِنَّمَا يبقي من المَال مَا انفق فِي سَبِيل الله وَفِي سَبِيل حَقه واعرف للشاكرين شكرهم واثبهم عَلَيْهِ واياك أَن تنسيك الدُّنْيَا وغرورها هول الاخرة فتتهاون بِمَا يحِق عَلَيْك فان التهاون يُورث التَّفْرِيط والتفريط يُورث الْبَوَار وَليكن عَمَلك لله عز وَجل وَفِيه وارج الثَّوَاب فان الله سُبْحَانَهُ قد اسبغ عَلَيْك نعْمَة فِي الدُّنْيَا واظهر لديك فَضله فاعتصم بالشكر وَعَلِيهِ فاعتمد يزدك الله خيرا واحسانا فان الله عز وَجل يثيب بِقدر شكر الشَّاكِرِينَ وسيرة الْمُحْسِنِينَ

واقض بِالْحَقِّ فِيمَا حملت من النعم والبست من الْكَرَامَة وَلَا تحقرن ذَنبا وَلَا تمارين حَاسِدًا وَلَا ترحمن فَاجِرًا وَلَا تصلن كفورا وَلَا تداهن عدوا وَلَا تصدقن نماما وَلَا تأممن غدارا وَلَا توالين فَاسِقًا وَلَا تتبعن غاويا وَلَا تحمدن مرائيا وَلَا تحقرن انسانا وَلَا تردن سَائِلًا فَقِيرا وَلَا تحسنن بَاطِلا وَلَا تلاحظن مضحكا وَلَا تخلفن موعدا وَلَا تزهون فخرا وَلَا تظهرن غَضبا وَلَا تأتين بذخا وَلَا تمشين مرحا وَلَا تزكين سَفِيها وَلَا تفرطن فِي طلب الاخرة وَلَا تدفعن الايام عمايا وَلَا تغمضن عَن ظَالِم رهبة مِنْهُ أَو مُحَابَاة وَلَا تَطْلُبن ثَوَاب الاخرة بالدنيا واكثر مُشَاورَة الْفُقَهَاء وَاسْتعْمل نَفسك بالحلم وَخذ عَن أهل التجارب وَذَوي الْعقل والرأي وَالْحكمَة وَلَا تدخلن فِي مشورتك أهل الرفه وَالْبخل وَلَا تسمعن مِنْهُم قولا فان ضررهم اكثر من نفعهم وَلَيْسَ شَيْء أسْرع فَسَادًا لما اسْتقْبلت فِيهِ أَمر رعيتك من الشُّح وَاعْلَم انك إِذا كنت حَرِيصًا كنت كثير الْأَخْذ قَلِيل الْعَطِيَّة وَإِذا كنت كَذَلِك لم يستقم لله امرك إِلَّا قَلِيلا فان رعيتك إِنَّمَا تعتمد على محبتك بالكف عَن اموالهم وَترك الْجور عَلَيْهِم ووال من صفا لَك من اوليائك بَالا فضال عَلَيْهِم وَحسن

الْعَطِيَّة لَهُم واجتنب الشُّح وَاعْلَم انه أول مَا عصى بِهِ الانسان ربه وان العَاصِي بِمَنْزِلَة الخزي وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} فسهل طَرِيق الْجُود بِالْحَقِّ وَاجعَل للْمُسلمين كلهم فِي فيئك حظا ونصيبا وايقن أَن الْجُود من افضل اعمال الْعباد فاعده لنَفسك خلقا وَارْضَ بِهِ عملا ومذهبا وتفقد الْجند فِي دواوينهم وامكنتهم وادرر عَلَيْهِم ارزاقهم ووسع عَلَيْهِم فِي معاشهم ليذْهب الله عز وَجل بذلك فاقتهم فيقوى لَك أَمرهم وتزيد بِهِ قُلُوبهم فِي طَاعَتك وامرك خلوصا وانشراحا وَحسب ذِي السُّلْطَان من السَّعَادَة أَن يكون على جنده ورعيته إِذا رَحْمَة فِي عدله وعطيته وانصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته فزايل مَكْرُوه أحد الْبَابَيْنِ باستشعار فَضِيلَة الْبَاب الآخر وَلُزُوم الْعَمَل بِهِ تلق أَن شَاءَ الله بِهِ نجاحا وصلاحا وفلاحا وَاعْلَم أَن الْقَضَاء من الله تَعَالَى بِالْمَكَانِ الَّذِي لَيْسَ فَوْقه شَيْء من الْأُمُور لانه ميزَان الله تَعَالَى الَّذِي تعتدل عَلَيْهِ احوال النَّاس فِي الأَرْض وبإقامة الْعدْل فِي الْقَضَاء وَالْعَمَل تصلح احوال الرّعية وتأمن السبل وينتصف الْمَظْلُوم من الظَّالِم وَيَأْخُذ النَّاس حُقُوقهم وتحسن الْمَعيشَة وَيُؤَدِّي حق الطَّاعَة ويرزق الله الْعَافِيَة والسلامة وَيقوم الدّين وتجري السّنَن والشرائع على مجاريها لتنجز الْحق وَالْعدْل فِي

الْقَضَاء وليتمكن ربحك ويقر جدك وَاسْتَوْفِ أَمر الله عز وَجل وتورع عَن الشُّبُهَات وامض لاقامة الْحُدُود واقلل العجلة وابعد وتورع عَن الشُّبُهَات وامض لاقامة الْحُدُود واقلل العجلة وابعد عَن الضجر والقلق وانتفع بتجربتك وانتبه فِي صمتك واسدد فِي منطقك وانصف الْخصم وقف عِنْد الشُّبْهَة وابلغ فِي الْحجَّة وَلَا تاخذك فِي أحد من عريتك مُحَابَاة وَلَا مجاملة وَلَا لومة لائم وَتثبت وتأن وراقب وَانْظُر وتفكر وتدبر وَاعْتبر وتواضع لِرَبِّك وارفق بِجَمِيعِ رعيتك وسلط الْحق على نَفسك وَلَا تسرعن إِلَى سفك دم فان الدِّمَاء من الله عز وَجل بمَكَان عَظِيم فإياك انتهاكا لَهَا بِغَيْر حَقّهَا وَانْظُر حق الْخراج الَّذِي استقامت عَلَيْهِ الرّعية وَجعله الله لِلْإِسْلَامِ عزا ورفعة ولاهله توسعه ومنعة ولعدوه وعدوهم كتبا وغيظا ولاهل الْكفْر من بغاتهم ومعاديهم ذلا وصغارا فوزعه بَين أَصْحَاب بِالْحَقِّ وَالْعدْل والسوية والعموم فِيهِ وَلَا ترفعن مِنْهُ شَيْئا عَن شرِيف لشرفه وَلَا عَن غَنِي لغناه وَلَا عَن كَاتب لَك وَلَا عَن أحد من خاصتك وَلَا حاشيتك وَلَا تأخذن مِنْهُ فَوق الِاحْتِمَال لَهُ وَلَا تكلفن أَمر فِيهِ شطط واحمل النَّاس كلهم على امن من الْخَوْف فان ذَلِك اجْمَعْ لالفتهم والزم لرضي الْعَامَّة وَاعْلَم انك جعلت بولايتك خَازِنًا وحافظا وراعيا وانما سمي أهل عَمَلك ورعيتك لانك راعيهم وقيمهم فَخذ مِنْهُم مَا اعطوك من عفوهم

ونفذه فِي قوام أَمرهم وصلاحهم وتقويم اودهم وَاسْتعْمل عَلَيْهِم ذَوي الرَّأْي وَالتَّدْبِير والتجربة والخبرة بِالْعَمَلِ وَالْعلم بالسياسة والعفاف ووسع عَلَيْهِم فِي الرزق فان ذَلِك من الْحُقُوق اللَّازِمَة لَك فِي مَا تقلدت وَاسْنِدِ اليك وَلَا يشغلك عَن شاغل وَلَا يصرفنك عَنهُ صَارف فانك مَتى اثرته وَقمت فِيهِ بِالْوَاجِبِ استدعيت بِهِ زِيَادَة النِّعْمَة من رَبك وَحسن الاحدوثة فِي عَمَلك واحرزت بِهِ الْمحبَّة من رعيتك واعنت على الصّلاح فَدرت الْخيرَات ببلدك وفشت الْعِمَارَة بناحيتك وَظهر الخصب فِي كورك وَكثر خراجك وتوفرت اموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك ارْض الْعَامَّة بإفاضة الْعَطاء فَيعم من نَفسك وَكن مَحْمُود السياسة مرضى الْعدْل فِي ذَلِك عِنْد عَدوك وَكن فِي امورك كلهَا إِذا عدل وَقُوَّة والة وعدة فنافس فِي هَذَا وَلَا تقدم عَلَيْهِ شَيْئا تحمد مغبة امرك أَن شَاءَ الله تَعَالَى وَاجعَل فِي كل كورة من عَمَلك امينا يُخْبِرك بِخَبَر عمالك وَيكْتب اليك بسيرهم واعمالهم حَتَّى كَأَنَّك مَعَ كل عَامل فِي عمله معاينا لأموره كلهَا وان اردت أَن تَأْمُرهُمْ بِأَمْر فَانْظُر فِي عواقب مَا اردت من ذَلِك فان رَأَيْت السَّلامَة فِيهِ الْعَافِيَة ورجوت فِيهِ حسن الدفاع والنصح والصنع فامضه وَألا فتوقف عَنهُ وراجع أهل الْبَصَر وَالْعلم بِهِ ثمَّ خُذ فِيهِ عدته فانه رُبمَا نظر الرجل فِي أَمر من اموره وَقد اتاه على مَا يهوي فاغواه ذَلِك

واعجبه فان لم ينظر فِي عواقبه اهلكه ونغص عَلَيْهِ امْرَهْ فَاسْتعْمل الحزم فِي كل مَا اردت وباشره بعد عون الله عز وَجل بِالْقُوَّةِ واكثر من استخارة رَبك فِي جَمِيع امورك وافرغ من عمل يويك وَلَا نؤخره لغدك واكثر مُبَاشَرَته بِنَفْسِك فان لغد امورا وحوادث تلهيك عَن عمل يَوْمك الَّذِي اخرت وَاعْلَم أَن الْيَوْم إِذا مضى ذهب بِمَا فِيهِ فَإِذا اخرت عمله اجْتمع عَلَيْك أَمر يَوْمَيْنِ فشغلك ذَلِك حَتَّى تمرض مِنْهُ وَإِذا امضيت يَوْم عمله ارحت بدنك ونفسك واحكمت امور سلطانك وَانْظُر احرار النَّاس وَذَوي الْفضل مِنْهُم مِمَّن بلوت صفاء طويتهم وشهرة مَوَدَّتهمْ لَك ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على امرك فاستخلصهم واحسن اليهم وتعاهد أهل البيوتات مِمَّن قد دخلت عَلَيْهِم الْحَاجة وَاحْتمل مؤونتهم واصلح حَالهم حَتَّى لَا يَجدوا لخلتهم مسا وافرد نَفسك للنَّظَر فِي امور الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَمن لَا يقدر على رفع مظْلمَة اليك والمحتقر الَّذِي لَا علم لَهُ بِطَلَب حَقه فسل عَنهُ اخفى مَسْأَلَة ووكل بأمثاله أهل الصّلاح من عريتك ومرهم بِرَفْع حوائجهم

وحالاتهم اليك لتنظر فِيهَا بِمَا يصلح الله بِهِ أَمرهم وتعاهد ذَوي البأساء ويتاماهم وار أملهم وَاجعَل لَهُم ارزاقا من بَيت المَال اقْتِدَاء بأمير الْمُؤمنِينَ اعزه الله تَعَالَى فِي الْعَطف عَلَيْهِم والصلة لَهُم ليصلح الله بذلك عيشهم يرزقك بِهِ بركَة وَزِيَادَة واجر للاضراء من بَيت المَال وَقدم حَملَة الْقرَان مِنْهُم والحافظون لاكثره فِي الجراية على غَيرهم وانصب لمرضى الْمُسلمين دورا تؤويهم وقوما يرفقون بهم واطباء يعالجون اسقامهم واسعفهم بشهواتهم مَا لم يؤد ذَلِك إِلَى سرف فِي بَيت المَال وَاعْلَم أَن النَّاس إِذا اعطوا حُقُوقهم وافضل امانيهم لم يرضهم ذَلِك وَلم تطب انفاسهم دون رفع حوائجهم إِلَى ولاتهم طَمَعا فِي نيل الزِّيَادَة وَفضل الرِّفْق بهم وَرُبمَا تبرم المتصفح لأمور النَّاس لِكَثْرَة مَا يرد عَلَيْهِ ويشغل ذكره وذهنه وفكره مِنْهَا مَا يَنَالهُ بِهِ مؤونة ومشقة وَلَيْسَ من يرغب فِي الْعدْل وَيعرف محَاسِن اموره فِي العاجل وَفضل ثَوَاب الاجل كَالَّذي يسْتَقلّ مَا يقربهُ من الله تَعَالَى ويلتمس بِهِ رَحمته واكثر الْآذِن للنَّاس عَلَيْك وابرز لَهُم وَجهك وَسكن لَهُم حواسك واخفض لَهُم جناحك واظهر لَهُم بشرك ولين لَهُم النُّطْق فِي الْمَسْأَلَة وَالتَّصْرِيح وَالنَّظَر واعطف عَلَيْهِم بجودك وفضلط وَإِذا اعطيت فأعط بسماحة وَطيب نفس وَالْتمس الصنيعة وَالْأَجْر من غير مكدر وَلَا منان للصنيعة فان الْعَطِيَّة على ذَلِك تِجَارَة مربحة أَن شَاءَ الله تَعَالَى وَاعْتبر بِمَا ترى من امور الدُّنْيَا وَمن مضى من قبلك من أهل السُّلْطَان

والرياسة فِي الْقُرُون الخالية والامم البائدة ثمَّ اعْتصمَ فِي احوالك كلهَا بِأَمْر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْوُقُوف عِنْد محبته وَالْعَمَل بِشَرِيعَتِهِ وسنته واقامة دينة وَكتابه واجتنب مَا فَارق ذَلِك وَخَالفهُ ودعا إِلَى سخط الله عز وَجل واعرف مَا يجمع عمالك من الْأَمْوَال وَمَا يُنْفقُونَ مِنْهَا وَلَا تجمع حَرَامًا وَلَا تنْفق اسرافا واكثر مجالسة الْعلمَاء ومشاورتهم ومخالطبتهم وَليكن هَوَاك اتِّبَاع السّنَن واقامتها وايثار مَكَارِم الاخلاق ومعاليها وَليكن اكرم دخلائك عَلَيْك وخاصتك اليك من إِذا رأى عَيْبا فِيك فَلَا تَمنعهُ هيبتك من انهاء ذَلِك اليك فِي ستر واعلامك بِمَا فِيهِ من النَّقْص فان أُولَئِكَ انصح اوليائك ومظاهريك وَانْظُر عمالك الَّذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل مِنْهُم فِي كل يَوْم وقتا يدْخل عَلَيْك فِيهِ بكتبه ومؤامراته وَمَا عِنْده من حوائج عمالك وامور كورك ورعيتك ثمَّ فرغ لما يُورِدهُ عَلَيْك من ذَلِك سَمعك وبصرك وفهمك وعقلك وَكرر النّظر فِيهِ والتدبر لَهُ فَمَا كَانَ مُوَافقا للحق والحزم فامضه واستخر الله عز وَجل فِيهِ وَمَا كَانَ مُخَالفا لذَلِك فاصرفه إِلَى التثبت فِيهِ وَالْمَسْأَلَة عَنهُ وَلَا تمنن على رعيتك وَلَا على غَيرهم بِمَعْرُوف تؤتيه لَهُم وَلَا تقبل من أحد إِلَّا الْوَفَاء والاستقامة والعون فِي امور الْمُسلمين وَلَا تضعن الْمَعْرُوف إِلَّا على ذَلِك

وتفهم كتابي اليك واكثر النّظر فِيهِ وَالْعَمَل بِهِ واستعن بِاللَّه على جَمِيع امورك واستخره فان الله عز وَجل مَعَ الصّلاح واهله وَليكن اعظم شغلك وافضل رغبتك مَا كَانَ فِيهِ لله عز وَجل رضى ولدينه نظاما ولاهله عزا وتمكينا ولذمته عدلا وصلاحا وَأَنا اسْأَل الله عز وَجل أَن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك وَالسَّلَام قَالَ ابْن خلدون وَحدث الاخباريون أَن هَذَا الْكتاب لما ظهر وشاع امْرَهْ واعجب بِهِ النَّاس واتصل بالمأمون وَلما قريء عَلَيْهِ قَالَ مَا ابقى أَبُو الطّيب يَعْنِي طَاهِرا شَيْئا من امور الدُّنْيَا وَالدّين وَالتَّدْبِير والرأي والسياسة وَصَلَاح الْملك والرعية وَحفظ السُّلْطَان وَطَاعَة الْخُلَفَاء وتقويم الْخلَافَة إِلَّا وَقد احكمه واوصى بِهِ ثمَّ أَمر الْمَأْمُون فَكتب بِهِ إِلَى جَمِيع الْعمَّال فِي النواحي ليقتدوا يه ويعملوا بِمَا فِيهِ انْتهى

الكتاب الرابع

الْكتاب الرَّابِع فِي عوائد الْملك وعوارضه وَفِيه بَابَانِ أَحدهمَا فِي عوائقه الْمَانِعَة من دَوَامه وَالْآخر فِي عوارضه اللاحقة لوُجُوده الْبَاب الأول فِي عوائق الْملك الْمَانِعَة من دَوَامه وَلما كَانَ منعهَا من ذَلِك دَلِيلا على استحكام هرم الدولة بطروق الْخلَل اليها على وَجه لَا يتَخَلَّف عَنهُ مُقْتَضى مَا انذرت بِهِ من ذَلِك الْمَنْع كَانَ النّظر هُنَا منحصرا فِي التَّعْرِيف بِأُمُور ثَلَاثَة أَحدهَا الْعَوَائِق المنذرة بذلك وَالثَّانِي كَيْفيَّة طروق ذَلِك الْخلَل وَالثَّالِث أَن مُقْتَضى الانذار بِمَنْع دوَام الْملك لاستحكام هرمه لَا يتَخَلَّف

النظر الأول

النّظر الأول فِي التَّعْرِيف بالعوائق المنذرة بِمَنْع دوَام الْملك وَهِي جملَة العائق الأول حُصُول الترف والتنعيم للقبيلة وَذَلِكَ لانها إِذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النِّعْمَة بمقداره وبحسب استظهار الدولة بِهِ وَإِذا بلغت الدولة غايتها من الغلب فنعوا بِمَا سوغوا من نعمتها بِهِ وشوركوا بِهِ من جبايتها فَلَا تسموهممهم إِلَى شَيْء من مُنَازع الْملك وَلَا يهتمون إِلَّا بِالْكَسْبِ وخصب الْعَيْش والاخذ بمذاهب الْملك فِي المباني والملابس فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية والبسالة وتنشأ بنوهم واعقابهم فِي مثل ذَلِك حَتَّى يصير لَهُم سجية وخلقا فتنقص عصبيتهم وبسالتهم مَعَ تعاقب الاجيال إِلَى أَن تنفرض جملَة واذاك يتأذنون بالانقراض قَالَ ابْن خلدون وعَلى قدر ترفهم يكون اشرافهم على الفناء فضلا عَن الْملك فان عوارضه كاسرة من سُورَة العصبية الَّتِي بهَا التغلب واذا انقرضت قصر الْقَبِيل عَن المدافعة فضلا عَن الْمُطَالبَة استظهار قلت هُوَ معنى قَول أفلاطون الدول الطوَال تبتدأ بخشونة الطباع وَاسْتِعْمَال الْحَقَائِق وَحسن الطَّاعَة لله تَعَالَى ولولاة الْأَمر فَإِذا دفعت أعداءها وَأمن أَهلهَا كَانَت مدافعتهم بِهِ لَا عدائهم بازاء اخذهم بِنَصِيب من النعم الَّتِي تتهيأ لَهُم فَإِذا غرقوا فِي خصبها ورفاهة الْعَيْش بهَا شغلوا بالترفه عَن النُّصْرَة وبالهزل عَن الْجد وتحكمت عَلَيْهِم الْأَحْدَاث حَتَّى

لَا ينعصم أَمرهم على أحد طَلَبهمْ فينقضي امرها بِمن حاولها تمثل قالوهي تشبه الثَّمَرَة فَإِنَّهَا فِي بدئها خشنة الطّعْم ثمَّ ثمَّ تذكى فيتوسط امرها ثمَّ تنضج فَتكون مَعَ الاستطابة اقْربْ الثِّمَار إِلَى الْفساد والاستحالة العائق الثَّانِي لحاق المذلة للقبيل وانقيادهم لسواهم وَذَلِكَ لَان مذلتهم وانقيادهم دَلِيل على فقدان العصبية وعجزهم لذَلِك عَن المدافعة واولى عَن الْمُطَالبَة اعْتِبَار قَالَ ابْن خلدون وَاعْتبر ذَلِك فِي بني اسرائيل لما دعاهم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى ملك الشَّام مخبرا لَهُم بَان الله تَعَالَى قد كتبه لَهُم كَيفَ عجوزا وَقَالُوا أَن فِيهَا قوما جبارين وَأَنا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا أَي بِضَرْب من الْقُدْرَة غير العصبية بل من معجزاتك يَا مُوسَى وَلما عزم عَلَيْهِم لجوا غي ارْتِكَاب الْعِصْيَان وقالوااذهب أَنْت وَرَبك فَقَاتلا انا هَا هُنَا قَاعِدُونَ وَذَلِكَ لما الفوا من الْعَجز عَن الْمُطَالبَة بِمَا حصل فيهم من خلق الانقياد وَبِمَا الفوا من الذل للقبط احقابا حَتَّى ذهبت عصبيتهم جملَة مَعَ انهم لم يُؤمنُوا حَقًا بِمَا اخبروا بِهِ من ملك الشَّام فأقصورا عَن ذَلِك بِمَا استحكم فيهم من خلق المذلة وطعنوا فِيمَا اخبروا بِهِ وامروا لاجله فعوقبوا بالتية وَهُوَ اقامتهم فِي قفر من الأَرْض مَا بَين الشَّام ومصرا اربعين سنة لم يأووا فِيهَا لعمران وَلَا نزلُوا مصرا حكمه بَالِغَة قَالَ وَيظْهر أَن حكمه ذَلِك التيه مَقْصُودَة وَهُوَ فنَاء الجيل

الَّذين خَرجُوا من قَبْضَة الذل والقهر وتخلفوا بِمَا افسدوا من عصبيتهم حَتَّى نَشأ فيهم جيل آخر لَا يعرف الْقَهْر وَلَا يسام بالمذلة فَلَا جرم اقتدروا بِمَا نَشأ لَهُم من العصبية على الْمُطَالبَة والتغلب قَالَ وَيظْهر من ذَلِك أَن الاربعين سنة اقل مَا يَأْتِي فِيهَا فنَاء جيل ونشأة جيل اخر فسبحانه الْحَكِيم الْعَلِيم قَالَ وَفِي هَذَا اوضح دَلِيل على شَأْن العصبية وانها الَّتِي بهَا المدافعة والمطالبة وان من فقدها عجز عَن جَمِيع ذَلِك انْتهى العائق الثَّالِث استحكام طبيعة الْملك من الِانْفِرَاد بالمجد وَحُصُول الترف وايثار الدعة بَيَان الأول أَن الْمجد مَتى كَانَ مُشْتَركا بَين العصبية كَانَ سَعْيهمْ لَهُ وَاحِدًا واستعانتهم فِي طلب الْعِزّ مَضْمُونَة وَإِذا انْفَرد بِهِ الْوَاحِد مِنْهُم على مَا يقدر أَن شَاءَ الله تَعَالَى كسر من سورتهم واستأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا ولحقهم الهوان ومخامرة الذل ثمَّ الجيل الثَّانِي ينشأ على ذَلِك بِحَيْثُ لَا يَعْتَقِدُونَ إِلَّا أَن اعطاء السُّلْطَان اجْرِ لَهُم على الحماية وَقل أَن يسْتَأْجر أحد نَفسه على الْمَوْت وَذَلِكَ مُوجب لاقبال الدولة بِهِ على الْهَرم ولفساد العصبية بذهاب نجدتها

الذِّمَّة بِمَا كَانَ عَنهُ فِي غنى وَيزِيد فِي اكثر الصُّور قَالَ فالعاقل اللبيب يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْفِرَار من ذَلِك لَان غنيمَة الْمُسلم إِنَّمَا هِيَ بَرَاءَة ذمَّته وَمن استغلت ذمَّته قل أَن يسلم انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة أَن طلب الرزق للاشتغال بِعلم الكيمياء لَيْسَ أَيْضا من طرق المعاش الطبيعي وَلَا من وُجُوه الْكسْب الْمَأْذُون فِيهِ شرعا بَيَان الأول أَن الصَّحِيح عِنْد غير وَاحِد من الْحُكَمَاء اسْتِحَالَة وجودهَا وَلذَلِك لم ينْقل عَن أحد من الْعلمَاء انه عشر عَلَيْهَا قَالَ وَمَا زَالَ منتحلوها يتخبطون فِيهَا عشواء إِلَى هَلُمَّ جرا وَلَا يظفرون الا بالحكايات الكاذبة قَالَ وَالَّذِي يجب أَن يعْتَقد وَهُوَ الْحق الَّذِي يعضده الْوَاقِع إِنَّهَا من جنس اثار النُّفُوس الروحانية وتصرفها فِي عَالم الطبيعة بِنَوْع كَرَامَة أَن كَانَت خيرة وَمن نوع السحر أَن كَانَت شريرة والمتكلمون فِيهَا من اعلام الْحُكَمَاء كجابر ومسلمة وَمن قبلهم إِنَّمَا نَحوا هَذَا

الْبَيَان الثَّانِي من وُجُوه أَحدهَا أَن الترف الطبيعي للْملك على مَا يَأْتِي أَن شَاءَ الله تَعَالَى يكثر عوائد الدولة حَتَّى لَا يَفِي دَخلهَا بخرجها ويزداد ذَلِك فِي الاجيال الْمُتَأَخِّرَة إِلَى أَن يقصر الْعَطاء عَن تِلْكَ العوائد وَيُطَالب صَاحبهَا بحصر النَّفَقَات فِي الحروبفلا يجد أَرْبَابهَا محصيا عَن ذَلِك فينزع مَا بأيدي الْكثير مِنْهُم لنَفسِهِ أَو لِبَنِيهِ وَذَوي صنائعه فيضعفون هم لذَلِك ويضعف هُوَ بضعفهم الثَّانِي أَن تقتصر الْعَطاء عَن النَّفَقَات إِذا كثر الترف يضْطَر السُّلْطَان إِلَى الزِّيَادَة فِيهِ وَمِقْدَار الجباية لَا يُوفي بذلك وان زيد فِيهِ بأحداث المكوس بَقِي بعد محدودا فَإِذا وزع على الاعطيات وَقد زيد فِيهَا لما كثر من الترف نقص عدد الحماية ثمَّ لَا يزَال الترف يتزايد والاعطيات كَذَلِك بِسَبَبِهِ إِلَى أَن يعود الْجَيْش إِلَى اقل الاعداد فتضعف الحماية ويتجاسر على الدولة من يجاورها من الدول وَمن تَحت ايديها من العصائب ويتأذن الله تَعَالَى بالفناء الَّذِي كتبه على خليقته الثَّالِث أَن الترف مُفسد لِلْخلقِ بِمَا يُوهم فِي النَّفس من الوان الشّعْر والسفسفة فتذهب فتذهب مِنْهُم خلال الْخَيْر الَّتِي كَانَت عَلامَة على نيل الْملك ويتصفون بنقيضها من خلال الشَّرّ الدَّالَّة على الادبار والانقراض وَتَأْخُذ الدولة مبادئ العطب وَينزل بهَا امراض مزمنة من الْهَرم إِلَى أَن يقْضِي عَلَيْهَا قلت هُوَ معنى قَول أفلاطون إِذا اقبلت المملكة خدمت الشَّهَوَات الْعُقُول وَإِذا ادبرت خدمت الْعُقُول الشَّهَوَات لانه لَا حَامِل على الترف إِلَّا حب الشَّهَوَات الْبَيَان الثَّالِث أَن الدعة الطبيعية للْملك على مَا يَأْتِي أَن شَاءَ الله تَعَالَى تصير عِنْد اتخاذها مألفا وخلقا وجبلة شَأْن العوائد كلهَا فتنشأ

الاجيال الْحَادِثَة على ذَلِك وينقلب خلق التوحش وينسون عوائد البداوة الَّتِي بهَا كَانَ الْملك من الْبَأْس والنجدة واذ ذَاك فَلَا فرق بَينهم وَبَين سوقة الْحَضَر إِلَّا فِي الشارة فتضعف حمايتهم وَيعود وبال ذَلِك على الدولة ثمَّ لَا يزالون يتلونون بعوائد السّكُون والدعة ورقة الْحَاشِيَة فِي جَمِيع الْأَحْوَال وهم فِي ذَلِك يبعدون عَن خشونة البداوة وينسلخون عَنْهَا شَيْئا فَشَيْئًا وينسون خلق البسالة الَّتِي كَانَت بهَا الحماية حَتَّى يعودوا عيالا على حامية أُخْرَى أَن كَانَت لَهُم اعْتِبَار قَالَ ابْن خلدون فَاعْتبر ذَلِك فِي الدول الَّتِي اخبارها فِي الصُّحُف لديك تَجِد مَا قلته من ذَلِك صَحِيحا من غير ربية قلت فِي الافلاطونيات الافراطات فِي الدول مبادئ الْفساد فَإِذا انصاف اليها ايثار الرَّاحَة والاستهانة بمشورة ذَوي التجارب والاتكال على البخت لم تلبث انجبار قَالَ وَرُبمَا يحدث فِي الدولة إِذا طرقها هَذَا الْهَرم بالترف والراحة أَن يتَخَيَّر صَاحبهَا انصارا وشيعا من غير جلدتهم مِمَّن تعود الخشونة وَالصَّبْر على الحروب ومعاناة الشدائد وَيكون ذَلِك دَوَاء للدولة من الْهَرم الَّذِي يتَوَقَّع طروفه حَتَّى يَأْذَن الله فِيهَا بأَمْره تعْيين وَاقع قَالَ كَمَا وَقع فِي التّرْك بالمشرق فَصَارَ غَالب جندهم الموَالِي المتخيرون من الممالك المجلوبين إِلَى مُلُوكهمْ فهم أجرأ على

الْحَرْب وَالصَّبْر على الشظف من ابناء الممالك الَّذين ربوا فِي مَاء النَّعيم ونشأوا فِي ظلّ الدعة والسكون قَالَ وَكَذَا فِي دولة الْمُوَحِّدين بأفريقية فان صَاحبهَا كثيرا مَا يتَّخذ جنده من زنانة الْعَرَب وَيتْرك أهل الدولة المتعودين للترف فتستجد الدولة بذلك عمرا اخر سالما من الْهَرم وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا العائق الرَّابِع ارهاف الْحَد وَبَيَانه أَن مصلحَة السُّلْطَان للرعية لَيست فِي ذَاته من حسن شكله أَو ملاحة وَجهه أَو اتساع علمه أَو ثقب ذهنه بل من حَيْثُ اضافته اليهم فان الْملك وَالسُّلْطَان من الْأُمُور الإضافية فالسلطان من لَهُ رعية يملكهَا والرعية من لَهَا سُلْطَان وَالصّفة الَّتِي لَهُ من حَيْثُ اضافته اليهم تسمى ملكة وَهِي كَونه يملكهم فان كَانَت حَسَنَة صَالِحَة كَانَ لَهُم مصلحَة وان كَانَت سَيِّئَة متعسفة كَانَ ضَرَرا عَلَيْهِم وهلاكا لَهُم والرفق اصل هَذِه الملكة الْحَسَنَة فبالسمح بِهِ يَسْتَقِيم أَمرهم وَيَشْرَبُونَ محبته ويستميتون دونه فِي محاربة اعدائه وَلَا كَذَلِك إِذا كَانَ قاهرا باطشا بالعقوبة منقبا عَن العورات وتعديد الذُّنُوب فَإِنَّهُم إِذْ ذَاك يستشعرون خَوفه ويلوذون مِنْهُ بِالْكَذِبِ وَالْمَكْر والخديعة وَإِذا تخلقوا بذلك فَسدتْ اخلاقهم وَرُبمَا خذلوه فِي مَوَاطِن الحروب لضعف الحماية بِفساد النيات أَو اجْتَمعُوا على قَتله لذَلِك فتفسد الدولة وان دَامَ على تِلْكَ الْحَالة فَسدتْ العصبية ففسد النظام

من اصله بِالْعَجزِ عَن الحماية فاتضح أَن ارهاف مُضر بِالْملكِ ومفسد لَهُ فِي الاكثر قلت وَهُوَ مَا أردنَا من تضمنه أَكثر عوائق الْملك وَهُوَ ظَاهر العائق الْخَامِس الْحجاب الْوَاقِع دَلِيلا على الْهَرم وَبَيَانه انه فِي تدريج الْوُقُوع ثَلَاثَة الْحجاب الأول عِنْد رسوخ عزا السُّلْطَان واحتياجه إِلَى الِانْفِرَاد بِنَفسِهِ وَذَلِكَ لَان الدلة فِي أول امرها أَن كَانَ قِيَامهَا بِالدّينِ فَهُوَ بعيد عَن مُنَازع الْملك وان كَانَ بالغلب بالبداوة وَالْحَاصِل بالعصبية كَذَلِك وَحِينَئِذٍ فصاحبها يكون سهل الْآذِن قَرِيبا من النَّاس فَإِذا رسخ عزه وَاحْتَاجَ إِلَى انْفِرَاده مَعَ اوليائه للمفاوضة فِي اموره لما يكثر عَلَيْهِ من الغاشية احتجب عَن الْعَامَّة وَاتخذ الْآذِن بِبَابِهِ على من لَا يأمنه فَيكون حاجبا لَهُ من النَّاس وَقَائِمًا بِبَابِهِ لهَذِهِ الوظيفية الْحجاب الثَّانِي إِذا استفحل الْملك وَجَاءَت مذاهبه المستحيل بهَا خلق

صَاحبه وَهِي خلق غَرِيبَة يحْتَاج مباشرها إِلَى مداراتها ومعاملتها بِمَا يجب لَهَا فَرُبمَا جهلها مِنْهُم بعض مباشرتهم فَوَقع فِيمَا لَا يرضيهم فسخطوه واسلموه إِلَى هوان الانتقام مِنْهُ فَانْفَرد بِمَعْرِِفَة هَذِه الاداب مَعَ الْخَواص من أَوْلِيَائِهِمْ وحجبوهم لمراعاتهم حِجَابا اخر اخص من الأول الْوَاقِع فِي أول الدولة على مَا تقدم كَمَا فِي ايام مُعَاوِيَة وَعبد الْملك من خلفاء بني امية وَهَذَا الثَّانِي يَقع عِنْد نِهَايَة عز الدولة وَكَمَال خلق الْملك كَمَا عِنْد مَجِيء دولة بني الْعَبَّاس فَدَعَا ذَلِك اليه وَصَارَ اسْم الْحَاجِب اخص بِهِ وَاتخذ بِبَاب الْخُلَفَاء داران أَحدهمَا للخاصة والاخرى للعامة على مَا هُوَ مسطور فِي أخبارهم الْحجاب الثَّالِث عِنْد مَحل دولة الحجز على السُّلْطَان وَذَلِكَ لَان مُؤَمل إلاستبداد بِهِ أول مَا يبْدَأ بِهِ وان حجب عَنهُ بطانة ابيه وخواص أوليائه موهما لَهُ أَن فِي مباشرتهم اياه خرق حجاب الهيبة وَفَسَاد قانون الادب ليقطع بذلك عَنهُ لِقَاء غَيره ويعوده مُلَابسَة اخلاقه إِلَى أَن يستحكم الِاسْتِيلَاء عَلَيْهِ تَعْرِيف قَالَ ابْن خلدون وَهَذَا الْحجاب لَا يَقع فِي الْغَالِب إِلَّا اخر الدولة دَلِيلا على هرمها ونفاذ قوتها قَالَ وَهُوَ مِمَّا يخشاه أهل الدول على أنفسهم لَان القائمين بالدولة يحاولون ذَلِك عِنْد هرمها وَذَهَاب الاستبداد من اعقاب مُلُوكهَا

لما ركب فِي النُّفُوس من صُحْبَة الِاسْتِقْلَال بِالْملكِ خَاصَّة مَعَ التشريح لذَلِك وَحُصُول دواعيه ومباديه وَالله غَالب على امْرَهْ العائق السَّادِس حجر السُّلْطَان والاستبداد عَلَيْهِ وَبَيَانه من وُجُوه أَحدهَا فِي وَقت حُدُوثه وَذَلِكَ إِذا اسْتَقر الْملك فِي نِصَاب معِين ومنبت وَاحِد من الْقَبِيل القائمين بِهِ وانفردوا بوارثته وَاحِدًا بعد وَاحِد بِحَسب الترشيح فَعنده يحدث التغلب على منصبه من الوزراء والحاشية الثَّانِي فِي سَببه وَهُوَ فِي الاكثر ولَايَة صبي صَغِير أَو مستضعف من أهل الْبَيْت يترشح لَهَا بعد ابيه أَو يخصمه بهَا ذووه وخوله فَيقوم بِهِ لعَجزه عَن الاستبداد كافله من وزرائه أَو حَاشِيَته أَو قَبيلَة موريا بِحِفْظ امْرَهْ عَلَيْهِ حَتَّى يؤنس مِنْهُ الْحجر وجاعلا ذَلِك ذَرِيعَة للْملك فيحجب الصَّبِي ويعوده اللَّذَّات الَّتِي يَدْعُو اليها الترف وينسيه النّظر فِي الْأُمُور السُّلْطَانِيَّة حَتَّى يعْتَقد أَن حَظّ السُّلْطَان من الْملك إِنَّمَا هُوَ الْجُلُوس على السرير وخطاب التهويل وَالْقعُود مَعَ النِّسَاء خلف الْحجاب وان العقد والحل وَالْأَمر وَالنَّهْي وَالْولَايَة والعزل ومباشرة الاحوال الملوكية من النّظر فِي الْجند وَالْمَال والثغور إِنَّمَا هُوَ للوزير فَيسلم لَهُ فِي ذَلِك إِلَى أَن يتَحَوَّل الْملك اليه باستحكام صبغة الرياسة والاستبداد ويورثه عشيره وابناءه من بعده كَمَا وَقع لبني بويه

وَالتّرْك وكافور الاخشيدي وَغَيرهم بالمشرق وللمنصور ابْن أبي عَامر بالأندلس الثَّالِث فِي مضرته بِالْملكِ وانذاره بالبوار غَالِبا وَلَا يخفي ذَلِك من اخلاله بِالْقَصْدِ من السُّلْطَان وَمرض الدولة بِهِ إِذْ لَا بر مِنْهُ إِلَّا فِي الاقل النَّادِر وَالله يوتي ملكه من يَشَاء اسْتِدْرَاك قَالَ ابْن خلدون وَقد يتقطن ذَلِك الْمَحْجُور لشأنه فيحاول الْخُرُوج من ربقة الْحجر ليرْجع الْملك إِلَى نصابه إِمَّا بقتل المتغلب أَو دَفعه عَن الرُّتْبَة فَقَط إِلَّا أَن ذَلِك نَادِر لِأَن الدولة إِذا أخذت فِي تغلب الوزراء والأولياء اسْتمرّ لَهَا ذَلِك وَقل أَن تخرج عَنهُ لانه إِنَّمَا يُوجد غَالِبا من الترف ونشأة ابناء الْملك منغمسين فِي نعْمَة قد نسوا عهد الرجولة والفوا اخلاق الدِّيات والاظار فَلَا ينزعون إِلَى رياسة وَلَا يعْرفُونَ استبداد من تغلب إِنَّمَا هَمهمْ فِي القنوع بالألفة والتفنن فِي أَنْوَاع الترف العائق السَّابِع استظهار السُّلْطَان على قومه وَذَوي عصبيته بِالْمَوَالِي والمصطنعين وَذَلِكَ لانه فِي الطّور الثَّانِي على مَا يَأْتِي أَن شَاءَ الله تَعَالَى ينْفَرد فِيهِ بالمجد دونهم ويدافعهم عَنهُ بِالرِّمَاحِ واذ ذَاك يصيرون من بعض اعدائه فَيحْتَاج إِلَى من يستظهر بِهِ عَلَيْهِم من غير جلدتهم فِي مدافعتهم عَن الْأُمُور وصدهم عَن الْمُشَاركَة ليستخلفهم لذَلِك ويقلدهم

جليل الاعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وَمَا يخْتَص بِهِ لنَفسِهِ لانهم حِينَئِذٍ أولياؤه الاقربون ونصحاؤه الاخلصون قَالَ ابْن خلدون وَذَلِكَ مُؤذن باهتضام الدولة وعلامة على مَرضهَا المزمن لفساد العصبية الَّتِي كَانَ الغلب بهَا وَمرض قُلُوب أهل الدولة لما لحقهم من الامتهان وعداوة السُّلْطَان فيحقدون عَلَيْهِ ويتربصون بِهِ الدَّوَائِر وَيعود وبال ذَلِك على الدولة وَلَا يطْمع فِي برءها من هَذَا الدَّاء لانه مَا مضى يتَأَكَّد فِي الاعقاب إِلَى أَن يذهب رسمها قلت هُوَ معنى قَول أفلاطون يسْتَدلّ على ادبار الْملك من قَصده المخلصين لَهُ بالسوء اعْتِبَار قَالَ وَاعْتبر ذَلِك فِي دولة بني امية كَيفَ كَانُوا إِنَّمَا يستظهرون فِي الحروب والولايات بِرِجَال الْعَرَب كعمر بن سعد وَعبيد الله بن زِيَاد وَالْحجاج بن يُوسُف والمهلب بن أبي صقره وخَالِد بن عبد الله الْقَسرِي وَابْن هُبَيْرَة ومُوسَى بن نصير وبلال بن أبي بردة وَنصر بن سيار

وامثالهم وَكَذَلِكَ صدر بن الْعَبَّاس فَلَمَّا صَارَت الدولة للانفراد بالمجد وكبح الْعَرَب عَن التطاول للولايات صَارَت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وَبني سهل وَبني بويه وموالي التّرْك مثل بغا ووصيف وَابْن طولون وابنائهم وَغَيرهم فَتَصِير الدولة لغير من مهدها والعز لغير من اجتلبه سنة الله فِي عبَادَة العائق الثَّامِن انقسام الدولة الْوَاحِدَة إِلَى دولتين قَالَ ابْن خلدون وَهُوَ أول مَا يَقع فِيهَا من اثار الْهَرم وَذَلِكَ لَان الْملك عِنْد مَا يستحفل وينفرد صَاحبه بالمجد يأنف حِينَئِذٍ من الْمُشَاركَة وَيصير إِلَى قطع اسبابها باهلاك من استراب بِهِ من قرَابَته المرشحين لمنصبه واذ ذَاك يتخوفون على أنفسهم وينزعون إِلَى القاصية ويجتمع اليهم من يلْحق بهم فِي التخوف فيستبد ذَلِك المنازع فِيهَا وَلَا يزَال امْرَهْ يتعاظم لتراجع نطاق الدولة حَتَّى يقاسمها أَو يكَاد

استشهاد وَلُزُوم هَذَا الانقسام متكرر الْوُقُوع فِي دوَل عديدة الدولة الأولى دولة الْعَرَب صدر الْإِسْلَام قَالَ ابْن خلدون كَانَ امرها مجتمعا ونطاقا ممتدا وعصبية بني عبد منف غالبة على سَائِر مُضر لم ينبض عرق من الْخلاف سَائِر ايامهم إِلَّا مَا كَانَ من ظُهُور الْخَوَارِج لاقامة بدعتهم لَا لنزعة ملك ورياسة وَلم يتم أَمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية وَلما خرج الْأَمر من بني لبني الْعَبَّاس وَكَانَت الدولة الْعَرَبيَّة قد بلغت الْغَايَة من الغلب والترف وآذنت بالتقلص عَن القاصية نزع عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل إِلَى الأندلس قاصية دولة الْإِسْلَام واستحدث بهَا ملكا وصير الدولة بهَا دولتين ثمَّ نزح ادريس إِلَى الْمغرب وَقَامَ بأَمْره وامر ابْنه من بعده البرابرة واستولوا على قاصية الْمغرب وَمن ثمَّ ازدادت الدولة تقلصا فامتنعت الاغالبة عَلَيْهَا ثمَّ خرجت الشِّيعَة وَقَامَ بأمرهم كتامة وصنهاجة واستولوا على افريقية وَالْمغْرب ثمَّ مصر وَالشَّام والحجاز

وغلبوا على الادارسة وَصَارَت الدولة الْعَرَبيَّة ثَلَاث دوَل دولة بني الْعَبَّاس يمركز الْعَرَب ومادة الْإِسْلَام ودولة بني امية المجددة بالأندلس ودولة العبيديين بأفريقية ومصر وَالشَّام والحجاز الدولة الثَّانِيَة دولة بني الْعَبَّاس انقسمت كَذَلِك دولا قَالَ فَكَانَ فِي الجزيرة والموصل بَنو حمدَان وَبَنُو عقيل بعدهمْ وبمصر وَالشَّام بَنو طولون وَبَنُو طغج بعدهمْ وبالقاصية بَنو سامان فِيمَا وَرَاء النَّهر وخراسان والعلوية فِي الديلم وطبرستان وَال ذَلِك إِلَى اسْتِيلَاء الديلم على فَارس والعراقين وعَلى بَغْدَاد وَالْخُلَفَاء ثمَّ جَاءَ السلجوقية وملكوا جَمِيع ذَلِك فانقسمت دولتهم بعد الاستفحال كَمَا هُوَ مَعْرُوف فِي أخبارهم الدولة الثَّالِثَة دولة صنهاجة بالمغرب وافريقية قَالَ لما بلغت إِلَى غايتها ايام بادس ابْن الْمَنْصُور وَخرج عَلَيْهِم عَمه حَمَّاد واقتطع ممالك الْمغرب لنَفسِهِ مَا بَين جبل اوراس إِلَى تلمسان وملوية واختط القلعة بجبل كتامه واستحدث ملكا اخر قسيما لملك آل بادس

وَبَقِي آل بادس بالقيروان وَمَا ولاها وَلم يزل ذَلِك إِلَى انْقِرَاض امرها جَمِيعًا الدولة الرَّابِعَة دولة الْمُوَحِّدين قَالَ لما تقلص ظلها بأفريقية بَنو أبي حَفْص فاستقلوا بهَا واستحدثوا ملكا لاعقابهم بنواحيها ثمَّ لما استفحل أَمرهم واستولوا على الْغَايَة خرج بالممالك الغربية من أَعْقَابهم الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّا يحي ابْن السُّلْطَان أبي اسحاق رَابِع خلفائهم واستحدث ملكا ببجاية وقسنطنية وَمَا والاها وورثة بَينه وقسموا بِهِ الدولة قسمَيْنِ ثمَّ استولوا على كرْسِي الحضرة بتونس ثمَّ انقسم الْملك مَا بَين أَعْقَابهم ثمَّ عَاد الِاسْتِيلَاء فيهم تَعْرِيف قَالَ وَقد يَنْتَهِي الانقسام إِلَى اكثر من دولتين أَو ثَلَاثَة فِي غير اعياص الْملك من قومه كَمَا وَقع فِي مُلُوك الطوائف بالأندلس وملوك الْعَجم بالمشرق ومملوك صنهاجة بأفريقية فقد كَانَ لاخر أَمرهم فِي كل حصن من حصون إفريقية ثأر مُسْتَقل وَكَذَلِكَ حَال الجريد والزاب قبيل هَذَا الْعَهْد

النظر الثاني

قَالَ وَكَذَا شَأْن كل دولة لَا بُد وان يعرض فِيهَا عوارض الْهَرم بالترف والدعة وتقلص ظلّ الغلب فينقسم اعياصها أَو من يغلب من رجال دولتها الْأَمر ويتعدد فِيهَا الدول وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا النّظر الثَّانِي فِي التَّعْرِيف بكيفية طروق الْخلَل إِلَى الدول لما كَانَ مبْنى الْملك على اساس لَا بُد مِنْهُمَا أَحدهمَا العصبية وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بالجند وَالثَّانِي المَال الَّذِي هُوَ قوام الْجند وَمَا يحْتَاج اليه الْملك والخلل إِذا طرق الدولة طرقها فِي هذَيْن الاساسين بَيَان طروق الْخلَل فِي العصبية وَذَلِكَ إِذا احاط بذوي التَّمْهِيد بهَا للدولة هادمان أَحدهَا الترف المستحيل بِهِ خلق البسالة على مَا تقدم بَيَانه الثَّانِي الْعَهْد الَّذِي يَأْخُذهُمْ بِهِ صَاحب الدولة إِذا جَاءَت طبيعة الْملك ثمَّ يصير اخذا إِلَى النّيل لما يحصل من مرض قُلُوبهم عِنْد رسوخ الْملك لصَاحبه فتأخذهم بِهِ غَيره مِنْهُ على ملكه خُصُوصا ذَوي قرباه المقاسمين لَهُ فِي اسْم الْملك فتفسد عصبيته مِنْهُم وَهِي العصبية الْكُبْرَى الَّتِي بهَا جمع العصائب واستتباعها ويستبدل مِنْهَا بِالْمَوَالِي والمصطنعين وَلَا تكون عصبيتهم مثل ذَلِك فِي شدَّة الشكيمة لفقدان الرَّحِم مِنْهَا فينفرد عَن الْعَشِيرَة

وهم أهل النعرة الطبيعية ويشعر بذلك أهل العصائب الْأُخْرَى فيتجاسرون عَلَيْهِ وعَلى بطانته تجاسرا طبيعيا فِيمَا لَهُم ويتبعهم بِالْقَتْلِ وَاحِدًا بعد وَاحِد ويقلد الآخر من أهل الدولة فِي ذَلِك الأول مُضَافا لما نزل بِهِ من مهلكة الترف فيستولي عَلَيْهِم الْهَلَاك ترفا وقتلا حَتَّى يخرجُوا عَن ضبغة العصبية الأولى ويصيروا اجزاء على الحماية لتقل الحماية النَّازِلَة بالأطراف والثغور فتتجاسر الرّعية على بعض الدولة فِي ذَلِك ويبادر الْخَوَارِج من الاعياص وَغَيرهم إِلَى تِلْكَ الاطراف لما يرجعُونَ من حُصُول غرضهم بمتابعة أَهلهَا لَهُم وامنهم من وُصُول الحماية اليها وَلَا يزَال كل ذَلِك يتدرج ونطاق الدولة ضائق حَتَّى يتقربوا من مَرْكَز الدولة وَرُبمَا انقسمت الدولة عِنْد ذَلِك بدولتين أَو ثَلَاث على قدر قوتها فِي الأَصْل كَمَا تقدم وَيقوم بأمرها غير أهل عصبيتها اذعانا لَهُم ولغلبهم الْمَعْهُود اعْتِبَار قَالَ ابْن خلدون وَاعْتبر هَذَا فِي دولة الْإِسْلَام انْتَهَت أَولا إِلَى الأندلس والهند والصين وَكَانَ أَمر بني امية نَافِذا فِي جَمِيع الْعَرَب بعصبية بني عبد منَاف حَتَّى لقد أَمر سُلَيْمَان بن عبد الْملك من دمشق بقتل عبد الْعَزِيز ابْن مُوسَى بن نصير بقرطبة فَقتل وَلم يرد امْرَهْ ثمَّ تلاشت

لما اصابهم من الترف فانقرضوا وَجَاء بَنو الْعَبَّاس فغضوا من اعنه بني هَاشم وقتلوه الطالبين وشردوهم فنلاشت عصبية بني عبد منَاف وتجاسر الْعَرَب عَلَيْهَا فاستبد عَلَيْهَا أهل القاصية مثل بني الاغلب بأفريقية واهل الأندلس وَغَيرهم وانقسمت الدولة ثمَّ خرج بَنو ادريس بالمغرب وَقَامَ البربر بأمرهم اذغانا للعصبية الَّتِي لَهُم وامنا من وُصُول الحماية اليهم تَحْصِيل وَاقع قَالَ فَإِذا خرجت الدعاة اخرا تغلبُوا على الاطراف والقاصية وحصلوا هُنَاكَ ملكا تَنْقَسِم بِهِ الدولة وَرُبمَا زادوا على ذَلِك مَتى زَادَت الدولة تقلصا إِلَى أَن ينْتَهوا إِلَى المركز وتضعف بذلك الدولة على إِنَّهَا رُبمَا طَال امرها إِذْ اذك فيستغني عَن العصبية بِمَا حصل لَهَا فِي نفوس ابالتها من صبغة الانقياد وَالتَّسْلِيم مُنْذُ سنتَيْن طَوِيلَة مُنْضَمًّا لاكتفاء صَاحبهَا بالأجراء على الحماية من جندي ومرتزق وَقَالَ وَرُبمَا كَانَت الدولة فِي هَذِه الْحَال اسْلَمْ من المخارجة والمنازعة لاستحكام صبغة التَّسْلِيم والانقياد بذلك إِذْ النُّفُوس تحدث سرها بمخالفة وَلَا يختلع فِي ضميرها انحراف عَن الطَّاعَة فَيكون اسْلَمْ من الْهَرج والانتقاض الْحَادِث بالعصائب والعشائر

بيان طروق الخلل في المال

ثمَّ قَالَ لَا يزَال أَمر الدولة كَذَلِك وَهِي تتلاشى فِي ذَاتهَا شَأْن الْحَرَارَة الغزيرة فِي الْبدن العادم للغذاء إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى وَقتهَا الْمَقْدُور فَلِكُل اجل كتاب وَلكُل دولة امد وَالله يقدر اللَّيْل وَالنَّهَار بَيَان طروق الْخلَل فِي المَال وَيظْهر ذَلِك من تَقْرِير احوال الِاحْتِيَاج اليه وَهِي ثَلَاثَة أَحدهَا حَالَة الاقتصاد فِي النَّفَقَة وَالتَّعَفُّف عَن الْأَمْوَال وَذَلِكَ فِي أول الدولة حِين تكون اخلاقها البدوية مقتضية لذَلِك ومتجافية عَن خلق الْكيس فِي جمع الْأَمْوَال فَلَا تسرف حِينَئِذٍ وَلَا دَاعِيَة اليه الثَّانِي حَال كَثْرَة الانفاق والاقدام على الْمَزِيد فِي الجباية بأحداث المكوس وَذَلِكَ عِنْد استفحال الْملك واستدعائه لعوائد الترف وَظَاهر أَن ذَلِك مبدأ ظُهُور الترف وطليعة طوارق الْخلَل من هَذِه الْجِهَة

الثَّالِث حَال افراط كَثِيرَة المؤونة وَمد الْيَد إِلَى التعدى على الْأَمْوَال بِشُبْهَة أَو بِدُونِهَا زَائِدا على التِّجَارَة ومضاعفة المكوس وَذَلِكَ عِنْد تزايد احوال الترف واستطالة الْملك بالقهر والاعتساف مزِيد بَيَان استحكام الْخلَل هُنَا وَاضح الظُّهُور وَمِنْه مُضَافا لما ظهر مِنْهُ امور أَحدهَا أَن الْجند يتجاسرون على الدولة لفشلها وهرم عصيبتها فيبادرهم صَاحبهَا بإفاضة الْعَطاء وَكَثْرَة الاحسان وَلَا يجد من ذَلِك بدا الثَّانِي أَن جباة الْأَمْوَال إِذْ ذَاك تَعْظِيم ثروتها بِكَثْرَة مَا بِأَيْدِيهِم من الجباية وَقد يَتَّسِع لذَلِك جاههم فَيَهْتَمُّونَ باحتجا ن الْأَمْوَال وتفشو السّعَايَة فيهم بَعضهم من بعض مُنَافَسَة وحسدا فتعمهم المصادرات وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن تتلاشى أَحْوَالهم ويفقد مَا كَانَ للدولة بهم من الابهة وَالْجمال وبعدهم يتَجَاوَز إِلَى أهل الثروة من الرعايا سواهُم قلت الْخلَل هُنَا حَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ فِي تجَاوز المصادرة إِلَى من سواهُم واما بفقد الابهة وَالْجمال أَمر قريب شرعا وسياسة عادلة الثَّالِث أَن الشَّوْكَة عِنْد ذَلِك أَيْضا تضعف عَن الاستطالة والقهر فيعدل بِصَاحِب الدولة لَا محَالة إِلَى المداراة لهَذَا الْخلَل ببذل المَال وَيَرَاهُ نفع من السَّيْف لقلَّة غنائه فتعظم حَاجَتهَا إِلَى الْأَمْوَال وَلَا يُغني فِيمَا يُرِيد نِهَايَة حَال لَا خَفَاء يتناهى استحكام خلل الدولة عِنْد مصيرها إِلَى هَذِه الْغَايَة وتعرضها بِهِ لاستيلاء الطَّالِب عَلَيْهَا أَن قَصدهَا

قَالَ ابْن خلدون وَألا بقيت وَهِي تلاشى إِلَى أَن تضمحل كالذبال فِي السراج إِذا فنى زينته طفئ وَالله مَالك الْأُمُور ومدبر الاطوان لَا اله إِلَّا هُوَ قلت فِي الافلاطونيات علل الدولة كَثِيرَة وأبعدها علل العوز وَهِي تشبه نَفاذ الرُّطُوبَة من الْعُضْو فَإِنَّهَا اصعب برءا من زِيَادَة الرُّطُوبَة فِيهِ النّظر الثَّالِث فِي التَّعْرِيف بَان مُقْتَضى الانذار بِمَنْع دوَام الْملك لاستحكام هرمه لَا يتَخَلَّف وَعبر عَنهُ ابْن خلدون بَان الْهَرم إِذا نزل بالدولة لَا يرْتَفع قَالَ لانه لكا كَانَ طبيعي الْحُدُوث للدولة ضَرُورَة أَن اسبابه وَهِي الْعَوَائِق المنذرة بِهِ على مَا تقرر كَذَلِك فارتفاعه اذن لَا يُمكن كَمَا فِي حُدُوثه للمزاح الحيواني لَان مَا هُوَ طبيعي لَا يسْتَبْدل تَنْبِيهَانِ أَحدهَا قَالَ وَقد يتَنَبَّه كثير من أهل الدولة مِمَّن لَهُ يقظة فِي السياسة فَيرى مَا نزل بِهِ من اسباب الْهَرم ويحبسه مُمكن الاتفاع فَيَأْخُذ فِي تلافي الدولة واصلاح مزاجها ظنا مِنْهُ أَن التَّقْدِير لحقها من الْغَفْلَة عَن التلافي وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهَا امور طبيعية والعوائد هِيَ الْمَانِعَة من ذَلِك لانها أَيْضا طبيعية فان من اِدَّرَكَ اباه وكبراء أهل بَيته يلبسُونَ الْحَرِير ويتحلون بِالذَّهَب فِي السِّلَاح والمراكب ويتحتجبون عَن النَّاس فِي الْمجَالِس والصلوات لَا يُمكنهُ الْمُخَالفَة فِي ذَلِك إِلَى الخشونة فِي اللبَاس والزي والاختلاط بِالنَّاسِ وَلَو فعل ذَلِك لرمي بالجنون والوسواس فِي الْخُرُوج من

العوائد دفْعَة وخشي عاقبته فِي سُلْطَانه قَالَ وَانْظُر شان الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي إنكارهم العوائد ومخالفتها لَوْلَا التأييد الإلهي قَالَ وَرُبمَا تكون العصبية قد ذهبت فَتكون الابهة عوضا من موقعها من النُّفُوس فَإِذا ازيلت مَعَ ضعف العصبية تجاسر الرعايا على الدولة بذهاب اوهام الابهة فيتدرع بهَا مَا امكن حَتَّى يَنْقَضِي الْأَمر الثَّانِي قَالَ وَرُبمَا تحدث عِنْد اخر الدولة قُوَّة توهم أَن الْهَرم قد ارْتَفع عَنْهَا ويومض ذبالها ايماضة الخمود كَمَا فِي الذبال المشتعل فانه عِنْد مقاربة انطفائه يُومِض ايماضة توهم إِنَّهَا اشتعال وَهِي انطفاء قَالَ فَاعْتبر ذَلِك وَلَا تغفل سر الله وحكمته فِي اطراد وجوده على مَا قدر فِيهِ فَلِكُل اجل كتاب

في عوارض الملك اللاحقة لطبيعة وجوده

الْبَاب الثَّانِي فِي عوارض الْملك اللاحقة لطبيعة وجوده وَلما كَانَ السَّعْي فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع واكتساب المعايش والعلوم مُتَأَخّر بُلُوغ الْغَايَة فِيهِ من وجود الْملك وَمن عوارضه بِاعْتِبَار رَأينَا تَكْمِيل التَّعْرِيف بعوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ بتقرير مَا تَأَخّر من ذَلِك عَن وجوده فَهُنَا اربعة فُصُول أَحدهَا فِي عوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ الثَّانِي فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع الثَّالِث فِي اكْتِسَاب المعايش الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم فلنأت بهَا ملخصة من كَلَام ابْن خلدون رَحمَه الله بِحَسب اللَّائِق بِهَذَا الْمقَام الْفَصْل الأول فِي عوارض الْملك من حَيْثُ هُوَ وَهِي جملَة تذكرها مَعَ مَا يلْحق بهَا فِي مضمن مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى انْفِرَاد صَاحب الدولة بالمجد وَذَلِكَ لَان الْملك على مَا سلف إِنَّمَا هُوَ بالعصبية وَهِي متالفة من عصبيات كَثِيرَة تغلبها وَاحِدَة مِنْهَا لوَقْتهَا حَتَّى يصير جَمِيعهَا فِي ضمنهَا وَبِذَلِك يحصل الِاجْتِمَاع والغلب على النَّاس

حِكْمَة طبيعية قَالَ وسره أَن العصبية الْعَامَّة للقبيل هِيَ مثل المزاح للمتكون وَهُوَ إِنَّمَا يكون عَن العناصر وَقد تبين فِي مَوْضِعه إِنَّهَا إِذا اجْتمعت اجْتمعت متكافئة لَا يَقع مِنْهَا مزاج أصلا إِلَّا بعد أَن يغلب فِيهَا وَاحِد اجْتمعت على الآخر وَحِينَئِذٍ يَقع الامتزاج قَالَ وَكَذَلِكَ تِلْكَ العصبيات لَا بُد من غَلَبَة وَاحِدَة مِنْهَا حَتَّى تجمعها وتضمها وتصيرها عصبية وَاحِدَة كبرى وَلَا يُوجد ذَلِك إِلَّا لِذَوي رياسة فيهم ثمَّ لَا بُد من تعْيين وَاحِد مِنْهُم لرياسة الْجَمِيع لغَلَبَة منتبه وغرسه تركيب قَالَ وَإِذا تعين لَهُ ذَلِك فَمن الطبيعة الحيوانية خلق الْكبر والانفة فترجح حِينَئِذٍ عَن الْمُشَاركَة فِي استتباعهم وَيَجِيء خلق التأله الَّذِي فِي طباع الْبشر على مَا تَقْتَضِيه السياسة من انْفِرَاد الْحَاكِم لفساد النظام بالتعدد لَو كَانَ فيهمَا الهة إِلَّا الله لفسدتا ليجدع انوف العصبية ويصدهم عَن الْمُشَاركَة لَهُم فِي التحكم وَيخْتَص بِهِ مَا اسْتَطَاعَ حَتَّى لَا يتْرك لاحدهم ناهزا فِي الْأَمر وَلَا حملا فيفرد لَا محَالة بالمجد كُله قَالَ وَقد يتم ذَلِك للْأولِ من مُلُوك الدولة وَقد لَا يتم إِلَّا للثَّانِي أَو الثَّالِث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها إِلَّا انه أَمر لَا بُد لَهُ مِنْهُ فِي الدول سنة الله فِي عباده الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة الترف وَذَلِكَ أَن الْأمة إِذا تغلبت على مَا يبد ذَوي الْملك قبلهَا كثر رياشها وعوائد نعمها وتجاوزوا ضروريات الْعَيْش وخشونته

إِلَى نوافله ورقته وَتصير لتِلْك النَّوَافِل عوائد ضَرُورِيَّة فِي تَحْصِيلهَا تابعين فِي ذَلِك سنَن من قبلهم فِي آكل الطّيب ولس الانيق وركوب الفاره واستجادة الْفرش والانية إِلَى اخر الدولة على قدر حَالهم يكون حظهم مِنْهُ إِلَى أَن يبلغُوا مِنْهُ الْغَايَة الَّتِي للدولة أَن تبلغها بِحَسب قوتها وعوائد من قبلهَا سنة الله فِي خلقَة المسالة الثَّالِثَة الدعة والسكون وَذَلِكَ لَان الْملك لَا يحصل إِلَّا بالمطالبة وَإِذا حصلت غايتها مِنْهُ انْقَضى السَّعْي اليهما كَمَا قيل (عجبت لسعي الدَّهْر بيني وَبَينهَا ... فَلَمَّا انْقَضى مَا بَيْننَا سكن الدَّهْر) وَعند ذَلِك يقصرون عَن المتاعب المتكلفة فِي طلبه ويؤثرون الرَّاحَة والسكون وَالرُّجُوع إِلَى تَحْصِيل ثَمَرَات الْملك من مباني الْقُصُور واجراء الْمِيَاه واغتراس الروضات والتأنق فِي الملابس والمطاعم والانية والفرش والاستمتاع بِسَائِر احوال الدُّنْيَا ويورثون من بعدهمْ من الاجيال وَلَا يزَال تزايد فيهم إِلَى أَن يَأْذَن الله فِيهِ بأَمْره الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة شاراته الْخَاصَّة بِهِ لتميز السُّلْطَان بانتحالها عَن الرّعية والبطانة وَسَائِر الرؤساء لما تَقْتَضِيه الابهة والبذخ والمشتهر مِنْهَا جملَة الشارة الأولى الالة وَهِي ضَرْبَان الضَّرْب الأول الألوية والرايات وَمِنْهَا فَوَائِد الْفَائِدَة الأولى إِنَّهَا من شعار الحروب مُنْذُ عهد الخليقة فَلم تزل

بهَا الموحدون فِي أول دولتهم بالمغرب لما كَانُوا عَلَيْهِ من مُنَازع الدّيانَة والتورع عَن لِبَاس الْحَرِير وَالذَّهَب فاسقطوا وَظِيفَة الاقامة لَهَا وَنعم مَا فعلوا الثانة جِهَة الْعِنَايَة بهَا فِي ابهة الْملك عِنْد اخذه بمذاهب الترف فَمن هُنَا نلخص من كَلَام ابْن خلدون مَا يَقْتَضِيهِ التَّعْرِيف بعوارض الْملك وَالْحق من وَرَائه قَالَ كَانَ مَمْلُوك الْعَجم قبل الْإِسْلَام يجْعَلُونَ ذَلِك الطّراز بصور الْمُلُوك واشكالهم أَو غير ذَلِك فاعتاض مُلُوك الْإِسْلَام عَن ذَلِك بكتب اسمئهم مَعَ كَلِمَات تجْرِي مجْرى الفأل وعينوا فِي الدولتين إِذْ كَانَ عِنْدهم من افخم الْأَحْوَال دورا تسمى دور الطّراز وقلدوا الْقَائِم على النّظر فِيهَا خَواص الدولة وثقاة الموَالِي وعَلى ذَلِك كَانَ الْحَال فِي دولة بني امية بالأندلس والطوائف بعدهمْ وَفِي دولة العبيدين بِمصْر وَمن كَانَ على عَهدهم من مُلُوك الْعَجم بالمشرق وَلما ضَاقَ نطاق الدول عَن الترف بتعددها وَضعف استيلائها بطلت هَذِه الْوَظِيفَة وَالْولَايَة عَلَيْهَا من اكثر الدول بِالْجُمْلَةِ وَفِي آخر دولة الْمُوَحِّدين بالمغرب استدركوا مِنْهَا طرفا لم تكن بِتِلْكَ النباهة قَالَ واما لهَذَا الْعَهْد فاردكنا مِنْهُ فِي الدولة المرينية لعنفوانها وشموخها رسما جَلِيلًا تلقوهُ من دولة بني الْأَحْمَر معاصريهم بالأندلس وَاتبع هُوَ فِي ذَلِك دوَل الطوائف فاتى مِنْهُ بلمحة شاهدة بالأثر

الامم تعقدها فِي مَوَاطِن الحروب والغزوات ولعهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن بعده من الْخُلَفَاء وَعند انقلاب الْخلَافَة ملكا اتَّخَذُوهَا مَعَ ذَلِك زِينَة وتنويها فكثيرا مَا كَانَ الْعَامِل أَو قَائِد الْجَيْش يعْقد لَهُ الْخَلِيفَة من العباسيين والعبيدين لِوَاء وَيخرج إِلَى عمله أَو بَعثه فِي موكب من أَصْحَاب الرَّايَات فَلَا يتَمَيَّز موكب الْعَامِل والخليفة إِلَّا بِكَثْرَة الألوية أَو قَتلهَا أَو بِمَا اخْتصَّ بِهِ الْخَلِيفَة من الألوان لرايته وبنده الْفَائِدَة الثَّانِيَة أَن الْقَصْد بهَا تكثيرا أَو تلوينا واطالة إِنَّمَا هُوَ التهويل فِي الاكثر قَالَ وَرُبمَا تحدث فِي النُّفُوس وتلوناتها غَرِيبَة وَالله الخلاق الْعَلِيم قلت قَالَ ابْن المناصف هِيَ ارواح العساكر وبثباتها ثبات افئدة الجماهير وَحَيْثُ انتفلت انتفلت مَعهَا الْقُلُوب وان ادبرت تبعتها انفس الْجلد والهروب الْفَائِدَة الثَّالِثَة أَن تلوينها يخْتَلف باخْتلَاف الدول فِي اخْتِيَاره كالسواد فِي ايام بني الْعَبَّاس حزنا على شهدائهم من بني هَاشم ونعيا على بني امية فِي قَتلهمْ وَلذَلِك سموا المسودة وَالْبَيَاض عِنْد الطالبين الخارجين عَلَيْهِم فِي كل جِهَة وعصر مُخَالفَة لَهُم فَفِي ذَلِك سموا المبيضة سَائِر أَيَّام العبيدين وَكَذَا جَمِيع من خرج عَلَيْهِم وَلما نزع الْمَأْمُون عَن لبس السوَاد وشعاره عدل إِلَى لون الخضرة فَجعل رايته خضراء

