بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو

مجموعة من المؤلفين

خطة البحث

[خطة البحث] بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو المحور الأول الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة مفهوم الوسطية والاعتدال الدكتور / ناصر بن عبد الكريم العقل أدلة الوسطية في القرآن والسنة الدكتور / محمد بن عمر بازمول مظاهر الوسطية في الإسلام الدكتور / سليمان بن إبراهيم العايد المحور الثاني دلالة القرآن على سماحة الإسلام ويسره مفهوم السماحة واليسر في الكتاب والسنة وأدلتها الدكتور / ناصر بن عبد الله الميمان سماحة الإسلام في التعامل مع المخالف الدكتور / حمزة بن حسين الفعر سماحة الشريعة في التعامل مع الواقع للدول والأفراد الدكتور / عبد الرحمن بن زيد الزنيدي المحور الثالث الغلو: مظاهره وأسبابه مفهوم الغلو في الكتاب والسنة الدكتور / صالح بن غانم السدلان مظاهر الغلو في الاعتقاد والعمل والحكم على الناس الدكتور / عبد السلام بن برجس العبد الكريم أسباب الغلو العلمية والمنهجية وعلاجها الدكتور / عبد الرحمن بن معلا اللويحق المحور الرابع استثمار تعليم القرآن في ترسيخ الوسطية ومعالجة الغلو معالجة القرآن لظواهر الانحراف والغلو الدكتور / إبراهيم بن سعيد الدوسري أثر معلم القرآن في تربية طلابه على الاعتدال الدكتور / عبد الله بن علي بصفر مؤسسات تعليم القرآن الكريم وأثرها في نشر الوسطية الدكتور / حمد بن موسى السهلي [المحور الأول الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة] [مفهوم الوسطية والاعتدال] المحور الأول الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة مفهوم الوسطية والاعتدال للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد: فإن الله تعالى ميز هذه الأمة (أمة الإسلام) بالوسطية بين الأمم فقال سبحانه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] والوسطية هنا تعني: العدل والخيار وسائر أنواع الفضل، فهي أفضل الأمم. ثم ميز الله أهل السنة والجماعة بالوسطية بين فرق المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ. . .» الحديث. فأهل السنة هم في جملتهم (العدول الخيار) أهل التوسط والاعتدال في كل أمور الدين: عقيدة وعلما وعملا وأخلاقا ومواقف. وسط بين الغلو والتقصير وبين التفريط والإفراط في سائر الأمور. وسأتحدث في هذه المقالة عن مفهوم الوسطية والاعتدال في اللغة والاصطلاح، وهو موضوع الفرع الأول من المحور الأول في ندوة (أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو) . مفهوم الوسطية والاعتدال: ا - مفهوم الاعتدال: الاعتدال لغة: قال في القاموس المحيط: (العدل: ضد الجور، وما قام في النفس أنه مستقيم) ، و (عدل الحكم تعديلا: أقامه، و (عدل)

فلانا: زكّاه، و (عدل) الميزان (سواه) ، و (الاعتدال توسط حال بين حالين في كم أو كيف، وكل ما تناسب فقد اعتدل، وكل ما أقمته فقد عدَلته وعدّلته) ، والعدول: هم الخيار. وذكر في القاموس المحيط (¬1) من معاني العدل والاعتدال: الحكم بالعدل، والاستقامة، والتقويم، والتسوية، والمماثلة، والموازنة، والتزكية، والمساواة، والإنصاف، والتوسط. أما اصطلاحا فالاعتدال: هو التزام المنهج العدل الأقوم، والحق الذي هو وسط بين الغلو والتنطع، وبين التفريط والتقصير، فالاعتدال والاستقامة وسط بين طرفين هما: الإفراط والتفريط. والاعتدال هو: الاستقامة والتزكية، والتوسط والخيرية. فالاعتدال يرادف الوسطية التي ميز الله بها هذه الأمة، قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: (والوسط: العدل) (¬2) ومن معاني العدل والوسط: الخيار. ¬

(¬1) انظر: (عدل) (2 / 594) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، الحديث رقم (4487) .

ولا يتحقق الاعتدال في الاعتقاد والعمل والعلم والدعوة وغيرهما إلا بالتزام الكتاب والسنة وسبيل المؤمنين. ب - مفهوم الوسطية: الوسطية في اللغة: قال في المعجم الوسيط الصحيح: (وسط) الشيء - (يسطه) وسطا، وسِطة: صار في وسطه ويقال: وسط القوم، ووسط المكان. فهو واسط. و - القوم، وفيهم وساطة: توسط بينهم بالحق والعدل. (وسُط) الرجل - (يوسُط) وساطة، وسِطة: صار شريفا وحسيبا. فهو وسيط. (أوسط) القومَ: صار في وسطهم. (توسط) فلان: أخذ الوسط بين الجيد والرديء. و - بينهم: وسط فيهم بالحق والعدل. و الشيءَ: صار في وسطه. يقال: توسط القومَ. (الأوسط) : المعتدل من كل شيء، وأوسط الشيء: ما بين طرفيه. وهو من أوسط قومه: من خيارهم. (الوسَط) وسط الشيء: ما بين طرفيه، وهو منه. والمعتدل من كل شيء. يقال: شيء وسط: بين الجيد والرديء. وما يكتنفه أطرافه ولو من غير تساو. والعدل. والخير: (يوصف به المفرد وغيره) . وفي التنزيل العزيز: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] عدولا أو خيارا. وهو من وسط قومه: من خيارهم.

والصلاة الوسطى: العصر، لتوسطها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، وقيل الصلاة الوسطى: الفضلى، وفسرها بعضهم بالجمعة. (ج) وُسَط. (الوَسوط) : المتوسط. وبيت من بيوت الشَّعْر أكبر من المظلة وأصغر من الخباء أو هو أصغرها. (ج) وسط. الوُسوط: وُسوط الشمس، توسطها السماء. (الوسيط) : المتوسط بين المتخاصمين، و المتوسط بين المتبايعين أو المتعاملين. و المعتدل بين شيئين. وهي وسيطة. (ج) وسطاء، ويقال هو وسيط فيهم: أوسطهم نسبا وأرفعهم مجدا. فالوسطية تأتي بمعنى: التوسط بين شيئين، وبمعنى العدل، والخيار، والأجود، والأفضل، وما بين الجيد والرديء، والمعتدل، وبمعنى الحسب والشرف. ونجد أهل السنة والسلف الصالح - بحمد الله - تحققت فيهم هذه المعاني الفاضلة، كما سيأتي بيانه. الوسطية في الشرع والاصطلاح: وردت الوسطية في القرآن الكريم في أكثر من آية وفي السنة في أكثر من حديث على المعاني التالية: (1) بمعنى العدل والخيرية والتوسط بين الإفراط والتفريط، ومن ذلك قوله عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي، عدلا [سورة البقرة - آية 143] . وبهذا المعنى فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري فقال: (الوسط: العدل) (صحيح البخاري ك التفسير ح 4487) .

(2) وفسرها ابن جرير الطبري (3 / 242) بمعنى التوسط بين الإفراط والتفريط. (3) وكذلك ابن كثير (1 / 275) فسرها: بالخيار الأجود. (4) وتأتي الوسطية في السنة كذلك بمعنى الأوسط والأعلى كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الفردوس بأنه «أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ» -[البخاري ك الجهاد ح 2790] . (5) ويأتي معنى الوسطية على اعتبار الشيء بين الجيد والرديء، كما قال ابن عباس - في رواية عنه - «كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا دُونًا، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] الْخُبْزِ وَالزَّيْتِ» . (6) وفسر بعضهم: (أوسط) في الآية بأنه: الأعدل والأمثل، فتكون الآية على هذا التفسير مندرجة تحت المعنى الأول الذي هو (العدالة والخيار والأجود) . (7) كما تأتي الوسطية بمعنى: ما بين طرفي الشيء وحافتيه. ومن ذلك قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] والصلاة الوسطى صلاة العصر، وسميت الوسطى؛ لأن قبلها صلاتين، على اختلاف في تحديد أي الصلوات هي (¬1) . ¬

(¬1) (ابن كثير 1 / 291) .

ومن ذلك ما جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطًّا وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، وَخُطُوطًا إِلَى جَانِبِ الْخَطِّ الَّذِي وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، وَخَطًّا خَارِجًا مِنَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، وَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَذَا الْإِنْسَانُ الْخَطُّ الْأَوْسَطُ، وَهَذِهِ الْخُطُوطُ إِلَى جَانِبِهِ الْأَعْرَاضُ تَنْهَشُهُ» (¬1) . ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَلَ» (¬2) . (8) وتأتي الوسطية بمعنى التوسط الظرفي. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ» (¬3) ضعفه الألباني: ضعيف سنن أبي داود (393) . وتأتي الوسطية مقابل: - الغلو: وهو مجاوزة الحد. قال تعالى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] وقال صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ» . - والإفراط: وهو بمعنى الغلو، وهو تجاوز القدر في الأمور. - والتفريط: وهو بمعنى التقصير. فمنهج أهل السنة وسط في ذلك بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة. - والجفاء: خلاف البر والصلة. قال صلى الله عليه وسلم في حق القرآن: «وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ» . أي: لا تنقطعوا عن تلاوته. فأهل السنة وسط بين جفاء الأعراب، وتقعر العجم. ¬

(¬1) (ابن ماجه ح 4231) . (¬2) (أبو داود ح 681) . (¬3) (أبو داود ح 4886) .

أدلة الوسطية في القرآن والسنة

- والظلم: وهو مجاوزة الحق. ولذلك سمى الله الشرك ظلما {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] فأهل السنة هم الوسط في العدل والإنصاف. وعليه؛ فالوسطية، والاعتدال معنيان مترادفان في المفهوم اللغوي، والشرعي الاصطلاحي، فهما: العدل والاستقامة والخيرية والاعتدال والقصد والفضل والجودة. فالاعتدال والوسطية منهج الحق ومنهج الأنبياء وأتباعهم، ويتمثل ذلك بالإسلام بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبالسنة، ومنهج السلف بعد ظهور الأهواء والافتراق، فأهل السنة والجماعة هم العدول الأخيار في العقيدة والعبادة والأخلاق والمواقف. هذا، ونسأل الله أن يجعلنا من أهل الحق والعدل والاستقامة، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [أدلة الوسطية في القرآن والسنة] [مقدمة] المحور الأول الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة أدلة الوسطية في القرآن والسنة للدكتور محمد بن عمر بازمول

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فهذه ورقات أفردتها في تقرير بعض من أدلة الوسطية من القرآن العظيم والسنة النبوية، أتقدم بها في ندوة " أثر القرآن الكريم في

تحقيق الوسطية ودفع الغلو "، التي ستنعقد في مكة المكرمة، ضمن فعاليات مسابقة الملك عبد العزيز الدولية لحفظ القرآن الكريم وتلاوته، وتفسيره في 3 - 11 / 8 / 1424 هـ. سائلا الله المزيد من التوفيق والهدى والرشاد للقائمين على هذه الندوة، وأن يجعل سبحانه وتعالى جهودهم في موازين حسناتهم، إنه سميع مجيب.

مدخل الإسلام وسط بين الأديان

[مدخل الإسلام وسط بين الأديان] مدخل الإسلام وسط بين الأديان من خصائص الإسلام الوسطية والتوازن (¬1) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله: " قد خص الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص ميزه الله بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجا أفضل شرعة، وأكمل منهاج مبين. كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس؛ فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها، وأكرمها على الله من جميع الأجناس. هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم. وجعلهم وسطا عدلا خيارا؛ فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله، وكتبه، وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام. فأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى. ولم يضيق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة، ولا الوضوء للصلاة، ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، ¬

(¬1) انظر: الإسلام مقاصده وخصائصه / د. محمد العقلة / ص 50.

بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات، حتى يقال في فضائل الراهب: " له أربعون سنة ما مس الماء "! ولهذا تركوا الختان، مع أنه شرع إبراهيم الخليل عليه السلام وأتباعه. واليهود إذا حاضت المرأة عندهم، لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرمون وطء الحائض، وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة، بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله، أو تحرم الصلاة معه. وكذلك المسلمون وسط في الشريعة فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود. ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله، كما فعلت النصارى. ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود. ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق، ونقائصه، ومعايبه من الفقر والبخل والعجز كفعل اليهود، ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى. ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود. ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى. وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل، فهم وسط في باب صفات الله عز وجل بين أهل الجحد والتعطيل، وبين أهل التشبيه والتمثيل، يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسله

من غير تعطيل ولا تمثيل، إثباتا لصفات الكمال، وتنزيها له عن أن يكون له فيها أنداد وأمثال، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] رد على الممثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] رد على المعطلة. وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] فالصمد: السيد المستوجب لصفات الكمال. والأحد: الذي ليس له كفو ولا مثال. وهم وسط في باب أفعال الله عز وجل بين المعتزلة المكذبين للقدر، والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله، والمعارضين بالقدر أمر الله ونهيه وثوابه وعقابه. وفي باب الوعد والوعيد، بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار، وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد وما فضل الله به الأبرار على الفجار. وهم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغالي في بعضهم الذي يقول فيه بإلهية أو نبوة أو عصمة، والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم أو يفسقه وهم خيار هذه الأمة "اهـ (¬1) . وقال - رحمه الله -: " وكذلك في سائر أبواب السنة، هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان " اهـ (¬2) . ¬

(¬1) الجواب الصحيح (1 / 6 - 8) . (¬2) مجموع الفتاوى (3 / 375) .

أدلة الوسطية من القرآن العظيم والسنة النبوية

[أدلة الوسطية من القرآن العظيم والسنة النبوية] [أولا الأدلة من القرآن العظيم] أدلة الوسطية من القرآن العظيم والسنة النبوية الأدلة على وسطية أمة الإسلام فلا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا جفاء، كثيرة من القرآن العظيم، والسنة النبوية، أذكر منها الأدلة التالية: أولا: الأدلة من القرآن العظيم (1) قول الله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7] ووجه دلالة الآية: أنه سبحانه وصف الصراط المستقيم بأنه غير صراط المغضوب عليهم، وهم اليهود أهل الغلو في الدين، وغير صراط النصارى، وهم أهل الغلو في الرهبانية والتعبد، حتى خرجوا عن حدود الشرع، ليس فقط في العبادة بل حتى في الاعتقاد، يقول تبارك وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 171] (النساء: 171) . فإذا كان الصراط المستقيم غير صراط اليهود والنصارى، وكان صراط اليهود والنصارى صراط غلو في الدين، دل ذلك على أن الصراط

المستقيم صراط لا غلو فيه، فهو بين طرفين: إفراط وتفريط، وهذا هو معنى الوسطية التي هي منهاج الدين الإسلامي. (2) قال الله تبارك وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] (البقرة: 213) . يمتن الله سبحانه على عباده المؤمنين أن هداهم إلى الصراط المستقيم، الذي هو سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن يتبعه، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] (الأنعام: 153) . وللغواية والضلال سبل، كما قال تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86] (الأعراف: 86) .

وكل سبيل غير سبيل الحق فهو معوج، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99] (آل عمران: 99) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 45] (الأعراف: 45) . وسبيل الحق هو سبيل الرشد، وهو الصراط المستقيم، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146] (الأعراف: 146) ، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] (غافر: 38) . فالصراط المستقيم وسط بين السبل، التي أشارت إليها الآيات السابقات. وعليه فإن هذه الأمة وسط بين الأمم. فوصف الأمة بكونها هديت إلى صراط مستقيم، وأنها على صراط مستقيم، وصف يقتضي الوسطية لها في دينها، بين السبل المعوجة، ذات اليمين وذات الشمال. (3) قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] (البقرة: 143) .

وقد تتابعت كلمة المفسرين في أن وصف الأمة بالوسط، يراد به كونهم عدولا خيارا، ويدل عليه الأمور التالية: 1 - أن الله سبحانه وتعالى وصف هذه الأمة في موضع آخر بالخيرية، فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] (آل عمران: 110) (¬1) . 2 - أن هذا التفسير جاء فيه حديث صحيح مرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ. فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] قال: عدلا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] » (¬2) . 3 - أن هذا التفسير هو الذي يطابق السياق، فإن الله تعالى يقول: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فالمناسب لكونهم شهداء على الناس أن يثبت لهم وصف الخيرية والعدالة. فأمة الإسلام جعلت أمة وسطا: عدلا خيارا؛ والعدل الخيار يتضمن الدلالة على كونهم بين الإفراط والتفريط. ¬

(¬1) أضواء البيان / المدني / (1 / 75) . (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) ، الحديث رقم (7349) .

قال الطبري (ت 310 هـ) رحمه الله: " وأرى أن الله تبارك وتعالى إنما وصفهم بأنهم وسط؛ لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه - غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه - تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به - ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها " اهـ (¬1) . والمعنيان متداخلان، ولا تمانع بينهما، فلا مغايرة بين الحديث وبين ما دل عليه معنى الآية (¬2) ؛ وذلك أن [الوسط في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة، ثم استعير للخصال المحمودة البشرية، لكن لا لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعواز والأوساط محمية محوطة؛ فإن تلك العلاقة بمعزل من الاعتبار في هذا المقام، إذ لا ملابسة بينها وبين أهلية الشهادة التي جعلت غاية للجعل المذكور، بل لكون تلك الخصال أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط؛ كالعفة التي طرفاها الفجور والخمود. وكالشجاعة التي طرفاها الظهور والجبن. وكالحكمة التي طرفاها الجربزة (¬3) والبلادة. وكالعدالة التي هي كيفية متشابهة حاصلة من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلق على المتصف بها مبالغة كأنه نفسها، وسوى فيه بين المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث رعاية لجانب الأصل كدأب سائر الأسماء التي يوصف بها. ¬

(¬1) تفسير الطبري / هجر / (3 / 626 - 627) . (¬2) وهذا ما قرره ابن حجر في فتح الباري / السلفية / (8 / 173) . (¬3) الخبث والمكر.

وقد روعيت هاهنا نكتة رائقة: هي أن الجعل المشار إليه عبارة عما تقدم ذكره من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبر عنه بالصراط المستقيم، الذي هو الطريق السوي الواقع في وسط الطرق الجائرة عن القصد إلى الجوانب، فإنا إذا فرضنا خطوطا كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين، فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية. ومن ضرورة كونه وسطا بين الطرق الجائرة كون الأمة المهدية إليه أمة وسطا بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفة بالخصال الحميدة خيارا وعدولا مزكين بالعلم والعمل (¬1) . والله أعلم (¬2) . ومن فوائد هذه الآية الإرشاد إلى أن كل خير ينفع الناس، فقد أمر الله به، ودعا إليه، وكل شر وفساد فقد نهى الله عنه وأمر بتركه، وهذا ضرورة كون هذه الأمة موصوفة بالخيرية، وأنها هديت إلى الصراط المستقيم. وهذا الوصف بالوسطية ثبت في نصوص عديدة، تؤكد معنى التوسط وعدم الغلو في مظاهر الدين، من ذلك: (4) نهيه عن الغلو في الحكم بين الناس، حيث أمر بالعدل، والظلم خلاف العدل، وهو ميل إلى أحد الطرفين على حساب الآخر، قال الله تبارك ¬

(¬1) من كلام أبي السعود، في تفسيره إرشاد العقل السليم / دار إحياء التراث / (1 / 172) . (¬2) وبالتقرير السابق تعلم أن الاستشهاد بآية (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) على معنى وسطية الإسلام، استدلال صحيح، خلافا لمن منع الاستدلال بها على معنى وسطية الإسلام. انظر أحكام القرآن لابن العربي (1 / 50) ، وتابعه صاحب رسالة وسطية الإسلام / لعبد الرحمن حبنكة الميداني / مؤسسة الريان / ص 9 - 10.

وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] (النساء: 58) ، وقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] (المائدة: 8) . والآيتان دليل على أمر الله تبارك وتعالى بما هو مقتض لخيرية هذه الأمة، وكون أهلها عدولا؛ فأمر بالحكم بالعدل؛ ليس فقط في حكمهم بعضهم على بعض، بل حتى في حكمهم على أعدائهم. والعدل في الحكم مع الأعداء من مظاهر هذه الخيرية التي خص الله عز وجل بها هذه الأمة. (5) نهيه عن الغلو في دعاء الله عز وجل، و «الدعاء هو العبادة» ، حيث أمر بالتوسط فيه دون الجهر وفوق المخافتة، فقال الله تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] (الإسراء: 110) . والأمر بابتغاء السبيل بين ذلك يعني أن يكون الدعاء تضرعا دون الجهر وفوق السر، فهذا مظهر من مظاهر الأمر بالتوسط في العبادة، التي هي الدعاء. (6) نهيه عن الغلو في طلب الدنيا، فلم يأمر بترك الدنيا، والخروج إلى الفيافي، كما لم يأمر بالاستغراق فيها، وكأن الإنسان لا محل له إلا هذه الحياة

الدنيا، إنما أمر بالتوسط، فالدنيا بلغة يتبلغ بها الإنسان للآخرة، يأخذ منها بما أحله الله سبحانه وتعالى، ويعيش فيها فيما أباحه الله سبحانه وتعالى، ويستعد بذلك للآخرة، قال الله تبارك وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] (القصص: 77) . وهذه الآية فيها دليل على أن ترك التوسط والاعتدال فساد في الأرض، ألا تراه يقول: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] فإذا كان العمل في الدنيا وترك السعي للآخرة فسادا في الأرض، فمن باب أولى ترك أمور الصراط المستقيم - وعنوانها تمام صالح الأخلاق - فساد في الأرض. (7) نهيه عن الغلو في النفقة بالمال، حيث يقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] (الفرقان: 67) ، وقوله تبارك وتعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] (الإسراء: 29) . قال ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) رحمه الله: " والفرق بين الاقتصاد والتقصير أن الاقتصاد هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. وله طرفان هما ضدان له: تقصير ومجاوزة.

فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] وقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] والدين كله بين هذين الطرفين. بل الإسلام قصد بين الملل. والسنة قصد بين البدع. ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وكذلك الاجتهاد هو بذل الجهد في موافقة الأمر، والغلو مجاوزته وتعديه. وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: فإما إلى غلو ومجاوزة. وإما إلى تفريط وتقصير. وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم. وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير، وخوفوا من بلي بأحدهما بالهلاك. وقد يجتمعان في الشخص الواحد، كما هو حال أكثر الخلق يكون مقصرا مفرطا في بعض دينه غاليا متجاوزا في بعضه. والمهدي من هداه الله "اهـ (¬1) . ¬

(¬1) الروح ص 347.

(8) نهيه عن تحريم الطيبات، وهو من الغلو في التزهد، ونهيه عن الإسراف، وهو من الغلو في الاستغراق في الدنيا وملذاتها، والصراط المستقيم بينهما، يقول تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 - 33] (الأعراف: 31 - 33) . (9) ومن الأدلة على وسطية الدين وسماحته، قوله تبارك وتعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] (المائدة: 6) ، ويقول تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] (البقرة من الآية 185) ، ويقول تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] (النساء من الآية 28) . ويقول تبارك وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] (الحج: 78) .

ووجه الدلالة: أن وصف الله سبحانه وتعالى الدين بأنه يسر، وبأن الله ما جعل علينا فيه من حرج، وأن الله يريد أن يخفف عنا، كل هذا يدل على أن الغلو في الدين غير مطلوب، بل ليس هو من الدين، وأن التوسط هو سمة الدين ومنهاجه، والوسطية بين طرفين: تشدد وتساهل. وهل يؤخذ عند الاختلاف بأخف القولين أو بأثقلهما؟ (¬1) . ذهب بعض الناس إلى الأخذ بأخف القولين وأيسرهما استدلالا بهذه الأدلة. وذهب آخرون إلى الأخذ بالأشد. والذي يظهر أن المراد بهذه النصوص هو أن الدين يسر، أي: ما جاء وثبت في الشرع، فهو يسر، وليس المراد أن اليسر هو الدين. وأن سماحة الشريعة ويسرها إنما جاءت مقيدة بما هو جار على أصولها، والقول باتباع الأيسر مطلقا إنما هو اتباع هوى النفس وما تشتهيه، دون الرجوع إلى الدليل، وذلك ينافي أصول الشريعة (¬2) . وهو مؤد إلى إسقاط التكاليف جملة؛ لأن التكاليف كلها فيها ما يشق على النفس، فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الأدلة؛ لزم ذلك في جميع التكاليف، فلم يبق للعبد تكليف، وهذا محال، فما أدى إليه مثله، فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال (¬3) . ¬

(¬1) الموافقات للشاطبي (4 / 148) . (¬2) الموافقات (4 / 133، 131 - 134) . (¬3) الموافقات (4 / 193) ، وانظر منه (4 / 141، 134) .

ثانيا الأدلة من السنة

والذين قالوا: نأخذ بالأشد؛ ذهبوا إليه لأنه الأحوط، وهؤلاء خالفوا أدلة أصحاب القول الأول، ثم الاحتياط هو: " الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من غير غلو ومجاوزة، ولا تقصير ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله " (¬1) . وعليه فإن الاحتياط هو الترجيح عند الاختلاف، فالمجتهد والمتبع والعامي يسلكون مسلك الترجيح عند الاختلاف لكل واحد منهم بحسبه، فلا يرجح الأيسر، ولا يرجح الأثقل، وإنما يرجح ما جاء به الدليل، فإن لم يتبين الدليل رجعوا جميعا إلى استفتاء النفس والقلب (¬2) . [ثانيا الأدلة من السنة] ثانيا: الأدلة من السنة (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ. ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] » (¬3) . ¬

(¬1) الروح لابن القيم ص 346، وانظر إغاثة اللهفان (1 / 162 - 163) . (¬2) الاختلاف وما إليه / لمحمد بازمول ص 103 - 104. (¬3) أخرجه أحمد في المسند (1 / 465، 435) ، وأخرجه الدارمي في سننه في المقدمة، باب في كراهة أخذ الرأي، وابن أبي عاصم في كتاب السنة (1 / 13) ، وابن حبان (الإحسان) 1 / 180 - 181 تحت رقم (6 - 7) ، والحاكم في المستدرك (2 / 318) . وأخرجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ابن ماجه في المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (11) ، وابن أبي عاصم في كتاب السنة (1 / 13) . والحديث صححه ابن حبان، والحاكم، وحسن إسناده محقق الإحسان، وصححه لغيره الألباني في ظلال الجنة (1 / 13) .

وتقدم تقرير دلالة وصف ما كان عليه صلى الله عليه وسلم بأنه الصراط المستقيم، وأنه يقتضي معنى الوسطية والخيرية، التي بين طرفي التفريط والإفراط. قال ابن تيمية رحمه الله: " أصل الدين أن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم، الذي بعث الله به رسوله، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] (الأنعام: 153) ، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خط خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما ذم به المشركين، حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة، واستحلوا ما حرمه الله كقتل أولادهم وشرعوا دينا لم يأذن به الله، فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] (الشورى: من الآية 21) ، ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات كالشرك والفواحش مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك ". اهـ (¬1) . ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (10 / 388 -389) .

(2) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» (¬1) . ووجه الدلالة في هذا الحديث: أن الوسطية هي الخيرية، ومحاسن الأخلاق ومكارمها هي الوسط بين طرفين؛ وكل ما يدعو إليه الدين هو من مكارم الأخلاق التي هي أوساط للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط (¬2) . ولا ينازع في أن الغلو خلق ليس من مكارم الأخلاق، فصح أن الدين لم يأت به، لأنه إنما جاء لصالح الأخلاق ومكارمها. (3) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا. فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدُّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (الرسالة 14 / 512 - 513، تحت رقم 8952) ، والبخاري في الأدب المفرد (صحيح الأدب المفرد 118، تحت رقم 207 / 273) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10 / 191 - 192) ، والحاكم (2 / 613) . والحديث صححه الحاكم، ومحققو مسند أحمد، والألباني في صحيح الأدب المفرد، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم (45) . (¬2) وقد توسع ابن قيم الجوزية في كتاب الروح / دار الفكر - الأردن / ص 314 إلى آخر الكتاب، في بيان جملة من الفروق بين الأمور، يتبين الناظر فيها حقيقة كون الحق والخير بين طرفين إفراط وتفريط.

فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (¬1) . ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن التشدد في العبادة ليس من سنته؛ فإذا كان التشدد في العبادة ليس من سنته، فمن باب أولى التشدد والمبالغة والغلو في الأمور الأخرى. قال ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) رحمه الله: " قَوْلُهُ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» المراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض. والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره. والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل. وقوله: " فَلَيْسَ مِنِّي " إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه، فمعنى: " فَلَيْسَ مِنِّي " أي: على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى: " فَلَيْسَ مِنِّي ": ليس على ملتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، حديث (5063) ، ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، حديث رقم (1401) .

وقال الطبري: فيه الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس، وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل. قال عياض: هذا مما اختلف فيه السلف: فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري، ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] قال: والحق أن هذه الآية في الكفار، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين. قلت: لا يدل ذلك لأحد الفريقين إن كان المراد المداومة على إحدى الصفتين، والحق أن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات؛ لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا، فلا يستطيع الانتقال عنه فيقع في المحظور كما أن منع تناول ذلك أحيانا يفضي إلى التنطع المنهي عنه، ويرد عليه صريح قوله تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا، وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة وخير الأمور الوسط ". اهـ (¬1) . (4) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» (¬2) . والمتنطعون هم - كما قال شراح الحديث - المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. ¬

(¬1) فتح الباري (9 / 105 - 106) . (¬2) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، حديث رقم (2670) .

والحديث ظاهره خبر عن حال المتنطعين، إلا أنه في معنى النهي عن التنطع وهو دليل على أن التوسط والاعتدال في الأمور هو سبيل النجاة من الهلاك؛ فإنه إذ ذم التنطع وهو المغالاة والمجافاة وتجاوز الحد في الأقوال والأفعال، فقد دل على أن المطلوب هو التوسط، وذلك متصور في الطرفين؛ فمثلا شأن الدنيا من تشدد في طلبه والسعي وراءه دون الآخرة، فقد تنطع في طلبها، وهلك، ومن تشدد في مجافاتها والغلو في تركها والبعد عنها، فقد تنطع، وهلك، والتوسط بينهما هو المطلوب. (5) وذكر أن الغلو في التعبد من سمات طائفة تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ! فَقَالَ: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ! فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ» .

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ، وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ، فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ (¬1) . فهؤلاء غلوا في العبادات - والعبادات الدينية أصولها الصلاة والصيام والقراءة - بلا فقه؛ فآل الأمر بهم إلى البدعة، فقال: «يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» ، وأمر بقتلهم، فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين وكفروا من خالفهم، وجاءت فيهم الأحاديث الصحيحة (¬2) . (6) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (¬3) . [والمُشَادَّةُ بالتشديد: المغالبة، يقال: شَادَّهُ يُشَادُّهُ مُشَادَّةً إذا قَاوَاهُ، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب. قوله: " فَسَدِّدُوا " أي: الزموا السداد، وهو الصواب من غير إفراط، ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة، حديث رقم (3610) ، ومسلم في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، حديث رقم (1064) . (¬2) انظر مجموع الفتاوى (10 / 392 - 393) . (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، حديث رقم (39) ، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، حديث رقم (2816) .

قوله: " وَقَارِبُوا " أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه. قوله: " وَأَبْشِرُوا " أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل، لأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم الْمُبَشَّرَ به تعظيما له وتفخيما. قوله: " وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ " أي: استعينوا على مداومة العبادة لإيقاعها في الأوقات المنشطة. وَالْغَدْوَةُ بالفتح: سير أول النهار، وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداة، وطلوع الشمس. وَالرَّوْحَةُ بالفتح: السير بعد الزوال. وَالدُّلْجَةُ: بضم أوله وفتحه وإسكان اللام: سير آخر الليل، وقيل: سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض؛ ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه، لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة. وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة] (¬1) . ¬

(¬1) من فتح الباري (1 / 94 - 95) ، وفيه: قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع. وليس المراد منها طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة "اهـ.

والحديث نص في أن الدين يسر، وأن الدين قصد وأخذ بالأمر الوسط، فلا يفرط المرء على نفسه، ولا يفرط. (7) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» (¬1) . والحديث نص في أن الإسلام حنيفية سمحة، والسماحة تتنافى مع الغلو والتشدد فيه. (8) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» (¬2) . والحديث يأمر بالتيسير وترك التنفير والتعسير، مما يستلزم ترك الغلو وطلب الوسط، إذ اليسر هو السماحة وترك التشدد، وخير الأمور الوسط. وقد بوب البخاري على الحديث في كتاب الأدب " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا» ، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس ". ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (الرسالة 4 / 17، تحت رقم 2107) ، والبخاري في الأدب المفرد (صحيح الأدب المفرد ص 122، تحت رقم 220 / 287) ، وعبد بن حميد في مسنده (المنتخب 1 / 497، تحت رقم 567) ، وعلقه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ". والحديث حسن إسناده ابن حجر في فتح الباري (1 / 94) ، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الأدب المفرد، وكذا في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم (881) ، وكذا محقق المنتخب، وصححه لغيره محققو المسند. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم، حديث رقم (69) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، حديث رقم (1734) .

وقد أخذ العلماء بهذا الأمر، فقعدوا قاعدة فقهية هي من قواعد الفقه الكبرى (¬1) والتي عليها مدار الفقه الإسلامي، وهي قاعدة: " المشقة تجلب التيسير، ومن فروعها: " الضرورة تبيح المحظورة "، " الرضى بأهون الضررين لدفع أعلاهما إذا لم يكن من أحدهما بد " (¬2) . (9) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: «هَاِت الْقُطْ لِي، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» (¬3) . ¬

(¬1) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 76، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص 157، القواعد الفقهية الخمس الكبرى، والقواعد المندرجة تحتها، من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 233 - 239. (¬2) فتح الباري (10 / 525) . وهذه القاعدة الفرعية معدودة في كتب القواعد الفقهية ضمن فروع قاعدة: لا ضرر ولا ضرار، أو الضرر يزال، ولا تمانع فهي تدخل تحت القاعدتين، فإن من التيسير الرضى بأهون الضررين إذا لم يكن من إحداهما بد، ومن الضرر الذي يزال: دفع الضرر الأعلى بالأدنى، ويدل على ما ذكرت أنه جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول، حديث رقم (220) ، عن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر. والله الموفق. (¬3) أخرجه أحمد في المسند (الرسالة 3 / 351، تحت رقم 1851) ، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، حديث رقم (3057) ، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، حديث رقم (3029) ، وابن خزيمة (4 / 274، تحت رقم 2867) ، وابن حبان (الإحسان (9 / 183، تحت رقم 3871) ، والحاكم (1 / 466) . والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وصحح إسناده محققو مسند أحمد، ومحقق الإحسان.

الْغُلُوُّ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الشَّيْءِ وَالتَّشْدِيدُ فِيهِ بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَمُّقِ (¬1) يقال: غَلَا فِي الشَّيْءِ يَغْلُو غُلُوًّا، وَغَلَا السِّعْرُ يَغْلُو غَلَاءً إِذَا جَاوَزَ الْعَادَةَ، وَالسَّهْمُ يَغْلُو غَلْوًا، بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ، إِذَا بَلَغَ غَايَةَ مَا يُرْمَى. والحديث نص صريح في النهي عن الغلو في الدين، فمنهاج الدين وسبيله هو السماحة والتيسير وترك التشدد في حدود ما جاء في الشرع. ومن فوائد الحديث تنبيهه على قضية خطيرة جدا، وهي أن الغلو في الدين من أسباب هلاك الأمم قبلنا، فالقصد القصد. وتعظيم الأمر والنهي من الدين، ومن التعظيم لهما ترك الغلو فيهما. قال صاحب منازل السائرين رحمه الله: تعظيم الأمر والنهي: وهو أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشدد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد ". قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: " هاهنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي: أحدها: الترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال. والثاني: الغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي. فالأول تفريط والثاني إفراط. [ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيا غير مستقيم على المنهج الوسط. ¬

(¬1) التعمق هو بالمهملة وبتشديد الميم ثم قاف، ومعناه: التشديد في الأمر حتى يتجاوز الحد فيه. فتح الباري (13 / 278) .

مثال ذلك: أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخيص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصا جافيا، وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر، فمن حكمة الشارع أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلي العبد بقلب حاضر ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى. ومن هذا نهيه أن يصلي بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط، لتعلق قلبه من ذلك بما يشوش عليه مقصود الصلاة، ولا يحصل المراد منها، فمن فقه الرجل في عبادته أن يقبل على شغله فيعمله ثم يفرغ قلبه للصلاة، فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونصب وجهه له وأقبل بكليته عليه، فركعتان من هذه الصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه. والمقصود أن لا يترخص ترخصا جافيا. ومن ذلك أنه أرخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير وتعذر النزول أو تعسيره عليه، فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة أو أقام اليوم فجمعه بين الصلاتين لا موجب له لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة، فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أولم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أولم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة فهذا لون وهذا لون. ومن هذا أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة، فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التخمة والامتلاء، فيتطلب ما يصرف

به الطعام فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده، بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» (¬1) ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده. وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي؛ فهو كمن يتوسوس الوضوء متغاليا فيه حتى يفوت الوقت أو يردد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة. أو يتشدد في الورع حتى لا يأكل شيئا من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه، ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئا من بلاد الإسلام، وكان يتقوت بما يحمل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحسن الظن بالنصارى، نعوذ بالله من الخذلان. فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه] (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، حديث رقم (2380) ، وابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع، حديث رقم (3392) . ولفظ الحديث عند الترمذي: " عَنْ مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ". قال أبو عيسى الترمذي: هدا حديث حسن صحيحا هـ. (¬2) ما بين معقوفتين من كلام ابن القيم في كتابه الوابل الصيب ص 22 - 24.

وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة. وإما إلى إفراط وغلو. [فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين؛ فإنه يأتي إلى قلب العبد فيستامه، فإن وجد فيه فتورا وتوانيا وترخيصا أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة. وإن وجد عنده حذرا وجدا وتشميرا ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد وسول له: إن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تفتر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدي، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم كما يحمل الأول على التقصير دونه، وأن لا يقربه، ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم هذا بأن لا يقربه، ولا يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه. وقد فتن بهذا أكثر الخلق، ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط، والله المستعان] (¬1) . ¬

(¬1) ما بين معقوفتين من كلام ابن القيم في كتابه الوابل الصيب ص 25.

ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له؛ هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد. وقد نهى الله عن الغلو بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] (المائدة: من الآية 77) . والغلو نوعان: نوع يخرجه عن كونه مطيعا، كمن زاد في الصلاة ركعة أو صام الدهر مع أيام النهي أو رمى الجمرات بالصخرات الكبار التي يرمى بها في المنجنيق أو سعى بين الصفا والمروة عشرا أو نحو ذلك عمدا. وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار، كقيام الليل كله، وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ [هَذَا] الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (¬1) يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة، فإن المسافر يستعين على قطع مسافة السفر بالسير فيها. وقال: «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ [فَلْيَقْعُدْ] » (¬2) رواهما البخاري. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، حديث رقم (39) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشدد في العبادة، حديث رقم (1150) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب ذلك، حديث رقم (784) . ولفظ الحديث عند البخاري: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد.

وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا» (¬1) وهم المتعمقون المتشددون. وفي صحيح البخاري عنه: «عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» (¬2) . وفي السنن عنه أنه قال: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ وَلَا تُبَغِّضَنَّ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ» (¬3) أو كما قال. وقوله: وَلَا يُحْمَلَا عَلَى عِلَّةٍ تُوهِنُ الِانْقِيَادَ. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب العلم باب هلك المتنطعون، حديث رقم (2670) ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة، حديث رقم (1151) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب ذلك، حديث رقم (785) . ولفظ مسلم: " عن هشام قال: أخبرني أبي عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال: من هذه؟ فقلت: امرأة لا تنام تصلي. قال: عليكم من العمل ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا. وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه ". (¬3) أخرجه أحمد في المسند، (20 / 346، تحت رقم 13052، الرسالة) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو مما وجده عبد الله بخط أبيه في كتابه، وفي سنده عمرو بن حمزة، ضعفه الدارقطني، وللمتن شواهد يرتقي بها إلى الحسن لغيره، كما قال محققو المسند، وذكروا من شواهده ما أخرجه البيهقي (3 / 19) من حديث أنس وزاد فيه: " ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا سفرا قطع، ولا ظهرا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبدا، واحذر حذرا تخشى أن تموت غدا في سنده مولى عمر بن عبد العزيز لا يعرف، وبنحوه عند القضاعي في مسنده (2 / 184، تحت رقم 1147 (عن جابر بن عبد الله، وفي سنده يحيى بن المتوكل، كذاب، ولفظ حديث أنس عند أحمد في المسند: قال عبد الله وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثنا زيد بن الحباب، قال أخبرني عمرو بن حمزة، حدثنا خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق.

يريد: أن لا يتأول في الأمر والنهى علة تعود عليهما بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه. وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة. وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب خمر العنب معللا بالإسكار، فله أن يشرب منه ما شاء ما لم يسكر. ومن العلل التي توهن الانقياد: أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر؛ فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور. وفي بعض الآثار القديمة: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَقُولُوا: لِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟ وَلَكِنْ قُولُوا: بِمَ أَمَرَ رَبُّنَا؟» . وأيضا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادا للأمر، وأقل درجاته أن يضعف انقياده له. وأيضا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلا، وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله فقال: أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة، فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها، وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده.

وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا الله، فكم عطلت لله من أمر، وأباحت من نهي، وحرمت من مباح، وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها "اهـ (¬1) . ¬

(¬1) مدارج السالكين (2 / 496 - 498) .

الخاتمة

[الخاتمة] الخاتمة إن كل أمور الشرع تدل بوضوح أنه دين الحنيفية السمحة، دين اليسر؛ فلا غلو في الدين. إلا أن هاهنا قضية مهمة يحسن أن أذكر بها في ختام هذه الرسالة، وهي: أن هذه الأدلة تقرر سماحة الدين ويسره ووسطيته، وأنه دين ينافي الغلو والتشدد، بمعنى أن ما ثبت كونه من الدين فهذه صفته، لا بمعنى أن يأتي شخص ما بعقله وتفكيره فما رآه وسطا قال: هو الدين! فالوسطية في الدين، أي ما ثبت أنه دين فهو يسر. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» ، فما ثبت أنه من الدين فهو اليسر وهو الحنيفية السمحة، وهو الذي لا تشدد في أخذه، ولا غلو فيه، ولا عسر فيه. وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالَغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» ، فقال: الدِّينُ يُسْرٌ فما ثبت أنه من الدين فهو يسر. وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

مظاهر الوسطية في الإسلام

[مظاهر الوسطية في الإسلام] [مظاهر الوسطية في الجانب الفردي] المحور الأول الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة مظاهر الوسطية في الإسلام للدكتور سليمان بن إبراهيم العايد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد: الحديث عن مظاهر الوسطية في الإسلام حديث ذو شجون، لأنها كثيرة متغلغلة في جميع عقائده، وفرائضه، وشرائعه، ولو أردنا الحديث عنها حديثا شاملا لكتبنا كل ما كتب عن الإسلام من عقائد، وأحكام، عبادات ومعاملات، علاقات وسياسات. . إلخ، ولكنا في مقام لا يتسع إلا لقليل مما في شرائع الإسلام الواسعة، وأحكامه الشاملة، التي تشمل حياة الإنسان كلها. إن الإسلام هو الدين الحق {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] وهو الدين الخاتم الذي تكفل الله بحفظه، وإظهاره. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] وقد اصطفى الله لخير الأديان وأكملها خير الأمم وأكملها على تفاوت في خيرية أفرادها {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] بعد قوله {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31]

فالأمة ثلاث فئات، أو ثلاثة أصناف، رتبت في الآية على حسب كثرتها وقلتها، فالطائفة الأولى (الظالمون لأنفسهم) هم الأكثر، ثم يأتي الأقل، وهم - ما بين مقتصد إلى سابق - أفراد من هذه الأمة المصطفاة. وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها على يد محمد صلى الله عليه وسلم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] بعد أن أيأس الله (عز وجل) الكفار من أن يبطلوا هذا الدين أو يغلبوه {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3] وانظر تفسير القاسمي (6 / 1829 - 1830) . وجعل أمة هذا الدين خير أمة أخرجت للناس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] وهذا كامن في سر دينها أكمل الأديان وأوفاها، وهو دين رباني بعقائده، وأصول شرائعه، ترك للبشر الاجتهاد في تنفيذه، وتطلب أفضل الطرق لتحقيقه واقعا في الأرض، بحسب طاقتهم وما أمكنهم الله فيه من العلم، وجعل هذا واجبا لازما في عنق هذه الأمة إلى قيام الساعة

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] وما جعله الله بهذه المنزلة، وهذه المثابة إلا لما يحمله من مزايا ذاتية، أهمها الوسطية، والحديث عنها - كما أسلفنا - متشعب، ذو فروع، لا يمكن الإتيان عليها كلها في مقالة أو كلمة، ولكن لنا أن نبرز أهم مظاهر الوسطية في الجوانب التالية: الفردية، والاجتماعية، والتشريعية: (1) الجانب الفردي إذ حمل الإسلام الإنسان مسئولية عمله، ولم يحمله مسئولية عمل غيره، مهما بلغت القرابة، ما لم يكن طرفا أو سببا. {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى - أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 36 - 39] {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا - اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا - مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 13 - 15] وهذه القيمة لها أثرها في حياة الإنسان وسلوكه، وتحمله المسئولية، وتحقيق العدالة والمساواة بين الخلق، وهي أصل ومبدأ من مبادئ الإسلام الراسخة، تقصر دونه كل المبادئ والقيم الأخرى، وقد رتب على هذا أن

الجزاء مرتب على العمل، فلا أحد يظلم بحمل وزر غيره {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18] إلا إذا سلكت سبيل المضلين {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] فإنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله من أوزارهم، القاسمي (14 / 4979) . ولا أحد يعطى ثمرة عمل غيره ليحرم منها العامل، ولا يستحق أحد المكافأة إلا بعمل صالح، لا ينفعه في ذلك نسب أو حسب أو جاه، وهذه مبادئ لو طبقت في واقعنا العملي الحيوي لكان للمسلمين شأن آخر، وإنما أتي المسلمون من الغفلة عنها. ومما يتعلق بالمسئوليات التوزيع العادل للمسئولية الاجتماعية قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم (كتاب الإمارة ح 20) . وقد دأب كثير من الناس على رمي غيرهم بالتقصير ونسيان أنفسهم تزكية لها، وكأنهم غير مسئولين، إن كل فرد في هذا المجتمع يحمل جزءا من المسئولية العامة فيه، مهما صغر هذا الجزء، إذ كل مسلم على ثغرة من ثُغُر الإسلام، فلا يؤتين الإسلام من قبله.

