بحر الدموع

ابن الجوزي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا. أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغيّ، وفتح به أعينا عميا، وإذانا صما، وقلوبا غلفا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد بالله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه. أما بعد، فهذا كتاب من أجلّ كتب الوعظ يرقق القلوب المعرضة عن ذكر الله سبحانه وتعالى. فالتوبة والندم سبب كشف الغم، ودفع البلاء. فالسعيد من وعظ بحال أبيه آدم. فتاب واستغفر. والشقي من دعاه إبليس فأصر واستكبر. وقد قمنا بتخريج التراجم الواردة بالكتاب على المصادر والكتب المطبوعة منها. وخرجت الآيات القرآنية على المصحف الشريف، وبعض ما ورد من أحاديث على كتب الحديث. والله أدعو أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ترجمة المؤلف اسمه ونسبه: الشيخ الإمام العلامة جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي ابن محمد القرشي التيمي. ولادته ووفاته: ولد سنة تسع أو عشر وخمسمائة. ووفاته كانت سنة سبع وتسعين وخمسمائة. مصنفاته: صنف في فنون عديدة منها زاد المسير في علم التفسير وله في الحديث موضوعات ذكر فيها كل حديث موضوع والمنتظم في التاريخ وصفوة الصفوة ومناقب عمر ابن الخطاب وعمر بن عبد العزيز. وعظه: قال الذهبي: كان رأسا في التذكير بلا مدافعة. يقول النظم الرائق والنثر الفائق بديها. حامل لواء الوعظ والقيم بفنونه مع الشكل الحسن والصوت الطيب والوقع في النفوس وحسن السيرة وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة. فمن أحسن ما يحكى عنه أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما. فرضي الكل بما يجيب الشيخ أبو الفرج فأقاما شخصا سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال: أفضلهما كم كانت ابنته تحته. ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك. فقالت السنة: هو أبو بكر لأن ابنته عائشة رضي الله عنها تحت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت الشيعة: هو علي لأن فاطمة ابنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحته. وهذا من لطائف الأجوبة.

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الفقيه الإمام العابد أبو محمد عبد الرحمن بن علي الجوزي، رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنّه وكرمه: الحمد لله الذي اخترع الأشياء بلطيف قدرته، وبديع صنعته، فأحسن فيما اخترع، وأبدع الموجودات على غير مثال، فلا شريك له فيما ابتدع، ألف بين اللطيف والكثيف من أعداد آحاد الجوهر وجمع، ليقرّ له بالوحدانية، ويستدلّ على وجود الصانع بما صنع، فالعارفون واقفون تحت مطارف اللطائف بأقبية أبينة التوبة والورع، ليس لقلوبهم مجال في ميدان الكبرياء على أن حماه رحب متسع، فهم إن مالوا إلى نيل مطلوبهم، ردّهم قهر الهيبة إلى مفاوز الخوف والجزع، وان همّوا بالذهاب عن الباب، عاقهم قيود الغيب، فعز عليهم الرجوع وامتنع. فمنهم كاتم محبته ... قد كف شكوى لسانه وقطع ومنهم بائح يقول إذا ... لام عذول ذر الملام ودع أليس قلبي محل محنته ... وكيف يخفى ما فيه وهو قطع أين المحبون والمحب لهم ... وأين من شتت الهوى وجمع لهم عيون تبكي فوا عجبا ... لجفن صبّ إذا هما ودمع قد حرّموا النوم والمتيم لا ... هجوعا إذا الخلي هجع بالباب يبكون والبكاء إذا ... كان خليّا من النفاق نفع تشفع فيهم دموعهم وإذا ... شفع دمع المتيمين شفع فبينما هم حيارى بين الخوف والجزع، سكارى من شراب اليأس والطمع، إذ بزغ عليهم قمر السعادة من فلك الإرادة في جوانب قلوبهم ولمع، وأفيض عليهم من

ملا بس سنادس الاستيناس والبسط خلع، لكل خلعة علمان من الإيمان، ما زيّن بهما بشر، إلا ارتفع، رقم العلم الأيمن: {سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الأنبياء 101، ورقم العلم الأيسر: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ} الأنبياء 103، فسبحان من يتوب على الجاني، ويقبل العاصي إذا تاب إليه ورجع. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أقرّ له بالوحدانية، واعترف له بالربوبية والألوهية، ولعز جلاله وجماله قد خضع. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي سنّ السنن، وبيّن الفرائض، وشرع الأعياد والجمع، صلى اله عليه وعلى آله وأصحابه ما ركد الماء ونبع، وظهر في ميدان سطح السماء نجم وطلع، وسلم تسليما كثيرا. قال الله العظيم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} الذاريات 55، وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "قال الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه، وان ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن تقرّب إليّ شبرا تقرّبت منه ذراعا، وإن تقرّب إليّ ذراعا، تقرّبت منه باعا، وإن أتاني مشيا، أتيته هرولة" (¬1) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من عجز منكم عم الليل أن يكابده، وجبن عن العدو أن يقاتله، وبخل بالمال أن ينفقه، فليكثر ذكر الله تعالى" (¬2) . وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في مسجد المدينة، فقال: "إن لله تعالى سرايا من الملائكة تجول، وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فإذا رأيتم رياض الجنة، فارتعوا". قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: "مجالس الذكر، اغدوا وروحوا في ذكر الله تعالى، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله تعالى، فلينظر كيف منزلة ¬

_ (¬1) رواه مسلم حديث رقم 2675. (¬2) صحيح بشواهد منه من حديث ابن مسعود

الله عنده، فإن الله ينزل العبد حيث أنزله من نفسه" (¬1) . وقال عبد الله بن بسر: أتى رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام كثرت عليّ فأمرني بشيء أتشبث به، فقال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله تعالى" (¬2) . وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما من يوم إلا وبقاع الأرض تنادي بعضا بعضا: يا جارة، هل جاز عليك اليوم ذاكرا لله تعالى" (¬3) . إخواني، إذا صعدت الملائكة من مجالس الذكر، قال المولى جل علاه: يا ملائكتي، أين كنتم، وهو أعلم، فيقولون: يا ربنا، أنت أعلم، كنا عند عبادك يسبّحونك ويقدّسونك ويعظمونك ويمجّدونك ويسألونك ويستغفرونك ويستعيذونك، فيقول: يا ملائكتي، وما الذي طلبوا؟ ومما استعاذوا؟ فيقولون: يا ربنا أنت أعلم، طلبوا الجنة، واستعاذوا من النار، فيقول: يا ملائكتي، اشهدوا إني قد أعطيتهم ما طلبوا، وأمنتهم مما خافوا، وأدخلهم الجنة برحمتي (¬4) ". وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله تبارك وتعالى يقول: "عبدي اذكرني ساعة بالغداة وساعة بالعشيّ، أكفك ما بينهما". وفي بعض الكتب المنزلة أن الله تبارك وتعالى يقول: يا ابن آدم ما أجبرك! تسألني، فأمنعك لعلمي بما يصلحك، ثم تلح عليّ في المسألة، فأجود برحمتي وكرمي عليك، فأعطيك ما سألتني، فتستعين بما أعطيك على معصيتي، فأهمّ بهتك سترك، فكم من جميل أصنعه معك، ومن من قبيح تعمله معي. يوشك أن أغضب عليك غضبة لا أرضى بعدها أبدا. وفي بعض الكتب المنزلة أيضا: يقول الله تبارك وتعالى: عبدي، إلى كم تستمر ¬

_ (¬1) صححه الحاكم في المستدرك، وضعفه الذهبي في التلخيص. (¬2) رواه الترمذي 3375، وابن ماجه وصححه ابن حبان. (¬3) رواه ابن المبارك في الزهد. (¬4) مسلم 632.

على عصياني، وأنا غذيتك برزقي وإحساني، أما خلقتك بيدي؟ أما نفخت فيك من روحي؟ أما علمت فعلي بمن أطاعني، وأخذي لمن عصاني؟ أما تستحي تذكرني في الشدائد وفي الرخاء تنساني؟ عين بصيرتك أعماها الهوى. قل لي بماذا تراني، هذا حال من لم تؤثر فيه الموعظة، فإلى كم هذا التواني؟ إن تبت من ذنبك، آتيتك أماني. اترك دارا صفوها كدر، وآمالها أماني. بعت وصلي بالدون، وليس لي في الوجود ثاني. ما جوابك إذا شهدت عليك الجوارح بما تسمع وترى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} آل عمران 30. وأنشدوا: تعصي الإله وأنت تدعي حبه ... هذا محال في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع قال مالك بن دينار: دخلت على جار لي وهو في الغمرات يعاني عظيم السكرات، يغمى عليه مرة، ويفيق أخرى، وفي قلبه لهيب الزفرات، وكان منهمكا في دنياه، متخلفا عن طاعة مولاه، فقلت له: يا أخي، تب إلى الله، وارجع عن غيّك، عسى المولى أن يشفيك من ألمك، ويعافيك من مرضك وسقمك، ويتجاوز بكرمه عن ذنبك. فقال: هيهات هيهات! قد دنا ما هو آت، وأنا ميّت لا محالة، فيا أسفي على عمر أفنيته في البطالة. أردت أن أتوب مما جنيت، فسمعت هاتفا يهتف من زاوية البيت: عاهدناك مرارا فوجدناك غدارا. نعوذ بالله من سوء الخاتمة، ونستغفره من الذنوب المتقادمة. يا أخي أقبل على قبلة التوجه إلى مولاك، وأعرض عن مواصلة غيّك وهواك وواصل بقية العمر بوظائف الطاعات، واصبر على ترك عاجل الشهوات، فالفرار أيها المكلف كل الفرار من مواصلة الجرائم والأوزار، فالصبر على الطاعة في الدنيا أيسر من الصبر على النار. وأنشدوا:

أمولاي إني عبد ضعيف ... أتيتك أرغب بما لديك أتيتك أشكو مصاب الذنوب ... وهل يشتكى الضر إلا إليك فمنّ بعفوك يا سيّدي ... فليس اعتمادي إلا عليك قال بعض السادة الأخيار لولده لما حضرته الوفاة: يا بنيّ، اسمع وصيتي، واعمل ما أوصيك به. قال نعم يا أبت. قال يا بنيّ، اجعل في عنقي حبلا، وجرّني إلى محرابي، ومرّغ خدي على التراب، وقل: هذا جزاء من عصى مولاه، وآثر شهوته وهواه، ونام عن خدمة مولاه. قال: فلما فعل ذلك به، رفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي ومولاي، قد آن الرحيل إليك، وأزف القدوم عليك، ولا عذر لي بين يديك، غير أنك الغفور وأنا العاصي، وأنت الرحيم وأنا الجاني، وأنت السيد وأنا العبد، ارحم خضوعي وذلتي بين يديك، فانه لا حول ولا قوة إلا بك. قال: فخرجت روحه في الحال، فإذا بصوت ينادي من زاوية البيت سمعه كل من حضر وهو يقول: تذلل العبد لمولاه، واعتذر إليه مما جناه، فقرّبه وأدناه وجعل الجنة الخلد مأواه. الهي إن كنت الغريق وعاصيا ... فعفوك يا ذا الجود والسعة الرحب بشدّة فقري باضطراري بحاجتي ... إليك إلهي حين يشتد بي الكرب بما بي من ضعف وعجز وفاقة ... بما ضمّنت من وسع رحمتك الكتب صلاة وتسليم وروح ورواحة ... على الصادق المصدوق ما انفلق الحب أبي القاسم الماحي الأباطيل كلها ... وأصحابه الأخيار ساداتنا النجب إخواني، هذا القبول ينادي صبيان الهوى، الشاب التائب حبيب الله، ويصيح بكهول لخطا عسى الله أن يتوب عليهم، ويهتف بشيوخ الندم: انا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي. وفي الخبر: إذا تاب العبد إلى الله عز وجل، وحسنت توبته، وقام بالليل

يناجي ربه، أوقدت الملائكة سراجا من نور، وعلقته بين السماء والأرض، فتقول الملائكة: ما هذا؟ فيقال لهم: إن فلان بن فلان قد اصطلح الليلة مع مولاه. وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا قام العبد بالليل، تباشرت أعضاؤه، ونادى بعضها بعضا: قد قام صاحبنا لخدمة الله تعالى". وعن أحمد الحواري (¬1) ، قال: دخلت على أبي سليمان الداراني (¬2) ، فوجدته يبكي، فقلت له: وما يبكيك يا سيدي؟ قال لي: يا أحمد، إن أهل المحبة إذا جنهم الليل، افترشوا أقدامهم، فدموعهم تجري على خدودهم بين راكع وساجد، فإذا أشرف المولى جل جلاله عليهم، قال: يا جبريل، بعيني من تلذذ بكلامي، واستراح إلى مناجاتي، واني لمطلع عليهم، أسمع كلامهم، وأرى حنينهم، وبكاءهم، فنادهم يا جبريل، وقل لهم: ما هذا الجزع الذي أرى بكم؟ هل أخبركم مخبر أن حبيبا يعذب أحبابه بالنار؟ أم هل يحمل بي أن أبيّت قوما، وعند البيات أمرهم إلى النار؟ لا يليق هذا بعبد ذميم، فكيف بالملك الكريم؟! فبعزتي لأجعلن هديّتي إليهم أن أكشف لهم عن وجهي الكريم، فأنظر إليهم وينظرون إليّ. وعن أبي سليمان الداراني رضي الله عنه، قال: قرأت في بعض الكتب المنزلة: يقول الله تعالى: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وكابد المكابدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم وقد صاروا إلى جواري، وبحبحوا في رياض خلدي هنالك فليبشر المصغون بأعمالهم بالنظر العجيب إلى الحبيب القريب. أترون إني أضيع لهم ما عملوا؟ كيف وأنا أجود على المولين، وأقبل التوبة على الخاطئين وأنا بهم أرحم الراحمين؟!. ¬

_ (¬1) هو أبو الحسين أحمد بن أبي الحواري. من أهل دمشق. توفي سنة 230 هـ. من أعلام التصوف. (¬2) هو عبد الله بن عطية الداراني. منت قرية داران إحدى قرى دمشق. توفي سنة 215 هـ.

الفصل الأول

الفصل الأول يا أسير دنياه، يا عبد هواه، يا موطن الخطايا، ويا مستودع الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك: إليك عنا فما تحظى بنجوانا ... يا غادرا قد لها عنا وقد خانا أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا ... وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا بأي وجه نراك اليوم تقصدنا ... وطال ما كنت في الأيام تنسانا يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع ... إلا لمجتهد بالجدّ قد دانا يا من باع الباقي بالفاني، أما ظهر لك الخسران، ما أطيب أيام الوصال، وما أمرّ أيام الهجران، ما طاب عيش القوم حتى هجروا الأوطان، وسهروا الليالي بتلاوة القرآن فيبيتون لربهم سجدا وقياما. عن عبد العزيز بن سلمان العابد، قال: حدثني مطهر، وقد كان بكى شوقا إلى الله تعالى ستين عاما، قال: رأيت كأني على ضفة نهر يجري بالمسك الإذفر، وحافاته شجر اللؤلؤ، وطينة العنبر، وفيه قضبان الذهب، وإذا بجوار مترنمات يقلن بصوت واحد: سبحانه وتعالى سبحان، سبحان المسبّح بكل لسان سبحان الموجود في كل مكان نحن الخالدات فلا نموت أبدا. نحن الراضيات، فلا نغضب أبدا. نحن الناعمات، فلا نتغيّر أبدا. قال: فقلت لهن: من أنتن؟! فقلن: خلق من خلق الله تعالى. قلت: ما تصنعن هاهنا؟ فقلن بصوت واحد حسن مليح: ذرانا اله الناس رب محمد ... لقوم على الأطراف بالليل قوم

يناجون رب العالمين إلههم ... ونسرى هموم القوم والناس نوم فقلت: بخ بخ! من هؤلاء الذين أقر الله أعينهم؟ قلن: أما تعرفهم؟! قلت: لا والله ما أعرفهم. فقلن: هم المجتهدون بالليل، أصحاب السهر بالقرآن. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا أذنب العبد، وتاب إلى الله، وحسنت توبته، تقبل الله منه كل حسنة عملها، وغفر له كل ذنب اقترفه، ويرفع له بكل ذنب درجة في الجنة، ويعطيه الله بكل حسنة قصرا في الجنة، ويزوجه الله حورا من الحور العين". وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود، بشر المذنبين، وأنذر الصديقين، فتعجب داود عليه السلام، فقال: يا رب، فكيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟! قال الله تعالى: يا داود، بشر المذنبين ألا يتعاظمني ذنب أغفره، وأنذر الصديقين إلا يعجبوا بأعمالهم، فأني لا أضع حسابي على أحد إلا هلك. يا داود، إن كنت تزعم أنك تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك، فان حبي وحبها لا يجتمعان في قلب واحد. يا داود، من أحبني، يتهجد بين يدي إذا نام البطالون، ويذكرني في خلوته إذا لها عن ذكري الغافلون، ويشكر نعمتي عليه إذا غفل عني الساهون". وأنشدوا: طوبى لمن سهرت بالليل عيناه ... وبات في قلق من حب مولاه وقام يرعى نجوم الليل منفردا ... شوقا إليه وعين الله ترعاه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البرّ لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديّان لا يفنى. كن كيف شئت كما تدين تدان". ما هذا، أتدري ما صنعت؟ بعت القرب بالبعد، والعقل بالهوى والدين بالدنيا.

وأنشدوا: قم فارث نفسك وابكها ... ما دمت وابك على مهل فإذا اتقى الله الفتى ... فيما يريد فقد كمل وعن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما نزع الله عبدا من ذنب إلا هو ويريد أن يغفر له، وما استمال الله عبدا لعمل صالح، إلا وهو يريد أن يتقبله منه". وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التائبون إذا خرجوا من قبورهم، ارتفع من بين أيديهم ريح المسك، ويأتون على مائدة من الجنة يأكلون منها وهم في ظل العرش، وسائر الناس في سدّة الحساب". ويروى أن رجلا أتى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، بما أتقي النار؟ قال: "بدموع عينيك". قال: وكيف أتقيها بدموع عيني؟ قال: "أهمل دموعهما من خشية الله، فانه لا يعذب بالنار عينا بكت من خشيته" (¬1) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قطرة تخرج من عين المؤمن من خشية الله، خير له من الدنيا وما فيها، وخير له من عبادة سنة، وتفكّر ساعة في عظمة الله وقدرته خير من صيام ستين يوما وقيام ستين ليلة. إلا وان لله ملكا ينادي في كل يوم وليلة: أبناء الأربعين، زرع دنا حصاده، أبناء الخمسين، هلموا إلى الحساب، أبناء الستين، ماذا قدّمتم وماذا أخرتم، أبناء السبعين، ماذا تنتظرون. إلا ليت الخلق لم يخلقوا، فإذا خلقوا ليتهم علموا لما خلقوا له، فعملوا لذلك. إلا قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم" (¬2) . نزه مشيبك عن شيء يدنّسه ... إن البياض قليل الحمل للدنس ¬

_ (¬1) قال المصنف في العلل المتناهية هذا حديث لا يصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬2) قال الحافظ العراقي: إسناده ضعيف، رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس وإسناده ضعيف جدا.

يا عبد السوء، كم تعصي ونستر، كم تكسر باب نهي ونجبر، كم نستقطر من عينيك دموع الخشية ولا يقطر، كم نطلب وصلك بالطاعة، وأنت تفرّ وتهجر، كم لي عليك من النعم، وأنت بعد لا تشكر. خدعتك الدنيا وأعمال الهوى وأنت لا تسمع ولا تبصر. سخّرت لك الأكوان وأنت تطغى وتكفر، وتطلب الإقامة في الدنيا وهي فنظرة لمن يعبر. منعوك من شرب المودة والصفا ... لما رأوك على الخيانة والجفا إن أنت أرسلت العنان إليهم ... جادوا عليك تكرّما وتعطّفا حاشاهم أن يظلموك وإنما ... جعلوا ألوفا منهم لأرباب لوفا وروي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال: دخلت على بعض المجوس وهو يجود بنفسه عند الموت، وكان حسن الجوار، وكان حسن السيرة، حسن الأخلاق، فرجوت أن الله يوفقه عند الموت، ويميته على الإسلام، فقلت له: ما تجد، وكيف حالك؟ فقال: لي قلب عليل ولا صحة لي، وبدن سقيم، ولا قوة لي، وقبر موحش ولا أنيس لي، وسفر بعيد ولا زاد لي، وصراط دقيق ولا جواز لي، ونار حامية ولا بدن لي, وجنّة عالية ولا نصيب لي، ورب عادل ولا حجة لي. قل الحسن: فرجوت الله أن يوفقه، فأقبلت عليه، وقلت له: لم لا تسلم حتى تسلم؟ قال: إن المفتاح بيد الفتاح، والقفل هنا، وأشار إلى صدره وغشي عليه. قال الحسن: فقلت: إلهي وسيدي ومولاي، إن كان سبق لهذا المجوسي عندك حسنة فعجل بها إليه قبل فراق روحه من الدنيا، وانقطاع الأمل. فأفاق من غشيته، وفتح عينيه، ثم أقبل وقال: يا شيخ، إن الفتاح أرسل المفتاح. أمدد يمناك، فأنا أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم خرجت روحه وصار إلى رحمة الله.

وأنشدوا: يا ثقتي يا أملي ... أنت الرجا أنت الولي اختم بخير عملي ... وحقق التوبة لي قبل حلول أجلي ... وكن لي يا ربّ ولي إخواني، ما هذه السّنة وأنتم منتبهون؟ وما هذه الحيرة وأنتم تنظرون؟ وما هذه الغفلة وأنتم حاضرون؟ وما هذه السكرة وأنتم صاحون؟ وما هذا السكون وأنتم مطالبون؟ وما هذه الإقامة وأنتم راحلون؟ أما آن لهل الرّقدة أن يستيقظوا؟ أما حان لأبناء الغفلة أن يتعظوا؟. واعلم أن الناس كلهم في هذه الدنيا على سفر، فاعمل لنفسك ما يخلصها يوم البعث من سقر. آن الرحيل فكن على حذر ... ما قد ترى يغني عن الحذر لا تغترر باليوم أو بغد ... فلربّ مغرور على خطر قال الجنيد: كان سري السقطي رضي الله عنه متصل الشغل، وكان إذا فاته شيء من ورده لا يقدر أن يعيده. وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يكن له وقت ينام فيه، فكان ينعس وهو جالس، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إلا تنام؟ فقال: كيف أنام؟! إن نمت بالنهار، ضيّعت حقوق الناس، وان نمت بالليل ضيّعت حظي من الله. وسمع الجنيد رضي الله عنه ما يقول: ما رأيت أعبد لله تعالى من سريّ السّقطي، أتت عليه ثمان وسبعون سنة ما رؤي قط مضطجعا إلا في علته التي مات فيها. قال الجنيد رضي الله عنه: سمعت السريّ السقطي رضي الله عنه يقول: لولا الجمعة والجماعة ما خرجت من بيتي، وللزمت بيتي حتى أموت. قال أبو بكر الصيدلاني: سمعت سليمان بن عمار يقول: رأيت أبي

في المنام فقلت له: ما فعل بكربك؟ فقال: إن الرب قرّبني وأدناني، وقال لي: يا شيخ السوء أتدري لم غفرت لك؟ فقلت: لا يا الهي. قال: انك جلست للناس يوما مجلسا فأبكيتهم، فبكى فيهم عبد من عبيدي لم يبك من خشيتي قط، فغفرت له ووهبت أهل المجلس كلهم له، ووهبتك فيمن وهبت له. عن علي بن محمد بن إبراهيم الصفار، قال: حضرت أسود بن سالم ليلة وهو يقول هذين البيتين ويكررهما ويبكي: أمامي موقف قدّام ربي ... يسألني وينكشف الغطا وحسبي أن أمرّ على صراط ... كحد السيف أسفله لظى قال: ثم صرخ صرخة، ولم يزل مغمى عليه حتى أصبح رضي الله عنه. وكذلك يروى عن الضحّاك بن مزاحم أنه قال: خرجت ذات ليلة إلى مسجد الكوفة، فلما قربت من المسجد، فإذا في بعض رحابه شاب قد خرّ ساجدا وهو يخور بالبكاء، فلم أشك أنه ولي من أولياء الله تعالى؟، فقربت منه لأسمع ما يقول فسمعته يقول أبياتا: عليك يا ذا الجلال معتمدي ... طوبى لمن كنت أنت مولاه طوبى لمن بات خائفا وجلا ... يشكو إلى ذي الجلال بلواه وما به علة ولا سقم ... أكثر من حبّه لمولاه إذا خلا في ظلام الليل مبتهلا ... أجابه الله ثم لبّاه ومن ينل ذا من الإله فقد ... فاز بقرب تقرّ عيناه فبقي يكرر هذه الأبيات ويبكي، وأنا أبكي رحمة لبكاءه، فبينما أنا كذلك، لاح لي ضوء كالبرق الخاطف، فأسرعت بيدي إلى عيني، فسمعت، فإذا بمناد ينادي من فوق رأسه بصوت عذب لذيذ لا يشبه كلام بني آدم، وهو يقول: لبيّك عبدي وأنت في كنفي ... وكل ما قلت قد قبلناه صوتك تشتاقه ملائكتي ... وحسبك الصوت قد سمعناه

إن هبت الريح من جوانبه ... خرّ صريعا لما تغشاه ذاك عبدي يجول في حجبي ... وذنبك اليوم قد غفرناه فقلت: مناجاة الحبيب مع حبيبه وربّ الكعبة، فخريّت مغشيا على وجهي لما أدركني من الهيبة، ثم أفقت من غشيتي وأنا أسمع ضجيج الملائكة في الهواء، وخفقان أجنحتهم بين السماء والأرض، خيّل إليّ أن السماء قد قربت من الأرض، ورأيت النور قد غلب على ضوء القمر، وكانت ليلة مقمرة ساطعة النور، فدنوت منه وسلمت عليه، فردّ عليّ السلام، فقلت له: بارك الله فيك، من أنت يرحمك الله؟ فقال لي: أنا راشد بن سليمان، فعرفته لما كنت أسمع عنه. فقلت له: رحمك الله، لو أذنت لي في صحبتك لآنس بك، فقال لي: هيهات هيهات، وهل يأنس بالمخلوقين من تلذذ بمناجاة رب العالمين، فانصرف عني وتركني رضي الله عنه.

الفصل الثاني

الفصل الثاني إخواني، إلى كم تماطلون بالعمل، وتطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتب مدّخر ليوم الحساب. وأنشدوا: ولو أننا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حيّ ولكنّا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعدها عن كل شيء يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يغرّنّكم قول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} الأنعام 160، فان السيئة وان كانت واحدة، فإنها تتبعها عشر خصال مذمومة: أولها: إذا أذنب العبد ذنبا، فقد أسخط الله وهو قادر عليه. والثانية: أنه فرّح إبليس لعنه الله. والثالثة: أنه تباعد من الجنة. والرابعة: أنه تقرّب من النار. والخامسة: أنه قد آذى أحب الأشياء إليه، وهي نفسه. والسادسة: أنه نجس نفسه وقد كان طاهراً. والسابعة: أنه قد آذى الحفظة. والثامنة: أنه قد احزن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبره. والتاسعة: أنه أشهد على نفسه السموات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان. والعاشرة: أنه خان جميع الآدميين، وعصى رب العالمين.

ويروى عن ذي النون المصري (¬1) رحمه الله تعالى أنه قال: خرجت أريد الحجاز ولم أصحب أحدا من الناس، فبينما أنا سائر، إذ وقعت في أرض صحراء، وقد نفذ زادي، فأشرفت على الهلاك، إذ لاحت لي شجرة في وسط الصحراء دانية الفروع، متدلية الأغصان، كثيرة الأوراق، فقلت في نفسي: أسير نحو هذه الشجرة، فأكون في ظلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. فلما وصلت إلى الشجرة، ودنوت منها، وأردت الدخول في ظلها، فأخذ غصن من أغصانها بركوتي، فانهرق الماء الذي كان بقي لي فيها أحيي به رمقي، فأيقنت بالهلاك، وطرحت نفسي في ظل الشجرة، وبقيت أنتظر ملك الموت ليقبض روحي، فإذا أنا بصوت حزين وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي، إن كان هذا رضاك مني، فزد حتى ترضى عني يا أرحم الراحمين. فقمت وجعلت أمشي نحو الصوت، فإذا أنا بشخص حسن الصورة، وهو ملقى على الرمل، والنسور قد أحدقت به تنهش من لحمه، فسلمت عليه فردّ السلام، وقال لي: يا ذا النون، لما نفذ الزاد، وانهرق الماء، أيقنت بالموت والفناء، فجلست عند رأسه، وجعلت أبكي رحمة لبكائه، وشفقة لما رأيت منه. فبينما أنا كذلك، إذ أنا بقصعة من الطعام وضعت بين يدي، فوكز الأرض بعرقوبه، فإذا بعين من الماء قد تفجرت، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فقال لي: يا ذا النون، كل واشرب، لا بد لك من الوصول إلى بيت الله الحرام، ولكن يا ذا النون لي إليك حاجة، فان قضيتها فلك الأجر والثواب، فقلت: وما هي؟ قال: إذا أنا مت، فاغسلني وادفني، واسترني من الوحش والطير، وسر فإذا قضيت الحج، فانك تصل إلى مدينة بغداد، وتدخل من باب الزعفران، فانك تجد هنالك الصبيان يلعبون، وعليهم ألوان الثياب، فتجد هنالك شابا، صغير ¬

_ (¬1) هو أبو الفبض ذو النون ثوبان بن إبراهيم. أوحد زمانه ورعا وأدبا، توفي سنة 245 هـ.