الْفَائِدَة الرَّابِعَة أَن التكثير مِنْهَا والتقليل يخْتَلف أَيْضا بِحَسب مَقَاصِد الدول فِي ذَلِك فالعبيديون لما خرج مِنْهُم الْعَزِيز نزار إِلَى فتح الشَّام كَانَ لَهُ خَمْسمِائَة من النبود والموحدون وَبَنُو ايدهم الله تَعَالَى اقتصروا على سَبْعَة فِي الْعدَد تبركا بالسبعة قَالَه ابْن خلدون وزناته يبلغون إِلَى الْعشْرَة وَالْعِشْرين قَالَ وَقد بلغت أَيَّام السُّلْطَان أبي الْحسن فِيمَا ادركناه مائَة من البنود ملونة بالحرير ومنسوجة بِالذَّهَب مَا بَين كَبِير وصغير وَمِائَة من الطبول ويأذنون للولاة والقواد فِي اتِّخَاذ راية وَاحِدَة صَغِيرَة من الْكَتَّان بَيْضَاء وطبل صَغِير أَيَّام الْحَرْب لَا يتجاوزون ذَلِك وَالتّرْك يتخذون فِيمَا ذكر ابْن خلدون على عَهده راية وَاحِدَة عَظِيمَة وَفِي رَأسهَا خصْلَة كَبِيرَة من الشّعْر وَهِي شعار السُّلْطَان عِنْدهم ثمَّ تَتَعَدَّد الرَّايَات ويبالغون فِي الاستكثار من الطبول والجلالقة من الافرنجة من الأندلس يتخذون فِيمَا ذكر أَيْضا على عَهده الوية قَليلَة ذَاهِبَة فِي الجو صعدا وَمَعَهَا قرع الأوتار وَنفخ الغيطات يذهبون فِيهَا مَذْهَب الْغناء فِي مَوَاطِن حروبهم

قَالَ هَكَذَا ابلغناعنهم وَعَن من وَرَاءَهُمْ من مُلُوك الْعَجم وَفِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف السنتكم والوانكم آيَات للْعَالمين الضَّرْب الثَّانِي قرع الطبول وَنفخ الابواق والقروت وَقد كَانَ الْمُسلمُونَ لاول الْملَّة يتجافون عَن ذَلِك تنزها عَن غلظة الْملك واحتقار الابهة الَّتِي لَيست من الْحق فِي شَيْء وعنج مصير الْأَمر لمن بعدهمْ شاركوا فِيهِ مُلُوك الامم كَمَا تقدّمت حكايته عَنْهُم تَوْجِيه ذكر أر سطوا فِي السياسة أَن السِّرّ فِي ذَلِك ارهاب الْعَدو فِي الْحَرْب فان الاصوات الهائلة لَهَا تَأْثِير فِي النُّفُوس بالروعة قَالَ ابْن خلدون ولعمري انه لامر وجداني فِي مَوَاطِن الحروب يجده كل أحد من نَفسه قَالَ وَهَذَا الَّذِي ذكره أَن كَانَ فَهُوَ صَحِيح فِي بعض الاعتبارات واما الْحق فِي ذَلِك فَهُوَ أَن النَّفس عِنْد سَماع النغم والاصوات يُدْرِكهَا الْفَرح والطرب فَيُصِيب مزاج الرّوح نشوة يستسهل بهَا الصعب ويستميت بالزهو فِيهِ وَهُوَ مَوْجُود حَتَّى فِي الْحَيَوَانَات الْعَجم كانفعال الابل بالحداء وَالْخَيْل بالصفير ويتأكد ذَلِك بتناسب الاصوات كَمَا فِي الْغناء ولاجله يتَّخذ الْعَجم فِي مَوَاطِن الحروب الالة الموسيقية

فيحدو المغنون بالسلطان ليحركوا نفوس الشجعان بطربهم إِلَى الاستماتة شَهَادَة قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد رَأينَا فِي حروب الْعَرَب المنشد يُغني امام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الابطال بِمَا فِيهَا ويسارعون مجَال الْحَرْب وينبعث كل قرن إِلَى قرنه وَكَذَا زنانة يتَقَدَّم إِلَى الشَّاعِر عِنْدهم امام الصنوف ويغني فيحرك بغنائه الْجبَال الرواسِي وينبعث على الاستمامة من لَا يظنّ بهَا كشف حَقِيقَة قَالَ واصله كُله فَرح يحدث فِي النَّفس فتنبعث مِنْهُ الشجَاعَة كَمَا تنبعث عَن نشوة الْخمر بِمَا حدث عَنْهَا من الْفَرح وَالله تَعَالَى اعْلَم الشارة الثَّانِيَة السرير وَفِيه نظر من وُجُوه أَحدهَا أَن المُرَاد بِهِ شَامِل لكل مَا يجلس عَلَيْهِ السُّلْطَان من اعواد مَنْصُوبَة وآرائك منضدة ليرتفع بِهِ عَن مُسَاوَاة أهل مَجْلِسه عَظمَة وإجلالا الثَّانِي أَن الْجُلُوس عَلَيْهِ سنة معرفَة فِي مُنَازع الْملك قبل الْإِسْلَام وَبعد انقلاب الْخلَافَة ملكا فقد كَانَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام سَرِير من عاج منعشى بِالذَّهَب ولملوك الْعَجم اسرة من ذهب يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا

الثَّالِث أَن اتِّخَاذه إِنَّمَا يكون بعد استفحال الدولة والترف شَأْن الابهة كلهَا وَفِي أول الدولة لَا تتشوف اليه خشونة خلق البداوة إِذْ ذَاك الرَّابِع أول من اتَّخذهُ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ بعد أَن اسْتَأْذن النا فِيهِ وَقَالَ لَهُم أَنِّي قد بدنت فأذنوا لَهُ فاتخذه وَاتبعهُ فِيهِ الْمُلُوك الإسلاميون وَصَارَ لَهُم من مُنَازع الْملك والأبهة حِكَايَة كَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ بِمصْر يجلس فِي قصره على الأَرْض مَعَ الْعَرَب وياتيه الْمُقَوْقس وَمَعَهُ سَرِير من الذَّهَب مَحْمُول على الْأَيْدِي لجلوسه شَأْن الْمُلُوك يجلس عَلَيْهِ وهم امامه وَلَا يغيرون عَلَيْهِ وَفَاء لَهُ بِمَا عقد مَعَهم من الدعة واطراحا لابهة الْملك قَالَ ابْن خلدون ثمَّ كَانَ بعد ذَلِك لبني الْعَبَّاس والعبيدين وَسَائِر مُلُوك الْإِسْلَام شرقا وغربا من الاسرة والمنابر والتخوف مَا عفى على الاكاسرة والقياصرة وَالله مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار تَعْرِيف حكى ابْن قُتَيْبَة انه كَانَ يسْتَقْبل بفراش الْملك فِي

مَجْلِسه الْمشرق أَو مهب الدبور وَيجْعَل تكأته مِمَّا يَلِي الْمشرق وَيسْتَقْبل بِهِ مهب الصِّبَا لَان ناحيتي الصِّبَا والمشرق يوصفان بالعلو وناحيتي الْمغرب وَالدبور بالانخفاض الشارة الثَّالِثَة السِّكَّة وَهِي الْخَتْم على الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم بِطَابع حَدِيد ينقش فِيهِ صور وكلمات مَقْلُوبَة وَيضْرب بِهِ عَلَيْهِ فَتخرج رسوم تِلْكَ النقوش عَلَيْهَا ظَاهِرَة مُسْتَقِيمَة وَيضْرب بِهِ عَلَيْهِ فَتخرج رسوم تِلْكَ النقوش عَلَيْهَا ظَاهِرَة مُسْتَقِيمَة بعد اعْتِبَار عيار النَّقْد فِي خلوصه بالسبك مرّة بعد أُخْرَى وَبعد تَقْدِير أشخاص الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم بِوَزْن معِين يصطلح عَلَيْهِ فَيكون التَّعَامُل بهَا عددا وان لم تقدر أشخاصها فالتعامل يكون وزنا قلت وَقد تقدم تَخْلِيص الْكَلَام عَلَيْهَا فِي فصل الْولَايَة الدِّينِيَّة الشارة الرَّابِعَة الْخَاتم وَفِي التَّعْرِيف بِوُجُوه النّظر فِيهِ فَوَائِد الْفَائِدَة الأولى انه من الخطط الدِّينِيَّة والوظائف الملوكية والختم على الرسائل والصكوك مَعْرُوف للملوك قبل الْإِسْلَام وَبعده وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَن يكْتب إِلَى قَيْصر فَقيل لَهُ أَن الْعَجم لَا يقبلُونَ كتابا إِلَّا أَن يكون مَخْتُومًا فَاتخذ خَاتمًا من فضَّة وَنقش عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله قَالَ البُخَارِيّ جعل الثَّلَاث كَلِمَات فِي ثَلَاثَة اسطر وَختم بِهِ وَقَالَ لَا ينقش أحد مثله قَالَ وتختم بِهِ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان ثمَّ سقط من يَد عُثْمَان فِي بِئْر اريس وَكَانَت قَليلَة المَاء فَلم يدْرك قعرها بعد واغتم لذَلِك وَتَطير مِنْهُ وصنع اخر على مِثَاله الْفَائِدَة الثَّانِيَة انه يُطلق على امور على الْآلَة المجعولة فِي

الاصبع وَمِنْه تختم إِذا لبسه وعَلى النِّهَايَة والتمام وَمِنْه ختمت الْأَمر إِذا بلغت اخره وختمت الْقرَان كَذَلِك وَمِنْه خَاتم الامن على السداد الَّذِي تسد بِهِ الْأَوَانِي والدنان يُقَال فِيهِ خَاتم الْفَائِدَة الثَّالِثَة إِذا صَحَّ اطلاقه على هَذِه الْأُمُور صَحَّ اطلاقه على اثرها النَّاشِئ عَنْهَا فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الْخَتْم بالخط اخر الْكتاب أَو اوله بِكَلِمَات منتظمة من حمد أَو تَسْبِيح أَو باسم السُّلْطَان أَو الْأَمِير أَو صَاحب الْكتاب كَائِنا من كَانَ أَو بِشَيْء من نعوته عَلامَة على صِحَة الْكتاب وَسمي ذَلِك عَلامَة وخاتما تَشْبِيها لَهُ بأثر الْخَاتم الاصبعي فِي النقش وَمِنْه خَاتم السُّلْطَان وَخَاتم القَاضِي وَيحْتَمل أَن يكون لغمس الْخَاتم فِي المداد والطين وصنعه على الصفح فتنقش الْكَلِمَات فِيهِ فَيكون من معنى النِّهَايَة والتمام كَأَن الْكتاب لَا يتم الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِهَذِهِ الْعَلامَة وَيحْتَمل أَن يخْتم بِهِ فِي شَيْء لين فينقش فِيهِ حُرُوفه وَيجْعَل على مَوضِع الحزم من الْكتاب إِذا خزم وعَلى المودعات فَيكون من السداد قلت وَمن هَذَا خَاتم السُّلْطَان وَمن يَلِيهِ لهَذَا الْعَهْد على هَذِه الصُّورَة لَكِن يُسمى بالطابع اخذا من هَذَا الْمَعْنى الْفَائِدَة الرَّابِعَة أَن أول من احدث الْخَتْم على الْكتاب أَي الْعَلامَة

مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ وَسَببه انه أَمر لعَمْرو بن الزبير عِنْد زِيَاد بِالْكُوفَةِ بِمِائَة ألف فَفتح الْكتاب وصير الْمِائَة مِائَتَيْنِ وَرفع زِيَاد حِسَابهَا فأنكرها مُعَاوِيَة وَطلب بهَا عمروا وحبسه حَتَّى قضايا عَنهُ اخوه عبد الله وَاتخذ مُعَاوِيَة عِنْد ذَلِك ديوَان الْخَاتم وخزم الْكتب وَلم تكن تخزم أَي جعل لَهَا السداد تَفْسِير ديوَان الْخَاتم عبارَة عَن الْكتاب القائمين على إِنْفَاذ كتب السُّلْطَان والختم عَلَيْهَا بالعلامة أَو بِالْجَزْمِ وَقد يُطلق الدِّيوَان على مَكَان جُلُوس هَؤُلَاءِ الْكتاب الْفَائِدَة الْخَامِسَة الخزم للكتب إِمَّا بدثر الْوَرق كَمَا فِي عرف كتاب الْمغرب أَو بلصق راس الصَّحِيفَة على مَا ينطوي عَلَيْهِ من الْكتاب كَمَا فِي عرف أهل الْمشرق وَقد جعل على مَكَان الدثر أَو اللصاق عَلامَة يُؤمن مَعهَا من فَتحه فالمغاربة يجْعَلُونَ على الدثر قِطْعَة من الشمع ويطبعون عَلَيْهَا بِخَاتم نقشت فِيهِ عَلامَة لذَلِك فيرتسم النقش فِي الشمع والمشارقة فِي التَّقْدِيم يختمون على مَكَان اللصق بِخَاتم منقوش أَيْضا قد

غمس فِي طين احمر فيرسم النقش عَلَيْهِ وَكَانَ هَذَا الطين يُسمى فِي الدولة العباسية بطين الْخَتْم وَكَانَ يجلب من سيراف تعريفان أَحدهمَا أَن هَذَا الْخَاتم الَّذِي هُوَ الْعَلامَة الْمَكْتُوبَة أَو النقش للسداد أَو الخزم للكتب خَاص بديوان الرسائل وَكَانَ ذَلِك للوزير فِي الدولة العباسية ثمَّ اخْتلف الْعرف وَصَارَ لمن اليه الترسيل وديوان الْكتاب الثَّانِي من شارات الْملك وعلامته فِي دوَل الْمغرب اتِّخَاذ الْخَاتم للإصبع قَالَ ابْن خلدون فيستحبون صوغه من الذَّهَب ويرصعونه بالفصوص من الْيَاقُوت والفيروزج والزمرد ويلبسه السُّلْطَان شارة لَهُم فِي عرفهم كَمَا كَانَت الْبردَة والقضيب فِي الدولة العباسية والمظلمة فِي الدولة العبيدية وَالله مصرف الْأُمُور بِحِكْمَتِهِ قلت صوغ الْخَاتم من الذَّهَب للرِّجَال حرَام وَمن الْفضة وَبَعضه ذهب كَذَلِك على الْمَشْهُور الشارة الْخَامِسَة الطّراز قلت حَاصِل هَذِه الشارة كتب اسْم السُّلْطَان أَو علامته الْخَاصَّة طراز اثواب الْحَرِير الْمعدة للباسه أَولا وَعند ذَلِك فالنظر فِيهَا من جِهَتَيْنِ أَحدهمَا جِهَة المشروعية فِي الْغَرَض فِيهَا فَقَط وَلَا خَفَاء إِنَّهَا سَاقِطَة الِاعْتِبَار شرعا لتَحْرِيم لِبَاس الْحَرِير على الرِّجَال وَلذَلِك لم يَأْخُذ

شَاهد قُوَّة قَالَ واما دولة التّرْك بِمصْر وَالشَّام لهَذَا الْعَهْد فَفِيهِ من الطّراز بَحر زاخر على مِقْدَار ملكهم وَعمْرَان بِلَادهمْ لكنه لَا يصنع فِي دُورهمْ وَلَيْسَت من وظائف دولتهم وَمَا تطلبه من ذَلِك فَمن صناعه ويرسم اسْم السُّلْطَان أَو الْأَمِير عَلَيْهِ ويعدون ذَلِك من طرف الصِّنَاعَة اللائقة بالدولة وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار الشارة السَّادِسَة الفساطيط والأخبية وَهِي من الة السّفر وزينته الاستعداد لَهُ على نِسْبَة الدولة فِي الثروة واليسار وَلها بِاعْتِبَار الْأَخْذ بِهِ أَو التّرْك لَهُ حالتان إِحْدَاهمَا حَالَة الْبِدَايَة وَلَا وجود لهَذِهِ الشارة فِيهَا لاستغنائها بِمَا جرت بِهِ عَادَتهَا فِي اتِّخَاذه قبل الْملك فِي عهد الْأَوَّلين وخلفاء فِي امية كَانُوا يسكنون فِي أسفارهم بُيُوتهم الَّتِي كَانَت لَهُم من الْوَبر وَالصُّوف بظمونهم وَسَائِر حَالهم واجيالهم من الاهل وَالْولد كَمَا هُوَ شَأْن الْعَرَب لهَذَا الْعَهْد الثَّانِيَة حَالَة النِّهَايَة فِي استفحال الْملك وَأَخذه بمذاهب النرف كَمَا فِي الْعَرَب الْمشَار اليهم عِنْد تعينيهم بعد فِي مُنَازع البذج والحضارة والانتقال من سُكْنى الْخيام إِلَى سُكْنى الْقُصُور وَمن ظهر الخفه

إِلَى ظهر الْحَافِر فَاتخذ السُّكْنَى فِي أسفارهم بيُوت الْكَتَّان مُخْتَلفَة الأشكال مقدرَة الْأَمْثَال من القوراء والمستطيلة والمربعة فَاخْتَلَفُوا فِيهَا بابلغ مَذَاهِب الاحتفاء والزينة ويدير الْأَمِير أَو الْقَائِد على فساطيطه سياجا من الْكَتَّان يُسمى بالمغربي بِلِسَان أهل الغرب بافراك بِالْكَاف الَّتِي بَين الْقَاف وَالْكَاف يخْتَص بِهِ السُّلْطَان بذلك الْقطر قَالَ ابْن خلدون واما الْمشرق فيتخذه كل امير وان كَانَ دون السُّلْطَان وستمر الْحَال على ذَلِك فِي مَذَاهِب الدول بذخا وترفا قَالَ وَكَذَا كَانَت دولة الْمُوَحِّدين وزناتة وَكَانَ سفرهم أول أَمرهم فِي بيُوت سكناهم قبل الْملك من الْخيام والقياطين وَلما اخذوا فِي مَذَاهِب الترف وسكنى الْقُصُور اتَّخذُوا الأخبية والفساطيط وبلغوا من ذَلِك فَوقف مَا ارادوه الشارة السَّابِعَة الْمَقْصُورَة للصَّلَاة وَهِي وَالدُّعَاء فِي الْخطْبَة قَالَ ابْن خلدون من الْأُمُور الخلافية وَمن شارات الْملك الإسلامي وَلم تعرف فِي غير دوَل الْإِسْلَام قلت وفيهَا على ذَلِك الْقَصْد مَا نكمله من غير وُجُوه

أَحدهَا أول من احدثها قيل مَرْوَان بن الحكم حِين طعنه الْيَمَانِيّ وَهُوَ نقل مَالك فِي الْعُتْبِيَّة قَالَ وَجعلهَا من طين وَجعل فِيهَا تشبيكا وَقيل مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ حِين ضربه الْخَارِجِي وَقطع عرق النسا من صلبه وَهَذَا نقل المؤرخين حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو عمر فِي الِاسْتِيعَاب عَن الزبير ابْن بكار الثَّانِي الْمُوجب لاتخاذها إِمَّا خوف الاغتيال كَمَا وَقع لمعاوية ومروان وَغَيرهمَا صرح بذلك ابْن رشد حسبهما يَأْتِي عَنهُ أَن شَاءَ الله تَعَالَى أَو مَا تَقْتَضِيه نخوة الْملك فِي الترفع من الِاخْتِلَاط بِالنَّاسِ وَلَو امن من ذَلِك الْمَحْذُور وَهُوَ ظَاهر قَول ابْن خلدون وانما اتَّخذت عِنْد حُصُول الترف والاستفحال شَأْن احوال الابهة كلهَا وَقد يُرَاعِي الامران وان اسْتَقل كل وَاحِد مِنْهُمَا الثَّالِث من الْمُلُوك من أَزَال رسمهما من الْجَوَامِع وَهُوَ أَبُو يَعْقُوب بن

عبد الْمُؤمن الْقَائِل فِيهِ ابْن جبيش وَقد سُئِلَ عَنهُ وَهُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز عدلا علما وزهدا وفضلا وَحمل ابْن خلدون ذَلِك على طَرِيق البداوة الَّتِي كَانَت إِذْ ذَاك شعارهم قَالَ وَلما استفحلت دولتهم وَأخذت بحظها من الترف وَجَاء يَعْقُوب الْمَنْصُور ثَالِث مُلُوكهمْ فاتخذها وَبقيت من بعده سنة مُلُوك الْمغرب والأندلس قَالَ وَهَذَا الشَّأْن فِي سَائِر الدول سنة الله فِي عباده قلت خلق البداوة اقْربْ إِلَى تحري الصَّوَاب فِي ترك الْأَحْدَاث لغير مُوجب وَبِالْجُمْلَةِ فِي اجْتِنَاب كل مَا لم يُؤذن فِيهِ الرَّابِع نَص ابْن رشد فِي مَوَاضِع من الْبَيَان على أَن اتخاذها مَكْرُوه لكَونهَا محدثة قَالَ مَا نَصه عِنْد قَول مَالك أول من جعل الْمَقْصُودَة مَرْوَان الخ مَا تقدم نَقله وَجه قَوْله الْأَعْلَام بَان الْمَقْصُودَة محدثة لم تكن على عهد النَّبِي ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا على عهد الْخُلَفَاء

بعده وانما أحدثها الْأُمَرَاء للخوف على أنفسهم فاتخاذها فِي الْجَوَامِع مَكْرُوه انْتهى وَلابْن الْحَاج فِي مدخله مُبَالغَة فِي تَقْرِير تِلْكَ الْكَرَاهَة بِمَا عدد من مفاسد اتخاذها قلت وَيظْهر الْآن أَن الْخَوْف الَّذِي علل بِهِ الْأَحْدَاث ينْهض فِي رفع الْكَرَاهَة لما ينشأ عَن تحَققه من الْمَفَاسِد الْعِظَام لَا سِيمَا أَن صَحَّ النَّقْل عَن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ فَفِيهِ مَعَ ذَلِك اسوة إِذْ هُوَ صَحَابِيّ كريم مشهود لَهُ عَنهُ أهل السّنة باستمراره بعد رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا كَانَ عَلَيْهِ من فَضِيلَة الصُّحْبَة والسابقة وَتلك الْمَفَاسِد لَا تقاوم ضَرَر عدم اتخاذها حَيْثُ يتَوَقَّع ولبيانه مَحل آخر الْخَامِس إِذا كَانَت هَذِه الْمَقْصُورَة مُبَاحَة لكل النَّاس فِي الصَّفّ الأول مَا بداخلها ملاصقا لمقام الْأَمَام وان كَانَت غير مُبَاحَة فَهُوَ مَا وَرَاءَهَا واليا جوارها روى عَن مَالك رَحمَه الله تَعَالَى قلت وعَلى الِاخْتِيَار جَوَاز اتخاذها لما اشير اليه وان الْحَائِل إِذا انْقَطع بِهِ الصَّفّ حَالَة الضَّرُورَة لَا يضر بالصف الأول مَا يَلِي الْأَمَام داخلها وَقد نقل النَّوَوِيّ عَن الشَّافِعِيَّة انه مَذْهَب الْمُحَقِّقين وَمُقْتَضى الظَّوَاهِر

قلت ولوضع اتخاذها صور مُتعَدِّدَة لخلاف فِيهَا الْبَحْث بِاعْتِبَار هَذَا الْمقَام لتقريره مَحل آخر وَالله تَعَالَى اعْلَم الشارة الثَّامِنَة الدُّعَاء فِي الْخطْبَة وَقد تقدم لِابْنِ خلدون انه من شارات الْملك الإسلامي وللكلام فِيهِ مجالان المجال الأول مَا تَقْتَضِيه مَذَاهِب الْملك فِيهِ وَالْوَاقِع مِنْهُ بِحَسب تلون الْحَالة أُمُور أَحدهَا إحداثه عِنْد حُصُول الابهة وَوُجُود الْمَانِع من ولَايَة صَلَاة السُّلْطَان بِنَفسِهِ فيشيد بِذكرِهِ الْخَطِيب النَّائِب عَنهُ تنويها باسمه ودعى لَهُ بِمَا جعل الله تَعَالَى مصلحَة الْعَالم فِيهَا كَمَا تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ خُصُوصا فِي تِلْكَ السَّاعَة الَّتِي هِيَ مَظَنَّة الْإِجَابَة الثَّانِي فِي مُشَاركَة الْخَلِيفَة فِيهِ عِنْد الاستبداد عَلَيْهِ فيدعى لَهُ أَولا ثمَّ للمتغلب عَلَيْهِ بعده قَالَ ابْن خلدون وَذهب ذَلِك بذهاب تِلْكَ الدول وَصَارَ الْأَمر إِلَى اخْتِصَاص السُّلْطَان بِالدُّعَاءِ لَهُ دون من سواهُ الثَّالِث غَفلَة بداية الدولة أَولا لخشونة بداوتها عَن تعْيين الْمَدْعُو لَهُ اقتناعا بِالدُّعَاءِ الْمُبْهم لمن ولى أَمر الْمُسلمين قَالَ ابْن خلدون ويسمون مثل هَذِه الْخطْبَة عباسية يعنون بهَا أَن الدُّعَاء على الأجمال إِنَّمَا يتَنَاوَل العباسي تقليدا فِي ذَلِك لمن سلف وَلَا يحلفُونَ بِمَا وَرَاء ذَلِك من تَعْيِينه وَالتَّصْرِيح باسمه فَإِذا انْتَهَت عُيُون سياستهم ونظروا فِي أعطاف ملكهم طالبوا بِالتَّعْيِينِ وَالتَّصْرِيح وَلم يقنعوا بتعميمه الْإِبْهَام

الرَّابِع اذعان الدولة المغلوبة للإفصاح باسم غالبها إِمَّا فِي بدايتها أَو عِنْدَمَا يُدْرِكهَا كَمَا يَحْكِي أَن يَعْقُوب بن عبد الْحق مَا هد دولة بني مرين حَضَره رَسُول الْمُسْتَنْصر من بني أبي حَفْص وتخلف فِي بعض أَيَّامه عَن شُهُود الْجُمُعَة فَقيل لَهُ لما لم يحضر هَذَا الرَّسُول فَقَالَ لخلو الْخطْبَة من ذكر سُلْطَانه فَأذن فِي الدُّعَاء لَهُ وَكَانَ ذَلِك سَببا لاخذهم بدعوته وكما يَحْكِي أَن يغمر اسن بن زيان مَا هد دولة

بني عبد الواد لما غَلبه الْأَمِير أَبُو زَكَرِيَّا ابْن أبي حَفْص على تلمسان ثمَّ بدا لَهُ فِي اعادة الْأَمر اليه على شُرُوط من جُمْلَتهَا ذكر اسْمه على مَنَابِر سَائِر عمله فَقَالَ هِيَ أعوادهم يذكرُونَ علها من شاؤا وَقلت وشاهدت بتلمسان وَبَعض اعمالها لهَذَا الْعَهْد تَصْرِيح الْخَطِيب بأسم السُّلْطَان أبي عَمْرو عُثْمَان صَاحب تونس مقدما فِي الذّكر على اسْم صَاحب تلمسان السُّلْطَان أبي عبد الله من اعقاب بني زيان لما بَينهمَا من الشُّرُوط فِي ذَلِك انعطاف فَإِذا اسْتَقَلت الجولة بِنَفسِهَا وقويت على شَأْنهَا استنكف حِينَئِذٍ صَاحبهَا من مثلذلك وافراد الدُّعَاء لنَفسِهِ وَتجَاوز فِي التنويه باسمه إِلَى الْغَايَة قَالَ ابْن خلدون والعالم بُسْتَان وَالله على كل شَيْء قدير المجال الثَّانِي مَا تَقْتَضِي بِهِ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَلَا تَخْلُو من حالتين

أَحدهمَا أَن يفعل فِي بعض الاوقات لمعارض يتَأَكَّد عِنْده وَلَا اشكال حِينَئِذٍ فِي مشروعيته وَتوجه الْأَمر بِهِ وَعَلِيهِ يتنزل قَول ابْن خلدون أَن أول من دَعَا للخليفة فِي الْخطْبَة ابْن عَبَّاس دَعَا لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُمَا فِي حطبته وَهُوَ عَامل لَهُ على الْبَصْرَة فَقَالَ اللَّهُمَّ انصر عليا على الْحق لانه اصل لما اتَّصل بِهِ الْعَمَل من ذَلِك دَائِما الثَّانِيَة أَن يلْتَزم فِي الْخطْبَة التنويه بمقام الْملك واشادة باسم الْقَائِم بِهِ وَفِيه تَعَارَضَت انظار الشُّيُوخ فَمن مُنكر لَهُ وحاكم عَلَيْهِ بالبدعة لعدم الْعَمَل عِنْد الْأَوَّلين كالشيخ عز الدّين وَمن تبعه وَمن مصوب وَمن مُعْتَقد لاستحسانه لدلَالَة اسْتِمْرَار الْعَمَل بِهِ عِنْده على أَن لَهُ أصلا صَحِيحا كالأستاذ أبي سعيد وَغَيره وَمن قَائِل برجحانه ووجوبه بعد الْأَحْدَاث ومصير تَركه خُفْيَة اعْتِقَاد السُّلْطَان فِي الْخَطِيب مَا تخشى غائلته كالشيخ ابْن عَرَفَة فِيمَا اجاب بِهِ عِنْد استطلاع مَا عِنْده فِي ذَلِك ولتمام الْبَحْث فِيهِ مقَام آخر الْتِفَات هَذَا النّظر إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يكون الدُّعَاء مُجَردا عَن الغلو فِي الثَّنَاء المفرط والمدح الْكَاذِب فان اقْترن ذَلِك بذلك كَمَا فِي بعض الدول فمعظم الشُّيُوخ على الْإِنْكَار واوجبوا عِنْده اعْتِقَاد أَمريْن أَحدهَا عدم نفع الدُّعَاء لسوء الْأَدَب فِيهِ قَالَ الشَّيْخ عز الدّين فِي تَقْرِيره فان من عَاق من سَيّده عَاص لَهُ بمخالفة آمره قَائِلا فِي شَفَاعَته اكرم عَبدك الْمُطِيع لأمرك العاكف على خدمتك كَانَ عِنْد السَّيِّد كَاذِبًا جَدِيرًا بَان لَا تقبل شَفَاعَته الثَّانِي عدم وجوب الأنصاف الْمَطْلُوب فِي الْخطْبَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ رَأَيْت الزهاد بِمَدِينَة السَّلَام والكوفة إِذْ بلغ الْأَمَام إِلَى الدُّعَاء أهل الدُّنْيَا قَامُوا فصلوا ورايتهم أَيْضا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ جلسائهم فِيمَا يَحْتَاجُونَ اليه من

أَحدهمَا أَن يفعل فِي بعض الاوقات لمعارض يتَأَكَّد عِنْده عِنْده وَلَا اشكال حِينَئِذٍ فِي مشروعيته وَتوجه الْأَمر بِهِ وَعَلِيهِ يتنزل قَول ابْن خلدون أَن أول من دَعَا للخليفة فِي الْخطْبَة ابْن عَبَّاس دَعَا لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُمَا فِي خطبَته وَهُوَ عَامل لَهُ على الْبَصْرَة فَقَالَ اللَّهُمَّ انصر عليا على الْحق لانه اصل لما اتَّصل بِهِ الْعَمَل من ذَلِك دَائِما الثَّانِيَة أَن يلْتَزم فِي الْخطْبَة التنويه بمقام الْملك واشادة باسم الْقَائِم بِهِ وَفِيه تَعَارَضَت انظار الشُّيُوخ فَمن مُنكر لَهُ وحاكم عَلَيْهِ بالبدعة لعدم الْعَمَل عِنْد الْأَوَّلين كالشيخ عز الدّين وَمن تبعه وَمن مصوب وَمن مُعْتَقد لاستحسانه لدلَالَة اسْتِمْرَار الْعَمَل بِهِ عِنْده على أَن أصلا صَحِيح كالأستاذ أبي سعيد غَيره وَمن قَائِل برجحانه ووجوبه بعد الْأَحْدَاث ومصير تَركه خُفْيَة اعْتِقَاد السُّلْطَان فِي الْخَطِيب مَا تخشى غائلته كالشيخ ابْن عَرَفَة فِيمَا اجاب بِهِ عِنْد استطلاع مَا عندع فِي ذَلِك ولتمام الْبَحْث فِيهِ مقَام آخر الْتِفَات هَذَا النّظر انا هُوَ حَيْثُ يكون الدُّعَاء مُجَردا عَن الغلو فِي الثَّنَاء المفرط والمدح الْكَاذِب فان اقْترن ذَلِك بذلك كَمَا فِي بعض الدول فمعظم الشُّيُوخ على الْإِنْكَار واوجبوا عِنْده اعْتِقَاد أَمريْن أَحدهَا عدم نفع الدُّعَاء لسوء الْأَدَب فِيهِ قَالَ الشَّيْخ عز الدّين فِي تَقْرِيره فان من شفع فِي عَاق من سَيّده عَاص لَهُ بمخالفة آمره قَائِلا فِي شَفَاعَته اكرم عَبدك الْمُطِيع لأمرك العاكف على خدمتك كَانَ عِنْد السَّيِّد كَاذِبًا جَدِيرًا بَان لَا تقبل شَفَاعَته الثَّانِي عدم وجوب الْإِنْصَات الْمَطْلُوب فِي الْخطْبَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ رَأَيْت الزهاد بِمَدِينَة السَّلَام والكوفة إِذا بلغ الْأَمَام إِلَى الدُّعَاء أهل الدُّنْيَا قَامُوا فصلوا ورأيتهم أَيْضا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ جلسائهم فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من

امورهم أَو فِي عَلَيْهِم وَلَا يصغون حِينَئِذٍ لانهم عِنْدهم لَغْو فلاا يلْزم استماعهم لَا سِيمَا وَبَعض الخطباء يكذبُون انْتهى قلت وَمَا ابدع مَا للمقري فِي ذَلِك قَالَ فِي التحف والطرف لَهُ سَمِعت الْعَلامَة أَبَا زيد ابْن الْأَمَام يَقُول فِي تَفْسِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْمُوَطَّأ إِذا قلت لصحابك انصت والامام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة فقد لغوت إِذا اخذ فِي الثَّنَاء على السُّلْطَان جَازَ الْكَلَام وارتفع وجوب الْإِنْصَات لانه فِي هَذِه الْحَالة يمدح وَلَا يخْطب فَهُوَ بَان يحثى التُّرَاب فِي وَجهه اولى مِنْهُ بَان يستمع لقَوْله قَالَ فاستحسنت هَذَا من رَأْيه فَقلت الغالي اولى بَان يكون هُوَ الدَّاعِي فعلى من مر بِهِ أَن يمر كَرِيمًا وَمن حَضَره أَن يعرض عَنهُ تبرءا وتسليما قَالَ الله عز وَجل {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} وَقَالَ {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ} وَقَالُوا {لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم سَلام عَلَيْكُم لَا نبتغي الْجَاهِلين} الْمَسْأَلَة اللقب الْخَاص يصاحب الدولة وَقد زعم ابْن الْعَرَبِيّ

الْحَاتِمِي أَن الْحِكْمَة الإلهية جرت فِي الْعَالم باختصاص الْخَلِيفَة باسم ينْفَرد بِهِ بِحَيْثُ إِذا اطلق لَا يفهم مِنْهُ غَيره ثمَّ لَا عَلَيْهِ فِي الِاشْتِرَاك فِي بَقِيَّة اسمائه تأسيا بِمن اسْتَخْلَفَهُ وَهُوَ الله تَعَالَى فانه خَاص باسم الألوهية فَإِذا قيل الله لم يفهم مِنْهُ سواهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى قلت هُوَ معنى مَا نسب لارسطو يجب على الْملك أَن يخْتَص باسم علم مَشْهُور يشرف على من سواهُ لانه علم يشار إِلَيْهِ وغرض يقْصد نَحوه وَقَول ابْن الْعَرَبِيّ تأسيا بِمن اسْتَخْلَفَهُ فِي معنى اطلاق التخلق بِهِ لَا سِيمَا الألوهية وَفِي ذَلِك كَلَام الشُّيُوخ مُقَرر فِي موَاضعه إِذا تقرر هَذَا فقد تحيروا من ذَلِك فِي الدولة الاسلامية بِحَسب التدريج فِي الْمُقْتَضِي لَهُ القابا جملَة اللقب الأول خَليفَة رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمى بذلك أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ لما بُويِعَ بعد وَفَاة رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يزل الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن توفى رَضِي الله عَنهُ اقتناعا بِهِ واقتصارا على شرف غَايَته فَلَقَد قيل لَهُ رَضِي الله عَنهُ يَا خَليفَة الله فَقَالَ لست بخليفة الله وَلَكِنِّي خَليفَة رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت من هُنَاكَ قَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي إِلَّا يُقَال خَليفَة الله بل يُقَال الْخَلِيفَة وَخَلِيفَة رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وامير الْمُؤمنِينَ اللقب الثَّانِي امير الْمُؤمنِينَ وَفِيه كَلَام من وُجُوه أَحدهَا أَن أول من سمي بِهِ عمر رَضِي الله عَنهُ لما بُويِعَ بعد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ استثقالا بِكَثْرَة الاضافات فِي قَوْلهم لَهُ قبل ذَلِك خَليفَة خَليفَة

رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُصُوصا عِنْد تزايد ذَلِك دَائِما إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى الهجنة وَيذْهب مِنْهُ إِلَى التَّمْيِيز بِتَعَدُّد الاضافات فعدلوا عَنهُ إِلَى مَا يُنَاسِبه ويدعى بِهِ مثله الثَّانِي ذكر الشَّيْخ أَبُو عمر فِي التَّسْمِيَة بِهِ علتين إِحْدَاهمَا مَا اشير إِلَيْهِ من كَرَاهِيَة الاستثقال حَيْثُ قَالَ قَالَ عمر كَانَ أَبُو بكر يُقَال لَهُ خَليفَة رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف يُقَال لي خَليفَة خلفية رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطول هَذَا فَقَالَ لَهُ الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَنْت اميرنا وَنحن الْمُؤْمِنُونَ فَأَنت امير الْمُؤمنِينَ قَالَ فَذَاك إِذا الثَّانِيَة أَن لبيد بن ربيعَة وعدى بن حَاتِم قدما إِلَى الْمَدِينَة وأناخا راحلتيهما بِفنَاء الْمَسْجِد ثمَّ دخلا فَإِذا بهما بِعَمْرو بن الْعَاصِ فَقَالَا لَهُ اسْتَأْذن لنا على امير الْمُؤمنِينَ يَا عَمْرو فَقَالَ عمروا انتما وَالله أصبْتُمَا اسْمه نَحن الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ اميرنا فَوَثَبَ عَمْرو فَدخل على عمر فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا امير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ عمر مَا بداك فِي هَذَا الِاسْم يعلم الله لتخْرجن مِمَّا قلت قَالَ أَن لبيد بن ربيعَة وعدى بن حَاتِم قدما فأناخا راحلتيهما بِفنَاء الْمَسْجِد ثمَّ دخلا وَقَالا لي اسْتَأْذن لنا يَا عَمْرو على امير الْمُؤمنِينَ فهما وَالله اصابا اسْمك أَنْت الْأَمِير وَنحن الْمُؤْمِنُونَ فَجرى الْأَمر

على ذَلِك اعْتِبَار بسابقة عناية يروي انه رَضِي الله عَنهُ خرج إِلَى الْمَسْجِد وَمَعَهُ الْجَارُود الْعَبْدي فَإِذا يامرأة على الطَّرِيق فَسلم عَلَيْهَا فَردَّتْ عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ قَالَت هيه يَا عمر عهدتك وَأَنت تسمى عُمَيْرًا فِي سوق عكاظ تقارع الصّبيان فَلم تذْهب الْأَيَّام حَتَّى سميت امير الْمُؤمنِينَ فَاتق الله فِي الرّعية وَاعْلَم أَن من خَان الْوَعيد قرب مِنْهُ الْبعيد وَمن خَافَ الْمَوْت خشِي الْفَوْت فَبكى طَويلا فَقَالَ لَهَا الْجَارُود قد ابكيت امير الْمُؤمنِينَ واكثرت فَقَالَ عمر دعها أَو مَا تعرفها هَذِه خَوْلَة بنت حَكِيم امْرَأَة عبَادَة بن الصَّامِت الَّتِي سمع الله قَوْلهَا من سمائه فعمر اجدر أَن يسمع قَوْلهَا

الثَّالِثَة بعد اسْتِقْرَار تَسْمِيَة الْخُلَفَاء بِهَذَا اللقب افردوا بِهِ قَدِيما من ملك الْحجاز وَالشَّام وَالْعراق والمواطن الَّتِي هِيَ ديار الْعَرَب ومراكز الدولة ومادة الْملك وَالْفَتْح وَسلم لَهُم ذَلِك إِلَى أَن أدْرك الْهَرم الدولة هُنَاكَ وَاسْتولى عَلَيْهَا الاستبداد وَالْجهل فانقسمت دولة القاصية إِذْ ذَاك فرْقَتَيْن أَحدهمَا من بَقِي على هَذَا التَّسْلِيم تواضعا مَعَهم فِي الْعُدُول إِلَى نعت آخر كَمَا يَحْكِي عَن يُوسُف بن تاشفين ملك لمتونة انه لما ملك العدوتين اجْتمع إِلَيْهِ اشياخ الْقَبَائِل وَقَالُوا أَنْت الْخَلِيفَة على الْمغرب وحقك الْيَوْم أَن تدعى الْأَمِير بل ندعوك يَا امير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ لَهُم حاشى الله أَن تتسمى بِهَذَا الِاسْم إِنَّمَا يتسمى بِهِ ويستحقه خلفاء بني الْعَبَّاس وَأَنا رجلهم والقائم بدعوتهم فِي بِلَاد الْمغرب فَقَالُوا لَهُ لَا بُد لَك من اسْم تمتاز بِهِ عَن امراء الْقَبَائِل فتسمى بأمير الْمُسلمين وَقيل خاطبه بِهِ المستظهر بِاللَّه العباسي فِي التَّقْلِيد الَّذِي رَجَعَ بِهِ إِلَيْهِ الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ وَابْنه القَاضِي أَبُو بكر من مشيخة اشبيلية بعد أَن اوفدهما على المستظهر ببيعته فاتخذه لقبا يخْتَص بِهِ قلت ورد عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك القَاضِي أَبُو بكر بكتابين من الشَّيْخَيْنِ الْإِمَامَيْنِ أبي حَامِد الْغَزالِيّ وَأبي بكر الطرطوشي بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالْوَصِيَّة بِالْمُسْلِمين الثَّانِيَة من شمخ بانفه عَن هَذَا التَّسْلِيم لما ثَبت لَدَيْهِ من ضعف الْخلَافَة بالمشرق وَلما رأى فِي نَفسه من اسْتِحْقَاق الْمُشَاركَة فِي ذَلِك كَمَا اتّفق لعبد الرَّحْمَن النَّاصِر من خلفاء الأموية بالأندلس بعد مُضِيّ مُدَّة من ولَايَته

فعهد إِلَى الْخَطِيب بقرطبة أَن يخْطب بِهِ وانفذ الْكتب إِلَى الْعمَّال بِمَا نَصه إِمَّا بعد فَأَنا احق من استوفى حَقه واجدر من اسْتكْمل خطه الَّذِي فضلنَا الله بِهِ واظهر أثرنا فِيهِ وَرفع سلطاننا إِلَيْهِ وَيسر على أَيْدِينَا إِدْرَاكه وَسَهل بدولتنا مرامه وَالَّذِي أشاد فِي الأفاق من ذكرنَا وعلو امرنا والعن من رَجَاء الْعَالمين بِنَا وَأعَاد من انحرافهم إِلَيْنَا واتبشارهم بدولتنا وَالْحَمْد الله ولي النِّعْمَة والانعام بِمَا انْعمْ بِهِ واهدى الْفضل بِمَا تفضل علينا فِيهِ وَقد رَأينَا أَن تكون الدعْوَة لنا بأمير الْمُؤمنِينَ وَخُرُوج الْكتب عَنَّا وورودها علينا بذلك إِذا كل مدعُو بِهَذَا الِاسْم غَيرنَا منتحل لَهُ ودخيل فِيهِ ومتسم بِمَا لَا يسْتَحقّهُ وَعلمنَا أَن التمادى على ترك الْوَاجِب لنا من ذَلِك حق اضعناه وَاسم لَا يسْتَحقّهُ علمنَا أَن التَّمَادِي على ترك الْوَاجِب لنا من ذَلِك حق أضعناه وَاسم ثَابت استقطناه أَمر الْخَطِيب بموضعك أَن يَقُول بِهِ واجر مخاطبتك لنا عَلَيْهِ أَن شَاءَ الله وَالله الْمُسْتَعَان فَائِدَة قَالَ الْبَغَوِيّ لَا بَأْس أَن يُسمى بِأَمْر الْمُسلمين امير الْمُؤمنِينَ والخليفة وان كَانَ مُخَالفا لسيرة امة الْعدْل لقِيَامه بِأَمْر الْمُؤمنِينَ وَسمع الْمُؤمنِينَ ة لَهُ اللقب الثَّالِث الاوصاف الْجَارِيَة الِاسْم الْعلم مُبَالغَة فِي التَّعْظِيم واحرازا لتمييز الْخُلَفَاء بهَا بَعضهم عَن بعض لما فِي امير الْمُؤمنِينَ من الِاشْتِرَاك كالسفاح والمنصور وَالْهَادِي وَالْمهْدِي والرشيد وَمَا فِي معنى ذَلِك وَأول من فتح الْبَاب بَنو الْعَبَّاس من لدن بلوغهم الْغَايَة فِي بذخ الْملك إِلَى آخر أَمرهم واقتفى أثارهم فِيهِ العبيديون بأفريقية ومصر وتجافي عَنهُ بَنو

أُميَّة بالمشرق أول جَريا مَعَ سذاجة وَلم يفارقوا منازعها وبالأندلس ثَانِيًا تقليدا لسلفهم مَعَ الْقُصُور عَن ذَلِك لتخلفهم عَن ملك قطر الْخلَافَة الَّتِي هِيَ مَرْكَز العصبية إِلَى أَن جَاءَ النَّاصِر مِنْهُم فَزَاد على تَسْمِيَته بأمير الْمُؤمنِينَ على مَا تقدّمت الْحِكَايَة عَنهُ أَن يلقب بالناصر لدين اله وَاسْتمرّ مثله فِيمَن بعده سَائِر دولتهم وَعند انتساخها بدول الطوائف اقتسموا تِلْكَ الألقاب وتوزعوها لقُوَّة استبدادهم فتقلبوا مِنْهَا بِمَا بِمَا شاؤوا كَمَا قَالَ ابْن شرف ناعبا عَلَيْهِم ذَلِك (مِمَّا يزهدني فِي ارْض أتدلس ... أَسمَاء مُعْتَمد فِيهَا ومعتضد) (ألقاب مملكة فِي غير موضعهَا ... كالهر يَحْكِي انتفاخا صولة الْأسد) اللقب الرَّابِع الْأَمِير كَانُوا فِي صدر الْإِسْلَام يسمون بِهِ قواد الْبعُوث وَهُوَ فعيل من أَمر قَالَ ابْن خلدون وَكَانَ الْجَاهِلِيَّة يدعونَ عَلَيْهِ ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امير مَكَّة وامير الْحجاز قلت ثمَّ اقْتصر عَلَيْهِ كثير مِمَّن اسْتَقل بِالْملكِ تلقيبا أَو واثة إِلَى أَن بلغُوا الْغَايَة الَّتِي هِيَ

قُوَّة دولتهم فَعِنْدَ ذَلِك انتقلوا إِلَى الألقاب الْخَاصَّة بِالْملكِ كَمَا تقدم عَن يُوسُف بن تاشفين فِي انْتِقَاله إِلَى التَّسْمِيَة بأمير الْمُسلمين فَائِدَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ سمي بالأمير وَلم يسم بالناهي لَان الْأَمر سبق فِينَا قبل النَّهْي فان الله أَمر إِبْلِيس بِالسُّجُود لادم قبل أَن ينهاه عَن الشَّجَرَة فَوَقع الِابْتِلَاء بِالْأَمر قبل النَّهْي فَلَا جلّ ذَلِك قدم عَلَيْهِ فِي الذّكر الشَّجَرَة اللقب الْخَامِس امير الْمُسلمين دعِي بذلك سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ لإمارته على جَيش الْقَادِسِيَّة وهم مُعظم الْمُسلمين يَوْمئِذٍ قلت وَعَلِيهِ اقْتصر هَؤُلَاءِ الْمُلُوك النصريون إِلَى هَذَا الْعَهْد ايدهم الله ونصرهم واوائل زنانة بالمغرب اللقب السَّادِس الألقاب الخلصة بالمتغلبين على الدول تَشْرِيفًا لَهُم عَمَّن غلبوه على الْأَمر واشعارا بِحسن وَلَا يهتم لَهُ وهم فِي ذَلِك فرقتان أَحدهمَا الواقفون عِنْد هَذَا الْحَد كملوك عجم الْمشرق فِي تَسْمِيَة الْخُلَفَاء المتغلبين بشرف الدولة ونظام الْملك وبهاء الْملك وَنَحْو ذَلِك الثَّانِيَة المتجاوزون إِلَى مَا وَرَاء الْغَايَة من ذَلِك فِي انتحال مَا هُوَ خَاص بِالْملكِ اشعارا بِالْخرُوجِ عَن ربقة الاصطناع حَيْثُ أضافوها إِلَى الدّين فَقَط كصلاح الدّين وَنور الدّين وَنَحْو ذَلِك وهم الْمُتَأَخّرُونَ مِنْهُم لما قوى استبدادهم وتلاشت بهم عصبية الْخلَافَة اللقب السَّابِع الْأَمَام الْمَعْصُوم تسمى بذلك مهْدي الْمُوَحِّدين لامرين بِإِحْدَاهُمَا اعْتِقَاد رَأْي الشِّيعَة فِي وجوب نصب امام مَعْصُوم يحفظ

بِهِ نظام الْعَالم فِي كل زمَان الثَّانِي الترفع عِنْد اتِّبَاعه عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لما فِيهَا من مُشَاركَة الْوَالِدَان من اعقاب أهل الْخلَافَة يَوْمئِذٍ شرقا وغربا كَذَا قرر ابْن خلدون قَالَ ثمَّ انتحل ولي عَهده عبد الْمُؤمن اللقب بأمير الْمُؤمنِينَ وَجرى عَلَيْهِ أعقابه من بعده وَال بِي حَفْص من بعدهمْ استئثارا بِهِ عَمَّن سواهُم لوراثتهم مَا جَاءَ بِهِ أمامهم ولذهاب عصبية قُرَيْش وتلاشيها فَكَانَ ذَلِك دأبهم قلت والى الْآن فِي آل أبي حَفْص وَالله يمد من يَشَاء بعونه الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن المتغلبين على السُّلْطَان لَا يشاركونه فِي اللقب الْخَاص لامرين أَحدهَا أَن المتغلب لَا صبغة فل فِي الْملك كَمَا فِي السُّلْطَان الْمُنْفَرد بهَا من أول الدولة بِمَا كَانَ لَهُ من العصبية الْحَاصِل بهَا الغلب أَولا وَبِمَا بَقِي مِنْهَا حَافِظًا لدوام الدولة وشاملا لعصبية من تغلب عَلَيْهِ الثَّانِي انه لَا يحاول باستبداده انتزاع الْملك ظَاهرا بل ثَمَرَته من الْأَمر وَالنَّهْي والحل وَالْعقد موهما انه متصرف عَن سُلْطَانه منفذ من وَرَاء الْحجاب لاحكامه فَلذَلِك يتجافى عَن سمات الْملك والقابه جهده وَيبعد نَفسه عَن التُّهْمَة بذلك وَمَتى تجاسر على التَّعَرُّض بِشَيْء مِنْهُ هلك لاول وهلة موعظة قَالَ ابْن خلدون وَقد وَقع مثل هَذَا لعبد الرَّحْمَن بن الْمَنْصُور بن أبي عَامر حِين سما إِلَى مُشَاركَة هِشَام وَأهل بَيته فِي لقب الْخلَافَة وَلم يقنع بِمَا قنع أَبوهُ واخوه من الاستبداد بِالْحلِّ وَالْعقد فَطلب من هِشَام الْخَلِيفَة أَن يعْهَد لَهُ بالخلافة فَنَفْس ذَلِك عَلَيْهِ بَنو مَرْوَان

وَسَائِر قُرَيْش وَبَايَعُوا لِابْنِ عَم الْخَلِيفَة هِشَام بن مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْجَبَّار وَخَرجُوا عَلَيْهِم وَكَانَ فِي ذَلِك خراب الدولة العامرين وهلاك خليفتهم وَالله خير الْوَارِثين المسالة السَّابِعَة تفَاوت الموَالِي والمصطنعين بتفاوت قديمهم وحديثهم فِي الالتحام بِصَاحِب الدولة وَسَببه أَن الْمَقْصُود من مُوَافقَة العصبية ومغالبتها لَا يتم إِلَّا بِالنّسَبِ لما تقدم وَالْولَايَة بِالْوَلَاءِ أَو الْحلف بتنزل مَنْزِلَته لانه وان كَانَ طبيعيا فَإِنَّمَا هُوَ وهمي وَالْمعْنَى الَّذِي بِهِ الالتحام إِنَّمَا هُوَ الْعشْرَة وَطول الصُّحْبَة بالمربى وَالرّضَاع وَسَائِر احوال الْمَوْت والحياة وَإِذا حصل الإلتحام بذلك جَاءَت النعرة والمناصرة كَمَا هُوَ مشَاهد وَمثله حَاصِل فِي الاصطناع فانه يحدث بَين المصطنع وَمن اصطنعه نِسْبَة خَالِصَة من الوصلة تنزل هَذِه الْمنزلَة وان لم يكن بِنسَب فثمرات النّسَب إِذا مَوْجُودَة وَإِذا تقرر هَذَا فالولاية بَين الْقَبِيل وَبَين أَوْلِيَائِهِمْ مَتى سبقت حُصُول الْملك كَانَت عقائدها اصح لامرين أَحدهمَا انهم قبل الْملك اسوة لَا يتَمَيَّز النّسَب عَن الْولَايَة إِلَّا عِنْد الاقل مِنْهُم فيتنزلون مِنْهُم منزلَة ذَوي الْقُرْبَى وَإِذا اصطنعوهم بعده كَانَت مرتبته مُمَيزَة للسَّيِّد عَن الْمولى ولاهل الْقَرَابَة عَن أهل الْولَايَة والاصطناع لما تَقْتَضِيه احوال الرياسة من ذَلِك فتميز حَالهم ويتنزلون منزلَة الاجانب

فيضعف الالتحام الَّذِي بِهِ التناصر وَذَلِكَ انقص من الاصطناع قبل الْملك الثَّانِي أَن الاصطناع قبل الْملك يخفي شَأْن تِلْكَ اللحمة بطول الزَّمَان ويظن بِهِ فِي الاكثر النّسَب فتقوى العصبية وَلَا كَذَلِك يعده لقرب الْعَهْد واستواء الاكثر فِي مَعْرفَته فَلَا جرم يتَمَيَّز عَن النّسَب وتضعف العصبية بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قبل الدولة شَهَادَة عيان قَالَ ابْن خلدون فَاعْتبر ذَلِك فِي الدول والرياسات تَجدهُ فَكل من كَانَ اصطناعه قبل الْملك والرياسة المصطنعة تنزل بِهِ لشدَّة التحامه بِهِ منزلَة ابنائه وَذَوي رَحمَه وَمن كَانَ اصطناعه بعد لَا يكون لَهُ من اللحمة مَا للأولين قَالَ هَذَا مشَاهد بالعيان حَتَّى أَن الدولة فِي آخر امرها ترجح إِلَى اصطناع الْأَجَانِب فَلَا يبْنى لَهُم مجد كَمَا للمصطنعين قبلهَا لقرب الْعَهْد حِينَئِذٍ بأوليتهم ومشارفة الدولة على الانقراض فيكونون منحطين فِي مهاوي الضعة اعلام قَالَ وانما يحمل صَاحب الدولة على إِلَيْهِم فِي الاصطناع مَا يعترى فِي نفوس الصَّنَائِع الْأَوَّلين من التعزز عَلَيْهِ وَقلة الخضوع لَهُ وَنَظره بِمَا ينظر إِلَيْهِ أهل نِسْبَة لتأكد اللحمة مُنْذُ الاعصار المتطاولة بالمربى والانتصار بسلفه والانتظام مَعَ كبراء أهل بَيته فينافرهم لما يحصل بذلك من الدَّالَّة والاعتزاز عَلَيْهِ ويعدل عَنْهُم إِلَى اسْتِعْمَال سواهُم وَيكون عِنْد اتخلاصهم قَرِيبا فَلَا يبلغون رتب الْمجد ويبقون على حَالهم وَهَكَذَا شَأْن الدول فِي أواخرها

قَالَ واكثر مَا يُطلق اسْم الصَّنَائِع والاولياء على الْأَوَّلين واما هَؤُلَاءِ المحدثون فخدم واعوان وَالله ولي الْمُؤمنِينَ المسالة الثَّامِنَة تفوت مَرَاتِب صَاحب السَّيْف والقلم لَا خَفَاء أَن السَّيْف والقلم كِلَاهُمَا الة عظمى للسُّلْطَان فِي الِاسْتِعَانَة بهما على آمره إِلَّا انه مَتى اشتدت الْحَاجة الو وَاحِد مِنْهُمَا اكثر من الآخر فرتبة صَاحبه هِيَ الْمُقدمَة امام السَّيْف فَفِي حالتين أَحدهمَا أول الدولة لِأَنَّهَا لَا تتمهد إِذْ ذَاك إِلَّا بِصدق الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيم لغناء المعونة بِهِ والاستظهار واين هَذَا من مرتبَة الْقَلَم الَّذِي غَايَته إِذْ ذَاك أَن يكون خَادِمًا فَقَط الثَّانِيَة آخر امرها لِأَنَّهَا وَالْحَالة تِلْكَ بِمَا نالها من الْهَرم بِضعْف العصبية وَقلة النَّاصِر تشتد حَاجَتهَا إِلَيْهِ فِي الدفاع بِهِ واكثر من الْقَلَم وَمَعْلُوم أَن رُتْبَة من يحْتَاج إِلَيْهِ اكثر فَوق رُتْبَة من الْحَاجة إِلَيْهِ دون ذَلِك ولاجله يكون ارباب السيوف فِي الْحَالَتَيْنِ اوسع جاها واكثر نعْمَة من أَصْحَاب الاقلام واما الْقَلَم فَفِي وسط الدولة حَيْثُ يسْتَغْنى صَاحبهَا بعض الشَّيْء عَن السَّيْف لما تمهد من آمره وَمَا انْصَرف إِلَيْهِ همه من تَحْصِيل ثَمَرَات الْملك فِي ضبط الجباية وتنفيذ الْأَحْكَام والقلم هُوَ الْمعِين لَهُ فِي ذَلِك وَالْمُعْتَمد فِيهِ عَلَيْهِ فَفِي هَذِه الْحَالة الَّتِي اشتدت فِيهَا الْحَاجة إِلَيْهِ يكون أربابه أوسع جاها ونعمة واعلى رُتْبَة ومكانه واقرب من السُّلْطَان مَجْلِسا واكثر إِلَيْهِ ترددا وفيهَا يَسْتَغْنِي عَن الوزراء وَحَملَة السيوف ويبعدون عَن بَاطِن السُّلْطَان ويحذرون على أنفسهم من بوادره

وَهُوَ فِيمَا قرب من الأَرْض اكثر لانعكاس الاشعة من سطح الأَرْض بِمُقَابلَة الاضواء فتتضاعف الْحَرَارَة هُنَا لَا جلّ ذَلِك وَإِذا تجاوزن مطارح الاشعة المنعكسة فَلَا حر هُنَاكَ بل يكون فِيهِ الْبرد حَيْثُ مجالي السَّحَاب وَالشَّمْس فِي نَفسهَا لَا حارة وَلَا بَارِدَة إِذْ هِيَ جسم بسيط مضيء وَلَا مزاج لَهُ قَالَ وعوج بن عنَاق هُوَ من العمالقة أَو من الكنعانيين الَّذين كَانُوا فريسة بني اسرائيل عِنْد فتحهم الشَّام واطوال بني اسرائيل وجثمانهم لذَلِك الْعَهْد قريب من هياكله يشْهد بذلك ابواب بَيت الْمُقَدّس فَإِنَّهَا وان خربَتْ وجددت لم تزل الْمُحَافظَة على اشكالها ومقادير ابوابها وَكَيف يكون التَّفَاوُت بَين عوج وَبَين أهل عصره بِهَذَا الْمِقْدَار وانما شَأْن غلطهم فِي هَذَا انهم استعظموا اثار الامم وَلم يفهموا حَال الدول فِي الِاجْتِمَاع والتعاون وَمَا يحصل بذلك وبالهندام من الاثار الْعَظِيمَة فصرفوه إِلَى قُوَّة الْأَجْسَام وشدتها بِعظم هياكلها وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك التَّنْبِيه قَالَ زعم المَسْعُودِيّ نقلا عَن الفلاسفة أَن الطبيعة لما برأَ الله الْخلق كَانَت فِي نِهَايَة الْقُوَّة والكمال فَكَانَت الاعمار اطول والاجسام اقوى فان طرق الْمَوْت إِنَّمَا هُوَ بانحلال القوى الطبيعية فَإِذا كَانَت قَوِيَّة كَانَت الاعمار ازيد وعندما ادركها الضعْف بتناقض الْمَادَّة قصرت الاعمار وَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى وَقت الانحلال وانقراض الْعَالم

شَهَادَة قَالَ ابْن خلدون فِي معنى مَا كتب بِهِ أَبُو ملم للمنصور حِين آمره بالقدوم إِمَّا بعد فانه مِمَّا حفظناه من وَصَايَا الْفرس اخوف مَا يكون الوزراء إِذا سكت الدهماء سنة الله فِي عباده المسالة التَّاسِعَة انْتِقَال الدولة من البداوة إِلَى الحضارة وَذَلِكَ لانهما طوران طبيعيان للدول وطور البدواة مِنْهُمَا مُتَقَدم على طور الحضارة لَان الغلب الَّذِي بِهِ الْملك إِنَّمَا هُوَ بالعصبية وَمَا يتبعهَا من شدَّة الْبَأْس وتعود الافتراس وَلَا يكون ذَلِك غَالِبا إِلَّا مَعَ البدواة فطورها اذن مُتَقَدم على الْملك ثمَّ إِذا حصل الْملك تبعه الرفه واتساع الْأَحْوَال والحضارة إِنَّمَا هِيَ تفنن فِي ترف ذَلِك واحكام الصَّنَائِع المستعملة فِي مذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والانية على حسب مَا تنْزع إِلَيْهِ النُّفُوس من الشَّهَوَات والملاذ وَمَا تتلون بِهِ من العوائد فطورها إِذا للْملك تَابع لطور الحضارة ضَرُورَة تَبَعِيَّة الرفه للْملك إِذا تقرر هَذَا فهناك أُمُور أَحدهَا أَن هَذَا الِانْتِقَال هُوَ من الدول السالفة إِلَى الدول الخالفة فحضارة الْفرس قلا الْإِسْلَام انْتَقَلت للْعَرَب بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس وانتقلت حضارة بني أُميَّة بالأندلس إِلَى مُلُوك الْمغرب من الْمُوَحِّدين وزناتة وانتفلت حضارة بني الْعَبَّاس إِلَى الديلم ثمَّ إِلَى التّرْك السلجوقية ثمَّ إِلَى التّرْك المماليك بِمصْر والتتار بالعراقين الثَّانِي أَن الدولة الخالفة لمَكَان هَذَا الِانْتِقَال تقلد السالفة فِي مَذَاهِب الحضارة فَمنهمْ يَأْخُذُونَ وعَلى منوالهم ينسجون كَمَا وَقع للْعَرَب

لما ملكوا فَارس وَالروم وَلم يَكُونُوا لذَلِك الْعَهْد فِي شَيْء من الحضارة فقد قدم لَهُم الْمرْفق فحسبوه رِقَاعًا وعثروا على الكافور فِي خَزَائِن كسْرَى فاستعملوه فِي عجينهم ملحا وامثال ذَلِك فَلَمَّا استعبدوا اهل الدول قبلهم واستعلموهم فِي مهنهم وحاجات مَنَازِلهمْ واختاروا مِنْهُم المهرة فِي مثل ذَلِك والقومة عَلَيْهِ افادوفم علاجه وَالْقِيَام على التفنن فِيهِ فبلغوا الْغَايَة فِيهِ وتطوروا بطور الحضارة والترف فِي استجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والانية وَسَائِر الماعون والخرثى فَأتوا من ذَلِك بِمَا وَرَاء الْغَايَة فِي مثله الثَّالِث انه على قدر الدولة يكون شانها فِي الحضارة لَان أمورها من الترف والترف من تَوَابِع الثروة والثروة من تَوَابِع الْملك وَمِقْدَار مَا يستولي عَلَيْهِ أهل الجولة فعلى نِسْبَة الْملك يكون ذَلِك كُله الرَّابِع انه من افخم مَا جرى من ذَلِك على نِسْبَة الْملك فِي الدول الاسلامية مَا وَقع مِنْهُ فِي مقامين أَحدهَا الجوائز والاعطية بلغت فِي دولة بني الْعَبَّاس والعبيدين وَمن بعدهمْ مَا علم من أحمال المَال وتخوت الثِّيَاب واعداد الْخَيل بَعْدَمَا كَانَت أَيَّام بني أُميَّة الْإِبِل فِي الْأَكْثَر أخذا بمذاهب الْعَرَب وبدواتهم الثَّانِي الولائم والأعراس حُكيَ من ذَلِك فِي عرس الْمَأْمُون ببوران بنت الْحسن بن سهل مَا يَقْتَضِي مِنْهُ الْعجب كنثر أَبِيهَا يَوْم الْأَمْلَاك على الطَّبَقَة الأولى من حَاشِيَة الْمَأْمُون بَنَادِق الْمسك ملتوتة على الرّقاع

بالضياع وَالْعَقار مسوغة لمن حصلت فِي يَده بِمَا يَسُوقهُ إِلَيْهِ البخت من ذَلِك وعَلى الطَّبَقَة الثَّانِيَة بدر الدَّرَاهِم فِي كل بدرة عشرَة آلَاف وعَلى الثَّالِثَة بدر الدَّرَاهِم كَذَلِك بعد أَن انفق فِي مقَام الْمَأْمُون بداره اضعاف ذَلِك وكإعطاء الْمَأْمُون فِي مهرهَا لَيْلَة زفافها ألف حَصَاة من الْيَاقُوت وايقاد شموع العنبر فِي كل وَاحِدَة مِنْهَا مائَة من وَهُوَ رَطْل وَثُلُثَانِ وَبسطه الْفرش الَّتِي كَانَ الْحَصِير مِنْهَا منسوجا بِالذَّهَب مكللا بالدر والياقوت وَقَالَ الْمَأْمُون حِين رَآهُ قَاتل الله أَبَا نواس كَأَنَّهُ ابصر هَذَا حَيْثُ يَقُول فِي صفحة الْخمر (كَانَ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حَصْبَاء در على ارْض من الذَّهَب) واعداده بدار الطَّبْخ من الْحَطب لَيْلَة الْوَلِيمَة نقل مائَة واربعين واربعين بغلة عَاما كَامِلا ثَلَاث مَرَّات فِي كل يَوْم وفني لليلتين واوقدوا واربعين بغلة عَاما كَامِلا ثَلَاث مَرَّات فِي كل يَوْم وفني لليلتين واوقدوا الجريد يصبون عَلَيْهِ الزَّيْت وامره النواتية بإحضار السفن لاجازة الْخَواص لدجلة من بَغْدَاد إِلَى قُصُور الْملك بِمَدِينَة الْمَأْمُون لحضور الْوَلِيمَة فَكَانَ مَا اعد مِنْهَا لذَلِك ثَلَاثِينَ الْفَا فِي كثير من هَذَا قَالَ ابْن خلدون وَكَذَلِكَ عرس الْمَأْمُون بن ذِي النُّون بطليطلة نَقله