ولو أصلح كل واحد نفسه، وقام بالواجب عليه نحو غيره من نصح وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وسائر ما أمر به الشارع، وحده من الحقوق، لم يكن ثمة خلل، لكن أكثر القوم يتخلون عن مسئوليتهم، ويستبدلون بها كلاما في النقد، يوزع على حملة المسئولية، من ولاة وعلماء وأصحاب شأن، وكأنهم المعنيون ب «مَنْ قَالَ هَلَكَ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» . إن الذين لا يعملون ولا يشعرون بوطأة العمل، وثقل المسئولية هم أجرأ الناس على النقد غير البصير، وهم أجرأ الخلق على إدانة غيرهم، وتبيان ما يظنون قصورا وعيبا فيهم، لأن المشغول بالعمل الجاد معني بإتقان عمله، وإصلاح نفسه، ودرء عيوبها، لا يشمت بمقصر، ولا يفتات على محسن، ولا يبهت بريئا؛ لأن له من دينه وشغله صارفا عن الاشتغال بغيره وذمه، ينظر إلى المحسنين فيدعو لهم بالتوفيق وأن يكون مثلهم، وينظر إلى المقصرين، فيدعو لهم بإقالة عثراتهم، وأن يعافيهم مما ابتلاهم به، في حين ينظر البطَّالون إلى المقصرين فيشمتون بهم، ويشيعون عنهم قالة السوء. وقد أتم الإسلام هذه القيمة بأحكام تتعلق بالغيبة والبهتان، والحسد والضغينة والتحقير، فعالج هذه علاجا خلقيا، ليس هذا مقام بسطه. قد يستغرب البعض إقحام المسئولية في مظاهر الوسطية، وليته يذكر ما تنادي به بعض الطوائف من تقسيم الخلق إلى أصحاب الحقيقة وأصحاب الشريعة، ومن إسقاط الواجبات الشرعية عن بعض، ومن تحمل بعض آخر المسئولية عن آخرين، ومن زعم البعض العصمة لمتبوعيهم. ومن مظاهر الوسطية في مصادر العلم الشرعي غلو فئة حتى لا تقر بغير القرآن مصدرا، ويجرها ذلك إلى إنكار السنة، وعدم الانقياد لها، أو

جهلها وإهمالها، وكان هذا مبدأ نشأة الخوارج الذين غلوا في القرآن حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَسْمَعُ لِصَوْتِهِمْ دَوِيًّا كَدَوِيِّ النَّحْلِ» . غير أنهم أهملوا سنته صلى الله عليه وسلم، فكان أن عملوا بمتشابه القرآن، وعموماته ومطلقاته التي تحتاج إلى سنته ترفع تشابهها، أو تخصيص يخصص عمومها، أو قيد يقيد مطلقها، وهذه الطائفة تتكرر في كل زمان، ولعلها الفئة التي أشار إليها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بقوله: ((إِنَّهُ سَيَأْتِي أُنَاسٌ يَأْخُذُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ، فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ)) (شرح السنة للبغوي 1 / 192 تحقيق صقر) . والمتأمل في كثير من مسائل الضلالة، يجدها تعود إلى هذا الباب. وهذا العمل يؤدي إلى غلو الإنسان بنفسه، وأن يضعها في مكانة فوق ما تستحقه، حتى إنه ليظن أنه أحاط بالشريعة علما، وليس لديه إلا أقل القليل من نصوص لعله لم يحسن فهمها، ولم يع فقهها، ثم يحاكم الأمة إلى علمه هذا، ويرفض كل فقه أو علم لدى من سبقوه في أبواب العلم والفقه لرجال أفنوا أعمارهم، وأخلصوا تجاربهم له، ظنا منه أن هؤلاء قد حيل بينهم وبين الفهم السليم والفقه الراشد. {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83] ((وفي هذا

إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة)) [ابن كثير 2 / 321] . وهذا نظير ما يفعله كثير من المبادرة والتسابق إلى نشر أشياء وأخبار وأقوال وإشاعات لم يتأكد من صحتها، ولعلها نقلت على غير وجهها، أو فصلت عن سياقها، أولم تقع، ومع ذلك يظنون معهم العلم كله، وما معهم إلا ظنون وإشاعات وشيء من الأخبار، الله أعلم بصحتها. وكان اللائق بهم أن يضعوا أنفسهم موضع السائل سؤال التبين والتعلم فيما يحتاج إليه من أمر الدين {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] وبالسؤال تتبين الحقيقة وتتأكد. وكل هذا إنما يقع لمخالفة القصد والتوسط في تحصيل العلم ونشره وأيا كان هذا العلم. لا أريد أن أدخل في صفات طالب العلم، ولا في صفات العلم النافع، ولا واجبات أهل العلم، لأن هذا معروف مقرر ويخرج بنا عن أصل الكلام. وإنما أريد أن أؤكد ما يقوله أهل العلم من أن من ((أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقيق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام)) (الموافقات 1 / 56) وما قيل من ((أن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتاب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال))

مظاهر الوسطية في الجانب الاجتماعي والإنساني

(الموافقات ص 57) وهذا يفهم منه أن العالم لا بد ((أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم، وملازمته لهم)) (الموافقات 1 / 58) . فالعلم لا يتكون من القراءة وحدها، وإنما يتكون من الخلطة بأهل العلم ومجالستهم، وهو ما يفقد لدى كثير من المنتسبين للعلم. وكل انحراف أو زيغ في طريقة تحصيل العلم أو التأدب بآدابه، أو أداء حقه وواجبه، إنما مرده إلى شيء من الغلو في طريقة من طرق العلم، تفقد نوره وبهاءه، وتذهب ببركته. [مظاهر الوسطية في الجانب الاجتماعي والإنساني] (2) الجانب الاجتماعي والإنساني لا يمكن للإنسان مسلما كان أو غيره أن يعيش وحده منعزلا عن المجتمع، مفردا لا يختلط بغيره؛ لأن الإنسان مدني بالطبع، ويتعين على المسلم أن يكون إيجابيا في هذه الحياة، وعنصرا مؤثرا «الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» كما جاء في بعض الآثار. وقد أساء بعض من غلا مفهوم العزلة، واستجاب لسلبية لم تأمر بها شرائع الإسلام، بل فيها تحريف وسوء فهم ل ((بخاصة نفسك)) كما أن بعض الناس حاول أن يؤسس لعزلة نفسية، من شأنها أن تشعر المعتزل بتميز ما عن سائر المجتمع، وهي ذات آثار على النفس، وعلى مفاهيم الشخص غير مستساغة ولا مقبولة؛ لأنها تغرس لدى المعتزل استعلاء لا

يليق بخلق المؤمن {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ثم إن الإسلام نظم العلاقة بين أطراف المجتمع الحاكم والمحكوم، فجعل للحاكم حق الطاعة ما لم يأمر بمعصية، وحق النصح، وحرم غشه. وجعل للمحكوم على الحاكم حق الرحمة والرأفة، والنصح بأن يبحث، ويتطلب له ما فيه خيره ومصلحته في الدنيا والآخرة، فإذا قام كل طرف بما عليه استقامت الحياة وآتت ثمارها وأكلها بإذن ربها. فحرم على المحكوم أن يخرج على حاكمه، حتى إنه أمر بقتل من جاء المسلمين وهم مجمعون على رجل واحد يشق وحدتهم، وينتزع الولاية، وحرم على الحاكم غش الرعية، حتى جاء الوعيد بحقه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ» (أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة ح 19) . وقوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (أخرجه البخاري ومسلم في صحيحه كتاب الإمارة ح 21) . فجعل عقاب الحاكم إليه، وعقابه أنكى، ولئلا يتطاول الناس، وجعل عقاب المحكوم إلى خلقه لئلا يتجرءوا على ولاتهم، وبهذا تستقيم، وتستقر الأوضاع.

وقد أتي المسلمون من خلل في هذا الجانب، والإعراض عن ضوابطه الشرعية بمصائب كثيرة ابتداء من فتنة الدار إلى عصرنا الحاضر، فتجد من لا يرى طاعة الحاكم بالمعروف من طاعة الله، وتجد من يلتمس عيوبا وأوجه القدح، ويتأول أشياء وأعمالا على ما تزينه له نفسه باسم الإسلام والإصلاح على نحو مما تعمله الأحزاب السياسية. ومن العلائق الاجتماعية ما رتبه الإسلام بين المسلمين، وما أوجبه من حقوق لبعضهم على بعض، وهي حقوق متكافئة، للمسلم مثل ما عليه، وهي حقوق - لو أديت - تكفل استقرار المجتمع المسلم وتوازنه، وتحفظ عليه الضروريات الخمس (الدين، النفس، النسل، المال، العقل) وتبني مجتمعا يسوده الحب والألفة، يعرف كل فرد فيه مكانه وحدود مسئوليته، وواجبه، بحيث لا يتعدى ذلك أو يقصر عنه، وقد حدد الإسلام مسئولية الفرد في المجتمع بمثال حي، جاء في السنة النبوية: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقُوا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» (أخرجه البخاري في كتاب الشركة ح 2493 والشهادات ح 2686) فليس في المجتمع المسلم عنصر مهمل يخلى من المسئولية، فكل موكل بألا يؤتى الإسلام من قِبَلِهِ. ولو وعى المسلمون هذه الحقيقة لتخلصنا من كثير مما نعاني منه في حياتنا الاجتماعية، وهذه الصورة تحفظ المجتمع المسلم.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يبني الإسلام علاقة متوازنة بين المسلمين وغيرهم من حيث الحقوق والواجبات؛ إذ البشرية كلها فريقان {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، غير أن هذه الولاية لا يلزم منها إعطاؤهم حق الظلم لغيرهم والكفار بعضهم أولياء بعض، ولكن الكفار لا يجوز ظلمهم أو سلب حقوقهم، بل لهم حقوق شرعت، وطرائق في معاملتهم سنت، ومظالم لو وقعت تعين رفعها {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] بل نهينا عن الاعتداء مع منع الحقوق {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] إن كثيرا من الخطاب الإسلامي الشائع على ألسنة بعض الدعاة والشباب يفقد توازنه مع غير المسلمين، وكأنه يوجب نمطا واحدا من المعاملة والخطاب، وما من شك أنهم أصناف وفئات، وللخطاب مقتضيات ومقامات، وللمتكلم أحوال وصفات، كلها توجب تعدد الخطاب وأن يكون مناسبا. لم يكلف محمد صلى الله عليه وسلم إرغام الناس على الدخول في الإسلام {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وفرق بين العرب في جزيرة العرب وغيرهم، فلم يقر المشركين العرب في الجزيرة على شركهم، وإن سوغ أخذ الجزية من عرب أهل الكتاب في غير الجزيرة، وقد نظم الإسلام العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة، والمعاهدين والمحاربين من أهل الكتاب وغيرهم تنظيما لا مزيد عليه، غير أنه يحلو لكثير من المشتغلين بالدعوة أن يبرزوا وجها واحدا من هذه المعاملة ويدعوا الباقي، مما يجعل

المسلمين هدفا لأعدائهم، وهم ليسوا مؤهلين لمعاداة أهل الأرض لأوضاع لا تخفى على أحد، وهذا كله من غيبة الفقه، ونزوع البعض إلى نمط واحد من الخطاب، وكأنه المتعين، على الرغم من اختلاف المقامات والمقتضيات. إن الله حرم على المؤمنين موالاة الكفار، لكنه لم يمنع البر والإحسان إليهم {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9] وقد ترك أمر الإحسان إليهم، واصطناع المعروف لديهم لتقدير المصلحة، أما الصنف الأول فالبر به والإحسان إليه هو الأولى لظهور المصلحة وغلبة الظن بتحققها. وقد تؤخذ آيات في طوائف من الكفار، وتطبق على آخرين، والأمر مختلف {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] هذا في مشركي العرب في جزيرة العرب، أما أهل الكتاب ففيهم {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]

تفاوت الشرائع

[تفاوت الشرائع] (3) تفاوت الشرائع ليست الشرائع على درجة واحدة، فهناك ما هو ركن، وما هو واجب، وما هو مستحب. . الخ، وكذلك المحظورات ذات درجات. فالشرائع من شعب الإيمان، والمحظورات من شعب الكفر، ومن أصول أهل السنة أنه يمكن أن يجتمع في الشخص الواحد كفر وإيمان، ويكون الشخص مؤمنا، في حين يسوي أهل الغلو بين شرائع الإسلام، فيكفرون بكل ذنب ولو كان دون الشرك، في حين خالف المرجئة، واكتفوا بمجرد التصديق، وقالوا: لا يضر ذنب مع التصديق. والوسط: هو قول أهل السنة، كما هو معلوم مفصل في موضعه. ومن مظاهر الوسطية في الإسلام عدم إلزام الناس طريقة واحدة، أو نمطا واحدا من أنماط البر، فهناك الصائم، والقائم، والذاكر، والعالم، والمجاهد، وفاعل المعروف، والمتصدق. الخ، وكلهم يؤدي شيئا من الإسلام، ومجموع أعمالهم تمثل شريعة الإسلام الواسعة الشاملة، وهذا التنوع ليس مسوغا لتنقص، ولا يدل على تمايز عند الله، وللجنة أبواب ثمانية، كل باب لضرب من ضروب البر. وهذا يفتح بابا واسعا في النظر والدعوة؛ إذ علينا أن نفيد من جميع المسلمين ذكورهم وإناثهم، محسنهم ومقصرهم، كما كان يفعل سلف هذه

الأمة، ففي جيش سعد، كان أبو محجن الثقفي، وكان القصاص، والقراء، والفرسان. . الخ، كل منهم يؤدي ما أقدره الله عليه، والله يتولى جميع عباده. إن ما يقال إن بعض المنتسبين للدعوة يفعله من رفض من لديه شيء من التقصير والإخلال أمر يجب أن نراجع فيه أنفسنا، ليتوحد الصف الإسلامي بكافة شرائحه كل بإمكانه، هذا بفكره، وذاك ببدنه، وآخر بماله، ورابع برأيه، وخامس بدعائه. . الخ، ولنتخلص من تصنيف الناس إلى بر يصلح لكل عمل، وفاجر لا يصلح مطلقا. وبعد. إن الوسطية ليست شعارا يرفعه مدعوه بل هي ممارسة عملية في واقع الحياة. {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123] والمعنى - كما قال ابن كثير - ((إن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: إنه هو الحق سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان)) (تفسيره 2 / 370) . إن الوسطية هي سمة الإسلام في عقائده، وشرائعه، وأنظمته. وأخلاقه. فهو وسط بين الغلو والتقصير: في عقائده بين التشبيه والتعطيل، والجبر والقدر مثلا، وفي التربية والسلوك بين الأمن والإياس. (ينظر شرح الطحاوية 586 - 588) . فيعبد الله بالحب والخوف والرجاء، وتلك عبادة المؤمنين. (ينظر شرح الطحاوية 372) .

إن الوسطية في الإسلام مؤسسة تأسيسا محكما، ولا تتم صورتها إلا بمراعاة ما يلي: 1 - الشمول الذي يجعل الإسلام مهيمنا على الحياة كلها بأنظمتها وأنشطتها المختلفة، وبأعمال الإنسان المتنوعة، فلا يشذ عن الدين أي عمل يعمله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] 2 - التوازن بين الأطراف المختلفة؛ بحيث لا يحصل حيف لطرف على طرف، ولا لجانب على جانب. 3 - تحقيق المقاصد الشرعية بحسب مرتبتها وأولويتها من ضروري، وحاجي، وتحسيني بحسب التمايز المتحقق، ولا تجوز التسوية بين هذه الدرجات إلا عند من لا فقه لديه، وحديثي العهد بالعلم. 4 - اتساع الصدور لاستيعاب المخالف فيما يسوغ فيه الخلاف، خاصة المجتهد، ومن يمكن التماس عذر له. 5 - وضوح الأصول الاعتقادية، لتكون منطلقا لغيرها من الأعمال. تم بحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.

المحور الثاني دلالة القرآن على سماحة الإسلام ويسره

[المحور الثاني دلالة القرآن على سماحة الإسلام ويسره] [مفهوم السماحة واليسر في الكتاب والسنة وأدلتها] [مقدمة] المحور الثاني دلالة القرآن على سماحة الإسلام ويسره مفهوم السماحة واليسر في الكتاب والسنة وأدلتها للدكتور ناصر بن عبد الله الميمان

مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد: فإن الدين الإسلامي اليوم يواجه تحديات كبيرة وهجمة شرسة على مبادئه، وفي سبيل ذلك تلصق به التهم والشبهات التي هو بريء منها، ومن ذلك: وصف أعداء الإسلام له بأنه دين العنف والإرهاب ومناوأة السلام والسلم الدوليين، وأن لديه من القيم والمناهج ما يتناقض مع ما تقرره العقول السليمة. والمنصف يعلم أن هذه التهم كلها من باب الزور والبهتان والقول بلا علم، وأنها محض دعايات لا توجد عليها الأدلة والبراهين. بل إن مبادئ الإسلام وأصوله قائمة على ما يحفظ السلم والسلام، ويقيم العدل والأمن في العالم أجمع، وبين أبناء البشر بلا تفرقة أو ميز، ويوفق بين حاجاتهم وواجباتهم، ويكفل لهم الحقوق الإنسانية التي تحفظ النسل البشري والعقل الإنساني، ومقومات الحياة المادية والاجتماعية. لذا أحببت في هذه العجالة المختصرة أن أشير إلى أصل عظيم، وسمة بارزة من سمات هذا الدين، ألا وهي: " السماحة واليسر في الإسلام "، وقد سقت في ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على هذا الأصل، ووضحت مفهوم السماحة من خلال كلام العلماء، وذلك ضمن المباحث التالية:

* المبحث الأول - معنى اليسر والسماحة. * المبحث الثاني - مفهوم اليسر والسماحة في الإسلام. * المبحث الثالث - أدلة اليسر والسماحة في الكتاب والسنة. * المبحث الرابع - دلالات النصوص المذكورة، وما شابهها. وإن موضوع هذا البحث موضوع جليل القدر، عظيم الشأن، عميم الفائدة، واسع المجال، لا يمكن استيعابه في مثل هذه العجالة، لكن حسبنا أن نشير هنا إلى ملامحه البارزة وخطوطه العريضة. وأسأل الله جل وعلا التوفيق والسداد، وأن يكون هذا البحث مسهما في إزالة الشبهات ودرء الظلم عن الشريعة الإسلامية، وأسأله جل وعلا أن ينفع به قارئه وكاتبه، إنه سميع مجيب.

المبحث الأول معنى اليسر والسماحة

[المبحث الأول معنى اليسر والسماحة] المبحث الأول معنى اليسر والسماحة 1 - معنى اليسر لغة: اليسر - بضم الياء وسكون السين، وبضمهما -: اللين والسهولة، والانقياد، ضد العسر. والتيسير: مصدر يسر الأمر، إذا سهله ولم يعسره، ولم يشق على نفسه أو غيره فيه (¬1) . ومعناه في الاصطلاح: موافق لمعناه اللغوي، وهو: عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، أو بعبارة أخرى: هو عمل فيه يسر وسهولة وانقياد (¬2) . ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدين يسر» : قال ابن الأثير: " اليسر ضد العسر، أراد أنه سهل سمح قليل التشديد " (¬3) . ب - أما السماحة لغة - في هذا الموضع -: فهي مصدر سَمَحَ يَسْمَحُ سَمَاحَةً وَسُمُوحَةً: أي فعل شيئا فسهل فيه. والسمح: السهل، والمسامحة: المساهلة (¬4) قال ابن فارس في مادة " سمح " السين والميم والحاء أصل يدل على سلاسة وسهولة (¬5) و" الحنيفية السمحة ": أي ليس فيها ضيق ولا شدة؛ لكونها مبنية على السهولة (¬6) . ¬

(¬1) انظر: مفردات ألفاظ القرآن، ص 576؛ لسان العرب " يسر ". (¬2) انظر: فيض القدير 2 / 326؛ ومحاسن التأويل (تفسير القاسمي) 3 / 427. (¬3) النهاية في غريب الحديث 5 / 295. (¬4) انظر: لسان العرب " سمح "، والمصباح المنير 1 / 288. (¬5) معجم مقاييس اللغة 3 / 99. (¬6) انظر: لسان العرب " سمح "؛ وفتح الباري 1 / 116 - 117.

ومعنى السماحة في الاصطلاح مثل معناها اللغوي، وقال بعضهم: " هي السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه. ومعنى كونها محمودة: أنها لا تفضي إلى ضرر أو فساد " (¬1) . ويتبين مما سبق أن اليسر والسماحة قريبان في المعنى، يعنيان السهولة واللين والسعة ورفع الحرج والضيق والمشقة ونحو ذلك من المعاني الدالة على السلاسة والسهولة. ¬

(¬1) مقاصد الشريعة الإسلامية: العلامة محمد الطاهر بن عاشور، ص 269.

المبحث الثاني مفهوم اليسر والسماحة في الإسلام

[المبحث الثاني مفهوم اليسر والسماحة في الإسلام] المبحث الثاني مفهوم اليسر والسماحة في الإسلام إن الله جل شأنه وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها إليهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماحة والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] (¬1) فقد أخبرت الآية - كما يقول الإمام الشاطبي - أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه (¬2) . فالتيسير صفة عامة للشريعة الإسلامية في أحكامها الأصلية، وكذا في أحكامها الطارئة عند الأعذار، فلا توجد فيها مشقة غير معتادة (¬3) ؛ لأن " الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه " (¬4) . ¬

(¬1) سورة الحجرات / الآية 7. (¬2) انظر: الموافقات 2 / 136. (¬3) قلنا غير معتادة؛ لأن المشقة المعتادة والمألوفة لا تخلو منها الأحكام في الغالب، بل وما سمي التكليف تكليفا إلا لوجود المشقة فيه، كما قال الإمام الشاطبي في المرجع السابق 2 / 121. (¬4) المصدر نفسه 2 / 121.

لكن ليس معنى اليسر والسماحة في الدين ترك العمل والتكاسل عن الطاعات والعبادات، كما ليس معنى التشديد فيه الأخذ بالأكمل فيها، كلا بل المراد الالتزام بالتوسط فيها، بلا إفراط ولا تفريط. نعم، هذا هو المنهج الوسط، وهو صراط الله المستقيم، فلا ميل إلى جانب الإفراط والتعمق والتشديد على النفس وعلى الآخرين، ولا إلى جانب التيسير الشديد والتساهل الذي يصل إلى حد التحلل والانسلاخ من الأحكام. وكما نقل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن بعض السلف: " إن دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه " (¬1) . وفي هذا الصدد أيضا كلام جميل للإمام الشاطبي حيث قال - رحمه الله تعالى -: " فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع، أو متوقع في طرف آخر. فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر - يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين. وطرف التخفيف - وعامة ما يكون في الترجي والترغيب والترخيص - يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم ¬

(¬1) مدارج السالكين 2 / 392؛ وانظر أيضا مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 268.

يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا، ومسلك الاعتدال واضحا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه "اهـ (¬1) . ¬

(¬1) الموافقات 2 / 167 - 168.

المبحث الثالث أدلة اليسر والسماحة في الكتاب والسنة

[المبحث الثالث أدلة اليسر والسماحة في الكتاب والسنة] [أولا من القرآن الكريم] المبحث الثالث أدلة اليسر والسماحة في الكتاب والسنة لقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وآثار الصحابة، وإجماع الأمة على أن التيسير ورفع الحرج أصل من أصول الشريعة الإسلامية، فكما قال الإمام الشاطبي: إن الأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة بلغت مبلغ القطع " (¬1) لذلك فسأكتفي هنا بذكر بعض الأمثلة منها: أولا: من القرآن الكريم هناك آيات كثيرة أفادت بصريح اللفظ أو دلالته اليسر ورفع الحرج عن الأمة، ويمكننا أن نقسم الآيات الصريحة في ذلك إلى المجموعات التالية: (أ) الآيات المصرحة بإرادة الله تعالى اليسر والتخفيف بهذه الأمة: (1) كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] (¬2) ولا يقال إن الآية نزلت في شأن الرخص في الصيام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر عند أهل العلم، قال أبو حيان: " وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية " (¬3) . ¬

(¬1) الموافقات 1 / 340. (¬2) سورة البقرة / الآية 185. (¬3) البحر المحيط 2 / 42؛ وانظر أيضا الجامع لأحكام القرآن 2 / 301.

(2) وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] (¬1) والآية في معرض إباحة نكاح الأمة عند عدم طَوْل الحرة، إلا أن أغلب المفسرين على أن ذلك عام في جميع أحكام الشرع، ويؤيده آخر الآية (¬2) . (3) وقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] (¬3) أي نسهل عليك يا محمد أعمال الخير، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا (¬4) . (ب) الآيات المصرحة برفع الحرج والعنت عن الأمة: (1) مثل قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] الآية (¬5) والحرج المنفي هنا هو جميع أنواع الحرج؛ لأنها نكرة في سياق النفي، ثم أكد هذا العموم بدخول حرف " من " عليها. (2) ونحو ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (¬6) قال الجصاص عند تفسير آية المائدة: " لما كان الحرج هو الضيق، ونفى الله عن نفسه إرادة الحرج بنا، ساغ الاستدلال بظاهره في نفي الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات، فيكون ¬

(¬1) سورة النساء / الآية 28. (¬2) انظر: تفسير الرازي 10 / 70؛ وتفسير ابن كثير 1 / 490. (¬3) سورة الأعلى / الآية 8. (¬4) انظر تفسير ابن كثير 4 / 535. (¬5) سورة المائدة / الآية 6. (¬6) سورة الحج / الآية 78.

القائل بما يوجب الحرج والضيق محجوجا بهذه الآية " (¬1) ونحو ذلك قال غير واحد من أهل العلم (¬2) . (3) ومن ذلك أيضا ما وصف الله - عز وجل - به نبيه صلى الله عليه وسلم من أنه {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] (¬3) أي ما شق عليكم وآذاكم وجهدكم (¬4) . (ج) الآيات المصرحة بأن الله لا يكلف العباد إلا بما في وسعهم: (1) كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الآية (¬5) . (2) وقوله تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152] (¬6) ونحوهما من الآيات. والوسع: قال الزمخشري: هو ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه. أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقها، ويتيسر عليها، دون مدى الطاقة والمجهود " (¬7) . وقال الرازي: " إنه ما يقدر الإنسان عليه في ¬

(¬1) أحكام القرآن 3 / 391. (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن 3 / 432. (¬3) سورة التوبة / الآية 128. (¬4) انظر تفسير الطبري 2 / 375، و 11 / 76. (¬5) سورة البقرة / الآية 286. (¬6) سورة الأنعام / الآية 152، وسورة الأعراف / الآية 42. (¬7) انظر: تفسير الكشاف 1 / 172.

ثانيا من السنة النبوية المطهرة

حال السعة والسهولة، لا في حال الضيق والشدة. . وأما أقصى الطاقة فيسمى جهدا، لا وسعا، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود " (¬1) . وكذا قال الإمام الشوكاني عند تفسير هذه الآية: " الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه " (¬2) . ومن هنا قرر الفقهاء أن ما عُجِزَ عن أدائه سقط وجوبه، كما صرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - في غير موضع من كتبه بأن الواجبات كلها تسقط بالعجز عن أدائها (¬3) . [ثانيا من السنة النبوية المطهرة] ثانيا: أدلة اليسر والسماحة من السنة النبوية المطهرة لما كان من الصعوبة بمكان استقصاء جميع الأحاديث الدالة على اليسر والسماحة في الشرع، لذلك سأكتفي هنا بذكر أبرز الأمثلة، ويمكن تقسيم هذه الأدلة إلى مجموعات - كما فعلنا في أدلة الكتاب - على النحو التالي: 1 - الأحاديث المصرحة بيسر الدين وسماحته، ومنها: (1) قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ ¬

(¬1) تفسير الرازي 14 / 84؛ وانظر أيضا مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 14 / 137 - 138. (¬2) فتح القدير، 1 / 307. (¬3) انظر: القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية في كتابي الطهارة والصلاة، ص 268، وراجع أيضا مجموع الفتاوى 26 / 203، و 243.

وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (¬1) والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، " فَسَدِّدُوا " أي الزموا الصواب، وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط (¬2) . (2) وعن مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، وَيَسْجُدُ وَيَرْكَعُ، وَيَسْجُدُ وَيَرْكَعُ. . وجاء في آخره: " إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ» وفي رواية: «إِنَّكُمْ أُمَّةٌ أُرِيدَ بِكُمُ الْيُسْرُ» (¬3) . (3) وعن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خَيْرُ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ» (¬4) . (4) وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا: «إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» (¬5) . ¬

(¬1) رواه البخاري في: 2 - الإيمان، 29 - باب الدين يسر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة " 1 / 23 (39) . (¬2) انظر: فتح الباري 1 / 117. (¬3) رواه الطيالسي في مسنده، ص 183؛ وأحمد في 4 / 338، و 5 / 32؛ والبخاري في الأدب المفرد، ص 124؛ وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 4 / 349؛ والطبراني في الكبير 20 / 296، وإسناده حسن. (¬4) أخرجه أحمد في 3 / 479، وصحح الحافظ إسناده في الفتح 1 / 116. (¬5) رواه مسلم في: 18 - الطلاق، 4 - باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية 2 / 1104 (1478) .

(5) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» (¬1) . قال الباجي - رحمه الله تعالى - عند شرح هذا الحديث: هذه سنة من الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا سيما لمن قرب عهده بالإسلام، ولم يعلم منه الاستهانة به، فيعلم أصول الشرائع، ويعذر في غيرها، حتى يتمكن الإسلام من قلبه؛ لأنه إن أُخِذَ بالتشديد في جميع الأحوال خيف عليه أن ينفر قلبه عن الإيمان، ويبغض الإسلام، فيؤول ذلك إلى الارتداد والكفر الذي هو أشد مما أنكر عليه (¬2) . (6) وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى» (¬3) . (7) وحديث عروة الفقيمي رضي الله عنه: «كُنَّا نَنْتَظِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مِنْ وُضُوءٍ - أَوْ غُسْلٍ - فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِينَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي يُسْرٍ» ثَلَاثًا يَقُولُهَا (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري في: 81 - الأدب، 80 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا " وكان يحب التخفيف على الناس 5 / 2271 (5777) . (¬2) انظر: المنتقى 1 / 129. (¬3) أخرجه البخاري في: 39 - البيوع، 16 - باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، 2 / 730 (1970) . (¬4) أخرجه أحمد في مسنده 5 / 69؛ وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 2 / 397؛ والطبراني في الكبير 7 / 146؛ وأبو يعلى في 12 / 274. وحسن الحافظ إسناده في الفتح 1 / 117.

(8) وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «إِنَّ دِينَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» (¬1) . (9) وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ مَرْفُوعًا: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: " الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» (¬2) . (10) وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا: «لِتَعْلَمَ الْيَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ» (¬3) . (11) وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» (¬4) . ومعنى " السمحة ": السهلة، أي أنها مبنية على السهولة، فجمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة، فهي حنيفية في التوحيد سمحة في العمل، كما قال الإمام ابن القيم (¬5) . ب - الأحاديث الآمرة بالتيسير والناهية عن التشديد والتعمق، ومنها: ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط 1 / 242؛ والبيهقي في شعب الإيمان 3 / 30؛ والقضاعي في مسند الشهاب 2 / 104. وعزاه الهيثمي إلى الطبراني، وقال: " رجاله موثوقون " مجمع الزوائد 1 / 214. (¬2) أخرجه أحمد في 1 / 236؛ وعبد بن حميد في مسنده، ص 199 (569) والبخاري في الأدب المفرد، ص 108 (287) ؛ والطبراني في الكبير 11 / 227. وحسن الحافظ إسناده في الفتح / 118. (¬3) أخرجه أحمد - واللفظ له - في 6 / 116، و 233؛ والحميدي في مسنده 1 / 123. وإسناده حسن. (¬4) أخرجه - من طرق فيها مقال - أحمد في 5 / 266؛ والطبراني في الكبير 8 / 170، و 8 / 170؛ والروياني في مسنده 2 / 317، وانظر مجمع الزوائد 5 / 279. (¬5) انظر: إغاثة اللهفان: 1 / 158.

(1) حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهُمَا: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا» (¬1) . (2) وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَمْرِهِ قَالَ: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» (¬2) . (3) وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» (¬3) . (4) وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ حَتَّى كَثُرُوا، فَأَقْبَلَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» (¬4) . (5) وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ: فُلَانَةُ، لَا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في: 81 - الأدب 80 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا " وكان يحب التخفيف على الناس 5 / 2296 (5773) . ومسلم في 36 - كتاب الأشربة، 7 - باب بيان أن كل مسكر خمر 3 / 1586 (1733) . (¬2) أخرجه مسلم في: 32 - كتاب الجهاد، 3 - باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير 3 / 1358 (1732) . (¬3) أخرجه البخاري في الموضع السابق (5774) . (¬4) أخرجه: البخاري في: 80 - كتاب اللباس، 42 - باب الجلوس على الحصير ونحوه 5 / 2201. (5523) ، ومسلم في: 6 - صلاة المسافرين وقصرها، 30 - باب فضيلة العمل الصالح من قيام الليل وغيره 1 / 540 (782) .

تَنَامُ اللَّيْلَ - تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا - فَقَالَ: مَهْ، عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» (¬1) . (6) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ قَالَ: نِصْفَ الدَّهْرِ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (¬2) . (7) وَفِي حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ سَلْمَانَ زَارَ أَبَا الدَّرْدَاءِ " فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في: 19 - كتاب التهجد، 18- باب ما يكره من التشديد في العبادة 1 / 386 (1100) . ومسلم في: 6 - صلاة المسافرين وقصرها، 31 - باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد حتى يذهب منه ذلك 1 / 542 (785) . وفي الباب أيضا حديث أنس رضي الله عنه، أخرجاه قبل حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري في: 36 - كتاب الصوم، 54- باب حق الجسم في الصوم 2 / 697 (1874) . ومسلم في: 13 - كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به 2 / 813 (1159) .

لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ لَهُ: كُلْ. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ: فَأَكَلَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ. قَالَ: نَمْ، فَنَامَ» . . وَجَاءَ فِيهِ: «فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ سَلْمَانُ» (¬1) . (8) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّكُمْ مِثْلِي، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي. فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ. كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ حِينَ أَبَوْا» (¬2) . (9) وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ» (¬3) . (10) وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ¬

(¬1) رواه البخاري في: 30 - كتاب الصوم، 51 - باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، 2 / 649 (1867) . (¬2) أخرجه البخاري في: 89 - الحدود، 28 - باب كم التعزير، والأدب 6 / 2512 (6459) . ومسلم في: 13 - كتاب الصيام، 11 - باب النهي عن الوصال في الصوم 2 / 774 (1102) . (¬3) أخرجه أحمد في 3 / 198.

وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (¬1) . فالحديث دال على أنه ليس منه صلى الله عليه وسلم من عزم على أنواع الشدة والمشاق التي كانت في الأمم السالفة فخففها الله تعالى عن هذه الأمة (¬2) . (11) وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِتَشْدِيدِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَسَتَجِدُونَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ» (¬3) . (12) وَلَفْظُهُ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] » ، (¬4) . قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشدد العبد على ¬

(¬1) أخرجه البخاري في: 17 - كتاب النكاح، 1 - باب الترغيب في النكاح 5 / 1949 (4776) . (¬2) انظر الموافقات 1 / 342. (¬3) رواه الطبراني في الأوسط 3 / 258؛ والكبير 6 / 73، وقال الهيثمي: " فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث وثقه جماعة وضعفه آخرون " مجمع الزوائد 1 / 62. (¬4) سورة الحديد 27. والحديث رواه: أبو داود في: 36 - كتاب الأدب، 52 - باب في الحسد 4 / 276 (4904) ؛ وأبو يعلى في مسنده 6 / 365، وإسناده لا بأس به.

نفسه هو السبب في تشديد الله عليه، إما بالقدر، وإما بالشرع. . فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين والاعتصام بالسنة " (¬1) . (13) وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا. فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» (¬2) . (14) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا» (¬3) . (15) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ عَلَى الْمُتَنَطِّعِينَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنِّي لَأَظُنُّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَشَدَّ أَهْلِ الْأَرْضِ خَوْفًا عَلَيْهِمْ، أَوْ لَهُمْ» (¬4) . ¬

(¬1) إغاثة اللهفان 1 / 132. (¬2) أخرجه البخاري في مواضع، منها: 15 - كتاب الجماعة والإمامة، 33 - باب تخفيف الإمام في القيام والركوع وإتمام السجود 1 / 248 (670) . ومسلم في: 4 - كتاب الصلاة، 37 - باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 1 / 240 (466) . (¬3) أخرجه مسلم في: 47 - كتاب العلم، 4 - باب هلك المتنطعون 4 / 2055 (2760) . (¬4) أخرجه الدارمي في سننه، 19 - باب من هاب الفتيا، وكره التنطع والتبدع 1 / 65 (138) ؛ وأبو يعلى في مسنده 8 / 437؛ والطبراني في الكبير 10 / 174. وقال الهيثمي: " رجالهما ثقات ". مجمع الزوائد 10 / 2251.

و" المتنطعون " هم " المتعمقون، الغالون، المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم " (¬1) . ج - الأحاديث الدالة على التزام النبي صلى الله عليه وسلم اليسر في أموره، وتيسيره على أمته: لقد امتن الله - عز وجل على هذه الأمة بأن بعث فيهم رسولا، من صفاته أنه يعز عليه ما يعنت أمته، قال جل ثناؤه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] (¬2) ومعنى قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] أي تعز عليه مشقتكم - كما سلف - والناظر في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم يرى بكل جلاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يتفادى كل ما يكون سببا لتكاليف قد تشق على المسلمين، وكان يتجنب أن يصنع شيئا تكون فيه مشقة على أمته إذا اقتدوا به فيه، فمن ذلك: (1) حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ، حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ. فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 220. (¬2) سورة التوبة / الآية 128.

فَتَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا» (¬1) . (2) وَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؟ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» (¬2) . (3) وَجَاءَ ضِمْنَ حَدِيثٍ آخَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ» (¬3) . (4) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري في: 17 - الجمعة، 25 - باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد 1 / 313 (882) . ومسلم في: 6 - صلاة المسافرين وقصرها، 25 - باب الترغيب في قيام رمضان 1 / 524 (761) . (¬2) أخرجه مسلم في: 15 - كتاب الحج، 73 - باب فرض الحج مرة في العمر 2 / 73 (1337) . (¬3) أخرجه البخاري في: 2 - كتاب الإيمان، 25 - باب الجهاد من الإيمان 1 / 22 (36) . ومسلم في: 33 - كتاب الإمارة، 28 - باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله 3 / 1497 (1876) . (¬4) أخرجه البخاري في مواضع، منها: 17 - كتاب الجمعة، 7 - باب السواك يوم الجمعة 1 / 303 (847) ، ومسلم في: 2 - كتاب الطهارة، 15- باب السواك 1 / 220 (252) .

وهناك الكثير من نحو هذه الأحاديث الدالة على تيسيره صلى الله عليه وسلم على المؤمنين، ومخافة المشقة عليهم. (5) ونختم هذا المبحث بحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ - وَفِي رِوَايَةٍ: اخْتَارَ - أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ» . . الحديث (¬1) . قال ابن عبد البر: " في هذا الحديث دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبدا، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله ورسوله " (¬2) . ولو رحنا نتتبع ما ورد من ذلك في آثار الصحابة والتابعين لطال بنا المقام، ولعل فيما ذكرنا الكفاية. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في مواضع، منها: 81 - كتاب الأدب، 80 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا "، وكان يحب التخفيف والتسري على الناس 5 / 2296 (5775) . ومسلم في: 43 - كتاب الفضائل، 20 - باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه صلى الله عليه وسلم عند انتهاك حرماته 4 / 1813 (2372) . (¬2) التمهيد 8 / 146.

المبحث الرابع دلالات النصوص المذكورة وما شابهها

[المبحث الرابع دلالات النصوص المذكورة وما شابهها] المبحث الرابع دلالات النصوص المذكورة، وما شابهها بإمعان النظر في النصوص التي سقناها آنفا، من الكتاب والسنة، وما لم نذكرها مما في معناها، نستنبط منها جملة من الدلالات - غير التي سبقت الإشارة إليها في ثنايا عرض النصوص - منها ما يلي: 1 - إن اليسر والسماحة وانتفاء الحرج من أكبر مقاصد الشريعة، كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم: فقد قال الإمام العز بن عبد السلام - رحمه الله تعالى -: " التيسير ورفع الحرج أصل عظيم في الدين، وركن من أركان شريعة المسلمين شرفنا الله - سبحانه وتعالى - به، فلم يحملنا إصرا ولا كلفنا في مشقة أمرا (¬1) . ويقول الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -: " رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات، فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري البتة. . ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة، ولم يشرع فيه رخصة، تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات " (¬2) . ويقول العلامة ابن عاشور - رحمه الله تعالى -: " استقراء الشريعة دل على أن السماحة واليسر من مقاصد الدين " (¬3) . ¬

(¬1) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام، ص 128. (¬2) الموافقات 1 / 352. (¬3) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 270.

وقد أجمعت علماء الأمة على عدم وقوع المشقة غير المعتادة في التكاليف الشرعية ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وهي منزهة عنه (¬1) . ومن هنا فقد وجدنا الفقهاء - رحمهم الله تعالى - كثيري الاعتماد على هذا الأصل في استنباط الأحكام وتعليلها وترجيح بعضها على بعض، حتى قال الإمام إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى -: " إِذَا تَخَالَجَكَ أَمْرَانِ، فَظُنَّ أَنَّ أَحَبَّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَيْسَرُهُمَا " (¬2) . وقد استنبط الفقهاء من هذا الأصل القاعدة الفقهية الكبرى: " المشقة تجلب التيسير " (¬3) وما يندرج تحتها من القواعد الفقهية. 2 - إن اليسر والسماحة من خصائص الشريعة الإسلامية: وذلك: أولا - لأن الله سبحانه وتعالى أراد للشريعة الإسلامية أن تكون شريعة عامة للناس كافة في جميع أنحاء المعمورة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فاقتضى ذلك أن يجعل الله فيها من اليسر والسماحة والتخفيف ما يلائم اختلاف الناس وطبائعهم، في مختلف الأزمان، وتباين البقاع، حتى يكون تنفيذها بين الأمة سهلا ميسورا، ولا يتأتى ذلك إلا إذا انتفى عنها التشديد والإعنات (¬4) . ¬

(¬1) انظر: الموافقات 2 / 132. (¬2) كتاب الآثار: محمد بن الحسن الشيباني، ص 196. (¬3) انظر: الأشباه والنظائر: السيوطي، ص 76. (¬4) انظر: المرجع السابق، والعبادة في الإسلام: د / يوسف القرضاوي، ص 188.

ثانيا - لأنها شريعة الفطرة، وفي فطرة الإنسان حب اليسر والرفق والسماحة، والنفور من الشدة والإعنات، فإن طبيعة البشر العادية تنفر من التشديد ولا تحتمله، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه بعضهم لم يصبر عليه عامتهم، والشريعة إنما خاطبت الناس جميعا. وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الإسلام، وتقبل الناس له على مر العصور. ثالثا - ولأن هذه الأمة أمة وسط في جميع المجالات، منها مجال شرعها الحنيف؛ لأن السماحة في الشريعة تعني سهولة التكليف والمعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل، وهذا راجع إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، والوسطية مما تميزت به هذه الأمة من بين سائر الأمم، كما قال جل شأنه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] الآية (¬1) . وعلى ذلك، فإن من نعمة الله تعالى على هذه الأمة أن جعل دينها وشريعتها حنيفية سمحة، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، لا إصر فيها ولا الأغلال التي كانت على الأمم السالفة، كما وصف بذلك نبيها صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] (¬2) . ¬

(¬1) سورة البقرة: الآية 143. وانظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 268 - 269؛ العبادة في الإسلام: د / يوسف القرضاوي، ص 188؛ والصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف، له أيضا، ص 24؛ و29. (¬2) سورة الأعراف: الآية 157.

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: " أي أنه جاء بالتيسير والسماحة. . وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها وسهلها لهم. . " إلخ (¬1) . وقال القرطبي - رحمه الله تعالى -: " ولم يكن في دين محمد صلى الله عليه وسلم الرهبانية والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية، كما كان في دين عيسى عليه السلام، وإنما شرع الله سبحانه حنيفية سمحة خالصة عن الحرج، خفيفة على الآدمي " (¬2) . 3 - إن اليسر والسماحة ورفع الحرج تشمل جميع أعمال المكلف، الدينية منها والدنيوية، ما لم يخالف حكما شرعيا. فليس للمسلم أن يشدد على نفسه بما لا يحتمله من العبادة، ولا أن يضيق على نفسه في أمور الدنيا بزعم التقرب إلى الله تعالى بذلك، فليس التضييق على النفس في الحلال من القربة إلى الله تعالى والزهد؛ لأن وجهة الإسلام العامة هي التيسير، فمن يبغي الشدة والتعنت إنما يعاند روح الإسلام (¬3) . 4 - إن الأمر بالتيسير والسماحة يعم جميع المكلفين، كل فيما يخصه: ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم 2 / 265. (¬2) الجامع لأحكام القرآن 10 / 56 - 57. (¬3) انظر: الموافقات 1 / 341؛ العبادة في الإسلام، ص 188.

فنرى - مثلا - أن الأئمة مأمورون بتخفيف الصلاة، مراعاة لظروف وأحوال من وراءهم من المأمومين. والمعلمون والمربون مطالبون بالتيسير والرفق بالمتعلمين، فينبغي أن يرفقوا بهم ويأخذوهم باللين واللطف لا بالشدة والعنف الذي ينفرهم من الحق، ويستأنس لذلك بما حكاه الله سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام - وهو في مقام التعلم من الخضر عليه السلام - {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73] (¬1) . وكذلك الدعاة ينبغي لهم أن يتحلوا بالرفق واللين والسماحة حتى تعطي دعوتهم ثمارها المرجوة كما أمر الله سبحانه وتعالى موسى وهارون عليهما السلام بقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] (¬2) وكما قال عز من قائل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬3) . كما يجب على الأمراء والولاة والعمال، وكل من تولى شيئا من أمور المسلمين أن ييسر على من تحت أيديهم ويرفق بهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) سورة الكهف: الآية 73. (¬2) سورة طه: الآية 43 - 44. (¬3) سورة النحل: الآية 125.

«اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به» (¬1) . والمفتون كذلك ليس لهم أن يفتوا بما فيه حرج وشدة على المستفتي، ما دام يجد له مخرجا شرعيا صحيحا. وهكذا باقي فئات المجتمع. 5 - إن الأمر بالتيسير والنهي عن التعمق والتشديد معلل بأمور (¬2) منها: (أ) الخوف من الانقطاع عن العبادة وبغض العبادة، وكراهة التكليف. وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله. قال ابن المنير - رحمه الله تعالى - في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع " (¬3) . وقد بوب ابن حبان - رحمه الله تعالى - على قوله صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» : " باب ذكر العلة التي من أجلها أمر بالأمر بإتيان الطاعات على الرفق ". ¬

(¬1) أخرجه مسلم في: 33 - كتاب الإمارة، 5 - باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم 3 / 1458 (1827) . (¬2) انظر: الموافقات 2 / 136 فما بعدها، ومقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام، ص: 336. (¬3) فتح الباري 1 / 117؛ وانظر أيضا الصحوة الإسلامية بين التطرف والجمود، ص 30.

(ب) الخوف من التقصير عند مزاحمة الحقوق والواجبات والوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، فإنه ربما أوغل في رعاية جانب على حساب جانب آخر فغفل عنه، كما تدل عليه قصة سلمان الفارسي مع أبي الدرداء رضي الله عنهما. وكما هو مقرر عند الأصوليين أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فمن انتفت في حقه هذه العلل فله ذلك، كما نقل عن حال بعض السلف من هذه الأمة ممن يسر الله تعالى لهم طاعته، وسهل عليهم تحمل المشاق في طاعته وعبادته، كما نبه عليه الإمام الشاطبي، رحمه الله تعالى (¬1) . 6 - وأخيرا يجب التنبيه هنا على أنه ليس المراد بيسر الدين وسماحة الشريعة ترك العمل، أو تتبع مواطن الرخص، بعيدا عن الغاية الحقيقية من خالص الخضوع والطاعة لله وحده، والأخذ بالأسهل من الأمور تبعا للهوى، مما قد يؤدي بصاحبه إلى الانسلاخ من الأحكام والتهاون في مسائل الحلال والحرام في المطاعم والمشارب والمعاملات المالية وغيرها بدعوى يسر الدين وسماحته وعدم الحرج فيه (¬2) بل المراد تجنب المشقة غير المعتادة بعدم التشديد في العبادات بنية التورع، وتحاشي التعمق في المسائل بزعم الطلب للأحوط وترك الشبهات، والله تعالى أعلم. ¬

(¬1) انظر: الموافقات 2 / 140 - 141. (¬2) انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: ضوابطه وتطبيقاته: الدكتور / صالح بن عبد الله بن حميد، ص 14.