السن، ليس يشغله شيء عن ذكر الله تعالى، قد تحزّم بخرقة، وجعل على كتفيه أخرى، في وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، فإذا وجدته فذلك ولدي وقرّة عيني، فأقرئه مني السلام. قال ذا النون: فلما فرغ من كلامه، سمعته يقول: أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وشهق شهقة فارق الدنيا رحمة الله عليه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وكان معي قميص في وعائي لا أفارقه فغسلته من ذلك الماء، وكفنته ورايته التراب، وسرت إلى بيت الله الحرام وقضيت مناسك الحج، وخرجت إلى زيارة قبر رسول الله، فلما قضيت الزيارة، وسرت إلى مدينة بغداد، فدخلتها في يوم عيد، فإذا أنا بالصبيان يلعبون وعليهم ألوان الثياب، فنظرت فرأيت الصبي الموصوف جالسا لا يشغله الموهوب عن علام الغيوب، وقد ظهرت على وجهه الأحزان، وفي وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، وهو يقول: الناس كلهم للعيد قد فرحوا ... وقد فرحت أنا بالواحد الصمد الناس كلهم للعيد قد صبغوا ... وقد صبغت ثياب الذل والكمد الناس كلهم للعيد قد غسلوا ... وقد غسلت أنا بالدمع للكبد قال ذو النون: فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال: مرحبا برسول أتى من أبي، فقلت له: من أخبرك باني رسول أتيتك من أبيك؟ قال: الذي أخبرني أنك دفنته بالصحراء. يا ذا النون، أتزعم أنك دفنت أبي بالصحراء؟ والله إن أبي رفع إلى سدرة المنتهى، ولكن سر معي إلى جدتي. فأخذ بيدي وسار معي إلى منزله، فلما وصل إلى الباب نقر نقرا خفيفا، فإذا بالعجوز قد خرجت إلينا، فلما رأتني، قالت مرحبا بمن تمتع بالنظر في وجه حبيبي وقرّة عيني. قلت لها: من أخبرك بأنك رأيته؟ قالت: الذي أخبرني بأنك كفنته وأنّ الكفن مردود عليك. يا ذا النون، فوعزة ربي وجلاله، إن خرقة ابني يباهي الله بها

الملائكة في الملأ الأعلى. ثم قالت: يا ذا النون، صف لي كيف تركت ابني وقرة عيني وثمرة فؤادي؟ قلت لها: تركته في الفيافي والقفار بين الرمال والأحجار، وقد حضي بما أمل من العزيز الغفار. فلما سمعت العجوز ذلك، ضمّت الصبي إلى صدرها، وغابت عني، وحجبت عن نظري، فلا ادري: أفي السماء صعد بهما، أو في جوف الأرض هبط بهما، فصرت أطلبهما في أركان الدار، فما وجدتهما، فسمعت هاتفا يقول: يا ذا النون لا تتعب نفسك، فلقد طلبتهم الأملاك، فلم يجدوهم. فقلت: أين صاروا، فقال لي: إن الشهداء يموتون بسيوف المشركين، وهؤلاء المحبون يموتون بالشوق إلى رب العالمين، فيحملون في مركب من نور في مقعد صدق عند مليك مقتدر. قال ذا النون: فتفقدت الجراب، فوجدت الكفن الذي كفنته فيه مطويّا كما كان أولا، رضي الله عنه ونفعنا ببركاتهم.

الفصل الثالث

الفصل الثالث أيها المقيم على الخطايا والعصيان، التارك لما أمرك الرحمن، المطيع للغويّ الفتان، إلى متى أنت على جرمك مصرّ، ومما يقرّبك إلى مولاك تفرّ؟ تطلب من الدنيا ما لا تدركه، وتتقي من الآخرة ما لا تملكه، لا أنت بما قسم الله من الرزق واثق، ولا أنت بما أمرك به لاحق. يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك. لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيا موجودا، كأنك لا تعود نسيا مفقودا. فاز، والله، لمخفون من الأوزار، وسلم المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار. وأنشدوا: عيل صبري وحق لي أن أنوحا ... لم تدع لي الذنوب قلبا صحيحا أخلقت مهجتي أكف المعاصي ... ونعاني المشيب نعيا صريحا كلما قلت قد بري جرح قلبي ... عاد قلبي من الذنوب جريحا إنما الفوز والنعيم لعبد ... جاء في الحشر آمنا مستريحا إخواني، ارفضوا هذه الدنيا كما رفضها الصالحون، وأعدّوا الزاد لنقلة لا بدّ لها أن تكون، واعتبروا بما تدور به عليكم الأيام والسنون. يا من غدا في الغيّ والتيه ... وغرّه طول تماديه أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غبّ معاصيه قال الجنيد رضي الله عنه: مرض السّريّ السّقطي رضي الله عنه فدخلت عليه أعوده، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال:

كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ... والذي قد أصابني من طبيبي فأخذت المروحة لأروّح عليه، فقال: كيف يجد ريح المروحة من جوفه يحترق من داخل، ثم أنشأ يقول: القلب محترق والدمع مستبق ... والكرب مجتمع والصبر مفترق كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الهوى والشوق والقلق يا ربّ إن كان شيء فيه لي فرج ... فامنن عليّ به ما دام بي رمق ويروى عن علي بن الموفق رضي الله عنه أنه قال: خرجت يوما لأؤذن، فأصبت قرطاسا، فأخذته ووضعته في كمي، وأقمت الصلاة وصليت، فلما صليت قرأته، فإذا مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. يا علي بن الموفق، أتخاف الفقر وأنا ربك؟. ويروى عن المزني، قال: دخلت على الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات منها، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولكأس المنيّة شاربا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله واردا، فلا أدري: أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم بكى وأنشأ يقول: ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت اعفو من الذنب ولم تزل ... تجود وتعفو منّة وتكرّما فلولاك لم ينجو من إبليس عابد ... وكيف وقد أغوى صفيّك آدما (¬1) إخواني: بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظلم الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوس خائفة، وقلوب واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يرى ولا يرى: وأنشدوا: ¬

_ (¬1) انظر ديوان الشافعي.

ألا قف ببابي عند قرع النوائب وثق ... بي تجدني خير خلّ وصاحب ولا تلتفت غيري فتصبح نادما ... ومن يلتفت غيري يعش خائب كان أبو محفوظ معروف الكرخي قد خصّه الله بالاجتباء في حال الصبا، يذكر أن أخاه عيسى قال: كنت أنا وأخي معروف في المكتب، وكنا نصارى، وكان المعلم يعلم الصبيان: "أب" و"ابن" فيصيح أخي معروف: "أحد أحد" فيضربه المعلم على ذلك ضربا شديدا، حتى ضربه يوما ضربا عظيما، فهرب على وجهه. وكانت أمه تبكي وتقول: لئن ردّ الله عليّ معروفا، لأتبعنّه على أي دين كان، فقدم عليها معروف بعد سنين كثيرة، فقالت له: يا بنيّ، على أي دين أنت؟ قال: على دين الإسلام، فقالت: أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فأسلمت أمي وأسلمنا كلنا. وقال أحمد بن الفتح: رأيت بشر بن الحارث في منامي وهو قاعد في بستان بين يديه مائدة وهو يأكل منها، فقلت: يا أبا نصر, ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي، وأباح لي الجنة بأسرها، وقال لي: كل من جميع ثمارها، واشرب من أنهارها، وتمتع بجميع ما فيها، كما كنت تحرم نفسك عن الشهوات في دار الدنيا. فقلت له: فأين أخوك أحمد بن حنبل؟ فقال: هو قائم على باب الجنة يشفع لأهل السنة ممن يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. فقلت له: وما فعل الله بمعروف الكرخي؟ فحرّك رأسه، وقال هيهات هيهات! حالت بيننا وبينه الحجب. إن معروفا لم يعبد الله شوقا إلى جنّته، ولا خوفا من ناره، وإنما عبده شوقا إليه، فرفعه إلى الرفيق الأعلى، ورفع الحجاب بينه وبينه. ذلك الترياق المقدس المجرّب، فمن كانت له إلى الله حاجة، فليأت قبره، وليدع، فانه يستجاب له إن شاء الله تعالى (¬1) . ¬

_ (¬1) التبرك بقبور الأولياء هو من الشرك، والتوسل المشروع التوسل بأسماء الله وصفاته ودعاء الرجل الصالح.

الفصل الرابع

الفصل الرابع يا إخوان الغفلة تيقظوا، يا مقيمين على الذنوب انتهوا واتعظوا، فبالله أخبروني: من أسوأ حالا ممن استعبده هواه، أم من أخسر صفقة ممن باع آخرته بدنياه، فما للغفلة قد شملت قلوبكم؟ وما للجهالة قد ترت عنكم عيوبكم؟ أما ترون صوارم الموت بينكم لامعة، وقوارعه بكم واقعة، وطلائعه عليكم طالعة، وفجائعه لعذركم قاطعة، وسهامه فيكم نافذة، وأحكامة بنواصيكم آخذة؟ فحتى م؟ والى م؟ وعلام التخلف والمقام؟ أتطمعون في بقاء الأبد؟ كلا والواحد والصمد. إن الموت لبالرّصد، ولا يبقي على والد ولا ولد، فجدّوا، رحمكم الله، في خدمة مولاكم، وأقلعوا عن الذنوب، فلعله يتولاكم. يروى عن محمد بن قدامة، قال: لقي بشر بن الحارث رجلا سكران، فجعل السكران يقبله، ويقول: يا سيدي أبا نصر، ولا يدفعه بشر عن نفسه، فلما تولى تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال: رجل أحبّ رجلا على خير توهّمه فيه، ولعل المحبّ قد نجا والمحبوب لا يدري ما حاله. فوقف على أصحاب الفاكهة، فجعل ينظر، فقلت: يا أبا نصر، لعلك تشتهي من هذا شيئا؟ قال: ل، ولكن نظرت في هذا؛ إذا كان يطعم هذا لمن يعصيه، فكيف من يطيعه ماذا يطعمه في الجنة ويسقيه؟!. إخواني: ما للغافل إلى كم ينام؟ أما توقظ الليالي والأيام؟ أين سكان القصور والخيام؟ دار، والله، عليهم كأس الحمام، فالتقطهم الموت كما يلتقط الحبّ الحمام. ما لمخلوق فيها دوام، طويت الصحف وجفت الأقلام. وأنشدوا: دعوني على نفسي أنوح وأندب ... بدمع غزير واكف يتصبب

دعوني على نفسي أنوح لأنني ... أخاف على نفسي الضعيفة تعطب فمن لي إذا نادى المنادي بمن عصا ... إلى أين ألجأ أم إلى أين أذهب فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي ... إذا كنت في نار الجحيم أعذب وقد ظهرت تلك القبائح كلها ... وقد قرّب الميزان والنار تلهب ولكنني أرجو الإله لعله ... بحسن رجائي فيه لي يتوهب ويدخلني دار الجنان بفضله ... فلا عمل أرجو به أتقرّب سوى حب طه الهاشمي محمد ... وأصحابه والآل من قد ترهبوا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يؤتى برجل يوم القيامة قد جمع المال من حلال وأنفقه في الحلال، فيقال له: قف للحساب، فيحاسب على كل حبة وذرة ودانق: من أين أخذه وفيما أنفقه" ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا ابن آدم، ما تصنع بالدنيا؟ حلالها حساب، وحرامها عقاب". وأنشدوا: فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا ... فإن صلاحها عين الفساد ولا تفرح لمال تقتنيه ... فإنك فيه معكوس المراد قال بعض العارفين رضي الله عنه: إن أبا يزيد البسطامي بكى عند موته، ثم ضحك، ثم فارق الدنيا، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: لم بكيت قبل الموت ثم ضحكت؟ فقال: لما كنت في النزع، أتاني إبليس لعنة الله عليه، وقال لي: يا أبا يزيد، أفلتّ من شبكتي، فبكيت حينئذ إلى الله تعالى، فنزل عليّ ملك من السماء، وقال لي: يا أبا يزيد، يقول لك رب العزة: لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة، فضحكت عند ذلك، وفارقت الدنيا. وأنشدوا: وقفت وأجفاني تفيض دموعها ... وقلبي من خوف القطيعة هائم وكل مسيء أوبقته ذنوبه ... ذليل حزين مطرق الطرف نادم

فيا رب ذنبي تعاظم قدره ... وأنت بما أشكو يا رب عالم وأنت رؤوف بالعباد مهيمن ... حليم كريم واسع العفو راحم يا أخي كم من يوم قطعته بالتسويف؟ وكم من سبب أضعت فيه التكليف، وكم أذن سمّاعة لا يزجرها التخويف؟. ولما حضرت جابر بن زيد الوفاة قيل: ما تشتهي؟ قال: نظرة في وجه الحسن فبلغ ذلك الحسن، فجاء ودخل عليه، وقال له: يا جابر كيف تجدك؟ قال: أجد أمر الله غير مردود. يا أبا سعيد، حدثني حديثا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الحسن: يا جابر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المؤمن من الله على سبيل خير، إن تاب قبله، وان استقال أقاله، وان اعتذر إليه قبل اعتذاره، وعلامة قبل ذلك خروج روحه يجد بردا على قلبه". فقال جابر: الله أكبر! إني لأجد بردا على قلبي. ثم فال: اللهم إن نفسي تطمع في ثوابك، فحقق ظني، وآمن خوفي وجزعي، ثم تشهّد ومات رضي الله عنه. وكان سبب توبة داود الطائي (¬1) أنه دخل المقبرة، فسمع امرأة عند قبر تبكي وتقول: تزيد بلى في كل يوم وليلة ... وتسأل لما تبلى وأنت حبيب مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاؤك لا يرجى وأنت قريب ¬

_ (¬1) هو أبو سليمان داود بن نصير الطائي. أحد الزهاد. توفي سنة 165هـ وكان سبب زهد داود الطائي أنه كان يمر ببغداد، فمر يوما فنحاه الناس عن الطريق بين يدي حميد الطوسي، فالتفت داود فرأى حميد فقال داود: أف لدنيا سبقك بها حميد، ولزم البيت وأخذ في الجهد والعبادة.

الفصل الخامس

الفصل الخامس إخواني: قيّدوا هذه النفوس بزمام، وازجروا، هذه القلوب عن الآثام، واقرؤوا صحف العبر بألسنة الأفهام. يا من أجله خلفه وأمله قدّام، يا مقتحما على الجرائم أيّ اقتحام، انتبهوا يا نوّام، كم ضيّعتم من أعوام، الدنيا كلها منام، وأحلى ما فيها أضغاث أحلام، غير أن عقل الشيخ فيها الغلام، فكل من قهر نفسه فهو الهمام. هذه الغفلة قد تناهت، والمصائب قد تدانت، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، والسلام. مرّ عيسى عليه السلام على قرية، فوجد كل من فيها أمواتا، وهم مطروحون على وجوههم في الأزقّة، فتعجّب عيسى عليه السلام من ذلك، وقال: يا معشر الحواريين، إن هؤلاء القوم قد ماتوا على سخط وغضب، ولو ماتوا على رضا من الله، لدفن بعضهم بعضا. فقالوا: يا روح الله، وددنا أن نعرف قضيّتهم وخبرهم. قال: فسأل الله عز وجل في ذلك، فأوحى الله إليه: إذا كان الليل نادهم، فإنهم يجيبونك. فلما كان من الليل، صعد عيسى على شرف ونادى: يا أهل القرية، فأجابه مجيب من بينهم: لبيّك يا روح الله، فقال: ما قضيتكم, وما خبلاكم؟ فقال: يا روح الله، بتنا في عافية، وأصبحنا في هاوية. قال: ولم ذلك؟ قال: لحبنا في الدنيا، وطاعة لأهل المعاصي، ولم نأمر بالمعروف، ولم ننه عن المنكر. فقال له عيسى عليه السلام: كيف كان حبكم للدنيا؟ قال: كحبّ الصبي لأمه؛ إذا أقبلت فرحنا، وإذا أدبرت جزنّا وبكينا. فقال له عيسى عليه السلام: يا هذا: ما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: إنهم ملجمون بلجام من النار بأيدي ملائكة غلاظ شداد. قال: وكيف أجبتني أنت من بينهم؟ قال: إني كنت فيهم، ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب

لحقني معهم، فأنا الآن معلّق على شفير جهنّم، لا أدري: أنجو منها، أم أكبّ فيها. أعاذنا الله هنا. يا من يسير بعمره وقد تعدّى الحدود، ابك على معصيتك فلعلك مطرود. يا من عمره ينتهب وليس الماضي يعود، قد أسمعتك المواعظ من إرشادها نصحا، وأخبرك الشيب أنك بالموت تقصد وتنحّا، وناداك لسان الاعتبار: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً} الانشقاق 6. وأنشدوا: لما نقضى زمن التواصل والرضا ... قد صرت تطلب ردّ أمر قد مضى هلا أتيت ووقت وصلك ممكن ... وبياض شيبك في العوارض ما أضا يا أخي: هذا أوان الرجوع والاستغفار والإقلاع عن الذنوب والأوزار. من بلغ أربعين سنة ولم يغلب خيره على شره، فليتجهز إلى النار (¬1) . وأنشدوا: أتيتك راجيا يا ذا الجلال ... ففرّج ما ترى من سوء حالي عصيتك سيّدي ويلي بجهلي ... وعيب الذنب لم يخطر ببالي إلى من يشتكي المملوك إلا ... إلى مولاه يا مولى الموالي فويلي لم أمي لم تلدني ... ولا أعصيك في ظلم الليالي وها أنا ذا عبيدك عبد سوء ... ببابك واقف يا ذا الجلال فان عاقبت يا ربي فاني ... محق بالعذاب وبالنكال وان تعفو فعفوك أرتجيه ... ويحسن إن عفوت قبيح حالي يقول الله عز وجل: يا عبادي، أما علمتم إني جعلت الدنيا دار تكليف وامتحان، وأني لا أخص بمنازل الفضل والإحسان إلا من تاب إليّ فيها عن مواطن الزلات والعصيان، فما لكم ما أتيتم لبابي، ولا رغبتم في جزيل فضلي ¬

_ (¬1) رواه المصنف في الموضوعات، وقال: هذا حديث لا يصح.

وثوابي، ولا خفتم من أخذي وعقابي؟. فيا من جلّت غفلته، وطالت سكرته، تأمّل عطف الموالي عليك، وإحسانه إليك. فبالله عليكم، حطّوا بالتوبة عن ظهوركم، واغسلوا وجوهكم بقطرات الدموع، واشتملوا بأردية التذلل والخضوع. وأنشدوا: ركبت مآثمي فلقيت ذلا ... وسالت عبرتي طلا ووبلا وصرت أعاتب القلب المبلا ... إلى من يشتكي المملوك إلا إلى مولاه يا مولى الموالي ... فلطفك بي إله العرش أولى **

الفصل السادس

الفصل السادس إخواني: انتبهوا من غفلتكم، فنوم الغفلة ثقيل، وشمّروا لآخرتكم، فإنما الدنيا منزل، وفي طريقها مقيل. جاء في بعض الأخبار، أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام: يا نبيي، شتان بين من عصاني وخالف أمري، وبين من قطع عمره في معاملتي وذكري ولزوم الوقوف ببابي، ومرّغ خده على أعتابي، فيا خجلة الخاطئين، ويا ندامة البطالين. وأنشدوا: اخلوا بنفسك إن أردت تقرّبا ... ودع الأنام بمعزل يا عاني واعمل على قطع العلائق جملة ... في العيش في خرق الحجاب الفاني وفي الخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم لأصحابه: "يا أصحابي، أتدرون من المفلس؟ " قالوا: يا رسول الله، المفلس عندنا من ليس له دينار ولا درهم. فقال لهم: "ليس هو ذلك، إنما المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وصدقة، ثم يأتي وقد شتم هذا، ولطم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا كذلك، حتى تفنى حسناته قبل أن يؤدي ما عليه، فتؤخذ خطاياهم، فتحمل على خطاياه، ويقذف به في النار، فهذا هو المفلس". نعوذ بالله من الحرمان. قال بعض الصالحين رضي الله عنهم: أتيت إبراهيم بن أدهم لأزوره، فطلبته في المسجد، فلم أجده، فقيل لي: انه خرج الآن من المسجد، فخرجت في طلبه، فوجدته في بطن واد نائما في زمان الحر، وحيّة عظيمة عند رأسه، وفي فم الحيّة غصن من الياسمين، وهي تشرّد عنه الذباب، فبقيت متعجبا من ذلك، وإذا بالحية

قد أنطقها الله الذي أنطق كل شيء، فقالت لي: مم تتعجب أيها الرجل؟ فقلت لها، من فعلك هذا, وأكثر تعجبي من كلامك وأنت عدوة لبني آدم. فقالت لي: والله العظيم، ما جعلنا الله أعداء إلا للعاصين، وأما أهل طاعته، فنحن لهم منقادون. وأنشدوا: فعالي قبيح وظني حسن ... وربي غفور كثير المنن تبارز مولاك يا من عصى ... وتخشى من الجار لما فطن ركبت المعاصي وشيبي معي ... فوالله يا نفس ماذا حسن فقومي الدياجي له وارغبي ... وقولي له يا عظيم المنن وقولي له يا عظيم الرجا ... إذا أنت لم تعف عني فمن بحقّ النبي هو المصطفى ... بحق الحسين بحق الحسن أيدفع مثلي إلى مالك ... وتعلم إني ضعيف البدن جلس الحسن البصري ذات يوم يعظ الناس، فجعلوا يزدحمون عليه ليقربوا منه، فأقبل عليهم، وقال: يا إخوتاه، تزدحمون عليّ لتقربوا مني؟ فكيف بكم غدا في القيامة إذا قرّبت مجالس المتقين، وأبعدت مجالس الظالمين، وقيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا؟ فيا ليت شعري: أمع المثقلين أحط، أم مع المخفين أجوز؟ ثم بكى حتى غشي عليه، وبكى من حوله، فأقبل عليهم وناداهم، يا إخوتاه، ألا تبكون خوفا من النار؟ ألا من بكى خوفا من النار نجاه الله منها يوم يجرّ الخلائق بالسلاسل والأغلال. يا إخوتاه، ألا تبكون شوقا إلى الله. ألا وإن من بكى شوقا إلى الله، لم يحرم من النظر غدا إلى الله إذا تجلى بالرحمة، واطّلع بالمغفرة، واشتدّ غضبه على العاصين. يا إخوتاه، إلا تبكون من عطش يوم القيامة؟ يوم يحشر الخلائق وقد ذبلت شفاههم، ولم يجدوا ماء إلا حوض المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيشرب قوم، ويمنع آخرون. ألا

وإنّ من بكى من خوف عطش ذلك اليوم سقاه الله من عيون الفردوس. قال: ثم نادى الحسن رضي الله عنه: واذلاه إذا لم يرو عطشي يوم القيامة من حوض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم بكى وجعل يقول: والله لقد مررت ذات يوم بامرأة من المتعبدات، وهي تقول: الهي، قد سئمت الحياة شوقا ورجاء فيك. فقلت لها: يا هذه، أتراك على يقين من عملك؟ فقالت: حبي فيه وحرصي على لقائه بسطني. أتراه يعذبني وأنا أحب؟. فبينما أنا كذلك أخاطبها، إذ مرّ بي صبيّ صغير من بعض أهلي، فأخذته في ذراعي، وضممته إلى صدري، ثم قبلته. فقالت لي: أتحب هذا الصبي؟ قلت: نعم. قال: فبكت، وقالت: لو يعلم الله الخلائق ما يستقبلون غدا، ما قرّت أعينهم، ولا التذّت قلوبهم بشيء من الدنيا أبدا. قال: فبينما أنا كذلك، إذ أقبل لها ولد يقال له: "ضيغم"، فقالت: يا ضيغم، أتراني أراك غدا يوم القيامة في المحشر أو يحال بيني وبينك؟ قال: فصاح الصبي صيحة ظننت أنه قد انشق قلبه، ثم خرّ مغشيّا عليه، فجعلت تبكي عليه، وبكيت لبكائها. فلما أفاق من غشيته، قالت له: يا ضيغم، قال لها لبيك يا أماه. قالت: أتحب الموت؟ قال: نعم. قالت: ولم يا بنيّ؟ قال لها: لأصير إلى ما هو خير منك، وهو أرحم الراحمين، إلى من غذاني في ظلمة أحشائك، وأخرجني من أضيق المسالك، ولو شاء لأماتني عند الخروج من ضيق ذلك المسلك حتى تموتي أنت من شدة أوجاعك، لكنه برحمته ولطفه، سهّل ذلك عليّ وعليك. أما سمعتيه عز وجل يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي إني أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} الحجر 49ـ50. وجعل يبكي وينادي: أواه أواه، إن لم أنج غدا من عذاب الله، ولم يزل يبكي حتى غشي عليه، وسقط على الأرض، فدنت منه أمه، فلمسته بيدها، فإذا هو ميّت

رحمه الله. فجعلت تبكي وتقول: يا ضيغماه، يا قتيلا في حبّ مولاه. ولم تزل كذلك حتى صاحت صيحة عظيمة، ووقعت في الأرض، قال: فحرّكتها، فإذا هي قد ماتت. رحمة الله عليه وعليها، ورحمنا الله بهما. **

الفصل السابع

الفصل السابع إخواني، الدنيا سموم قاتلة، والنفوس عن مكائدها غافلة، كم من نظرة تحلو في العاجلة، ومرارتها لا تطاق في العاقبة الآجلة. يا ابن آدم، قلبك قلب ضعيف، ورأيك في إطلاق الطرف وأى (¬1) سخيف. عينك مطلوقة، ولسانك يجني الآثام، وجسدك يتعب في كسب الحطام، كم من نظرة محتقرة زلت بها الأقدام. عاتبت قلبي لما ... رأيت جسمي نحيلا فلام قلبي طرفي ... وقال كنت الرسولا فقال طرفي لقلبي ... بل كنت أنت الدليلا فقلت كفا جميعا ... تركتماني قتيلا كان عيسى عليه السلام يقول: النظرة تزرع في القلب الشهوة. وقال الحسن: من أطلق طرفه، كثر ألمه. قال إبراهيم (¬2) : ومن كان يؤتى من عدو وحاسد ... فإني من عيني أوتى ومن قلبي وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتسلسل دما، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما بالك؟ " فقال: مرّت بي امرأة، فنظرت إليها، فلم يزل يتبعها بصري، فاستبقني جدار فضربني، فصنع بي ما ترى، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله إذا أراد بعبد خيرا، عجّل له عقوبته في الدنيا (¬3) ". ¬

_ (¬1) الوأى: الوهم. (¬2) هو إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول. أحد الشعراء المجيدين، وكان جده صول أحد ملوك جرجان، وأسلم على يد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وتوفي سنة 243هـ. انظر: وفيات الأعيان 1/44. (¬3) رواه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.

قال أبو يعقوب النهرجوري: رأيت في الطواف رجلا بفرد عين، وهو يقول في طوافه: أعوذ بك منك، فقلت له: ما هذا الدعاء، فقال: إني مجاور منذ خمسين سنة، فنظرت إلى شخص يوما فاستحسنته، وإذا بلطمة قد وقعت على عيني، فسالت على خدي، فقلت: آه، فوقعت أخرى، وقائل يقول: لو زدت لزدناك. دعوني أناجي مولى جليلا ... إذا الليل أرخى على السدولا نظرت إليك بقلب ذليل ... لأرجو به يا إلهي القبولا لك الحمد والمجد والكبرياء ... وأنت الإله الذي لن يزولا وأنت الإله الذي لم يزل ... حميدا كريما عظيما جليلا تميت الأنام وتحيي العظام ... وتنشى الخلائق جيلا فجيلا عظيم الجلال كريم الفعال ... جزيل النوال تنيل السؤولا حبيب القلوب غفور الذنوب ... تواري العيوب تقيل الجهولا وتعطي الجزيل وتولي الجميل ... وتأخذ من ذا وذاك القليلا خزائن جودك لا تنقضي ... تعمّ الجواد بها والبخيلا قال بعض العارفين: خرجنا من أرض العراق نريد مكة ومدينة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنا في رفقة كثيرة من الناس، فإذا نحن برجل من أهل العراق، وقد خرج معنا رجل به أدمة في شقرة وهو مصفرّ اللون، قد ذهب الدم من وجهه مما بلغت فيه العبادة، وعليه ثياب خلقة من رقاع شتى، وبيده عصا ومعه مزود فيه شيء من الزاد. قال: وكان ذلك الرجل العابد الزاهد أويسا القرني، فلما نظر إليه أهل القافلة على تلك الحالة، أنكروه، وقالوا له: نظن أنك عبد. قال: نعم. قالوا: نظن أنك عبد سوء هربت من مولاك. قال لهم: نعم. قالوا: كيف رأيت نفسك حين هربت من مولاك، وما صار حالك إليه؟ أما إنك لو أقمت عنده، ما كانت هذه حالتك، وإنما أنت عبد سوء مقصّر. فقال لهم: نعم والله، أنا عبد سوء، ونعم المولى

مولاي، ومن قبلي التقصير، ولأطعته وطلبت رضاه، ما كان من أمري هذا، وجعل يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق. قال: فرحمه القوم، وظنوا أنه يعني مولى من موالي الدنيا، وهو ما كان يريد بذلك إلا رب العزة. فقال له رجل من أهل القافلة: لا تخف، أنا آخذ لك من مولاك الأمان، فارجع إليه وتب. فقال: إني راجع إليه، وراغب فيما لديه. قال: وكان خرج زائرا إلى قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسارت القافلة ذلك اليوم، وسار معهم، وجدّوا في السير، فلما كان في الليل نزلوا في فلاة من الأرض، وكانت ليلة شاتية باردة كثيرة المطر. قال: فأوى كل واحد من أهل القافلة إلى رحله وخبائه، ولم يأو أويس إلى شيء، ولم يسأل أحدا شيئا. قال: وقد كان آلى على نفسه إلا يسأل من أمور الدنيا لمخلوق، وإنما تكون حوائجه إلى الله سبحانه وتعالى، فبلغ به البرد تلك الليلة مبلغا شديدا، حتى اضطربت جوارحه من شدة البرد، واشتد عليه سلطان البرد حتى مات في جوف الليل. فلما أصبحوا وأرادوا الرحيل نادوه: قم أيها الرجل، فان الناس قد رحلوا، فلم يجبهم، فأتاه رجل قريب منه، فحرّكه فوجده ميتا رحمه الله، فنادى: يا أهل القافلة، إن العبد الهارب من سيده قد مات، ولا ينبغي لكم الرحيل حتى تدفنوه. قالوا: وما الحيلة في أمره؟. فقال لهم رجل صالح كان معهم: إن هذا العبد كان عبدا تائبا راجعا إلى مولاه نادما على ما صنع، ونحن نرجو أن ينفعنا الله به، وقد قبل توبته، ونخاف أن نسأل عنه إن تركناه غير مدفون، ولا بدّ لكم أن تصبروا حتى تحفروا له قبرا وتدفنوه فيه. فقالوا: هذا موضع ليس فيه ماء، فقال بعضهم لبعض: اسألوا الدليل، فسألوه، فقال: إن بينكم وبين الماء ساعة، ولكن أرسلوا معي واحدا وأنا آتيكم بالماء.