بن بسام وَابْن حَيَّان الْخَامِس أَن من أهل الدول من حاول اتِّبَاع من قبله فِي هَذَا الْبَاب فَرَأى انه نقص عَنهُ فقنع لما بلغت قدرته إِلَيْهِ كَمَا يَحْكِي أَن الْحجَّاج أَو لم فِي ختان بعض وَلَده فَاسْتَحْضر بعض الدهاقين فَسَأَلَهُمْ عَن ولائم الْفرس وَقَالَ اخبروني بأعظم صَنِيع شهدته فَقَالُوا لَهُ نعم ايها الْأَمِير شَهِدنَا بعض مرازبة كسْرَى وَقد صنع لأهل فَارس صَنِيعَة احضر فِيهَا صحافا من الذَّهَب على اخونة الْفضة اربعا على كل وَاحِد ويحمله ارْبَعْ وصائف وَيجْلس عَلَيْهِ اربعة من النَّاس فَإِذا طعموا اتبعُوا اربعتهم الْمَائِدَة بصفائحها ووصائفها فَقَالَ الْحجَّاج يَا غُلَام انْحَرْ الْجَزُور واطعم النَّاس وَعلم انه لَا يشغل بِهَذِهِ الابهة الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة اخْتِلَاف أَحْوَال أهل الدولة باخْتلَاف أطوارها وَذَلِكَ أَن الدولة تنْتَقل فِي أطوار مُخْتَلفَة وحالات متجددة ويكتسب

اصحابها فِي كل طور خلفا من احوال ذَلِك الطّور لَان الْخلق تَابع بالطبع لمزاح حَالَة قَالَ ابْن خلدون واطوار الدولة لَا تتعدى فِي الْغَالِب خَمْسَة اطوار الطّور الأول طول الظفر بالبغية والاستيلاء على الْملك وَيكون فِيهِ صَاحب الْملك اسوة قومه فِي اكْتِسَاب الْمجد وجباية المَال والمدافعة عَن الْحَوْزَة لَا ينْفَرد دونهم بِشَيْء ولان ذَلِك هُوَ مُقْتَضى العصبية الَّتِي وَقع بهَا الغلب وَهِي لم تزل بعد بِحَالِهَا الطّور الثَّانِي طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بِالْملكِ ودفعهم عَن الْمُشَاركَة يكون فِيهِ معتنيا باصطناع الرِّجَال واتخاذ الموَالِي والصنائع لجدع انوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين لَهُ فِي نَفسه الضاربين فِي الْملك بِمثل سَهْمه حَتَّى يقر الْأَمر فِي نصابه ويفرد أهل بَيته لما يَبْنِي من مجده فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل مَا عاناه الْأَولونَ فِي طلب الْأَمر أَو اشد لَان الْأَوَّلين دفعُوا الْأَجَانِب فَكَانَ ظُهُورهمْ عَلَيْهِم بِأَهْل العصبية جَمِيعًا وَهَذَا يدافع الاقارب وَلَا يظاهره عَلَيْهِم إِلَّا الْأَقَل من الأباعد الطّور الثَّالِث طور الْفَرَاغ والدعة لتَحْصِيل ثَمَرَات الْملك من تَحْصِيل المَال وتخليف الاثار فيستفرغ وَسعه فِي الجباية وَضبط الدخل والخرج وتشييد المباني الحافلة والامصار المتسعة والهياكل المرتفعة واجازة الْوُفُود

من اشراف الامم ووجوه القابئل وَبث الْمَعْرُوف فِي اهله مَعَ التَّوسعَة على صنائعه بامال والجاه واختبار جُنُوده وادرار ارزاقهم حَتَّى يظْهر اثر ذَلِك عَلَيْهِم فيباهي بهم بهم الدول المسالمة ويرهب الدول الْمُحَاربَة نِهَايَة قَالَ ابْن خلدون وَهَذَا الطّور آخر اطوار الاستبداد من أَصْحَاب الدولة لانهم فِي هَذِه الاطوار كلهَا مشتغلون بآثارهم بانون أَمرهم موضحون الطّرق لمن بعدهمْ الطّور الرَّابِع طور القنوع والمسالمة وَيكون فِيهِ قانعا بمباني سلفه مسالما لانظاره من الْمُلُوك مُقَلدًا للماضين من ابائه يتبع أثارهم حَذْو النَّعْل بالنعل وَيتبع طرقهم بِأَحْسَن مناهج الِاقْتِدَاء وَيرى أَن فِي الْخُرُوج عَن تقليدهم فَسَاد آمره وانهم ابصر بِمَا بنوا من مجده الطّور الْخَامِس طور الاسراف والتبذير طور الاسراف والتبذير يكون فِيهِ متلفا لما جمع اولوه فِي الشَّهَوَات وَالْكَرم على البطانة واصطناع اخوان السوء وخضراء الدمن وتقليدهم عظيمات الْأُمُور الَّتِي لَا يستقلون بحملها مستفسدا لكبار الْأَوْلِيَاء من قومه وصنائع سلفه حَتَّى يحقدوا عَلَيْهِ ويتخاذلون عَن نصرته مضيفا على جنده بِمَا انفق من اعطياتهم فِي شهواته وحجب عَنْهُم وَجه مُبَاشَرَته وتفقده

منذرة بوار قَالَ ابْن خلدون وَفِي هَذَا الطّور تحصل فِي الدولة طبيعة الْهَرم ويستولى عَلَيْهَا الْمَرَض المزمن الَّذِي لَا تكَاد تخلص مِنْهُ وَلَا يكون لَهَا مَعَه برْء إِلَى أَن تنقرض وَالله خير الْوَارِثين الْمَسْأَلَة عشرَة أَن اثار الدولة على نِسْبَة قوتها فِي اصلها وَذَلِكَ أَن الاثار إِنَّمَا تحدث عَن الْقُوَّة الَّتِي بهَا كَانَت أَولا وعَلى قدرهَا يكون الاثر وَهُوَ ظافر قلت وتقتصر فِي تَلْخِيص مَا قرر من ذَلِك على اثرين اختصارا الاثر الأول المباني الشامخة والهياكل الْعَظِيمَة لَا تُوجد من ذَلِك إِلَّا على نِسْبَة قُوَّة الدولة فِي اصلها إِذْ لَا يتم إِلَّا بِكَثْرَة الفعلة واجتماع الْأَيْدِي على التعاون فِي الْعَمَل فَإِذا كَانَت الدولة فسيحة الجوانب كَثِيرَة الممالك والرعايا كثر وجود الفعلة وحشدوا من افاقها فتم الْعَمَل على عظم هياكله شَهَادَة عيان قَالَ ابْن خلدون وَانْظُر بِالْمُشَاهَدَةِ ايوان كسْرَى وَمَا اقتدر بِهِ الْفرس وَقد عزم الرشيد على هَدمه فشرع فِيهِ ثمَّ ادركه الْعَجز وَقَضِيَّة استشارته يحيى بن خَالِد مَعْرُوفَة

قلت وَقد تقدّمت الاشارة إِلَى ذَلِك فَانْظُر كَيفَ تقدر دولة على بِنَاء لَا تَسْتَطِيع أُخْرَى على هَدمه مَعَ بون مَا بَين الْهدم وَالْبناء فِي السهولة تعرف من ذَلِك بون مَا بَين الدولتين قَالَ وَانْظُر إِلَى بِنَاء الْوَلِيد بِدِمَشْق وجامع بني أُميَّة بقرطبة والقنطرة الَّتِي على واديها وَكَذَا بِنَاء الحنايا لجلب المَاء إِلَى قرطجنة فِي الْقَنَاة الراكبة عَلَيْهَا واثار شرشال بالمغرب والاهرام بِمصْر وَكثير من هَذِه الاثار الماثلة للعيان وَمِنْهَا مصانع قوم وَثَمُود وَمَا قصَّة الْقرَان عهنا انْتهى وَهنا تَنْبِيهَانِ التَّنْبِيه الأول أَن تِلْكَ الْأَفْعَال للاقدمين إِنَّمَا كَانَت بالهندام وَكَثْرَة الفعلة واجتماع الْأَيْدِي عَلَيْهَا فبذلك شيدت تِلْكَ الهياكل والمصانع وَلَا يَصح مَا تتوهمه الْعَامَّة أَن ذَلِك لعظم اجسام الْأَوَّلين إِذْ لَيْسَ بَين الْبشر فِي ذَلِك بون الهياكل والاثار قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد اولع الْقصاص بذلك وتغالوا فِيهِ وسطروا فِيهِ عَن عَاد وَثَمُود والعمالقة إِخْبَار عريقة فِي الْكَذِب من اغربها زعمهم أَن عوج بن عنَاق من العمالقة كَانَ لطوله يتَنَاوَل السّمك من الْبَحْر ويشويه إِلَى الشَّمْس فزادوا إِلَى جهلهم بأحوال الْبشر الْجَهْل بأحوال الْكَوَاكِب لما اعتقدوا أَن للشمس حرارة تشتد فِيمَا قرب مِنْهَا وَالْحر إِنَّمَا هُوَ الضَّوْء

قَالَ وَهَذَا وَجه لَا رَأْي لَهُ إِلَّا التحكم وَلَيْسَ لَهُ عِلّة وَلَا طبيعة وَلَا سَبَب برهاني وَنحن نشاهد مسَاكِن الْأَوَّلين وأبوابهم مَا احدثوه من الْبُنيان والهياكل والديار والمساكن كديار ثَمُود المنحوتة فِي الصلد من الصخر بُيُوتًا صغَارًا وابوابا ضيقَة وَقد اشار ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى إِنَّهَا دِيَارهمْ وَنهى عَن اسْتِعْمَال مِيَاههمْ وَطرح مَا عجن بِهِ وَقَالَ لَا تدْخلُوا مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم إِلَّا أَن تَكُونُوا باغين أَن يُصِيبكُم مثل مَا اصابهم وَكَذَلِكَ ارْض عَاد ومصر وَالشَّام وَسَائِر بقاع الأَرْض شرقا وغربا وَالْحق مَا قَرَّرْنَاهُ انْتهى الاثر الثَّانِي وَقد سبقت إِلَيْهِ الاشارة الْأَمْوَال المرتفعة إِلَى خَزَائِن الْملك فان كثرتها بِحَسب قُوَّة الدولة أَيْضا وَقد نقل المؤرخون من ذَلِك مَا يهول سَمَاعه خُصُوصا مَا رفع مِنْهُ إِلَى بَيت المَال بِبَغْدَاد من جَمِيع النواحي أَيَّام الْمَأْمُون حَسْبَمَا حَكَاهُ كتاب خراج الدولة قَالَ ابْن خلدون واما الأندلس فَالَّذِي ذكره الثِّقَات من مؤرخيها أَن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر خلف فِي بيُوت امواله مَا جملَته بالقناطير خَمْسَة آلَاف قِنْطَار وَخَمْسمِائة قِنْطَار فِي كل سنة قَالَ وَرَأَيْت فِي بعض تواريخ الرشيد أَن الْمَحْمُول الي بَيت المَال فِي أَيَّامه سَبْعَة آلَاف قِنْطَار وَخَمْسمِائة قِنْطَار فِي كل سنة قَالَ فَاعْتبر ذَلِك فِي نسب الدول بَعْضهَا من بعض وَلَا تنكرن مَا لَيْسَ بمعهود عنْدك وَلَا فِي عصرك شَيْء من امثاله فتضيق حوصلتك عَن ملتقط الممكنات فكثير من الْخَواص إِذا سمعُوا امثال هَذِه الْأَخْبَار عَن

الدول السَّابِقَة بَادرُوا بالإنكار وَلَيْسَ بصواب أَن احوال الْوُجُود والعمران مُتَفَاوِتَة وَكثير مِنْهَا فِي غَايَة الشُّهْرَة والوضوح بل فِيهَا مَا يلْحق بالمستيفض والمتواترة وفيهَا المعاين والمشاهد من اثار الْبناء وَغَيره قلت ختم هَذَا الْفَصْل بَان النقول عَن الدول من الْأَحْوَال يُؤْخَذ مِنْهُ مراتبها فِي الْقُوَّة والضعف وَاعْتبر ذَلِك بِمَا حَكَاهُ عَن ابْن بطوطة مِمَّا حدث بِهِ عَن ملك الْهِنْد وَذَلِكَ فِي رحلته فَلَا نطول بِهِ لَكِن ذكر بعد ذَلِك كلَاما لَا يسع الِاسْتِغْنَاء عَنهُ وَهُوَ أَن الانسان يرجع فِي قبُول الْأَخْبَار أَو ردهَا إِلَى التَّمْيِيز بَين طبيعة الْمُمكن والممتنع بِصَرِيح عقله ومستقيم فطرته مِمَّا دخل فِي نطاق الْإِمْكَان قبله وَمَا خرج عَنهُ رفضه قَالَ وَلَيْسَ المُرَاد الْإِمْكَان الْعقلِيّ فان نطاقه اوسع شَيْء فَلَا يفْرض حدا بَين الْوَاقِعَات بل الْإِمْكَان بِحَسب الْمَادَّة الَّتِي للشَّيْء فَإِذا نظر اصله وجنسه وفصله وَمِقْدَار عظمه وقوته اجرى الحكم من نِسْبَة ذَلِك على احواله بالامتناع على مَا خرج عَن نطاقه {وَقل رب زِدْنِي علما} الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة أَن المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب فِي شعاره وزيه وَسَائِر احواله وعوائده وَسَببه اعْتِقَاد النَّفس كَمَال من غلبها بِمَا وقر عِنْدهم من تَعْظِيمه فتنحل جَمِيع مذاهبه وتتشبه بِهِ فِي ملبسه ومركبه وسلاحه وَسَائِر أَحْوَاله وَلذَلِك تَجِد الْأَبْنَاء يتشبهون بآبائهم دَائِما لاعتقادهم الْكَمَال فيهم

شَهَادَة قَالَ ابْن خلدون وَانْظُر إِلَى كل قطر من الاقطار كَيفَ يغلب على اهله زِيّ الحامية وجند السُّلْطَان فِي الْأَكْثَر لانهم الغالبون لَهُم حَتَّى انه إِذا كَانَت امة تجاور أُخْرَى وَلها الغلب عَلَيْهَا فيسرى إِلَيْهِم من هَذَا التَّشْبِيه والاقتداء حَظّ كَبِير كَمَا فِي الأندلس لهَذَا الْعَهْد مَعَ امم الجلالقة فانك تجدهم يتشبهون بهم فِي ملابسهم وشاراتهم وَالْكثير من عوائدهم حَتَّى فِي رسم التماثيل فِي الجدارن والبيوت حَتَّى لقد يستشعر من ذَلِك النَّاظر بِعَين الْحِكْمَة انه عَلامَة الِاسْتِيلَاء وَالْأَمر لله قلت وَصدق فِي ذَلِك وَالله تَعَالَى المسؤول فِي الْعِصْمَة مِمَّا يدل عَلَيْهِ ذَلِك قَالَ وتامل فِي هَذَا سر قَوْلهم النَّاس على دين الْملك فانه من بَابه إِذا الْملك غَالب لمت تَحت يَده والرعية مقتدون بِهِ لاعتقاد كَمَاله اقْتِدَاء الابناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم وَالله الْعَلِيم الْحَكِيم الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة أَن الْأمة إِذا غلبت وَصَارَت فِي ملكة غَيرهَا أسْرع إِلَيْهَا الفناء والسر فِيهِ وَالله اعْلَم امران أَحدهَا أَن النَّفس إِذْ ملك عَلَيْهَا امرها وَصَارَت بالاستبعاد الة لسواها حصل فِيهَا من التَّكَلُّف مَا يقْتَصر بِهِ الامل الَّذِي بِهِ التناسل والاعتمار لما يحدث عَنهُ من نشاط القوى الحيوانية فَإِذا ذهب الامل وَتَبعهُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ من الْأَحْوَال مَعَ ذهَاب العصبية بالغلب عَلَيْهَا تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم وَسَوَاء كَانُوا

قد حصلوا على غَايَة من الْملك أَو لم يحصلوا الثَّانِي أَن الانسان رَئِيس بالطبع بِمُقْتَضى استخلاصه والرئيس غلب على رياسته تكاسل حَتَّى عَن شبع بَطْنه وري كبده كَمَا هُوَ مَوْجُود فِي اخلاق الاناسي وَلَقَد يُقَال مثله فِي الْحَيَوَان المفترس وانه لَا يسافد إِذا كَانَ فِي ملكه الادمي فَلَا تزَال الْأمة المغلوبة فِي تناقص واصمحلال إِلَى أَن يَأْخُذهُمْ الفناء والبقاء لله وَحده اعْتِبَار قَالَ ابْن خلدون وَاعْتبر ذَلِك فِي الرس فقد كَانُوا ملارا الْعَالم كَثْرَة وَلما فنيت حاميتهم بَقِي مِنْهُم اكثر من الْكثير فقد احصى سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ من وَرَاء الْمَدَائِن مِنْهُم فَكَانُوا مائَة ألف وَسَبْعَة وَثَلَاثِينَ الْفَا وَلما تحصلوا فِي ملكة الْعَرَب وقبضة قهرهم لم يكن بقاؤهم إِلَّا قَلِيلا ودثروا كَأَن لم يَكُونُوا تَنْبِيه قَالَ وَلَا تحسبن أَن ذَلِك لظلم نزل بهم فمملكة الْإِسْلَام فِي الْعدْل كَمَا علمت وانما طبيعة فِي الانسان إِذا غلب على آمره وَصَارَ الة لغيره قَالَ وَلِهَذَا فَإِنَّمَا يذعن للرق من الامم فِي الْغَالِب صنفان أَحدهَا امم السودَان لنُقْصَان الانسانية فيهم وقربهم من عرض الْحَيَوَانَات الْعَجم الثَّانِي من يَرْجُو بانتظامه فِي ربقة الرّقّ حُصُول رُتْبَة أَو افادة مَال

قَالَ كَمَا وَقع للترك بالمشرق والعلوج بالأندلس لما تعودوا من استخلاص الدولة لَهُم فَلَا يأنفون من الرّقّ لما يؤملونه من ذَلِك الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة أَن اواخر الدول يتَوَقَّع فِيهَا الْعمرَان وَيكثر فِيهَا وُقُوع الموتان والمجاعات بَيَان الأول أَن الدول فِي بدايتها لَا بُد من الرِّفْق فِي ملكتها إِمَّا من الدّين أَن كَانَت دعوتها دينية أَو من المكارمة الَّتِي تقتضيها بداوتها الطبيعة وَعند ذَلِك تنبسط امال الرّعية فِي الْعمرَان واسبابه فيتوفر وَيكثر التناسل وَلما كَانَ ذَلِك بالتدريج فأثره إِنَّمَا يظْهر بعد جيل أَو جيلين فِي الْأَقَل وَبعد ذَلِك تشرف الدولة على نِهَايَة عمرها الطبيعي فَيكون الْعمرَان حِينَئِذٍ فِي غَايَة الوفور والنماء لَا يُقَال قد تقدم أَن اواخر الدول يكون فِيهَا الاجحاف بالرعية وَسُوء الملكة لَهَا لانا نقُول الاجحاف وان حدث حِينَئِذٍ وَقلت الجباية فَإِنَّمَا يظْهر اثره فِي تنَاقض الْعمرَان بعد حِين على حسب التدريج فِي الْأُمُور الطبيعية فَلَا تعَارض بَين الْمَوْضِعَيْنِ بَيَان الثَّانِي أَن كَثْرَة وُقُوع المجاعات إِمَّا من الْعدوان فِي الجبايات وَالْأَمْوَال والفتن الْحَادِثَة من انتفاض الرعايا أَو كَثْرَة الْخَوَارِج لهرم الدولة فيقل فِي كَثْرَة احتكار الزَّرْع غَالِبا وصلاحه لَا يتسم على وتيرة وَاحِدَة إِذْ طبيعة الْعَالم فِي كَثْرَة الامطار وقلتها مُخْتَلفَة وَالزَّرْع وَالثِّمَار والضرع على نِسْبَة ذَلِك وثقة النَّاس فِي الأقوات إِنَّمَا هِيَ بالاحتكار فَإِذا فقد عظم توقعهم للمجاعات فغلا الزَّرْع وَعجز عَنهُ اولو الْخَصَاصَة فهلكوا أَو كَانَ الْقَحْط والاحتكار مفقودا فَشَمَلَ النَّاس الْجُوع بَيَان الثَّالِث أَن كَثْرَة حُدُوث الموتان إِمَّا من شدَّة المجاعات أَو كَثْرَة

الْفِتَن لاختلال الدول وَوُقُوع الوباء وَسَببه فِي الْغَالِب فَسَاد الْهَوَاء بِكَثْرَة الْعمرَان لِكَثْرَة مَا يخالطه من العفن والرطوبات الْفَاسِدَة وَإِذا فسد الْهَوَاء وَهُوَ غذَاء الرّوح الحيواني وملابسه دَائِما فيسري الْفساد إِلَى مزاجه فان قوي وَقع الْمَرَض فِي الرئة وَهَذِه هِيَ الطواعين والاكثر العفن بِهِ وتضاعف الحميات الْمهْلكَة وَكَثْرَة الْعمرَان هِيَ سَبَب التعفن والرطوبة الْفَاسِدَة رِعَايَة حِكْمَة قَالَ وَلِهَذَا تبين فِي الْحِكْمَة أَن تخَلّل الْخَلَاء والفقر بَين الْعمرَان ضَرُورِيّ ليَكُون تموج الْهَوَاء يذهب بِمَا يحصل فِي الْهَوَاء من الْفساد والعفن بمخالطة الْحَيَوَانَات وَيَأْتِي بالهواء الصَّحِيح وَلِهَذَا يكون الموتان فِي المدن الموفورة الْعمرَان اكثر من غَيرهَا بِكَثِير كمصر فِي الْمشرق وفاس بالمغرب وَالله يقدر مَا يَشَاء قلت مَا ذَكرْنَاهُ من أَن فَسَاد الْهَوَاء غَالِبا سَبَب الوباء هُوَ قَول الاطباء وَنقل الشَّيْخ شهَاب الدّين بن حجر ابطال الشَّيْخ شمس الدّين بن قيم الجوزية لَهُ من وُجُوه سنة قَالَ اثر تقريرها عَنهُ وَلذَلِك اعيا الاطباء دواؤهم حَتَّى يسلم حذاقهم انه لَا دَوَاء لَهُ وَلَا دَافع لَهُ إِلَّا الَّذِي خلقه وَقدره قَالَ ابْن حجر واما كَون بعض الأوجاع فِي الطَّاعُون قد يكون من غَلَبَة بعض الطبائع فَلَا يُنَافِي كَونه من طعن الْجِنّ لاحْتِمَال أَن حُصُول ذَلِك التَّغْيِير عِنْد وجود الطعنة فينزع بدن المطعون فيفور بِهِ الدَّم وَتحصل لَهُ الْكَيْفِيَّة الرَّديئَة الَّتِي يشخصها الاطباء بِحَسب مَا اقتضيه قواعدهم وَلَا يُنَافِي ذَلِك اصب سَببه الأول وَالله اعْلَم قلت مَا أَشَارَ إِلَيْهِ من طعن الْجِنّ هُوَ مَا صرحت بِهِ الْأَحَادِيث انه من وخز الْجِنّ وللكلام فِي ذَلِك مَحل آخر الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة أَن الدول اعمار طبيعية كَمَا للأشخاص

قلت هَذَا الْفَصْل سلك فِيهِ ابْن خلدون مسلكا غَرِيبا وَادّعى أَن اعمار الدول لَا تعدو فِي الْغَالِب عمر ثَلَاثَة اجيال والجيل عمر شخص وَاحِد على التَّوَسُّط وَهُوَ اربعون سنة مُنْتَهى النمو إِلَى غَايَته ومجموع ذَلِك مائَة وَعِشْرُونَ سنة الْعُمر الطبيعي للأشخاص على زعم الاطباء والمنجمين ثمَّ قرر ذَلِك بِمَا حَاصله أَن الجيل الأول لم يزَالُوا على خلق البداوة وخشونتها من البسالة والاشتراك فِي الْمجد وَالصَّبْر على شظف الْعَيْش وَذَلِكَ حَافظ لسورة العصبية فَلَا يزَال جانبهم مرهوبا وَالنَّاس لَهُم مغلوبون والجيل الثَّانِي يتحولون من البداوة إِلَى الحضارة وَمن الشظف إِلَى الترف وَمن الِاشْتِرَاك فِي الْمجد إِلَى انْفِرَاد الْوَاحِد بِهِ وكسل البَاقِينَ عَن السَّعْي فِيهِ وَمن عز الاستطالة إِلَى ذل الاستكانة فتنكسر من سُورَة العصبية وَتبقى لَهُم الْكثير من ذَلِك بِمَا ادركوا الجيل الأول وباشروا من أَحْوَالهم فِي سَعْيهمْ ثمَّ إِلَى الْمجد وتراميهم إِلَى الدفاع والحماية فَلَا يسعهم تَركه بِالْكُلِّيَّةِ رَجَاء فِي رُجُوع تِلْكَ الْأَحْوَال السالفة والجيل الثَّالِث ينسون عهد البداوة كَأَن لم تكن ويبلغ الترف فيهم غَايَته وَتسقط مِنْهُم العصبية بِالْجُمْلَةِ ويعجزون عَن الحماية والمطالبة ويتلبسون بالشارة والزي وركوب الْخَيل وَحسن الثقافة وهم فِي الْأَكْثَر اجبن من النسوان على ظهروها فَإِذا جَاءَ المطالب لَهُم لم يقاموا مدافعته فيضطر صَاحب الدولة إِلَى الِاسْتِظْهَار بسواهم من أهل النجدة والاستكثار من اصطناع من يُغني عَن الدولة بعض الفناء حَتَّى يَأْذَن الله بانقراضها قَالَ فَهَذِهِ ثَلَاثَة اجيال فَهِيَ تكون هرم الدولة إِلَّا أَن عرض عَارض من فقدان المطالب فَيكون الْهَرم حَاصِلا والمطالب لم يحضرها وَلَو جَاءَ لما وجد مدافعا فَإِذا جَاءَ اجلهم لَا يستأجرون سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ

الفصل الثاني

قَالَ وَهَذَا الْعُمر للدولة بِمَثَابَة عمر الشَّخْص من الْمَزِيد إِلَى سنّ الْوُقُوف إِلَى سنّ الرُّجُوع وَلِهَذَا يجْرِي على السّنة النَّاس فِي الْمَشْهُور أَن عمر للدولة مائَة سنة وَهَذَا مَعْنَاهُ فَاعْتبر انْتهى قلت تقدم لَهُ هَذَا قبل أَن طول امد الدولة على نِسْبَة القائمين بهَا فِي الْقلَّة وَالْكَثْرَة وَاسْتظْهر على ذَلِك بِشَهَادَة الْوَاقِع من طول امد كثير من الدول ثمَّ هُوَ هُنَا يُقرر عمرها بِمَا ذكر ويجعله طبيعيا فَانْظُر فِيهِ متأملا الْفَصْل الثَّانِي فِي اخْتِيَار الْمنَازل الحضرية الِاجْتِمَاع وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى أَن الدول اقدم من المدن والأمصار لامرين أَحدهَا أَن الْبناء واختطاط الْمنَازل إِنَّمَا هُوَ من مُنَازع الحضارة يَدْعُو اليها الترف والدعة وَذَلِكَ مُتَأَخّر على البداوة ومذاهبها الثَّانِي أَن المدن والأمصار ذَات هياكل واجرام عِظَام وَبِنَاء كثير فَيحْتَاج إِلَى اجْتِمَاع الْأَيْدِي وَكَثْرَة التعاون وَلَيْسَت من الضروريات الَّتِي تعم بهَا الْبلوى حَتَّى يكون النُّزُوع إِلَيْهَا شرطا واضطراريا بل لَا بُد من تعم بهَا الْبلوى على ذَلِك وسوق النَّاس إِلَيْهِ مضطرين بعصا الْملك أَو مرغبين فِي

الاجر الَّذِي لَا يَفِي لكثرته إِلَّا الْملك فَإِذا لابد من تمصير الامصار واختطاط المدن من الدولة وَالْملك فَوَائِد مركبة إِحْدَاهمَا إِذا بنيت وكمل تشييدها بِحَسب نظر من شيدها وَبِمَا اقتضته الْأَحْوَال السماوية والارضية فِيهَا فعمر الدولة حِينَئِذٍ عمر لَهَا فان كَانَ امد الدولة قَصِيرا ووقف الْحَال فِيهَا عِنْد انْتِهَاء الدولة وتراجع عمرانها وَخَربَتْ وان كَانَ امد الدولة طَويلا فَلَا تزَال المصانع فِيهَا تشيد والمنازل الرحيبة تكْثر وتتعدد ونطاق الأسوار بتباعد وينفسخ إِلَى أَن تتسع الخطة وتبعد الْمسَافَة كَمَا وَقع لبغداد وأمثالها حكى الْخَطِيب فِي تَارِيخه أَن الحمامات بلغ عَددهَا بِبَغْدَاد عهد الْمَأْمُون خَمْسَة وَسِتِّينَ ألف حمام كَانَت مُشْتَمِلَة على مدن وامصار متلاصقة ومتقاربة تجَاوز الْأَرْبَعين وَلم تكن مَدِينَة وَاحِدَة جمعهَا سور وَاحِد لافراط الْعمرَان قَالَ ابْن خلدون وَكَذَا حَال القيروان وقرطبة والمهدية ومصر الْقَاهِرَة

الْفَائِدَة الثَّانِيَة مَا تقدم من أَن عمر الدولة للمدينة المتوقف تأسيسها عَلَيْهَا هُوَ حَيْثُ تكون تِلْكَ الْمَدِينَة لَا مَادَّة لَهَا تفيدها حفظ الْعمرَان بترادف النُّزُول فِيهَا مِمَّن الْبَوَادِي فهناك يكون انْقِرَاض الدولة انقراضها لَهَا فيتناقض عمرانها شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن تفقر من الساكنين وتخرب قَالَ كَمَا وَقع فِي بَغْدَاد ومصر والكوفة بالمشرق والقيروان والمهدية وقلعة ابْن حَمَّاد بالمغرب وامثالها فتفهمه واما أَن كَانَت لَهَا تِلْكَ الْمَادَّة فهناك يَدُوم لَهَا حفظ الْوُجُود وَيسْتَمر عمرها بعد الدولة قَالَ كَمَا ترَاهُ بفاس وبجاية من الْمغرب وَالْعراق الْعَجم من الْمشرق لَان أهل البدو إِذا انْتَهَت أَحْوَالهم إِلَى غايتها فِي الرفه وَالْكَسْب تداعوا إِلَى الدعة والسكون الَّذِي فِي طبيعة الْبشر فينزلون المدن والأمصار ويتأهلون فِيهَا الْفَائِدَة الثَّالِثَة قَالَ وَرُبمَا تنزل الْمَدِينَة بعد انْقِرَاض من اختطفها دولة ثَانِيَة تتخذها قرارا وكرسيا وتستغني بهَا عَن اتِّخَاذ غَيرهَا فتحفظ تِلْكَ الدولة سياجها وتتزايد مبانيها ومصانعها بتزايد احوال الدولة الثَّانِيَة وتستجد بعمرانها عمرا آخر كَمَا وَقع بفاس والقاهرة لهَذَا الْعَهْد فَاعْتبر ذَلِك وافهم سر الله فِي خليقته قلت وَبعد انْقِرَاض الدولة فِي اواسط هَذِه الْمِائَة التَّاسِعَة بفاس

كرْسِي ملكهم خَلفهم الشريف ابْن عمار فِيهَا نَاسخ دولتهم ثمَّ الشَّيْخ ابْن يحي الوطاسي منتزع ذَلِك من يَده إِلَى هَذَا الْعَهْد وان كَانَ بهَا خراب كثير حَسْبَمَا شهدناه والبقاء لله وَحده الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن الْملك يَدْعُو إِلَى نزُول الامصار لامرين أَحدهمَا مَا ينْزع إِلَيْهِ بعد اسْتِقْرَار حُصُوله من الدعة والراحة واستكمال مَا كَانَ نَاقِصا فِي البدو من احوال الْعمرَان الثَّانِي دفع مَا يتَوَقَّع عَلَيْهِ من مطالبات المتنازعون لَا سِيمَا حَيْثُ يكون الْمصر ملْجأ لمن يروم بنزاعه سلف مَا حصل مِنْهُ فيضطر صَاحبه إِلَى الْجد فِي الِاسْتِيلَاء على ذَلِك الْمصر ليأمن الْمَحْذُور بِسَبَبِهِ

قَالَ وان لم يكن هُنَاكَ مصر استحدثوه ضَرُورَة لتكميل عمرانهم أَولا وليكون شجا فِي حلق من يروم الِامْتِنَاع فِيهِ من الْخَوَارِج ثَانِيًا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن الَّذِي تجب مراعاته فِي اوضاع المدن اصلان مهمان دفع المضار وجلب الْمَنَافِع الأَصْل الأول دفع المضار وَهِي نَوْعَانِ أَحدهمَا ارضية وَدفعهَا بإدارة سياج الأسوار على الْمَدِينَة ووضعها فِي مَكَان مُمْتَنع امام على هضبة متوعرة من الْجَبَل أَو باستدارة بَحر أَو نهر بهَا حَتَّى لَا يُوصل إِلَيْهَا إِلَّا بعد العبور على جسر أَو قنطرة فيصعب منالها على الْعَدو ويتضاعف تحصينها الثَّانِي سَمَاوِيَّة وَدفعهَا بِاخْتِيَار الْمَوَاضِع الطّيبَة الْهَوَاء لَان مَا خبث مِنْهُ بركود أَو تعفن لمجاورته لمياه فَاسِدَة أَو مَنَافِع متعفنة أَو مروج خبيثة يسْرع الْمَرَض فِيهِ للحيوان الْكَائِن فِيهِ لَا محَالة كَمَا هُوَ مشَاهد بِكَثْرَة قَالَ ابْن خلدون وَقد اشْتهر بذلك فِي قطر الْمغرب بلد قابس من بِلَاد الجريد بأفريقية فَلَا يكَاد سكانها أَو طارقها يخلص من حمة العفن بِوَجْه وَقد يُقَال أَن ذَلِك حَادث فِيهَا تَوْجِيه نقل الْبكْرِيّ فِي سَبَب حُدُوثه انه وَقع فِيهَا حفر ظهر فِيهِ أناء من النّحاس مختوم عَلَيْهِ بالرصاص فَلَمَّا فض ختامه صعد مِنْهُ دُخان إِلَى الجو وَانْقطع وَكَانَ ذَلِك بَدْء امراض الحميات فِيهِ قَالَ وَأَرَادَ بذلك أَن الْإِنَاء كَانَ فِيهِ بعض أَعمال الطلسمات لوبائه وانه ذهب سره بذهابه فَرجع إِلَى العفن والوباء قَالَ وَهَذِه الْحِكَايَة من مَذَاهِب الْعَامَّة ومباحثهم الرَّكِيكَة والبكري لم

يكن من شَأْنه الْعلم واستنارة البصيرة بِحَيْثُ يدْفع مثل هَذَا فنقله كَمَا سَمعه تَحْقِيق قَالَ وَالَّذِي يكْشف الْحق فِي ذَلِك أَن الاهوية العفنة اكثر مَا يهيئها لتعفن الْأَجْسَام وامراض الحميات ركودها فَإِذا تخللها الرّيح وتفاشت وَذهب بهَا يَمِينا وَشمَالًا خف شَأْن العفن وَمرض الْحَيَوَان مِنْهُ والبلد ذَا كثر ساكنه وَكَثُرت حركاتهم تموج الْهَوَاء وَحدث الرّيح المتخلل للهواء الراكد وَلَا كَذَلِك إِذا بَقِي الْهَوَاء على حَالَة ركوده بقلة الْحَرَكَة لخفة السَّاكِن فان ضَرَره بِالْحَيَوَانِ كثير وبلد قابس كَانَت عِنْد استجار الْعمرَان بأفريقية كَثِيرَة السَّاكِن فَكَانَ ذَلِك معينا على تموج الْهَوَاء وَتَخْفِيف الاذى مِنْهُ فَلم يكن فِيهَا كثير عفن وَلَا مرض وعندما خف وَتَخْفِيف الاذى مِنْهُ فَلم يكن فِيهَا كثير عفن وَلَا مرض وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بِفساد مياهها فَكثر العفن وَالْمَرَض هَذَا وَجهه لَا غير دلَالَة عكس قَالَ وَقد رَأينَا عكس ذَلِك فِي بِلَاد وضعت وَلم يراع بهَا طيب الْهَوَاء وَكَانَت امراضها كَثِيرَة لقلَّة سكانها وعندما كَثُرُوا انْتقل حَالهَا عَن ذَلِك كدار الْملك بفاس لهَذَا الْعَهْد الْمُسَمّى بفاس الْجَدِيد وَكثير من ذَلِك فِي الْعَالم الأَصْل الثَّانِي جلب الْمَنَافِع والمرافق وَذَلِكَ بمراعاة أُمُور أَحدهَا المَاء كَأَن يكون الْبَلَد على نهر أَو بازائه عُيُون عذبة ولان وجوده كَذَلِك يسهل الْحَاجة إِلَيْهِ وَهِي ضَرُورِيَّة الثَّانِي طيب مرعى السَّائِمَة وقربه إِذْ لَا بُد لكل ذِي قَرَار من دواجن الْحَيَوَان للنتاج والضرع وَالرُّكُوب وَمَتى كَانَ المرعى الضَّرُورِيّ لَهَا كَذَلِك كَانَ اوفر من معاناة الْمَشَقَّة فِي بعده

الثَّالِث قرب الْمزَارِع الطّيبَة لَان الزَّرْع هُوَ الْقُوت الضَّرُورِيّ وَكَونهَا كَذَلِك اسهل فِي اتِّخَاذه واقرب فِي تَحْصِيله الرَّابِع الشُّعَرَاء للحطب والخشب فالحطب لعُمُوم البلوي بِهِ فِي وقود النيرَان والخشب للمباني وَكَثِيرًا مَا ستعمل فِيهِ ضَرُورِيًّا وكماليا الْخَامِس وَلَيْسَ بِمَثَابَة مَا قبله قربه من الْبَحْر لتسهيل الْحَاجَات القاصية من الْبِلَاد النائية وَلَا خَفَاء أَن هَذِه الْأُمُور تَتَفَاوَت بِحَسب الْحَاجة وَمَا تدعوا إِلَيْهِ ضَرُورَة السَّاكِن تَنْبِيه قَالَ ابْن خلدون وَقد يكون الْوَاضِع غافلا عَن نفس الِاخْتِيَار الطبيعي وانما يُرَاعِي مَا هُوَ اهم على نَفسه أَو قومه من غير الْتِفَات لحَاجَة غَيرهم كَمَا فعله الْعَرَب فِي أول الْإِسْلَام فِي المدن الَّتِي اختطوها بالعراق والحجاز وإفريقيا فانهم لم يرعوا فِيهَا إِلَّا المهم عِنْدهم من مرَاعِي الْإِبِل وَمَا يصلح لَهَا من الشّجر وَالْمَاء الْملح وَلم يراعوا المَاء وَلَا الْمزَارِع والحطب والمراعي كالقيروان والكوفة وَالْبَصْرَة وسجلسماسة وامثالها قَالَ وَلِهَذَا كَانَت اقْربْ إِلَى الخراب لما لم تراع فِيهَا الْأُمُور الطبيعية اعلام فَمَا يُرَاعِي فِي الْمَدِينَة المبنية على الْبَحْر امران أَن تكون فِي جبل وان تكون بَين امة موفودة الْعدَد وَمَتى لم تكن كَذَلِك طرقها الْعَدو البحري أَي وَقت أَرَادَ لَا مِنْهُ من اجابه الصَّرِيخ لَهَا وَعدم غناء خفرها المتعودين للدعة فِي الدفاع قَالَ ابْن خلدون وَهَذَا كالإسكندرية من الْمشرق وطرابلس وبونه وسلا من الْمغرب

قَالَ وَمَتى كَانَت متوعرة المسالك وحولها الْقَبَائِل بِحَيْثُ يبلغهَا الصَّرِيخ تمنعت بذلك من الْعَدو رَئِيس من طروقها كَمَا فِي سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها فهم حَقِيقَة قَالَ فَافْهَم ذَلِك واعتبره فِي اخْتِصَاص الْإسْكَنْدَريَّة باسم الثغر من لدن الدولة العباسية مَعَ أَن الدعْوَة كَانَت من وَرَائِهَا ببرقة وإفريقيا اعْتِبَارا للمخافة المتوقعة فِيهَا من الْبَحْر لسُهُولَة وَضعهَا قَالَ وَلذَلِك وَالله اعْلَم كَانَ طروق الْعَدو لَهَا ولطرابلس فِي الْملَّة مَرَّات مُتعَدِّدَة المسالة الرَّابِعَة أَن الهياكل الْعَظِيمَة لَا تستقل ببنائها الدولة الْوَاحِدَة وَذَلِكَ لأمور مرجحة وشاهدة أَحدهَا أَن الْبناء يحْتَاج إِلَى النعاون عَلَيْهِ بِجمع الْأَيْدِي الْكَثِيرَة ومضاعفة الْقدر البشرية وَحِينَئِذٍ تبلغ مِمَّا عظم مِنْهُ الْغَايَة الْمَقْصُودَة الثَّانِي أَن المباني قد تكون لعظمها اكثر من الْقدر مُفْردَة أَو مضاعفة بالهندام لتحتاج إِلَى معاودة أُخْرَى فِي ازمنة متعاقبة إِلَى أَن تتمّ كَمَا يَحْكِي أَن سد مأرب بناه وسَاق إِلَيْهِ سبعين وَاديا وعاقه الْمَوْت عَن اتمامه فأتمه مُلُوك حمير من بعده الثَّالِث أَن الْملك الْوَاحِد تَجدهُ يشرع فِي تأسيس المباني الضخمة فَإِذا لم يُتمهَا من بعده من الْمُلُوك بقيت بِحَالِهَا من غير تَمام الرَّابِع أَن كثيرا من المباني الهائلة عجز عَن هدمها من قصرت مقدرته عَن الْهدم مَعَ انه اسهل من الْبناء لانه رُجُوع إِلَى الأَصْل الَّذِي هُوَ الْعَدَم وَالْبناء على خلاف الأَصْل وَعند ذَلِك تعلم أَن الْقدر الَّذِي أسسته مفرطة الْقُوَّة وانها اثر دوَل عديدة

شَهَادَة عيان قَالَ عَن حنايا الْمُعَلقَة إِنَّهَا لعهده يحْتَاج أهل تونس إِلَى انتخاب الْحِجَارَة لبنائهم ويستجيد الصناع حجارتها يتحالون على هدمها الْأَيَّام العديدة وَلَا يسْقط الصَّغِير جدارنها إِلَّا بعد جهد جهيد وتجتمع لَهُ المحافل الْمَشْهُورَة قَالَ شهِدت مِنْهَا فِي أَيَّام صباي كثيرا وَالله على كل شَيْء قدير الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن الامصار والمدن بإفريقيا وَالْمغْرب قَليلَة وَذَلِكَ لامرين أَحدهمَا أَن هَذِه الاقطار كَانَت للبربر مُنْذُ الآلاف من السنين قبل الْإِسْلَام وعمرانهم إِنَّمَا هُوَ بدوي والدول الَّتِي ملكتهم من الإفرنجة وَالْعرب لم يطلّ امدها فيهم حَتَّى تنْتَقل إِلَيْهِم حضارتها فَلم تكْثر مبانيهم لذَلِك الثَّانِي أَن المباني إِنَّمَا تتمّ بالصنائع والصنائع الَّتِي هِيَ من تَوَابِع الحضارة لَا تنتحلها البربر لَا عراقهم فِي البدو فَإِذا لَا تتَّخذ المباني وَلَا تتشوف اليها فضلا عَن المدن وَأَيْضًا فهم عصبيات وانساب والأنساب والعصبية اجنح إِلَى البدو وَلَا يَدعُوهُم إِلَى سُكْنى المدن إِلَّا الترف والغنى وَقَلِيل مَا هُوَ فِي النَّاس تتجه قَالَ ابْن خلدون لذَلِك كَانَ عمرَان بِلَاد الْعَجم كُله أَو اكثره قرى وظواعن وقياطن وكنن فِي الجيال وَكَانَ عمرَان بِلَاد الْعَجم كُله أَو اكثره قرى وامصارا ورساتيق كالأندلس وَالشَّام ومصر وعراق الْعَجم وامثالها لَان الْعَجم فِي الْغَالِب لَيْسُوا بذوي انساب يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا إِلَّا فِي الْأَقَل واكثر مَا يكون سُكْنى البدو أهل الْأَنْسَاب لَان لحْمَة النّسَب اقْربْ واشد عصبية كَذَلِك فتنزع بصاحبها إِلَى التَّجَافِي عَن الْمصر الَّذِي يذهب بالبسالة ويصيره عيالا على غَيره

قَالَ فافهمه وَقس عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة أَن المباني والمصانع فِي الْملَّة الاسلامية قَليلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى قدرتها والى من كَانَ قبلهَا من الامم وَذَلِكَ لامرين أَحدهمَا مَا ذكر على البربر بِعَيْنِه لَان الْعَرَب اعرق فِي البدو وابعد عَن الصنائه الثَّانِي انهم كَانُوا قبل الْإِسْلَام اجانب من الممالك الَّتِي استوالوا عَلَيْهَا وَلما تمالكوا لم ينفسح الْأَمر حَتَّى تستوفي رسوم الحضارة مَعَ انهم استغنوا بِمَا وجدوا من ذَلِك لغَيرهم زاجر دين قَالَ ابْن خلدون لاخفاء أَن الدّين إِذْ ذَاك كَانَ مَانِعا لَهُم من المغلاة فِي الْبُنيان والاسراف فِيهِ وَفد عهد لَهُم عمر رَضِي الله عَنهُ حِين استأذنوه فِي بِنَاء الْكُوفَة بِالْحِجَارَةِ وَقد وَقع الْحَرِيق فِي الْقصب الَّذِي كَانُوا بنوا بِهِ من قبل فَقَالَ افعلوا وَلَا يزدن احدكم على ثَلَاثَة ابيات وَلَا تطاولوا فِي الْبُنيان والزموا السّنة تلزمكم الدولة وعهد للوفد وَتقدم إِلَى النَّاس إِلَّا يرفعوا بنيانا فَوق الْقدر قَالُوا الْقدر مَالا يقربكم من السَّرف وَلَا يخرجكم عَن الْقَصْد تَغْيِير حَال قَالَ وَلما بعد بِالدّينِ والتحرج فِي امثال هَذِه الْمَقَاصِد وغلبت طبيعة الْملك والترف واستخدام الْعَرَب امة الْفرس واخذوا عَنْهُم الصنائه والمباني فَحِينَئِذٍ شيدوا المباني والمصانع وَكَانَ عهد ذَلِك قَرِيبا بانقراض الدولة وَلم يفسح الْأَمر لِكَثْرَة الْبناء واختطاط المدن والأمصار إِلَّا قَلِيلا وَلَيْسَ كَذَلِك غَيرهم من الامم فالفرس والقبط والنبط وَالروم طَالَتْ

امادهم الافا من السنين وَكَذَلِكَ الْعَرَب الأولى من عَاد وَثَمُود والعمالقة والتبابعة طَالَتْ امادهم ورسخت فيهم الصَّنَائِع فَكَانَت مبانيهم وهياكلهم اكثر عددا وابقى على الْأَيَّام اثرا وَالله وَارِث وَمن عَلَيْهَا الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن المباني الَّتِي تختطها الْعَرَب يسْرع اليها الخراب إِلَّا فِي الْأَقَل وَذَلِكَ لامرين أَحدهمَا شَأْن البداوة والبعد عَن الصَّنَائِع كَمَا تقدم فَلَا تكون مبانيهم وَثِيقَة التشييد الثَّانِي وَهُوَ امس بِهِ قلَّة مُرَاعَاتهمْ لحسن الِاخْتِيَار فِي اختطاف المدن بمراعاة مَا تقدم من ذَلِك فَإِنَّهُ بالتفاوت فِيهِ تَتَفَاوَت جودة الْمصر أَو رداءته من حَيْثُ الْعمرَان الطبيعي وَالْعرب بمنعزل عَن ذَلِك إِنَّمَا تراعي مرَاعِي الْإِبِل خَاصَّة لَا تبالي بِالْمَاءِ طَابَ أَو خبث وَلَا قل اكثر وَلَا يسْأَلُون عَن زكي الْمزَارِع والاهوية لانتقالهم فِي الأَرْض ونقلهم الْحُبُوب من الْبَلَد الْبعيد والظعن كَفِيل لَهُم بِطيب الرِّيَاح لَا سِيمَا فِي القفر الْمُخْتَلف لِأَنَّهَا نما تخبث مَعَ الْقَرار وَكَثْرَة الفضلات اعْتِبَار قَالَ وَانْظُر لما اختطفوا الْكُوفَة وَالْبَصْرَة والقيروان لم يراعوا فِي اختطاطها ار مرَاعِي الْإِبِل وَمَا يقرب من الْفقر ومسالك الظعن فَكَانَت بعيدَة عَن الْوَضع الطبيعي للمدن وَلم تكن لَهَا مُدَّة يَمْتَد عمرانها من بعدهمْ لما تقرر انه يحْتَاج إِلَيْهِ فِي حفظ الْعمرَان بِأول وهلة لانحلال أَمرهم وَذَهَاب عصبيتهم الَّتِي كَانَت سياجا لَهَا اتى عَلَيْهَا الخراب والانحلال كَأَن لم تكن وَالله يحكم لَا معقب لحكمه الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَن الْمصر إِذا استجر عمرانه رخصت فِيهِ اسعار الضَّرُورِيّ من الاوقوات وغلت اسعار الحاجي والكمالي من الْفَوَاكِه وَغَيرهَا وَإِذا ضعف عمرانه كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ

بَيَان الأول باعتبارين أَحدهمَا رخص الضَّرُورِيّ وَغَلَاء الحاجي الِاعْتِبَار الأول وَهُوَ أَن توفر الدَّوَاعِي على السَّعْي فِي اتِّخَاذ الْحُبُوب الَّتِي هِيَ من ضرورات الْقُوت توجب كَثْرَة وجودهَا فِي ذَلِك الْمصر بِكَثْرَة مَا يفضل مِنْهَا عَن كل متخذ لَهَا عَن نَفسه أَو عِيَاله وَإِذا كثرت رخص سعرها فِي الْغَالِب إِلَّا أَن تصيبها افة سَمَاوِيَّة وَلَوْلَا احتكارها لما يتَوَقَّع من ذَلِك لبذلت دون لكثرتاه بِكَثْرَة الْعمرَان الِاعْتِبَار الثَّانِي وَهُوَ أَن عدم عُمُوم الْبلوى بِمَا هُوَ حاجي يقْضِي بقلة وجوده وَإِذا قل مَعَ شدَّة الطّلب عَلَيْهِ من قبل المترفين غلت اسعاره لَا محَالة كآلام والفواكه فان استكثار عوائد الترف مِنْهَا مَعَ قلتهَا بانصراف همة الْكثير لاتخاذ مَا هُوَ اهم من مِنْهَا مُوجب لغلاء سعرها كَمَا هُوَ مشَاهد وتلحق بِهِ الصَّنَائِع والأعمال لِكَثْرَة المترفين وَكَثْرَة حاجاتهم إِلَى امتهان غَيرهم إِلَى اسْتِعْمَال الصناع فِي مهنهم فيبذلون أهل الاعمال اكثر من قيمتهَا مُنَافَسَة فِي الاستئثار بهَا فتغز لفعلة والصناع وتغلو اعمالهم وتكثر نفقات أهل المصمر فِي ذَلِك الْبَيَان الثَّانِي أَن الْمصر الصَّغِير نقل اقواته لقلَّة الْعَمَل فِيهِ ويتوقع عدمهَا لذَلِك فَيمسك مَا يحصل مِنْهَا ويحتكر ويعز وجوده ويغلو ثمنه على طَالبه وَلَا كَذَلِك مرافقه من الاشياء الَّتِي لَا تَدْعُو اليها الْحَاجة لقلَّة السَّاكِن وَضعف الْحَال فتختص برخص لَا محَالة تَنْبِيه قد يدْخل فِي قيمَة الأقوات امران موجبان لغلاء سعرها فِي الامصار

أَحدهمَا مَا يفْرض عَلَيْهَا من المكوس والمغارم فِي الاسواق وَفِي ابواب الْمصر امما السُّلْطَان أَو لجباتها من قبله لَا سِيمَا فِي اواخر الدول كَمَا تقدم والبادية لما قل فِيهَا لذَلِك رخص سعرها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الامصار الثَّانِي قيمَة علاج فلحها إِذْ هُوَ محافظ عَلَيْهِ فِي سعرها قَالَ ابْن خلدون كَمَا وَقع بالأندلس لهَذَا الْعَهْد لَا بهم لما ألجأهم النَّصَارَى إِلَى سيف الْبَحْر وبلاده المتوعرة الخبيثة الزِّرَاعَة وملكوا عَلَيْهِم الأَرْض الزاكية والبلد الطّيب احتاجوا إِلَى علاج الْمزَارِع لاصلاح نباتها وفلاحتها باعمال ذَات قيم فاعتبروها فِي السّعر وَصَارَ قطر الأندلس مَخْصُوصًا بالغلاء أجل ذَلِك قَالَ ويحسب النَّاس إِذا سمعُوا ذَلِك انه لقلَّة الْحُبُوب والاقوات لديهم وَلَيْسَ كَذَلِك فهم اكثر أهل الْمَعْمُور فلحا واقواهم عَلَيْهِ وَقل أَن يَخْلُو مِنْهُم سُلْطَان أَو سوقة عَن الزِّرَاعَة إِلَّا قَلِيلا من أهل الصناعات والمهن والطراء على الوطن من الْغُزَاة الْمُجَاهدين وَلِهَذَا يخصهم السُّلْطَان فِي عطاياهم بالعولة وَهِي الْقُوت والعلف من الزَّرْع قَالَ وَلما كَانَت بِلَاد البربر بِالْعَكْسِ من ذَلِك فِي زكاء المنبت وَطيب الاراضي ارْتَفَعت عَنْهُم مُؤنَة الفلح جملَة مَعَ كثرته وعمومه فَلَا جرم رخصت اقواتهم ببلدهم وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَن تأثل الْعقار الْكثير أهل الامصار لَا يكون دفْعَة بل بتدرج وان مستغلاته لَا تفي بحاجة مَالِكه بَيَان الأول أَن الثورة لَا تفي بتملك مَا يخرج من ذَلِك عَن الْحَد وَلَو بلغت فِي الْكَثْرَة مَا عَسى أَن تبلغ وانما يحصل ذَلِك على التدريج إِمَّا بالوراثة

من ابائه وَذَوي رَحمَه أَو بحوالة الاسواق فِيهِ إِذا حلت الْغِبْطَة بِهِ وتملك لذَلِك بابخس ثمن لما ينزل من الْعَوَارِض الْمُوجبَة لذَلِك بَيَان الثَّانِي أَن الْحَاجة إِلَى التَّوَسُّع فِي عوائد الترف لَا تحصل لمَالِك الْعقار من مستغلاته فَقَط لِأَنَّهَا فِي الْغَالِب إِنَّمَا هِيَ لسد الْخلَّة وضرورة المعاش فَحسب قَالَ ابْن خلدون وَالَّذِي سمعناه من مشيخة الْبَلَد أَن الْقَصْد باقتناء الْعقار والضياع إِنَّمَا هُوَ الخشية على من يتْرك خَلفه من الذُّرِّيَّة الضِّعَاف ليتمسكوا بفوائدها مَا داموا عاجزين عَن الِاكْتِسَاب فَإِذا اقتدروا عَلَيْهِ سمعُوا فِيهِ لانفسهم وَرُبمَا يكون مِنْهُم الْعَاجِز عَن الْكسْب لضعف بدنه أَو آفَة فِي عقله المعاشي فَيكون ذَلِك الْعقار قواما لحاله هَذَا قصد المترفين فِي افتنائه واما المتمول مِنْهُ اجراء احوال الترف عَلَيْهِ فَلَا تَصْوِير نَادِر قَالَ وَقد يحصل ذَلِك مِنْهُ للقليل أَو النَّادِر بحوالة الاسواق وَحُصُول الْكَثْرَة الْبَالِغَة مِنْهُ إِلَّا أَن ذَلِك إِذا حصل رُبمَا امتدت إِلَيْهِ اعين الْأُمَرَاء والولاة واغتصبوه فِي الْغَالِب أَو ارادوه على بَيْعه مِنْهُم ونالت اصحابه مِنْهُ مضار ومعاطب وَالله غَالب على آمره الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أَن المتوملين من أهل الامصار يَحْتَاجُونَ إِلَى الحماة والمدافعة وَذَلِكَ لَان الحضري إِذا عظم تموله وَكثر للعقار والضياع تأثله انفسحت أَحْوَاله فِي الترف حَتَّى يزاحم فِيهَا الْأُمَرَاء والملوك واذ ذَاك يغصون بِهِ وتمتد اعينهم إِلَى تملك مَا بِيَدِهِ ويتحيلون على ذَلِك بِكُل مُمكن يحصل بِهِ فِي ربقة حكم سلطاني ينْزع بِهِ مَا لَهُ لَا سِيمَا واكثر الْأَحْكَام

السُّلْطَانِيَّة جَائِزَة فِي الْغَالِب إِذْ الْعدْل الْمَحْض إِنَّمَا هُوَ فِي الْخلَافَة الشَّرْعِيَّة وَقد انقلبت ملكا عَضُوضًا وَعند ذَلِك لَا بُد لَهُ من حماية تذود عَنهُ وجاه ينسحب عَلَيْهِ من ذَوي قرَابَة للْملك أَو خَالِصَة لَهُ أَو عصبية يتحاماها السُّلْطَان ليأمن من ذَلِك من طوارق التَّعَدِّي وَا اصبح نهبا بِوُجُوه التحيلات واسباب الحكم الْجَائِز الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة أَن البدوي يقصر عَن سُكْنى الْمصر الْكثير الْعمرَان وَذَلِكَ لَان المص الْكثير الْعمرَان يحْتَاج فِيهِ إِلَى مُدَّة من الْعَمَل يُقَابل بهَا طلب الْوَفَاء بعوائد ترفه الَّذِي انْقَلب بِهِ الحاجي ضَرُورِيًّا والبدوي ضَعِيف مَادَّة المعاش لسكناه بمَكَان سوق الْعَمَل الَّذِي هُوَ سَبَب الْكسْب فَلَا يَفِي بمطالب الْمصر بذلك وَكَذَلِكَ يتَعَذَّر عَلَيْهِ سكناهُ لَا محَالة وَهَكَذَا يتشوف إِلَيْهِ فسريعا مَا يظْهر عَجزه ويفتضح عَمَّا قريب تَخْصِيص قَالَ ابْن خلدون إِلَّا من يقدم مِنْهُم بتأثل المَال وَحصل لَهُ مِنْهُ قوق الْحَاجة وَيجْرِي إِلَى الْغَايَة الطبيعية أهل الْعمرَان من الدعة والترف فَحِينَئِذٍ ينْتَقل إِلَى الْمصر وينتظم حَاله مَعَ احوال أهل الْمصر فِي عوائد ترفهم قَالَ وَهَكَذَا شَأْن بداية الامصار وَالله بِكُل شَيْء مُحِيط الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة أَن الحضارة فِي الامصار من قبل الدول فَإِنَّهَا ترسخ باتصال الدولة ورسوخها وَذَلِكَ لَان الدولة تجمع امول الرّعية وتنفقها فِي بطانتها والبطانة فِيمَا

تعلق بهم وهم الْأَكْثَر من أهل الْمصر فتعظم بذلك الثروة وتزيد عوائد الترف وتستحكم الصَّنَائِع فِي سَائِر فنونه وَهَذِه هِيَ الحضارة وَلذَلِك تَجِد الامصار القاصية وَلَو توفر عمرانها يغلب عَلَيْهِ احوال البداوة فِي جَمِيع مذاهبها بِخِلَاف مدن الاقطار الَّتِي هِيَ مَرْكَز الدولة ومقرها وَذَلِكَ لمجاورة السُّلْطَان وفيض امواله فيهم كَالْمَاءِ يخضر مَا يقرب مِنْهُ إِلَى أَن يَنْتَهِي فِي الْبعد مِنْهُ إِلَى الجفوف ثمَّ إِذا اتَّصَلت تِلْكَ الدولة وتعاقب مُلُوكهَا على ذَلِك الْمصر وَاحِدًا بعد وَاحِد استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخا واستقرارا شَوَاهِد اعْتِبَار أَحدهَا أَن الشَّام لما طَال فِيهِ ملك الْيَهُود نَحوا من ألف واربع مائَة سنة رسخت فِيهِ حضارتهم وتحذقوا فِي عوائد المعاش والتفنن فِي صنائعه من المطاعم والملابس وَسَائِر احوال الْمنزل قَالَ ابْن خلدون حَتَّى إِنَّهَا لتؤخذ عَنْهُم فِي الْغَالِب إِلَى الْيَوْم الثَّانِي أَن مصر لما دَامَ فِيهَا ملك القبط ثَلَاثَة آلَاف سنة رسخت أَيْضا عوائد الحضارة فِي بلدهم واعقبهم فِيهَا ملك الْإِسْلَام النَّاسِخ فَلم تزل عوائد الحضارة بهَا مُتَّصِلَة الثَّالِث أَن الْيمن لما اتَّصَلت بِهِ دولة الْعَرَب مُنْذُ عهد العمالقة والتبابعة الافا من السنين واعقبهم ملك مُضر رسخت فِيهِ أَيْضا عوائد الحضارة الرَّابِع أَن الْعرَاق لما توالت فِيهِ دوَل النبط وَالْفرس من لدن الكلدانين والكينية والكسروية وَالْعرب بعدهمْ الافا من السنين رسخت الحضارة أَيْضا

قَالَ ابْن خلدون فَلم يكن على وَجه الأَرْض لهذ 1 ااحضر من الشَّام ومصر وَالْعراق الْخَامِس أَن الأندلس لما امتدت فِيهَا الدولة الْعَظِيمَة للقوط ثمَّ مَا اعقبها من ملك بني أُميَّة الافا من السنين قَالَ ابْن خلدون وكلتا الدولتين عَظِيم اتَّصَلت فيهمَا عوائد الحضارة واستحكمت السَّادِس أَن إفريقية لما صَارَت الاغالبة كَانَ لَهُم فِيهَا من الحضارة بعض الشَّيْء لما حصل لَهُم من ترف الْملك وَكَثْرَة عمرَان القيروان وَورث ذَلِك عَنْهُم كتامة وصنهاجة قَالَ وَذَلِكَ كُله قَلِيل لم يبلغ أَرْبَعمِائَة سنة وانصرمت دولتهم واستحالت صبغة الحضارة لعدم استحكامها وتغلب بَدو الْعَرَب الهلاليين عَلَيْهَا وَبَقِي اثر حضارة الْعمرَان قَالَ والى هَذَا الْعَهْد يؤنس مِمَّن لَهُ بالقلعة والقيروان أَو المهدية سلف فتجد لَهُ من احوال الحضارة فِي شؤون منزله وعوائد أَحْوَاله اثارا متلبسة بغَيْرهَا يميزها الحضري الْبَصِير بهَا وَكَذَا فِي اكثر امصار إفريقية السَّابِع أَن الْمغرب انْتقل إِلَيْهِ مُنْذُ دولة الْمُوَحِّدين من الأندلس حَظّ كثير من الحضارة بِمَا كَانَ لدولتهم من الِاسْتِيلَاء على بلادها وانتقال الْكثير من أَهلهَا إِلَيْهِم طَوْعًا وَكرها

قَالَ ثمَّ انْتقل أهل الْمشرق الأندلس عِنْد جالية النَّصَارَى إِلَى افريقيا فابقوا بهَا من الحضارة اثارا ومعظمعا بتونس امتزجت بحضارة مصر وَمَا يَنْقُلهُ المسافرون من عوائدها فَكَانَ بذلك للمغرب وافريقية حَظّ من الحضارة صَالح عفى عَلَيْهِ الْخَلَاء وَرجع إِلَى أعقابه وَعَاد البربر إِلَى أديانهم من البدواة والخشونة قَالَ وعَلى كل حَال فأثر الحضارة بأفريقية اكثر مِنْهَا بالمغرب ولقرب تداول فِيهَا من الدول السالفة اكثر من الْمغرب ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بِكَثْرَة المترددين بَينهم فتفظن لهَذَا السِّرّ فانه خَفِي على النَّاس انْتهى مزِيد تَحْصِيل قَالَ وَاعْلَم إِنَّهَا أُمُور متناسبة وَهِي حَال الدولة فِي الْقُوَّة والضعف وَكَثْرَة الامو وَعظم الْمَدِينَة وَذَلِكَ أَن الْملك صور الخلقية والعمران وَكلهَا مَادَّة لَهُ من الرعايا والأمصار وامور الجباية عَائِدَة عَلَيْهِم ويسارهم غَالِبا من اسواقهم ومتاجرهم وَإِذا افاض السُّلْطَان عَطاء فِي أَهلهَا انبثت فيهم وَرجع إِلَيْهِ ثمَّ إِلَيْهِم مِنْهُ فَهُوَ ذَاهِب عَنْهُم فِي الجباية وَالْخَرَاج عَائِد عَلَيْهِم فِي الْعَطاء فعلى نِسْبَة مَال الدولة يكون يسَار الرّعية وعَلى نِسْبَة يسَار الرّعية يكون مَال الدولة قَالَ واصله كُله الْعمرَان وكثرته فاعتبره فِي الدول تَجدهُ وَالله يحكم لَا معقب لحكمه الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة أَن الحضارة غَايَة للعمران ومؤذنة بفساده لنهاية عمره وَذَلِكَ لما تقدم الْملك غَايَة للعصبية والحضارة غَايَة للبداوة والعمران كُله من حضارة وبدواة وَملك وسوقة لَهُ عمر مَخْصُوص كَمَا لأشخاص

المكونات وَالْأَرْبَعُونَ للْإنْسَان غَايَة فِي تزايد قواه عِنْدهَا تقف الطبيعة عَن ذَلِك بُرْهَة ثمَّ تَأْخُذ فِي الانحطاط والحضارة فِي الْعمرَان لَا مزِيد وَرَاءَهَا لَان الترف إِذا وجد فِيهَا دَعَا بطبعه اليها تفننا فِيهَا وتأنقا فِي استجابة احوالها وَذَلِكَ هُوَ المُرَاد بهَا وَإِذا حصلت تِلْكَ الْغَايَة فِيهَا تبعها طَاعَة الشَّهَوَات وتلونت النَّفس من عوائدها بألوان كَثِيرَة لَا تستقيم بهَا أصلا فِي الدّين وَلَا فِي الدُّنْيَا بَيَان الأول من وَجْهَيْن أَحدهمَا من استحكام صبغة تِلْكَ العوائد النَّفس بألوان كَثِيرَة من الرذائل المخلة بالمرؤة الَّتِي هِيَ عنوان الدّيانَة وجامعها خلق الشَّرّ والسفسفة الثَّانِي أَن من تِلْكَ الرذائل المخلة بالمرؤة مَا يقْضِي بِإِسْقَاط الدّيانَة رَأْسا كالانهماك فِي الشَّهَوَات الْمُحرمَة من الزِّنَا واللواط وَشرب الْخمر وَشبه ذَلِك بَيَان الثَّانِي من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن التفنن فِي الحضارة تعظم بِهِ النَّفَقَة المتضاعفة بغلاء الْمصر وَيخرج عَن الْقَصْد سرفها حَتَّى يذهب بطارف الْكسْب وتالده الثَّانِي أَن الْخلق الْحَاصِل من الحضارة الْبَالِغَة النِّهَايَة فِي الترف هِيَ عين الْفساد لَان الانسان إِنَّمَا هُوَ انسان باقتداره على جلب مَنَافِعه وَدفع مضاره واستقامة خلقه للسعي فِي ذَلِك والحضري لَا يقدر على شَيْء من ذَلِك حَسْبَمَا يتَبَيَّن أَن شَاءَ الله عاطفة بَيَان إِذا انحرف الحضري عَن استقامة دينة ودنياه بِمَا ينطبع فِي نَفسه من صبغة العوائد الْمُوجبَة لذَلِك فَظَاهر أَن ذَلِك مستلزما لفساد الْمصر وخرابه إِمَّا من جِهَة فَسَاد الدّين فَمن وَجْهَيْن

أَحدهمَا مَا يظْهر فِيهِ من الْفساد المخل بنظامه الْمَحْفُوظ برعاية الدّين كالكذب والغش والخلابة وَالسَّرِقَة والمقامرة والفجور فِي الْإِيمَان والمجاهرة بالفسوق واطراح الحشمة حَتَّى بَين الاقارب وَذَوي الْمَحَارِم الثَّانِي مَا تعود بِهِ شَهْوَة الزِّنَا واللواط من فَسَاد النَّوْع الَّذِي بِهِ عمرانه إِذْ ذَلِك من جملَة مَا يسترسل فِيهِ مُطِيع هَوَاهُ فِي اتِّبَاع الشَّهَوَات مام بِالزِّنَا فبوساطة اخْتِلَاط الْأَنْسَاب بِمِائَة الْفَاسِد واما باللواط فبغير وَاسِطَة قَالَ وَهُوَ اشد فِي فَسَاد النَّوْع إِذْ هُوَ يُؤَدِّي الى ان لَا يُوجد وَالزِّنَا إِلَى عدم مَا يُوجد مِنْهُ قَالَ وَلذَلِك كَانَ مَذْهَب مَالك رَحمَه الله فِي اللواط اظهر من مَذْهَب غَيره وَدلّ انه ابصر بمقاصد الشَّرِيعَة فَافْهَم ذَلِك وَاعْتبر بِهِ أَن غَايَة الْعمرَان هِيَ الحضارة والترف وانه إِذا بلغ غَايَته انْقَلب إِلَى الْفساد بمقاصد الشَّرِيعَة واخذ فِي الْهَرم كالأعمار الطبيعية للحيوان واما من جِهَة فَسَاد الدُّنْيَا فَمن وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن المترفين إِذا كَثُرُوا فِي الْمصر وفسدت أَحْوَالهم وَاحِدًا وَاحِدًا تَأذن الله فِي خراب نظامه قَالَ وَهَذَا معنى قَول بعض أهل الحواضر أَن الْمَدِينَة إِذْ كثر فِيهَا غرس النارنج تأذنت بالخراب حَتَّى أَن كثيرا من الْعَامَّة يتحامى غرسها بالدور وَلَيْسَ المُرَاد ذَلِك وَلَا انه خَاصَّة فِيهَا وانما مَعْنَاهُ أَن الْبَسَاتِين واجراء الْمِيَاه هُوَ من تَوَابِع الحضارة إِذْ لَا يقْصد بهَا إِلَّا اشكالها فَقَط وَلَا تغرس إِلَّا بعد هُوَ من تَوَابِع الحضارة إِذْ لَا يقْصد بهَا إِلَّا اشكالها فَقَط وَلَا تغرس إِلَّا بعد التفنن فِي مَذَاهِب الترف وَهُوَ الطّور الَّذِي يخْشَى عَلَيْهِ هَلَاك الْمصر وخرابه قَالَ وَلَقَد قيل مثل ذَلِك فِي الدفلى وَهُوَ من هَذَا الْبَاب إِذْ لَا يقْصد