هذا ما تيسرت لي كتابته في هذا الموضوع وهو غيض من فيض، مما يؤكد أن اليسر والتخفيف ورفع الحرج والمشقة من أبرز سمات هذا الدين الحنيف وشريعته السمحة، أسأل الله العلي العظيم أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع

[المصادر والمراجع] فهرس المصادر والمراجع (1) كتاب الآثار: للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، (ت 182) - تحقيق: أبي الوفا - دار الكتب العلمية، بيروت - 1355 هـ -. (2) الآحاد والمثاني: أحمد بن عمرو بن الضحاك أبو بكر الشيباني (ت 287) - تحقيق: د / باسم فيصل الجوابرة - دار الراية، الرياض - الطبعة الأولى - 1411 هـ. (3) أحكام القرآن: أبو بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي (ت 370 هـ) - دار الكتاب العربي - بيروت. (4) الأشباه والنظائر: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ) - دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ -. (5) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: الإمام محمد بن أبي بكر، ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) - تحقيق: محمد حامد الفقي - دار المعرفة - الطبعة الثانية، 1395 هـ. (6) البحر المحيط: محمد بن يوسف، الشهير بأبي حيان الأندلسي (754 هـ) - دار الفكر - الطبعة الثانية، 1398 هـ. (7) تفسير القرآن العظيم: الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير (774 هـ) - دار المعرفة، بيروت - الطبعة الثانية، 1407 هـ. (8) التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) : أبو عبد الله محمد بن عمر فخر الدين الرازي، (ت 606 هـ) ، دار الفكر - الطبعة الأولى والثانية 1405 هـ.

(9) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: ابن عبد البر، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد بن عبد الكبير البكري - الطبعة الثانية - المملكة المغربية. (10) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: الإمام ابن جرير الطبري - دار الفكر، بيروت - 1405 هـ. (11) الجامع الصحيح: الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) ، تحقيق: د / مصطفى ديب البغا - دار القلم، دمشق، بيروت - الطبعة الأولى 1401 هـ. (12) الجامع الصحيح: الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، (ت 264 هـ) ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية - الطبعة الأولى 1374 هـ. (13) الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي - دار الكتب المصرية، القاهرة - الطبعة الأولى 1365 هـ. (14) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: د / صالح بن عبد الله بن حميد - جامعة أم القرى - الطبعة الأولى، 1403 هـ. (15) السنن: الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، (ت 275 هـ) تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد - دار الباز للنشر والتوزيع -. (16) السنن: الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، (ت 255 هـ) ، تحقيق: فؤاد أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي - دار الريان للتراث، القاهرة - الطبعة الأولى 1407. (17) شعب الإيمان: الإمام البيهقي، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول - دار الكتب العلمية، بيروت - الطبعة الأولى 1410 هـ.

(18) العبادة في الإسلام: د / يوسف القرضاوي - مؤسسة الرسالة، بيروت - الطبعة 11 - 1403 هـ. (19) الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف: د / يوسف القرضاوي - سلسلة كتاب الأمة - 1402 هـ. (20) صحيح مسلم بشرح النووي: الإمام محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676) . (21) فتح الباري بشرح صحيح البخاري: الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852) - راجعه: قصي محب الدين الخطيب - دار الريان، القاهرة - الطبعة الأولى، 1407 هـ. (22) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) - دار الفكر - 1401 هـ. (23) القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية في كتابي الطهارة والصلاة: ناصر بن عبد الله الميمان - الطبعة الأولى، مكة المكرمة، مطابع جامعة أم القرى 1416 هـ. (24) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: محمود بن عمر الزمخشري (538 هـ) - دار المعرفة، بيروت -. (25) لسان العرب: لجمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، (ت 711 هـ) ، ت: عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي - دار الفكر. (26) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين الهيثمي (ت 807 هـ) - دار الريان - القاهرة - 1407 هـ.

(27) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (ت 728 هـ) - جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم - إشراف المكتب التعليمي السعودي بالمغرب، الرباط - مكتبة المعارف. (28) محاسن التأويل (تفسير القاسمي) : محمد جمال الدين القاسمي - تصحيح وتعليق: محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية - الطبعة الأولى، 1376 هـ. (29) مدارج السالكين: الإمام ابن قيم الجوزية - تحقيق: محمد حامد الفقي - دار المعرفة، بيروت - الطبعة الثانية، 1359 هـ. (30) المسند: الإمام أحمد بن حنبل - دار الفكر -. (31) المسند: أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي، (ت 204) - مكتبة المعارف الرياض، دار المعرفة، بيروت -. (32) المسند: أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، (ت 219) - أو بعدها - تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي - المكتبة السلفية، المدينة المنورة -. (33) المسند: أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى التميمي، (ت 307) ، تحقيق: حسن سليم أسد - دار المأمون للتراث - الطبعة الأولى، 1406 هـ. (34) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: أحمد بن محمد الفيومي، (ت 775 هـ) دار الفكر -. (35) المعجم الأوسط: سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، أبو القاسم الطبراني (ت 360 هـ) ، تحقيق: طارق بن عوض الله - دار الحرمين القاهرة - 1415 هـ.

(36) المعجم الكبير: أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي - وزارة الأوقاف بالجمهورية العراقية - مطبعة الأمة، بغداد - الطبعة الثانية -. (37) معجم مقاييس اللغة: لابن فارس - تحقيق: عبد السلام هارون - دار الجيل، بيروت - الطبعة الأولى 1411 هـ. (38) مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني (503 هـ) - تحقيق نديم مرعشلي - دار الفكر، بيروت -. (39) مقاصد الشريعة الإسلامية: محمد الطاهر بن عاشور - تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي - دار النفائس الأردن - الطبعة الثانية، 1421 هـ. (40) مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبد السلام: عمر بن صالح - دار النفائس، الأردن - الطبعة الأولى 1423 هـ. (41) المنتقى شرح موطأ مالك: أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، الأندلسي (ت 494 هـ) - مطبعة السعادة، مصر - 1332 هـ. (42) الموافقات: إبراهيم بن موسى الغرناطي، الشاطبي (ت 790) ، تحقيق عبد الله دراز - دار المعرفة، بيروت -. (43) النهاية في غريب الحديث والأثر: أبو السعادات المبارك بن محمد ابن الجزري، الشهير بابن الأثير، (ت 606 هـ) ، تحقيق: محمود الطناحي، وطاهر أحمد الزاوي دار إحياء الكتب العربية -.

سماحة الإسلام في التعامل مع المخالف

[سماحة الإسلام في التعامل مع المخالف] [مقدمة] المحور الثاني دلالة القرآن على سماحة الإسلام ويسره سماحة الإسلام في التعامل مع المخالف للدكتور حمزة بن حسين الفعر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل إلينا رسوله محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وأنزل علينا خير كتبه، ورضي لنا الإسلام دينا. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. أما بعد، فإن حكمة الله البالغة اقتضت أن يكون دين الإسلام خاتم الرسالات الإلهية لأهل الأرض، وهو الدين الذي رضيه الله لعباده المؤمنين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] (¬1) ولا يقبل الله من أحد من المكلفين كائنا من كان دينا غيره كما قال جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] (¬2) {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] (¬3) . ورسالات الأنبياء السابقين وشرائعهم كانت هدايات وقتية سرعان ما تتبدل ويدخلها التحريف والتغيير على أيدي أبنائها أو غيرهم بعد موت نبيهم، ويظل أهلهم يوغلون في التخبط عن الرسالة الحقة التي ¬

(¬1) سورة المائدة: الآية 3. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 19. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 85.

جاءهم بها نبيهم، وتختلط الأمور عليهم بسبب التحريف الذي لحق بها حتى يبعث الله لهم نبيا آخر يردهم إلى الجادة، ويحيي ما اندرس من معالم الدين الصحيح. كما أنها رسالات خاصة بالأقوام الذين يبعث فيهم الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، وليست عامة لكل البشر كما قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] (¬1) ولهذا قد يوجد في الزمن الواحد أكثر من نبي، كل يبعث في قومه خاصة. أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الخاتم - الإسلام - فإنها عامة لكل الخلق لا تختص بأمة دون أمة، ولا بموطن دون موطن، بل كل الخلق بعد بعثته صلى الله عليه وسلم أمة واحدة هي أمة الدعوة، والرسول واحد والدين واحد: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] (¬2) . ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: « (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ:. وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ) » (¬3) . كما أن هذه الرسالة خالدة باقية إلى نهاية هذه الدنيا محفوظة بحفظ الله لكتابها من التغيير والتبديل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (¬4) . ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 48. (¬2) سورة سبأ، الآية: 28. (¬3) هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه ": 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة ح (5 - 523) ، ص (213) . (¬4) سورة الحجر، الآية: 9.

وجاء في الحديث الصحيح: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» (¬1) . وقد جاء هذا الدين هداية للبشرية كلها ورحمة بها كما يدل على ذلك قوله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (¬2) . وهذه الرحمة تشمل جوانب عديدة، من أهمها: (1) أن الله رفع به عذاب الاستئصال للكافرين وهم أمة الدعوة. (2) أن الله جعل في دينه سعادة الدنيا لمن التزم به لما فيه من سعة، ويسر، وحق، وعدل، وخلاص من القلق والحيرة، وجعل فيه سعادة الآخرة بالفوز برضوان الله، ودخول الجنة، والتمتع بما أعده الله فيها للمتقين. رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» (¬3) . ¬

(¬1) هذا حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أخرجه الإمام البخاري في صحيحه ": 96 - كتاب الاعتصام، 10 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون " وهم أهل العلم ح (7311) ، ص (1533) . (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬3) 45 - كتاب البر والصلة والأدب، 24- باب النهي عن لعن الدواب وغيرها ح (87 = 2599) ، ص (1134) .

وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ الرَّحْمَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عُوفِيَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا أَصَابَ الْمَاضِينَ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ. . " وإذا قاتل المسلمون الكفار المعادين فإنه لا يجوز لهم قتل النساء والأطفال، ولا الشيوخ ولا الرهبان في صوامعهم. وإن دينا هذه حقيقته، وهذا مقصده لا يسعه إلا أن يكون سمحا سهلا مع الخلق أجمعين، من كان منهم من أتباعه ومن لم يكن، حتى الأحوال التي تقتضي الشدة والحزم فإنها تنطوي على جوانب من السماحة واليسر لا يوجد لها نظير في غيره. ومن ذلك إقامة الحدود والقصاص على من وقعوا فيها، فإنه لا يجوز لعنهم ولا مجاوزة العقوبة المقدرة في حقهم، ومن ذلك أيضا ذبح البهائم لأكلها، فإنه لا بد للذابح من مراعاة عدم تعذيبها: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (¬1) . ولما كان جانب التعامل في هذه الحياة من أهم الجوانب لاتصاله بعلاقات الناس، وأحوالهم وأخلاقهم فإن الشريعة الإسلامية المطهرة أولته ¬

(¬1) هذا حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه ": 34 - كتاب الصيد والذبائح، 11 - باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة ح (57 = 1955) ، ص (873) .

من مظاهر سماحة الإسلام

عناية فائقة تنم عن مصدر هذا الدين، وأنه الهداية الإلهية لهذه البشرية بكل ما فيها من خير ورحمة، ويسر وسماحة. [من مظاهر سماحة الإسلام] [أولا تكريم بني آدم] ويمكن أن نذكر هنا أهم الركائز التي توضح بجلاء سماحة هذا الدين مع كل أحد حتى المخالفين: أولا: تكريم بني آدم يدل لذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] (¬1) قال المفسرون في بيان معنى التكريم في الآية: كرمهم بالعقل والنطق وتسخير الأشياء، وتناول الطعام بالأيدي، وحملهم في البر والبحر على المراكب المختلفة. ورزقهم من الطيبات، أي من الزروع والثمار واللحوم والألبان والطعوم المشتهاة، والمناظر الحسنة، والألبسة المختلفة الأنواع والألوان، وفضلهم على سائر المخلوقات بسبب النعم المتقدمة (¬2) كما أنه بين لهم أن كل ما خلق في ظاهر الأرض أو باطنها، إنما هو لمصلحتهم ومن أجلهم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] (¬3) . ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 70. (¬2) تفسير ابن كثير (3 / 52) . (¬3) سورة البقرة، الآية: 29.

ثانيا محبة الخير للناس

وأقسم سبحانه على خلقه للإنسان في أحسن صورة، وأتم شكل في سورة التين، فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ - وَطُورِ سِينِينَ - وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ - لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 1 - 4] (¬1) . وقال الله تعالى بعد ذكر قصة ابني آدم، وقتل أحدهما الآخر معظما شأن إزهاق النفوس بغير حق، وحاثًّا على إحيائها واستبقائها: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] (¬2) قال قتادة رحمه الله: " عظيم والله وزرها، عظيم والله أجرها " (¬3) أي قتلها، وإحياؤها. [ثانيا محبة الخير للناس] ثانيا: محبة الخير للناس وهذه سمة ظاهرة في هذا الدين، وأصل أصيل في أحكامه وتشريعاته، دلت على ذلك آيات وأحاديث عديدة: (1) منها ما ذكر في كتاب الله كثيرا من توجيه خطابات الدعوة إلى الهدى، والتذكير بنعم الله، وحقه على خلقه إلى الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] (¬4) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] (¬5) . ¬

(¬1) سورة التين، الآية: 1 - 4. (¬2) سورة المائدة، الآية: 32. (¬3) تفسير ابن كثير (2 / 48) . (¬4) سورة البقرة، الآية: 21. (¬5) سورة النساء، الآية: 1.

ثالثا العدل والإنصاف

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] (¬1) . وإلى بني آدم: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] (¬2) {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] (¬3) {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35] (¬4) . (2) ومنها قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] (¬5) فالله سبحانه لا يأمر عباده بالكفر، ولا يحبه لهم. (3) ومنها قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ. .» [ثالثا العدل والإنصاف] ثالثا: العدل والإنصاف وهاتان خصلتان شريفتان تنبئان عن سر من أسرار عظمة هذا الدين، حيث أوجب العدل والإنصاف لكل أحد، حتى ولو كان مخالفا، تأصيلا لاتباع الحق، ونبذا للهوى الذي يعمي صاحبه عن الخير، ويحمله على الجور، ويحجبه عن كثير من الفضائل والمنافع، والحياة البشرية ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 13. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 26. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 27. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 35. (¬5) سورة الزمر، الآية: 7.

بكل تقلباتها واختلافاتها، لا يضبط مسيرتها، ولا يحصن أهلها، ويؤمن حقوقهم إلا إقامة العدل والإنصاف، فإذا ما اهتزت هذه الركيزة اضطربت الأحوال، وسرى الفساد في جنبات هذه الحياة فانقلب نعيمها بؤسا، وبرها قطيعة، وما هذا البؤس الذي تتجرع البشرية بعامة، والمسلمون بخاصة مرارة كأسه إلا نتيجة للتفريط والعدوان على هذا الأصل، ولا يكاد يقيم هذا إلا من انتصر على هواه ونفسه، وتطلع إلى معالي الأمور - وأعظمها طاعة الله - وإن الناظر المنصف ليستطيع التمييز بين مراتب الناس وأقدارهم بملاحظة التزامهم بهذا الميزان من عدمه، ولهذا لا غرابة أن يتبوأ هذا المعنى الكريم من الشريعة المكان الذي يليق به، فإن السماوات والأرض قامتا بالعدل، وقد جاءت نصوص كثيرة في كتاب الله، وفي سنة رسوله عليه السلام تأمر بالعدل في الأقوال والأفعال، وتدعو إليه، وتحذر من مغبة مخالفته منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] (¬1) وقوله. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 8] (¬2) وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] (¬3) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] (¬4) . ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 135. (¬2) سورة المائدة، الآية: 8. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬4) سورة النحل، الآية: 90.

رابعا تحريم الظلم

كما أكدت آيات الكتاب على الإنصاف وعدم غمط ذوي الحقوق حقوقهم، فقال تعالى عن أهل الكتاب بعد أن حكى ظلمهم وكفرهم وتكذيبهم لأنبيائهم ومخالفاتهم العديدة منصفا أهل الاستقامة منهم بالثناء عليهم: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] (¬1) {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199] (¬2) وقال جل ذكره: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] (¬3) فلا يجوز لأحد من المسلمين أن يغمط من يخالفه حقه، ولا أن يعامله بغير العدل. [رابعا تحريم الظلم] رابعا: تحريم الظلم لأنه عدوان وبغي على حقوق الآخرين، فيدفعهم ذلك إلى الانتقام إن قدروا عليه، وهنا تشيع الفوضى والاحتراب، وقد يطول السجال بين المظلوم ومن ظلمه، فيقع الضرر عليهما، وقد يدخل في هذه الدائرة من لا ناقة له فيها ولا جمل، وإن لم يستطع المظلومون الانتقام ظلت قلوبهم تغلي بالحقد والكراهية على الظالمين، فلا يلقى المجتمع رشدا ولا يشيع الوئام بين الناس، وتحرم هذه الفئات من ثمرات التعاون البناء، والتواصل المثمر. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 75. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 199. (¬3) سورة هود، الآية: 85.

ولشناعة الظلم، شدد الله النكير على فاعله وتوعده بالعذاب الأليم، والحرمان من الهداية. {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19] (¬1) {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42] (¬2) {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] (¬3) {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33] (¬4) . وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَّالَمُوا. .» (¬5) . وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» (¬6) ويقول: «وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» (¬7) . ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 19. (¬2) سورة الشورى، الآية: 42. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 144. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 33. (¬5) هذا حديث أبي ذر رضي الله عنه أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه ": 45 - كتاب البر والصلة، 15 - باب تحريم الظلم ح (55 = 2577) ، ص (1128) . (¬6) هذا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن، أخرجه البخاري في صحيحه: 24 - كتاب الزكاة، 63 - باب أخذ الصدقة من الأغنياء. ح (1496) ، ص (298) . (¬7) هذا جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الإمام الترمذي في "الجامع": 45 - كتاب الدعوات، باب سبق المفردون ح (3598) ، ص (819) ، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

خامسا الرحمة والتيسير

والبعد عن الظلم واجب على كل مسلم لكل أحد حتى ولو اختلف معه، بل حتى ولو كان كافرا، وأن دعوة المظلوم من الدعاء المستجاب. [خامسا الرحمة والتيسير] خامسا: الرحمة والتيسير وهو أمر متسق مع إرادة الله الخير بعباده، ومراعاة حاجات النفوس حتى لا تنفر من الخير، أو تستثقل السعي إليه، والعمل به {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] (¬1) {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] (¬2) . ويقول رسولنا الكريم في وصيته لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما عندما بعثهما إلى اليمن: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا» ، (¬3) «فإنما بعثتم ميسرين» (¬4) . وكان هذا هو منهجه عليه الصلاة والسلام، وهو الأسوة والقدوة لأمته كما تحكي ذلك عنه زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا. .» (¬5) . ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 185. (¬2) سورة الشرح، الآية: 5- 6. (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: 64 - كتاب المغازي، 61 - باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع ح (4341 - 4342) ، ص (892) . (¬4) هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: 4 - كتاب الوضوء، 58 - باب صب الماء على البول في المسجد ح (220) ، ص (51) . (¬5) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: 43 - كتاب الفضائل، 20 - باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام. ح (77 = 2327) ، ص (1026) .

سادسا التوضيح والتبيين

إن من يتأمل ذلك كله يوقن أن كثيرا من تصرفات المسلمين حتى بعض الخاصة منهم تفتقر إلى مراجعة دقيقة لأحكام الشرع وآدابه وأخلاقه، وسيرة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد أولع أناس بالتشديد والتضييق على الخلق مع عدم وجود مستند شرعي واضح لفعلهم ظنا منهم أن هذا هو الأوفق لالتزام الشريعة، وقد جانبهم التوفيق في ظنهم هذا؟ لأن منهج الشرع الراشد وجادته الواضحة في التزام التيسير حين لا يترتب على ذلك تضييع حقيقي ولا تفريط في حدود الشرع. والصواب كما يروى عن المأمون رحمه الله: في الأسد لا في الأشد، والشريعة عدل كلها ورحمة كلها. يقول الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: " التشديد يحسنه كل أحد، وأما الفقه فهو الرخصة من الثقة ". فمن وقع في خلاف منهج الشرع فقد تحمل ما لا طاقة له به. وتبرز أهمية التزام هذا الأصل في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وفي دعوة المخالفين إلى تصحيح مخالفتهم. [سادسا التوضيح والتبيين] سادسا: التوضيح والتبيين إن الالتزام بالركائز المتقدمة لا يعفي من مسئولية توضيح الحق وتبيينه للمخالف، قياما بحق الله الذي ألزم به رسوله عليه الصلاة والسلام والقادرين على ذلك من أمته: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] (¬1) {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] (¬2) . ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 67. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 187.

سابعا الالتزام بالخلق الحسن في معاملة المخالفين

والعلماء هم ورثة الأنبياء، ومن المسلم به أن حجة الله لا تقوم على الخلق إلا بالبيان والدعوة، وكم من مخالف حجبه جهله عن معرفة الحق، وكم من مخالف حالت شبهته بينه وبين النور والهدى، ولهذا كان حقا على القادرين القيام بهذا الواجب لعموم الخلق كل بحسب حاجته، وقد رفع الله العذاب عمن وجد له عذر صحيح حال بينه وبين بلوغ الدعوة الصحيحة إليه {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وهذا وإن كان واردا في أهل الفترة الذين كانوا قبل بعثة الرسول عليه السلام إلا أنه يدخل فيه أيضا كل من لم تبلغه دعوة الرسول حتى بعد البعثة. ولا يحكم على أحد بكفره ولا بفسقه حتى تتحقق فيه الشروط التي تبيح الحكم عليه بذلك، وحتى تنتفي الموانع من الأعذار والشبه ونحوها. [سابعا الالتزام بالخلق الحسن في معاملة المخالفين] سابعا: الالتزام بالخلق الحسن في معاملة المخالفين الخلق منظومة متكاملة مؤصلة في منهج الإسلام ورد الأمر بها، وامتداحها، والثناء على أهلها، إضافة إلى ترتيب الأجر الجزيل عليها، وهذا كله يدل المنصف على عظمة هذا الدين وسموه، وتفرده عن مناهج البشر. إن الذي خلق الخلق، وركب فيهم فطرهم وغرائزهم هو الذي شرع لهم هذا المنهج، وهذا دليل على أنه المنهج الأحكم والأصلح للتعامل مع البشر عموما، والمخالف على وجه الخصوص، كما أن العقل السليم يدل على صحته وصلاحيته أيضا، ذلك أن النفوس البشرية بحاجة إلى من

يسوسها بحكمة وروية حتى يستطيع التأثير فيها، وقيادتها إلى الهدى، ومن أحق بذلك من الدين الذي رضيه العليم الحكيم؟! إن نظرة فاحصة منصفة لما أمر به نبي الله وكليمه موسى عندما أرسل هو وأخوه هارون عليهما السلام إلى أعتى أهل الأرض وأفجرهم وأكفرهم الذي عاث في الأرض فسادا، وقتل ذكور بني إسرائيل واستحيا نساءهم، وزعم أنه الإله، لتدلنا على قيمة هذا الأمر، وأهميته في التخاطب والبلاغ، فقد أمرهما الله أن يترفقا في مخاطبة هذا الجائر العاتي لعله أن يستجيب ويهتدي: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ولم يكن رد فرعون، ولا موقفه غائبا عن علم الله المحيط قبل أن يصل إليه موسى ويكلمه بالأسلوب الذي أمره الله به، ولكنه المنهج الحق الذي يؤسس للتبليغ والدعوة، بالنسبة لموسى عليه السلام ولغيره. وقد أمر الله بني إسرائيل بالتزام هذا المنهج أيضا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] وأمر الله سبحانه رسوله عليه السلام أن يأمر عباده المؤمنين بقول الأحسن معللا ذلك بأن تركه مدخل من مداخل نزغات الشيطان: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]

وهذا الأمر الكريم الذي تجاوز مدلوله الكلام الحسن إلى الأحسن - هكذا - بصيغة التفضيل له دلالته البالغة على أهمية الأسلوب الراقي، واللفظ الراقي في مخاطبات المؤمنين ومحاوراتهم بعضهم مع بعض ومع غيرهم من المخالفين. ونجد أيضا في سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم دراري متقدة في نصوص كثيرة تزكي هذا الأمر، وتكشف عن قيمته، وترغب فيه في معاملة الخلق عموما، من أمثال قوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» ، (¬1) وقوله: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلِقٍ حَسَنٍ» ، (¬2) وقوله: «أَنَا ضَمِينٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» (¬3) . ويدخل في هذا المرتكز أيضا، كل ما هو معدود من محاسن الأخلاق والشيم التي تسمو بصاحبها، وتفتح له بإذن الله مغاليق قلوب العباد. ¬

(¬1) هذا حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أخرجه الإمام أبو داود في سننه. 36 - كتاب الأدب، 11 - باب في الرفق ح (4774) ، (5: 278) . (¬2) هذا حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أخرجه الإمام الترمذي في الجامع: 25 - كتاب البر والصلة، 55 - باب ما جاء في معاشرة الناس (1987) ، ص (460) . (¬3) هذا حديث أبي أمامة رضي الله عنه أخرجه الإمام أبو داود في سننه: 36 - كتاب الأدب 8 - باب في حسن الخلق ح (4767) ، (5: 276) .

ثامنا فتح باب الحوار لبيان الحق وتثبيته

[ثامنا فتح باب الحوار لبيان الحق وتثبيته] ثامنا: فتح باب الحوار لبيان الحق وتثبيته وسماع ما عند الآخر والتأمل فيه حتى لا يشعر بالتسلط والتعسف في فرض الرأي عليه وهذا مما يسهل معرفته بالحق، وييسر عليه التزامه إن كان طالبا له راغبا فيه. والحوار أسلوب راق للإقناع والبيان تعارف على قبوله أهل العقول الراجحة، والأفكار المستقيمة، وهو إلى ذلك نوع من المجادلة بالحق، وقد وردت في الكتاب الكريم والسنة المطهرة أمثلة عديدة لحوارات منهجية مفيدة، منها محاورة إبراهيم عليه السلام مع قومه (¬1) ومحاورة موسى مع فرعون (¬2) ومحاورة قوم موسى المؤمنين مع قارون (¬3) . كما أنه قد وردت الدعوة إلى الحوار مع أهل الكتاب في القرآن الكريم فيما أمر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] (¬4) . وفي سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام أمثلة كثيرة لهذه الحوارات مع الكفار ومع الجهلة، ومع غيرهم مما يدل على أنه أمر مشروع، وأنه ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 52 -68. (¬2) سورة طه، الآية 43 وما بعدها. (¬3) سورة القصص، الآية: 76 - 82. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 64.

تاسعا الصبر

يتبوأ مكانة عالية في منهج الإسلام السمح في معاملة المخالفين، وربما ظن البعض أن الحوار مع المخالف نوع من الضعف أو أنه مدعاة لإضفاء صفة الشرعية على بعض الأمور المخالفة للشريعة، وهذا أمر غير مسلَّم، فإن الحوار وسيلة، ولا يلزم منه حصول المحذور إذا ضبطت هذه الوسيلة، وحققت شروطها، بل إن القبول بالحوار دليل على التمكن والثقة عند المحاور بما يحمله من الأفكار والمعتقدات، وما يلتزم به من الأحكام والأخلاق. أما تسلل الأفكار المنافية، وتسويغ بعض المخالفات فإنه أمر يحصل بأسباب كثيرة لا يلزم أن يكون الحوار منها. [تاسعا الصبر] تاسعا: الصبر وهو كما يعرَّف: حبس النفس على ما تكره، تطلعا لما هو أفضل من الأجر عند الله، إذا كان في سبيل تحصيل رضوان الله كما لو كان في طريق دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإصلاح الناس والمجتمع؛ حيث لا يبعد مقابلة الإنسان لما يكره، والصبر والاحتساب هنا يهون على الداعي إلى الله ما يلقاه، ويلفت نظر الناس إلى التفكر والتدبر فيما يدعو إليه، ولا تحصل هذه الفضيلة إلا إذا تسامح الدعاة واحتملوا الأذى، ولم يقابلوا السيئة بمثلها، ومثل هذه الأمور تدخل في منهج معاملة المخالف دخولا أوليا، وهي تنطوي على رحمة بالمخالف، ورغبة في إصلاح حاله، وإيصال الخير له، ولو أن التعامل مع المخالف عري عن هذا المعنى لانقطعت سبل الاتصال معه، وحل محلها كل ما يدعو إلى الانتصار لنفس، أو إيثار الراحة والدعة، وهذا خلاف الواجب الشرعي في البيان

والدعوة الذي أمر الله سبحانه وتعالى به رسوله والمؤمنين {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (¬1) {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] (¬2) {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] (¬3) . وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» (¬4) . وعندما رجع الرسول عليه السلام منكسرا حزينا من الطائف بسبب المقابلة السيئة التي قابله بها أهلها، ورميهم له بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلى الله عليه وسلم، وشتمه وإيذائه، جاءه جبريل عليه السلام يخبره أن ملك الجبال نزل لأول مرة إلى الأرض، أرسله الله جل وعلا يستأمر رسوله عليه الصلاة والسلام في أن يطبق على أهل مكة الأخشبين لتكذيبهم لله ولرسوله، فكان جوابه عليه الصلاة والسلام بالرفض، متذرعا بالصبر، مؤملا أن يكتب الله لهم ولأعقابهم طاعة الله والدخول في هذا الدين قائلا: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (¬5) . ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 125. (¬2) سورة الشورى، الآية: 43. (¬3) سورة لقمان، الآية: 17. (¬4) أخرجه الإمام الترمذي في الجامع 35 - كتاب صفة القيامة، 55 - باب في فضل المخالطة مع الصبر على أذى الناس ح (2507) ، ص (570) . (¬5) هذا حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: 59 - كتاب بدء الخلق، 7 - باب إذا قال أحدكم: آمين. ح (3231) ، ص (660 - 661) .

عاشرا علاقة المسلمين مع غير المسلمين

[عاشرا علاقة المسلمين مع غير المسلمين] عاشرا: علاقة المسلمين مع غير المسلمين أساس هذه العلاقة قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9] (¬1) . فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعا حتى لو كانوا كفارا ما لم يحولوا بين الناس وبين دعوة الإسلام، أو يقاتلوا المسلمين أو يعتدوا عليهم. ولأهل الكتاب من بين غير المسلمين منزلة خاصة، حيث نهى الله عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] (¬2) . وأباح الإسلام الأكل من ذبائحهم، ونكاح النساء المحصنات منهم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] (¬3) . ¬

(¬1) سورة الممتحنة، الآية: 8 - 9. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 46. (¬3) سورة المائدة، الآية: 5.

وهذا الحكم في أهل الكتاب وإن كانوا في غير دار الإسلام، أما الذين يقيمون في دار الإسلام بالعهد والجزية فلهم حق الرعاية، والحماية، بل والإعالة عند العجز، والشيخوخة والفقر. . جاء في عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد رضي الله عنه في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبمحضر من عدد كبير من الصحابة رضوان الله عليهم لنصارى الحيرة في العراق: " وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله " (¬1) . ورأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه شيخا يهوديا يسأل الناس، فسأله عن ذلك فعرف أنه محتاج بسبب عجزه وكبر سنه فأمر له، ولأمثاله بما يكفيهم من بيت مال المسلمين، وقال: " ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابا، ثم نخذله عند الهرم " (¬2) . ¬

(¬1) الخراج لأبي يوسف ص (144) . (¬2) الخراج لأبي يوسف ص (126) .

ولهم حق العمل والاكتساب بالعمل عند غيرهم أو بالعمل لحساب أنفسهم. كما أن لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية في أماكنهم الخاصة من غير تثريب عليهم، ومن غير إجبارهم على الدخول في الإسلام.

خاتمة

[خاتمة] خاتمة إن البشرية عادت في هذا الزمن إلى شريعة الغاب أو كادت. ظلم هنا، وقتل هناك، ودمار وهلاك، واستباحة للحرمات في ظل ضعف الاستمساك بالدين، وفي ظل غياب القيم الإنسانية بسبب عبادة المادة، والتخبط في أوحال الشهوات والملاذ. وما أحوج البشرية وهي في هذا التيه إلى إظهار فضائل دين الله الذي ارتضاه لعباده، والتعريف به، ورد عاديات الأدعياء المتقولين، والأعداء المتطاولين عليه، وهذا أمر يدخل في صميم واجب الدعوة الذي أمر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام - وهو أمر للمؤمنين جميعا - {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] (سورة النحل آيه 125) . وفي صميم واجب البيان الذي أخذه الله على أهل العلم خاصة {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] (سورة آل عمران: آية 187) . وإن التقاعس عن هذا الواجب، أو التفريط فيه، لن يورث إلا زيادة في سوء فهم الناس للإسلام، ويسهل عليهم قبول التهم التي توجه له، ويتيح للمتربصين شن الغارة على الإسلام وأهله، وتوظيف كل أساليب المكر والبغي والعدوان للنيل من شرع الله المطهر، وصد الخلق عنه.

وإن المؤسسات التي تتبوأ القيادة العلمية والدعوية في بلدان العالم الإسلامي مطالبة بأداء هذا الواجب أكثر من غيرها، بالعمل على إبراز هذه المعاني السامية التي انطوى عليها ديننا الحنيف، والعمل على تأصيلها، وتعريف الناس بها عبر وسائل الإعلام المختلفة، وبلغات العالم الحية، كما أن كل قادر مؤهل لذلك مطالب أيضا ببذل ما في وسعه قياما بحق دينه عليه، وسعيا في سبيل إصلاح الخلق مسلمين وغير مسلمين. وبالله التوفيق.

سماحة الشريعة في التعامل مع الواقع للدول والأفراد

[سماحة الشريعة في التعامل مع الواقع للدول والأفراد] [تقديم] المحور الثاني دلالة القرآن على سماحة الإسلام ويسره سماحة الشريعة في التعامل مع الواقع للدول والأفراد للدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي

تقديم الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فالإنسان ابن الواقع فشخصه بتكوينه المادي والروحي وتحولاته واقع، والكون المحيط به بأحداثه وتغيراته واقع، هو جزء منه. هذا الواقع سمته النقص، والضعف والجذب المادي والإلهاء: سواء كان الإنسان {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] الأحزاب 72. . {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] النساء 28. ويقول صلى الله عليه وسلم: «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا خَلَا الْكَذِبِ» (¬1) أو كان الكون الدنيوي بجماده ونباته وحيوانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] آل عمران 185. {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20] الحديد 20. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 23] يونس 23. في مقابل هذا الواقع يتجلى " الوحي الإلهي " متمثلا في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم، وسنته الشريفة، حيث الكمال والطهر، وحيث جاء ليرتقي بالإنسان نحو السمو والكمال والرشد في حركته ومآله. ¬

(¬1) رواه أحمد في المسند 5 / 252 ورواه البزار وأبو يعلى والطبراني بروايات متقاربة انظر مجمع الزوائد 1 / 97.

والإنسان بحكم طبيعة وجوده التي برأه الله عليها متردد بين الوحي بكماله من جهة والواقع بنقصه من جهة أخرى، وغاية الوحي الذي يحمل منهج الله للبشر أن يحقق للإنسان كمال وجوده في هذا الواقع، ولكنه لم يضع الإنسان معلقا بصورة مثالية مبتورة الصلة بواقعه الذي لا فكاك له منه بحيث إنه إن تمسك بهذه الصورة - كما في بعض الأديان الروحية - ساء واقعه الحياتي وتدهور حضاريا، وإن استنكف عنها انجذابا للواقع ولفرط مثاليتها - كما في المدن المثالية التي وضعها كثير من الفلاسفة فبقيت تخيلات نظرية - غمره الواقع بكل سوءاته التي لا تقف عند حد حتى ينحدر لبهيمية تقطعه عن خالقه وعن إنسانيته. منهج الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم منهج متفرد في علاج هذه القضية إذ يجمع بين الارتقاء بالإنسان في وجوده الحضاري في مدارج الإنسانية الممكنة وبين اعتبار الواقع الذي يعيشه الإنسان في إمكاناته، وضغوطه، ونزعاته، وأعرافه، وسقفه الحضاري، ونحوها، فحقق للإنسان سعادته في ظل واقعه الذي يعيشه، ويتعايش فيه مع من حوله في يسر ورفع حرج وسلام وتسديد ومقاربة وتكليفات لا تتجاوز حدود طاقته البشرية. وشريعة الإسلام لا تحصر هذا المنهج في المنتمين إليه فقط وإنما تعم برحمته العالمين كلهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] المشكلة لدى بعض أبناء الأمة في هذا العصر نتيجة انفعال بالضغوط المحيطة بهم وبأمتهم أنهم جنحوا عن هذا المنهج السوي إلى أحد تطرفين:

* تطرف الذين جمحوا في نظرتهم للواقع وتضخم لديهم حتى حكموه في شريعة الله المنزلة وقرروا أن ((الواقع له أولوية على كل نص)) (¬1) . * يقابله تطرف الذين اختزلوا الإسلام في موقف مثالي اشتط في تعامله، ومن ثم في حكمه على الواقع لعدم استيفائه الصورة المثالية لديهم فرفضوا هذا الواقع واعتزلوه وأنكروا عناصر الخير فيه وأعلنوا الحرب ضده. وهذه الصفحات المقتضبة مجرد أفكار - وضعت على عجل - في هذه القضية ((التعامل مع واقع الفرد والدولة في إطار سماحة الإسلام)) ، والله الموفق. ¬

(¬1) حسن حنفي - التراث والتجديد 88.

اليسر ورفع الحرج منطق الإسلام في التعامل مع الواقع

[اليسر ورفع الحرج منطق الإسلام في التعامل مع الواقع] اليسر ورفع الحرج منطق الإسلام في التعامل مع الواقع اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تكون الحياة الإنسانية على النمط الذي تجلت فيه واقعا عبر القرون المتتابعة وسطا بين الحياة الملائكية المتجردة من جواذب الحياة، والحياة الشيطانية المرتدة إلى أسفل سافلين، فالحياة الإنسانية تتنازعها جواذب متقابلة: * إنسانية روحية كغريزة التدين وحب الخالق، وحب الفضائل، ومقت الرذائل. * وحيوانية مادية متمثلة بالغرائز الشهوانية كحب التملك والشهرة والجنس ونحوها. وحركة الحياة البشرية فردية أو حضارية هي استجابة لهذه الغرائز بما تتضمنه من قيم وأعراف وتشريعات وتصرفات. وقد أنزل الله شريعته للإنسان من أجل أن يضبط حركته في الحياة عبر تنظيم تلك الغرائز - مادية وإنسانية - لا بكبتها والضغط عليها، ولا بإفلاتها، وإنما بفتح المجالس لها لتؤدي دورها وفق ما تحتاجه الطبيعة الإنسانية كي تنال سعادتها في حياتها، ومن ثم فلاحها في ما بعد الحياة، ولأن تحقيق ((المصالح الإنسانية)) هي غاية التشريع الإسلامي، لذلك فإنك لا تجد في الشريعة أمرا إلا وهو رحمة وتيسير وتسهيل، ولا نهيا إلا وهو عن عنت وضنك وحرج وبؤس.

يقول تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] البقرة 185. ويقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] الأعراف 157. وقال سبحانه رابطا تيسير شريعته بواقع الإنسان المتسم بالضعف: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] النساء 28. ويبين تعالى أن الإسلام بما شرعه الله فيه من عبادات ومناهج سلوكية لا يهدف بل ولا يتجه إلى إرهاق الإنسان في حركته الدنيوية، وإنما إلى إضفاء طابع السمو، والطهر عليها حتى لو اضطر واقع الإنسان أن يكون هذا الطهر رمزيا فإن الشريعة تتنزل له، يقول سبحانه بعد تشريع التيمم بالتراب للمسلم إذا لم يجد الماء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] المائدة 6. وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تفيض ببيان تيسير الله لعباده ورعايته لوسعهم أي للإطار الواقعي الذي يعيشون فيه حيث يبين صلى الله عليه وسلم أن الخروج

عن هذا المبدأ نأي عن طبيعة دين الإسلام ومجانفة لهديه هو عليه الصلاة والسلام. يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» (¬1) . وقال فيما رواه البخاري: «إِنَّ دِينَ اللَّهِ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا» (¬2) . وقال فيما رواه أحمد وصححه ابن حجر والسيوطي: «إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ - قَالَهَا ثَلَاثًا» (¬3) . ويبين صلى الله عليه وسلم في حديث - رواه الترمذي - النسبية المتلازمة بين تدين الإنسان وواقعه الذي يعيشه حيث يدان الإنسان في حدود ما يسمح له به الواقع من إمكانات الاستقامة على منهج الله يقول عليه الصلاة والسلام لأصحابه: «إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا» (¬4) . وواضح من هذا الحديث أن الاعتبار في نسبية التدين من 90% إلى 10% ليس هو الشريعة فالشريعة بكمالها ثابتة لا تغير فيها، وليس الكينونة الإنسانية بما هي مادة وروح متضمنان للنزعات الفطرية لأنها أيضا ثابتة، ولكن الاعتبار إنما هو للواقع المتغير من وضع إيجابي موات اقتضى المطالبة بما لا يقل عن 90% إلى وضع مترد ضاغط لا يتيح للإنسان ما يتجاوز 10% وهو ما يقبل منه عند الله. ¬

(¬1) رواه البخاري تعليقا؛ كتاب الإيمان؛ الدين يسر؛ ووصله أحمد في المسند (1 / 236) من حديث ابن عباس بلفظ مقارب. (¬2) رواه البخاري؛ كتاب الإيمان؛ باب الدين يسر. (¬3) رواه أحمد في المسند 4 / 338 وصححه السيوطي في الأشباه وابن حجر في الفتح 1 / 94. (¬4) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ - انظر الكلام عنه في عارضة الأحوذي بشرح الترمذي لابن العربي 6 / 121.

ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يؤكد على أصحابه أهمية تمثل التيسير والسماحة في أشخاصهم: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» (¬1) . وبأن تكون حركتهم الدعوية والتطبيقية تيسيرا وسماحة ورحمة: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» (¬2) . ليس فقط في دائرة التعامل مع المسلمين كما يتصور ذلك بعض من يضيق قيم الإسلام ويحد من عموميتها، ولكنه مع كل الناس، ولذلك وجه صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى حينما بعثهما إلى اليمن: «ادْعُوا النَّاسَ وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا» (¬3) . ولعل من أبرز الإضاءات التي تبين هذه السمة السامية في الشريعة - أقصد التيسير ورفع الحرج - أن القرآن والسنة يغلبان دائما جانب الإباحة، ويحصران بالمقابل جانب التحريم بتفصيل أعداده لمحدوديته: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] الأعراف 32. {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] البقرة 168. وصيغ ((لا جناح عليكم)) ((أحل لكم)) ((فلا إثم عليه)) دائرة في هذا الإطار في مقابل الحصر للتحريم ((إنما حرم عليكم)) {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] الآية في الأعراف 33 {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] الأنعام 119. ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب قول النبي عليه الصلاة والسلام " يسروا ولا تعسروا ". (¬2) صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير. (¬3) صحيح مسلم في كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر.

وقد قال ابن تيمية رحمه الله: ((إن عامة ما ذم الله به المشركين في القرآن من الدين المنهي عنه إنما هو الشرك والتحريم)) (¬1) . على هذا الإطار المتين الذي جاءت به الشريعة قامت قواعد الحضارة الإسلامية التي ارتكزت على ((فقه الشريعة)) لدى أئمة العلم الراسخين الذين انطلقوا من هذه الغايات التي استهدفتها شريعة الله ليستمدوا - كما يقول عبد الوهاب خلاف - ((من نصوص الشريعة وروحها ومعقولها مبادئ تشريعية عامة تعتبر الدستور التشريعي الذي يبني عليه المشرع (المجتهد) تشريعه (الاجتهادي) والقاضي قضاءه. وكل هذه المبادئ يمت بسبب صحيح إلى تحقيق مصالح الناس، وإقامة العدل بينهم، وتؤخذ منه أحكام الوقائع المختلفة في مختلف البيئات والعصور. من هذه المبادئ الخاصة برفع الضرر التي أساسها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، وهي: أن يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما، ودفع المضار مقدم على جلب المنافع، والضرورات تبيح المحظورات. . . . الخ. ومنها المبادئ برفع الحرج التي أساسها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (الحج / 78) ، ومنها: المشقة تجلب التيسير، ومنها المبادئ الخاصة بسد الذرائع، ومنها: ما يفضي إلى المحظور فهو محظور، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما أضر كثيره حرم ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 20 / 113 وانظر مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ لعبد الله عبد الرحمن 94.

قليله. ومنها المبادئ الخاصة بالبراءة الأصلية التي أساسها قوله تعالى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] (البقرة / 29) ، ومنها: الأصل في الأشياء الإباحة والأصل في الإنسان البراءة، وما يثبت باليقين لا يزول بالشك. . إلى غير ذلك من المبادئ التشريعية التي هي دستور الأحكام الشرعية)) (¬1) . ولقد يبدو هذا التقرير المرتكز على نصوص من القرآن والسنة واضح المعاني فيما تدل عليه من يسر وسماحة وتخفيف ورفع حرج عن الحياة الإنسانية، وما توجه إليه المسلمين من طلب رعاية ذلك في كافة شئونهم، لكن الموازي لهذه الملحوظة المستدعي لتقرير هذا الواضح أن فئاما من شباب الإسلام المنتسبين للعلم أو للدعوة، أو المتحركين بغيرة إيمانية، ربما بسبب خلل في فقههم الشرعي، أو انفعال مفعم بضواغط العصر ومكر أهل الكيد للإسلام فيه، أو لتربية غير سوية، أو لغير ذلك من الأسباب - أنهم - انطبعوا في أحكامهم على الناس والواقع، وفي نظرتهم للأشياء، وفي تعاملهم بطابع مناقض لتلك السمة متسم بالغلظة وسوء الظن، ومقت الناس لعدم تحققهم بالصور المثالية التي يتراءونها والدعوة إلى بناء العلاقات، والتعامل على الرفض والمباعدة والتوجس من الآخرين، ثم هم يسعون لدعم مواقفهم ورؤاهم بما يوهم أنها منهج الإسلام وشريعته، مما يقتضي إيضاح الصورة السليمة، وتأكيد طابع الإسلام الحقيقي في هذا المجال. ولكن ينبغي أن نؤكد هنا - حتى لا يشتط بنا هذا التطرف إلى تطرف مقابل - أن يسر الشريعة ورفعها للحرج لا يعني مباركة الواقع في كل تحولاته وفي مفاسده، كلا فالإسلام بناء عقدي وقيمي وتشريعي متميز ¬

(¬1) عبد الوهاب خلاف بحث بعنوان (الإسلام والإصلاح الاجتماعي) منشور في مجلة وزارة الشؤون الاجتماعية بمصر، انظر أصول الفكر السياسي، محمد فتحي عثمان 61.

أنزله رب العالمين لتحقيق مصالح عباده، وهو أعلم بهم من أنفسهم، فإذا ما تصوروا أن في خلق أو معاملة مما يخالف شرع الله خيرا وصلاحا وأقبلوا على ذلك فإنهم ضالون تائهون، وشرع الله هو الحق، ولا يجوز للمسلم أن يواطئهم على ضلالهم ولا أن يرضى به.