فأخذ الدليل دلوا، وساروا إلى الماء، فلما خرج من القافلة، إذا هو بغدير من الماء، فقال الدليل: هذا هو العجب الذي لم أر مثله هذا موضع ليس فيه ماء، ولا على قرب منه!. فرجع إليهم، وقال لهم: قد كفيتم المؤنة. عليكم بالحطب، فجمعوه ليسخنوا به الماء من شدة البرد، ثم أتوا إلى الماء ليأخذوه، فوجوده ساخنا يغلي، فازدادوا تعجبا، وفزعوا من ذلك الرجل، وقالوا إن لهذا العبد قصة وشأنا. قال: فأخذوا في حفر قبره، فوجدوا التراب ألين من الزبد، والأرض تفوح مثل المسك الإذفر، وملئوا رعبا وفزعا، وكانوا إذا نظروا إلى التراب الذي يخرج من القبر، وجدوه صفة التراب، وإذا شمّوه، وجدوا رائحة كرائحة المسك. فضربوا له خباء وأدخلوه فيه، وتنافسوا في كفنه، فقال رجل من القوم: أنا أكفنه، وقال آخر، أنا أكفنه. فاتفق رأيهم على أن يجعل كل واحد منهم ثوبا. ثم إنهم أخذوا دواة وقرطاسا، وكتبوا صفته وعته، وقالوا: إذا وصلنا، إن شاء الله، المدينة، فلعل من يعرفه، وجعلوا الكتاب في أوعيتهم. فلما غسّلوه، وأرادوا أن يكفنوه، كشفوا الثوب الذي كان عليه، فوجدوه مكفنا بكفن من الجنة، لم ير الراؤون مثله، ووجدوا على كفنه مسكا وعنبرا، وقد ملأت رائحة حنوطه الدنيا، وعلى جبينه خاتم من المسك، وعلى قدميه كذلك. فقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إن الله عز وجل قد كفّنه وأغناه عن أكفان العباد، ونرجو الله تعالى أنه قد أوجب لنا الجنة ورحمنا بهذا العبد الصالح، وندموا ندامة شديدة على تركه تلك الليلة حتى مات بالبرد. ثم إنهم حملوه ليدفنوه، ووضعوه في بقعة سهلة ليصلّوا عليه، فلما كبّروا، سمعوا أصوات التكبير من السماء إلى الأرض، ومن المشرق إلى المغرب،

وانخلعت أفئدتهم وأبصارهم، ولم يدروا كيف صلوا عليه من شدة الجزع، وعظم رعبهم مما سمعوا فوق رؤوسهم، فحملوه يريدون قبره، فكأنه يخطف من بينهم ولا يجدون له ثقلا، حتى أتوا به إلى القبر ليدفنوه، فدفنوه، ورجع القوم وقد تعجبوا من أمره. فلما قضوا سفرهم، وأتوا إلى مسجد الكوفة، وأخبروا بخبره، وما كان من صفته، فعند ذلك عرفه الناس، وارتفعت الأصوات بالبكاء في مسجد الكوفة، ولولا ذلك ما عرف أحد بموته، ولا بمكان قبره، لاختفائه عن الناس وهروبه منهم رضي الله عنه، ونفعنا ببركاته. **

الفصل الثامن

الفصل الثامن إخواني، إلى كم هذه الغفلة وأنتم مطالبون بغير مهلة؟ فبالله عليكم، تعاهدوا أيامكم بتحصيل العدد، وأصلحوا من أعمالكم ما فسد، وكونوا من آجالكم على رصد، فقد آذنتكم الدنيا بالذهاب، وأنتم تلعبون بالأجل وبين أيديكم يوم الحساب. آه من ثقل الحمل.. آه من قلة الزاد وبعد الطريق. فيا أيها المغرور بإقباله، المفتون بكواذب آماله، الذي غاب عن الصواب، وهو في فعله كذاب. يا بطال، إلى كم تؤخر التوبة وما أنت في التأخير بمعذور؟ إلى متى يقال عنك: مفتون ومغرور؟ يا مسكين، قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور؟ أترى مقبول أنت أم مطرود؟ أترى مواصل أنت أم مهجور؟ أترى تركب النجب (¬1) غدا أم أنت على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب النعيم والقصور. فاز، والله، المخفون، وخسر هنالك المبطلون، إلا إلى الله تصير الأمور. وأنشدوا: مالي أراك على الذنوب مواظبا ... أأخذت من سوء الحساب أمانا لا تغفلن كأن يومك قد أتى ... ولعل عمرك قد دنا أو حانا ومضى الحبيب لحفر قبره مسرعا ... وأتى الصديق فأنذر الجيرانا وأتو بغسّال وجاؤوا نحوه ... وبدا بغسلك ميتا عريانا فغسلت ثم كسيت ثوبا للبلى ... ودعوا لحمل شريرك الإخوانا وأتاك أهلك للوداع فودّعوا ... وجرت عليك دموعهم غدرانا فخف الإله فانه من خافه ... سكن الجنان مجاورا رضوانا ¬

_ (¬1) النجب: جمع نجيب وهي الناقة الجيدة.

جنات عدن لا يبيد نعيمها ... أبدا يخالط روحه ريحانا ولمن عصا نار يقال لها لظى ... تشوى الوجوه وتحرق الأبدانا نبكي وحق لنا البكاء يا قومنا ... كي لا يؤاخذنا بما قد كانا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا كان ابن آدم في سياق الموت، بعث الله إليه خمسة من الملائكة: أما الملك الأول، فيأتيه وروحه في الحلقوم، فيناديه: يا ابن آدم، أين بدنك القوي؟ ما أضعفه اليوم؟ أين لسانك الفصيح؟ ما أسكته اليوم؟ أين أهلك وقرابتك؟ ما أوحشك منهم اليوم!. ويأتيه الملك الثاني إذا قبض روحه، ونشر عليه الكفن، فيناديه: يا ابن آدم، أين ما أعددت من الغنى للفقر؟ أين ما أعددت من الخراب للعمران؟ أين ما أعددت من الأنس للوحشة؟. ويأتيه الملك الثالث إذا حمل على الأعناق، فيناديه: يا ابن آدم، اليوم تسافر سفرا بعيدا لم تسافر سفرا أبعد منه، اليوم تزور قوما لم تزورهم قبل هذا قط، اليوم تدخل مدخلا ضيقا لم تدخل أضيق منه، فطوبى لك إن فزت برضوان الله، وويل لك إن رجعت بسخط الله. ويأتيه الملك الرابع إذا ألحد في قبره فيناديه: يا ابن آدم، بالأمس كنت على ظهرها ماشيا، واليوم صرت في بطنها مضطجعا. بالأمس كنت على ظهرها ضاحكا، واليوم أصبحت في بطنها باكيا. بالأمس كنت على ظهرها مذنبا، واليوم أمسيت في بطنها نادما. ويأتيه الملك الخامس إذا سويّ عليه التراب، وانصرف عنه الأهل والجيران والأصحاب، فيناديه: يا ابن آدم، دفنوك وتركوك، ولو أقاموا عندك ما نفعوك. جمعت المال وتركته لغيرك. اليوم تصير إما لجنة عالية، أو إلى نار حامية".

ويروى عن بعض المتعبدين أنه قال: إلهي عصيتك قويا، وأطعتك ضعيفا، وأسخطتك جلدا، وخدمتك نحيفا، فيا ليت شعري، هل قبلتني على لؤمي، أم صرفتني على جرمي؟ قال: ثم غشي عليه ووقع على الأرض وانسلخت جبهته. فقامت إليه أمه، وقبّلته بين عينيه، ومسحت جبهته وهي تبكي وتقول: قرّة عيني في الدنيا، وثمرة فؤادي في الآخرة، كلم عجوزك الثكلى، وردّ جواب أمك الحريّ. قال: فأفاق الفتى من غشيته، ويده قابضة على كبده، وروحه تتردد في جسده، ودموعه تنسكب على خده ولحيته، فقال لها: يا أماه، هذا اليوم الذي كنت تحذريني منه، وهذا هو المصرع الذي كنت تخوّفيني منه، هذا مصرع الأهوال، وسقوط عثرة الأثقال، فيا أسفا على الأيام الخالية، ويا جزعي من الأيام الطوال التي لم أعرّج فيها على الإقبال. يا أماه أنا خائف على نفسي أن يطول في النار سجني وحبسي. يا حزناه إن رميت فيها على رأسي، ويا أسفاه إن قطعت فيها أنفاسي. يا أماه، افعلي ما أقول لك. فقالت له: يا بنيّ، فدتك نفسي، ماذا تريد؟. قال لها: ضعي خدي على التراب، وطئيه بقدمك حتى أذوق طعم الذل في الدنيا، والتلذذ للسيّد المولى، عسى أن يرحمني وينجيني من نار لظى. قالت أمه: فقمت إليه في الحال، وقد ألصق خده بالتراب، والدموع تجري من عينيه كالميزاب، فوطئت خده بقدمي، فإذا هو ينادي بصوت ضعيف: هذا جزاء من أذنب وعصى، وهذا جزاء من أخطأ وأسا، هذا جزاء من لم يقف بباب المولى، هذا جزاء من لم يراقب العلي الأعلى. قالت: ثم تحوّل إلى القبلة، وقال: لبيّك لبيّك، إلا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

قال: ثم مات في مكانه، فرأته أمه في المنام كأن وجهه فلقة قمر تجلى من سحاب، فقالت له: يا بنيّ، ما فعل بك مولاك؟ قال: رفع درجتي، وقرّبني من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت له أمه: يا بنيّ، ما الذي سمعت منك تقوله عند وفاتك؟ فقال لها: يا أماه، هتف بي هاتف وقال لي: يا عمران، أجب داعي الله، فأجبته، ولبيّت ربي عز وجل. رحمه الله تعالى. **

الفصل التاسع

الفصل التاسع إخواني، السفر مكتوب علينا، فما لنا نطلب الإقامة في جار ليست لنا دار مقامة؟ السنون منازل، والشهور مراحل، والأيام أميال، والأنفاس خطوات، والمعاصي قطاع، والربح الجنة، والخسران النار. خلقنا نتقلب في ستة أسفار إلى أن يستقر بنا القرار: فالسفر الأول: سفر السلالة من الطين، والثاني من الصلب إلى الرحم، والثالث: من الرحم إلى ظهر الأرض، والرابع: من ظهر الأرض إلى القبر، والخامس: من القبر إلى موقف العرض، والسادس: من موقف العرض إلى دار الإقامة: إما إلى الجنة أو النار، وقد قطعنا نصف الطريق، وبقي الأصعب. يا من يضجّ في الكرب ويصيح، خلّ التدبير لغيرك فتستريح، تكثر النحيب والعويل، وتنسى ما سلف من الفعل الوبيل. لو رجعت إليك بقلبك، لعجّل عليك بتفريج همّك وكربك. يا أخي، إياك والدنيا، فان حبل الدنيا مبتوت، واقنع منها بالقوت، واعلم أنك تموت. قال ابن المبارك: قدمت مكة، فإذا الناس قد قحطوا من المطر، وهم يستسقون في المسجد الحرام، وكنت في الناس من باب بني شيبة، إذ أقبل غلام أسود قطعتا خيش، قد ائتزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقيه، فصار في موضع خفي إلى جانبي، فسمعته يقول: الهي، أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ العيوب، وقد منعتنا غيث السموات لتؤدب الخليقة بذلك، فأسألك يا حليم، يا من لا يعرف عباده من إلا الجميل، اسقهم الساعة الساعة. قال ابن المبارك: فلم يزل يقول: اسقهم الساعة الساعة، حتى انسدّ الجو

بالغمام، وأقبلت قطرات الركام (¬1) تهطل كأفواه القرب، وجلس مكانه يسبّح الله تعالى، فأخذت في البكاء، حتى قام فاتبعته حتى عرفت موضعه. فجئت إلى الفضيل بن عيّاض، فقال لي: ما لي أراك كئيبا؟ فقلت له: سبقنا إليه غيرنا، فولاه دوننا. قال: وما ذلك؟ فقصصت عليه القصة وسقط في الأرض، وقال: ويحك ابن المبارك، خذني إليه، فقلت: قد ضاق الوقت، سأبحث عن شأنه. فلما كان من الغد، صليت الغداة، وخرجت أريد الموضع، فإذا بشيخ على باب، وقد بسط له وهو جالس، فلما رآني عرفني، وقال: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن، ما حاجتك؟ فقلت: احتجت إلى غلام، فقال: نعم عندي عدّة، اختار أيهم شئت، فصاح يا غلام، فقال: هذا محمود العاقبة، أرضاه لك، فقلت: ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج واحدا بعد واحد، حتى أخرج إلى الغلام، فلما أبصرته بدرت عيناي بالدموع، فقال: هذا؟ فقلت: نعم، فقال: ليس لي إلى بيعه سبيل. فقلت: ولم؟!. قال: قد تبرّكت بموضعه في هذه الدار، فقلت له: ومن أين طعامه؟ فقال: يكسب من فتل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر، فهو قوته إن باعه في يومه، وإلا طوى ذلك اليوم. وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام في الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم، مهتم بنفسه، وقد أحبه قلبي. فقلت له: انصرف إلى الفضيل بن عياض وسفيان الثوري بغير قضاء حاجة، ثم رجعت إليه، وسألت فيه بإلحاح، فقال: إن ممشاك عندي كبير، خذه بما شئت. قال: فاشتريته، وسرت معه نحو دار الفضيل، فمشيت ساعة فقال لي: يا مولاي. ¬

_ (¬1) الركام: السحاب.

فقلت له: لبيك. فقال: لا تقل لبيك، فان العبد أولى بأن يلبي من المولى. قلت: وما حاجتك يا حبيبي. قال: أنا ضعيف البدن، لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، قد أخرج لك من هو أجلد مني وأثبت. فقلت له: لا يراني الله تعالى أستخدمك، ولا كان اشترائي لك إلا أنزلك منزلة الأولاد، ولأزوّجك، وأخدمك أنا بنفسي. قال: فبكى، فقلت له: وما يبكيك؟. قال لي: أنت لم تفعل هذا، إلا وقد رأيت بعض متصلاتي بالله تعالى، وإلا، فلم أخذتني من أولئك الغلمان؟. فقلت له: ليس بك حاجة إلا هذا. فقال لي: سألت بالله إلا أخبرتني. فقلت له: بإجابة دعوتك. فقال لي: إني أحسبك إن شاء الله رجلا صالحا، إن لله عز وجل خيرة من خلقه، لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده، ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى. ثم قال لي: ترى أن تقف عليّ قليلا، فانه قد بقي عليّ ركعات من البارحة. قلت: هذا منزل الفضيل. قال: لا هاهنا أحبّ إليّ. إن أمر الله تعالى لا يؤخر، فدخل المسجد، فما زال يصلي حتى أتى على ما أراد، فالتفت إليّ وقال: يا أبا عبد الرحمن، هل لك من حاجة؟. قلت: ولم.

قال: لأني أريد الانصراف. قلت: إلى أين. قال: إلى الآخرة. قلت: لا تفعل دعني أنتفع بك. فقال لي: إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبين الله تعالى، فأما إذا اطلعت عليها أنت، سيطّلع عليها غيرك، فلا حاجة لي في ذلك، ثم خرّ على وجهه، وجعل يقول: إلهي اقبضني الساعة الساعة، فدنوت منه، فإذا هو قد مات. فو الله ما ذكرته قط إلا طال حزني، وصغرت الدنيا في عيني، وحقرت عملي. رحمه الله ورحمنا به. **

الفصل العاشر

الفصل العاشر يا هذا، كم تتزيّا بزيّ العبّاد والزهّاد وحال قلبك في الغفلة ما حال، الظاهر منك نقيّ، والباطن منك متسخ بطول الآمال. لا تصلح المحبة لمن يميله حب المال، ولولا مكابدة المجاهدة لم يسمم القوم رجال. يا ميت القلب، وعدك في الدنيا صحيح، وفي الآخرة محال، إن لم تبادر في الشباب، فبادر في الاكتهال، وما بعد شيب الرأس لهو ولما أبعد عثرة الشيخ إن تقال. ضيّعت زمان الشباب في الغفلة، وفي الكبر تبكي على التفريط في الأعمال، لو علمت ما أحصي عليك، لكنت من الباكين طول الليال. قال رجل لذي النون وهو يعظ الناس: يا شيخ، ما الذي أصنع؟ كلما وقفت على باب من أبواب المولى صرفني عنه قاطع المحن والبلوى. قال له: يا أخي، كن على باب مولاك كالصبي الصغير مع أمه، كلما ضربته أمه ترامى عليها، وكلما طردته، تقرّب إليها، فلا يزال كذلك حتى تضمه إليها. يروى أن عيسى عليه السلام كان يسبح في الأرض، ويقول: دابتي رجلاي، ولباسي الشعر، وشعاري خوف الله، وريحاني عشب الأرض، وطعامي خبز الشعير، وظلي ظلمات الليل، ومسكني حيث أواني الليل، وهذا لمن يموت كثير. ويروى عن الشبلي (¬1) رضي الله عنه أنه قال: رأيت بدوي بمكة، حرسها الله تعالى، وهو يخدم الصوفية، فسألته عن سبب ذلك، فقال لي: كنت بالبادية، وإذا بغلام حاف مكشوف الرأس ما معه زاد ولا ركوة ولا عصا، فقلت في نفسي: أدرك هذا الفتى، فإذا كان جائعا أطعمته، وإن كان عطشان سقيته. ¬

_ (¬1) هو أبو بكر بن جحدر الشبلي. بغدادي المولد. صاحب الجنيد. وكان شيخ وقته حالا وظرفا وعلما. توفي سنة 334هـ.

قال: فبادرت إليه حتى بقي بيني وبينه مقدار ذراع، وإذا به بعد عني حتى غاب عن عيني، فقلت: هذا شيطان وإذا به ينادي: لا بل سكران. فناديته: يا هذا بالذي بعث محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق إلا ما وقفت عليّ. فقال لي: يا فتى أتعبتني وأتعبت نفسك. فقلت له: رأيتك وحدك، فأردت خدمتك. قال لي: من يكن الله معه، كيف يكون وحده؟!. فقلت له: ما أرى معك زادا. فقال لي: إذا جعت فذكره زادي، وإن عطشت فمشاهدته سؤلي ومرادي. فقلت له: أنا جائع فأطعمني. فقال: أولم تؤمن بكرامات الأولياء. فقلت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، فضرب بيده الأرض، وكانت أرض رملة، ثم قبض قبضة، وقال: كل يا مخدوع، وإذا هو سويق ألذ ما يكون. فقلت: ما ألذه!. فقال لي: في البادية عند الأولياء من هذا كثير لو عقلت. فقلت له اسقني، فركض برجله الأرض، فإذا هو بعين من عسل وماء، فجلست لأشرب من تلك العين، ثم رفعت رأسي، فلم أره، ولم أدر كيف غاب، ولا أين ذهب، فأنا أخدم الفقراء من ذلك اليوم إلى الآن، لعلي أرى مثل ذلك الولي. يا هذا، إلى متى تسمع أخبارهم ولا تقفو آثارهم، اطلب رفقة التائبين عساك لطريقهم ترشد، اندب على بعادك يا مطرود، فمثلك من بكى وعدد، اعتذر يا مهجور، عساك بالذل تسعد، وقل بلسان التذلل والأسف والكمد:

كم ذا التلوّم لا إقلاع يصحبه ... ولا عزيمة هذا العجز والكسل وكم أردّد أقوال ملفقة ... ما ينفع القول إن لم يصدق العمل واعجبا! كم لي أعاتب المهجور والعتب ما ينفع، كم لي أنادي أطروش الغفلة لو كان النداء يسمع، كم لي أحدّث قلبك وفي سماعك أطمع. واها عليك يا جامد العين قط ما تدمع، من علامة الخذلان قلب لا يخشع، قلبك ذهب في حبّ الفاني، وأنت للحرام تجمع. عليك يا غافل في جمعه الحساب، وتخلفه لمن لا ينفع، بينما أنت في بستان اللهو إذ قيل: فلان سافر وليس في رجوعه مطمع. ويروى عن علي بن أبي صالح أنه قال: كنت أدور في جبّ اللكام (¬1) أطلب الزهاد والعباد، فرأيت رجلا عليه مرقّعة، هو جالس على صخرة مطرق إلى الأرض. فقلت له: يا شيخ ما تصنع هاهنا؟. قال لي: انظر وأرعى. قلت له: ما أرى بين يديك إلا الحجارة، فما الذي تنظر وترعى. قال: أنظر خواطر قلبي، وأرعى أوامر ربي، فبحق الذي أظهرك عليّ إلا ما تركتني، فإنك شغلتني عن مولاي. فقلت له: كلمني بشيء أنتفع به. فقال لي: من لازم الباب، أثبت في الخدمة، ومن أكثر من الذنوب، أكثر من الندم، ومن استغنى بالله، لم يخف العدم. ثم تركني ومضى، رضي الله تعالى عنه. ** ¬

_ (¬1) جبل اللكام: جبل يطل على أنطاكية.

الفصل الحادي عشر

الفصل الحادي عشر يا من رواحله في طلب الدنيا لها إسراع، متى تحل عنها نطاق الأمل، فيكون الانقطاع؟ إذا طلبت الآخرة، تمشي رويدا، فمتى يكون الانتفاع؟ عجبا كيف تشدّ الرحال في طلب الفاني وفي طريقه قطاع! العمر أمانة أتلفت شبابه في الخيانة، وكهولته في البطالة، وفي الشيخوخة تبكي ونقول: عمري قد ضاع. متى أفلح الخائن فيما اشترى أو باع؟ أنت في طلب الدنيا صحيح الجسم، وفي طلب الآخرة بك أوجاع. كم تعرج عن سبل التقوى يا أعرج الهمة، يا من يبقى في القاع. يا من على عمره ليل الغفلة طلع الفجر المشيب بين الأضلاع. رافق رفاق التائبين قبل أن تنقطع مع المنقطعين {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} النمل 75. وأنشدوا: إذا أنا لم أصبر على من أحبه ... وإن حال عن وصلي فما أنا صانع أأتركه والقلب من فرط حبه ... أسير بما تطوي عليه الأضالع أأسمع فيه العذل والوجد حاكم ... فما يغنني بالعذل ما أنا سامع أأسلوه والشوق يمنع سلوتي ... وأكتم ما قد أظهرته المدامع ويعتبني قلبي إذا زاد وجده ... فأضرب صفحا دونه وأمانع وإن زاد بي أشتكيه فحسبه ... على كل حال عند شكواي شافع فلا عشة تصفو ولا موعد يفي ... ولا نظر يسلي ولا الصبر نافع أرى الدهر يمضي برهة بعد برهة ... ولم ألف ما مالت إليه المطامع فان ضقت ذرعا بالذي قد لقيته ... فكل مضيق فهو في الحب واسع قال ذا النون المصري رضي الله عنه: رأيت امرأة متعبدة، فلما دنوت منها،

ودنت مني، سلمت عليّ، فرددت عليها السلام، فقالت لي: من أين أقبلت؟ فقلت" من عند حكيم لا يوجد مثله، فصاحت صيحة شديدة، ثم قالت: ويحك كيف وجدت معه وحشة الغربة حتى فارقته، وهو أنيس الغرباء، ومعين الضعفاء، ومولى الموالي؟! أم كيف سمحت نفسك بمفارقته؟. فأبكاني كلامها. فقالت لي: مم بكاؤك؟ فقلت لها: وقع الدواء على الجرح، فأسرع في نجاحه، فقالت لو كنت صادقا، فلم بكيت؟ فقلت لها: فالصادق لا يبكي؟ قالت: لا. قلت: ولم؟ قالت: لأن البكاء راحة للقلب. وهو نقص عند ذوي العقول. قلت لها: علميني شيئا ينفعني الله به. قالت: اخدم مولاك شوقا إلى لقائه، فان له يوما يتجلى فيه إلى أوليائه، لأنه سبحانه سقاهم في الدنيا من محبته كأسا لا يظمؤون بعدها أبدا. ثم أقبلت تبكي وتقول: إلهي وسيدي، إلى كم تدعني في دار لا أجد لي فيها أنيسا يساعدني على بلائي، ثم جعلت تقول: إذا كان داء العبد حب مليكه فمن دونه يرجى طبيبا مداويا يا أخي، إذا طردك مولاك عن بابه؟ فإلى باب من ترجع، والى أي طريق تذهب، والى أي جهة تقصد؟ لازم باب مولاك، فلعل وعسى يثمر عودك. وأنشدوا: حنين قلوب العارفين إلى الذكر ... وتذكارهم عن المناجاة بالسر وأجسامهم في الأرض سكرى بحبه ... وأرواحهم في ليل حجب العلى تسرى عباد عليهم رحمة الله أنزلت ... فظلوا عكوفا في الفيافي وفي القفر وراعوا نجوم الليل لا يرقدونه ... بإدمان تثبيت اليقين مع الصبر فهذا نعيم القوم إن كنت فاهما ... وتعقل عن مولاك آداب من يدري

فما عرسوا لا بقرب حبيبهم ... ولا عرّجوا عن مسّ بؤس ولا ضرّ أديرت كؤوس للمنايا عليهم ... فغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي سكر همومهم جالت لدى حجب العلى ... وهم أهل ودّ الله كالأنجم الزهر فلا عيش إلا مع أناس قلوبهم ... تحنّ إلى التقوى وترتاح للذكر ويروى عن بعض العبّاد رضي الله عنه أنه قال: بينما أنا في الطريق أسير، وكنت صائما، فرأيت نهرا جاريا، فانغمست فيه، فإذا أنا بسفرجلة على وجه الماء، فأخذتها لأفطر عليها. قال: فلما أفطرت عليها ندمت، وقلت: أفطرت على ما ليس لي، فلما أصبحت سرت، فضربت على باب البستان الذي كان النهر يخرج منه، فخرج إليّ شيخ كبير، فقلت له: يا شيخ، إنه خرج من بستانكم هذا بالأمس سفرجلة، فأخذتها وأكلتها، وقد ندمت على ذلك، فعسى أن تجعلني في حل. فقال لي: أما أنا في هذا البستان أجير، ولي فيه منذ أربعين سنة ما ذقت من فاكهته شيئا قط، وليس لي في البستان شيء. قلت: لمن هو: قال: لأخوين بالموضع الفلاني. قال: فأتيت الموضع، فوجدت أحدهما، فقصيت عليه القصة، فقال: نصف البستان لي، وأنت حل من نصيبي في تلك السفرجلة. فقلت له: وأين أجد أخاك؟ قال: بموضع كذا وكذا. فمضيت إليه، وقصيت عليه القصة، فقال لي: والله لا أجعلك في حل إلا بشرط. فقلت: وما الشرط؟ قال: أزوّجك ابنتي وأعطيك مائة دينار. قال له العابد: ويحك أنا في شغل عن هذا. أما رأيت ما أصابني لأجل سفرجلتك؟ فاجعلني حل. فقال له: والله ما فعلت إلا بالشرط المذكور. فلما رأى العابد منه الجد، امتثل، وقال افعل، فأعطاه مائة دينار، ثم قال له: أعطني منها ما شئت مهر ابنتي، فرمى بها كلها إليه، فقال له: لا، إلا البعض.

قال: فزوّجه ابنته، فلامه الناس على ذلك، وقالوا له: خطب ابنتك أرباب الدولة وكبراء الناس، ولم تعطها لهم، فكيف أعطيتها لفقير لا مال له؟ فقال لهم: يا قوم إنما رغبت في الورع والدين، ولأن هذا الرجل من عباد الله الصالحين، رضي الله عنهم أجمعين. **

الفصل الثاني عشر

الفصل الثاني عشر يا من عمي عن طريق القوم، عليك بإصلاح نور البصر. القلب المظلم يمشي في شوك الشك وما عنه خبر. وقت التائب كله عمل: نهاره صوم، وليله سهر، ووقت البطال كله غفلة، وبصيرته عميت عن النظر. من ذاق حلاوة الزهد، استحلى التهجد والسهر، إن تدرك المتجهدين في أول الليل، ففي أعقاب السحر. تيقّظ من نوم الغفلة، فهذا فجر المشيب انفجر، وأذلة التخلف إذا تخلف عن الباب وما حضر!. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يكونن أحدكم كالعبد السوء، إن خاف عمل، وإن لم يخف فلا عمل، أو كالأجير السوء، إن لم يعط أجرا وافرا لم يعمل" (¬1) . أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود، العاشقون يعيشون في حلم الله، والذاكرون يعيشون في رحمة الله، والعارفون يعيشون في لطف الله، والصّدّيقون يعيشون في بساط الأنس بالله يطعمهم ويسقيهم. قال أبو بكر الرازي: قال ابن عطاء: لما أكل آدم من الشجرة، طرده كل شيء ونفاه عن نفسه، وأبعده عن نفسه، وأبعده عن قربه، إلا شجرة العود، فإنها آوته. وبكى عليه كل شيء إلا الذهب والفضة. فأوحى الله إليهما: ما لكما لا تبكيان على محب طرده محبوبه؟ فقالا: إلهنا، وما كنا لنبكي على محب عصى محبوبه. فقال: وعزتي وجلالي، لأعزنّكما ولأجعلنّكما قيمة كل شيء، ولأجعلنّ لأولاد آدم خدّاما لكما. وأوحى الله إلى العود: ومالك أويت طريد مولاه؟ فقال: رحمة مني على ذلك. ¬

_ (¬1) قال الحافظ العراقي في الأحياء: لم أجد له أصلا.