بهَا إِلَّا تلون الْبَسَاتِين بنورها مَا بَين احنر وابيض وَهُوَ من مَذَاهِب الترف الثَّانِي أَن الحضري كَمَا سبقت إِلَيْهِ الاشارة لَا يقدر على مُبَاشرَة حاجاته وَلَا على دفع مضاره فَالْأول لعَجزه لما حصل لَهُ من الدعة أَو ترفعه لما ربى عَلَيْهِ من الترف وَالثَّانِي لما فقد من خلق الْبَأْس بالمربي فِي قهر التَّأْدِيب والتعليم فَهُوَ لذَلِك عِيَال على الحامية المدافعة عَنهُ قَالَ ثمَّ هُوَ أَيْضا فَاسد فِي دينه غَالِبا بِمَا افسدت مِنْهُ العوائد وَمَا تلونت بِهِ النَّفس من ملكتها إِلَّا فِي الْأَقَل النَّادِر قَالَ إِذْ فسد الانسان فِي قدرته ثمَّ فِي اخلاقه وَدينه فقد فَسدتْ انسانيته وَصَارَ عل الْحَقِيقَة فَائِدَة قَالَ وَبِهَذَا الِاعْتِبَار كَانَ الَّذين يقربون من جند السُّلْطَان إِلَى البداوة والخشونة انفع نم الَّذين يربون على الحضارة وخلقها وَهُوَ مَوْجُودَة فِي كل دولة مزِيد ايضاح من مفاسد الحضارة أَن كثيرا من ناشئة الدولة وولدانهم مِمَّن اهمل عَن التأذيب وَغلب عَلَيْهِ خلق الْجوَار والصحاب يجاري السفلة فِي الْخلق الذميمة وان كَانُوا ذَوي اسناب وبيوت قَالَ لَان الانسان بشر متماثلون وانما تفاضلوا باكتساب الْفَضَائِل وَاجْتنَاب الرذائل فَمن استحكمت فِيهِ صبغة الرذيلة وفسدت خلق الْخَيْر فِيهِ لم يَنْفَعهُ زكاء نَفسه وَلَا طيب منتبه برهَان وجود قَالَ وَلِهَذَا تَجِد كثيرا من اعقاب البيوتات وَذَوي الاحساب أهل الدول منطرحين فِي الغمار منتحلين للحرف الدينة لما فسد من اخلاقهم وَلما تلونوا بِهِ من صبغة الشَّرّ السفسفة

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة أَن الامصار الَّتِي هِيَ كراسي الْملك تخرب بخراب الدول قَالَ قد استقرينا فِي الْعمرَان أَن الدولة إِذا انتقصت فان الْمصر الَّذِي يكون كرسيا لسلطانها ينتقص عمرانه وَرُبمَا يَنْتَهِي إِلَى الخراب وَلَا يكَاد ذَلِك يتَخَلَّف ثمَّ اسْتدلَّ بِأُمُور نذكرها ملخصة من كَلَامه أَحدهَا أم مصير هَذَا الْكُرْسِيّ فِي ملكة الدولة المتجدد يذهب بالكثير من احوال الرفه لرجوع اهله إِلَى خلق تِلْكَ الدولة فِي تقليل تِلْكَ النَّفَقَة لما توجبه بداوة بدايتها فينقص بذلك حضارته وَكثير من عوائد ترفه وَهُوَ المُرَاد بخرابه من تِلْكَ الْجِهَة الثَّانِي أَن عوائد أهل الدولة السَّابِقَة وخصوصا احوال الترفه ينكرها أهل الدولة لَكمَا بَينهم من المنافسات الناشئة عَن الْعَدَاوَة المتمكنة وَإِذا كَانَت مُنكرَة لديهم صَارَت لذَلِك مفقودة إِلَى أَن تنشأ لَهُم بالتدريج عوائد أُخْرَى تكون عَنْهَا حضارة مستأنفة وَضعهَا بَين ذَلِك قُصُور الحضارة الأولى ونقضها وَهُوَ المُرَاد أَيْضا باختلال عمرَان الْمصر الثَّالِث أَن الدولة إِذا اتَّخذت كرسيا لملكها غير مَا كَانَ للدولة السَّابِقَة تسارع النَّاس بالانتقال إِلَيْهِ وخف لذَلِك عمرَان الْكُرْسِيّ الأول فنقصت حضارته وتمدنه كَمَا وَقع للْعَرَب فِي الْعُدُول عَن الْمَدَائِن إِلَى الْكُوفَة وَالْبَصْرَة ولبني الْعَبَّاس فِي التَّحَوُّل عَن دمشق إِلَى بَغْدَاد وللسلجوقية فِي الْخُرُوج عَن بَغْدَاد إِلَى اصبهان وَبني مرين فِي الْعُدُول عَن مراكش إِلَى فاس الرَّابِع أَن الدولة المتجددة لَا بُد فِيهَا من تتبع أهل الدولة السَّابِقَة ذَا غلبت عَلَيْهَا بتحويلهم إِلَى مصر آخر يُؤمن فِيهِ غائلتهم وهم اكثر

أهل الْمصر وَإِذا نقلوا على وَجه التَّغْرِيب وَالْحَبْس أَو الْكَرَامَة والتلطف بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي إِلَى نفرة حَتَّى لَا يبقي فِيهِ إِلَّا الباعة والهمل وَإِذا ذهب من الْمصر اعيانه على طبقاتهم نقص سَاكِنة وَهُوَ معنى اختلال عمرانه قلت وَمن ثمَّ قيل إِذا ولت قلت امة وَإِذا اتت دولة نسخت امهِ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة أَن لُغَات أهل الامصار إِنَّمَا تكون بِلِسَان الْأمة والجيل الغالبين عَلَيْهَا أَو المختطفين لَهَا وَشَاهد ذَلِك من الْوَاقِع فِي الممالك الاسلامية امران أَحدهمَا أَن لُغَات أهل الامصار شرقا وغربا عَرَبِيَّة وان كَانَ اللِّسَان العصري مِنْهَا قد فَسدتْ فِي الْجَمِيع ملكته وتغيير اعرابه بمخالطة الاعاجم وَسَببه مَا وَقع للدولة الاسلامية من الغلب على الامم وَالنَّاس تبع لسلطان الدولة وعَلى دينه وَأَيْضًا فدين الْإِسْلَام مُسْتَفَاد من الشَّرِيعَة وَهِي بِلِسَان الْعَرَب لَان النَّبِي ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَرَبِيّ فَوَجَبَ هجرها سوى اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَعند ذَلِك فاستعماله من شَعَائِر الْإِسْلَام وَطَاعَة الْعَرَب القائمين بِهِ الثَّانِي انه تملك الْعَجم جَمِيع الممالك الاسلامية كَانَ لديلم والسلجوقية بالمشرق وزنانة وَجمع البربر بالمغرب وَفَسَد اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَكَاد يذهب لَوْلَا حفظه لعناية الْمُسلمين للسّنة فبذلك اسْتمرّ بَقَاؤُهُ وترجحت الْمُحَافظَة عَلَيْهِ وان كَانَ عَرَبيا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تحول إِلَيْهِ من اللُّغَات العجمية

تَعْرِيف قَالَ وَلما ملك التتر بالمشرق وَلم يَكُونُوا على دين الْإِسْلَام ذهب ذَلِك الْمُرَجح وفسدت اللُّغَة الْعَرَبيَّة على الاطلاق وَلم يبْق لَهَا رسم فِي الممالك الاسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فَارس وَارْضَ الْهِنْد والسند وَمَا وَرَاء النَّهر وبلاد الشمَال وبلاد الشمَال وبلاد الرّوم وَذَهَبت اساليب اللُّغَة الْعَرَبيَّة من التَّعْبِير وَالْكَلَام إِلَّا قَلِيل ليَقَع تَعْلِيمه صناعيا بالقوانين المتدارسة من عُلُوم الْعَرَب وَحفظ كَلَامهم لمن يسره الله لذَلِك اثر عناية قَالَ وَرُبمَا بقيت اللُّغَة الْعَرَبيَّة مصر وَالشَّام والأندلس وَالْمغْرب لبَقَاء الدسن طلبا لَهَا فانخفظت بعض الشَّيْء واما فِي ممالك الْعرَاق وَمَا وَرَاءه فَلم يبْق لَهَا اثر وَلَا عين حَتَّى أَن كتب الْعُلُوم تكْتب بِاللِّسَانِ العجمي وَكَذَا تدريسه فِي الْمجَالِس وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار

الفصل الثالث

الْفَصْل الثَّالِث فِي اكْتِسَاب المعاش بِالْكَسْبِ والصنائع وَفِيه مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى أَن الانسان مفتقر بالطبع إِلَى مَا يحفظ بِهِ وجوده من لدن نشوئه إِلَى مُنْتَهى تطويره وَالله الْغَنِيّ وانتم الْفُقَرَاء وَمن مظَاهر غناهُ تَعَالَى خلق جَمِيع مَا فِي الْعَالم لجبر هَذَا الْفقر تفضلا وامتناعا {وسخر لكم مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ} لِكَثْرَة تفاصيل ذَلِك اشعارا بسعة الْجُود نبه على عجز الْوُقُوف عَلَيْهَا {وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها} الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة انه مَتى تجَاوز طور الضعْف قَادِرًا على افتناء المكاسب سعي فِيهِ بِدفع الْعِوَض عَمَّا حصل بيد غَيره مِمَّا خلق للْجَمِيع كَمَا أَمر بِهِ اظهارا لما وضع الْوُجُود عَلَيْهِ فابتغوا عِنْد الله الرزق وَمَا يحصل مِنْهُ بِغَيْر سعي كالمطر المصلح للزِّرَاعَة فَهُوَ معِين وَالسَّعْي لَا بُد مِنْهُ وَلَو فِي تنَاوله على حسب مَا قدره قل كل من عِنْد الله الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن تِلْكَ المكاسب أَن كَانَت بِمِقْدَار الضَّرُورَة فَهِيَ معايش وان زَادَت عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَمَوّل ورياش وَكِلَاهُمَا أَن انْتفع بِهِ سمى رزقا وان لم ينْتَفع بِهِ سمى كسبا كالتراث يُسمى بِاعْتِبَار الْهَالِك كسبل لعدم انتفاعه بِهِ وبحسب الْوَارِث أَن انْتفع بِهِ يُسمى رزقا فالرزق مَا انْتفع بِهِ

منتفع وَلَو بتعمد فِيهِ خلافًا للمعتزلة فِي اشْتِرَاطه صِحَة التَّمَلُّك اخراجا لِلْحَرَامِ عَن مُسَمَّاهُ لَان الله تَعَالَى يرْزق الظَّالِم وَالْغَاصِب وَالْمُؤمن وَالْكَافِر وَيخْتَص بهدايته من يَشَاء قلت وَلَا يَصح مِنْهُ التَّمَلُّك كَالْبَهَائِمِ وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَن الله تَعَالَى خلق حجري ذهب وَالْفِضَّة من المعدنيات قيمَة جَمِيع المتمولات وقنية أهل الْعَالم من الذَّخَائِر النفسية واقتناء غَيرهَا فِي بعض الاوقات الْقَصْد بِهِ تَحْصِيلهَا بِمَا يقه فِيهِ من حِوَالَة الاسواق الَّتِي هِيَ لَا يترصد فِيهَا فهما إِذا اصل المكاسب والقنية والذخيرة الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن الْكسْب هُوَ قيمَة الاعمال الانسانية إِمَّا بالصانع فَظَاهر واما مَا يَنْضَم لبعضها كالخشب مَعَ النجارة والغزل مَعَ الحياكة فَالْعَمَل فِيهِ اكثر فَقيمته ازيد واما بغَيْرهَا فَلَا بُد فِي قِيمَته من قيمَة الْعَمَل الَّذِي بِهِ حُصُوله نعم رُبمَا يخفي ملاحظته كَمَا فِي اسعار الأقوات فِي الاقطار الَّتِي لَا خطر لعلاج الفلح فِيهَا لخفة مؤونته فَلَا يشْعر بهَا إِلَّا الْقَلِيل من أهل الفلح الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن الاعمال إِذا فقدت أَو قلت بانتقاص الْعمرَان اذن الله تَعَالَى يرفع الْكسْب بِدَلِيل قلَّة الرزق فِي الامصار القليلة السَّاكِن أَو فَقده لقلَّة الاعمال فِيهَا وَمن هُنَا تَقول الْعَامَّة فِي الْبِلَاد إِذا تناقص

عمرانها قد ذهب رزقها حَتَّى الْعُيُون يَنْقَطِع جريها لَان وفورها إِنَّمَا هُوَ بالأنماط والامتراء الَّذِي هُوَ الْعَمَل الانساني كالحال فِي ضروع الْأَنْعَام فَمَا لم يكن امتراء وَلَا انباط نضبت وَغَارَتْ وجفت كَمَا يجِف الضَّرع إِذا ترك امتراؤه قَالَ وَانْظُر فِي الْبِلَاد الَّتِي تعهد فِيهَا الْعُيُون لايام عمرانها ثمَّ يَأْتِي عَلَيْهَا الخراب كَيفَ يفوز مياهها جملَة كَأَن لم تكن انْتهى الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن الْحُكَمَاء قَالُوا وتبعهم الادباء كالحريري وَغَيره اصول المعايش اربعة الامارة لاخذ مَا بيد الْغَيْر بقهرها على قانون مُتَعَارَف وَهُوَ المغرم والجباية وَالتِّجَارَة وَهِي اعداد البضائع لطلب اعواضها بالتقلب بهَا فِي الْبِلَاد أَو احتكارها لترصد بهَا حِوَالَة الاسواق والفلاحة وَهِي اسْتِخْرَاج فضول الْحَيَوَان الدَّاجِن كاللبن وَالْحَرِير وَالْعَسَل وَثَمَرَة النَّبَات من الزَّرْع ولشجرة والصناعة وَهِي عمل فِي مواد مُعينَة كالكتابة والفروسية أَو غير مُعينَة وَهِي جَمِيع المهن والتصرفات الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَن الطبيعي مِنْهَا للمعاش مَا عدا الْإِمَارَة وأقدمها بِالذَّاتِ الفلاحة لبساطتها وإدراكها للفطرة وَإِلَى هَذَا تنْسب إِلَى آدم أبي الْبشر والصناعة ناشئة عَنْهَا لتركيبها وَتَعْلِيمهَا بالفكرة وَالنَّظَر وَمن ثمَّة لَا تُوجد

غَالِبا إِلَّا فِي الْحَضَر الْمُتَأَخِّرين عَن البدو وتنسب إِلَى ادريس الاب الثَّانِي للخليفة وَالتِّجَارَة وان كَانَت طبيعية فاكثر طرقها تحيلات فِي تَحْصِيل مَا بَين الْقِيمَتَيْنِ فِي الشِّرَاء وَالْبيع واباحها الشَّارِع لَان اخذ المَال فِيهَا من الْغَيْر لَيْسَ مجَّانا الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَن خدمَة النَّاس لَيست من المعاش الطبيعي إِمَّا للسُّلْطَان فَلَا ندراجها فِي الامارة واما لغيره فَلِأَن ترفع اكثر المترفين عَن مُبَاشرَة حاجاته أَو عَجزه عَنْهَا حَتَّى يتَّخذ من يتَوَلَّى ذَلِك لَهُ ويقطعه عَلَيْهِ جُزْءا من مَاله غير مَحْمُود فِي الرجولية الطبيعية إِذا الثِّقَة بِكُل أحد عجز مَعَ زيادتها فِي المؤونة لَكِن العوائد تغلب طبائع الانسان إِلَى مالوفها فَهُوَ ابْن عوائدة لَا بن نِسْبَة الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أَن الخديم الَّذِي يستكفي بِهِ ويرثق بغنائه كالمفقود إِذْ هُوَ اربعة مضطلع بأَمْره موثوق بِهِ فِيمَا يحصل بِيَدِهِ وَبِالْعَكْسِ فيهمَا أَو فِي أَحدهمَا فَقَط فَالْأول لَا يُمكن أحد اسْتِعْمَاله لانه باضطلاعه وثقته غَنِي عَن أهل الرتب القاصرة ومحتقر لاجر الْخدمَة فَلَا يَسْتَعْمِلهُ إِلَّا الْأُمَرَاء لعُمُوم الْحَاجة إِلَى الجاه وَالثَّانِي لَا يَنْبَغِي لعاقل اسْتِعْمَاله لَان من لَيْسَ بمضطلع وَلَا موثوق بِهِ يجحف بمخدومه بتضييع عَم اضطلاعه وخيانته وفقد ثقته وَالثَّالِث وَهُوَ الموثوق بِهِ غير المضطلع وَالرَّابِع عَكسه وَهُوَ المضطلع غير الموثوق بِهِ للنَّاس فِي التَّرْجِيح بَينهمَا مذهبان قَالَ وَلكُل من الترجحين وَجه إِلَّا أَن المضطلع وَلَو كَانَ غير موثوق ارجح للنَّاس من تضييعه ومحاولة

التَّحَرُّز من خيانته والمضيع الْمَأْمُون ضَرَره بالتصنيع اكثر من نَفعه فَاعْلَم ذَلِك واتخذه قانونا فِي الاستكفاء بِالْخدمَةِ وَالله قَادر على مَا يَشَاء الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة أَن ابْتِغَاء الرزق من الدفائن والكنوز لَيْسَ بمعايش طبيعي لَان العثور عَلَيْهَا اتفاقي ونادر واعتقاد ضعفاء الْعُقُول العاجزين عَن المعاش الطبيعي أَن أَمْوَال الامم السالفة مختزنة تَحت الأَرْض لَا تستخرج إِلَّا بِحل طلاسمها السحرية هوس ووسواس والحكايات المتناقلة فِي ذَلِك أَحَادِيث خرافة لَان إخفاء المَال للإتلاف والهلاك أَو لمن لَا يعرف مِمَّن سَيَأْتِي لَيْسَ من مَقَاصِد الْعُقَلَاء والختم عَلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ السحرية أَن صَحَّ مِمَّن سَيَأْتِي لَيْسَ من مَقَاصِد الْعُقَلَاء والختم عَلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ السحرية أَن صَحَّ ذَلِك مُبَالغَة فِي السّتْر وَنصب الإمارات عَلَيْهِ مُنَاقض لذَلِك الْقَصْد واموال الامم الغابرة إِنَّمَا هِيَ الات ومكاسب والعمران يوفرها أَو ينقصها وَرُبمَا تنْتَقل من قطر إِلَى قطر وَمن دولة إِلَى أُخْرَى مَعَ أَن المعدنيات يُدْرِكهَا الْبلَاء كَسَائِر الموجودات تَوْجِيه قَالَ وَمَا يُوجد من ذَلِك فِي مصر فسببه أَن القبط الَّذين ملكوها مُنْذُ دهور كانو يدفنون موتاهم بموجودهم من الذَّهَب وَالْفِضَّة والجواهر النفسية فقبورهم مَظَنَّة لوُجُوده وَمن هُنَاكَ عَنى أهل مصر بالبحث عَنْهَا حَتَّى انهم حِين ضربت المكوس عَن الاصناف آخر الدول ضربت على أهل المطالب وَصَارَت ضريبة على من يشغل بذلك من الحمقاء والمهوسين

قلت وَكَذَا فِي بِلَادنَا الأندلسية ادراجا لَهَا فِي الضريبة الْمُسَمَّاة لديهم بِمَنْفَعَة الغرباء وهم أهل الكدية بجيل الدعاوي الكاذبة موعظة قَالَ فَيحْتَاج من ابتلى بِهَذَا الوسواس أَن يتَعَوَّذ بِاللَّه من الْعَجز والكسل فِي طلب معاشه كَمَا تعوذ من ذَلِك رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يشغل نَفسه بالمحالات والمكاذب من الحكايات وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب اسْتِدْرَاك يَكْفِي من شوم الِاشْتِغَال بذلك امران أَحدهمَا سوء حَال الْمَعْرُوف بِهِ زَائِدا على تعرضيه لنيل الْعُقُوبَات ومضايقة المطالبات فقد قَالَ ابْن الْحَاج الْغَالِب على أهل هَذَا الشَّأْن شظف الْعَيْش وَقلة ذَات الْيَد لَان الْبركَة فِي امْتِثَال السّنة حَيْثُ كَانَ الثَّانِي تسببه فِي التسليط على هدم دور الْمُسلمين ومساجدهم حَتَّى من نَاحيَة عداة الدّين فقد حكى ابْن الْحجَّاج وُقُوعه بالديار المصرية يكْتب من أَرَادَ مِنْهُم تخريب مَسْجِد أَو دَار مُسلم معاد لَهُ أَن فِي الْموضع الْفُلَانِيّ كذ وَكَذَا مؤرخا بتاريخ قديم على صُورَة تشعر بعتاقة الْمَكْتُوب وَقدمه ثمَّ يلقيه فِي مَوضِع من يعلم قدرته على فعل ذَلِك بِالْقُوَّةِ أَو الْحِيلَة فيخرب ذَلِك الْموضع لَا محَالة دلَالَة قَالَ وَيدل على ذَلِك أَن اكثر الْيَهُود وَالنَّصَارَى قل أَن تحفر لَهُم دَار أَو بيعَة أَو كَنِيسَة وَالْكل فِي بلد وَاحِد ثمَّ قرر حكم العثور عَلَيْهِ أَن اتّفق فِي ارْض العنوة أَو الصُّلْح أَو فيا فِي الْعَرَب بِمَا هُوَ مَعْرُوف فِي الْفِقْه إِلَى أَن قَالَ فَالْحَاصِل أَن واجده لَا شَيْء لَهُ فِيهِ إِلَّا التَّعَب وشغل

المنحى وَلِهَذَا كُنَّا كَلَامهم فِيهَا الغازا حذرا من انكار الشَّرَائِع على السحر لَا لَان ذَلِك ضنانة بهَا كَمَا هُوَ رَأْي من لم يذهب إِلَى التَّحْقِيق فِي ذَلِك قَالَ واكثر مَا يحمل عَن انتحالها الْعَجز عَن الطّرق الطبيعية للمعاش فيروم الْحُصُول على الْكثير من المَال دفْعَة بهَا وبغيرها من الْوُجُوه غير الطبيعية لحاق شُؤْم قَالَ واكثر من يعتني بذلك الْفُقَرَاء حَتَّى فِي الْحُكَمَاء ابْن سينا الْقَائِل باستحالها كَانَ من عَلَيْهِ الوزراء ذَوي الثروة والغنى والفارابي الْقَائِل بإمكانها كَانَ من الْفُقَرَاء الَّذين يعوزهم ادنى بلغَة من الْعَيْش وَهِي تُهْمَة ظَاهِرَة فِي انظار النُّفُوس المولعة بانتحالها وَالله الرازق ذُو الْقُوَّة المتين انْتهى مُلَخصا من مَوَاضِع فِي كَلَامه بَيَان ثَانِي إِنَّهَا كَانَت خَارِجَة عَن الصَّنَائِع الطبيعية وَلذَلِك لَا يحصل فِيهَا على حَقِيقَة وَلَا ثَبت على طول الاختبار كَانَ الِاشْتِغَال بهَا ضائعا

وفساده فِي الْخلق شَائِعا واذ ذَاك فَوجه الْمَنْع من التَّلَبُّس بِهِ وضاح الاسرة وَقد ركب الشُّيُوخ عَلَيْهَا احكاما جملَة أَحدهَا منع نَقله القلشاني عَن القَاضِي أبي مهْدي عِيسَى الغبريني قَائِلا لانه أَن لم يبين غش وان بَين لم يُعَامل بهَا وَحكى ابْن نَاجِي انه نَقله عَن بعض المغاربة أخذا عَن قَول الشَّيْخ فِي الرسَالَة وَلَا أَن يكتم من أَمر سلْعَته شَيْئا مَا إِذا ذكره كرهه الْمُبْتَاع الثَّانِي رد شَهَادَة المشتغل بهَا قَالَه ابْن عَرَفَة فِي فصل مَا يُنَافِي الْعَدَالَة الثَّالِث منع امامته حَكَاهُ عَن الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح ابي الْحُسَيْن الْمُنْتَصر مفتيا بِهِ الرَّابِع كَرَاهَة صُحْبَة أهل الْفضل مِمَّن يشْتَغل بهَا أَو يطْلب الْكُنُوز

وَقَالَ ابْن الْحَاج يتَعَيَّن على من تعلق بالإرادة الْهَرَب الْكُلِّي مِمَّن يشار إِلَيْهِ بِشَيْء ذَلِك لَان حَال المريد نظيف والنظيف يتأثر بِأَقَلّ شَيْء يُقَابله من الْوَسخ تَنْبِيه على مفْسدَة قرر ابْن الْحَاج أَن من مفاسدها على فرض إِنَّهَا لَا تَغْيِير على طول الْمدَّة إِنَّهَا تداوي الأَرْض النافع فِيهَا التَّدَاوِي بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وَهِي لَيست فِيهَا فِي الأَصْل قُوَّة أَن ذادت فِي مرض العليلاو قَضَت عَلَيْهِ قَالَ وَعَلِيهِ فَمن تعاطى شَيْئا مِنْهَا يثقل بأموال النَّاس وَدِمَائِهِمْ الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة أَن الجاه مُفِيد لِلْمَالِ لَان صَاحبه مخدوم بِالْأَعْمَالِ فِي جَمِيع مطالبه من ضَرُورِيّ أَو حاجي أَو تكميلي لضَرُورَة الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ فَيحصل لَهُ قيم تِلْكَ الْأَعْمَال من عير عوض مَعَ قيم مَا يسْتَعْمل فِيهِ النَّاس كَذَلِك وَهِي لصَاحب الجاه كَثِيرَة فتفيد الْغَنِيّ لاقرب وَقت ويزداد مَعَ الْأَيَّام يسارا وثروة وَمن ثمَّ كَانَت الامارة أحد اسباب المعاش وفاقدة بِالْكُلِّيَّةِ وَلَو كَانَ ذَا مَال لَا يكون يسَاره إِلَّا بِمِقْدَار مَاله على نسبه سعية وهم اكثر التُّجَّار وَلِهَذَا يُوجد مِنْهُم ذُو الجاه ايسر بِكَثِير شَهَادَة قَالَ وَمِمَّا يشْهد لذَلِك أَنا نجد كثيرا من الْعلمَاء أهل الدّين إِذا اشْتهر حسن الظَّن بهم واعتقد الْجُمْهُور مُعَاملَة الله تَعَالَى فِي أرفادهم فاخلصوا فِي أعانتهم والاعتمال فِي مصالحهم اسرعت إِلَيْهِم الثروة واصبحوا

مياسير لما يتَحَصَّل من قيم الْأَعْمَال الَّتِي اعينوا بهَا وهم قعُود فِي مَنَازِلهمْ وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة أَن السَّعَادَة فِي الْكسْب وَغَيره لما تحصل غَالِبا أهل الخضوع وللتملق لَان الجاه لما كَانَ مُفِيدا لِلْمَالِ كَمَا سبق وَكَانَ موزعا فِي النَّاس بِحَسب طبقاتهم كَانَ بذله من اعظم النعم واجلها واذ ذَاك لَا يبذله صَاحبه لمن دونه إِلَّا عَن يَد عالية فَيحْتَاج مبتغيه إِلَى خضوع وملق وَألا فيتعذر حُصُوله وَإِذا حصل بتواضع متواضع هَذَا الْخلق حظى بالسعادة فِي كَسبه وَغَيره كَمَا يفوت المترفع عَن هَذَا التَّوَاضُع برهَان وجود قَالَ وَلِهَذَا نجد الْخلق الْكثير لمن يتَخَلَّف بالترفع عَن هَذَا التَّوَاضُع لَا يحصل لَهُم عرض من الجاه فيقتصرون فِي التكسب على أَعْمَالهم ويصيرون إِلَى الْفقر والخصاصة

كشف حَقِيقَة قَالَ وَهَذَا الترفع إِنَّمَا يحصل من توهم الْكَمَال واحتياج النا إِلَيْهِ كالعالم المتجر وَالْكَاتِب الماهر الْمجِيد والشاعر البليغ وكل محسن فِي صناعته كَمَا يتَوَهَّم ذَوُو الْأَنْسَاب فِي تعززهم بِمَا رَأَوْهُ أَو سَمِعُوهُ من حَال ابائهم استمساكا فِي الْحَاضِر بالمعدوم إِذْ الْكَمَال لَا يُورث وكما يتخيل ذَوُو الحنكة والتجربة فِي الِاحْتِيَاج إِلَيْهِم وكل هَؤُلَاءِ تجدهم مرتفعين لَا يخصمون لذِي جاه وَلَا يتملقون لمن هُوَ اعلى مِنْهُم ويستصغرون من سواهُم لاعتقادهم الْفضل عَلَيْهِ وَيُحَاسب أحدهم النَّاس فِي معاملتهم اياه بِمِقْدَار مَا يسر فِي نَفسه ويحقد على من قصر لَهُ فِي شَيْء من ذَلِك وَرُبمَا يدْخل على نَفْيه الهموم والاحزان من تقصيرهم مَعَه وَيبقى فِي عناء عَظِيم من ايجاب الْحق لنَفسِهِ واباية النَّاس لَهُ من ذَلِك وكل هَذَا فِي ضمن الجاه فَإِذا فَقده بِهَذَا الْخلق مقته النَّاس بِهِ وَلم يحصل لَهُ حَظّ من احسانهم وَقعد عَن تعاهد من فَوْقه بغشيان مَنَازِلهمْ ففسد معاشه وَبَقِي فِي خصَاصَة وفقر وَفَوق ذَلِك بِقَلِيل واما الثورة فَلَا تحصل لَهُ أصلا قَالَ وَمن هَذَا اشْتهر بَين النَّاس أَن الْكَامِل فِي الْمعرفَة محروم من الْحَظ وانه قد حُوسِبَ بِمَا رزق مِنْهَا واقتطع لَهُ ذَلِك من الْحَظ وَمن خلق لشَيْء يسر لَهُ انْتهى مُلَخصا

مَحْذُور وَاقع قَالَ وَلَقَد فِي الدول اضْطِرَاب فِي الْمَرَاتِب من أهل الْخلق ويرتفع بِسَبَبِهِ كثير من السفلة وَينزل كثير من الْعلية وَذَلِكَ لَان الدول إِذا بلغت عَادَتهَا من التغلب وَانْفَرَدَ مِنْهَا منبت الْملك بسلطانهم وشمخ عَن الدولة باستمرارها تَسَاوِي حِينَئِذٍ عِنْد السُّلْطَان كل من انْتَمَى إِلَى خدمته وتقرب إِلَيْهِ بنصيحته فيسعى كثير من السوقة فِي الْقرب إِلَيْهِ بجده ونصحه ويستعين على ذَلِك بعظيم من الخضوع والتملق إِلَيْهِ بجده ونصحه ويستعين على ذَلِك بعظيم من الخضوع والتملق إِلَيْهِ ولحاشيته وَذَوي نسبه حَتَّى ترسخ قدمه مَعَهم فَيحصل لَهُ بذلك حَظّ عَظِيم من السَّعَادَة وينتظم فِي عداد أهل الدولة وناشئتها حِينَئِذٍ من ابناء قَومهَا الَّذين ذللوا صعابها مغترون بأثر ابائهم شامخة بهَا نُفُوسهم فيمقتهم بذلك السُّلْطَان ويباعدهم ويميل إِلَى هَؤُلَاءِ المصطنعين الَّذين لَا يعتدون بقديم وَلَا يذهبون إِلَى دَالَّة وَلَا ترفع وأنما دأيهم الخضوع لَهُ والتملق والاعتمال فِي غَرَضه فيتسع جاههم وتعلة مَنَازِلهمْ وتبقي ناشئة الدولة فِيمَا هم فِيهِ من الترفع والاعتداد بالقديم لَا يزيدهم ذَلِك إِلَّا بعدا من السُّلْطَان ومقتا وايثار لهَؤُلَاء المصطنعين عَلَيْهِ إِلَى أَن تنقرض الدولة قَالَ وَهَذَا أَمر طبيعي فِي الدول وَمِنْه جَاءَ شَأْن الاصطناع فِي الْغَالِب وَالله فعال لما يُرِيد

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة أَن القائمين بِأُمُور الدّين من الْقَضَاء وَالشَّهَادَة والقتيا والتدريس والإمامة والخطابة والآذان وَنَحْو ذَلِك لَا تعظم ثروتهم غَالِبا وَذَلِكَ لأمور أَحدهَا أَن الْكسْب قيمَة الْأَعْمَال كَمَا تقدم وَهِي مُتَفَاوِتَة بِحَسب الْحَاجة اليها لعُمُوم الْبلوى بهَا وَقيمتهَا على تِلْكَ النِّسْبَة أهل هَذِه الصَّنَائِع الدِّينِيَّة لَا تضطر إِلَيْهِم الْعَامَّة بل مَا احْتَاجَ إِلَى مَا عِنْدهم مِمَّن اقبل على دينه والاحتياج إِلَى التيا وَالْقَضَاء لَيْسَ على وَجه الِاضْطِرَار والعموم وَحِينَئِذٍ فيستغني عَنْهُم غَالِبا وانما يهتم بِإِقَامَة مَرَاتِبهمْ صَاحب الدولة لما هُوَ نَاظر فِي الْمصَالح فَيقسم لَهُم حظا من الرزق على نِسْبَة الْحَاجة إِلَيْهِم لَا يساويهم بِأَهْل الشَّوْكَة وَلَا بذوي الصَّنَائِع الضرورية وان كَانَت بضاعتهم اشرف فَلَا يطير فِي سهمهم إِلَّا الْقَلِيل قلت وَمِمَّا ينْسب لِابْنِ حبيب فِي التشكي من ذَلِك (صَلَاح امري وَالَّذِي ابْتغِي ... هَين على الرَّحْمَن فِي قدرته) (ألف من الصفر واقلل بهَا ... لعالم أربى على بغيته) (رياب يَأْخُذهَا دفْعَة ... وصنعتي أشرف من صَنعته) وَيَعْنِي بزرياب المعني الشهير

الثَّانِي انهم لشرف بضاعتهم اعزه على الْخلق وَعند أنفسهم فَلَا يخضعون أهل الجاه وَلَا يسعهم التذلل أهل الدُّنْيَا فيفوتهم بذلك حَظّ عَظِيم من وُجُوه التمول قلت وَفِي ذَلِك يَقُول القَاضِي أَبُو الْحسن الْجِرْجَانِيّ الأبيات الْمَشْهُور لَهُ (يَقُولُونَ لي فِيك انقباض وانما ... رَأَوْا رجلا عَن موقف الذل اجحما) (يرى النَّاس من داناهم هان عِنْدهم ... وَمن اكرمته عزة النَّفس اكراما) (وَمَا كل برق لَاحَ لي يستفزني ... وَلَا كل من لاقيت ارضاه منعما)

(وَمَا زَالَت منحازا بعرضي جانبا ... من الدَّم اعْتد الصيانة مغنما) (إِذا قيل هَذَا منهل قلت قد ارى ... وَلَكِن نفس الْحر تحْتَمل الظما) (واني إِذا مَا فَاتَنِي الْحَظ لم ابت ... اقلب كفي اثره متندما) (وَلكنه أَن جَاءَ عفوا قبلته ... وان مَال لم اتبعهُ هلا وليتما) (واقبض خطوى عَن حظوظ قرينه ... إِذا لم انلها وافر الْعرض مكرما) (واكرم نَفسِي أَن اضاحك عَابِسا ... وان اتلقى بالمديح مذمما) (انهنهها عَن بعض مَا لَا يشينها ... مَخَافَة أَقْوَال العدا فِيمَا أولما) (وَلم اقْضِ حق الْعلم أَن كنت كلما ... بذا طمع صيرته لي سلما) (وَلم ابتذل فِي خدمته الْعلم مهجتي ... لَا خدم من لاقيت لَكِن لَا خدما) (اغرسه عزا واجنيه ذلة ... إِذا فاتباع الْجَهْل قد كَانَ احزما)

(فان قلت جد الْعلم كَاف فَإِنَّمَا كفى ... حِين لم يحفظ حماه واسلما) (وَلَو أَن أهل الْعلم صانوه صانهم ... وَلَو عظموه فِي النُّفُوس لعظما) الثَّالِث انهم لما هم فِيهِ من الشّغل بِهَذِهِ الصَّنَائِع الشَّرِيفَة الْمُشْتَملَة على الْفِكر وَالْبدن لَا تفرغ اوقاتهم للمساعي العائدة بادرار الارزاق فَلذَلِك لَا تعظم ثروتهم غَالِبا عِبْرَة بَالِغَة قَالَ ابْن خلدون وَلَقَد باحثت بعض الْفُضَلَاء فانكر ذَلِك على فَوَقع بيَدي اوراق مخرمَة من حسابات الدَّوَاوِين بدار الْمَأْمُون تشْتَمل على كثير من الدخل والخرج يؤمئذ وَكَانَ فِيمَا طالعت فِيهَا أرزاق الْقُضَاة والائمة والمؤذنين فوفقته عَلَيْهِ وَعلم مِنْهُ صِحَة مَا قلته وَرجع إِلَيْهِ وقضيت الْعجب من اسرار الله فِي خلقه وحكمته فِي عوالمه واله الْخَالِق الْمُقدر الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة أَن الفلاحة من معاش الْمُسْتَضْعَفِينَ أهل الْعَافِيَة من البدو وَذَلِكَ لامرين أَحدهَا أَن كيفيتها سهلة التَّنَاوُل ولبساطتها واصلها فِي الطبيعة وَذَلِكَ لَا ينتحلها أهل الْحَضَر فِي الْغَالِب وَلَا المترفون

الثَّانِي أَن منتحلها مَخْصُوص بالهوان والذلة فَفِي الحَدِيث انه ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَقد رأى السِّكَّة بِبَعْض دور الانصار مَا دخلت هَذِه دَار قوم إِلَّا دخله الذل لَكِن حمله البُخَارِيّ على الاستكثار مِنْهَا قلت وَقد ذكر ابْن الْحَاج لحاق هَذَا الذل لمنتحلها فِي الديار المصرية قَالَ كَأَنَّهُ عبد لبَعْضهِم اسير ذليل صَغِير لَا مَال لَهُ وَلَا روح لما فِيهَا من الذل فِي هَذَا الزَّمَان تَوْجِيه قَالَ ابْن خلدون وَسَببه وَالله اعْلَم مَا يتبعهَا من المغرم المفضي لتَحكم الْيَد الْغَالِبَة إِلَى مذلة الْغَالِب وقهره فَفِي الحَدِيث لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تعود الزَّكَاة مغرما إِشَارَة للْملك العضوض الَّذِي يُسمى فجوره حُقُوق الله تَعَالَى حَتَّى تصير مغارم الدول وضرائبها تسمى حقوقا قلت وَوجه آخر وَهُوَ أَن الاكثار مِنْهَا مَظَنَّة لنسيان الْجِهَاد الَّذِي بِهِ الْغَزْو والحماية كَمَا يلوح من تَوْجِيه البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى وَيشْهد لَهُ مَا رَوَاهُ الْأَمَام احْمَد رَحمَه الله عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ

سَمِعت رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أَذْنَاب الْبَقر ورضيتم بالزرع وتركتم الْجِهَاد سلط الله عَلَيْكُم ذلا لَا يَنْزعهُ حَتَّى ترجعوا إِلَى دينكُمْ الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة أَن معنى التِّجَارَة محاولة على التكسب لتنمية المَال فِي الشِّرَاء بالرخص وَالْبيع بالغلاء قَالَ بعض شُيُوخ التُّجَّار لطَالب الْكَشْف عَن حَقِيقَتهَا انا اعلمكها فِي كَلِمَتَيْنِ اشْتَرِ الرخيص وبع الغالي وَقد حصلت التِّجَارَة وَالْقدر الْبَاقِي يُسمى ربحا والمحاولة لتحصيله إِمَّا بانتظار حِوَالَة الاسواق أَو نقلهَا إِلَى بلد آخر هِيَ فِيهِ انفق وَهنا محاولتان المحاولة الأولى الاحتكار ومتعلقه ضَرْبَان أَحدهمَا مَالا يضر فِيهِ وَهُوَ جَائِز قَالَ ابْن عَرَفَة الحكرة فِي كل شَيْء طَعَام أَو غَيره جَائِزَة وَمَا اهم احتكاره بِالنَّاسِ مِنْهُ احتكاره قلت هُوَ فِي الطَّعَام قَول الْمُدَوَّنَة وَقَالَ اللَّخْمِيّ هُوَ احسن وَفِي ادخار الأقوات فِي الرخَاء مرتفق وَقت الشدَّة ولولاه لم يجد النَّاس فِيهَا عَيْشًا وَلَو قيل انه مستحسن لم اعبه قَالَ ابْن عَرَفَة وَهُوَ مُقْتَضى تَعْلِيله بالإرفاق فَلِأَنَّهُ مصلحَة راجحة سَالِمَة عَن مضرَّة النَّاس إِذا كَانَ فَاعله لَا يتَمَنَّى غلاء

قلت وَقد صرح بِهِ ابْن الْعَرَبِيّ قَالَ فِي الْعَارِضَة أَن كثر الجالب وَكَانَ أَن لم يشتر مِنْهُ رد الطَّعَام كَانَت الحكرة مُسْتَحبَّة الثَّانِي مَا يضر فِيهِ وَهُوَ مَمْنُوع قَالَ ابْن رشد اتِّفَاقًا قلت لما ورد فِيهِ من الْوَعيد الزاجر عَن الْمضرَّة فَفِي الصَّحِيح من احتكر فَهُوَ خاطئ أَي اثم وَفِي سنَن ابْن مَاجَه الجالب مَرْزُوق والمحتكر مَلْعُون مزِيد تخويف قَالَ ابْن خلدون وَمِمَّا اشْتهر عِنْد ذَوي الْبَصَر والتجربة أَن احتكار الزَّرْع لتحين اوقات الغلاء بِهِ مشؤوم وعائد على فَائِدَته بالتلف

والخسران قَالَ وَسَببه وَالله اعْلَم أَن النَّاس لحاجتهم إِلَى الأقوات مضطرون لما يبذلون فِيهَا فَتبقى النُّفُوس مُتَعَلقَة بِهِ وَفِي تعلق النُّفُوس بِمَا لَهَا شَرّ كَبِير فِيهِ وباله على من يَأْخُذهُ وَلَعَلَّه الَّذِي اعْتَبرهُ الشَّارِع فِي اخذ أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ وَهَذَا وان لم يكن مجَّانا فالنفوس مُتَعَلقَة بِهِ لاعطائه ضَرُورَة من غير سَعَة فِي الْعذر فَهُوَ كالمكره وَمَا عدا الأقوات لَا اضطرار اليها وانما يبْعَث عَلَيْهَا التفنن فِي الشَّهَوَات فَلَا يبْذل المَال فِيهَا إِلَّا بإختيار ولغرض وَلَا يبقي للنفوس تعلق بِمَا اعطى فِيهِ فَلهَذَا تَجْتَمِع القوى النفسانية على مُتَابعَة من عرف بالاحتكار بِمَا يَأْخُذهُ من أَمْوَالهم فَيفْسد وَالله اعْلَم مُنَاسبَة قَالَ وَسمعت فِيمَا يُنَاسب هَذَا حِكَايَة ظريفة اخبرني شَيخنَا أَبُو عبد الله الابلي قَالَ حضرت عِنْد القَاضِي بفاس لعهد السُّلْطَان أبي سعيد وَهُوَ الْفَقِيه أَبُو الْحسن الملياني وَقد عرض عَلَيْهِ أَن يخْتَار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قَالَ فاطرق مَلِيًّا ثمَّ قَالَ لَهُم من مكس الْخمر فاستضحك الْحَاضِرين من اصحابه وتعجبوا وسألوه عَن حكمه ذَلِك فَقَالَ إِذا كَانَت الجبايات كلهَا حَرَامًا فأختار مِنْهَا مَالا تتابعه نفوس معطيها وَالْخمر قل أَن يبْذل فِيهَا أحد مَاله إِلَّا وَهُوَ

طرب مسرور بوجدانه غير اسف وَلَا مُتَعَلق بِهِ انْتهى مُلَاحظَة تنظر إِلَى معجل هَذَا الْعقَاب وَفِيه شَهَادَة لَهُ مَا خرجه الاصبهاني عَن أبي يحي الْمَكِّيّ عَن فروخ مولى عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ أَن طَعَاما على بَاب الْمَسْجِد فَخرج عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يَوْمئِذٍ فَقَالَ مَا هَذَا الطَّعَام فَقَالُوا طَعَام جلب إِلَيْنَا أَو علينا فَقَالَ بَارك الله فِيهِ وفيمن جلبه إِلَيْنَا أَو علينا فَقَالَ لَهُ بعض الَّذين مَعَه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد احتكر قَالَ وَمن احتكره قَالُوا احتكره فروخ وَفُلَان مولى عمر بن الْخطاب فَأرْسل أليهما فاتياه فَقَالَ مَا حملكهما على احتكار طَعَام الْمُسلمين قَالُوا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نشتري بِأَمْوَالِنَا ونبيع فَقَالَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ سَمِعت رَسُول الله ص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول من احتكر على الْمُسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس فَقَالَ عِنْد ذَلِك فروخ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَنِّي اعاهد الله واعاهدك أَن لَا اعود فِي احتكار طَعَام ابدا فتحول إِلَى مصر واما مولى عمر فَقَالَ نشتري بِأَمْوَالِنَا ونبيع فَزعم أَبُو يحي انه رأى مولى عمر مجذوما متدوخا المحاولة الثَّانِيَة نقل السّلع من بلد إِلَى آخر وَفِيه للتاجر الْبَصِير بِالتِّجَارَة رعايات ثَلَاث إِحْدَاهمَا نقل مَا تعم الْحَاجة إِلَيْهِ من الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَالسُّلْطَان والسوقة إِذْ فِي ذَلِك نفَاقه وَخُرُوجه وَلَا كَذَلِك مَا يخص حَاجَة الْبَعْض إِلَيْهِ لتعذر الشِّرَاء على ذَلِك الْبَعْض وَحِينَئِذٍ فيكسد سوق الْمَنْقُول وتفسد ارباحه

الثَّانِيَة نقل مَا هُوَ وسط فِي صنفه فان الغالي من كل السّلع إِنَّمَا هُوَ يخْتَص بِهِ أهل الثورة وحاشية الدولة وَهُوَ الْأَقَل بِخِلَاف الْوسط فان النَّاس فِي الْحَاجة إِلَيْهِ اسوة الثَّالِثَة وَهُوَ خَاص بِطَلَب الرِّبْح والعظيم نقل سلع الْبَلَد الْبعيد الْمسَافَة أَو الْمخوف الطَّرِيق فَإِنَّهَا لبعد مَكَانهَا وَشدَّة ضَرَر نقلهَا يقل حاملها ويعز وجودهَا واذ ذَاك فَيحصل ناقلها على ربح عَظِيم بِسَبَب ذَلِك والبلد الْقَرِيب الْمسَافَة الامن الطَّرِيق يكثر النَّاقِل مِنْهُ واليه فيكثر الْمَنْقُول وترخص أثمانه ذلالة وجود قَالَ وَلِهَذَا تَجِد التِّجَارَة الداخلين إِلَى بلد السودَان ارْفَعْ النَّاس وَأَكْثَرهم أَمْوَالًا لبعد طريقهم ومشقته باعتراض المفاوز المخطرة بالخوف والعطش ويقل مَا نقل إِلَيْنَا واليهم فيسرع إِلَى هَؤُلَاءِ الْغنى والثروة من اجل ذَلِك والمتمردون فِي الافق الْوَاحِد مَا بَين امصاره وبلدانه فائدتهم قَليلَة وارباحهم تافهة لِكَثْرَة السّلع بِكَثْرَة ناقلها الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة أَن رخص الاسعار مُضر بالمحترفين بالرخيص لَان الْكسْب إِنَّمَا هُوَ بالبضائع أَو التِّجَارَة وَإِذا دَامَ الرُّخص فِي المتجور فِيهِ وَلم تحصل فِيهِ حِوَالَة سوق فسد الرِّبْح بطول تِلْكَ الْمدَّة وكسد سوق ذَلِك الصِّنْف وَسَاءَتْ أَحْوَالهم

اعْتِبَار قَالَ وَاعْتبر ذَلِك بالزرع إِذا استدبم رخصه كَيفَ تفْسد احوال المحترفين بزراعته لقلَّة الرِّبْح فِيهِ ويصيرون إِلَى الْفقر والخصاصة وَيتبع ذَلِك فَسَاد حَال المحترفين من لدن زراعته إِلَى مصيره مَاكُولَا وان رزق الْجند مِنْهُ يُقَوي فَسَاد حَالهم إِذْ كَانَت ارازاقهم من السُّلْطَان على أهل الفلح زرعا فَإِنَّهَا تقل جبابتهم من ذَلِك ويعجزون عَن اقامة الجندية تَنْبِيه إِذا افرط الغلاء فعلى مثل هَذِه الْحَالة إِلَّا فِي النَّادِر فَرُبمَا عَاد فنَاء المَال بِسَبَب احتكاره واذ ذَاك فالمعاش إِنَّمَا هُوَ فِي التَّوَسُّط من ذَلِك وَسُرْعَة حِوَالَة الاسواق قَالَ وانما يحمد الرُّخص فِي الزَّرْع لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ والعالة من الْخلق هم الْأَكْثَر فِي الْعمرَان فَيعم الرِّفْق بذلك الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة أَن النَّاس فِي التِّجَارَة صنفان المنتفع بهَا وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ تَركهَا فَالْأول من لَهُ أحد أَمريْن أَو كرهما الْكِفَايَة والجاه وَالثَّانِي من فقد الْأَمريْنِ مَعًا وَبَيَانه أَن محاولة التنمية لَا بُد فِيهِ من حُصُول المَال بأيدي الباعة فِي

شِرَاء البضائع وَبَيْعهَا وتقاضي اثمانها أهل النصفة مِنْهُم قَلِيل فَلَا بُد من الْغِشّ والمطل المجحف بِالرِّبْحِ لتعطل المحاولة فِي تِلْكَ الْمدَّة والانكار الْمَذْهَب لرأس المَال أَن لم يُقيد بِالشَّهَادَةِ وغناء الْحُكَّام فِي ذَلِك قَلِيل لبِنَاء الحكم على الظَّاهِر فيعاني التَّاجِر من ذَلِك احوالا صعبة وَلَا يكَاد يحصل على تافه من الرِّبْح إِلَّا بالمشقة الْعَظِيمَة أَو يتلاشى رَأس المَال فان كَانَت لَهُ كِفَايَة بالجرأة على الْخُصُومَة وَالْبَصَر بِالْحِسَابِ والاقدام على الْحُكَّام كَانَ إِلَى النصفة اقْربْ وَألا فَلَا بُد لَهُ من جاه يعتضد بِهِ ليوقع لَهُ الهيبة عِنْد الباعة وَيحمل الْحُكَّام على انصافه وان فقد الْأَمريْنِ عرض بِمَا لَهُ بالذهاب وصيره مأكله للباعة وَكَاد إِلَّا يَقْتَضِيهِ مِنْهُم أصلا قلت وُجُوه التِّجَارَة كَثِيرَة قد لَا يلْزم هَذَا الْمَحْذُور فِي بعض مِنْهَا فَتَأَمّله الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ أَن خلق التُّجَّار نازلة عَن خلق الرؤساء وبعيدة عَن المرؤة ذَلِك لَان التَّاجِر لَا بُد لَهُ فِي محاولة التِّجَارَة من عوارض حرفتها النَّاقِصَة عَن المرؤة والمكايسة والمضاعفة وممارسة الْخُصُومَات وَذَلِكَ مِمَّا ينطبع فِي النَّفس من اثارها المذمومة إِذْ افعال الْخَيْر تعود بآثار الْخَيْر وافعال الشَّرّ والسفسفة تعود بضد ذَلِك

تفَاوت اثر قَالَ وتتفاوت هَذِه الاثار بتفاوت اصناف التُّجَّار فِي اطوارهم فالسافل مِنْهُم الْمُضْطَر لمخالطة شرار الباعة ذَوي الْغِشّ والخلابة والفجور فِي الاثمان اقرارا وانكارا تكون رداءة تِلْكَ الْخلق لَدَيْهِ اشد وتغلب عَلَيْهِ السفسقة والبعد عَن المروات وَألا فَلَا بُد لَهُ من تَأْثِير المكايسة فِي مرؤته وفقدان ذَلِك فيهم بِالْجُمْلَةِ قَلِيل اتِّفَاق نَادِر قَالَ وَوُجُود الصِّنْف الثَّانِي مِنْهُم وهم المجرعون بالجاه الْمُغنِي لَهُم عَن مُبَاشرَة ذَلِك كُله نَادِر واقل من النَّادِر وَذَلِكَ بَان يتوفر المَال عِنْده دفْعَة بِنَوْع غَرِيب أَو وراثة بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي بِهِ عَن الِاتِّصَال بالدولة ويكسبه ظهورا وشهرة فيرتفع عَن تِلْكَ الْمُبَاشرَة اسْتغْنَاء بكفايته وكلائه وحشمه ويساهله الْحُكَّام فِي الاصناف من حَقه برا بِهِ وحفاية فيبعد عَن تِلْكَ الْخلق لاضطراره بمشارفة وكلائه وفَاقا وَخِلَافًا إِلَّا انه قَلِيل وَلَا يكَاد يظْهر اثره وَالله خَلقكُم وَمَا تعلمُونَ الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة وَالْعشْرُونَ أَن الصَّانِع لَا بُد لَهُ من معلم وَذَلِكَ لَان الصِّنَاعَة هِيَ ملكة فِي أَمر عَمَلي فكري وَعند ذَلِك فاشتراط الْمعلم فِيهَا ظَاهر من وُجُوه

أَحدهَا أَن العملي جسماني محسوس وَيقبل احوال مَا هُوَ كَذَلِك بِالْمُبَاشرَةِ والمعلم أَو عب لَهَا واتم فَائِدَة الثَّانِي أَن المكلة صفة راسخة بتكرار الْفِعْل وَهُوَ بالمعاينة اكمل فالمكلة الْحَاصِلَة عَنْهَا اكمل الثَّالِث أَن صدق المتعلم فِي الصِّنَاعَة على قدر جودة التَّعْلِيم وملكة الْمعلم وَذَلِكَ من اثر المعاينة فَيكون شرطا فِي خلقه وَحُصُول ملكته الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة وَالْعشْرُونَ أَن رسوخ الصَّنَائِع فِي الامصار برسوخ الحضارة على الدول الطَّوِيلَة الامد وَقبل بَيَان ذَلِك فالصنائع إِنَّمَا تكمل بِكَمَال الْعمرَان الحضري وكثرته وَمَا لم يسْتَوْف التمدن بِهِ فَلَا تَنْصَرِف الهمم لما وَرَاء الضَّرُورِيّ وَمن المعاش وَإِذا استوفى مبالغ كَمَاله وَوقت اكماله بالضروري وَمَا يزِيد عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يصرف ذَلِك الزَّائِد إِلَى الكمالات فِي المعاش بالضروري وَمَا يزِيد عَلَيْهِ وَمِنْهَا الصَّنَائِع إِذا تقرر هَذَا فَتلك الصَّنَائِع هِيَ العوائد الَّتِي لَا رسوخ لَهَا إِلَّا بِكَثْرَة التّكْرَار الطَّوِيل الامد وَظَاهر إِنَّهَا بعد استحكام صبغتها لذَلِك يُفْسِدهَا جملَة شَأْن الملكات الراسخة الْحُصُول دلَالَة وجود قَالَ وَلِهَذَا تَجِد الامصار المستحدثة الْعمرَان وَلَو بلغت مبالغها

فِي الْوُجُود لم يستحكم فبها رسوخ وَذَلِكَ لَان الْقَدِيمَة الْعمرَان راسخة بطول الاحقاب وتكرار الْأَحْوَال وَهَذِه لم تبلغ الْغَايَة بعد قَالَ: وَهَذَا كَحال فِي الأندلس لهَذَا الْعَهْد فتجد فها رسوم الصَّنَائِع قَائِمَة واحوالها مستحكمة الْبَهْجَة كالمباني والطبخ واصناف الْغناء وَاللَّهْو والآلات والاوتار والرقص وتنصيد الْفرش وَحسن التَّرْتِيب والأوضاع فِي الْبناء وصوغ الانية وَجَمِيع المواعين وَإِقَامَة الولائم والأعراس وَسَائِر الصَّنَائِع الَّتِي يدعوا لَهَا الترف وعوائده فتجدهم اقوم عَلَيْهَا وابصر بهَا فهم على حِصَّة موفورة من ذَلِك وحظ متميز بَين جَمِيع الامصار وان كَانَ عمرانه قَرِيبا نقص وَالْكثير مِنْهُ لَا يُسَاوِي عمرَان غَيرهَا من بِلَاد العدوة قَالَ وَمَا ذَلِك إِلَّا لرسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية وَمَا قبلهَا من دولة القوط وَمَا بعْدهَا من دولة الطوائف إِلَى هَلُمَّ جرا قَالَ وَكَذَا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابْن حَمَّاد أثرا بَاقِيا من ذَلِك وان كَانَت هَذِه كلهَا الْيَوْم خرابا أَو فِي حكم الخراب وَلَا يتفطن لَهَا إِلَّا الْبَصِير من النَّاس فتجد من هَذِه الصَّنَائِع إثارة تدل على مَا كَانَ بهَا كأثر الْخط الممحو فِي الْكتاب وَالله الْخَالِق الْعَلِيم الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة وَالْعشْرُونَ أَن الصَّنَائِع ضَرْبَان بسيط يخْتَص بالضروريات ومركب يُرَاد للكماليات وللأول خَواص

إِحْدَاهمَا تقدمه بالطبع فِي التَّعْلِيم لبساطته اولا ولتوفر الدعاوي على نَقله لاختصاصه بالضروري ثَانِيًا الثَّانِيَة نقص تَعْلِيمه لذَلِك إِلَى أَن يكمل باستخراج مركباته من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل بالاستنباط الفكري على التدريج الثَّالِثَة حُصُوله فِي أزمان وأجيال لَا دفْعَة وَاحِدَة لَازِما بِالْقُوَّةِ لَا يخرج إِلَى الْفِعْل إِلَّا كَذَلِك خُصُوصا فِي الْأُمُور الصناعية فَإِذا لَا بُد لَهَا من زمَان اعْتِبَار قَالَ وَلِهَذَا تَجِد الصَّنَائِع فِي الامصار الصَّغِيرَة نَاقِصَة وَلَا يُوجد مِنْهَا إِلَّا الْبَسِيط فَإِذا تزايدت حضارتها ودعت امور الترف إِلَى اسْتِعْمَال الصَّنَائِع خرجت من القوى إِلَى الْفِعْل وَالله اعْلَم الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة وَالْعشْرُونَ أَن الصَّنَائِع إِنَّمَا تستجاد وتكثر إِذْ كثر طالبها لأمرين أَحدهَا إِنَّهَا إِذا طلبت توجه اليها النِّفَاق واجتهد النَّاس فِي تعلمهَا ابْتِغَاء المعاش بهَا وَإِذا لم تطلب كسد سوقها وَرغب عَن تعلمهَا فاختصت بِالتّرْكِ والاهمال الثَّانِي أَن الاجادة فِيهَا إِنَّمَا تطالبها الدولة الَّتِي هِيَ السُّوق الاعظم لنفاق كل شَيْء فَإِذا نفقت فِيهَا حظى صَاحبهَا بجدوى الِاشْتِغَال بهَا والسوقة

وان طلبوها فبدون طلب الدولة بِكَثِير وَحِينَئِذٍ فَإِذا لم يكن هُنَاكَ دولة طالبة فَلَا وجود للصنائع على كَمَال الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة وَالْعشْرُونَ أَن الامصار إِذا قاربت الخراب انتقصت مِنْهَا الصَّنَائِع لما تقدم أَن استفادتها إِنَّمَا هِيَ بِكَثْرَة طالبها فَإِذا ضعفت احوال الْمصر واخذ فِي الْهَرم بانتقاص عمرانه تناقص فِيهِ الترف وَرَجَعُوا إِلَى الِاقْتِصَار على الضَّرُورِيّ بِنَقْل الصَّنَائِع التابعة للترف لتعذر المعاش بهَا فيفر صَاحبهَا إِلَى غَيره أَو يَمُوت عَن خلف مِنْهُ فَيذْهب رسم تِلْكَ الصَّنَائِع جملَة قلت فِي الافلاطونيات لَا تزَال الصناعات فِي الْبلدَانِ موفورة مَا وجد من أَهلهَا مطبوعون فِيهَا فَإِذا خلت مِنْهُم فسد نظامها تَمْثِيل قَالَ ابْن خلدون كماا يذهب النقاشون والصواغون وَالْكتاب والنساخ وامثالهم وَلَا تزَال الصِّنَاعَة فِي تناقص مَا دَامَ الْمصر فِي انحطاط إِلَى أَن يضمحل وَالله الخلاق الْعَلِيم الْمَسْأَلَة السَّادِسَة وَالْعشْرُونَ أَن الْعَرَب ابعد النَّاس عَن لاصنائع وَذَلِكَ لأَنهم اعرق فِي البدو وابعد عَن الْعمرَان وَمَا يَدْعُو اليه من الصَّنَائِع وَغَيرهَا وعجم الْمغرب من البربر بمثابتهم فِي ذَلِك لرسوخ بداوتهم مُنْذُ احقاب من السنين وعجم الْمشرق وأمم النَّصْرَانِيَّة بعدوة الْبَحْر الرُّومِي أوم

النَّاس عَلَيْهَا لأَنهم أعرق فِي الْعمرَان الحضري وَأبْعد عَن البدو وسذاجته شَاهد اعْتِبَار قَالَ وَلِهَذَا تَجِد اوطان الْعَرَب وَمَا ملكوه فِي الْإِسْلَام قَليلَة الصَّنَائِع بِالْجُمْلَةِ حَتَّى تجلب اليه من مَوضِع آخر وَكَذَا بالمغرب إِلَّا مَا كَانَ من صناعَة الصُّوف فِي نسجه وَالْجَلد فِي خرزه ودبغه فَإِنَّهُم لما استحضروا بالغوا فِيهَا المبالغ لعُمُوم البلوي بهَا وَكَون هذَيْن اغلب السّلع فِي قطرهم لما هم عَلَيْهِ من حَال البداوة قلت فِي التحف والطرف للمقري سَمِعت بعض الْفُقَرَاء يَقُول لَو رأى ارسطو قدر الْبُرْنُس فِي اللبَاس والكسكس فِي الطَّعَام لاعترف للبربر بحكمة التَّدْبِير الدنيوي وان لَهُم قصب السَّبق فِي ذَلِك انعطاف قَالَ وَانْظُر بِلَاد الْعَجم من الصين والهند وَارْضَ التّرْك وأمم

النَّصْرَانِيَّة كَيفَ استكثرت فِيهَا الصَّنَائِع واستجلبتها الامم من عِنْدهم كَمَا رسخت فِي الْمشرق مُنْذُ ملك الامم الاقدمين من الْفرس والنبط والقبط وَبني اسرائيل ويونان وَالروم احقابا متطاولة رسخت فِيهَا احوال الحضارة وَمن جُمْلَتهَا الصَّنَائِع قَالَ وَأما الْيمن والبحرين والحجاز والجزيرة وان ملكهَا الْعَرَب إِلَّا انهم تداولوا ملكهَا آلا من السنين واختطوا امصارها ومدنها وبلغوا المبالغ من الحضارة والترف كعاد وَثَمُود والعمالة وَتبع والاذواء فطال امد الْملك والحضارة ورسخت الصِّنَاعَة فَلم تبل بِبِلَاد الدولة فَبَقيت مستجدة حَتَّى الْآن واختصت بذلك كصناعة الوشي وَالنّصب وَمَا يستجد من حوك الثِّيَاب وَالْحَرِير وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا الْمَسْأَلَة السَّابِعَة وَالْعشْرُونَ أَن من حصلت لَهُ ملكة فِي صناعَة لَا يجيد ملكة فِي أُخْرَى كالخياط إِذا اجاد ملكة الْخياطَة ورسخت فِي نَفسه فَلَا يجيد من بعْدهَا ملكة التِّجَارَة أَو الْبناء إِلَّا أَن تكون الأولى لم تستحكم بعد وَلم ترسخ صنعتها تَوْجِيه وَسبب ذَلِك أَن الملكات صِفَات للنفوس والوان فَلَا تزدحم دفْعَة وَالْبَاقِي على الْفطْرَة اسهل لقبُول الملكات واحسن اسْتِعْدَادًا لحصولها

فَإِذا تلونت النَّفس بالملكة خرجت عَن الْفطْرَة وَضعف استعدادها باللون الْحَاصِل من هَذِه الملكة فَكَانَ قبُولهَا للملكة الْأُخْرَى اضعف قلت قَالَ الفارابي عسير وبعيد من هُوَ معد بالطبع للفضائل كلهَا الخلقية والنطقية اعدادا تَاما كَمَا هُوَ عسير أَن يُوجد بالطبع من هُوَ معد نَحْو الصَّنَائِع كلهَا إِلَّا أَن الْأَمريْنِ جَمِيعًا غير ممتنعين والاكثر أَن كل وَاحِد معد نَحْو فَضِيلَة مَا أَو فَضَائِل ذَات عدد مَحْدُود أَو صناعَة أَو عدَّة صنائع محدودة شَهَادَة وَاقع قَالَ ابْن خلدون والوجود يشْهد لَهُ فَقل أَن تَجِد صَاحب صناعَة يحكمها فَيحكم من بعْدهَا أُخْرَى وَيكون فيهمَا على رُتْبَة وَاحِدَة من الاجادة وَكَذَا فِي الْعلم وان كَانَت الملكة فِيهِ فكرية فَمن حصل فِيهِ على ملكة علم واجادها فِي الْغَايَة قل أَن يجيد ملكة علم آخر على نسبته إِلَّا فِي النَّادِر قلت كَمَا حكى ابْن خلكان عَن كَمَال الدّين بن يُونُس أَن فُقَهَاء عصره كَانُوا يَقُولُونَ انه يدْرِي اربعة وَعشْرين فَنًّا دراية متقنة

قَالَ وَكَانَ فِي كل فن مِنْهَا كَأَنَّهُ لَا يعرف سواهُ قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن مَجْمُوع مَا كَانَ يعمله من الْعُلُوم لم يسمع من أحد مِمَّن تقدمه انه كَانَ قد جمعه وَلَقَد جَاءَنَا الشَّيْخ اثير الدّين الْمفضل أَبُو عَليّ الابهري صَاحب التعليقة فِي الْخلاف والتصانيف الْمَشْهُورَة من الْموصل إِلَى اربل فِي سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَنزل بدار الحَدِيث وَكنت اشْتغل عَلَيْهِ بِشَيْء من الْخلاف فَبَيْنَمَا انا يَوْمًا عِنْده إِذْ دخل عَلَيْهِ بعض فُقَهَاء بَغْدَاد وَكَانَ فَاضلا فتجاريا فِي الحَدِيث زَمَانا وَجرى ذكر الشَّيْخ كَمَال الدّين فَقَالَ لَهُ الاثير لما حج الشَّيْخ كَمَال الدّين وَدخل بَغْدَاد كنت هُنَاكَ فَقَالَ نعم فَقَالَ كَيفَ كَانَ اقبال الدِّيوَان الْعَزِيز عَلَيْهِ فَقَالَ ذَلِك الْفَقِيه مَا انصفوه على قدر اسْتِحْقَاقه فَقَالَ الاثير مَا هَذَا إِلَّا عجب وَالله مَا دخل بَغْدَاد مثل الشَّيْخ فاستعظمت مِنْهُ هَذَا الْكَلَام وَقلت لَهُ يَا سَيِّدي كيفتقول هَذَا فَقَالَ يَا وَلَدي مَا دخل بَغْدَاد مثل أبي حَامِد وَالله مَا بَينه وَبَين الشَّيْخ نِسْبَة وَكَانَ الاثير على جلالة قدره فِي الْعُلُوم يَأْخُذ الْكتاب وَيجْلس بَين يَدَيْهِ يقْرَأ وَالنَّاس يَوْم ذَلِك مشتغلون فِي تعاليق الاثير وَقد شاهدت هَذَا بعيني وَهُوَ يقْرَأ عَلَيْهِ كتاب المجسطي قَالَ وَلَقَد حكى لي بعض الْفُقَهَاء انه سَأَلَ الشَّيْخ كَمَال الدّين عَن الاثير ومنزلته فِي الْعُلُوم فَقَالَ لَا أعلم فَقَالَ وَكَيف هَذَا يَا مولَايَ وَهُوَ فِي خدمتك مُنْذُ سِنِين عديدة ويشتغل عَلَيْك فَقَالَ أَنِّي مهما قلت بحثا تَلقاهُ بِالْقبُولِ وَقَالَ نعم يَا مَوْلَانَا فَمَا راجعني فِي بحث قطّ حَتَّى اعْلَم حَقِيقَة فَضله قَالَ ابْن خلكانن وَلَا شكّ انه كَانَ يعْتَمد هَذَا القَوْل مَعَ الشَّيْخ تأدبا وَكَانَ عِنْده بِالْمَدْرَسَةِ البدرية وَكَانَ يَقُول مَا تركت بلادي وقصدت الْموصل