التعامل مع واقع الأفراد في إطار سماحة الإسلام

[التعامل مع واقع الأفراد في إطار سماحة الإسلام] التعامل مع واقع الأفراد في إطار سماحة الإسلام في هذه المسألة نقطتان: الأولى: في تعامل الدين مع الأفراد في واقعهم الحياتي سواء كان في ذواتهم أو في الأوضاع الملابسة لهم. * وأول ما يشار إليه هنا هو أن الإسلام في عقيدته وشريعته جاء متناغما مع فطرة الإنسان أي مطابقا لواقعه الذاتي فيما فطر عليه من تدين وتوحيد، ومن قيم خلقية ونزعات مادية مما يجعل أي إنسان سوي العقل سليم الفطرة لا يملك حين ينظر في ما جاء به الكتاب والسنة في العقيدة والقيم والشريعة إلا أن يقر بأنها الحق والصدق الذي تهفو إليه نفسه، ولا حاجة لتجاوز هذا إلى تفصيل حديث القرآن عن قضايا الإيمان والقيم وتلاؤمها مع مقررات الفطرة فحسبنا هذه الإشارة (¬1) . * مراعاة الطبيعة البشرية المحدودة طاقتها المادية بحيث جاءت الشريعة في حدود هذه الطاقة {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] ولو جمح المسلم نتيجة توهج إيماني طامح بما يتجاوز هذه الطبيعة، فإن الإسلام يرده إلى المسار الوسطي معتبرا طموحه هذا خطأ، بل خروجا على هدي الإسلام وغلوا غير مقبول، وحديث الرهط الثلاثة الذين دفعتهم الرغبة في التفوق التعبدي على الآخرين لدرجة اختطاط مسالك خاصة في التعبد حيث «قال أحدهم أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أنا ¬

(¬1) انظر مثلا: خصائص التصور الإسلامي - سيد قطب 96، والخصائص العامة للإسلام - يوسف القرضاوي.

أقوم ولا أرقد، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمقالتهم أنكر عليهم وبين المنهج الوسطي الإسلامي المتناسب مع الطبيعة البشرية ذات الاحتياجات المادية المشروعة التي لا يجوز الجور عليها ولو بالإغراق في المسالك الروحية التعبدية قال عليه الصلاة والسلام: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬1) . ومثل ذلك في رعاية الجانب المادي من الإنسان وردع من يصادر شيئا منه لحساب الجانب التعبدي الروحي، قال الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سقط الصوام في السفر وقام المفطرون بضرب الأبنية وسقي الركاب - قال - «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ بِالْأَجْرِ» (¬2) . وفي هذا الجانب أقصد في مراعاة الشرع الإسلامي لواقع الطبيعة الإنسانية راعت الشريعة ما يمكن أن يعرض لهذه الطاقة من ضعف ومشقة من جهة، ومن قدرة يمنحها الله بعض عباده زيادة عما هو معتاد في سائر الناس. راعت الشريعة ذلك: * ففي حالة المشقة خففت عن المسلم فيما تطالبه به من عبادات فجاء مثل قصر الصلاة والجمع في السفر، والجمع في المطر والفطر للمسافر والمريض والمسح على الخفين والعمامة ونحو ذلك. * وفي حالة وجود فائض طاقة لدى المؤمن وهمة في التسامي بصلته بالله شرع الإسلام نوافل الطاعات التي تتدرج من رواتب - كما في الصلاة - ووتر مؤكد، إلى تهجد معظم أجره، إلى نوافل مطلقة. ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح. (¬2) البخاري في الجهاد، باب الخدمة في الغزو، ومسلم في الصيام، أجر المفطر في السفر.

ومثل ذلك الصيام والصدقة والحج. وهكذا لا يجد المسلم نفسه في حالة نفسية وجسمية وظروف إلا وقد شرع الإسلام ما يناسبها مما يحقق سعادته ويعمر به وجوده. * من أعظم رعاية الإسلام للواقع الفردي للمسلم اعتباره للضغوط الخارجية المحيطة بالإنسان وأن المطلوب من المسلم ليس بخع نفسه أمام التحديات الضاغطة، ولكن أن يسدد ويقارب، ومهما اشتدت الضغوط عليه فإنه واجد في رخص الدين مسالك تقيه من أن تطحنه لدرجة أنه يجوز للمسلم عند الضرورة والخوف على نفسه الهلاك أن ينطق بكلمة الكفر: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] النحل 106. وأنه لا يأثم عند الاضطرار لتناول الحرام الذي تتوقف عليه حياته، وفي هذه القاعدة التي استقراها العلماء من نصوص الشريعة وهي قاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) . ثم إن الشريعة الإسلامية مع أنها وضعت للناس النموذج الأعلى للحياة الإنسانية السامية إلا أنها رعاية للواقع الإنساني تنزل إلى هذا الواقع لتكيف أحكامها الفرعية معه حتى لا تتعطل مصالح العباد وتنفلت حياتهم من الإسلام جملة، ومن أجل أن ترتقي بهم ما أمكن في سبيل صبغ حياتهم بالإسلام شيئا فشيئا.

من ذلك مثلا أنه يشترط فيمن يلي منصبا أن تتوفر فيه صفتا الأمانة والقوة، فإذا لم تتوفر بصورتها المطلوبة في مجتمع اقتضت المصلحة تولية من يمتلك قدرا منهما ولو دون ذلك. وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن بعض العلماء سئل: إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دَيِّن فأيهما يقدم؟ فأجاب العالم: إِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الدَّيِّنِ أَكْثَرَ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ قُدِّمَ الدَّيِّنُ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَالِمِ أَكْثَرَ لِخَفَاءِ الْحُكُومَاتِ قُدِّمَ الْعَالِمُ (¬1) . ومثل هذا النمط كثير لدى العلماء الراسخين في إدراك مقاصد الشريعة ومنهجها المساوقة للحياة البشرية في كل أوضاعها (¬2) لكن هل ذلك يعني الاستسلام للواقع الرديء والانسياق مع انحداره؟! ، كلا إن الواجب هو السعي إلى الارتقاء بالحياة نحو الصورة الإسلامية الممكنة ما استطاع الدعاة إلى ذلك سبيلا. المسألة الثانية: توجيه الإسلام أتباعه في تعاملهم مع الأفراد برعاية واقعهم: فبناء على ما تقدم من الرعاية الشاملة في الإسلام لواقع الإنسان في كافة أحواله دعا الإسلام المسلمين في تعاملهم مع الآخرين إلى رعاية الطبيعة الواقعية لذواتهم ولظروفهم المختلفة في مختلف مجالات التعامل معهم: * أولا: رعاية الواقع في دعوتهم إلى الله وإلى دينه فقد أمر الله نبييه موسى وهارون في دعوتهما فرعون بمراعاة وضعيته النفسية: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] طه 44، وقد سبق ¬

(¬1) السياسة الشرعية - شيخ الإسلام ابن تيمية 20. (¬2) انظر الخصائص العامة للإسلام للقرضاوي 172.

توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى في دعوتهما في اليمن «أَنْ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا» . وفي هذا الإطار ذكر العلماء أنه مما ينبغي للداعية في مراعاة أحوال المدعو أن يختار له ما يناسبه فإذا كان في حالة يأس واستعظام لما هو فيه وتصور انقطاع ما بينه وبين الله استحسن أن يعالجه بنصوص الرجاء وسعة رحمة الله، وجب التوبة للذنوب ونحو ذلك، وإذا كان في حالة استهتار وأمن من مكر الله وتماد في الرجاء كان المناسب له نصوص الخوف والانتقام وعظيم عذاب الله في الدنيا والآخرة. من ذلك أيضا أن تكون دعوة الداعي قائمة على العدل الذي جاء به الإسلام دون تطرف يجنح بالمدعو من مخالفة إلى مخالفة مقابلة، أي من تطرف إلى تطرف آخر. فإذا أراد أن يحذر الناس من الترف والإسراف في المتعة الدنيوية فينبغي أن لا يعزف بهم نحو زهد صوفي اعتزالي لكل متع الحياة مما تأباه فطرهم، وإنما ينبغي أن يبين منهج الإسلام الوسط الذي أباح الطيبات وتفضل على عباده بالتمتع بها، ولكن على الوجه الشرعي بأن تؤدى الحقوق، ويشكر المنعم، ولا يتجاوز إلى الحرام. وهذا ما يخطئ فيه بعض الدعاة الذين ينفعلون أمام الانحرافات التي يرونها فيرتمون إلى الطرف المقابل فإذا افتتن الناس بشيء في أصله مباح كبعض الألعاب أو موضات الثياب، أو التجميل، أو استقدام الخدم

أو بعض التقليعات الاجتماعية كالاستراحات. . . . الخ؛ حملتهم الغيرة على اقتلاع هذا الافتتان إلى الشطط في حرب هذه الأشياء والوقوع أحيانا في التحريم لزيادة الضغط في اتجاه الإصلاح الذي ينشدونه، وإن كانوا لا يمارون في لحظات الهدوء أن هذه الأشياء - في ذاتها - ليست محرمة. * ثانيا: رعاية الواقع في معاشرتهم: حيث وجه الإسلام إلى رعاية الأوضاع النفسية لهم سواء في سمتها العام المتمثل بالحاجة إلى الحنان ممن حوله جارا أو قريبا أو غير ذلك، كما في حديث حقوق المسلم: «السَّلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ لُقْيَاهُ، وَتَشْمِيتُهُ عِنْدَ الْعُطَاسِ وَحَمْدِ اللَّهِ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، وَعِيَادَتُهُ إِذَا مَرِضَ وَتَشْيِيعُهُ إِذَا مَاتَ» (¬1) أو في حالاتها الخاصة بالتنفيس عنه إذا أصابته كربة، وبإقالة عثرته إذا كان من ذوي الهيئات الذين تجرحهم الفضيحة ويكفيهم العفو (¬2) وبتهنئته إذا نال خيرا من زواج أو منصب ونحوه. كما وجه الإسلام إلى رعاية الأوضاع المادية للإنسان من قبل من حوله من أفراد أو جماعة. وفي هذا الإطار نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا حتى لا تضطر المرأة لاستقباله وهي غير متهيئة بما يفترض أن تتهيأ به الزوجة لزوجها فتكون النتيجة ربما نفوره منها (¬3) . ومما يدخل في هذا أن الشريعة تأمر الزوج بأن يلبس زوجته مما تلبسه أمثالها - بقدره - مراعاة للوضع المادي الذي تعيشه. ¬

(¬1) حديث حقوق المسلم، رواه البخاري ومسلم وغيرهما، انظر جامع الأصول 6 / 537، وانظر حديثا آخر في البخاري - كتاب الجنائز باب الأمر باتباع الجنائز. (¬2) أخرجه أبو داود في الحدود وأحمد في المسند والنسائي، انظر الكلام على رواياته ورجاله في جامع الأصول 6 / 603. (¬3) في حديث رواه البخاري في كتاب العمرة، باب لا يطرق أهله إذا قرب المدينة.

ومن ذلك نهي الشريعة المسلم الغني أن يحرج جاره الفقير حيث طلب منه الشرع كف أهله وأولاده من التباهي على أولاد جاره بما يمتلكون من ثياب وزينة ونحوها. * ثالثا: مراعاة الواقع في الحكم على الناس وفيهم: وفي ذلك أن الشريعة وجهت المسلم أن يكون في حالة حكمه وتقويمه في وضع متزن يسمح له بتحري الصواب بأعلى درجة ممكنة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي القاضي وهو غضبان (¬1) وقيس عليه العوارض الأخرى المؤثرة في الحكم. * ثم إن الشريعة جعلت للأعراف، وهي واقع إنساني متحول اعتبارا في أحكامها على الناس وحقوقهم بناء على القاعدة الفقهية: " المعروف عرفا كالمشروط شرطا " (¬2) . فلو اختلف زوجان في المهر الذي لم يحدداه عند العقد فالمراد هنا إلى العرف الجاري في البلد الذي يعيشان فيه، وهكذا كثير من قضايا البيوع والإجارات والمساقاة ونحوها للعرف فيها موقع مؤثر في الأحكام. وأمر مهم هنا في الحكم على الناس في مستوى تدينهم، حيث لواقع الإنسان معرفة وقصد ورؤية اعتبار مؤثر لا يتسنى لمبتغي إصدار الأحكام التمكن منه بمجرد صدور رد فعل من هذا الإنسان، ولهذا كان التفريق بين الحكم على الأفعال والأقوال والحكم على الأشخاص الذين قالوها أو فعلوها بأعيانهم. ¬

(¬1) فيما رواه البخاري في كتاب الأحكام، ومسلم في كتاب الأقضية وغيرهم. (¬2) انظر قاعدة (المعروف عرفا. .) في شرح القواعد الفقهية - أحمد الزرقاء 237.

فلو نقلت إليك كلمة عن شخص أو فعل فمن الممكن لك أن تحكم بأن هذه القولة أو الفعل كفر، لكنك لا تحكم على الشخص بالكفر إلا بعد مواجهته واستنبائه عن خلفيات نطقه أو فعله أي استقراء واقعه والحكم من خلاله. وكم من فتن جرها على الناس في زماننا تسرع متسرعين بأحكام الكفر والشرك على أناس لمجرد تلقف كلمة منسوبة إليهم أو فكرة مطروحة من قبلهم وذلك نتيجة الاستهانة بهذا المنهج الشرعي الذي به تحقن الدماء ويتوقى النزاع، والله المستعان.

التعامل مع واقع الدولة في إطار سماحة الإسلام

[التعامل مع واقع الدولة في إطار سماحة الإسلام] التعامل مع واقع الدولة في إطار سماحة الإسلام لئن كان واقع الفرد معتبرا في الشريعة الإسلامية فإن واقع الدولة المسلمة أشد اعتبارا بحكم أن حرية الفرد - في الغالب - وبالذات في أوقات الاستضعاف أوسع من حرية الدولة أمام الضغوطات المحيطة بها والمطالب المناطة بها. وعموما فما ذكرناه عن منهج الشريعة الإسلامية العام في توجهها لتحقيق المصالح ودرء المفاسد لا تخرج منه الدولة، ولأن واقع الدولة الذي تتحرك فيه واقع مادي دنيوي في عمومه، ثم إنه واقع تقف فيه الدولة الإسلامية إزاء دول أخرى غير إسلامية، خلافا لواقع الفرد - الإنسان - الذي تتشكل كينونته من عناصر ذات ثبات متمثلة بالنزعات الفطرية الروحية والمادية التي إن تغيرت بعض الصور المادية التي تتمثل بها فإنها في أساسها باقية ثابتة - لذلك - جاءت الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالدولة بعناصر عامة كالبيعة، والحكم بما أنزل الله، والشورى. . تاركة التطبيقات التفصيلية لإنشاءات المسلمين عبر اجتهاداتهم لتوليد صور مواكبة للسقف الحضاري الذي يعيشونه، ومحقق للمصالح الشرعية سواء ابتدعوها هم بأنفسهم وبتجارب تحولاتهم الذاتية، أو استفادوها من تجارب الأمم الأخرى من حولهم.

* إن علاقة المسلم بالدولة الإسلامية يقوم أساسا على قيم الإسلام العامة التي كما يطالب - هو - بها دولته، فإن الدولة تطالبه بها ليس فقط في علاقتهما الثنائية بل في مختلف العلاقات. فالعدل حق للفرد ومن ثم للشعب على دولته، العدل في الأحكام والأموال وغيرها، وهو بالمقابل للدولة تطالب به الفرد معها ومع المحيطين بل ومع دينه، ومثل ذلك الوفاء الذي ينبغي أن يستوفيه الفرد والدولة تبادلا وعموما، وكذلك التعاون على البر والتقوى، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إذ هي وإن كانت من غايات الحكومة الإسلامية إلا أنها واجب كل فرد في المجتمع. * من رعاية الإسلام لواقع الدولة إعطاؤها المجال للحكم في تقدير المصلحة العامة في ضبط حركة المجتمع ذات البعد العام فمثلا ((الحرية)) حرية التعبير تمثل في الأساس مطلبا شعبيا من الدولة، بل إنها تتسامى إلى درجة الوجوب بسبب كونه لا يتم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله إلا عن طريقها لكن الشرع أعطى الدولة حق تغيير هذه الحرية إذا أصبحت سبيلا للإفساد وتعريض المجتمع للتفكك والاعتداء على مقدساته وأخلاقه، فالإسلام هنا وسط بين النظم الديكتاتورية المكممة للأفواه والنظم التي تفتح المجال للحريات حتى تتحول إلى فوضى يمارس من خلالها التضليل ونشر المجون والإلحاد، ولكن ذلك لا يعني أن يتجاوز الحاكم حدود المصالح التي تقتضيها الشريعة لسد منافذ حرية الرأي استبدادا باسم المصلحة فهذا جور على الدين لا اتباع له.

* من رعاية الإسلام للواقع في إطار الدولة أن أساس وجود الدولة في الإسلام هو إقامة شرع الله وإعلاء دينه وتحقيق المصالح الشرعية، وهذا يعني أن يقوم بها قوي أمين عادل صالح، وأن يعزل عنها الفاجر الجائر الذي لن يحقق هذه المطالب لكن رعاية الواقع متمثلة بالخشية من فتنة أكبر بانفلات الأمن، وضياع الحقوق نهت الشريعة عن الخروج على الإمام الجائر ما دام معلنا شعار الدين، وفي هذا جاء الحديث الذي سئل فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام عن منابذة أئمة الجور فقال: «لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ» (¬1) . * ومن هذا المجرى أنه حينما تعرض للدولة المسلمة أحداث أو قضايا فيطلب الحاكم شورى من حوله أو اجتهادات العلماء فتتعدد الآراء والاجتهادات ويأخذ الحاكم بواحد منها ليعتمده في هذا الحدث، أو حل هذه القضية؛ فإن اعتماده لهذا الاجتهاد يقطع النزاع ويقضي على أصحاب الآراء الأخرى بالوقوف معه فيما تبناه، حتى لا يحدث التنازع والشقاق ومن ثم الفشل وذهاب الريح. * ومن اعتبار الواقع في أمر الدولة أن العلاقة مع الأمم الأخرى على مستوى الدول تنطلق من الدولة نائبة عن الشعب في إقامة العلاقات وإبرام الاتفاقيات، وحتى في إعلان الجهاد ضد العدو إذا اقتضت الظروف ذلك. وإذا ساغ للفرد أن تكون له علاقات شخصية أو فكرية ونحوها مع أفراد خارج دولة الإسلام فإنه لا يسوغ له أن يغامر بمجتمعه كله نتيجة ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا.

موقف اتخذه أو رأي رآه تجاه الآخر مفتئتا على دولته إلا أن يكون ممن خول له ولي الأمر إقامة مثل هذه العلاقات. وقد يتصور أناس أن في هذه الضوابط التي جاءت في الشريعة أو قررها الفقهاء استقراء لقواعدها، أن فيها إجحافا بحق الفرد وجنوحا مع الدولة، وأن هذا الإجحاف يناقض يسر الشريعة وسماحتها بل ويوقع في الحرج المنفي عنها إذ كيف يطلب الشرع مني أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأن أجاهد ثم يقيدني بطاعة ولي أمر قد يمنعني من الأمرين؟ . والحق أن يسر الشريعة في رعاية الواقع لا بالنسبة للدولة في هذه المجالات بل بالنسبة للفرد تتجلى أكثر مما تتجلى في كثير سواها. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد أمور مرتبطة بعلاقة لها جانب سلطوي تجاه الآخر سواء كان في داخل الدولة كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في خارجها كالجهاد مما يعني أن تفاعلاتها وآثارها تتجاوز حدود ممارسها نحو من حوله بما فيه السلطة التي تحكمه وهذا يعني حساسية هذين التصرفين: * فإما أن يتحمل الفرد مسئولية تقدير المصالح والمفاسد على المستوى العام وهو غير يسير - وإلا فالمستوى المهني الخاص بهذا التصرف أو ذاك موكول له - ومن ثم يؤاخذ على ما تحمل مسئوليته إذا غامر فخاب تقديره.

* وإما أن يتحاشى المغامرة تحاشيا ذاتيا فيحجز ذاته عن الفعل فيبقى قلقا من امتناعه عن العمل لمجرد تقديره الذاتي. * وإما أن يتحمل أميره ((الحاكم)) مسئولية هذا التقدير ويشعر هو أنه معذور بتأجيل ممارسة هذه الأمور في ظل عدم إذن الإمام. لا ريب أن الخيار الثالث هو أيسر الخيارات له وأرفعها للحرج عنه وينبغي أن نعي أن هذه الرعاية لواقع الدولة المسلمة من قبل الشريعة الإسلامية لا تعني أن هذه الدولة مضاهية للدول الأخرى من حيث انصياعها للواقع ومتطلباته المتحولة والتي تتفاقم فيها صنوف الفساد فتقبل وتشرع لأن الواقع قضى بها، كلا إن الدولة الإسلامية دولة شريعة تستهدي بهدي الكتاب والسنة وتستهدف إعلاء كلمة الله وتطبيق شرعه في أحكامها وفي حياة شعبها، فنظامها وإعطاؤها ومنعها قائم على الشريعة أساسا لكنها تبقى دولة تتحرك في عالم دنيوي بين دول أخرى وأمم لها مصالحها ومواقفها وتوازناتها الدولية مما يجعل إمكاناتها الحركية أقل من طموحات رجالها ومن ثم رغبات شعبها بدرجات تتفاوت زمنيا، وبسبب التفاوت بين الطموحات والإمكانات الحركية يكون التفاوت بين المطالب المثالية للناس والقدرة التنفيذية للدولة والله الموفق.

المحور الثالث الغلو مظاهره وأسبابه

[المحور الثالث الغلو مظاهره وأسبابه] [مفهوم الغلو في الكتاب والسنة] [مقدمة البحث] المحور الثالث الغلو مظاهره وأسبابه مفهوم الغلو في الكتاب والسنة للدكتور صالح بن غانم السدلان

مقدمة البحث إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فإن موضوع الوسطية في الإسلام اليوم هو موضوع الساعة، وهو في نظري أشد الموضوعات خطورة وأثرا، وأجدرها بالدارس المتأني ذي النفس الطويل؛ ذلك لأن المسلمين اليوم وهم يواجهون مشكلات الحضارة، وتحديات العصر ومعركة البقاء، لا يواجهون ذلك كله، وهم على منهج واحد، كما تواجه الأمم الأخرى هذه التحديات المصيرية، بل هناك مناهج لدينا نشأت من الابتعاد عن المنهج الأمثل، وهو المنهج الحق الذي ارتضاه الله لنا {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وكل ابتعاد عن هذا النهج القويم يولد الفرقة والتناحر والتشتت، وإن مما رزئت به الأمة الإسلامية وأشد ما ابتليت به اليوم قضية الغلو التي عصفت زوابعها في أذهان البسطاء من الأمة وجهالها، والتي افتتن بها أهل الأهواء الذين زاغت قلوبهم عن اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانت النتيجة الحتمية أن وقع الاختلاف بين أهل الأهواء وافترقوا إلى فرق

متنازعة متناحرة همها الأوحد إرغام خصومها ومعارضيها على اعتناق آرائها بأي وسيلة كانت، وراح بعضهم يصدر أحكاما ويفعل إجراما، يكفرون ويفجرون، ويعيثون في الأرض فسادا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. أمة سادت العالم بالإسلام ثم تخلفت عن ركب الحضارة في مجالات شتى، وهي لا تزال بحمد الله تعتنق الإسلام دينا، وتؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا تصاب في المحز بهذا الخطر الداهم، وتبتلى بهذه الفرقة والتناحر والتشتت، ويظهر فيها الغلو في الدين إفراطا وتفريطا، ويصير بأسها بينها شديدا، فتكثر الفتن وتتشعب الآراء. لعمر الله، إنها مسألة تستوجب التأمل وتستدعي التفكير، فلا بد إذن من وجود خلل، ما هو سبب الخذلان والوهن؟ فأين يكمن هذا الخلل؟ إننا نراه يكمن في سوء فهم المسلمين لعقيدتهم لا في العقيدة نفسها، وانعدام الوسطية التي هي من ثوابت الحياة كما أنها من ثوابت الإسلام. وكمال الدين يكون بالتزام حدوده بلا إفراط أو تفريط. لا ريب أن أعداء الإسلام كلهم متضافرون على محاربته ومحاربة الأمة الإسلامية وتدميرها، لا تمزيقها، وهذا موقف طبعي لا تناقض فيه، فهذه مصلحتهم وهذا شأنهم. ولكن ما يصنع هؤلاء كلهم لو كان المسلمون متوسطين ومتحدين؟! ما يفعل جرثوم المرض إذا كان جسم الإنسان سليما؟!

إن المشكلة تكمن في داء عضال أصاب المسلمين فأوهن قواهم، ودك معاقل القوة لديهم، هذا الداء اسمه (اللاوسطية) أو (انعدام الوسطية) . فهو السرطان الفتاك الذي شل وحدة المسلمين ومزقهم كل ممزق، وجعلهم في مؤخرة الركب. وسببه الأكبر منا، نحن المسلمين، نحن أوجدناه، واستغله الآخرون. نحن الذين جعلنا من الأشخاص أصناما، ومن المذاهب أديانا، ومن الخلاف خصومة، ومن المناظرة محاجرة، ومن الرحمة نقمة، ومن الذي صنع؟ إنهم المسلمون!! فالوسطية التي هي وسام شرف لهذه الأمة أناطها الله بها وجعلها شهيدة على الناس، هذه الوسطية ذابت بين جانبي الغلو والانحلال، الإفراط والتفريط. لهذا كان الكشف عن جذور الغلو والتطرف والعنف والفساد والإفساد في حياة المسلمين المعاصرين يعد من عوامل التخلص من الخلل الذي أثقل كاهلهم، وأضعف قوتهم وفرق كلمتهم، فمعرفة الخلل توصل إلى علاج ناجع إذ لم ينشأ تطرف في حياة المسلمين إلا عن خلل في البناء الفكري للغلاة الذين يدعون إلى العنف والهرج والمرج والفساد والإفساد. وكل تطرف في الدين أو غلو فيه فسببه هذه الطغمة الباغية من الفرق والجماعات والأحزاب، وهي بمجموعها مصدر البدع والفتن والأهواء والآراء. ولهذا كان من الواجب الأعظم من الأمة أن تدرأ عن نفسها خطر أصحاب هذه الدعوات الباطلة، لا بد من دراسة منهجية شمولية تحليلية

لنصوص القرآن والسنة النبوية المرتبطة بوقائع السيرة الكريمة لخاتم الأنبياء والمرسلين والسلف الصالح من هذه الأمة المباركة، إذ إن هذه الدراسة وسيلة للوصول إلى فهم مقنع مترابط لمعنى هذه النصوص وفحوى دلالات السياسة النبوية الراشدة. وهذا هو النصح الواجب في دين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المنهج المستقيم الذي يعيد للأمة وحدتها وقوتها وعزتها. إن البحث في هذه المسألة وتقعيدها وضبط شواردها من الضرورة بمكان، فنحن اليوم مسئولون عن ممارسة وسطيتنا التي هي أعظم خصائصنا، فيها نتوحد وبها نبقى وبها نسبق وننتصر بإذن الله، وإنه لجهاد للنفس والهوى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] العنكبوت: 69. ولعلي بهذه الكتابة المتعجلة المتواضعة أضع لبنة بسيطة في البناء الشامخ، بناء التعقل والمرونة وإبراز محاسن الإسلام وسماحته ويسره، الذي يحمل لواءه ويعلي مناره وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بوطننا العزيز ومملكتنا الحبيبة التي ما فتئت تحمل لواء الوسطية الداعي إلى التعقل والتثبت والمرونة والتؤدة وعدم التعجل والتسرع الأرعن والتسلطية الهوجاء. نسأل الله تعالى أن يدفع الفتنة ويكف الأذى عن هذه الأمة، وأن يديم على هذه البلاد المباركة نعمة الأمن والإخاء والاستقرار، إنه نعم

المجيب، والشكر والدعاء مقرون لكل من وجه إلينا هذه الدعوة للمشاركة في هذه الندوة الموقرة، وفقكم الله جميعا وجعلكم مباركين أينما كنتم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

معنى الغلو في اللغة والشرع

[معنى الغلو في اللغة والشرع] معنى الغلو في اللغة العلم بحقائق الأشياء والوعي بمعانيها يعد مدخلا أساسيا لتصورها، وفي المأثور من أقوال أسلافنا: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد عني العلماء المسلمون بالألفاظ الشرعية والمصطلحات اللغوية وحرصوا على تحديدها، حيث إن مصدر العلم بمعنى قول الشارع يرجع إلى أمرين: اللغة التي تكلم بها، ومقصود الشارع من الألفاظ، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك. ومن الألفاظ والمصطلحات التي يحتاج إلى فهمها الشرعي ومعناه اللغوي وفهم مراد الشارع منها (لفظ الغلو) إذ لا بد في فهمه من الرجوع إلى معيار ثابت إذ لو أوكلت القضية إلى البشر لأصبحت نسبية بحسب اختلاف أهوائهم ومشاربهم وانتمائهم، واتباع الهوى يؤدي إلى اختلاف غير متناه وفساد غير منقض. فثبات المعيار الذي ينظر بواسطته وتفهم الحقائق في ضوئه أمر لا محيد عنه. وإليك معنى الغلو لغة، ومفهومه شرعا. الغلو لغة: تدور الأحرف الأصلية لهذه الكلمة ومشتقاتها على معنى واحد يدل على مجاوزة الحد والقدر، قال ابن فارس: " الغين واللام والحرف المعتل " أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر (¬1) . ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة، مادة " غلو / غلى ".

يقال غلا غلاء فهو غال، وغلا في الأمر غلوا أي جاوز حده، وغلت القدر تغلي غليانا، وغلوت بالسهم غلوا إذا رميت به أبعد مما تقدر عليه، فالغلو: هو مجاوزة الحد، يقال: غلا في الدين غلوا تشدد وتصلب حتى جاوز الحد (¬1) . وبالرجوع إلى المصادر والمعاجم اللغوية تبين أن الغلو هو: مجاوزة الحد وتعديه. * قال الجوهري في الصحاح: " غلا في الأمر يغلو غلوا، أي جاوز فيه الحد "اهـ. * وقال الفيروز آبادي في القاموس: " غلا غلاء فهو غال، وغلي ضد الرخص. وغلا في الأمر غلوا جاوز حده "اهـ. وغلا في الدين والأمر يغلو غلوا، جاوز حده. * وقال الفيومي في المصباح المنير: ". . . وغلا في الدين غلوا من باب قعد: تصلب وتشدد حتى جاوز الحد، وفي التنزيل: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] وغالى في أمره مغالاة: بالغ " (¬2) اهـ. * مما سبق يتبين أن الغلو في سائر استعمالاته يدل على الارتفاع والزيادة ومجاوزة الأصل الطبيعي أو الحد المعتاد. ¬

(¬1) يُنظر الجوهري، الصحاح، مادة " غلا ". (¬2) تاج اللغة، وصحاح العربية للجوهري مادة غلا، والقاموس المحيط للفيروز آبادي مادة غلا.

الألفاظ ذات الصلة بالغلو: 1 - التطرف: وهو تفعل من الطرف، ومن قولهم للشمس إذا دنت للغروب تطرفت. ومن تجاوز حد الاعتدال وغلا يصح لغويا تسميته بالمتطرف، جاء في المعجم الوسيط مادة طرف: تطرف: " جاوز حد الاعتدال ولم يتوسط ". ب - التنطع: وهو مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى في الفم الذي يظهر عندما يتعمق الإنسان ويتشدق، ثم استعمل في كل تعمق سواء أكان في القول أم الفعل (¬1) . ج - التشدد: وهو دال على القوة والصلابة " فالشين والدال أصل يدل على قوة في الشيء "، والمشادة المغالبة والمقاومة، والمشادة في الشيء التشدد فيه (¬2) . د - العنف: العين والنون والفاء أصل صحيح يدل على خلاف الرفق والعنيف: الشديد من القول والفعل. وبالنظر إلى هذه الألفاظ تجد تقاربا بينها وبين الغلو، فهي بمثابة أوصاف ومظاهر للغلو. وكلها ما عدا التطرف قد وردت في النصوص الشرعية في الكتاب والسنة. ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزري ج 5، ص 74. (¬2) أساس البلاغة للزمخشري مادة شدد.

مفهوم الغلو في الشرع في ضوء النصوص السابقة يمكن تحديد معنى الغلو في الشرع والضوابط التي تحدد المعنى، وتحد من تركه معنى نسبيا متغيرا بتغير الأحوال والأشخاص. وقبل بيان ذلك أعرض بعض تعاريف أهل العلم للغلو: 1 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده، أو ذمه، على ما يستحقه ونحو ذلك " (¬1) وبنحو هذا التعريف عرفه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (¬2) . 2 - وعرف الحافظ ابن حجر الغلو بأنه " المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد " (¬3) وبمثل هذا التعريف عرفه الإمام الشاطبي (¬4) . وهذه التعاريف كلها متقاربة، وتفيد أن الغلو هو: تجاوز الحد الشرعي بالزيادة. و" الحدود: هي النهايات لما يجوز من المباح المأمور به، وغير المأمور به " (¬5) . ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ج1، ص 289. (¬2) تيسير العزيز الحميد ص 256. (¬3) فتح الباري ج13، ص 278. (¬4) الاعتصام، ج3، ص 304. (¬5) ابن تيمية، الفتاوى ج3، ص 362.

ويزيد الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الأمر وضوحا فيحدد ضابط الغلو، فيقول: " وضابطه تعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] (¬1) (¬2) . وذلك لأن الحق واسطة بين الإفراط والتفريط، يقول عمر بن عبد العزيز في كتاب أرسله إلى رجل يسأله عن القدر ". . وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم ". وقال الحسن: " سننكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما، بين الغالي والجافي (¬3) . وقد قرر العلماء أن الحق واسطة بين التفريط والإفراط، وهو معنى قول مطرف بن عبد الله: (الحسنة بين السيئتين) (¬4) وبه تعلم أن من جانب التفريط والإفراط فقد اهتدى (¬5) . ويمكن أن نتبين ملامح الغلو في ضوء النصوص الشرعية وتصنيفه بحسب متعلقه إلى ما يلي: 1 - أن يكون الغلو متعلقا بفقه النصوص، وذلك بأحد أمرين: ¬

(¬1) سورة طه، آية 81. (¬2) تيسير العزيز الحميد ص 256. (¬3) رواه الدارمي ج1، ص 63. (¬4) نص قوله هو: (خير الأمور أوسطها، الحسنة بين السيئتين، وشر الأمور الحقحقة) ، ينظر ابن رجب الحنبلي، المحجة في سير الدلجة ص 18. (¬5) الشنقيطي، أضواء البيان ج1، ص 494.

1 - تفسير النصوص تفسيرا متشددا يتعارض مع السمة العامة للشريعة، ومقاصدها الأساسية فيشدد على نفسه، وعلى الآخرين. ب - تكلف التعمق في معاني التنزيل لما لم يكلف به المسلم، ومن هنا نشأت الفرق كلها أو أكثرها (¬1) . 2 - أن يكون الغلو متعلقا بالأحكام، وذلك بأحد أمرين: 1 - إلزام النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله عز وجل عبادة وترهبا، وهذا معياره الذي يحدده الطاقة الذاتية، حيث إن تجاوز الطاقة وإن كان بممارسة شيء مشروع الأصل يعتبر غلوا، كما يتضح ذلك من قصة زينب رضي الله عنها، وقصة أبي إسرائيل رضي الله عنه. والقضية في هذا نسبية مناطها قدرة الشخص ومدى تحمله، يقول الإمام الشاطبي: " الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة، أو التي تعد مشقة، هو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه، أو عن بعضه، أو وقوع خلل في صاحبه في نفسه، أو ماله، أو حال من أحواله، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة " (¬2) وطاقات الناس مختلفة، وقدراتهم متفاوتة فمن ألزم نفسه فوق طاقتها، أو أدى استمراره على العمل إلى انقطاع عنه أو عن أعمال شرعية أخرى من الحقوق المتعلقة بالإنسان فقد غلا. ¬

(¬1) الشاطبي، الموافقات، ج2، ص 89. (¬2) الموافقات ج2، ص 123.

ب. تحريم الطيبات التي أباحها الله عز وجل على وجه التعبد، فهذا من الغلو كما يتضح ذلك من بعض روايات حديث النفر الثلاثة حيث حرم بعضهم على نفسه أكل اللحم. ج. ترك الضرورات أو بعضها، وذلك كالأكل والشرب والنوم والنكاح، فتركها يعتبر غلوا، ويتضح ذلك من قصة النفر الثلاثة أيضا (¬1) . 3 - أن يكون الغلو متعلقا بالموقف من الآخرين حيث يقف الإنسان من البعض موقف المادح الغالي الذي يوصل ممدوحه إلى درجة العصمة. ويقف من البعض الآخر موقف الذام الغالي الذي يصم مخالفه بالكفر والمروق من الدين، مع أنه من أهل الإسلام. فيتضح مما سبق أن: أ. الغلو في حقيقته حركة في اتجاه القاعدة الشرعية والأوامر الإلهية، ولكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدها الشارع (¬2) فهو مبالغة في الالتزام بالدين، وليس خروجا عنه في الأصل، بل هو نابع من الرغبة في الالتزام به. ب. الغلو ليس دائما فعلا بل يدخل في الترك أيضا، فترك الحلال وتحريمه ضرب من ضروب الغلو، هذا إذا كان على سبيل التدين، والالتزام بالدين. ¬

(¬1) ينظر كمال أبو المجد، التطرف غير الجريمة ص 36 -37. (¬2) المصدر السابق.

ج - نسبة الغلو إلى الدين بقوله (الغلو الديني) أو (التطرف الديني) تجوز في العبارة إذ الغلو إنما هو أسلوب التدين لا الدين نفسه (¬1) ولذلك جاء التعبير القرآني يقول {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] وقال صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ» . د - الحكم على العمل بأنه غلو يجب أن يتأنى فيه، وينظر إلى العمل بدقة، فقد يحكم عليه بأنه غلو مع أنه سليم، ولكن الوسيلة إليه قد تكون من باب الغلو، فيقع الخلط من هذا الباب. هـ - ليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة، ولكن من الغلو الإثقال على النفس إلى درجة الملل، قال بعض العلماء: " وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل " (¬2) . ز - ليس من العدل أن تصف إنسانا بالغلو؛ لأنه التزم رأيا فقهيا متشددا - من وجهة النظر المخالفة - إذا كان التزامه بناء على أمرين: - اجتهاد سائغ شرعا لمن بلغ درجة الاجتهاد. - تقليد لعالم شرع موثوق في دينه وعلمه لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد وتوفر أحد هذين الشرطين دليل على صحة الالتزام وخلوه من اتباع الهوى، ذلك أن متبعي الحق يفعلون ما يؤمرون به من حسن القصد، والاجتهاد لمن قدر عليه، أو التقليد لمن لم يقدر على الاجتهاد، ثم الأخذ في العمل بما قام الاعتقاد على صحته، ¬

(¬1) ينظر محمد سعيد العشماوي " التطرف في الدين وأبعاده " مجلة المنار، عدد 36، ص 81. (¬2) ابن المنير، نقلا عن ابن حجر، فتح الباري ج1 ص 94.

وبعكس ذلك أهل الأهواء فإنهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23] ويجزمون بما يقولون بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهادا غير مأذون فيه، وهم بذلك مسيئون متعرضون لعذاب الله، مع العلم أنه قد يقترن بالهوى شبهة فيصبح حقيقا بوصف الإساءة أيضا (¬1) . ¬

(¬1) ينظر ابن تيمية، الفتاوى، ج29، ص 43.

حقيقة الغلو

[حقيقة الغلو] حقيقة الغلو لما كان المعنى الاصطلاحي يقوم على المعنى اللغوي، ويخصص عموم إطلاقه، رجعنا إلى النصوص الواردة في الغلو من الكتاب والسنة. فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [النساء: 171] - فقد قال القرطبي في تفسيره 6 / 21 لما ذكر المعنى اللغوي: " ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون: غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر. ولذلك قال مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين. وقال الشاعر: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم "اهـ. وكذا قال جمع من المفسرين منهم: ابن جرير في جامعه 4 / 46، والبغوي في معالم التنزيل 2 / 313، وابن كثير في تفسيره 1 / 589، وأبو حيان في بحره 3 / 400، والزمخشري في كشافه 1 / 351. والمفهوم من هذه الآية {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] عمومها لجميع أهل الكتاب من يهود ونصارى؛ إذ العبرة بعموم اللفظ ودلالة السياق تدل عليه أيضا، فإن النصارى زادوا وجاوزوا الحد في نبي

الله عيسى فرفعوه عن منزلته، وإن اليهود جفوا وفرطوا في حقه فغلوا في الجفاء والتفريط وزادوا فيهما، حتى قذفوا أمه الطاهرة العذرية، بما برأها الله تعالى منه. ومن احتج على خصوص الآية بالنصارى بتقدم سياق الآيات السابقة لها في اليهود، وهذه الآية آخرها يدل على قول النصارى وكفرهم، وزعمهم بالأكاذيب الثلاثة، فيجاب عليه بما سبق من عموم لفظة أهل الكتاب، وانصرافها إلى اليهود والنصارى ما لم توجد قرينة ولم توجد، وباستمرار السياق في بني إسرائيل في هذه الآية وما قبلها يدل على العموم من اليهود والنصارى؛ إذ كل منهم غلا في دينه كما سيأتي تحديد الغلو، وقول كل منهم على الله غير الحق، فليس عيسى ربا أو ابنا لله، أو ثالث ثلاثة - وليس هو ابن فحش وزنا وبغاء. ثم إن آخر الآية يختص بالنصارى من قول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} [النساء: 171] وذلك لعظم جرمهم في التوحيد لأن عيسى نبيهم وهاديهم إلى الفطرة السليمة والملة القويمة، وأنهم هم من ادعوا فيه تلك الدعوى الظالمة، فكان آخر الآية مخصوصا بالنصارى لذلك. ومنه آيات عديدة جاءت في النهي عن الطغيان، وهو غلو في الغي كما قال تعالى في آخر سورة طه لبني إسرائيل: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] وقوله عن فرعون وملئه في غير ما آية: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17] وقال عن الخاسر

صاحب الجحيم: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى - وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: 37 - 38] الآية، وقال في آخر سورة هود: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] ومن السنة: ما رواه أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن شبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ» * وحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ: «الْقُطْ لِي حَصًى، فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ وَيَقُولُ: " أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» . رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم (¬1) . ¬

(¬1) رواه أحمد في المسند كما في الفتح الرباني 12 / 169، كتاب الحج والعمرة - باب سبب مشروعية رمي الجمار وحكمها، ورواه النسائي - كتاب المناسك - باب قدر حصى الخذف، وكذا ابن ماجه في باب التقاط الحصى. * ورواه الحاكم في مستدركه 1 / 466 وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبى في تلخيصه عليه. * وقال النووي في المجموع 8 / 127: صحيح رواه البيهقي بإسناد حسن صحيح وهو على شرط مسلم رواية عبد الله بن عباس عن أخيه الفضل. ورواه النسائي وابن ماجه بإسنادين صحيحين، إسناد النسائي على شرط مسلم. اهـ. وذكره ابن حجر في التلخيص الحبير 7 / 387 حيث حقق من كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، والتقط له الحصى: عبد الله أم الفضل وصوّب أنه الفضل - وهو تحقيق نفيس، وكذا كلام النووي السابق، وفي فتح الباري 13 / 291:. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق أبي العالية عن ابن عباس. وقال شيخ الإسلام في الوصية الكبرى: هو حديث صحيح. ونقل عنه الشيخ صالح البليهي رحمه الله السلسبيل في معرفة الدليل 1 / 367 أنه قال: على شرط مسلم. ولم أقف عليه.

* وفي حديث أبي هريرة في البخاري مرفوعا: «لَنْ يُنَجِّي أَحَدًا عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» (¬1) . * فمما سبق يتبين أن الكتاب والسنة يخصصان عموم اللغة، وأن الغلو هو: " الإفراط في مجاوزة المقدار المعتبر شرعا في أمر من أمور الدين ". فالنصارى جاوزوا المقدار المعتبر في حق عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فأفرطوا إلى القول بألوهيته وربوبيته. واليهود جفوا في حقه فزادوا في التفريط تجاوزا بلغ الغلو فيه إلى القول بأنه ابن زنا وبغي، وقذفوا أمه؛ فهم غلاة في جفائه. وكذلك حال المعطلة الذين غلوا في التنزيه فأفرطوا، وحال المشبهة الذين غلوا وزادوا في الإثبات حتى غلوا في الإثبات. وسيأتي الكلام عليهم في موضعه إن شاء الله، وعلى هذا فقس. ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الرقاق بهذا اللفظ، باب القصد والمداومة على العمل. وأخرجه أيضا الإمام مسلم في صحيحه في كتاب صفات المنافقين - باب لن يدخل الجنة أحد بعمله برقم 2816.

الفرق بين التمسك بالنصوص الشرعية والالتزام بها والغلو

[الفرق بين التمسك بالنصوص الشرعية والالتزام بها والغلو] الفرق بين التمسك بالنصوص الشرعية والالتزام بها والغلو في الواقع لا تلازم بين التمسك بالنصوص والغلو؛ فقد كان الصحابة رضي الله عنهم أشد الناس تمسكا والتزاما لنصوص الشريعة مطلقا، ومع هذا لم يحصل لهم غلو أو تشديد - إلا في قضايا عينية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أرشد عليه الصلاة والسلام أصحابه إليها (¬1) وعلمهم وبين لهم طريق العبادة المعتدل، فانتهوا. وسببه هو موافقة هذا الالتزام منهم رضي الله عنهم لعلم صحيح، وفهم سليم، وهمة حريصة على العلم والبصيرة، فنجوا من الغلو فضلا عن الاستمرارية فيه، لكن لما بعد الناس عن زمان الأفاضل، وصار الدين غريبا، وأطبق الجهل على كثير من أهل الإسلام، صار المتمسك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم العاض عليها بنواجذه منبوذا مستهزأ به في تلك المجتمعات، وأطلقوا عليه عبارات النبز كالمتزمتين والغالين والمتطرفين والأصوليين. . ونحوها من الألقاب التي روجتها بعض وسائل الإعلام. ¬

(¬1) كقصة عبد الله بن عمرو بن العاص في إطالة الصوم، المتفق على صحتها. رواها البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب كم يقرأ من القرآن، ومسلم في كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، رقم 1159، وكحديث عبد الله بن الشخير في وفد بني عامر وفيه " فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى ". فقلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان " رواه أبو داود والنسائي بأسانيد جيدة. وما قوله عليه السلام ذلك إلا سدا لطريق الغلو فيه، انظر: فتح المجيد 517.

والواقع أن التمسك بنصوص الكتاب والسنة، وفهمها فهما صحيحا، يعتبر عند هؤلاء المتهاونين بأحكام الشريعة الغافلين عنها، غلوا وتطرفا، وذلك بالنظر إلى ما هم عليه من تفريط ظاهر، وقصور في التزام منهج الالتزام، جلي ملموس. والملاحظ أن المتمسكين بمدلولات النصوص الشرعية يكونون غلاة متشددين بنسبتهم إلى المفرطين الذين يحملون الإسلام وصفا، وعند نسبتهم إلى ميزان الشريعة لم نجد عندهم معنى التمسك المطلوب، وهو الالتزام بأحكام الكتاب والسنة. فالمقصرون يلمزون المتمسكين بالغلو والتطرف على أن ما هم عليه هو اعتدال الإسلام وتوسطه، وما أظهروه هو الاعتدال، وهو في الحقيقة ليس كذلك؛ إذ هو التقصير والتفريط في بعض شعائر الإسلام وأحكامه، ولا يخفى أن من يتهم البعض بالتطرف أو الغلو، غايته التنفير والتحذير منهم وليس لكونهم متجاوزين لحدود الشريعة ووسطية الإسلام كمن اتهم دعوة الشيخ السلفية الإصلاحية بذلك. أعني أن هذه الدعاوى ليست من باب الأسماء والأحكام، أو لتبين معاني شرعية - بقدر ما هي لأغراض وأهواء ذاتية أو محدودة. فتكون بذلك من تحميل مصطلحات الشارع ما لا تحتمل، ومن استعماله المعاني الشرعية في الأغراض الشخصية الضيقة والغايات السياسية المحدودة!