فقال: وعزتي وجلالي، لأعذبنك بالنار في الدنيا، ولا ينتفع بك إلا بعد إحراقك، لأنك آويت من عصى في جوار مولاه بمرأى منه واطلاع عليه. وأنشدوا: لقد ورد التقاة فما وردنا ... فهمنا والهين وما فهمنا أحبّتنا بطيب الوصل جودوا ... فغير الجود منكم ما عرفنا فان جدتم فعفوكم رجونا ... وبابكم الكريم به وقفنا تذللنا بباكم عساكم ... بلطف جنابكم فارضوا علينا وحقّكم لقد جئنا حماكم ... وآوينا لكم لكن طردنا وحالت بيننا حجب المعاصي ... ولولا الذنب عنكم ما حجبنا وما كان النوى والبعد منكم ... ولكن أصله مما افترقنا فتحتم باب جودكم امتنانا ... علينا بعد جرم كان منا فلم نصلح لقربكم ولكن ... أسأنا ثم تبنا ثم عدنا وعاملناكم بالعدل دهرا ... وعاهدناكم زمنا فخنّا ولم ينقض لكم عهد ولكن ... علينا قد نقضنا ما نقضنا طردنا بالجرائم عن رضاكم ... ولو كنا له أهلا قبلنا وأقررنا بزلتنا لديكم ... فجودوا بالرضا إن اعترفنا ومن يرجو العبيد يوى الموالي ... فأنتم راحمونا كيف منا وهل في غيركم عنكم بديل ... وهل لولاكم للحق معنى فما أشهى وصالكم وأحلى ... وما أعلى مقامكم وأسنى فعزتنا تذللنا إليكم ... وأشرف حالنا لكم إن خضعنا بجاه محمد خير البرايا ... تشفعنا لكم وبه اعتصمنا عليه تحيّة ما لاح برق ... وتاق لحبّه قلب المعنّى **

الفصل الثالث عشر

الفصل الثالث عشر يا هذا، كم لك على المعاصي مصر؟ متى يكون منك المتاب؟ جسمك باللهو عامر، وقلبك من التقوى خراب، ضيّعت الشباب في الغفلة، وعند الكبر تبكي على زمان الشباب. في المجلس تبكي على الفائت، وإذا خرجت عدت للانتهاب. لا حيلة لوعظي فيك وقد غلق في وجهك الباب. كم لي أحدّث قلبك، وأرى قلبك غائبا مع الغيّاب، يا من قلبه مشغول، كيف تفهم الخطاب. وافرحة إبليس إذا طردت عن الباب! هذا مأتم الحزان، هذا المجلس قد طاب. رحلت رفاق التائبين إلى رفاق الأحباب. يا وحشة المهجور المبعد عن الباب إذا لم يجد للقرب والدنو سببا من الأسباب. يا منقطعا عن الرفاق الأحباب، تعلق بأعقاب الساقة بذلّ وانكسار ودمع ذي انسكاب، وقل: تائه في بريّة الحرمان، مقطوع فيه تيه الشقاء، مسبول دونه الحجاب، كلما رام القيام، أقعده وأبعده بذنوبه الحجّاب، لا زاد ولا راحلة ولا قوة، فأين الذهاب؟ عسى عطفة من وراء ستر الغيب تهون عليك صعاب المصاب. لله درّ أقوام شاهدوا الآخرة بلا حجاب، فعاينوا ما أعدّ الله للمطيعين من الأجر والثواب. ترى لماذا أضمروا أجسادهم وأظمؤوا أكبادهم، وشرّدوا رقادهم، وجعلوا ذكره بغيتهم ومرادهم؟!. وأنشدوا: يا رجال الليل مهلا عرّسوا ... إنني بالنوم عنكم مشتغل شغلتني عنكم النفس التي ... تقطع الليل بنوم وكسل أنا بطّال وأنتم ركّع ... زاد تفريطي وزدتم في العمل قلت مهلا سادتي أهل الوفا ... حمل القوم وقالوا لا مهل

قال وهب بن منبه: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء: أن إذا أردت أن تسكن معي في حظيرة القدس، فكن وحيدا في الدنيا، فريدا مهموما حظينا، كالطير الوحيد يظل في أرض الفلاة، يرد ماء العيون، ويأكل من أطراف الشجر، فإذا جنّ عليه الليل، آوى وحده استيحاشا من الطير، واستئناسا لربه. ويروى عن سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال: مرّ عابد براهب، فقال له: يا راهب، كيف ذكرك للموت؟ قال: أرفع قدما ولا أضع أخرى، إلا خشيت أن قد مت. قال: كيف كان نشاطك للصلاة؟ قال: ما سمعت أحدا سمع بالجنة، فأتت عليه ساعة إلا صلى ركعتين. قال العابد: يا راهب، مالكم تلبسون هذه الخرق السود؟ قال الراهب: لأنها من لباس أهل المصائب. فقال له العابد: أكلكم معشر الرهبان قد أصيب بمصيبة. قال الراهب: يا أخي وأي مصيبة أعظم من مصيبة الذنوب على أهلها؟. قال العابد: فما تذكرت هذا الكلام، إلا وبكيت. قال العتبي: أنشد رجل من أهل الزهد هذه الأبيات: ويوم ترى الشمس قد كوّرت ... وفيه ترى الأرض قد زلزلت وفيه ترى كل نفس غدا ... إذا حشر الناس ما قدّمت أترقد عيناك يا مذنبا ... وأعمالك السوء قد دوّنت فإما سعيد إلى جنة ... وكفاه بالتور قد خضّبت وإما شقي كسى وجهه ... سوادا وكفاه قد غللت خرج عمر بن عبد العزيز في بعض أسفاره، فلما اشتد الحرّ عليه، دعا بعمامة فتعمم بها، فلم يلبث أن نزعها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، لم نزعتها؟ لقد كانت

تقيك الحرّ. قال: ذكرت أبياتا قالها الأول، وهي هذه: من كان حين تمسّ الشمس جبهته ... أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوما راغما جدثا في قعر مظلمة غبراء موحشة ... يطيل تحت الثرى في جوفها اللبثا وقد خرج عيسى بن مريم عليه السلام على الحواريين وعليهم آثار الغبار، وعلى وجوههم النور، فقال: يا بني الآخرة، ما تنعّم المتنعمون إلا بفضل نعمتكم. وقيل للحسن البصري رضي الله عنه: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ فقال: خلوا بالرحمن، فألبسهم نورا من نوره. وروي عن أبو ماجد، قال: كنت أحب الصوفية، فاتبعتهم يوما إلى مجلس عالم، فرأيت في المجلس شخصا تتمنى النفوس دوام النظر إليه، وهو يبكي كلما سمع العالم والقارئ يقول: الله، الله، فلم تنقطع له دمعة. فتعجبت من توكّف عبراته، وترتداف زفراته، مع صغر سنه، وغضّ شبابه، فسألت بعض الصوفية عنه فقال: انه تائب غزير الدموع، كثير السجود والركوع، رقيق القلب شفيق الحب. فبينما نحن كذلك، إذا قرأ القرآن: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} "البقرة 152، " فقام قائما على قدميه، وهو يقول: سيّدي، خاب من في قلبه غير ذكرك. وهل في الأكوان غيرك حتى يذكر يا حبيب القلوب؟!. وأنشدوا: تهتّكي في الهوى حلا لي ... وعاذلي ما له وما لي يلومني في الغرام جهلا ... وكلما لامني حلا لي قالوا تسليّت قلت كلا ... يا قوم مثلي يكون سالي قالوا تعشقت قل أهلا ... لقد تعشّقت لا أبالي

قال أبو علي: الرّجال في هذا المقام على أربعة أقسام: القسم الأول: رجل قد استولى على قلبه عظمة الله وكحبته، فاشتغل بذكره عن ذكر من سواه، ولم تله الأكوان عن الاستئناس بذكره، فهذا هو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} النور 37. والثاني: رجل عاهد الله تعالى بصدق الاجابة، وتحقق العبودية، وإخلاص الورع، والقيام بالوفاء، فهو الذي وصفه الله تعالى بقوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الأحزاب 23. والثالث: رجل يتكلم لله وفي الله وبالله ومن أجل الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر على سائر ضمائر الأسرار، ثم على ظواهر النفوس الأغيار، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} يس 20. والرابع: رجل يتكلم سره عن نفسه وعن الملكين الموكلين، ولا يطّلع على سرّه إلا مولاه، وهو الذي وصفه الله تعالى، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ، إلى قوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر 23، فهذا هو في ظاهره كالسّليّ الخليّ، وفي باطنه كالمتوليّ الشجيّ. وأنشدوا: إليك وإلا لا يفيد سرى الساري ... ولا حرف إلا ما تلاه لك القاري فيا منيتي يا بغيتي بل ورحمتي ... ويا جنتي في كل حال ويا ناري إذا صحّ منك الاعتقاد فكل ما ... على الأرض فان من شموس وأقمار قال المغيرة بن حبيب: كنت أسمع بمجاهدة المحبين، ومناجاة العارفين، وكنت أشتهي أن أطّلع على شيء من ذلك، فقصدت مالك بن دينار، فرمقته على غفلة وراقبته من حيث لا يعلم ليالي عدة، فكان يتوضأ بعد العشاء الآخرة، ثم يقوم إلى الصلاة، فتارة يفني ليلة في تكرار آية أو آيتين، وتارة يدرج القرآن درجا،

فإذا سجد وحان انصرافه من صلاته، قبض على لحيته، وخنقته العبرة، وجعل يقول: بحنين الثكلى وأنين الولهى، يا إلهي، ويا مالك رقّي، ويا صاحب نجواي، ويا سامع شكواي، سبقت بالقول تفضلا وامتنانا، فقلت: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} المائدة 54، والمحبّ لا يعذ حبيبه، فحرم شيبة مالك على النار. إلهي قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، فأيّ الرجلين مالك، وأي الدارين دار مالك؟. ثم يناجي كذلك إلى أن يطلع الفجر، فيصلي الصبح بوضوء العتمة رحمه الله. **

الفصل الرابع عشر

الفصل الرابع عشر يا من أقعده الحرمان، هذه رفاق التائبين عليك عبور. لا رسالة دمع ولا نفس آسف، وما أراك إلا مهجور. هذا نذير الشيب ينذر بالرحلة تهيأ لها منذور. كم أعذار؟ كم كسل؟ كم غفلة؟ ما أجدك يوم الحساب معذور. بيت وصلك خراب، وبيت هجرك معمور. بدر عساك تجبر بالتوبة وتعود مجبور، سجدة واحدة واصل بها السحر وتنجو من الأهوال، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} الرعد 15. لله در أقوام قلوبهم معمورة بذكر الحبيب، ليس فيها لغيره حظ ولا نصيب، إن نطقوا فبذكره، وإن تحرّكوا فبأمره، وإن فرحوا فبقربه، وإن ترحوا فبعتبته، أقواتهم ذكر الحبيب، وأوقاتهم بالمناجاة تطيب، لا يصبرون عنه لحظة، ولا يتكلمون في غير رضاه بلفظة. وأنشدوا: حياتي منك في روح الوصال ... وصبري عنك من طلب المحال وكيف الصبر عنك وأي صبر ... لعطشان عن الماء الزلال إذا لعب الرجال بكل شيء ... رأيت الحبّ يلعب بالرجال يروى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا بلغ العبد أربعين سنة، ولم يغلب خيره على شرّه، قبّله الشيطان بين عينيه، وقال: فديت وجها لا يفلح أبدا، فان منّ الله عليه، وتاب إليه، واستنقذه من الضلالة، واستخرجه من غمرات الجهالة، يقول الشيطان لعنه الله: يا ويلاه، قطع عمره بالضلالة، فأقرّ بالمعصية عيني، ثم أخرجه الله من الجهالة بتوبته ورجوعه إلى ربه" (¬1) . ¬

_ (¬1) أورده الغزالي في الإحياء، وقال العراقي: لم أجد له أصلا.

وذكر في بعض الأخبار أن رجلا كان من الفقهاء من أهل بغداد، وكان ممن يسار إليه في العلم والصلاح، وكان شيخا كبيرا فاضلا، وأراد الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيّه عليه الصلاة والسلام، فألّف من أصحابه جماعة من الذين كانوا يقرؤون عليه، فارتبط معهم على أنهم يخرجون متوكلين على الله عز وجل. فلما ساروا في بعض الطريق، وإذا بدير نصراني، وقد أعياهم الحرّ والعطش، فقالوا: يا أستاذنا، نسير لهذا الدير، فنستظل حتى يبرد النهار، ونرحل إن شاء الله تعالى، فقال لهم: افعلوا ما شئتم، فساروا إلى ذلك الدير، ونزلوا عند جداره وقد أصابهم العياء والحر، فنام الطلبة، والشيخ لم ينم. قال: فتركهم الشيخ نائمين، وخرج يطلب ماء لوضوئه، ولم يكن له همّ إلا ذلك، فبينما هو يمشي في حومة الدير يطلب الماء، فرفع رأسه، فرأى جارية صغيرة السن، كأنها الشمس الضاحية، فلما رآها الشيخ تمكّن إبليس من قلبه، ونسي الوضوء والماء، ولم يكن له هم إلا الجارية، فأقبل يقرع الباب قرعا عنيفا، فخرج إليه راهب وقال له: من أنت؟ قال له: أنا فلان العالم الفلاني، وعرّفه بنفسه واسمه. فقال له الراهب: ما تريد يا فقيه المسلمين؟. قال له: يا راهب، هذه الصبية التي بدت من أعلى الدير، ما هي منك؟. قال الراهب: هي ابنتي، فما سؤالك عنها؟. قال له الشيخ: أريد أن تزوّجني إياها. قال له الراهب: إن ذلك لا يجوز عندنا في ديننا، ولو كان جائزا، لكنت أزوّجها منك بغير مشورتها، ولكن قد جعلت لها على نفسها عهدا، أن لا أزوّجها إلا من ترضى لنفسها، ولكن أنا أدخل عليها وأعلمها بخبرك، فإن هي رضيتك لنفسها، زوّجتك منها.

قال له الشيخ: حبا وكرامة. قال: فذهب الراهب إلى ابنته، فأعلمها بالقصة، والشيخ يسمع. فقالت: يا أبت، كيف تزوّجني منه، وأنا على دين النصرانية، وهو على دين الإسلام، إن ذلك لا يتم له إلا أن يدخل في دين النصرانية. قال: فعند ذلك، قال لها الراهب: أرأيت إن دخل في دينك، تتزوجينه؟. قالت: نعم. والشيخ العالم في هذا كله يتضاعف به الأمر، وإبليس يزيّنها في عينيه، وأصحابه رقود، ليس عندهم علم بما حلّ به. قال: فعند ذلك، أقبل عليها الشيخ وقال لها: قد نبذت دين الإسلام، ودخلت في دينك. قالت له الجارية: هذا زواج قدري، ولكن لا بد من حق الزوجية ودفع المهر، وأين الحق، وأراك رجلا فقيرا، ولكن أقبل منك في حقي إن ترعى هذه الخنازير عاما كاملا، ويكون ذلك صداقي. قال لها: نعم، لك ذلك، ولكن أشترط عليك إن لا تجبي وجهك عني، لأنظر إليك غدوة وعشيا. قالت: نعم. فأخذ عصاه التي كان يخطب عليها، وأقبل بها على الخنازير، يزجرها لتمشي للمرعى. وجرى هذا كله وأصحابه نيام، فلما استيقظوا من نومهم طلبوا الشيخ فلم يجدوه، فسألوا عنه الراهب، فأعلمهم بالقصة. قال: فمنهم من خرّ مغشيا عليه، ومنهم من بكى وناح، ومنهم من تأسف على ما حلّ به.

ثم قالوا للراهب: وأين هو؟. قال لهم: يرعى الخنازير. قال: فمضينا إليه، فوجدناه متكئا على عصاه التي كان يخطب عليها وهو يزجر بها الخنازير، وقلنا له: يا سيّدنا، ما هذا البلاء الذي حلّ بك. وجعلنا نذكّره فضل القرآن والإسلام، وفضل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرأنا عليه القرآن والحديث. فقال لنا: إليكم عني، فأنا أعلم بما تذكرونني به منكم، ولكن قد نزل بي البلاء من عند رب العالمين. قال: فكلما عالجناه ليسير معنا، ما قدرنا عليه، فمضينا إلى مكة وتركناه، وفي قلوبنا منه حسرة. وقضينا حجنا ورجعنا نريد بغداد، فلما صرنا إلى ذلك الموضع، فقلنا: تعالوا ننظر ما فعل الشيخ، لعله ندم وتاب إلى الله عز وجلّ، ورجع عما كان فيه. قال: فذهبنا إليه، فوجدناه على حالته، وهو يزجر الخنازير، فسلمنا عليه وذكّرناه، وقرأنا عليه القرآن، فما ردّ علينا شيئا، فانصرفنا عنه وفي قلوبنا منه حسرة عظيمة. قال: فلما صرنا على بعد من الدير، وإذا نحن بسواد قد أقبل علينا من ناحية الدير، وهو يصيح علينا، فوقنا له، فإذا هو صاحبنا الشيخ قد لحق بنا. وقال: اشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وأنا قد تبت إلى الله، ورجعت عما كنت فيه، وما كنت فيه، وما كان ذلك إلا من ذنب كان بيني وبين ربي عاقبني به، فكان من البلاء ما رأيتم. قال: فسررنا بذلك غاية السرور، وجئنا إلى بغداد، وأقبل الشيخ على العبادة

والاجتهاد أكثر مما كان عليه قبل ذلك، فبينما نحن في دار الشيخ نقرأ عليه، وإذا نحن بامرأة قد قرعت الباب، فخرجنا إليها وقلنا لها: ما حاجتك أيتها المرأة. قالت: أريد الشيخ وقولوا: إن فلانة بنت فلان الراهب قد جاءت لتسلم على يديك، فأذن لها بالدخول، فدخلت، وقالت: يا سيدي جئت لأسلم على يديك. فقال لها الشيخ: وما كانت القصة. قالت له: لما وليت عني، غلبتني عيناي، فنمت، فرأيت فيما يرى النائم علي بن ابي طالب رضي الله عنه، وهو يقول: لا دين إلا دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لي ذلك ثلاث مرّات، ثم قال لي بعد ذلك: ما كان الله ليبتلي بك وليا من أوليائه. وها أنا ذا قد جئت إليك، وأنا بين يديك، وأقول: أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ففرح الشيخ بذلك، حيث منّ الله عليها بدين الإسلام على يديه، فتزوجها على كلمة الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فسألناه عن ذلك الذنب الذي كان بينه وبين الله. قال: كنت يوما ماشيا في بعض الأزقة، وإذا برجل نصراني قد لصق بي، فقلت له: ابعد عني عليك لعنة الله. فقال: ولم؟ قلت له: أنا خير منك. فالتفت النصراني، وقال: ما يدريك أنك خير مني، وهل تدري ما عند الله تعالى حتى تقول هذا الكلام؟. وقد بلغني بعد ذلك أن هذا الرجل النصراني قد أسلم وحسن إسلامه، ولزم العبادة، فعاقبني الله تعالى من أجل ذلك ما رأيتم. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. **

الفصل الخامس عشر

الفصل الخامس عشر معاشر التائبين: تعالوا نبكي على الذنوب فهذا مأتم الحزان، تعالوا نسكب المدامع. ونشتكي الهجران، لعل زمان الوصال يعود كما كان. هذا بياض الشيب ينذر بخراب الأوطان، يا من تخلف حتى شاب، وقد رحلت الأظعان. يا تائها في تيه، التخلف، يا حائرا في بريّة الحرمان، نهارك في الأسباب، وليلك في الرقاد، هذه الخسارة عيان، إذا ولى الشباب ولم يربح، ففي الشباب ولم يربح، ففي المشيب يكون الخسران، أملك طويل بعيد، وربما هيئت لك الأكفان. قف على ساحل التوبة، فبحار المعاصي طوفان، ضيعت ربيع الشباب حتى ذبل من معاصي الرحمن، فعند إقبال المشيب، ندمت على ما قد كان. إن لم يشاهدك رفيق التوفيق، وإلا ففي الحرمان حرمان. وقد يرحم المولى من ضعف عن الأسباب {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} الرعد 39. وأنشدوا: أتبني بناء الخالدين وإنما ... بقاؤك فيها لو عقلت قليل لقد كان في ظل الأراك مقيل ... لمن كل يوم يقتفيه رحيل ويروى عن الحسن البصري رضي الله عنه، أنه كان يقول: يا ابن آدم، إن لك عاجلا وعاقبة، فلا تؤثر عاجلتك على عاقبتك، فقد، والله، رأيت أقواما آثروا عاجلتهم على عاقبتهم، فهلكوا وذلوا وافتضحوا. يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا.

يا ابن آدم، لا يضرّك ما أصابك منشدة الدنيا إذا ادّخر لك خير الآخرة، وهل ينفعك ما أصبت من رخائها إذا حرمت من خير الآخرة. يا ابن آدم، الدنيا مطيّة، إن ركبتها حملتك، وإن حملتها قتلتك. يا ابن آدم: إنك مرتهن بعملك، وآت على أجلك، ومعروض على ربك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، وعند لموت يأتيك الخبر. يا ابن آدم: لا تعلق قلبك بالدنيا فتعلقه بشر متعلق، حسبك أيها المرء ما بلّغك المحل. ويروى عن مالك بن دينار رضي الله عنه، أنه كان ماشيا في بعض أزقة البصرة، إذا هو بجارية من جواري الملك، راكبة ومعها الخدم والممإليك، فسمع مالك حسّها خلفه، فالتفت إليها وهي راكبة، فرأى زهرتها وهيأتها وحالها، فنادى: أيتها الجارية هل يبيعك مولاك. قال: فلما سمعت منه تلك الكلمة، نظرت إليه، فرأت عباءة خلقة بالية، وله هيأة حسنة وتواضع وسكينة لله عز وجل. فقالت للخدم: أمسكوا مطيتي، فمسكوها، فردّت رأسها إليه، وقالت له: يا شيخ، أعد عليّ مقالتك. قال: قلت هل يبيعك مولاك. قالت: ويلي عليك، وهل لمثلك ما يشتريني به لو باعني؟!. قال: فحفّ به الممإليك، قال: خلوا عني أسير معكم، فسار معهم حتى أتت قصرها، فقام إليها حجبة الدار فأنزلوها، فدخلت، وبقي مالك بباب القصر حتى وصلت إلى مولاها، فقالت: يا مولاي، إلا أحدثك بعجب؟!. قال: وما هو يا حسنة؟. قالت: يا مولاي لقيني شيخ كبير فقير عليه عباءة رثة بالية، فنظر إلى حسني

وجمالي وبهائي وكمالي وممإليكي، فأعجبه ما رأى من هيأتي، فقال: هل يبيعك مولاك، فضحك مولاها من ذلك، وقال لها: وأين هو ويلك؟! قالت: قد جئتك به معي، وها هو بباب القصر، فقال: أدخلوه عليّ. فدخل مالك، ولم يعرفه الرجل، فلما وقف بباب مجلسه، إذ هو بيت مملوء بضروب من الوطأ، والمتكأ، وإذا هو بصاحب القصر قاعد على مرتبة عظيمة، فجعل مالك ينظر إليه. فقال: مالك؟ أدخل أيها الشيخ. فقال مالك: لا أدخل حتى ترفع هذا الوطاء، وتغيّب عني فنتنته، حتى لا أنظر إليه، ولا أطأ شيئا منه. فألقى الله الهيبة والطاعة في قلب صاحب القصر، فأمر برفع الوطاء والبسط، حتى كشف عن الرخام، وقعد صاحب القصر على كرسي قال: اجلس أيها الشيخ كما أحببت. قال: لا والله حتى تنول عن هذا الكرسي، وتجلس على هذا المرمر. قال: فجلس الرجل، وجلس مالك معه. فقال رب البيت: قل حاجتك أيها الشيخ. قال: جاريتك هذه التي دخلت عليك الساعة، أتبيعها لي؟. فقال له صاحب القصر: وهل لك ما تبتاعها به مني؟. قال: وما ثمنها؟. قال له: إن من شأنها وقدرها وحالها ومالها، تساوي كذا وكذا ألفا. فقال مالك: والله ما تساوي عندي نواتين مسوستين، فضحك الرجل، وضحكت الجارية، وضحك الجواري والخدم من وراء الستر من كلام مالك. فقال مالك: وما الذي أضحككم؟.

قال صاحب البيت: وكيف كان ثمنها بهذه الخساسة عندك؟. فقال مالك: لكثرة عيوبها. قال: ومن أعلمك بعيوبها. قال: أنا أعلم من عيوبها ما لم تعلم أنت. قال: أعلمني بها، وأوقفني عليها. قال: إن لم تتعطر تغيّرت، وإن لم تستك بخرت (¬1) ، وإن لم تغتسل بظرت، وإن لم تمتشط قملت وشعثت، وإن عمّرت عن قليل هرمت وهي ذات بخار، وبصاق، وحيض وبول وغائط أقذار جملة، وآفات بينة، ولعلها لا تريدك إلا لنفسها، ولا تحبك إلا لتمتعها بك، وتمتعك بها، فلا تفي بعهدك، ولا تصدق في ودّك وعهدك، ولا يتخلف عليها أحد من بعدك إلا رأته مثلك. وأنا أجد بدون ما سألت جارية خلقت من سلالة الكافور، ولو مزج بريقها الأجاج لطاب، ولو دعي ميت بكلامها لأجاب، ولو بدا معصمها. للشمس لأظلمت دونه، ولو برز لسواد الليل لسطع نوره، ولو واجهت الآفاق بحليّها وحللها، لتزخرفت، ولو نفخ ريح ذوائبها على الأرض وما فيها لتعطّرت، فهي العطرة الشكلة المغنّجة المتنسقة، التي نشأت في رياض المسك والزعفران وغنيت بماء التنسيم، فلا يكسف بالها، ولا يحول حالها، ولا يخلف عهدها، ولا يتبدّل ودّها، ولا يتوقع ضدها. فأيهما أحق بالرفعة أيها المغرور؟. قال: التي وصفت، فما ثمنها رحمك الله؟. قال: اليسير المبذول، أن تتفرّغ ساعة عن ليلك، فتقوم فتصلي ركعتين تخلصهما لربك، وأن تضع طعامك بين يديك، فتذكر جائعا، فتؤثره على شهوتك، وأن تخطو الطريق فتلتقط منه حجرا ومدرا، وأن تحرّك لسانك بطيب الكلام، أو بذكر ¬

_ (¬1) البخر: رائحة الفم الكريهة.

الله، وأن تقطع أيامك باليسير من القوت، وترفع همّتك عن دار الغفلة، فتعيش في الدنيا عيش القنوع راسخا، وتأتي غدا يوم القيامة آمنا، وتنزل على الملك الأكبر مخلدا. قال: فعند ذلك نادى: يا جارية. قالت: لبيك يا مولاي. قال: أسمعت ما قاله الرجل؟. قالت: نعم. قال لها: هل هو صادق، أم كاذب؟. قالت: بل هو، والله صادق. قال: فأنت إذن حرّة لوجه الله تعالى، وضيعة كذا وكذا عليك صدقة، وأنتم أيها الغلمان أحرار، وضياع كذا وكذا عليكم صدقة، وهذه الدار صدقة بجميع ما فيها من الأثاث والأموال على الفقراء والمساكين. ومدّ يده على ستر كان على بعض أبوابه، فأخذه وستر به نفسه ورمى جميع ما كان عليه من اللباس. قالت الجارية: يا مولاي، لا عيش لي بعدك، فرمت بكسوتها ولبست ثوبا خشنا وخرجت معه، فودّعهما مالك بن دينار ودعا لهما وأخذا طريقا، وأخذ مالك طريقا آخر. قال ناقل الحديث: فذكر أنها لم يزالا يعبدان الله عز وجل على تلك الحالة حتى لقياه. رحمة الله عليهم ونفعنا ببركاتهم.... آمين. **

الفصل السادس عشر

الفصل السادس عشر يا تائها في الضلال بلا دليل ولا زاد، متى يوقظك منادي الرحيل فترحل عن الأموال والأولاد؟ قل لي: متى تتيقّظ وماضي الشباب لا يعاد، ويحك كيف تقدم على سفر الآخرة بلا زاد ولا راحلة. ستندم إذ حان الرحيل، وأمسيت مريضا تقاد، ومنعت التصرف فيما جمعت، وقطعت الحسرات منك الأكباد، فجاءتك السكرات، ومنع عنك العوّاد، وكفنت في أخصر الثياب، وحملت على الأعواد، وأودعت في ضيق لحد وغربة ما لها من نفاذ، تغدو عليك الحسرات وتروح إلى يوم التناد، ثم بعده أهوال كثيرة، فيا ليتك لمعاينتها لا تعاد. فاغتنموا بضائع الطاعات، فبضائع المعاصي خاسرة {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} القيامة 20ـ21. وأنشدوا: احذر دنياك وغرّتها ... واحذر إن تبد لها طلبا تبغى ودّا ممن قدما ... لك قد قتلت أمّا وأبا وعلى الجيران فقد جارت ... كلا قهرت أولت عطبا كم من ملك ذي مملكة ... قد مال لها سكرا وصبا أضحى في اللحد ومقعده ... بتراب اللحد قد احتجبا اطلب مولاك ودع دنياك ... ففي أخراك ترى عجبا كم من قصر قد شيد بنا ... بالموت وها أضحى خربا يا طالبها لا تله بها ... كم من تاه ملك غضبا أين الماضون قد سكنوا ... لحدا فردا خربا تربا كانوا ومضوا ثم انقرضوا ... فتأدب أنت بهم أدبا

فالعمر مضى والشيب أتى ... والموت لجينك قد قربا فأعدّ الزاد فما سفر ... عمر الأيام قد انتهبا بادر بالتوب وكن فطنا ... لا تلق بجريتك النصبا فلعل الله برحمته ... يلقي بالعفو لنا سببا قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: كنت أحمل الحطب من الجبال وأتقوّت به، وكان طريقي فيه التقوى والتحري، فرأيت جماعة من صلحاء البصرة في النوم، منهم الحسن ومالك بن دينار، وفرقد السّبخي. فقلت لهم: أنتم أئمة المسلمين فدلوني على الحلال الذي ليس فيه تبعة، ولا للخلق فيه منّة، فأخذوا بيدي وأخرجوني من طرسوس إلى مرج فيه خبّازي، فقالوا لي: هذا هو الحلال الذي ليس فيه لله تبعة، ولا للخلق فيه منة. قال: قعدت آكل منه دهرا نيئا، وآكل منه مطبوخا، فأوجدني الله تعالى قلبا طيبا. قلت: إن كان أهل الجنة بالقلب الذي لي، فهم والله في عيش. فخرجت يوما على باب البلد، وإذا بفتى يريد البلد، وكانت لي قطيعات بقيت لي من الحطب الذي كنت أبيعه قبل ذلك، فقلت: هذه لا أحتاج إليها، أدفعها لهذا الفقير ينفقها. فلما دنا مني، أدخلت يدي لأخرجها له، فرأيته قد حرّك شفتيه، وإذا كل ما حولي من الأرض ذهب وفضة، حتى كاد يخطف بصري. قال: ثم خرجت مرة أخرى، فرأيته قاعدا وبين يديه ركوة وفيها ماء، فسلمت عليه، ثم طلبت منه أن يكلمني فمدّ رجله، فقلب الركوة بمائها، ثم قال: كثرة الكلام تنشفّ الحسنات، كما تنشف هذه الأرض الماء، يكفيك. قال محمد بن غسان صاحب الكوفة وقاضيها: دخلت على أمي في يوم عيد أضحى، فرأيت عندها عجوزا في أطمار رثة، وإذا لها بيان ولسان، فقلت لأمي

من هذه؟ فقالت: خالتك عانية أم جعفر بن يحيى البرمكي، وزير هارون الرشيد، فسلكت عليها، وسلمت علي، فسألتها عن حالها، وقلت لها: صيّرك الدهر إلى ما أرى!. قالت: نعم يا بنيّ، إنما كنا في عوار ارتجعها الدّهر منا. فقلت لها: حدّثني ببعض شأنك. قالت: خذ جملة، وقس على ذلك. لقد مضى عليّ عيد مثل هذا منذ ثلاث سنين، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن ابني عاق، وقد كان بعث إليّ برسم الضاحي ألف رأس من الغنم، وثلاثمائة رأس من البقر، دون ما يتبع ذلك من الزينة واللباس، وقد جئتكم اليوم أطلب جلدي شاتين أجعل إحداهما شعارا، والآخر دثارا (¬1) ، تعني غطاء بليل. قال: فغمّني ذلك من قولها، وكربني ما رأيت من حالها، وأبكاني والله قولها، فوهبت لها دنانير كانت عندي. فانظر أخي حال الدنيا، وكيف يحوّل نعيمها وكيف يذهب ويزول، فالمغرور، والله من اغترّ بها، والمسعود من رأى عيبها وفرّ منها والمصائب في الدنيا أعداد: فواحد يصاب في الأموال والأولاد، والآخر يعرى من الإسلام بالطرد والإبعاد. قال: بعض السادات: كنت جالسا عند الحسن البصري رضي الله عنه، فمرّ بنا قوم يجرون قتيلاـ، فلما رآه الحسن البصري، وقع مغشيا عليه، فلما أفاق من غشيته، سألته عن أمره فقال: إن هذا الرجل كان من أفضل العبّاد والزهاد وكبار السادات، فقلت له: يا أبا سعيد أخبرنا بخبره، وأطلعنا على أمره. قال: إن هذا الشيخ خرج من بيته يريد المسجد ليصلي فيه، فرأى في طريقه ¬

_ (¬1) الشعار: ما يغطي جسد الإنسان، والدثار: ما يلتحف به وهو ما فوق الثياب.