إِلَّا للاشتغال على الشَّيْخ انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ قلت نقلت هَذَا الْكَلَام اسْتِطْرَادًا فِي استجلاء واظهار الْفُضَلَاء وان خرجنَا بِهِ عَن الْمَقْصُود وموقعه عِنْد اهله موقعه الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة وَالْعشْرُونَ الصَّنَائِع الضرورية فِي الْعمرَان الخضري ضَرْبَان أَحدهَا مَا هُوَ ضَرُورِيّ وَغير شرِيف بالموضوع كالفلاحة ومالبناء والخياطة والنجارة والحياكة الثَّانِي مَا هُوَ ضَرُورِيّ وشريف بالموضوع ومراتبه صناعات ثَلَاث الصِّنَاعَة الأولى صناعَة التوليد وَهِي الْمَعْرُوفَة باستخراج الْمَوْلُود الادمي من بطن امهِ ثمَّ مَا يصلحه بعد الْخُرُوج وموضوعها الْمَوْلُود وامه وَهِي ضَرُورَة فِي كَون الانسان إِلَّا فِي حق من اسْتغنى عَنْهَا معْجزَة أَو الهاما وتختص بِالنسَاء غَالِبا وَتسَمى العارفة بذلك قَابِلَة لقبولها مَا تعطيه النُّفَسَاء من الْجَنِين الصِّنَاعَة الثَّانِيَة الطِّبّ وَهُوَ حفظ صِحَة الانسان وَدفع الْمَرَض عَنهُ وموضوعه بدن الانسان ضَرُورِيَّة فِي الحواضر لِكَثْرَة الاكل وفقد الرياضة وتعفن الْهَوَاء إِلَّا الْبَوَادِي للسلامة من ذَلِك بقلة الاكل لعدم الخصب وَوُجُود الرياضة بِكَثْرَة الْحَرَكَة وَهِي ضَرُورِيَّة فِي الحواضر لِكَثْرَة الاكل وفقد الرياضة وتعفن الْهَوَاء إِلَّا الْبَوَادِي قَالَ وَلِهَذَا لَا يُوجد طَبِيب فِي الْبَادِيَة بِوَجْه مزِيد فَائِدَة قَالَ ابْن الاكفاني منفعَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبدن وَالنَّفس فالبدن بِكَمَال

الصِّحَّة الَّتِي هِيَ افضل حالانه وانما يحفظ بِهِ وَالنَّفس بالتمكن من استكمالها فِي قوتها النظرية والعملية إِذْ الاسقام مَانِعَة من ذَلِك قَالَ وَأَيْضًا فالطبيب يَسْتَفِيد بنظره فِي التشريح وَمَنَافع الاعضاء مَا يُوضح لَهُ أَن الَّذِي خلق كل شَيْء خلق الانسان فِي احسن تَقْوِيم ثمَّ إِذا اطلع على مَا يَطْلُبهُ كل عُضْو من دَاء وَمَا اعد لَهُ من دَوَاء ومصيره إِلَى الْمَوْت بعده يَتَّضِح لَهُ أَن الَّذِي يردهُ اسفل سافلين هُوَ احكم الْحَاكِمين انْتهى الصِّنَاعَة الثَّالِثَة الْكِتَابَة وَهِي رسوم واشكال حرفية تدل على الْكَلِمَات المسموعة الدَّالَّة على مَا فِي النَّفس وَهِي حافظة على الانسان حَاجته وحقيقتها على النسْيَان ومبلغة ضمائر النَّفس إِلَى الْبعيد الْغَائِب ومخلدة نتائج الافكار والعلوم فِي الصُّحُف ورافعة الْوُجُود للمعاني وشرفها ظَاهر من هَذِه الْوُجُوه الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة وَالْعشْرُونَ أَن غير الضَّرُورِيّ مِنْهَا فِي الْعمرَان إِلَى اسْم الحضارة على كثرتها ضَرْبَان أَحدهَا مَا تَدْعُو اليه عوائد الترف الْقَاصِر عَن مُجَاوزَة الْحَد فِيهِ مَانِعا فِي استجادة مَا هُوَ كمالي حَتَّى تكون فَائِدَة المشتغل بِهِ انفع من فَائِدَة مَا هُوَ ضَرُورِيّ كالدهان والصفار والطباخ والسفاج والهراس ومعلم الْغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع وَشبه ذَلِك الثَّانِي مَا يَدْعُو اليه الترف الْخَارِج عَن الْحَد الَّذِي تعداه استبحار الْعمرَان كَمَا يصدر عَن أهل مصر فِي تَعْلِيم الطُّيُور والحمر وتخيل اشياء

من الْعَجَائِب بايهام قلب الاعيان وتعود الْمَشْي على الخيوط وَرفع الاثقال وَغير ذَلِك من الصَّنَائِع الَّتِي لَا وجود لَهَا فِي الْمغرب لنُقْصَان عمرانه عَن عمرَان تِلْكَ الديار الْمَسْأَلَة الثَّلَاثُونَ أَن الصَّنَائِع تكسب صَاحبهَا عقلا وخصوصا الْكِتَابَة والحساب وَذَلِكَ لِأَن خُرُوج النَّفس الناطقة للْإنْسَان من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل إِنَّمَا هُوَ بتجدد الْعُلُوم والادراكات من المحسوسات اولا ثمَّ تكتسب القوى النظرية إِلَى أَن يصير ادراكا بِالْفِعْلِ وعقلا مخصا وَهُوَ كَمَال وجودهَا وجسدها فيجدها لذَلِك أَن كل نوع من الْعلم وَالنَّظَر يفيدها عقلا فريدا والصنائع بِلَا شكّ يحصل عَنْهَا وَعَن ملكتها قانون علمي مُسْتَفَاد من تِلْكَ الملكة فيزيد عقلا لَا محَالة قلت هُوَ معنى قَول افلاطون الصناعات متممة لقوى النَّفس والاعضاء هِيَ تعين النَّفس على مَا لَا تصل اليه إِلَّا بأعضاء الْجَسَد تَنْزِيل قَالَ وَالْكِتَابَة من بَينهَا اكثر افادة لذَلِك لاشتمالها على عُلُوم وانظار دون غَيرهَا وَهِي الانتقام من صور الْحُرُوف الخطية إِلَى الْكَلِمَات اللفظية فِي الْخِيَار وَمِنْهَا إِلَى الْمعَانِي الَّتِي فِي النَّفس فَيحصل لَهَا ملكة الِانْتِقَال من الْأَدِلَّة إِلَى المدلولات وَهِي ملكة من التعقل تفِيد كَمَال عقل ومزيد فطنة وصناعة الْحساب لاحقة بذلك لاحتياج تصرفها فِي الْعدَد باضلم والتفريق إِلَى اسْتِدْلَال كَبِير فَيبقى صَاحبهَا متعودا للاستدلال وَالنَّظَر وَهُوَ معنى الْعقل {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون}

الفصل الرابع في اكتساب العلوم

الْفَصْل الرَّابِع فِي اكْتِسَاب الْعُلُوم وَفِيه مسَائِل جملَة نلخص مِنْهَا مَا يَلِيق بالموضع ويكمل قَصده وغرضه الْمَسْأَلَة الأولى أَن الْعلم والتعليم طبيعي فِي الْعمرَان البشري لَان الانسان إِنَّمَا يتَمَيَّز عَن سَائِر الْحَيَوَان بالفكر المهتدى بِهِ لصلاح دينه ودنياه وَذَلِكَ بِتَصْدِيق الْأَنْبِيَاء وتعاوه بابناء جنسه وترديده فِي ذَلِك دَائِما إِذْ لَا يفتر عَنهُ طرفَة عين فتنشأ الْعُلُوم والصنائع ثمَّ لأجل مَا جبل عَلَيْهِ من ذَلِك يرغب فِي تَحْصِيل مَا لَيْسَ عِنْده من المدركات فؤرجع إِلَى من سبقه بِهِ أَو اخذه عَن نَبِي مشافهة أَو بِوَاسِطَة فيتلقى ذَلِك عَنهُ ويحرص على استفادته مِنْهُ ثمَّ أَن فكره فِي ذَلِك يتَوَجَّه إِلَى وَاحِد من الْحَقَائِق نَاظرا فِي عوارضه الذاتية حَتَّى يصير الحاقها بِهِ ملكة لَهُ وَعلمه بذلك علما مَخْصُوصًا تتشوف نفوس الجيل الثَّانِي تَحْصِيله بِالرُّجُوعِ إِلَى ذَوي الخصوصية بِهِ وَيَجِيء التَّعْلِيم لَا محَالة الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَن تَعْلِيم الْعلم من جملَة الصَّنَائِع لامرين أَحدهَا أَن الملكة فِي الْعلم غير الْفَهم فِيهِ لوُجُود فهم مَسْأَلَة وَاحِدَة من فن وَاحِد مُشْتَركا بَين الشادي فِي ذَلِك الْفَنّ والمبتدي فِيهِ وَبَين الْعَاميّ والعالم النحرير والملكة إِنَّمَا هِيَ للْعَالم أَو الشادي فَقَط وَلما كَانَت الملكات كلهَا جسمانية والجسمانيات بأسرها محسوسة فيفتقر إِلَى التَّعْلِيم ضَرُورَة

الثَّانِي أَن اخْتِلَاف الاصطراحات فِيهِ كَمَا لكل امام مِمَّا اخْتصَّ بِهِ شَأْن الصَّنَائِع كلهَا وكما بَين الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين فِي علم الاصول وَالْفِقْه والعربة ي يدل على أَن ذَلِك لَيْسَ من الْعلم وَألا لَكَانَ وَاحِدًا عِنْد الْجَمِيع فالعلم وَاحِد وَتلك الاصطلاحات صناعات رِعَايَة قَالَ ابْن خلدون وَلِهَذَا كَانَ السَّنَد فِي التَّعْلِيم فِي كل علم أَو صناعَة يفْتَقر إِلَى مشاهير المعلمين فِيهَا مُعْتَبرا عِنْد أهل كل فن وجيل قلت قَالَ ابْن الاكفاني كل تَعْلِيم وَتعلم فَإِنَّمَا يكون بِعلم سَابق فِي مَعْلُوم مَا من عَالم لمن لَيْسَ بِمَعْلُوم وَلما قرر نَحوه الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو اسحاق الشاطبي رَحمَه الله قَالَ وان كَانَ النَّاس قد اخْتلفَا هَل يُمكن حُصُول الْعلم دون معلم أَو لَا بُد لَا مَكَانَهُ من معلم وَلَكِن الْوَاقِع فِي مجاري الْعَادَات أَن لَا بُد من الْمعلم وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة وان اخْتلفُوا فِي بعض التفاصيل كإختلاف الْجُمْهُور والامامية فِي اشْتِرَاط الْعِصْمَة وَقد قَالُوا كَانَ الْعلم فِي صُدُور الرِّجَال ثمَّ انْتقل إِلَى الْكتب وَصَارَت مفاتحه بأيدي الرِّجَال قلت قَالَ ابْن الاكفاني لم تزل سنة الْعلمَاء القدماء جَارِيَة فِي تَعْلِيم الْعلم مشافهة دون كتاب فَلم يصل علم إِلَى غير مُسْتَحقّه ولكثرة المشتغلين بالعلوم حِينَئِذٍ وحرصهم على تَحْصِيلهَا استمرت اليهم فَلَمَّا ضعفت الهمم وَقصرت انقرض بعض الْعُلُوم فَأخذ من بَقِي من الْعلمَاء فِي تدوين الْعُلُوم

فِي الْكتب لتبقى وَلَا تبيد فَائِدَة ذكرُوا فِي الشُّرُوط الدَّالَّة على حُصُول الملكة فِي الْعلم امورا وَهِي الْمعرفَة بأصول أَي علم كَانَ وَمَا يَبْنِي عَلَيْهِ ذَلِك الْعلم وَمَا يلْزم عَنهُ وَالْقُدْرَة على التَّعْبِير عَن مَقْصُوده وعَلى دفع الشّبَه الْوَارِدَة عَلَيْهِ فِيهِ تَعْرِيف ذكر ابْن خلدون مَا حَاصله أَن سير التَّعْلِيم لعهده لَهُ بِحَسب الْوَاقِع حالتان الْحَالة الأولى واشرافه على الِانْقِطَاع فِي قطر الْمغرب كُله لنَقص الصَّنَائِع فِيهِ باختلال عمرانه وتناقص دوله عِنْد خراب القيروان وقرطبة وانقراض دولة الْمُوَحِّدين بعد ذَلِك بمراكش لَكِن فِي اواسط الْمِائَة السَّابِعَة رَحل إِلَى المشرع من افريقية القَاضِي أَبُو الْقَاسِم ابْن زيتون فادرك أَصْحَاب الْأَمَام فَخر الدّين واخذ عَنْهُم ولقن تعليمهم وحذق فِي العقليات والنقليات وَرجع إِلَى تونس

يعلم كثير وَتَعْلِيم حسن وَجَاء على اثره من الْمشرق أَبُو عبد الله ابْن شُعَيْب الدكالي كَانَ ارتحل اليه من الْمغرب فَأخذ من مشيخة مصر وَرجع إِلَى تونس وَاسْتقر بهَا وَكَانَ تَعْلِيمه مُفِيدا فَأخذ عَنْهُمَا أهل تونس واتصل سَنَد تعليمهما فِي اصحابهما جيلا بعد جيل حَتَّى انْتهى إِلَى ابْن عبد السَّلَام شَارِح ابْن الْحَاجِب واصحابه وانتقل من تونس إِلَى تلمسان من ابْن الْأَمَام واصحابه فَإِنَّهُ قَرَأَ مَعَ ابْن عبد السَّلَام واصحابه على مشيخة وَاحِدَة وَفِي مجَالِس بِأَعْيَانِهَا واصحاب ابْن عبد السَّلَام بتونس وَابْن الْأَمَام بتلمسان لهَذَا الْعَهْد إِلَّا انهم من الْقلَّة بِحَيْثُ يخْشَى انْقِطَاع سندهم ثمَّ ارتحل من زواوة فِي آخر الْمِائَة السَّابِعَة أَبُو عَليّ نَاصِر الدّين

المشذالي وادرك أَصْحَاب ابْن الْحَاجِب واخذ عَنْهُم وَأقر تعليمهم وَقَرَأَ مَعَ شهَاب الدّين الْقَرَافِيّ فِي مجَالِس مُخْتَلفَة وحذق فِي العقليات والنقليات وَرجع إِلَى الْمغرب بِعلم كثير وَتَعْلِيم مُفِيد وَنزل بجاية وَاصل سَنَد تَعْلِيمه بطلبتها وَرُبمَا انْتقل إِلَى تلمسان عمرَان المشذالي من اصحابه واوطنها وَبث طَرِيقَته فِيهَا وصحابه لهَذَا الْعَهْد ببجاية وتلمسان قَلِيل أَو اقل من الْقَلِيل تنزيلان أَحدهَا قَالَ وَبقيت فاس وَسَائِر اقطار الْمغرب خلوا من حسن التَّعْلِيم من لدن انْقِرَاض تَعْلِيم قرطبة والقيروان وَلم يتَّصل سَنَد التَّعْلِيم فيهم فعسر عَلَيْهِم حُصُول الملكة والحذق فِي الْعُلُوم إِذْ ايسر طرقها إِنَّمَا هُوَ بالمحاورة والمناظرة فَهُوَ الَّذِي يقرب شَأْنهَا وطالب الْعلم مِنْهُم تَجدهُ بعد ذهَاب الْكثير م عمره ملازما الْمجَالِس العلمية ساكتا لَا ينْطق وَلَا يُعَارض وعنايته بِالْحِفْظِ اكثر من الْحَاجة فَلَا جرم لَا يحصل على طائل من

ملكة التصرفي الْعلم والتعليم وَمن يرى مِنْهُم انه قد حصل تَجِد ملكته قَاصِرَة أَن نَاظرا أَو عَارض وَمَا اتاهم الْقُصُور إِلَّا من قبل التَّعْلِيم وَانْقِطَاع تمهيده وَألا فحفظهم ابلغ من حفظ سواهُم لشدَّة عنايتهم بِهِ وظنهم انه الْمَقْصُود من الملكة العلمية وَلَيْسَ كَذَلِك شَهَادَة قَالَ وَمِمَّا شهد بذلك فِي الْمغرب أَن الْمدَّة الْمعينَة لسكنى طلبة الْعلم بالمدارس عِنْدهم سِتّ عشرَة سنة وَهِي بتونس خمس سِنِين قَالَ وَهَذِه الْمدَّة على الْمُتَعَارف هِيَ اقل مَا يَتَأَتَّى فِيهَا للطَّالِب حُصُوله مبتغاه من الملكة العلمية أَو الْيَأْس من تَحْصِيلهَا فطال امدها بالمغرب بِشدَّة الْقُصُور أجل عسرها من قلَّة الْجَوْدَة فِي التَّعْلِيم خَاصَّة لَا مِمَّا سوى ذَلِك التَّنْزِيل الثَّانِي قَالَ واما أهل الاندلس فَذهب رسم التَّعْلِيم من بَينهم وَذَهَبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمرَان الْمُسلمين بهَا مُنْذُ مئين من السنين وَلم يبْق من رسم الْعلم فيهم إِلَّا فن الْعَرَبيَّة والادب لاقتصارهم عَلَيْهِ ومحافظتهم على سنَن تَعْلِيمه واما الْفِقْه فرسم خَال واثر بعد عين واما العقليات فَلَا اثر وَلَا عين لانْقِطَاع سَنَد التَّعْلِيم فِيهَا بتناقص الْعمرَان وتغلب الْعَدو على عامتها إِلَّا قَلِيلا بِسيف الْبَحْر شغلهمْ بمكاسبهم اكثر من شغلهمْ بِمَا بعْدهَا وَالله غَالب على امْرَهْ انْتهى

الْحَالة الثَّانِيَة بَقَاؤُهُ بالمشرق نَافق الاسواق زاخر ببحور الْعِنَايَة بِحِفْظ اتِّصَال الْعمرَان الموفور وان خرجت امصاره الَّتِي كَانَت معادن الْعلم كبغداد والكوفة وَالْبَصْرَة فَإِن الله تعلى قد ادال مِنْهَا بامصارها اعظم مِنْهَا وانتقل الْعلم مِنْهَا إِلَى عراق الْعَجم وَمَا وَرَاء النَّهر من الْمشرق ثمَّ إِلَى الْقَاهِرَة وَمَا يَليهَا من الْمغرب فَلم تزل موفورة الْعمرَان مُتَّصِلَة بِسَنَد التَّعْلِيم تَحْصِيل وَاقع قَالَ فَأهل الْمشرق على الْجُمْلَة ارسخ فِي صناعَة تَعْلِيم الْعلم بل فِي سَائِر الصَّنَائِع حَتَّى انه ليظن أَن عُقُولهمْ على الْجُمْلَة ونفوسهم الناطقة اكمل من عقول أهل الْمغرب ونفوسهم وان حَقِيقَة الانسانية بَيْننَا وَبينهمْ تفاوتة لما يرى من كيسهم فِي الْعُلُوم والصنائع وَلَيْسَ كَذَلِك إِذْ لَا تفَاوت بَين الْمشرق وَالْمغْرب بِهَذَا الْمِقْدَار وانما ذَلِك فِي الاقاليم المنحرفة كالاول وَالسَّابِع واما الَّذِي فضل بِهِ أهل الْمشرق فَهُوَ مَا يحصل فِي النَّفس من آثَار الحضارة من الْعقل الْمَزِيد فِي الصَّنَائِع مزِيد تَحْقِيق قَالَ ويزيده تدقيقا أَن الْحَضَر لَهُم فِي احوال الدّين وَالدُّنْيَا اداب يُوقف عِنْدهَا اخذا وتركا كَأَنَّهَا حُدُود لَا تتعدى وَهِي مَعَ ذَلِك صنائع يتلقاها الآخر عَن الأول وكل صناعَة مركبة فَيرجع فِيهَا إِلَى النَّفس ويكسبها عقلا مزيدا تستعد بِهِ لقبُول صناعَة أُخْرَى يتهيأ بهَا الْعقل لسرعة ادراك المعارف وَحسن الملكات فِي التَّعْلِيم والصنائع وَسَائِر الاحوال العادية

تزيد الانسان ذكاء فِي عقله واضاءة فِي فكره فيزدادون بذلك كيسا لم يرجع إِلَى النَّفس من الاثار العلمية فيظنه الْعَاميّ تَفَاوتا فِي الْحَقِيقَة الانسانية وَلَيْسَ كَذَلِك دلَالَة قَالَ إِلَّا ترى إِلَى أهل الْحَضَر مَعَ أهل البدو وَكَيف تَجِد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الْكيس لاجادته من الملكات الصناعية والاداب والادراكات فِي العوائد الحضرية مَالا يعرفهُ البدوي فَلَمَّا امْتَلَأَ من ذَلِك فَكل من قصر عَنهُ ظَنّه انه لكَمَال فِي عقله وان نفوس أهل البدو قَاصِرَة فطرتها وَعَن فطرته وَلَيْسَ كذكل فَإِن فيهم من هُوَ فِي أَعلَى رُتْبَة من الْفَهم والكمال فِي عقله وفطرته لَكِن فاقه أَو فَاتَهُ الحضري بِظُهُور رونق الحضارة والصنائع والتعليم عَلَيْهِ لرجوع آثارها إِلَى النَّفس انعطاف قَالَ وَكَذَا اله الْمشرق لما كَانُوا فِي الْعلم والصنائع ارْفَعْ رُتْبَة وَكَانَ أهل الْمغرب اقْربْ إِلَى البداولة ظن المغفلون فِي بَادِي الرَّأْي انه لكَمَال فِي حَقِيقَة الانسانية اختصوا بِهِ عَن أهل الْمغرب وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح فتفهمه وَالله زيد فِي الْخلق مَا يَشَاء انْتهى تعريفان أَحدهَا قَالَ ابْن خلدون واكثر من عَنى بالصنف الأول فِي الاجيال الْمَعْرُوفَة اخبارهم الامتان العظيمتان فِي ضخامة الدولة قبل الْإِسْلَام فَارس

وَالروم فَكَانَت علومهم بحورا زواخر فِي آفاقهم واعصارهم فتوفر عمرانهم وشماخة دولهم وَكَانَ قبلهم للكلدانيين والسرايانيين والقبط عناية بالحسر والنجامة والطلسمات وعنهم اخذوا ذَلِك قلت قَالَ ابْن الاكفاني فِي السحر مَنْفَعَة أَن يعلم ليحذر لَا ليعْمَل بِهِ قَالَ وَلَا نزاع فِي تَحْرِيم عمله إِمَّا مُجَرّد علمه فَظَاهر الاباحة بل ذهب بعض النظار إِلَى فرض كِفَايَة لجَوَاز ظُهُور سَاحر يدعى النبوءة فَيكون فِي الْأمة من يكشفه وينقض مقَالَته فَيعْمل بِهِ قصاصا قلت قَالَ الطرطوشي تعلمه أَو تَعْلِيمه كفر عِنْد مَالك رَحمَه الله قَالَ الْقَرَافِيّ وَهُوَ فِي غَايَة الاشكال واجاب ابْن الشَّاط بِأَنَّهُ على وَجْهَيْن أَحدهَا لتعرف حَقِيقَته لتجتنب أَو لغير ذَلِك قَالَ وَهَذَا لَيْسَ بِكفْر الثَّانِي لقصد تَحْصِيل اثره مَتى احْتَاجَ لَك قَالَ وهاذ هُوَ الَّذِي اقْتضى ظَاهر الْكتاب انه كفر يَعْنِي وَهُوَ الْحجَّة لمَالِك رَحمَه الله

قلت وَعَلِيهِ فَقَوله بالتكفير لَيْسَ على الاطلاق قَالَ ابْن الشَّاط وَالْقَوْل بِطَلَب تعلمه للْفرق بَينه وَبَين المعجزة صَحِيح انعطاف قَالَ وَلَقَد يُقَال أَن هَذِه الْعُلُوم إِنَّمَا وصلت إِلَى يونان قبل الْفرس إِذْ كَانَ شَأْنهَا عِنْدهم عَظِيما وَذَلِكَ حِين قتل الاسكندر دَارا وَغلب على مملكة الكينية فاستولى على كتب علمهمْ والمسلمون لما فتحُوا بِلَادهمْ اصابوا من صَحَائِف تِلْكَ الْعُلُوم مَا لَا يحده الْحصْر فَكتب سعد بن أبي وَقاص إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ يَسْتَأْذِنهُ فِي شَأْنهَا فَكتب اليه أَن اطرحوها فِي المَاء فان كَانَ فِيهَا هدى فقد هدَانَا الله بأهدى مِنْهُ وان يكن ضَلَالَة فقد كفانا الله فطرحوها فِي المَاء أَو فِي النَّار الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أَن الْعُلُوم وانما تكْثر حَيْثُ يكثر الْعمرَان وتعظم الحضارة وَذَلِكَ لَان تعلم الْعلم من جملَة الصَّنَائِع كَمَا تقرر والصنائع كَمَا تقدم قبل ذَلِك انمما تكْثر فِي الامثار المستجدة الْعمرَان بطول امد الدول المتعاقبة عَلَيْهَا قَالَ وَمن تشوف بفطرته إِلَى الْعلم مِمَّن نَشأ فِي الْقرى والامصار غير المستبحرة الْعمرَان فَلَا يجد فِيهَا التَّعْلِيم الصناعي واذ ذَاك فَلَا بُد لَهُ من الرحلة فِي طلبه كشأن الصَّنَائِع كلهَا شَاهد اعْتِبَار

قَالَ وَاعْتبر مَا قَرَّرْنَاهُ بِحَال بَغْدَاد وقرطبة والقيروان وَالْبَصْرَة والكوفة وامثالها لما كثر عمرانها صدر الْإِسْلَام واستوفت فِيهَا الحضارة كَيفَ زخرت فِيهَا بحار الْعلم وتفننوا فِي اصْطِلَاحَات التَّعْلِيم واصناف الْعُلُوم حَتَّى اربوا على الْمُتَقَدِّمين وفاتوا الْمُتَأَخِّرين وَلما تناقص عمرانها انطوى ذَلِك الْبسَاط جملَة وفقد بهَا الْعلم والتعليم وانتقل إِلَى غَيرهَا من اقطار الْإِسْلَام تَعْرِيف قَالَ وَنحن الْيَوْم نرى لهَذَا الْعَهْد أَن الْعلم والتعليم إِنَّمَا هـ بِالْقَاهِرَةِ من بِلَاد مصر لاستبحار عمرانها استحكام حضارتها مُنْذُ آلَاف من السنين فاستحكمت فِيهَا الصَّنَائِع وتفننت وَمن جُمْلَتهَا تعليمالعلم قَالَ واكد بذلك فِيهَا مَا وَقع لهَذِهِ العصور بهَا مُنْذُ مِائَتَيْنِ من السنين فِي دولة التّرْك من ايام صَلَاح الدّين بن ايوب إِلَى هَلُمَّ جرا وَذَلِكَ لَان الامراء من التّرْك يَخْشونَ عَادِية سلطانهم على من يخلفونه من ذُرِّيتهمْ لما لَهُ عَلَيْهِم من الرّقّ وَالْوَلَاء وَلما يخْشَى من معاطب الْملك ونكباته فاستكثروما من بِنَاء الْمدَارِس والزوايا والربط ووقفوا عَلَيْهَا الاوقاف المغلة يجْعَلُونَ فِيهَا شُرَكَاء لولدهم ونصيبا ينظر عَلَيْهَا ويصيب مِنْهَا مَعَ مَا فيهم غَالِبا من الجنوح إِلَى الْخَيْر والتماس الاجور فِي الْمَقَاصِد والافعال فكثرت الاوقاف لذَلِك وَكثر وطالب الْعلم ومعلمه ومتعلمه بِكَثْرَة جرايتهم مِنْهَا وارتحل النَّاس اليها فِي طلب الْعلم من الْعرَاق وَالْمغْرب ونفقت فِيهَا اسواق الْعُلُوم وزخرت بحارها وَالله يخلق مَا يَشَاء

قلت وَقع هَذَا التَّأْكِيد بِمَا ذكر فقد لوحظ فِيهِ امور اخر وَهُوَ مَا يخْشَى من رفع الْعلم الْحَقِيقِيّ فِيهِ حَيْثُ يَجْعَل غَايَة طلبه قَالَ ابْن الاكفاني من تعلم علما للاحتراف لم يَأْتِ عَالما إِنَّمَا جَاءَ شَبِيها بالعلماء وَلَقَد كوشف عُلَمَاء مَا وَرَاء النَّهر بذلك ونطقوا بِهِ لما بَلغهُمْ بِنَاء الْمدَارِس بِبَغْدَاد اقاموا مآتم الْعلم وقالوما كَانَ يشْتَغل بِهِ ارباب الهمم الْعلية والانفس الْكَرِيمَة الزكية الَّذين يقصدون الْعلم لشرفه والكمال بِهِ فَيَأْتُونَ عُلَمَاء ينْتَفع بهم وبعلمهم وَإِذا صَارُوا عَلَيْهِ اجرة تدانى اليه الاخساء وارباب الكسل فَيكون ذَلِك سَببا لارتفاعه المسالة الرَّابِعَة أَن الْعُلُوم الَّتِي يَخُوض فِيهِ الْبشر صنفان أَحدهمَا طبيعي للْإنْسَان يَهْتَدِي اليه بفكره وَهُوَ الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَلذَلِك لَا تخْتَص بِملَّة لِاسْتِوَاء جَمِيع الْعُقَلَاء فِي مداركها على أَي مِلَّة كَانُوا وَهِي مَوْجُودَة فِي النَّوْع الانسان مذ كَانَ عمرَان الخليقة قلت قَالَ ابْن الاكفاني المُرَاد بالحكمة هُنَا استكمال النَّفس النَّاطِق فِي قوتها النظرية والعملية بِحَسب الطَّاقَة الانسانية والاول لحُصُول الاعتقادات اليقينية فِي معرفَة الموجودات واحوالها وَالثَّانِي بتزكية النَّفس باقتناء الْفَضَائِل وَاجْتنَاب الرذائل قلت وَمَعَ مُوَافقَة الشَّرِيعَة فِي الالهي مِنْهَا فحكمته جَهَالَة مضرَّة الثَّانِي نقلي يوخذ عَن وَاضعه وَهُوَ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِيهَا إِلَّا فِي الحاق الْفُرُوع بالأصول لعدم اندراج الجزئيات الْحَادِثَة تَحت النَّقْل

الْكُلِّي بِمُجَرَّد الْوَضع وَلما كَانَ هَذَا الالحاق القياصي يتَفَرَّع عَن الْأَخْبَار بِثُبُوت الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ نقلي رَجَعَ إِلَى النَّقْل بذلك لَا محَالة قلت قَالَ ابْن الاكفاني مقررا لمَنْفَعَة هَذَا الصِّنْف من الْعُلُوم وَمن الْمَعْلُوم أَن ارسال الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام إِنَّمَا هُوَ لطف من الله تَعَالَى لخلقه وَرَحْمَة لَهُم ليتم أَمر معاشهم وَيبين مآل مُرَادهم بِحَال الشَّرِيعَة ضَرُورَة على المعتقدات الصَّحِيحَة الَّتِي يجب التَّصْدِيق بهَا والعبادات المقربة من الله تَعَالَى مِمَّا يجب الْقيام بهَا والمواظبة عَلَيْهَا قَالَ وَالْأَمر بالفضائل وَالنَّهْي عَن الرذائل مِمَّا يجب قبُوله قلت إِمَّا شرعا فَنعم واما عقلا فَفِيهِ مَا هُوَ مَعْلُوم فِي مَوْضِعه قَالَ واما الرّوم فَكَانَت الدولة فيهم اولا ليونان وَكَانَ لهَذِهِ الْعُلُوم بَينهم مجَال رحم وَحملهَا مشاهير من رِجَالهمْ وَغَيرهم إِلَى أَن انْتَهَت الرياسة فِيهَا إِلَى أرسطو الْمُسَمّى بالمعلم الأول وَعند مصير الْأَمر إِلَى لاقياصرة هجروا تِلْكَ الْعلم كَمَا تَقْتَضِيه الْملَل والشرائع وَبقيت فِي صحفها مخلدة فِي خزائنهم إِلَى أَن ملكوا الشَّام وَهِي بَاقِيَة فيهم تَارِيخ قَالَ ثمَّ جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ المستولى على ملك الرّوم وَغَيرهم ابْتَدَأَ أمره بالسذاجة والغفلة عَن الصَّنَائِع إِلَى أَن اخذت الدولة من الحضارة بالحظ الَّذِي لم يكن لغَيرهم من الامم وتفننوا فِي الصَّنَائِع والعلوم فتوجهوا إِلَى الِاطِّلَاع على هَذِه الْعُلُوم الْحكمِيَّة لما سمعُوا من اساقفة المعاهدين وَبِمَا تسموا اليه فطْرَة الانسان فِيهَا فَبعث أَبُو جَعْفَر

الْمَنْصُور إِلَى ملك الرّوم أَن يبْعَث اليه من يكْشف لَهُ عَلَيْهَا أَو يكْتب التعاليم مترجمة فَبعث اليه بِكِتَاب اقليدس وَبَعض كتب الطبيعيات واطلع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ فازدادوا حرصا على الظفر بِمَا بَقِي مِنْهَا وَجَاء الْمَأْمُون بعد ذَلِك وَكَانَت لَهُ فِي الْعلم رَغْبَة فانبعث لهَذِهِ الْعُلُوم واوفد الرُّسُل على ملك الرّوم وطالب فِي اسْتِخْرَاج عُلُوم اليونانيين وانتساخها بالخط الْعَرَبِيّ وَبعث المترجمين لذَلِك فأوعب مِنْهَا واستوعب وَعَكَفَ عَلَيْهَا النظار من أهل الْإِسْلَام وبلغوا فِيهَا الْغَايَة وخالفوا كثيرا من آراء الْمعلم الأول واختصوه بِالرَّدِّ وَالْقَبُول لوقوف الشُّهْرَة عِنْده وَكَانَ من اكابرهم فِي الْملَّة الفارابي وَابْن سينا بالمشرق وَابْن الصَّائِغ بالأندلس وَاقْتصر كثير على انتحال التعاليم وَمَا يتبعهَا من النجامة وَالسحر والطلسمات وَوَقعت الشُّهْرَة فِي هَذَا المتنحل على مسلمة بن احْمَد المجريطي من أهل الاندلس واصحابه دَاخِلَة فَسَاد قَالَ وَدخل من هَذِه الْعُلُوم دَاخِلَة واستهوت الْكثير النَّاس بِمَا جنحوا اليها وقلدوا آراءها والذنب فِي ذَلِك لمن ارْتَكَبهُ وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ قلت ذكر فِي فصل ابطال الفلسفة وَفَسَاد منتحلها أَن ضررها فِي الدّين كثير ثمَّ خَتمه بقوله فَلْيَكُن النَّاظر فِيهَا متحرزا جهده من معاطبها وَليكن نظر من ينظر فِيهَا بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التَّفْسِير

وَالْفِقْه واصله وَألا فَقل أَن يسلم وَالله الْمُوفق للحق وَالْهَادِي اليه انْتهى مخلصا خَاتِمَة اعلام ثمَّ أَن الْمغرب والاندلس لما ركدت ريح الْعمرَان بِهِ وتناقصت الْعُلُوم بتناقصه اضمحل ذَلِك مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا من رسومه تجدها فِي تفاريق من النَّاس وَتَحْت رَقَبَة من عُلَمَاء السّنة ويبلغنا عَن أهل الْمشرق أَن بضائع هَذِه الْعُلُوم عِنْدهم لم تزل موفورة وخصوصا فِي عراق الْعَجم وَمَا وَرَاء النَّهر وانهم على نهج من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة والنقلية لتوفر عمرانهم واستحكام حضارته قَالَ وَلَقَد وقفت بِمصْر على تواليف فِي الْمَعْقُول مُتعَدِّدَة لرجل من عُلَمَاء هراة من بلد خُرَاسَان يشهر بِسَعْد الدّين التَّفْتَازَانِيّ بلغ مِنْهَا الْغَايَة فِي عُلُوم الْكَلَام واصول الْفِقْه وَالْبَيَان تشهد بِأَن لَهُ ملكة راسخة فِي هَذِه الْعُلُوم وَفِي اثنائها مَا يدل على أَن لَهُ اطلاعا على الْعُلُوم الْحكمِيَّة أَيْضا وقدما راسخة عالية فِي سَائِر الْفُنُون الفلسفية كَذَلِك بلغنَا لهَذَا الْعَهْد أَن هَذِه الْعُلُوم الفلسفية بِبِلَاد الافرنجة من ارْض رومة وَمَا يَليهَا من العدوة الشمالية نافقة الاسواق ومتعددة بمجالس التَّعْلِيم وَالله اعْلَم بِمَا هُنَالك وَهُوَ يخلق مَا يَشَاء ويختار

التَّعْرِيف الثَّانِي قَالَ فالنصف الثَّانِي وَهُوَ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة إِنَّهَا قد نفقت اسواقها فِي الْملَّة بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ وانتهت فِيهَا مدارك المناظرين إِلَى الْغَايَة الَّتِي لَا فَوْقهَا بِشَيْء وهذبت اصطلاحاتها وزينت فنونها فَجَاءَت من وَرَاء الْغَايَة فِي الْحسن والتنميق وَكَانَ لكل فن رجال يرجع اليهم فِيهِ واوضاع يُسْتَفَاد مِنْهَا التَّعْلِيم واختص الْمشرق من ذَلِك وَالْمغْرب بِمَا هُوَ مَشْهُور مِنْهَا قَالَ وَقد كسدت اسواق الْعلم لهَذَا الْعَهْد بالمغرب لتناقص عمرانه وَانْقِطَاع سَنَد التَّعْلِيم وَالله مُقَدّر اللَّيْل وَالنَّهَار انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَن كَثْرَة التواليف فِي الْعُلُوم عائقة عَن التَّحْصِيل قَالَ اعْلَم انه مِمَّا اضر بِالنَّاسِ فِي تَحْصِيل الْعلم وَالْوُقُوف على غَايَته كَثْرَة التواليف وَاخْتِلَاف الاصطلاحات فِي التَّعْلِيم ثمَّ مُطَالبَة المتعلم باستحضار ذَلِك وَحِينَئِذٍ يسلم لَهُ منصب التَّحْصِيل فَيحْتَاج إِلَى حفظ

كلهَا أَو اكثرها وَلَا يَفِي عمره بِمَا كتب مِنْهَا فِي صناعَة وَاحِدَة إِذا تجرد لَهَا فَيَقَع الْقُصُور وَلَا بُد دون رُتْبَة التَّحْصِيل التَّمْثِيل الأول مُطَالبَة المشتغل بِالْمذهبِ الْمَالِكِي بِكِتَاب الْمُدَوَّنَة وَمَا كتب عَلَيْهَا من الشروحات ككتاب ابْن يُونُس وللخمي وَابْن بشير

والتنبيهات والمقدمات وَكتاب الْعُتْبِيَّة وَالْبَيَان والتحصيل وَكتاب أَن الْحَاجِب وَمَا كتب عَلَيْهِ مَعَ احْتِيَاجه إِلَى تَمْيِيز الطَّرِيقَة القيروانية من الطَّرِيقَة القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق الْمُتَأَخِّرين عَنْهُم والاحاطة بذلك كُله وَحِينَئِذٍ يسلم لَهُ منصب الْفتيا وَهِي كلهَا متكررة وَالْمعْنَى وَاحِد والعمر يَنْقَضِي فِي وَاحِد مِنْهَا قلت قد نصوا على قريب من هَذَا فاللمازري فِي تعقيبه على احياء الْغَزالِيّ وَقد قرر أَن التَّعْلِيم لَا بُد فِيهِ من مؤونة عَظِيمَة وَهَذِه الْمُدَوَّنَة تشْتَمل على سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف مسئلة وَمِائَتَيْنِ لَيْسَ فِي الْعَصْر من يسامح المقتصر عَلَيْهَا بالفتوى وَلَا يصفه بامامة أَو الْفتيا حَتَّى يضيف اليها الِاطِّلَاع على امثال هَذِه الْمسَائِل قَالَ ابْن خلدون وَلَو اقْتصر المعلمون المتعلمين على الْمسَائِل المذهبية

فَقَط لَكَانَ سهلا وَكَانَ التَّعْلِيم دون ذَلِك بِكَثِير ومأخذه قَرِيبا وَلكنه دَاء لَا يرْتَفع لاستقرار العوائد عَلَيْهِ فَصَارَت كالطبيعة الَّتِي لَا تتبدل التَّمْثِيل الثَّانِي مُطَالبَة النَّاظر فِي الْعَرَبيَّة بِكِتَاب سبويه وطرق الْبَصرِيين والكوفيين والبغداديين والاندلسيين وطرق الْمُتَأَخِّرين كَابْن الْحَاجِب وَابْن مَالك والعمر يَنْقَضِي دون ذَلِك فَلَا يطْمع أحد فِي الْغَايَة مِنْهُ

إِلَّا الْقَلِيل النَّادِر لتشعبه بِمَا ذكر وصعوبته هَذَا وَهِي آلَة ووسيلة فَكيف يكون الْحَال فِي الْقَصْد الَّذِي هُوَ الثَّمَرَة تَنْبِيه تَكْثِير التواليف لمريدها من طلبة الْعلم لَا يُقَال فِيهِ انه عائق عَن التَّحْصِيل بل هُوَ كَفِيل بِكَمَالِهِ وَمن ثمَّ قَالَ ابْن حزم الاستكثار من الْكتب من دعائم الْعلم إِذْ لَا يَخْلُو كتاب من فَائِدَة وَزِيَادَة علم وَقد كشف الْخَلِيل عَن فَائِدَة جمعهَا وغاياته فَقَالَ اقلوا من الْكتب لتحفظوا واكثروا مِنْهَا لِتَعْلَمُوا الْمَسْأَلَة السَّادِسَة أَن كَثْرَة الاختصارات الموضوعية فِي الْعُلُوم مخلة بالتعليم قَالَ ذهب كثير من الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين إِلَى اخْتِصَار الطّرق والانحاء فِي الْعُلُوم بِوَضْع مختصرات مُشْتَمِلَة على حصر مسائلها وادلتها بِاخْتِصَار فِي الالفاظ وحشو الْقَلِيل مِنْهَا بالمعاني الْكَثِيرَة أَو بِاخْتِصَار مَا وضع من المطولات للتفسير وَالْبَيَان تَقْرِيبًا للْحِفْظ كَمَا فعل ابْن الْحَاجِب فِي الْفِقْه واصوله وَابْن مَالك فِي الْعَرَبيَّة والخونجي فِي الْمنطق وَهُوَ فَسَاد فِي التَّعْلِيم واخلال فِي التَّحْصِيل قلت وَحَاصِل مَا ينشأ عَن ذَلِك مَعَ اخلاله بالبلاغة امور أَحدهَا أَن فِيهِ تَخْلِيطًا على الْمُبْتَدِئ بالقاء الغايات اليه وَهُوَ لم يستعد بعد لقبولها وَهُوَ من سوء التَّعْلِيم كَمَا سَيَأْتِي أَن شَاءَ الله تَعَالَى

الثَّانِي أَن فِيهِ مَعَ ذَلِك شغلا كَبِيرا على التَّعْلِيم بتتبع الالفاظ العويصة للفهم لتزاحم الْمعَانِي عَلَيْهَا واستخراج الْمسَائِل من بَينهَا وَلَا يتَخَلَّص من ذَلِك إِلَّا بعد ذهَاب حَظّ صَالح من الْوَقْت الثَّالِث أَن الملكة الْحَاصِلَة بعد ذَلِك كُله من التَّعَلُّم مِنْهَا إِذا تمّ سداده وَلم تعقبه آفَة قَاصِرَة عَن الملكات الْحَاصِلَة من الموضوعات البسيطة لِكَثْرَة مَا يَقع فِيهَا من التّكْرَار والاطالة المفسدين لحُصُول الملكة التَّامَّة ثمَّ قَالَ فقصدوا إِلَى تسهيل الْحِفْظ على المتعلم فاركبوه صعبا يقطعهُ عَن تَحْصِيل الملكات النافعة وتمكنها وَمن يهد الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ قلت وَمِمَّا يعاب بِهِ سرعَة تقلب الْفَهم لَهَا لتعذر استحضار مَا يفِيدهُ ويعسر عَلَيْهِ دَائِما وَقد ذكر لنا عَن ابْن الْحَاجِب انه رُبمَا رَاجع بعض الْمَوَاضِع من مختصرة الفقهي فَلم يفهمهُ واذ ذَاك فَمَا الظَّن بسواه عاطفة تَكْمِيل لقصد الْمَسْأَلَتَيْنِ المذكورتين آنِفا بِذكر فَوَائِد مهمة

الْفَائِدَة الأولى قَالَ ابْن الاكفاني كتب الْعُلُوم لَا تحصر كَثْرَة لِكَثْرَة الْعُلُوم وَاخْتِلَاف الاغراض فِي الْوَضع والتأليف لَكِنَّهَا من جِهَة الْمِقْدَار ثَلَاثَة مختصرة فِي لَفظهَا وجزء مَعْنَاهَا وَهَذِه تجْعَل تذكرة لرؤوس المشاكل ينْتَفع بهَا المتهي للاستحضار وَرُبمَا افادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة جرأتهم على الْمعَانِي الْعبارَات الدقيقة ومبسوطة ينْتَفع بهَا للمطالعة ومتوسطة لَفظهَا بأزاء مَعْنَاهَا ونفعها عَام الْفَائِدَة الثَّانِيَة قَالَ أَيْضا المصنفون الْمُعْتَبرَة تصانيفهم فريقان أَحدهمَا من لَهُ فِي التَّعْلِيم ملكة تَامَّة ورؤية كَافِيَة وتجارب وَثِيقَة وحدس صائب واستخبار قريب وتصانيفهم عَن قُوَّة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رَأْي يجمع إِلَى تَحْرِير الْمعَانِي بتهذيب الالفاظ وَهَذِه لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا أحد من الْعلمَاء فَإِن نتائج الافكار لَا تقع عِنْد حد بل لكل عَالم ومتعلم مِنْهَا حَظّ وَهَؤُلَاء احسنوا

إِلَى النَّاس كَمَا احسن الله تَعَالَى اليهم زَكَاة عَن علومهم لبَقَاء الذّكر فِي الدُّنْيَا وجزيل الاجر فِي الاخرة الثَّانِي من لَهُ ذهن ثاقب وَعبارَة طَلْقَة وَوَقعت لَهُ كتب جَيِّدَة جمة الْفَوَائِد لَكِنَّهَا غير انيقة التَّأْلِيف وَالنّظم فاستخرج دررها واحسن نظمها وَهَذِه ينْتَفع بهَا المبتدؤون والمتوسطون وَهَؤُلَاء مشكورون على ذَلِك شكر الله سَعْيهمْ الْفَائِدَة الثَّالِثَة شَرط الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو اسحاق الشاطبي فِي الِانْتِفَاع بمطالعة الْكتب العلمية شرطين أَحدهمَا تقدم فهم مَقَاصِد علمهَا وَمَعْرِفَة اصطلاحاته قَالَ وَذَلِكَ يحصل من مشافهة الْعلمَاء أَو بِمَا هُوَ رَاجع اليه إِذْ الْكتب وَحدهَا لَا تفِيد الطَّالِب مِنْهَا شَيْئا دون فتح الْعلمَاء كَمَا هُوَ مشَاهد الثَّانِي تحرى كتب الْمُتَقَدِّمين من أهل الْعلم المُرَاد تَحْصِيله فَإِنَّهُم اقعد بِهِ من الْمُتَأَخِّرين قَالَ وَاصل ذَلِك التجربة الْمُشَاهدَة فِي أَي علم كَانَ فالمتأخر لَا يبلغ من الرسوخ فِيهِ مَا بلغه الْمُتَقَدّم وَالْخَبَر الدَّال على ذَلِك فَمِنْهُ خير الْقُرُون قَرْني الحَدِيث وَهُوَ يُشِير أَن كل قرن مَعَ مَا بعده كَذَلِك ثمَّ ذكر من الْأَخْبَار مَا يَقْتَضِي الاعلام بِنَقص الدّين وَالدُّنْيَا واعظم ذَلِك الْعلم فَهُوَ إِذا فِي نقص بِلَا شكّ فَلذَلِك صَار تحرى كتب الْمُتَقَدِّمين وَكَلَامهم

وسيرهم انفع لمن اراد الْأَخْذ بِهِ للِاحْتِيَاط فِي الْعلم أَي نوع كَانَ وخصوصا علم الشَّرِيعَة الَّذِي هُوَ العروة الوثقى والوزر الاحمى انْتهى مُلَخصا قلت قد سبقه لهَذَا الْمَعْنى غير وَاحِد من الشُّيُوخ فقد حكى أَبُو الْحسن الشاري فِي تَارِيخه عَن بعض شُيُوخه انه كَانَ يُبَالغ فِي الْوَصِيَّة بالاعتماد على كتب الْمُتَقَدِّمين حَتَّى انه كَانَ لَا يقتني كتابا من كتب الْمُتَأَخِّرين قَالَ وَلَقَد كَانَ بعض من لقيناه من الْمُحَقِّقين يمِيل إِلَى هَذِه الطَّرِيقَة وَحكى عَن ابْن خروف انه كَانَ لَا يقْرَأ من كتب النَّحْو حاشا كتاب سِيبَوَيْهٍ وَيرى انه يطْرَح مَا سواهُ كمفصل الزَّمَخْشَرِيّ وَغَيره

قَالَ وَكَانَ يسمح فِي بعض الاوقات فِي الاصول لِابْنِ السراج والتبصرة المنسوبة للصيمري انْتهى قلت وَلابْن عَرَفَة ع بعض الشُّيُوخ فِيمَا يخص كتاب ابْن الْحَاجِب الفرعي كَلَام هُوَ اشد من هَذَا فَرَاجعه فِي مَوْضِعه الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أَن وَجه الصَّوَاب فِي تَعْلِيم الْعلم وطرقاته أَن يلقى للمتعلم على التدريج فِي مَرَّات ثَلَاث إِحْدَاهمَا يلقِي عَلَيْهِ اولا مسَائِل فِي كل بَاب من الْفَنّ هِيَ اصول ذَلِك الْبَاب فِيهِ وَيقرب لَهُ فِي شرحها على سَبِيل الاجمال ومراعاة قُوَّة عقله واستعداده حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى آخر الْفَنّ ومنذ ذَلِك تحصل لَهُ ملكة ضَعِيفَة غايتها تهيئته لفهمه وتحصيله

الثَّانِيَة يرفعهُ فِي التَّلْقِين عَن تِلْكَ الرُّتْبَة بِاسْتِيفَاء الْبَيَان الْخَارِج عَن الاجمال واعلامه بِمَا هُنَاكَ من الْخلاف وَوَجهه إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى آخر الْفَنّ فتجود ملكته الثَّالِثَة يرجع بِهِ وَقد شدا فَلَا يتْرك عويصا وَلَا مُبْهما إِلَّا اوضحه وَفتح لَهُ مقفله فيتخلص من الْفَنّ وَقد استولى على ملكته قَالَ وَقد يحصل للْبَعْض فِي اقل من ذَلِك بِحَسب مَا يخلق لَهُ وييسر عَلَيْهِ مُخَالفَة صَوَاب قَالَ وَقد شاهدنا كثيرا من المعلمين يغفلون عَن طَرِيق هَذَا التَّعْلِيم بالقاء الْمسَائِل المقفلة فِي أول وهلة ثمَّ مُطَالبَة المتعلم باحضار ذهنه فِي حلهَا وَحفظ مَا تلقى مِنْهَا اعتقادا أَن ذَلِك مران على التَّعْلِيم وصواب فِيهِ فَيَخْلِطُونَ عَلَيْهِ بالقاء الغايات فِي المبادئ وَقبل استعداده للفهم فَإِن قبُول الْعلم والاستعداد لفهمه ينشأ تدريجيا والمتعلم أول الْأَمر عَاجز عَن الْفَهم فِي الْجُمْلَة إِلَّا فِي الاقل وعَلى سَبِيل التَّقْرِيب والاجمال ثمَّ لَا يزَال استعداده يتدرج بمخالطة مسَائِل ذَلِك الْفَنّ وتكرارها عَلَيْهِ والانتقال فِيهَا من التَّقْرِيب إِلَى الاسهاب حَتَّى تتمّ الملكة فِي الاستعداد ثمَّ فِي

التَّحْصِيل وَإِذا القيت عَلَيْهِ الْغَايَة فِي ابْتِدَائه وَهُوَ عَاجز عَن الْفَهم والوعي وبعيد عَن الاستعداد كل ذهنه وَحسب ذَلِك من صعوبة الْعلم فِي نَفسه فتكاسل عَن قبُوله وَتَمَادَى فِي هجرانه فَقَالَ وانما أَتَى ذَلِك من صعوبة التَّعْلِيم وسوءه وَصَايَا نافعة أَحدهَا يَنْبَغِي للمغلم أَن يزِيد المتعلم على فهم كِتَابه الَّذِي اكب على التَّعْلِيم مِنْهُ بِحَسب طاقته وقبوله مبتدئا أَو منتهيا وَلَا يخلط مسَائِل الْكتاب بغَيْرهَا حَتَّى يعيه من اوله إِلَى آخِره ويستولي مِنْهُ على ملكة بِهِ ينفذ فِي غَيره لَان المتعلم إِذا حصل ملكة مَا استعد بهَا لقبُول مَا بَقِي حَتَّى يستولي على الْغَايَة وَإِذا خلط عَلَيْهِ الْأَمر عجز عَن الْفَهم وادركه الْملَل وانطمس وآيس من التَّحْصِيل وهجر الْعلم والتعليم وَالله يهدي من يَشَاء الثَّانِيَة يَنْبَغِي لَهُ أَن لَا يطول على المتعلم فِي الْفَنّ الْوَاحِد أَو الْكتاب الْوَاحِد بتقطيع وتفريق مَا بَينهمَا لانه ذَرِيعَة النسْيَان وَانْقِطَاع مسَائِل الْفَنّ بَعْضهَا عَن بعض لعسر حُصُول الملكة بذلك وَإِذا كَانَت اوائل الْعلم واواخره حَاضِرَة عِنْد الْفِكر كَانَت الملكة الناشئة ايسر حصولا وماحكم صبغة لَان الملكة إِنَّمَا تحصل بتتابع الْفِعْل وتكرره وَمَتى تنوسي الْفِعْل فالملكة الناشئة عَنهُ كَذَلِك وَالله علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ الثَّالِثَة يَنْبَغِي إِلَّا يخلط على المتعلم علمين مَعًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ قل أَن يظفر

بِوَاحِد مِنْهُمَا لتقسم البال وانصرافه عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى تفهم الآخر فيستغلقان مَعًا ويستصعبان وَيعود مِنْهُمَا بالخيبة قلت من كَلَام ابْن رشد الْحَكِيم مقررا لهَذَا الْمَعْنى من احب أَن يتَعَلَّم اكثر من شَيْء وَاحِد فِي وَقت وَاحِد لم يتَعَلَّم وَاحِد مِنْهُمَا وقديما وَردت الْوَصِيَّة بذلك وَعَن بَعضهم انه قَالَ لمؤدب وَلَده لَا تخرجهم من علم إِلَى علم حَتَّى يحكموه فَإِن اصطكاك الْعلم فِي السّمع وازدحامه فِي الْوَهم مضلة مغلقة للفهم الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَن الْعُلُوم الالية لَا توسع فِيهَا الافكار وَلَا تفرع الْمسَائِل وَذَلِكَ لَان الْعُلُوم صنفان أَحدهمَا مقصو لذاته كالتفسير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَعلم الْكَلَام من الشرعيات والطبيعيات والالهيات من الحكميات وَهَذِه فَلَا حرج من توسيع الْكَلَام فِيهَا وتفريع الْمسَائِل لمزيد تمكن الملكة بذلك الثَّانِي آلَة لذَلِك الْمَقْصُود لذاته كالعربية والحساب وَغَيرهمَا للشرعيات والمنطق للحكميات وَرُبمَا كَانَ لعلم الْكَلَام واصول الْفِقْه على طَريقَة الْمُتَأَخِّرين وَهَذِه فَلَا يَنْبَغِي أَن يُوسع فِيهَا الْكَلَام وَلَا تَفْرِيع الْمسَائِل لخروجها بذلك عَن الْمَقْصُود بهَا واخلاله بِمَا هِيَ اليه وَسِيلَة لضيق الْعُمر عَن تَحْصِيل الْجَمِيع على هَذِه الصُّورَة وحقيق بِهِ الِاشْتِغَال بهَا فَذَلِك تَضْييع للعمر وخوض فِيمَا لَا يُغني

تَمْثِيل قَالَ وَهَذَا كَفعل الْمُتَأَخِّرين فِي النَّحْو والمنطق بل وَهَذَا كَفعل الْمُتَأَخِّرين فِي النَّحْو والمنطق بل واصول الْفِقْه لأَنهم اوسعوا الْكَلَام فِيهَا نقلا واستدلالا واكثروا من التَّفْرِيع بِمَا اخرجها إِلَى قبيل الْمَقْصُود لذاتها وَرُبمَا جر ذَلِك إِلَى انظار ومسائل لَا حَاجَة بهَا فِيمَا هِيَ آلَة لَهُ فَتكون لذَلِك لَغوا قلت مثله قَول ابْن الْعَرَبِيّ من اقام عمره حسابيا أَو نحويا فقد هلك وَهُوَ بِمَنْزِلَة من اراد صَنْعَة شَيْء فشحذ الالة عمره ثمَّ مَاتَ قبل عمل صَنعته وَقَول الشَّيْخ أبي اسحاق الشاطبي كل مَسْأَلَة مرسومة فِي أصُول الْفِقْه لَا تنبني عَلَيْهَا فروع فقهية أَو آدَاب شَرْعِيَّة وَلَا تكون عونا فِي ذَلِك فوضعها فِي اصول الْفِقْه عَارِية لُزُوم ومامجب قَالَ ابْن خلدون فعلى المعلمين كَمَا هُوَ وَسِيلَة أَن لَا يستبحروا فِيهِ وَلَا يستكثروما من مسَائِله وقوفا بالمتعلم مَعَ الْغَرَض مِنْهُ قلت مثله قَول الْغَزالِيّ كل مَا يطْلب لغيره فَلَا يَنْبَغِي أَن تَجِد فِيهِ الْمَطْلُوب وتستكثر مِنْهُ وَقَالَ ابْن خلدون وَمن ترقت همته بعد ذَلِك إِلَى توغل فِيهِ وَرَأى فِي نَفسه قيَاما بذلك وانتهاضا اليه فليختر لنَفسِهِ وكل

ميسر لما خلق لَهُ قلت وَقد قَررنَا فِي رَوْضَة الاعلام بِمَنْزِلَة الْعَرَبيَّة من عُلُوم الْإِسْلَام مَا يَتَّضِح بِهِ هَذَا الْموضع على التَّمام أَن شَاءَ الله تَعَالَى الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَن مَذَاهِب أهل الامصار الاسلامية مُخْتَلفَة فِي طرق تَعْلِيم الْولدَان وَقبل بَيَان ذَلِك فتعليم الْولدَان الْقُرْآن من شَعَائِر الدّين ومراسمه أَخذ بِهِ أهل الْملَّة ودرجوا عَلَيْهِ لما يسْبق بِهِ إِلَى الْقُلُوب من رسوخ الْإِيمَان وعقائده إِذْ هُوَ اصل التَّعْلِيم الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ مَا يحصل بعده من الملكات وَذَلِكَ لَان تَعْلِيم الصغار اشد رسوخا وَهُوَ اصل لما بعده لَان السَّابِق الأول إِلَى الْقُلُوب كالاساس للملكات وعَلى كل حَال الاساس يكون حَال كل مَا يَبْنِي عَلَيْهِ إِذا تقرر هَذَا فلاهل الامصار الاسلامية فِي هَذَا التَّعْلِيم طرق الطَّرِيقَة الأولى لأهل الْمغرب وَمن تَبِعَهُمْ من قراء البربر وَهِي اقتصارهم على تَعْلِيم الْقُرْآن فَقَط واخذهم اثناء ذَلِك بالرسم وَاخْتِلَاف الْقُرَّاء فِيهِ من غير مزِيد عَلَيْهِ من الحَدِيث وَالْفِقْه أَو الشّعْر أَو كَلَام الْعَرَب إِلَى أَن يحذق فِي ذَلِك قبل الْبلُوغ وَبعده إِلَى الشبيبة أَو يَنْقَطِع دونه فَيكون انْقِطَاعًا عَن الْعلم بِالْجُمْلَةِ وَكَذَا فِي إِذا

رَاجع ذَلِك بعد طَائِفَة من عمره فهم لذَلِك اقوم على رسم الْقُرْآن وَحفظه من سواهُم الطَّرِيقَة الثَّانِيَة لأهل الاندلس وَهِي تعليمهم للْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة من حَيْثُ هُوَ لكنه لما كَانَ الْقُرْآن اصل ذَلِك ومنبع الدّين والعلوم جَعَلُوهُ أصلا فِي التَّعْلِيم وخلطوا بِهِ رِوَايَة الشّعْر والترسيل وَحفظ قوانين العربة ي وتجويد الْخط وَالْكِتَابَة وعنايتهم بِهِ اكثر من الْجَمِيع إِلَى أَن يخرج عَن حد الْبلُوغ إِلَى الشبية وَقد شدا بعض الشَّيْء فِي الْعَرَبيَّة وَالشعر وبرز فِي الْخط وَالْكِتَابَة وَتعلق بأذيال الْعلم على الْجُمْلَة لَو كَانَ فِيهَا سَنَد لتعليم الْعُلُوم وَلَكنهُمْ ينقطعون عِنْد ذَلِك لانْقِطَاع سَنَد التَّعْلِيم فِي أفقهم وَلَا يحصل لَهُم إِلَّا ذَلِك التَّعْلِيم الأول وَفِيه كِفَايَة واستعداد إِذا وجد الْمعلم الطَّرِيقَة الثَّالِثَة لأهل افريقية وَهِي خلط هَذَا التَّعْلِيم بِالْحَدِيثِ فِي الْغَالِب ومدارسة قوانين الْعُلُوم وتلقين بعض مسائلها إِلَّا أَن عنايتهم باستظهار الْقُرْآن ووقوفهم على اخْتِلَاف رِوَايَات قرائه اكثر مِمَّا سواهُ وعنايتهم بالخط تبع لذَلِك وَبِالْجُمْلَةِ فطريقتهم اقْربْ إِلَى طَريقَة أهل الاندلس لاتصال سَنَد طريقتهم بمشيخة أهل الاندلس الَّذِي جازوا عِنْد تغلب النَّصَارَى على شَرق بلدهم واستقروا بتونس وعنهم اخذ ولدانهم من بعد ذَلِك

الطَّرِيقَة الرَّابِعَة لأهل الْمشرق وَهِي خلط التَّعْلِيم كَذَلِك فِيمَا بلغ عَنْهُم قَالَ وَلَا أَدْرِي بِمَ عنايتهم مِنْهُ وَالَّذِي ينْقل لنا أَن عنايتهم بدراسة الْقُرْآن وصحف الْعلم فِي زمَان الشبيبة وَلَا يخلطونه بتعليم الْخط لاخْتِصَاص المنتصبين لتعليم قوانينه على انْفِرَاده كَسَائِر الصَّنَائِع فَلذَلِك لَا يتداولونه فِي الْمكَاتب وَإِذا كتبُوا لَهُم الالواح فبخط قَاصِر عَن الاجادة وَمن اراد تعلم الْخط ابتغاه من أهل صَنعته فَائِدَة اختبار قَالَ فَأَما أهل افريقية وَالْمغْرب فأفادهم الِاقْتِصَار على الْقُرْآن الْقُصُور عَن ملكة اللِّسَان جملَة لَان الْقُرْآن لَا ينشأ عَنهُ فِي الْغَالِب ملكة لعجز الْبشر عَن الاتيان بِمثلِهِ وَلَا ملكة لَهُم فِي غير اساليبه فَلَا ملكة لَهُم فِي اللِّسَان وحظهم الجمود على الْعبارَات وَقلة التَّصَرُّف فِي الْكَلَام وَرُبمَا كَانَ أهل افريقية اخف من أهل الْمغرب لخلطهم فِي تَعْلِيم الْولدَان بعبارات قوانين الْعُلُوم فيقتدرون على شَيْء من التَّصَرُّف فِي الْكَلَام الأول إِلَّا أَن ملكتهم فِي ذَلِك قَاصِرَة عَن البلاغة لنزول محفوظهم عَن تِلْكَ الْعبارَات مِنْهَا قَالَ وَأما أهل الاندلس فأفادهم التفنن فِي التَّعْلِيم بِكَثْرَة رِوَايَة الشّعْر والترسيل ومدارسة الْعَرَبيَّة من أول الْعُمر حُصُول ملكة صَارُوا

بهَا أعرف فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَقصرُوا فِي سَائِر الْعُلُوم لبعدهم عَن مدارسة الْقُرْآن والْحَدِيث فَكَانُوا لذَلِك أهل خطّ وأدب بارع أَو مقصر على حسب التَّعْلِيم الْكتاب بعسر تَعْلِيم الصِّبَا غَرِيبَة قَالَ وَلَقَد ذهب ابْن الْعَرَبِيّ إِلَى غَرِيبَة فِي وَجه التَّعْلِيم واعاد فِي ذَلِك وأبدأ وَقدم تَعْلِيم الْعَرَبيَّة وَالشعر كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل الاندلس قَالَ لِأَن الشّعْر ديوَان الْعَرَب وَيَدْعُو إِلَى تَقْدِيمه مَعَ الْعَرَبيَّة فَسَاد اللُّغَة ثمَّ ينْتَقل مِنْهُ إِلَى الْحساب ليتمرن فِيهِ ثمَّ إِلَى درس الْقُرْآن واستغفل أهل بِلَاده فِي أَخذ الطِّفْل بِالْقُرْآنِ فِي أول أمره لقرَاءَته مَا لَا يفهم وَتَبعهُ فِي أَمر غَيره اهم مِنْهُ قَالَ ثمَّ ينظر فِي أصُول الدّين ثمَّ أصُول الْفِقْه ثمَّ الجدل ثمَّ الحَدِيث وَنهي مَعَ ذَلِك عَن خلط علمين إِلَّا مَعَ قبُول المتعلم لجودة ذهنه ونشاطه قَالَ وَهُوَ لعمري مَذْهَب حسن إِلَّا أَن العوائد لَا تساعد عَلَيْهِ وه ياملك بالاحوال تَوْجِيه عَادَة قَالَ وَوجه مَا اخْتصّت بِهِ العوائد من تقدم دراسة الْقُرْآن ايثار التَّبَرُّك بِهِ وخشية مَا يعرض للْوَلَد فِي جُنُون الصِّبَا من القواطع عَن الْعلم فيفوته

الْقُرْآن لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي حجر الصِّبَا منقاد للْحكم فَإِذا تجَاوز الْبلُوغ انحل من ربقة الْقَهْر فَرُبمَا عصفت بِهِ ريَاح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون تَحْصِيل الْقُرْآن لَهُ قبل ذَلِك قَالَ وَلَو حصل الْيَقِين باستمراره فِي طلب الْعلم وَقبُول تَعْلِيمه لَكَانَ هَذَا الْمَذْهَب اولى مِمَّا اخذ بِهِ أهل الْمشرق وَالْمغْرب وَلَكِن الله يحكم مَا يَشَاء لَا معقب لحكمه الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أَن الشدَّة على المتعلمين مضرَّة بهم وَذَلِكَ لِأَن ارهاف الْحَد للتأديب مُضر بالمتعلم لَا سِيمَا فِي اصغار الْولدَان لانه من سوء الملكة بِدَلِيل أَن من كَانَ مرباه بالقهر من متعلم أَو مَمْلُوك أَو خديم عَاد عَلَيْهِ بِضيق النَّفس وَذَهَاب النشاط وَحُصُول الكسل وَالْحمل على الْكَذِب والخبث وَالْمَكْر والخديعة وَفَسَاد مَعَاني الانسانية من حَيْثُ الِاجْتِمَاع وَهِي الحمية والمدافعة وَالْقَبُول عَن اكْتِسَاب الْفَضَائِل والخلق الْجَمِيل حَتَّى ينقبض عَن غَايَة مَقْصُودَة فيرتكس وَيعود فِي أَسْفَل السافلين كَمَا وَقع لكل امة حصلت فِي قَبْضَة الْقَهْر والعسف

اعْتِبَار قَالَ وَاعْتبر ذَلِك فِي كل من يملك عَلَيْهِ امْرَهْ وَلَا تكون الملكة الكافلة لَهُ رَفِيقَة بِهِ تَجِد ذَلِك فيهم وَانْظُر فِي الْيَهُود وَمَا حصل فيهم بذلك من خلق السوء حَتَّى انهم يوصفون فِي كل افق وعصر بالحرج وَمَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاح المقهور والمتخابث والكيد وَسَببه مَا قُلْنَاهُ فَلذَلِك يَنْبَغِي لمعلم الْولدَان أَن لَا يشدد عَلَيْهِم فِي التَّأْدِيب استظهار قَالَ وَقد قَالَ مُحَمَّد ابْن أبي زيد لَا يَنْبَغِي لمؤدب الصّبيان أَن يزِيد فِي ضَربهمْ إِذا احتاجوا اليه على ثَلَاثَة اسواط وَمن كَلَام عمر رَضِي الله عَنهُ من لم يؤدبه الشَّرْع لَا ادبه الله حرصا على صون النُّفُوس عَن مذلة التَّأْدِيب وعلما بِأَن الْمِقْدَار الَّذِي عينه الشَّرْع لذَلِك املك لَهُ فَإِنَّهُ اعْلَم بمصلحته