الغلو في الدين بدعة حرمها الإسلام

[الغلو في الدين بدعة حرمها الإسلام] الغلو في الدين بدعة حرمها الإسلام حقيقة أصل الدين ومبدؤه في الإسلام هما: 1 - توحيد الله تبارك وتعالى بالعبادة والطاعة في تحقيق " شهادة: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله ". 2 - تجريد المتابعة لكتاب الله تعالى ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على طريقة السلف الصالح الذين كانوا خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير القرون بعد قرنه صلى الله عليه وسلم، فكانوا " الطائفة المنصورة التي لم يضرها من خالفها "، فكل من نهج نهجهم وسلك سبيلهم وسار على طريقتهم هو من " الطائفة المنصورة " التي هي امتداد للسلف الصالح في بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في " صحيح سنن ابن ماجه ج1 / 6 ": حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» ، فهذه الطائفة هي القوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها. وإذا تفحصنا واقع الفرق والجماعات وجدناها مختلفة عن الطائفة المنصورة، لمخالفتها لمنهج السنة النبوية في العقيدة والشريعة والدعوة، ولمغايرتها لما كان عليه سلف هذه الأمة الذين كانوا خير القرون بعد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجميع الفرق والجماعات والأحزاب داعية إلى التفرق والاختلاف؛ لأنها تدعو إلى آرائها وأفكارها، فما تراه هذه الجماعة لا تراه الجماعة الأخرى، وما يعتبره هذا الحزب لا يعتبره الحزب الآخر، وهكذا

جميع الفرق مختلفة. متعارضة، لا يجمعها على أمر معصوم عن الهوى جامع، فهي مجمعة على أن لا تجتمع على ما يعصمها من التفرق والاختلاف، والعاصم منهما " سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته النبوية ". والطائفة المنصورة التي هي " على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه " وهم أهل السنة النبوية: " أهل الحديث " (¬1) وأهل الأثر والاتباع، وهم المفارقون لجميع أهل التفرق والابتداع وأهل الآراء والأهواء، وهم وحدهم الداعون إلى ما يجمع الأمة ولا يفرقها، ويوحدها ولا يجزئها، الذين يدعون الأمة إلى " الكتاب والسنة على منهاج الأئمة "، فمن استجاب إلى ذلك قولا وعملا وسلوكا كان من الطائفة المنصورة، فدعوتهم دائمة، ومنهجهم قائم، ومسلكهم متبع، وطريقهم مستقيم، وسبيلهم آمن من مخاوف الفرق والاختلاف، فأكرم بهم!! وأعظم بمنهجهم!! . فالطائفة المنصورة هي المستمسكة بأصل الدين وحقيقته: " توحيد الله تبارك وتعالى بالعبادة والطاعة، وتجريد المتابعة للكتاب والسنة على طريقة أهل الحديث "، فهؤلاء الذين عصمهم الله تعالى من " التطرف والغلو في الدين "، ومن سواهم واقع ولا بد في التطرف أو الغلو، ولبيان هذا نقول: إن من حقائق دعوات الرسل عليهم السلام بأصل الدين وحقيقته: " توحيد الله تبارك وتعالى بالعبادة والطاعة، وتجريد المتابعة للكتاب والسنة على طريقة أهل الحديث "، فهؤلاء الذين عصمهم الله تعالى من " التطرف ¬

(¬1) وفي الحديث بإسناد حسن: " إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وسنتي " أخرجه أحمد في مسنده 5ج / 3 / 17 /.

والغلو في الدين "، ومن سواهم واقع ولا بد في التطرف أو الغلو، ولبيان هذا نقول أيضا: إن من حقائق دعوات الرسل عليهم السلام أنها قامت على الحق والاستقامة عليه، ولهذا نهى الله تبارك وتعالى أهل الكتاب عن الغلو في دينهم غير الحق، فقال سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] وقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] أي: لا تفتروا على الله ما لم يأمركم به. ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو في دينهم لئلا يفتروا على الله ما لم ينزل به سلطانا، فإن اليهود غلوا في دينهم، والنصارى غلوا في دينهم، وافتروا على الله تعالى في زعمهم البهتان في " عيسى ابن مريم عليه السلام " حين اتخذوه إلها، وأنه ابن الإله - تعالى الله عما يقوله الكافرون علوا كبيرا - بل قد غلوا في حواريه، وغلوا في أحبارهم ورهبانهم، فادعوا فيهم العصمة، فاتبعوهم في كل ما قالوه حقا كان أم باطلا، ضلالا كان أم هدى، ولهذا قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن الغلو في الدين فقال: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» [الأحاديث الصحيحة برقم 1283] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ» [صحيح الجامع برقم 2246] . ولم تخل أمة ولا دعوة من هذه الأصناف الثلاثة من الناس: 1 - فمن الناس المستمسك بالحق، المستقيم على طريقته ومنهاجه. 2 - ومنهم المفرط الزائغ المضيع لحقوق الله، المعتدي لحدوده. 3 - ومنهم الغالي المتشدد المتجاوز لأحكام الله تعالى، الزائد في دينه المبتدع فيه. وكل أولئك كانوا في الأمم السالفة قبل أمة الإسلام، وفيها أيضا من هذه الأصناف الثلاثة كما كان فيمن سبقها، بل افترقت هذه الأمة إلى أكثر من سبعين فرقة جميعها ضال إلا فرقة واحدة هي الفرقة الناجية المنصورة، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ» ، [الأحاديث الصحيحة برقم 1492 / وصحيح الجامع برقم 1082] ، وفي صحيح سنن الترمذي برقم 2129: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرقة الناجية فقال: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . فهذه هي الفرقة المنصورة دائما وأبدا، هي التي " على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهما أجمعين "، ولقد ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الفرقة الناجية المنصورة الهداية والسداد والرشاد، في قوله

الشريف: «إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ [وَفِي رِوَايَةٍ: إِنِّي خَلَّفْتُ فِيكُمْ] مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» [ولهذا الحديث ألفاظ متقاربة في صحيح مسلم ج 2 / 890 / ومسند أحمد ج4 / 367 / وسنن الدارمي ج 3 / 432. ولتكون الأمة جميعا أو أغلبها وعامة سوادها في الفرقة الناجية المنصورة دائما وأبدا في كل عصر وفي كل مصر.

النصوص الشرعية المحذرة من الغلو في الدين

[النصوص الشرعية المحذرة من الغلو في الدين] النصوص الشرعية المحذرة من الغلو في الدين جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بالتحذير من سلوك الضالين والمغضوب عليهم، وسبيل المبتدعين المغالين في دين الله غير الحق، قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] (¬1) . فالله سبحانه وتعالى يأمر بالاستقامة التي هي (الاعتدال) ، ويعقب سبحانه بالنهي عن الطغيان، مما يفيد أن الله تعالى يريد منا الاستقامة، كما هو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بدون غلو ولا مبالغة ولا تشديد يحيل هذا الدين من يسر إلى عسر، وهي الوسطية التي جاء بها الإسلام بين الغلو والتفريط، ولا يمكن أن تسير في ركابها إلا في اتباع سبيل السلف الصالح رضوان الله عليهم. يقول الإمام ابن قيم الجوزية: " فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين؛ فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له: هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد " (¬2) . وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مصير الغالي وعاقبته، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أن مآل من غلا في دينه (إلى الهلاك) . ففي صحيح مسلم (¬3) وفي سنن أبي ¬

(¬1) سورة هود، الآية: (112) . (¬2) مدارج السالكين، ج (2 / 517) . (¬3) ج (4 / 2055) في كتاب العلم: باب هلك المتنطعون.

داود (¬1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» قالها ثلاثا، وما ذلك إلا لخطورة (التَّنَطُّعِ فِي الدِّينِ) الذي هو الغلو في الدين والتطرف فيه. قال النووي في شرح مسلم (¬2) «هلك المتنطعون» ، أي: المتعمقون الغالون المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم ". وقد جاء في أحاديث أُخَر: أن التشديد على النفس سبب لوقوع التشديد من الله تعالى - كما في الحديث عند أبي يعلى في مسنده وفي إسناده ضعف وهو صالح للشواهد والمتابعات -. وقال محقق المسند: إسناده حسن: «لا تشددوا علي أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم» (¬3) . إن من الحقائق التي تظهر لكل من تتبع تاريخ دعوات الرسل عليهم الصلاة والسلام أن الأمم تتفاوت في مقدار الاستجابة، وتتفاوت درجات المدعوين في سلوك طريق الحق: فمن الناس المتمسك بالحق، المستقيم على طريقه. ومنهم المفرط الزائغ المضيع لحدود الله. ومنهم الغالي الذي تجاوز حدود الله. وكل أولئك وجدوا فيمن سبق أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم في أمته متوافرون، ولذلك جاءت النصوص الشرعية بالتحذير من سلوك طرق ¬

(¬1) رقم 4608. (¬2) ج (16 / 220) . (¬3) ج (6 / رقم 3694) .

المغضوب عليهم والضالين، المضيعين لحدود الله، والمجاوزين لها، وجاءت داعية إلى الاستقامة بأساليب عدة أجملها فيما يلي: 1 - تعليم المسلمين أن يدعوا الله أن يسلمهم من كلا الانحرافين، وتشريع ذلك لهم في كل صلاة مرات متعددة. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7] ولما أمرنا الله سبحانه أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم. . كان ذلك مما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين (¬1) . 2 - التحذير من تعدي الحدود، والأمر بلزومها {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] والحدود هي النهايات لكل ما يجوز من الأمور المباحة، المأمور بها، وغير المأمور بها (¬2) وتعديها هو تجاوزها، وعدم الوقوف عليها (¬3) . وهذا التعدي هو الهدف الذي يسعى إليه الشيطان، إذ إن مجمل ما يريده تحقيق أحد الانحرافين الغلو أو التقصير فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو. ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين ¬

(¬1) ابن تيمية، الفتاوى، ج1، ص 65. (¬2) ينظر ابن تيمية، الفتاوى، ج3، ص 362. (¬3) ينظر الطبري، جامع البيان، ج2، ص 517.

جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له هذا بتقصيره عن الحد. وهذا بتجاوزه الحد (¬1) . 3 - الدعوة إلى الاستقامة ولزوم الأمر، وعدم الغلو والزيادة. {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] فالله سبحانه يأمر بالاستقامة التي هي الاعتدال، والمضي على المنهج دون انحراف، ويعقب بالنهي عن الطغيان مما يفيد أن الله سبحانه يريد الاستقامة كما أمر بدون غلو ولا مبالغة تحيل هذا الدين من يسر إلى عسر (¬2) . 4 - النهي عن الغلو وتوجيه الخطاب لأهل الكتاب على وجه الخصوص. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171] ¬

(¬1) ابن القيم، مدارج السالكين، ج2، ص 517. (¬2) ينظر، سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4، ص 1931.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] أي: يا أهل الإنجيل لا تغلوا في دينكم فتتجاوزوا الحق، فإن قولكم بأن عيسى ابن الله قول منكم على الله بغير الحق، ولا ترفعوه إلى مقام الألوهية فتجعلوه ربا وإلها (¬1) . " والغلو في النصارى كثير فإنهم غلوا في عيسى فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدون الله " (¬2) . ومن هذا الغلو جاءت معظم الانحرافات في الديانة النصرانية (¬3) . ومن ذلك غلوهم بابتداع رهبانية تعبدوا الله بها، وهي لم تكتب عليهم، ولم يؤمروا بها {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] ولم يكن الغلو قاصرا على النصارى، بل هو موجود في اليهود، ولكن الخطاب في الآيتين قصد به النصارى خاصة؛ والسياق يدل على ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والنصارى أكثر غلوا في ¬

(¬1) ينظر الطبري، جامع البيان، ج6، ص 34، والقرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص 21، وأبي السعود، إرشاد العقل السليم، ج1، ص 821، وابن جزي، التسهيل، ج1، ص 165. (¬2) سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تيسير العزيز الحميد، ص 265. (¬3) ينظر سيد قطب، في ظلال القرآن ج2، ص 496.

الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن (¬1) . وهذه النصوص وإن تعلقت بأهل الكتاب ابتداء فإن المراد منها موعظة هذه الأمة لتجنب الأسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة (¬2) . 5 - نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو، وذلك لئلا يقع المسلمون فيما وقع فيه من سبقهم من الأمم التي بعث فيهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومع النهي يبين الرسول صلى الله عليه وسلم عواقب الغلو وآثاره، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع: (هَلُمَّ الْقُطْ لِي الْحَصَى) فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: (نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ) » (¬3) . والنهي هنا وإن كان سببه خاصا، فهو نهي عن كل غلو. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال "، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل: الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنها أبلغ من الصغار ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم، أي هدي من كان قبلنا ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم، ج1، ص 289، وينظر الطبري، جامع البيان، ج6، ص 24، وابن جزي، ج1، ص 165. (¬2) ينظر محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 60. (¬3) رواه أحمد (1 / 215، 347) ، كتاب المناسك: باب قدر حصى الرمي، والحاكم (1 / 446) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والحديث صححه شيخ الإسلام ابن تيمية، الاقتضاء، ج1، ص 289، والنووي في المجموع (8 / 138) .

إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك (¬1) . 6 - بيان مصير الغالي وعاقبته: حيث وردت أحاديث تبين مآل من غلا، وأنه صائر إلى الهلاك، بل يرد ذلك مكررا ثلاث مرات في حديث واحد؛ مما يفيد عظيم الأمر وخطره، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» قَالَهَا ثَلَاثًا (¬2) . 7 - إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاك المتنطعين، فقد أخرج مسلم في صحيحه ج4 / 2055 / عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» قالها ثلاثا قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم ج16 / 220 /: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. وأخرج أبو داود في سننه برقم 4904 / وأبو يعلى في مسنده رقم 3694 / وهو حديث حسن / عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ، رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ» . وهذا التشديد على النفس الذي هو نوع من أنواع الغلو، بينت السنة النبوية أن عاقبة صاحبه إلى الانقطاع، وأنه ¬

(¬1) نقلا عن الشيخ سليمان بن عبد الله، تيسير العزيز الحميد، ص 275، ولم أجده في كتابات شيخ الإسلام التي بين يدي، إلا نحوه في الاقتضاء، ج1، ص 289. (¬2) رواه مسلم (4 / 2055) كتاب العلم: باب هلك المتنطعون، وأبو داود (4608) كتاب السنة: باب في لزوم السنة، وأحمد (1 / 386) .

ما من مشاد لهذا الدين إلا ويغلب وينقطع عن الاستقامة على الدين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ [أَيْ يُغَالِبَ] الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ [أَيْ بِالتَّبْكِيرِ فِي الطَّاعَةِ] وَالرَّوْحَةِ [أَيِ الْعَوْدَةِ إِلَى الرَّاحَةِ لِاسْتِعَادَةِ النَّشَاطِ عَلَى الطَّاعَةِ] وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» . أي الاستعداد للمتابعة، تشبيها بالمسافرين الذين يجددون نشاطهم واستعدادهم لمتابعة المسير، بلا تكلف ولا إرهاق، ولهذا جاء في رواية أخرى: «وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» [أخرجه البخاري في صحيحه ج1 / 16 / والنسائي في سننه ج18 / 121] . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ج1 / 94 /: " والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق، إلا عجز وانقطع فيغلب "، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث بالتسديد والمقاربة والتوسط، ليتحقق المقصود، ألا وهو الثبات على الدين بلا انقطاع ولا تخلف. فتبين بذلك أثر الغلو في الدين على الاستقامة عليه، فكان لا بد من نبذ الغلو لتحقيق الاستقامة على الحق والدين القويم. فالغلو والتفريط وما بينهما وسط. . قال الحسن البصري رحمه الله: إن دين الله وضع على القصد فدخل الشيطان فيه بالإفراط والتقصير فهما سبيلان إلى نار جهنم، وعنه: إن دين الله تعالى وضع دون الغلو وفوق التقصير (¬1) . ¬

(¬1) نوادر الأصول في أحاديث الرسول ج: 1 ص: 167 أبو عبد الله الحكيم الترمذي 360 هـ ت / عبد الرحمن عميرة 1992م.

* * * وقال ابن عبد البر (¬1) قال سفيان بن حسين: أتدري ما السمت الصالح؟ ليس هو بحلق الشارب ولا تشمير الثوب، وإنما هو لزوم طريق القوم، إذا فعل ذلك، قيل قد أصاب السمت، وتدري ما الاقتصاد؟ هو المشي الذي ليس فيه غلو ولا تقصير. * * * والترهب التعبد وهو استعمال الرهبة، والرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة (¬2) . * * * قال الطبري: وأرى أن الله تعالى ذِكْرُهُ إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها (¬3) . حدثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال سألت ميمونا عن الصلاة خلف الأمراء؟ فقال: صل معهم. حدثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال: سألت ميمونا عن رجل، فذكر أنه من الخوارج، فقال: أنت لا تصلي له إنما تصلي لله، قد كنا نصلي خلف الحجاج وكان حروريا أزرقيا. ¬

(¬1) التمهيد ج: 21 ص 68. (¬2) التعاريف ج: 1 ص 375. (¬3) تفسير الطبري ج: 2 ص: 6 / 7562.

حدثنا وكيع ثنا سفيان عن إبراهيم بن أبي حفصة قال: قلت لعلي بن حسين: إن أبا حمزة الثمالي وكان فيه غلو يقول: لا نصلي خلف الأئمة ولا نناكح إلا من يرى مثل ما رأينا، فقال علي بن حسين: بلى نصلي خلفهم ونناكحهم بالسنة. وعن وكيع عن سفيان عن الأعمش قال: كانوا يصلون خلف الأمراء ويحتسبون بها. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» (¬1) . وعن ابن أبي قماش عن ابن عائشة قال: ما أمر الله تعالى عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: فإما إلى غلو وإما إلى تقصير، فبأيهما ظفر قنع. وعن ابن يحيى قال حدثني بعض شيوخنا قال: قال علي بن غنام: كلا طرفي القصد مذموم، وأنشد أبو سليمان: وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ ... كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ (¬2) قال الخطابي: والطريقة المثلى في هذا الباب، أن لا تمتنع من حق يلزمك للناس وإن لم يطالبوك به، وأن لا تنهمك لهم في باطل لا يجب ¬

(¬1) رواه البزار في مسنده (كما في كشف الأستار برقم 74) وقال الهيثمي: فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب. مجمع الزوائد (1 / 62) . (¬2) العزلة ج: 1 ص 97 / أبو سليمان الخطابي البستي 388 هـ المطبعة السلفية 1399 هـ.

عليك وإن دعوك إليه، فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه، ومن انحل في الباطل جمد عن الحق، فكن مع الناس في الخير، وكن بمعزل عنهم في الشر، وتوخ أن تكون فيهم شاهدا كغائب وعالما كجاهل. وعن مكحول عن حذيفة قال: قال رسول الله: «لِلسَّاعَةِ أَشْرَاطٌ، قِيلَ: وَمَا أَشْرَاطُهَا؟ قَالَ: غُلُوُّ أَهْلِ الْفِسْقِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَظُهُورُ أَهْلِ الْمُنْكَرِ عَلَى أَهْلِ الْمَعْرُوفِ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ: فَمَا تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: دَعْ وَكُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِكَ» (¬1) . عن جابر رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عَبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» . واختلف في إرساله ووصله، ورجح البخاري في تاريخه الإرسال، وأخرجه البيهقي أيضا والعسكري عن عمرو بن العاص رفعه لكن بلفظ: «فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا سَفَرًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» وزاد: «فَاعْمَلْ عَمَلَ امْرِئٍ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَمُوتَ أَبَدًا وَاحْذَرْ حَذَرًا تَخْشَى أَنْ تَمُوتَ غَدًا» وسنده ضعيف. وله شاهد عند العسكري عن علي رفعه: «إِنَّ دِينَكُمْ دِينٌ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا ظَهْرًا أَبْقَى وَلَا أَرْضًا قَطَعَ» وفي سنده الفرات بن السائب ضعيف. وهذا كالحديث الآخر الذي أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» وروى أحمد عن أنس ¬

(¬1) قال أبو نعيم: غريب من حديث مكحول لم نكتبه إلا من حديث حمزة. حلية الأولياء ج: 5 ص: 187.

بلفظ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ» وليس فيه الترجمة، وروى الخطابي في العزلة عن ابن عائشة قال: «ما أمر الله عباده بما أمر إلا وللشيطان فيه نزعتان فإما إلى غلو وإما إلى تقصير، فبأيهما ظفر قنع» . قال النووي: " المتنطعون، أي: المتعمقون المغالون والمجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم (¬1) . كما جاء في أحاديث أُخَر أن التشديد على النفس سبب لوقوع التشديد من الله، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ، رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ» (¬2) . وهذا التشديد على النفس الذي هو ضرب من ضروب الغلو، بينت السنة أن عاقبة صاحبه إلى الانقطاع، وأنه ما من مشاد لهذا الدين إلا ويغلب وينقطع. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَا يُشَادُّ (¬3) الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، ¬

(¬1) شرح مسلم، ج16، ص 220. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) يشاد الدين: أي يقاويه ويقاومه، ويكلف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته، والمشادة المغالبة ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، ج2، ص 451، وينظر ابن حجر، فتح الباري ج1، ص 94.

واستعينوا بالغدوة (¬1) والروحة (¬2) وشيء من الدلجة» (¬3) وفي لفظ «والقصد القصد تبلغوا» (¬4) . قال الحافظ ابن حجر: " والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب " (¬5) . وحتى لا يقع ذلك جاء ختام الحديث آمرا بالتسديد والمقاربة والتسديد: العمل بالسداد، وهو القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقها (¬6) . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه،، ¬

(¬1) الغدوة: المرة من الغدو، وهو سير أول النهار، نقيض الرواح، ابن الأثير النهاية في غريب الحديث، ج3، ص 346. (¬2) الروحة: المرة من الرواح، قال ابن الأثير: يقال راح القوم، وتروحوا إذا ساروا أي وقت كان، وقيل أصل الرواح أن يكون بعد الزوال. ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، ج2، ص 273. (¬3) الدلجة: قال ابن الأثير وهو سير الليل النهاية في غريب الحديث، ج2، ص 129. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) فتح الباري، ج1، ص 94. (¬6) ابن رجب، المحجة في سير الدلجة، ص 51.

مظاهر الغلو في الاعتقاد والعمل والحكم على الناس

[مظاهر الغلو في الاعتقاد والعمل والحكم على الناس] [الغلو في الاعتقاد] المحور الثالث الغلو مظاهره وأسبابه مظاهر الغلو في الاعتقاد والعمل والحكم على الناس للدكتور عبد السلام بن برجس العبد الكريم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله. أما بعد: فإن من مظاهر الغلو: الغلو في الاعتقاد، والعمل، والحكم على الناس. أما الغلو في الاعتقاد: فهو مجاوزة الحد فيما شرع الله تعالى من الأمور الاعتقادية. فإن الله تعالى إنما أنزل الكتاب وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم ليكون الدين كله لله، والغالي لا يكتفي بما أنزل تعالى من الشريعة الكاملة، بل يسعى إلى الزيادة على ما شرع الله، ومخالفة ما قصده الشارع من التيسير على المكلفين إلى التشديد على نفسه وعلى غيره، ونسبة ذلك إلى شرع الله تعالى. والغلو في الاعتقاد أخطر أنواع الغلو؟ ذلك بأن الاعتقاد درجة عالية من جزم القلب بما فيه من رأي أو فكر أو شرع، فأصعب ما يكون انتزاعها؛ لأن صاحبها يدافع عنها كما يدافع عن دمه وماله وعرضه، ومعلوم أن الغالي إنما يعتقد ما يتوهم أنه شرع الله وليس كذلك، بل إنما يعتقد فكرا أو رأيا مصدره الهوى. ومن هنا كان تحذير علماء المسلمين من أهل البدع والأهواء أكثر من تحذيرهم من أهل المعاصي والفسوق. فالضرر الحاصل بالغلو في الاعتقاد أعظم من الضرر الحاصل بالغلو في العمل. ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من الغلو: غلو الخوارج وهم الفرقة المعروفة في جسم الأمة الإسلامية منذ العصر الأول:

إنهم فئة قادهم الغلو في الحكم على صاحب المعصية إلى إلحاقه بمن وقع في الكفر بالله عز وجل، فكان هذا الغلو الاعتقادي دافعا لهم إلى سلسلة من الجرائم الكبرى بحق الأمة الإسلامية: (أ) حيث دفعهم إلى تكفير حكام المسلمين بمجرد الوقوع في المعاصي. (ب) ثم تكفير عامة من لم يقنع بقولهم هذا من المسلمين، فكفروا المجتمعات المسلمة. (ج) فقاتلوا المسلمين، وخرجوا على حكامهم. وهكذا صور كثيرة من الظلم والاعتداء وإيهان قوة المسلمين، ارتكبها هؤلاء لأجل غلوهم في دين الله تعالى. وقد كشف الحديث النبوي الشريف هذا الجانب السيئ في هذا الاتجاه، ففي صحيح ابن حبان (¬1) عن جندب البجلي أن حذيفة حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ " قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الرَّامِي أَمِ الْمَرْمِيُّ؟ قَالَ: " بَلِ الرَّامِي» . فهذه الصورة تكشف الغلو الاعتقادي، كيف يبدأ صاحبه؟ ومن أين يأتيه الشيطان؟ وما يترتب على غلوه من المفاسد العظيمة: حيث قتل النفس التي حرم الله، وخيانة الجار، وزعزعة أمن الدولة المسلمة. كل ذلك يشرح نظريا شؤم الغلو الاعتقادي، ويبين عموم ضرره. ¬

(¬1) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، 1 / 282.

ومن هنا جاء كتاب الله تعالى وجاءت السنة النبوية بالتحذير الشديد من الغلو، وبيان عواقبه الوخيمة في أمور الدين وأمور الدنيا. ففي مسند الإمام أحمد (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع: هَلُمَّ الْقُطْ لِي، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ: " نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ. وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " اقتضاء الصراط المستقيم " (¬2) هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه مثل: الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا، إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به. وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك. اهـ. وغلو أهل الكتاب من النصارى في دينهم واضح، حيث نص الله تعالى عليه في قوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] (¬3) . فهنا غلو منهم في الاعتقاد، ساقهم إليه الشيطان، حيث زين لهم عبادة المسيح من دون الله تعالى في هيئة محبة الأنبياء وتعظيمهم، وقد أبطل الله ¬

(¬1) (1 / 215 - 347) وصححه شيخ الإسلام في " اقتضاء الصراط المستقيم " (1 / 289) . (¬2) 1 / 289 ونقله عنه الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد (ص 275) والنقل بواسطته. (¬3) سورة النساء 171.

هذه الشبهة بأدلة متعددة، كقوله تعالى {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] (¬1) . ومثل فعل النصارى هذا؛ فعل اليهود مع العزير، وفعل بعض فرق هذه الأمة مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ولهذا حرقهم علي رضي الله عنه، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، واختار ابن عباس أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق، وهو قول أكثر العلماء (¬2) . وقد قاد الغلو النصارى إلى ابتداع البدع في دينهم، والتعبد لله تعالى بها، كما قال تعالى {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] فكل من غلا من هذه الأمة، واتبع هواه وحكمه في دين الله، أو زاد على ما شرعه الله ففيه شبه من أهل الكتاب، ومن تشبه بقوم فهو منهم. ومآله إلى الهلاك في الدنيا والآخرة؛ لأن الغلو هو سبب هلاك من مضى من أهل الكتاب باختلافهم وتقاتلهم وتباغضهم، وفي الآخرة هم الأخسرون. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ " قالها ثلاثا» . رواه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود (¬3) . ¬

(¬1) سورة المائدة 75. (¬2) ينظر منهاج السنة لابن تيمية (1 / 28) . (¬3) صحيح مسلم (2670) .

قال الخطابي في " معالم السنن " (¬1) المتنطع: المتعمق في الشيء، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. اهـ. فهذا خبر عن هلاك من وقع في التنطع الذي هو ضرب من الغلو في الكلام ونحوه، فدل على أن عقوبة الغالين من المتقدمين والمتأخرين هو: الهلاك، ولهذا لا يقوم لأهل الغلو دولة، ولا تجتمع الأمة عليهم، كما قال الإمام وهب بن منبه - رحمه الله تعالى - في الخوارج كنموذج للغلو، عند مناصحته لمن وقع في رأيهم: (فوالله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج. ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبل، وقطع الحج إلى بيت الله الحرام، وإذن لعاد أمر الإسلام جاهلية، حتى يعود الناس يستعينون برءوس الجبال كما كانوا في الجاهلية، وإذن لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضا، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري أين يسلك أو مع من يكون. غير أن الله بحكمه وعلمه ورحمته نظر لهذه الأمة فأحسن النظر لهم، فجمعهم وألف بين قلوبهم على رجل واحد ليس من الخوارج. .) الخ (¬2) . ¬

(¬1) (7 / 12 -13) . (¬2) رسالة مناصحة الإمام وهب بن منبه لرجل تأثر بمذهب الخوارج، ص 17.

وكل ما ذكره هذا الإمام واقع ملموس في هذه الفئة ومن نحا نحوها في الغلو، ذلك بأن كل خير يحصل للأمة إنما هو بسبب اجتماعها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا فسر حبل الله تعالى الوارد قي قوله جل وعلا {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] بالجماعة في قول ابن مسعود رضي الله عنه وغيره (¬1) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأهل الإثبات من المتكلمين مثل الكلابية والكرامية والأشعرية أكثر اتفاقا وائتلافا من المعتزلة، فإن في المعتزلة من الاختلافات وتكفير بعضهم بعضا، حتى ليكفر التلميذ أستاذه، من جنس ما بين الخوارج، وقد ذكر من صنف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه. ولست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما تبع ذلك، ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك، وقدم غيره عليه، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولا وفعلا، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك. . اهـ (¬2) . ¬

(¬1) المحرر الوجيز لابن عطية (3 / 182) . (¬2) مجموع الفتاوى 4 / 52.

ومن هذا المنطلق جعل أهل العلم: من علامات المبتدعة: الغلو، فليس مع من ركبه أي حجة، ومن عباراتهم في ذلك، ما سطره العلامة الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه الذي رفض فيه الغلو، وأنكر على أهله، وفند ما يظنونه حجة لهم، وهو كتاب: " منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع " قال رحمه الله: ومن علامات صاحب البدعة: التشديد، والغلظة، والغلو في الدين، ومجاوزة الحد في الأوامر والنواهي، وطلب ما يعنت الأمة ويشق عليهم ويحرجهم ويضيق عليهم في أمر دينهم، وتكفيرهم بالذنوب والمعاصي إلى غير ذلك مما هو مشهود مذكور من أحوال أهل البدع ". اهـ. وقد كشف الشيخ ابن سحمان ضلال طائفة من الغالين في كتابه هذا بما يحسن تلخيصه، إذ البلية تتكرر بمثل هذه الطائفة في كل زمن. وقد قام الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله بمنع هؤلاء الغالين من الذهاب إلى البادية للدعوة مما أثار حفيظة بعضهم، فذم الولاية، وذم العلماء، قال الشيخ ابن سحمان رحمه الله (¬1) قد كان من المعلوم عند الخاصة والعامة أن الذي منع هؤلاء من الذهاب إلى هذه الأماكن المذكورة في السؤال هو الإمام - أعزه الله بطاعته وأحاطه بحياطته - لأمرين: ¬

(¬1) ص 87 - 88.

أحدهما: أنهم افتاتوا على منصب الإمامة، فذهبوا إلى البادية من رعيته ومن تحت يده وفي ولايته، من غير إذن منه، ولا أمر لهم بذلك. وقد كان من المعلوم أن الإمام هو الذي يبعث العمال والدعاة إلى دين الله. الثاني: ما بلغه عنهم من الغلو والمجازفة والتجاوز للحد في المأمورات والمنهيات وإحداثهم في دين الله ما لم يشرعه الله ولا رسوله، فمن ذلك: أنهم كفروا البادية بالعموم. ومنها: أنهم يلزمون من دخل في هذا الدين أن يلبس عصابة على رأسه، ويسمونها: العمامة، وأنها من السنة. ومنها: أنهم لا يسلمون إلا على من يعرفون وتميز بالعمامة. وهم مع ذلك يزعمون أنهم هم على السنة، وأن المشايخ يميتون السنن. ومنها: أنهم لا يدعون أحدا صلى معهم صلاة الصبح أن يخرج من المسجد إلا بعد طلوع الشمس. ومنها: أنهم أدخلوا في دين الله ما ليس منه، فزعموا أن تدوية البدو للإبل عند ورودها وصدورها بدعة. ومنهم من تجاوز الحد في التأديب عند فوات بعض الصلاة، فضربوا رجلا منهم حتى مات. . فلما اشتهر هذا الأمر عنهم، وهذا الغلو والتجاوز للحد، خاف الإمام أن يسيروا بسيرة الخوارج، فيمرقون من الدين بعد أن دخلوا فيه،

كما مرق منه من غلا في الدين وتجاوز الحد ممن كانوا من أعبد الناس وأزهدهم وأكثرهم تهليلا، حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة. . إلى أن قال الشيخ: وأما سبهم المشايخ وثلبهم إياهم وإساءة الظن بهم، وكذلك ما نسبوه إلى ولي الأمر من الأقوال التي لا تروج على عاقل، ويغتر بها كل مغرور جاهل، فهذا كله مما يرفع الله به درجات الإمام، والمشايخ، وحسابهم على الله، وسيجازيهم بما جازى به المفترين؛ لأن الإمام والمشايخ لم يمنعوهم إلا خوفا على من دخل هذا الدين أن يسلك مسلك الخوارج، الذين مرقوا من دين الإسلام وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وأما قول بعضهم: ما فعل المشايخ ذلك إلا حسدا منهم للإخوان في دعوتهم. فنقول: وهل يدور في عقل عاقل أن المشايخ يحسدونهم على ما أحدثوه من البدع والغلو والمجازفة والتجاوز للحد!! وأما قولهم: إن المشايخ داهنوا في دين الله، والإخوان أمروا وأنكروا. فنقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، فلا جرم قد قالها الذين من قبلهم لما نهاهم أهل الحق عن الغلو في الدين، قالوا لمن نهاهم: يا أعداء الله قد داهنتم في الدين (¬1) . وهم يزعمون أنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تشابهت قلوبهم. ¬

(¬1) مقولة الخوارج لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.

فصل في الغلو في العمل

وأما قولهم: الإخوان علمونا ملة إبراهيم وبينوها، والمشايخ كتموها ودفنوها. فنقول: إن كان هذا حقا فسيجازيهم الله على ذلك. لكنهم مع ذلك قد سلكوا بهم مسلك أهل البدع، وتجاوزوا بهم الحد في الأقوال والأفعال، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فإن كان هذا هو ملة إبراهيم فقد أعظموا على الله الفرية وعلى ملة إبراهيم. وأما قولهم: ما أطاع الإمام المشايخ إلا لسكوتهم عنه للمآكل والأغراض. فنقول: هذا - أيضا - من جنس ما قبله من الطعن على الإمام وعلى المشايخ بالزور والبهتان. . اهـ. [فصل في الغلو في العمل] فصل والغلو في العمل: تشديد المسلم على نفسه في عمل طاعة من غير ورود الشرع بذلك: كالذي يجعل حبلا يتعلق به إذا فتر عن قيام الليل، ونحوه، فإن هذا العمل غير ناتج عن عقيدة فاسدة، وإنما قد يظن المكلف أن ذلك زيادة خير. فإن صاحب هذا العمل عقيدة فاسدة فهو الغلو الاعتقادي الذي تقدم ذكره، كحالة بعض المنتسبين إلى التصوف، ممن يعتقد أن تعذيب النفس في الطاعة مطلقا من أفعال الخير والهدى.

ولما كان هذا النوع من الغلو قد يدخل في نفس بعض المجتهدين في العبادة، عالجه صلى الله عليه وسلم بأساليب متعددة، تارة بالعموم، وتارة بتوجيه من وقع فيه إلى خطأ فعله، وما كان من الصحابة رضي الله عنهم إلا التسليم المطلق لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي سنن الترمذي (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا أَصَبْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ، وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي، فَحَرَّمْتُ عَلَيَّ اللَّحْمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] » قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. اهـ. وحسنه الشاطبي في " الاعتصام " (¬2) ومثل هذه الحادثة كثير، فيوجه النبي صلى الله عليه وسلم من وقع منه ذلك إلى البعد عنه، والحذر منه. وقد روى ابن جرير الطبري في " تفسيره " (¬3) عن أبي قلابة قال: «أَرَادَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا، وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَيَتَرَهَّبُوا. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَلَّظَ فِيهِمُ الْمَقَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحُجُّوا ¬

(¬1) أبواب التفسير، باب في تفسير سورة المائدة 5 / 255. (¬2) 2 / 196. (¬3) 8 / 608 ط دار هجر.

وَاعْتَمِرُوا، وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ " قال: ونزلت فيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] » . قال الشاطبي رحمه الله في " الاعتصام " (¬1) الاقتصار على البشع في المأكول من غير عذر تنطع. والاقتصار في الملبوس على الخشن من غير ضرورة، من قبيل التشديد والتنطع المذموم، وفيه أيضا من قصد الشهرة ما فيه. وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي: أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: اعْدِني على أخي عاصم. قال: ما باله؟ قال: لبس العباء يريد النسك. فقال علي رضي الله عنه: علي به. فأتى به مؤتزرا بعباءة، مرتديا بالأخرى، شعث الرأس واللحية. فعبس في وجهه، وقال: ويحك! أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات، وهو يكره أن تنال منها شيئا؟ بل أنت أهون على الله من ذلك، أما سمعت الله يقول في كتابه {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10] إلى قوله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] أفترى الله أباح لعباده إلا ليبتذلوه، ويحمدوا الله عليه، فيثيبهم عليه؟ وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول. اهـ. ¬

(¬1) 2 / 228.

وأدلة الشرع في النهي عن الغلو العملي كثيرة جدا، فالوقوع فيه: ارتكاب للنهي، ومعارضة لمقاصد الشريعة التي بنيت على التيسير والتخفيف. وإذا تأمل المسلم ما جرى في حادثة الإسراء والمعراج من فرضية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومراجعته ربه جل وعلا في تخفيف عدد الصلوات من خمسين إلى أن بلغ خمس صلوات؛ علم يقينا أن الشارع الحكيم لا يقصد في تكاليفه المشقة على العباد وإلحاق العنت بهم. فلم يبق لمن ألزم نفسه بالغلو في جزئيات الشريعة حجة. وكل ما تقدم في ذم من غلا في جزئية أو جزئيتين، أما من كثر غلوه في الجزئيات فلا ريب أن غلوه هذا يلحق بالغلو الاعتقادي. وقد جرت سنة الله تعالى في هؤلاء الغالية في العمل: أن ينقطعوا عن العمل بالكلية، إلا من أراد هدايته فوفقه للرجوع إلى الطريق المستقيم. وهذا بينه صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري (¬1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا» . قال الحافظ ابن حجر - رحمه الل هـ- في " الفتح " (¬2) المشادة بالتشديد المغالبة، والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع؛ فيغلب. ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب الدين يسر 1 / 15. (¬2) 1 / 94.

فصل في الغلو في الحكم على الناس

قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع. اهـ. وتلافيا للوقوع في هذا المزلق الخطير: أمر الشارع الحكيم بالقصد وهو الوسط في العمل. فقد بوب البخاري - رحمه الله - في صحيحه (¬1) باب القصد والمداومة على العمل، في كتاب الرقاق. وذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: " أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " وَقَالَ: " اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ» . [فصل في الغلو في الحكم على الناس] فصل وأما الغلو في الحكم على الناس: فهو مجاوزة الحد في إلحاق الحكم عليهم بالكفر أو البدعة أو الفسوق. فإن الحكم بهذه الأمور على أحد من الناس إنما هو إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن دل الدليل القاطع على إلحاق هذه الأحكام به؛ ألحقت به، ومن لم يدل الدليل على لحوقها به؛ فإن تنزيلها عليه من تعدي حدود الله تعالى، والقول عليه بغير علم، وهو الغلو الفاحش الذي أردى الأمة ونخر في جسمها، وفرق جماعتها. بل إن أول الغلو في الأمة إنما هو هذا، يوم غلا الخوارج في الحكم على المسلمين، وحكام المسلمين بالكفر والخروج من الإسلام، فترتب على فعلهم هذا: إراقة دماء طاهرة مسلمة، وتمزق الجماعة، وانتشار التباغض والشحناء بين أهل الإسلام. ¬

(¬1) 7 / 114.

ومثل هذا يقال في التبديع بغير حق، والتفسيق بغير حق، فإنه يقود إلى التقاطع والتباغض، وهو سبيل إلى التكفير بغير حق. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري - منع من تنزيل الحكم العام على شارب الخمر بأن تحل عليه لعنة الله، على الشخص المعين لما قام به من إيمان بالله ورسوله، فكيف يتسارع الغالون إلى تنزيل أحكام الكفر والفسق العامة على الأشخاص المعينين دونما روية وتؤدة؟! ونص الحديث كما في صحيح البخاري (¬1) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِه، فَجُلِدَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . فتنزيل هذه الأحكام على الشخص المعين لا بد لها من شروط تتوفر، وموانع تنتفي، كما أجمع على ذلك علماء أهل السنة والجماعة. ومن هذا المنطلق تتابعت نصوص العلماء على أن المتصدي للأحكام على الناس في عقائدهم أو عدالتهم لا بد أن يكون من العلماء وأهل الورع: من ذلك قول الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى -: والكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع. اهـ (¬2) . ¬

(¬1) كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة (12 / 75) " فتح ". (¬2) ميزان الاعتدال 3 / 46.

وقد بلينا في هذه الأزمان ببعض المنتسبين إلى السلفية ممن يغلون في الحكم على الناس بالبدعة، حتى بلغ الأمر إلى التعميم في التبديع على كل المجتمع، وأن الأصل في غيرهم البدعة حتى يتبينوا في شأنهم. وهؤلاء جهال بالشريعة، جهال بفهم عبارات العلماء في البدع وأهلها، فلا عبرة بقولهم، بل هو هباء لا وزن له. وقد أجاد العلامة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد في نصحهم والتحذير من منهجهم في كتابه: رفقا يا أهل السنة بأهل السنة. نسأل الله تعالى السلامة من الغلو كله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أسباب الغلو العلمية والمنهجية وعلاجها

[أسباب الغلو العلمية والمنهجية وعلاجها] [مقدمة] المحور الثالث الغلو مظاهره وأسبابه أسباب الغلو العلمية والمنهجية وعلاجها (الخوارج أنموذجا) للدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فقد تفاوتت استجابات الناس لدعوات الرسل: - فمنهم المستقيم المتمسك بالحق. - ومنهم المفرط الزائغ المضيع لحدود الله. - ومنهم الغالي المتجاوز لحدود الله. وكل أولئك وجدوا فيمن سبق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهم في أمته متوافرون، فجاءت النصوص ناهية عن سلوك سبل أهل الزيغ، كما جاءت ناهية عن الغلو، ولست بصدد بيان ذلك، وإنما تمحضت هذه الورقة للكلام عن: أسباب الغلو العلمية والمنهجية (الخوارج أنموذجا) . وفاتحة القول في ذلك أن أقدم بمقدمة حول الأسباب: معناها، ومنهج استخراجها، وملاحظ عامة حول أسباب الغلو. لقد جعل الله لكل شيء سببا، وجعل الظواهر والمشكلات التي يقع فيها الناس راجعة إلى أسباب سائقة إليها، وهذه سنة من سنن الله - عز وجل - في الخلق والكون. ومشكلة الغلو ليست بدعا من المشكلات إذ لها أسباب لإيجادها، وأسباب لإمدادها. والأسباب هي: العوامل المؤدية إلى الوقوع في الغلو سواء أكانت متعلقة بالجانب الذاتي للغالي أو الجماعة الغالية، أم كانت متعلقة بالبيئة المحيطة به.

وهذه الأسباب قد يكون تأثيرها في إحداث الغلو ابتداء، وقد يكون تأثيرها في إمداده واستمراره ونشر مظاهره. ولقد اجتهدت في دراسة أسباب الغلو العلمية والمنهجية عند الخوارج عبر عدة وسائل أهمها: 1 - قراءة آراء الخوارج العقدية، ومحاولة استنتاج الأسباب التي دفعتهم إلى غلوهم، والمداخل المنهجية التي أدت بهم إلى الغلو. 2 - دراسة تاريخ الخوارج، وذلك بتتبع أحوالهم منذ بداية التكوين ثم دراسة تطور عقائدهم، وتتبع حالات المد والجزر في تاريخهم، ومعرفة التحولات والافتراق في تاريخهم؛ إذ من شأن تلك الدراسة أن توقف على الأسباب والمواقف الدافعة للغلو. 3 - قراءة المؤلفات التي درست الخوارج: تاريخا ومعتقدا؛ لمعرفة أسباب غلو الخوارج من وجهة نظر أصحاب تلك المؤلفات، وتلك الاستفادة لا تعني أن ذكر الأسباب نابع من رأي الآخرين، بل هو جهد شخصي ناتج عن تتبع واستقراء، وإنما وقع الاستئناس بآراء الآخرين وتحليلاتهم فهي مؤكدة، لا مؤسسة. وليس المراد هنا حصر الأسباب إذ الإحاطة الشاملة بجميع الأسباب غير ممكنة إذ طرق الشر والانحراف غير منحصرة في الأصل، قال أبو بكر الطرطوشي - رحمه الله -: (والخطأ لا تنحصر سبله، ولا تتحصل طرقه، فاخط كيف شئت، وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه فهو الحق؛ لأنه أمر واحد مقصود يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه،

وما مثل هذا إلا كالرامي للهدف، فإنَّ طرق الإصابة تنحصر، وتتحصل من إحكام الآلات، وأسباب النزع وتسديد السهم. فأما من أراد أن يخطئ الهدف فجهات الأخطاء لا تنحصر ولا تنضبط إلا أن نذكر من ذلك حسب الإمكان) (¬1) . وهنا أنبه على أن دراسة الأسباب يجب ألا تتجه إلى أن تكون تبريرا للغلو، وإيجادا للعذر عند الغلاة، فهذا المنهج التبريري لا يولد في المآل إلا مزيدا من الغلو؛ ويجعل الغالي يسقط غلوه وجرمه على الناس. وكم من متكلم في بعض قضايا الغلو يذكر بعض الأسباب ويجعلها مبررا للغلو، وهذا يهون الأمر في النفوس بل قد يجمع بعض الناس بذلك مزيدا من الأدلة ووسائل الإقناع للغلاة أو الجمهور المتلقين. إن الغلو قد يوجد في البيئة السليمة لكن لأن وجهة النظر المبنية على الجهل والظلم تجعل ما ليس بخطأ خطأ وقد وقع ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي سعيد الخدْري - رضي الله عنه - قَالَ «بَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ - يَعْنِي الْغَنَائِمَ - جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» (¬2) . ¬

(¬1) الحوادث والبدع: (22) . (¬2) رواه البخاري (6 / 2540) برقم: (6532) باب قتال الخوارج والملحدين كتاب استتابة المرتدين المعاندين وقتالهم، ومسلم (2 / 741) كتاب الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم.