جارية نصرانية، فافتتن بها، فامتنعت عليه، فقالت: لا أتزوجك حتى تدخل في ديني، فلما طالت المدة، وزاد به الأمر جبذته شهوته، ثم غلبت عليه شقوته، فأجاب إلى ذلك، وبريء من دين الحنيفية. فلما صار نصرانيا، وكان منه ما كان، خرجت المرأة من خف الستر، وقالت: يا هذا، لا خير فيك، خرجت من دينك الذي صحبته عمرك من أحل شهوة لا قدر لها، لكن أنا أترك دين النصرانية طلبا لنعيم لا يفنى عني طول الأبد في جوار الواحد الصمد، ثم قرأت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} سورة الإخلاص. فتعجب الناس من أمرها، وقالوا لها: أكنت تحفظين هذه السورة قبل هذا؟! قالت: لا والله ما عرفتها قط، ولكن هذا الرجل لما ألحّ عليّ، رأيت في النوم كأني دخلت النار، فعرض عليّ مكاني منها، فارتعبت وخفت خوفا شديدا، فقال لي مالك: لا تخافي ولا تحزني، فقد فداك الله بهذا الرجل منها، ثم أخذ بيدي، وأدخلني الجنة، فوجدت فيها سطرا مكتوبا. فقرأته، فوجدت فيه {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} الرعد 39. ثم أقرأني سورة الإخلاص، فأقبلت أردّدها، ثم انبتهت وأنا أحفظها. قال الحسن: فأسلمت المرأة، وقتل الشيخ على ردّته نصرانيا. نسأل الله العافية.

الفصل السابع عشر

الفصل السابع عشر يا من يذوب ولا يتوب، كم كتبت عليك الذنوب، ويحك خلّ الأمل الكذوب. واأسفا، أين أرباب القلوب، تفرّقت بالهوى في شعوب، ندعوك إلى صلاحك ولا تؤوب، واعجبا لك، ما الناس إلا ضروب. يا دهر ما أقضاك من متلوّن ... في حالتيك وما أقلك منصفا وغدوت للعبد الجهول مصافيا ... وعلى الكريم الحرّ سيفا مرهفا دهر إذا أعطى استردّ عطاءه ... وإذا استقام بدا له فتحرّفا لا أرتضيك وإن كرمت لأنني ... أدري بأنك لا تدوم على الصفا ما دام خيرك يا زمان بشرّه ... أولى بنا ما قل منك وما كفى روي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال: أدركت أقواما، وصحبت طوائف، كان يأتي على أحدهم الخمسون سنة ونحوها ما طوى منهم أحد ثوبا قط لفراش ولا نوم، ولم يأمر أهله قد بعمل طعام، ولا جعل بينه وبين الأرض فراشا، ولقد كان يأكل أحدهم الأكلة، فيودّ أنها حجر في بطنه، وما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يتأسفون على شيء منها أدبر، ولهي أهون عليهم من هذا التراب الذي تطؤونه بأرجلكم، ولقد كان أحدهم يعيش عمره مجهودا شديد الجهد، والمال الحلال إلى جنبه، فيقال له: إلا تأخذ من هذا المال شيئا لتقتات به؟ فيقول: لا والله، إني لأخاف إن أصبت منه شيئا يكون فساد لقلبي وديني. ويروى عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، أنه تزوّج امرأة من كندة يقال لها: صواب، فأتاها ووقف بباب البيت ونادى باسمها فلم تجبه. فقال لها: يا هذه أخرساء أنت أم صمّاء؟ ألا تسمعين؟. قالت: يا صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما بي خرس ولا صم ولكن العروس تستحي أن تتكلم.

فدخل المنزل، فإذا بالأستار والأرياش ولباس الديباج، فقال: يا هذه أبيتك هذا محموم فدثرته، أم تحوّلت الكعبة في كندة. قالت: لا يا صاحب رسول الله، ولكن العروس تزيّن بيتها، فرفع رأسه فرأى خدما وقوفا على رأسه قد أتوه بالماء والطعام، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من نام على الموثور، ولبس المشهور، وركب المنظور، وأكل الشهوات، لم يرح رائحة الجنة". قالت: يا صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشهدك أن كل ما في البيت صدقة لوجه الله تعالى، واكفني برا، أكفك اشتغال البيت ومحاولة العيش، فقال لها: رحمك الله وأعانك. نفعنا الله ببركاتهم بمنّه. **

الفصل الثامن عشر

الفصل الثامن عشر يا غافلا عن نصيره، يا واقفا مع تقصيره، سبقك أهل العزائم، وأنت في بحر الغفلة عائم، قف على الباب وقوف نادم، ونكّس رأس الذل وقل: أنا ظالم، وناد في الأسحار: مذنب وراحم، وتشبّه بالقوم وإن لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمع ساجم، وقم في الدجى نادبا، وقف على الباب تائبا، واستدرك من العمر ذاهبه، ودع اللهو جانبا، وطلّق الدنيا إن كنت للآخرة طالبا، يا نائما طوال الليل سارت الرفقة، ورحل القوم كلهم، وما انتبهت من الرقدة. ويروى عن اياس بن قتادة رضي الله عنه، وكان سيّد قومه، أنه نظر يوما إلى شعرة بيضاء في لحيته، فقال: اللهم إني أعوذ بك من فجأة الأمور، أرى الموت يطلبني، وأنا لا أفوته، ثم خرج إلى ثومه، وقال لهم: يا بني سعد، قد وهبت لكم شبابي فلتهبوا لي شيبتي، ثم دخل داره، ولزم بيته حتى مات. وأنشدوا: أمن بعد شيب أيها الرجل الكهل ... جهلت ومنك اليوم لا يحسن الجهل تحكّم شيب الرأس فيك وإنما ... تميل إلى الدنيا ويخدعك المطل دع المطل والتسويف إنك ميّت ... وبادر بجدّ لا يخالطه هزل سأبكي زمانا هدّني بفراقه ... فليس لقلبي عن تذكره شغل عجبت لقلبي والكرى إذا تهاجرا ... وقد كان قبل اليوم بينهما وصل أخذت لنفسي حتف نفسي بكفها ... وأثقلت ظهري من ذنوب لها ثقل وبارزت بالعصيان ربا مهيمنا ... له المنّ والإحسان والجود والفضل أخاف وأرجو عفوه وعقابه ... وأعلم حقا أنه حكم عدل وروي عن الحسن البصري أنه كان يقول: يا ابن آدم، هبطت

صحيفتك، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فالذي عن يمينك يكتب حسناتك، والذي عن يسارك يكتب سيئاتك، اعمل ما شئت، وأقلل أو أكثر، حتى إذا فارقت الدنيا، طويت صفحتك، وعلّقت في عنقك، فإذا كان يوم القيامة، أخرجت وقيل لك: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} الإسراء 14. يا أخي، عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. يا ابن آدم، اعلم أنك تموت وحدك، وتدخل قبرك وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك. يا ابن آدم: لو أن الناس كلهم أطاعوا الله، وعصيت أنت، لم تنفعك طاعتهم. وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه لقي رجلا، فقال له: كيف حالك يا أبا إسحاق، فقال له: نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع فطوبى لعبد آثر الله ربّه ... وجاد بدنياه لما يتوقع ويروى أن عون بن عبد الله كان يقول: ويحي، كيف أغفل ولا يغفل عني. وكيف يهنأ عيشي، واليوم ثقيل من ورائي؟ كيف لا أبادر بعملي، ولا أدري متى أجلي؟ أم كيف أسرّ بالدنيا ولا يدوم فيها حالي، أم كيف أؤثرها وقد أضرّت بمن آثرها قبلي؟ وهي زائلة ومنقطعة عني؟ أم كيف لا يطول حزني وربي لا أدري ما يفعل بي في ذنوبي. ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت تأتي أربعون ليلة ما يوقد في بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصباح ولا نار. قيل لها: فيم كنتم تعيشون؟ قالت على الأسودين: الماء والتمر.

وعن عائشة بنت سليمان زوج يوسف بن أسباط أنها قالت: قال لي يوسف بن أسباط: إني لأشتهي من الله ثلاثة، قلت: وما هي؟ قال: أشتهي أن أكون حين أموت ليس في ملكي شيء، ولا يكون عليّ دين، ولا يكون على عظمي لحم. ولقد أعطي من ذلك كله ولقد قال في مرضه: قالت: هل بقي عندك نفقة؟ قلت: لا، فقال: أي شيء تريدين؟ فقلت: أخرج هذه الخابية إلى السوق للبيع، قال: فإذا فعلت ذلك، انكشف حالنا، فقال الناس: إنما باعوها من الحاجة. وكان عندنا خروف أهداه لنا بعض إخواننا، فأمر بإخراجه إلى السوق، فبيع بعشرة دراهم. فقال لي: اعزلي درهما لحنوطي، وأنفقي سائرها. قالت: فمات وما بقي من الدراهم إلا الدرهم الذي أمر بعزله لحنوطه، رضي الله عنه ونفعنا ببركاته. يا من تحدّثه الآمال، دع عنك هذه الوساوس، متى تنتبه لصلاحك أيها الناعس، متى تطلب الأخرى، يا من على الدنيا يتنافس. متى تذكر وحدتك إذا انفردت عن كل مؤانس، يا من قلبه قد قسا وجفنه ناعس. وأنشدوا: إني بليت بأربع ما سلّطت ... إلا لعظم بليّتي وشقائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... كيف التخلص من يدي أعدائي وروي عن عبد الأعلى بن علي رضي الله عنه قال: صعدت على جبل لبنان، لأرى من أتأدب به وأتهذب بأخلاقه، فدلّني الله على أحدهم في مغارة، فوجدت فيها شيخا تلوح على وجهه الأنوار وقد علته السكينة والوقار، فسلمت عليه، فأحسن الرد، فبينما أنا قاعد عنده، وإذا أنا بمطر عظيم وسيل شديد، فاستحييت أن آوي إلى المغارة من غير إذنه، فناداني وآواني، وأقعدني على صخرة بإزائه،

وكان يصلي على مثلها، وقد ضاق صدري من المطر، وتضييقي عليه في موضعه، فناداني، وقال لي: من شرائط الخدّام، التواضع والاستسلام. فقلت له: ما علامة المحبة؟ قال: إذا كان البدن كالحية يلتوي، والفؤاد بنار الشوق يكتوي، فاعلم أن القلب على المحبة منطو، وكل نقمة يشاهدها المحب دون الهجر فهي نعمة، فالكل عنه عوض إلا المحبوب. ألا ترى إلى آدم عليه السلام شاهد العتاب والنقمة، ولكنه لما لم يكن معه هاجر، كانت منحا ونعمة، وجعل يقول رضي الله عنه: جسد ناحل ودمع يفيض ... وهوى قاتل وقلب مريض وسقام على التنائي شديد ... وهموم وحرقة ومضيض يا حبيب القلوب قلبي مريض ... والهوى قاتلي ودمعي يفيض إن يكن عاشق طويل بلاه ... فبلائي بك الطويل والعريض قال: وصاح الشيخ صيحة، فسقط ميتا، فخرجت لأنظر معي من يدفنه وأجهزه، فما وجدت أحدا. فرجعت إلى المغارة، فطلبته، فما وجدته، فبقيت متحيّرا في أمره متفكرا، فسمعت هاتفا يقول: رفع المحب إلى المحبوب ... وفاز بالبغية والمطلوب ونفعنا الله ببركاته ورضي الله عنه. **

الفصل التاسع عشر

الفصل التاسع عشر يا أخي، لا يبيع الباقي بالفاني إلا خاسر، وإياك والأنس بمن ترحل عنه، فتبقى كالحائر، رفيق التقوى رفيق صادق، ورفيق المعاصي غادر، مهر الآخرة يسير، قلب مخلص، ولسان ذاكر، إذا شبت ولم تنتبه، فاعلم أنك سائر، فديت أهل التهجد بلسان باك وجفن ساهر، كم لهم على باب تتجافى جنوبهم من تملق ودمع قاطر، إذا تنسّموا نسيم السحر أغناهم عن نسيم العذيب وحناجر، عصفت بهم رواشق الاستغفار البواكر، عمروا منازل الخدمة، ومنزل الغفلة خراب داثر. قال ذا النون المصري رضي الله عنه: رأيت شابا في بعض السواحل مصفرّ اللون على وجه نور القبول، وآثار القرب وعز الأنس، فقلت: السلام عليك يا أخي، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقلت له: ما علامة المحبة، فقال: التشتت في البلاد، والتهتك في العباد، وتحريم الرّقاد، وخشية البعاد. وأنشدوا: أبليت من أحببت يا حسن البلا ... وخصصت بالبلوى رجالا خشعا أحببت بلواهم وطول حنينهم ... وأطلت ضرّهم لكي يتخضعا إخواني: كم إلى دير المحبة من موارد ومصادر، نبهوا رواهب الشوق لتكون إليهم سائر، طلبوا منه شرابا عتيقا جلّ عن معاصرة العاصر، فتح لهم دنان التوله، فانفض منه رحيق التحقيق له شعاع يملأ البصائر، أدار عليهم أقداح الوجد، فحنّوا إلى المزيد حنين الذاكر، خامرهم سكر التولة، فبدا لهم كل غائب وحاضر، استزادوا من هذا الشراب الطيّب الطاهر، بذلوا فيه النفوس والأوطان والغائب والحاضر، أطربهم تلحين أهل دير المحبة، فتواجدوا تواجد كابر عن كابر، محبوبهم ساقيهم، ومجلس أنسهم منضدّ بأنواع الأزاهر، ملوك في وقت السكر، عبيد في وقت الصحو، فهم بين غائب وحاضر.

شربة من هذا المدام رخيصة ببذل الكون والأوائل والأواخر، لا يتركه إلا سيفه ليس لتيه شقائه من آخر، اقبل نصحي وبادر قبل غلق بابه وباكر، يغنيك عن كل مطعوم ومشروب، وعن كل نسيم عاطر. منها شرب آدم، وناح عليها نوح، ونشر زكريا بالمناشر، وعرض الخليل على النار،، فما أحسّ بما هو إليه سائر، وعاجل الشوق موسى فقال: أرني لعلي أرى المنظور في الناظر، وكم لداود من سكر وأشواق وتلحين مزامر، وهام عيسى في البراري لا يأوي على باد ولا حاضر، شربها شربا نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم السبت، فألقت فيه بقيّة أوجبت المدائح والمفاخر. لك انفتح الكون، فاختر هذا الشراب الطيب الطاهر، قطرة منها نهر الكوثر، تروى منها في ظمأ الهواجر، دارت على الصدّيق والفاروق والسعيد إلى العاشر. اجتمعوا لشربها في الأول، واجتمعوا لشربها في الآخر، أبقوا في أدنان المعاني بقايا الكرام فعل الأكابر، صفت لأهل الصفة، فصفت بشربها السرائر. فاخلع في شربها العذار، فما لك إن خلعت من عاذل، وإن لم تخلعه فما لك من عاذر، وزمزم وأطرب وارقص، فالكون كونك، ومحبوبك حاضر. صن موضع السر عن سواه، وإيّاك والخاطر الخاطر، إن نظرت لغيره، أبعدك وما لك إن بعدت من ناصر. يا معشر الفقراء، هذه سماعكم، فأين من هو معي حاضر، يا أرباب الأحوال، معكم أتحدث، ولكم أصف، ولركبكم أساير، يا معشر التائبين، أما يهون عليكم بذل المعصية لنيل هذا الجوهر الفاخر، إن فاتك هذا السماع ولم تطرب، فأنت في بريّة الحرمان حائر. قال أبو بكر الوراق (¬1) رضي الله عنه: حقيقة المحبة مشاهدة المحبوب على كل حال، فان الاشتغال بالغير حجاب، وأصله التسليم واليقين، فإنها يبلغان إلى ¬

_ (¬1) هو أبو بكر محمد بن عمر الوراق الترمذي. من أعلام الزهد والتصوف.

درجات المتقين في جنات النعيم. وأنشدوا: أحبّ الصالحين ولست منهم ... وأطلب أن أنال بهم شفاعة وأكره من بضاعته المعاصي ... ولو كنا سواء في البضاعة ويروى عن ذي النون المصري رضي الله عنه أنه قال: بينما أنا في بعض الفيافي والقفار، أطوف، وإذا بغلام قد انتقع لونه ونحل جسمه، يتلألأ نور الخدمة بين عينيه، وينطق آثار القبول من بين وجنتيه، وعلى وجهه سمت الطاعة والمجاهدة، وهيأة المؤانسة والمشاهدة، وعليه طمران (¬1) ، وعلى بدنه جبّة صوف متفتقة الأكمام والذيول، وعلى أحد كميّه مكتوب: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء36. وعلى الكم الآخر مكتوب: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النور 24. وعلى أذيالها مكتوب: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ق 16. وعلى ظهرها مكتوب: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} الحاقة 18. وعلى رأسه مكتوب: حبّ مولاي بلائي ... حيث مولاي دوائي فما رأيت أنظف من طمرين كانا عليه، فتهيأت لخطابه، ثم دنوت منه بعد ساعة، فقلت: السلام عليك يا عبد الله، فقال: السلام عليك عليك يا ذا النون، فقلت له: ومن أين عرفتني يا أخي؟! فقال: اطلعت حقائق الحق من ضميري على مكنون ضميرك، فشاهد صفاء معرفتك في غياهب غيوب همتك، فتناطقا وتعانقا، فعرّفني أنك ذو النون المصري. فقلت له: يا أخي ما هي ابتداء المحبة؟ فقال: الاعتبار بهذه الآية التي تراها وتسمعها، وأشار إلى المكتوبة على ¬

_ (¬1) الطمر: الثوب الخلق، والجمع: أطمار.

طمريه، فقلت له يا أخي وما انتهاء المحبة، فقال: يا ذا النون محبوب بلا انتهاء ومحبته بابتهال محال، فقلت له: يا أخي الزهد في الدنيا طلب للعقبى، أم طلب للمولى؟ فقال: يا ذا النون، الزهد في مخلوق لطلب مخلوق آخر خسران، وإنما يصلح الزهد في الدنيا المخلوقة لطلب المولى الخالق. يا ذا النون، صغرت همة عبد رضيت من محبوب قديم بجنة مخلوقة. إنما معنى الزهد: التجنّب عن الأغيار، وتتبع الأخيار، ومشاهدة الآثار لوجود الملك الجبار، فمن طلب الأغيار، فمطلوبه مشهوده، ومن طلب الجبار، فمطلوبه محبوبه، فالمخلوق إذا رضي بمخلوق مثله، فالمشاكلة مقصودة. يا أخي ذا النون: الدّون كل الدّون والمغبون كل المغبون من هجر لذة الكرى والهوى، وأبغض طيب الدنيا، ثم رضي بدون المولى، وكدّ نفسه وهجر دنياه، رهبة أن تكون النار مثواه، أو رغبة أن تكون الجنة مأواه. فقلت له: يا أخي: تصبرون في هذه الفيافي والمهالك المقحطة بلا زاد؟. فغضب، وقال: يا بطّال، ما هذا الاعتراض على من لم يطلعك على حاله، ولا يأتمنك على سره، أما أمرنا في حال المأكول والمشروب، فهكذا، فوكز برجله اليمنى الأرض، فإذا بعين من سمن وعسل، فأكل وأكلت معه، ثم وكز الأرض برجله اليسرى فإذا بعين من الماء أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، فشرب وشربت معه، وردّ الرمل عليهما، فعادت الأرض كما كانت، كأن لم يكن بها شيء قط، ثم ولى عني وتركني، فبقيت باكيا، ومما عاينت متعجبا، رضي الله عنه ونفعنا بأمثاله.

الفصل الموفى عشرين

الفصل الموفى عشرين يا أسيرا في قبضة الغفلة، يا صريعا في سكرة المهلة، يا ناقض العهد، انظر لمن عاهدت في الزمن الأول، أكثر العمر قد مضى، وانت تتعلل، يا مدعوّا إلى نجاته وهو يتوانى، ما هذا الفتور والعمر قد تدانى، كأنك بالدمع يجري عند الموت هتانا. يا أخي ما أحسن ما كنت فتغيّرت، ما أقوم جادتك، فكيف تعثرت؟ يا معاشر المطرود عن رفاق التائبين {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} النمل 75. كان بعض الأغنياء كثير الشكر فطال عليه المد، فبطر وعصى، فما زالت نعمته ولا تغيّرت حالته، فقال: يا رب، تغيّرت طاعتي، وما تغيّرت نعمتي، فهتف به هاتف يقول: يا هذا: إن الأيام الوصال عندنا حرمة وذمام، حفظناها نحن لك، وضيّعتها أنت لنا. وأنشدوا: سأترك ما بيني وبينك واقفا ... فإن عدت عدنا والوداد سليم تواصل قوما لا وفاء بعهدهم ... وتترك مثلي والحفاظ قديم قال رجل لحاتم الأصم رضي الله عنه: أوصني بشيء أتصل به إلى باب الله سبحانه وتعالى، فقد عزمت على سفر الحج. فقال: يا أخي، إن أردت أنيسا، فاجعل القرآن أنيسك، وإن أردت رفيقا، فاجعل الملائكة رفقاءك، وإن أردت حبيبا، فالله سبحانه يتولى قلوب أحبابه، وإن أردت الزاد، فاليقين بالله سبحانه وتعالى نعم الزاد، واجعل البيت قبلة وجهك، وطف بسرّك حوله.

وقال عطاء السليمي لعمر بن يزيد السلمي: أوصني: فقال: يا أحمد، الدنيا بلاء في بلاء مع هوى النفس ومقارنة الشيطان، والآخرة بلاء في بلاء مع الموافقة والحساب. فيا لها من نفوس مضمحلة فيما بينهما، فحتى متى تسهو وتلعب وملك الموت في طلبك لا يغفل عنك، والملائكة يكتبون عليك أنفاسك. قال: فخرّ مغشيا عليه. يا من صحيفته سوداء، اغسلها بالدموع، وتعرّض لمجال المتهجدين، وقل: ضال ضل عن الطريق مقطوع، وهذا مأتم الأحزان، إلى أي وقت تدّخر الدموع، هذا مجلس الشكوى، هذا وقت الرجوع. فبادروا إخوتي، وافهموا أسرار المراد: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} غافر 44. وأنشدوا: ما الذنب لي فيما مضى سالفا ... الذنب للدهر وسوء القضا فامنن وجد بالصفح عن مذنب ... معترف بالذنب فيما مضى قد ظل من خوفك في حيرة ... في قلبه منك لهيب الفضا إن كان لي ذنب فلي حرمة ... توجب لي منك جميل الرضا ومن كتاب لوامع أنوار القلوب، قال الأصمعي: كنت مارا في البادية، وإذا أنا بامرأة كأنها فلقة قمر، فدنوت منها، وسلمت عليها، فأحسنت إليّ الرد، ثم قلت: يا جارية، كلّي بكلّك مشغول، فقالت في الحال: كلّي لكلّك مبذول، ولكن إن أعجبك حسني فانظر خلفك فانك ترى من هي أحسن مني، فنظرت خلفي، فما رأيت أحدا، فصرخت علي وقالت: إليك عني يا بطّال، لما رأيتك من بعيد

حسبتك عارفا، فلما تكلمت حسبتك وامقا (¬1) ، وإذا بك يا مسكين لا عارفا ولا وامقا، تدّعي محبتي وتنظر إلى غيري، وأنت لم تصل إلى قربي، ثم ولّت عني، ورمقت إلى السماء بطرفها، ونادت، آه.... آه، حب الوصال شرّدني، آه آه، خوف القطيعة أزعجني، آه من الانفصال قبل الاتصال، وجعلت تقول: حبي في ذي القفار شرّدني ... آه من الحب ثم آه خوف فراق الحبيب أزعجني ... آه من الخوف ثم آه شبه حالي بتاجر غرق ... نجا من البحر ثم تاه ومن الكتاب المذكور: قال سالم: بينما أنا سائر مع ذي النون المصري في جبل لبنان، إذ قال مكانك يا سالم حتى أعود إليك، فغاب عني ثلاثة أيام في الجبل، وأنا أطعم نفسي من نبات الأرض، وأسقيها من غدرانها إذا طالبتني بشيء من القوت. فلما كان بعد ثلاثة أيام، عاد إليّ وهو متغيّر اللون، ذاهب العقل. فقلت له: هل عارضك السبع يا أبا الفيض؟. فقال: دعني من تخويف البشرية، إني دخلت كهفا من كهوف هذا الجبل، فرأيت فيه رجلا أبيض الرأس واللحية، أشعث أغبر، نحيفا، كأنه خرج من قبره، ذا منظر يهول وهو يصلي، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام، وقال لي: الصلاة، وقام إلى الصلاة، فلم يزل راكعا ساجدا حتى صلى العصر واستند إلى حجر كان بإزاء محرابه، وهو لا يكلمني، فبدأته الكلام، وقلت له: يرحمك الله أوصني بشيء أنتفع به، وادع لي بدعوة. فقال لي: يا بني، من آنسه الله سبحانه بقربه، أعطاه أربع خصال: عزا من غير عشيرة، وعلما من غير تعلّم، وغنى من غير مال، وأنسا من غير جماعة، ثم شهق شهقة لم يفق منها إلا بعد ثلاثة أيام، حتى ظننت أنه ميّت، فلما أفاق قام وتوضأ ¬

_ (¬1) وامقا: عاشقا.

من عين كانت إلى جنبه وسألني عما فاته من الصلاة، فأخبرته، فقضاه، ثم قال لي: إن ذكر الحبيب هيّج قلبي ... ثم حب الحبيب أذهل عقلي وقد استوحشت من ملاقاة المخلوقين. وأنست بذكر رب العالمين، انصرف عني بسلام. فقلت: يرحمك الله، وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة منك. فقال: أحبّ مولاك ولا تحب غيره، ولا ترد بحبّه بدلا، فالمحبون لله سبحانه هم تيجان العبّاد، وأعلام الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه. ثم صرخ صرخة ووقع فحرّكته، فإذا هو ميّت، فما كان إلا هنيهة، وإذا بجماعة من العباد قد انحدروا من الجبل فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، فسألتهم ما اسم هذا الشيخ الصالح؟ فقالوا: شيبان المصاب. قال سالم: فسألت عنه أهل الشام فقالوا نعم، رجل مجنون، خرج من أذى الصبيان، فقلت لهم: هل تعرفون من كلامه شيئا؟ قالوا: نعم كان إذا ضجر يقول: إذا أنا بك لم أجن سيدي فبمن أجن. رحمه الله ونفعنا به. **

الفصل الحادي والعشرون

الفصل الحادي والعشرون يا أخي، لله درّ أقوام نعمّهم مولاهم بقربه، فحجبهم عن خطرات الوسواس. حمي إقليم قلوبهم من غبار الشهوات من حمايته بحراس، قبلوا أمره بالقبول، وقاموا به على العينين والرأس، قدّموا زاد الأعمال لسفر الموت وظلمة الأرماس، يا بطّال، أبطال ميدان الدّجى لله درّهم من أبطال وأفراس، خلع عليهم خلعة الرضا، ونادهم مرحبا بالأحباب الأكياس، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} آل عمران 110. وأنشدوا: أيا نفس توبي قبل أن ينكشف ... الغطا وأدعى إلى يوم النشور وأجزع فلله عبد خائف من ذنوبه ... تكاد حشاه من أسى تتقطع إذا جنّه الليل البهيم رأيته ... وقد قام في محرابه يتضرّع ينادي بذل يا إلهي وسيدي ... ومن يهرب العاصي إليه ويفزع قصدتك يا سؤلي ومالي مشفع ... سوى حسن ظني حين أرجو وأطمع فجد لي بعفو وامح ذنبي ونجّني ... من النار يا مولى يضرّ وينفع بهذا ينال الملك والفوز في غد ... ويجزى نعيما دائما ليس يقطع وقف الفضل الجوهري العالم في الحرم متوجها إلى الكعبة وهو محرم ثم قال بأعلى صوته: يا تلفى بحتوف المراقبة والمعرفة، يا قتلى بسيوف المؤانسة والمحبة، يا حرقى بنار الخوف والاشتياق، ويا غرقى في بحر المشاهدة والتلاق، هذه ديار المحبوب، فأين المحبون؟ هذه أسرار القرب، فأين المشتاقون؟ هذه آثار الديار والربوع فأين القاصدون؟ هذه ساعة العرض والاطلاع على الدموع فأين الباكون؟.

ثم شهق شهقة عظيمة وغشي عليه، فأفاق بعد ساعة وهو يقول: مذ تبدي لناظري ... بلبل الشوق وخاطري حاضر غير غائب ... ساكن في الضمائر هو كنزي الذي بدا ... في الرسوم والدوائر قال الراوي: فدنوت منه وقلت له: يا سيدي ما علامة المحبين لله؟. قال: إن المحبين عند ظلام الليل عند الله سبحانه وتعالى نشاطا، وبينهم وبينه انبساطا، شغلهم الأنس بمعبودهم عن لذة الكرى، وقطعهم الشغل به عن جميع الورى، ولا يؤثرون على مناجاته مناما، ولا يختارون على كلامه كلاما، عرفه من عرفه، وذاقه من ذاقه، واستأنس به من استطابه. سبحان من حكم بالفناء على الخلائق، فتساوى عنده الملوك والعبيد، تفرّد بالبقاء، وتوحّد بالقدم، وصرف أقداره في الملك بما يريد، ظهر افتقار الكل إليه، الصالح والطالح والغويّ والرشيد، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} الرحمن 29. جواد غمر الكل عطاؤه، فأين يفر العاصي ومن يجبر الفقيد؟ كم جدّل القضاء من زعيم، وكم أدخل للحضر من طريد، ما أغفل أهل المعاصي عن قسمة العباد، فمنهم شقي ومنهم سعيد. وأنشدوا: احدى وستون لو مرّت على حجر ... لكان من حكمها إن يخلق الحجر تؤمّل النفس آمالا لتبلغها ... كأنها لا ترى ما يصنع القدر قال أبو إسحاق الجيلي: قدمت على علي بن عبد الحميد الغضائري، فوجدته أفضل خلق الله عبادة، وأكثرهم مجاهدة، وكان لا يتفرّغ من صلاته آناء ليله ونهاره، فانتظرت فراغه. فلم أصبه ولا وجدته.

فقلت له: إنّا قد تركنا الآباء والأمهات والأهلين والأوطان ولبنين والبنات بالراحلة إليك، فلو تفرّغت ساعة تحدثنا بما آتاك الله من العلم. فقال: أدركني دعاء الشيخ الصالح سريّ السّقطي رضي الله عنه، جئت إليه وقرعت عليه الباب، فسمعته يقول قبل أن يخرج إليّ مناجيا: اللهم من جاءني يشغلني عن مناجاتك، فأشغله بك عني، فما رجعت من عنده، حتى حبّبت إليّ الصلاة والشغل بذكر الله تعالى، فلا أتفرّغ إلى شيء سواه، ببركة ذلك الشيخ. قال أبو اسحاق: فرأيت كلامه يخرج من قلب حزين، وهم كمين، والدمع يسابقه رضي الله عنه. سبحان من ألف بحكمته بين لطائف الأرواح، وكثائف الأشباح، جعل الليل والنهار جناحي الأعمال، يطيران للفناء بلا ريش ولا جناح، سقى أرواح المحبين شراب المحبة، فلله ما أحلاه من راح، غني لهم في مجلس أنسهم معبد الوجد، فشربوا بالدّنان، لا بالأقداح، زيّنوا روضة الدجى بأزهار التهجد، واصطبحوا على الأذكار أي اصطباح، فهم بين صبوح وغبوق (¬1) وبين ريحان وراح، قلوبهم في قالب الابتلاء، تنادي بلسان تصبّرهم: لا براح. خلع عليهم خلعة الرضا، وأجلسهم بين أفراح من الشوق وافتراح. انظروا إلى الكون، فما رأوا سواه، فليس عليهم في هيمانهم جناح. غشي بصائرهم نور معرفته، فترنّم عارفهم بألسنة من التوحيد، فصاح. وأنشدوا: يا أعز الناس عندي ... كيف حتى خنت عهدي سوف أشكو لك حالي ... فعسى شكواي تجدي أنت مولاي تراني ... ودموعي فوق خدي أقطع الليل أقاسي ... ما أقاسي فيه وحدي ¬

_ (¬1) الغبوق: ما يشرب عشى.