تَعْلِيم ملوكي قَالَ وَمن أحسن مَذَاهِب التَّعْلِيم مَا تقدم بِهِ الرشيد لعلم وَلَده قَالَ خلف الاحمر بعث إِلَى الرشيد لتأديب وَلَده الامين فَقَالَ يَا أَحْمَر أَن امير الْمُؤمنِينَ قد دفع اليك مهجة نَفسه وَثَمَرَة فُؤَاده فصير يدك عَلَيْهِ مبسوطة وطاعته لَك وَاجِبَة فَكُن لَهُ بِحَيْثُ وضعك امير الْمُؤمنِينَ اقرئه الْقُرْآن وعرفه الْأَخْبَار وروه الاشعار وَعلمه السّنَن وعرفه بمواقع الْكَلَام وبدئه وامنعه من الضحك إِلَّا فِي اوقاته وخذه بتعظيم مَشَايِخ بني هَاشم إِذا دخلُوا عَلَيْهِ وَرفع مجَالِس القواد إِذا حَضَرُوا مَجْلِسه وَلَا تمرن بك سَاعَة إِلَّا وانت مغتنم تأديبة وَفَائِدَة تفيده إِيَّاهَا من غير أَن تحزنه فتميت قلبه وذهنه وَلَا تمعن فِي مسامحته فيستحلي الْفَرَاغ ويألفه وَقَومه مَا اسْتَطَعْت بالرفق والملاينة فَإِن اباهما فَعَلَيْك بالشدة والغلطة الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة أَن الرحلة فِي طلب الْعلم ولقاء المشيخة مزِيد كَمَال فِي التَّعْلِيم فَعَلَيْك بِهِ وَذَلِكَ لأمرين

أَحدهمَا أَن على قدر كَثِيرَة الشُّيُوخ تكن حُصُول الملكة ورسوخها لما فِي ذَلِك من تَكْرِير الْمُبَاشرَة والتلقين بِحَسب تعدد لقائهم الثَّانِي أَن تكَرر الْأَخْذ عَنْهُم يُفِيد المتعلم تَمْيِيز الاصطلاحات لما يرى من اخْتِلَاف طرقهم فِيهَا بِمُجَرَّد الْعلم عَنْهَا وَتحقّق إِنَّهَا انحاء تَعْلِيم وطرق توصل لَا إِنَّهَا جُزْء مِنْهَا كَمَا يَعْتَقِدهُ كثير قَالَ فالرحلة لَا بُد مِنْهَا فِي طلب الْعلم لِاكْتِسَابِ الْفَوَائِد والكمال بلقاء الْمَشَايِخ ومباشرة الرِّجَال وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم قلت ليشاع الْعِنَايَة بهَا عِنْد المحصلين قَالَ الْغَزالِيّ قل مَذْكُور فِي الْعلم من زمَان الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَى زَمَاننَا إِلَّا وَحصل الْعلم بِالسَّفرِ وَسَار لاجله وَعَن مَالك ابْن دِينَار رَضِي الله عَنهُ اوحى الله إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن اتخذ نَعْلَيْنِ من حَدِيد وعصا من حَدِيد ثمَّ اطلب الْعلم وماصبر حَتَّى تخرق نعالك وتكسر عصاك قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَهُوَ أول من رَحل فِي طلب الْعلم من أهل الشَّرَائِع

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة أَن الْعلمَاء من بَين النَّاس ابعد عَن السياسة ومذاهبها وَذَلِكَ لامرين أَحدهمَا انهم يعتادون النّظر الفكري والغوص على الْمعَانِي الدقيقة واتنزاعها من المحسوسات وتجريدها فِي الذِّهْن امورا كُلية يحكم عَلَيْهَا بِأَمْر على الْعُمُوم لَا بِخُصُوص مَادَّة أَو شخص أَو جنس أَو صنف من النَّاس وَبعد ذَلِك يطبقون تِلْكَ الكليات على الخارجيات الثَّانِي انهم يقيسون الْأُمُور على اشباهها بِمَا اعتادوا من الْقيَاس الفقهي فَلَا يزَال حكم نظرهم فِي الذِّهْن وَلَا يصير إِلَى الْمُطَابقَة إِلَّا بعد الْفَرَاغ من الْبَحْث وَالنَّظَر وَلَا يصير بِالْجُمْلَةِ اليها وانما يتَفَرَّع فِي الْخَارِج عماما فِي الذِّهْن من ذَلِك كل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهَا فروع كَمَا فِي الْمَحْفُوظ من أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة فيطلب مُطَابقَة مَا فِي الْخَارِج لَهَا عكس مَا فِي الانظار فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة الْمَطْلُوب فِي صِحَّتهَا مطابقتها لما فِي الْخَارِج فَإِذا هم منفردون فِي سَائِر انظارهم بالأمور الذهنية لَا يعْرفُونَ سواهَا والسياسة تحْتَاج إِلَى مُرَاعَاة مَا فِي الْخَارِج أَو مَا يلْحقهَا من الاحوال الْخفية لَا مَكَان اشتمالها على مَا يمْنَع من الحاقها بشبه أَو مِثَال أَو تنافى الْكُلِّي الَّذِي يحاول تطبيقه عَلَيْهَا وَلَا

يُقَاس شَيْء من احوال الْعمرَان على الآخر لاحْتِمَال اخْتِلَافهمَا فِي غير مَا اشتبها فِيهِ من وُجُوه قَالَ فَيكون الْعلمَاء لما تعودوه من تَعْمِيم الْأَحْكَام وَقِيَاس الْأُمُور بَعْضهَا على بعض إِذا نظرُوا فِي السياسة افرغوما ذَلِك فِي قالب افكارهم وَنَوع استدلالاتهم فيقعون فِي الْغَلَط الْكثير اولا يُؤمن عَلَيْهِم تنيبه قَالَ وَيلْحق بهم أهل الذكاء والكيس لانهم ينزعون بثقوب اذهانهم إِلَى مثل شَأْن الْفُقَهَاء من الغوص على الْمعَانِي وَالْقِيَاس والمحاكات فيقعون فِي الْغَلَط والعامي السَّلِيم الطَّبْع الْمُتَوَسّط الْكيس لقُصُور ذهنه عَن ذَلِك وَعدم الِاعْتِبَار بِهِ يقْتَصر بِكُل مَادَّة على نَص حكمهَا فِي الاحوال والاشخاص على مَا اخْتصَّ بِهِ وَلَا يتَعَدَّى فِي الحكم بتعميم قِيَاس وقوفا ي اكثر نظره مَعَ الْموَاد المحسوسة كالسابح لَا يُفَارق الموج عِنْد الْمَدّ وَلذَا قيل (وَلَا توغلن إِذا مَا سبحت ... فَإِن السَّلامَة فِي السَّاحِل) قَالَ وَيكون مَأْمُونا من الْغَلَط فِي سياسته مُسْتَقِيم النّظر فِي مُعَاملَة ابناء جنسه فَيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضاره وَفَوق كل ذِي علم عليم

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة أَن حَملَة الْعلم فِي الْإِسْلَام أَكْثَرهم الْعَجم قَالَ وَمن الْغَرِيب الْوَاقِع أَن حَملَة الْعلم الشَّرْعِيّ أَو الْعقلِيّ فِي الْملَّة الاسلامية أَكْثَرهم الْعَجم إِلَّا فِي الْقَلِيل النَّادِر وان كَانَ مِنْهُم الْعَرَبِيّ فِي نسبه فَهُوَ اعجمي لي لغته ومرباه ومشيخته مَعَ أَن الْملَّة عَرَبِيَّة وَصَاحب شريعتها عَرَبِيّ قلت ملخص مَا ذكر فِي ذَلِك من السَّبَب يظْهر باعتبارين وجود الْعلم بِكَثْرَة فِي الاعاجم وقلته فِي الْعَرَب الِاعْتِبَار الأول كَثْرَة وجود الْعلم فِي الاعاجم وَذَلِكَ فِي نوعيه الشَّرْعِيّ والعقلي النَّوْع الأول الشَّرْعِيّ وَالسَّبَب فِيهِ أَن الْملَّة فِي اولها لم يكن فِيهَا علم وَلَا صناعَة لسذاجة بداوتها إِذْ ذَاك واحكام شريعتها كَانَت لرجال ينقلونها فِي صُدُورهمْ وَقد عرفُوا مآخذها من الْكتاب وَالسّنة تلقوها عَن الشَّارِع واصحابه وَالْقَوْم يَوْمئِذٍ عرب لم يعرفوا أَمر التَّعْلِيم والتدوين وَلَا دعتهم اليه حَاجَة لجرى الْأَمر على ذَلِك من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَسموا الحاملين لذَلِك بالقراء الَّذين كَانُوا يقرأون الْكتاب وَلَيْسوا بأميين كباقي الْعَرَب فَلَمَّا بعد النَّقْل من لدن دولة الرشيد احْتِيجَ إِلَى وضع التفاسير القرآنية وَتَقْيِيد الحَدِيث مَخَافَة ضيَاعه إِلَى معرفَة الاسانيد وتعديل الروَاة ثمَّ كثر اسْتِخْرَاج احكام الْوَاقِعَات من الْكتاب وَالسّنة فَصَارَت الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة ملكات فِي الاستنباط والتنظير

واحتاجت إِلَى عُلُوم آخر وَهِي وَسَائِل اليها كقوانين الْعَرَبيَّة لفساد اللِّسَان وقوانين ذَلِك الاستنباط والذب عَن العقائد الايمانية بالأدلة لظُهُور الْبدع والالحاد وَهَذِه كلهَا عُلُوم ذَات ملكات محتاجة إِلَى التَّعْلِيم فاندرجت فِي جملَة الصَّنَائِع واحتاجت إِلَى التَّعْلِيم وَقد تقدم أَن الصَّنَائِع من منتحل الْحَضَر وان الْعَرَب ابعد النَّاس عَنْهَا فَصَارَت الْعُلُوم لذَلِك حضرية وَبعد الْعَرَب عَنْهَا والحضر لذَلِك الْعَهْد فهم الْعَجم أَو من فِي معناهم من الموَالِي وَمن تَبِعَهُمْ فِي الحضارة من أهل الامصار فَكَانَ صَاحب صناعَة النَّحْو سِيبَوَيْهٍ والفارسي والزجاج وهم عجم فِي النّسَب لَكِن ربوا فِي

اللِّسَان الْعَرَبِيّ فاكتسبوه بالمربي ومخالطة الْعَرَب وَحَملَة الحَدِيث أَكْثَرهم عجم أَو مستعجمون باللغة والمربي وعلماء علم الْكَلَام واصول الْفِقْه كَذَلِك وَكَذَلِكَ اكثر الْمُفَسّرين فَلم يقم بفهم الْعلم وتدوينه إِلَّا الاعاجم وَظهر مصداق قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو تعلق الْعلم بأعنان السَّمَاء لَنَالَهُ رجال من ابناء فَارس النَّوْع الثَّانِي الْعقلِيّ وَذَلِكَ انه لم يظْهر فِي الْملَّة إِلَّا بعد أَن ظهر حَملَة الْعلم ومؤلفوه واستقرت اصنافه كلهَا صناعَة فاختصت بالعجم وَتركهَا الْعَرَب كَسَائِر الصَّنَائِع وَلم يزل فِي امصارهم طول مَا بقيت حضارتها كالعراق وخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر فَلَمَّا خربَتْ تِلْكَ الامصار وَذَهَبت مِنْهَا الحضارة الَّتِي هِيَ سر الله فِي حُصُول الْعُلُوم والصنائع ذهب الْعلم جملَة لما شملهم فِي البداولة واختص بالامصار الموفورة الحضارة قَالَ وَلَا اوفي الْيَوْم حضارة من مصر فَهِيَ أم الْعُلُوم وديوان الْإِسْلَام وينبوع الْعُلُوم والصنائع وَبَقِي بعض الحضارة فِيمَا وَرَاء النَّهر بالدولة الَّتِي فِيهَا فَلهم بذلك حِصَّة من الْعُلُوم والصنائع لَا تنكر وَاعْتبر ذَلِك بِمَا تقدم لَهُ من وُقُوفه على كتب التَّفْتَازَانِيّ قَالَ واما غَيره من الْعَجم فَلم ير لَهُم بعد من بعد الْأَمَام فَخر الدّين ونصير الدّين الطوسي كَلَام يعول على نهايته فِي الاجادة

قَالَ فَاعْتبر ذَلِك وتأمله تَرَ عجبا فِي احوالك الخليقة وَالله يخلق مَا يَشَاء لَا اله إِلَّا هُوَ الِاعْتِبَار الثَّانِي قلَّة وجود الْعلم فِي الْعَرَب وَذَلِكَ لَان الَّذين ادركوا مِنْهُم الحضارة وَخَرجُوا اليها عَن البداوة صرفُوا عَن النّظر فِي الْعلم لامرين أَحدهمَا اشتغالهم بالرياسة فِي الدولة العباسية وَمَا دفعُوا اليه من الْقيام بِالْملكِ ووظائف الامارة فهم كَانُوا اولياء ذَلِك والقائمين بأعبائه الثَّانِي انفتهم من انتحال الْعلم حِينَئِذٍ لمصيره من جملَة لاصنائع وشأن الؤساء استنكافهم عَن المهنة بهَا أَو بِمَا يجر اليها فدفعوا ذَلِك إِلَى من قَامَ بِهِ من الْعَجم والمولدين لَكِن مَا زَالُوا يرَوْنَ لَهُم حق الْقيام بِهِ فَإِنَّهُ دينهم وعلومهم وَلَا يحتقرون حملتها كل الاحتقار حَتَّى إِذا خرج الْأَمر من الْعَرَب إِلَى الْعَجم صَارَت الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة غَرِيبَة النّسَب عِنْد أهل الْملك بِمَا هم عَلَيْهِ من الْبعد عَن نَسَبهَا وامتهن حملتها لبعدهم عَنْهُم واشتغالهم بِمَا لَا يجدي عَلَيْهِم فِي الْملك فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَعند ذَلِك فَظَاهر قلَّة وجود الْعلم فِي الْعَرَب وكثرته فِي الاعاجم

الخاتمة في سياستي المعيشة والناس

الخاتمة فِي سياستي الْمَعيشَة وَالنَّاس وَقبل الْخَتْم بهما فَهُنَا مقدمتان إِحْدَاهمَا فِي التَّقْوَى والاخرى فِي حسن الْخلق إِذْ برعاية هَاتين الخصلتين صَلَاح المعاش والمعاد وَمن ثمَّ تأكدت عناية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْوَصِيَّةِ بهما فَعَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّقِ الله حَيْثُ مَا كنت وَاتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها وخالق النَّاس بِخلق حسن الْمُقدمَة الأولى فِي التَّقْوَى وفيهَا مسَائِل الْمَسْأَلَة الأولى سبق فِي مُقَدمَات الْكتاب أَن الْمَقْصُود بالخلق لَيْسَ مُجَرّد الدُّنْيَا فَقَط بل الدّين المتكفل بنيل سَعَادَة الابد فِي الدَّار الاخرة وَحِينَئِذٍ بِحَسب الِاعْتِبَار فالدنيا وَضعهَا لأخذ الزَّاد مِنْهَا فِي السَّعْي للفوز بِهَذِهِ السَّعَادَة وَهُوَ التَّقْوَى الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} فَمن انْقَضى عَلَيْهِ نفس من انفاس عمره لَا يشْتَغل فِيهِ بِأخذ الزَّاد فقد أخل بِمَا قصد بِهِ وضيع

مَا لَا قيمَة لَهُ فِي اعتداده بِمَا لَيْسَ بِشَيْء وَهُوَ الخسران الْمُبين وَمن ثمَّ قَالَ الْحجَّاج واعجب ذَلِك الْحسن رَضِي الله عَنهُ أَن امْرَءًا تمْضِي هَل سَاعَة فِي غير مَا خلق لَهُ لجدير أَن تطول عَلَيْهَا حسرته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَفِي مَعْنَاهُ قَالَ الْبَاجِيّ رَحمَه الله (إِذا كنت اعْلَم علما يَقِينا ... بِأَن جَمِيع حَياتِي كساعة) (فَلم لَا اكون ضنينا بهَا ... وَاجْعَلْهَا فِي صَلَاح وَطَاعَة) الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مِمَّا يدل على أَن هَذِه الْخصْلَة الْعَظِيمَة اشرف غايات الْوُجُود الانساني وارفع مَا يترقى بِهِ لاحراز تِلْكَ السَّعَادَة إِنَّهَا وَصِيَّة الله تَعَالَى للاولين والآخرين من عباده قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا الله} قَالَ الْغَزالِيّ لَو كَانَت فِي الْعَالم خصْلَة هِيَ أصلح للْعَبد من هَذِه الْخصْلَة الْأَمر بهَا عباده ووصى خواصه فَلَمَّا اقْتصر عَلَيْهَا علمنَا إِنَّهَا الْغَايَة الَّتِي لَا تجَاوز والخصلة الجامعة لخير الدُّنْيَا والاخرة قلت ولأمر مَا تكَرر الحض عَلَيْهَا فِي الْكتاب الْعَزِيز تَصْرِيحًا وتلويحا قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ ذكرهَا فِي كِتَابه تَعَالَى نصا فِي نَحْو مائَة وَتِسْعين موضعا وَوَقعت بِالْمَعْنَى فِيمَا لَا يُحْصى قَالَ ولكثرة ذكر الله تَعَالَى لَهَا لم تجر على لِسَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا قَلِيلا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة من فوائدها الجامعة بَين خير الدُّنْيَا والاخرة امور يَكْفِي مِنْهَا عشرَة

الْفَائِدَة الأولى التأييد والنصرة أَن الله مَعَ الَّذِي اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ قَالَ الْعلمَاء الْمَعِيَّة معيتان عَامَّة وَهِي معية الاحاطة وَالْعلم وَهُوَ مَعكُمْ اينما كُنْتُم وخاصة وَهِي معية المعونة والنصرة {إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} قَالَ صَاحب مشارع الاشواق وَهَذِه معية منوطة بالعبودية الْخَالِصَة من شوائب المخالفات فَمن كَانَ عبد الله حَقًا فَلَا غَالب لَهُ إِذْ الله مَعَه وَهُوَ ناصره ومؤيده {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} من الله الْفَائِدَة الثَّانِيَة الحراسة من الاعداء وان تصبروما وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فَإِن فعلموها يَعْنِي الصَّبْر وَالتَّقوى لَا يصل اليكم كيدهم شَيْئا فَإِن الله مُحِيط بعلمهم ويمكر لكل ماكر امسكه الله أَو ارسله وان ادركتم قَوْله {فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تشكرون} أَي اتَّقوا الله أَن تدفعوها بنخوة تخَالف الشَّرِيعَة أَو بكبر يضاد الْملَّة وخذوها بامتثال الْحُدُود وَالْقِيَام تَحت جَرَيَان الْمَقَادِير تَكُونُوا من الشَّاكِرِينَ واجل الشُّكْر مَا كَانَ على المصائب انْتهى

الْفَائِدَة الثَّالِثَة النجَاة من الشدائد وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ إِذا صدق العَبْد فِي تقواه سَله من الْمعاصِي كالشعرة من الْعَجِين تقيا نقيا وَكَفاهُ المهم وَلم يبتله بِالشغلِ وَلَا كلفه طلب الرزق وَلَا مكن مِنْهُ الْخلق وجلى عَنهُ الظُّلم وَيسر لَهُ العسير كَمَا قَالَ وَمن {يتق الله يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا} وان سبق مِنْهُ تَفْرِيط وَعَاد إِلَى التَّقْوَى كفر عَنهُ مَا مضى وَذَلِكَ قَوْله يكفر سيئاته انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ الْفَائِدَة الرَّابِعَة حُصُول الْعَاقِبَة الْحسنى وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ يَعْنِي الَّذين استعانوا بِاللَّه وصبروا على بلَاء الله وَرَضوا بِقَضَاء الله وَلم يُؤثر فيهم الْخُرُوج من الوطن وَلَا تعذر الزَّمن الْفَائِدَة الْخَامِسَة اصلاح الاعمال {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا يصلح لكم أَعمالكُم} قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ قيل سددوا اقوالكم تسدد اعمالكم وَلَقَد رفع عَنْك الْحَرج من رَضِي عَنْك بِحَالَة وقالة فالحالة ترك الشّرك والقالة كلمة الشَّهَادَة فَإِذا فَعلْتُمْ ذَلِك اصلح الله اعمالكم الدُّنْيَوِيَّة من الْخلَل وَغفر لكم فِي الْآخِرَة الزلل فحصلت لكم سَعَادَة الدَّاريْنِ

قَالَ وَمن فَوَائِد أبي سعيد الشَّهِيد ذكر الاعمال بِالْجمعِ وقدمها على الغفران لِأَنَّهُ مَا لم تصلح اعمالك وَلم تكفك اشغالك لم تتفرغ لحَدِيث آخرتك الْفَائِدَة السَّادِسَة الرزق الْحَلَال {وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} خرج ابْن الْمُبَارك عَن الْحسن قَالَ لزم رجل بَاب عمر رَضِي الله عخنه كلما خرج رَآهُ بِالْبَابِ فَقَالَ يَوْمًا انْطلق فأقرأ الْقُرْآن فَإِنَّهُ سيغنيك عَن بَاب عمر فَانْطَلق الرجل فَقَرَأَ الْقُرْآن فَفَقدهُ عمر فَجعل يَطْلُبهُ إِذْ رَآهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ يَا فلَان لقد فقدناك فَمَا الَّذِي حَبسك عَنَّا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرتنِي أَن اقْرَأ الْقُرْآن فَقَرَأته فإنني عَن بَاب عمر فَقَالَ لَهُ وَمَا قَرَأت قَالَ {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فقه الرجل فلأجل هَذَا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى من تحقق بالتقوى هون الله عَلَيْهِ الاعراض عَن الدُّنْيَا الْفَائِدَة السَّابِعَة فتح ابواب البركات الكفيلة باتمام النِّعْمَة وَحسن عَاقبَتهَا {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض} قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَلَو اتَّقوا مَا حذرناهم مِنْهُ واعتبروا بِمن سلف قبلهم من الامم لمكناهم من امالهم الدُّنْيَوِيَّة وعصمناهم من الافات قَالَ وَلَيْسَ الْعبْرَة فِي النِّعْمَة وانما الْعبْرَة فِي الْبركَة فِيهَا وَلَيْسَت الْعبْرَة فِي الْبركَة إِنَّمَا الْعبْرَة فِي الْعَاقِبَة وَهِي الرِّضَا

الْفَائِدَة الثَّامِنَة الْكَرَامَة والعزة {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَذَلِكَ من أعظم مراتبها واكثر فوائدها وَأجل ثمراتها فَأكْرم الْخلق عِنْد اله أَكْثَرهم وقاية وَمن استوفاها فَهُوَ اقْربْ إِلَى الله وارفع مرتبَة لَدَيْهِ قَالَ فِي احكامه وَفِي الحَدِيث الْحسب يُسَاوِي المَال وَالْكَرم يُسَاوِي التَّقْوَى الْفَائِدَة التَّاسِعَة الْبشَارَة فِي الدُّنْيَا وَعند الْمَوْت الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ الَّذين قَالُوا لَا اله إِلَّا الله ووفوا بذلك فِي الاعتقادات والتحرز من الغفلات والتوقي من الشُّبُهَات دع عَنْك الْمُحرمَات لَهُم الْبُشْرَى قطعا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا بالمعيشة الطّيبَة وَفِي الْأُخْرَى بالحالة المرضية الْفَائِدَة الْعَاشِرَة رَجَاء الرَّحْمَة وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ ترحمون قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد التَّقْوَى على كمالها عزيزة الْوُجُود واجتماع خصالها مُتَعَذر وَرَحْمَة الله تَعَالَى لَا تَنْحَصِر فيستقيم حمل

الْأَمر بهَا مَعَ الترجية على انه فِي كل خصْلَة مِنْهَا على انفرادها مَعَ قطع النّظر عَن غَيرهَا لِأَن الاية لَيست نصا فِي عُمُوم التَّقْوَى وَلَا فِي عُمُوم الرَّحْمَة لِأَن اتَّقوا وترحمون فعلان فِي الاثبات لَا عُمُوم لَهما وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث الْبَغي فِي البُخَارِيّ وَحَدِيث غُصْن الشوك فِي الْمُوَطَّأ قَالَ وَمن هَذَا الْبَاب خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا ثمَّ رجام برحمة التَّوْبَة عَلَيْهِم أجل عَمَلهم الصَّالح وان كَانَ مشوبا بِشَيْء الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة مَحل هَذَا التَّقْوَى الْقلب لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّقْوَى هَا هُنَا اشار إِلَى صَدره فالعناية بِهِ لذَلِك ولتوقف صَلَاح سَائِر الْجَوَارِح عَلَيْهِ متأكدة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله إِلَّا وَهِي الْقلب قَالَ الْغَزالِيّ وصلاحه بتقدم تَطْهِيره من حب الدُّنْيَا هُوَ رَأس كل خَطِيئَة والداء العضال الَّذِي اعجز الْخلق قَالَ وَطَرِيقه فِي ذَلِك بِمَعْرِِفَة عيب الدُّنْيَا وآفتها وَشرف الاخرة ورتبتها قَالَ واقل آفاتها وَهُوَ مُتَيَقن للعاقل وَالْجَاهِل إِنَّهَا منقضية على الْقرب وسعادة الاخرة لَا انْقِضَاء لَهَا هَذَا أَن سلمت من الموذيات والمكدرات وهيهات لم يسلم أحد من ذَلِك

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة قَالَ الْغَزالِيّ حَدهَا تبرئة الْقلب عَن شَرّ لم يسْبق اليك مثله بِقُوَّة الْعَزْم على تَركه حَتَّى يصير ذَلِك وقاية بَيْنك وَبَين كل شَرّ قَالَ ثمَّ الشرور قِسْمَانِ اصلي كالمعاصي المحضرة وَغير اصلي كالمباح الْمَأْخُوذ بِشَهْوَة وتقوى الأول فرض وَهِي ادنى الدَّرَجَات وتقوى الثَّانِي ادب وَهِي اعلاها وَالْجمع بَينهمَا هُوَ الْكَمَال الْجَامِع لكل خير فِيهَا وَهُوَ الْوَرع الَّذِي هُوَ ملاك الدّين انْتهى مُلَخصا الْمَسْأَلَة السَّادِسَة قَالَ الْعلمَاء منَازِل التَّقْوَى ثَلَاثَة عَن الشّرك وَعَن الْبِدْعَة وَعَن الْمعاصِي قَالَ الْغَزالِيّ وَقد ذكرهَا الله تَعَالَى فِي آيَة وَاحِدَة فِي قَوْله {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا وآمنوا ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا} فالاولى عَن الشّرك والايمان فِي مُقَابلَة التَّوْحِيد وَالثَّانيَِة عَن الْبِدْعَة والايمان الَّذِي ذكر مَعَهُمَا إِقْرَار بِالسنةِ وَالْجَمَاعَة وَالثَّالِثَة عَن الْمعاصِي الفرعية والاقرار فِيهَا مقابلها بالاحسان وَهُوَ الطَّاعَة والاستقامة عَلَيْهَا الْمَسْأَلَة السَّابِعَة تفْتَقر التَّقْوَى إِلَى عُلُوم ثَلَاثَة الْعلم الأول المتقى وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ لقَوْله تَعَالَى {وَاتَّقوا الله} فَإِذا لَا تصح إِلَّا بعد مَعْرفَته بأسمائه وَصِفَاته ووعوده ووعيده ضَرُورَة لِأَن تعبده بهَا ثَان عَن معرفَة المتعبد لَهُ بِمَا يجب لوُجُوده الْمُقَدّس جلّ جَلَاله

الْعلم الثَّانِي وَهُوَ المتقى بِهِ وَهُوَ الْعَمَل بالطاعات وَاجْتنَاب السَّيِّئَات قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد من لَا يعرف مَا يعْمل وَلَا مَا يتْرك لَا يَصح أَن يكون متقيا وَألا فيتقي مَاذَا وَقد قَالَ الْقَائِل (خل الذُّنُوب صغيرها ... وكبيرها فَهُوَ التقى) (واصنع كماش فَوق ارْض ... الشوك يحذر مَا يرى) (لَا تحتقرن صَغِيرَة ... أَن الْجبَال من الْحَصَا) قَالَ وَلَا شكّ أَن الْأَعْمَى لَا يعرف الشوك من غَيرهَا ليتقيها فَلَا بُد لَهُ أَن يَقع فِيهَا كَذَلِك كل من لَا يعرف طرق الشَّرْع اعمى عَنْهَا حَيْثُ لَا يتَصَوَّر أَن يسلكها انْتهى قلت وَمن هُنَا يجب علم مَا بِهِ التَّقْوَى الْوَاجِبَة من بَاب مَا لَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب الْعلم الثَّالِث الْبَاعِث على التَّقْوَى وَهُوَ الفكرة الْمعبر عَنْهَا بِالذكر الْخَفي وَهُوَ ذكر الله تَعَالَى عِنْد أمره وَنَهْيه قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد من لَا يعرف موضعهَا لَا يكون لَهُ باعث على التَّقْوَى قَالَ وموضوعها امران أَحدهَا فَوَائِد التَّقْوَى قلت وَقد سبق مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَة الثَّانِي الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بأقوال الْعباد واعمالهم وَهِي خَمْسَة عشر حكما مَنْصُوصا عَلَيْهَا من علمهَا مَعَ تِلْكَ الْفَوَائِد فقد توفرت عِنْده دواعي التَّقْوَى وَعلم علومها الَّتِي تضمنها قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء}

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة الْأَحْكَام الَّتِي أَشَارَ اليها هِيَ الِاطِّلَاع والترقب والتلقي وَالْحِفْظ والاملاء والكتب والاتساخ والتعاقب والمقابلة وَالْعرض وَالدُّعَاء والاداء والروية وَالْوَزْن وَالْجَزَاء فَالْأول وَهُوَ الِاطِّلَاع أَنْوَاع أَحدهَا اطلَاع الله تَعَالَى {ونعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه} {ألم يعلم بِأَن الله يرى} (إِذا مَا خلوت الدَّهْر يَوْمًا فَلَا تقل خلوت وَلَكِن قل على رَقِيب ... وَلَا تحسبن الله يغْفل سَاعَة وَلَا أَن مَا يخفى عَلَيْهِ يغيب) الثَّانِي اطلَاع الْحفظَة الْكِرَام وان عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ قلت وَفِي الحَدِيث أَن لسَانك قلمهم وَرِيقك مدادهم وَمَا ينطوي الْقلب عَلَيْهِ قَلِيل يطلعون عَلَيْهِ وَذَلِكَ بعلامة يَجْعَلهَا الله لَهُم وَقيل يبْقى عَنْهُم مغيبا الثَّالِث اطلَاع جَمِيع الْمَلَائِكَة لما ورد أَن الْعَرْش مرآتهم الَّتِي يرَوْنَ فِيهَا جَمِيع الْوُجُود كالادميين واحوالهم ليشهدوا لَهُم وَعَلَيْهِم فِي الاخرة وَالثَّانِي هُوَ الترقب من الْحفظَة {مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} أَي حَاضر فَهُوَ بِمَعْنى الْمُلَازمَة قَالَ الاستاذ أَبُو سعيد وَفِي هَذَا يُفَارق الِاطِّلَاع يُرِيد الْمُتَقَدّم الذّكر قَالَ إِذْ الْمُلَازمَة أَمر زَائِد على الْعلم قلت وَكتب الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي على هَذَا الْموضع وَمن خطه نقلت وَتَأمل اطلَاع ابليس وقبيله على احوال العَبْد {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم}

وَالثَّالِث وَهُوَ التلقي فِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد} وَمَعْنَاهَا أَخذ الْملكَيْنِ الْكَاتِبين عَنْك اقوالك وافعالك قبل أَن توخذ عَنْك وَمثله تلقي الركْبَان فَإِذا صدرت مِنْك حَسَنَة أَو سَيِّئَة بقوله أَو فعل تلقياها قبل النَّاس أَجْمَعِينَ قَالَ الاستاذ وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُبَادرَة وَذَلِكَ أَمر زَائِد على الْمُلَازمَة وَالْعلم وَالرَّابِع وَهُوَ الْحِفْظ فَمن قَوْله تَعَالَى {وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين} وَمَعْنَاهُ خلاف النسْيَان أَي يعلمونه ثمَّ لَا ينسونه إِلَى أَن يؤدوا الشَّهَادَة يَوْم الْقِيَامَة فَيكون الْعَمَل مَكْتُوبًا فِي كتبهمْ مَحْفُوظًا فِي نُفُوسهم وَالْخَامِس وَهُوَ الاملاء وَمَعْنَاهُ القاؤك على الْملكَيْنِ كل مَا تَقوله من خير أَو شرك فَإِن أكثرت اكثرا وَإِن اقللت قللا فمستفاد من قَوْله تَعَالَى {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان} الاية أَي مَا يلقيه العَبْد كَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تَقول لمن تحدث بعد الْعَتَمَة أَلا تريحون الْكتاب السَّادِس وَهُوَ الْكتب فَفِي قَوْله {إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} كراما كاتبين قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَن لله مَلَائِكَة ينزلون كل يَوْم بِشَيْء يَكْتُبُونَ فِيهِ اعمال الْعباد وَالسَّابِع وَهُوَ الاستنساخ فِي قَوْله تَعَالَى هَذَا كتَابنَا ينْطق عَلَيْكُم بِالْحَقِّ انا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كنت تعلمُونَ

قَالَ الاستاذ فسره ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بِأَن الله تَعَالَى خلق النُّون وَهِي الدواة وَخلق الْقَلَم فَقَالَ اكْتُبْ قَالَ وَمَا أكتب قَالَ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من عمل مَعْمُول برا وفجورا ورزق مقسوم من حَلَال أَو حرَام ثمَّ ألزم كل شَيْء من ذَلِك شَأْنه دُخُوله فِي الدُّنْيَا ومقامه فِيهَا وَخُرُوجه مِنْهَا كم هُوَ ثمَّ جعل على الْعباد حفظَة كتابا وعَلى الْكتاب خزانا فالحفظة ينسخون فِي كل يَوْم من الْخزَّان عمل ذَلِك الْيَوْم فَإِذا فنى ذَلِك الرزق وَانْقطع الاثر وانقضى الاجل أَتَت الْحفظَة الخزنة يلطبون عمل ذَلِك الْيَوْم فَتَقول الخزنة مَا نجد لصاحبكم عندنَا شَيْئا فترجع الْحفظَة فيجدونه قد مَاتَ ثمَّ قَالَ ابْن عَبَّاس ري الله عَنهُ ألستم قوما عربا تَسْمَعُونَ الْحفظَة تَقول انا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تعلمُونَ وَهل يكون الاستنساخ إِلَّا من اصل قَالَ فقد اخبرك ابْن عَبَّاس أَن على الْعباد حفظَة وعَلى الْحفظَة خزانا يسمون أَيْضا حفظَة الْحفظَة وَالثَّامِن وَهُوَ التَّعَاقُب فَالْمُرَاد بِهِ تعاقب الْمَلَائِكَة فِي الْخلق لَيْلًا وَنَهَارًا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ الحَدِيث قَالَ الاستاذ وَهُوَ مُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى {وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} فهم يتعاقبون عِنْد مَا يرسلون وَالتَّاسِع وَهُوَ الْمُقَابلَة فَهِيَ فِي الاتنساخ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فرغ الله مِمَّا هُوَ كَائِن تنسخ الْمَلَائِكَة مَا يعْمل الْعباد يَوْمًا فيوما من اللَّوْح الْمَحْفُوظ فيقابل بِهِ عمل الانسان لَا يزِيد على ذَلِك وَلَا ينقص والعاشر وَهُوَ الْعرض فَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ تعرض الاعمال يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس فَأحب أَن يعرض عَمَلي وَأَنا

صَائِم قَالَ الاستاذ قيل أَن المعروض مَا كتبت الْمَلَائِكَة وَألا فالاعمال مَعْلُومَة لله تَعَالَى فِي كل وَقت وَعند الْعرض ينْسَخ مِنْهَا مَا يجْرِي عَلَيْهِ من خير ويلغى سائره والمكتوب اولا هُوَ الْجَمِيع قَالَ وَتعرض أَيْضا على ارواح المعارف الْمُؤمنِينَ وعَلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليشهدون بهَا وَقع ذَلِك فِي رقائق ابْن الْمُبَارك انْتهى وَالْحَادِي عشر وَهُوَ الدُّعَاء فَفِي قَوْله تَعَالَى {كل أمة تدعى إِلَى كتابها} أَي إِلَى الْكتاب الَّذِي كتبته حَفظتهَا فِي الدُّنْيَا الثَّانِي عشر وَهُوَ الاداء فَفِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ قرينه هَذَا مَا لدي عتيد} أَي هَذَا مَا عِنْدِي حَاضر مِمَّا كتبته عَلَيْهِ فَهُوَ أَدَاء شَهَادَة يحملهَا القرين فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ أَدَاء الاعضاء وَالْأَرْض بشهادتها يَوْم تشهد عَلَيْهِم ألسنتهم وايديهم وارجلهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ وَالْأَرْض يَوْمئِذٍ تحدث اخبارها الثَّالِث عشر وَهُوَ الرُّؤْيَة فَفِي قَوْله تَعَالَى {ليروا أَعْمَالهم فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَالرَّابِع عشر وَهُوَ الْوَزْن فِي قَوْله تَعَالَى {وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون} الاية حمل على الموزونات أَو على انه اتى بِلَفْظ الْجمع تَعْظِيمًا لشأنه وتحذيرا من السَّيِّئَات وتحريضا على الْحَسَنَات

قَالَ بعض الشُّيُوخ وَلَو لم تسمع من الْقُرْآن إِلَّا هَذِه الاية لَكَانَ فِيهَا للعاقل كِفَايَة لاشتمالها على الْوَعيد التَّام لأهل الذُّنُوب والوعد الْجَمِيل لأهل الطَّاعَات وَالْخَامِس عشر وَهُوَ الْجَزَاء {الْيَوْم تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} {ليجزي الله كل نفس مَا كسبت} قلت وَمن ثمَّ سميت الْقِيَامَة بِيَوْم الْجَزَاء اعلاما بِأَن لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ أَي لَا تقضي وَلَا تفدى لقَوْله تَعَالَى {فاليوم لَا يُؤْخَذ مِنْكُم فديَة} قَالَ أما انه يقْضِي بِغَيْر اخْتِيَاره من حَسَنَاته بِمَا عَلَيْهِ من الْحُقُوق الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة قَالَ الشَّيْخ عز الدّين النَّاس فِي رُتْبَة مشقة التَّقْوَى على ثَلَاثَة أَحدهَا شَاب نَشأ فِي عبَادَة الله وَلَا تقع مِنْهُ إِلَّا الصَّغَائِر نَادرا فرعايتها سهلة عَلَيْهِ لمصيرها كالعادة المألوفة لَهُ وَمهما وَقعت مِنْهُ الزلة استوحش مِنْهَا وبادر إِلَى الاقلاع عَنْهَا الثَّانِي تائب من ذنُوبه بعد مَا ألف الْمعاصِي فنفسه تذكره بشهواتها والشيطان يحثه على ذَلِك فرعايتها شاقة عَلَيْهِ لما ألف من الركون إِلَى الشَّهَوَات والاستراحة من مشقة الطَّاعَات الثَّالِث مُسلم موحد مرتكب جَمِيع مَا يهواه من الْمعاصِي والمخالفات

المقدمة الثانية في حسن الخلق

فرعايتها شَدِيدَة الْمَشَقَّة لما يفوتهُ من تِلْكَ الشَّهَوَات ويشق عَلَيْهِ من مُلَابسَة الطَّاعَات الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة تقدم فِي الْبَاعِث على التَّقْوَى مَا يُؤْخَذ مِنْهُ تسهيل مشقتها وَحَاصِله بالخوف تَارَة وبالرجاء أُخْرَى وَمن ثمَّ قَالَ الشَّيْخ عز الدّين إِذا نظر إِلَى مَا أعد الله لِلْمُتقين من الكرامات حثه على حتمال مشقة الطَّاعَات وَإِذا نظر إِلَى مَا توعد بِهِ العصاة من الْعقَاب حثه على أَن يتقيها بملازمة المشقات فِي اقامة الطَّاعَات قَالَ وَلَا بُد من استحضار ذَلِك دَائِما حَتَّى يصير الثَّوَاب وَالْعِقَاب نصب عين فيحثاه على فعل الطَّاعَات وَترك المخالفات الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِي حسن الْخلق وَقد سبق فِي مُقَدمَات الْبَاب الثَّانِي من الْكتاب الثَّانِي أَيْضا مَا هُوَ من فُصُول هَذَا الْمقَام وكماله الْآن بِمَا يفْتَقر اليه من مسَائِله الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ الْغَزالِيّ هُوَ صفة سيد الْمُرْسلين وَأفضل اعمال الصديقين والاخلاق السَّيئَة هِيَ السمُوم القاتلة والمخازي الفاضحة

وَقَالَ الطرطوشي وَاعْلَمُوا أَن الْخلق الْحسن افضل مَنَاقِب العَبْد وَبِه يظْهر جَوَاهِر الرِّجَال قَالَ والانسان مَشْهُور بخلقه فَإِن الله تَعَالَى خص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا خصّه بِهِ من الْفَضَائِل وَلم يثن عَلَيْهِ بِشَيْء بِمثل مَا أثنى عَلَيْهِ بخلقه فَقَالَ {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} قَالَ وَعَن هَذَا قَالَ الشُّيُوخ أَن الله دَعَا الْخلق اليها كَمَا دَعَا نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة من فضائله المرغب فِيهَا أُمُور أَحدهَا دلَالَته على أَن المنتصف بِهِ من خِيَار الْعباد فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاحِشا وَلَا متفحشا وَكَانَ يَقُول أَن من خياركم أحسنكم خلقا الثَّانِي انه أثقل مَا يوضع فِي ميزَان الْحَسَنَات يَوْم الْقِيَامَة فَعَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا شَيْء اثقل فِي ميزَان الْمُؤمن يَوْم الْقِيَامَة من خلق حسن وَالله يبغض الْفَاحِش الْبَذِيء رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ الثَّالِث أَن صَاحبه احب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقرب النَّاس اليه فِي الْآخِرَة فَعَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا انه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِلَّا اخبركم بأحبكم الي وأقربكم مني مَجْلِسا

يَوْم الْقِيَامَة قَالُوا نعم يَا رَسُول الله قَالَ أحسنكم خلقا رَوَاهُ الْأَمَام احْمَد الرَّابِع تبليغه لَا عظم الدَّرَجَات مَعَ التَّقْصِير فِي الْعَمَل فَعَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَن العَبْد ليبلغ بِحسن خلقه عَظِيم دَرَجَات الاخرة وَشرف الْمنَازل وانه لضعيف الْعِبَادَة وانه ليبلغ بِسوء خلقه أَسْفَل دَرَجَة فِي جَهَنَّم الْخَامِس انه فِي مُعَاملَة الْخلق لما يفوت من ارضائهم بِمَعْرُوف المَال فَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انكم لن تسعوا النَّاس بأموالكم وَلَكِن يسعهم مِنْكُم بسط الْوَجْه وَحسن الْخلق الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة لحسن الْخلق عَلَامَات تدل على عدوى الْوَفَاء بهَا بعد المجاهدة قَالَ الْغَزالِيّ وَأول مَا يمْتَحن بِهِ الصَّبْر على الاذى وَاحْتِمَال الجفا قَالَ وَقَالَ يُوسُف بن اسباط علامتها عشرَة اشياء قلَّة الْخلاف وَحسن الانصاف وَترك طلب العثرات وتحسين مَا يَبْدُو من السَّيِّئَات والتماس المعذرة وَاحْتِمَال الاذى وَالرُّجُوع بالملامة على النَّفس والتفرد بِمَعْرِِفَة عُيُوب نَفسه دون عُيُوب غَيره وطلاقة الْوَجْه للكبير وَالصَّغِير ولطف الْكَلَام لمن دونه وفوقه

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ الْغَزالِيّ وَلم يبلغ كَمَال الِاعْتِدَال فِيهَا يَعْنِي الْخلق الْحسن إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس بعده متفاوتون فِي الْقرب والبعد مِنْهُ قَالَ فَكل من قرب مِنْهَا فَهُوَ قريب من الله تَعَالَى بِقدر قربه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكل من جمع كمالها اسْتحق أَن يكون بَين الْخلق ملكا مُطَاعًا يرجعُونَ اليه ويقتدون بِهِ وَمن انْفَكَّ عَن جُمْلَتهَا واتصف بأذدادها اسْتحق أَن يخرج من بَين الْعباد لقُرْبه من الشَّيْطَان اللعين المبعد وَلم يبْعَث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بتميم محَاسِن الاخلاق قلت مثله للطرطوشي وَهُوَ مَقْطُوع بِهِ من سيرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة الحكايات فِي حسن الْخلق مُتعَدِّدَة وَيَكْفِي مِنْهَا فِي الْموضع حكايتان الْحِكَايَة الأولى يرْوى أَن عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا كَانَ يمِيل وَجهه إِلَى السوَاد إِذْ كَانَت أمه سَوْدَاء وَكَانَ لَهُ فِي نيسابور على بَاب دَاره حمام وَكَانَ إِذا دخله فرغ لَهُ فدخله يَوْمًا فاطبق بَابه وَمر الحمامي إِلَى بعض حَوَائِجه فَتقدم انسان رستاقي وَنزع ثِيَابه وَدخل الْحمام فَرَأى عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا رَضِي الله عَنهُ فَظن أَنه بعض خدم الْحمام فَقَالَ لَهُ قُم فاحمل الي المَاء فَقَامَ وامتثل جَمِيع مَا كَانَ يَأْمُرهُ بِهِ فَرجع الحمامي فَرَأى ثِيَاب

الرستاقي وَسمع كَلَامه مَعَ عَليّ بن مُوسَى فخاف وهرب وخلاهما فَلَمَّا خرج عَليّ بن مُوسَى وَسَأَلَ عَن الحمامي فَقيل لَهُ خَافَ مِمَّا جرى فهرب فَقَالَ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يهرب أَن الذَّنب على من وضع مَاءَهُ عِنْد أمة سَوْدَاء هلا اخْتَار الْحِكَايَة الثَّانِيَة قيل كَانَ مُحَمَّد بن سَحْنُون ايام قَضَائِهِ بأفريقية إِذا قعد للتدريس أَتَاهُ انسان يتخطى رِقَاب النَّاس حَتَّى يصل اليه فيحدثه سَاعَة فِي أُذُنه ثمَّ ينْصَرف فبقى كَذَلِك مُدَّة وَكَانَ إِذا اقبل يَقُول القَاضِي لجماعته افسحوا لَهُ وَيَأْتِي فيفعل الْعَادة ثمَّ انْقَطع بعد ذَلِك مُدَّة فَسَأَلَ عَنهُ من حَضَره فقاولوا لَا عرف خَبره فَقَالَ اطلبوه فَإِذا وجدتموه فآتوني بِهِ فوجدوه فَأتوا بِهِ اليه فَأَخذه وخلا بِهِ وَقَالَ لَهُ مَا مَنعك من عادتك فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي لي بَنَات قد كبرن واحتجن إِلَى التَّزْوِيج وَأَنا فَقير فَقَالَ لي بعض النَّاس أغضبت فلَانا فَنحْن نزيل فقرك ونجهز بناتك أَو كَمَا قَالُوا فَبَقيت تِلْكَ الْمدَّة أجيء اليك فاقذفك واشتمك وأفعل مَا قدر رَأَيْت علك تغْضب يَوْمًا فَيحصل لي مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَيِست من غضبك تركت ذَلِك إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ فَقَالَ لَهُ لَو اخبرتني كنت اقوم لَك بضرورتك ثمَّ قَالَ لَهُ اعليك سفر فَقَالَ لَهُ لَو اخبرتني كنت اقوم لَك بضرورتك ثمَّ قَالَ لَهُ اعليك سفر فَقَالَ يَا سَيِّدي أَي شَيْء اشرت بِهِ على فعلت فَأمر الْكَاتِب أَن يكْتب لَهُ كتابا بِالْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ إِلَى نوابه فِي الْبِلَاد وانه مُسْتَحقّ مِمَّن يعتني بِهِ القَاضِي فسافر إِلَى الْبِلَاد ثمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ الْأَمْوَال مَا أَزَال فقره وجهز بَنَاته

السياسة الأولى

السياسة الأولى سياسة الْمَعيشَة وَقبل النّظر فِيهَا فَهُنَا مُقَدمَات الْمُقدمَة الأولى أَن الِاكْتِسَاب للمعاش مَطْلُوب شرعا مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع كَمَا أَن تَركه مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ مَذْمُوم كَذَلِك أَو مفضول فقك كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكْتَسب لنَفسِهِ وَعِيَاله وَيدخل الاسوال لذَلِك حَتَّى قَالَت الْكَفَرَة {مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام وَيَمْشي فِي الْأَسْوَاق لَوْلَا أنزل إِلَيْهِ} توهما أَن ذَلِك ينْقض من على منصبه وحاشاه بل هُوَ الْمُعظم عِنْد الله وَأقرب إِلَى مرضاته لما فِيهِ من التَّوَاضُع والفهم عَنهُ فِي الدّلَالَة على طرق المكاسب بِحَسب مَا وضع الْوُجُود عَلَيْهِ قَالَ الشَّيْخ الْأَمَام أَبُو اسحاق الشاطبي فِي بعض تقاييده وَكَذَلِكَ اصحابه رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا بَين عَامل فِي سوقه وعامل فِي أرضه ومسافر يَبْتَغِي من فضل الله وهم الْقدْوَة لمن سوماهم وَلم يَكُونُوا يتحاشون من ذَلِك وَلَا يلحقهم فِيهِ كسل وَكَانَ الْغِنَا من مقاصدهم والتكسب من شَأْنهمْ وعَلى صِحَة ذَلِك اتّفق الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم الْمُقدمَة الثَّانِيَة أَن الْقيام بأمهات الصَّنَائِع الضرورية فرض على الْكِفَايَة كَمَا قَرَّرَهُ غير وَاحِد كالفلاحة وَالْبناء والخياطة وَالتِّجَارَة والحياكة حَتَّى الْحجامَة مِمَّا تَدْعُو اليه الضَّرُورَة

غنيمَة ثاب يَنْبَغِي لمن قَامَ بِشَيْء من هَذِه الصَّنَائِع الْمَفْرُوضَة على الْكِفَايَة أَن يَنْوِي فِيهِ أَمريْن أَحدهمَا امْتِثَال الْأَمر بِهِ وان كَانَ مَعْقُول الْمَعْنى ليحصل لَهُ الثَّوَاب من تِلْكَ الْجِهَة الثَّانِي اسقاط الطّلب بِهِ عَن الْمُسلمين ليدْخل فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الله فِي عون العَبْد مَا كَانَ العَبْد فِي عون اخيه واذ ذَاك فَلَا فرق بَين الِاشْتِغَال بِهِ والتلبس بِالْعبَادَة الْمَحْضَة كَالصَّلَاةِ وَنَحْوهَا وَهُوَ من بَرَكَات النِّيَّة الصَّالِحَة نبه عَن ذَلِك ابْن الْحَاج وحض عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهر الْمُقدمَة الثَّالِثَة أَن الممعايش المبتغى بهَا طلب الرزق من جملَة الاسباب الْمَوْضُوع عَلَيْهَا تَرْتِيب الْوُجُود والاسباب من حَيْثُ هِيَ اسباب لَا اثر لَهَا بِنَفسِهَا فِي مسبباتها وَلَا هِيَ مولدة لَهَا وانما الاثر فِي الْحَقِيقَة لفاعل كل شَيْء وَهُوَ الله تَعَالَى لما نبه عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون أأنتم تخلقونه أم نَحن الْخَالِقُونَ} أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون فالامناء والحرث سَبَب يكتسبه الانسان وَمَا ينشأ عَنْهُمَا فَالله خالقه ومبدعه تَنْزِيل قَالَ الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي رَحمَه الله فَكَذَلِك قعُود التَّاجِر فِي الْحَانُوت مثلا هُوَ السَّبَب وَالله يُهَيِّئ لَهُ المعاش إِذْ لَا قدرَة لَهُ على جلب

البائعين والمشترين فَهُوَ شبه ناصب يَد الْفقر إِلَى الله تَعَالَى فِي ذَلِك السَّبَب ثَمَرَة قَالَ وكل من علم هَذَا تحقق أَن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين ينشأ لَهُ من هَذَا الْعلم حَالَة قلبية تسمى التَّوَكُّل وَهُوَ الِاعْتِمَاد على الله والتعويل على فَضله وَرَحمته دون الِاعْتِمَاد على السَّبَب والاكتساب عَلامَة قَالَ وعلامة ذَلِك فِي العَبْد أَن لَا يتَغَيَّر بِتَغَيُّر الاحوال فَإِن الِاكْتِسَاب لَا يُؤمن اختلافه بالكساد والنفاق والنشاط والكسل وَغير ذَلِك فقد يكون موسعا عَلَيْهِ ثمَّ يصير مَقْدُورًا عَلَيْهِ وَبِالْعَكْسِ فَإِذا كَانَ ثَابتا صَابِرًا مَعَ وجود هَذِه الْعَوَارِض فَذَلِك هُوَ الدَّلِيل على أَن قلبه مُتَعَلق بمسبب الاسباب وَهَذَا اعلى مَرَاتِب التَّوَكُّل وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} انْتهى الْمَقْصُود مِنْهُ إِذا تقرر هَذَا فَلَا نوار الاضاءة بجوامع الْعَمَل بِهَذِهِ السياسة مطالع ثَلَاثَة

المطلع الأول

المطلع الأول فِي كليات مِمَّا تدبر بِهِ الْمَعيشَة من جَانب الْوُجُود وَفِيه انارات الانارة الأولى اقتناء المكاسب فِي الْوَقْت الْمَحْمُود لذَلِك وَهُوَ سنّ الشبيبة والاكتهال وَذَلِكَ لِأَن الانسان اربعة احوال الصِّبَا والشبيبة والاكتهال والشيخوخة مانعان من ذَلِك لفساد الاعضاء وَضعف القوى لَا سِيمَا الْعقل والتجربة فِي الصِّبَا قَالُوا وَمن أول الشبيبة إِلَى مُنْتَهى الاكتهال من أَرْبَعِينَ وَذَلِكَ من الْعشْرين إِلَى السِّتين وَمَا وَرَاء السِّتين فضعيف لما تفي بتدبير نَفسه ومكابدة ضعفه وَمَا قبل الْعشْرين فَتخرج وَتعلم وَأَوَان للارتياض واكتساب الْفَضَائِل الانارة الثَّانِيَة توَسط سعي هَذَا الاقتناء بَين طرفِي الافراط والتفريط فَالْأول لِئَلَّا يقطع عمره فِي جَمِيع مَا يصل بِهِ إِلَى اللَّذَّات الَّتِي يُشَارِكهُ فِيهَا الْحمار وَالْخِنْزِير أَو يستعد بِهِ لمتخوف الْحَاجة وَقد وَقع فِيهَا مثلهَا أَو اشد كَمَا قيل (وَمن ينْفق السَّاعَات فِي جمع مَاله ... مَخَافَة فقر فَالَّذِي فعل الْفقر) وَالثَّانِي لِئَلَّا يهمل التكسب اتكالا على البخث وايثارا لدواعي الطباع من غير مَادَّة كَافِيَة فيضيع الحزم ويعجز عَن غَايَة مَا اخْتَارَهُ ومقصد اليه إِذْ لَا قدرَة عَلَيْهِ غَالِبا إِلَّا بِالْمَالِ

الانارة الثَّالِثَة توسع الْحِيلَة فِي الِاكْتِسَاب بِحَسب مزِيد الفطنة وجودة الْفِكر والروية قَالَ بعض الْحُكَمَاء يتحَرَّى ايضا بِبَالِهِ ضروب المهن وَمَا يُمكنهُ أَن ينفذ فِيهِ حِيلَة وَلَا يحفل فِيمَا يُنْفِقهُ من ذَلِك بقول قَائِل قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُنَا فِي خدمَة السُّلْطَان والصنائع اللطيفة اشياء يُمكن الْفَهم أَن يخترع مِنْهَا فِي بلد دون بلد وَوقت دون وَقت مكسبا يُخَالف بِهِ الْعَامَّة أَن ساعده البخت الانارة الرَّابِعَة سَلامَة السَّعْي من الضّر وَكَثْرَة التَّعَب وان كَانَ الرِّبْح اقل وَحَيْثُ لَا يتهيأ ذَلِك ويضطر إِلَى الْحَرَكَة وخصوصا فِي الْبَحْر فعلى شرطين أَحدهمَا تخير الاوقات الَّتِي تغلب فِيهَا السَّلامَة مَعَ تقدم استجادة المراكب الْكِبَار غير الْقَدِيمَة والكاملة الْعدة الحاذقة النواتية وَالثَّانِي تقليل مَسَافَة الجري فِيهِ مَا أمكن قَالَ بعض الْحُكَمَاء وَهَذِه امور مَتى احرزها الحازم مَعَ تقليل ركُوبه كَانَت أقرب إِلَى السَّلامَة الانارة الْخَامِسَة اقتصاد النَّفَقَة بتوسطها بَين رذيلتي السَّرف والتبذير قَالَ الْبَلْخِي المَال إِنَّمَا يقتني ليرتفق بِهِ فِي مصَالح المعاش وبازاء كل جمع مِنْهُ تَفْرِيق وَمُقَابل كل كسب مِنْهُ اتِّفَاق وَلَكِن دخل مِنْهُ خرج قَالَ وَلذَلِك قد يُوجد المَال الْكثير إِذا انفق مِنْهُ باسراف لم يلبث أَن ينفذ ويفنى حَتَّى يبْقى صَاحبه عائلا مملقا قلت وَفِيمَا ارشد اليه الْكتاب الْعَزِيز مَعَ وضوح مَعْنَاهُ كِفَايَة قَالَ تَعَالَى وَالَّذين إِذا انفقوما لم يُسْرِفُوا وَلم يقترُوا وَكَانَ بَين ذَلِك قواما

المطلع الثاني

المطلع الثَّانِي فِي أُمَّهَات مِمَّا تحفظ بِهِ من جَانب الْعَدَم وَفِيه اضاءات الاضاءة الأولى اجْتِنَاب مفرط الْحِرْص الْخَارِج عَن حُدُود الاجمال فِي الطّلب الْمَحْمُود عقلا ونقلا قَالَ الْبَلْخِي وَهُوَ صُورَة افراط قُوَّة الشَّهْوَة الَّتِي سمتها الْحُكَمَاء مصيدة لَان عَامَّة النَّاس إِنَّمَا يقعون فِي المتالف والمعاطب بتسليط هَذِه الْقُوَّة عَلَيْهِم قَالَ وَلَيْسَت هِيَ مصيدة لَهُم فَقَط بل ولاصناف الْحَيَوَان فَإِن اصطياده بالمصائد المنصوبة لَهَا إِنَّمَا يَقُودهَا اليه الشره المفرط إِلَى تنَاول مَا يلوح من الاغذية فِي تِلْكَ المصائد الاضاءة الثَّالِثَة اتقاء بخل النَّفَقَة فِي الاغراض الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ فِي هَذَا الْمقَام مَقَاصِد الساعين للدّين وَالدُّنْيَا وَهِي طلب اللَّذَّة وَالْحَمْد وَالْأَجْر لِئَلَّا يفوتهُ فِي ترك النَّفَقَة فِي تَحْصِيلهَا خيراتها العاجلة والاجلة فيفقد فَائِدَة النَّفْع بِالْمَالِ وَيعود عَلَيْهِ بالشقاء لَا السَّعَادَة وَفِي الحَدِيث إِنَّمَا لَك من مَالك مَا أكلت فأفنيت أَو لبست فأبليت أَو تَصَدَّقت فأبقيت قلت وَقد سبق أَن مَالا ينْتَفع بِهِ من المَال لَا يُسمى رزقا الاضاءة الثَّالِثَة احْتِرَاز الحزم من غرر الْمُعَامَلَة بِالنَّسِيئَةِ بِاعْتِبَار من يظنّ بِهِ عدم الْوَفَاء

فَفِي الْعود اليوانية مَا حَاصله أَن كساد السّلع وبوارها اولى من مقَامهَا ي ذمَّة من سَاءَ قَضَاؤُهُ لَا سِيمَا أَن اضْطر اليها واستمالك فِيهَا بِزِيَادَة الرِّبْح وَسُرْعَة الْقَضَاء ليحوزها مِنْك فهناك يتَوَقَّع مَحْذُور الْخطر لَا محَالة قَالَ وان كَانَ الاخلاف مَعَ هَذَا سهلا عَلَيْهِ وَالْحيَاء مفقودا مِنْهُ احتجت إِلَى مُقَابلَته بِمَا يزل سُورَة مروءتك وموقعك فِي الشَّرّ لَا يعدل هَذَا شَيْء من المصائب الاضاءة الرَّابِعَة تبَاعد التحفظ من عَاقِبَة التظاهر للنَّاس بأقصى مَا تبلغ اليه صُورَة الْحَال فَفِي العهود اليونانية لَا تخرجنك كَثْرَة مَالك إِلَى التصدي للنَّاس النَّاس فَإنَّك تبْتَاع بذلك حسن الثَّنَاء وتردع بِهِ حسد الْحَاسِد وَطعن الطاعن الاضاءة الْخَامِسَة هِيَ طلب السَّلامَة من مُخَالطَة السُّلْطَان فَفِي العهود لَا يحملنك ترَاهُ من قرب الْأُمُور على أهل طبقتك بالسلطان إِلَى ملابسته والترسم بِهِ فَإِن موقعك مِنْهُ موقع السخلة من الاسد يحميها فِي شبعه ويطرقها فِي جوعه تَمْثِيل قَالَ وَقد شبه المخالط للسُّلْطَان من ذَوي المَال بِرَجُل شقّ عَلَيْهِ نقل المَاء إِلَى دَاره لسقي بُسْتَان لَهُ بهَا واصابة حاجاتها مِنْهُ فاحتفر من

بَحر يجاوره نَهرا إِلَى دَاره فاستمته بِهِ وَحسن اثره عَلَيْهِ فِي سُكُون المَاء وتقاصره عَن الزِّيَادَة فَلَمَّا زَاد مَاء ذَلِك الْبَحْر وَمَاجَتْ امواجه غلب على النَّهر وَالنّهر على الدَّار فغرق جَمِيع مَا فِيهَا وَكَانَ مَا خسر بهَا اضعاف مَا توفر عَلَيْهِ مِنْهُ قَالَ وَلَا يغرنك سهولة الْأَمر عَلَيْهِ فِي موافقتك فَإِنَّهَا عَلَيْهِ فِي خِلافك اسهل عاطفة تَكْمِيل بتتميمتين التتميمة الأولى ذكرُوا مِمَّا يرجع لمعاني المطلع الأول امورا يدبر بهَا المعاش أَحدهَا خدمَة زمَان الشيخوخة قبل مَجِيئه كَمَا يخْدم فِي الصَّيف زمَان الشتَاء قبل هجومه بِجمع الْحَطب وَمَا يصعب إِذْ ذَاك الْوُصُول اليه الثَّانِي إِثْبَات مَكَارِم الاخوان الْمُحْسِنِينَ كَمَا يثبت ديوَان الْمُعَامَلَة ليتخلص مِنْهَا بِحسن الْمُكَافَأَة لَهُ فتسلم الْحُرِّيَّة من رق الايادي الثَّالِث احراز هني الْعَيْش بِحَمْد النَّاس مساعي الِاكْتِسَاب واصابتهم مِنْهُ مَا تقوم بِهِ الْحجَّة عَلَيْهِم ليعتصم بهم من الاشرار إِذْ سياسة الْغَنِيّ اشد من سياسة الْملك للرعية كَذَا فِي العهود الرَّابِع مُرَاعَاة من فَوْقك وتحتك وَمن فِي طبقتك فَالْأول بالتواضع مَعَه وَالثَّانِي بالشفقة عَلَيْهِ وَالثَّالِث بالانصاف لَهُ وَإِلَّا خشيت على نَفسك بِمَا يكدر معاشك

الْخَامِس اظهار الْفَاقَة عِنْد ضعف مَال السُّلْطَان فَفِي العهود الْوَاجِب فِي الْخدمَة من ذَوي الْيَسَار إِذا قلت أَمْوَال السُّلْطَان أَن يظهروا الْفَاقَة ويقبضوا التَّوسعَة حَتَّى ترجع اموالهم إِلَى وفورها فَإِن انتقاص أَمْوَال الْملك محنة لحقت الاغنياء بمملكته التميمة الثَّانِيَة قرروا أَيْضا مِمَّا هُوَ فِي غَرَض المطلع الثَّانِي امورا أَحدهَا مُعَاملَة الاصدقاء والمعارف فقد قَالُوا لَا تتمّ مبايعة بَين صديقين لَان من احوال الْمُبَايعَة استغلاء البَائِع الثّمن واسترخاص الْمُبْتَاع السّلْعَة وَلَيْسَت تحْتَمل الصداقة هذَيْن الثَّانِي مُسَامَحَة الاهل وَالْولد فِي الاسترسال فِي مطَالب الترف وعوائد البذخ لما فِي ذَلِك من الْفساد الْعَائِد على النَّفس وَالْمَال إِمَّا المَال فَظَاهر واما النَّفس فَلَمَّا سبق أَن الترف مُفسد لَهَا مِمَّا يرسم فِيهَا من الوان الشَّرّ والسفسفة الثَّالِث النَّاس الشرار بِقَضَاء حوائجهم وتوفية اغراضهم لِئَلَّا تعجز الْمقدرَة عَن الْوَفَاء لما تعود من ذَلِك وَحِينَئِذٍ فَلَا بُد من المحاجزة بَيْنك وَبينهمْ بسياج الْوُقُوف عِنْد حد مَحْدُود

الرَّابِع مُرُور زمَان فِي غير مَا يعود بمصلحة معاش أَو معاد لَان الْعُمر قصير لَا يَتَّسِع بِخلق مَا يضيع مِنْهُ فِي غير شَيْء الْخَامِس اعْتِمَاد السُّلْطَان فِي مُطَالبَة المعاملين لما فِيهِ من خلاف حسن المدارات ولطيف التأني ومزاولة الْأُمُور بالرفق وَفَسَاد النيات كَذَا فِي العهود قلت وَلَا يُعَارض مَا تقدم فِي التعويل على الجاه فِي استخلاص الْحُقُوق لِأَن ذَلِك حَيْثُ لَا يُمكن بِهَذِهِ السِّيرَة وَهنا مَعَ وفائها بِالْمَقْصُودِ لَا تعدل عَنْهَا المطلع الثَّالِث فِي مهمات دينية يعْتَبر مِنْهَا حفظ المعاش من جَانِبي الْوُجُود والعدم وَفِيه لوامع اللامع الأول أَن الْعدْل فِي الْمُعَامَلَة المعاشية باتقاء الظُّلم فِيهَا وان لم يفْسد العقد وَهُوَ ظلمان مَا يعم ضَرَره وَمَا يخص المعامل الظُّلم الأول مَا يعم ضَرَره وَله مثالان الْمِثَال الأول الاحتكار وَقد سبق بَيَانه حكما وَحِكْمَة وتكميله الْآن بملاحظة امرين أَحدهمَا مَا ورد فِي فَضِيلَة تَركه فَفِي الحَدِيث من جلب طَعَاما فَبَاعَهُ بِسعْر وقته فَكَأَنَّمَا تصدق بِهِ وَفِي رِوَايَة فَكَأَنَّمَا اعْتِقْ رَقَبَة

الثَّانِي مَا روى عَن السّلف فِي شدَّة الحذر مِنْهُ وهم الاسوة فِي الِاتِّبَاع فَعَن بَعضهم انه جهز سفينة حِنْطَة إِلَى الْبَصْرَة وَكتب إِلَى وَكيله بِعْ هَذَا الطَّعَام يَوْم يدْخل الْبَصْرَة وَلَا تؤخره إِلَى الْغَد فَوَافَقَ سَعَة فِي السّعر فَقيل لَهُ أَن أَخَّرته جُمُعَة ربحت فِيهِ أضعافه فَأَخَّرَهُ جُمُعَة فربح فِيهَا امثاله وَكتب إِلَى صَاحبه بذلك فَكتب اليه يَا هَذَا انا كُنَّا قد قعننا بِرِبْح يسير مَعَ سَلامَة ديننَا وانك خَالَفت وَمَا نحب أَن نربح أضعافه لذهاب شَيْء من الدّين وَقد جنيت علينا جِنَايَة فَإِذا أَتَاك كتابي هَذَا فَخذ المَال كُله فَتصدق بِهِ على ضعفاء الْبَصْرَة وليتني انجو من الاحتكار كفافا لَا لي وَلَا عَليّ الْمِثَال الثَّانِي ترويج الدِّرْهَم الزائف فِي اثناء النَّقْد قَالَ الْغَزالِيّ إِذْ يستضر بِهِ المعامل أَن لم يعرف وان عرف فيروجه على غَيره كَذَلِك الثَّالِث وَالرَّابِع وَلَا يزَال يتَرَدَّد فِي الايدي ويعم الضَّرَر ويتسع الْفساد وَيكون وزر الْكل ووباله رَاجعا اليه فَإِنَّهُ الَّذِي فتح ذَلِك الْبَاب قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سنّ فِي الْإِسْلَام سنة سَيِّئَة فَعمل بهَا من بعده كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بهَا لَا ينقص من اوزارهم شَيْئا مُبَالغَة قَالَ وَقَالَ بَعضهم انفاق دِرْهَم زائف اشد من سَرقَة مائَة