أسباب غلو الخوارج العلمية

فهذا ظن لسوء طويته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جار فقال قولته الشنيعة، وكذلك فعل الخوارج حين رفعوا دعوى إبطال التحكيم، فاستدلوا بقوله سبحانه {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] فالقول الذي قالوه حق، ولكن زعمهم أن عليا حكم بغير شرع الله باطل. ولذلك قال علي - رضي الله عنه - (كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ) (¬1) قال الحافظ ابن حجر: (وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا لله، انتزعوها من القرآن، وحملوها على غير محملها) (¬2) فنحن وإن ذكرنا بعض الأسباب وأنها من العوامل التي أوقعت في الغلو لا نفتح بابا للعذر للخوارج وإنما نشخص الواقع؛ لتكون المعالجة على أصل قوي. * * * [أسباب غلو الخوارج العلمية] [أولا الجهل بالقرآن] إن أظهر أسباب غلو الخوارج هو: (الجهل) وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن الخوارج: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» . أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون معانيه ومقاصده (¬3) . ¬

(¬1) رواه مسلم: (2 / 749) برقم: (1066) كتاب: الزكاة باب: التحريض على قتل الخوارج. (¬2) فتح الباري: (6 / 619) . (¬3) ينظر الشاطبي: الاعتصام (2 / 226) .

قال الإمام النووي - رحمه الله -: (المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم [هكذا] لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب) (¬1) . وألوان جهل الخوارج كثيرة، منها: أولا: الجهل بالقرآن فلقد كان عدم فهمهم للكتاب العزيز سببا في انحرافهم، فقد أخذوا آيات نزلت في الكفار فحملوها على المسلمين، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - في الخوارج: (إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين) (¬2) . ومن عدم فهمهم للقرآن استشهادهم على إبطال التحكيم بقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] فالمعنى المأخوذ من الآية صحيح في الجملة، وأما على التفصيل فيحتاج إلى بيان؛ ولذلك رد عليهم علي - رضي الله عنه - فقال: (كلمة حق أريد بها باطل) (¬3) . ¬

(¬1) نقلا عن ابن حجر: فتح الباري (12 / 293) . (¬2) ذكره البخاري معلقا (9 / 20) كتاب: استتابة المرتدين وقتالهم: باب: قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، وأفاد الحافظ في الفتح (1 / 282) أن الطبري وصله في تهذيب الآثار من مسند علي بإسناد صحيح. (¬3) رواه مسلم (2 / 749) كتاب: الزكاة، باب: التحريض على قتل الخوارج.

ثانيا الجهل بالسنة

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا لله انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها) (¬1) . يقول الشاطبي - رحمه الله -: (ألا ترى أن الخوارج كيف خرجوا من الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بأنهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يعني - والله أعلم - أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم؛ لأن الفهم راجع إلى القلب، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل به فهم على حال، وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف المسموعة فقط، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم) (¬2) . ومن أظهر دلالات جهلهم بالقرآن أنهم أخذوا عمومات الوعيد فقالوا: إن معصية واحدة كافية للخلود في النار؛ استدلالا بمثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] [ثانيا الجهل بالسنة] ثانيا: الجهل بالسنة فلقد أتي الخوارج من جهة جهلهم بالسنة بل وإعراضهم عنها وزعمهم الاقتصار على الكتاب مع اطراح أدلة السنة، فأداهم ذلك إلى جعل ما ليس بسيئة سيئة، وما ليس بحسنة حسنة، فهم إنما يصدقون ¬

(¬1) فتح الباري (6 / 619) . (¬2) الاعتصام (2 / 691) .

الرسول فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن (¬1) . وما كان اعتراض الرجل على قسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا القبيل فقد خرج عن السنة، وجعل ما ليس بسيئة سيئة (وهذا القدر [أي تحسين القبيح وتقبيح الحسن] قد يقع فيه بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل؛ لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة) (¬2) . ولذلك كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يحض على إلزام المبتدعة والغلاة وأخذهم بالسنن؛ لأنها قاطعة في الدلالة على زيف أقوالهم وآرائهم فقد قال: (سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله) (¬3) . ولقد بين عبد القاهر البغدادي أن الخوارج ينكرون السنة وذلك من أسباب انحرافهم فقال: (والثاني مع الخوارج في إنكارها حجية الإجماع والسنن الشرعية، وقد زعمت أنه لا حجة في شيء من أحكام الشريعة إلا من القرآن، ولذلك أنكروا الرجم والمسح على الخفين، لأنهما ليسا في القرآن، وقطعوا السارق في القليل والكثير؛ لأن الأمر بقطع السارق في ¬

(¬1) ينظر ابن تيمية: (الفتاوى 19 / 73) . (¬2) المصدر نفسه (19 / 72) . (¬3) رواه الدارمي في سننه: المقدمة (1 / 47) باب: التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.

القرآن ومطلق ولم يقبلوا الرواية في نصاب القطع ولا الرواية في اعتبار الحرز فيه (¬1) ولقد أتوا من ظنهم مناقضة هذه الأحاديث الصحيحة للقرآن، أو مناقضة بعضها لبعض، أو فساد معانيها، أو مخالفتها للمعقول (¬2) . ومن أمثلة ذلك: استدلال الخوارج بعمومات الوعيد من القرآن على تكفير العصاة وأنهم مخلدون في النار، فقد أخذوا تلك العمومات، وقطعوها عن نصوص السنة المبينة لها من مثل: 1 - قول الله - عز وجل - في الحديث القدسي الذي يرويه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: «يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» (¬3) . 2 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه، فقال: " مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ " قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ: " وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ " ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: " عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» ، وفي رواية البخاري: «أَنَّ جَبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ ¬

(¬1) أصول الدين (19) . (¬2) ينظر الشاطبي: الاعتصام: (1 / 313) . (¬3) رواه الترمذي (3540) كتاب الدعوات: باب فضل التوبة والاستغفار، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وله شاهد من حديث أبي ذر رواه أحمد (5 / 172) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم: 127.

ثالثا الجهل بقدر السلف وأهل العلم

وَإِنْ زَنَى؛ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ) » (¬1) . [ثالثا الجهل بقدر السلف وأهل العلم] ثالثا: الجهل بقدر السلف وأهل العلم إن من أصول الدين رعاية قدر الصحابة - رضي الله عنهم - والاقتداء بهديهم والاستنان بسننهم فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمُهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . (¬2) . والاهتداء رهن بالاقتداء بهم - رضي الله عنهم - يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) (¬3) . ¬

(¬1) رواه البخاري في مواضع من صحيحه منه (2 / 89، 90) ، كتاب الجنائز، باب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، و (8 / 116) كتاب الرقاق: باب المكثرون هم المقلون، و (9 / 174) كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة، ومسلم (1 / 94) كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، والترمذي (4 / 164) ، كتاب الإيمان: باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. (¬2) رواه أبو داود (5 / 10 - 11) رقم (4604) كتاب السنة، باب في لزوم السنة، والترمذي (5 / 37- 38) رقم (2663) ، كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحمد (4 / 131، 132) . (¬3) رواه ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله (2 / 97) .

ولقد كان من الأسباب الرئيسة لانحراف الخوارج اعتدادهم بأهوائهم في مقابل النصوص، واعتدادهم بأنفسهم في مقابل الأجلة من أهل العلم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كان أول خارج ذو الخويصرة المعترض على قسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - القائل: (اعدل يا رسول الله!) ثم تتابع سير الخوارج على هذا النهج، فكانوا يعترضون على أجلة العلماء صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرفضون أقوالهم بل ويتبرءون منهم ويكفرونهم، ويستحلون دماءهم؛ لما رأوا من مخالفتهم إياهم فيما يعتقدون وعلى ذات المنهج ساروا في معاملة أهل العلم من التابعين. لقد دخل الخوارج قرية فخرج عبد الله بن خباب - رحمه الله - ذعرا يجر رداءه، فقالوا: لم ترع؟ قال: والله لقد رعتموني، قالوا: أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قالوا: فهل سمعت من أبيك حديثا يحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحدثناه؟ قال: نعم سمعته يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه «ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، " قال: فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ". قال أيوب: ولا أعلمه إلا قال ": ولا تكن عبد الله القاتل» . قالوا: أنت سمعت هذا من أبيك يحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قال: فقدموه على ضفة النهر، فضربوا عنقه فسال دمه كأنه شراك نعل ما ابْدَقَرَّ، وبقروا أم ولده عما في بطنها (¬1) . ¬

(¬1) رواه أحمد (5 / 110) .

رابعا الجهل بحقيقة الإيمان وعلاقته بالأعمال

[رابعا الجهل بحقيقة الإيمان وعلاقته بالأعمال] رابعا: الجهل بحقيقة الإيمان وعلاقته بالأعمال لقد عرف أهل السنة والجماعة الإيمان بأنه: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح (¬1) . قال الإمام البخاري - رحمه الله -: (لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أن أحدا منهم يختلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (¬2) . وقد عقد الإمام الآجري - رحمه الله - بابا سماه: (القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمنا إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث) . ثم قال - رحمه الله -: (اعلموا - رحمنا الله وإياكم -: أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا. دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين. .) (¬3) . ¬

(¬1) ينظر ابن تيمية: العقيدة الواسطية بشرح الهراس: (161) . (¬2) صحيح البخاري مع الفتح (1 / 47) . (¬3) الشريعة (119) .

وهذا الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد جاءت الآيات والأحاديث دالة دلالة صريحة على زيادة الإيمان: (وكل نص يدل على زيادة الإيمان فإنه يتضمن الدلالة على نقصه وبالعكس؛ لأن الزيادة والنقصان متلازمان لا يفعل أحدهما بدون الآخر) (¬1) . وقد ضل الضالون الغالون من الخوارج وغيرهم في أبواب الأسماء والأحكام بأسباب من جملتها: جهلهم بحقيقة الإيمان، وعلاقته بالأعمال، فقد (قالت الخوارج والمعتزلة: قد علمنا يقينا أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار، إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء) (¬2) . ومنشأ ضلالهم: (أنهم ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مستحقا للثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والحمد والذم، بل إما لهذا وإما لهذا، فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها، وقالوا: الإيمان هو الطاعة، فيزول بزوال بعض الطاعة) (¬3) . وقد زعموا أن الإيمان إذا كان مركبا من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة لزم زواله بزوال بعضها كما يزول اسم العشرة عنها إذا زال أحد أفرادها (وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله) (¬4) . ¬

(¬1) الشيخ: محمد بن عثيمين: فتح رب البرية بتلخيص الحموية (113) . (¬2) شيخ الإسلام ابن تيمية: الفتاوى (13 / 48) . (¬3) شيخ الإسلام ابن تيمية: شرح العقيدة الأصفهانية (137 - 138) . (¬4) شيخ الإسلام ابن تيمية: الفتاوى (7 / 223) .

والصحيح أنه (ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله - عز وجل - «لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ أَوِ الشِّرْكِ إِلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ» (¬1) وبين كفر منكر الإثبات) (¬2) . وقد رد شيخ الإسلام على شبهة الخوارج - هذه - بما ملخصه: أن الحقيقة الجامعة لأمور - سواء كانت في الأعيان أو الأعراض - إذا زال بعض تلك الأمور فقد - يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم في زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، سواء سميت مركبة أو مؤلفة، أو غير ذلك وما مثل به الخوارج من العشرة مطابق لهذا، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب فلا يلزم زوال الجزء الآخر، ولكن أكثر ما يقولون: إنه قد زالت الهيئة الاجتماعية، وزال الاسم الذي استحقته الهيئة لذلك الاجتماع والتركيب. فالمركبات على قسمين: القسم الأول: ما يكون التركيب شرطا لإطلاق الاسم مثل: العشرة، فإن الواحد المكمل لعدد عشرة شرط في إطلاق اسم العشرة على هذه الأعداد. ¬

(¬1) رواه مسلم (1 / 88 رقم 135) كتاب الإيمان: باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة. (¬2) شيخ الإسلام: الاقتضاء (1 / 70) .

خامسا الجهل بمراتب الأحكام

والقسم الثاني: ما لا يكون التركيب شرطا لإطلاق الاسم ومثاله: البحر والنهر، فإن التركيب ليس شرطا في إطلاق الاسم، ولذلك لو نقص جزء من البحر لا يزول الاسم بل هو باق. ومعظم المركبات من هذا النوع: (ومعلوم أن اسم الإيمان من هذا الباب؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان) (¬1) . ولكن قد يزول اسم الإيمان بزوال جزء أساسي تزول به حقيقة الإيمان كما إذا زالت الشهادتان، أو تركت الصلاة على الراجح من أقوال العلماء. فإذا زال اسم الإيمان زال وصف الإيمان، واعتبار جزء من الأجزاء يزول به حقيقة الإيمان يختلف باختلاف الأحوال، فليس (للإيمان حقيقة واحدة مثل حقيقة مسمى مسلم في حق جميع المكلفين في جميع الأزمان بهذا الاعتبار، مثل حقيقة السواد والبياض؛ بل الإيمان والكفر يختلف باختلاف المكلف، وبلوغ التكليف له وبزوال الخطاب الذي به التكليف ونحو ذلك) (¬2) . [خامسا الجهل بمراتب الأحكام] خامسا: الجهل بمراتب الأحكام يظهر لكل من نال قدرا من الفقه في الدين أن الله - عز وجل - جعل أحكاما لأفعال العباد، تتدرج هذه الأحكام وتتنوع، فمنها ما هو طلب للفعل المسمى ب (المأمورات) ومنها ما هو طلب للترك وذلك المسمى ب (المنهيات) ومنها ما ¬

(¬1) ينظر الفتاوى (7 / 514 - 517) . (¬2) شيخ الإسلام ابن تيمية: الفتاوى (7 / 98) .

المكلف مخير فيه بين الفعل والترك وهي (المباحات) ومن جهل الخوارج الجهل بمراتب الأحكام، وأُمثل من ذلك على مراتب المنهيات. فالمنهيات على مرتبتين: فالله - عز وجل - إما أن ينهى عن الفعل على سبيل الحتم والإلزام فذلك الحرام، وإما أن ينهى عن الفعل لا على سبيل الحتم والإلزام فذلك المكروه. والحرام درجات في ذاته، إذ يختلف باعتبارات عدة منها: درجة التحريم فإن أعظم المحرمات: الشرك بالله - عز وجل - والشرك والكفر متفاوت المراتب فهو على نوعين: (1) كفر اعتقادي. (2) كفر عملي. ويعبر عنهما بالكفر الأكبر والكفر الأصغر أو بالشرك الأكبر والشرك الأصغر. فالكفر الاعتقادي هو: الموجب للخلود في النار، ويأتي في النصوص مقابلا للإيمان، من مثل قوله تعالى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] (آل عمران: 86) . والكفر العملي هو: الموجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود في النار، وهذا النوع يتناول جميع المعاصي؛ لأنها من خصال الكفر وشعبه وخصوصا ما سمي من المعاصي في النصوص كفرا، من مثل قول النبى - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن مسعود: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (¬1) . ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه (7 / 84) كتاب الأدب: باب ما ينهى عن السباب واللعن، وفي (8 / 91) كتاب الفتن: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ومسلم في صحيحه (1 / 81 رقم 64) ، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.

فإن الكفر هنا ليس مرادا به الكفر المخرج من الملة بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] فسماهم مؤمنين مع كونهم متقاتلين (¬1) . ثم بعد الكفر تأتي المحرمات، وقد قسمها العلماء على سبيل الإجمال إلى كبائر وصغائر، ودلت بعض النصوص على هذا التقسيم من مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] وقد أجمع على ذلك السلف: قال ابن القيم - رحمه الله -: (والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف وبالاعتبار) (¬2) . وكل واحد من هذه المحرمات يتفاوت؟ فالكفر يتفاوت وبعضه أغلظ من بعض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (اعلم أن الكفر بعضه أغلظ من بعض؛ فالكافر المكذب أعظم جرما من الكافر غير المكذب، فإنه جمع بين ترك الإيمان المأمور به وبين التكذيب المنهي عنه، ومن كفر وكذب وحارب الله ورسوله والمؤمنين بيده أو لسانه أعظم جرما ممن اقتصر على مجرد الكفر والتكذيب، ومن كفر وقتل وزنى وسرق وصد وحارب كان أعظم جرما) (¬3) . ¬

(¬1) ينظر البخاري: صحيح البخاري مع الفتح (1 / 85) . (¬2) مدارج السالكين (1 / 315) . (¬3) مجموع الفتاوى (20 / 87) .

وللعلم بمراتب الأحكام أثره في الحكم على الناس فالمنهيات مراتب، ومرتكب الحرام ليس كمرتكب المكروه لتفاوت مرتبتي هذين الحكمين، والكافر ليس كالعاصي؛ لتفاوت ما بين حكم العمل الذي هو كفر، والعمل الذي هو معصية، فقد دلت النصوص - مثلا - على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، وأنهم تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم حتى يمحصون، ومن تلك النصوص قول الله - عز وجل - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فجعل ما دون ذلك الشرك معلقا بمشيئته، ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب؛ فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره، كما قال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق) (¬1) . وأما الخوارج فقد جهلوا هذا، وأعرضوا عن النصوص المبينة لمراتب الأحكام فكفروا مرتكب الكبيرة، قال الإمام ابن أبي العز الحنفي - رحمه الله -: (إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة لكان مرتدا يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين ¬

(¬1) رسالة الحسبة: (77) .

سادسا الجهل بمراتب الناس

الإسلام، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين) (¬1) . [سادسا الجهل بمراتب الناس] سادسا: الجهل بمراتب الناس لقد اختلف الناس في موقفهم من دعوة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - فكانوا فرقا شتى، فانقسم الناس في الجملة إلى: (1) مؤمن. (2) منافق. (3) كافر. وفي كل فرقة تتفاوت مراتب الناس باعتبارات مختلفة. يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مبينا بعضها: (إن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار، وإن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون، وإن المنافقين أيضا صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من النفاق) (¬2) . ولو ذهبت أتتبع طبقات المكلفين، ومراتب كل طبقة وأحوالها لطال الأمر ولكني أقتصر على: مرتبة الفسق (الفسّاق) ذلك أن جهل الخوارج بهذه المرتبة أفضى بهم إلى ألوان من الغلو في التكفير. إن الفسق هو: العصيان ومخالفة أمر الله - عز وجل - بما لا يصل إلى الكفر والمروق من الدين. ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية (2 / 442) . (¬2) تفسير القرآن العظيم (1 / 98) .

أسباب غلو الخوارج المنهجية

ولقد أمر الله - عز وجل - بأوامر هي من شعب الإيمان، ونهى عن أمور هي من شعب الكفر، وليس كل من ترك شعبة من شعب الإيمان زال إيمانه و (ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنا، حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته) (¬1) . ففي الناس إذا قوم تركوا شيئا من شعب الإيمان أو فعلوا شيئا من شعب الكفر (الكبائر) ومعهم من الإيمان ما يمنع خلودهم في النار، فليسوا من المنافقين أو المرتدين وليسوا من المؤمنين حقا، فصاروا في مرتبة الفسق أو ما يسميه بعض العلماء: الفاسق الملي (¬2) . وأما الخوارج فإنهم يكفرونه بالمعصية، ويحكمون عليه بالخلود في النار لجهلهم بمراتب الناس ومسائل الأسماء والأحكام في ضوء نصوص الشريعة. * * * [أسباب غلو الخوارج المنهجية] [أولا عدم الجمع بين الأدلة] وأما في الجانب المنهجي فقد ضل الخوارج لأسباب منها: أولا: عدم الجمع بين الأدلة إن من سمات هذا الدين التي أبان عنها القرآن الكريم: اتساقه وتصديق بعضه بعضا، وعدم تناقضه؛ لأنه واحد المصدر: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ¬

(¬1) شيخ الإسلام: الاقتضاء (1 / 208) . (¬2) ينظر شيخ الإسلام: الفتاوى: (7 / 478 - 479) .

والنظر في آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة وفقهها وتدبر ما فيها يظهر القارئ على ذلك الاتساق، فالتدبر إذا وقع صدّق القرآن بعضه بعضا في فهم القارئ كما هو مصدق بعضه بعضا في واقع الأمر. وإذا أعرض الإنسان عن التدبر ولم يأخذ بالقرآن كله وضرب الأدلة بعضها ببعض اختلفت عليه فكان ذلك سببا في انحرافه عن الحق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبينا أصلا جامعا في رد ما تنازع فيه الناس من فهم النصوص: (والمقصود هنا ذكر أصل جامع تبنى عليه معرفة النصوص، ورد ما تنازع فيه الناس إلى الكتاب والسنة، فإن الناس كثر نزاعهم في مواضع في مسمى الإيمان والإسلام لكثرة ذكرهما، وكثرة كلام الناس فيهما، والاسم كلما كثر التكلم فيه فتكلم به مطلقا، ومقيدا بقيد آخر في موضع آخر كان هذا سببا لاشتباه بعض معناه، ثم كلما كثر سماعه كثر من يشتبه عليه ذلك. ومن أسباب ذلك أن يسمع بعض الناس بعض موارده ولا يسمع بعضه، ويكون ما سمعه مقيدا بقيد أوجبه اختصاصه بمعنى، فيظن معناه في سائر موارده كذلك، فمن اتبع علمه حتى عرف مواقع الاستعمال عامة، وعلم مأخذ الشبه أعطى كل ذي حق حقه، وعلم أن خير الكلام كلام الله، وأنه لا بيان أتم من بيانه، وأن ما أجمع عليه المسلمون من دينهم الذي يحتاجون إليه أضعاف ما تنازعوا فيه) (¬1) . ¬

(¬1) الفتاوى (7 / 356 - 357) .

ولقد كان عدم الجمع بين الأدلة، والاقتصار على بعضها وضرب القرآن بعضه ببعض سببا من أسباب انحراف الفرق ومنهم الخوارج. يتضح هذا من النظر في استدلالاتهم. واعتبر ذلك بالنظر إلى هاتين المجموعتين من النصوص: 1- يقول الله - عز وجل -: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] 2 - يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] ويقول سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] فهاتان مجموعتان من النصوص يلحق بهما ما في معناهما: تسمى الأولى: نصوص الوعيد. وتسمى الثانية: نصوص الوعد. وقد صار فهم هذه النصوص سببا لانحراف طائفتين: الخوارج والمرجئة. فالخوارج أخذوا بعموم آيات الوعيد وقالوا: المعصية الواحدة كافية للخلود في النار.

والمرجئة أخذوا بعموم نصوص الوعد وقالوا: الإيمان هو التصديق، ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وبهذا المنهج يتعارض القرآن وينقض بعضه بعضا، والحق جمع هذه النصوص وفهمها بمجموعها و: (لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد. . . والعبد عليه أن يصدق بهذا وبهذا، لا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فهؤلاء (المشركون) أرادوا أن يصدقوا بالوعد، ويكذبوا بالوعيد. والحرورية والمعتزلة: أرادوا أن يصدقوا بالوعيد دون الوعد، وكلاهما أخطأ. والذي عليه أهل السنة والجماعة: الإيمان بالوعد والوعيد فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب قد بين سبحانه أنه بشروط: بأن لا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه، وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وبأن لا يشاء الله أن يغفر له: ف {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فهكذا الوعد له تفسير وبيان، فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله وكذب الرسول فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئا مما أنزل الله. فلا بد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول، ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدا كان في النار، فالسيئات تحبطها الردة، ومن كان له حسنات وسيئات فإن الله لا

ثانيا اتباع المتشابه

يظلمه، بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مقال ذرة شرا يره، والله قد يتفضل عليه ويحسن إليه بمغفرته ورحمته. ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار) (¬1) . ومن الجمع بين النصوص الرد إلى النصوص المحكمة والأصول الجامعة التي ترد إليها النصوص العامة، وهناك أصل جامع محكم ترد إليه نصوص الوعيد، وبالرجوع إليه يندفع التعارض المتوهم، فالقرآن ليس فيه تناقض ولا اختلاف: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [ثانيا اتباع المتشابه] ثانيا: اتباع المتشابه يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] فربط سبحانه بين أهل الزيغ واتباع المتشابه، وجعل اتباع المتشابه من شأن أهل الزيغ والابتداع، وهم إنما يفعلون ذلك ابتغاء إحداث الفتنة وتتبعا لما لا يمكنهم العلم به، مما استأثر الله عز وجل بعلمه أو خص بعلمه أهل العلم البصراء بدين الله. ¬

(¬1) ابن تيمية: الفتاوى (8 / 270 - 271) .

ولقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتباع المتشابه ومن متبعي المتشابه، فعن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» (¬1) . ولخطورة اتباع المتشابه كان السلف يردعون متبعه، ويؤدبونه تأديبا بليغا، فعن سليمان ين يسار - رحمه الله - أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر، وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فقال عمر: وأنا عبد الله عمر، ثم أخذ عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه (¬2) . وما وصف متبعو المتشابه بالزيغ، والتحذير منهم وتأديبهم إلا لما يجره اتباع المتشابه من انحراف عن الحق وضلال، واعتبر ذلك بالخوارج؛ لتعلم كيف انحرفوا؟ بسبب اتباع المتشابه، فقد أخذوا - مثلا - قوله تعالى: ¬

(¬1) رواه البخاري (5 / 166) كتاب تفسير القرآن، باب منه آيات محكمات، ومسلم (3 / 2053) رقم 2665 كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن. (¬2) رواه الآجري في الشريعة (73) والدارمي في السنن (1 / 51) رقم (146) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (4 / 634) وذكر له الحافظ ابن حجر إسنادا صحيحا عن ابن الأنباري: الإصابة (3 / 458 - 460) .

ثالثا التعامل المباشر مع النص والفهم الحرفي له

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40] على ظاهره، وقطعوه عن بيانه، وزعموا أن ذلك يعنى ألا يحكم البشر وألا يطلب منهم الحكم بشرع الله بين المتخاصمين فنقموا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه حكَّم الحكمين، وهذا - بزعمهم - حكم بغير ما أنزل الله، وقد رد عليهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بجملة آيات منها: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] فأمر الله - عز وجل - بتحكيم حكمين في أمر امرأة ورجل، قال علي - رضي الله عنه -: (فأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل) (¬1) . قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في بيان أول زيغ الخوارج: (كان أول كلمة خرجوا بها قولهم: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40] انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها) (¬2) . [ثالثا التعامل المباشر مع النص والفهم الحرفي له] ثالثا: التعامل المباشر مع النص والفهم الحرفي له إن فهم الكتاب العزيز والسنة المطهرة يحتاج إلى أمرين: الأول: معرفة اللغة التي تكلم بها الشارع. الثاني: معرفة مقصوده من اللفظ. ¬

(¬1) رواه أحمد (1 / 86 - 87) . (¬2) الفتح (6 / 619) وينظر في هذا الموضوع الشاطبي: الاعتصام (1 / 303) .

وهذا متقرر حتى في فهم كلام الناس أنفسهم؛ فلا بد من معرفة ما عناه المتكلم وقصده. ويعرف مقصود الشارع سبحانه بمعرفة سنته في الخطاب فتجمع النصوص ليخرج من مجملها بفهم مراد الشارع كما يفهم أيضا المقصود بالرجوع إلى السنة وأقوال الصحابة. والألفاظ الشرعية وإن كانت عربية في الأصل إلا أنه لا بد من معرفة مراد الشارع الذي نقل تلك الألفاظ عن مدلولاتها الأصلية إلى معان بينها وبين المعنى الأصلي نوع اشتراك إذ (جنس ما دل عليه القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس، وإن كان بينهما قدر مشترك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاءهم بمعان غيبية لم يكونوا يعرفونها، فإذا عبر عنها بلغتهم كان بين معناه وبين معاني تلك الألفاظ قدر مشترك ولم تكن مساوية بها، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تعرف إلا منه) (¬1) . ولقد أعرض الخوارج عن هذا المنهج الرشيد فصاروا إلى الأخذ بظواهر النصوص من غير تدبر ولا نظر في مقاصدها ومعاقدها، فبادروا إلى تفسيرها بمجرد ظاهر اللغة وفهم العربية وبهذا يكثر غلطهم في فهم التنزيل. ومن أمثلة ذلك: اعتمادهم على قول الله - عز وجل - {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] ¬

(¬1) ابن القيم: مختصر الصواعق: (2 / 347) .

[البقرة: آية 81] ولو جمع هؤلاء النصوص لفقهوا معنى (السيئة) و (الخطيئة) ذلك أنه عند التأمل في الكتاب العزيز نجد أن السيئة والخطيئة تطلقان على الشرك فما دونه من السيئات والخطايا. فمن إطلاقها على الشرك قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25] وقوله سبحانه: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] ومن إطلاقها على ما دون الشرك قوله سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] وقوله سبحانه على لسان إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] وعليه فليست الآية كما يظهر لأول وهلة من ظاهرها أنها دالة على أن مرتكب السيئة كافر، خصوصا إذا رجعنا إلى الآية المحكمة من مثل قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]

المحور الرابع استثمار تعليم القرآن في ترسيخ الوسطية ومعالجة الغلو

[المحور الرابع استثمار تعليم القرآن في ترسيخ الوسطية ومعالجة الغلو] [لمحات عن منهج القرآن الكريم في البناء التربوي ومعالجته] [المقدمة] المحور الرابع استثمار تعليم القرآن في ترسيخ الوسطية ومعالجة الغلو لمحات عن منهج القرآن الكريم في البناء التربوي ومعالجته للدكتور إبراهيم بن سعيد الدوسري

المقدمة الحمد لله الذي أنزل القرآن العظيم بالحق نورا وهدى للعالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وصفوته من خلقه أجمعين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن القرآن الكريم هداية الله للعالمين، وهو منهج كريم يسمو بالإنسان وينظم حياته من جميع أبعادها، سواء أكان من جهة صلته بربه، أم من جهة علاقته بالكون وما حواه ونفسه التي بين جنبيه ومجتمعه وأمته والناس أجمعين. ومن ثم كان القرآن الكريم المصدر الأساس للتربية لدى المسلمين، حيث كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، يتخلق بأخلاقه، ويؤدب أمته بآدابه. فكتاب الله العظيم قد تضمن منهجا كاملا وشافيا في الوسطية، والكشف عن معالمه يعد من الأمور الضرورية والملحة، ولا سيما في الظروف الراهنة التي بلغت خطورة بالغة طالت الأمة الإسلامية والعالم بأسره، بسبب خروج بعض الناس عن منهج القرآن الكريم أو البعد عنه، والتأثر بالأفكار المنحرفة والهدامة، والسير وراء كل ناعق، فأفرز ذلك خروجا عن طاعة ولي الأمر، وسعيا في الأرض فسادا وقتل النفس المعصومة، وغير ذلك من التبعات المخالفة لمنهج الوسطية منهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

وإذا كان من عادة القرآن في روافد البناء التحذير مما يعوقه، وحمايته مما يهدمه، وصيانته مما يقلل من قيمته فإن معالجة القرآن لما يخرج ذلكم البناء عن حد الاعتدال قد حوت حيزا كبيرا من آياته. ويأتي هذا البحث إسهاما يسيرا من أجل إبراز لمحات موجزة عن منهج القرآن الكريم في بعض الجوانب التربوية والاجتماعية وسبل معالجتها، راجيا من الله العلي القدير العون والتسديد. ولا يفوتني أن أرفع جزيل الشكر إلى صاحب المعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد على عنايته بهذه الموضوعات الحيوية، وعلى إتاحته الفرصة لي للمشاركة بهذا البحث في الندوة العلمية التي تعقدها الوزارة عن (أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو) . هدف البحث: يهدف هذا البحث إلى الإشارة إلى إبراز بعض لمحات منهج القرآن الكريم في البناء التربوي الأخلاقي والاجتماعي، والتنويه بالوسائل الكفيلة، بتفعيل التعاليم التربوية ذات الطابع الإصلاحي من خلال القرآن الكريم. خطة البحث: تتكون خطة البحث من تمهيد ومقصد وخاتمة، وذلك على النحو التالي: المقدمة: تتضمن أهمية الموضوع - كما تقدم - وهدفه وخطته.

التمهيد: منهج التربية في القرآن الكريم. المقصد: البناء التربوي الأخلاقي والاجتماعي، وفيه مطلبان: المطلب الأول: الجانب التربوي الأخلاقي. المطلب الثاني: الجانب التربوي الاجتماعي. الخاتمة: تتضمن خلاصة البحث وأهم النتائج التي انتهى إليها.

نبذة موجزة عن منهج التربية في القرآن الكريم

[نبذة موجزة عن منهج التربية في القرآن الكريم] التمهيد نبذة موجزة عن منهج التربية في القرآن الكريم التربية في اللغة: إصلاح الشيء والقيام عليه حالا فحالا إلى حد التمام، ويقال: ترببه وارْتَبَّه، ورباه تربية (¬1) . وهي في الاصطلاح تؤول إلى هذا المعنى وهو الرعاية والتنمية، إذ التربية وسيلة إصلاحية بناءة. ولقد حوى القرآن الكريم منهاجا فريدا في إصلاح الأمور والقيام عليها بالرعاية والتنمية، على أحسن وجه وأكمل حالة، فتلك هي التربية الربانية التي من صنع الله الذي أتقن كل شيء، وهو الذي خلق كل شيء، فهو أعلم بما يصلحه، وهو سبحانه أحق من يرعاه، قال الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] (سورة الملك: 14) . ومفردات التربية في القرآن كثيرة جدا، تشكل قاعدة تشمل الإنسان وسائر الكائنات، فصفة الشمول والكمال تحيط بهذه التربية من كل جانب، وفي كل مفردة منظومة عجيبة من الكمال التربوي الذي أودعه الله جل وعلا في كتابه الكريم. ¬

(¬1) انظر مادة (رب) في معجم مقاييس اللغة 3 / 381 وبصائر ذوي التمييز 2 / 29 ومادة (ريب) في لسان العرب 1 / 401.

الجانب التربوي الأخلاقي

فلو نظرنا إلى تربية الإنسان في القرآن الكريم لوجدنا نظاما محكما يبدأ مع الإنسان منذ أول خلقه حتى يلقى الله جل وعلا ويواجه مصيره الذي ينتظره. إن منهج التربية في القرآن الكريم ينبثق من كمال هذا الدين ومعجزة هذا الكتاب المجيد، فتربيته تسع كل المجالات، كما أنها باقية وصالحة لكل عصر وجيل، حيث إن إعجاز القرآن الكريم لا ينحصر في ألفاظه ومبانيه، ولكنه يمتد إلى معانيه ومناهجه الحياتية والحيوية. [الجانب التربوي الأخلاقي] [أولا الوسائل الدافعة] الجانب التربوي الأخلاقي حقيقة التربية الأخلاقية في نظر الإسلام تنشئة الإنسان وتكوينه متكاملا من الجانب الخلقي، بحيث يصبح مفتاحا للخير ومغلاقا للشر في كل الظروف والأحوال (¬1) . وهي تستهدف ملكة استعداد النفس لتهذيبها وتنمية نزعات الخير لديها، فهي من الأهمية بمكان، لأنها ترجمة عملية للأخلاق النظرية المتمثلة في الإلزام والمسئولية والجزاء ((ذلك أنه إذا لم يعد هناك إلزام فلن تكون هناك مسئولية، وإذا عدمت المسئولية فلا يمكن أن تكون العدالة، وحينئذ تتفشى الفوضى ويفسد النظام)) (¬2) . ¬

(¬1) انظر دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإسلامية ص 22. (¬2) دستور الأخلاق في القرآن الكريم ص 21.

حقا إن التربية الأخلاقية أحد الدعائم الأساسية في بناء الفرد المسلم، إذ هي عملية تؤدي إلى بناء فكر وفعل أخلاقي بما حوته من وسائل كفيلة يمكن من خلالها تطبيق دستور الأخلاق في القرآن الكريم، وهذه الوسائل تؤول إلى مجموعتين: وسائل دافعة ووسائل مانعة، أما الوسائل الدافعة فهي التي تنمي الاستعداد النفسي لفعل الخيرات مثل القدوة الصالحة والموعظة والصحبة، والمجموعة الثانية هي الوسائل المانعة وهي التي تحول بين المرء ورغبته في سيئ الأخلاق، وتعطل إرادته واستعداده من الوقوع فيها ومن بين تلك الوسائل المانعة الاعتبار والترهيب والعقوبة (¬1) . إن التربية الأخلاقية في نظرة الإسلام تتسم بالعمق والشمول، حيث إنها تتناول جميع الجوانب الإيجابية للتربية المتكاملة، من أهمها تكوين البصيرة عند المرء ليميز بين سلوكي الخير والشر وتلقي المبادئ التربوية ب افعل ولا تفعل وتطهير النفس من نوازع الشر وتحذير الغير منها، وتحليها بفضائل الخير، والدلالة إليها (¬2) . والحق أن القرآن العظيم قد زود نظامه الأخلاقي بقاعدة تربوية غاية في الكمال (¬3) وقد انتظم في هذه القاعدة جملة من الوسائل الكفيلة بتفعيل التعاليم الأخلاقية، وإيجاد العلاج والحلول المناسبة لكل انحراف أو ¬

(¬1) انظر الأخلاق بين النظرية والتطبيق ص 79. (¬2) انظر دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإسلامية ص 29. (¬3) انظر دستور الأخلاق 677.

تسيب في الأخلاق، ومعنى هذا أنها ذات طابع إصلاحي ودعوي، فالحاجة إلى إبرازها وإعمالها ضرورة اجتماعية. أولا - الوسائل الدافعة وهي الوسائل التي تنمي الاستعداد لفعل الخيرات والمداومة عليها والترقي في معارج الفضيلة، ومنها: الموعظة: وهي التذكير بالخير فيما يرق له القلب (¬1) وتعد الموعظة من أقوى الأساليب وأنجع الوسائل، ولهذا سمى الله القرآن الكريم موعظة كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] (سورة يونس: 57) وقد استعمل القرآن الكريم الموعظة في السياق التربوي في كثير من المناسبات، ويظهر ذلك جليا في مواعظ الحكيم لقمان لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ - وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ - وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ - يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ - وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ - وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 13 - 19] (سورة لقمان: 13 - 19) . ¬

(¬1) انظر مادة (وعظ) في العين للخليل 2 / 228 والمفردات للراغب ص 527.

والموعظة تأتي في القرآن الكريم صريحة كما في الآيات السابقة، وتأتي من خلال الاعتبار بمن سبق، قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ((وقوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] (سورة النساء: 171) وقوله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] (سورة الحديد: 27) فإن ذلك متعلق بأهل الكتاب ابتداء، ومراد منه موعظة هذه الأمة لتجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة وسقوطها)) (¬1) وتصديق ذلك في القرآن الكريم حيث يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ - فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 65 - 66] (سورة البقرة: 65 - 66) . ¬

(¬1) مقاصد الشريعة ص 268.

الصحبة: لا يخفى ما للصحبة من أثر فاعل في اكتساب الأخلاق سلبا أو إيجابا، ومسارقة الطبع تؤدي في ذلك دورا كبيرا، ((إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعا)) (¬1) . وقصة أصحاب الجنة في سورة القلم شاهد حي على ما للصحبة من أهمية في استمداد القرناء بعضهم من بعض الطاقات الأخلاقية حيث يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ - وَلَا يَسْتَثْنُونَ - فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ - فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ - فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ - أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ - فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ - أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ - وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ - فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ - بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ - قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ - قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ - فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ - عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ - كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17 - 33] (سورة القلم: 17 - 33) . ¬

(¬1) إحياء علوم الدين للغزالي 3 / 60.

أوسطهم أي: ((أعدلهم قولا وعقلا وخلقا)) (¬1) والآية تدل على أن هذا الأوسط حذرهم من الوقوع في المعصية قبل وقوع العذاب فلم يطيعوه، فلما رأوا العذاب ذكرهم ذلك الكلام (¬2) {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29] فكان تذكير أوسطهم أحد أسباب توبتهم، ولو استجابوا له أولا لانتفعوا ببستانهم، بيد أنهم استطاعوا أن يؤثروا عليه، حتى أزرى به بخله فأصابه ما أصابهم. وقد جاء التنويه بالصحبة وما لها من أثر فاعل في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27] (سورة الفرقان: 27) ، وقوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] (سورة الأنعام: 71) . القدوة الحسنة: وهي وسيلة عملية في البناء الخلقي، ((ولن تصلح التربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة)) (¬3) والقرآن الكريم حافل بنماذج حية للشخصيات الأخلاقية الكريمة، للترغيب في أخلاقهم، ومحاكاة الحسن منها، ¬

(¬1) المحرر الوجيز لابن عطية 15 / 42. (¬2) انظر مفاتيح الغيب للرازي 29 / 90 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 / 244. (¬3) خلق المسلم للشيخ محمد الغزالي ص 16.

قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] (الأنعام: 90) ، كما حفل بنماذج أخرى ضدها للتنفير من محاكاتها، قال ابن حزم: ((ولهذا يجب أن تؤرخ الفضائل والرذائل، لينفر سامعها من القبيح المأثور عن غيره، ويرغب في الحسن المنقول عمن تقدمه ويتعظ بما سلف)) (¬1) . ومن ثم سيق في القرآن الكريم تجارب الأنبياء الأخيار لينتفع منها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ((فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل، فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقا فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم)) (¬2) وبهذا يتضح مفاد التعبير بحرف الاستعلاء في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (القلم: 4) إذ دل على استعلاء الرسول صلى الله عليه وسلم على جميع الأخلاق الجميلة وتمكنه منها (¬3) ولا سيما أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وفي الحديث الشريف: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» (¬4) . وإذا كانت طريقة القرآن فيما يذكره الله عن أهل العلم والأنبياء والمرسلين على وجه المدح للتأسي (¬5) بهم، فلا جرم أن ما امتدح الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق يقتضي اتخاذه مثلا أعلى، ثم إنه قد جاء ذلك ¬

(¬1) الأخلاق والسير 195. (¬2) مفاتيح الغيب للرازي 29 / 80. (¬3) انظر المصدر السابق 29 / 81 والتحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر 29 / 64. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده 14 / 513 رقم الحديث 8952 وصححه محققوه. (¬5) انظر مجموع الفتاوى ابن تيمية 15 / 338.

ثانيا الوسائل المانعة

صريحا في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] (الأحزاب: 21) ، قال ابن حزم: ((من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاق سيرته ما أمكنه)) (¬1) . [ثانيا الوسائل المانعة] ثانيا: الوسائل المانعة ((وهي الوسائل التي تحول دون فاعلية الرغبة في الأخلاق السيئة وتعطل الإرادة والاستعداد لفعلها)) (¬2) فهي طرق وقاية وعلاج لما يطرأ على الأخلاق من عوامل الانحراف والانحلال الخلقي الذي يعتور النفس بسبب الهوى أو الشيطان أو غيرهما. ولا ريب أن تلك الوسائل من الأساليب الناجعة في مجال التربية الأخلاقية، لما لها من سلطة على كبح الجرم الخلقي، وتهذيب السلوك، فإن كان ثمة مكنة من التوبة من قبل الفاعل فذلك مقصد أسمى من مقاصد العقوبة في الإسلام مهما كانت ضخامة الذنب، وإن لم يكن فإن العبرة قائمة لمن بعدها. وإذا كنا بصدد ندوة أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو؛ فمن المناسب التنبيه إلى أن معاقبة الغلاة والمبتدعة إحدى وسائل العلاج التي تضمنتها آيات الحدود والقصاص والتعزير، وهي كثيرة جدا، والعقوبة لهذا الصنف من الناس تختلف بحسب نوع الجرم الذي ربما يصل ¬

(¬1) الأخلاق والسير ص 109. (¬2) انظر الأخلاق بين النظرية والتطبيق ص 84.

بغلوه إلى حد الكفر، وقد يعاقب بالقصاص حين يقتل مسلما معصوم الدم (¬1) وبهذا يتبين أن الغلو قد يصل إلى درجة الإفساد في الأرض، فحينئذ ينطبق عليه قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ويلحظ في هذه الآية أنها تناولت أنواعا من العقوبات، فمنها ما يقع على الجسد، وذلك في أول الآية وهو التقتيل أو الصلب أو التقطيع، ومنها عقوبات نفسية وذلك بالخزي الذي يلحق بهم، ومنها عقوبات اجتماعية تأديبية وذلك بالنفي، ومنها عقوبات أخروية {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] نسأل الله العافية، ولما كانت العقوبة أحد المقاصد الأخلاقية التي جاء القرآن الكريم ليؤكد عليها ضمن أجزيته الإصلاحية لذلك نجد أن الدعوة إلى التوبة تعقب ذكر تلك العقوبات لتفتح طريقا إلى العودة، وذلك ما نجده عقب هذه الآية وأمثالها، حيث يقول الله تعالى بعد آية الحرابة المذكورة آنفا {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] ¬

(¬1) مشكلة الغلو في الدين للدكتور عبد الرحمن اللويحق.

الجانب التربوي الاجتماعي

[الجانب التربوي الاجتماعي] [إرساء قواعد التسامح] الجانب التربوي الاجتماعي جعل الإسلام رابطة الدين الجامعة المعتبرة، ودعا الناس لاتباعها ليكونوا أمة واحدة تجمعها وحدة الاعتقاد والتفكير والعمل الصالح، فأمر بإقامة الدين كما في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وقد أبان الله تبارك وتعالى أن مراده الاجتماع تحت شريعة الإسلام (¬1) إذ يقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وحبل الله هو الإسلام (¬2) . وكما عني الإسلام بتأسيس هذه الجامعة وتسهيل الدخول إليها وتكثير سواد أتباعها - حاطها بسياج منيع من أن يجد معول الهدم إليها سبيلا، فجعل لها نظما تضبط تصرفات الناس في معاملاتهم وتدابير تذود عنهم أسباب الاختلال وتقيها من الانحلال (¬3) وذلك ما سنشير إلى شيء من ملامحه - على وجه الإيجاز - فيما يلي: إرساء قواعد التسامح عني القرآن الكريم بموضوع التسامح عناية فائقة، فنوه به ليتمثله أهل الإسلام ولينبذوا ما ينافيه، وعده من خصائص دين الإسلام، فقال ¬

(¬1) انظر أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ص 176، 179. (¬2) وهو قول ابن زيد، انظر المحرر الوجيز 3 / 248 والمرجع السابق ص 179. (¬3) انظر أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ص 184.

جل شأنه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال في صاحب الرسالة وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] وقال في أصحابه وأتباعه: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] ولذلك اعتبر القرآن المؤمنين إخوة، ووصفهم بهذا الوصف إشاعة لخلق التسامح فيما بينهم، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ((ثم إن وصف الأخوة يستدعي أن تبث بين الموصوفين به خلال الاتحاد والإنصاف والمواساة والمحبة والصلة والنصح وحسن المعاملة فيتقبلها جميع الأمة بالصدر الرحب، سواء في ذلك الشريف والمشروف والقوي والضعيف، فإذا ارتاضت نفوس الأمة على التخلق بالأخوة بينهم سهلت على الشريعة سياستهم، وإنما ترضاض النفوس على الأخوة بتكرير غرسها فيها، وبتأكيد الدعوة إليها واجتثاث ما ينافيها)) (¬1) . ولم يقتصر القرآن الكريم على إشاعة هذا الخلق فيما بين المسلمين، بل جعله عاما بين الناس جميعا، ((فلذلك يحق لنا أن نقول إن التسامح من خصائص دين الإسلام وهو أشهر مميزاته، وإنه من النعم التي أنعم بها على أضداده وأعدائه، وأدل حجة على رحمة الرسالة الإسلامية المقررة بقوله ¬

(¬1) انظر المرجع السابق ص 197.

تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] )) (¬1) وشواهد القرآن الكريم على ذلك كثيرة جدا، منها قوله تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وقوله سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وقد تمثل هذه الآية الإمام الجليل إسماعيل بن إسحاق القاضي، إذ ((دخل عليه ذمي فأكرمه، فوجد عليه الحاضرون فتلا هذه الآية عليهم)) (¬2) . وخلق التسامح أحد الأخلاق التي حرص القرآن الكريم على ترسيخها، فلذلك نجد تقريره في الآيات المكية والمدنية، ومن الآيات المكية قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وفيها يقول الإمام الكبير جعفر الصادق: ((أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية)) (¬3) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وهذه الآية فيها جماع الأخلاق الكريمة، فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه غير ما يحب أو ما يكره، فأمر أن يأخذ منهم ما يحب ما سمحوا به، ولا يطالبهم بزيادة، وإذا فعلوا معه. ¬

(¬1) انظر المرجع السابق ص 197. (¬2) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1786. (¬3) معالم التنزيل للبغوي 3 / 316.

ترسيخ مفاهيم السلام الاجتماعي

ما يكره أعرض عنهم، وأما هو فيأمرهم بالمعروف، وهذا باب واسع)) (¬1) . ومن الآيات المدنية قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] فلا جرم أن التسامح وما يدور في فلكه من الاتحاد والإنصاف والمواساة والمحبة والصلة والنصح وحسن المعاملة من الأخلاق الاجتماعية التي تحتاج إلى تربية وتنشئة، ولقد تكفل القرآن الكريم ببيانها بيانا شافيا أوضح الله فيه المحجة للأمة، وجعله نظاما اجتماعيا حضاريا للعالمين. [ترسيخ مفاهيم السلام الاجتماعي] ترسيخ مفاهيم السلام الاجتماعي أرسى القرآن الكريم مفاهيم السلام في سور عديدة وآيات كثيرة، حتى أصبح السلام السمة البارزة لهذا الدين ليس في حال السلم فحسب، بل وفي الحرب ومع الأعداء، لأن هذا الدين يحرص على كسب أعدائه ودعوتهم إلى السلم بدلا من مخاصمتهم، ولأن دين الإسلام جاء لهداية الناس كافة إلى سبيل الله تعالى، فمقصده التآلف ودفع التنازع ونشر السلام في أرجاء العالم، وذلك ما دلت عليه الآيات الكثيرة التي تضمنت مادة (سلم) وما في معناه من الأمن والإصلاح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208] ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 30 / 370.

نبذ مظاهر الفرقة والخروج على الجماعة

(سورة البقرة: 208) ، وقال عن منهج هذا القرآن العظيم ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16] (سورة المائدة: 15 - 16) ، وقال جل شأنه في سياق آيات القتال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] (سورة الأنفال: 61) ((فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم، وأن يوافقوا من سأله منهم)) (¬1) لأنه أصل منهج الرسالة الخاتمة. [نبذ مظاهر الفرقة والخروج على الجماعة] نبذ مظاهر الفرقة والخروج على الجماعة عادة القرآن في روافد البناء التحذير مما يهدمه، لذلك جاءت الآيات الكثيرة موجهة إلى لزوم الجماعة وطاعة ولاة الأمر ومشددة النهي عن الاختلاف ومفارقة الجماعة، ومن الآيات الواردة في ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ¬

(¬1) تفسير التحرير والتنوير 10 / 58.

(سورة النساء: 59) ، وقوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 103 - 105] (سورة آل عمران: 103 - 105) . وقوله سبحانه (وَلَا تَفَرَّقُوا) في الآية المذكورة تأكيد لما تضمنه الأمر بالاعتصام، والتذكير بنعمة الله فيها اشتمل على تصوير لحالة الناس التي كانوا عليها قبل الرسالة المحمدية، وفيه تنفير من العودة إلى تلك الحالة الشنيعة بعد أن أفاء الله عليهم بنعمة الإسلام الذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وذلك حث على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتفاق (¬1) . ¬

(¬1) انظر المرجع السابق 4 / 32.

الخاتمة

[الخاتمة] الخاتمة بعون من الله وتوفيق تم إنجاز هذا البحث المختصر، المتضمن الإشارة إلى إبراز بعض لمحات منهج القرآن الكريم في البناء التربوي الأخلاقي والاجتماعي، والتنويه بالوسائل الكفيلة بتفعيل التعاليم التربوية ذات الطابع الإصلاحي من خلال القرآن الكريم. وقد اشتمل على دراسة موجزة تناولت مفهوم التربية القرآنية، والتربية الأخلاقية التي تهتم بتنشئة الإنسان وتكوينه متكاملا من الجانب الخلقي، بحيث يصبح مفتاحا للخير ومغلاقا للشر في كل الظروف والأحوال، وقد وكّد أن التربية الأخلاقية إحدى الدعائم الأساسية في بناء الفرد المسلم، إذ هي عملية تؤدي إلى بناء فكر وفعل أخلاقي بما حوته من وسائل كفيلة يمكن من خلالها تطبيق دستور الأخلاق في القرآن الكريم، وهذه الوسائل تؤول إلى مجموعتين: وسائل دافعة ووسائل مانعة، أما الوسائل الدافعة فهي التي تنمي الاستعداد النفسي لفعل الخيرات مثل القدوة الصالحة والموعظة والصحبة، والمجموعة الثانية هي الوسائل المانعة وهي التي تحول بين المرء ورغبته في سيئ الأخلاق، وتعطل إرادته واستعداده من الوقوع فيها ومن بين تلك الوسائل المانعة الاعتبار والترهيب والعقوبة، ولقد عني هذا البحث ببيان بعض تلك الوسائل من خلال القرآن الكريم. كما تضمن هذا البحث دراسة عن شيء من لمحات الجانب التربوي الاجتماعي في القرآن الكريم، وتناول بيان بعض تلك الملامح على وجه

الإيجاز، ومنها ركيزة التسامح، إحدى خصائص دين الإسلام، وبين أن التسامح وما يدور في فلكه من الاتحاد والإنصاف والمواساة والمحبة والصلة والنصح وحسن المعاملة، من الأخلاق الاجتماعية التي تحتاج إلى تربية وتنشئة، ولقد تكفل القرآن الكريم ببيانها بيانا شافيا أوضح الله فيه المحجة للأمة، وجعله نظاما اجتماعيا حضاريا للعالمين. ومن تلك الركائز ترسيخ مفاهيم السلام الاجتماعي وهو السمة البارزة لهذا الدين، ومنها نبذ مظاهر الفرقة والخروج على الجماعة، فكل ذلك مما جاءت آيات القرآن الكريم لتؤكده في الجانب التربوي الاجتماعي. ومن ثم انتهى البحث إلى جملة من النتائج، ومن أهمها ما يلي: * القرآن الكريم يحوي منهجا تربويا كاملا صالحا لكل عصر وجيل، ومنهج التربية القرآنية هو أكمل المناهج وأصلحها للبشرية ولا توازن تربيته بغيره من التربيات. * أن علاج الانحرافات البشرية يكمن في منهج القرآن الكريم وحده، وما عداه من المناهج البشرية مهما بلغت من العمق والإبداع، فستظل عاجزة عن معالجة يصدق عليها وصف الكمال، لأن ذلك ليس إلا لله سبحانه خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم. * دراسة القيم التربوية في القرآن الكريم، وإبراز منهج الوسطية فيه، بحاجة إلى بحوث كثيرة جدا في جميع مجالات الحياة.

* أن القرآن العظيم قد زود نظامه الأخلاقي بقاعدة تربوية غاية في الكمال، وقد انتظم في هذه القاعدة جملة من الوسائل الكفيلة بتفعيل التعاليم الأخلاقية، وإيجاد العلاج والحلول المناسبة لكل انحراف أو تسيب في الأخلاق، ومعنى هذا أنها ذات طابع إصلاحي ودعوي، فالحاجة إلى إبرازها وإعمالها ضرورة اجتماعية. * العقوبة أحد المقاصد التي جاء القرآن الكريم ليؤكد عليها ضمن أجزيته الإصلاحية، لذلك نجد أن الدعوة إلى التوبة تعقب ذكر تلك العقوبات لتفتح طريقا إلى العودة. * أن معاقبة الغلاة والمبتدعة، إحدى وسائل العلاج التي تضمنتها آيات الحدود والقصاص والتعزير. وبعد، فما كان في هذا البحث من صواب فمن فضل الله وتوفيقه، وما كان فيه من خطأ أو خلل فأستغفر الله.

مراجع البحث

[مراجع البحث] مراجع البحث * أحكام القرآن، ابن العربي، محمد بن عبد الله، تحقيق علي محمد البجاوي، بيروت، دار المعرفة. * إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، محمد بن محمد، دار المعرفة. * الأخلاق بين النظرية والتطبيق، د. عبد الراضي محمد عبد المحسن، القاهرة، كلية دار العلوم، 1417 هـ. * الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ابن حزم، علي بن أحمد، تحقيق د. الطاهر أحمد مكي، مصر، دار المعارف، 1981 م. * أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، محمد الطاهر بن عاشور، عناية محمد الطاهر الميساوي، الأردن، دار النفائس، 1421 هـ. * بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب، تحقيق الأستاذ محمد النجار، بيروت، المكتبة العلمية. * تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، تونس، الدار التونسية، 1984 م. * الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، محمد بن أحمد، بيروت، دار إحياء التراث العربي. * خلق المسلم، محمد الغزالي، دمشق، دار القلم، الطبعة (3) 1403 هـ. * دستور الأخلاق في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، تعريب د. عبد الصبور شاهين، بيروت، الطبعة (6) مؤسسة الرسالة، 1405 هـ. * دور التربية الأخلاقية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإنسانية، د. مقداد يالجن، بيروت، دار الشروق، 1403 هـ.

* العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1408 هـ. * لسان العرب، ابن منظور، محمد بن مكرم، بيروت، دار صادر. * مجموع فتاوى ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكة المكرمة، الرئاسة العامة لشؤون الحرمين، 1404 هـ. * المحرر الوجيز، ابن عطية، عبد الحق بن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد الله الأنصاري وزملائه، الدوحة 1398 هـ. * المسند، أحمد بن حنبل، محقق بإشراف د. عبد الله التركي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1413 هـ. * مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر، د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، 1419 هـ. * معالم التنزيل، البغوي، الحسين بن مسعود، تحقيق محمد النمر وزملائه، الرياض، دار طيبة، 1409 هـ. * معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، أحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، الخانجي، الطبعة (3) 1402 هـ. * مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، محمد ضياء الدين عمر، دار الفكر، الطبعة (3) 1405 هـ. * المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، تحقيق محمد سيد كيلاني، بيروت، دار المعرفة. * مقاصد الشريعة، محمد الطاهر بن عاشور، عناية محمد الطاهر الميساوي، الأردن، دار النفائس، 1421 هـ.

أثر معلم القرآن في تربية طلابه على الاعتدال

[أثر معلم القرآن في تربية طلابه على الاعتدال] [مقدمة] المحور الرابع استثمار تعليم القرآن في ترسيخ الوسطية ومعالجة الغلو أثر معلم القرآن في تربية طلابه على الاعتدال للدكتور عبد الله بن علي بصفر

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد من الله علينا سبحانه وأكرمنا بأن جعلنا مسلمين، وأكرمنا بالهداية إلى منهاجه المستقيم، ووعد من تمسك به منا بالفوز والفلاح دنيا وأخرى. قال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16] (المائدة: 15 - 16) . وقد جعل الله عز وجل هذه الأمة خير الأمم، وآتاها من المناهج والشرائع خيرها وأبقاها، فكانت هي الأمة الوسط من بين الأمم. قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] (البقرة: 143) . وجاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تأمرنا بالاستقامة على هذا المنهج الوسط، والذي لا انحراف فيه ولا شطط، وتنهانا عن الجنوح عنه، أو الميل عنه لسواه، سواء كان ذلك بغلو أو جفاء.

وفي عصرنا الحاضر فشت ظاهرة الغلو في الدين، والفهم السقيم لنصوصه وتعاليمه، وتطاير شرر ذلك، واستفحل خطره وضرره؛ فكان لزاما على رجالات الأمة كلهم؛ علماء ودعاة، ومفكرين وأدباء، وأئمة وخطباء. . . وغيرهم؛ كان لزاما على الجميع أن يتكاتفوا، لدراسة هذه الظاهرة، ومعرفة أسبابها ودوافعها؛ ثم المشاركة في علاجها وقلع جذورها من بيننا. وقد دعيت للمشاركة في ندوة بعنوان (أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو) ، وكان الفرع الذي طلب مني الكتابة فيه هو: (أثر معلم القرآن في تربية طلابه على الاعتدال) ، ولم يكن بد من الاستجابة لذلك على الرغم من كثرة الأشغال، وضيق الوقت؟ فكانت هذه الأوراق، التي أسأل الله أن ينفع بها، وأن تكون فاتحة الباب لدراسات أشمل وأعمق في الموضوع ذاته. والحمد لله أولا وآخرا.

أولا المعلم القدوة

[أولا المعلم القدوة] أثر معلم القرآن في تربية طلابه على الاعتدال إن للمعلم عموما، ومعلم القرآن خصوصا؛ الأثر البالغ في توجيه طلابه، والتأثير عليهم سلبا كان أو إيجابا، فالطالب إذا أحب معلمه جعله قدوته الحية، ومثله الأعلى، وقلده في كل ما يأتي ويذر من الأقوال والأفعال، بل: والأفكار والاعتقادات. . وهذا واقع ملموس مشاهد بما يغني عن إيراد أمثلة وشواهد عليه، ولذا أدخل مباشرة في موضوع بحثنا وهو: (أثر معلم القرآن في تربية طلابه على الاعتدال) فأقول: أولا: المعلم القدوة من البدهيات المعروفة للجميع، أن: (فاقد الشيء لا يعطيه) ، وأن: (كل إناء بما فيه ينضح) ، فإذا أردنا من المعلم أن يربي طلابه على الاعتدال فكرا وسلوكا، فلا بد أن يكون المعلم نفسه كذلك؛ وأن يكون هو نفسه قدوة لطلابه، ومثالا حيا لمظاهر الوسطية والاعتدال في دينه ودنياه. ومما يدلل على أهمية كون المعلم قدوة ما يأتي: (1) أن المثال الحي، والقدوة الحسنة، يثيران في نفس الطالب قدرا كبيرا من الإعجاب والاستحسان والتقدير والمحبة، فيميل إلى الخير، ويتطلع لمراتب الكمال، ويسعى لتقليد ذلك المثال، والعمل بمثل عمله ليرتقي في درجات الكمال. (2) أن القدوة الحية، المتصفة بالوسطية والاعتدال؛ تعطي الطلاب قناعة بأن التوسط والاعتدال، وعدم الغلو والإفراط، أو الجفاء

والتفريط؛ كل ذلك من الأمور الممكنة التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى وأبلغ من شاهد المقال. (3) أن الطلاب بالنسبة لمعلمهم؛ بل: والمدعوين بالنسبة للداعية، والمرءوسين بالنسبة لرئيسهم، كل أولئك ينظرون إلى معلمهم أو رئيسهم أو الداعية فيهم نظرة دقيقة متفحصة، هي أشبه بالرقابة المجهرية، وهم في ذلك يجعلونه محلا للاتباع والاحتجاج في جليل أمره وحقيره، مما يحتم عليه أن يكون - ولو في الظاهر - قدوة حسنة، ومثالا للكمال والوسطية والاعتدال. (4) أن مستويات الفهم للكلام عند الناس متفاوتة، ولكنهم يستوون أمام الرؤية بالعين المجردة، فإيصال المعلومة عن طريق الفعل أبلغ بكثير، وأقوى في التأثير من مجرد القول. ومما يدل على ذلك ما أورده البخاري في صحيحه باب: الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ثم ساق الحديث: « (اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ) فَنَبَذَهُ وَقَالَ: (إِنِّي لَنْ أَلْبَسْهُ أَبَدًا) ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ» . قال ابن بطال: (فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول) (¬1) . وتأمل ما حصل في غزوة الحديبية عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محرمين بالعمرة، وردهم المشركون عن البيت، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتحلل من عمرتهم، وتأخر الصحابة في تنفيذ الأمر رجاء ¬

(¬1) البخاري مع الفتح (13 / 274، 275) .

أن يؤذن لهم في القتال، وينصروا على المشركين، ومن ثم يكملوا عمرتهم. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها، وعليه أمارات الحزن والغضب، بسبب تأخر الصحابة عن الاستجابة لأمره، فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها بقولها: اخرج إليهم، واذبح واحلق. وما أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ورآه الصحابة؛ إلا وتتابعوا مسرعين في تنفيذ أمره، والاقتداء بفعله. فهذا المثال وغيره كثير في السنة يدلك على أهمية القدوة الحسنة، وكيف أن لها أعظم الأثر في الاستقامة وسلوك طريق الجادة. (5) أنه ورد في الحديث بيان العقوبة الشديدة التي تلحق من يأمر الناس بالخير وينسى نفسه؛ ففي حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا:. «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت، فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به» (¬1) . وهذا مما يدلك على خطورة القدوة وعظيم أثرها، فإن انحراف الداعية والمعلم وغيرهما - من الذين هم موضع قدوة - سبب في انحراف كل من تأثروا بهم، أو سمعوا منهم، وتلقوا عنهم. ¬

(¬1) رواه البيهقي عن أنس مرفوعا، وحسنه الألباني في (صحيح الجامع) (128) .

ثانيا التوجيه المباشر والغير مباشر

(6) أن جميع الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، كانوا قدوة حسنة لأقوامهم، ولهذا قال شعيب صلى الله عليه وسلم لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] (هود: 88) . ولأجل هذا الذي تقدم وغيره، ينبغي على المعلم - إن أراد أن يؤثر في طلابه حقا أن يكون هو نفسه قدوة حية لهم في الوسطية والاعتدال، والرحمة واللين، والحكمة وجمال الأخلاق والطباع. [ثانيا التوجيه المباشر والغير مباشر] ثانيا: التوجيه بنوعيه المباشر وغير المباشر (1) التوجيه المباشر: وهو ما يقوم به المعلم من النصيحة المباشرة لطلابه، وشرح وسطية هذا الدين لهم، وتحذيرهم من الغلو أو الإجحاف. . ووعظهم بسلوك الطريق المستقيم. . إلخ. وهنا ينبغي على المعلم أن يستغل المناسبات والفرص، ويوجه طلابه من خلالها ففي أثناء التسميع مثلا؛ أو تصحيح مقرر الحفظ أو المراجعة. وكلما مر الطالب على آية من الآيات التي تدعو للوسطية والاعتدال، وتنهى عن الجنوح والغلو - وما أكثرها -؛ فإن على المعلم أن يستغل ذلك الموقف، ببيان معنى الآية، والانطلاق من خلالها لعرض سماحة الإسلام، ووسطيته، وكمال منهجه وتمامه، ورحمته بالناس وحرصه عليهم. . إلخ. ومن أمثلة تلك الآيات:

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] (البقرة: 143) . وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] (الأنعام: 153) . وقوله سبحانه: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] (طه: 81) . وقوله سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] (النساء: 171) . وقوله سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] (المائدة: 77) . وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] (البقرة: 185) . وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] (النساء: 28) . وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] (الحج: 78) .

إلى غير ذلك من الآيات. (2) التوجيه غير المباشر: ويكون بوسائل وأساليب يصعب حصرها؛ فليس هو الخطاب المباشر للطالب من أستاذه ومعلمه؛ سواء بوعظ أو نصيحة أو تعليم، لا؛ وإنما هو أسلوب مختلف تماما: فقد يكون عن طريق الصحبة والمخالطة، وقد يكون عن طريق قصة تذكر فيها إشارة لموضع الخلل وعلاج له، وقد تكون عن طريق التعريض والتلميح من بعيد: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) ، وقد يكون بالكناية أو المداراة أو غيرها من أساليب لا حصر لها. والتوجيه غير المباشر أبلغ بكثير جدا من التوجيه المباشر، إذا أحسن استغلاله وتطبيقه؛ وسبب ذلك: أن الطالب يشعر أنه اكتسب هذه المعلومة أو هذه الخبرات أو المعارف باستقلالية تامة، من غير إلزام من أحد أو إكراه، إنه يشعر بحريته التامة في التعلم والاكتشاف؛ فلا يشعر باستعلاء من أحد بفضل علم أو تقدم خبرة عليه. فالتوجيه غير المباشر يتخطى ويتفادى التصادم مع كثير من العقبات النفسية المختلفة، وذلك أن إحساس النفس بالاستقلالية والاستعلاء، لا تسمح في كثير من الأحيان بقبول توجيه مباشر آت من الآخرين. ولنأخذ أمثلة لذلك من العهد النبوي، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعالج بعض الأخطاء عن طريق التعريض دون التصريح بفاعل الخطأ، أو

النصح المباشر له. فمثلا: عندما جاء النفر الثلاثة وسألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوها، وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أنام، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: أصوم ولا أفطر، أو: لا آكل اللحم. وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فقام صلى الله عليه وسلم وخطب الناس وقال: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬1) . فانظر كيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم؛ المعلم الأول هذا الجنوح إلى الغلو، بذلك الأسلوب الحكيم، والتوجيه غير المباشر، وفيه من الفوائد إضافة إلى ما تقدم ذكره: أنه علاج ليس لأولئك النفر الثلاثة فحسب، وإنما علاج لظاهرة الغلو التي قد تكون موجودة عند آخرين، لكنهم لم يأتوا لبيت النبوة، ولم يتحدثوا بما في نفوسهم كما فعل أولئك النفر الثلاثة؛ فكون التوجيه جاء عاما، وعلى الملأ، وبتوجيه غير مباشر دون تعرض للأشخاص؛ كل ذلك جعله من أبلغ وسائل العلاج وأفضله، وأعلاه وأتمه. ومن أمثلة ذلك: وصاله - صلى الله عليه وسلم الصيام في رمضان، ولشدة محبة أصحابه له وتأسيهم بفعله، واصل بعضهم الصيام كذلك. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: «ما بال رجال يواصلون، إنكم لستم مثلي. أما والله! لو تماد لي الشهر لواصلته وصلا يدع المتعمقون تعمقهم» (¬2) . ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب النكاح. (¬2) رواه مسلم، كتاب الصوم، باب النهي عن الوصال في الصوم (2 / 775) .

ثالثا اليقظة والمتابعة

ومن أمثلة ذلك أيضا: ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر فتنزه عنه ناس من الناس. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب، حتى بان الغضب في وجهه ثم قال: «ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه؛ فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية» (¬1) . والأمثلة من السنة غير هذا كثيرة جدا، وفيما ذكرناه كفاية لكل عاقل لبيب أريب. [ثالثا اليقظة والمتابعة] ثالثا: اليقظة والمتابعة فالمعلم يجلس مع طلابه لفترات ليست قليلة كل يوم، لا سيما في المراكز الصباحية لتحفيظ القرآن، والتي قد تصل ساعات جلوس المعلم فيها مع طلابه إلى 6 أو 7 ساعات، وهنا يجب على المعلم أن يكون ملما بأحوال طلابه، عارفا لطباعهم وسلوكياتهم، مراقبا لما يصدر منهم من أقوال وأفعال؛ يقظا لكل ما قد يطرأ عليهم من تغيرات سواء في أقوالهم أو أفعالهم أو سلوكياتهم. فالغلو أو التفريط لا يحصل للطالب فجأة، وإنما يتدرج معه بسبب مفاهيم خاطئة ترد على ذلك الطالب تباعا؛ فعلى المعلم أن يتابع طلابه ويراقبهم. وعندما يرى أي جنوح عن الوسطية والاعتدال، سواء إلى الغلو والإفراط أو حتى إلى الجفاء والتفريط. فعندها عليه أن يبادر بالعلاج المناسب، سواء بتوجيه غير مباشر كما تقدم، أو بالنصح ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله تعالى وشدة خشيته (4 / 1829) .

رابعا صفات ينبغي للمعلم أن يتصف بها

والتوجيه المباشر، وبيان الخطأ وعلاجه. . أو حتى بعزل ذلك الطالب عن بقية زملائه في حال تعذر العلاج، وكونه مؤثرا على باقي زملائه. [رابعا صفات ينبغي للمعلم أن يتصف بها] رابعا: صفات ينبغي للمعلم أن يتصف بها وهذه الصفات لا بد من التحلي والاتصاف بها، من قبل المعلم؛ إذا أراد أن يكون له تأثير على طلابه في تربيتهم على الوسطية والاعتدال؛ وكذا علاجه لأي جنوح إلى الغلو أو التفريط من قبلهم. وبقدر اتصافه بتلك الصفات، أو إهماله لذلك، يكون نجاحه أو إخفاقه في مهمته، وأهم هذه الصفات هي: (1) الإخلاص لله تعالى: فالإخلاص هو رأس الأمر وعموده وأساسه، وهو روح الأعمال، وسر قبولها، وبه يكون عون الله وتوفيقه للعبد، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (المائدة: 27) . وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] (البينة: 5) . وقديما قالوا: (إذا خرج الكلام من اللسان لم يتجاوز الآذان، وإذا خرج من القلب دخل القلب بلا استئذان) . وقالوا: (إنما يعطى الناس على قدر نياتهم) . يقول ابن القيم رحمه الله: (وقد جرت عادة الله التي لا تبدل، وسنته التي لا تحول، أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب

الخلق، وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء) (¬1) . (2) الصبر وسعة الصدر: وذلك يحتاجه كل مسلم في علاقاته مع الناس كل الناس؛ لكن حاجة المعلم الذي يريد تربية طلابه على الاعتدال، وعلاج الغلو فيهم، حاجته إليه آكد وأشد. وذلك أن تغيير الأفكار أصعب من نحت الأحجار، وهذا واقع ملموس ومشاهد، فعلى من يعالج أي انحراف أن يصبر على المُعَالَج؛ وما قد يصدر عنه من اجتهادات غريبة، وآراء عجيبة؛ ربما يستاء من مجرد سماعها؛ فعليه أن يصبر، ويتمالك نفسه، ويوسع صدره، ثم يفند تلك الآراء والاجتهادات بالحجج الدامغة، والأدلة القاطعة، في هدوء لا انفعال فيه، وسكينة لا حدة معها ولا غضب. ثم إنه من الممكن أن يمتد لسان ذلك الغالي المنحرف بالسوء - حتى على معلمه وأستاذه -، فعندها يتأكد الصبر، حتى لا يضيع علاجه سدى؛ فينبغي للمعلم أن يصبر ولا يقابل الإساءة بمثلها، لأنه إنما يعمل للعلاج وإزالة الداء، لا للصراع والهجاء. ¬

(¬1) إعلام الموقعين (4 / 200) .

قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34 - 35] (فصلت 34، 35) . وقال سبحانه - على لسان لقمان وهو يعظ ابنه -: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] (لقمان 17) . (3) الرفق والحلم والأناة: قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (آل عمران: 159) . وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ» (¬1) . وقال أنه أيضا: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» (¬2) . وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُحْرَمُ الرِّفْقَ يُحْرَمُ الْخَيْرَ» (¬3) . ¬

(¬1) رواه البخاري (6024) ومسلم (2165) . (¬2) رواه مسلم (2594) . (¬3) رواه مسلم (2592) .

فعلى المعلم أن يتحلى بالرفق والأناة والحلم، فلا يعنف ما وجد للرفق سبيلا؛ وذلك أن من ابتلي بانحراف؛ غلو أو غيره من الأمراض الفكرية، إنما هم جزء من مجتمعنا، وعلى المعلم أن يأخذ بأيديهم بكل رفق وحلم، وأناة ولين. وليتأمل قوله سبحانه لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] (طه 43، 44) . ولئن كان مثل ذلك في حق الطاغية الكافر، الذي ادعى لنفسه الربوبية والإلهية من دون الله؛ فلأن يكون الحلم والخطاب اللين مع إخواننا من باب أولى، وهذا هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك هي طريقته في دعوته وعلاجه للمشكلات، وتقويمه لكل انحراف أو اعوجاج. (4) التعامل بروح الأبوة والأخوة: وينبغي للمعلم كذلك أن يتصف في علاجه لظاهرة الغلو خصوصا، وتعامله مع طلابه عموما، بروح الأبوة المشفقة، والأخوة الحانية، إذ ظاهرة الغلو غالبا ما تستشري بين الشباب خاصة، وهم يتسمون بالحماسة والاندفاع. فعلى من يتصدى لعلاجهم وتوجيههم أن يكون رقيقا في معاملته، لطيفا في أسلوبه وكلامه، فلا يعنف، ولا يتهكم، ولا يسخر، ولا يسفه، بل يوضح الحقائق، ويزيل اللبس، ويجيب عن الشبهة والإشكال، على ذلك بالحسنى؛ بل: بالتي هي أحسن. فلا يهجم هجوم عدو، ولا يطعن

طعنات مبغض، بل يسعى سعي الوالد المحب والأخ الشفيق؛ لإنقاذ ابنه أو أخيه من الغرق. (5) المعايشة للأحداث، وفقه الواقع: وعلى المعلم إن أراد أن يكون ذا تأثير إيجابي على طلابه؛ أن يكون فقيها بواقعه، مدركا لأحداثه الجارية ووقائعه، متحركا مع الناس في الميدان، مخالطا للشباب ومحتكا بهم؛ عارفا بآمالهم وآلامهم، مشاهدا لأفعالهم وتصرفاتهم. فإنه من خلال ذلك الاحتكاك وتلك المعايشة؛ يدرك المحاسن والفضائل فيزيدها وينميها، ويشجع أصحابها، ويدرك الأخطاء والسلبيات، فيصلحها ويقومها، ويوجه أصحابها وينصحهم بتركها. فلا يكفي أن يتعرف المعلم على المشكلة من الصحف أو المجلات، أو الإذاعة أو التلفاز، أو غير ذلك من وسائل الإعلام؛ أو حتى سماعها من فلان وفلان من الناس، ثم يقوم بإسقاط ما سمعه على طلابه، ومعاملتهم بحسبه؛ إن هذا خطأ فاحش في معالجة الأمور. بل لا يكفي أن يراقب مشكلة ما ظهرت له عن بعد، لا؛ بل لا بد من معايشة أصحاب المشكلة، والاحتكاك بهم، ومن ثم معرفة حقيقة ما هم عليه من أخطاء، وما استحدثوه من سلبيات، ثم علاجها بالطريق الأمثل. (6) الإنصاف والعدل: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]

(النساء: 135) . وقال سبحانه: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] (الأنعام: 152) . فعلى المعلم أن يكون عادلا فيما يقرره ويحكم به. أما إن لم يكن المعلم عادلا ومنصفا، وتحامل على طرف دون طرف، ومال مع المائلين، وتأثر بسلطان الترغيب أو الترهيب؛ فعندها: لن يجدي علاجه، ولن يكون له أي تأثير على من انحرف أو جنح إلى الغلو. وقد قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] (المائدة: 8) . (7) أن يكون محلا للثقة: وعلى المعلم أن يكون محل ثقة طلابه، واطمئنانهم إليه؛ وإذا لم تتوافر الثقة في المتصدي للعلاج فلن يصغي إليه أحد، ولن يجدي كلامه، ولن يكون له أي تأثير يذكر على طلابه.

خامسا أمور أخرى تعين المعلم في تربية طلابه على الاعتدال

ومن أهم الأمور التي تستدعي الثقة فيه ما يلي: - أن يكون سليم العقيدة نقيا من البدع والخرافات. - أن يكون حسن الخلق، متواضعا لطلابه. - أن يكون قوي الشخصية؛ لا تقعده رهبة، ولا تغريه رغبة. - أن يكون قدوة حسنة في بيته وعمله وشأنه كله؛ عاملا بما يدعو إليه. - أن يكون عالما حسن الفهم ورعا تقيا. وعندما يستجمع المعلم دواعي الثقة، ينشأ عند طلابه الاطمئنان إليه، وإلى ما يقوله ويدعو إليه، فيتأثرون حينئذ به، ويستجيبون لما يدعوهم إليه بقوله أو بفعله. [خامسا أمور أخرى تعين المعلم في تربية طلابه على الاعتدال] خامسا: أمور أخرى تعين المعلم في تربية طلابه على الاعتدال وثمة أمور أخرى ينبغي على المعلم مراعاتها، إن أراد أن يكون له الأثر البالغ في تربية طلابه على الوسطية والاعتدال، وعلاج ما قد يطرأ عليهم من غلو أو إجحاف. ومن هذه الأمور: - التدرج في العلاج، وتقديم الحلول والبدائل، وإزالة الشبهات. - بيان محاذير وعيوب الغلو، ومنها: التقصير في حقوق أخرى، وأن الفطرة البشرية لا تطيق الاستمرار على هذا الغلو. - الدعوة للاتعاظ بمن سبق من الأمم. - الزجر عن سبيل الغلو والبراءة منه: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .

- تصحيح المفاهيم، وبيان السبيل القويم، والصراط المستقيم؛ فالخشية والتقوى تحصل بالتوازن، لا بالمبالغة في أمر وإهمال أمور. هذا ما يسر الله لي، والله أسأله أن يرزقني وكل مسلم الإخلاص والمتابعة في كل أمورنا؛ وأن نكون من أهل الوسطية والاعتدال. آمين.

مؤسسات تعليم القرآن الكريم وأثرها في نشر الوسطية

[مؤسسات تعليم القرآن الكريم وأثرها في نشر الوسطية] [مقدمة] المحور الرابع استثمار تعليم القرآن في ترسيخ الوسطية ومعالجة الغلو مؤسسات تعليم القرآن الكريم وأثرها في نشر الوسطية للدكتور أحمد بن موسى السهلي

بسم الله الرحمن الرحيم حمدا لمن خلق الإنسان في أحسن تقويم، وزينه بحلية التكريم وميزه بالعقل، فتأهل لحمل الأمانة، واضطلع بالأعباء التكليفية، لأنها علة خلقه على ظهر الأرض، ليعبد الله وحده ويقوم بأمره، فسبحانه تقدست أسماؤه أنقذ البشرية من دركات الشقاء، وأوحى إلى عبده ما أوحى، أنزل عليه الفرقان فيه تبيان كل شيء، فهو منهج ينتظم شؤون الحياة، وله الحكمة البالغة، وهو أهل الثناء الحسن. وصلاة وسلاما على من حلى التنزيل جيده، بعقد المدح في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وتحدث هو عن رسالته فقال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» (¬1) فهو الرحمة المهداة، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الأطهار، وصحابته الغر الميامين الأبرار، ومن اقتفى أثرهم بإحسان ما ارتفع إلى السماء أذان، وما لهج بكلمة التوحيد مسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير رقم (2349) ، والصحيحة (40) .

ثم إن هذه العجالة تجري في ميدان الوسطية في الإسلام، وتميط اللثام عن أثر مؤسسات تعليم القرآن في نشر الوسطية. كما اقتضى المقام افتتاحها بتبيان معنى الوسطية، ومدلولات أضدادها، ولمحة عجلى عن الغلو، متوخيا طريقة الإيجاز، متنكبا عن منهج الإطناب، وإلى المولى سبحانه أضرع أن يهدينا لأقوم سبيل. هذا وإن من تمام الإفادة أن نقدم بين يدي ذلك خطة موجزة للبحث وتشتمل على فصلين: فصل تمهيدي ويشتمل على ما يلي: * بين يدي البحث. * التعريف بالقرآن. * الحياة مع القرآن. * من مقاصد القرآن. الفصل الثاني: موضوع البحث - الفرع الرابع: (مؤسسات تعليم القرآن الكريم وأثرها في نشر الوسطية) منبثق من المحور الرابع (استثمار تعليم القرآن في ترسيخ الوسطية ومعالجة الغلو) . * أهمية البحث. * أهل القرآن وصفاتهم.

* أهداف البحث. * وقفة مع عنوان البحث. * الواقع يتحدث. * المدلول اللغوي والشرعي للوسطية. * مؤسسات تعليم القرآن وأثرها في نشر الوسطية. * الإسلام وسط بين جميع الملل. * تفاقم ظاهرة الغلو في الدين في عصرنا الحاضر. * من مظاهر الغلو والتكفير. * نتائج التكفير. * لمحة عن علاج الغلو. * الالتزام بمذهب السلف.

التعريف بالقرآن

[التعريف بالقرآن] بسم الله الرحمن الرحيم بين يدي البحث * القرآن هو كلام الله تعالى تكلم به حقيقة بحروفه ومعانيه، منزل غير مخلوق، سمعه جبريل من رب العزة والجلال، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، وسمعه الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. * القرآن كتاب هذا الدين الخالد الدين الإسلامي - الدين الحق الذي ارتضاه الله ولا يقبل غيره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] * القرآن هو روح هذا الدين وباعثه وحارسه وراعيه، هو بيانه وترجمانه، هو دستوره ومنهجه، هو المرجع للأمة الإسلامية أولا وآخرا. * القرآن يستمد المسلم منه التوجيه في هذه الحياة. * القرآن هو زاد المسلم في هذه الحياة وهو حياة الإنسان. * القرآن هو النور الذي يضيء للمسلم ويبين له كيف يسير في الحياة الدنيا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]

{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] * القرآن برهان ونور ونبراس ودستور ومنهج حياة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] * القرآن نزل ليكون بصائر تهدي، ورحمة تفيض لمن آمن به: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203] القرآن نزل شفاء ورحمة للمؤمنين: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] * القرآن كتاب هداية وبشارة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9] * القرآن روح من أمر الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]

الحياة مع القرآن

[الحياة مع القرآن] الحياة مع القرآن * الحياة مع القرآن، هي حياة مع الله سبحانه وتعالى يناجي القارئ ربه جل جلاله ويردد كلامه وهو لا يخلق على كثرة الرد ويتدبر يقوى الإيمان ويزداد ويفتح الله للمتدبر آفاقا رحبة ورؤية صادقة في التعامل مع الكون والحياة وخالقهما. * الحياة مع القرآن حياة راقية، ومعية خاصة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] * الحياة مع القرآن نعمة من أعظم النعم، ينعم بها الله جل جلاله على عبد من عبيده - لا يعرف هذه النعمة حق المعرفة إلا من ذاقها. * الحياة مع القرآن هي السعادة المنشودة والكنز المفقود والفيض الإلهي الغامر، والسكينة والطمأنينة: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] * تلاوة القرآن وتدبره ومصاحبته تري العبد حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية في آن واحد: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36] * الحياة مع القرآن تعرف من خلالها قيمة الإنسان وتكريم الله له وأنه مخلوق مهم في هذا الوجود، كيف خلقه؟ ولماذا خلقه؟ وما هي مهمته على الأرض؟ ولماذا كرمه؟

* الحياة مع القرآن تصل المؤمن بنسبه العريق ورابطته الإيمانية بذلك الموكب الإيماني الفريد، أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. * الحياة مع القرآن حياة مع الكون كله، حياة مع النفس الإنسانية ومساربها وأدغالها، كنودها وضعفها وعجلتها ونسيانها وجحودها وجزعها: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] * الحياة مع القرآن حياة مع الإيمان، مع العلم تعلمك أن لكل شيء حكمة، وقد تنكشف لك وقد تغيب عنك ولكل شيء قدر: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] * الحياة مع القرآن تعلم العبد أن الخير كله فيما يختاره الله، لا فيما يختاره الإنسان لنفسه، وأن مشيئة الله فوق كل مشيئة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] * الحياة مع القرآن - حياة مع الله يزداد بها التالي إيمانا وخشوعا وثقة بالله وحسن توكل عليه، ويفوز المتقي بمعية الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] وقوله:

مقاصد القرآن

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] * الحياة مع القرآن تربية وتزكية وتهذيب أخلاق، وسلامة صدر، وطمأنينة نفس وقرب من الله ومناجاة له: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18] {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26 - 27] [مقاصد القرآن] مقاصد القرآن إن للتنزيل الحكيم مقاصد وأهدافا ومن أهمها: 1 - تحقيق العبودية لله سبحانه وحده لا شريك له. 2 - ثبوت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها امتداد للرسالات السابقة والدعوة واحدة فكلهم يقول {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]

3 - أن الدين عند الله الإسلام، ولا يقبل الله دينا غيره: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] 4 - ثبوت اليوم الآخر والجزاء والحساب والثواب والعقاب بالأدلة والبراهين فيجب الإيمان بذلك. 5 - يهدي الخلق ويخرجهم من الظلمات إلى النور: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] * من مقاصد القرآن وجوب تحكيمه في جميع شؤون الحياة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ - أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50]

أهمية البحث

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] * التوجيه المتكرر إلى عدم متابعة اليهود والنصارى ومحاولة إرضائهم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] [أهمية البحث] أهمية البحث إن مكانة القرآن الكريم من الأمة المحمدية - أمة الإسلام - مكانة الرأس من الجسد فهو عزها ومجدها ورمز شخصيتها وسر بقائها أمر الله أمة الإسلام على لسان رسولها أن تتمسك بالقرآن لأنه شرفها وذكرها بين الأمم، فقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43 - 44]

هذا القرآن يتضمن التكاليف الإلهية فيجب تنفيذها حسب الاستطاعة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ويجب البعد عن المنهيات جميعها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» . لقد سعدت الإنسانية كلها وليس المسلمون فقط بهذا الكتاب، بل أصبح العرب رعاة الشاة والبعير قادة البشرية وساستها، ولما ضعف الأخذ بالقرآن في أمة القرآن واستسلموا لتهديد العدو وذابوا في المجتمعات والسياسات غير الإسلامية نخر الفساد في جسم الأمة الإسلامية وأصبحت على شفا جرف على حافة الهاوية. نحتاج إلى دعوة صادقة إلى القرآن بحذافيره لنعيد للعالم كله الأمن والطمأنينة والسعادة والسكينة النفسية، فالقرآن هو القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة بين أيدينا ولم يغب عنا سوى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، والله يعلم ما كان وما سيكون، فقد أكمل الدين وهو يعلم أن بقاء شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ليست شرطا لنشر الدين والتمسك به - لأن الله كتب في أزله أن للرسول أجلا محدودا وأن على أمة القرآن أن تأخذ الراية بعد نبيها بالحكمة والموعظة الحسنة، وتسير على نهج المعلم الأول صلى الله عليه وسلم.

أهل القرآن صفاتهم وأخلاقهم

[أهل القرآن صفاتهم وأخلاقهم] أهل القرآن صفاتهم وأخلاقهم * أهل القرآن لهم أخلاق راقية وعقول مستنيرة ونفوس أبية ووجوه وضيئة خاشعة راكعة ساجدة هم عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا - وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا - إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا - وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا - وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا - يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا - إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا - وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا - وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا - وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا - أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا - خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا - قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 63 - 77]

* أهل القرآن هم خير أمة أخرجت للناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] * أهل القرآن هم المصطفون من خير أمة - اصطفاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) » رواه البخاري. هذه الخيرية باقية بالشرط المذكور في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] * أهل القرآن هم أهل الله وخاصته كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - هم الأمة الوسط الشهداء على الناس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] * أهل القرآن وصفهم الله: (أنهم رحماء بينهم) . * أهل القرآن هم من شرح الله صدره للإسلام فهم على نور من ربهم: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]

* أهل القرآن: هم الذين يتغنون به ويتلونه حق تلاوته، هم أصحاب التجارة الرابحة يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ - لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30] قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما - مبينا أخلاق أهل القرآن -: (من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما، لقد أدرجت النبوة بين كتفيه إلا أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغي لحامل القرآن أن يغضب مع من يغضب، ولا يجهل مع من يجهل لأن القرآن في جوفه) (¬1) . قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون) (¬2) . ¬

(¬1) أخلاق أهل القرآن للآجري - المتوفى سنة 360 هـ طبعة دار الكتب العلمية بيروت ص 56. (¬2) المرجع السابق ص 102.

ويتحدث الآجري في كتابه القيم أخلاق أهل القرآن فيقول (¬1) (فأول ما ينبغي له: أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية، باستعمال الورع في مطعمه ومشربه ومسكنه وملبسه. وأن يكون بصيرا بزمانه وفساد أهله فهو يحذرهم على دينه، وأن يكون مقبلا على شأنه مهموما بإصلاح ما فسد من أمره حافظا للسانه مميزا لكلامه إن تكلم تكلم بعلم إذا رأى الكلام صوابا وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صوابا. قليل الخوض فيما لا يعنيه يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه يحبس لسانه كحبسه لعدوه ليأمن من شره وشر عاقبته. قليل الضحك مما يضحك منه الناس إن مر بشيء مما يوافق الحق تبسم. يكره المزاح خوفا من اللعب، فإن مزح قال حقا، باسط الوجه طيب الكلام، لا يمدح نفسه بما فيه، فكيف بما ليس فيه، يحذر نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يسخط مولاه. لا يغتاب أحدا، ولا يحقر أحدا ولا يسب أحدا ولا يشمت بمصيبة، ولا يبغي على أحد ولا يحسده ولا يسيء الظن بأحد إلا لمن يستحق. ¬

(¬1) المرجع السابق، ص 163.