قال ذو النون المصري رضي الله عنه: عطشت في بعض أسفاري عطشا شديدا، فعدلت إلى بعض السواحل أريد الماء، فإذا أنا بشخص قد ائتزر بالحياء والإحسان، وتدرّع بدراع البكاء والأحزان، قائم على ساحل البحر يصلي، فلما سلّم دنوت منه، وسلمت عليه قال: وعليك السلام يا ذا النون. قال: فقلت له: يرحمك الله، من أين عرفتني؟!. قال: اطّلع شعاع أنوار المعرفة من قلبي على صفاء نور المحبة من قلبك، فعرفت روحي روحك بحقائق الأسرار، وألف سريّ سرّك في محبة العزيز الجبار. قال: فقلت: ما أراك إلا وحيدا!. قال: ما الأنس بغير الله إلا وحشة، وما التوكل بغيره إلا ذل. فقلت له: أما تنظر إلى تغطغط هذا البحر، وتلاطم هذه الأمواج؟. فقال: ما بك من العطش أكثر من ذلك. فقلت: نعم، فدلني على الماء بقرب منه فشربت، ورجعت إليه، فوجدته يبكي بشهيق وزفير. فقلت له: يرحمك الله، ما يبكيك؟ ّ. فقال: يا أبا الفيض، إن لله عبادا سقاهم بكأس محبته شربة أذهبت عنهم لذة الكرى. قال: فقلت له: دلني على أخل ولاية الله يرحمك الله. قال: هم الذين أخلصوا في الخدمة، فاستخصّوا بالولاية، وراقبوا مولاهم، ففتح لهم في نور القلوب. قال: فقلت له: ما علامة المحبة؟.

فقال: المحب لله غريق في بحر الحزن إلى قرار التحيّر. قال: فقلت له: ما علامة المعرفة؟. قال: العارف بالله لم يطلب مع معرفته جنّة، ولا يستعيذ من نار، فعرفه له ولم يعظم سواه معه. ثم شهق شهقة عظيمة، فخرجت روحه، فواريته في الموضع الذي مات فيه، وانصرفت عنه، رحمه الله ونفعنا ببركاته.

الفصل الثاني والعشرون

الفصل الثاني والعشرون يا أخي لا تغسل أدناس الذنوب إلا بماء المدامع، لا ينجو من قتار المعصية إلا من يسارع، أحضر قلبك ساعة، عساه بنائحة الموعظة يراجع، كم لي أتلو عليك صحف الموعظة، وما أظنك سامع. لكن يوم المعصية ما أنحسه من طالع، ويوم الطاعة مختار وكل سعد فيه طالع، أطلب، ويحك، رفاق التائبين، وجدد رسائلك للحبيب وطالع، مصباح التقوى يدل على الجادة، وكم في ظلمة الغفلة من قاطع، ابك، ويحك، على موت قلبك وعمى بصيرتك، وكثرة الموانع. إذا لم يعظك الدهر والشيب والضعف، فما أنت صانع، فبالله يا إخواني بادروا بالمتاب، وراجعوا أنفسكم قبل يوم الحساب. ما اعتذاري وأمر ربي عصيت ... حين تبدي صحائفي ما أتيت ما اعتذاري إذا وقفت ذليلا ... قد نهاني ما أراني انتهيت يا غنيا عن العباد جميعا ... وعليما بكل ما قد سعيت ليس لي حجة ولا لي عذر ... فاعف عن زلتي وما قد جنيت قال علي بن يحيى في كتاب لوامع أنوار القلوب: صحبت شيخا من عسقلان سريع الدمعة، حسن الخدمة، كامل الأدب، متهجدا بالليل متنسكا في النهار، وكنت أسمع أكثر دعائه الاعتذار والاستغفار، فدخل يوما في بعض كهوف جبل اللكام وغيرانه، فلما أمسى رأيت أهل الجبل وأصحاب الصوامع يهرولون إليه، ويتبركون بدعائه، فلما أصبح وعزم على الخروج، قام أحدهم، وقال: عظني، قال: عليك بالاعتذار، فإنه إن قبل عذرك وفزت بالمغفرة، سلك بك إلى درجات المقامات، فوجدتها أمانيك، ثم بكى وشهق وخرج من الموضع، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات.

قال: فرأيته في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: حبيبي أكرم من إن يعتذر إليه مذنب، فيخيب ظنه ولم يقبل عذره. قبل الله عذري وغفر ذنبي، وشفّعني في أصحاب اللكام. لا شيء أعظم من ذنبي سوى أملي ... في حسن عفوك عن جرمي وعن عملي فإن يكن ذا وذا فالذنب قد عظما ... فأنت أعظم من ذنبي ومن زللي ويروى عن يوسف بن عاصم أنه ذكر له عن حاتم الأصم أنه كلن يتكلم على الناس في الزهد، والإخلاص، فقال يوسف لأصحابه: اذهبوا بنا إليه نسأله عن صلاته إن كان يكملها، وإن لم يكن يكملها، نهيناه عن ذلك. قال: فأتوه وقال له يوسف: يا حاتم، جئنا نسألك عن صلاتك، فقال له حاتم: عن أي شيء تسألني عافاك الله؟ عن معرفتها أو عن تأديتها؟ فالتفت يوسف إلى أصحابه، وقال لهم: زادنا حاتم ما لم نحسن إن نسأله عنه. ثم قال لحاتم: نبدأ بتأديتها. فقال لهم: تقوم بالأمر. وتقف بالاحتساب وتدخل بالسنة، وتكبّر بالتعظيم، وتقرأ بالترتيل، وتركع بالخشوع، وتسجد بالخضوع، وترفع بالسكينة، وتتشهد بالإخلاص، وتسلم بالرحمة. قال يوسف: هذا التأديب فما المعرفة؟. قال: إذا قمت إليها فاعلم أن الله مقبل عليك، فأقبل على من هو مقبل عليك، واعلم أن جهة التصديق لقلبك، أنه قريب منك، قادر عليك، فإذا ركعت: فلا تؤمّل أن تقوم. ومثل الجنة عن يمينك، والنار عن يسارك، والصراط تحت قدميك، فإذا فعلت فأنت مصل. فالتفت يوسف إلى أصحابه، وقال: قوموا نعيد الصلاة التي مضت من أعمارنا. يا من مات قلبه، أي شيء تنفع حياة البدن إذا لم تفرّق بين القبيح والحسن.

سلبك المشيب من الشباب، فأين البكاء، وأين الحزن؟ إذا كان القلب خرابا من التقوى، فما ينفع البكاء في الدّمن. يا قتيل الهجران، هذا أوان الصلح بادر عسى يزول الحون. وقال عاصم بن محمد في كتاب لوامع أنوار القلوب: كان لي معامل يهودي، فرأيته بمكة متضرعا مبتهلا فأعجبني حسن إسلامه. فسألته عن سبب إسلامه. فقال: تقدّمت إلى أبي إسحاق إبراهيم الآجري النيسابوري، وهو يوقد في تنّور الآجر، أطلب دينا كان لي عليه، فقال لي: أسلم، واحذر نارا وقودها الناس والحجارة، فقلت: لا بأس عليك يا أبا إسحاق، فأنت أيضا فيها. قال: فعسى تعني قوله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} مريم: 71، الآية، فقلت: نعم. فقال لي: أعطني ثوبك، فأعطيته ثوبي، ثم لف ثوبي في ثوبه، ثم رمى بهما في التنور، وصبر ساعة طويلة ثم قام واجدا شاهقا، باكيا ودخل في الأتون، يعني مستوقد النار وهي تتأجج لهيبا وزفيرا، وأخذ الثياب من وسط النار، وخرج على الباب الآخر، فهالني ذلك من فعله، فهرولت إليه متعجبا، وإذا بالرزمة صحيحة كما كانت، فحلها، وإذا بثيابي قد احترقت كأنها فحمة في وسط ثيابه، وثيابه صحيحة لم تمسها النار. ثم قال: يا مسكين، هكذا يكون {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} مريم 71. فأسلمت على يديه في الحال، وهذا ما رأيت من احوال الرجال. لله درّ قوم ملأ قلوبهم بأنوار الحكمة والرشاد، حرّك ساكنا وجدهم، فتمايلهم كالغصن الميّاد، صفت زجاجة أرواحهم ورقّ لهم شراب وجدهم، وطاب لهم سماع الإنشاد. أدرا عليهم حميا الحماية، فألفت عيونهم السهاد، فمنهم سكران ونشوان، وكل أيامكمهم بمحبوبهم أعياد.

مدّ عليهم أطناب ليل الخلوة غيرة من رقيب الرقاد، فهم يتشاكون الشواق بنفس تلف في محبة أو كاد. والمحروم نهاره في الشقا وليله في النوم، وعمره في نفاد ركب مركب القضاء للمحنة، ففي أصل تركيبة فساد. ضيّع أيامه في الغفلة، وفي الكبر يبكي على فائت لا يعاد. فيا معشر المذنبين جدّوا قبل الرحيل عن الأجساد. قال يوسف بن الحسن: كنت أسير في طريق الشام، إذ عرض لي عارض، فعدلت عن الطريق فهالتني المفازة (¬1) ، فبدت لي صومعة، فدنوت منها، وإذا براهب فيها قد أخرج رأسه منها، فأنست به، فلما دنوت منه، قال لي: يا هذا، أتريد موضع صاحبكم؟. قال: رجل في هذا الوادي على دينكم، متخل عن فتنة الأقران، منفرد بنفسه في ذلك المكان، واشوقاه إلى حديثه!. فقلت له: وما الذي يمنعك عنه، وأنت على قرب منه؟. فقال: أصحابي أقعدوني في هذا الموضع، وأنا أخشى على نفسي القتل منهم، ولكن إذا مضيت إليه فأقرئه مني السلام، وأساله لي في الدعاء. قال: فمضيت إليه، وإذا برجل قد اجتمعت إليه الوحوش، فلما رآني قرب مني وكنت أسمع جلبة عظيمة للقوم، ولا أرى أحدا منهم، فسمعت قائلا يقول: من هذا البطال الذي وطئ محل العاملين؟. فرأيت رجلا منكّسا رأسه مسترسلا في كلامه، تعلوه هيبة ووقار شديد. فسمعته ¬

_ (¬1) مفازة: صحراء.

يقول: لك الحمد على ما وهبت من معرفتك، وخصصتني به من محبتك، لك الحمد على آلائك، وعلى جميع بلائك. اللهم ارفع درجتي إلى درجات الأبرار للرضا بحكمك، وانقلني إلى درجة الأخيار. ثم صاح صيحة عظيمة، ثم قال: آه من لي بهم، وخرّ مغشيا عليه، فلم يتحرّك لساني هيبة له، فلما أفاق من غشيته، قال لي: سر زودّك الله التقوى، وسار عني وتركني. نفعنا الله به، وبأمثاله.... آمين. **

الفصل الثالث والعشرون

الفصل الثالث والعشرون يا من سوّف بالمتاب حتى شاب، يا من ضيّع في الغفلة أيام الشباب، يا مطرودا بذنوبه عن الباب، إذا كنت في الشباب غافلا، في المشيب مسوّفا، متى تقف بالباب؟ كم عوملت على الوفاء؟ ما هكذا فعل الأحباب، الظاهر منك عامر، والباطن ويحك، خراب، كم عصيان كم مخالفة، كم رياء, كم حجاب؟ ولّى طيب العمر في الخطايا، يا ترى تعود إلى الصواب؟. ما بعد الشيب لهو، كيف يجمل بالشيخ التصاب؟ أنت لو قدمت في متقادم عمرك الطاعة، لخفف عنك الحساب. كيف والعمر ولى في الغفلة وفي طلب الأسباب؟ إذا أنذرك المشيب بالرحلة، ولم تقدّم الزاد ماذا يكون الجواب. ليت شعري أهل المعاصي كيف عيشهم يطيب {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} سبأ 51. يروى أن محمد بن واسع رأى شبابا في المسجد، قد خاضوا في بحر الغيبة والضلالة، فقال لهم: أيجمل بأحدكم أن يكون له حبيب، فيخالفه ليفوز به غيره؟ فقالوا: لا. فقال: أنتم قعود في بيت الله تخالفون أمره، وتغتابون الناس. فقالوا: قد تبنا. فقال: يا أولادي، هو ربكم وحبيبكم، وإذا عصيتموه، وأطاعه غيركم، خسرتموه. وربحه غيركم، أفلا يضرّكم ذلك؟ قالوا: نعم. فقال: ومن خالفه، وربما يعاقبه لو عاقبه، أفلا تغيرون على شبابكم كيف يعاقب بالنار والعذاب وغيركم يفوز بالجنة والثواب. قالوا: نعم وحسن رجوعهم إلى الله تعالى. وأنشدوا: ألا فاسلك إلى المولى سبيلا ... ولا تطلب سوى التقوى دليلا وسر فيها بجد وانتهاض ... تجد فيخا المنى عرضا وطولا

ولا تركن إلى الدنيا وعوّل ... على مولاك واجعله وكيلا وإن أحببت أنء تعتزّ عزا ... يدوم فكن له عبدا ذليلا وواصل من أناب إليه واقطع ... وصال المسرفين تكن نبيلا ولا تفني شبابك واغتنمه ... ومثل بين عينيك الرحيلا ولا تصل الدنيا واهجر بنيها ... على طبقاتهم هجرا جميلا وعامل فيهم المولى بصدق ... يضع لك في قلوبهم القبولا ومن كتاب أنس المريدين وقدوة الزاهدين: قال يزيد بن الحباب: مررت بحمدونه المجنونة وهي قاعدة على قارعة الطريق وعليها جبّة صوف مكتوب بين كتفيها، بمداد هذا البيت المفرد: سلب الرقاد عن الجفون تشوقي ... فمتى اللقا يا وارث الأموات قال: فسلمت عليها، فردت السلام، فقالت: ألست أنت يزيد بن الحباب؟ قلت: لها، نعم، فبم عرفتيني؟! قالت: اتصلت المعرفة في الأسرار، فعرفتك بتعريف الملك الجبار، ثم قالت: أسالك. قلت: اسألي. قالت: ما هو السخاء في الدين؟ قلت لها: المسارعة إلى طاعة المولى. قالت: يا يزيد. آه آه، ليس هذا مسارعة، إنما المسارعة إلى طاعة الله أن لا يطلع على قلبك وأنت تريد منه شيئا بشيء، ثم أنشأت تقول هذين البيتين: حسب من الحبيب بعلمه ... أن المحب ببابه مطروح فإذا تقلب في الدنا ففؤاده ... بسهام لوعات الهوى مجروح ويروى عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قرأ {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} البقرة 281، فقال: هذه موعظة وعظ الله بها المسلمين، وذلك إن الحور العين تقول لولي الله، وهو متكئ على نهر العسل وهي تعطيه الكأس، وهما في سرور ونعيم: أتدري يا حبيب الله متى

زوجنيك الله ربي؟ فيقول: لا أدري. فتقول: نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين وأنت في ظمأ الهواجر، فتباهى بك الملائكة، وقال: أنظروا يا ملائكتي إلى عبدي، ترك شهوته ولذته، وزوجته وطعامه وشرابه رغبة فيما عندي، أشهدكم أني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ وزوجنيك. لله درّ أقوام لاطفهم بأنسه، فتقرّبوا إليه بقلب سليم، أذاقهم حلاوة مناجاته، فكل منهم بحبه يهيم، أسكن قلوبه حبه، فليلهم بالأشواق ليل سليم، طهرها من الهوى، فحب الدنيا عنها راحل، وحب الآخرة مقيم على كل حال لا يعرفون سواه، فأهلا به من تنعّم، وأهلا به من نعيم. للصالحين كرامات وأسرار ... لهم من الله تخصيص وآثار صفت قلوبهم لله واتصفت ... بالصدق واكتنفت بالنور أنوار واستغرقت كل وقت من زمانهم ... في طاعة الله أوراد وأذكار صاموا النهار وقاموا الليل ما سئموا ... حتى تعرّفت على الظلماء أسحار خلو به وراق الليل منسدل ... حتى لهم قد تجلت منه أنوار طوبى لهم فلقد طابت حياتهم ... وشرّفت لهم في الناس أقدار فازوا من الله بالزلفى وأسكنهم ... جنات عدن فنعم الدار والجار ويروى عن إبراهيم بن أدهم (¬1) رضي الله عنه أنه كان على بعض جبال مكة يحدّث أصحابه، فقال: لو أن وليا من أولياء الله تعالى قال لهذا الجبل: زل، لزال فتحرّك الجبل، فضربه إبراهيم برجله، وقال له اسكن، إنما ضربتك مثلا لأصحابي. وروي عنه أيضا أنه ركب البحر فتحرك ريح عاصف فوضع إبراهيم رأسه ونام، فقال أصحابه: أما ترى ما نحن فيه من الشدة، فقال: أو هذه شدة؟ قالوا: ¬

_ (¬1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور. توفي 160هـ من بلخ من أعمال خراسان من أعلام الزهاد. وكان يأكل من عمل يده كالحصاد والعمل بالبساتين.

نعم، قال: لا، وإنما الشدة الحاجة للناس، ثم قال: الهي، أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك، فصار البحر كأنه قدح زيت. وعنه أيضا أنه كان في بعض الطرق مع أصحابه، فتعرّض لهم أسد، فقال له أصحابه: يا إبراهيم، هذا السبع قد ظهر لنا، فقال: أرونيه، فلما نظر إليه إبراهيم، قال: يا قسورة، إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به، وإلا فتنحّ عنا. قال: فضرب الأسد بذنبه، وولى هاربا، فتعجبنا منه حين فقه كلام إبراهيم، رضي الله عنه ونفعنا به. **

الفصل الرابع والعشرون

الفصل الرابع والعشرون يا راحلا بلا زاد والسفر بعيد، العين جامدة والقلب أقسى من الحديد. من ألوى منك بالضراء وأنت تغرق في بحر المعاصي في كل يوم جديد. ما أيقظك الشباب ولا أنذرك الاكتهال، ولا نهاك المشيب، ما أرى صلاحك إلا بعيد، فديت أهل العزائم، لقد نالوا من الفضل المزيد، طووا فراش النوم، فلهم بكاء وتعديد، دموعهم تجري على خدودهم، خدّدت في الخدود أي تخديد، ما أنت من أهل المحبة ولا من العشاق يا قليل الهمة يا طريد. لأمر ما تغيرا الليالي ... وأنت على البطالة لا تبالي تبيت منعّما في خفض عيش ... وتصبح في هواك رخيّ بال ألم تر إن أثقال الخطايا ... على كتفيك أمثال الجبال أتكسب ما اكتسبت ولا تبالي ... فهل هو من حرام أو من حلال إذا ما كنت في الدنيا بصيرا ... كففت النفس عن طرق الضلال ألا بأبي خليل بات يحيى ... طويل الليل بالسبع الطوال بقلب لا يفيق عن اضطراب ... وجفن لا يكف عن انهمال أرى الأيام تنقلنا وشيكا ... إلى الأجداث حالا بعد حال سأقنع ما حييت يشطر بر ... أشيّعه بريّ من زلال إذا كان المصير إلى هلاك ... فما لي والتنعّم ثم ما لي أما لي عبرة فيمن تفانى ... على الأيام من عم وخال كأن بنسوتي قد قمن خلفي ... ونعشي فوق أعناق الرجال يعجلن المسير ولست أدري ... لدار الفوز أم دار النكال يبيد الكل منا دون شك ... ويبقى الله بري ذو الجلال يروى عن رجل من أصحاب داود الطائي أنه قال: دخلت على داود، فقال لي:

ما حاجتك؟ قلت: زيارتك، فقال: أما أنت، فقد عملت خيرا حين زرتنا، ولكن أنظر ما ينزل بي إذا قيل لي: من أنت فتزار، أمن العبّاد أنت؟ لا والله. أمن الزهاد أنت؟ لا والله، ثم أقبل يوبّخ نفسه ويقول: كنت في الشباب فاسقا، وفي الكهولة مداهنا، فلما شخت صرت مرائيا. لا والله، إلا المرائي أشد من الفاسق، وجعل يقول: يا إله السموات والأرض، هب لي رحمة من عندك تصلح شبابي وتقيني من كل سوء، وتعلى في أعلى مقامات الصالحين مكاني. اسمع يا أخي مقامات الرجال، وكرامات ذوي الأحوال، الذين اختصهم مولاهم وحباهم بالإفضال. وعن عبد الله بن عبد الرحمن قال: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي، فعرض لهم أسد في بعض الطرق، فقال له سفيان: أم ترى كيف قطع علينا الطريق، وأخاف الناس. قال شيبان: لا تخف، فلما سمع الأسد كلام شيبان، بصبص إليه، وأخذ شيبان بأذنه وفركها، فبصبص وحرك ذنبه وولى هاربا، فقال سفيان: ما هذه الشهرة يا شيبان؟ قال: أو هذه شهرة يا سفيان؟ لولا مكان الشهرة لوضعت زادي على ظهره حتى أتيت مكة. يروى عن عبد الرحمن بن أبي عباد المكّي أنه قال: قدم علينا شيخ يكنى بأبي عبد الله. قال: أقبلت في السحر إلى بئر زمزم، وإذا بشيخ قد سدل ثوبه على وجهه، وأتى البئر واستسقى، قال: فقمت إلى فضلته، فشربت منها. فإذا هو ماء مضروب بعسل لم أذق ماء أطيب منه. فالتفتّ فإذا بالشيخ قد ذهب، فلما كان في السحر في الليلة الثانية أتيت البئر وإذا بالشيخ دخل من باب المسجد قد سدل ثوبه على وجهه، فأتى البئر واستسقى، فشرب وخرج، فقمت إلى فضلته، فإذا هو سويق ألذ ما يكون، فلما كان في الليلة الثالثة، أتى البئر أيضا، واستسقى. فأخذت طرف ملحفته، ولففته على يدي، ثم شربت فضلته، فإذا هو لبن مضروب بسكر لم أذق قط أطيب منه، فقلت يا شيخ، بحق هذا البيت عليك، من أنت؟ قال:

تكتم عليّ. قلت: نعم. قال: سفيان الثوري. لله درّ أقوام أفناهم شهوده عن وجودهم، فحالهم لشوقه مستديم، أقطعهم إقليم الكرى ما أبعده من إقليم، حماهم عن الأغيار غيرة عليهم، وخلع عليهم حلل الرضا والتسليم، سقاهم مدام الإلهام، فيا له من مدام، ويا له من نديم، أسبل على المعاصي ستره، ليعود إلى بابه الكريم، تقرّب برحمته للمذنبين، ليسكن روع المفلس من الطاعة العديم، أرسل إليه رسائل اللطف على يدي رسول كريم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الزمر 53. وأنشدوا: ألا قف بباب الجود واقرعه نادما ... تجده متى جئته غير مرتج وقل عبد سوء خوّفته ذنوبه ... فمدّ إليكم ضارعا كف مرتجي ويروى عن أبي ريحانة صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ركب البحر، فكان يخيط في السفينة، فسقطت إبرته، فقال: أعزم عليك يا ربّ إلا رددت عليّ إبرتي، فظهرت له حتى أخذها بيده. قال: واشتد عليهم البحر، فقال له: اسكن، إنما أنت عبد حبشيّ، فسكن حتى صار مثل الزيت، رضي الله عنه، ونفعنا ببركاته. ***

الفصل الخامس والعشرون

الفصل الخامس والعشرون يا أخي، أفنيت عمرك في اللعب، وغيرك فاز بالمقصود وأنت منه بعيد، غيرك على الجادة، وأنت من الشهوات في أوجال وتنكيد، ترى متى يقال: فلان استقال ورجع. يا له من وقت سعيد، متى تخرج من الهوى وترجع إلى مولاك العزيز الحميد، يا مسكين، لو عاينت قلق التائبين، وتململ الخائفين من هول الوعيد، جعلوا قرّة أعينهم في الصلاة، والزكاة، والتزهيد، وأهل الحرمان ضيعوا الشباب في الغفلة، والشيب في الحرص والأمل المديد، لا بالشباب انتفعت، ولا عند المشيب ارتجعت، يا ضيعة الشباب والمشيب: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} سبأ 51. وأنشدوا: عملت على القبائح في شبابي ... فلما شبت عدت إلى الرياء فلا حين الشباب حفظت ديني ... ولا حين المشيب طببت دائي فشاب عنده مصغر غويّ ... وشيخ عند مكبره مرائي قضاء سابق في علم غيب ... فيا لله من سوء القضاء يروى في بعض الأخبار إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي حذيفة بن اليمان وهو يومئذ أمير المؤمنين، فقال لحذيفة: كيف أصبحت يا حذيفة؟ قال: أصبحت يا أمير المؤمنين أحب الفتنة، وأكره الحق، وأقول بما لم يخلق، وأشهد بما لم أر، وأصلي بلا وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء. فغضب عمر لذلك غضبا شديدا، وهمّ إن يبطش به، ثم تذكر صحبته من

النبي، فأمسك، فهو كذلك إذ مرّ به عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فرأى الغضب في وجهه، فقال: ما أغضبك يا أمير المؤمنين، فقصّ عليه القصّة. فقال: يا أمير المؤمنين لا يغضبك ذلك، أما قوله: إنه يحب الفتنة، فهو تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} التغابن 15. أما قوله: يكره الحق، فالحق هو الموت الذي لا بدّ منه ولا محيص عنه. وأما قوله: يقول بما لم يخلق: القرآن، فهو يقرأ القرآن وهو غير ومخلوق. وأما قوله: يشهد بما لم ير، فانه يصدق بالله ولم يره. وأما قوله: يصلي بغير وضوء، فانه يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير وضوء. وأما قوله: إن له في الأرض ما ليس لله في السماء، فان له زوجة وبنين، وليس لله شيء من ذلك. فقال عمر: لله درّك: يا أبا الحسن، لقد كشفت عني هما عظيما. ويروى أن رجلا من أهل دمشق يسمى بأبي عبد ربه، وكان أكثر أهل دمشق مالا، وأنه خرج مسافرا، فأمسى إلى جانب نهر ومرعى، فنزل فيه، فسمع صوتا يكثر حمدا لله في ناجية المرج. قال: فاتبعته، فوجدته رجلا ملفوفا في حصير، قال: فسلمت عليه، وقلت له: من أنت يا عبد الله؟. قال: رجل من المسلمين. فقلت له: فما هذه الحالة؟ قال: نعمة يجب عليّ شكرها. فقلت: كيف وأنت ملفوف في حصير وأي نعمة عليك؟!. قال: إن الله خلقني، فأحسن خلقي، وجعل منشأي ومولدي في الإسلام،

وألسني العافية في أركاني، وستر عليّ ما أكره ذكره، فمن أعظم نعمة ممن أمسى في مثل ما أنا فيه؟. فقلنا: رحمك الله، لعلك أن تقوم معي إلى منزلي، فأنا نزول على النهر هاهنا بإزائك. قال: ولم؟. قلت: لتصيب شيئا من الطعام، ونعطيك ما يغنيك عن لبس الحصير. قال: ما لي في ذلك من حاجة. فأبى أن يسير معي، فانصرفت وقد تقاصرت عندي نفسي ومقتها، وقلت: لم أخلّف بدمشق رجلا أكثر مني مالا، وأنا ألتمس الزيادة. فقلت: اللهم إني أتوب إليك مما أنا فيه، فتبت ولم يعلم أحد بما اجتمعت عليه، فلما كان في السحر، رحل الناس، وقدّموا إليّ دابتي، فصرفتها إلى دمشق، وقلت: ما أنا بصادق في التوبة إن أنا مضيت إلى متجري، فسألني القوم فأخبرتهم، فعاتبوني على المشي معهم فأبيت. فلما قدم على دمشق قال ناقل الحديث: فوضع يده في ماله وتصدق به، وفرّقه في سبيل الله، ولزم العبادة حتى توفي رضي الله عنه، فلما توفي لم يوجد عنده إلا قدر حق الكفن. وأنشدوا: ذكر الوعيد فطرفه لا يهجع ... وجفا الرّقاد فبان عنه المضجع متفرّدا بغليله يشكو الذي ... منه الجوانح والحشا يتوجع لما تيقّن صدق ما جاءت به ... الآيات صار إلى الإنابة يسرع فجفا الأحبّة في محبّة ربّه ... وسما إليه بهمّة ما يقلع

وتمتعت بوداده أعضاؤه ... إذ خصّها منه بودّ ينفع كم في الظلام له إذا نام الورى ... من زفرة في إثرها يتوجّع ويقول في دعواته يا سيدي ... العين يسعدها دموع رجع إني فزعت إليك فارحم عبرتي ... وإليك من ذلّ الخطيئة أفزع من ذا سواك يجيرني من زلتي ... يا من لعزته أذلّ وأخضع فامنن عليّ بتوبة أحيا بها ... إني بما اجترمت يداي مروّع قل التصبّر عنك يا من حبّه ... في الجارحات سقامه يتسرّع كيف اصطبار متيّم في حبّه ... قدما لكاسات الهوى يتجرّع لاحت وعن صدق المحبة ما بدت ... للناظرين نجوم ليل تطلع ما الفوز إلا في محبّة سيده ... فيها المحبّ إذا تواضع يرفع يروى أن قتادة بن النعمان الأنصاري رضي الله عنه كان من الرماة المذكورين، شهد بدرا وأحدا، ورميت يومئذ عينه، فسالت على خدّه، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي في يده، فقال: ما هذه يا قتادة؟ قال: هذا ما ترى يا رسول الله، فقال له رسول الله: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها لك ودعوت الله لك فلم تفقد منها شيئا"، فقال: والله يا رسول الله إن الجنة لجزاء جزيل، وعطاء جليل، ولكني مبتلى بحب النساء، وأخاف إن يقلن: أعور فلا يردنني، ولكن أحبّ إن تردّها إليّ وتسأل الله لي الجنة، فقال: "أفعل ذلك يا قتادة" ثم أخذها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وأعادها إلى موضعها، فعادت أحسن ما كانت، إلى إن مات ودعا الله له بالجنة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فدخل ابنه على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو خليفة فقال له عمر: من أنت يا فتى؟ فقال: أنا ابن الذي سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكف المصطفى أحسن ردا فعادت كما كانت بأحسن حالها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما ردّ

فقال عمر: بمثل هذا فليتوسل إليه المتوسلون، رضي الله عنه (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي.