دِرْهَم لِأَن السّرقَة مَعْصِيّة وَاحِدَة وَقد تمت وانقطعت وانفاق الزائف بِدعَة اظهرها فِي الدّين وَسنة سَيِّئَة يعْمل بهَا من بعده فَيكون عَلَيْهِ وزرها بعد مَوته والى مائَة سنة ومائتي سنة إِلَى أَن يفنى ذَلِك الدِّرْهَم وَيكون عَلَيْهِ مَا فسد وَنقص من أَمْوَال النَّاس بِسَبَبِهِ فطوبى لمن مَاتَ وَمَاتَتْ مَعَه ذنُوبه وَالْوَيْل الطَّوِيل لمن يَمُوت وَتبقى ذنُوبه مائَة سنة ومائتي سنة يعذب بهَا فِي قَبره ويسئل عَنْهَا إِلَى انقراضها قَالَ الله تَعَالَى {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} أَي ونكتب أَيْضا مَا آخروا من آثَار اعمالهم كَمَا نكتب مَا قدموه تأصيل قَالَ الشَّيْخ أَبُو اسحاق الشاطبي قَاعِدَة أَن ايقاع السَّبَب بِمَنْزِلَة ايقاع الْمُسَبّب قلت وَيَعْنِي سَوَاء قصد ذَلِك الْمُسَبّب أَو لَا لما بَين هُوَ هَذَا فِي الْقَاعِدَة قَائِلا لِأَنَّهُ لما جعل مسببا عَنهُ فِي مجْرى الْعَادَات عد كَأَنَّهُ فَاعل لَهُ مُبَاشرَة تَحْصِيل قسم ابْن رشد التَّعَامُل بالزائف إِلَى اربعة حرَام مَعَ من يعلم غشه بِهِ ومكروه مَعَ من لَا يُؤمن غشه كالصيارفة وشبههم ومختلف فِي جَوَازه وكراهته مَعَ من يجهل صنعه وَجَائِز اتِّفَاقًا مَعَ من يكسرهُ أَو يعلم انه لَا يغش بِهِ إِلَّا على قِيَاس قَول سَحْنُون فِي نوازله من كتاب السّلم

تَفْرِيع قَالَ ابْن عَرَفَة مُخْتَصرا لكَلَامه فَإِن بَاعه مِمَّن يخْشَى أَن يغش بِهِ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا الاسْتِغْفَار وَمن يغش بِهِ يجب عَلَيْهِ رده أَن قدر فَإِن عجز فَفِي وجوب الصَّدَقَة بِكُل ثمنه أَو بِالزَّائِدِ على قيمَة بَيْعه مِمَّن لَا يغش بِهِ ثَالِثهَا لَا تجب صَدَقَة بِشَيْء مِنْهُ إِلَّا اسْتِحْبَابا الظُّلم الثَّانِي مَا يخص ضَرَره المعامل وَهُوَ كل مَا يستضر بِهِ وضابطه الْعدْل فِيهِ الْغَزالِيّ إِذْ لَا يحب لَهُ إِلَّا مَا يحب لنَفسِهِ قَالَ وكل مَا لَو عومل بِهِ لشق عَلَيْهِ وشق على قلبه فَيَنْبَغِي لَهُ أَن لَا يُعَامل بِهِ غَيره بل يَنْبَغِي أَن يَسْتَوِي عِنْده درهمه وَدِرْهَم غَيره تَفْصِيل لما يظْهر بِهِ بَيَان هَذِه الْجُمْلَة أَمْثِلَة الْمِثَال الأول الثَّنَاء على السّلْعَة بِمَا لَيْسَ فِيهَا وَوَجهه الْغَزالِيّ بِأَن الْكَذِب فِيهِ مَعَ الْقبُول تلبيس وَمَعَ رده اسقاط مرؤة لَان مَالا يروج بِهِ قد لَا يقْدَح فِي ظَاهر الْمُرُوءَة فِيهَا

قَالَ وان اثنى على السّلْعَة بِمَا فِيهَا هذيان وَتكلم بِمَا لَا يَعْنِي إِلَّا بِقصد تَعْرِيف اخيه الْمُسلم من غير اطناب تحذير قَالَ وَلَا يَنْبَغِي أَن يحلف عَلَيْهِ الْبَتَّةَ لِأَنَّهُ كذب فيمين غموس وَهِي من الْكَبَائِر الَّتِي تدع الديار بَلَاقِع وان صدق فقد جعل الله تَعَالَى عرضة لايمانه وَالدُّنْيَا اخس من أَن نقصد ترويجها بِذكر الله من غير ضَرُورَة وَفِي الْخَبَر ويل للتجار من بلَى وَالله وَلَا وَالله وويل للصناع من غَد وَبعد غَد تَنْبِيه قَالَ بَان الْحَاج وَهَذَا إِذا كَانَ الْحلف بِاللَّه فَإِن كَانَ بِالْعِتْقِ أَو الطَّلَاق فَهُوَ اشنع لدُخُوله تَحت شَهَادَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تحلفُوا بِالطَّلَاق وَلَا بالعتاق فَإِنَّهُمَا من ايمان الْفُسَّاق وَلذَلِك قَالَ مَالك يُؤَدب من حلف بهما قَالَ وَلَا شكّ أَن فَاعل ذَلِك تمحق الْبركَة من بَين يَدَيْهِ فَلَا ينْتَفع بِالْمَالِ غَالِبا مُلَاحظَة قَالَ وَلذَلِك تَجِد كثيرا مِنْهُم كَأَنَّهُمْ وكلاء وأمناه فِي اموالهم لَا يَجدونَ سَبِيلا إِلَى التَّصَرُّف بهَا فِي طَاعَة غَالِبا بل هم خَزَنَة

لغَيرهم طَوْعًا أَو كرها وَلَا منتفع لَهُم بِهِ إِلَّا قَلِيلا قَالَ وعلامة كَون المَال لَهُ تسليطه على هَلَكته فِي الْحق انتفاعا بِهِ وتخليدا لآثار بركته حكايتان يعْتَبر بهما فِي شدَّة الحذر من الثَّنَاء وَلَو بالتلويح الْحِكَايَة الأولى روى عَن يُونُس بن عبيد انه كَانَ بزازا وانه طلب مِنْهُ خَز للشراء فَأخْرج غُلَامه سقط الْخَزّ فنشره وَنظر اليه وَقَالَ اللَّهُمَّ ارزقنا الْجنَّة فَقَالَ لغلامه رده إِلَى مَوضِع وَلم يَبِعْهُ وَخَافَ أَن يكون ذَلِك تعريضا بالثناء على السّلْعَة قَالَ الْغَزالِيّ فَهَؤُلَاءِ تحروا فِي الدُّنْيَا وَلم يضيعوا دينهم بل علمُوا أَن ربح الاخرة اولى من ربح الدُّنْيَا الْحِكَايَة الثَّانِيَة نقل عَن بعض السّلف أَن رجلا جَاءَ يطْلب مِنْهُ خرقَة ليشتريها فَأمر العَبْد فأخرجها لَهُ فَلَمَّا أخرجهَا ضرب عَلَيْهَا بِيَدِهِ فَقَالَ لَهُ سَيّده ردهَا وَقَالَ للْمُشْتَرِي لَا ابيعك اشيئا قَالَ وَلم قَالَ لِأَن العَبْد ضرب بِيَدِهِ عَلَيْهَا حِين اخرجها لَك وَذَلِكَ يحسنها فِي عَيْنك قَالَ ابْن الْحَاج فَهَكَذَا كَانَ فعل السّلف فِي تصرفهم فعلى منوالهم فَإِنَّهَا فِي أَن كنت محبا لَهُم وَألا فَلَا تدع مَا لَيْسَ فِيك

الْمِثَال الثَّانِي كتم عُيُوب الْمَبِيع خفيها وجليها قَالَ فِي الرسَالَة عاطفا على بعض مَا لَا يجوز فِي البيع وَلَا أَن يكتم من أَمر سلْعَته مَا إِذا ذكره كرهه الْمُبْتَاع أَو كَانَ ذكره ابخص لَهُ فِي الثّمن قَالَ بعض شراحها يُرِيد كرهها للْمُبْتَاع وَلَا ينتقص ذَلِك من الثّمن وَلَا يشينها عِنْد بعض النَّاس دون بعض بِدلَالَة قَوْله أَو كَانَ ذكره ابخس لَهُ فِي الثّمن قلت وَيدل عَلَيْهِ وَجْهَان أَحدهمَا انه غشر والغش حرَام بِدَلِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَشنَا لَيْسَ منا وَالثَّانِي انه خلاف النصح الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ دين الْإِسْلَام لما ورد أَن جَرِيرًا رَضِي الله عَنهُ كَانَ إِذا قَامَ إِلَى السّلْعَة يَبِيعهَا نَص على عيوبها ثمَّ خير وَقَالَ أَن شِئْت فَخذ وان شِئْت فاترك فَقيل لَهُ انك إِذا فعلت هَذَا لم ينْفد لَك بيع فَقَالَ انا بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النصح لكل مُسلم اعلام قرر الْغَزالِيّ أَن هَذَا النصح لمشقته لَا يَتَيَسَّر إِلَّا باعتقاد امرين أَحدهمَا أَن اخفاء الْعُيُوب لَا يزِيد فِي الرزق بل يمحقه وَيذْهب ببركته لما ورد فِي الحَدِيث البائعان إِذا صدقا وَنصحا بورك لَهما فِي بيعهمَا وان كذبا نزعت بركَة بيعهمَا الثَّانِي أَن ربح الاخرة خير من ربح الدُّنْيَا والعاقل لَا يسْتَبْدل

الَّذِي هُوَ ادنى بِالَّذِي هُوَ خير وَالْخَيْر كُله فِي سَلامَة الدّين تَنْزِيل ذكرُوا هُنَا نَوَادِر من الْعُيُوب الْوَاجِبَة الْبَيَان فِي الْمَبِيع كدراهم الكيمياء وثوب الْمَيِّت وخصوصا ميت الوباء وَالثَّوْب المنسوج من شعر الْميتَة وَالثَّوْب النَّجس إِذْ كَانَ جَدِيدا وشؤم الدَّار وَالْفرس وَتَحْقِيق مَا ينقص مِنْهُ الثّمن وَمَا لَا ينقص لَهُ مَوضِع آخر تَنْبِيه قَالَ الْغَزالِيّ الْغِشّ حرَام فِي الْبيُوع والصنائع جَمِيعًا لَا يَنْبَغِي أَن يتهاون الصَّانِع بِعَمَلِهِ على وَجه لَو عَامله بِهِ غَيره لما ارْتَضَاهُ لنَفسِهِ بل يَنْبَغِي أَن يحسن الصَّنْعَة ويحكمها ثمَّ يبين غشها أَن كَانَ فِيهَا فبه يتَخَلَّص قلت قَالَ ابْن الْحَاج كل مَا يرى أهل الصَّنْعَة انه غش أَو مَكْرُوه فَهِيَ يتجنبه وَلَا يقربهُ الْمِثَال الثَّالِث تطفيف الْمِكْيَال وَالْمِيزَان قَالَ تَعَالَى {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذين إِذا اكتالوا على النَّاس يستوفون وَإِذا كالوهم أَو وزنوهم يخسرون} قَالَ الْغَزالِيّ لَا مخلص من هَذَا إِلَّا بِأَن يرجح إِذا اعطى وَينْقص إِذا

أَخذ إِذْ الْعدْل الْحَقِيقِيّ قَلما يتَصَوَّر وَمن استقصى حَقه بِكَمَالِهِ يُوشك أَن يتعداه قلت هَذَا من حَيْثُ الِاحْتِيَاط واما مَا يَقْتَضِيهِ لِسَان الْعلم فاعتدال لِسَان الْمِيزَان فِي قُبَّته وامتلاء الْمِكْيَال ثمَّ يُرْسل يَده هَذَا هُوَ الْوَاجِب فَقَط نَص عَلَيْهِ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى فِي سَماع اشهب قَائِلا فَإِن سَأَلَهُ أَن يميله يَعْنِي لِسَان الْمِيزَان لم أر أَن ذَلِك من وَجه الْمَسْأَلَة قَالُوا وَكَذَلِكَ يسْأَله أَن يَكِيل الْكَيْل الْمُعْتَاد كَمَا فِي سُؤال السَّمْح لبَعض الثنم بِغَيْر تكلّف إِذْ هُوَ من الْمُسَامحَة تَعْمِيم قَالَ مَالك رَحمَه الله يُقَال لكل شَيْء وَفَاء وتطفيف قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ كَمَا أَن السّرقَة فِي كل شَيْء واسوأها الَّذِي يسرق صلَاته فَلَا يتم ركوعها وَلَا سجودها قلت وَقد قَالُوا الصَّلَاة مكيال فَمن وفا وَفِي لَهُ وَمن طفف طفف لَهُ الْمِثَال الرَّابِع الْخُرُوج عَن سعر الْوَقْت كذبا وتلبيسا وَذَلِكَ فِي مَوَاضِع يَكْفِي مِنْهَا اثْنَان أَحدهمَا تلقي الركْبَان قَالَ ابْن عَرَفَة إِلَّا وَشر التلقي تلقي الركْبَان للسلع الْوَارِدَة بِمحل بيعهَا لقرية قبل وُرُودهَا إِيَّاهَا منهى عَنهُ ثمَّ اسْتدلَّ بِحَدِيث البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن

رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تتلقوا الركْبَان وَلَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض وَلَا تناجشوا وَلَا يَبِيع حَاضر لباد وَلَا تصروا الْغنم وَمن ابتاعها فَهُوَ بِخَير النظرين بعد أَن يحلبها أَن رضيها امسكها وان سخطها ردهَا وصاعا من تمر تَخْفيف يجوز لمن بقرية على نَحْو سِتَّة اميال من الْمصر المجلوب اليه السّلع شِرَاء مَا يحْتَاج اليه من ذَلِك وَلَو للتِّجَارَة قَالَه فِي سَماع ابْن الْقَاسِم قَالَ ابْن عَرَفَة وَربح التلقي قَالَ مُحَمَّد لَا يطيب لَهُ وَفِي سَماع ابْن الْقَاسِم التَّصَدُّق بِهِ قَالَ لَيْسَ بِحرَام وَلَو فعله احْتِيَاطًا فَلَا بَأْس بِهِ وَالثَّانِي النجش لما سبق من النَّهْي عَنهُ فسره مَالك بِأَن يُعْطِيهِ فِي سلْعَته اكثر من ثمنهَا وَلَيْسَ فِي نَفسه شراؤها ليقتدي بِهِ غَيره وَقَالَ الْمَازرِيّ وَغَيره الناجش الَّذِي يزِيد فِي السّلْعَة ليقتدي بِهِ غَيره قَالَ ابْن عَرَفَة وَهُوَ اعْلَم من قَول مَالك لدُخُول اعطائه مثل ثمنهَا أَو اقل فِي قَول الْمَازرِيّ وَخُرُوجه عَن قَول مَالك ثمَّ نقل تَفْسِير ابْن الْعَرَبِيّ وَفِيه تَصْرِيح باستحسان الناجش قيمتهَا لدفع الْغبن عَن صَاحبهَا تَخْرِيج وَاقع قَالَ كَانَ بعض من كَانَ مَشْهُورا بِالْخَيرِ وَالصَّلَاح وَمَعْرِفَة صالحي الشُّيُوخ وَكَانَت لَهُ شهرة تجر فِي الْكتب إِذا حضر سوق الْكتب فيستفتح للدلالين فِي الْكتب مَا يبنون عَلَيْهِ الدّلَالَة وَلَا غَرَض لَهُ فِي شِرَاء الْكتاب

الَّذِي يستفتح ثمنه قَالَ وَهُوَ جَائِز على ظَاهر تَفْسِير مَالك وَاخْتِيَار ابْن الْعَرَبِيّ لَا على ظَاهر تَفْسِير الْمَازرِيّ قَالَ الْبُرْزُليّ لَعَلَّ هَذَا مَا اشْتهر عَنهُ فِي سوق الكبيين انه يستفتح وَلَا إِرَادَة لَهُ فَيعلم بذلك المزايدون فَيجوز مُطلقًا على كل قَول قلت وَلأبي وَلَيْسَ من النجش مَا يتَّفق عَلَيْهِ أَن يَأْتِي الدَّلال بالسلعة لمن يعرف قيمتهَا فيستفتح مَا يُنَادي بِهِ وَهُوَ لَا يُرِيد شراءها لِأَنَّهُ وان كَانَ لَا يَشْتَرِيهَا فَهُوَ لَا يَفْعَله ليغر بِهِ غَيره فَائِدَة فِي نَوَازِل ابْن الْحَاج والنجش الْمُوجب للخيار مَا تواطأ عَلَيْهِ الناجش وَالْبَائِع أَو كَانَ من ناحيته وَلَو انْفَرد بِهِ الناجش اثم وَلَا شَيْء على البَائِع رخصَة يجوز لمن حضر سوم سلْعَة يُرِيد شراءها أَن يَقُول لرجل كف عني وَلَا تزد عَليّ قَالَه مَالك فِي سَماع الْقرَوِيين قَالَ وَلَا احب الْأَمر الْعَام أَن يتواطأ النَّاس بِهَذَا فَسدتْ الْبيُوع تَشْدِيد لَا يجوز تواطؤ جمَاعَة يحْضرُون بيع سلْعَة على أَن لَا يزِيدُوا على كَذَا وَكَذَا نَص عَلَيْهِ فِي سَماع الْقرَوِيين قَائِلا وَالله مَا هَذَا بِحسن قَالَ ابْن رشد لِأَنَّهُ فَسَاد على البَائِع وضرر بِهِ ثمَّ ذكر حكمه بعد الْوُقُوع وَلَا يسع نَقله حِكَايَة روى عَن بعض الصَّالِحين التَّابِعين انه كَانَ بِالْبَصْرَةِ وَله غُلَام بالسوس يُجهز اليه السكر فَكتب اليه غُلَامه أَن قصب السكر قد اصابته آفَة فِي هَذِه السّنة فاشتر سكرا كثيرا فَلَمَّا جَاءَ وقته ربح فِيهِ ثَلَاثِينَ الْفَا

وَانْصَرف إِلَى منزله ففكر ليلته فَقَالَ ربحت ثَلَاثِينَ ألفا وخسرت نصح رجل من الْمُسلمين فَلَمَّا اصبح غَدا إِلَى بَائِع السكر فَدفع اليه ثَلَاثِينَ الْفَا فَقَالَ بَارك الله لَك فِيهَا فَقَالَ وَمن ايْنَ صَارَت لي فَقَالَ أَنِّي كتمتك حَقِيقَة الْحَال وَكَانَ السكر قد غلا فِي ذَلِك الْوَقْت فَقَالَ رَحِمك الله قد اعلمتني الْآن وَقد طيبتها لَك قَالَ فَرجع بهَا إِلَى منزله وتفكر وَبَات ساهرا وَقَالَ مَا نَصَحته لَعَلَّه استحيا مني فبكر اليه من الْغَد وَقَالَ عافاك الله خُذ مَالك اليك فَهُوَ اطيب لقلبي فَأخذ مِنْهُ ثَلَاثِينَ ألفا قَالَ الْغَزالِيّ وَهَذِه الْحِكَايَة تدل على انه لَيْسَ لَهُ أَن يغتنم غَفلَة صَاحب الْمَتَاع ويخفي عَن البَائِع غلاء السّعر وَعَن المُشْتَرِي تراجع الاسعار وَألا كَانَ ظَالِما تَارِكًا للنصح وَالْعدْل للْمُسلمين اللامع الثَّانِي أَن الاحسان فِي الْمُعَامَلَة باحراز مَا يتكفل بنيل السَّعَادَة قَالَ الْغَزالِيّ وَهُوَ يجْرِي من التِّجَارَة مجْرى الرِّبْح كَمَا أَن الْعدْل سَبَب النجَاة فَقَط قَالَ وَلَا يعد من الْعُقَلَاء من قنع فِي مُعَاملَة الدُّنْيَا بِرَأْس مَاله وَكَذَا فِي معاملات الاخرة وَلَا يَنْبَغِي للمتدين أَن يقْتَصر على

الْعدْل ويدع ابواب الاحسان وَقد قَالَ تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} ونعني بالاحسان فعل مَا يتنفع بِهِ المعامل وَهُوَ غير الْوَاجِب لدُخُوله فِي بعض الْعدْل لكنه تفضل وتكرم قلت وَتقدم أَن أَفْرَاده لَيست فِي الطّلب على حد وَاحِد بل هِيَ مُتَفَاوِتَة بِحَسب رتبته فِي الْمَعْنى الَّذِي يطْلب لأَجله ارشاد يُقَال تنَال رُتْبَة الاحسان فِيمَا قرر من هَذَا الْمقَام بِوَاحِد من امور سِتَّة الْأَمر الأول اجْتِنَاب مغابنة المعامل بِمَا لَا يتَغَابَن بِهِ عَادَة لَا مُطلقًا لمشروعية اصلها ضَرُورَة أَن البيع لَا يَنْفَكّ عَنْهَا فِي الْجُمْلَة فَمَتَى بذل المُشْتَرِي زِيَادَة على مُعْتَاد الرِّبْح لشدَّة رغبته أَو اجاته ندب ترك الْقُبُور إِذْ هُوَ احسان كَأَن لم يكن اخذ الزِّيَادَة ظلما حِكَايَة يروي انه كَانَ عِنْد يُونُس بن عبيد حلل مُخْتَلفَة الاثمان فَمر إِلَى الصَّلَاة وَخلف ابْن اخته فِي الدّكان فجَاء اعرابي وَطلب حلَّة بِأَرْبَع مائَة فَعرض عَلَيْهِ من حلل الْمِائَتَيْنِ فاستحسنها فاشتراها مِنْهُ فَمشى بهَا وَهِي على يَده فَاسْتَقْبلهُ يُونُس فَعرف حلته وَقَالَ لَهُ بكم اشْتَرَيْتهَا

فَقَالَ بأربعمائة فَقَالَ لَهُ لَا تَسَاوِي اكثر من مِائَتَيْنِ فَارْجِع حَتَّى تردها فَقَالَ هَذِه تَسَاوِي ببلدنا خَمْسمِائَة وَقد رضيتها فَقَالَ لَهُ انْصَرف فَإِن النصح فِي الدّين خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثمَّ رده إِلَى الدّكان ورد عَلَيْهِ مِائَتَيْنِ دِرْهَم وخاسم ابْن اخته وَقَالَ لَهُ إِمَّا استحيت تربح مثل الثّمن وتترك النصح للْمُسلمين قَالَ وَالله مَا أَخذهَا إِلَّا وَقد رضى قَالَ فَهَل رضيت لنَفسك مَا رضيت لَهُ فَائِدَة هِيَ لِسَلَامَةِ هَذِه المغابنة من الظُّلم الْوَاجِب الاجتناب حَتَّى عِنْد التوقي مِنْهَا احسانا كَانَ الرَّد بهَا إِذا زَادَت على الثُّلُث فِي بيع المكايسة غير مَأْخُوذ بِهِ فِي الْمَشْهُور وَهُوَ ظَاهر الْمَذْهَب عِنْد ابْن رشد نعم إِذا كَانَ البيع استرسالا فالغبن فِيهِ ظلم واذ ذَاك فاجتنابه وَاجِب لَا احسان الحَدِيث غبن المسترسل ظلم الْأَمر الثَّانِي احْتِمَال الْغبن للْمُشْتَرِي أَن كَانَ فَقِيرا احسانا اليه بالتساهل ودخولا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رحم الله سهل البيع سهل الشِّرَاء فَإِن كَانَ غَنِيا طَالبا بتجره مزِيد الرِّبْح فاحتمال الْغبن لَهُ غير مَحْمُود لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا انه تَضْييع مَال من غير اجْرِ وَلَا حمد فقد ورد المغبون لَا مَحْمُود وَلَا مأجور وَالثَّانِي انه من شَأْن المخدوع فِي عقله وَلذَلِك كَانَ خِيَار السّلف يستقصون فِي الشِّرَاء ثمَّ يهبون مَعَ ذَلِك الجزيل قيل لبَعْضهِم تستقصي فِي شرائك على الْيَسِير ثمَّ تهب الْكثير وَلَا تبالي فَقَالَ أَن الْوَاهِب

يُعْطي فَضله والمغبون عقله الْأَمر الثَّالِث اسْتِيفَاء الْحق على مُقْتَضى التخلق بِهِ وَمن ذَلِك أحد وَجْهَيْن أَحدهمَا الِاقْتِضَاء بالسمح والمساهلة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رحم الله بعدا سَمحا إِذا بَاعَ سَمحا إِذا اشْترى سَمحا إِذا اقْتضى اخرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ الثَّانِي انظار الْمُعسر بِالْحَقِّ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ من يسر على مُعسر فِي الدُّنْيَا يسر الله عَلَيْهِ فِي الاخرة رَوَاهُ مُسلم حِكَايَة روى أَن الْحسن بَاعَ بغلة لَهُ بأربعمائة دِرْهَم فَلَمَّا اسْتوْجبَ المَال قَالَ لَهُ المُشْتَرِي اتسمح يَا أَبَا سعيد فَقَالَ لَهُ قد وهبت لَك مائَة دِرْهَم فَقَالَ لَهُ فَأحْسن يَا أَبَا سعيد فَقَالَ لَهُ قد وهبت لَك مائَة دِرْهَم أُخْرَى فَقبض من حَقه مِائَتَيْنِ دِرْهَم فَقيل لَهُ هَذَا نصف الثّمن فَقَالَ هَكَذَا الاحسان وَألا فَلَا الْأَمر الرَّابِع تَوْفِيَة الدّين على وَجه الاحسان فِيهِ اقتفاء لفضله فَفِي الصَّحِيح عَن أبي رَافع مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ

استسلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكرا فَجَاءَتْهُ ابل الصَّدَقَة قَالَ أَبُو رَافع فَأمر فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن اقضى الرجل بكرته فَقلت لَا اجد فِي الابل إِلَّا جملا خيارا ورباعيا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعطيه اياه فَإِن خِيَار النَّاس احسنهم قَضَاء فَائِدَة مِمَّا يلْتَمس بِهِ احراز هَذَا الاحسان امران أَحدهمَا البدار اليه وان عجز نوى الْقَضَاء مَتى مَا قدر فَعَن الْقَاسِم مولى مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ انه بلغه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من تداين بدين وَهُوَ يُرِيد أَن يَقْضِيه حَرِيص على أَن يُؤَدِّيه فَمَاتَ وَلم يقْض دينه فَإِن الله قَادر على أَن يُرْضِي غَرِيمه بِمَا شَاءَ من عِنْده وَيغْفر للمتوفي وَمن تداين بدين وَهُوَ يُرِيد أَن لَا يَقْضِيه فَمَاتَ على ذَلِك لم يقْض دينه فَإِنَّهُ يُقَال لَهُ ظَنَنْت أَن لن توفى فلَانا حَقه مِنْك فَيُؤْخَذ من حَسَنَاته فَيجْعَل حَسَنَات لرب الدّين فَإِن لم تكن لَهُ حَسَنَات اخذ من سيئات رب الدّين وَجعلت فِي سيئات الْمَطْلُوب رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ الثَّانِي احْتِمَال كَلَام صَاحب الْحق فَفِي الحَدِيث أَن صَاحب دين جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد حُلُول اجله وَلم يتَّفق قَضَاؤُهُ لجعل يشدد الْكَلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم بِهِ اصحابه فَقَالَ دَعوه فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا الْأَمر الْخَامِس اقالة المستقيل قَالَ الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ لَا يستقيل إِلَّا متندم مستضر بِالْبيعِ فَلَا يَنْبَغِي أَن يُرْضِي لنَفسِهِ أَن يكون سَبَب استضرار اخيه قلت روى أَبُو دَاوُود فِي مراسيله عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ

قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اقال نَادِما اقاله الله نَفسه يَوْم الْقِيَامَة الْأَمر السَّادِس قصد مُعَاملَة الْفَقِير بِالنَّسِيئَةِ نَاوِيا فِي الْحَال إِلَّا يُطَالِبهُ مَا لم يظْهر لَهُ ميسرَة توسعة عَلَيْهِ وتيسير النّيل مَا يعجز عَنهُ لَوْلَا الاحسان اليه فَهَذَا الْقَصْد الحميد قَالَ الْغَزالِيّ وَقد كَانَ فِي صَالح السّلف من لَهُ دفتران للحسنات أَحدهمَا تَرْجَمته مَجْهُولَة فِيهَا أَسمَاء من لَا يعرف من الضُّعَفَاء كَأَنَّهُ يَقُول خُذ مَا تُرِيدُ فَإِن يسر لَك فَاقْض وَألا فَأَنت فِي حل وسعة فَائِدَة الْحق ابْن الْحَاج بِقصد مبايعة الْفَقِير بِالدّينِ مَعُونَة أهل الْخَيْر وَالدّين كَمَا ينْدب السَّمْح لَهُم فِي بيع النَّقْد مَا لم يضر بِحَالهِ قَائِلا يَنْبَغِي لمن لَهُ جدة أَن يَبِيع بِالدّينِ لمن اتّصف بذلك ويصبر عَلَيْهِ حَتَّى يفتح الله لَهُ انعطاف قَالَ الْغَزالِيّ مُشِيرا لهَذِهِ الْأُمُور السّنة فَهَذِهِ تِجَارَات السّلف وَقد اندرست والقائم بهَا محيي لسنتها قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ التِّجَارَة محك الرِّجَال وَبهَا يمْتَحن دين الرجل وورعه

وَلذَلِك قيل (لَا يغرنك من المر ... ء قَمِيص رقعه) (أَو ازار فَوق كَعْب السَّاق مِنْهُ رَفعه ... ) (ولدى الدِّرْهَم فَانْظُر ... غيه أَو ورعه) اللامع الثَّالِث أَن شَفَقَة التَّاجِر على دينه يحفظه من ايثار الدُّنْيَا عَلَيْهِ اغْتِرَارًا بهَا وغفلة عَن الْمعَاد وَقد قَالَ تَعَالَى {بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة خير وَأبقى} وَمَا هُوَ كَذَلِك لَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يشْغلهُ عَنهُ مَا هُوَ بالضد مِنْهُ فيفوته الرِّبْح الْعَظِيم والسعادة الَّتِي لَا نفاد لَهَا توضيح الشَّفَقَة الحافظة لدين الَّذِي هُوَ رَأس مَال الْمُؤمن وغنيمة عمره مُتعَدِّدَة الْجِهَات وَالْمَذْكُور من امهاتها خمس الشَّفَقَة الأولى أَن يدْخل بنية الاستعفاف فِي التِّجَارَة عَن السُّؤَال وكف الطمع عَن النَّاس اكْتِفَاء فِي الْقيام على نَفسه وَمن يعود لَهُ بِمَا يعود عَلَيْهِ الدُّخُول فِي هَذَا السَّبَب إِلَى غير ذَلِك من النيات الَّتِي لَا حصر لَهَا كنية الْقيام بِفَرْض الْكِفَايَة أَن كَانَ سَببه كَذَلِك ونصح الْمُسلمين ومعاملتهم بِالْعَدْلِ والاحسان وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَشبه ذَلِك مِمَّا لَا يخفي على ملتقط منثور نفائسها من مَوَاضِع تقريرها

ثَمَرَة قَالَ الْغَزالِيّ وَإِذا اضمر هَذِه النيات كَانَ عَاملا فِي طَرِيق الاخرة فَإِن اسْتَفَادَ مَالا فَهُوَ مزِيد وان خسر فِي الدُّنْيَا ربح فِي الاخرة قلت وَتَكون نفس تِجَارَته لَا فرق بَينهَا وَبَين الصَّلَاة وَنَحْوهَا بِحَيْثُ لَو فاجأه الْمَوْت وجده على افضل الاحوال فِي الْجُمْلَة كَمَا قَرَّرَهُ ابْن الْحَاج فِي ذَلِك وَهُوَ ظَاهر الشَّفَقَة الثَّانِيَة أَن لَا يمنعهُ سوق الدُّنْيَا عَن سوق الاخرة وَهِي الْمَسَاجِد قَالَ تَعَالَى رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله واقام الصَّلَاة وايتاء الزَّكَاة قلت وأهم مَا يربح فِيهَا أَدَاء الصَّلَاة فِي وَقتهَا جمَاعَة قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين لانه أَن ضيعها اشتغالا بِنَفسِهِ اسْتوْجبَ المقت من ربه وَرفعت الْبركَة من كَسبه قَالَ ويستحيي أَن يرَاهُ الْحق سُبْحَانَهُ مشتغلا بحظوظ نَفسه عَن حُقُوق ربه تبصرة من وُجُوه التَّجر فِي سوق الاخرة عملان أَحدهمَا جعل أول النَّهَار للُزُوم الْمَسْجِد اشتغالا بأوراده كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول

للتجار اجعلوا أول نهاركم لآخرتكم وَمَا بعده لدنياكم وَكَانَ السّلف الصَّالح يجْعَلُونَ أول النَّهَار وَآخره للاخرة وَالْوسط للتِّجَارَة فَلم يكن بيع الهريسة والرؤوس إِلَّا للصبيان واهل الذِّمَّة لانهم كَانُوا من بعد فِي الْمَسَاجِد الثَّانِي مبادرة الْقيام إِلَى الصَّلَاة عِنْد النداء اليها قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكون فِي بَيته يخصف النَّعْل ويعين الْخَادِم حَتَّى إِذا نُودي للصَّلَاة قَامَ كَأَنَّهُ لَا يعرفنا اتِّبَاع كَانَ السّلف لذَلِك يبتدرون عِنْد الاذات ويتركون الاسواق للصبيان وَأهل الذِّمَّة ويتسأجرون بالقراريط لحفظ الحوانيت وَكَانَ ذَلِك معيشة لَهُم قَالَ الْغَزالِيّ وَجَاء فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله} انهم كَانُوا حدادين وخرازين فَكَانَ أحدهم إِذا رفع المطرقة وغرز الاشفا وَسمع الاذان لم يخرج الاشفا من المغرز وَلم يرفع المطرقة وَرمى بهَا وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة

تذكرة قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين وليذكر إِذا سمع الْمُؤَذّن قَوْله تَعَالَى {يَا قَومنَا أجِيبُوا دَاعِي الله} وَقَوله {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} وَقَوله {اسْتجِيبُوا لربكم} قلت وَقد تقدم أَن افضل الذّكر ذكر الله عِنْد امْرَهْ وَنَهْيه الشَّفَقَة الثَّالِثَة إِلَّا يكون شَدِيد الْحِرْص على السُّوق للتِّجَارَة وَذَلِكَ بِأَن يكون أول دَاخل وَآخر خَارج وَذَلِكَ لأمرين أَحدهمَا أَن الاسواق عش الشَّيْطَان وَمَوْضِع توليده كَانَ عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي رَضِي الله عَنهُ يَقُول لَا تكن أول من يدْخل السُّوق وَلَا آخر خَارج مِنْهَا فَإِن بهَا باض الشَّيْطَان الثَّانِي أَن الشَّيْطَان الْمُوكل بالاسواق مصاحب لمن كَانَ كَذَلِك وَمن ثمَّ هُوَ شَرّ أَهلهَا فقد روى أَن ابليس يَقُول لوَلَده سر بكتائبك فأت صَاحب الاسواق وزين الْكَذِب وَالْحلف والخديعة وَالْمَكْر والخيانة وَكن مَعَ أول دَاخل وَآخر خَارج مِنْهُ وَفِي الْخَبَر سرع الْبِقَاع الاسواق وَشر أَهلهَا اولهم دُخُولا وَآخرهمْ خُرُوجًا تَعْلِيم قَالَ الْغَزالِيّ وَتَمام هَذَا الِاحْتِرَاز أَن يراقب وَقت كِفَايَته فَإِذا حصلت انْصَرف واشتغل بِتِجَارَة الاخرة فقد كَانَ من السّلف من إِذا ربح

دانقا انْصَرف قناعة بِهِ وَكَانَ فيهم من ينْصَرف بعد الظّهْر وَبعد الْعَصْر وَمن لَا يعْمل فِي الاسبوع إِلَّا يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ اكْتِفَاء بذلك الشَّفَقَة الرَّابِعَة أَن لَا يَكْتَفِي بتوقي لِلْحَرَامِ بل يحذر مثار الشُّبْهَة ومظان الرِّيبَة قَالَ الْغَزالِيّ وَلَا ينظر إِلَى الفتاوي بل يستفتي قلبه فَمَا وجد فِيهِ حزازة اجتنبه قلت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك فَإِن الصدْق طمأنينة وَالْكذب رِيبَة وَفِي الصَّحِيح عَن النواس بن سمْعَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْبر والاثم فَقَالَ الْبر حسن الْخلق والاثم مَا حاك فِي صدرك وكرهت أَن يطلع النَّاس عَلَيْهِ وَتَحْقِيق ذَلِك بِصَرْف الِاسْتِنَاد اليه والى النّظر فِي تَحْقِيق منَاط الحكم لَا فِي النّظر فِي دَلِيله لانحصار مداركه فِيمَا لَا مدْخل فِيهِ لما يَقع فِي الْقُلُوب وَبسطه خَارج عَن الْقَصْد فَلَا نطيل بِهِ والاشارة اليه كَافِيَة انعطاف قَالَ الْغَزالِيّ مُبينًا لمظان الشُّبْهَة عِنْد الْمُعَامَلَة وانما الْوَاجِب أَن ينظر التَّاجِر إِلَى من يعامله فَكل مَنْسُوب إِلَى ظلم أَو خِيَانَة أَو سَرقَة أَو رَبًّا فَلَا يعامله وَكَذَلِكَ الاجناد والظلمة واعوانهم لانه معِين بذلك على الظُّلم

قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَيَنْبَغِي أَن يقسم النَّاس عِنْده إِلَى من يُعَامل وَمن لَا يُعَامل وَليكن من يعامله اكثر فِي هَذَا الزَّمَان قلت وَمَا يلْزم عَن هَذَا من ضيق مجَال الْمُعَامَلَة يوسعه لمن أَخذ فِيهِ بالعزيمة مَدْلُول قَوْله تَعَالَى {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} على أَن فِي الْمَسْأَلَة نظرا لَهُ مَحل آخر الشَّفَقَة الْخَامِسَة أَن يراقب جَمِيع معاملاته مَعَ كل وَاحِد مِمَّن عَامله وَذَلِكَ لامرين أَحدهمَا انه يُحَاسب فِي الْجُمْلَة كَغَيْرِهِ فليعد الْجَواب ليَوْم السُّؤَال والحساب وَالثَّانِي انه يُقَال يُوقف التَّاجِر يَوْم الْقِيَامَة مَعَ كل من بَاعَ مِنْهُ شَيْئا وَقْفَة وَيُحَاسب عَن كل وَاحِد محاسبة على عدد من عاملهم قَالَ بَعضهم رَأَيْت بعض التُّجَّار فِي النّوم فَقلت مَا فعل الله بك قَالَ نشر على خمسين ألف صحيفَة فَقل اهذه كلهَا ذنُوب فَقَالَ هَذِه معاملات النَّاس عدد من كنت تعامله فِي الدُّنْيَا لكل انسان صحيفَة مُفْردَة فِيمَا بَيْنك وَبَين هـ من أول الْمُعَامَلَة إِلَى آخرهَا جَامع إِشَارَة قَالَ الْغَزالِيّ مُشِيرا لجَمِيع مَا لخصناه فِي هَذَا المطلع فَهَذَا مَا على المكتسب فِي مُعَامَلَته من الْعدْل والاحسان والشفقة على الدّين قَالَ فَإِن اقْتصر على الْعدْل كَانَ من الصَّالِحين وان اضاف اليه الاحسان كَانَ من المقربين فَإِن راعي مَعَ ذَلِك وظائف الدّين يَعْنِي بالشفقة عَلَيْهِ كَانَ من الصديقين

السياسة الثانية

السياسة الثَّانِيَة سياسة النَّاس وَقبل التَّلْخِيص لَهَا فَهُنَا مُقَدمَات الْمُقدمَة الأولى قَالَ الْغَزالِيّ الالفة ثَمَرَة حسن الْخلق والتفرق ثَمَرَة سوء الْخلق فَحسن الْخلق يُوجب التحبب والتآلف والتوافق وَسُوء الْخلق يُثمر التباغض والتحاسد والتناكر قلت مِمَّا يدل على حمد الثَّمَرَة الأولى تَعْظِيم الْمِنَّة بهَا على الْخلق فِي قَوْله تَعَالَى لَو انفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم فأصبحتم بنعمته اخوانا وعَلى سوء مغبة الثَّانِيَة صَرِيح الزّجر عَنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} والشواهد على الْأَمريْنِ من السّنة الْكَرِيمَة لَا تَنْحَصِر الْمُقدمَة الثَّانِيَة الاستكثار من الاصدقاء مَذْمُوم لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا ندور من يصلح مِنْهُم للحصبة المعتد بهَا وَحِينَئِذٍ فالتوسع فِيهَا خلاف التوقي والحذر فَفِي الحَدِيث تَجِدُونَ النَّاس كإبل مائَة لَيْسَ فِيهَا رَاحِلَة قَالَ الْخطابِيّ الرَّاحِلَة الْبَعِير الذلول الَّذِي يركب عَلَيْهِ

ويرحل عَلَيْهِ فَاعل بِمَعْنى مفعول كَقَوْلِهِم سر كاتم أَي مَكْتُوم وَمَاء دافق أَي مدفوق وَالَّذِي يُرِيد وَالله اعْلَم أَن الْوَاحِد من الْمِائَة من النَّاس لَا يصلح أَن يصحب كَمَا أَن الْوَاحِد من الْمِائَة من النَّاس لَا يصلح أَن يصحب كَمَا أَن الاحد من الْمِائَة من الابل لَا يصلح أَن يركب يُشِير بِهِ إِلَى الاقلال من صُحْبَة النَّاس والحذر مِنْهُم وَالثَّانِي اداؤه إِلَى الْعَدَاوَة آخر الْأَمر فَعَن بَعضهم انه قَالَ الاستكثار من الاخوان وَسِيلَة الهجران قَالَ الْخطابِيّ يُرِيد انهم إِذا كَثُرُوا كثرت حُقُوقهم فَلم يسعهم برك وان تَأَخَّرت حُقُوقهم عَنْهُم استبطئوك فهجروك وعادوك لَهُ وَمَا احسن مَا عبر ابْن الرُّومِي عَن هَذَا حِين قَالَ (عَدوك من صديقك مُسْتَفَاد ... فَلَا تستكثرن من الصحاب) (فَإِن الدَّاء اكثر مَا ترَاهُ ... يكون من الطَّعَام أَو الشَّرَاب) الْمُقدمَة الثَّالِثَة الْوَصِيَّة من التحذير من قرناء السوء متكررة الْوُرُود وَيَكْفِي مِنْهَا اثْنَتَانِ أَحدهَا مَا فِي الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَرْء على دين خَلِيله فَلْينْظر الْمَرْء من يخالل قَالَ الْخطابِيّ مَعْنَاهُ لَا تخالل إِلَّا من رضيت دينه وأمانته فَإنَّك إِذا خاللته قادك إِلَى دينه ومذهبه فَلَا تغرر بِدينِك وَلَا تخاطر بِنَفْسِك فتخالل

من لَيْسَ يُرْضِي فِي دينه ومذهبه قَالَ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث انْظُر إِلَى سُلَيْمَان بن عبد الْملك صَحبه رَجَاء بن حَيْوَة فقومه وسدده انْظُر إِلَى فِرْعَوْن مَعَه هامان انْظُر إِلَى الْحجَّاج مَعَه يزِيد بن أبي مُسلم شَرّ مِنْهُ الثَّانِيَة مَا روى عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ عَلَيْك باخوان الصدْق تعش فِي اكنافهم فَإِنَّهُم زِينَة فِي الرخَاء وعدة فِي الشدَّة وَالْبَلَاء وضع أَمر اخيك على احسنه حَتَّى يجبك مَا يعلمك مِنْهُ وَاعْتَزل عَدوك واحضر صديقك إِلَّا الامين الامين من خشِي الله وَلَا تصْحَب الْفَاجِر فَتَتَعَلَّمُ من فجوره وَلَا تطلعه على سرك وَاسْتَشِرْ فِي امرك الَّذين يَخْشونَ الله قلت قد سبق فِي الرُّكْن الرَّابِع عشر من اركان الْملك شَيْء من هَذَا الْمَعْنى وَمن المروى فِيهِ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ منظوما قَوْله (وَلَا تصْحَب اخا الْجَهْل ... واياك واياه) (فكم من جَاهِل اردى ... حكيما حِين آخاه) (يُقَاس الْمَرْء بِالْمَرْءِ ... إِذا مَا هُوَ مَا شاه) (وللشيء على الشَّيْء ... مقاييس واشباه) (وللقلب على الْقلب ... دَلِيل حِين تَلقاهُ) الْمُقدمَة الرَّابِعَة التَّحَرُّز من عوام النَّاس مَطْلُوب من جِهَات واهمها اثْنَتَانِ

أَحدهمَا اساءة الظَّن بهم فَعَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ احترسوا من النَّاس بِسوء الظَّن وَعَن حُصَيْن الرقاشِي وَقد سُئِلَ مَا بَقِي من رَأْيك فَقَالَ سوء الظَّن الثَّانِيَة قلَّة الثِّقَة بهم وقديما وَردت الْوَصِيَّة بذلك فقد رى أَن عبد الْملك بن مَرْوَان وجد حجرا فِيهِ مَكْتُوب بالعبرانية فَبعث إِلَى وهب بن مُنَبّه فَإِذا فِيهِ مَكْتُوب إِذا كَانَ الْغدر فِي النَّاس طباعا فالثقة بِكُل أحد عجز وَقد قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ لمُحَمد بن كَعْب الْقرظِيّ أَي خِصَال الرجل اوضع لَهُ قَالَ كَثْرَة كَلَامه وافشاء سره والثقة بِكُل وَاحِد تَنْبِيه تقدم فِي الْقَاعِدَة الْخَامِسَة عشر من قَوَاعِد الْملك أَن اساءة الظَّن إِنَّمَا هِيَ حَيْثُ يُؤَدِّي تحسينه إِلَى مفْسدَة راجحة على مصْلحَته وَمَتى رجحت مصْلحَته فَهِيَ الْمُعْتَبرَة فِي النَّهْي عَن هَذِه الاساءة لقَوْله تَعَالَى اجتنوا كثيرا من الظَّن وَمن ثمَّ قَالَ ابْن قيم الجوزية الْفرق بَين الِاحْتِرَاز وَسُوء الظَّن أَن المحترز كَرجل خرج مُسَافِرًا بِمَالِه ومركوبه فَهُوَ يحْتَرز جهده من مَكْرُوه مَا يتَوَقَّع فِي السّفر والسيء الظَّن ممتليء الْقلب بالظنون السَّيئَة بِالنَّاسِ حَتَّى يظْهر على لِسَانه وجوارحه فيبغضهم ويبغضونه ويحذر مِنْهُم ويحذرونه

قَالَ فَالْأول يخالطهم ويحترز مِنْهُم وَالثَّانِي يتجنبهم ويلحقه اذاهم الأول فيهم دَاخل بِالنَّصِيحَةِ والاحسان مَعَ الِاحْتِرَاز وَالثَّانِي خَارج مِنْهُم مَعَ الْغِشّ والدغل والبغض انْتهى مُلَخصا قلت وَقد ذكر الْخطابِيّ أَن اكثر مَا يعرض هَذَا لمن يحس من نَفسه بتهمة وَيعرف عِنْد النَّاس بريبة كوصف الْمُنَافِقين بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {يحسبون كل صَيْحَة عَلَيْهِم} قَالَ وَمَا احسن قَول المتنبي فِي أهل هَذِه الصّفة حَيْثُ يَقُول (إِذا سَاءَ فعل الْمَرْء ساءت ظنونه ... وَصدق مَا يعتاده من توهم) (وعادى محبيه بقول عداته ... واصبح فِي ليل من الشَّك مظلم) الْمُقدمَة الْخَامِس ترك الِاعْتِدَاد بالعوام وَقلة الاكتراث بهم مَطْلُوب من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن رضاهم كَمَا قيل غَايَة لَا تدْرك روى اكثر من صَيْفِي قَائِلا بعده وَلَا يكره سخط من رِضَاهُ الْجور وَعَن يُونُس بن عبد الاعلى قَالَ لي الشَّافِعِي يَا أَبَا مُوسَى رضَا النَّاس غَايَة لَا

تدْرك لَيْسَ إِلَى السَّلامَة من النَّاس سَبِيل فَانْظُر مَا فِيهِ اصلاح نفس فالزمه ودع النَّاس وَمَا هم فِيهِ انْتهى وَفِي مَعْنَاهُ انشد أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب (دع النَّاس مَا شاؤوا يَقُولُونَ فإنني ... لأكْثر مَا يَحْكِي عَليّ حمول) (فَمَا كل من اغضبته انا معتب ... وَمَا كل مَا يرْوى عَليّ اقول) الثَّانِي أَن الاغترار رُبمَا يصدر مِنْهُم فَمَا الشَّأْن أَن يعْتَبر مِمَّن سواهُم منَاف لكَمَال البصيرة بهم قَالَ الْخطابِيّ الْوَاجِب على الْعَاقِل أَن لَا يغتر بِكَلَام الْعَوام وثنائهم وان لَا يَثِق بعهودهم واخائهم فانهم يقبلُونَ مَعَ الطمع ويدبرون مَعَ الْغنى ويطيرون مَعَ كل ناعق كَانَ الْحسن يَقُول إِذا رَآهُمْ هَؤُلَاءِ قتلة الْأَنْبِيَاء وَكَانَ بَعضهم يَقُول إِذا رَآهُمْ قَاتل الله هَذِه الْوُجُوه الَّتِي لَا ترى إِلَّا عِنْد الشَّرّ وَقَالَ آخر إِذا اجْتَمعُوا غلبوا وَإِذا تفَرقُوا لم يعرفوا وَقيل إِذا اجْتَمعُوا ضروا وَإِذا تفَرقُوا نفعوا قَالَ يُرِيد انهم إِذا تفَرقُوا رَجَعَ كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى صناعته فيخرز الاسكاف ويخصف الْحذاء وينسج الحائك ويخيط الخائط فينتفع النَّاس بهم انْتهى ثمَّ انشد لِابْنِ عَائِشَة

(جربت النَّاس واخراقهم ... فصرت استأنس بالوحدة) (مَا اكثر النَّاس لعمري وَمَا ... اقلهم فِي ملتقى الْعدة) فَائِدَة يُطلق الغوغاء على هَؤُلَاءِ الَّذين لَا عِبْرَة بهم قَالَ الاصمعي والغوغاء الْجَرَاد إِذا ماج بعضه فِي بعض قَالَ وَبِه سمي الغوغاء من النَّاس قلت وَمن علاماتهم مَا تضمنته الْخطابِيّ عَن أبي عَاصِم النَّبِيل وَذَلِكَ أَن رجلا أَتَاهُ فَقَالَ أَن امْرَأَتي قَالَت لي يَا غوغاء فَقلت لَهَا أَن كنت غوغاء فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا فَقَالَ لَهُ أَبُو عَاصِم هَل أَنْت مِمَّن يحضر المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك فَقَالَ لَا فَقَالَ لَهُ فَهَل أَنْت مِمَّن يحضر يَوْم يعرض السُّلْطَان أهل السجون يَقُول فلَان اجلد من فلَان فَقَالَ لَا فَقَالَ هَل أَنْت الرجل الَّذِي إِذا خرج الْأَمِير يَوْم الْجُمُعَة جَلَست على ظهر الطَّرِيق حَتَّى يمر ثمَّ تقيم بمكانك حَتَّى يُصَلِّي وينصرف فَقَالَ لَا قَالَ أَبُو عَاصِم لست بغوغاء إِنَّمَا الغوغاء من يفعل هَذَا

الْمُقدمَة السَّادِسَة من اخلاق الْعَامَّة الْمُوجبَة لندور السَّلامَة مِنْهُم مَا ركب فيهم من الْخلاف الْمُقْتَضِي لذَلِك طبعا بِإِذن الله ومشيئة وَمرَاده وَيدل على امران أَحدهمَا ورد الْخَبَر بِهِ فَفِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ جَالِسا ذَات يَوْم وقدامه قوم يصنعون شَيْئا كرهه من كَلَامهم وَلَفْظهمْ فَقيل يَا رَسُول الله إِلَّا تنهاهم فَقَالَ لَو نهيتم عَن الْحجُون لَا وَشك بَعضهم أَن يَأْتِيهِ وَلَيْسَ لَهُ حَاجَة قَالَ الْخطابِيّ قد اخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا القَوْل أَن الشَّرّ طباع فِي النَّاس وان الْخلاف عَادَة لَهُم وحض بذلك على شدَّة الحذر مِنْهُم وَقلة الثِّقَة بهم الثَّانِي وجود ذَلِك بالعيان قَالَ بعض الْعلمَاء أَن من النَّاس من يولع بِالْخِلَافِ أبدا حَتَّى يرى انه افضل الْأُمُور وان لَا يُوَافق احدا وَلَا يجمع مَعَه على أَمر وَرَأى وَلَا يواتيه على صُحْبَة وَمن كَانَ هَذِه عَادَته فَإِنَّهُ لَا ينصر الْحق وَلَا يَعْتَقِدهُ دينا ومذهبا إِنَّمَا يتعصب لرأيه وينتقم لنَفسِهِ وَيسْعَى فِي مرضاتها حَتَّى انك أَن رمت تترضاه وتوخيت أَن توافقه على الرَّأْي الَّذِي يَدْعُوك اليه تعمد إِلَى خِلافك فِيهِ وَلَا يرضى حَتَّى ينْتَقل لنقيض قَوْلك وَقَوله الأول فَإِن عدت فِي ذَلِك إِلَى وفاقه عَاد فِيهِ إِلَى خِلافك قَالَ الْخطابِيّ فَمن كَانَ فِي هَذِه الْحَال فَعَلَيْك بمباعدته والنفار عَن قربه فَإِن رِضَاهُ غَايَة لَا تدْرك ومدى شأوه لَا يلْحق

حِكَايَة قَالَ الزّجاج كُنَّا عِنْد الْمبرد فَوقف علينا رجل فَقَالَ أَسأَلك عَن مَسْأَلَة من النَّحْو قَالَ لَا فَقَالَ اخطأت فَقَالَ يَا هَذَا كَيفَ اكون مخطئا أَو مصيبا وَلم اجبك عَن الْمَسْأَلَة فَأقبل عَلَيْهِ اصحابه يعنفونه فَقَالَ لَهُم خلوا سَبيله وَلَا تعرضوا لَهُ انا اخبركم بِقِصَّتِهِ هَذَا الرجل وَهُوَ انه يحب الْخلاف وَخرج من بَيته وقصدني على أَن يخالفني فِي كل شَيْء اقوله ويخطئني فَسبق لِسَانه بِمَا كَانَ فِي ضَمِيره عاطفة من اثر الشَّرّ الطبيعي فِي النَّاس تعدِي الظُّلم بِهِ والاذاية إِلَى الابرياء وَذَوي الْحُقُوق عَلَيْهِم قَالَ بعض الْحُكَمَاء الشَّرّ فِي النَّاس طباع وَحب الْخلاف لَهُم عَادَة والجور فيهم سنة وَلذَلِك تراهم يُؤْذونَ من لَا يؤذيهم ويظلمون من لَا يظلمهم ويخالفون من ينصحهم وَقَالَ الاصمعي قيل لرجل لم توذي جيرانك قَالَ فَمن اوذي أَو اوذي من لَا اعرف وانشد الْخطابِيّ لبَعْضهِم (وَمَا أَنْت إِلَّا ظَالِم وَابْن ظَالِم ... لانك من اولاد حوا وآدَم) (فَلَو كنت مثل الْقدح الفيت قَائِلا ... أَلا مَا لهَذَا الْقدح لَيْسَ بقائم) (وَلَو كنت مثل النصل الفيت قَائِلا ... إِلَّا مَا لهَذَا النصل لَيْسَ بصارم) قَالَ وَسُئِلَ بَعضهم مَتى يسلم الانسان من النَّاس قَالَ إِذا لم يكن فِي خير وَلَا شَرّ قيل وَمَتى يكون كَذَلِك قَالَ إِذا مَاتَ قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَهُوَ حَيّ إِمَّا أَن يكون خيرا فالاشرار يعادونه واما أَن يكون شريرا

فالاخيار يمقتونه والمثل فِي قديم الدَّهْر مَا لَقِي النَّاس من النَّاس (وَمن ذَا الَّذِي ينجو من النَّاس سالما ... وَلِلنَّاسِ قيل بالظنون وَقَالَ) قلت وَمن ثمَّ تعد السَّلامَة مِنْهُم أَن امكنت على اغرب نَادِر سَعَادَة مُعجلَة فقد رُوِيَ عَن حسان انه قَالَ احْفَظُوا عني هَذَا الْبَيْت (وان امرء امسى واصبح سالما ... من النَّاس إِلَّا مَا جنى لسَعِيد) الْمُقدمَة السَّابِعَة فَسَاد الزَّمَان واهله مشهود بِهِ من جِهَتَيْنِ الْجِهَة الأولى مَجِيء الاعلام بِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا الْأَخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الصَّادِق المصدوق كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذهب الصالحون الأول فَالْأول وَتبقى حثالة كحثالة الشّعير لَا يُبَالِي الله بهم قَالَ الْخطابِيّ حثالة الشّعير رذالته وَمَا لَا خير فِيهِ مِنْهُ يَقُول كَمَا لَا يُؤْكَل مَا يبْقى من حثالة الشّعير كَذَلِك لَا يصحب من يبْقى من النَّاس فِي آخر الزَّمَان وَالثَّانِي آثَار عَن السّلف الْكَرِيم كَقَوْل أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ ذهب النَّاس وَبَقِي النسناس فَقيل لَهُ وَمَا النسناس قَالَ يشبهون بِالنَّاسِ وَلَيْسوا بناس وكتمثيل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بقول لبيد

(ذهب الَّذين يعاش فِي اكنافهم ... بقيت فِي خلف كَجلْد الاجرب) (يتحدثون مجانة وملاذة ... ويعاب قَائِلهمْ وان لم يشغب) ثمَّ تَقول وَيْح لبيد لَو اِدَّرَكَ هَذَا الزَّمَان وَكَذَا قَالَ الرَّاوِي عَنْهَا ثمَّ كَذَلِك مسلسلا حِكَايَة التشكي من ذَلِك روى الْخطابِيّ عَن أبي داحة قَالَ خرج الينا يَعْقُوب بن دَاوُود وَزِير الْمهْدي وَنحن على بَابه فَقَالَ مَا صدر هَذَا الْبَيْت (ومحترس من مثله وَهُوَ حارس ... ) فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ سَأَلَ عَنهُ فَلم يكن عِنْد وَاحِد منا جَوَاب قَالَ قلت انا اخبرك بِهِ قَالَ ابْن داحة (اقلي على اللوم يَا أم مَالك ... وذمي زَمَانا سَاد فِيهِ الفلافس) (وساع مَعَ السُّلْطَان لَيْسَ بناصح ... ومحترس من مثله وَهُوَ حارس) قَالَ والفلافس رجل من أهل الْكُوفَة من بني نهشل بن دارم وَكَانَ على شَرط القباع بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ فِيهِ الاشهب بن رميلة النَّهْشَلِي

(يَا جَارة يَا ابْن أبي ربيعَة انه ... يَخْلُو إِذا اخْتَلَط الظلام وَيشْرب) (جعل الفلافس حاجبين لبابه ... سُبْحَانَ من جعل الفلافس يحجب) الْجِهَة الثَّانِيَة وُقُوع اثره وجودا من ابلغ مَا يعرف بِهِ وصفان الْوَصْف الأول قَالَ الْخطابِيّ قَرَأت لمنصور بن عمار فِي صفة الزَّمَان قَالَ تغير الزَّمَان حَتَّى كل عَن وَصفه اللِّسَان وامسى خربا بعد حداثته شرسا بعد لينه يَابِس الضَّرع بعد غزارته ذابل الفرغ بعد نضارته ناحل الْعود بعد رطوبته بشع المذاق بعد عذوبته فَلَا تكَاد ترى لبيبا إِلَّا ذَا كمد وَلَا ظريفا واثقا بِأحد وَلَا أصبح لَهُ حليفا إِلَّا جَاهِل وَلَا امسى بِهِ قرير الْعين إِلَّا غافل فَمَا بَقِي من الْخَيْر إِلَّا الِاسْم وَلَا من الدّين إِلَّا الرَّسْم وَلَا من التَّوَاضُع إِلَّا المخادعة وَلَا من الزهادة إِلَّا الانتحال وَلَا من الْمُرُوءَة إِلَّا غرور اللِّسَان وَلَا من الْأَمر بالمعورف وَالنَّهْي عَن الْمُنكر إِلَّا حمية النَّفس وَالْغَضَب لَهَا فَيطلع الْكبر مِنْهَا وَلَا من الاستفادة إِلَّا التعزز والتبجيل والتحلي وَلَا من الافادة إِلَّا الترأس والتجلل فالمغرور المائق والمذموم عِنْد الْخَلَائق والنادم من العواقب

المحطوط عَن الْمَرَاتِب من اغْترَّ بِالنَّاسِ وَلم يحسم رجاؤه باليأس وَلم يطْلب قلبه بِشدَّة الاحتراس فالحذر الحذر من النَّاس فقد اقل النَّاس وَبَقِي النسناس ذئاب عَلَيْهِم ثِيَاب أَن استردفتهم حرموك وان استنصرتهم خذلوك وان استنصحتهم غشوك وان عاملتهم غبنوك وان غبت عَنْهُم اغتابوك أَن كنت شريفا حسدوك وان كنت وضيعا حقروك وان كنت عَالما ضللوك وبدعوك وان كنت جَاهِلا عيروك وَلم يرشدوك وان نطقت قَالُوا مهذار حَدِيد وان سكت قَالُوا عيي بطيء بليد وان تعقت قَالُوا متكلف متعمق وان تغافلت قَالُوا جَاهِل احمق فمعاشرتهم دَاء وشقاء ومزايلتهم دَوَاء وشفاء وَلَا بُد أَن يكون فِي الدَّوَاء كَرَاهَة ومرارة فاختر الدَّوَاء بمرارته وكراهته على الدَّاء بغائلته وآفاته وَالله الْمُسْتَعَان الْوَصْف الثَّانِي روى الْخطابِيّ عَن الْحسن انه قَالَ اعلموا أَن النَّاس شَجَرَة لظى وفراش نَار ودبان طمع أَن الدُّنْيَا فتحت على أَهلهَا كلبوا وَالله عَلَيْهَا اسوا الْكَلْب حَتَّى عدا بَعضهم على بعض بِالسُّيُوفِ واستحل بَعضهم حُرْمَة بعض تخالفوا على شجنه كسببوها من كل

حرَام وانفقوها فِي كل شَرّ وطبقوا الأَرْض ظلما قَاتلهم الله وَهُوَ قَاتلهم اتَّخذُوا عباد الله خولا وَاتَّخذُوا هَذَا المَال دولا سُبْحَانَ الله مَا لقِيت هَذِه الْأمة من مُنَافِق قهرهم واستأثر عَلَيْهِم وَمن صَاحب بِدعَة خرج عَلَيْهِم بِسَيْفِهِ صنفان حثيثان قد عَمَّا على كل مُؤمن من اعلاج عجم واعرابي لَا فقه لَهُ وَلَا دين ومنافق مكذب وامير مترف نعق بهم ناعق وَخَرجُوا يسعون مَعَه فرَاش نَار وذبان طمع يَبِيع اقوام دينهم بِثمن بخس من مَاتَ إِلَى النَّار وَمن عَاشَ عَاشَ فِي شَرّ ظهر الْجفَاء وَقل الْعلمَاء وَذهب الْحيَاء وفشت النكراء ذهب الصالحون وَبَقِي خشارة كخشارة الشّعير لَا يُبَالِي الله بهم باله انْتهى الْمُقدمَة الثَّامِنَة اخْتِلَاف طَبَقَات النَّاس فِي الْخلق والسجايا ناشيء عَن مُقْتَضى مَا خلقُوا مِنْهُ ونسبوا اليه وَيدل عَلَيْهِ خبران أَحدهمَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض مِنْهُم الاحمر والاسود والابيض والسهل والحزن والخبيث وَالطّيب

قَالَ الْخطابِيّ قد بَين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا القَوْل أَن النَّاس اصناف وطبقات وانهم إِلَى تفَاوت فِي الطباع والاخلاق فيهم الْخَيْر الْفَاضِل الَّذِي ينْتَفع بِصِحَّتِهِ وَمِنْهُم الرَّدِيء النَّاقِص الَّذِي يتَضَرَّر بِقُرْبِهِ وعشرته كَمَا أَن الأَرْض مُخْتَلفَة الْأَجْزَاء وَالتُّرَاب فَمِنْهَا العذاة الطّيبَة الَّتِي يطيب نباتها ويزكو ربيعها وَمِنْهَا السباخ الخبيثة الَّتِي تضيع بذرها ويبيد زرعه وَمَا بَين ذَلِك حسب مَا يُوجد مِنْهَا حسا ويشاهد عيَانًا الثَّانِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس معادن قَالَ

الْخطابِيّ وَفِي هَذَا القَوْل أَيْضا بَيَان أَن اخلاق النَّاس غرائز فيهم كَمَا أَن الْمَعَادِن ودائع مركوزة فِي الأَرْض فَمِنْهَا الْجَوْهَر النفيس وَمِنْهَا الفلز الخسيس كَذَلِك ظواهر النَّاس وطباعهم مِنْهَا الزكي الرضى وَمِنْهَا النَّاقِص الدني وَإِذا كَانُوا كَذَلِك كَانَ الْأَمر فِي العيان مِنْهُم مُشكلا اَوْ اسْتِبْرَاء الْعَيْب فيهم متعذرا فالحزم إِذا الامساك عَنْهَا والتوقف عَن مداخلتهم إِلَى أَن تنكشف المحنة أَن اسرارهم وبواطن امورهم فَيكون عِنْد ذَلِك اقدام على خبْرَة وماحجام عَن بَصِيرَة قَالَ ولعلك إِذا خبرتهم قليتهم وَإِذا عرفتهم انكرتهم إِلَّا من يخصهم الثَّنَاء وَقَلِيل مَا هم استظهار أورد هُنَا اسْتِدْلَالا على مَا ذكر مَا روى بِسَنَدِهِ إِلَى أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخبر تقله

وثق النَّاس رويدا ثمَّ قَالَ سَمِعت شَيخنَا أَبَا بكر الْقفال يَقُول لَوْلَا انه قد قيل اخبر تقله لَقلت انا اقله تخبر تَفْرِيع ترَتّب على هَذِه الْمُقدمَة مَا سبقت الاشارة اليه فِي صُورَة الْبَاب الأول من الْكتاب الثَّانِي أَن الَّذِي تسهل بِهِ صُحْبَة الْخلق انزالهم منزلَة الْحَيَوَان الْمُشبه بهم فِي الْخلق ليحلق بِهِ الْمُعَامَلَة وان اصل التَّنْبِيه على ذَلِك لِسُفْيَان ابْن عُيَيْنَة فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} كَمَا يشْهد لَهُ الخبران المتقدمان

قَالَ عَنهُ الْخطابِيّ مَا فِي الأَرْض آدَمِيّ إِلَّا وَفِيه شبه من شبه الْبَهَائِم فَمنهمْ من يهتصر اهتصار الاسد وَمِنْهُم من يعدو عَدو الذِّئْب وَمِنْهُم من ينبح نباح الْكلاب وَمِنْهُم من يتطوس كَفعل الطاووس وَمِنْهُم من يشبه الْخَنَازِير الَّتِي لَو القى اليها الطَّعَام الطّيب عافته فَإِذا قَامَ الرجل عَن رجيعه ولغت فِيهِ وَكَذَلِكَ تَجِد الادميين من لَو سمع خمسين كلمة لم يحفظ وَاحِدَة مِنْهَا وان اخطأ رجل عَن نَفسه أَو حكى خطأ غَيره ترواه وَحفظه تَسْلِيم قَالَ الْخطابِيّ مَا احسن مَا تَأَول أَبُو مُحَمَّد هَذِه الاية واستنبط مِنْهَا هَذِه الْحِكْمَة قَالَ وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَاعْلَم يَا اخي انك إِنَّمَا تعاشر الْبَهَائِم وَالسِّبَاع فَلْيَكُن حذرك مِنْهُم ومباعدتك اياهم على حسب ذَلِك قَالَ وَلأَجل ذَلِك رأى الْحُكَمَاء أَن السَّلامَة من آفَات السبَاع الضارية والخلاص مِنْهَا اسهل من السَّلامَة من شَرّ النَّاس ثمَّ انشد للشَّافِعِيّ رَحمَه الله