قد جعل القرآن والسنة والفقه دليله إلى كل خلق حسن جميل، حافظا لجميع جوارحه عما نهي عنه. إن مشى مشى بعلم وإن قعد قعد بعلم، يجتهد ليسلم الناس من لسانه ويده ولا يجهل، وإن جهل عليه حلم، لا يظلم وإن ظلم عفا، لا يبغي وإن بغي عليه صبر، يكظم غيظه، ليرضي ربه ويغيظ عدوه متواضع في نفسه إذا قيل له الحق قبله، من صغير أو كبير، يطلب الرفعة من الله لا من المخلوقين، ماقت للكبر، خائف على نفسه منه) اهـ. هذه هي أخلاق أهل القرآن استقوها من كتاب ربهم الفرقان وسنة نبيهم المأمور بالبيان، صاحب الخلق العظيم والسيرة العطرة والشمائل الكريمة والصفات الحميدة صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] العدل ضد الظلم، والإحسان ضد الإساءة، وإيتاء ذي القربى ضد القطيعة، والمنكر ضد المعروف، والفحشاء ضد العفة، والبغي ضد طاعة ولي الأمر المسلم، وهي تشير إلى حرمة الخروج على ولي الأمر المسلم، فأهل القرآن أصحاب رسالة في الحياة، هي رسالة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم يتأسون به في دعوته فهو أسوتهم وقائدهم كتاب ربهم الذي حفظوه بقوله لهم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]

أهداف البحث

وقوله: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53] وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] منهجهم الصبر ويدفعون السيئة بالحسنة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96] هذا مع الكفار لا المناوئين للدعوة فكيف مع المسلم!!! . والرسول صلى الله عليه وسلم القدوة يقول: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» ويقول: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ» . إذا إخافة المسلمين ليست من أخلاق أهل القرآن، فمن هنا جاء هذا البحث للتذكير بأهمية هذا الأمر ووسطية أهل القرآن. [أهداف البحث] أهداف البحث 1 - تذكير أهل الصحوة الإسلامية بأخلاق أهل القرآن وأن أهل القرآن هم أتباع الأنبياء، هم الأمة الوسط، هم أصحاب العدل والرحمة والرفق والتيسير والتسامح والتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرص على هداية الناس والبعد عن الخروج على أئمة المسلمين وعدم تكفير المسلمين، وهم أهل الإيمان يعلمون علم اليقين أنه يزيد

وقفة مع عنوان البحث

بالطاعة وينقص بالمعصية، فيجب أن يتحلوا بعقائد السلف الصالح من الصحابة الكرام، وتابعيهم بإحسان. 2 - بيان صفات أهل القرآن وأخلاقهم. 3 - أن أهل القرآن أمة متميزة ميزها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهَ» ومما لا شك فيه أن أهل القرآن متميزون بسمتهم وسلوكهم، متميزون في دراستهم وتفوقهم على أقرانهم هم الأمة الوسط ليس بين بقية الأمم فحسب بل هم النخبة في الأمة الإسلامية عموما وهم أهل العدل والقسط. 4 - إبراز محاسن أهل القرآن على غيرهم لأنهم هم المنفذون لقول الله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43] وبقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] فهم الفائزون بالتلاوة والتطبيق. 5 - إجلال أهل القرآن وإكرامهم أن الله أكرمهم في الآخرة بدخولهم ودخول والديهم الجنة، فهم أهل الله وخاصته فيجب إجلالهم واحترامهم. [وقفة مع عنوان البحث] وقفة مع عنوان البحث مؤسسات تعليم القرآن الكريم هي: تلك المؤسسات القرآنية والمعاقل الإيمانية والصروح الإسلامية التي يلتقي فيها المؤمنون الصادقون لحفظ كلام الله تعالى وكتابه الفرقان، سواء أكان اللقاء في

مؤسسات تعليم القرآن

المسجد أم في تلك الدور المخصصة لحفظ كتاب الله تعالى - كمدارس تحفيظ القرآن والمعاهد العلمية والكليات القرآنية. [مؤسسات تعليم القرآن] مؤسسات تعليم القرآن 1 - المسجد: هو مشرق الإيمان ومأرزه وينبوع الهدى والرحمة ومنارة الحق ومكان ذكر الله تعالى، ومأوى الصالحين وجامعة المؤمنين الموحدين، يلتقي فيه المؤمنون على مختلف أعمارهم لتلاوة كتاب ربهم ومناجاته وعبادته بشتى أنواع العبادات من تلاوة وصلاة وحفظ للقرآن ودعاء، فالمسجد الركيزة الأولى لبناء مجتمع مؤمن راسخ الإيمان، قد هذبه القرآن وأثر في سلوكه جعله معتدل الطبع والمزاج، قوي الإيمان بربه ملتزما بشرعه مترسما خلق نبيه - صاحب الخلق العظيم - حلما وأناة ورحمة وعدم فظاظة، فالحلقات القرآنية المنتشرة في المساجد دليل ساطع على العناية بكتاب الله تعالى، والمسجد هو المحضن الإيماني لهذه الحلقات بعد محضن الوالدين في البيت فهو المدرسة الأولى، لما قدم رسول الله المدينة كان أول شيء قام به هو بناء المسجد لما للمسجد من أهمية في تعليم القرآن مصدر التشريع والهداية، ومحضن التربية الإيمانية ومكان التلقي والقدوة - وموضع الذكر بجميع صنوفه من صلاة وتسبيح وتلاوة قرآن: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ - رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36 - 37]

الواقع يتحدث

[النور: 36 - 37] . بل كان المسجد وسيظل جامعة إيمانية ومعهدا علميا ومدرسة تربوية وصالة اجتماعات ومجلس شورى تخرج منه جيل فريد في تاريخ الإسلام جيل الوسطية، أدى المسجد رسالته في عهد النبوة وقام بدور شمولي لجميع جوانب الحياة الإسلامية ومنه ظهرت الوسطية وعقيدة الإسلام الصافية وأخلاقه العظيمة. 2 - من المؤسسات التعليمية مدارس تحفيظ القرآن الكريم والمعاهد العلمية والكليات الشرعية الدعوية، فهي بيئة تربوية متخصصة مختارة، الأصل فيها أن تقوم بدور تعليمي وتربوي فهي مكملة لرسالة المسجد وما تقوم به من التربية والتعليم لا يستطيع الأبوان أن يقوما به. [الواقع يتحدث] الواقع يتحدث قامت الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية بدور بناء في إكمال المسيرة التعليمية بل في تأسيسها حيث ربطت الناشئة بكتاب ربها الذي هو سر بقائها وقد وصفه السلف بقولهم: « (فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى

الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثر الرد ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1 - 2] من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) » (¬1) . أعادت حلقات القرآن الكريم في المسجد إلى الأذهان حياة الرعيل الأول في حب القرآن وتعلمه ونفذت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) » رواه البخاري. فحققت الخيرية في هذه الأمة وجددت رسالة المسجد في الإسلام بفتح أبوابه للذاكرين بشتى صنوفهم لكي تنجو الأمة من الوعيد: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] فكانت الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في المملكة مؤهلا مهما لإكمال الرسالة التعليمية تأهيلا علميا للمعاهد والمدارس والجامعة، ومدخلا واسعا لتحقيق الخيرية التي وعد بها الرسول صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) الترمذي - كتاب ثواب القرآن باب فضل القرآن رقم 2908.

ووسيلة عظمى تشرح رسالة الإسلام وتحقيق الوسطية عمليا بالسلوك العملي والخلق الإسلامي والالتزام الشرعي، والبعد عن الغلو والتنطع، وبالمقابل البعد عن الذوبان في الحياة الغربية بحيث يمثل الوسطية لا إفراط ولا تفريط، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» (¬1) «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» (¬2) «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ» (¬3) . ثم جاءت مدارس وزارة التربية والتعليم والمعاهد العلمية لتحقيق أهداف التعليم العام وذلك ضمن برامجها وسياستها التعليمية، وأنظمتها التربوية ليتحقق من خلالها تحقيق الوسطية لهذه الأمة وقد أشار إلى هذا ما جاء في السياسة التعليمية في المملكة العربية السعودية عن أهدافها من خلال نظرتها للحياة وانطلاقا من تصوراتها التعليمية المنبثقة من عقيدتها السلفية التي تعتقدها ودينها الإسلامي الذي تدين الله به عقيدة وعبادة وخلقا وشريعة وحكما ونظام حياة شامل. فالسياسة التعليمية جزء من هذا المبدأ حيث جاء في الباب الأول من السياسة التعليمية في المملكة - كما نص عليه في الباب الأول: الأسس العامة التي يقوم عليها التعليم: (تضمن هذا الباب أن السياسة العامة التي تقوم عليها التربية والتعليم تنبثق من الإسلام ¬

(¬1) فيض القدير على الجامع الصغير ج2 / 572 دار المعرفة. (¬2) صحيح البخاري 1 / 16. (¬3) فيض القدير 2 / 573.

الغرض من مؤسسات تعليم القرآن الكريم

الذي تدين به الأمة عقيدة وعبادة وخلقا وتشريعا ونظاما متكاملا للحياة) . الباب الثاني: اشتمل على غاية التعليم وأهدافه العامة، فهم الإسلام فهما صحيحا متكاملا وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها وتزويد الطالب بالقيم والتعاليم الإسلامية، وبالمثل العليا واكتساب المعارف والمهارات المختلفة وتنمية الاتجاهات السلوكية لبناء وتطوير المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتهيئة الفرد ليكون عضوا نافعا في بناء مجتمعه) (¬1) . فمن هنا يأتي التلاحم والتأهيل بين الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم لإكمال رسالة التعليم العام بصقل الشباب وتربيته على الفضيلة والقيم والمثل العليا وصياغته صياغة إيمانية ليكون مؤمنا مسلما مواطنا صالحا مصلحا في أمته ومجتمعه وهذا هو الغرض من الحلقات القرآنية لتحقيق الوسطية المنشودة (¬2) . [الغرض من مؤسسات تعليم القرآن الكريم] الغرض من هذه المؤسسات - مؤسسات تعليم القرآن الكريم إن الغرض من هذه المؤسسات تحقيق الغاية التي من أجلها خلقت البشرية - ألا وهي العبودية الحقة لله تعالى وحده لا شريك له - ¬

(¬1) آفاق التربية وأفياء التعليم ص8 عبد الله بن حمد الحقيل الطبعة الأولى قارن إن شئت بكتاب التربية والتعليم العام في المملكة بين السياسة النظرية والتطبيق للدكتور حمد بن إبراهيم السلوم ص19 وما بعدها. (¬2) بحث لكاتب هذه الأسطر من ندوة جمعيات تعليم القرآن الكريم ودورها في إكمال مسيرة المؤسسات التعليمية بالمملكة العربية السعودية والتي أقيمت على هامش حفل تكريم الحفاظ بجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الطائف 1424 هـ.

فهي غاية الوجود الإنساني على ظهر هذه الأرض المشار إليها بقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وحقيقة الاستخلاف أن يكون هناك عبد يعبد الله تعالى وحده لا شريك له على وفق ما شرع الله يتقرب إليه بكل قول وعمل، ينظم للعبد حياته، فمن هذه الغاية الشريفة وبهذا يعرف الإنسان مكانته في الكون وعلاقته به، فإذا خرج مقصد العلم عن هذه الغاية فالمتعلم والعالم على خطر. فرسالة الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم مكملة لرسالة المؤسسات التعليمية الأخرى في المملكة، وبذلك تحقق أهداف رسالة الإسلام من العلم وإخراج جيل مسلم ناصح لربه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم - وهو ما يطلق عليه بلغة العصر - المواطن الصالح - والإنسان الصالح. والمؤسسات التعليمية تعمل لهذا الغرض كما جاء في مواد نظام السياسة التعليمية في المملكة - ولا يمكن أن يتحقق الهدف من التعليم في نوعية واحدة من نوعيات التعليم لكن بالتنوع والتعاون في تنفيذ المهمات التعليمية يستطيع أهل العلم والفكر والثقافة تحقيق الغرض من العلم ومن أهمه تربية الناشئة على الإيمان بالله والشعور

المدلول اللغوي والشرعي للوسطية

برقابته وهذا ما يسمى بالوازع الديني، فسيكون رادعا عظيما لهذا الشاب عن الشرور والآثام والجرائم والتفجيرات والمخدرات والسرقات والخطف والزنا والاغتيالات. . إلخ، لأنه عندما يربى من خلال كتاب الله تعالى على أن يعلم كيف جاء إلى هذه الدنيا وما الغاية من ذلك وإلى أين المصير وماذا بعد المصير حينما يربى الناشئ أن الله يراه ومطلع عليه ويراقب حركاته وسكناته وأنه غدا سيحاسبه على مثاقيل الذر إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن الله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا تخفى عليه خافية لأنه يعلم الجهر وما يخفى وأنه يراه أينما حل وأينما ذهب يتوقف عن الفساد في الأرض، فمن لم يؤمن هذا الإيمان فلن يردعه عن ارتكاب الجرائم والتعدي على حقوق الناس وحرماتهم وإخافتهم رادع: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5] هذه بعض مقاصد المؤسسات القرآنية. [المدلول اللغوي والشرعي للوسطية] المدلول اللغوي والشرعي للوسطية (الوسطية) من المصادر الصناعية صار بعد زيادة الياء المشددة والتاء المربوطة دالا على مجموع السمات الخاصة بهذا اللفظ (¬1) . ¬

(¬1) موسوعة النحو والصرف والإعراب ص (626) ط دار العلم للملايين.

ويطلق الوسط في لغة العرب على معان: فوسط الشيء ما بين طرفيه قال الشاعر: إذا رحلت فاجعلوني وسطا ... إني كبير لا أطيق العندا (¬1) والوسط الخيار، ومنه قول زهير بن أبي سلمى: وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي العظائم أي هم خيار، فلذا كانت أحكامهم محل الرضى. ومنه قول أبي بكر في وصف المهاجرين يوم السقيفة: (هم أوسط العرب دارا) (¬2) يقصد بذلك بيان خيريتهم وفضلهم. وبهذا المعنى جاء تفسير الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ففي صحيح البخاري وغيره (¬3) عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «يجاء بنوح يوم القيامة، فيقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فتسأل أمته هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقول: من شهودك؟ فيقول محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون ثم يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] قال: عدلا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] » . ¬

(¬1) ابن منظور: لسان العرب (7 / 426) ط دار الفكر. (¬2) رواه البخاري (5 / 8) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب فضل أبي بكر. (¬3) رواه البخاري (6 / 26) كتاب التفسير وفي (6 / 132) كتاب الاعتصام والترمذي رقم (2961) وأحمد في المسند.

ووسطية الإسلام من أبرز السمات التي يلوح فضلها في سائر تشريعاته الحكيمة، فقد كرم الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم وسط في الملل والنحل جعل الله دينهم - الدين الإسلامي وسطا بين الإفراط والتفريط، أو بين الغلو والتقصير، وتظهر وسطية أمة الإسلام فيما يلي: - في عقيدة المسلمين في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين - فهم لم يغلوا فيهم غلو النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، ولم يجفوا فيهم كما جفت اليهود فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا. أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم - فآمنوا برسل الله جميعا، وعزروهم ووقروهم، وأحبوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتخذوهم أربابا، وآمنوا بجميع الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء فكانوا بذلك وسطا. * والدين الإسلامي وسط أيضا في الموقف من الإنسان فمقام الإنسان الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه فهم يكرمون الإنسان لكنهم لم يؤلهوه كما صنعت بعض المذاهب والمعتقدات والتصورات ولم يحقروه ويهينوه - فالإسلام وسط بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية. بينما تقول الكنيسة بألوهية المسيح عليه السلام - على اختلاف المذاهب الكنسية - كما أن المذاهب

والفلسفات الأوربية وما قام عليها من مناهج التفكير لما أعلنت رفعة الإنسان ومقامه جعلت ذلك على حساب إيمانها بألوهية الرب سبحانه وتعالى. * والإسلام وسط في العمل للدنيا والآخرة، وفي عقيدة الإسلام يعتقد أن كلا منهما عبادة لله تعالى وتحقيق لغاية الوجود الإنساني ضمن شروط معينة، بينما تأرجحت المذاهب الأخرى بين الاهتمام بالنواحي المادية الذي يظهر في المدنية الغربية الحديثة، وأصبح معبودها هو المال والقوة والرفاهية والرقي المادي - وبين الإزراء بهذا الرقي المادي والمتاع الدنيوي كما هو الشأن في المذاهب التي تدعو إلى الرهبنة وتعذيب الجسد من أجل الروح وتهذيبها للوصول إلى مرحلة الفناء، أما الإسلام فيقول الله تعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] * الإسلام وسط في التشريع بين اليهودية والنصرانية - اليهود الذين حرموا على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء. . . وبين النصارى الذي أجازوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يشرعوا بالتحليل والتحريم من دون الله تعالى.

* الإسلام وسط في الأخلاق والسلوك فقد جاءت الشريعة الإسلامية وسطا بين الإفراط والتفريط في الالتزام الأخلاقي، وبين الجنوح إلى المثالية الخيالية، فهي لا تترك الحياة كلها للمشاعر والضمائر ولا للترف والميوعة والهوى والشهوة المحرمة فيعصف بها في تيارات الشهوات المحرمة والخلاعة والمجون، ولكن الدين الإسلامي يهذب السلوك ويرفع الضمير ويرتقي بالمشاعر ويعمر القلب بالتقوى والشعور برقابة الله تعالى تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه بأنه على خلق عظيم، وهكذا نجد الإسلام وسطا في جميع العلاقات الإنسانية فردية كانت أو اجتماعية بل جميع المصالح الذاتية والاجتماعية (¬1) . * الإسلام وسط في أعمال الخير والمصالح يقول العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: (فصل في الاقتصاد في المصالح والخيور. . . . . . . . . والاقتصاد رتبة بين رتبتين ومنزلة بين منزلتين والمنازل ثلاثة: التقصير في جلب المصالح، والإسراف في جلبها، والاقتصاد بينهما قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (الحسنة بين السيئتين) ¬

(¬1) أباطيل وأسمار لمحمود شاكر ص 522 ومدخل لدراسة الشريعة الإسلامية د. عثمان ضميرية ص57 وما بعدها.

ومعناه: إن التقصير سيئة والإسراف سيئة والحسنة ما توسط بين الإسراف والتقصير، وخير الأمور أوسطها. فلا يكلف الإنسان نفسه من الطاعات إلا ما يطيق المداومة عليه، ولا يؤدي إلى الملالة والسآمة، ومن تكلف من العبادة مالا يطيق فقد تسبب إلى تبغيض عبادة الله إليه ومن قصر عما يطيق فقد ضيع حظه مما ندبه الله إليه وحثه عليه. . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التنطع في الدين وقال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» إلى أن قال: (وعلى الجملة فالأولى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة مع الاقتصاد المتوسط بين الغلو والتقصير) (¬1) . فالإسلام يصطفي المنهج الوسط في معالجة شؤون الحياة كلها، لذلك فهو وسط بين انحرافين، وخيار بين اتجاهين، بريء من وصمة الغلو الذي ما خالط شيئا إلا شانه، وما دخل أمرا إلا أفسده. وصفت مشاربه من كدر التفريط ووباء التقصير الذي هو مستنقع آسن وهذا ما أشارت إليه سورة الفاتحة في قوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7] فأمرنا بالابتهال إليه، واستمناح النهج السوي منه سبحانه والهداية إليه. وهذا الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، هو الوسط ¬

(¬1) القواعد الكبرى 2 / 340 وما بعد بتحقيق د. نزيه حماد ود. عثمان ضميرية.

بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال) (¬1) فاقتضت حكمة التشريع أن نكرر هذا الدعاء المشير إلى الوسطية في اليوم والليلة سبع عشرة مرة، لنستمسك بهدي الله تعالى، وتكون أعمالنا وفق قوانين الوسطية، السليمة من داء الابتداع والاختراع، فالسنن الشرعية نجوم تهدي في ظلمات التحير، والمبتدعات ظلمات تحير معتنقها. وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع وكما كانت الوسطية من أبرز خصائص أمة الاستجابة جعلت علة لتكليف الأمة بالشهادة على الأمم {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والشهادة لا تقوم إلا بالعدل ولا تقبل إلا من عدل (¬2) ويسر الإسلام وسماحته ورفع الحرج عن أتباعه ودعوته إلى مكارم الأخلاق من الظهور بحيث لا تحتاج إلى مزيد بيان، بل إن صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» (¬3) . وإنما الوسطية في الإسلام قطب رحى العدل لأنها متمخضة عن الاعتصام بالكتاب والسنة والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة قولا وعملا واعتقادا ذلك ¬

(¬1) الآلوسي: روح المعاني (1 / 92) ط دار الفكر. (¬2) فتح الباري (13 / 613) ط دار الفكر. (¬3) حديث صحيح.

لأن جميع التشريعات الإلهية المنتظمة لكافة شؤون الحياة تتجلى فيها مظاهر الوسطية في أبهى حللها وأسمى معانيها. ومن جانب الإفراط والتفريط فقد اهتدى لأن الحق وسط بين هذين وهو حسنة بين سيئتين. ولذا حارب الدين الإسلامي الغلو فأمر بالاستقامة وحذر من تعدي الحدود وتجاوز الوسطية، فمتعدي الحدود ظالم والمنحرف عن نهج الاستقامة طاغ والغلو في الدين نهج الضالين من النصارى ومن حذا حذوهم. والمتنطعون من الهالكين، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» قَالَهَا ثَلَاثًا أخرجه البخاري ومسلم وغيره (¬1) . والمتنطعون هم المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم (¬2) وعندما لقط ابن عباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات مثل حصى الخذف لرمي الجمار وضعهن في يده وقال: «نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» (¬3) وهو حديث صحيح صححه الأئمة. ¬

(¬1) رواه مسلم (4 / 2055) في العلم: باب هلك المتنطعون: وأبو داود رقم (4608) من كتاب السنة: باب في لزوم السنة وأحمد في المسند (1 / 386) . (¬2) النووي شرح صحيح مسلم (16 / 220) . (¬3) رواه أحمد (1 / 347 - 215) وابن خزيمة 4 / رقم (2868، 2867) والنسائي في الحج (5 / 268) باب التقاط الحصى وابن ماجه رقم (3029) في المناسك باب قدر حصى الرمي وصححه الحاكم (1 / 446) ووافقه الذهبي كما صححه الإمامان ابن تيمية في الاقتضاء (1 / 289) والنووي في المجموع (8 / 138) .

ولما كان التشديد على النفس حتى في أمور العبادات ضربا من ضروب الغلو نهت عنه السنة النبوية لأن عاقبة صاحبه إلى الانقطاع، ففي حديث أبي هريرة مرفوعا: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» رواه البخاري وغيره (¬1) «وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» كما في البخاري أيضا تعليقا. فلا مكانة في الإسلام للغلو ولا للتطرف فإن المتطرف أيضا مجاوز حد الاعتدال متنكب عن الوسطية، فهو وصف لصيق بالغلو ممتزج به، وإن لم يدر ذكره في نصوص الشرع ولا محل في الحنيفية السمحة للتنطع ولا للعنف الذي اتخذ في عصرنا الحاضر ظاهرة ذات طابع دني مصطبغة بالشرعية فيما يزعمون. فكل هذه السمات مباينة لوسطية الإسلام خارجة عن دائرة القصد والاعتدال والناس في القديم والحاضر: 1 - إما مستمسك بالحق، قائم على أمر الله تعالى فهو من أهل الوسط الذين تأهلوا لأن يكونوا شهداء على الناس. 2 - وإما مفرط زائغ، متجاوز لحدود الله مستهين بأمر الله تعالى. ¬

(¬1) صحيح البخاري (1 / 16) كتاب الإيمان باب الدين يسر.

مؤسسات تعليم القرآن الكريم وأثرها في نشر الوسطية

3 - وصنف ثالث غال في الدين متتبع للأهواء متجاوز للحق ضال عن سواء السبيل. [مؤسسات تعليم القرآن الكريم وأثرها في نشر الوسطية] مؤسسات تعليم القرآن الكريم وأثرها في نشر الوسطية مما لا مراء فيه أن كتاب الله الفرقان هو ينبوع الهدى، والعاصم من القواصم من تمسك به فقد هدي إلى صراط مستقيم، عالج مشكلات الإنسان علاجا حكيما؛ لأن راسم المنهج هو خالق الإنسان {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] فقد تناولت أسسه العامة مظاهر الحياة جميعها لشمولية نصوصه، وتبيانه لكل شيء، فهو البلسم الشافي من أدواء الإفراط والتفريط، يهتدي به الإنسان الحائر ويغلب كل بهرج زائف ويقود صاحبه إلى رياض السعادة الحقيقية، حين ينهل من منهله الروي، وتستجيب جوارحه لتعاليم الحنيفية السمحة، والإنسانية اليوم تترنح في سلوكها، وتضطرب في أنظمتها، عراها القلق المعنت، وعصفت بها ريح الانحرافات وركد الضمير الأخلاقي فاستحجرت القلوب، وجفت منابع الإيمان من الأفئدة، حين انتشرت أدواء الشهوات في نفوسهم، وعمهم القلق، وتغشاهم الاضطراب النفسي ولا منجاة من العذاب المؤلم إلا إذا حمل المسلمون مشعل الهداية (القرآن الكريم) إلى الإنسانية الحائرة في متاهات الجهال، فلا عاصم لها من الهاوية التي تتردى فيها إلا بالتنزيل الحكيم، كما قال جل وعلا: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى - وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123 - 124]

وأهل الله وخاصته قراؤنا الذين يتغنون بآيات الله تعالى في محاريب الإيمان بذلك الانتصاب الخاشع بين يدي رب العالمين، هم الفائزون بالوسطية الحائزون السبق في ميدان الفضائل. لا سيما إذا تعانق القول والفعل، وتطابق الظاهر والباطن، واستوى السر والعلانية. (والواقع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحتلوا في الإيمان مكان القمة ولم يغيروا التاريخ الإنساني ويقيموا حكما مكان حكم وأخلاقا مكان أخلاق إلا لقربهم من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم واقتباسهم من سناه وسريان الإخلاص من قلبه إلى قلوبهم، وحب الله من فؤاده إلى أفئدتهم) (¬1) . وأقول: نعم إن الصحب الكرام هم الرعيل الأول الذين أدبهم صاحب الخلق العظيم، وهداهم إلى الصراط المستقيم، وهذب طباعهم التنزيل الحكيم، وأنجبتهم مدرسة النبوة كما قال بعضهم: ¬

(¬1) فن الذكر والدعاء: ص 26 ط دار الاعتصام.

أنتج المسجد الكريم أناسا ... أنجبتهم مدارس القرآن صقلتهم يد الرسول فأضحوا ... غرة الدهر في جبين الزمان نعم أهل القرآن هم الفائزون بالوسطية. * القرآن الكريم كتاب هداية فهو نور، وشفاء لما في الصدور، وهو الهادي إلى الحق، فالإعراض عنه ضلال وخسران، وزيغ وطغيان ويظل المعرض عنه في الدنيا في ضنك واضطراب، ويحشر أعمى في يوم المآب كما ورد في النص في (طه) قال ابن عباس رضي الله عنه: (تضمن الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة) (¬1) يشير إلى قوله سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] وهذا المعنى هو الذي نقصده واليراعة نحوه تسعى ويرحم الله تعالى من قال: فأدنى البرايا من إلى البدع اعتزى ... وأعلى البرايا من إلى السنن انتمى ومن ترك القرآن قد ضل سعيه ... وهل يترك القرآن من كان مسلما؟ وحملة التنزيل الحكيم الذين أنار الله تعالى بصائرهم ومنحهم تقواه فهدوا إلى الحق وتفتحت لهم أبواب المعرفة، وامتزجت أفئدتهم بآيه وتعاليمه ورتلوه في الغدو والآصال فانقادت جوارحهم لطاعة ربهم، واطمأنت قلوبهم بذكره، وكانوا من عباد الرحمن فهم يمشون على ¬

(¬1) أخرجه الطبري (16 / 225) .

تفاقم ظاهرة الغلو في الدين في عصرنا الحاضر

نور، وتتجلى مظاهر الوسطية في سلوكهم، لأنهم يعتصمون بأشرف الذكر من مضلات الفتن، وحينما ربطت مؤسسات تعليم القرآن الناشئة بكتاب الله العزيز، وربتهم على ترتيله وتدبر نصوصه أنجبت جيلا من المتخلقين بأخلاق القرآن وأنتجت هذه الدور المباركة مجموعة من كنوز المستقبل مؤهلة لحمل الأمانة محصنة من الأهواء والزيغ يحملون مشعل الوسطية ويطبقون منهج الله سبحانه، فهم يتجاوزون مرحلة الإيمان النظري إلى مرحلة أزكى وأرقى، فهم من المجتمع غرته وخياره، يهدون إلى الرشد، ويحاربون كل بدعة، وينشرون التوجيهات الربانية بين الناس، تلاوة وعملا دون القصد على أحدهما. فلذلك كانت هذه الفئة من مجتمعنا المسلم بمنأى عن مظاهر الغلو في الدين في عصرنا الحاضر، وتشكل سدا منيعا من التهاوي في دركات أهل الأهواء ويرفض التشدد في الدين والتنطع الذي يعتبر من المهلكات {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] [تفاقم ظاهرة الغلو في الدين في عصرنا الحاضر] تفاقم ظاهرة الغلو في الدين في عصرنا الحاضر والغلو في الدين ليس وليد اليوم على الساحة الإسلامية، بل هو مغرق في القدم له جذوره وتاريخه ودوافعه. فقد كانت بذرة التغالي بادئة في النمو في العصر النبوي، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في قوله: «إِنْ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ

الْأَوْثَانِ» أخرج الشيخان (¬1) فكان الرجل المشار إليه في الحديث بذرة الخوارج الذين استحلوا دماء المسلمين وكفروا أهل القبلة، وقاتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإنما ضل هؤلاء لعدم فهمهم القرآن الكريم، فهم وإن كانوا يقرءون إلا أن تلك القراءة عرية عن الفهم الصحيح، فلذلك كانوا يأخذون آيات نزلت في الكفار فيحملونها على أهل القبلة، فيكفرونهم، كما قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في الخوارج (إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين) (¬2) . وما دام هؤلاء كفروا مجتمعهم، فإن هذا يقضي باستحلال دمائهم، وهذا الذي كان كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان من أعلام نبوته. قال أبو قلابة: (ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف) (¬3) وهذه عامة المبتدعة الغالبة، والعلامة التي يشترك فيها جمهرتهم. ¬

(¬1) البخاري (8 / 52) كتاب استتابة المرتدين: باب قتل الخوارج والملحدين ومسلم (1 / 740) رقم (1063) في الزكاة: باب ذكر الخوارج وصفاتهم. (¬2) أخرجه البخاري تعليقا في (8 / 51) كتاب استتابة المرتدين: باب قتل الخوارج والملحدين، ووصله الطبري في تفسيره بإسناد صحيح، وانظر أيضا فتح الباري (1 / 282) . (¬3) رواه الدارمي (1 / 44) رقم (100) المقدمة: باب اتباع السنة.

ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية حين يقول: (طريقة أهل البدع يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعهم) (¬1) اهـ. وقال ابن القيم في المدارج (¬2) (ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد) اهـ. وهذا النص كالشرح لقول الإمام الحسن البصري: (سننكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما، بين الغالي والجافي) (¬3) وهو نحو قول مطرف بن عبد الله: (خير الأمور أوسطها: الحسنة بين السيئتين، وشر الأمور الحقحقة) (¬4) . ومما أوردنا من النصوص عن هؤلاء الأئمة الأعلام ندرك أن هؤلاء المبتدعة من الخوارج ومن دار في فلكهم إنما وقعوا في براثن ¬

(¬1) الرد على البكري (2 / 255) ط المطبعة السلفية بمصر. (¬2) مدارج السالكين (2 / 496) ط دار الكتاب العربي. (¬3) رواه الدارمي (1 / 63) رقم (222) المقدمة: باب في كراهية أخذ الرأي. (¬4) المحجة في سير الدلجة ص (18) ط الثانية دار البشائر الإسلامية.

الزيغ والضلال بسبب ركونهم إلى ما أملته عليهم أفهامهم السقيمة، وأفكارهم الموبوءة. وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم وإنما العلم بالتعلم، ولو رجع هؤلاء إلى علماء الصحابة ومحدثيها أمثال ابن عمر وغيره لشفوا من هذا الداء العضال. ثم إن هذا الصنف المهيأ لانتحال الآراء المبتدعة، يتمسكون بالمتشابه من النصوص ويهملون عمدا المحكم القاضي على المتشابه، كما قال عز وجل في النصارى ومن سار على نهجهم. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وما أجمل كلام الشاطبي (¬1) في هذا الشأن فإنه قال: (وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونها مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتها على العامة، ويظنون أنهم على شيء، فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل) اهـ. ¬

(¬1) الموافقات (3 / 72) ط الثانية دار المعرفة للطباعة والنشر.

رحمك الله تعالى أيها الشاطبي، فما أشبه الليلة بالبارحة، فما حذرت منه في القديم قد وقع في شباكه لفيف من المتشددين المعاصرين، فأحدثوا فقها أملته عليهم الزنزانات وظلمات السجون، ورجحه عندهم أفكار قاصرة، وأفهام سقيمة، ولم يلقوا لفهم الأولين بالا، ولم يعيروه التفاتة واحدة، فاستقلوا فضلوا ورحم الله صاحب الخلاصة إذ يقول: وقد تزاد كان في حشو كما ... كان أصح علم من تقدما والحكم في الأمور العظام يتطلب مؤهلات علمية عالية، ولا توجد إلا في أفراد محصورين في كل عصر ومصر، ومن أهم ذلك معرفة المقاصد الشرعية التي لا يحيط بكنهها إلا الراسخون في العلم. يقول الشاطبي (¬1) (فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله) اهـ. وهذا باب واسع دقيق لا يخوض غماره إلا أكابر العلماء، وكثير ممن تردى في مهاوي الغلو أتي من جهله بالمقاصد الشرعية، فخبط خبط عشواء وكأنما ركب متن ناقة عمياء، فضل السبيل، ولم ¬

(¬1) الموافقات (4 / 106 -107) ط دار المعرفة.

من مظاهر الغلو في العصر الحاضر

يسعد بالدليل، وفتحوا على المسلمين بابا يلج منه أعداء الإسلام للمز الدين الحنيف، ووصفه بالإرهاب تارة، وباستهانته بالأرواح، وانتقاص حقوق الإنسان تارة أخرى، ولذلك نرى في هذه الأيام تكالب قوى الشر على المسلمين، وحقن عقول الشباب الإسلامي بهذه الشبه الباطلة، ويهدف أعداء الإسلام من هذا التشويه المتعمد، وطرح أفكار الشباب في أنياب التحيز والتشكيك إحداث ردة قوية في أمة الإسلام، وطمس محاسن هذا الدين، ومحاربة تعاليمه بواسطة ثلة من أبنائه من أهل العقوق وإنا لله وإنا إليه راجعون. [من مظاهر الغلو في العصر الحاضر] من مظاهر الغلو في العصر الحاضر - وهناك مظاهر أخرى للغلو في الدين في عصرنا الحاضر، كالقول بتكفير المجتمعات المسلمة المعاصرة، وموقف طائفة من هؤلاء الغلاة في المسلمين أي عدم الحكم بإسلامهم إلا بعد امتحانهم وتبين حالهم، ومن ذلك تشريع الاغتيالات للمسلمين أو معصومي الدماء كالمعاهدين ونحوهم والقيام بأعمال تخريبية، إلى غير ذلك من المبادئ المجافية لما عليه المسلمون من أهل السنة والجماعة (¬1) . وأما الغلو في مجتمعنا المعاصر، وما أبرزته آثاره على الساحة فهذا من الظهور بحيث لا يتطلب تبيانا. ¬

(¬1) من أراد الاستزادة والبسط في موضوع الغلو، وما يتصل به فعليه بمراجعة الكتب المؤلفة في الموضوع مثل كتاب مشكلة الغلو في الدين للشيخ عبد الرحمن اللويحق، وكتاب السامرائي (التكفير جذوره - أسبابه مبرراته) وكتاب البهنساوي الحكم وقضية تكفير المسلم وغير ذلك.

فقد صاحب هذه الطفرة الحضارية على الكرة الأرضية أحداث دامية مؤلمة في كثير من الأقطار والأمصار معظمها متمخض عن هذه الظاهرة، وكان أهم مظاهر الغلو المعاصر على النحو التالي: 1 - مظهر التكفير: وهي بلية ابتليت بها أمة الإسلام على أيدي أغمار شبان لم يتفيأوا بظلال العلم الشرعي، ولم يرتقوا في معارج المعارف، ولم يتأهلوا للحكم بالكفر على هؤلاء، أو بالإيمان لأولئك، فتناولوا حكاما يحكمون الشريعة الإسلامية - في الجملة - بالتكفير وإن كان هناك بعض القصور، لأنهم كما يزعمون حكموا بغير ما أنزل الله سبحانه، هكذا أخذوا الموضوع على إطلاقه عريا عن القيود والضوابط المرعية هنا ثم كفروا أتباعهم المحكومين لكونهم - كما يزعمون - راضين بهذه الأحكام الوضعية ثم امتد التكفير إلى كل من لم يكفر هاتين الطائفتين، ومضت سلسلة التكفير تنتظم المجتمعات الإسلامية على أيدي هؤلاء الأحداث، فلم يبق على وجه الأرض إلا أفراد مسلمون فقط كما يزعمون وأما ما سوى هؤلاء النخبة فهم غير معصومي الدماء، وليسوا من أهل القبلة وإن اتجهوا إليها في صلواتهم وحجهم. ولعل من أهم عوامل اختراع هذا الاتجاه امتلاء الساحة في عصرنا الحديث بالفرق والمذاهب والآراء التي تذكي نيران الفرقة،

وتوسع مدارك الخلاف، ويستهوي بعضها هؤلاء المفتونين، فيتمكن من قلبه ويتغلغل حتى يعود عقيدة راسخة، لأنه ليس عنده من الحصانة الثقافية الإسلامية ما تحجزه عن التهافت على الآراء المبتورة الممتزجة ببدع الأهواء، فهو على النحو الذي عناه الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا ذلك لأن الجاهل الذي لم تهذبه التعاليم الإسلامية، ولم ترسخ في ذهنه المقاصد الشرعية، ولم يحط علما بعلل الأحكام، لا يقدر على التمييز بين الآراء الصحيحة والسقيمة، ولا يفرق بين الغث والسمين، فيذهب في متاهة الغلو تارة، وفي مفاوز التفريط تارة أخرى، ويلتقط من الأفكار المجافية للأصول الإسلامية الصحيحة ما انشرح صدر هواه له، فتتلاعب به شياطين الإغواء والأهواء وهذه قاصمة الظهر. ب - ومن نتائج التكفير الجماعي استحلال القتل الجماعي للمسلمين وغيرهم فإن التكفير وإزهاق الأرواح متلازمان وهما توأم، ولذلك أثبتت حوادث مريعة في بلاد الإسلام أن هذا الصنف من المفتونين يتخذون من وسائل التدمير الجماعية مسلكا لتحقيق أهدافهم، وهم في ذلك لا يفرقون بين الصغير والكبير، ولا الشيخ والرضيع، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين المذنب والبريء، وهذا من الخطورة بمكان، وإذا كان الإسلام هو دين مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال والعادات كما هو معلوم،

لمحة عن علاج ظاهرة الغلو

فإنه ينهى المجاهدين عن قتل صغار الكفار ونسائهم ورهبانهم، فكيف يستحل هؤلاء من المسلمين ما لا يحل فعله مع الكفار المحاربين. ونتيجة لهذه الأفعال المشينة، والأخلاق المهينة التي لا يقرها الإسلام ولا يدعو إليها أتباعه فإن هؤلاء الذين يقومون بهذه الفظائع، ويرتكبون أفظع الجرائم باسم الإسلام وتوجيهاته صاروا أضر الخلق على الإسلام وأهله. [لمحة عن علاج ظاهرة الغلو] لمحة عن علاج ظاهرة الغلو 1 - الاعتصام بالكتاب والسنة، فهما المصدران النيران اللذان من اعتصم بهما هدي إلى النهج السوي، والطريق القويم كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] ولا يتم الهدي إلا بالعمل بهما معا، والأخذ بما جاء فيهما، لأن كل واحد منهما ملتحم بالآخر غير مستغن عنه، فالسنة النبوية مفسرة للقرآن، ومفصلة لما أجمله فيه وقد وكل الله تعالى بيان القرآن إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ولذلك لا تحقق النجاة في الدنيا والأخرى إلا لمن تمسك بهما معا، فقد قال صلى الله عليه وسلم «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ

شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ» . الحديث، وزاد الترمذي: «وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله» (¬1) وهو حديث صحيح مشهور أخرجه أصحاب السنن وغيرهم. قال الخطابي (¬2) فالرسول صلى الله عليه وسلم يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له في القرآن ذكر علي ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن، فتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلواا هـ. قال أيوب السختياني: (إذا حدثت الرجل بالسنة، فقال دعنا من هذا وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضال مضل) . (¬3) ولا مراء أن الانحرافات بأشكالها المتعددة إنما نبتت على ساحة الفكر الإسلامي كنتيجة حتمية للإعراض عن الكتاب والسنة، وترك الاستهداء بنورهما الوهاج فيكمن العلاج في الرجوع إليهما ¬

(¬1) رواه أبو داود: رقم (4604) في كتاب السنة: باب في لزوم السنة واللفظ له، والترمذي رقم (2663) كتاب العلم: باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه رقم (12، 13) المقدمة، وأحمد (4 / 131، 132) والحاكم وصححه (1 / 108 - 109) وغيرهم. (¬2) معالم السنن: (7 / 8) ط دار المعرفة للطباعة والنشر. (¬3) رواه الخطيب في الكفاية ص (16) ط دار الكتب الحديثة: القاهرة.

والاعتصام بهما، والأخذ بتوجيههما، ففيهما المنجاة من الغرق، والسلامة من مضلات الفرق. قال شيخ الإسلام (¬1) (وكان أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم) اهـ. ولذلك كان لحفظة القرآن من أبناء الأمة الإسلامية دور واضح في مقارعة الغلو، والقضاء عليه جملة وتفصيلا، وذلك من خلال عرض نصوص القرآن الداعية إلى السماحة واليسر، والسهولة والتخفيف، والإعلان برفع الحرج عن هذه الأمة التي خصها الله تعالى بخصائص رفعتها إلى أن تكون من أهل الشهادة على الأمم الأخرى. ويقول شيخ الإسلام - أيضا -: (جماع الفرقان بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي وطريق السعادة والنجاة وطريق الشقاوة والهلاك أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13 / 28) ط مكتبة المعارف بالرباط المغرب.

والإيمان فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو على حق وإن خالفه فهو باطل وإن لم يعلم هل وافقه أو خالفه لكون ذلك الكلام مجملا لا يعرف مراد صاحبه أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو تكذيبه فإنه يمسك فلا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه دليل، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم) (¬1) اهـ. وهذه قاعدة أصلية من طبقها حاز النصيب الأوفى من الفوز بالنجاة من مضلات الفتن، ولذا يقول أيضا في الموضوع نفسه: (وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله تعالى إلى صراطه المستقيم فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق) (¬2) اهـ. والله سبحانه وتعالى أسأل أن يهدي الأمة الإسلامية لأقوم طريق. 2 - والالتزام بمذهب السلف أهل السنة والجماعة، لأن السلف هم الذين يحققون الوسطية، ويطبقون منهج الشرع، وهم الذين يفهمون المقاصد الشرعية، والنصوص من المصدرين على الوجه الصحيح، وقد شهد لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخيرية كما في ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) درء التعارض (1 / 234) ط الأولى بتحقيق د / محمد رشاد سالم ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانُهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتُهُمْ» (¬1) . فالملتزم بمذهب السلف محقق لمعنى الوسطية، معتصم بالهدى، مقيم على أمر الله. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2) (أهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل - أي من جهة الوسطية - فهم في باب صفات الله سبحانه وتعالى وسط بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج) اهـ. وقفة قصيرة مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: كما أن أهل الإسلام وسط بين الملل والديانات فأهل السنة والجماعة هم وسط بين فرق الضلال والزيغ من هذه الأمة، وسط في ¬

(¬1) أخرجه البخاري (/ 189) كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وفي كتاب الرقاق (7 / 174) باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها. (¬2) مجموع الفتاوى (3 / 141) .

باب الصفات بين من ينفيها ويعطل الذات العلية عنها ويحرف ما ورد فيها من الآيات والأحاديث الصحيحة عن معانيها الصحيحة إلى معان باطلة من غير دليل، وهم وسط في باب الإيمان والأحكام بين الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر وهو في منزلة بين الإيمان والكفر، فغلوا في ذلك فجعلوا كل الكبائر والمعاصي كالزنى وشرب الخمر والسرقة. . إلخ جعلوا فاعل ذلك كله كافرا خارجا عن الملة مثل من عبد غير الله، هذا غلو واضح وإن صحب غلوهم هذا الزهد والعبادة ولكن ليس هذا على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم. والمرجئة الذين يقولون: إن العبد إذا قال لا إله إلا الله وشهد لله تعالى بالوحدانية وأقر للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة فإنه مؤمن كامل الإيمان وإن عمل ما عمل وأنكروا أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كلا الطرفين - الخوارج والمعتزلة من جانب والمرجئة من جانب خرجوا عن المنهج الصحيح والصراط المستقيم وعما جاء في الكتاب والسنة. والسلف أهل السنة وسط أيضا في باب القدر، فالقدرية نفوا القدر ولم يثبتوه وغلوا في تحميل العبد المسئولية عن فعل المعصية وقالوا: إن الله تعالى لم يقدر عليه المعاصي ولم يخلقها وجعلوا جميع أفعال العبد من غير قدر الله وتقديره ولم يكتبها وإنما العبد من عند نفسه استأنفها وهذا غلو، وبالغوا في إرادة العبد ونفي إرادة الله.

قابل القدرية الجبرية، وقالوا: لا حيلة للعبد ولا إرادة ولا اختيار، فغلوا في إثبات القدر وجعلوا الإنسان كالريشة في مهب الريح لا إرادة له ولا اختيار وكلا الطرفين في ضلال مبين وغلو واضح. وأهل السنة وسط حيث نهجوا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة فيما أثبته القرآن والسنة فأثبتوا أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لأفعال العباد كما هو الخالق لكل شيء: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30] {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] وفي فضائل الصحابة أهل السنة يجلون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوالونهم ويترضون عنهم ولا يكفرون أحدا منهم، فيثبتون ما أثبته الله من فضلهم في القرآن وأثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الذين يلعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل يكفرون بعضهم (¬1) . ولا مراء أن التزام المذهب السلفي هو علاج الانحراف، وفيه السلامة والنجاة من التردي في مهاوي الانحراف والابتداع، وفي هذا الالتزام القضاء على التأويلات المذمومة، واتباع المتشابه، والجدل ¬

(¬1) راجع إن شئت العقيدة الواسطية وشروحها.

المذموم، فكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف، ذلك لأن السلف أهل القرون الخيرة ومن سار على نهجهم هم أهل السنة والجماعة، سنة الخلفاء الراشدين المهديين. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (عليكم بتقوى الله وهذه الجماعة، فإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة أبدا، وعليكم بالصبر حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر) (¬1) . كما قال - أيضا -: (عليكم بالطريق فإن لزمتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن خالفتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا) (¬2) . وما أنفس قوله وأجمله رضي الله عنه: (عليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق) (¬3) . فقوله العتيق، أي: القديم الذي علم به الصحابة المهتدون ومن تبعهم بإحسان، وقال رضي الله عنه (ومن كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقهم علما، وأقلهم تكلفا، وأقومها هديا وأحسنها حالا، قوم ¬

(¬1) رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (1 / 313، 314) ط دار البيان. (¬2) المصدر السابق (1 / 332) . (¬3) رواه الدارمي (1 / 50) رقم (145) المقدمة: باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع، واللالكائي في شرح السنة (1 / 87) رقم (108) .

اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم) (¬1) وبعد / فإن هذه هي حصون العصمة من الزيغ والضلال، فمن سار على هذا النهج فقد تحصن بحصن منيع من مضلات الفتن، وكان بتوفيق الله تعالى من الفرقة الناجية التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الفرقة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر: في جامع بيان العلم وفضله (2 / 97) ط دار الكتب العلمية.

مراجع البحث

[مراجع البحث] مراجع البحث (1) أخلاق أهل القرآن للآجري - المتوفى سنة 360 هـ طبعة دار الكتب العلمية بيروت. (2) آفاق التربية وأفياء التعليم لعبد الله بن حمد الحقيل الطبعة الأولى. (3) أباطيل وأسمار لمحمود شاكر مطبعة المدني بمصر. (4) تفسير الآلوسي: روح المعاني ط دار الفكر. (5) القواعد الكبرى بتحقيق د. نزيه حماد ود. عثمان ضميرية ط دار القلم. (6) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - شيخ الإسلام ابن تيمية دار الكتاب العربي. (7) الترمذي الجامع دار الكتب العلمية. (8) درء التعارض ط الأولى بتحقيق د. محمد رشاد سالم، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. (9) الرد على البكري ط المطبعة السلفية بمصر. (10) المحجة في سير الدلجة ط الثانية دار البشائر الإسلامية. (11) المجموع للنووي ط مكتبة الرشاد. (12) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ط دار الكتب العلمية. (13) الكفاية للخطيب البغدادي ط دار الكتب الحديثة بالقاهرة. (14) الإبانة الكبرى - ابن بطة - ط دار البيان. (15) التربية والتعليم في المملكة بين السياسة النظرية والتطبيق للدكتور حمد بن إبراهيم السلوم. (16) سنن أبي داود ط دار الفكر.

(17) سنن ابن ماجه ط مطبعة عيسى الحلبي. (18) سنن الدارمي ط دار الكتب العلمية. (19) شرح صحيح مسلم للنووي ط دار إحياء التراث العربي بيروت. (20) شرح السنة اللالكائي دار طيبة للنشر. (21) صحيح الجامع الصغير ط المكتب الإسلامي. (22) صحيح البخاري. ط دار الكتب العلمية. (23) صحيح مسلم ط دار إحياء التراث العربي. (24) صحيح ابن خزيمة ط المكتب الإسلامي. (25) الكفاية للخطيب البغدادي ط دار الكتب الحديثة بالقاهرة. (26) لسان العرب لابن منظور ط دار الفكر. (27) مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية د. عثمان ضميرية. (28) موسوعة النحو والصرف والإعراب ط دار العلم للملايين. (29) مدارج السالكين ط دار الكتاب العربي بيروت. (30) معالم السنن ط دار المعرفة للطباعة والنشر. (31) فتح الباري ط. دار الفكر. (32) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ط المغرب. (33) فن الذكر والدعاء لمحمد الغزالي ط دار الاعتصام. (34) ندوة جمعيات تعليم القرآن الكريم ودورها في إكمال مسيرة المؤسسات التعليمية بالمملكة العربية السعودية والتي أقيمت على هامش حفل تكريم الحفاظ بجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الطائف 1424 هـ د. أحمد بن موسى السهلي.

§1/1