الفصل السادس والعشرون

الفصل السادس والعشرون يا هذا، لا يزال التائبون يهربون إلى دير الخلوة هروب الخائف إلى دار الأمان، لهم في سحر الليل تأنس بمدامع الأجفان، كتب السجود في ألواح جباههم خطوط العرفان، كم لأقدامهم في الدجى من جولان وكم لهم في وادي السحر من عيون تجري كالطوفان، فإذا لاحت أعلام الفجر كبّروا عند مشاهدة العيان، فديت طراق الدجى، فديت أرباب العزائم، فديت الفتيان. بادروا رواهب الخلوة، نحن لكم جيران، تركنا الأسباب والأهل والأوطان، فرقنا شهوات النفوس والأبدان، وخرّبنا ديار اللهو، فأقفرت منذ زمان، طلقنا الدنيا بتاتا، وهجرنا الدار والسكان، سقينا من شراب الأنس شربة ولو كان ما كان، لبسوا حلة الجوع بالنهار، وتركوا خدمة من جلّ وهان، عمروا القلوب بالتقوى، وبالذكر اللسان، لهم نزاحم على باب الدجى، فمنهم من صاح ومنهم نشوان، ومنهم من خامره بالشوق، فهو من الحب ولهان، ومنهم من غلبه الوجد، فهو هائم سكران، أفناهم الخوف وأذبلهم الأرق وهم من القلق كل يوم في شأن. سيّرهم ذكر الحبيب ولهم في التلاوة ألحان، نالوا منازل التوكل، وأصبحوا فيها قطان، باعوا شهوات النفوس بأبخس الأثمان، سجلوا على أنفسهم سجل الرضا بالقضاء، فأهلا بالرجال الشجعان، تتجافى جنوبهم عن المضاجع ولهم تلحين بالقرآن، خامرهم الخوف فسكروا من شرابه مخافة النيران، منهم من سقي شراب المحبة صرفا، وتزايدت لهم الأحزان، ومنهم من مزج له بالأشواق، فعاين منه ألوان، كم خرّبوا في حبه منازل، وكم أيتموا فيه من ولدان. تراهم أبدا سكارى عرايا في القفار وفي البلدان. قلوبهم مملوءة بالخوف، وظاهرهم مضمّخ بالأحزان، ينادي لسان شوقهم: لا كان من ألم السلوى ولا كان، خرق لهم حجاب العادات وعقد على رؤوسهم للولاية تيجان، مجلس أنسهم مضمخ بالمشاهدة شديدة الأركان.

يا معشر الفقراء، طوفوا بهذا الدير، وزاحموا على بابه، وباكروا هذه الدنّان، طيبوا على هذا السماع، وتواجدوا على هذه الألحان، معكم جمال المحبوب، في الكون والحال. يا معشر الفتيان، ما أطيب عيش الصدّيقين، شربوا هذا الشراب وباحوا بالكتمان، فما تراهم إلا بين واجد وهائم وخائف وراج وولهان. فعندما تجلى لهم محبوبهم في قلوبهم، أغناهم عن مشاهدة العيان. لاطفهم بملاطفة: يا عبادي لا خوف عليكم، اليوم لكم الأمان. بعيني ما تحملتم من أجلي، فكم من جفنت ساهر، وكم من كبد من الشوق ملآن، سأكشف لكم لمألم الحجاب عن وجهي فتتنعمون بما لم يخطر على قلب إنسان. ألبسكم حلل الرضا، وأبسط مجالسكم بالرضوان، أسقيكم شراب التوحيد صرفا خالصا، وأنا الحنّان المنّان. يا أهل السماع تواجدوا، ويا معشر الإخوان، أين المشتاق؟ هذا الشراب، هذا كأس المتاب ملآن. أين أنت من أهل الصفا يا مضيّعا عمره في العصيان؟ بادر قبل تغيّر الحال، فتعود بالخيبة والخسران، واعص من لامك وخالف من عدلك، وأطع من نصحك ودع قالا وقيلا. {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} الإسراء 71ـ 72. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة العصر، فقام في الركعة الأولى، حتى ظننا أنه لا يرفع رأسه، فرفع رأسه، ورفعنا بعده، فلما قضيت الصلاة، انفتل من محرابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "أين أخي وابن عمي علي ابن أبي طالب؟ " فأجابه علي رضي الله عنه من آخر الصفوف، وهو يقول لبيك لبيك يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أدن مني يا أبا الحسن"، فدنا منه، فلم

يزل يدنيه حتى جلس بين يديه. فقال: "يا أبا الحسن، أما سمعت ما أنزل الله عليّ في فضل الصف الأول، والتكبيرة الأولى؟ " فقال: بلى يا رسول الله. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فما الذي أبطأك عن الصف الأول والتكبيرة الأولى، فهل شغلك حب الحسن والحسين عن ذلك؟ " فقال له علي رضي الله عنه: وهل يشغلني حبهما عن حب الله تعالى؟! قال له: "فما الذي شغلك عن ذلك يا عليّ" قال: يا رسول الله، أذن بلال وأنا في المسجد، فركعت ركعتين، وأقام بلال الصلاة فكبّرت معك التكبيرة الأولى، فوسوسني شيء من أمر الوضوء، فخرجت من المسجد إلى منول فاطمة رضي الله عنها، فناديت، يا حسن، يا حسين، فلم يجيبني أحد، فبينما أنا كالمرأة الثكلى، أو كالحبة في المقلى، وأنا أطلب ماء لوضوئي، إذ هتف بي هاتف عن يميني، فإذا أنا بقدح من الذهب الأحمر، وعليه منديل أخضر، فكشفت المنديل، فإذا هو ماء أشد بياضا من اللبن، وأحلى من الشهد، وألين من الزبد، فتطهرت للصلاة، تمندلت بالمنديل، ورددته على القدح، والتفت فلم أره، ولم أر من وضعه ولا من رفعه. فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "بخ بخ، هل تعلم من أتاك بالمنديل والقدح يا أبا الحسن؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال: "أتاك بالقدح جبريل عليه السلام، والماء من حظيرة القدس، والذي مندلك بالمنديل ميكائيل عليه السلام، والذي أمسك يدي على ركبتي حتى أدركت الركعة الأولى إسرافيل عليه السلام. يا أبا الحسن من أحبّك، أحبّه الله، ومن أبغضك أبغضه الله". ويروى إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلس ذات يوم مع أصحابه، فإذا بيهودية قد أقبلت تبكي، حتى وقفت بين يديه، وجعلت تقول هذه الأبيات، وهي تبكي: بأبي أفديك يا نور الفلك ... ليت شعري إن شيء قتلك غبت عني غيبة موحشة ... أترى ذئب يهودي أكلك إن تكن ميتا فما أسرع ما ... كان من أمر الليالي من أجلك

أو تكن حيا فلا بدّ لمن عاش إن يرجع من حيث سلك فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مالك أيتها المرأة؟ ". قالت: يا محمد بينما أنا وولدي يلعب بين يدي، إذ خطف، وبقي المكان منه بلقعة. قال لها: "يا هذه إن ردّ الله ولدك على يدي، أتؤمنين بي؟ " قالت: نعم وحق الأنبياء الكرام، إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب عليهم الصلاة والسلام. فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى ركعتين، ثم دعا بدعوات، فما استكملها حتى وضع الطفل بين يديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أين كنت أيها الطفل؟ ". قال: بينما كنت ألعب بين أمي، إذا أقبل عليّ عفريت كافر، فاختطفني وذهب بي من وراء البحر، فلما دعوت الله عز وجل، سلط الله عليه جنا مؤمنا أشد منه بطشا، وأعظم خلقا فانتزعني منه، وساقني إليك، فها أنا بين يديك صلى الله عليك. فقلت المرأة: أشهد إن لا اله إلا الله، وأشهد إن محمدا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. **

الفصل السابع والعشرون

الفصل السابع والعشرون اعلم أن الزنى من أكبر الكبائر، وهو شؤم على صاحبه في الدنيا والآخرة، ووبال على صاحبه. وقد نهى الله تعالى عنه في مواضع من كتابه، فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} الإسراء 32. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} المؤمنون 5، 7. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (¬1) .، أراد بذلك أن الزاني مبعد عن الله تعالى، مستوجب المقت من الله عز وجل. وفي الخبر أن شابا أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، أتأذن لي في الزنى، فصاح الناس به، فقال: "اتركوه، أدن مني"، فقال: "أتحبه لأمك؟ " قال: لا، جعلني الله فداك. قال: "كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم"، ثم قال له: "أتحبه لأبنتك؟ " قال: لا. قال: "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم". حتى ذكر الأخت، والخالات والعمات وهو يقول: لا، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "كذلك الناس لا يحبونه"، ثم وضع يده الكريمة على صدره، وقال: "اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه"، فلم يكن بعد ذلك شيء أبغض إليه من الزنى (¬2) . وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لما خلقت المرأة، قال لها إبليس: أنت نصف جندي، وأنت موضع سري، وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطئ" فتحفظ رحمك الله نت سهام الشيطان. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم 57، ابن ماجة 3936. (¬2) رواه أحمد وإسناده صحصح.

وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الزنى من أكبر الكبائر، والزاني عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إلى يوم القيامة، فان تاب، تاب الله عليه" (¬1) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من علامة المؤمن أن يجعل الله شهوته في الصلاة والصيام، وعلامة المنافق أن يجعل الله شهوته في بطنه وفرجه". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الزنى يورث الفقر، ويذهب بهاء الوجه" يقول الله تعالى: "آليت على نفسي أن أفقر الزاني ولو بعد حين". والزنى يذهب بالمال، وبنور الوجه، ويخلد صاحبه في النار. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي ذر رضي الله عنه: "ما لقي الله العبد بذنب بعد الشرك بالله، أعظم من الزنى، ومن امرئ يضع نطفته في رحم حرام، وإن الزاني يسيل من فرجه يوم القيامة صديد لو وضعت منه قطرة على وجه الأرض، لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم نتنا". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إياكم والزنى فإنه ذهاب البهاء، وطول الفقر، وقصار العمر، وأما اللواتي في الآخرة فسخط الله، وسوء الحساب، والخلود في النار" (¬2) . يا من عصى الله في الشباب وقد ... أدركه الشيب راقب الله صحفك بالسيئات قد ملئت ... بأي وجه تراك تقراها أعدد جوابا إذا سئلت غدا ... وقرّب النار منك مولاها يا معشر المسلمين كم رجل ... تلومه النار حين يصلاها قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من أحد أغير من الله تعالى أن يرى عبده أو أمته يزني، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ألا وإن في النار لتوابيت من نار، فيها أقوام محبوسون في تلك التوابيت، فإذا سألوا الراحة، فتحت لهم تلك التوابيت فإذا فتحت بلغ شررها أهل جهنم، فيستغيث أهل جهنم ¬

_ (¬1) أبو داود 4690. (¬2) انظر الموضوعات لابن الجوزي.

بصوت واحد، ويقولون: اللهم العن أهل التوابيت، وهم الذين يغتصبون فروج النساء حراما". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله لما خلق الجنة، قال لها: تكلمي. قالت: سعد من دخلني، فقال الجبار جل جلاله: وعزتي وجلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس، مدمن خمر، ولا مصرّ على الزنى، ولا نمّام، ولا ديّوث، ولا شرطيّ، ولا مخنّث، ولا قاطع رحم، ولا الذي يقول: عليّ عهد الله أن أفعل كذا وكذا ولا يفعله". فليس المصر على الزنى هو المداوم عليه، ولا مدمن الخمر هو الملازم لشربه، ولكنه هو إذا وجد الخمر شربها، ولم يمنعه منها خوف الله تعالى، ومتى تهيأ له الزنى، ولم يتب من ذلك، ومن لم ينه النفس عن الهوى فان الجحيم هي المأوى. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لغلمانه: إن أردتم النكاح نكحتم، أي تزوّجتم، فان العبد إذا زنى، خرج الإيمان من قلبه فلا يبقى للعبد إيمان. وقال لقمان لابنه: إياك والزنى، فإن أوله مخافة آخره ندامة، ومن بعد تلقى آثامه. وأنشدوا: يا من خلا بمعاصي الله في الظلم ... في اللوح يكتب فعل السوء بالقلم بها خلوت وعين الله ناظرة ... وأنت بالإثم منه غير مكتتم فهل أمنت المولى من عقوبته ... يا من عصى الله بعد الشيب والهرم واعلم إن من غلبه هواه افتضح، فما نال الكرامات من نالها إلا بغلبة الهوى. كما روي أنه في بني إسرائيل رجل تزوج امرأة من بلد آخر، فأرسل بثقته إليها ليسوقها إليه، فراودته نفسه، وطالبته بها، فزجرها، واستعصم بالله، قال: فنبأه الله تعالى بترك هواه، وكان نبيا من بني إسرائيل. وأنشدوا:

توق نفسك لا تأمن غوائلها ... فالنفس أخبث من سبعين شيطانا وحكى ابن عباس عن كعب الأحبار رضي الله عنهما أنه قال: كان في بني إسرائيل صدّيق منفرد للعبادة، فأقام في صومعته دهرا طويلا، وكان يأتيه ملك في كل غدوّة وعشيّة، فيقول له الملك: ألك حاجة؟ فيقول: الله أعلم بحاجتي. وأنبت الله له فوق الصومعة كرمة، تحمل في كل يوم بالعنب، وكان إذا عطش مد يده، فينبع منها الماء، فيشرب منه. فلما كان بعد مدة مرت به امرأة لها حسن وجمال، عند المغرب، فنادته: يا عبد الله. فقال لها: لبيك. فقالت له: أيراك ربك؟ قال لها: هو الله الواحد القهار، الحيّ القيّوم، العالم بما في الصدور وباعث من في القبور. قالت له: البلد مني بعيد. قال لها: اصعدي. فلما صارت في صومعته، رمت بثيابها، وقامت عريانة، تجلو نفسها عليه، فغضّ بصره عنها. وقال لها: ويلك، استري نفسك. قالت له: ما يضرّك إذا تمتعت بي في هذه الليلة؟. فقال لنفسه: يا نفس، وما تقولين؟ قالت: والله إني أتمتع بها. قال لها: ويحك: أتريدين سرابيل القطران، مقطعات وتذهبين بعبادتي هذه المدة، وليس كل من زنى عفي عنه، وإن الزاني يكبّ على وجهه في النار، وهي نار لا تطفأ، وعذابها لا يفنى، وأخاف إن يغضب الله عليك، ولا يرضى أبدا عنك. فراودته نفسه على ذلك، فقال: أعرض عليك نارا صغيرة، فإن صبرت عليها، متعتك بهذه الجارية الليلة. قال: فملأ السراج دهنا، وأغلظ الفتيلة، والمرأة تسمع وتبصر، ثم ألقى يده إلى الفتيلة، وهي تتقد، فصاح بالفتيلة: ما لك؟ أحرقي، فأكلت إبهامه، ثم أكلت

أصابعه، ثم أكلت يده، فصاحت الجارية صيحة عظيمة، فارقت الدنيا، فسترها بثوبها. فلما أصبح صرخ إبليس لعنه الله: أيها الناس إن العابد قد زنى بفلانة بنت فلان، وقتلها. فركب الملك في جنده وأهل مملكته، فلما انتهى إلى الصومعة، صاح، فأجابه العابد، فقال له: أين فلانة بنت فلان؟ قال له: عندي ها هنا. قال له: قل لها أن تنزل. قال له: إنها قد ماتت. قال له الملك: ما رضيت بالزنى حتى قتلت النفس التي حرّم الله؟ فهدم الصومعة، وجعل في عنق العابد سلسلة، فجرّه بها، وحملت المرأة، وجيء بالعابد ملفوفة في كمه وهو لا يعلمهم بقصته. فوضع المنشار على رأسه، وقيل لأصحاب العذاب: جرّوا، فجرّوا. فلما بلغ المنشار إلى دماغه، تأوّه، فأوحى الله تعالى إلى جبريل عليه السلام: قل له: لا ينطق بشيء، وها أنا أنظر إليك، وقد أبكى حملة عرشي، وسكان سماواتي، فوعزتي وجلالي لئن تأوّه الثانية، لأهدمنّ السموات على الأرض، فما تأوه ولا تكلم حتى مات رحمه الله. فلما مات، ردّ الله الروح على المرأة، وقالت: مات والله مظلوما، ما زنى وما أنا إلا بخاتمي بكر. ثم قصت عليهم القصة، فأخرجوا يده، فإذا هي محروقة كما قالت الجارية. فقالوا: لو علمنا ما نشرناه، وخرّ العابد نصفين على الأرض، وعادت الجارية كما كانت، فحفروا لهما قبرا واحدا، فوجدوا في القبر مسكا وعنبرا وكافورا. ثم أتوا بهما ليصلوا عليهما، فناداهم مناد من السماء: اصبروا حتى تصلي عليهما

الملائكة، ثم صلى عليهما الناس ودفنوهما، فأنبت الله على قبرهما الياسمين، ووجدوا على قبرهما رق مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من الله عز وجل إلى عبدي ووليي، إني نصبت المنبر تحت عرشي، وجمعت ملائكتي، وخطب جبريل عليه السلام، وأشهدت الملائكة أني زوّجتك خمسين ألف عروس من الفردوس، وهكذا أفعل بأهل طاعتي وأهل مراقبتي. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النظر إلى محاسن المرأة سهم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره، أذاقه الله تعالى عبادة يجد حلاوة تلك العبادة في قلبه" (¬1) . وفي المناجاة أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: يا موسى، حرمت على النار ثلاثة أعين: عين سهرت في سبيل الله، وعين غضّت عن محارم الله، وعين بكت من خشيتي، ولكل شيء جزاء، إلا الدمعة، فلا جزاء لها إلا الرحمة والمغفرة ودخول الجنة. والله تعالى أعلم. *** ¬

_ (¬1) رواه الحاكم من حديث حذيفة بن اليمان.

الفصل الثامن والعشرون

الفصل الثامن والعشرون وفي الخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كعبا فسأل عنه، فقيل إنه مريض، فخرج يمشي حتى أتاه، فلما دخل عليه قال: "أبشر يا كعب"، فقالت له أمه: هنيئا لك الجنة يا كعب. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من هذه المتألية على الله؟ " قال: أمي. قال: "وما يدريك يا أم كعب، لعل كعبا قال ما لا يعنيه أو سمع ما لا يعنيه؟ ". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العبادة تسعة أجزاء في الصمت، وجزء في الفرار من الناس" (¬1) . وفي الحكمة: تسعة أعشار العبادة في الصمت. وحكي أن مريم لما نذرت إلا تتكلم، وحبست لسانها لأجل الله تعالى، أطلق الله سبحانه وتعالى لسان صبي لا يعرف الخطاب، أنطقه الله لأجلها. فمن حفظ لسانه لأجل الله تعالى في الدنيا، أطلق الله لسانه بالشهادة عند الموت ولقاء الله تعالى. ومن سرّح لسانه في أعراض المسلمين، واتبع عوراتهم أمسك الله لسانه عن الشهادة عند الموت. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه، كانت النار أولى به" (¬2) فلذلك كان الصّدّيق رضي الله عنه يضع فيه حجرا ليمنع نفسه عن الكلام. ¬

_ (¬1) قال الحافظ العراقي: منكر. (¬2) صحيح بشواهده من حديث عمر موقوفا.

وسأل معاذ رضي الله عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيّ الأعمال أفضل، فأخرج لسانه، ووضع يده عليه. وأوصى عليّ ابن أبي طالب عنه ولده الحسن، فقال له: أمسك عليك لسانك، فان تلاف المرء في منطقه. وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوما، فقال: إن ربكم تعالى يقول: يا ابن آدم، لم تحرّض الناس على الخير، وتدع ذلك من نفسك؟ يا ابن آدم، لم تذكّر الناس وتنسى نفسك؟ يا ابن آدم، لم تدعوني وتفرّ مني؟ إن كان كما تقول، فاحبس لسانك، واذكر خطيئتك، واقعد في بيتك. وفي صحائف إبراهيم عليه السلام: على العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه. وعن مالك بن دينار رحمه الله تعالى أنه قال: إذا رأيت قساوة في قلبك، أو وهنا في بدنك، أو حرمانا في رزقك، فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك. وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بنيّ، من رحم يرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يفعل الخير يغنم، ومن يفعل الشر يأثم، ومن لا يملك لسانه يندم. وأنشدوا: احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يقتلنك انه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشجعان ويقال: إن جميع الأعضاء تبكّر كل يوم للسان، وتقول له: ناشدتك الله تعالى أن تستقيم، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. وقال بعض الحكماء: احبس لسانك قبل أن يطول حبسك، وتتلف نفك، فلا شيء أولى بطول حبس من اللسان ليقصر على الصواب ويسرع إلى الجواب.

قال بعض الحكماء: ترك فضول الكلام يثمر النطق بالحكمة، وترك فضول النظر يثمر الخشوع والخشية، وترك فضول الطعام يثمر حلاوة العبادة، وترك الضحك يثمر حلاوة لهيبة، وترك الرغبة في الحرام يثمر المحبة، وترك التجسس عن عيوب الناس يثمر صلاح العيوب، وترك التوهم في الله ينفي الشك والشرك والنفاق. وأنشدوا: الصمت نفع والكلام مضرة ... فلربّ صمت في الكلام شفاء فإذا أردت من الكلام شفاء ... لسقام قلبك فالقرآن دواء واعلم أن التجسس عن عيوب الناس، وتطلب مساوئهم، يبدي العورات، ويكشف المخبّآت. وقد نهى الله عز وجل عن ذلك في كتابه العزيز بقوله: {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الحجرات 12. فاتق الله واشتغل بعيوبك عن عيوب الناس، ولا تكن كمثل الذباب الذي لا يعرج على المواضع السليمة من الجسد، ولا ينزل عليها، وإنما يقع على القروح فيدميها. فمن بحث عن مساوئ الناس واتبع عوراتهم، واشتغل بعيب غيره، وترك عيبه، سلط الله تعالى عليه من يبحث في عيبه ومساوئه ليشهّرها، ويتبع عورته ويبديها وينشرها (¬1) . فالعاقل السعيد من نظر في عيبه، وشغل بذلك عن عيوب غيره، وعن كل شيء سوى الله تعالى. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جبريل عليه السلام عن الله تعالى، أنه قال: ¬

_ (¬1) أبو داود 4880.

يا موسى خمس كلمات ختمت بهن التوراة، فإن عملت بهن، نفعك علم التوراة، وإن لم تعمل بهنّ، لم ينفعك علم التوراة: أولهنّ: يا موسى، كن واثقا برزقي المضمون لك ما لم تر خزائني نفدت. الثانية: يا موسى، لا تخافنّ سلطان الأرض ما لم تر سلطاني زائلا. والثالثة: يا موسى، لا تجسس عن عيب أحد ما لم تخل من العيوب. الرابعة: يا موسى، لا تدعنّ محاربة الشيطان ما دام روحك في جسدك. الخامسة: يا موسى، لا تأمن عقابي ولو رأيت نفسك في الجنة. وقال: يا أخي، إياك أن تعيّر أحدا بما فيه، فاني أخشى أن يبتليك الله ويعافيه، ولا تستر على الفاجر الظاهر فجوره، ولا على من لا يستتر بالمعصية ويعلن بها. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يرى امرؤ من أخيه عورة، فيسترها عليه إلا أدخله الله الجنة". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أقال مسلما عثرته، أقال الله عثرته يوم القيامة" (¬1) ويقال إن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يسكن بجواره شاب مولّع بشرب الخمر، فكان أبو حنيفة يسهر الليل على النظر في الكتب والقراءة، وكان بينه وبين الشاب جدار، فكان يشرب ويتمثل: سأنشدهم إذا ما هم جفوني ... أضاعوني وأي فتى أضاعوا ويكثر التردد بهذا البيت، فكان أبو حنيفة يستأنس بكلامه. فلما كان ذات ليلة، لم يسمع له أبو حنيفة حسا، فلما خرج لصلاة الصبح سأل عنه فقيل له: إن صاحب الشرطة لقاه مخمورا، فحمله إلى السجن، فلما صلى أبو ¬

_ (¬1) أبو داود 3460، ابن ماجه 2199، وصححه الحاكم.

حنيفة، مضى إلى منزل صاحب الشرطة، واستأذن عليه، واعلمه بنفسه، فخرج إليه صاحب الشرطة حافي القدمين، عاري الرأس، وقبّل يده، وقال: يا سيدي، وما بلغ من قدري حتى تأتيني إلى منزلي؟ فقال أبو حنيفة: إني جئتك في قضية جار لي سجن الليلة، فقال: أشهدك يا سيدي أني أطلقته وجميع من سجن في تلك الليلة. قال: وانصرف أبو حنيفة والرجل معه. ثم التفت إليه، وقال: هل ضيّعناك يا أخي، أم قمنا بحقك رعيا لقولك: أضاعوني وأي فتى أضاعوا؟ فقال: لا والله لم تضيّعني، بل رعيتني، جزاك الله عن الجوار خيرا، وأشهدك أني تائب لوجه الله تعالى. قال: فلزم الإمام، وعبد الله تعالى حتى أتاه اليقين. **

الفصل التاسع والعشرون

الفصل التاسع والعشرون قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي هريرة: "يا أبا هريرة، إن أحببت أن يفشي الله لك الثناء، الحسن الجميل في الدنيا والآخرة، فكف لسانك عن المسلمين". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما صام من ظل يأكل لحوم الناس" (¬1) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أبغض عباد الله إلى الله كل طعّان لعّان. وقال سعيد بن عامر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من دعا رجلا بغير اسمه، لعنته الملائكة (¬2) . قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن العبد يعطى كتابه يوم القيامة، فيرى فيه حسنات لم يكن عملها قط، فيقول: يا رب، من أين هذه الحسنات؟ فيقول: باغتياب الناس فيك وأنت لا تعلم" (¬3) . وقال حاتم الأصمّ: ثلاثة إذا منّ في مجلس فالرحمة مصروفة عنه: ذكر الدنيا، والضحك، والوقيعة في الناس. واعلم رحمك الله، إن النميمة تفسد الدين والدنيا، وتغيّر القلوب، وتولّد البغضاء، وسفك الدماء، والشتات. قال الله العظيم: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} القلم 10-13. وسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الغيبة فقال: "أن تذكر أخاك بما هو فيه غائب عنك، وإن ذكرته بما ليس فيه فقد بهته" (¬4) أي فذلك البهتان. ¬

_ (¬1) ذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية من جملة أحاديث لا تصح. (¬2) رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة. وهو حديث ضعيف. (¬3) رواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق. وهو حديث ضعيف. (¬4) رواه مسلم 2589، أبو داود 4874.

وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شرّ عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة" (¬1) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يدخل الجنة قتات" (¬2) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من مشى بين اثنين بالنميمة، سلط الله عليه نارا في قبره تحرقه إلى يوم القيامة. وحيّة تنهشه حتى يدخل النار". قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ألقى بين اثنين عداوة، فليتبوأ مقعده من النار، ومن أصلح بينهما، فقد وجبت له على الله الجنة". قال بعض الحكماء: النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء، ومن واجهك فقد شتمك، ومن نقل إليك فقد نقل عنك، والسّاعي بالنميمة كاذب لمن يسعى إليه، وخائن لمن يسعى به. قال الشاعر: احفظ لسانك لا تؤذي به أحدا ... من قال في الناس عيبا قيل فيه بمثله قال الأصمعي: شاهدت أعرابية وهي توصي ابنها، فقالت: يا بنيّ، أمنحك وصيّتي وبالله التوفيق، فإياك والنميمة، فإنها تورث العداوة بين الأهلين، وتفرّق بين المحبين، وإياك والتعرّض للعيوب، فتصير لها أهلا، وإيّاك والجود بدينك، والبخل بمالك، ومثل لنفسك مثالا من غيرك، فما استحسنته من الناس فافعله، وما استقبحته منهم فاجتنبه، فان المرء لا يرى عيب نفسه. ثم أمسكت، فقلت: يا أعرابية، بالله إلا زدتيه، فقالت: يا حضريّ، أعجبك كلام العرب؟ فقلت: أى والله. فقالت: يا بني، إياك والغدر فانه أقبح ما تعامل به الناس، واجمع بين السخاء والعلم، والتواضع والحياء، وأستودعك الله، وعليكم السلام. ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف. رواه أحمد في المسند. (¬2) مسلم 105.

واعلم رحمك الله أن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام. وقال بعض أهل العلم: الغيبة تنقض الوضوء، وتفطّر الصائم. وكان بعض الفقهاء يعيد الوضوء من الغيبة. وقيل: مثل صاحب الغيبة كمثل من نصب منجنيقا، فهو يرمي به حسناته يمينا وشمالا، وشرقا وغربا. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أتحب أن أنصرك على عدوّك؟ قال: بم؟ قال: بردّك الغيبة عن المسلمين. ومن مات تائبا عن الغيبة والنميمة، فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات وهو مصر عليهما، فهو أول من يدخل النار. وقال سليمان عليه السلام: يا رب، أي الأعمال أفضل وأحب إليك؟ فقال تعالى عشر خصال يا سليمان، أدها أن لا تذكر أحدا من عبادي إلا بخير، ولا تغتب أحدا ولا تجسّه. فقال: ربّ، احبس عني السبعة فقد كربني هؤلاء. وقال عطاء السليمي: عذاب القبر ثلاث أثلاث: ثلث من البول وثلث من الغيبة، وثلث من النميمة. فإيّاك يا أخي والتعرّض للأقدار، وأن تغتاب أحدا بما أودع فيه الجبار، فان المولى جل جلاله أعلم به، وأحكم ولو شاء لأهلكه وانتقم. يروى أن عيسى عليه السلام مرّ ببعض الأنهار، فإذا بصبيان يلعبون في ذلك النهر، ومعهم صبي أعمى قد كف بصره، وهم يغمسونه في الماء، ويفرّون منه يمينا وشمالا، وهو يطلبهم ولا يظفر بهم. ففكر عيسى عليه السلام في أمره، ودعا ربه أن يردّ عليه بصره، وأن يساوي بينه وبين أصحابه.