(لَيْت الْكلاب لنا كَانَت مجاورة ... واننا لَا نرى مِمَّن نرى احدا) (أَن الْكلاب لتهدي فِي مواطنها ... وَالنَّاس لَيْسَ بهاد شرهم أبدا) (فاحتل لنَفسك فِي تغريدها أبدا ... تعش سعيدا إِذا مَا كنت مُنْفَردا) قَالَ وَنَحْو هَذَا قَوْله (شَرّ السبَاع الضواري دونه وزر ... وَالنَّاس شرهم مَا دونه وزر) (كم معشر سلمُوا لم يؤذهم سبع ... وَلم نرا بشرا لم يوذه بشر)

قَالَ روينَا عَن الشَّافِعِي انه قَالَ مَا اشبه هَذَا الزَّمَان إِلَّا بِمَا قَالَ تأبط شرا (عوى الذِّئْب فاستأنست بالذئب إِذْ عوى ... وَصَوت انسان فكدت مِنْهُ اطير) فَائِدَة قَالَ وسأفيدك يَا أخي فَائِدَة يجل نَفعهَا وتعظم عائدتها وَمَا اقولها إِلَّا عَن ودك وشفقة عَلَيْك فَإِن الْبلوى ف يمعاشرة أهل زَمَانك عَظِيمَة فَاسْتَعِنْ بِاللَّه على مَا يلقاك من اذاهم فَإنَّك لن تَخْلُو من قَلِيله وان سلمت من كَثِيره وَذَلِكَ انك قد ترى الْوَاحِد بعد الوماحد مِنْهُم يتكالب على النَّاس ويتسفه على اعراضهم وينبح فيهم نباح الْكلاب فيهمك من شَأْنه مَا يهمك وتود مِنْهُ أَن لَا يكون رجلا فَاضلا يُرْجَى خَيره ويؤمن شَره فَيطول فِي امْرَهْ فكرك ويدوم بِهِ شغل قَلْبك فازح هَذَا الْعَارِض عَن نَفسك بِأَن تعده على الْحَقِيقَة كَلْبا خلقَة وجهلة وزد بِهِ فِي عدد الْكلاب وَاحِدًا أَو لَعَلَّك قد مَرَرْت مرّة من

المرات بكلب من الْكلاب ينبح ويعوي وَرُبمَا كَانَ أَيْضا قد تساور وتقهقر فَلم تحدث نَفسك فِي امْرَهْ أَن يعود انسانا ينْطق وينبح وَلم تتأسف لَهُ أَن لَا يكون دَابَّة تركب أَو شَاة تحلب فَاجْعَلْ هَذَا المتكلب كَلْبا مثله واسترح من شغله وارح مئونة الْفِكر فِيهِ وَكَذَلِكَ فَلْيَكُن عنْدك بِمَنْزِلَة من جهل حَقك وَكفر مَعْرُوفك فاحسبه حمارا أَو زد بِهِ فِي عدد الْحمير وَاحِدًا فبمثل هَذَا تتخلص من آفَة هَذَا الْبَاب وغائلته وَكَثْرَة الْمَلَامَة وَالله الْمُسْتَعَان الْمُقدمَة التَّاسِعَة فَسَاد الْخَاصَّة من النَّاس وَاقع بِحَسب الانذار بِهِ لَا محَالة وَذَلِكَ فِي صنفين الصِّنْف الأول الْعلمَاء المسممون لاستحكام فسادهم بعلماء السوء وَمن الْوَارِد بذلك مِنْهُم خبران أَحدهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيح أَن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه من النَّاس وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء فَإِذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس رؤوسا جُهَّالًا فسئلوا فافتوا بِغَيْر علم فضلوا واضلوا

قَالَ الْخطابِيّ قد اعْلَم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن آفَة الْعلم ذهَاب اهله وانتحال الْجُهَّال لَهُ وترؤسهم على النَّاس باسمه وحذر النَّاس أَن يقتدوا بِمن كَانَ من أهل هَذِه الصّفة وَاخْبَرْ انهم ضلال مضلون الثَّانِي قَول ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ كَيفَ بكم إِذا البستكم فتْنَة يَرْبُو فِيهَا الصَّغِير ويهرم فِيهَا الْكَبِير وتتخذ سنة فَإِن غيرت يَوْمًا قلت هَذَا مُنكر قَالُوا وَمَتى ذَلِك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن قَالَ ذَلِك إِذا قلت امناؤكم وَكثر امراؤكم وَقلت فقهاؤكم وتفقه لغير الدّين والتمست الدُّنْيَا بِعَمَل الاخرة تَعْرِيف روى عَن الْحسن انه قَالَ طلاب هَذَا الْعلم ثَلَاثَة اصناف من النَّاس فاعرفوهم بصفاتهم فصنف تعلموه للمراء والجدل وصنف تعلموه للاستطالة والختل وصنف تعلموه للتفقه وَالْعقل فَصَاحب المراء والجدال متعرض لِلْقِتَالِ فِي اندية الرِّجَال يذاكر الْعلم بخفة الْحلم قد تسربل الجشع وتبرأ من الْوَرع فدق الله من هَذَا خيشومه وَقطع مِنْهُ الحزم حيزومه وَصَاحب الاستطالة والختل ذُو خب وملق

يستطيل على اشباهه من امثاله فيختلهم بخلع حليته فَهُوَ لحلوانهم هاضم ولدينه حاطم فاعمى الله عَن هَذَا خَبره وَقطع من آثَار الْعلمَاء اثره وَصَاحب التفقه وَالْعقل ذُو كآبة وحزن قد تنحى عَن فرشه وَقَامَ اللَّيْل فِي حندسه يعْمل ويخشع قد ازكتاه يَدَاهُ واعمرتاه رِجْلَاهُ فَهُوَ مقبل على شَأْنه عَارِف بِأَهْل زَمَانه قد استوحش من كل ثِقَة من اقرانه فَشد الله من هَذَا اركانه واعطاه يَوْم الْقِيَامَة امانه الصِّنْف الثَّانِي الامراء الموصوفون لتحَقّق فسادهم بأمراء الْجور وَمن الانذار بذلك خبران أَحدهمَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيح انكم سَتَرَوْنَ بعد اثره وامورا تنكرونها قَالُوا فَمَا تَأْمُرنَا بِهِ يَا رَسُول الله قَالَ ادوا اليهم حَقهم واسألوا الله حقكم الثَّانِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكعب بن عجْرَة اعاذك الله من امارة السُّفَهَاء فَقَالَ وَمَا امارة السُّفَهَاء قَالَ امراء يكونُونَ من بعدِي لَا يَهْتَدُونَ بهديي وَلَا يستنون بِسنتي فَمن صدقهم بكذبهم واعانهم على ظلمهم فَأُولَئِك لَيْسُوا مني وَلست مِنْهُم وَلَا يردون على حَوْضِي وَمن لم

يُصدقهُمْ وَلم يُعِنْهُمْ على ظلمهم فولئك مني وَأَنا مِنْهُم وسيردون على حَوْضِي يَا كَعْب بن عجْرَة النَّاس غاديان فمبتاع نَفسه فمعتقها وبائع نَفسه فموبقها رَوَاهُ الْأَمَام احْمَد وَاللَّفْظ لَهُ اعلام فَسَاد اخذ هذَيْن الصِّنْفَيْنِ ملازم فِي الْوُجُود لفساد الصِّنْف الآخر غَالِبا وَمن ثمَّ يتضاعف بهما محنة النَّاس وافاتهم فَمن كَلَام أبي مَرْوَان بن حَيَّان فِي ذَلِك وَلم تزل آفَة النَّاس مُنْذُ خلقُوا فِي صنفين مِنْهُم هم كالملح فيهم الامراء وَالْفُقَهَاء قَلما تتنافر فِي اشكالهم بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يردون قَالَ فقد خص الله سُبْحَانَهُ هَذَا الْقرن الَّذِي نَحن فِيهِ من اعوجاج هذَيْن الصِّنْفَيْنِ لدينا بِمَا لَا كفاء لَهُ وَلَا مخلص مِنْهُ فالامراء القاسطون قد نكبوا بهم عَن نهج الطَّرِيق ذيادا عَن الْجَمَاعَة وجريا إِلَى الْفرْقَة وَالْفُقَهَاء ائمتهم صموت وصرفوا عَمَّا اكده الله عَلَيْهِم من التَّبْيِين لَهُم قد اصبحوا بَين آكل من حلوائهم وخابط فِي اهوائهم وَبَين مستشعر مخافتهم اخذا بالتقية فِي صدقهم قَالَ فَمَا القَوْل فِي ارْض فسد ملحها الَّذِي هُوَ المصلح لجَمِيع اغذيتها هَل هِيَ إِلَّا مشفية على بوارها واستئصالها قلت قَالَ الْغَزالِيّ مُشِيرا إِلَى مَا ينظر إِلَى هَذَا الْمَعْنى وَلذَلِك قيل مَا

فَسدتْ الرّعية إِلَّا بِفساد الْمُلُوك وَلَا فَسدتْ الْمُلُوك إِلَّا بِفساد الْعلمَاء الْمُقدمَة الْعَاشِرَة الْقَصْد فِي المخالطة وَالْعُزْلَة هُوَ الْمَحْمُود فِي الْجُمْلَة وَفِيه عِبَارَات تحوم على لُزُوم التَّوَسُّط بِهِ بَين طرفِي افراط ذَلِك وتفريطه أَحدهمَا قَول اكثم بن صَيْفِي الانقباض عَن النَّاس مكسبة للعداوة ومعرفتهم مكسبة لقرين السوء فَكُن للنَّاس بَين المنقبض والمقارب فَإِن خِيَار الْأُمُور اوسطها الثَّانِيَة قَول وهب بن مُنَبّه لَو هيب بن الْورْد وَقد قَالَ لَهُ أَنِّي أُرِيد أَن اعتزل النَّاس فَقَالَ لَهُ لَا بُد لَك من النَّاس وَلَا بُد للنَّاس مِنْك لَك اليهم حوائج وَلَهُم اليك حوائج وَلَكِن كن فيهم اصم سميعا اعمى بَصيرًا سكُوتًا ونطوقا الثَّالِثَة قَول ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ خالط النَّاس وزايلهم وَدينك لَا تكلمنه قَالَ الْخطابِيّ يُرِيد خالطهم ببدنك وزايلهم بقلبك قَالَ وَلَيْسَ هَذَا من بَاب النِّفَاق بل من بَاب المدارات وَهِي صَدَقَة كَمَا فِي الحَدِيث

الرَّابِعَة قَول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَضِي الله عَنهُ من لم يعاشر بِالْمَعْرُوفِ من لَا يجد لَهُ من معاشرته بدا يَجْعَل الله لَهُ فرجا ومخرجا قلت فِي مَعْنَاهُ قَالَ المتنبي وَمن نكد الدُّنْيَا على الْحر أَن يرى ... عدوا لَهُ مَا من صداقته بُد الْخَامِسَة قَالَ الْخطابِيّ الطَّرِيقَة المثلى فِي هَذَا الْبَاب أَن لَا تمْتَنع من حق يلزمك للنَّاس وان لم يطالبوك بِهِ وان لَا تنهمك لَهُم فِي بَاطِل لَا يجب عَلَيْك وان دعوك اليه وان من اشْتغل بِمَا لَا يعنيه فَاتَهُ مَا يعنيه وَمن انحل فِي الْبَاطِل جمد عَن الْحق وَكن مَعَ النَّاس فِي الْخَيْر وَكن بمعزل عَنْهُم فِي الشَّرّ وتوخ أَن تكون فيهم شَاهدا كغائب وعالما كجاهل قَالَ وانشد أَبُو زيد فِي الْمَعْنى (إِذا مَا عممت النَّاس بالانس لم تزل ... لصَاحب سوء مستفيدا وكاسبا) (وان تقصهم يرموك عَن سهم بغضة ... فَكُن خالطا أَن شِئْت أَو كن مجانبا) (فَلَا تدنون مِنْهُم وملا تقصينهم ... وَلَكِن امرا بَين ذَاك مقاربا) عاطفة رُجُوع إِذا تقررت هَذِه الْمُقدمَات فَقَالُوا مَنْفَعَة هَذِه السياسة فِي امرين أَحدهمَا السَّلامَة من النَّاس والاخرة اسْتِخْرَاج الْمَنَافِع مِنْهُم وجوامع مَا يحصل بِهِ ذَلِك ملخص فِي مسَائِل

الْمَسْأَلَة الأولى فِي ملك اللِّسَان وملاكه عَن خطرين قَاتل كَمَا قيل اللِّسَان كالسبع أَن لم توثقه عدا عَلَيْك وَقَالَ (واحفظ لسَانك ايها الانسان ... لَا يلدغنك انه ثعبان) (كم فِي الْمَقَابِر من قَتِيل لِسَانه ... كَانَت تهاب لقاءه الشجعان) ومفسدكما قيل لَا تفسدن لسَانك فَيفْسد عَلَيْك شَأْنك وَقَالَ 0 - احفظ لسَانك أَن تَقول فتبتلي ... أَن الْبلَاء مُوكل بالْمَنْطق) الْخطر الأول الْقَاتِل واسرعه بذلك امران كَلَام فِي الشَّرْع بِمَا يُخَالِفهُ وخوض فِي السُّلْطَان بِمَا يغضبه الْأَمر الأول الْكَلَام فِي الشَّرْع وَذَلِكَ باحدى مَحْظُورَات أَحدهَا مُخَالفَة السّنة اعتقادا أَو عملا على وَجه قريب أَو بعيد قلت إِمَّا الْقَرِيب وخصوصا فِي القطعيات فَظَاهر والنظريات قد يَنْتَهِي بشؤم الانحراف فِيهَا عَن نهج الطّرق السّنيَّة إِلَى توقع ذَلِك الْمَحْظُور وَفِي الْوَاقِع من ذَلِك مَا فِيهِ عِبْرَة الثَّانِي دَقِيق الْكَلَام فِي تَفْسِير قُرْآن أَو حَدِيث وخصوصا أَن كَانَ مذهبا لِذَوي ضَلَالَة

قلت وَلَيْسَ هَذَا لأجل السَّلامَة من النَّاس فَقَط بل ولمفسدة الْكَلَام مَعَهم بِمَا لَا يفهمون وَالنَّهْي عَنهُ مُقَرر فِي موَاضعه واقل مَا فِيهِ حَدِيث السَّلامَة من الْقدح فِي الدّيانَة مَا اشار اليه ابْن الرُّومِي فِي قَوْله (غموض الْأَمر حِين يذب عَنهُ ... يقلل نَاظر القَوْل المحق) (تجل عَن الدَّقِيق عقول قوم ... فَيَقْضِي للمجل من المدق) الثَّالِث ذكر أَسمَاء الفلاسفة فضلا عَن الْخَوْض فِي شَيْء فِي علومهم فِي مَلأ من النَّاس أَو مَعَ وَاحِد مِنْهُم قلت وَلَا يفهم من هَذَا التحفظ انه لمُجَرّد سد بَاب التُّهْمَة خَاصَّة بل الْحق أَن الفلسفة مَعَ مضرتها بِالدّينِ بَاطِلَة فِي نَفسهَا لما تقرر إِنَّهَا غير وافية بِالْقَصْدِ الْمُدَّعِي فِيهَا وَلَا كَافِيَة فِي معرفَة السَّعَادَة الْمَوْعُود بهَا بعد الْمَوْت والناظر فِيهَا بِشَرْطِهِ لَهُ غَرَض آخر غير مَا يظنّ من حسن فِيهَا الِاعْتِقَاد وضل بهَا عَن سَوَاء السَّبِيل وَبسط ذَلِك لَا يَلِيق بالموضع الْأَمر الثَّانِي الْخَوْض فِي السُّلْطَان وَذَلِكَ بِأحد اسباب مهلكة

أَحدهَا ذكره بِسوء فِي نَفسه أَو فِيمَا هُوَ من سَببه أَن كَانَ حَقًا وَمن مُبَالغَة التحفظ فِي ذَلِك أَن يعلم مِنْك انك لَا تَأْخُذ فِي شَيْء من ذمه كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي طباعك إِلَّا مَعَ ثِقَة وَقَلِيل مَا هم الثَّانِي مُشَاهدَة المواطن الْمَذْكُور فِيهَا بِمَا يكره وَمن الْوَاجِب فِي ذَلِك أَن يبعد فِي الْهَرَب والبعد على الْمُشَاركَة طلبا للسلامة الثَّالِث مصاحبة الْمُتَّهم عِنْده باضمار الانحراف عَنهُ أَو يتَوَقَّع مصيره إِلَى ذَلِك خوف أَن يظنّ بِهِ مثل ذَلِك إِذْ الْمَرْء على دين خَلِيله الْخطر الثَّانِي الْمُفْسد وَذَلِكَ امران أَحدهَا وَهُوَ اشهدهما سبّ النَّاس والتعرض لَهُم فَإِنَّهُ جالب عدواتهم ومثير مطالبتهم بالمعارضة عَلَيْهَا قلت وَمن كَلَام مَالك رَحمَه الله ادركت اقواما كَانَت لَهُم عُيُوب فَسَكَتُوا عَن عُيُوب النَّاس فَسكت النَّاس عَن عيوبهم وادركت اقواما لم تكن لَهُم عُيُوب فتكلموا فِي النَّاس فأحدث النَّاس لَهُم عيوبا وَصِيَّة قَالُوا وَلَا تقارض عَلَيْهِ من واجهه بِهِ فالدنيا احقر والعمر اقصر من اشْتِغَال رفيع الهمة بعداوة من السب ارْفَعْ مِنْهُ بعداوة من واجهه بِمَا يكره قلت وَقد سبق فِي الْمُقدمَة الثَّامِنَة مَا قرر الْخطابِيّ فِي ذَلِك الثَّانِي كلمة سخيفة يسْقط بهَا قَائِلهَا وان لم يعد على أحد والسلامة مِنْهَا وَمن كل كَلَام ضار إِنَّمَا هُوَ بأمرين قِرَاءَة الاداب الدَّالَّة على فرق مَا

بَين الْكَلَام الغث والسمين وتعود ترك الْكَلَام إِلَّا بعد التروي فِيمَا يَلِيق أَن يتَكَلَّم بِهِ أَو يمسك عَنهُ فَائِدَة مِمَّا يستعان بِهِ على السَّلامَة من اللِّسَان طلبا للسلامة من النَّاس مُلَاحظَة امرين أَحدهمَا النجَاة من ملك مَا يتَكَلَّم بِهِ فَعَن الشَّافِعِي انه قَالَ للربيع من اصحابه يَا ربيع لَا تَتَكَلَّم فِيمَا لَا يَعْنِيك فَإنَّك إِذا تَكَلَّمت بالكلة مَلكتك وَلم تَملكهَا الثَّانِي ستر الْعُيُوب عَنْهُم بِالصَّمْتِ قَالَ النَّوَوِيّ بلغنَا أَن قس بن سَاعِدَة واكثم بن سَاعِدَة واكثم بن صَيْفِي اجْتمعَا فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه كم وجدت فِي ابْن آدم من الْعُيُوب قَالَ هِيَ اكثر من أَن تحصى وَالَّذِي احصيته ثَمَانِيَة الاف عيب وَوجدت خصْلَة وَاحِدَة أَن استعملها سترت الْعُيُوب كلهَا قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ حفظ اللِّسَان قلت وَفِي مَعْنَاهُ قَالَ ابْن الجزار (اياك من زلل اللِّسَان فَإِنَّمَا ... عقل الْفَتى من لَفظه المسموع) (فالمرء يختبر الاناء بنقره ... فَيرى الصَّحِيح بِهِ من المصدوع) الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي ملك الْحَواس واهمها العينان لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا اسْتِدْلَال النَّاس خَاصَّة وَعَامة على مُضْمر النَّاظر بهما كنظره إِلَى الْوُجُوه الحسان من ذكر أَو أُنْثَى وَلَو كالتفاتة لحظ

الثَّانِي وَهُوَ سَبَب عَن ذَلِك حكمهم عَلَيْهِ بِمَا كَانَ فِي غنى عَنهُ ومستورا فِيمَا ينطوي عَلَيْهِ جنانه قلت وَاقْتصر هُنَا على ملك هَذِه الحاسة دون اخواتها لَان غَرَض هَذِه السياسة إِنَّمَا هُوَ اصلاح الظَّاهِر فَقَط ومدركات بَاقِي الْحَواس لَا يكون بِحَضْرَة النَّاس فَلَا جرم لم تقع بِهِ عناية فِي الْموضع الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي صُورَة الانسان بَاطِنا وظاهرا وَالْمرَاد بذلك رِعَايَة امور أَحدهَا ملك قواه النفسانية فالغضبية عَن الحدة والحرج وَالْكبر وَجب الاستعلاء وَظُهُور الْحَسَد والعداوة والمضرة وَشبه ذَلِك والشهوانية عَن السَّبق والاستهتار واطلاق الْحَواس فِي الملاذ وترديد خسائس الشَّهَوَات على اللِّسَان وَنَحْو ذَلِك الثَّانِي تَحْسِين مُعَامَلَته بِالْعَدْلِ والانصاف وَترك اسْتِعْمَال الْخبث وفرط الدهاء إِلَّا لحَاجَة وَاجْتنَاب الْكَذِب والمرآء والجدال والمزاح المفرط وَنَحْو ذَلِك الثَّالِث ضبط حركاته عَمَّا يشين كالاشارة بِالْيَدِ أَو الرَّأْس أَو غير ذَلِك عِنْد الْكَلَام والعبث بنتف اللِّحْيَة وفتلها وتنقية الانف وَقتل مَا يخرج مِنْهُ بَين الاصابع وَشبه ذَلِك الرَّابِع توسطه فِي احوال نَفسه وبدنه بَين طرفِي الافراط والتفريط باتيان الاقتصاد والميل إِلَى التستر وكتم سره والترسل فِي الْكَلَام باعتدال وَاجْتنَاب الحشو فِيهِ كسمعت وَنَحْو ذَلِك من الْكَلِمَات الْمعينَة والهذي فِي الحركات وَالْوَقار والتؤدة واتقاء مَوَاضِع الريب وتقليل الْكَلَام وَتَقْدِيره فِي كل

مقَام بِمَا يَلِيق بِهِ واعتدال حَرَكَة الْعين والجوارح بَين الحدة والخمود وَنَحْو ذَلِك الْخَامِس تَزْيِين ظَاهره بِمَا يدل على المرؤة وَشرف النَّفس كنظافة الْجِسْم والاطراف والفم وقص الشَّارِب وَالظفر وَشبه ذَلِك الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة فِي احواله الْخَارِجَة عَنهُ وَالْمَذْكُور من ذَلِك سيرة اللبَاس والاولى مِنْهُ فِي اعْتِدَال التحسين لَهُ مَا جمع امور أَحدهَا تَخْصِيص الدرجَة بِهِ أَو ترفيع الْقدر خُصُوصا أَن ترفع بِنَفسِهِ أَو كَانَ فِي دَار غربَة فَإِن الْغَرِيب ابْن ثَوْبه الثَّانِي عدم اخلاله بمقدرة مَا لَهُ لَيْلًا يعاب من حَيْثُ قصد الْجمال فِي اعين النَّاس وتوهم السَّلامَة مِنْهُم وَالثَّالِث توسطه فِي مرتبَة مثله وجريه على مُعْتَاد الزَّمَان وَالْمَكَان فَإِن الْخُرُوج عَن المألوف منفر وَأَيْضًا من شَأْن الْعَامَّة أَن لَا تفضل من الموجودات إِلَّا الْأَجْسَام الدُّنْيَوِيَّة والسائس يترفع فيهم بِمَا هُوَ رفيع عِنْدهم عَظِيم الْمحل فِي اعينهم فيفوز مِنْهُم بالكرامة وَقَضَاء الْحَوَائِج مَعَ السَّلامَة مِنْهُم إِذْ الضَّرُورَة دافعته اليهم قلت وَمن المنظوم فِي الحض على استجادة الثِّيَاب فِي الْجُمْلَة قَوْله

(اجد الثِّيَاب إِذا اكتسيت فَإِنَّهَا ... زين الرِّجَال بهَا تهاب وتكرم) (ودع التَّوَاضُع فِي اللبَاس تحريا ... فَالله يعلم مَا تكن وتكتم) (فدنى ثَوْبك لَا يزيدك زلفة ... عِنْد الْإِلَه وانت عبد مجرم) (وبهاء ثَوْبك لَا يَضرك بعد أَن ... تخشى الْإِلَه وتتقي مَا يحرم) جَامع بَيَان قَالُوا وقطب هَذَا الْمدَار معوله مِنْك النَّفس واعتياد التروي فِي الْأَقْوَال والافعال فَمَا وَجب اطلاقه أَو صرفه عمل عَلَيْهِ وقانون ذَلِك اطلاق الحركات لمَنْفَعَة أَو رَاحَة لَا تعقب الما أَو تستلزمه فاللذة راجحة عَلَيْهِ قلت وعَلى شَرط مُوَافقَة الشَّرْع بِبَرَاءَة الذِّمَّة من تَبعته الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي الاخوان وَالصديق مِنْهُم بِاعْتِبَار مَا لاجله الصداقة ثَلَاثَة صديق التَّعْلِيم والراحة وَالْمَنْفَعَة الصّديق الأول صديق التَّعْلِيم وَشَرطه جودة الْفَهم معلما أَو مرافقا أَو متعلما والسلامة من الْحَسَد وَحب الْغَلَبَة وخبث الطباع والغدر والتلون والملق قلت وَقد مر فِي رَوْضَة الاعلام من آدَاب هَذِه الصداقة مَا فِيهِ بَلَاغ واطناب بَيَان الصّديق الثَّانِي صديق الرَّاحَة وَيَنْبَغِي فِيهِ الظّرْف وخفة الرّوح وسلامة الْجِهَة وكتم الاسرار والمحبة ولبراءة من الْحَسَد والمساعدة وَحسن الْخلق

قلت وَيجب على المتدين تَقْيِيد الرَّاحَة وطريقها بِمُقْتَضى مَا تبيحه الشَّرِيعَة وتطلقه وَلَا اعْتِبَار هُنَا بِكَلَام من لَا يَنْضَبِط بدي فليحذر مِنْهُ وَنحن نستعيذ بِاللَّه تَعَالَى أَن نزيد ذَلِك بتصريح أَو تلويح الصّديق الثَّالِث صديق الْمَنْفَعَة وَيطْلب فِيهِ الْأَمَانَة والنصيحة وَالِاجْتِهَاد والمعرفة بالمنتفع بِهِ فِيهِ وَلَا احْتِيَاج إِلَى مَا وَرَاء ذَلِك مَتى احرزه وَجمعه قلت وَتقدم أَن الخديم المستكفي بِهِ مَعَ الوثوق بغنائه كالمفقود وان المستكفي وان كَانَ غير مَأْمُون ارجح من عَكسه تَعْمِيم الْقدر الْمُحْتَاج اليه فِي الْجَمِيع اطراح الْحَسَد والخبث والعداوة وَسُوء النِّيَّة وَالظَّن وَحب الاضرار وَالْغَلَبَة والغبن والمكالبة والاستنقاص وأصل ذَلِك كُله خبث لانفس واخفها سوء الظَّن والجميع لَهَا سم قَاتل لَا تفي بِهِ الصداقة بالعداوة وَلَا الْمَنْفَعَة بالمضرة تَخْصِيص وَقع للخطابي فِيمَا يرجع لمعاني الصداقة الأولى تحذير بَالغ من الاغترار فِيهَا بِصُحْبَة شرار المتعلمين ولخصه الغزال بِمَا نَصه دع الراغبين فِي صحبتك والتعليم مِنْك فَلَيْسَ لَك مِنْهُم مَال وَلَا جمال اخوان الْعَلَانِيَة اعداء السريرة إِذا لقوك تملقوك وَإِذا غبت عَنْهُم سفهوك وَمن اتاك مِنْهُم كَانَ عَلَيْك رقيبا وَإِذا

خرج عَلَيْك كَانَ خَطِيبًا أهل نفاق ونميمية وغل وخديعة وَلَا تغتر بإجتماعهم عَلَيْك فَمَا غرضهم الْعلم بل المَال والجاه أَن يتخذوك سلما إِلَى اوطارهم وَحِمَارًا فِي حوائجهم وان قصرت فِي غَرَض من اغراضهم كَانُوا اشد اعدائك ثمَّ يعدون ترددهم اليك دَالَّة عَلَيْك ويرونه حَقًا وَاجِبا لديك ويفرضون عَلَيْك أَن تبذل عرضك وجاهك وَدينك لَهُم فتعادي عدوهم وَتَنصر قريبهم وخادمهم ووليهم وتنتهض لَهُم سَفِيها وَقد كنت فَقِيها وَتَكون لَهُم تَابعا خسيسا بعد أَن كنت متبوعا رَئِيسا وَلذَلِك قيل اعتزال الْعَامَّة مرؤة تَامَّة قَالَ الْغَزالِيّ وَصدق فَإنَّك ترى المدرسين فِي رق دَائِم وَتَحْت حق لَازم مِمَّن تردد إِلَيْهِم كَأَنَّهُ يرى حَقه وَاجِبا عَلَيْهِم ثمَّ مضى فِي تَقْرِير ذَلِك بِمَا فِيهِ بَلَاغ فَرَاجعه من هُنَاكَ ارشاد الْمُسْتَعْمل مَعَ الاخوان عملان تفصيلي واجمالي الْعَمَل التفصيلي بِحَسب طَبَقَات الصداقة فَمَعَ صديق التَّعْلِيم اسْتِعْمَال حركات س حَرَكَة الْمعلم ج // س المعلمين من غير انبساط وَلَا ميل كثير عَمَّا يلم بِهِ من ذَلِك أَن

سلمت طباعه وان كَانَ ساذجا سلك سَبيله فِي وقاره وَملك نَفسه عَن سَائِر قوى النَّفس وَمَعَ صديق الرَّاحَة اسْتِعْمَال مَا لَا يُبَالِي بِهِ أَن نقل عَنْك وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا مَعَ التحفظ ومزجه بحركات الشَّرْع قلت وعَلى شطر مَا تقدم من التَّقْيِيد بِمُقْتَضى الشَّرْع واذ ذَاك يكون المزح بِهِ حَقِيقَة لَا لمُجَرّد التَّحَرُّز خَاصَّة وَمَعَ صديق الْمَنْفَعَة اسْتِعْمَال صُورَة الْوَقار مَعَه مَعَ اطراح قوى النَّفس ومشاركته مَا يُشَارك فِيهِ من غير مزِيد عَلَيْهِ الْعَمَل الثَّانِي الاجمالي بإعتبار الْجَمِيع وَذَلِكَ تَحْسِين النِّيَّة فِي الْمُعَامَلَة وتوسط الظَّن وَالْمَنْفَعَة بِمِقْدَار التَّوَسُّع وَالْوَفَاء واللقاء بِالْبرِّ والبشاشة وَقَضَاء الحومائج وَحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ فِي الْغَيْب وَالشَّهَادَة ومشاهدة فَرَحهمْ وَلُزُوم التَّوَسُّط فِي النَّفَقَة مَعَ الْكَرم والبراءة من التملق بذلك وَاجْتنَاب الْكبر وَالْكذب والترأس واظهار انه افضل وافهم وَاعْلَم وَالسُّكُوت عَن عيب هُوَ فِيهِ فَلَا يذكرهُ لَهُ وَلَا لغيره وَاحْتِمَال سَائِر الْعُيُوب مَتى صفي مِنْهُ الْأَكْثَر وتمهيد يذكرهُ لَهُ وَلَا لغيره وَالِاحْتِمَال خُصُوصا مَتى كَانَت عوارض زائلة وَالِاعْتِبَار بهَا عَمَّا لَا يرضاه مِنْك أَو سيقبلها أَن صحت الصداقة

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي المعارف وهم صنفان أَحدهمَا المطبوع على غائلة الشَّرّ وخبث النَّفس وفسادها وعلاجه مداراته بِالسَّلَامِ والبعد من خلطته ومعاملته بالوقار والسكون مَتى تسور عَلَيْهَا حَتَّى يثقل عَلَيْهِ وَالثنَاء عَلَيْهِ بالجميل والتحيل فِي عدم لِقَائِه حَتَّى ينساك ويشتغل بغيرك الثَّانِي سَائِر من لَا يَنْتَهِي إِلَى ذَلِك ومعاملتهم بِالسَّلَامِ عَلَيْهِم وَالسُّؤَال عَن حَالهم والبشاشة عِنْد اللِّقَاء وَترك الانبساط وَالْكَلَام مَعَهم وتقليل خلطهم إِلَّا بعد التجربة الطَّوِيلَة أحد الْمَقَاصِد الْمُتَقَدّمَة تَكْمِلَة بَيَان ذكر الْغَزالِيّ فِي تَقْرِير هَذَا الْبَاب جملتين لكثير من آدَاب الْمَعيشَة والمعاشرة نذكرها تَمامًا لهَذَا الْغَرَض الْجُمْلَة الأولى قَالَ وَهِي الجامعة أَن لَا تصغر مِنْهُم احدا حَيا أَو مَيتا فتهلك إِذْ لَا تَدْرِي لَعَلَّه خير مِنْك للختم لَهُ بالصلاح وان كَانَ فَاسِقًا وَلَا تنظر إِلَيْهِم بالتعظيم لَهُم فِي حَال دنياهم فَإِن الدُّنْيَا صَغِيرَة عِنْد الله تَعَالَى صَغِير مَا فِيهَا وَمهما عظم أهل الدُّنْيَا فِي نَفسك فقد عظمت الدُّنْيَا فَتسقط عِنْد الله تَعَالَى وَلَا تبذل لَهُم دينك لتنال من دنياهم فتصغر فِي اعينهم ثمَّ تحرم دنياهم فَإِن لم تحرم كنت قد استبدلت الَّذِي هُوَ ادنى بِالَّذِي هُوَ خير وَلَا تعاديهم

بِحَيْثُ تظهر العداولة فَيطول الْأَمر عَلَيْك فِي المعاداة وَيذْهب دينك ودنياك فيهم وَيذْهب دينهم فِيك إِلَّا إِذا رَأَيْت مُنْكرا فِي الدّين فتعادي افعالهم القبيحة وَتنظر إِلَيْهِم بِعَين الرَّحْمَة لتعرضهم لمقت الله تَعَالَى وعقوبته بعصيانهم فحسبهم جَهَنَّم يصلونها فَإنَّك تحقد عَلَيْهِم وَلَا تستكن إِلَيْهِم فِي مودته لَك وثنائهم عَلَيْك فِي وَجهك وَحسن بشرهم لَك فَإنَّك أَن طلبت حَقِيقَة ذَلِك لم تَجِد فِي الْمِائَة إِلَّا وماحدا وَرُبمَا لم تَجدهُ وَلَا تشك إِلَيْهِم احوالك فيكللك الله إِلَيْهِم وَلَا تطمع أَن يَكُونُوا لَك فِي الْغَيْب والسر كَمَا فِي الْعَلَانِيَة فَذَلِك طمع كَاذِب وأنى تظفر بِهِ وَلَا تطمع بِمَا فِي ايديهم فتستعجل الذل وَلَا تنَال الْغَرَض وَلَا تعل عَلَيْهِم تكبرا لاستغنائك عَنْهُم فَإِن الله تَعَالَى يلجئك إِلَيْهِم عُقُوبَة على التكبر بِإِظْهَار الِاسْتِغْنَاء وَإِذا سَأَلت اخاص مِنْهُم حَاجَة فقضاها فَهُوَ أَخ مُسْتَفَاد فَإِن لم يقضها فَلَا تعاتبه فَيصير عدوا تطول عَلَيْك مقاساته وَلَا تشتغل بوعظ من لَا ترى فِيهِ مخائل الْقبُول فَلَا يسمع مِنْك ويعاديك وَليكن وعظك عرضا وارسالا من غير تنصيص على الشَّخْص وَمهما رَأَيْت مِنْهُم كَرَامَة فاشكر الله تَعَالَى الَّذِي سخرهم لَك واستعذ بِاللَّه أَن يكلك إِلَيْهِم وان بلغك مِنْهُم غيبَة وَرَأَيْت مِنْهُم شرا أَو اصابك مِنْهُم مَا يسوءك فَكل أَمرهم إِلَى الله تَعَالَى واستعذ بِاللَّه من شرهم وَلَا تشغل نَفسك بالمكافأة فيزيد الضَّرَر بِعَمَلِهِ ويضيع الْعُمر بشغله وَلَا تقل لَهُم لم تعرفوا حَقي أَو موضعي واعتقد انك لَو استحققت ذَلِك لجعل الله تَعَالَى لَك موضعا فِي قروبهم فَالله تَعَالَى هُوَ المحبب والمبغض إِلَى الْقُلُوب وَكن فيهم سميعا لحقهم اصم عَن باطلهم نطوقا بحقهم صموتا عَن باطلهم وَاحْذَرْ صُحْبَة اكثر النَّاس فَإِنَّهُم لَا يقيلون عَثْرَة وَلَا يغفرون زلَّة وَلَا يسترون عَورَة ويحاسبون على

النقير والقطمير ويحسدون على الْقَلِيل وَالْكثير ينتصفون وَلَا ينصفون وَيَأْخُذُونَ على الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَلَا يعفون يعيرون الاخوان بالنميمية والبهتان فصحبة أَكْثَرهم خسران وقطيعتهم رُجْحَان أَن رَضوا فظاهرهم الملق ومان سخطوا فباطنهم الحنق لَا يُؤمنُونَ فِي حنقهم أَو لَا يرحمون فِي قلقهم ظَاهِرهمْ ثِيَاب وَبَاطِنهمْ ذياب يقطعون بالظنون ويتغامزون بالعيون ويتربصون بصديقهم ريب الْمنون يُحصونَ عَلَيْك العثرات فِي صحبتهم ليواجهونه بهَا فِي غضبهم وَلَا تعول على مَوَدَّة من لم تختبره كل الْخِبْرَة فَإِن صحبته مُدَّة فِي دَار أَو مَوضِع فتجربه فِي عَزله وولايته وغناه وَفَقره أَو تُسَافِر مَعَه أَو تعامله فِي الدِّينَار وَالدِّرْهَم أَو تقع فِي شدَّة فتحتاج إِلَيْهِ فَإِن رضيته فِي هَذِه الْأَحْوَال فتخذه أَبَا لَك أَن كَانَ كَبِيرا أَو ابْنا لَك أَن كَانَ صَغِيرا أَو أَخا لَك أَن كَانَ مثيلا الْجُمْلَة الثَّانِيَة قَالَ وَهِي مِمَّا حفظ من كَلَام بعض الْحُكَمَاء قَالَ أَن اردت حسن الْمَعيشَة والمجالسة فالق صديقك وعدوك بالرضى من غير ذَلِك لَهُم وَلَا هَيْبَة مِنْهُم وتوقر فِي غير كبر وتواضع فِي غير ذلة وَكن فِي جَمِيع امورك فِي اوسطها فكلا طرفِي قصد الْأُمُور ذميم وَلَا تنظر فِي عقبك وَلَا تكْثر الِالْتِفَات وَلَا تقف على الْجَمَاعَات وَإِذا جَلَست فَلَا تستوفز وَتحفظ عَن شبيك اصابعك والعبث بلحيتك وتخليل اسنانك

وادخال اصبعك فِي انْفَكَّ وَكَثْرَة بصاقك وتنحمك وطرد الذُّبَاب عَن وَجهك وَكَثْرَة التمطي والتثاوب ف يوجوه النَّاس وَفِي الصَّلَاة وَغَيرهَا وَليكن مجلسك هاديا وحديثك منظوما مُرَتبا واصغ إِلَى الْكَلَام الْحسن مِمَّن حَدثَك من غير اظهار عجب مفرط وَلَا تسأله اعادته واسكت عَن المضاحك فِي الحكايات وَلَا تحدث عَن عجائب ولدك أَو جاريتك أَو شعرك أَو صنيفك سَائِر مَا يخصك وَلَا تتصنع تصنع الْمَرْأَة فِي التزين وَلَا تتبذل تبذل العَبْد وتوق كَثْرَة الْكحل والاسلاف فِي الدّهن وَلَا تلح فِي الْحَاجَات وَلَا تشجع احدا على الظُّلم وَلَا تعلم اهلك وولدك فضلا عَن غَيرهم مِقْدَار مَالك فَإِنَّهُم أَن رَأَوْهُ قَلِيلا هنت عَلَيْهِم وان كَانَ كثيرا لم تبلغ قطّ رضاهم واخفهم من غير عنف وَلنْ لَهُم من غير ضعف وَلَا تهازل عَبدك وَلَا امتك فَيسْقط وقارك وَإِذا خَاصَمت فتوقر وَتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر فِي حجتك وَلَا تكْثر الاشارة بِيَدِك وَلَا تكْثر الِالْتِفَات لمن وَرَاءَك وَلَا تجث على ركبتيك وَإِذا هدأ غضبك فَتكلم وَإِذا قربك السُّلْطَان فَكُن مِنْهُ على مثل حد السنان وان استرسل اليك فَلَا تأمن انقلابه عَلَيْك وارفق بِهِ رفقك بِالصَّبِيِّ وَكَلمه بِمَا يشتهيه وَلَا يحملك لطفه بك أَن تدخل بَينه وَبَين اهله وَولده وحشمه وان كنت لذَلِك مُسْتَحقّا عِنْده فَإِن سقطة الدَّاخِل بَين الْملك واهله سقطة لَا تنعش وزلة لَا تقال واياك وصديق الْعَافِيَة فَإِنَّهُ أعدى الاعداء وَلَا تجْعَل مَالك اكرم

من عرضك وَإِذا دخلت مَجْلِسا فالادب فِيهِ الْبِدَايَة بِالتَّسْلِيمِ وَترك التخطي لمن سبق وَالْجُلُوس حَيْثُ اتَّسع وَحَيْثُ تكون اقْربْ إِلَى التَّوَاضُع أَن تحيي بِالسَّلَامِ من قرب مِنْك عِنْد الْجُلُوس وَلَا تجْلِس عِنْد الطَّرِيق فَإِن جَلَست فأدبه غض الطّرف وَنصر الْمَظْلُوم واغاثة الملهوف وَعون الضَّعِيف وارشاد الضال ورد السَّلَام واعطاء السَّائِل وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والارتياد لموْضِع البصاق فَلَا تبصقن فِي جِهَة الْقبْلَة وَلَا عَن يَمِينك وَلَكِن عَن يسارك أَو تَحت قدمك الْيُسْرَى وَلَا تجَالس الْمُلُوك فَإِن فعلت فأدبه ترك الْغَيْبَة ومجانبة الْكَذِب وصيانة السِّرّ وَقلة الْحَوَائِج وتهذيب الالفاظ والاعراب فِي الْخطاب والمذاكرة بأخلاق الْمُلُوك وَقلة المداعبة وَكَثْرَة الحذر مِنْهُم وان ظَهرت الْمَوَدَّة وَلَا تتجشأ بمحضره وَلَا تتخلل بعد الاكل عِنْده وعَلى الْملك أَن يحْتَمل كل شَيْء إِلَّا افشاء السِّرّ والقدح فِي الْملك والتعرض للحرم وَلَا تجَالس الْعَامَّة فَإِن فعلت فأدبه ترك الْخَوْض فِي حَدِيثهمْ وَترك الاصغاء إِلَى اراجيفهم والتغافل عَمَّا يجْرِي من سوء الفاظهم وَقلة اللِّقَاء لَهُم مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِم واياك أَن تمازح لبيبا أَو غير لَبِيب فَإِن اللبيب يحقد عَلَيْك وَالسَّفِيه يتجرأ عَلَيْك لِأَن المزح يخرق الهيبة وَيسْقط مَاء الْوَجْه وَيذْهب بحلاوة الود ويشين فقه الْفَقِيه ويجريء السَّفِيه وَيسْقط الْمنزلَة عِنْد الحكم وتمقته النُّفُوس وَيُمِيت الْقلب ويباعد عَن الرب تَعَالَى ويكسب الْغَفْلَة وَيُورث الذلة وَبِه تظلم السرائر وَتَمُوت الخواطر وَبِه تكْثر الْعُيُوب وَتبين الذُّنُوب وَقد قيل لَا يكون المزاح إِلَّا من سخف أَو بطر وَمن بلَى فِي مجْلِس بمزاح أَو لغط فليذكر الله تَعَالَى عِنْد قِيَامه ثمَّ ذكر حَدِيث كَفَّارَة الْمجْلس

مسكة الختام

مسكة الختام تقدم أَن احدا لم يلغ فِي كَمَال الِاعْتِدَال فِي اصول الاخلاق وفروعها مبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمُقْتَضى ذَلِك مَعَ طلب الِاقْتِدَاء بِهِ أَن سيرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سياسة الدّين وَالدُّنْيَا هِيَ السِّيرَة الجامعة لمحاسن الشيم وَمَكَارِم الاخلاق وَقبل الْخَتْم بتلخيص ذَلِك تبركا فَهُنَا مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَة الأولى فِي فَوَائِد الْوُقُوف عَلَيْهِ وَهِي جملَة الْفَائِدَة الأولى دلَالَته على صدق نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن بعد الْعلم بِجَوَاز النُّبُوَّة فِي الْجُمْلَة على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن التلمساني وان كَانَ الجاحظ اعتبرها على الاطلاق وَتَبعهُ الْغَزالِيّ فِي المنقذ من الضلاة والامام فَخر الدّين فِي المعالم وملخصها من تَقْرِير الْغَزالِيّ أَن من شَاهد احواله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو بلغه مستفيض خَبَرهَا الْمُشْتَمل على اخلاقه واقوال وافعاله وسياسته لاصناف الْخلق بالهداية والتآلف والانقياد مُنْضَمًّا إِلَى مَا خص بِهِ من عجائب الاجوبة فِي مضائق الاسئلة وترافع التَّدْبِير ومحاسن الاشارة لتفاصيل الْأَحْكَام الَّتِي يعجز نحارير الْفُقَهَاء عَن ادراك اوائلها لم يبْق لَهُ ريب فِي أَن ذَلِك لَا قدرَة للبشر على اكتسابه بحيلة وانما يتَصَوَّر بتأييد سماوي وَقُوَّة الهية لَا سِيمَا وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امي لم يقْرَأ كتابا وَلم تلمذ لاستاذ وَلَا رَحل فِي طلب الْعلم واذ ذَاك فَهُوَ قَاطع بصدقه وبصحة مَا أَتَى بِهِ وَمن ثمَّ كَانَ الْعَرَبِيّ القح يَقُول عِنْد رُؤْيَته ص وَمَا هَذَا وَجه كَذَّاب

الْفَائِدَة الثَّانِيَة شَهَادَته بإنه اكرم الْخلق على الله تَعَالَى وارفعهم لَدَيْهِ مقَاما وَتَقْرِيره على طَريقَة الْأَمَام الْفَخر انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلغ لهَذَا الْكَمَال الْعَظِيم فِي انْتِفَاع الْخلق بِهِ فِي الدعْوَة إِلَى التَّوْحِيد اولا والحث على مَكَارِم الاخلاق ثَانِيًا مبلغا لم يبلغهُ أحد من اكابر الْأَنْبِيَاء وَالرسل لانه عِنْد ظُهُوره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلب الدُّنْيَا من الْبَاطِل إِلَى الْحق وَمن الظلمَة إِلَى النُّور فِي اكثر بِلَاد الْمَعْمُور حَتَّى اطلق الالسنة بِالتَّوْحِيدِ وطهر النُّفُوس من خبائث الاخلاق وَرجع الْخلق من حب الدُّنْيَا إِلَى حب الْمولى بِحَسب الْإِمْكَان وَعند ذَلِك فَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اكرم الْخلق على الله تَعَالَى وافضل رَسُول بَعثه قَالَ ابْن التلمساني لَا شكّ فِي فَضله من هَذَا الْوَجْه مَعَ مَاله من الْفَضَائِل الْفَائِدَة الثَّالِثَة اقتضاؤه بِهَذِهِ الدّلَالَة وَالشَّهَادَة اقْتِدَاء الْخلق بِهِ فِي سياسة الدّين وَالدُّنْيَا لامرين أَحدهمَا وُرُود الْأَمر بذلك كتابا وَسنة بقوله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ} الاية قَالَ عِيَاض عَن التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم الاسوة فِي الرَّسُول الِاقْتِدَاء بِهِ والاتباع لسنته وَترك مُخَالفَته فِي قَول أَو فعل وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن احسن الحَدِيث كتاب الله وَخير الْهدى هدى مُحَمَّد وَشر الْأُمُور محدثاتها

الثَّانِي حصر السَّعَادَة فِي مُتَابَعَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَّا فِي الدّين فَظَاهر واما فِي الدُّنْيَا فَلَمَّا تقرر وَقد تقدم أَن مصالحها إِنَّمَا تعْتَبر برعاية الشَّرْع لَهَا تحصيلا وجلبا وَمن ثمَّ اعْرِض الموفقون عَن اعْتِبَار سياسة الدُّنْيَا بِمَا يفهم مِنْهُ الاستبداد بِهِ لآراء الفلاسفة حِكَايَة قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ كَانَ الْبَاجِيّ ينْتَظر يَوْمًا اذن احْمَد بن هود فجالسه ابْنه الملقب بالمؤتمن وَكَانَ يفلسف وجاذبه ذيل الحَدِيث فَقَالَ لَهُ هَل قَرَأت ادب النَّفس لافلاطون فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا قَرَأت أدب النَّفس لمُحَمد بن عبد الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وعني بذلك مَا تضمنته الشَّرِيعَة من قُرْآن وَسنة فِي هِدَايَة الْبشر وايضاح السّنَن الْفَائِدَة الرَّابِعَة اعلامه بِأَن أدب هَذَا الِاقْتِدَاء فِي الظَّاهِر عنوان مثله فِي الْبَاطِن لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن سرائر الْقُلُوب منابع الاعمال ومغارس بذرها فَمَتَى عذب موردها واينع روضها دلّ على أَن الْقلب صَالح السريرة لَا محَالة الثَّانِي أَن انوار السرائر إِذا اشرقت على الظَّوَاهِر زينتها بدلت مساويها محَاسِن

قَالَ الْغَزالِيّ وَمن لم يكن صَدره مشكاة الانوار الإلهية لم يفض على ظَاهره جمال الاداب النَّبَوِيَّة انْتهى الْفَائِدَة الْخَامِسَة احالته فِي هَذَا الِاقْتِدَاء على الْقُرْآن الَّذِي كَانَ خلقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاصل تهذيبه وتكميله قَالَ الْغَزالِيّ وَمِنْه يشرق النُّور على كَافَّة الْخلق قلت وَعند ذَلِك فَمن اقْتدى بِغَيْرِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضل وَمن استضاء بسواه بَقِي فِي الْعَمى وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي سِيَاق مَا يدل من الْأَخْبَار على فَضله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ الاشارة إِلَى جمل من اوصافه الظَّاهِرَة واخلاقه الْبَاطِنَة الشَّاهِد ذَلِك كُله بِاسْتِحْقَاق ذَلِك الْفضل الْعَظِيم وَالْمَذْكُور من ذَلِك خبران الْخَبَر الأول يرْوى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ سمع بعد وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول وَهُوَ يبكي بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد كَانَ لَك جذع تخْطب النَّاس عَلَيْهِ فَمَا كثر النَّاس اتَّخذت منبرا لتسمعهم فحن الْجذع لفراقك حَتَّى جعلت يدك عَلَيْهِ فسكن فأمتك اولى بالحنين عَلَيْك حِين فَارَقْتهمْ بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد بلغ من فضلك عِنْد رَبك أَن جعل طَاعَتك طَاعَته فَقَالَ من يطع الرَّسُول فقد اطاع الله بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد بلغ من فضيلتك عِنْد أَن اخبرك بِالْعَفو

عَنْك قبل أَن يُخْبِرك بذنبك فَقَالَ عَفا الله عَنْك لم اذنت لَهُم بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد بلغ من فضيلتك عِنْده أَن بَعثك آخر الْأَنْبِيَاء وذكرك فِي اولهم فَقَالَ تَعَالَى وَإِذا اخذنا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وابراهيم ومُوسَى وَعِيسَى بن مَرْيَم لقد بلغ من فضيلتك عِنْده أَن أهل النَّار يودون لَو يَكُونُوا اطاعوك وهم بَين اطباقها يُعَذبُونَ {يَقُولُونَ يَا ليتنا أَطعْنَا الله وأطعنا الرَّسُول} بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لَئِن كَانَ مُوسَى بن عمرَان اعطاه الله حجرا يتفجر مِنْهُ الانهار فَمَا ذَاك بِأَعْجَب من اصابعك حِين نبع مِنْهَا المَاء صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لَئِن كَانَ سُلَيْمَان بن دَاوُود اعطاه الله الرحي غدوها شهر ورواحها شهر فَمَا ذَاك بِأَعْجَب من الْبَراء حِين سرت عَلَيْهِ إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة ثمَّ صليت الصُّبْح من ليلتك بالابطح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لَئِن كَانَ عِيسَى بن مَرْيَم اعطاه الله احياء الْمَوْتَى فَمَا ذَاك بِأَعْجَب من الشَّاة المسمومة حِين كلمتك وَهِي مَسْمُومَة فَقَالَت لَا تأكلني فَإِن مَسْمُومَة بِأبي أَنْت أُمِّي يَا رَسُول الله لقد دَعَا نوح على قومه فَقَالَ رَبِّي لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا وَلَو دعون علينا مثلهَا لهلكنا عَن آخِرنَا فَلَقَد وطأ ظهرك وادمى وَجهك وَكسرت رباعيتك فأبيت أَن تَقول إِلَّا خيرا فَقلت اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله لقد ابتعك فِي قلَّة سنيك وَقصر عمرك مَا لم يتبع نوحًا فِي كَثْرَة سنه وَطول عمره فَلَقَد آمن بك الْكثير وَمَا آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل بِأبي أَنْت وَأمي يَا

رَسُول الله لَو لم تجَالس الاكفؤا مَا جالستنا وَلَو لم تنْكح الاكفؤا مَا انكحت إِلَيْنَا وَلَو لم تؤاكل إِلَّا كُفؤًا مَا واكلتنا لبست الصَّيف وَركبت الْحمار وَوضعت طَعَامك على الأَرْض ولعقت اصابعك تواضعا مِنْك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الرشاطي قد جمع هَذَا الْخَبَر كثيرا من آيَاته ومعجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَسْلِيمًا الْخَبَر الثَّانِي روى عَن ابْن أبي هَالة التَّمِيمِي عَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَأَلت خَالِي هِنْد بن أبي هَالة وَكَانَ وصافا عَن حلية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا اشتهي أَن يصف لي مِنْهَا شَيْئا اتعلق بِهِ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فخما مفخما يتلألأ وَجهه تلألؤ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر اطول من المربوع واقصر من المذب عَظِيم الهامة رجل الشّعْر أَن انفرقت عقيقته فرقها وَألا فَلَا يُجَاوز شعره شحمة اذنيه إِذا هُوَ وفره ازهر اللَّوْن وَاسع الجبين ازج الحواجب سوابغ فِي غير قرن بَينهمَا عرق يدره الْغَضَب اقنى الْعرنِين لَهُ نور يعلوه يحسبه من

لم يتأمله اشم كث اللِّحْيَة سهل الْخَدين ضليع الْفَم مُفْلِح مشذب الاسنان دَقِيق المسربة كَأَن عُنُقه جيد دمية فِي صفاء الْفضة معتدل الْخلق بادن متماسك سَوَاء الْبَطن عريض الصَّدْر بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ ضخم الكراديس انور المتجرد مَوْصُول مَا بَين اللبة والسرة بِشعر يجْرِي كالخط عَار يالثديين والبطن مَا سوى ذَلِك اشعر الذراعين والمنكبين واعال يالصدر طَوِيل الزندين رحب الرَّاحَة شتن الْكَفَّيْنِ والقدمين شائل الاطراف خمصان الاخمصين مسبج الْقَدَمَيْنِ ينبو عَنْهُمَا المَاء إِذا زَالَ زَالَ قلعا يخطو تكفيا وَيَمْشي هونا ذريع المشية إِذا مَشى كَأَنَّمَا ينحط من صبب وَإِذا الْتفت الْتفت جَمِيعًا خافض الطّرف نظره إِلَى الأَرْض اطول من نظره إِلَى السَّمَاء جلّ نظره الملاحظة يَسُوق اصحابه ويبدر من لقِيه بِالسَّلَامِ قَالَ قلت صف لي مَنْطِقه قَالَ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متواصل الاحزان دَائِم الْفِكر لَيست لَهُ رَاحَة طَوِيل السُّكُوت يفْتَتح الْكَلَام ويختمه باشراقة وَيتَكَلَّم بجوامع الْكَلم فصل لَا فضول وَلَا تَقْصِير دمث لَيْسَ بالجافي وَلَا المهين يعظم النِّعْمَة وان قلت لَا يذم مِنْهَا شَيْئا لَا يذيم ذواقا وَلَا يمدحه وَلَا تغضبه الدُّنْيَا وَمَا كَانَ لَهَا فَإِذا تعدى الْحق لم يعرفهُ أحد وَلم يقم لغضبه شَيْء حَتَّى ينتصر لَهُ وَلَا يغْضب لنَفسِهِ وَلَا ينتصر لَهَا

إِذا أَشَارَ أَشَارَ بكفه كلهَا وَإِذا تعجب قَلبهَا وَإِذا تحدث اتَّصل بهَا فَضرب براحته الْيُمْنَى بطن ابهامه الْيُسْرَى وَإِذا غضب اعْرِض واشاح وَإِذا فَرح غض طرفه جلّ ضحكة التبسم ويفتر عَن مثل حب الْغَمَام قَالَ فكتمتها عَن الْحسن زَمَانا ثمَّ حدثته فوجته قد سبقني إِلَيْهِ فَسَأَلَ عَمَّا سَأَلت عَنهُ وَوَجَدته قد سَأَلَ اباه عَن مدخله ومخرجه ومجلسه وشكله فَلم يدع مِنْهُ شَيْئا قَالَ الْحسن سَأَلت أبي رَحمَه الله تَعَالَى عَن دُخُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَانَ دُخُوله لنَفسِهِ مَأْذُونا لَهُ فِي ذَلِك فَكَانَ إِذا آوى إِلَى منزله جزأ دُخُوله ثَلَاثَة اجزاء جزأ لله تَعَالَى وجزأ لأَهله ثمَّ جُزْء بَينه وَبَين النَّاس فَيرد ذَلِك على الْعَامَّة والخاصة وَلَا يُؤَخر عَنْهُم شَيْئا أَو قَالَ يدّخر فَكَانَ من سيرته فِي جُزْء الْأمة ايثار أهل الْفضل بِإِذْنِهِ وقسمه على قدر فَضلهمْ فِي الدّين فَمنهمْ ذُو الْحَاجة مِنْهُم ذُو الحاجتين وَمِنْهُم ذُو الْحَوَائِج فيتشاغل بهم ويشغلهم فِيمَا يصلحهم والامة من مسألتهم عَنهُ واخبارهم بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُم وَيَقُول ليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب وابلغوني حَاجَة من لَا يَسْتَطِيع ابلاغها فَإِنَّهُ من ابلغ سُلْطَانا حَاجَة من لَا يَسْتَطِيع ابلاغها ثَبت الله قَدَمَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة لَا يذكر عِنْده إِلَّا ذَلِك وَلَا يقبل من أحد غَيره يدْخلُونَ رَوَّادًا وَلَا يتفرقون إِلَّا عَن ذواق وَيخرجُونَ أَدِلَّة

قَالَ فَسَأَلته عَن مخرجه كَيفَ كَانَ يصنع فِيهِ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخزن لِسَانه إِلَّا فِيمَا يعنيه ويؤلفهم وَلَا ينفرهُمْ ويكمر كل كريم قوم ويوليه عَلَيْهِم ويحذر النَّاس ويحترس مِنْهُم من غير أَن يطوي عَن أحد مِنْهُم بشره وَلَا خلقه ويتفقد اصحابه ويسألأ النَّاس عَمَّا فِي النَّاس وَيحسن الْحسن ويقويه ويقبح الْقَبِيح ويوهيه معتدل الْأَمر غير مُخْتَلف لَا يغْفل مَخَافَة أَن يغفلا أَو يميلوا لكل حَال عِنْده عتاد لَا يقصر عَن الْحق وَلَا يجوزه الَّذين يلونه من النَّاس خيارهم افضلهم عِنْده اعمهم نصيحة واعظمهم عِنْده منزلَة احسنهم مواساة ومومازرة قَالَ فَسَأَلته عَن مَجْلِسه فَقَالَ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقوم وَلَا يجلس إِلَّا على ذكر وَلَا يوطن الاماكن وَينْهى عَن اياطنها وَإِذا انْتهى إِلَى قوم جلس حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس وَيَأْمُر بذلك وَيُعْطِي كل جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ لَا يحْسب جليسه أَن احدا اكرم عَلَيْهِ مِنْهُ من جالسه أَو فاوضه فِي حَاجَة صابرة حَتَّى يكون هُوَ المنصرف عَنهُ وَمن سَأَلَهُ حَاجَة لم يردهُ إِلَّا بهَا أَو بميسور من القَوْل قد وسع النَّاس مِنْهُ بَسطه وخلقه فَصَارَ لَهُم ابا وصاروا عِنْده فِي الْحق سَوَاء مَجْلِسه

مجْلِس علم وحياء وامانة لَا ترفع فِيهِ الاصوات وَلَا تؤبن فِيهِ الْحرم وَلَا تنثى فلتاته متعادلين يتفاضلون فِيهِ بالتقوى متواضعين يوقرون فِيهِ الْكَبِير ويرحمون الصَّغِير ويؤثرون ذَا الْحَاجة أَو قَالَ ويحفظون الْغَرِيب قَالَ كَيفَ كَانَت سيرته فِي جُلَسَائِهِ قَالَ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَائِم الْبشر سهل الْخلق لين الْجَانِب لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخاب وَلَا عياب وَلَا مزاح يتغافل عَمَّا لَا يَشْتَهِي وَلَا يويس مِنْهُ وَلَا يُجيب فِيهِ قد ترك نَفسه من ثَلَاث المراء والاكثار وَمَا لَا يعنيه وَترك النَّاس نم ثَلَاث كَانَ لَا يذم احدا وَلَا يعيره وَلَا يطْلب عَوْرَته وَلَا تكمل إِلَّا فِيمَا رجا ثَوَابه إِذا تكلم اطرق جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا على رؤوسهم الطير فَإِذا اسْكُتْ تكلمُوا وَلَا يتنازعون عِنْده من تكلم انصتوا لَهُ حَتَّى يفرغ حَدِيثهمْ عِنْده حَدِيث اولهم يضْحك مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ويتعجب مِمَّا يتعجبون مِنْهُ ويصبر للغريب لعى الجفوة فِي منْطقَة ومسألته حَتَّى أَن كَانَ اصحابه ليستجلونه وَيَقُول إِذا رَأَيْتُمْ صَاحب الْحَاجة يطْلبهَا فارفدوه وَلَا يطْلب الثَّنَاء إِلَى فِي من مكافئ وَلَا يقطع على أحد حَدِيث حَتَّى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أَو قيام

قَالَ قلت كَيفَ كَانَ سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ على ارْبَعْ عَن الْحلم والحذر وَالتَّقْدِير والتفكر فَأَما تَقْدِيره فَفِي تَسْوِيَة النّظر وَالِاسْتِمَاع من النَّاس واما تذكره قَالَ أَو تكفره فَفِيمَا يَنْبَغِي وَيَعْنِي وَجمع لَهُ الحكم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّبْر فَكَانَ لَا يغضبه شَيْء وَلَا يستفزعه وَجمع لَهُ فِي الحذر ارْبَعْ اخذه بالْحسنِ ليقتدي بِهِ وَتَركه الْقَبِيح لينتهي عَنهُ واجتهاد الرَّأْي فِيمَا يصلح امته وَالْقِيَام لَهُم بِمَا جمع لَهُم أَمر الدُّنْيَا والاخرة انْتهى انجاز موعد إِذا تقرر هَذَا فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَائِدا على مَا تقدم لَهُ من اوصاف جَلَاله وكماله وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ اعْلَم النَّاس واشجعهم واعدلهم واعفهم واصدقهم واوفاهم والينهم عَرِيكَة فِي الْأمة واكرمهم عشرَة من رَآهُ هابه وَمن عاشره احبه يخصف النَّعْل ويرقع الثَّوْب يخْدم فِي مهنة اهله يُجيب دَعْوَة الْمَمْلُوك يمشي وَحده وَتارَة حافيا يردف خَلفه يقبل الْهَدِيَّة ويكافئ عَلَيْهَا لَا يقبل الصَّدَقَة يعصب عَن بَطْنه الْحجر من الْجُوع قَالَ البلالي قيل الْحجر تَصْحِيف وَلَا يَصح الصاقه الْبَطن الْكَرِيم بالحصباء فِي حَدِيث لحكمة دفع حرارة الْجُوع لَهُ فَتَأَمّله قَالَ وللتأسي بِهِ وتظاهره بالبشرية كَيْلا يتغالى فِيهِ وَمن ثمَّ وقيت امته مَحْذُور المغالاة انْتهى يَأْكُل مِمَّا حضر وَمِمَّا يَلِيهِ احب اللَّحْم إِلَيْهِ كتف

الشَّاة وَمن الْبُقُول الدُّبَّاء وَمن لاصباغ الْخلّ وَمن التَّمْر الْعَجْوَة يلبس مَا وجد ركب مرّة بَعِيرًا وَأُخْرَى حمارا يحب الطّيب وَيكرهُ الرَّائِحَة الكريهة يكتحل بالاثمد ويجيب الْوَلِيمَة وَيكثر دهن رَأسه ولحيته يلبس خَاتمًا فضَّة يلازم السِّوَاك يحتجم عِنْد الْحَاجة يباسط أَهله يُطِيل الصَّلَاة يقصر الْخطْبَة يعود الْمَرِيض يشْهد الْجَنَائِز يُجَالس الْفُقَرَاء يؤاكل الْمَسَاكِين يقبل المعذرة لَا يمازح فِي حق يصل الرَّحِم من غير ايثار على من هُوَ افل مِنْهُم لَا يهوله شَيْء من أَمر الدُّنْيَا لَا يحقر مِسْكينا لَا يهاب ملكا مَا لعن قطّ امْرَأَة وَلَا خَادِمًا قَالَ البلالي إِلَّا أَصْحَاب الْمعاصِي بِلَا تعين مَا ضربت يَده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا فِي سَبِيل الله مَا انتقم لنَفسِهِ قطّ مَا اخْتَار إِلَّا ايسر الْأَمريْنِ ابعد النَّاس عَن المآثم يصابر ذَا الْحَاجة حَتَّى ينْصَرف وَلَا يُرْسل يَده حَتَّى يرسلها الآخر لَا يواجه احدا بِمَا يكره يتحدث مَعَ اصحابه إِذا ذكرُوا أَمر الدُّنْيَا أَو أَمر الْجَاهِلِيَّة يضْحك ويبتسم لَا يمْضِي لَهُ وَقت فِي غير عمل لمعاده أَو ضَرُورِيّ لمعاشه يخرج إِلَى بساتين اصحابه يكرم الدَّاخِل عَلَيْهِ ويؤثره بالوسادة يجلس مُسْتَقْبل الْقبْلَة إِذا جلس إِلَيْهِ أحد وَهُوَ يُصَلِّي خفض صلَاته يَدْعُو اصحابه بكناهم ارأف النَّاس بِكُل مُؤمن خير النَّاس للنَّاس جهير الصَّوْت حسن النغمة يعرض عَن الْجَاهِل يكنى عَن الْمَكْرُوه عِنْد الِاضْطِرَار إِلَيْهِ إِذا نزل بِهِ الْأَمر فوض الْمخْرج فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى احب الطَّعَام إِلَيْهِ مَا كثرت عَلَيْهِ الْأَيْدِي لَا يَأْكُل الثوم وَلَا البصل وَلَا الكراث

لَا يتنفس فِي الْإِنَاء لَا يسْأَل أَهله طَعَاما وَلَا سحرة عَلَيْهِم يُعجبهُ الثِّيَاب الْخضر اكثر لِبَاسه الْبيَاض إِذا لبس جَدِيدا على خلق ثِيَابه اعطاه مِسْكينا لَا يجزيء بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو ويصفح رَقِيق الْبشرَة يعرف فِي وَجهه رِضَاهُ ومغضبه اجود النَّاس كفا واوسعهم صَدرا واصدقهم لهجة قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ ناعتا لَهُ لم ار قبله وَلَا بعده مثله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى هُنَا انْتهى تَمام الْقَصْد وكماله وتحققت فِي انجاز مواعده بتميهد قَوَاعِده مطامعه وآماله فنحمد الله تَعَالَى على مَا يسر من مرامه ونشكره على المعونة فِي عقده وانبرامه وَنَسْتَغْفِرهُ من خطأ مَا خطه البنان وزلل مَا طَغى بِهِ الْقَلَم وجمح بِهِ الْعَنَان وَنُصَلِّي ونسلم على سيد ولد آدم عربا وعجما وافضل من ورد اسْمه فِي الْكتب السوالف بِالسنةِ الْخَوَالِف مترجما سيدنَا ومولانا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي اوقف عَلَيْهِ وصف الْكَمَال وقصره وايده الْمقَام الصعب بالقاء الرعب وَنَصره صَلَاة تتيمن بهَا فتحا وختما ونؤدي من فَرضهَا اللَّازِم بِمُقْتَضى أمرهَا الْجَازِم حتما وعَلى آله الْأَبْرَار وَأَصْحَابه الناصحين لَهُ فِي الإعلان والاسرار مَا تعاقب الزَّمَان يَوْمًا وَغدا وَرَاح إِلَيْهِ مشتاق الْوُصُول وَغدا بِمُقْتَضى امرها الْجَازِم حتما وعَلى آله الابرار واصحابه الناصحين لَهُ فِي الاعلان والاسرار مَا تعاقب الزَّمَان يَوْمًا وَغدا وَرَاح إِلَيْهِ مشتاق الْوُصُول وَغدا

§1/1