فردّ عليه بصره، فلما فتح عينيه ورآهم وثب على واحد منهم، فتعلق به ولم يزل يغمسه في الماء حتى قتله، وطلب آخر فتعلق به كذلك حتى مات، وهرب الباقون. فرأى عيسى عليه السلام ذلك، فتعجب، وقال: يا الهي، وسيدي ومولاي، أنت بخلقك أعلم، فدعا ربه أن يردّه كما كان ويكفيهم أمره. فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: قد كنت أعلمتك وتعرّضت إليّ في حكمي وتدبيري، فخرّ عيسى عليه السلام ساجدا. واعلم أنه لا يجري في هذا العالم أمر إلا وللمولى فيه حكم تدبير. عن بعض السلف أنه قال: إذا كان يوم القيامة، اجتمع القوم الذين كان يتجالسون على غير طاعة الله تعالى، ويتعاونون على المعاصي، فيجثون على الرّكب، ويعض بعضهم بعضا، وينهش بعضهم بعضا، كالكلاب، وهم الذين خرجوا من الدنيا على غير توبة. قال الفقيه أبو الحسن علي بن فرحون القرطبي رحمه الله في كتابه المعروف بالزاهر، كان لي عم، وتوفى في مدينة قاس سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فرأيته بعد ذلك في المنام وهو داخل عليّ في داري، فقمت إليه ولاقيته بقرب الباب، وسلمت عليه، ودخلت خلفه، فلما توسّط في البيت، قعد واستند بظهره إلى الجدار، فقعدت بين يديه، فرأيته شاحب اللون متغيّرا، فقلت له: يا عمّاه، ماذا لقيت من ربك؟ قال: ما يلقى من الكريم يا بنيّ، سمح لي في كل شيء إلا في الغيبة، فاني منذ فرقت الدنيا إلى الآن محبوس فيها، ما سمح لي بعد فيها، فأنا أوصيك يا بنيّ: إيّاك والغيبة والنميمة، فما رأيت في هذه الدار شيئا أشد بطشا وطلبا من الغيبة. وتركني وانصرف. وأنشدوا:

يموت كل الأنام طرّا ... من صالح كان أو خبيث فمستريح ومستراح ... منه كما جاء في الحديث وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة فيدفع له كتابه، فلا يرى فيه صلاته ولا صيامه، ويرى أعماله الصالحة، فيقول يا رب، هذا كتاب غيري، كانت لي حسنات ليس في هذا الكتاب، فيقال له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتيابك الناس. فإيّاك يا أخي والغيبة والنميمة، فإنهما يضرّان بالدين، ويحبطان عمل العاملين، وتورث العداوة بين المسلمين، أعاذنا الله منهم. **

الفصل الموفى ثلاثين

الفصل الموفى ثلاثين قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه". فالغيبة بالقلب حرام، كما هي باللسان حرام، إلا إن يضطرّ لمعرفته، بحيث لا يمكنه التجاهل، فحدّ الغيبة كما بيّنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أن تذكر أخاك بما يكرهه إن بلغه أو سمعه، وإن كنت صادقا سواء ذكرت نقصانا في نفسه، أو عقله، أو ثوبه، أو في فعله، أو في قوله أو في دينه، أو في داره، أو في دابته، أو في ولده، أو في عبده، أو في أمته، أو بشيء ما يتعلق به، حتى قولك: إنه واسع الكم، طويل الذيل. وقد ذكر رجل عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل: ما أعجزه، فقال: "اغتبتموه". وأشارت عائشة رضي الله عنها إلى صفيّة، وقالت لها كذا وكذا، وأشارت بيدها، تعني قصرها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اغتبتها يا عائشة"، فقالت: يا رسول الله، أليست هي قصيرة؟ قال: "إنك ذكرت أقبح شيء فيها". والغيبة لا تقتصر على اللسان، بل كل ما يفهم منه عرض يكرهه المذكور فيه إن بلغه أو سمعه، باليد، أو بالرجل، أو بالإشارة، أو بالحركة، أو بالتعرّيض أو بالمحاكاة، فهي غيبة. وقد عظم الله تعالى أمر الغيبة، فقال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} الحجرات 12. وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الهمزة 1. فقيل معناه الطاعن في الناس، الذي يأكل لحوم الناس. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم

بأظفارهم، فقيل لي: هؤلاء الذين يغتابون الناس". وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد". روي عن عبد الملك بن حبيب رحمه الله تعالى بإسناده عمّن حدّثه أنه قال لمعاذ بن جبل: يا معاذ حدّثني حديثا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا معاذ إني محدثك حديثا، إن أنت حفظته نفعك الله، وإن ضيّعته ولم تحفظه، انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة. يا معاذ: الله خلق سبع أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض، فجعل لكل سماء ملكا بوّابا عليها، فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين يصبح إلى حين يمسي، له نور كنور الشمس، حتى إذا بلغت به إلى سماء الدنيا، فتزكيه وتكثره، فيقول الملك الموكل بها للحفظة: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري. ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من العبد، فتزكيه وتكثره، حتى تبلغ به إلى السماء الثانية، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، انه أراد بهذا العمل عرض الدنيا، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يبتهج نورا من صدقة وصيام، وقد أعجب الحفظة، فيجاوزون به إلى السماء الثالثة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر، أمرني ربي إلا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، انه كان يتكبّر على الناس. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كما يزهر الكوكب الدري وله دويّ من صلاة وتسبيح وحج وعمرة، حتى يجاوزوا به إلى السماء الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها، قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ظاهره وباطنه، أنا صاحب

العجب، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، إنه كان إذا عمل عملا أدخل العجب فيه. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وصوم وصدقة وزكاة وحج وعمرة، حتى يجاوزوا بها إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واحملوه على عاتقه، أنا ملك الحسد، انه كان يحسد من يتعلم، ولا يعمل بمثل عمله، وكل من كان يأخذ فضلا من العبادة كان يحسده، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة وصيام، فيجاوزون به إلى السماء السادسة، فيقول لهم الملك، قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، انه كان لا يرحم إنسانا ولا مسكينا من عباد الله تعالى قط إذا أصابه بلاء أو ضرّ، بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وصوم وجهاد وورع، له دويّ كدويّ النحل، وضوء كضوء الشمس، ومعه ثلاث آلاف ملك، فيجاوزون به السماء السابعة: فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واقفلوا على قلبه، إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به ربي، إنما أراد بعمله رفعة عند الفقهاء، وذكرا عند العلماء، وصيتا في المدائن، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، وكل عمل لم يكن لوجه الله خالصا، فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وعمرة وخلق وحسن وصمت، وذكر الله تعالى، فتشيّعه ملائكة السموات السبع، حتى يقطعوا الحجب كلها، ويقفوا بين يدي الله تعالى، ويشهدوا له بالعمل الصالح لله تعالى، فيقول لهم: أنتم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، انه لم يردني بهذا العمل، وأراد به

غيري، فعليه لعنتي ولعنة أهل السموات والأرض، فتقول الملائكة كلها: عليه لعنتك ولعنتنا، وتقول السموات كلها: عليه لعنة الله ولعنتنا، وتلعنه السموات السبع ومن فيهنّ". قال نعاذ: قلت: يا رسول الله، أنت رسول الله، وأنا معاذ. قال: "اقتد بي، وإن كان في عملك نقص، يا معاذ، احفظ لسانك من الوقيعة في لسانك من إخوانك من حملة القرآن، واحمل ذنوبك، ولا تحملها عنهم، ولا تركّ نفسك بذمّهم ولا توقع نفسك عليهم، ولا تدخل الدنيا في عمل الآخرة، ولا تتكبّر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك، ولا تمازح رجلا وعندك آخر، ولا تتعاظم على الناس، فتقطع عنك خيرات الدنيا والآخرة، ولا تمزق لحوم الناس بلسانك، فتمزقك كلاب النار يوم القيامة بالنار، قال الله تعالى: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} النازعات 2. هل تدري ما هنّ يا معاذ؟ " قلت: ما هنّ بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال: "كلاب من نار تنشط العظم واللحم". قال: قلت: يا رسول الله من يطيق هذه الخصال، ومن ينجو منها؟ قال: "يا معاذ، إنه يسير على من يسّره الله تعالى عليه". قال: فما رأيت أحدا أكثر تلاوة للقرآن من معاذ لهذا الحديث (¬1) . ¬

_ (¬1) أورده المصنف في كتاب الموضوعات حديث موضوع.

الفصل الحادي والثلاثون

الفصل الحادي والثلاثون قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (¬1) . وقال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه" (¬2) . وقال: "المسلمون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسه، تداعى بقيّة جسده بالحمّى السهر" (¬3) . وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت". وقال معاذ رضي الله عنه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول؟ فقال: "ثكلتك أمك يا ابن جبل، وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟! " (¬4) . وقيل لعيسى عليه السلام: دلنا على عمل ندخل به الجنة، قال: فلا تنطقوا أبدا. قالوا: لا بدّ لنا من ذلك. قال: فلا تنطقوا إلا بخير. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخزن لسانك إلا من خير، فانك بذلك تغلب الشيطان" (¬5) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تعالى عند كل لسان ناطق، فليتق الله امرؤ علم ما يقول" (¬6) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" (¬7) . ¬

_ (¬1) مسلم 40. (¬2) مسلم 2580. (¬3) البخاري 6011، ومسلم 2586. (¬4) الترمذي 2616. حديث حسن. (¬5) رواه ابن أبي الدنيا في الصمت بإسناد حسن. (¬6) رواه ابن المبارك في الزهد. (¬7) مسلم 48.

وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رحم الله عبدا قال خيرا أو صمت" (¬1) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه" (¬2) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام رجع إلى قلبه، فان كان له تكلم، وإن كان عليه امسك، وقلب الجاهل من وراء لسانه، فهو يتكلم بكلّ ما عرض له". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة" (¬3) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالا يهوي بها في نار جهنم، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها إلى الجنة" (¬4) . وإيّاك يا أخي، والعجب، فانه مذموم كيف كان: بالنفس أو بالفعل أو بالقول، ولا تغترّ بفعلك ولا بقولك، فإن الله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} . النجم 32. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" (¬5) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو لم تذنبوا، لخشيت عليكم ما هو أشد من الذنب، وهو العجب" (¬6) . وقيل لعائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئا؟ قالت: إذا ظنّ أنه محسن. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الهلاك في اثنتين القنوط والعجب. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني. في المعجم الكبير، وحسنه الألباني. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في الصمت. (¬3) الترمذي2320، وابن ماجه 3969. (¬4) رواه البخاري. (¬5) حسنه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب. (¬6) انظر: الترغيب والترهيب.

وإنما جمع بينهما، لأن القانط لا يطلب السعادة لقنوطه، وإن المعجب لا يطلبها لظنه أنه ظفر بها. وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يوما: أنا من الراسخين في العلم، وقال يوما: سلوني قبل إن تفقدوني، فلما انصرف إلى منزله، بعث الله ملكا في صورة آدمي، فدق عليه الباب، فخرج إليه عبد الله بن عباس، فقال له الملك: يا ابن عباس: ما تقول في النملة مع صغرها، أين روحها في مقدّمها، أو في مؤخرها؟ فلم يجد جوابا فدخل منزله، وأغلق بابه، وآلى على نفسه أن لا يدّعي علما أبدا. قال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} يوسف 76. وذكر أنه حضر بعض النحويين في مجلس ابن شمعون الوعظ، وكان من الزهاد، فكأن النحويّ أخذ على الشيخ لحنا في لسانه، وغلظا في كلامه، فانقطع عنه النحويّ، ولم يأت إلى مجلسه، فكتب إليه ابن شمعون: أراك من الإعجاب رضيت أن تقف دون الباب، أما سمعت رسالة بعض العارفين إلى بعض المتأدبين. كتب إليه: من اعتمد على ضبط أقواله، لحن في أفعاله، انك رفعت وخفضت وجزمت وتهت وانقطعت. ألا رفعت إلى الله جميع الحاجات؟ إلا خفضت صوتك عن المنكرات؟ إلا نصبت بين عينيك ميزان الممات، أما علمت أنه لا يقال غدا لعبد: لم لم تكن معربا وإنما يقال له: لم كنت مذنبا. يا هذا، ليس المرغوب الفصاحة في المقال، وإنما المرغوب الفصاحة في الفعال. ولو كانت الفصاحة محمودة في المقال دون الفعال، لكان هارون أولى بالرسالة من موسى عليهما السلام، قال الله تعالى إخبارا عن قول موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} القصص 34. فجعلت الرسالة لموسى لفصاحة أفعاله، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

وأنشدوا: ولاحن في الفعال ذو زلل ... حتى إذا جاء قوله وزنه قال وقد أكسبه لفظه ... تيها وعجبا أخطأن يا لحنه قلت أخطأ الذي يقوم غدا ... ولا يرى في كتابه حسنه روي أن رجلا نظر إلى بشر بن منصور السليمي رضي الله تعالى عنه وهو يطيل الصلاة، ويحسن العبادة، فلما فرغ قال له: لا يغرّنك ما رأيت مني، فان إبليس، لعنه الله، عبد الله آلافا من السنين ثم صار إلى ما صار إليه. فمن سعادة المرء أن يقرّ على نفسه بالعجز والتقصير في جميع أفعاله وأقواله. قيل المهلكات أربع هي: أنا، ونحن، ولي، وعندي. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النادم على الذنب كمن لا ذنب له" (¬1) ، " النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت من الله تعالى" (¬2) . قال أبو الدرادء رضي الله عنه: إن ناقدت الناس ناقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك، فالعاقل من وهب نفسه وعرضه ليوم فقره، وما تجرّع مؤمن أحب إلى الله عز وجل من غيظ كظمه، فاعفوا يعزكم الله، وإياكم ودمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فانها تسري بالليل والناس نيام. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أعظم الخطايا الكذب، وسب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله ومن يغفر، يغفر الله له، ومن يصبر على الرزيّة يعقبه الله خيرا منها. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما أخذ موسى عليه السلام الألواح، نظر فيها، وقال: الهي، أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدا من قبلي، فأوحى الله تعالى إليه: أتدري لما فعلت ذلك بك؟ قال: لا. قال: نظرت إلى قلوب عبادي، ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه 4250. حديث حسن. (¬2) رواه الطبراني وقال ابن عدي: منكر.

فلم أجد قلبا أشد تواضعا من قلبك، فلذلك: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} الأعراف 144. يا موسى: إنما أقبل من تواضعي لعظمتي، ولم يتعاظم على خلقي، وألزم قلبه خوفي، وقطع نهاره بذكري، وكفّ لسانه عن الشهوات لأجلي. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها رجل، ومن كظم غيظا هو قادر على إنفاذه، ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا". وحكي أن غلاما لجعفر الصادق رضي الله عنه سكب على يده الماء في الطشت، فطار الماء على ثوبه، فنظر إليه جعفر نظرة منكرة، فقال العبد: يا مولاي: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} قال: كظمت غيظي. قال الغلام: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال عفوت عنك. قال الغلام: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران 134، قال اذهب، أنت حرّ لوجه الله تعالى، ولك من مالي ألف دينار. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله، إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخالطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا، حليما سكوتا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا، ولا غافلا، ولا سخابا، ولا صيّاحا، لا حديدا، ولا منزعجا. قال بعض الزاهدين: اغتنموا من زمانكم خمسا: إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئا لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئا لم تغبطوا به. وأوصيكم بخمس أيضا: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مدحتم لم تفرحوا، وإن ذممتم لم تجزعوا، وإن كذبتم لم تغضبوا، وإن خانوكم فلا تحزنوا. **

الفصل الثاني والثلاثون

الفصل الثاني والثلاثون اعلم أن الربا من المهلكات وهو أخفى من دبيب النمل على الصفاء في الليلة الظلماء، وإن أدنى الربا كالذي يزني مع أمه والزنية مع الأم أعظم الأمور وزرا من سبعين زنية مع غيرها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} البقرة 278. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة 275. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "درهم الربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية في الإسلام" (¬1) . وقال سمرة بن جندب رضي الله عنه: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى صلاة الغداة، اقبل علينا بوجهه الشريف، وقال: "هل رأى أحد منك رؤيا؟ " قلنا: لا يا رسول الله، فذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث الربا. قال: ثم انتقلنا حتى أتينا على نهر من دم وفيه رجل قائم، وعلى شاطئ النهر رجل قائم، وبين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر ليخرج، فلما أراد إن يخرج، رماه الرجل بحجر فيه، فردّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى فيه حجرا، فرجع كما كان. قال: "فسألت عنه فقيل لي: هذا آكل الربا يفعل به هكذا يوم القيامة. وقال موسى عليه السلام: يا رب، ما جزاء من يأكل الربا ولم يتب منه؟ قال: يا موسى أطعمه يوم القيامة من شجر الزقوم. ¬

_ (¬1) حديث صحيح، رواه أحمد في المسند.

وأنشدوا: أيا الذي قلبه ميّت ... بأكل الربا ازدجر وانتبه فكم نائم نام في غبطة ... أتته المنيّة في نومته وكم من مقيم على لذة ... دهته الحوداث في لذته وكم من جديد على ظهرها ... سيأتي الزمان على جدته وأما آكل الحرام، قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} البقرة 168. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن لله تبارك وتعالى ملكا على بيت المقدس ينادي في كل يوم وليلة: من أكل حراما، لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يخرج ذلك الحرام من بيته، فان مات على ذلك، فأنا بريء منه". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أخرجوا الأمانة من بيوتكم، وردّوها إلى أربابها، فإنكم تفعلوا فلن تنفعكم أعمالكم شيئا، ولا ينفعكم قول لا اله إلا الله مع الحرام في البيت". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من اكتسب درهما حلالا، وأنفقه في حلال، غفر الله له كل ذنب إلا الربا والحرام". قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طلب الحلال فرض على كل مسلم"، أي: بعد فريضة الإيمان (¬1) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أكل لقمة الحرام، لم يقبل الله تعالى منه صلاة أربعين يوما". "وكل لحم أنبته السحت والحرام، فالنار أولى به" (¬2) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من اكتسب مالا حراما، لم يقبل الله منه صدقة، ولا عتقا، ولا حجا، ولا عمرة، وكانت له بعدده أوزارا، وما بقي منه بعد موته كان زاده إلى النار". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو أن رجلا اشترى ثوبا بعشرة دراهم، وكان فيهم دراهم حرام، لم ¬

_ (¬1) حسنه المنذري في الترغيب والترهيب. (¬2) رواه الترمذي 614 وهو حسن.

يقبل الله تعالى منه عملا حتى يؤديه إلى أهله". ويروى في حديث آخر: "لم يقبل منه عملا ما دام عليه شيء منه" (¬1) . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو أن أصحاب المال الحرام استشهدوا في سبيل الله تعالى سبعين مرة لم تكن الشهادة لهم توبة، وتوبة الحرام ردّه إلى أربابه، والاستحلال منهم". وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أكل الحلال أربعين يوما، نوّر الله تعالى قلبه، وأجرى ينابيع الحكمة على لسانه، ويهديه الله في الدنيا والآخرة". وفي المناجاة: أن الله تعالى يقول لموسى عليه السلام: إن أردت أن تدعوني، فصن بطنك عن الحرام، وقل: يا ذا المنّ القديم، والفضل العميم، يا ذا الرحمة الواسعة، فأنّى أجيبك فيما سألتني. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: لو صمتم حتى تكونوا كالحنايا، وصليّتم حتى تكونوا كالأوتار، لم يقبل منكم إلا بورع حاجز. وقال بعض أهل العلم: الدنيا حلالها حساب، وحرامها عقاب، والحرام داء لا دواء له إلا الفرار للرحمن من أكله. وأنشدوا في المعنى: أشبّه من يتوب على حرام ... كبيض فاسد تحت الحمام يطول عناؤه في غير شغل ... وآخره يقوم بلا تمام إذا كان المقام على حرام ... فلا معنى لتطويل القيام وقال يحيى بن معاذ رضي الله تعالى عنه: الطاعة مخزونة في خزائن الله تعالى، ومفتاحها الدعاء، وأسنانها أكل الحلال، فإذا لم يكن في المفتاح أسنان، فلا يفتح ¬

_ (¬1) حديث ضعيف، رواه أحمد.

الباب، وإذا لم تفتح الخزانة كيف يتوصل إلى ما فيها من الطاعة. فصن لقمتك، وأطب طعمتك حتى يتبين لك مبيض صالح العمل من مسود خيط الأمل من فجر الأجل، ثم أتم صيام الجوارح عن حرام طعام الآثام إلى ليل القيام فتفطر على فوائد موائد {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} . الحاقة 24. ومن لم يجتنب الحرام من الطعام، أفطر بعد طول الصيام على مرارة حرارة ثمرة الزقوم، فيا له من طعام، ما أعظم ضرره، يفتت الفؤاد، ويقطع الأكباد، ويمزق الأجساد، ويورث الأنكاد في الميعاد. وقال سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه: كنت أقرأ الآية فيفتح لي فيها سبعون بابا من العلم، فلما أكلت مال هؤلاء الأمراء، صرت أقرأ الآية فلم يفتح لي فيها باب واحد. فالحرام من القوت نار تذيب شحمة الفكر، وتذهب لذة حلاوة الذكر، وتحرّق ثياب إخلاص النيّات، ومن الحرام يتولد عمى البصيرة وظلام السريرة. فاكتسب مالا حلالا، وأنفقه في قصد، واجتنب الحرام وأهله، ولا تجالسهم، ولا تأكل طعامهم، ولا تصحب من كسبه من الحرام، إن كنت صادقا في ورعك، ولا تدلّن أحدا على الحرام فيأكله هو وتحاسب أنت عليه، ولا تعنه أيضا على طلبه، فان المعين شريك. واعلم أنه إنما تقبل الأعمال من آكل الحلال. ويتعلق بذلك كتمان الفاقة والحسرات وإخفاء الأنين والزفرات، والركون في الخلوات. وأما أكل مال اليتيم فلو لم يكن فيه إلا ما نطق القرآن الكريم على لسان نبيه الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا

يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} النساء 10. وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} الإسراء 34. وأما الخيانة في الوزن والكيل، فاجتنب ذلك يا أخي ما استطعت، فان الله تعالى قد أمرك بالعهد فيهما في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} المطففين 1، 3. وإيّاك يا أخي أن تغتبط بشيء من حقوق المسلمين، فإن البركة لا تكون مع الخيانة، وإن قليلا من الحرام يتلف كثيرا من الحلال. وإياك يا أخي إن خنت درهما، خانك إبليس في سبعين درهما. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثلاثة من كنّ فيه فهو منافق، وإن صلى وصام: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" (¬1) . وقال بعضهم: دخلت لزيارة جار لي كان يبيع الحنطة، فلما قعدت عند رأسه وهو يقول: جبلان من نار، فسألت زوجته، فقالت: إنه كال له مدّان، أحدهما كبير والآخر صغير، فإذا ابتاع من أحد شيئا اكتال بالمدّ الكبير، وإذا باع هو لأحد شيئا، كال له بالمد الصغير، فعلمت إن المدّين هما اللذان تصورا له جبلين من نار. قيل، وكان رجل بالبادية لبان يخلط اللبن بالماء، فجاء السيل، فذهب بالغنم، فجعل يبكي ويقول: اجتمعت تلك القطرات، فصارت سيلا، ولسان الجزاء يناديه: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} الحج 10. واعلم أن السرقة والخيانة أمران مهلكان ضارّان بالدين. ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم.

وفي المناجاة أن الله تبارك وتعالى قال لموسى عليه السلام: ستة ناري وغضبي، فأولهم من طال عمره وساء خلق، وغنيّ سارق، وعالم فاسق، ومن أتاني على غير توبة، ومن لقيني بدم مؤمن متعمدا، ومن منع حق امرئ مسلم وأكله غضبا. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من غشنا فليس منا" (¬1) . ذكر أنه وجدت على صخرة بيت المقدس مكتوب عليها ست كلمات: كل عاص مستوحش، وكل مطيع مستأنس، وكل خائف هارب، وكل راج طالب، وكل مقتنع غني، وكل حريص فقير. وأما الأيمان الكاذبة، فانه روي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الحلف الحنث أو ندم" (¬2) . وقيل: مرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجل من أصحابه وهو يضرب عبدا له، والعبد يقول له: أسألك بوجه الله تعالى إلا ما تركتني، وهو يزيد في ضربه، فسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صياح العبد، فانطلق إليه، فلما رآه السيّد أمسك فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سألك بوجه الله العظيم، فلم تعف عنه، فلما رأيتني، أمسكت يدك"، فقال: يا رسول الله أشهدك أنه حر لوجه الله تعالى العظيم، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو لم تفعل، للفحت النار وجهك". فإياك والتعرض لمقت الله تعالى بكثرة الأيمان، فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} البقرة 224. وفي الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قال: يا رب، ما لمن يحلف بك كاذبا؟ قال: أجعل لسانه بين جمرتين أحقابا. قال: يا رب فما على من اقتطع مال مسلم بيمين فاجرة؟ قال: أقطع حظه من الجنة. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تعالى أذن لي أن أحدّث عن ملك من حملة ¬

_ (¬1) رواه مسلم 101. (¬2) رواه ابن ماجة 2103.

العرش ورجلاه قد خرقت الأرض السفلى، وعنقه مثنيّ تحت العرش، فيرفع رأسه وهو يقول: يا إلهي وسيدي، ما أعظمك! فيقول الله تعالى: ما عرف ذلك من حلف بي كاذبا" (¬1) . وأما شرب الخمر، فانه من أكبر الكبائر، وقد ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: "من شرب من الخمر شربة لم تقبل منه صلاة سبعة أيام، ولم يقبل منه صيام" (¬2) . واعلم أن في شربها عشرة خصال مذمومة: أولها: أنها تذهب في عقل شاربها حتى يصير مضحكة للصبيان، ومهزأة كما روي عن ابن أبي الدنيا أنه قال: رأيت سكران يبول ويمسح وجهه ببوله، وهو يقول: اللهم اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهرين. ورأى سكران قد تقيأ والكلب يلحس فاه، والسكران يقول: أكرمك الله يا سيدي كرامة أوليائه. والثانية: أنها تتلف المال وتفسده، وتعقب الفقر، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم أرنا في الخمر فإنها متلفة للمال مذهبة للعقل (¬3) . والثالثة: أنها توقع العداوة والبغضاء. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} المائدة 91. ويريد: انتهوا عنهما. قال عمر: انتهيت يا رب، انتهيت. والرابعة: يحرم صاحبها لذة الطعام وصواب الكلام. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم وصححه، وكذلك الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب. (¬2) ابن ماجه 3377، وصححه الحاكم. (¬3) سنن أبي داود 3670، الترمذي 3049.

والخامسة: أنه تحرم عليه زوجته، فتكون معه على الزنى، وذلك أن أكثر كلامه بالطلاق، فربما حنث ولم يشعر، فيكون معها زانيا، فإنه روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: من أنكح كريمته شارب الخمر، فقد ساقه للزنى. والسادسة: أنها مفتاح كل شر توقعه في جميع المعاصي، كما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال في خطبته: أيها الناس، اتقوا شرب الخمر، فإنها أم الخبائث. والسابعة: أنها تؤذي حفظته بإدخالها في مجلس الفسوق والفجور والروائح الكريهة. والثامنة: أنه أوجب على نفسه الحد ثمانين جلدة، فان لم يضربها في الدنيا ضرب في الآخرة على رؤوس الأشهاد. والتاسعة: أنها تسدّ دونه أبواب السماء، فلا يرفع له عمل ولا دعاء أربعين يوما. والعاشرة: أنه خاطر بنفسه وبدينه، فيخاف عليه أن ينزع منه الإيمان عند الموت. كما روي عن بعضهم أنه قال: رأيت إنسانا يجود بنفسه عند الموت وهو يقال له: قل لا إله إلا الله، فكان يقول: اشرب واسقني. وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا مات العبد المخمور، فادفنوه واحبسوني، واحفروا عليه، فان لم تجدوا وجهه مصروفا عن القبلة، وإلا اضربوا عنقي. فهذه عقوبته في الدنيا، وأما عقوبته في الآخرة، فإنها لا تحصى من شرب الحميم والزقوم وعصارة أهل النار في النار، إلى غير ذلك من العذاب والنكال. أعاذنا الله منه. وأما ما أعدّ الله تعالى لتارك الصلاة على صحة البدن، فمنه ما روي عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس بين الكافر والمسلم إلا ترك الصلاة، فإن تارك الصلاة على صحة البدن يبتليه الله تعالى

بخمسة عشر عقوبة، منها ستة في الدنيا، وثلاثة عند موته، وثلاثة في قبره، وثلاثة عند لقاء ربه. فأما التي تصيبه في الدنيا، فيرفع الله تعالى البركة من عمره. والثانية: يرفع الله البركة من رزقه. والثالثة: تزول سيما الخير من وجهه. والرابعة: كل عمل يعمله لا يقبل منه شيء. والخامسة: كل دعائه لا يسمع. والسادسة: لا حظ له في الإسلام. قيل يا رسول الله فما الثلاثة التي تصيبه عند الموت؟ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يموت حيرانا ذليلا ولا يدري على أي دين يموت، ويموت عطشانا جيعانا ولو سقي أنهار الدنيا كلها ما روي". قيل يا رسول الله فما الثلاثة التي تصيبه في قبره؟ قال: "ظلمة القبر وضيقه، ومسألة منكر ونكير". قيل يا رسول الله، فما الثلاثة التي تصيبه عند لقاء ربه؟ قال: "يلقى الله تعالى وهو غضبان عليه، ويبعث الله له ملكا يكّبه على وجهه في النار، ويعذبه الله تعالى بالوادي الذي يقال له ويل" (¬1) . قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} الماعون 4-5. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عشرة من أمتي سخط الله تعالى عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا أليما، ويأمر الله تعالى بهم يوم القيامة إلى النار" قيل من هم يا رسول الله؟. قال: "أولهم الشيخ الزاني. والثاني: الإمام الظالم. والثالث: مدمن الخمر. ¬

_ (¬1) حديث موضوع أنظر تنزيه الشريعة.

والرابع: مانع الزكاة. والخامس: شاهد الزور. والسادس: الماشي بين الناس بالنميمة. والسابع: الذي ينظر لوالديه بنظر الغضب. والثامن: من يطلق زوجته ثم يمسكها على الحرام. والتاسع: الذي يحكم بالجور. والعاشر: تارك الصلاة على صحة البدن". وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن تارك الصلاة على صحة البدن: هل يقبل منه التوحيد؟ قال: من لا صلاة له لا توحيد له، ومن لا صلاة له، لا زكاة له، ومن لا صلاة له، لا صيام له. قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} مريم 59. وغيّا واد في جهنم لا يدخله إلا تارك الصلاة. قال ابن عباس: أول ما يسأل العبد يوم القيامة عن الصلاة، فان قبلت منه، قبل سائر عمله. وتارك الصلاة على صحة البدن إذا رفع اللقمة من القصعة، تقول: رفعني عدو الله إلى فم لم يذكر الله. وتارك الصلاة على صحة البدن يسوّد الله وجهه، ويضيّق خلقه، ويقتر رزقه، وتتقمّل ثيابه، ويبغضه الله تعالى، ويبغضه جيرانه ويجور عليه سلطانه. وتارك الصلاة على صحة البدن، لا تجوز شهادته، ولا يحل لمسلم أن يؤاكله أو يزوّجه ابنته، ولا يدخل معه تحت سقف واحد. وتارك الصلاة على صحة البدن يأتي يوم القيامة على جبهته مكتوب ثلاثة أسطر: في السطر الأول: يا مضيّع حقوق الله. وفي الثاني: يا مخصوصا بغضب الله تعالى.

وفي الثالث: كما ضيّعت حق الله، فأيس اليوم من رحمة الله تعالى. وفي الخبر أن النار تقول لتارك الصلاة: أنت لي وليّ، يا ليت أن الله جمع بيني وبينك، فأنتقم للصلاة منك، أنت عدو للصلاة، والله عدو لك. وتقول له الجنة: يا عدو الله، ضيّعت أمانة الله تعالى، وتهاونت بفريضة الله، فإني محرّمة عليك حين يتبوأ عباد الله مني حيث يشاؤون، ما جرت أنهاري، وتجاوبت أطياري، وسطع نوري، وتزيّن حوري، فأنا وما في الحور والسرور والولدان والقصور، حرام عليك أبد الآبدين. تمّ بحمد الله ***

§1/1